مصادر تمويل الإدارة العالمية للزكاة:
مما سبق نستطيع أن نلمح بعض مصادر تمويل هذه الإدارة العالمية للزكاة في حالة تكوينها ومباشرتها للأعمال الموكولة إليها، وهي كما يلي:
1) زكوات أغنياء المسلمين في الدول الإسلامية الغنية (كالسعودية والكويت واتحاد الإمارات العربية وبقية دول الخليج الغنية والعراق وإيران وليبيا)
2) زكوات الأغنياء المسلمين المنتشرين في الدول غير الإسلامية، بل والإسلامية أيضا إذا لم يقم أولو الأمر فيها بجباية الزكاة منهم، حيث إن هذا هو الهدف من إنشاء صندوق الزكاة بالبنك الإسلامي (الدولي) للتنمية، كما تقدم.
3) الزكوات التي يقوم بجمعها صندوق الزكاة بالبنك الإسلامي للتنمية وفروعه في كل مكان.
4) الفوائض التي لا تحتاج إليها الدول الغنية للإنفاق على مشاريعها الداخلية والخارجية، فتوضع كلها أو معظمها كلها في صندوق الإدارة العالمية للزكاة لاستثمارها، على أن يكون لها أرباحها، بينما هذه الفوائض تبقي مملوكة لأصحابها، إلا إذا تبرعوا بها أو بجزء منها إلى هذه الإدارة لاستخدامها في مصالح المسلمين وخدمه قضاياهم المشتركة.
5) فوائد الودائع التي لا يود أصحابها (المودعون) قبولها من البنوك الأجنبية في أوروبا وأمريكا وغيرها باعتبار أنها من الربا المحرم، فيحولونها إلى صندوق هذه الإدارة
لاستخدامها في مصالح المسمين، ولا يتركونها لتلك البنوك؛ منعا لاستخدامها لصالح أعداء المسلمين.
6) نسبة معينة من حصيلة الزكوات في الدول والمجتمعات الإسلامية التي يقوم أولو الأمر فيها بجباية الزكاة من أغنيائها، وذلك كمساهمة من هؤلاء الأغنياء لتمويل الإدارة العالمية للزكاة لخدمة المصالح العامة المشتركة.(4/433)
7) هدايا وأضاحي الحجاج (المهمل معظمها في سفوح جبال منى كل عام فيما سبق) وهي التي سبق أن اخترنا جعلها كأحد مصادر تمويل الإدارة المركزية للزكاة بمكة المكرمة. ولما اتضح لنا أن فقراء السعودية لا يحتاجون إلى زكوات أغنيائها ولا إلى مثلها، نظرا لقيام الدولة السعودية بواجبها كاملا تجاههم كما سبق بيانه، فحصيلة الزكوات وغيرها بمكة المكرمة يصح أن تكون أحد مصادر تمويل الإدارة العالمية للزكاة، بل وجميع إدارات الزكاة بالسعودية يمكن اعتبارها فروعا للإدارة العالمية للزكاة للسبب السابق.
8) تبرعات الدول الغنية وتبرعات المسلمين وأوقافهم وكفاراتهم ونذورهم في حالة اختيار أصحابها تسليمها إلى هذه الإدارة العالمية للصرف على مستحقيها بواسطة هذه الإدارة.
9) أرباح استثمار الأموال المتجمعة في هذه الإدارة وفروعها في كل مكان، سواء كانت من حصيلة الزكوات أو غيرها.
فهذه هي مصادر تمويل الإدارة العالمية للزكاة على ما يتراءى لي. ولاشك أن خبراء المال والاقتصاد يستطيعون أن يوجدوا مصادر أخرى لهذه الإدارة العالمية للزكاة في حالة قيامها ومباشرتها لأعمالها.
ولننتقل الآن إلى مصارفها.(4/434)
ج) مصارف الإدارة العالمية للزكاة:
فبالنسبة لمصارف هذه الإدارة يمكن أن نسترشد بأهداف إنشاء صندوق الزكاة بالبنك الإسلامي للتنمية، وهو اتفاقها في مصارفها الشرعية في البلاد التي لا يقوم أولو الأمر فيها
بهذا العمل (1)
وطبقا لهذا يمكن أن نشير هنا إلى بعض مصارفها الهامة وهي كما يلي:
1) فقراء المسلمين في الدول غير الإسلامية، وكذلك الدول والمجتمعات الإسلامية التي لا يقوم أولو الأمر فيها بجباية الزكاة من أغنيائها، وقامت هذه الإدارة بجبايتها منهم.
2) مساعدة المسلمين المجاهدين للتحرر من الصهيونية والاستعمار (الغربي أو الشرقي) ، وتخليصهم من الاضطهاد والظلم والاستبداد من قبل الحكام غير المسلمين، أو الحكام المسلمين الطغاة في أي مكان على وجه هذه البسيطة.
3) مساعدة المنظمات والاتحادات والمراكز الإسلامية العاملة على رفع شأن المسلمين والدعوة إلى الإسلام. وإذا كانت المؤسسات المالية المتقدم ذكرها قد قامت بتقديم الدعم والمساعدات التي تحتاج إليها هذه المنظمات والحركات الإسلامية بهذه المساعدات خصصت لها من الأموال العامة للدول الغنية التي أنشأت هذه المؤسسات وليست من حصيلة زكوات أغنيائها، ثم إن المنظمات والحركات الإسلامية برغم تلك المساعدات الكبيرة لا تزال محتاجة إلى مزيد من الدعم والمساعدات لكي تمضي في طريقها لأداء واجباتها نحو الإسلام والمسلمين. وكذلك الفقراء المسلمون المنتشرون في بقاع الأرض لا يزالون يعانون مختلف المشاكل وخصوصا اللاجئين منهم الذين هاجروا بدينهم من أوطانهم بعد سقوطها فريسة للشيوعية، أو الذين اضطروا لترك بلادهم نتيجة لاضطهادهم في بلادهم من الحكام الظالمين المستبدين غير المسلمين.
__________
(1) كتاب منهج الصحوة الإسلامية. د. أحمد النجار ص 56(4/435)
فبواسطة هذه الإدارة العالمية للزكاة التي سوف يتسنى لنا معاشر المسلمين من تقديم الدعم والمساعدات لتلك الجهات جميعا من حاصلة الزكوات التي اجتمعت لديها وغيرها من المصادر السابق الكلام عنها.. وذلك زيادة على الدعم والمساعدات التي تكرمت بتقديمها المؤسسات سابق ذكرها، والتي يرجو كل مسلم أن تستمر في تقديمها كالمعتاد وزيادة، وقيام المزيد من أمثالها.
وإننا بهذا سوف نستفيد من الأموال التي أهملت دون الاستفادة بها في الأوجه التي تعود بالخير العميم لنا جميعا وعلى الوجه المطلوب في ديننا.
فإن الذبائح والدماء والهدايا التي قدمها الحجاج كل سنة ما شرعت إلا لتكون منافع لنا، كما نص علينا القرآن الكريم: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] ولمصلحة الفقراء منا. ولكن أين هذه المنافع وأين هذه المصلحة ما دامت هذه الذبائح أهملت هكذا كل عام في سفوح جبال القريان بمنى، مع أن هناك محتاجين كثيرين يرغبون في الاستفادة بهذه الذبائح، ولكن لا حول لهم ولا قوة.
فقد حان الآوان بالاستفادة من هذه الذبائح بعد التقدم التكنولوجي والآلات الإلكترونية الحديثة التي يمكن الاستعانة بها في تجميع هذه الذبائح وتنظيفها وحفظها وتوزيعها بالوجه المحقق للغاية من تشريعها.
فإذا لم تكن هناك جهة خاصة تتحمل مسئولية ذلك كله فلتقم بها إدارة الزكاة العالمية مباشرة، أو بواسطة إدارة الزكاة بمكة المكرمة التي يمكن أن تعتبر كإدارة فرعية لهذه الإدارة العالمية، كما تقدمت الإشارة إليها.
ومثل هذا نعمل في الفوائض التي لا تحتاج إليها الدول الإسلامية الغنية، وفوائد الودائع التي يتركها أصحابها للبنوك الأجنبية في أوروبا وأمريكا.
وبهذا نخلص إلى أن تكون الإدارة العالمية للزكاة قد تهيأت لها الوسائل ووجدت هناك رغبة عامة ودواع كثيرة، إلا أن تنفيذ هذا كله – مع ذلك – لن يتم إلا بناء على موافقة الدول الإسلامية والمسلمين وتعاونهم جميعا، ولا شك أنهم جميعا سيتعاونون في تكوينها وإبرازها إلى حيز التنفيذ، وإفساح المجال لها لكي تمارس نشاطها على خير وجه وأتمه.
فإذا تم إنشاء هذه الإدارة العالمية للزكاة فجميع مواردها وما ينتج من استثمارها بواسطة البنك الإسلامي للتنمية، يخص صندوق التضامن الإسلامي؛ لكي يقوم بإنفاقها على مصارفها الشرعية على مستوى الدول والمجتمعات الإسلامية طبقا لأهداف هذه الإدارة وهذا الصندوق. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
الدكتور عبد الله إبراهيم(4/436)
الوثائق
مذكرة تفسيرية بشأن صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته
مقدمة إلى
الدورة الثالثة لمجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
صندوق التضامن الإسلامي فرع من فروع بيت مال الأمة الإسلامية، أسسه أهل الحل والعقد من قادة المسلمين في مؤتمر القمة الإسلامي الثاني الذي انعقد بمدينة لاهور بجمهورية باكستان الإسلامية سنة 1394هـ (1974م) . وقد نص قرار القمة الإسلامية على إنشاء صندوق التضامن الإسلامي بهدف الوفاء باحتياجات وبمتطلبات القضايا الإسلامية، وللنهوض بالثقافة والقيم والجامعات الإسلامية، على أن تدفع الدول الأعضاء مساهماتها في الصندوق بما يتفق واستطاعة كل منها، وقد تمت المصادقة على النظام الأساسي لصندوق التضامن الإسلامي خلال انعقاد المؤتمر الإسلامي الخامس للسادة وزراء خارجية الدول الأعضاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي الذي انعقد بمدينة كولالمبور (ماليزيا) سنة1394هـ (1974م) . وبذلك أصبح للصندوق شخصيته الاعتبارية والمستقلة، ويوجد مركزه الرئيسي بالأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة (المملكة العربية السعودية)
أهداف الصندوق:
بمقتضي الخطوط العريضة لقرار القمة الإسلامية، يستهدف الصندوق العمل على الإسهام في تحقيق ورعاية مصالح المسلمين، وفي دفع المضار عنهم، والمحافظة على عقيدتهم وتضامنهم وجهودهم في شتى المجالات. وفيما يلي الأهداف العامة التي يلتزم المجلس الدائم للصندوق بالعمل على تحقيقها:
أولا: التخفيف من آثار الأزمات والمحن والكوارث التي تتعرض لها بعض الدول والشعوب أو الجماعات والأقليات الإسلامية، وذلك بتقديم مساعدات عينية ومالية لها.
ثانيا: نشر الدعوة الإسلامية وتبليغ تعاليمها السمحة، ودعم المراكز والهيئات والجمعيات الإسلامية المختصة في هذا المجال.
ثالثا: دعم الجهاد الفلسطيني في سبيل تحرير القدس الشريف، والحفاظ على المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله.
رابعا: تقديم المعونة إلى المحتاجين والمستضعفين من الأقليات المسلمة التي أحصرت في ديار الكفر؛ لمساعدتها على الحفاظ على دينها ونفوسها وأعراضها. ويتمثل هذا الدعم في المشاركة في تمويل بناء المساجد والمستوصفات ومراكز التوعية الدينية.
خامسا: الإسهام في تربية الشباب وتوجيهه توجيها سليما صحيحا ملتزما بالمبادئ الإسلامية ومكارم الأخلاق، وذلك عن طريق تقديم مساعدات للمدارس والمراكز والجمعيات التي تلتزم بمناهج التعليم الإسلامي، وخاصة منها المؤسسات التي توجد بالمناطق أو الأقاليم الخاضعة إلى الدول غير إسلامية. كما تتم المساهمة في إنشاء أو تمويل الجامعات الإسلامية أو دعم القائمة منها فعلا.(4/437)
هياكل صندوق التضامن الإسلامي:
أولا: 1- المجلس الدائم للصندوق:
يتألف المجلس الدائم من الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي وثلاثة عشر عضوا من ممثلي الدول الأعضاء، ينتخبهم ممثلو الأمة الإسلامية خلال الدورات التي يعقدها مؤتمر وزراء خارجية الدول الأعضاء لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والمجلس الدائم هو الجهة المسؤولة عن الصندوق ونشاطاته أمام المؤتمرات الإسلامية الدورية لوزارة الخارجية، ومهمته العمل على تحقيق أهداف الصندوق وتخطيط وإعداد البرامج والإشراف على تنفيذها من خلال الجهاز التنفيذي للصندوق.
2- الجهاز التنفيذي للصندوق:
هو الجهاز الإداري الذي يعهد إليه بمهمة تنفيذ القرارات التي يتخذها المجلس الدائم للصندوق أو القرارات الصادرة عن مؤتمرات القمة الإسلامية أو مؤتمرات وزراء الخارجية. ويقوم الجهاز التنفيذي بأعمال أمانة الصندوق وحاسباته وكافة الأعمال الفنية للصندوق وشئونه المالية. وتحضير أوراق عمل دورات المجلس، والترتيبات اللازمة لإيصال المساعدات إلى مستحقيها.
3- لجنة الطوارئ:
وهي لجنة ثلاثية مكونة من رئيس المجلس الدائم أو نائبه. والأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي أو ممثله، وممثل دول المقر (المملكة العربية السعودية) ، وتجتمع لجنة الطوارئ في حالة وقوع الأزمات والكوارث الطبيعية في إحدى الدول الإسلامية لتقرير ما يمكن أن يسهم به الصندوق للتخفيف من حدة تلك الأزمات والكوارث
4- لجنة المتابعة:
وتتكون من الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي أو ممثله، ورئيس المجلس الدائم أو نائبه، وثلاثة أعضاء يختارهم المجلس لضمان حسن تنفيذ قراراته.
5- اللجان الفرعية:
وهي أربع لجان مختصة يعهد إليها بدراسة وفحص طلبات المساعدة التي ترد إلى المجلس الدائم، وهي كما يلي:
أ - لجنة أفريقيا والمجموعة العربية:
ب - لجنة الشرق (آسيا وأستراليا)
ج- لجنة الغرب (أوروبا والأمريكتين)
د- لجنة الجامعات والمعاهد العليا(4/438)
ثانيا: وقفية صندوق التضامن الإسلامي:
يعتمد الصندوق بصفة أساسية في تمويل ميزانيته السنوية علي التبرعات الطوعية التي تقدمها حكومات الدول الأعضاء، وعلى الهبات والمنح التي تقدمها الهيئات العامة والخاصة والأفراد المحسنين من الدول الإسلامية. ولذا كان الصندوق ولازال يفتقر إلى وجود مصدر ثابت لموارده، ولاسيما على المدى البعيد. وأصبح خلال السنوات الثلاثة الماضية يعاني من نقص خطير في موارده، الأمر الذي أصبح معه الصندوق عاجزا عن الوفاء بالتزاماته والقيام بمهماته تجاه الشعوب الإسلامية، وخاصة المستضعفين منهم من الأقليات والجماعات الإسلامية. لذا كان لزاما على المجلس الدائم أن يقترح على المؤتمرات الإسلامية الدورية الأخيرة للسادة وزراء خارجية الدول الأعضاء، فكرة إنشاء وقفية للصندوق تدر ريعا ثابتا، يضمن لميزانيته قدرا معقولا من الثبات والاستقرار، وقد تم إقرار إنشاء وقفية للصندوق برأسمال قدره مائة مليون دولار منذ المؤتمر الإسلامي الثامن للسادة وزراء الخارجية، كما تمت المصادقة على النظام الأساسي للوقفية خلال انعقاد المؤتمر الإسلامي الحادي عشر لوزراء الخارجية. وقد نص النظام الأساسي على أن أموال الوقفية مصونة باعتبارها وقفا شرعيا للغرض الذي أنشئ من أجله، وأن المجلس الدائم للصندوق هو الجهة المسئولة عن إدارة وتسيير شئون الوقفية ويتكون رأسمال الوقفية من المصادر التالية:
أ- الأموال السائلة التي توقفها حكومات الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، وكذلك الأشخاص الطبيعيون والاعتباريون في العالم الإسلامي.
ب- العقارات والأموال غير المنقولة التي توقفها الحكومات والأشخاص الطبيعيون والاعتباريون في العالم الإسلامي.
وقد تطوعت بعض الدول الإسلامية مشكورة. كما أسهم من المحسنين في الدول الإسلامية في تمويل رأسمال الوقفية (انظر ملحق رقم1)
أهم إنجازات الصندوق:
إن صندوق التضامن الإسلامي، وهو يعمل على تأكيد وإبراز التضامن الإسلامي بين الدول والشعوب الإسلامية، تبنى بصفة خاصة المشروعات الإسلامية الهامة ذات الأثر الملموس على البنية الحضارية، ونشر الثقافة الإسلامية في المجتمعات التي تقام فيها تلك المشروعات.
وبإلقاء نظرة سريعة على محصلة النتائج لمختلف نشاطات صندوق التضامن الإسلامي، نلمس مدى فاعلية هذا الجهاز الإسلامي الجدير بالاهتمام على كافة مستويات الأمة الإسلامية، دولا وأفرادا، شعوبا وجماعات. ومرفق طيه جدول بالمساعدات التي قدمها المجلس الدائم لصندوق التضامن الإسلامي منذ بداية نشاطه وحتي الآن (انظر ملحق رقم 2) . ومن خلال نظرة فاحصه ومخلصة أيضا لهذا الجدول أيضا لهذا الجدول يتضح أن صندوق التضامن الإسلامي تبوأ مكانة مرموقة على صعيد العالم الإسلامي، وأصبح محط آمال العديد من الدول الإسلامية، والمئات من الهيئات والمنظمات والجاليات والأقليات الإسلامية في جميع أنحاء العالم.(4/439)
الوضع المالي للصندوق
مصادر التمويل – وسائل الدعم
أولا: مصادر تمويل الصندوق:
وفقا للمادة السادسة من النظام الأساسي للصندوق، فإن مصادر التمويل هي:
أ- تبرعات الدول الأعضاء والهبات التي تقدمها الهيئات العامة والخاصة والأفراد ومن عائدات وقفية الصندوق.
ب- الخبرات والمساعدات الفنية والجهود البشرية التي تقدم من الدول الأعضاء والهيئات العامة والخاصة والأفراد.
وبالرغم مما يلاحظ من تنوع مصادر التمويل، فإن الصندوق قد اعتمد منذ انشائه- بصفة أساسية - على تبرعات الدول الأعضاء، وأما ما سوى ذلك فإنه لا يمثل قيمة مؤثرة على إيرادات الصندوق حتى الآن.
وقد أثبتت الممارسة العملية خلال السنوات الثلاثة الأخيرة خطورة هذ الأمر نظرا لحجم تلك التبرعات التي تقدمها الدول الأعضاء واتصافها بعدم الاستمرارية والاستقرار، فبعد أن اكتسب الصندوق دورا طليعيا وهاما لدى المسلمين في جميع أنحاء العالم من خلال قيامه بتمويل وتنفيذ المشروعات لصالح الدول والمجتمعات الإسلامية، نجد أن هذا الدور قد أخذ في التراجع خلال السنوات الثلاث الماضية، وأصبح مهددا بالتوقف كلية إزاء تدني التبرعات إلى أدنى درجة، ويمكننا أن نتبين خطورة الوضع المالي للصندوق من خلال المقارنة بين مجموع المبالغ التي كان يعلن عن التبرع بها من طرف الدول الأعضاء، مع تلك المبالغ التي تصل فعلا للصندوق، والتي تمثل موارد الصندوق الفعلية لميزانياته خلال الأعوام الماضية:
السنة التبرعات المعلنة في الجلسة
التبرعات التي وصلت
79 / 1980 00 / 000 / 137 / 17 58 / 719 / 021 / 14
80 / 1981 00 / 000 / 416 / 12 00 / 000 / 070 / 12
81 / 1982 00 / 000 / 101 / 14 00 / 500 / 643 / 17
82 / 1983 00 / 720 / 263 / 10 46 / 367 / 220 / 10
83 / 1984 00 / 000 / 145 / 00 00 / 314 / 390 / 00
84 / 1985 00 / 000 / 197 / 00 00 / 684 / 151 / 00
ويلاحظ من الجدول السابق الذي يعكس في الواقع المورد الحقيقي لميزانية الصندوق، والذي أصبح في السنتين الماضيتين محدودا للغاية أن صندوق التضامن الإسلامي أصبح – مع الأسف الشديد – يواجه حاليا الكثير من العقبات والصعوبات التي تحد من اضطلاعه بمهامه، بل وتهدد مسيرته الخيرة في قيامه بمختلف نواحي أنشطته لصالح الأمة الإسلامية.(4/440)
ثانيا: وسائل دعم صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته:
إن أهم العقبات التي تواجه صندوق التضامن الإسلامي هي عملية التمويل الثابت والمستمر لميزانيته السنوية، فقد اعتمد الصندوق منذ نشأته وحتى الآن على مصدر أساسي واحد في توفير الموارد لميزانيته، ألا وهو التبرعات التي تجود بها بعض الدول، وقد ثبتت خطورة اعتماد الصندوق على مصدر واحد للتمويل فور عدم انتظام تلك الدول تقديم تبرعاتها الطوعية للصندوق؛ إذ تدنت موارده للسنة المالية 84 / 1985 إلى 151684 دولارا، مما جعل المجلس الدائم للصندوق يقرر إلغاء بعض بنود ميزانياته للسنوات الثلاث الأخيرة، وهي ظاهرة خطيرة تنال من سمعة صندوق التضامن الإسلامي الشيء الكثير.
وأصبح الصندوق، الذي تنظر إليه الدول والشعوب والجماعات الإسلامية نظرة إكبار وإجلال، بصفته المعبر بصدق عن تطلعاتها في الوحدة والتضامن، أصبح هذا الجهاز عاجزا في الآونة الأخيرة عن تحقيق الأهداف السامية التي أنشئ من أجلها.
إن الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والمجلس الدائم لصندوق التضامن الإسلامي قاما باتخاذ الخطوات الإجرائية لإنشاء الوقفية الخاصة بالصندوق. وهي فعلا قائمة من الناحية القانونية والإدارية، بعد أن تمت المصادقة على نظامها الأساسي، كما تم تنفيذ الكثير من بنوده الإجرائية، مثل تشكيل هيئة نظار الوقفية، وتكوين نواة للجهاز التنفيذي للاضطلاع بالمهام العاجلة التي تتطلبها المرحلة الحالية لمسيرة الوقفية. وقد حرص المجلس الدائم كذلك على استثمار القدر اليسير من رأسمال الوقفية لدى البنك الإسلامي للتنمية.(4/441)
المقترحات المقدمة إلى مجلس المجمع الفقهي الموقر:
لقد عكفت الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والجهاز التنفيذي للصندوق على دراسة كل الوسائل والسبل المؤدية إلى دعم وتمويل رأسمال الوقفية. وفي هذا الصدد اتخذ المجلس الدائم للصندوق في دورته السادسة والعشرين قرارا يرجو فيه من مجمع الفقه الإسلامي الموقر إصدار فتوى بجواز تخصيص جزء من زكاة المسلمين لصالح صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته، بوصفهما مؤسسة إسلامية تعمل في مجال خدمة المسلمين وتستحق الاستفادة من الأموال التي تصرف للزكاة. كما اتخذ المجلس الدائم في دورته السابعة والعشرين قرارا آخر يرجو فيه من مجمع الفقه الإسلامي إصدار فتوى ثانية حول إمكانية الاستفادة من الأموال التي يخصصها البنك الإسلامي للتنمية لصندوق المعونة التابع له.
وتود الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي والجهاز التنفيذي لصندوق التضامن الإسلامي أن تلقي بعض الضوء، أو عرض بعض الأفكار الأولية والمبدئية حول الموضوعين المشار إليهما أعلاه:
أولا: الاستفادة من الأموال المخصصة للزكاة:
إن الأمانة العامة والمجلس الدائم للصندوق يدركان ويلتزمان في الوقت نفسه بتحقيق أحد الأغراض الهامة من أداء المسلمين للزكاة، ألا وهو تثبيت نفس المسلم الذي يؤديها، أنها بلغت مصرفها، لكونها ستنفق في أحد الأصناف الثمانية: إما إلى فقراء المسلمين أو مساكينهم الذين لا يستطيعون ضربا في الأرض، أو على بعض العاملين على مصالح المسلمين الذين يحلون محل السعاة والكتبة والمسئولين عن رعاية هذه المصالح. وإذا كان سهم المؤلفة قلوبهم لم تعد الحاجة إليه كما كانت، فإنه قد يكون من سياسة المسلمين تآلف من هم حديثو عهد بكفر في البلاد غير الإسلامية، ومساعدة الذين من بينهم يسهمون في نشر الدعوة، مع أن العلماء يرى أن نصف سهمهم يعطى لعمار المساجد. والمعتقد أن مساعدة جمعيات أقليات المسلمين المغلوبة على أمرها، والتي تخضع لنوع من الاستعباد الفكري والاقتصادي ليست بعيدة عن فك الرقاب وتخليص الغارمين.
ومن أهم هذه المصارف هو المرابطة في سبيل الله، وهو عمل متسع لكل ما يعين على رفع شأن المسلمين وجعل كلمة الله هي العليا. ولقد توسع علماء الأمة في هذا المجال، فأدخل بعضهم الحجاج والعمار في هذا الصنف. وأوردت الآية الكريمة أبناء السبيل الذين انقطعت بهم الطرق وأضحوا عرضة لمصاعب ظرفية، فصارت مساعدتهم من وجوه البر، وهذا من الأبواب التي تدعوا أولي الأمر يقدرون أن الكوارث الطارئة تستوجب في بعض الأحيان الإنفاق من مال الصدقة في مثل ما فعل النبي (صلي الله عليه وسلم) في نازلة سهل بن أبي حثمة بدفعه مائة من إبل الصدقة دية الأنصاري المقتول.(4/442)
والمرجو من أصحاب الفضيلة أعضاء المجلس الموقر إصدار فتوى في المسائل التالية:
- إجزاء تقديم الزكاة لوقفية صندوق التضامن الإسلامي، مع التزام المجلس المشرف على الصندوق بصرف مال الزكاة في أوجهه المنصوصة والمتفق عليها.
- جواز نقلها من محل المال إلى أكثر الأصناف احتياجا.
- بيان مدى التطابق بين أهداف صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته، ومواضع إنفاقهما مع الأصناف المستحقة للزكاة.
ثانيا: الاستفادة من صندوق المعونة الخاص بالبنك الإسلامي للتنمية:
يتلقى البنك الإسلامي للتنمية أموالا من فوائد ودائعه لدى البنوك الأجنبية، وبما أن هذه الفوائد ليست شرعية، وحيث إن مصلحة الأمة تقتضي ألا تترك تلك الأموال لغير المسلمين، وأن صرفها في أوجه الصدقة يعتبر بمثابة حسن التخلص منها، فقد استصدر البنك في شأنها فتوى أقر على أثرها أن تجعل الأموال في صندوق خاص يسمى بـ " صندوق المعونة " للصرف منه على مصالح الجماعات الإسلامية في الدول التي ليست أعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي.
لذا يرجى من أصحاب الفضيلة أعضاء المجلس الموقر إصدار فتوى في الأخذ باستفادة وقفية صندوق التضامن الإسلامي من بعض تلك الأموال المودعة في صندوق المعونة الخاص بالبنك الإسلامي للتنمية؛ نظرا للضرورة الملحة التي تلزم الصندوق ووقفيته بالقيام ببعض الواجب نحو تحقيق أهدافه، التي من أهمها الحفاظ على ملة الإسلام وعلى عزة المسلمين.(4/443)
(ملحق رقم 1)
المساهمات المعلنة أو المسددة لصالح رأسمال
وقفية صندوق التضامن الإسلامي
اسم الجهة المتبرعة المعلن بالدولار الأمريكي المسدد بالدولار الأمريكي
أولاً: حكومات الدول الأعضاء:
1- حكومة دولة الكويت 2000000 2000000
2-حكومة الجمهورية التركية 0025000 0025000
3-حكومة المملكة العربية السعودية 20000000 ---
4-حكومة الجمهورية العراقية 2000000 -
5-حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة 2000000 ---
6-حكومة جمهورية باكستان الإسلامية (250 ألف روبية) 0015450 ---
7-حكومة الجمهورية التونسية 0070000 070000
8-حكومة المملكة الأردنية الهاشمية قطعة أرض ---
ثانياً: شخصيات إسلامية:
1-الشيخ صالح عبد الله كامل (رجل أعمال سعودي)
1000000
2-الشيخ حسين محسن الحارثي (رجل أعمال سعودي)
1000000
مجموع المبالغ المعلنة أو المسددة 26110450 4095000(4/444)
(ملحق رقم 2 / أ)
المساعدات التي قدمها المجلس الدائم لصندوق التضامن الإسلامي
منذ بداية نشاطاته وحتى 30 / 6 / 1986م(4/445)
جدول ملحق رقم (2 / ب)
تصنيف المساعدات حسب القطاعات
المناطق المساجد المستشفيات المدارس الجامعات المراكز المخيمات الحلقات
1-إفريقيا 34 5 47 14 153 6 3
2-الشرق الأوسط 9 1 15 7 35 2 4
3-الشرق 25 7 61 23 184 8 4
4-الغرب 18 1 14 12 126 4 2
الإجمالي 86 14 137 56 498 20 13(4/446)
ملحق رقم (3)
النظام الأساسي لصندوق التضامن الإسلامي
(1)
المادة الأولي:
بموجب قرار مؤتمر القمة الإسلامي الثاني بلاهور، ينشأ صندوق دائم له شخصيته الاعتبارية المستقلة ويسمى "صندوق التضامن الإسلامي" يكون مركزه الرئيسي في مقر الأمانة العامة للمؤتمر الإسلامي في جدة.
المادة الثانية:
بمقتضى الخطوط العريضة لقرار مؤتمر القمة الثاني بلاهور، فإن أهداف "صندوق التضامن الإسلامي "هي العمل على تحقيق كل ما من شأنه رفع مستوى المسلمين في العالم والمحافظة على عقيدتهم ودعم تضامنهم وجهادهم في جميع المجالات، وخاصة المجالات الآتية:
1- التخفيف من أثر نتائج الأزمات والمحن والكوارث الطبيعية والظروف الاجتماعية التي تتعرض لها البلاد والمجتمعات الإسلامية وتوجيه المساعدات المادية اللازمة لذلك
2- تنظيم منح المساعدات والمعونات المادية للبلاد والأقليات والجاليات الإسلامية، بغية رفع مستواها الديني والثقافي والاجتماعي، والمساهمة في بناء المساجد والمستشفيات والمدارس التي تحتاج إليها.
3- تنظيم نشر الدعوة الإسلامية ورسالتها وتعاليم الإسلام ومثله العليا، ودعم المراكز الإسلامية داخل الدول الإسلامية وخارجها؛ لأجل خير المجتمعات الإسلامية ونشر الفكر الإسلامي.
4- تشجيع البحث العلمي والتقني وإنشاء وتمويل الجامعات الإسلامية؛ استجابة لاحتياجات العالم الحديث، حيثما كان ذلك مطلوبا، ودعم الجماعات القائمة فعلا.
5- دعم وتنظيم نشاط الشباب المسلم في العالم روحيا واجتماعيا ورياضيا.
6- تنظيم الحلقات الدراسية التي تضم نخبة من الخبراء والمتخصصين في قضايا التشريع والتقنين والإدارة والاقتصاد والثقافة والعلوم التي يحتاج العالم الإسلامي إلى بلورة الفكر الإسلامي بشأنها.
7- تنفيذ جميع المشروعات التي يقرها المؤتمر الإسلامي، ويعتبر تنفيذها من اختصاص صندوق التضامن الإسلامي.
__________
(1) أقر المؤتمر الإسلامي الخامس لوزراء الخارجية الذي عقد في كولالمبور بماليزيا في يونيو 1974م النظام الأساسي لصندوق التضامن الإسلامي. كما أقر المؤتمر الإسلامي العاشر لوزراء الخارجية الذي عقد في مدينة فاس بالمغرب في مايو 1979م النظام الأساسي المعدل لصندوق التضامن الإسلامي.(4/447)
المادة الثالثة: أقر المؤتمر الإسلامي الثاني عشر لوزراء الخارجية الذي عقد في بغداد في يوينو1981م، تعديل المادة الثالثة للنظام الأساسي للصندوق.
يشكل مجلس دائم للصندوق من الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي وثلاثة عشر عضوا من ممثلي الدول الأعضاء يختارون من قبل مؤتمر وزراء الخارجية الإسلامي وينتخب المجلس من بين أعضائه رئيسا ونائبا للرئيس، ويكون انتخاب الرئيس لمدة سنتين قابلة للتجديد لمدة واحدة مماثلة، ويجوز إعادة انتخابه بعد مضي سنتين من انتهاء فترة رئاسته السابقة. ويجتمع المجلس دوريا، وكلما دعت الحاجة لذلك، بناء على دعوة الأمين العام أو الرئيس أو ثلث أعضائه.
المادة الرابعة:
المجلس الدائم هو الجهة المسؤولة عن الصندوق ونشاطاته أمام مؤتمر وزراء الخارجية، ومهمته العمل على تحقيق أهداف الصندوق وتخطيط وإعداد البرامج التنفيذية لذلك، والسهر على تنفيذها بعد إقرارها من قبل مؤتمر وزراء الخارجية. عن طريق الجهاز التنفيذي الخاص به. والذي تنشئه وتديره الأمانة العامة للمنظمة لهذا الغرض. وللمجلس أن يعهد ببعض أعماله التنفيذية إلى المؤسسات والشخصيات الإسلامية المناسبة. أو يتخذ غير ذلك من الوسائل التنفيذية التي يراها مناسبة تحت توجيهه وإشرافه.
المادة الخامسة:
يتكون الجهاز التنفيذي للصندوق من مدير تنفيذي ونائب للمدير وعدد مناسب من الموظفين الأكفاء، وفقا لميزانية معتمدة من المجلس الدائم، مع مراعاة قواعد التوظيف في منظمة المؤتمر الإسلامي.
ويقوم هذا الجهاز بأعمال الصندوق وحساباته وكافة أعماله التنفيذية وشؤونه المالية، ملتزما في ذلك بمقررات المجلس والقواعد المالية المتبعة في منظمة المؤتمر الإسلامي، وذلك تحت إشراف لجنة متابعة من رئيس المجلس أو نائبه والأمين العام أو ممثله وثلاثة يختارهم المجلس لمدة صلاحيته لضمان حسن تنفيذ قرارات المجس وتوجيهاته.
المادة السادسة:
1- تتكون موارد الصندوق من تبرعات الدول الأعضاء ومن الهبات والمنح التي تقدمها الهيئات العامة والخاصة والأفراد، ومن عائدات وقفية الصندوق بعد إتمام إجراءات إنشائها.
2- وللدول الأعضاء والهيئات العامة أو الخاصة والأفراد أن يدعموا صندوق التضامن الإسلامي بالخبرات أو المساعدات العينية أو الجهود البشرية.(4/448)
المادة السابعة:
في سبيل تحقيق أغراض صندوق التضامن الإسلامي يتعاون المجلس الدائم مع الهيئات والمؤسسات الإسلامية وغيرها من التي تسعى إلى تحقيق الأغراض التي أنشئ من أجلها الصندوق.
المادة الثامنة:
يقدم الرئيس تقريرا سنويا عن نشاطات الصندوق إلى مؤتمر وزراء الخارجية الإسلامي، كما قد يقدم هذا التقرير إلى مؤتمرات القمة الإسلامية عند اجتماعها وعندما تستوجب الظروف تقديم ذلك التقرير، ويضاف هذا التقرير إلى تقرير الأمين العام لعرضه على مؤتمر وزراء الخارجية.
المادة التاسعة:
تبدأ السنة المالية للصندوق من أول يوليو من كل عام وتنتهي في 30 يونيو من السنة التالية، باستثناء السنة المالية الأولى تبدأ من تاريخ إنشاء الصندوق إلى تاريخ انتهاء السنة الميلادية للإنشاء.
المادة العاشرة:
يقدم الرئيس بمعاونة المجلس الدائم للصندوق والجهاز التنفيذي له الميزانية السنوية والحساب الختامي للصندوق ومشروع الميزانية التقديرية للسنة المالية التالية لمؤتمر وزراء الخارجية الإسلامي في دور انعقاده العادي.
المادة الحادية عشرة:
تسري على حسابات الصندوق ما يسري على الأمانة العامة للمنظمة من قواعد الصرف والمراجعة والتدقيق.
المادة الثانية عشرة:
مع عدم الإخلال بأحكام هذا النظام، يضع المجلس الدائم اللوائح الداخلية التفصيلية المنظمة لأعماله.
المادة الثالثة عشرة:
تعفى أموال الصندوق وموارده من جميع الضرائب والرسوم، ويطلب من الدول الأعضاء اتخاذ الخطوات اللازمة لتقرير ذلك.(4/449)
ملحق رقم (4)
النظام الأساسي لوقفية صندوق التضامن الإسلامي
(1)
المادة (1) : تنشأ عن صندوق التضامن ولصالح وقفية تسمى وقفية صندوق التضامن الإسلامي، تتمتع بنفس الشخصية النفسية الاعتبارية التي للصندوق.
المادة (2) : المركز الرئيسي للوقفية في مقر الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في جدة، ولها أن تفتح فروعا لها حيثما يلزم.
المادة (3) : الهدف من إنشاء هذه الوقفية هو دعم المركز المالي للصندوق وإمداده بريع سنوي يعزز ميزانيته ويكفل له الاستمرار في أداء رسالته.
المادة (4) : رأسمال الوقفية هو مائة مليون دولار، مكونة مما يلي:
1- الأموال السائلة التي توقفها حكومات الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، وكذلك الأشخاص الطبيعيون أو الاعتباريون من العالم الإسلامي.
2- العقارات وسائر الأموال غير المنقولة التي قد توقفها الحكومات والأشخاص الطبيعيون والاعتباريون من العالم الإسلامي.
المادة (5) : أصول أموال الوقفية مصونة باعتبارها وقفا شرعيا للغرض الذي أنشئت من أجله. وإذا احتيج إلى التصرف في هيئة هذه الأصول فيتم ذلك وفقا لما تجيزه الشريعة الإسلامية.
وتؤكد الدول الأعضاء في المنظمة الحصانة الكاملة لأموال الوقفية ضد كل أنواع الحجز أو المصادرة أو التأميم أو ما يشبهها.
المادة (6) : يلتزم في استثمار أموال الوقفية بجميع أنواعها بمراعاة أحكام الشريعة الإسلامية والبعد عن الربا، وتخصص عائدات الوقفية لصندوق التضامن الإسلامي.
المادة (7) : المجلس الدائم لصندوق التضامن الإسلامي هو الجهة المسئولة عن الوقفية أمام مؤتمر وزراء الخارجية الإسلامي، ولدى الجهات الرسمية والقضائية وسائر المؤسسات المعنية.
ويقدم رئيس المجلس الدائم تقريرا سنويا عن الوقفية إلى المؤتمر المذكور، ويضاف إلى التقرير السنوي للأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
__________
(1) أقر المؤتمر الإسلامي الحادي عشر لوزراء الخارجية الذي عقد في إسلام أباد بالباكستان في مايو 1980م النظام الأساسي لوقفية صندوق التضامن الإسلامي.(4/450)
المادة (8) : تدير الوقفية، بإشراف المجلس الدائم للصندوق وتوجيهه هيئة للنظار، ومكتب تنفيذي.
المادة (9) : يرسم المجلس الدائم للصندوق السياسية العامة للوقفية، ويراقب نشاطاتها ويعتمد اللوائح الداخلية اللازمة لها، ويصادق على الحسابات الختامية والميزانية السنوية، كما يعتمد برامج العمل التي تقترحها هيئة النظار، ويوجهها، إلى ما يحقق أهداف الوقفية.
المادة (10) : تتكون هيئة النظار من رئيس المجلس الدائم أو نائبه، والأمين العام أو مساعده، وثلاثة أعضاء ينتخبهم المجلس من أعضائه، وثلاثة من خبراء العالم الإسلامي في شئون الاستثمار وإدارة الاستثمار وإدارة الأوقاف، يسميهم المجلس الدائم بناء على ترشيح الأمين العام.
ويمنح عضوية مجلس نظار الوقفية بصفة دائمة للدول الأعضاء المساهمة بأكثر من مليوني دولار في رأس مال الوقفية (1)
وتقوم هيئة النظار بالمهام الآتية:
1- تحديد وجوه استثمار الأموال السائلة للوقفية، مع تنويع ما أمكن لزيادة الضمان، وإيثار أسواق الدول الإسلامية، ومؤسسات الاستثمار والمصارف الإسلامية فيها، ومراعاة اعتبارات الربح والسيولة والضمان وسائر قواعد الاستثمار السليمة.
2- تحديد كيفية رعاية العقارات والأموال غير المنقولة واستثمارها وفقا لنفس الاعتبارات المذكورة.
3- وضع اللوائح الداخلية وبرامج العمل واعتمادها من قبل المجلس الدائم.
4- مراجعة الحساب الختامي والميزانية السنوية اللذين يعدهما المكتب التنفيذي قبل اعتمادهما من قبل المجلس الدائم.
5- متابعة أعمال المكتب التنفيذي.
المادة (11) : المكتب التنفيذي هو الجهاز المسئول عن تنفيذ سياسة الوقفية، وبرامجها الموضوعة من قبل المجلس الدائم وهيئة النظار. تنشئ هذا المكتب وتديره الأمانة العامة للمنظمة وفقا لقواعد التوظيف واللوائح الإدارية والمالية المتبعة فيها.
ويتكون المكتب من مدير وعدد مناسب من المساعدين والموظفين، تحدد أعدادهم ومستوياتهم وفقا لاتساع العمل من قبل الأمين العام للمنظمة.
المادة (12) : للأمين العام للمنظمة حق تحديد المكافآت المالية المستحقة للخبراء في هيئة النظار، ولسائر من تحتاج أعمال الوقفية تكليفهم بأية مهام شورية أو فنية أو تنفيذية.
المادة (13) : يتمتع موظفو الوقفية بنفس الامتيازات والحصانات التي يتمتع بها موظفو الأمانة العامة.
المادة (14) : تبدأ السنة المالية للوقفية ببداية السنة المالية للصندوق في أول يوليو من كل عام، وتنتهي بانتهائها في نهاية يونيو من العام التالي.
المادة (15) : تسري على حسابات الوقفية ما يسري على الأمانة العامة للمنظمة من قواعد القبض والصرف والمراجعة والتدقيق، وللمكتب التنفيذي أن يستعين بخبرات المراجعين والمدققين القانونيين كلما لزم.
المادة (16) : تطالب الدولة الأعضاء في المنظمة باتخاذ الخطوات اللازمة بإعفاء أموال الوقفية ومواردها من جميع الضرائب والرسوم كما تتمتع أوراق وسجلات الوقفية بالحصانة الكاملة.
المادة (17) : لا تحل الوقفية إلا بقرار من مؤتمر وزراء الخارجية الإسلامي وهو الذي يحدد حينئذ كيفية الحل والجهات التي تؤول إليها أموال الوقفية، مع مراعاة حقوق الموظفين.
__________
(1) أقر المؤتمر الإسلامي الثالث عشر المنعقد بنيامي عاصمة النيجر في أغسطس 1982م تعديل المادة العاشرة(4/451)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
الرئيس:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،
في هذه الجلسة الخامسة بمعونة الله تعالى نناقش صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي، فقد سبق وقد بعث إليكم بثلاثة أبحاث في هذا الموضوع، ومن بين ومن الباحثين الشيخ محمد يوسف جيري نرجو أن يتفضل بإعطاء عرض عن بحثه. وشكرا.
الشيخ محمد يوسف جيري:
شكرا.. سيدي الرئيس.. بسم الله الرحمن الرحيم.. وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه الأخيار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.
كما تفضل سماحة الرئيس. الموضوع المطروح للمناقشة هو صرف الزكة لصالح صندوق التضامن الإسلامي، وقد كتب في هذا الموضوع ثلاثة من الإخوة وهم الشيخ: مولاي مصطفى العلوي، والشيخ تيجاني صابون محمد، ومحمد يوسف جيري. وأنه من حيث أسلوب العرض فإننا نلاحظ نوعا من التشابه بين البحوث الثلاثة؛ حيث كل بحث يحاول بأسلوب أو بآخر أن يقوم بمقارنة بين أهداف الزكاة كما رسمها الشارع، وبين أهداف صندوق التضامن الإسلامي ليصل في النهاية إلى استنتاجات وبعض النتائج، لكن إذا كان أسلوب العرض بين البحوث الثلاثة يفيد بنوع من التشابه، فإن النتائج أو الاستنتاجات التي توصل إليها الإخوة الثلاثة فيها نوع من التباين، لكن قبل أن أصل إلى هذه النتائج أو إلى هذه الاستنتاجات أرى أنه من المفيد بمكان أن نعطي للإخوة فكرة ولو موجزة عن المطلوب منا إزاء هذا الموضوع.
وفي هذا الصدد أفضل أن أرجع إلى ما تفضل به الإخوة المسئولون عن صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته في المذكرة التفسيرية التي أرسلوها إلينا. ففي صفحة 7 من هذه المذكرة:
الاستفادة من الأموال المخصصة للزكاة. إن الأمانة العامة والمجلس الدائم للصندوق يدركان ويلتزمان في نفس الوقت بتحقيق أحد الأغراض الهامة من أداء المسلمين للزكاة، ألا وهو تثبيت نفس المؤمن المسلم الذي يؤديها أنها بلغت مصرفها، لكونها ستنفق في أحد الأصناف الثمانية، إما إلى فقراء المسلمين أو مساكينهم الذين لا يستطيعون ضربا في الأرض، أو على بعض العاملين على مصالح المسلمين الذين يحلون محل السعاة والكتبة والمسئولين عن رعاية هذه المصالح، وإذا كان سهم المؤلفة قلوبهم لم تعد الحاجة إليه كما كانت، فإنه قد يكون في سياسة المسلمين تألف من هم حديثو عهد بالإسلام في البلاد غير الإسلامية، ومساعدة الذين يسهمون في نشر الدعوة، مع أن بعض العلماء يرى أن نصف سهمهم يعطى لعمال المساجد، والمعتقد أن مساعدات جمعيات أقليات المسلمين المغلوبة على أمرها، والتي تخضع لنوع من الاستعباد الفكري والاقتصادي ليست بعيدة عن فك الرقاب وتخليص الغارمين، ومن أهم هذه المصارف المرابطة في سبيل الله، وهو عمل متسع لكل ما يعين على رفع شأن المسلمين وجعل كلمة الله هي العليا. ولقد توسع علماء الأمة في هذا المجال فأدخل بعضهم الحجاج والعمار في هذا الصنف إلى آخر ما هنالك.(4/452)
والمرجو من أصحاب الفضيلة أعضاء المجلس الموقر إصدار فتوى في المسائل التالية:
أولا: إجزاء تقديم الزكاة لوقفية صندوق التضامن الإسلامي مع التزام المجلس المشرف على الصندوق بصرف مال الزكاة في أوجهه المنصوصة والمتفق عليها.
ثانيا: جواز نقلها في محل المال إلى أكثر الأصناف احتياجا.
ثالثا: بيان مدى التطابق بين أهداف صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته ومواضع اتفاقهما مع الأصناف المستحقة للزكاة.
هذا ما نقرأه في المذكرة التفسيرية المتعلقة بصندوق التضامن الإسلامي. ولا أريد أن أسترسل في النواحي الفقهية الكثيرة التي تطرق إليها المشايخ بالبحث والتحليل بغية الوصول إلى استنتاجات؛ حيث إن هذه المذكرات وهذه الدراسات قد وضعت في متناول يد الإخوة واستطاعوا أن يقرؤوها في وقت آخر، فلم يبق الآن إلا أن أشير بصورة سريعة على النتائج التي توصل إليها الإخوة:
أبدأ بما وصل إليه الأخ تيجاني صابون محمد في بحثه، فهو يقول: يتضح لنا من خلال هذا الحديث الهام، ومما سبق ذكره، بأن الأنشطة التي يقوم بها صندوق التضامن الإسلامي تدخل ولا شك في المعنى الموسع لكلمة: سبيل الله. فإنشاء مسجد في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا أو في أي دولة مسيحية في العالم ليقف هذا المسجد إزاء كنيسة أو معبد هو جهاد في سبيل الله؛ لأن في ذلك إعلاء لكلمة الله، وكذلك إنشاء مسجد في دولة إسلامية فقيرة لتوفير أحسن الظروف للمصلين، فهو إعلاء لكلمة الله، وجهاد في سبيله، وإن إنشاء مكتبات إسلامية ومرا كز إسلامية وتزويدها بالكتب الإسلامية لتتصدى للأفكار المسيحية واليهودية والإلحادية، والتي تتمثل في المكتبات الغربية التي أنشأتها جمعيات الكنيسة والهيئات الإلحادية والمجمعات اليهودية وزودتها بالكتب المسمومة لمحاربة الإسلام وثقافته، فإن إنشاء مكتبات ومراكز إسلامية إزاءها لجهاد في سبيل الله.
وإذا كانت الدول الصليبية واليهودية مثل: أفريقيا الجنوبية وإسرائيل تبحث عن أرقى التكنولوجيا لتصنيع القنبلة الذرية لمحاربة الدول الإسلامية، فإنه يحق للدول الإسلامية أن تقيم مراكز للأبحاث وتصنيع قنبلة مماثلة لما تصنعها هذه الدول، ويكون هذا جهادا في سبيل الله. وإن مؤازرة ومساندة كل أمة مسلمة اغتصبت أرضها وتوفير الإمكانيات اللازمة في لتحرير هذه الأرض جهاد في سبيل الله، وإن إغاثة المسلمين المنكوبين من الجفاف والجوع والمرض وغيرها من الكوارث الطبيعية يعتبر ذلك من أعمال الخير والبر، وبالتالي فهو إنفاق على الفقراء والمساكين. وعليه فإن كانت الأنشطة التي يقوم بها صندوق التضامن الإسلامي هي هذه فإنه لا حرج من صرف جزء من أموال الصدقة لصالحه.(4/453)
نستخلص من هذا العرض أن النتيجة التي توصل إليها الشيخ تيجاني صابون محمد حفظه الله، هو التوسع في تفسير سبيل الله ليشمل في النهاية المواضع أو الميادين التي يكون عمل صندوق التضامن الإسلامي في إطارها. إذن نستطيع أن نقول في خصوص بحثه: إنه توصل إلى نوع من الإجازة المطلقة بخصوص صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي، والله أعلم. والأخ إذا كان موجودا ربما يصحح مفهومي إن كنت أخطأت في هذه الاستنتاجات.
ثم إن الأخ الشيخ مولاي مصطفى العلوي هو أيضا بعد أن عرض المواضيع الفقهية الهامة من تعريف الزكاة وتاريخ فرضها، وزكاة الذهب والفضة وغيرها، توصل إلى النتيجة الآتية ص (592) فيقول: ويمكن إلقاء نظرة خاطفة على أهداف هذه المؤسسة التي أحدثها مؤتمر القمة الثاني، وصادق على نظامها وأهدافها المؤتمر الخامس ليرى الإنسان أهمية المؤسسة واستحقاقها لكل عون ومساعدة، خصوصا وأن جل تلك الأحداث تدخل في نطاق مصارف الزكاة. فالمادة التي تنص على مساعدة المتضررين من الأزمات والمحن والكوارث الطبيعية التي تتعرض لها البلاد الإسلامية، والمادة التي تشير إلى تشجيع البحث العلمي والتقني، وإنشاء الجامعات في البلاد المفتقرة إليها، ومنح المساعدات المادية والمعنوية للأقليات المسلمة في أنحاء العالم، والعمل على نشر الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة بتمويل البعثات العلمية لنشر الإسلام والدفاع عن عقيدته وتعاليمه، ودعم المراكز الإسلامية داخل البلاد غير المسلمة، والعمل على تنظيم الشباب المسلم بما يحفظ عليه عقيدته وسلوكه وتكوينه فكريا وعلميا وجسميا، بتنظيم الحلقات الدراسية التي تكون الشباب من لدن العلماء المفكرين والمتخصصين في كل القضايا التي تجعل من الشباب رجال المستقبل الذين يتحملون الأعباء عن قوة وجدارة.
لا شك أن تنفيذ هذه الأهداف يحتاج إلى بذل مادي واسع، والمعتقد أن كلها أو جلها داخلة في نطاق ما تهدف إليه الآية الكريمة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} التوبة: 60. خصوصا البند السابق و {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، ولا شك أن المسئولين عن هذه المؤسسة الموظفين يدخلون في البند الثالث؛ لأنهم يعملون على جمع الصدقات وصرفها على مستحقيها، وهم مسلمون رشداء، لا يشك أحد في صلاحيتهم، ولا نشك نحن أيضا في صلاحيتهم وقدرتهم على المأمورية المنوطة بهم ومسئولياتهم أمام الذين اسندوا إليهم هذه المهام وأمام الله تعالى. لا بد من توزيع الصدقات على فقراء البلد حتى يكتفوا، ولا بأس بما يفضل عنهم كما كان على عهد الرسول والخلفاء الراشدين. والله من وراء القصد.(4/454)
فنفهم من النتائج التي توصل إليها الشيخ العلوي أنه يجوز صرف بعض الزكاة، ويعني بالبعض ما فاض عن الأولويات المذكورة في الكتاب: أسهم الفقراء والمساكين وغيرها، يبدأ بهم، فما فاض منهم يمكن صرفه على صندوق التضامن الإسلامي. وكما قلت بالنسبة للأخ الأول فالشيخ مصطفى العلوي يمكن أن يصحح مفهومي بخصوص ما قرأته عن بحثه ويعطي الصورة الصحيحة.
وأما البحث الذي قدمته أنا، ففيه نوع من التباين بينه وبين هذه البحوث الأولى؛ حيث إن موقفي، وأعتقد أنه الموقف الذي توصلت إليه، يتميز بنوع من الشدة في النظر إلى هذه القضية، فبالنسبة لي أن الدراسة المتعمقة للزكاة ولصندوق التضامن الإسلامي بقصد المقارنة تقودنا إلى الحقائق التالية:
أولا: نظرا للظروف الراهنة التي تمر بها المجتمعات الإسلامية في يومنا، حيث مواطن الفقر والجهل والمرض تكاد تتطابق مع مواطن الإسلام على وجه الكرة الأرضية، مع ملاحظة تفوق الأراضي الإسلامية في نفس الوقت على الأراضي الأخرى في ميدان الثروات الطبيعية، والثروات الاستراتيجية، والسيولة المالية، فإن صندوق التضامن الإسلامي يفرض نفسه على الأمة الإسلامية كأحد الحلول الأساسية لمآسي الأمة ولمساعدتها على تبوء مكانتها كخير أمة أخرجت للناس. وهذا يعني أنه يجب على مجمع الفقه الإسلامي أن يدرس على ضوء الكتاب والسنة والتراث الإسلامي كل ما من شأنه أن يضفي اعتبارات دينية خاصة لكل مجهود يقوم به الأفراد والمجتمعات لدعم هذا الصندوق، وفي هذا الإطار فإن دور مجمع الفقه الإسلامي لا يقتصر على مجرد حث الدول والأفراد على التبرع السخي لصالح صندوق التضامن الإسلامي كوجه من أوجه البر والصدقة الطوعية، بل يجب على المجمع كذلك أن يدرس بجدية إمكانيات إجزاء دفع الزكاة المكتوية إلى هذا الصندوق، كما يجب على المجمع كذلك أن يقترح على الصندوق أي تعديل في الهيكل أو النظام أو الأهداف التي يرمي من ورائها فتح الطريق أمام الصندوق لكي يتقدم إلى الوزراء، ومن ثم إلى القمة الإسلامية بمشروع نظام معدل يطرح للإقرار، ويكون الصندوق بموجبه وعاء صالحا لتلقي الصدقات الفردية من الأفراد والمجتمعات، جنبا إلى جنب مع التبرعات الطوعية. فهذا النوع من الاجتهاد باتجاهاته المختلفة يفرضها على المجمع نظامه الأساسي؛ حيث نصت المادة (4-ب) على شد الأمة الإسلامية لعقيدتها ودراسة مشاكل الحياة المعاصرة والاجتهاد فيها اجتهادا أصيلا؛ لتقديم الحلول النابعة من الشريعة الإسلامية.(4/455)
ثانيا: إن التضامن والتآخي كفكرة مبدأ أساسي في الإسلام، وهذه الفكرة هي أيضا من صميم أهداف الزكاة، وكذلك من صميم أهداف صندوق التضامن الإسلامي، لكن وهذه هي نقطة الخلاف بيني وبين المشايخ الذين قدموا بحثا في هذا الموضوع في هذا الباب، وجود فكرة التضامن في صميم كل من الصندوق والزكاة يجب أن لا يقودنا إلى استنتاجات سريعة. إن صندوق التضامن الإسلامي بصفته جهازا تنفيذيا واجتماعيا جماعيا معاصرا يرمي إلى تطبيق فكرة التضامن الإسلامي في زمننا على مستوى العالم الإسلامي ككل، وبصفته هيئة لها شخصيتها الاعتبارية وأسلوب عملها، ومصادر إيراداتها، ونظام وتوزيع واستثمار مواردها، الصندوق من هذا المنظار ظاهرة جديدة فرضتها متطلبات العصر على الأمة، وهنا نعيد ما قلناه آنفا من أنه يجب على العلماء الاستعانة بالكتاب والسنة والقياس والاستنباط والاستقراء والاستئناس كذلك، وكذلك بتجارب السلف وجميع وسائل الأمر بالمعروف لحث الأمة على مساندة حاجة الصندوق ودعمه ماديا ومعنويا، أما جعل الزكاة أو بعض الزكاة مصدرا من مصادر إيرادات الصندوق فتلك قضية أخرى يجب النظر فيها على ضوء الضوابط التي رسمها الشارع للزكاة.
ثالثا: إن مؤسسي صندوق التضامن الإسلامي قادة دول كانوا أو وزراء هداهم الله إليها، لم يشاءوا أن يقحموا الزكاة المكتوبة بصورة علنية في إطار هذا الصندوق، فموارد هذا الصندوق والتي أشير إليها في المادة (6) من القانون الأساسي تنص على: التبرعات والهبات والمنح وعائدات وقفية للصندوق والخبرات، أو الخبرات أو المساعدات العينية، والجهود البشرية، وكلها مصطلحات عصرية لها مدلولاتها المحددة، وترتكز أساسا على الناحية التطوعية، ولم يستعمل النظام الأساسي للصندوق ولو مرة واحدة كلمة ((الزكاة)) أو الكلمات القرآنية التي استعملت شرعا لأداء معنى الزكاة: فكلمة الصدقة أو الصدقات أو الإنفاق أو الحق المعلوم أو غيرها، ولو مرة واحدة لم تستعمل في النظام الأساسي.(4/456)
ويلاحظ كذلك أن المصطلحات القرآنية في تحديد مصارف الزكاة الثمانية: الفقراء، المساكين، العاملين عليها، المؤلفة قلوبهم، في الرقاب، الغارمين، في سبيل الله، وابن السبيل، هذه المصطلحات لم ترد ولو مرة واحدة بصيغتها القرآنية، أو بعباراتها الفقهية في عبارات النظام الأساسي للصندوق، ولربما كانت الحكمة التي هدى الله إليها قادة الدول الإسلامية ووزراء الخارجية هو أنه على الرغم من أهمية الصندوق وإسلاميته أن يترك الباب مفتوحا لتحديد هذه النقطة الخطيرة لجهاز مختص لمجمع الفقه الإسلامي؛ حيث كانت فكرة تأسيس هذا المجمع موجودة منذ تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي، لكنها لم تر النور بصورة قانونية إلا عند قرار نظامه الأساسي من طرف المؤتمر الثالث عشر لوزراء الخارجية.
رابعا: مما لا يقبل الجدال أن بعض الأهداف المشار إليها في النظام الأساسي لصندوق التضامن الإسلامي، والذي تدعمها محصلة النتائج لمختلف نشاطات الصندوق ومساهماته منذ تأسيسه إلى يومنا هذا يمكن الموافقة بين بعضها وبين المعاني أو المدلولات الشرعية لمصارف الزكاة، مثل باب الأزمات والمحن، والكوارث الطبيعية، والظروف الاجتماعية التي تتعرض لها بعض الدول والمجتمعات الإسلامية، مما يبرز في تلك المجموعات جماعات من الفقراء والمساكين والغارمين وابن السبيل.
ويتوقف ضيق أو سعة دائرة الموافقة بين مصارف الزكاة وبين الأجهزة والهيئات التي أسسها المسلمون – لتجسيد فكرة التضامن والتآخي في الإسلام – على مدى استعداد المذاهب الفقهية والمجتهدين من الفقهاء لتأويل أو تفسير مصارف الزكاة؛ فبعضهم يرون الحكمة في الوقوف عند تفسير السلف وعدم تعديه، مثال ذلك: ما رجحته هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بخصوص تفسير {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) حيث رأى أكثرية أعضاء المجلس الأخذ بقول جمهور العلماء من مفسرين ومحدثين وغيرهم، من أن المراد بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} الغزاة المتطوعون بغزوهم، وما يلزم لهم من استعداد وإذا لم يوجودوا صرفت الزكاة كلها للأصناف الأخرى، وليس صرفها في شيء من المرافق العامة، إلا إذا لم يوجد لها مستحق من الفقراء والمساكين وبقية الأصناف المنصوص عليها في الآية الكريمة. ويلاحظ نفس الاتجاه في تفسير كلمة الفقراء والمساكين والمؤلفة قلوبهم والغارمين.
__________
(1) انظر قرار الهيئة رقم 24 بتاريخ 21 /8 / 1394 هـ(4/457)
ولا نرى أية فائدة في الاسترسال في ذكر الشواهد المشتقة من تراث الفقه الإسلامي الواسع إزاء تفسير هذه العبارات. وفي المقابل كان وما زال هنالك فريق من العلماء والمجتهدين يسترسلون في تفسير معاني مصارف الزكاة، وهم على درجات، فمنهم من يقتصد فيه ويتقيد بما أثر عن مذهب معين أو مجتهد معين من السلف، ومنهم من يجاري العصر بدون تحفظ كبير إلى درجة أنه يوسع مفهوم الفقراء والمساكين أو ابن السبيل أو الغارم أو المؤلفة قلوبهم – وبصفة خاصة مفهوم وفي سبيل الله - مستعينا بالمدلولات اللغوية والتاريخية؛ ليشمل في النهاية أشياء كثيرة.
وهناك أدلة كثيرة على ذلك أعتقد أننا لا نحتاج إلى ذكرها، لكن الشيء
الملاحظ أنه حتى في الحالات التي تتضح فيها إمكانية التوفيق بين هدف معين من أهداف الصندوق ومصرف محدد من مصارف الزكاة، فإن مسألة نفس المسلم على أن زكاته بلغت مصرفها تبقى قضية معلقة، حيث إنه بالإضافة إلى مشكلة الهدف توجد مشاكل فقهية كثيرة يجب تذليلها، أهمها: مشكلة نقل الزكاة من مكان إلى آخر، ومنها أيضا مسألة التمليك، ومنها أيضا مسألة تعجيل أو تأجيل الزكاة، ومنها أيضا مسألة دفع القيمة عن العين، وقلت بخصوص هذه النقاط ما أعتقد أنه يجب أن تكون النظرة الفقهية الملائمة لعصرنا، واستنتجت من هذه بعض الاستنتاجات والاقتراحات العلمية. وأرجو منكم أن تسمحوا لي بقراءة ملخص لها:
في حالة مراعاتنا للحكمة التي هدى الله إليها الأمة سلفا وخلفا من إعطاء الأولية قي الزكاة لأصحاب الحاجات الفردية الملحة، من فقراء ومساكين وفي الرقاب والغارمين وأبناء السبيل، إما مباشرة أو عن طريق هيئات مختصة في شئون الزكاة، ونظرا لما يتسم به العالم الإسلامي في يومنا من تفشي جميع مظاهر هذه السلبيات الفردية، وحيث إن أهداف صندوق التضامن أهداف اجتماعية لا مجال فيها للتمليك الفردي، فإن نطاق التطابق بين الزكاة وبين أهداف صندوق التضامن الإسلامي يكون ضيقا وضئيلا للغاية، بعكس ما ذهب إليه الإخوة الآخرون، أنا أرى، حتى في ميدان الهدف أن التطابق ضئيل جدا.(4/458)
من هذا المنظار فإن باب الأزمات والكوارث الطبيعية والظروف الاجتماعية في البلاد والمجتمعات الإسلامية يكاد يكون الباب الوحيد الذي يمكن إدخاله في دائرة المستحقين للزكاة بالأولوية. وعلى هذا فإننا لا نرى هناك مانعا شرعيا، بل نحبذ ونشجع في حالة وجود تلك الكوارث والأزمات إعطاء جزء من الزكاة إلى صندوق التضامن لإيصالها لمستحقي الزكاة من المسلمين ضحايا هذه الكوارث، إذا كان هنالك فائض، ويكون ذلك في صورة توكيل شرعي تحدد فيه شروط الوكالة، ويتعهد الصندوق بالتقيد بها. ويمكن أن تضاف إلى باب الكوارث الحالات الخاصة التي لم تحط بها المرافق العامة إلى آخرها، لكن في حالة توسعنا في تأويل بعض مصارف الزكاة كالفقير والمسكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمين وابن السبيل وفي سبيل الله، فإنه يمكن بطريقة أو بأخرى أن ندخل جميع أهداف الصندوق أغلبها تحت مظلة الزكاة، إلا أننا في هذه الحالة نرى ألا يصرف شيء من أموال الزكاة في هذه الأهداف العامة للصندوق إلا بعد التأكد من أن ذوي الحاجة من أصحاب الحالات الأولى قد حصلوا على حقوقهم من الزكاة في المنطقة المعنية. ونعرف أنه بطبيعة الحال هذا شيء متعذر، وهذا يعني أن صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي فيما عدا باب الكوارث والأزمات وفيما عدا التقيد بشروط الوكالة يكون من المتعذر في نظرنا نحن إلى هذه النقطة. ولا أريد أن أسترسل فيما قلته بعد ذلك من الأمور التي يجب النظر فيها من الناحية الفقهية، والناحية التنفيذية وغيرها، فالإخوة السادة المشايخ قد قرؤوا البحث، ولكل رأيه فيه، وكل ما يهمنا نحن من أقدموا على الكتابة في هذا الموضوع، أن يعرف الإخوة أننا حاولنا أن نظهر جوانب المسألة المختلفة ونقاط الخلاف فيها، لكي تكون الصورة جلية واضحة للعيان، ولكل من يساهم في هذا المجمع؛ لكي نتوصل في النهاية إلى اجتهاد جماعي حصيلة احتكاك الأفكار وتبادل الآراء، وما قصدنا من كل هذا إلا أن نفيد ونستفيد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/459)
الشيخ طه جابر العلواني:
بسم الله الرحمن الرحيم.. من الواضح أن الجهد الذي بذله الشيخ يوسف بارك الله فيه جهد جيد، وكذلك الأخوان الباحثان الآخران، ولكن لي بعض الملاحظات العامة وبعضها خاص. فمنذ فترة قصيرة والأصوات تتعالى حول صرف الزكاة لهذا المصرف، أو ذاك من المصارف العامة، والفتاوى بقبول ذلك أو المنع منه كثرت وتنوعت بشكل كبير دون نظر مستفيض شامل في دوافع هذه النداءات وغاياتها.
ومن المعروف أنه في الفترات الحالكة من تاريخنا الإسلامي وهي فترات كثيرة أن أهم الوسائل التي حفظت للمسلمين علاقاتهم، وحفظت لهم مجتمعهم، وحفظت لهم حضارتهم بعد أن انهارت سائر المؤسسات الرسمية، كان جهاز الوقف، وجهاز الزكاة والصدقات، فالوقف كان يساهم في حماية المؤسسات الإسلامية من المساجد والمدارس ونحوها، الزكاة كانت هي التي تحفظ الصلة بين أغنياء المسلمين وفقرائهم، وتديم الترابط فيه، ونظام الصدقات بين أبناء المجتمع الإسلامي.
وأود أن أفترض أن كثيرا من هذه النداءات مخلص، ولكن بعض هذه النداءات فيه نظر، وربما يكون مصدر النظر فيه أن هذه الزكاة هي نسبة ضئيلة جدا من المال، وهذه النسبة الضئيلة قد حدد الله سبحانه وتعالى مصارفها، وبين هذه المصارف بشكل ليس فيه إجمال أو غموض، فما لنا نحاول بين الفترة والأخرى أن نهجم على هذه النسبة بعد أن هجم على كثير من الأموال.
إن صندوق التضامن الإسلامي أو أية مؤسسة من مؤسسات الحكومات الإسلامية أو الدول الإسلامية، يمكن إغناؤها بأي مورد من موارد هذه الدول، يمكن إغناؤها بأية فضلة زائدة، ولكن دائما يكون توجه البحث والنظر نحو ما بيد الأفراد. لم لا نطالب هذه الحكومات وهذه الدول بأن تضغط بعض مصروفاتها، بأن تحول أن تحول شيئا من مواردها في هذا الاتجاه، وبالتالي تستطيع أن تغني هذا الصندوق الذي نقدر أهدافه ونحترمها حق الاحترام وحق التقدير، ولكن لهم في موارد كثيرة أخرى من موارد الحكومات والدول لهم فيها غنى وكفاء عن هذه الزكاة التي حدد الله مصارفها، وحدد الوجوه التي ينبغي أن تستخدم فيها، وبقيت هي الوسيلة الوحيدة التي تربط بين أغنياء المسلمين وفقرائهم، فلماذا نحاول بين الفترة والأخرى إثارة قضيتها، ومحاولة مصادرتها وتحويلها إلى الجهة الرسمية، ومحاولة القضاء على أية صلة بين أغنياء المسلمين وفقرائهم!؟ هذه ملاحظتي فيما يتعلق بهذا الأمر، فأعتقد أن البحث ينبغي أن يحول إلى مطالبة الدول الأعضاء بصرف ما يمكن أن تصرفه من أي باب من أبواب مواردها لهذا الصندوق وإغنائه للقيام بواجباته وتحقيق أهدافه الخيرة. وأما مسألة الزكاة بما في ذلك ما يحتمله قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} فينبغي أن ننأى بها في هذا الوقت بالذات عن أن تكون موضع بحث في هذا المجال، ونحن نعلم أن الكثيرين، أو كثيرا من الأنظمة تتطلع للاستيلاء عليها وحجبها عن الفقراء والتصرف فيها بطريقتها الخاصة بهذه الحجة أو تلك. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(4/460)
الشيخ محمد تقي العثماني:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله أصحابة أجمعين وبعد،
فأريد في فاتحة كلامي أن أشكر سيادة أخينا الأستاذ يوسف جيري على عرضه المستفيض للموضوع المطروح في هذه الجلسة، فإنه طرح أمامنا جميع النواحي الأساسية التي لا بد من النظر فيها قبل البت في هذه المسألة، وإنه ولكل باحث حقه في إيضاح وجهة نظره التي أبداها في بحثه، أما بالنسبة للموضوع، وهو صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي، فالمسألة عندي كما تقدم به أخونا الأستاذ طه جابر حفظه الله ليست مسألة صرف الزكاة لصالح صندوق واحد أو آخر. وإنما المهم هل يصرف هذا الصندوق أموال الزكاة، في مصارفها المنصوصة أم لا؟ وأن النداءات التي تحدث عنها أخونا الأستاذ طه جابر، نرى في كل بلد أنه كلما حدثت حاجة مالية لمادة من المواد، حدثت نداءات لصرف هذه النسبة الضئيلة من أموال الزكاة لتلبية تلك الحاجة، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في المال حقا سوى الزكاة)) ، فما لنا نجتهد بأن نصرف الزكاة في كل ما نحتاج إليه، وإن هذه النسبة الضئيلة قد خصصها الله سبحانه وتعالى للفقراء والمساكين والمصارف المنصوصة، وقد اتفق الفقهاء والأئمة الأربعة فيما أعتقد على أن الزكاة لا بد فيها من تمليك فردي، فلو صرفنا أموال الزكاة هذه إلى صندوق جماعي، وليس فيها اهتمام بالتمليك الفردي، فلا يجوز لنا أن نصرف أموال الزكاة إلى ذلك الصندوق. نعم لا بد للبلاد الإسلامية من مساندة مثل هذه الصناديق من مواردها الأخرى، التي حث إليها الله سبحانه وتعالى بالإنفاق في كتابه {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} آل عمران 92. وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في المال حقا سوى الزكاة)) ، فإذا نظرنا من هذه الناحية، إذا كان في صندوق التضامن الإسلامي ضمان لصرف أموال الزكاة عن طريق التمليك الفردي أو التوكيل، كما اقترحه الأستاذ يوسف جيري، فإنه يجوز عند ذلك صرف بعض أموال الزكاة إلى ذلك الصندوق، وأما في الظروف الموجودة التي لا ترى في مادة من مواد نظام هذا الصندوق ما يفترض صرف أموال الزكاة بطريق التمليك أو بالتوكيل، فلا أرى جواز ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم، وشكرا والسلام عليكم ورحمة الله.(4/461)
الشيخ عجيل جاسم النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم.. والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
لي ملاحظتان فيما أبداه الشيخ يوسف جيري من عرضه للمواضيع، وابتداء أثني على ما ذكره الزميل الدكتور طه جابر، وأرجو أن يؤخذ في الاعتبار ما ذكره في أصل الموضوع، وهو صرف الزكاة للصندوق ذاته. أضيف إلى كلام الزميل الدكتور طه إشارة إلى موضوع العاملين، وقد ذكر الشيخ العلوي – حسب ما نقله الأستاذ يوسف جيري – أشار إلى جواز الصرف؛ صرف الزكاة إلى العاملين في صندوق التنمية، وهذه قضية ينبغي أن لا يتوسع فيها، قضية العاملين ينبغي ألا يتوسع فيها، خصوصا بالنسبة للمؤسسات التي الأصل فيها أن تكون خيرية، فيتوسع حينئذ من حيث التطبيق، كما هو مشاهد في بعض الأقطار يتوسع في أعداد العاملين، وفي تنويع مستوياتهم، مما يؤدي إلى امتصاص قدر كبير من سيولة الزكاة.
القضية الثانية التي أود أن أشير إليها أيضا مما ذكره الأستاذ يوسف جيري من ملاحظته أن النظام الأساسي لصندوق التضامن لم ترد فيه أية عبارة اصطلاحية من المصطلحات الشرعية المعروفة في باب الزكاة، ولعل هذا يشير إلى أن الصياغة لم تراع الروح الإسلامية، فإذا فقدت الصياغة في نظامها الأساسي الروح الإسلامية، فأعتقد أن هنا علامة استفهام ينبغي الوقوف تجاهها.
اقتراحي في هذا الصدد هو أن تبنى الفتوى والرأي على نظر واقعي عملي، كأن تقوم الأمانة بتشكيل وفد ليعاين واقع الصندوق ويطلع على سير العمل، ثم يوافي المجمع بتصور نظري وعملي. أقول قولي هذا وأستغفر الله.(4/462)
الدكتور علي أحمد السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. وشكر الله لكم جميعا والإخوة الذين تحدثوا من قبل.
نظرت في المذكرة التفسيرية الخاصة بشأن صندوق التضامن الإسلامي، فأذكر منها أنها أنفقت ثمانية ملايين دولار في الاحتفال بمطلع القرن الخامس عشر الهجري، وأن النفقات الإدارية كانت بمعدل مليون تقريبا في العام؛ لأن الموظفين يراعى في أجورهم العمل تبعا لمنظمة المؤتمر الإسلامي أجورا مرتفعة، ثم هناك تنظيم الحلقات الدراسية، وهناك الوقف والمساجد، والمستشفيات والجامعات إلخ. من هذا أضم صوتي إلى صوت الإخوة السابقين، وأقول: إن هذا يؤيد القول بأن الزكاة لا تصرف في هذه المصارف، فلا تكون تبعا للوقف، ولا تكون في المساجد، كما قال الإمام مالك: ((سبيل الله معروف، ولا أعلم أحدا قال بأن سبيل الله يعني شيئا غير الجهاد)) . كلام الإمام مالك، فالتوسع في سبيل الله نتيجة ما ذكره الفخر الرازي نقلا عن غيره وقال: " إن بعض الفقهاء توسعوا حتى يشمل الحجاج والعمار، ويشمل كذا ويشمل كذا، هذا يحتاج إلى دليل لا يكفي أن يذكر مفسر مثل هذا لنتوسع في سبيل الله؛ لأنه لو توسعنا هذا التوسع فإعطاء الفقراء في سبيل الله وإعطاء المساكين في سبيل الله، وكل هؤلاء في سبيل الله، إنما لا بد أن يكون معنى في سبيل الله له معنى محدود مفهوم.
إذن العاملون عليها الموظفون لا يأخذون من الزكاة ليس المراد بـ (العاملين عليها) في الآية الكريمة لا ينطبق على هؤلاء الموظفين في هذه المؤسسة؛ لأن المؤسسة هذه لها وظائف مختلفة، ليست أساسا لجمع الزكاة وإنفاق الزكاة حتى نقول: إنهم من (العاملين عليها)
لهذا أرى عدم جواز صرف الزكاة، وهو الجزء الضئيل كما أشار إليه الإخوة في هذه المصارف، وإن كان لابد يبقى تبعا لاقتراح الأخ الدكتور عجيل أن اللجنة التي تشكل تنظر فى المصارف التي يمكن فعلا أن تدخل ضمن المصارف الثمانية؛ لأن الله عز وجل حددها في كتابه ولم يتركها حتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نستطيع أن نخرج عن هذه
المصارف الثمانية، ولا نستطيع أن نتوسع في معنى في سبيل الله حتى يشمل كل شيء، وإلا تكون الزكاة في سبيل الله، ونلغي المصارف السبعة الأخرى لأن معناه في سبيل الله يشمل إذن هذه المصارف السبعة.
هذا ما أردت أن أقوله وشكرا. والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/463)
الشيخ عبد الحليم محمود الجندي:
بسم الله الرحمن الرحيم. أشكركم يا سيادة الرئيس، وأشكر إخواننا الذين تفضلوا فسبقوني بالكلام؛ لأن هذا الموضوع من بوادره قد قتل بحثا، ولا أريد أن أكرر ما قالوه ولا أن أعلق عليه، وإنما أريد أن أبين بعض المحظورات. فنحن بإزاء عبادة، وهي الزكاة، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام، فنحن إذن نتقيد فيها بالنص، وتمنعنا أصول الإسلام بعضه أصول الدين نفسه، تمنعنا أن ننقل فردا محل آخر، وتمنعنا من أن نهدر من حق جماعة بعضه لننقله إلى آخرين، وتمنعنا أصول الفقه كذلك عند ورود النص صريحا من أن نجتهد مع ورود النص صريحا في الموضوع. والنص الخاص بالزكاة أصرح ما يكون. وهي بذاتها جهاز أنشأه الله تعالى لإيجاد التضامن بين الجماعة، وليجبر بعض بعضاً آخر، هذا واضح، فكل اجتهاد فيه، هو اجتهاد مع ورود النص، وهذا ممنوع بأصول الفقه. هذه واحدة لا نستطيع أن نضع التضامن الإسلامي ولا صندوق التضامن بين المستحقين، وإنما هذا جهاز جديد مستحدث لتمكين المسلمين من أن يتعاونوا، فلينشأ بهذا الجهاز الجديد ما يطوعه أو ما يطوع الأشياء له، لكننا لا نستطيع أن نجعله هو القائم على الزكاة، وأن نجعله هو الذي يصب فيه مصارف هذه الزكاة، ولا نجعله يستطيع أن يحل محلها. والزكاة تبدأ ونحن يجب أن نبدأ بما يبدأ به الله سبحانه وتعالى، فالله قد بدأ بالفقراء وانتهى إلى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} ولا نستطيع أن نجعل في سبيل الله يحل محل الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم إلخ.
الزكاة مراعى فيها الجانب الشخصي. هذه مسألة أساسية لا تستطيع أيضا مؤتمرات المسلمين، ولا النظم السياسية في المسلمين أن تستبعد هذا الجانب الشخصي من دفع الزكاة إلى مستحقيها، حتى اللجنة التي تفضل إخواننا فاقترحوها بتخفيف وضع النظرية المعروضة الآن، هذه اللجنة أيضا لا تستطيع أن تتكلم عن الأولويات، ونقل الجانب الشخصي إلى جوانب نظامية، أو جوانب دولية، أو جوانب يقوم بها صندوق التضامن مقام الأشخاص المستحقين في المقام الأول، رضي الله عن سيدنا عثمان أنه عندما ترك للناس أن يدفعوا الزكاة ولم يحصلها تركها للناس تحت مسئولياتهم الشخصية،
ولم يرد هو أن يجبي الزكاة بمشاكلها ليتولى التوزيع، فحتى هذا الذي ورد في أصل التطبيق، أو في تطبيق السلف الأول أو في تطبيق الخليفة الراشد عثمان، هذا أيضا يمنعنا من أن نحل محل الأفراد والأشخاص في القيام بهذه الفريضة.
لذلك أرجو ألا نجتهد سياسيا، وألا نجعل لمجمع الفقه دخلا في أن يحل محل الأشخاص الذين وكل الله إليهم، كما طبق أمير المؤمنين عثمان، أن يدفعوا الزكاة لمستحقيها الذين يرونهم، أرجو ألا نكون نحن قد حللنا أو نريد أن نحل محل الأشخاص في هذا التوزيع. كل ما أرجوه أننا إذ نحل صندوق التضامن محل الفقراء والمساكين، يجب أن نذكر أين موقعه هو من هذه المصارف الثمانية، موقعه لا شك واضح. من أجل هذا أرجو أن نترك الزكاة للتقدير الذي جرى عليه التطبيق والمسلمون من قديم الزمان، ومهما كانت منحهم لا يترخصون في الزكاة كما يظن البعض، وإنما الجانب السري في التوزيع هو الذي جعلها لا تظهر قوية لبعضنا أيضا. ولهذا أشكر وأزكي البحث الذي قدمه صديقنا الأستاذ يوسف جيري وإخواننا الذين سبقونا بالكلام وأشكركم.(4/464)
الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يبدو لي من البحوث التي قرأتها لبعض الإخوة في هذا الموضوع أن الهدف هو ربط سائر المصالح والاحتياجات الإنسانية بمعين واحد شرعه الله ألا وهو الزكاة، وذلك طبعا يعني أن يؤدي إلى إعفاء بيت مال المسلمين المتمثل في أموال الدول الإسلامية من كل مسؤولية؛ ذلك لأن سائر المنشآت الإنسانية:
المساجد، المستشفيات، المصالح العامة المختلفة المتمثلة في أنواع شتى إذا أنيطت مسؤولياتها بالزكاة، فقد أرحنا بيت مال المسلمين من كل شيء.
وما أظن أن هذا تصور يتفق مع حقائق وكليات ومبادئ الشريعة الإسلامية، فيما قرأناه من بحوث الشريعة الإسلامية في هذا الصدد، رأينا أن الحاجات التي يلفت الإسلام إليها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: المحتاجون الذين يمكن أن يوجدوا في مختلف البقاع والبلاد
الإسلامية وضرورة إغنائهم.
القسم الثاني: المصالح العامة الإنسانية التي تتمثل في إنشاء مرافق وبناء مساجد، ومؤسسات ومستشفيات ونحو ذلك.
وقد شرع الله سبحانه وتعالى لسد الثغرة الأولى الزكاة، ونص على هذا المعنى بأداة الحصر فقال جل جلاله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} إلى آخر الآية (التوبة 60) ، ولكأن الكلام الإلهي يحذر من هذا التصور الذي جاء به الزمن فيما بعد، ففتح دائرة منافذ الزكاة لتمتص كل المصالح والحاجات، ولكن أداة الحصر جاءت سدا وردا بهذا التصور إنما الصدقات للفقراء. وهنالك متكأ لبعض الإخوة أو لبعض الناس أمام كلمة: وفي سبيل الله، ألا وهو النقل الذي نقله ولم يتبنه بعض المفسرين لكلمة {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} فتصوروا أنها قد تعني كل الحاجات الإنسانية التي يقرها الإسلام، هذا التصور مردود أيها الإخوة بدليلين اثنين: أولهما لو كانت كلمة (في سبيل الله) تعني غير المجاهدين في سبيل الله من هذا المعنى المتسع جدا، إذن لكان من العبث النص على الأصناف السبعة الأخرى؛ ذلك لأن الفقراء، المساكين، العاملين عليها، الغارمين، كل هؤلاء يندرجون تحت اسم في سبيل الله، ومعاذ الله أن نصف القرآن بالعبث، أو أن نصف كلمة فيه بالتزيد، هذا لا يمكن، إذن فكلمة (في سبيل الله) قسيم للأنواع السبعة الأخرى، والقسيم يختلف عن قسيمه.
الشيء الثاني: تعالوا ننظر إلى الإجماع الفعلي خلال العصور التي خلت، عصر رسول الله (ص) ، الذي يليه، الذي يليه، إلى يومنا هذا، هل رأينا على صعيد الواقع من صرف شيئا من مال الزكاة إلى غير فقير ينتسب إلى نوع من هذه الأنواع الثمانية، لم نجد ذلك على صعيد الواقع أبدا، إذن نحن أمام إجماع فعلي عملي، وهو لا يقل كما قال جمهور الفقهاء عن الإجماع القولي.
أما ما يتعلق بالمشكلات التي أثارها الأستاذ يوسف في بحثه القيم أنا أقبل ما قاله كلفت نظر، مثلا نقل الزكاة من بلد إلى بلد، تعجيل الزكاة، متى يجوز استبدال العين بالقيمة والعكس. هذه بحوث يلفت نظرنا إليها ونعم ما فعل، ولكنها محلولة لا مشكلة. فهنالك من أجاز نقل الزكاة وإن كان الشافعية لا يجيزون ذلك، وهنالك من أجاز استبدال القيمة بالمقوم، وإن كان ثمة من لم يجز ذلك، وهذه الأقوال أقوال صحيحة لا ضعف فيها، لكن ينبغي أن نتبصر بها.(4/465)
نتيجة هذا أيها الإخوة فيما أتصور أن صندوق التضامن، نعود إلى إيجاد شيء من التنسيق بين حقيقة الزكاة وما شرعه الله في أمرها، وبين نظام هذا الصندوق، فإن رأينا أن نظام هذا الصندوق يتسق ويتفق مع مصارف الزكاة كليا وجزيئا فلا مانع، ولا أظن أن هذا متحقق، وإن لا ينبغي أن نتحفظ في الأمر، وينبغي أن نتذكر كما قال بعض الإخوة أن الدول الإسلامية متمثلة في صناديقها متمثلة في أموالها هي المسؤولة أولا وبالذات عن إقامة مصالح المسلمين، أما الزكاة فما هي إلا دعم وما هي إلا نسيج محبة حققه الله، أو حقق الله بواسطته التآلف بين القلوب.
أقول قولي هذا وشكرا لكم.
الشيخ محمد الحاج ناصر:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حديث الزكاة وصرفها إلى من يتولى إبلاغها لمستحقيها حديث ذو شعب ينبغي أن نتدبرها كلها؛ لأن الركن الثالث من أركان الإسلام ليس ركنا أساسيا فحسب، وإنما هو الدعامة الأولى لتكوين الرابطة المادية بين أفراد المجتمع الإسلامي وطوائفه، والذي تفضل به بعض الإخوة من قبل أشار إلى نواح لطيفة، ونلاحظ أنه لا ينبغي أن تغيب عنا، ونحن نحاول أن نجد توفيقا بين ما يطلب من توكيل مؤسسة معينة عن الأفراد وبين ما هو مشروع من شريعة الله سبحانه وتعالى، ولطيف جدا أن يلتفت أحد الإخوة إلى هذا الملحظ الأول ملحظ الوكالة؛ ذلكم بأنه لا يمكن اعتبار صندوق التضامن كبيت مال المسلمين، ولا يمكن اعتبار القيمين عليه كما كان الخلفاء وولاتهم وعمالهم، البيعة التي تعطى للخليفة لم تعط للسيد المدير، ولم تعط لأنه ليس من نظام الصندوق أن يكون مديره خليفة للمسلمين، ولم يعرف الفقهاء المسلمون من قبل مبدأ التوكيل في أداء الزكاة، أو في صرف الزكاة وتبليغها إلى مستحقيها إلا في حالات قليلة، عرض لها البعض، حتى لا تكاد من ندرتها أن تخفى على المتأمل المسرع في التأمل، فنحن إذن أمام طلب يريد من المسلمين توكيل صندوق التضامن الإسلامي ليقوم مقامهم بتصريف جزء أو كل ما عليهم من زكاة.
وهذا الذي على المسلمين من زكاة على نوعين: ما منه على الأفراد وما منه على المؤسسات، والذي منه على الأفراد قد يمكن عند توفر روابط معينة أن يوكل صندوق التضامن في دفع جزء منه، وتصريفه إلى مستحقيه، مما سأشير إليه بعد، وما منه على المؤسسات. قبل أن يتعين على الأفراد التفكير فيه علينا أولا أن نتخذ موقفا، نحث فيه الدول الإسلامية على إدخال ضريبة الزكاة ضمن الضرائب التي تفرضها على الشركات، وخاصة تلك التي تعمل فيما هو في باطن الأرض، وعندما تفرض هذه الضريبة سنتساءل يومئذ: هل ستتولى الدول نفسها صرفها إلى مستحقيها، أم ستحيل ذلك إلى صندوق التضامن الإسلامي بتوكيل منها؟(4/466)
وأمثال هذه الضريبة هي التي ستغني صندوق التضامن، أما ما بأيدي الأفراد فالله سبحانه وتعالى حين ذكر الأصناف الثمانية رتبها طبقا لأولويات الاستحقاق، ولئن كانت الواو عند أغلب النحاة لا تفيد الترتيب، فإن النسق القرآني يرتفع على اعتبار النحاة واللغويين، فالله سبحانه وتعالى حين يقدم شيئا بالذكر لا يقدمه اعتباطا، وإنما يقدمه لمعنى في ذاته، والله سبحانه وتعالى حصر الصدقات في الأصناف الثمانية، ليس ليخرج ما قد يبلغ إليه الاجتهاد من اعتباره داخلا في تلك الأصناف، وإنما ليخرج الأغنياء. هنالك الحصر فعلا، لكنه حصر يؤوله ما قبله، الذين يلمزون المطوعين من المسلمين في الصدقات {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ ... } . التوبة: 58، 59.
فالحصر هنا له وجهة معينة هي إخراج الأغنياء، أما قضية في سبيل الله فشيء آخر، قال الإمام مالك رحمه الله قولته تلك، وهو ككل الأئمة موقر ما يقول أكبر توقير، ولكنه ليس بالمقدس، فهو نفسه يقول: ما من عالم إلا وفي علمه مأخوذ ومتروك، إلا صاحب هذا القبر. يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين قيل له عن خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه: إنه امتنع من أداء الصدقة، قال له ما معناه: إنه أوقف كل ما يملك، إنه أوقف عتاده في سبيل الله، وفي سبيل الله لا يعني المجاهدين، كما يظن البعض، وإنما يعني كل ما يؤدي إلى الجهاد أو يهيئ له، ومن ذلك إنشاء العتاد، ومن ذلك تقوية اقتصاد الأمة لئلا تقع تحت نفوذ اقتصاد الأمم الأخرى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} . من قوة بالتنكير، وللتنكير دلالته في القرآن؛ فمن ذلك كل ما من شأنه حماية قوة المسلمين وإنماؤها وإقرار هيبتهم وردع المتربصين بهم، يمكن أن يعتبر في سبيل الله، لكن لا يصار إلى إنفاق الزكاة في هذه المجالات إنفاق الزكاة كلها، إلا بعد أن ينفق على الجهات التي سبق ذكرها على (في سبيل الله) ، وهنا يأتي دور قوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} . ثم قال: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} . البقرة: 177.
فهنالك إذن ما أشار إليه أحد الإخوة من قبل من حديث فاطمة بنت قيس الذي كان يفتي به عامر الشعبي، من أن في المال حقا سوى الزكاة، وحتى نفي ابن عمر لأن يكون في المال حق سوى الزكاة لم يكن نفيا لوجود الحق في ذاته، وإنما كان نفيا لأن يكون هناك حق ثابت يتعين على الإنسان بطريقة دورية إلا الزكاة. أما أن في المال حقا سوى الزكاة عندما يتعين على المسلمين أن يتفقوا، فذلك ما لسنا بحاجة إلى البحث فيه إلى اجتهاد وإجماع، فهو نص قرآني صريح بصريح هذه الآية وبصريح: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} التوبة 103. وليست تزكيهم بمعنى الزكاة، وليس صدقة بمعنى الزكاة كما وهم بعض المفسرين. وقد أوضحت ذلك كله في البحث الذي أعددته لموضوع انتزاع الملك للمصلحة العامة.(4/467)
فنحن إذن إن نرد أن ندعم صندوق التضامن الإسلامي يجب أن يتسع اتجاهنا إلى أن يشمل ما وراء الزكاة. يجب أن ننظر في طريقة نحمل بها المسئولين على تطبيق قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن في المال حقا سوى الزكاة)) ، ويجب أن نبحث عن طريقة نحمل بها المسئولين على تطبيق ما فرض الله سبحانه وتعالى على الثروات في باطن الأرض. ثم لا ينبغي أن نقف حجر عثرة في وجه إعانة صندوق التضامن الإسلامي بما قد يفيضه على حاجة أهل البلد من الفقراء والمساكين إن وجد ما يفيض، لينفقه الصندوق مما في الغارمين في التسديد على بعض الغارمين، وإما في بعض جوانب في سبيل الله، وإما في الرقاب.
وهنا أحب أن ألفت إلى شيء لم نعد الآن في عصر وجدت فيه الرقاب بالمعنى الذي كان معروفا، ولكن لدينا أسارى، لدينا أساري تضطهدهم ألعن فئة وجدت في البشرية منذ كانت، وفك هذا الرقاب من أوكد الواجبات على المسلمين، فإن لم تصرف الزكاة في مثل هذا ففيم تصرف؟ والمؤلفة قلوبهم لم يقل القرآن: من المسلمين، فلو استطعنا أن ننفق جزءا من الزكاة في تأليف بعض الجهات التي تحاربنا سواء من أجهزة الإعلام أو من أرباب النفوذ في الدول الأخرى؛ لنصرف مكرهم وشرهم عنا، ولندفع به على غيرنا، أفلا يكون هؤلاء من المؤلفة قلوبهم؟ لقد قالها عمر رضي الله عنه، كان ذلك لما كان الإسلام جذعا، أما الآن فقد بزل ذلك في عهده رضي الله عنه وهو يدوخ العالم كله بقوته الإيمانية وبجيش المسلمين، أما نحن الآن فالإسلام أقل من جذع، ينبغي أن نفكر واقعيين، وألا نجعل الإسلام منغلقا على نفسه، وأن نيسر أسباب الجهاد، وأن ندرك أننا لو وقفنا عند من كان يحصرون الزكاة في سبيل الله يعني في الجهاد والمجاهدين، لوجب أن نقف عند السيف والرمح، وماذا يفعل السيف والرمح في عهد الذرة ومشتقاتها، وفي عصر الصواريخ وعصر الفضاء؟
أيها السادة، إن مسؤوليتنا هنا مسؤولية أناس ينبغي أن يدركوا أنهم مسئولون أمام الله في تقديم الإسلام كحل بديل لكل هذه المعوقات، ولكل هذه الضلالات التي تعرض علينا من يمين ويسار. فلنقدم الإسلام عمليا ولنرجع به إلى النصوص الأولى من الكتاب والسنة، كما كان يفعل أحمد بن حنبل رضي الله عنه ومالك والشافعي، ولنبتعد عن الأقيسة، ولنلجأ إلى الاستنباط وابتغاء مناط التشريع، ففي مناط التشريع خير كثير. والسلام عليكم ورحمة الله.(4/468)
الشيخ مصطفى الفيلالي:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين..
شكرا سيدي الرئيس. استسمحكم في أن أتوجه بالشكر في بداية هذه الكلمة إلى الشيخ يوسف جيري على المجهود القيم الذي بذله في تقديم الدراسات المقدمة إلينا بهذه القضية، وفي تلخيص ما ارتآه من ملاحظات، أؤيد بعضا منها فيما يتعلق بالمصاعب التي أشار إليها من صرف الزكاة لصالح الصندوق، وكان ينبغي فيما أظن سيدي الرئيس أن نقول: صرف الزكاة عن طريق صندوق التضامن، لا لصالح الصندوق؛ لأن الصندوق سوف لا ينتفع في مجرى اختصاصاته فيما يتجمع من أموال الزكاة.
قلت: إني أرى في تحقيق هذا المطمح مصاعب متعددة، قد أشار الشيخ يوسف جيري عنها، وأشار بعض الإخوة إليها وأود أن أجمل القول في بعضها:
الصعوبة الأولى تتعلق بالأصل؛ أي: بالمقاصد الأساسية التي أرادها المولى سبحانه وتعالى من فرض الزكاة. وأرى أن لفرض الزكاة غرضين اثنين: غرض إحكام أواصر المرحمة والتضامن بين فئات المسلمين، وخاصة بين الفئات الضعيفة والفئات الأقل ضعفا.
والغرض الثاني: هو غرض شخصي يرمي إلى تزكية النفس، نفس المؤمن المؤدي لفريضة الزكاة، هذا الجانب النفسي في علاقة المؤمن بفريضة الزكاة هو جانب أساسي، وقد أشار إليه بعض من الإخوة الأجلاء الذين تفضلوا بالتدخل في هذا النقاش. هذا الجانب التعبدي يكتسي طابعا شخصيا، وأخاف سيدي الرئيس ويا حضرات الزملاء الأفاضل أن يضعف هذا الجانب النفسي في ذات المؤمن المؤدي للزكاة إذا استقر في نفسه نوع من التنظير والتطابق بين الزكاة وبين الجباية الوضعية.
ونحن نعلم ما للجباية من ثقل موضوعي في بلادنا، ومن استنكاف الأنفس واستثقال شخصي لأدائها، فإذا نحن جعلنا صلة ما بين الزكاة كتعبد شخصي يتقرب به الإنسان إلى المولى سبحانه وتعالى، ويزكي نفسه، وبين الجباية التي يؤديها للحكومة، مع ما نعلم من وهن العلاقات في كثير من الأمصار بين المواطنين وبين حكوماتهم، فإن ذلك سيكون على حساب الجانب التعبدي، وربما يستنكف الإنسان المؤمن من أداء هذا الواجب.(4/469)
الصعوبة الثانية تتعلق بصندوق التضامن، فقد أشار الأستاذ الشيخ يوسف جيري بأن هذا الصندوق ليس في قانونه الأساسي ما يفيد أن الزكاة هي من بين الموارد الاعتيادية التي يعول عليها الصندوق، وأنا أتساءل سيدي الرئيس: هل يملك مجمع الفقه الإسلامي أن يأخذ المبادرة في إدخال تغيير هو من اختصاصات المراجع الأولى والهيئات الأساسية لمنظمة المؤتمر الإسلامي؟ لا بد من تغيير القانون الأساسي حتى يصبح لصندوق التضامن، بل حتى تصبح الزكاة من الموارد الأساسية، أو في عداد الموارد الأساسية التي يعتمد عليها الصندوق.
والصعوبة الثالثة تتعلق بجمع الزكاة في كل واحد من بلاد الإسلام، وبنقلها إلى صندوق التضامن، وهنا تكمن المصاعب الكبرى: من ستولى تجميع هذه الأموال في كل واحد من أوطاننا؟ هل ننشئ في كل بلد تنظيما خاصا بذلك وهيئة إدارية تتولى هذا العمل؟ ونحن نعلم في كل واحد من أوطاننا من جهاز ثقيل متعدد يأكل الأموال الكثيرة لجباية الأموال، وكيف يجوز ذلك مع وجود كثرة الاحترازات القانونية على عملية جمع المال؟ فنحن نعلم مثلا في شمال إفريقيا، وفي تونس بصفة خاصة أن الهيئات التي تشرف على بناء المساجد ينبغي أن تسترخص أولا عند إنشائها لبناء المسجد لجمع الأموال لبناء المسجد، وتسترخص بصورة دورية، كذلك لجمع الأموال؛ لأن جمع الأموال على الطريق العام هو امر محظور قانونيا، وينبغي أن يسترخص فيه مع بيان أغراضه ومواقيته والمبالغ التي يراد جمعها.
الصعوبة الكبرى الأخرى تتعلق بتحويل هذه الأموال إذا نحن توقفنا إلى جمعها، فنحن يجب أن نعلم جميعا ما لكل واحدة من الحكومات الإسلامية من تشاريع قانونية تتعلق بالمال، وتضرب على رواج المال ترسانة من القيود والحصر، وتدخل في هذه القيود قضية التحويل بالعملة المتداولة، إن كان الدولار مع ما ينتاب هذه العملة أو تلك من تأرجح في القيمة، وفي التفاوت الدوري في القيمة كل شهر، أو كل أسبوع، بل كل يوم، وقد عشنا ذلك في الأشهر القريبة الماضية. ومعلوم أن ما انتاب الدولار من هذا التأرجح قد أودى بنصف قيمة الودائع، واستدعى ذلك تدخل الحكومات المسؤولة، وكان ذلك وفقا للقوانين الجاري بها العمل؛ حيث إن هذا المال سوف يكون في مأمن من انهيار قيمته، أو تغير قيمته بكذا في المائة، على مدى، لأن العملية هي عملية مسلسلة ودورية على مدى المدة التي يقع فيها مباشرة هذا العمل.(4/470)
هذه بعض الملاحظات وبعض المصاعب التي ارتأيتها، وفي أثناء هذه الجلسة وردت علينا ورقة أخرى من الدكتور عبد الله إبراهيم، وتتعلق بإمكانات تكوين إدارة مالية للزكاة في الأوطان الإسلامية فقط، ولم أطلع عليها بطبيعة الحال، قد يكون في ذلك منحى للتدبر والتفكير. على كل فإن صرف أموال الزكاة عن طريق صندوق التضامن يثير عديدا من المصاعب، لا بد من أن نعيد فيها النظر، ولابد أن نتروى فيها، ولا بد خاصة من أن يقوم فيها التشاور بين مجمع الفقه وبين منظمة المؤتمر الإسلامي؛ لأن القانون الأساسي لمجلس إدارة صندوق التضامن الإسلامي هو من اختصاص هيئات غير هيئة مجمع الفقه الإسلامي، أشكرك سيدي الرئيس وأشكركم ايها الإخوة، والسلام عليكم ورحمة الله.
الرئيس:
شكرا. من حيث الصعوبة التي ذكرتموها من أن الزكاة لم يشر إليها في النظام الأساسي لصندوق التضامن الإسلامي. فالذي يظهر أنه في ذلك الوقت لم يكن هناك تفكير في ضم الزكاة لأن تكون أحد موارد صندوق التضامن الإسلامي، وهذا واضح من اللائحة التنفيذية التفسيرية لنظام الصندوق.(4/471)
الشيخ محمد سيد طنطاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن ولاه.
يبدو أنني سأعود إلى الكلمة التي قد قلتها بالأمس، وهي تحرير محل النزاع كما يقول علماء الأصول؛ لأن الذي أعرفه أننا جميعا كعلماء وكمسلمين، لا خلاف بيننا في أن مصارف الزكاة قد حددها الله سبحانه وتعالى تحديدا محكما في كتابه الكريم.
الأمر الثاني: أنه لا خلاف بيننا في أن الزكاة يؤديها كل مسلم بنفسه في الأعم الأغلب، ربما لا أتجاوز الحقيقة إذا قلت: إن 90 % من المسلمين يؤدون زكاة أموالهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، وبالطريقة التي يرونها طريقة شرعية يرجون من الله سبحانه وتعالى أن يتقبلها، هذا هو الأعم الأغلب، أو كما عبر استأذنا الأستاذ عبد الحليم الجندي بأن الجانب الشخصي فيما يتعلق بفريضة الزكاة هو الغالب، وهذا أمر أعتقد أنه أيضا مسلم، لكن إذا كان هناك إنسان يملك المال الكثير، وهذا الإنسان يعيش في البلاد العربية والإسلامية، أو يعيش في بلاد أخرى في أوروبا أو في أمريكا، أو في غيرهما، ثم هو في الوقت نفسه يملك المال وعنده العقيدة السليمة، وحريص على أن يؤدي فريضة الله التي أمره الله سبحانه وتعالى بها، وحريص على كل ذلك، ولكنه لا يعرف المستحقين للزكاة، هل نقول لهذا الشخص: لا تدفع زكاة مالك لجهة معينة، وتقوم هي بإنفاقها في الوجوه المشروعة؟ هل نسد في وجهه هذا الباب؟
المسألة كما أفهمها أن صندوق التضامن الإسلامي هذا عمل جليل، بل أرى أنا شخصيا أن يوجد صندوق في كل دولة إسلامية، وهذا الصندوق يتلقى الزكاة عن طريق الاختيار، هو لا يجبر أحدا، وإنما يقول لمن يريد أن يدفع زكاة ماله ولا يعرف لأسباب متعددة لا يعرف الطريق السليم، لا يعرف فقراء، لا يعرف كذا، لا يعرف هذه المصارف. نحن نيسر له هذه الأمور. وأنا أعلم أن بعض البنوك الإسلامية كبنك فيصل مثلا في مصر يرسل خطابا بين الحين والحين إلى المتعاملين معه يقول لهم: إن أموالكم قد وصلت إلى مبلغ كذا وعليها مبلغ كذا من الزكاة، فهل تودون أن نصرف لكم هذه الزكاة في وجوهها المشروعة إن كنتم لا تعرفونها، أم نضيف هذه الأموال إلى رأس مالكم، وأنتم تتولون إنفاقها أو صرفها في وجوهها المشروعة. إذا قال بنك فيصل أو غيره هذا الكلام لمن عليه زكاة، أو لمن يملك النصاب أيكون كلام بنك فيصل في هذه الحالة كلاما يخالف تعاليم الشريعة الإسلامية؟ في هذه ما يقوله صندوق التضامن هو بعينه ما يقوله بنك فيصل. صندوق التضامن الإسلامي يقول للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها: يا من لا تعرفون مصارف الزكاة، وكلونا عنكم وأبرئوا ذمتكم، ونحن لا نقول ذلك على سبيل الجبر، وإنما على سبيل الاختيار، وقدموا لنا زكاة أموالكم ونحن مسئولون أمام الله عن إنفاقها في الوجوه المشروعة. وهذا لا شيء فيه إطلاقا. يجب أن يحسن بعضنا الظن ببعض، وفي الوقت نفسه كل ما نريده أن يكون هذا الصندوق ينفق تلك الزكاة في الوجوه التي شرعها الله، وأضع ألف خط تحت كلمة في الوجوه التي شرعها الله؛ لأني لا أتصور أن تتحول أموال الزكاة أو جزء كبير منها، كما أقرأ في بعض البحوث للعاملين، إذا كان العاملون في هذا الصندوق يأخذون المرتبات الكافية لا يصح إطلاقا أن يأخذوا شيئا من أموال تلك الزكاة ما داموا يأخذون مرتبات كافية ومجزية.
فالذي أراه أنه ليس هنالك اختلاف حقيقي، أو خلاف حقيقي أو جوهري في هذه المسألة، صندوق التضامن الإسلامي عمل مشكور، ويجب أن يعمم في كل بلد إسلامي، ويجب أن يعلن على الناس المسلمين في مشارق الأرض وفي مغاربها أن هذا الصندوق يقبل ممن يريد أن يقدم زكاة ماله عن طواعية واختيار، يقبل هذه الزكاة وهو مسئول أمام الله عن إنفاقها في الوجوه المشروعة. وأعتقد أن هذه المسألة واضحة، ولا تحتاج إلى خلاف كثير. ونسأل الله التوفيق والسداد فيما نقول وفيما نعمل.(4/472)
الرئيس:
شكرا.. في الواقع يا فضيلة الشيخ في موضوع الزكاة في بنك فيصل الإسلامي، بنك فيصل الإسلامي هو وعاء لعين المال الذي تجب فيه الزكاة. أما صندوق التضامن أو غيره من الصناديق أو الدور فهو صندوق لتفرغ فيه الزكاة. فلا أظن أن التنظير مماثل.
الشيخ محمد سيد طنطاوي:
أنا أتكلم عن نقطة محددة، وهي أنه يجوز لي أن أوكل غيري في أن أعطيه زكاة مالي لكي ينفقها في الوجوه المشروعة أم لا؟ هذه هي المسألة التي أريد أن أركز عليها. أيجوز لي وأنا أملك مالا كثيرا ولا أعرف مصارف الزكاة، أو لا أعرف الأشخاص الذين أريد أن أعطيهم الزكاة لسبب من الأسباب، وهذا ليس شيئا عجيبا، فالذين يعيشون في أمريكا أو في أوروبا، وهم كثيرون، ومن المسلمين لا يجدون ما يعطونه الزكاة في تلك البلاد من المسلمين. فسؤالي محدد يا فضيلة الدكتور بكر، وهو: أيجوز لي أنا كصاحب مال، وعلي زكاة في هذا المال، أن أوكل غيري في دفع هذه الزكاة أو لا؟ هذا هو السؤال فقط.
فكلامي في جانب وكلام فضيلتكم في جانب آخر. أظن واضح كلامي يا فضيلة الدكتور بكر. أنا أقول: أيجوز لي وأنا إنسان مسلم أملك مالا كثيرا، ولا أعرف المستحقين للزكاة معرفة تامة؛ لأني أعيش في أمريكا أو في أوروبا أو في جدة ولا أعرف فقراء، أيجوز لي أن أوكل جهة معينة قوية مأمونة ثقة في أن أعطيها زكاة مالي لكي تنفقها في الوجوه الشرعية أو لا يجوز؟ هذا هو السؤال.(4/473)
الشيخ محيي الدين الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم.. سنبدأ حيث انتهي فضيلة المتكلم قبلي، وهي أن الزكاة تقبل النيابة، هذا مبدأ مسلم فيه. يمكن أن يسلم المزكي غيره زكاة ماله ليصرفها، وأن بيت مال المسلمين معروف في ذلك.
إذن لا مانع أن تصرف هذه الزكاة إلى صندوق، على أن ينص المزكي أن تصرف في جهة معينة. يعني زكاة مشروطة لا ضير في ذلك، وخاصة أننا في زمان تواصلت فيه الدول وأمامنا المجاعات في أفريقيا، هل يمكن أن نتقاصر على علاجها؟ نعم، إن المسلمين موزعون في أرض الله، ولا ضير في أن تنفق الزكاة لإغاثة هؤلاء المنكوبين مثلا، ويكون صندوق التضامن هو الوسيط في هذا الأمر. أمر آخر لا بد من التذكير بأن التمليك هو ركن في صرف الزكاة خاصة في مذهب أبي حنيفة هو تمليك جزء معين من فقير مسلم غير هاشمي ولا مولى بشرط قطع المنفعة عن المملك من كل وجه لله تعالى. إذن لا بد أن تكون الجهة المصروف إليها قابلة للملك، وهذا شرط معروف.
أمر آخر نود لفت الانتباه إليه، وهو الخطأ في مصارف الزكاة. ربما يقع جزء غير قليل من هذا المال في غير المصرف الذي وجهت إليه. ولا أذيع سرا بأن لحوم الأضاحي مثلا التي أعين بها لبنان هذا العام (طبعا بعضها وقع في محله وكان له الوقع المستحب، والبعض الآخر لأسباب ما وقع في غير محله) ، وهذا مما ينبغي لفت الانتباه إليه. إذن الخطأ في صرف الزكاة أو في مصارف الزكاة هذا ينبغي التنبه إليه.
وعليه أود بالنيابة إن صح التعبير عن الرئاسة ويعرض على مجلسنا، على مجمعنا الكريم قضية دولية ألا نصغرها بحجم القرية أو البلدة. فإن المؤسسات الأخرى عند أصحاب الملل الأخرى تقوم بما تتقاصر عنه الدول، وأنتم تعرفونها جيدا. إذن لماذا لا تكون جهودنا منصبة بأن يكون مثل هذه المؤسسة هي البديل عن بيت مال المسلمين في ظروف لا تخفى علينا جميعا؛ فإن الإسلام واحد وإن تعددت الدول، وإن المسلمين أمة وإن اختلفت ألوانهم وأشكالهم.
إذن فلنتوجه لدعم مثل هذه المؤسسة، في الوقت نفسه فلندعمها بالفتاوى التي ترشد عملها، لا أن نبدو أمام كل جديد نقول: لا، بالمطلق. لا نقول: لا، بالمطلق، ولا نقول: نعم، بالمطلق. وفقنا الله وإياكم والسلام عليكم.(4/474)
الشيخ عبد الله محمد عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم.. فيما يتعلق بهذا الموضوع، أود أن أبين أن المذكرة التفسيرية لصندوق التضامن نصت في الصفحة الثالثة: " أن الصندوق يعتمد بصفة أساسية في تمويل ميزانيته السنوية على التبرعات الطوعية التي تقدمها حكومات الدول الأعضاء. وهنا أود أن أبين أن هناك خلافات فقهية، أو آراء لفقهاء المسلمين بشأن وجوب الزكاة في أموال بيت المال، وفي الاحتياطي العام للدولة، فإن الدول التي تمد هذا الصندوق قد تمده لو أدركنا أن من الفقهاء من ذهب إلى أن الاحتياطي العام، أو الميزانية العامة للدولة تجب فيها الزكاة، وكذلك أموال الوقف وغيره. فالمسألة لا توجه فقط لأخذ الزكاة من الأفراد ومن الدول؛ فإن الدول التي تمد هذا الصندوق تمده لو نظمت مسألة الزكاة، وإن الدولة في الأصل هي المسئولة عن أخذ الزكاة وجمعها وصرفها كما كان الشأن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته أبي بكر وعمر. ثم لما كثر المال في عهد سيدنا عثمان رضي الله عنه فوض الناس في صرف زكاة الأموال الباطنة، ولكن ظل كما كان العهد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته يجمعون الأموال الظاهرة، وهي أموال التجارة والزرع وغيره والأنعام ونحوه. فهنا نستطيع أن ننظم أيضا أن الدول التي أنشأت هذه الصناديق أو هذا الصندوق هي التي تستطيع أيضا أن تنظم جمع الزكوات في أقطارها، ثم تمد هذا الصندوق بما تمده به من مجموع الأموال، سواء إن كانت هذه الأموال التي تمدها زكاة من الأموال الاحتياطي أو أموال الخزانة، أو الأموال التي تجمعها من الأفراد، وبذلك نجمع بين الآراء المتعارضة، فنترك لأرباب الأموال الباطنة صرف زكواتهم إلى الفقراء والمساكين الذين يعرفونهم، والدولة تشرف على جمع الأموال الظاهرة، وتمد هذا الصندوق في ضمن الأموال التي تمده من ميزانيتها، كما أشير في المذكرة التفسيرية.
كما أشير أيضا وأثني على كلمة فضيلة المفتي محمد سيد طنطاوي بأن اليوم بلاد المسلمين، في بلاد المسلمين ثراء وأثرياء وأموال طائلة كثيرة يعجز الفرد منهم أن يستوعب توزيعها على مستحقيها، لا ننظر إلى البلاد الفقيرة، ننظر إلى بلادنا الغنية؛ كبلادنا هنا في الخليج، وفي المملكة يوجد أغنياء وأثرياء وعندهم أموال طائلة يعجزون عن توزيعها بأنفسهم، فهؤلاء أيضا من الخير لهم وهناك مستحقون وهناك فقراء وهناك مشروعات عظيمة؛ كإنشاء المدارس، وكإنشاء المساجد، وكإنشاء المستشفيات، وكإعانة الفقراء على الزراعة وعلى الصناعة؛ فإنها تحتاج إلى جهات منظمة وقادرة على إيصال هذه الأموال الفائضة إلى المستحقين لها في الأقطار المتنائية. وشكرا.(4/475)
الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه.
فيما يبدو أنه لا فائدة في الاسترسال؛ فإن الأمر قد اتضح والوسط أم الكتاب وهو الجادة، فإذا كان الأصل في قبض الزكاة وصرفها هو بيت المال ثم ترك بعد ذلك في زمن الخليفة الراشد سيدنا عثمان إلى الأفراد حصرا، ولم يوجد في التاريخ الإسلامي سابقا ولا لاحقا من ألزم الناس بدفع زكاتهم أو أباح لهم إلى صناديق، فإما أن نرجع إلى الأصل وهو بيت المال إذا كان منتظما كما قرر الفقهاء، وإما أن نعود إلى السنة الراشدة التي قام بها سيدنا عثمان، وهو ترك الأمر إلى الأفراد، أما أن نأتي بأمر جديد مستحدث ونخرجه على الأصل دون رجوع إلى دليل، ودون ما رجوع إلى هذا الصندوق بالذات، ومعرفة ما فيه، فهذا فيما أرى فيه تزيد عن الحقيقة وما قاله الإخوة الأفاضل في سبيل الله. فالذي يظهر لي أن في سبيل الله الأصل فيها المجاهدون، ولكن توسع بعض الفقهاء ومنهم الحنفية فقالوا: إنه يشمل أيضا طلاب العلم الفقراء. فما قاله الفقهاء الأقدمون فيه غنية، ولا يجوز أن نسحب الموضوع، لاسيما في هذه الظروف التي يمر بها العالم الإسلامي على كل شيء فنسميه في سبيل الله. فالأصل في الزكاة كما قالوا: التمليك، فمن يملك ومن يتملك، مع هذا لا أمنع من هذا الأمر منعا مطلقا، بل أرى أن تكون لجنة بإشراف الأمانة العامة والرئاسة الرشيدة لفهم موضوع هذا الصندوق على ما هو عليه في الحقيقة. ما هو هذا الصندوق؟ أنا لا أفهم منه إلا أنه صندوق منظم تنظيما حديثا، عليه موظفون يجمعون هذه الأموال من هنا وهناك، ومن أي مورد استطاعوا ليصرفوها في مصارف أخرى. فلا نحن على يقين من الموارد، ولا على يقين من المصارف. ولا ندري أيضا من المستفيد من هذا كله. فالزكاة تمليك كما هو معلوم لديكم كل ما جاء به القرآن الكريم بلفظ (آتوا) تمليك، والتمليك يجب أن يكون في يد الفقير أو وكيل الفقير، فمن هو وكيل الفقير؟ هل نحن أوصلنا هذا المال إلى الفقير أو إلى وكيله حتى نملك، حتى إن الإباحة ليست بتمليك كما هو معروف إلا عند بعض المذاهب الأخرى الشاذة. على كل، هذا الصندوق في حالته الراهنة لا يحتاج في نظري إلى أموال الزكاة التي يجب فيها التحوط؛ لأن التحوط في باب العبادات الأولى. لذلك قدم قول الإمام أبي حنيفة على قول أصحابه في العبادات، ما لم ينص على الفتيا في قول أصحابه، أما إذا أطلقوا ولم يقولوا: يفتي به فالقول المقدم هو قول الإمام؛ لأنه أورع من أصحابه؛ أي: أشد ورعا مع اشتراكهم في الورع، وهو دائما يتحوط رضي الله تعالى عنه وعن جميع الفقهاء الأئمة المجتهدين.
لدينا بديل عن قضية الزكاة. أيها الإخوة قرر الفقهاء الحنفية في بحث السياسة الشرعية كما هو معلوم لديكم أيها الإخوة العلماء أنه لولي الأمر إذا رأى حاجة على مصلحة عامة، ولم يكن هنالك مورد آخر مشروع أن يفرض في أموال الأغنياء شيئا يقوم بهذه المصلحة العامة بالمعروف. فإذا رأى أن البلد تحتاج إلى جسور أو تحتاج إلى طائرات أو تحتاج إلى جيوش أو تحتاج إلى مصلحة عامة، فيفرض في أموال الأغنياء أموالا خاصة بهذا الموضوع تقوم به ضمن حدود الشريعة وبالمعروف وباستشارة العلماء والفقهاء.
فلماذا نحن نأتي إلى هذا الركن التعبدي، وهو الزكاة، الذي يجب التحوط فيه؛ لأنه عبادة يجب على المسلم أن يتحوط بها حتى تصل إلى مصرفها الصحيح بحسب اجتهاده وتحريه، لا أن نجازف في الموضوع ونفتي بآراء تدفعنا إليها غيرتنا على الإسلام، فالغيرة على الإسلام شيء معظم ومقدس ومعتبر، ولكن الرأي والفقه والاجتهاد يجب أن يكون مناطه دائما العلة، لا الحكمة، المظنة لا المئنة. والله تعالى أعلم.(4/476)
الشيخ محمد إبراهيم شقرة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته ومن والاه، أما بعد،
فلقد فهمت أولا من خلال المناقشات التي عرض لها الإخوة وأدلى كل منهم بدلوه الكريم، أن هذا البحث أو هذا الموضوع بالذات لا زال في أخذ ورد، ويغلب على الموضوعات كلها التي تطرح في مجمعكم الكريم الموقر هذه الصفة. وهذا لا يعني أن هذا الأسلوب لا يؤدي إلى اتفاق، بل العكس هو الصحيح، هذا الأسلوب هو الذي يؤدي إلى الوفاق؛ ذلك أن تلاحق الآراء وتلاقي الأفكار يؤدي في النهاية إن شاء الله إلى نتيجة صالحة. ولكن هناك أمور لا بد من تذكير الإخوة بها:
أولا: أن هذا المجمع الكريم فيما أفهم، ولأول مرة أشارك في جلساته أن الرأي الفقهي أو الفتيا التي تصدر عنه – أسأل أنا ولا أريد أن أقطع – هل هي فتوى ملزمة لهذه الدول التي يمثلها أولئك الأعضاء الكرام أم ليست ملزمة؟ فإن لم تكن ملزمة فإذا لا بد أن نبحث في الأصل كيف يمكن أن تلتقي أو يكون لهذه الفتيا تأثير في واقع مجتمعات المسلمين. فنحن نعرف أن كثيرا من القضايا التي يعيشها العالم الإسلامي يختلف فيها البلد الواحد. في بعض البلاد الإسلامية: الأمة في جانب والحكومة في جانب آخر. فإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن يكون هناك وفاق في تأسيس هذا الرأي وإقامته على الحجة والدليل والمنطق الذي يفرضه علينا شرع ربنا سبحانه وتعالى، ثم بعد ذلك ننقله إذا كان هناك تقبل لهذا الرأي أو لهذه الفتيا، ننقله إلى واقع البلاد الإسلامية إذا كان هناك رأي يقبل عندها.
ونحن نعرف بأن من هذه الأمور موضوع الزكاة. ولا شك أن الزكاة فريضة وركن من أركان الإسلام، ولكن لغياب الظلة التي يأوي إليها المسلمون، وهي الحكم بكتاب الله عز وجل في غالبية بلاد المسلمين، لا نستثني إلا بعضا يسيرا من بلاد المسلمين يمكن أن نقول بأنه يطبق الإسلام. فإذن هذه الفوضى التي يعيشها المسلمون في تأدية الزكاة في ظني أنه لا يحلها أن يصدر فتوى عن مثل هذا المجمع الكريم، ولكن هناك البديل الذي يقوم الآن، وبخاصة في البلاد التي لا تحكم بالشريعة الإسلامية، تأسست فيها صناديق أو صندوق سمي صندوق الزكاة، ولقد نجحت هذه التجربة في كثير من بلاد المسلمين؛ كدولة الكويت مثلا، ودولتنا نحن المملكة الأردنية الهاشمية.
ولا أدري إن كان هناك أيضا في مصر نجحت بعض هذه الصناديق في جمع أموال الزكاة، وما زالت تتردد بين الاختيار والإلزام، ولكنها الآن تجمع التبرعات أو تجمع الزكوات بطريق الاختيار، لا بطريق الإلزام، وإن كنا بصدد تحويل هذا الصندوق أو النظام في بلدنا نحن في الأردن بصدد تحويله إلى أن يكون ملزما. ولقد علمت من الأخ الدكتور محمد الشريف أن العراق أيضا أنشأ هذا الصندوق ووضع له نظاما وهو يسير في طريقه الأمثل إن شاء الله.
لذلك الذي أريد أن أقوله: إذا كانت الأمانة العامة أو إذا كان المجمع الفقهي يلزم الدول، فلا بأس من أن يكون هذا الأمر، وأن يستمر حتى النهاية. أما إذا لم يكن هناك إلزام فلا بأس أن يفوض كل بلد بأن يرى الطريقة المناسبة له في جمع الزكاة.
وفيما قاله الإخوة في ظني غنية عن أن أذهب أبعد مما قلت، ولكن هناك أيضا شيء آخر أريد أن ألفت، إن سمح الإخوان لي بلفت النظر إليه، وهو أن الأصل في موضوع الزكاة وفي غيرها أن يكون الأصل في الحكم، أو في إصدار الفتيا كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم بعد ذلك أن يعمل الإنسان عقله في استنباط الأحكام التي يمكن استنباطها.
بقيت مسألة أخرى أحب أن أضيفها إلى ما تفضل به الأخ الدكتور البوطي، وكان الحقيقة لفت النظر إلى مسألة علمية دقيقة في موضوعه من تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} سورة التوبة: 60، لكن أحب أن أضيف إلى ما قال من أن الإجماع التطبيقي أو العمل التطبيقي كان على عدم تجاوز هذه الأصول، أو هذه الأنواع الثمانية التي ذكرتها الآية. لكن أحب أن أضيف شيئا آخر، وهو أن الأدلة الوثيقة في هذه الآية على عدم جواز صرف الزكاة إلا في هذه الوجوه، وهو أن {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} جاءت رقم 7 في الأنواع، وأنه جاء بعدها ابن السبيل، ولا شك أن الواو هنا كما نعلم هي واو العطف، فلو كان ابن السبيل يتناول هذه الأوجه جميعها، أو القسيمات كلها، لكانت وتكون في الموطن السابع أو في رقم 7، وإنما كان يجب أن تكون في نهاية هذه المذكورات الثمانية، فتكون من باب عطف العام على الخاص. ونحن نعلم أنه إذا كان هناك العام الذي تناول ما قبله لا بد أن يكون في نهاية المذكورات التي تأتي في آية أو في حديث. والله أعلم، وغفر الله لي ولكم والسلام عليكم.(4/477)
الشيخ إبراهيم فاضل الدبو:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد.
أشكر الأساتذة الأفاضل الذين سبقوني بالكلام عن هذا الموضوع، وأثني على ما قاله الأستاذ الطنطاوي والأستاذ الشقرة، حفظهما الله تعالى.
في الواقع أني لست من الداعين إلى التحرر من النصوص الشرعية الفقهية؛ فإنه مما ينبغي الوقوف عند النصوص الفقهية التي تعتبر بحق ثروة ضخمة من تراثنا العلمي. ولكني أقول: إن في هذه النصوص مجالا لأن تساير متطلبات العصر. ونحن نقول أكثر من مرة وعلى أكثر من منبر بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان. فهذه المسألة التي تكلمنا عنها الكثير، أرى من الممكن إذا سمح الأساتذة الأفاضل لي بذلك أن أقول: إن ملخصها ينحصر فيما يلي:
هناك بيوت للزكاة أنشئت في بعض البلدان الإسلامية أخذت على عاتقها جمع الصدقات، سواء كانت بطريقة اختيارية أو بطريقة إلزامية. ومن هذه البلدان قطرنا العزيز المجاهد العراق؛ فقد أنشأت الجمهورية العراقية صندوقا للزكاة، ويأخذ الآن دوره للتنفيذ في جمع الصدقات بصورة اختيارية. فالذي أراه هو وجوب دعم هذه المؤسسات في البلدان الإسلامية؛ لأن هذه المؤسسات هي أعلم، وهي أدرى بحالة المحتاجين وفقراء البلد. وإذا ما زادت أو فاضت الحاجة كما يقول الفقهاء، رحمهم الله تعالى، عن المحتاجين في تلك البلاد، فلا أرى من مانع أن تعطى الفضلة الزائدة عن بيوت الزكاة في تلك البلدان إلى صندوق التضامن الإسلامي، وإننا على ثقة إن شاء الله بأن القائمين على هذا الصندوق أو الهيئة القائمة على هذا الصندوق سوف تؤدي حق الله تعالى في هذا الشأن. ولا نبقى متشككين بعضنا من بعض، فالعالم يسير أيها الإخوة ونحن نبقى نتردد في الأمور التي فيها مجال الاجتهاد، ويشكك بعضنا بنوايا البعض الآخر. هناك المسلمون في كل مكان ينتظرون منا ما يصدره هذا المجمع الموقر من فتاوى تهم المسلمين، ونحن نصرف جهدا كبيرا في مسألة لا أقول بالسهلة لهذا القدر، ولكن أقول: كان بالإمكان حلها دون الإطالة فيها إلى هذا الحد.
وشكرا لسيادة الرئيس والإخوة المستمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/478)
الرئيس:
شكرا.. ترفع الجلسة خمس عشرة دقيقة للاستراحة ثم نعود إن شاء الله تعالى ونستكمل بقية الكلمات. وشكرا.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الكلمة الآن للشيخ عمر.
الشيخ عمر جاه:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
شكرا فضيلة الرئيس. تعليقي في هذا البحث سوف يكون إن شاء الله في شقين:
الشق الأول: أريد بادئ ذي بدء أن أثني على هذا البحث القيم الذي قام به أخونا وصديقنا السفير محمد يوسف جيري.. وأرجو أن ننظر إلى توصياته في آخر البحث كوسيلة لدعم صندوق التضامن الإسلامي. هذا الصندوق الذي نعرفه جميعا ونعرف أنه أنشئ لتحقيق التضامن بين الشعوب الإسلامية فيما يخص الدعم والإغاثة. بعد هذا أريد أن أعلق على مسألة أعتقد أنها مسألة مهمة جدا ينبغي أن ننتبه إليها. ولا شك أنه ليس هناك، أنا لا أتصور أن يكون هنا من الفقهاء والمفكرين والعلماء من يختلف في وجوه صرف الزكاة، فالآية القرآنية واضحة في هذا، وإن الأولويات ووجوه الصرف كما وضعها القرآن الكريم على لسان رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم هو المبدأ الأساسي الذي ينبغي أن نتبعه في إخراج الزكاة وصرفها، وإنني أريد أن أرجع بكم إلى الوراء قليلا لكي نحاول أن نتفهم مسألة الفقراء والمساكين. ولا شك أن النقطة الأولى في وجوه الصرف هي الفقراء والمساكين. من هو الفقير في وقتنا الحاضر؟ وهل الشخص الذي وجد نفسه في ظروف تعرض بمشاكل لا دخل له في خلقها وفقد كل شيء. إنسان غني يعمل في بلد آمن وإذا بمشكلة حرب أهلية، كارثة، حرب إقليمي، فقد كل شيء فأصبح لا يملك بيتا يسكن فيه ولا مالا ينفقه على أهله. هل ننكر على هذا الشخص أحقيته في الزكاة؟ هل نقول: إن هذا الشخص لا يعتبر فقيرا ولا مسكينا؟ وهناك آلاف إن لم يكن ملايين من إخواننا من أقاليم معينة في العالم اليوم يعانون كثيرا من الجوع والفقر؛ نتيجة القحط والتصحر ويموتون، وهناك قرى وهناك أقاليم نجد أن الرعاة فقدوا كل شيء كانوا يملكونه ويعتمدون عليه، أليس هؤلاء يعتبرون فقراء ومساكين؟
وأنا أريد أن لا نغفل أن الهدف الرئيسي في إخراج الزكاة وصرفها هو تخفيف حدة الفقر والجوع والمسكنة لجزء من إخواننا المسلمين.(4/479)
فيما يتعلق بالجهة التي نوكلها أو نصرف عن طريقها هذه الزكوات، أريد أن أثني على ما ذهب إليه فضيلة الشيخ مفتي الديار المصرية الشيخ طنطاوي فيما ذهب إليه، وكذلك ما ذهب إليه الأخ الفيلالي في ملاحظته الدقيقة عندما لفت نظرنا إلى أن عنوان البحث خطأ، فنحن ينبغي ألا نصرف هذه الزكاة لصالح الصندوق، ولكن نصرفها عن طريق الصندوق، وينبغي ألا نبعد هذا الصندوق عن مسئولية مساعدة المسلمين في صرف هذه الزكوات للأسباب التالية:
هذا الصندوق مؤسسة متخصصة خيرية، يعنى بمصالح المسلمين، وهو لما له من الوسائل والخبرة يعرف أين الفقراء والمساكين وأين المستحقون لهذه الزكاة. نحن عندما نقترح تعاونا مع الصندوق فقط في أنه مؤسسة متخصصة تستطيع أن تتعرف على الفقراء والمساكين ويساعدنا على صرف الزكوات إليهم. لا نقول: إن هذا الصندوق يستفيد من هذه الزكوات أبدا؛ لأن الصندوق له مصادر أخرى، بالإضافة إلى هذا إذا ذهبنا إلى قائلة المذكرة التفسيرية لصندوق التضامن الإسلامي، لوجدنا أن المجلس التأسيسي للصندوق تقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي برجاء في الصفحة السابعة، نجد أن فيه الإشارة إلى أن المجلس التأسيسي لصندوق التضامن الإسلامي هو صاحب هذا الاقتراح. ونحن نعرف أن الذين يشتركون في إدارة الصندوق هم مسلمون يهتمون بالشئون الإسلامية، ويعرفون الزكاة وشروطها، ويتلون النص القرآني، ولا يختلفون معنا فيه. أرجو أن لا نترك هذا الموضوع جانبا ونحرم أو نصدر فتوى هنا نمنع من التعامل مع الصندوق فيما يخص الزكوات. فبهذا أثني على ما ذهب إليه مندوب الكويت باقتراحه في إنشاء لجنة تنظر في هذا الموضوع، وتخرج بتوصيات نستطيع بواسطتها أن نحدد من يستحق الزكاة، وخصوصا فيما يختص بالكوارث والحروب الأهلية والمشاكل التي تحل بالمسلمين، التي تحيل جزءا كبيرا من الأغنياء إلى الفقراء. بهذا نستطيع أن ندعم صندوق التضامن الإسلامي بشروط محددة، على أن يكون ما يصل من الزكوات يصرف في الوجوه المذكورة في القرآن الكريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/480)
الشيخ محيي الدين قادي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
سماحة الشيخ الرئيس، سماحة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، حضرات أصحاب السماحة والفضيلة، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. بالنسبة إلى عرض فضيلة الشيخ جيري، راقني فيه حسن العرض، وراقني فيه المنهج السليم، وراقني فيه الإلمام بمسائل الفقه، لكن عندما قسم المتحدثين في هذا الموضوع إلى من وسع ومن ضيق بدت لي فكرة وأردت أن أتعرف على أين نقف نحن المجتمعون هنا، وفي أي طبقة من الاجتهاد نوجد؟ هل نحن مجتهدون اجتهادا مطلقا، وما تؤديه كثيرا من العبارات، أو نحن مجتهدون اجتهاد مذهب، أو نحن مجتهدون اجتهاد تخريج، وهو أن نقيس الأشباه بالنظائر، ونخرج بما يعطيه القياس الفقهي الدقيق. هذه نقطة أولى.
النقطة الثانية في القضية التي تتعلق بمصارف الزكاة. ومصارف الزكاة التي حددت في الآية، وما كنت أزمع قوله هو أنها حددت بأسلوب القصر، وحددت باللام التي هي للملك للاستحقاق للفقراء والمساكين والعاملين عليها. وبعد ذلك جاء الحديث النبوي الشريف الذي يروى في سنن أبي داود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يرض بحكم نبي في الزكاة – بما معناه في صرف الزكاة – ولكنه قسمها إلى ثمانية أجزاء، فإن كنت من أحد هذه الأجزاء فسأعطيك)) للرجل الذي سأله أن يعطيه من الزكاة. هذا الحديث النبوي الشريف هو حجة للإمام الشافعي، وهي قوية، قطعت فيما يبدو بها جهينة قول كل خطيب في هذا الموضوع، لكن لا نغلق الباب في وجه صندوق التضامن الإسلامي ولا غيره من المؤسسات، فصندوق التضامن الإسلامي يعتبر قسما من بيت المال إذا فوض له أمراء البلاد الإسلامية ورؤساؤها ذلك للتوكيل عن صرف الزكاة جائز للأفراد وللمؤسسات من باب أولى جائز. وقد تحدث فقهاء المالكية عن ذلك فيه عند حديثهم عن النية، هل تجزئ الزكاة بدون نية من طرف وكيل، أو لا تجزئ؟ فأثاروا قضية الوكالة في الزكاة؛ ولهذا يكون هذا الصندوق بمثابة وكيل، ومهمة هذا المجمع الموقر والذي هو المرجع للعالم الإسلامي، هو أن ينسق مع هذا الصندوق فيما يمكن أن يصرف إليه من أموال الزكاة التي تعطى إليه وما لا يمكن أن تصرف. وقد سئل من قبل سنين في هذا الموضوع الشيخ يوسف الدجوي من هيئة كبار علماء الأزهر الشريف، يعني سئل عن أن أموال الزكاة لا تعطى لمستشفى يعالج الفقراء، قال: أما صرفها في بناء المستشفى ولتأثيث الأقسام وبكذا فله جانب آخر من بيت المال، وأما صرفها على المرضى والفقراء فذلك مصرف من مصارف الزكاة. فنحن مثلا نهتدي بمثل هذه الفتاوى الدقيقة، ونقول: إنه نصرف الأموال للصندوق، يعني أموال الزكاة، على أن يكون وكيلا فيها ويدفعها في مصارفها. المؤلفة قلوبهم مثلا مما جاء في المذكرة أنها تعطى للذين دخلوا في الإسلام جددا. هذه قضية المؤلفة قلوبهم يجري فيها خلاف بمذهب إمام دار الهجرة رضي الله عنه، أنه لا يرى بقاء للمؤلفة قلوبهم، ولكن مذهب الإمام الشافعي يرى بقاء حق المؤلفة قلوبهم إلى اليوم على يوم القيامة، ولا ناسخ له. فنحن نعمل بمذهب الشافعي في هذه القضية ونعطي الزكاة للصندوق، هذا على أن يصرفها الذين دخلوا في الإسلام جددا، أو الذين يريدون أن يؤلف قلوبهم ليدخلوا في الإسلام، وبخاصة من العلماء الأفذاذ في العلم والتكنولوجيا وحاجة المسلمين إليهم الآن في عصرنا الحاضر كحاجة المسلمين إلى تكثير العدد أو أكثر أو أهم في العصر النبوي الشريف، وفي عصر الخلافة الراشدة.
هذا ما أردت أن ألاحظه، لكن لي ملحوظة كأن المتحدثين في هذا الموضوع نظروا إلى قضية الزكاة ورأوا أن المورد المالي للمشروعات الخيرية فقط. بينما سواء عملنا بحديث المواساة بنظام أصول النظام الاجتماعي باب مجاله رحب ومراده مستفيض، وجوانب المواساة في الشريعة الإسلامية وظروفها لا تعد ولا تحصر. فالوقف وصدقة النفل وظروف الصدقات الموجودة كلها، لاسيما أن هنالك مصارف أخرى في بيت المال تمول منها المشروعات الأخرى، هذا ما أردت أن ألقيه، وهو أمر بسيط بالنسبة إلى ما تكلم فيه غيري. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(4/481)
الشيخ عبد الله إبراهيم:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
شكرا لفضيلة الرئيس على إتاحته الفرصة لي للمشاركة في مناقشة الموضوع المطروح أمامنا، وإني لأشكر أصحاب الفضيلة الذين تقدموا بإبداء آرائهم وكان من الآراء التي قد أبديت قد اتفقتم معه إلا أن الموضوع المطروح أمامنا كما ظهر لي وفي تصوري أنه ليس عن صرف الزكاة لصندوق التضامن الإسلامي، فإن الصندوق كما عرفنا أو كما يتبادر إلى ذهننا أنه ليس حتما من مصارف الزكاة حتى ينفق عليه من الزكاة.
فالتصور عندي عن الموضوع إنما هو عن تجميع بعض زكوات المسلمين وصرفها على مصارفها الشرعية، على مستوى الدول والمجتمعات الإسلامية، ولهذا اتفقت مع تصحيح بعض الأفاضل ليكون الموضوع هو صرف الزكاة عن طريق صندوق التضامن الإسلامي، ليس لصالح صندوق التضامن الإسلامي، وعلى هذا التصور قمت بإعداد بحثي عن الموضوع، وقد وزع على حضراتكم في هذه الجلسة، وفي إمكانكم أن تطلعوا عليه بسرعة لإيجازه وتركيزي على تصوري المركز على الهدف الذي من أجله طرح هذا الموضوع، على ما أعتقد، وهو جعل الصندوق أداة لإيصال الزكاة، أو بعض زكوات المسلمين إلى مصارفها الشرعية، على مستوى الدول والمجتمعات الإسلامية، ليس غيرها، ومع هذا كله أتفق مع الباحثين الذين قاموا بعرض بحوثهم على فضيلتكم، فضيلة الشيخ السفير سيدي محمد يوسف جيري، وأتفق معهم في النتيجة التي وصلوا إليها، وإن كنت أختلف معهم من حيث العرض، فإنني في بحثي قدمت الموضوع، وقسمت الموضوع إلى ثلاثة مباحث، وهي إمكانات تكوين الإدارة العالمية للزكاة، مصادر تمويلها ومصارفها، ففي تصوري أن هناك إمكانات عديدة لتكوين هذه الإدارة العالمية للزكاة؛ حيث تجمع فيها زكوات المسلمين أو بعض زكوات المسلمين من جميع الدول الإسلامية والمجتمعات الإسلامية، وإلى جانب هذه الزكاة تجمع أيضا موارد أخرى من مختلف الموارد كما ذكرت في بحثي، الفوائض التي لا تحتاج إليها الدول الغنية، ومعروف لنا جميعا أن هناك فوائض في بعض الدول الغنية، فإنها لا تحتاج إليها وتتركها، وكذلك من موارد هذه الإدارة فوائد الودائع، إلى جانب الفائض هناك فوائد الودائع التي لا يريد أصحابها قبولها من البنوك الأجنبية، في أوروبا، وأمريكا، وغيرها، باعتبار أنها من الربا المحرم، فهذه الفوائد تجمع إلى الزكوات في هذه الإدارة العالمية للزكاة.
وهناك أيضا موارد أخرى، وبالنسبة للمصارف طبعا كما تناولها العلماء الذين تكلموا قبلي، فإنهم تكلموا عن المصارف، إلا أنني اقتصرت بالمصارف هنا على أهداف صندوق التضامن الإسلامي، فإن هذه الأهداف فيما أعتقد لا تخرج عن مصارف الزكاة، من حيث إنها يمكن أن نضع من حيث المصرف في سبيل الله، كما بحثه المناقشون من قبل.
فلهذا أنا أقترح هنا أن تكون الإدارة العالمية للزكاة، ثم تجمع تلك الموارد إلى هذه الإدارة، وتوضع هذه الموارد لصالح الصندوق، ويقوم الصندوق بالتحقق من المصارف الشرعية للزكاة، وتنفق عليها على مستوى الدول والمجتمعات الإسلامية. وشكرا.(4/482)
الشيخ معروف الدواليبي:
بسم الله الرحمن الرحيم، سيادة الرئيس، إخواني المحترمين، إنني أعتقد وأرجو أن يسمح لي لا أقول بالإطالة، وإنما أن أركز على موضوع صندوق التضامن الإسلامي؛ لأنني شاهدته وعملت فيه منذ يوم تأسست هذه المنظمة، وأعرف كنه الصعوبات، ويتوقف اليوم حياة المنظمة فيما أعتقد كلها على فكرة التضامن الإسلامي، كيف نحققه؟ وعندما كنا في مؤتمر مقديشيو في سنة 1964 برئاسة المرحوم الحاج أمين الحسيني، وكان الرئيس الأول للصومال آدم عثمان، وبدعوته أقيم ذلك المؤتمر، فحضر ممثلو العالم الإسلامي على مستوى الشعوب، فهذا كان يشكو التنصير، هذا يشكو الفقر، هذا يشكو الجهل، هذا يشكو الاستعمار، فوقفت وقلت: إننا أمام جدار مكة، وماذا نصنع نحن معشر الشعوب؟ يجب على الدول الإسلامية أن يسمعوا ما نسمع، ولكنني أعرف أن الدول الإسلامية لن تجتمع تحت اسم الإسلام، ولكن علينا أن نجد طريقة حكيمة لجمعها. فقلت: لا بد من دعوة رؤساء الدول الإسلامية وإقامة صندوق للتنمية، وإقامة وكالة أنباء عالمية تقف إلى جانب وكالة يونايتدبريس، والأسوشيتدبريس، وأجنس فرانس بريس إلى آخره؛ لأن كل شيء إسلامي يشوه أو يخون. فهذه العناصر الثلاثة يجب تحقيقها. فقدمت اقتراحا بذلك وتبنته الصومال عندئذ آدم عثمان، ولكنها كانت حديثة العهد، وقال: نحن دولة فقيرة وحديثة العهد، أنا أتبناه باسم الدولة. ولكنه وقد نودي بالملك فيصل رحمه الله ملكا، فدعوني أن أذاكره إذا كان هو يتحمل. فقبلنا الفكرة بمنتهى الفرح، وتقبلها فيصل، ودعي مؤتمر الرابطة في دورته الثانية، عرضت عليه الأمر، فأنشأ المؤتمر أو أخذ يدعو الحقيقة للمؤتمر، ولكن قامت صعوبات، فكان هنالك من يقول: هذا مؤتمر استسلامي، وليس مؤتمرا إسلاميا؛ لأنه حدث حريق المسجد الأقصى والعالم كله تأثر، وثار على فكرة الحريق قادة حركة اليونسكو باعتبارها آثارا، والعالم كله كان يذكر هذا الحريق بالويل والثبور على من أحرقه، فاجتمع العالم الإسلامي عندئذ على حياء في مراكش في الرباط، واجتمعت 18 دولة، وإذا بهذا الاجتماع يخرج عن بيان، وأرادوا أن ينصرفوا فوقف ذلك العملاق فيصل، وقال: إلى أين تنصرفون؟ قالوا: المؤتمر وضعنا بيانه. فقال: لا بد من إيجاد منظمة. قالوا: لن نجتمع، ارفعوا لفظ الإسلام، وعندئذ نعمل منظمة. اسمحوا لي أن أشرح بعض النقاط، وكيف يمكن التغلب عليها فيما أرى. فقال: لا بد من كلمة الإسلام، فمن شاء فليبق، ومن شاء فليخرج.
وتقرر وضع دستور لهذه المنظمة. بعد شهرين اجتمعنا في جدة 18، نقص منهم 6، فاجتمعنا 12 دولة، عادت الفكرة من جديد، تخلف 6 رفضوا الاجتماع، لا يقبلون، اجتمعنا 12 وقف أربعة منهم يقولون أيضا وضع بعد الدستور: ارفعوا لفظ الإسلام، وكان هنالك من يقول: أنا علماني، وهذا يقول: اشتراكي، إلى آخره، فوقف أيضا فيصل وأعطى الأوامر لوفده، قال: المنظمة يجب أن تشتمل على لفظة إسلامي، شاؤوا أو كرهوا، ولو بقينا وحدنا. فانسحب أيضا يا إخوان من 12 أربعة، فبقيت ثماني دول، ولكن الاقتراح اقتضى أن نضع بنك التنمية، وكانت الخيرات ابتدأت على الدولة العربية من البترول، فلما وضع بعد سنتين الدستور، ونشأ بنك التنمية، واشترطنا في نظامه ألا يستفيد منه إلا من يدخل في المنظمة السياسية، وإذا بهذه الدول ترتفع من ثمانية اليوم إلى 44 دولة، لما وضع الدستور كانت المشكلة كيف نمول المنظمة، الواقع قلت: سيكون تمويل المنظمة لبقائها تعرضه نفس المشكلات التي تعرض الأمم المتحدة، هذه تغضب إذا لم ينفذ مطالبها، وتوقف مخصصاتها.
وهكذا أخذ يتعثر مورد المنظمة بنفسه، فقدمت أيضا اقتراحا على أساس إيجاد ما يمكن من الوحدة النقدية، فلنطلق عليها مثلا الآن الدولار الإسلامي، ولكن فلنمول هذه المنظمة أولا عن طريق الشعوب؛ فإن اليهود من عشرة ملايين يجمعون من كل يهودي في العالم مائتي دولار وسطيا، ومعنى ذلك الوكالة اليهودية تجمع كما اطلعت على بعض الوثائق ملياري دولار من اليهود في العالم بوسطية أن كل واحد لازم يدفع 200، طبعا فيه منهم من لا يدفع، فيه منهم من يدفع أكثر، ولكن يجمعون 200 مليون دولار، ويخصصون منها 75 % للجباة، للمنظمات المحلية، ويصلهم نصف مليون دولار، فهم أقاموا نصف مليون دولار إسرائيلي، ولا تزال مع وجود إسرائيل الدولة القائمة. فقلت: نحن عددنا مليار، فلماذا لا نقوم بفكرة الدولار الإسلامي، كوحدة نقدية نسميها ما شئنا، ولكن نقول لكل مسلم في العالم: عليه أن يدفع دولارا في السنة، ولو صام في النهار، وإذا المنظمة قامت هي بإيجاد هذه الصناديق في كل بلد إسلامي مستقل، هذا الصندوق غير أنه تحت إشراف الحكومة فإنني أعتقد أن هذا المال سيبلغ مليار دولار، وليس 3 ملايين دولار. في ذلك الوقت ابتدأت المنظمة بثلاثة ملايين، وهنالك من يدفع، وهنالك من لا يدفع حتى الآن، بطبيعة الحال، الحاجة اقتضت أن يكون هنالك صندوق، هنالك أن يكون مركز للدراسات والبحوث، هنالك مركز للتكنولوجيا، وأذكر أنني دعيت من قبل المنظمة لإقامة ندوة في مالي حول حقوق الإنسان، فوقف أحد المجتمعين، وكانت الندوة برئاسة الحكومة، وقام أحد إخواننا من أفريقيا، أظنه ليس من مالي، قد يكون من جهة أخرى، وقال: نحن ماذا نستفيد من الدول الإسلامية؟ فنحن إسرائيل هي تطبع لنا المصاحف وتعطيها لنا. فقلت له: أنت أشك في لونك. وكان أسمر. انظروا في لوني. قلت له: انظر ماذا تصنع إسرائيل في جنوب أفريقيا؟ فلا تريد أن يكون لكم حكم، ولكن قال: نحن في حاجة، فإسرائيل بالفعل زورت المصاحف، وطبعت كميات كبيرة للسنغال، فحذفت كل ما هنالك من آيات تتعلق ببني إسرائيل، حتى انتبه إليها الملك فيصل، رحمه الله، فأمر بطباعة القرآن وتوزيعه للصومال وغيرها.(4/483)
فالآن نحن يا إخوان، هذا المجمع كنا أيضا نفكر فيه في سوريا كشباب، وصاحب الفكرة فيه العلامة الكبير أخونا مصطفى الزرقاء، ولما جاءت بي الظروف التي أحمد الله عليها هذه المملكة بدعوة من الملك فيصل، نقلنا الفكرة، فحققت فحققه عن طريق الرابطة، ولما وجدت المنظمة وجدنا أن يكون المجمع له صفة دولية، على مستوى الدول، فتحقق مجمعكم.
فالآن التضامن كما قلت، لكن يقف هذا الأخ الأفريقي ويقول: ماذا نستفيد نحن؟ فهم في حاجة إلى جامعات، في حاجة إلى مؤسسات ومساع، وأعمال ومساعدات مختلفة، فإذا لم نستطع، وأنا لي تجربة في قضية الجباية الشعبية، لما جاءني المرحوم الشيخ محمد الإبراهيمي وعلال الفاسي في سنة 64 وكنا راجعين نتيجة انقلاب زال ورجعنا إلى الحكم، فقلت: لا بد من إحداث ثورة في شمال أفريقيا، على أن تنتظم بين الجزائر وتونس ومراكش، وأنا جئت وقمت بأسبوع الجزائر، ولسنا في ذلك الوقت نملك ما نستطيع أن نؤديه لإخواننا الجزائريين، ولا مائة ألف ليرة سورية، فقلت: أسبوع الجزائر، فلنجمع من شعب سوريا، وكل فرد يدفع ليرة سورية في ذلك الأسبوع، فوضعنا المشروع تحت رئاسة المرحوم شكري القوتلي، وكنت وزير الدفاع، وعملنا نشرات عن طريق الجيش، وإذا بالشعب كان يتحمس، أنا أذكر كانت تأتي النساء فتنزع حليها وتدفعها إلى الصندوق، فكانت هي النواة للثورة الجزائرية، ومن هنا بعد ذلك ابتدأت أسبوع الجزائر في أمكنة أخرى.
فيا إخواننا مجمعكم هذ االذي يضم على مستوى الدول ممثليها وإخوانكم، من العاملين معكم، من خبراء وإلى آخره، أعتقد أننا لو أخذنا قرارا بصفتكم كمجمع علمي، بدعوتكم لكل مسلم أن يساهم في التضامن الإسلامي، وأن نبدأ بأقرب الدول إلينا، كمثل هنا المجمع يبدأ بالمملكة، نفتح هذا الصندوق تحت إشراف الدولة، ولكن هنالك كل مواطن نطلب منه أن يدفع ريالا، فأنا متأكد على عشرة ملايين، سوف يأتيكم فوق العشرة ملايين إلى صندوقكم، فنبدأ شيئا فشيئا، وكلما أمكنا إيجاد مندوب عندئذ يمكن أن يتحقق هذا المبلغ، ولا نلبث حتى نجمع المليار دولار، فنترك 25 % للجمعيات المحلية لتستفيد منها، جمعنا عشرة ملايين، نقول: خذوا مليونين ونصف، أنفقوها على حاجاتكم، ولكن البقية تأتي إلى المجمع الفقهي، والمجمع الفقهي عندئذ هو الذي يشرف عليه كهيئة علمية ويدفعه إلى صندوق التضامن، ليستطيع صندوق التضامن عندئذ أن يقوم فيمول المنظمة نفسها.
تعلمون أن المنظمة حتى الآن ليس لها دار، فلولا أن المملكة قامت ببناء دار لها وبأرضها لما كان لها. ونحن نجتمع الآن كما تفضل سيادة الأمين العام بالمعونات التي تفضلت بها المملكة، فلو أوجدنا رأسمال إسلامي لقضايانا. ولا بأس أن نقلد خصومنا وأعداءنا، فبالملياري دولار الذي يجمعونها من اليهود حتى الآن هذان الملياران تجمع.
فنحن نستطيع أن نجمع هذين المليارين من العالم الإسلامي بشكل أسهل. ولذلك أرجو أن تبحثوا عن قضية.
قضية الزكاة أن لا نمسها، ولكن التضامن الإسلامي في حاجة من العالم الإسلامي أن يشحن بالإعلام من قبل إخواننا العلماء هنا، فيصدر بيان قوي وعزمكم على تأسيس هذا الصندوق وجربوا. فأسسوه أولا في المملكة وفي بعض البلاد الحاضرة الآن التي تحب أن تشارك مثلا الأردن أو مصر. وإنني متأكد أنكم ستجمعون المبالغ التي يمكن أن تسعف صندوق التضامن. حضرت صندوق التضامن، فعندما ينادي أن هنالك حاجة إلى جامع فهنا تبدأ التبرعات، ولكن بعد التنفيذ لا يبقى إلا القليل الذي يدفع سيأتي وتتغير الظروف. فلنمول إذن صندوق التضامن في رأيي عن طريق الشعوب الإسلامية، وذلك بشكل منظم، ونبدأ به بأقرب الدول إلينا.
وشكرا لكم على إطالتي الكلمة؛ لأننا إذا لم نوجد هذا الصندوق وهو بعيد فابدأوا بصندوق الزكاة لأهله، ولكن علينا أن نشعر كل مسلم في العالم ولو فقيرا، فليصم نهاره وليدفع دولارا، فدعوة من علماء المسلمين بوجوب أن يتحسس كل مسلم بما يتوجب عليه من نشاط وعمل إسلامي، فالمصيبة والكارثة واليهودية العالمية التي الآن تثير المشاكل والإعلام ضدنا في كل مكان وتموله بطرق مختلفة مما تستطيع أن تموله ونحن نستطيع أن نمول إعلاما حقيقيا للإنسانية، لا ضد أحد من الناس. وشكرا لكم.(4/484)
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وبعد،
فأشكر سماحة الرئيس على إتاحته لي هذه الفرصة المباركة، كما أشكر معالي الدكتور معروف الدواليبي على ما أعطانا من فكرة عن نشأة التضامن الإسلامي، وما تفرغ عنه من شعب، ومنها صندوق التضامن الإسلامي.
في الواقع لقد استمعت إلى ملخص البحوث الثلاثة التي قدمها الإخوة جزاهم الله خيرا، كما استمعت إلى التعليقات ممن علق من الزملاء على مسألة صرف الزكاة إلى صندوق التضامن الإسلامي، كما اطلعت على اللائحة التفسيرية لصندوق التضامن الإسلامي، وعلى نظامه، وعلى البيانات المرفقة، بما يشعر بنشاطه وموقف الدول من هذا الصندوق.
في الواقع لقد استبشرت وفرحت فرحا كبيرا بالروح الإسلامية التي دعت على إيجاد هذا الصندوق من دول منظمة المؤتمر الإسلامي، وهو في الواقع يجسد التضامن الإسلامي، لكني في الواقع صدمت حينما رأيت المواقف السلبية، أو شبه السلبية من دول المنظمة.
فأولا إذا نظرنا إلى موقف هذه الدول من تبرعهم نجد أن الدول التي قامت بالتبرع لا تتجاوز عشر دول، وقد نجد من بين هذه الدول من تبرع بتبرع هو في الواقع قد يخجل منه رجل أعمال متوسط الحال. فهذا في الواقع موقف لا يبشر بالخير. ونأمل أن تعيد الدول موقفها من هذا التضامن الإسلامي أو من هذه الصندوق. الصندوق الذي له أثره في سبيل رأب كل حادثة من الحوادث، أو كل نازلة من النوازل، أو كل كارثة من الكوارث التي تحل بالعالم الإسلامي. هذا في الواقع ناحية.
ناحية ثانية وهو ما يتعلق بموضوع الزكاة، وهو موضوع البحث، لا شك أن الزكاة، الله سبحانه وتعالى تولى بيان مصارفها، وذكر أن من مصارفها سبيل الله، وسبيل الله قد اختلف العلماء رحمهم الله في مدلوله وفي مفهومه، فاتجه غالبهم وجمهورهم إلى حصره في الجهاد وفي مشتقات الجهاد، على خلاف بينهم فيمن يستحق الصرف من المشتغلين بالجهاد في سبيل الله، واستدلوا على هذا بدليلين:
الدليل الأول: هو أن المستقرئ لكتاب الله يجد أن سبيل الله دائما يعبر عنه بما يتعلق بالجهاد، ولا يوجد أو في الغالب لا يوجد أي تعبير يخرج عن الجهاد في سبيل الله؛ لأن السياق يدل على ذلك.(4/485)
الدليل الثاني: الناحية التطبيقية العملية، فالناحية التطبيقية العملية في الصدر الأول من الإسلام لا يعرف أن هناك نوعا من الزكاة صرفت في مصارف أخرى غير من عينهم الله سبحانه وتعالى، وهي المصارف الثمانية، ومن ذلك سبيل الله. وسبيل الله خاص بالجهاد في سبيل الله، هناك مجموعة من أهل العلم، وإن كانوا في الواقع بالنسبة إلى القائلين بالقول الأول هم قلة، إلا أنهم اتجهوا أو قالوا بصرف الزكاة، أو بالتوسع لمدلول مفهوم قوله سبحانه وتعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} فقالوا: إن سبيل الله أكثر من أن يحصر في أمر معين، واستدلوا على ذلك بمجموعة أمور:
الأمر الأول: أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستأذنه في الحج، وطلب منه المعونة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه إلى الحج، فاعتذر بأنه ليس له ظهر إلا جملا أنفقه في سبيل الله، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الحج من سبيل الله)) .
ثم هناك حديث أو أثر جاء في صحيح البخاري فيما أعلم ورواه ابن عباس موقوفا، ولكن له حكم الرفع. ثم كذلك كلمة في سبيل الله الواردة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أن الحج من سبيل الله، وفي الأثر الموقوف على ابن عباس رضي الله عنه بأن العتق في سبيل الله يقضي أن (من) تبعيضية.
هذه في الواقع هي نفس الأدلة التي استدل بها القانون بأن سبيل الله أعظم أو أوسع من أن يحصر في موضوع معين. الواقع أن المسألة ممكن أن نقول بأنه نظرا لأن العبادة ينبغي أن يحتاط لها الاحتياط الكامل، وألا يتصرف فيها إلا التصرف الذي فيه البراءة الكاملة، ونظرا إلى أن الأخذ بالحصر أو بتضييق في الجهاد في سبيل الله فيه شيء من الاحتياط للعبادة، وفيه شيء من الخروج من خلاف من لم يدفع الزكاة إلى غير من عينه الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك سبيل الله الذي اتجه جمهور أهل العلم على حصره في الجهاد في سبيل الله.(4/486)
ثم هناك أمر ثالث، وهو أنه يخشى من التوسع في صرف أموال هذا الصندوق حينما نصرف الزكاة فيه يخشى أن يتوسع في صرفه إلى أمور ليست من الزكاة في شيء، كما رأينا في المذكرة التفصيلية بأنه صرف على الاحتفال بالقرن الخامس عشر الهجري، صرف عليه أكثر من ثمانية ملايين، وهو في الواقع من صندوق التضامن الإسلامي. هذا في الواقع يقضي بأننا نحتاط الاحتياط التام لهذه العبادة، ولا شك أن التضامن الإسلامي وصندوق التضامن الإسلامي له أثره وله قيمته وله اعتباره، ولا يمكن التقليل منه.
ويمكن أن نأخذ بما تفضل به معالي الدكتور معروف الدواليبي من أن نوجد مشروع دينار إسلامي على كل مسلم. وهذا فيه خير كثير، وسيعطي عطاء جزلا، وسيغني عن دفع الزكاة في هذا الصندوق. كما أنني أقترح أن يصدر من المجمع توصية للدول الإسلامية في أن تعنى بهذا الصندوق العناية التامة، وأن تفي بالتزاماتها، وأن تفي بما أقدمت على إقراره واعتباره، بأن تعطي عطاء جزلا، فنحن يا إخواني لو نظرنا إلى ما تنفقه الدول الإسلامية على ما يتعلق بالرياضة وتشجيع الرياضة لوجدنا أنها تنفق الأموال الكثيرة التي يمكن أن تغني المسلمين وتغنيهم عن مشكلهم، ومع هذا يوجد البخل على هذا المشروع الذي فيه الخير.
نحن لو نظرنا إلى الأموال التي صرفت من صندوق التضامن الإسلامي في المذكرة التفصيلية لوجدنا أنه صرف على المساجد أكثر من مائة وخمسين مسجدا، وعلى أكثر من مائة وخمسين مدرسة، وعلى جمعيات خيرية، والحاصل أنه صرف في سبيل الشيء الكثير، فينبغي لنا أن نجمع بين العناية بصنوق التضامن الإسلامي وألا نفرط في عبادة من العبادات التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بها، والتي هي أحد أركان الإسلام. هذا وأشكركم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/487)
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدي رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد.
بعد شكري للباحثين على بحوثهم القيمة النافعة. الحقيقة أكتفي بما قاله الأستاذ الذي سبقني بأن نترك أمر الزكاة لصناديق الزكاة المتخصصة لذلك في الدول الإسلامية المتفرقة، ونوصي الدول الإسلامية بإعانة صندوق التضامن من الدول الإسلامية القادرة على ذلك؛ حتى نمكن هذا الصندوق من القيام بمهامه.
أما الزكاة فهي أمر تعبدي، ولا يستطيع الإنسان في الحقيقة أن يفرط في هذا الأمر. فيجب أن يترك أمر الزكاة للمزكي نفسه، ثم إن الوكالة حقيقة جائزة، ولكن ليس من شئوننا أن نزكي الوكيل، الوكيل يزكية القاضي وليس نحن. ثم بالنسبة إلى لكوارث والطوارئ الحقيقة على صندوق التضامن أن يعلن لعموم المسلمين الأمة الإسلامية عندما تحصل كارثة، أو يحصل عمل في الحقيقة يشحذ همتهم فيتبرعوا ويترك للمسلمين السبيل إلى إيصال هذا التبرع. ليس بالضرورة أن يوصل التبرع إلا عن طريق هذا الصندوق. نحن في الكويت عندنا بيت الزكاة، وعندنا أيضا المشروع الذي أشار إليه الأخ الدكتور معروف الدواليبي، وسميناها الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، وقلنا: كل مسلم يدفع دينارا أو دولارا. الحقيقة جمعنا ما لا يقل عن ثمان ملايين أو 9 ملايين دولار، يعني جمعنا تقريبا 18 مليون دولارا، أنفق 9 ملايين منها في آسيا وفي أفريقيا على البلاد الإسلامية. ولا مانع في الحقيقة من أن نوصي بأن يساعد المسلمون حكاما ومحكومين صندوق التضامن، ولكن ليس من الزكاة. ثم لي ملاحظة في الحقيقة أخشى أن الزكاة أيضا يفهم منها أن تجمع في صندوق وتتأخر أكثر من سنة، فالزكاة عندما تجمع يجب أن تنفق في خلال السنة وألا تتأخر أكثر من ذلك. وشكر الله لكم.(4/488)
الشيخ عبد السلام داوي العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم.. أرجو أن يسمح لي سيادة الرئيس أن أتكلم قليلا فيما يتعلق بمنهج المناقشة حول هذا الموضوع وغيره. أقر مجلس المجمع في جلسته أمس جدول الأعمال، وقد عدت إليه الآن ووجدت أن موضع صرف الزكاة عن طريق وليس لصالح، كما رجح الإخوة الكرام، صندوق التضامن الإسلامي كان مكانه الجلسة الخامسة أمس، فهو قد جار على الجلسة الصباحية لهذا اليوم. لو ظللنا في هذا النقاش لجار أيضا على الجلسة المسائية. فالأصل في تنظيم هذا العمل لتنتهي هذه الدورة بعون الله وتوفيقه بإنجازات علمية ينتظرها المسلمون، أن تضبط الجلسات في إطار جدول الأعمال الذي أقر، وأي تعديل على جدول الأعمال يجب أن يكون بقرار من المجلس، وهذه نقطة نظام يجب أن تراعى وإلا فإننا سندخل على موضوعاتنا بطريقة غير سليمة.
النقطة الثانية: وهي تتعلق بنظام إدارة الجلسات. ما ركز عليه بعض الإخوة الكرام من تحديد محل النزاع، تحديد نقطة البحث؛ لأن تحديد نقطة البحث يوفر وقتا وجهدا للسادة الباحثين والمناقشين. وعلى رئاسة الجلسة عند ذلك أن تنبه لأي خروج عن نقطة البحث التي حددت. وقد لاحظنا في هذا الذي جرى اليوم أن كثيرا من النقاش كان خارج محل النزاع ولا علاقة له بالموضوع؛ لأن المطروح في أصل المسألة كما فهمناها في دورة عمان لأن هذه قضية مؤجلة من دورة عمان، وهو هل يجوز أن يصدر عن هذا المجلس فتوى بجواز صرف الزكاة لصندوق التضامن. لم يكن هنالك أي نقاش أن يتولى صندوق التضامن عملية جمع الزكاة في العالم الإسلامي كله. هذا أمر مستحيل وغير وارد، ولم يطرح أصلا على البحث. لم يقصد بهذا الموضوع بحث قضية أن صندوق التضامن سيقوم بإلزام المسلمين على جمع الزكاة. يعني هنالك قضايا كثيرة أطيل في نقاشها لم تكن مطروحة أصلا.
أنا أقول في هذه القضية إذا سمحتم لي: أمام أيضا ما جرى في دورة عمان من توصية لهذا المجمع الكريم، أمام ما تم بيانه من معاناة المسلمين في كثير من بلادهم من مشكلات الجوع والفقر والكوارث وغير ذلك، أوصي هذا المجمع بتشكيل هيئة إغاثة إسلامية أو التفكير بصيغة لتحقيق معنى هذه الإغاثة. فإذا جاء إلينا صندوق تمثل فيه جميع الدول الإسلامية، وقال: إن من برامجه إغاثة المسلمين والعمل على مساعدتهم في كوارثهم. نحن أمام هذه المسألة هل يجوز أن تدفع الزكاة لهذا الصندوق؟ ينظر إذا كان في أعماله ما هو خارج قضية الزكاة، لا بد أن ننص بكل وضوح على أن الدفع يجب أن يكون فقط في إطار المصارف المقررة شرعا لهذا. والقضية لا تحتاج إلى أكثر من هذا. ويمكن أن ننصح لعملية الضبط، وحتى لا تتداخل. نقول للصندوق: حتى نصدر هذه الفتوى يجب عليك أن تصدر تعليمات إدارية تقول بفتح حساب مالي مستقل لديك، حساب للزكاة، توضع فيه حصيلة ما يرد من زكوات، ويجري الإنفاق من هذه الزكوات على ما هو من مصارف الزكاة، ولا أدخل في قضية (في سبيل الله) . وأطيل في هذه القضية، حتى لو ضيقت وأخذت بأقل الآراء الفقهية في هذا المجال توسعا؛ فإن في مصارف الصندوق ما هو داخل في إطار المضيقين، إنما كل ما في الأمر أضبط هذه القضية بأن ذلك يجب أن يكون في إطار الزكاة، ولا مانع أن أفعل مثل ما فعلت بعض البنوك الإسلامية أو معظمها من أن أقول في فتواي: إنه لا بد من تشكيل لجنة فقهية مستشارة لصندوق التضامن للتأكد من أن أي مشروع يريد أن يتبناه الصندوق للإنفاق يدخل ضمن مصارف الصندوق.
بقيت قضية أخرى: بعض الدول الإسلامية أصدرت قوانين بجمع الزكاة. بالنسبة لهذه الدول الدخول على الخط بأن نقول لمواطنيها: يجوز أن تدفعوا الزكاة لصندوق التضامن يتعارض مع قوانينها. إذن لا بد أن تكون فتوانا محتاطة؛ لأنه كما تعلمون من الناحية الفقهية، نعم صحيح عثمان بن عفان وكل مالكي الأموال الباطنة مع من وكلهم في الدفع، لكن كلهم أجمعوا على أن للإمام أن يجمع الزكاة وينظمها، بل يجب عليه إذا تأكد أن هناك من لا يقوم بدفع الزكاة أن يتدخل لجمعها وإنفاقها في مصارفها المقررة شرعا، فلذلك نقول في فتوانا: إنه في الدول التي لم تنظم أمر الزكاة، أو التي أوكلت لمواطنيها دفع الزكاة، كما هو في بعض البلاد، للمسلمين في تلك الدول أن يقوموا بدفع جزء من زكواتهم وفق ما يرونه في مصارف صندوق التضامن التي تندرج تحت مصارف الزكاة، وما الضير في ذلك؟ نعم، لا مانع من أن نشير بهذه المناسبة إلى ضرورة دعم الصندوق وأن تقدم له التبرعات، وأن يقوى التضامن الإسلامي.
لكن المسألة المعروضة علينا هي هذه القضية المحددة، فليس الموضوع موضوع تبرع، إنما الموضوع موضوع زكاة.
أعود في نهاية كلمتي إلى التأكيد على قضية نقطة النظام لنستطيع أن نوجز. وأقترح لتسهيل البحث أنه عندما تتم بلورة الخطوط العريضة في النقاش يحال الأمر إلى لجنة لإعداد توصية، ويختار من الأشخاص الذين كانوا هم لهم وجهات نظر في هذا الموضوع اقترحوها ليكون التداول أكثر تحديدا؛ لأن هذا الحفل الواسع لا يمكن في الواقع أن نطلق فيه العنان للملاحظات والمناقشات، إذن سيظل لقاؤنا لا نسميه مجلس مجمع فقه، نسميه مناقشات ومداولات حول قضايا فكرية مطروحة، وعند ذلك لا نحقق شيئا غير أننا تحاورنا، وهذا ليس هو المطلوب، المطلوب أن نبلور قضايا محددة فيما نحن متفقون عليه، وإذا كنا مختلفين نتناقش حتى نبلور هذه القضايا. وشكرا.(4/489)
الرئيس:
شكرا. في الواقع أن ما تفضل به فضيلة الشيخ عبد السلام العبادي هو عين الذي يتعين الالتزام به. وقد سبق في الجلسة المسائية في يوم السبت أن قدمت رجاء ولم أقدمه نظاما لعدد من الإخوة المتكلمين ألا يخرجوا عن موضوع البحث. وطالما أن الشيخ عبد السلام فتح الباب فأنا أحب أن أشير إضافة إلى ذلك إلى مسألة أخرى، وهو أن بعض أصحاب الفضيلة المشايخ الذين يأخذون الكلمة في المداولة يمضي نصف كلمة في الثناء على بحث قبله أو في الثناء على كلمة لشخص آخر إلى آخره. وهذا لا يحرر محل النزاع، ولا يبين مدرك الحكم الشرعي. وكلنا نتفق على الثناء وعلى التثنية على هذه الأشياء، لكن نحن نريد أن نستغل الوقت ونغتنم هذه اللحظات في تحرير هذه المسألة المطروحة أمامنا.
أما موضوع زحف بعض الموضوعات على موضوع آخر، بحيث إنه يخشى سقوط هذا الموضوع، فأظن أن هذا ليس في الوسع دائما أن نتحكم فيه، وفي جميع الدورات الثلاث التي مضت في هذا المجمع يكون مقررا لبعض البحوث جلسة فتستغرق جلسة قادمة، أو نصف جلسة قادمة؛ لأنه ليس في وسع المجمع أن يبت إلا بعد أن تتحرر وجهات النظر أو تتحرر القناعة في هذا. لكن مع هذا ينبغي الملاحظة ألا يسقط شيء، وألا يكون الزحف يتجاوزه دوره حتى لا تسقط هذه الموضوعات ولا ينقضي الوقت ونحن لم ننه شيئا من موضوعاتنا هذه.
بقي عندي من أصحاب الفضيلة الذين طلبوا الكلمة ستة من المشايخ، أرجو أن يوجزوا في القول. أو هل ترون نؤدي الزكاة ونعود؟(4/490)
مناقش:
فيه اقتراح ممكن. . المفروض الآن اختيار لجنة لحل المعضلة. المفروض الآن اختيار لجنة إذا تكرمتم بالإذن لي.
الرئيس:
إذن أرجو من أصحاب الفضيلة الذين بقي لهم كلمات أن يتنازلوا عنها؛ نظرا لضيق الوقت وحسما للموضوع. اتفضل يا شيخ.
الشيخ إبراهيم بشير الغويل:
هذه الملاحظة تتعلق بالنظام، إن كانت إدارة الجلسة ستسير بأن تترك لبعض أن يتحدث كما يشاء ويطيل، ثم تحجب الكلمة عن الآخرين، فذلك هو الظلم بعينه. أما أن يحدد من الأول الوقت وعدد المتكلمين ودقائق الكلمات، هناك كذا دقيقة للكلام، وهناك كذا متحدث، وسنوزع الكلام لمدة كذا دقيقة. إن لم يتم ذلك فلا يجوز حجب الكلمات عن أي من أعضاء المجلس وشكرا.
الرئيس:
على كل، نحن لا نريد أن ندخل موضوعا ينشأ عن موضوع آخر أجنبي عنه. فهل ترون نبت في هذا الموضوع، وأعلن ما اتجه إليه المجلس؟ الذين يتجهون إلى هذا أرجو رفع الأيدي..
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من خلال هذه المداولات من أصحاب الفضيلة أعضاء هذا المجمع حول صرف الزكاة إلى صندوق التضامن الإسلامي، يبدو لنا أن المستخلص من وجهات النظر وجهتان، مع ما يحف بهما من توصيات هي محل اتفاق من الجميع فيما يظهر.
أما الوجهة الأولى: فتعلمون أن محل النزاع متحرر. وهو بحث مسألة صرف الزكاة إلى صندوق التضامن الإسلامي. والنزاع هو في مدرك الحكم وفي متعلق الحكم ومنزعه. هل في قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، يكون قصره على الغزاة أم يكون شاملا للمصارف الأخرى التي تفضل بها أصحاب الفضيلة الأعضاء في مناقشاتهم. والذي أحب أن أشير إليه هنا أنه قد حكى الإجماع غير واحد على قصر (وفي سبيل الله) على الغزاة، وأنه لا يشمل غيرهم، وأن الخلاف الذي حصل إنما هو خلاف بعد صدور الإجماع، أو بعد الإجماع، وأنه لا يعرف في هذا خلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولا بعد التابعين رحم الله الجميع. والمسألة الثانية ولهذا فإن أصحاب الفضيلة ربما يمثلون العدد الأكثر اتجهوا إلى أن يبقى قصر الآية على ما حكي عليه الإجماع أو ذهب إليه الأكثر تنزلا.
الاتجاه الثاني، وهو تأليف لجنة لتربط بين هذه المداولات التي أجراها المجمع وبين واقعية صندوق التضامن الإسلامي، وبين تعديل نظامه ولائحته فيما يتفق مع صرف الزكاة إليه، ولهذا فإنكم قد ترون مناسبا أن تتألف لجنة من كل المشايخ: تقي العثماني، طه العلواني، يوسف الجيري، عمر جاه، مصطفى الفيلالي. لأن هؤلاء يمثلون وجهات المداولة التي دارت في هذه الجلسة، وعلى ضوء التصور الذي ينتهون إليه يعرض عليكم في الجلسة الختامية، وتنتهون إلى إقرار ما ترونه مناسبا حسب المقتضى الشرعي، أو حسب ما تقتضيه الأناة والتثبت في هذا الموضوع، مع إضافة ما أشار إليه بعض أصحاب الفضيلة الأعضاء، وهو أن يصدر من المجمع توصية بالشد على صندوق التضامن الإسلامي، ومناشدة الدول بالوفاء بالتزاماتها معه، وعلى فكرة الدينار الإسلامي، والدعوة إليها وتجسيدها في نفوس المسلمين، ومن القليل يجتمع الكثير. وبهذا ننتهي، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(4/491)
الأمين العام:
هذا الاقتراح جيد، لكن أريد أن ألاحظ أن الأستاذ الدكتور عبد السلام عبادي موجود في لجان أخرى، ربما تتكاثر الأوقات وتتزاحم فلا يستطيع المشاركة.
الرئيس:
نرجو من فضيلة الشيخ سيد طنطاوي أن يتفضل بالاشتراك مع هذه اللجنة، على أن يكون الشيخ طه هو مقرر هذه اللجنة.
مناقشة مشروع القرار الذي وضعته اللجنة
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
القرار رقم (2) بعد الديباجة:
بعد اطلاع المجمع على المذكرة التفسيرية بشأن صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته المقدمة إلى الدورة الثالثة للمجمع، وعلى الأبحاث الواردة إلى المجمع في دورته الحالية بخصوص موضوع صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي.
يوصي: عملا على تمكين صندوق التضامن الإسلامي من تحقيق أهدافه الخيرة المبينة في نظامه الأساسي، والتي أنشئ من أجلها، والتزاما بقرار القمة الإسلامي الثاني الذي نص على إنشاء هذا الصندوق
وتمويله من مساهمات الدول الأعضاء، ونظرا لعدم انتظام بعض الدول في تقديم مساعداتها له، يناشد المجمع الدول والحكومات والهيئات والموسرين المسلمين القيام بواجبهم في دعم موارد الصندوق بما يمكنه من تحقيق مقاصده النبيلة في خدمة الأمة الإسلامية.
ويقرر:
أولا: لا يجوز صرف أموال الزكاة لدعم وقفية صندوق التضامن الإسلامي؛ لأن في ذلك حبسا للزكاة عن مصارفها الشرعية المحددة في الكتاب الكريم.(4/492)
الرئيس:
لو سمحت يا شيخ لأن الإخوة خرجوا، فليس من العدل أن يبقى بعضهم ويخرج بعضهم من هذا موضوع مفروغ منه.
الشيخ محمد يوسف جيري:
أتذكر أننا بخصوص الديباجة صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي، أتذكر أن الإخوة رأوا أن نغير العبارة بدلا من صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي.
الرئيس:
فعلا، صرف الزكاة عن طريق.
الشيخ محمد تقي العثماني:
الموضوع المطروح هو لصالح صندوق التضامن الإسلامي.
الرئيس:
فعلا هذا الموضوع الذي طرح بهذا العنوان.
الشيخ محمد سالم عبد الودود:
طبعا هو طرح بهذا العنوان الجزء الأول من القرار: لا يجوز صرف أموال الزكاة لدعم الصندوق، هذا يجعلنا نبقي على العنوان.
الرئيس:
بقاء العنوان أكثر دعما أولا. نعم ثانيا.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
هو كان في تصحيح يعني بدلا من " لأن في ذلك حبسا ": " لأن في وقف الزكاة حبسا لها عن مصارفها ".
الرئيس:
هو كله واحد. ماشي يا شيخ.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
حتى لا يتعارض مع قرار توظيف الزكاة في مشاريع؛ لأنه قرار توظيف الزكاة في مشاريع تبقى المشاريع على ما هي عليه.(4/493)
الرئيس:
لا يا شيخ خليه يمشي على وضعه. الفقرة تمشي على ما هي عليه.
الشيخ محمد علي التسخيري:
أنا أرجح أن نحذف التعليل؛ لأنه يمكن أن يدعى هنا أنه صرف في سبيل الله، وإذا لم نحصر سبيل الله في مسألة الحج والجهاد، وعممنا الأمر، فإننا سنقع في إشكال.
الرئيس:
التعليل مع تقديري، التعليل يعطي الصيغة الشرعية فبقاؤه وارد.
الشيخ محمد علي التسخيري:
لكي نحصل الإجماع نعطي الفتوى بلا تعليل.
الرئيس:
لا، مجمعين إن شاء الله يا شيخ. الأمر سهل وبسيط، ثانيا.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
ثانيا: لصندوق التضامن الإسلامي أن يكون وكيلا عن الأشخاص والهيئات في صرف الزكاة في وجوهها الشرعية بالشروط التالية:
أ - أن تتوافر شروط الوكالة الشرعية بالنسبة للموكل والوكيل.
ب - أن يدخل الصندوق على نظامه الأساسي وأهدافه، التعديلات المناسبة التي تمكنه من القيام بهذا النوع من التصرفات.
ج- أن يخصص صندوق التضامن حسابا خاصا بالأموال الواردة من الزكاة بحيث لا تختلط بالموارد الأخرى التي تنفق في غير مصارف الزكاة الشرعية، كالمرافق العامة ونحوها.
د- لا يحق للصندوق صرف شيء من هذه الأموال الواردة للزكاة في النفقات الإدارية ومرتبات الموظفين وغيرها من النفقات التي لا تندرج تحت مصارف الزكاة الشرعية.
هـ- لدافع الزكاة أن يشترط على الصندوق دفع زكاته فيما يحدده من مصارف الزكاة الثمانية، وعلى الصندوق في هذه الحالة أن يتقيد بذلك.
و يلتزم الصندوق بصرف هذه الأموال إلى مستحقيها في أقرب وقت ممكن حتى يتيسر لمستحقيها الانتفاع بها، وفي مدة أقصاها سنة.(4/494)
الشيخ محمد على التسخيري:
اعتقد أننا لا دخل لنا في" ب ". ما لنا ونظامه الأساسي؟ نعطيه الفتوى وهو يفعل ما يشاء حسب نظامه الأساسي. الشيء الآخر كلمة " و " ومدة أقصاها سنة، المقترح أن تحذف ما دمنا قلنا: في أقرب وقت ممكن، وقيدنا هذا المعنى، فما الداعي لتحديد سنة؟
الرئيس:
أما الفقرة " ب " ففيها مزيد بيان. هو الشيء إذا كان فيه ترتب حكم شرعي لا نقبله، هذا نحذفه. أما إذا كان زيادة بيان زيادة توضيح. أنا أراه شرطا ما لم يجعل في النظام ما يبين دخول الزكاة دخولا وخروجا وبقاء لا يمكن أن نقبل ولا يمكن دخول الزكاة فيه.
الشيخ محمد تقي العثماني:
لا يجوز أن نوكل رجلا بأداء الزكاة حتى يلتزم بالأحكام الشرعية.
الشيخ عبد السلام داود العبادي:
فيه نقطتان. الواقع كان في لجنة الصياغة قد اتفق عليهما ولم يدرجا في هذه التوصيات، اتفق على حذف " في مدة أقصاها سنة "، واتفق على أن يوضح في بند " د " حتى لا يفهم أن المجمع لا يعلم بسهم " والعاملين عليها". سهم والعاملين عليه نحن قلنا: إن هذا يمنع تحوطا أو احتياطا، وإلا فالأصل العاملون عليها مقررة في مصارف الزكاة إذا تعين موظف خاص في الصندوق لصرف هذه الزكاة والتوجه بها إلى البلاد المحتاجة إليها، ما المانع من الناحية الشرعية أن يعطى راتبه؟ لكن نحن نقول احتياطا: منع ذلك حتى لا تستغل الزكاة. فيجب أن تصاغ العبارة بأسلوب لا يشعر القارئ لها أننا لا ندرك سهم العاملين عليها.
الشيخ طه جابر العلواني:
بالنسبة لهذه الفقرة " د " طبعا لوحظ موضوع العاملين عليها، ولكن اللجنة التي توافرت على دراسة هذا الموضوع رأت أنها لو فتحت هذا الباب فمن المحتمل أن تصرف كل الزكاة رواتب للموظفين، ويصبح كل الصندوق من العاملين عليها. ولكن أعتقد أنه إذا خصص موظف لهذا الأمر بحيث يشرف على موضوع الزكاة وحده، سيمكن أن نصوغ العبارة بطريقة تحتمل هذا الموضوع.(4/495)
الرئيس:
أما أنا فالذي يظهر لي أن الفقرة والمادة تبقى كما هي؛ لأنه إذا فتح الباب، الآن صندوق التضامن الإسلامي هل تعلمون حجم الموظفين فيه؟ هل هم ثلاثة، أربعة، خمسة، أو بالعشرات؟
فإذا كان هذا الجهاز العظيم الذي قد يصل خمسين، ستين موظفا، وبعضهم برواتب كبيرة، وخذوا في الاعتبار قضية تباعد أقطار العالم الإسلامي، وهناك شيء أكثر من قضية أنه يذهب بها، أجور الطائرات وأجور النقل إلى آخره، فأخشى أننا نفتح هذا الباب فتستلهم الزكاة داخل الصندوق.
الشيخ عبد السلام داود العبادي:
نحن معك في هذا، كل ما في الأمر يجب النص على أنه يجب ألا يصرف، معك في هذا، لكن يجب أن تصاغ العبارة بطريقة تشعر بأننا نفعل ذلك احتياطا.
الشيخ محمد المختار السلامي:
الحقيقة عندي أمران:
الأمر الأول هو أن ما ذكر أن الفقرة " ب " من الخير أن تحذف، أعتقد أنه من الخير أن تحذف؛ لأنها أخذا من الاحتياطات، هي تؤدي إلى هذا، ولكن لياقة لا ينبغي أن نتوجه إلى صندوق التضامن الإسلامي، فنقول له: أدخل على أنظمتك وأجهزتك وأهدافك التعديلات المناسبة.
أنا الذي يهمني هو أن تتوافر شروط الوكالة الشرعية، أن يخصص صندوق التضامن حسابا خاصا، أن لا يحق للصندوق صرف شيء من هذه الأموال.
هذه الشروط التي تهمني، أما أن أتدخل مباشرة وبهذه الطريقة، هي طريقة غير مناسبة في مواجهة منظمة المؤتمر الإسلامي التي نحن عضو منها.
الأمر الثاني: هو أنه لا يحق للصندوق صرف أي شيء من هذه الأموال الواردة للزكاة في النفقات الإدراية ومرتبات الموظفين، وغيرها من النفقات التي لا تندرج تحت مصارف الزكاة الشرعية، وهي متكاملة بقوله: التي لا تندرج تحت مصارف الزكاة الشرعية. تدخل فيها العاملون. ولكن قضية أن يدخل الصندوق على نظامه الأساسي لابد من حذفها؛ لأنه فيه عدم لياقة مع المنظمة التي ننتسب إليها.
الشيخ عمر جاه:
هو في الواقع عندي نقطتان: في فقرة " د " كما تفضل السيد السلامي الفقرة واضحة: التي لا تندرج تحت مصارف الزكاة الشرعية. تعطينا كل الحلول وما فيه داع للتغيير هذا.
وثانيا في فقرة " و " أعتقد أن مدة أقصاها سنة لا داعي لها. ممكن في أقرب وقت ممكن حتى يتيسر لمستحقيها الانتفاع بها يكفي. ما فيه داع على ربطها بسنة كاملة. وشكرا.
الشيخ محمد مختار السلامي:
ما فهمت القرار، الآن ما تم؟
الرئيس:
تم على ما هو عليه بالأكثرية. هل أنتم موافقون على الأكثرية؟
الشيخ محمد مختار السلامي:
من فضلك فقرة " ب " أرجوك أن يقع البحث فيها والتصويت عليها؛ لأني قلت أن لا تزيد شيئا، وتكون مشاكل سياسية، حساسيات.(4/496)
الرئيس:
والله أنا أرى أن هذه ما فيها محاذير شرعية.
الأمين العام:
أريد أن أذكر إخواني حضرات الأساتذة بأن الذي قاد إلى ذكر المادة "ب" هو أننا عند التداول في هذا الموضوع وفي نظام الصندوق لاحظنا أن الأموال تأتي إليه من التبرعات ومن أشياء كثيرة لم يذكر فيها الزكاة إطلاقا، فنحن إذ ذاك عند التداول في هذا الموضوع قلنا: إذا كان سينفق الزكاة لا بد أن تأتيه زكاة؛ ولذلك فإن هذا يتماشى مع أصل الموضوع في الفتوى، هو لا يزكي من مال التبرعات التي تأتيه، ولا يزكي من الأموال التي تنجز إليه من الوقفيات، وإنما يزكي من مال الزكاة الذي يأتيه. ولذلك قلنا: يعدل النظام الأساسي حتى يصبح قادرا على تلقي الزكوات وصرفها بعد ذلك. ليس هناك تضارب أبدا.
الشيخ محمد عطا السيد:
سيدي الرئيس في الفقرة " أ " قالت: تتوافر شروط الوكالة الشرعية بالنسبة للموكل والوكيل. المراد الوكيل هنا الصندوق؟
الأمين العام:
الوكيل هو الصندوق، أي نعم.
الشيخ محمد عطا السيد:
إذا كان المراد بها الوكيل هو الصندوق، نحن ذكرنا في الفقرة التي قبلها: لصندوق التضامن الإسلامي أن يكون وكيلا. فنحن قررنا أن يكون وكيلا، فما معنى هنا أن نقول أن تتوافر شروط الوكالة بالنسبة للموكل والوكيل. فأرى أننا قد قررنا في الجزء السابق المسألة التي اشترطناها في الفقرة " أ " هنا أن تتوافر شروط الوكالة الشرعية بالنسبة للموكل. الرئيس:
هذا زيادة تأكيد، وهو واضح ليس فيه إشكال.(4/497)
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
أنا ما عندي اعتراض على كل الأشياء التي قيلت ما عادا " و "، وكما قال الدكتور العبادي التي هي في مدة أقصاها سنة، هذه وأنا كنت في لجنة الصياغة، واتفقنا على حذفها، هل حذفت أم باقية؟
الرئيس:
عموما هي لها مستند من كلام الحنفية، أنه لا ترد الزكاة في العام القادم وزكاة العام الماضي موجودة. وهذه قيل في مدة سنة كأن فيها حجرا على ألا تستثمر أو تتأخر أو شيء من هذا القبيل.
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
الخوف أن يأخذوها ذريعة لتأخيرها لسنة، فلا داعي إليها حتى ولو كانت من الناحية الشرعية؛ لأنها محل الخلاف، وحذفها أولى من إبقائها.
الرئيس:
إذا رأيتم أن تحذف تحذف. ولكن هي من حيث التحوط جيدة في الواقع؛ لأنها تعطي عدم امتداد الأمد ببقاء الزكوات وتراكمها أو استغلالها في مشاريع. فإذا رأيتم بقاءها فلا ضرر فيها شرعا. إذن تبقى.(4/498)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (2) د 4/08/88
بشأن صرف الزكاة
لصالح صندوق التضامن الإسلامي
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408 هـ, الموافق 6-11 فبراير1988م.
بعد اطلاعه على المذكرة التفسيرية بشأن "صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته المقدمة إلى الدورة الثالثة للمجمع، وعلى الأبحاث الواردة إلى المجمع في دورته الحالية بخصوص موضوع صرف الزكاة لصالح صندوق التضامن الإسلامي "
يوصي:
- عملا على تمكين صندوق التضامن الإسلامي من تحقيق أهدافه الخيرة (المبينة في نظامه الأساسي) والتي أنشئ من أجلها، والتزاما بقرار القمة الإسلامي الثاني الذي نص على إنشاء هذا الصندوق وتمويله من مساهمات الدول الأعضاء، ونظرا لعدم انتظام بعض الدول في تقديم مساعداتها الطوعية له - يناشد المجمع الدول والحكومات والهيئات والموسرين المسلمين القيام بواجبهم في دعم موارد الصندوق بما يمكنه من تحقيق مقاصده النبيلة في خدمة الأمة الإسلامية.(4/499)
ويقرر
أولا: لا يجوز صرف أموال الزكاة لدعم وقفية صندوق التضامن الإسلامي؛ لأن في ذلك حبسا للزكاة عن مصارفها الشرعية المحددة في الكتاب الكريم.
ثانيا: لصندوق التضامن الإسلامي أن يكون وكيلا عن الأشخاص والهيئات في صرف الزكاة في وجوهها الشرعية بالشروط التالية:
أ - أن تتوافر شروط الوكالة الشرعية بالنسبة للموكل والوكيل.
ب - أن يدخل الصندوق على نظامه الأساسي وأهدافه التعديلات المناسبة التي تمكنه من القيام بهذا النوع من التصرفات.
جـ- أن يخصص صندوق التضامن حسابا خاصا بالأموال الواردة من الزكاة، بحيث لا تختلط بالموارد الأخرى التي تنفق في غير مصارف الزكاة الشرعية، كالمرافق العامة ونحوها.
د- لا يحق للصندوق صرف شيء من هذه الأموال الواردة للزكاة في النفقات الإدارية ومرتبات الموظفين وغيرها من النفقات التي لا تندرج تحت مصارف الزكاة الشرعية.
هـ- لدافع الزكاة أن يشترط على الصندوق دفع زكاته فيما يحدده من مصارف الزكاة الثمانية، وعلى الصندوق – في هذه الحالة – أن يتقيد بذلك.
و يلتزم الصندوق بصرف هذه الأموال إلى مستحقيها في أقرب وقت ممكن حتى يتيسر لمستحقيها الانتفاع بها وفي مدة أقصاها سنة.(4/500)
زكاة الأسهم في الشركات
إعداد
فضيلة الشيخ عبد الله البسام
بسم الله الرحمن الرحيم
الزكاة
الزكاة: لغة مصدر زكا الشيء إذا زاد ونما.
قال في اللسان: وأصل الزكاة الطهارة والنماء.
والزكاة شرعا: حصة مقدرة من المال مخصوصة لجهات مخصوصة، وسميت الحصة المخرجة زكاة؛ لأنها تزيد في المال الذي أخرجت منه.
والزكاة من حيث الأهمية هي أحد أركان الإسلام، وهي قرينة، فلا تذكر الصلاة في الذكر الحكيم إلا ذكرت الزكاة معها، ولا يذكر المصلون إلا ذكر معهم المزكون والمنفقون.
وهي ركن مالي اجتماعي يقوم به التكافل بين المسلمين.
الزكاة: تطهر نفوس الأفراد من أرجاس البخل والدناءة والقسوة والأثرة والطمع وغير ذلك من الرذائل الاجتماعية التي هي مثار الحسد والتعادي والعدوان والفتن والحروب.
فالفقر يحمل الواقعين تحت سلطانه على إتيان جميع ضروب الشرور للحصول على أخص حاجات الحياة، وهو القوت. فالبطون إذا جاعت دفعت أصحابها لاستساغة جميع صنوف الجرائم، وعدت ذلك عملا مشروعا. وفي البيئات التي يشيع فيها الفقر تروج جميع المذاهب المتطرفة، وتستحل جميع الأعمال الوحشية للوصول إلى أغراضها. ولن تجد في جميع الحروب الأهلية التي قامت لإنصاف الطبقة الفقيرة في أوروبا إلا وهم الطبقة الفقيرة نفسها حاربوا تحت تأثير الحاجة. والإسلام ما جعل فريضة الزكاة ترجع لهوى الشخص، إن شاء أعطى وإن شاء منع، بل جعلها إجبارية؛ لأنها حق الفقير في مال الله الذي أعطاه الغني وقال: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} . النور:33
وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} . الحديد:7.
ومن هذا يتبين لنا أن الزكاة ليست إحسانا فرديا، فإن اعتبارها كذلك خروج بها عن معانيها، بل هي حقوق إجبارية تأخذها الحكومة الإسلامية لتصرفها على الطبقة الفقيرة؛ لأن الأصل أن الإمام هو الذي يأخذ ويعطي.(4/501)
وبالجملة فالزكاة ليست مجرد عمل طيب وخلة حسنة من خلال الخير، بل هي ركن أساسي من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائره الكبرى، وهي في نظر الإسلام حق الفقراء في أموال الأغنياء، لم يوكل إلى ضمائر الأفراد وحدها، وإنما تحملت الدولة المسلمة مسؤولية جبايتها بالعدل وتوزيعها بالحق. وإن الفرد المسلم مطالب بأداء هذه الفريضة وإقامة هذا الركن الأساسي في الإسلام، وإن فرطت الدولة في المطالبة بها، أو تقاعس المجتمع عن رعايتها، فإنها عبادة يتقرب بها المسلم إلى ربه، ويزكي بها نفسه وماله، وإن لم يطالب بها السلطان طالبه بها الإيمان والقرآن.
والزكاة لم تكن مجرد معونة وقتية لسد حاجة عاجلة للفقير وتخفيف شيء من بؤسه ثم تركه بعد ذلك لأنياب الفقر والفاقة، بل هدفها القضاء على الفقر وإغناء الفقير إغناء دائما يستأصل شأفة الفقر والعوز من حياته؛ لأنها فريضة منظمة دورية دائمة الموارد. وبهذا يتضح أن الزكاة نظام متميز يغاير الأنظمة الوقتية التي تحاول مواساة المعوزين.
الزكاة مواساة:
الزكاة مواساة بين الفقراء والأغنياء، ولذا فإنها لا تجب إلا في الأموال النامية بالفعل والأموال القابلة للنماء.
ومعنى النماء في الأموال أن يكون من شأنه أن يدر على صاحبه ربحا. ولذا فإن الزكاة لا تجب إلا في أموال مخصوصة هي التي تنمي وتفيد دخلا وغلة. أما الأموال المجمدة لحاجة الإنسان واستعمالاته وقنيته فهذه لا تجب فيها الزكاة.
وهذا كله مبني على هذا المبدأ السامي في الزكاة، وهي المواساة بين الفقير والغني، ومن هذا يتعين علينا توضيح وضع الشركات وأسهمها.(4/502)
الشركات:
الشركة عند فقهائنا المتقدمين هي نوعان:
أحدهما: اجتماع في استحقاق.
الثاني: شركة العقود.
والنوع الأخير هو محل بحثهم، وهو الذي عقدوا له الأبواب في كتاب المعاملات من كتب الفقه. ويقسمون شركة العقود إلى خمسة أنواع:
الأول: شركة عنان، وشركة العنان هي أن يشترك اثنان فأكثر بمالهما المعلوم ليعملا فيه ببدنيهما، ويكون الربح بينهما مشاعا حسبما شرطاه بينهما، وتكون الخسارة على قدر المال.
الثاني: شركة المضاربة، من الضرب في الأرض، وهو السفر للتجارة، وهي أن يكون المال من واحد والعمل من الآخر، ويكون رأس المال لصاحبه، وللعامل جزء من الربح مشاع ومعلوم على حسب ما شرطاه.
الثالث: شركة الرجوة، وهي أن يشتركا على أن يشتريا في ذمتيهما بجاهيهما، فما ربحا فهو بينهما على ما شرطاه.
الرابع: شركة الأبدان، وهي أن يشتركا فيما يكتسبانه بأبدانهما، فما رزق الله تعالى من كسب فهو بينهما.
الخامس: شركة المفاوضة: وهي أن يفوض كل من الشريكين إلى صاحبه بكل تصرف مالي وبدني مما يدخل في أعمال الشركة.
فهذه هي أنواع الشركات عند فقهائنا الأقدمين على حسب ما تتبعوه من معانيها في النصوص الشرعية، وبحسب ما استقرأوه من أنواعها.
أما الشركات المعاصرة فلم تكن آنذاك موجودة، ولهذا لم يأت لها ذكر في كتب فقهائنا السابقين. وإنما حدثت أنواعها مع حدوث الاقتصاد المعاصر وطرق مكاسبه وأنواع مصارفه، وذلك بتطوير النظام التجاري، وسنأتي بكلمات معدودات على توضيح بعض أنواع الشركات؛ لعلاقتها بموضوعنا.(4/503)
الشركات المعاصرة:
النظام التجاري له أهمية كبرى، بحيث إنه لا ينتظر نجاح مشروع دون وضع قواعد لبيان هيكله وتوضيح معالمه، وتحديد مسؤولياته من الناحية التخطيطية أو من الناحية الإدارية التنفيذية، كما يجب أن تعطى للعاملين بالمشروع التجاري الضمانات الكافية، سواء كانوا موظفين أو مساهمين، وإلا انعدمت الثقة بالمشروع. والضمانات تتوقف في تحديدها إلى حد كيبر على الشكل النظامي للمشروع، والشكل النظامي يتخذ أحد الأشكال الآتية:
1- الملكية الفردية، وهذه أبسط مظاهر المشروعات النظامية؛ لأن صاحبه والمسؤول عنه فرد واحد، والثقة فيه تقوم على حسب إدارة صاحبه.
2- شركة التضامن: وهي تضامن الشركاء في إدارتها والوفاء بالتزاماتها، ويتوقف نجاح هذه الشركة على تضامن الشركاء في العمل وإخلاصهم في المشروع، وهي غالبا لا تنجح في الأعمال التي تحتاج إلى رؤوس أموال ضخمة، وإنما نجاحها في الأعمال السريعة والنقليات الدائمة المستمرة.
3- شركة التوصية البسيطة: وهي ما جمعت نوعين من الشركاء:
أحدهما: ضامن متضامن لالتزامات الشركة.
الثاني: شريك برأس مال ومسئول بقدر حصته فقط.
وغالبا ما تكون هذه الشركة لمتوسطي أصحاب رؤوس الأموال، وهي من أنواع – شركة التضامن- وفيها ميزاتها من المحاسن والمساوئ.
4- شركة التوصية بالأسهم: وهي تكون رؤوس أموال كبيرة، إلا أنها أقل من المبالغ التي تكون للشركة المساهمة الآتية؛ ذلك أن عدد المساهمين في التوصية يكون محدودا؛ لأن أسهمها لا تطرح للاكتتاب العام وإنما هي أسهم محدودة. ومسئوليات وحقوق المساهمين من متضامنين وموصين تشبه مسؤوليات وحقوق المساهمين في التوصية البسيطة، ونظرا لسهولة تكوين هذه الشركات من الناحية القانونية فالإقبال على إنشائها يكون أكثر؛ لبعدها عن المسؤوليات القانونية والمراقبة وفرض الأنظمة التجارية عليها وعلى مؤسسيها مما يفرض على الشركات المساهمة لحماية حق المساهم.
5- الشركة المساهمة:
الشركة المساهمة هي النوع الوحيد الذي يصلح لتكوين المشروعات العظيمة ذات العمل الواسع، وهي التي تتطلب أموالا جسيمة لا يمكن جمعها إلا من عدد كبير من الجمهور، فشركات الكهرباء والإسمنت وشركة الملاحة وشركات النقل والعقارات والفنادق وغيرها من الصناعات الكبرى والأعمال الواسعة لا يمكن لفرد واحد ولعدد قليل من الأفراد تمويلها، فالأمر يحتاج إلى أمرين:
1- صغر قيمة السهم لكسب عدد كبير من المساهمين.
2- إمكان تحويله أو بيعه والحصول على الثمن في أي وقت لترغيب جميع المساهمين على اختلاف رغباتهم في المساهمة.
فمن مزايا الشركات المساهمة عملها على تحقيق رغبة المستثمرين المتباينة، فمنهم الساعي وراء الربح، ومنهم المحافظ القانع بالفائدة المعلومة، ومنهم المتوسط بين الأمرين، ومنهم من يريد مجرد المحافظة على رأس ماله من الضياع والمجازفات، فيختار الضمان.(4/504)
أسهم الشركات
السهم: صك يمثل حصة في رأس مال شركة مساهمة.
وتكون الأسهم نقدية إذا مثلت حصصا نقدية في رأس مال الشركة، وعينية إذا مثلت حصصا عينية في رأس مال الشركة، وليس للشريك في الحالين سوى حق شخصي في أموال الشركة عند تصفيتها، فهي حقوق ملكية جزئية لرأس مال كبير للشركات المساهمة، وكل سهم جزء من أجزاء متساوية لرأس المال.
والسهم ينتج جزءا من ربح الشركة، يزيد أو ينقص تبعا لنجاح الشركة وزيادة ربحها أو نقصه من الخسارة؛ لأنه مالك لجزء من الشركة بقدر سهمه.
قيمة السهم:
وللسهم قيمتان:
إحداهما: قيمة اسمية، وهي القيمة المقدرة عند إصداره.
الثانية: قيمة سوقية تحدد في سوق الأوراق المالية.
والأسهم قابلة للتعامل والتداول بين الأفراد كسائر السلع، مما يجعل بعض الناس يتخذ منها وسيلة للاتجار بالبيع والشراء ابتغاء الربح من ورائها. وهذا التعامل مشروع لأنه مبني على أسس سليمة من شروط البيع وأحكامه، فمما يؤثر جواز التبادل التجاري في الأسهم ما ورد أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما توفي كان ذا مال، فراضى ورثته إحدى زوجاته، وهي تماضر الأشجعية، على أن تأخذ مقابل سهمها في الميراث مبلغ ثمانين ألف دينار، وكانت التركة تشمل نقودا وعقارا ورقيقا وحيوانا، وكان هذا الإجراء بعد أن استشار الخليفة عثمان الصحابة، فكان ذلك إجماعا، ولم تكن الدقة في معرفة التركة وتعدد أنواعها وكونها غير مصفاة مانعا من ذلك. وهذا هو عين بيع الأسهم من الشركات سواء سميناه بيعا أو صلحا أو معاوضة.(4/505)
وموقف الشركة أخذ من قضية الإرث؛ ذلك أن مركز الشركة المالي يعرض كل عام في صورة ميزانية تنشر على أوسع نطاق، بحيث يتوفر الأخصائيون على دراستها وتحديد أصول الشركة وخصومها وتقييمها، وبالتالي تحديد مجموع رأس المال الموزع على الأسهم الصادرة عن الشركة والمتداولة بين أيدي المساهمين.
قال مفتي البلاد السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى: ورد إلينا استفتاء عن هذه الشركات المساهمة – كشركة الكهرباء والإسمنت والغاز ونحوها مما يشترك فيه المساهمون ثم يرغب بعضهم بيع شيء من سهامهم بمثل قيمتها، أو أقل أو أكثر، حسب نجاح تلك الشركة وضره، وذكر المستفتي أن الشركة عبارة عن رؤوس أموال بعضها نقد وبعضها ديون لها وعليها، وبعضها قيم ممتلكات وأدوات مما لا يمكن ضبطه بالرؤية ولا بالوصف، واستشكل السائل القول بجواز بيع تلك السهام؛ لأن المنصوص عليه اشتراط معرفة المتبايعين للبيع، كما أنه لا يجوز بيع الدين في الذمم، وذكر هذا مما عمت به البلوى.
والجواب: الحمد لله
لا يخفى أن الشريعة الإسلامية كفيلة ببيان كل ما يحتاج الناس إليه في معاشهم ومعادهم؛ قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . النحل:89.
والكلام على هذا مبني على معرفة حكم هذه الشركة ومساهمة الناس فيها، ولا ريب بجواز ذلك، ولا نعلم أصلا من أصول الشرع يمنعه وينافيه، ولا أحدا من العلماء نازع فيه.
إذا عرف هذا فإنه إذا كان للإنسان أسهم في أية شركة، وأراد بيع أسهمه منها، فلا مانع من بيعها بشرط معرفة الثمن، وأن يكون أصل ما فيه الاشتراك معلوما، وأن تكون أسهمه منها معلومة أيضا.
فإن قيل: إن منها جهالة لعدم معرفة أعيان ممتلكات الشركة وصفاتها.
فيقال: إن العلم في كل شيء بحسبه، فلابد أن يطلع المشتري على ما يمكن الاطلاع عليه بلا حرج ولا مشقة، ولابد أن يكون هناك معرفة عن حالة الشركة ونجاحها وأرباحها، وهذا مما لا يتعذر علمه في الغالب؛ لأن الشركة تصدر في كل سنة نشرات توضح فيها بيان أرباحها وخسارتها، كما تبين ممتلكاتها من عقار ومكائن وأرصدة، كما هو معلوم من الواقع، فالمعرفة الكلية ممكنة ولابد. وتتبع الجزئيات في مثل هذا فيه حرج ومشقة، ومن القواعد المقررة: أن المشقة تجلب التيسير.(4/506)
فإن قيل: إن في هذه الشركات نقودا أو بيع النقد بنقد، ولا يصح إلا بشرطه. كما أن للشركة ديونا في ذمم الغير، أو إن على تلك السهام المبيعة قسطا من الديون التي قد تكون على أصل الشركة، وبيع الدين في الذمم لا يجوز إلا لمن هو عليه بشرطه. فيقال: إن هذه من الأشياء التابعة التي لا تستغل بحكم، بل هي تابعة لغيرها، والقاعدة: أنه يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا. ويدل على ذلك حديث ابن عمر مرفوعا: ((من باع عبدا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع)) رواه مسلم.
فعموم الحديث يتناول مال العبد الموجود، والذي له في ذمم الناس، وهذه الشركات ليس المقصود منها موجوداتها الحالية، وإنما المقصود منها ما وراء ذلك، وهو نجاحها ومستقبلها وقوة الأصل في إنتاجها والحصول على أرباحها المستمرة. والله أعلم. اهـ. كلامه رحمه الله.
وبعد: فمعرفة الحكم الشرعي في حكم تأسيس الشركات وفي حكم المساهمة بها وحكم التعامل بها بيعا وشراء وغير ذلك أمر يهمنا في هذا الباب؛ فإن الكلام في حكم زكاتها فرع عن معرفة هذه الأحكام، وهنا يحكي لنا سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله الإجماع على جواز بيع سهامها، ويسند الدليل إلى عموميات الشريعة الإسلامية وتكفلها بتلبية البيان الشافي في أحوال الدنيا والآخرة.
ومن أصول الشريعة الإسلامية القاعدة الآتية:
الأصل في المعاملات والعادات الإباحة والجواز، ما لم يأت دليل يدل على حرمتها.
وبعد أن تصورنا الشركات وعرفنا أحكامها الشرعية من حيث التأسيس والإنشاء، ومن حيث التداول والتصرف بأسهمها بالبيع والشراء وسائر التصرفات، أمكننا أن نعطي الحكم عليها من حيث وجوب الزكاة من عدمه، ومن حيث قدر الزكاة فيها ومكان الوجوب من رأس مالها أو ربحها أو منها جميعا. ذلك فإن ما سبق من المقدمات واجب أمام البحث والحكم الشرعي. فإن في الزكاة عنصرين هامين في تحقيق وجود الزكاة في المال:
العنصر الأول: حله وطهارته؛ فإن الأموال المحرمة المكتسبة من طرق محرمة وبأسباب غير مشروعة يجب التخلص منها كلها نهائيا، ولا تطهرها الزكاة والصدقات؛ فإن الله طيب لا يقبل من الأعمال إلا طيبا. فالأموال المحرمة إن اكتسبت بطريق الظلم والغصب والاستيلاء بغير حق وجب ردها إلى أصحابها، وإن اكتسبت من خدمات محرمة ومعاملات فاسدة كالمنافع المحرمة والربا والغش فهذه يجب إعطاؤها الفقراء أو جعلها في المشاريع الخيرية ونحو ذلك.
العنصر الثاني: إن الزكاة مواساة بين الأغنياء والفقراء وبين أصحاب الأموال والمعدمين.
ومن هذا المنطلق فإن الزكاة لا تجب إلا في الأموال النامية من تجارة أو زراعة أو أنعام سائمة. وأما الأموال التي لا تنمو ولم تعد للنماء، فلا زكاة فيها، وذلك كأموال القنية من المساكن والمراكب والفرش والأواني والملابس ونحو ذلك، فهذه لا زكاة فيها، وسيأتي تفصيل في أنواع الشركات وما هو منها تجاري وما هو صناعي، ثم بيان طريق زكاتها
، هل الزكاة في أصل الأسهم والأرباح أو في الأرباح فقط؟(4/507)
تقدم أن بعض المساهمين يتخذ الأسهم للاتجار والتعامل بقصد الربح، وأن بعضهم يتخذها للاقتناء والكسب من غلاتها، لا للاتجار فيها. فأما القسم الأول: فهذا تعتبر الأسهم عنده عروض تجارة وتعامل في البورصة بالبيع والشراء، فيكون حكمها حكم عروض التجارة، فتؤخذ الزكاة منها بقدر قيمتها في نهاية العام الذي ملكت فيه، وذلك كل عام حينما يدور حولها.
وأما القسم الثاني: فإن الزكاة تؤخذ من أرباحها، وأما الأسهم نفسها فتعتبر كالعقار المعد للإيجار تكون الزكاة في إجارة دون رقبة العقار؛ لأن هذه الأسهم قد جعلت في الدرجة الأولى للاستثمار وتوظيف المال.
ما قدر زكاة الأسهم؟
عدد زكاة أسهم الشركات هو ربع العشر أي 2.5 %، سواء قصد مالكها باقتنائها الاستثمار والاستغلال، أو قصد في الدرجة الأولى التعامل بها في الأسواق المالية بالبيع والشراء واتخذها عروض تجارة؛ لأنها في القسم الأول تشابه العقار المعد للتأجير، وزكاة غلة العقار هي ربع عشر غلتها.
وتمثل في القسم الثاني عروض التجارة وزكاتها أيضا ربع العشر فيها كلها، وهذا كله على القول الراجح من أقوال العلماء، وهو قول الجمهور، والعمل عليه عند المسلمين، فكان أشبه شيء بالإجماع العملي.
أما الخلافات الأخرى في هذه المسألة فإنها لا تتجاوز بطون الكتب، فلم يجر فيها عمل، قال ابن مسعود رضي الله عنه: " الحسن ما عده المسلمون حسنا "(4/508)
كيف تزكي أسهم الشركات
تكوُّنُ هذه الشركات بهذه الأنظمة الجديدة لم تكن معروفة لدى فقهائنا القدامى، فإن الذي بحثها هم بعض علماء العصر، وصار لهم في زكاة أسهمها اتجاهان:
الأول: (1) اعتبارها عروض تجارة سواء كانت الشركة التي تملك الأسهم جزءا منها تجارية أو صناعية أو مزيجا منهما، وقد أصدر المشائخ: محمد أبو زهرة، وعبد الرحمن حسن، وعبد الوهاب خلاف تقريرا قدموه إلى (حلقة الدراسات الاجتماعية التي عقدتها الجامعة العربية في ديسمبر عام 1952م) عن وسائل التكافل الاجتماعي في الدول العربية، والذي ورد فيه أن الزكاة تتحقق الآن في أموال لم تكن معروفة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد الصحابة، ولا في أيام الاستنباط الفقهي.
واقترحوا أن الزكاة تؤخذ منها. ووافقت على ذلك الحلقة.
وأوصت به في مؤتمرها، هذه الأموال هي:
1- الآلات الصناعية.
2- الأوراق المالية.
3- كسب العمل والمهن الحرة.
4- الدُّور والأماكن المستغلة.
وقالوا في إسناد رأيهم: وقد اتفق الفقهاء على النصوص الواردة في الزكاة من حيث أموالها معللة، وليست أمورا تعبدية، ولم يقم دليل على أنها تعبدية.
ثم عرج التقرير على تقسيم الفقهاء للأموال من حيث نماؤها، من أن الأموال:
1- قسم منها يقتنى لإشباع الحاجات الشخصية؛ كالدور المخصصة لسكنى أصحابها، فهذه لا زكاة فيها.
2- وقسم ثان يقتنى للنماء والاستغلال، فهذا تجب زكاته.
3- وقسم ثالث يتردد بين إشباع الحاجات الشخصية والنماء؛ كالحلي. واختلف العلماء في زكاته.
فمن رأى أن فيه نماء أوجب فيه الزكاة، ومن رأى لا نماء فيه أعفاه. وهذا التقسيم ينتهي بنا لا محالة إلى أن ندخل في أموال الزكاة أموالا في عصرنا مغلة نامية بالفعل لم تكن معروفة بالنماء والاستغلال في عصر الاستنباط الفقهي.
وهي وسيلة استغلالية لصاحبها، مثل صاحب مصنع كبير يستأجر العمال لإدارته، فإن رأس ماله للاستغلال هو تلك الأدوات الصناعية، فهي بهذا الاعتبار تعد مالا ناميا؛ إذ الغلة التي تجيء إليه من هذه الآلات، فلا تعد كأدوات الحداد أو أدوات النجار الذي يعمل بيده، ولهذا نرى أن الزكاة تجب في هذه الأدوات باعتبارها مالا ناميا، وليس من الحاجات التي تعد لإشباع الحاجات الشخصية بذاتها، وإذا كان الفقهاء لم يفرضوا زكاة في أدوات الصناعة في عصورهم، فلأنها كانت أدوات أولية، فلم تعتبر مالا ناميا منتجا بذاتها، إنما الإنتاج فيها للعامل، أما الآن فإن المصانع تعد أدوات الصناعة نفسها مالا. اهـ.
__________
(1) يلاحظ أني عكست الاتجاهين، فالأول عند القرضاوى وغيره ممن اطلعت على كتبهم ونقلت منها هو الثاني عندي. ذلك أن الأول عندهم هو الذي أناقشه وأقرر فيه ما أعتقد صحته وسلامته من الاعتراضات، لذا أخرته فجعلته الثاني اهـ. عبد الله البسام(4/509)
قال الشيخ القرضاوى: فيرى الأساتذة: أبو زهرة، وعبد الرحمن حسن وخلاف: أن الأسهم أموال قد اتخذت للاتجار، فإن صاحبها يتجر فيها بالبيع والشراء، ويكسب منها كما يكسب كل تاجر من سلعته، فهي بهذا الاعتبار من عروض التجارة، ويلاحظ فيها ما يلاحظ في عروض التجارة.
ومعنى هذا: أن يؤخذ منها في آخر كل حول ربع العشر أي 2.5 في المائة من قيمة الأسهم، حسب تقديرها في الأسواق، مضافا إليها الربح، بشرط أن يبلغ الأصل والربح نصابا، أو يكملا مع ما عنده نصابا، كما أنه يجب أن يعفى مقدار الحاجات الأصلية، ويعتبر الحد الأدنى للمعيشة بالنظر لصاحب الأسهم الذي ليس له مورد رزق غيرها، ويزكي باقي الربح مع رأس المال.
ولعل هذا الاتجاه والإفتاء بمقتضاه أوفق بالنظر إلى الأفراد، بخلاف الاتجاة الآتي وما فيه من تفرقة بين أسهم شركة وأسهم شركة أخرى، فبعضها تؤخذ الزكاة في إيرادها، وبعضها تؤخذ زكاته حسب قيمتها مضافا إليها الربح.
هذا أحد الاتجاهين لزكاة أسهم الشركات.
أما الاتجاه الثاني:
فقد قال الشيخ يوسف القرضاوى مايلي:
ينظر إلي هذه الأسهم تبعا لنوع الشركة التي أصدرتها: أهي صناعية أم تجارية أم مزيج منهما، فلا يعطى السهم حكما إلا بعد معرف الشركة التي يمثل جزءا من رأس مالها؟
وبناء عليه يحكم بتزكيته أو بعدمها.(4/510)
قال الشيخ عبد الرحمن عيسى:
قد لا يعرف كثير ممن يملكون أسهم الشركات حكم زكاة هذه الأسهم، وقد يعتقد بعضهم أنها لا تجب زكاتها، وهذا خطأ، وقد يعتقد البعض وجوب الزكاة في أسهم الشركات مطلقا، وهذا خطأ أيضا.
وإنما الواجب النظر في هذه الأسهم تبعا لنوع الشركة التي أصدرتها، فإن كانت الشركة المساهمة شركة صناعية محضة، فلا تمارس عملا تجاريا كشركات الصباغة وشركات الفنادق وشركات النقل، فلا تجب الزكاة في أسهمها؛ لأن قيمة هذه الأسهم موضوعة في الآلات والأدوات والمباني، وما يلزم الأعمال التي تمارسها، وإنما الذي يزكي ما ينتج ربحا لهذه الأسهم إذا بلغ نصابا، وحال عليه الحول بعد نتاجه.
وإن كانت الشركة تجارية محضة تشتري البضائع وتبيعها بدون إجراء عمليات تحويلية على هذه البضائع؛ كشركة الاستيراد وشركة التجارة الخارجية، أو كانت الشركة المساهمة شركة صناعية تجارية، وهي الشركات التي تستخرج المواد الخام أو تشتريها ثم تجرى عليها عمليات تحويلية ثم تتجر فيها، مثل: شركات البترول، وشركات الغزل والنسيج للقطن والحرير، وشركة الحديد والصلب، والشركات الكيماوية، فهذان النوعان من الشركات تجب الزكاة في أسهمها.
فمدار وجوب الزكاة في أسهم الشركات أن تكون الشركة تمارس عملا تجاريا، سواء معه صناعة أم لا!
وحينئذ فتخصم قيمة المباني والآلات والأدوات المملوكة لهذه الشركات وتجب الزكاة في الباقي. ويمكن معرفة صافي قيمة المباني والآلات والأدوات بالرجوع إلى ميزانية الشركة التي تحصى كل عام.
وهذا الاتجاه مبني على أن المصانع والعمائر الاستغلالية كالفنادق والسيارات ونحوها ليس فيها زكاة كلها، لا في رأس المال والربح معا، ولا في الغلة والإيراد، إلا إذا بقي منها شيء وحال عليه الحول.
وعلى هذا فرق بين الشركات الصناعية وبين غيرها من الشركات، فأعفى أسهم الأولى من الزكاة، وأوجب في الأخرى.
فإذا كان هناك شخصان يملك كل منهما ألف دينار، فاشترى أحدهما بألفه مئتي سهم من شركة للاستيراد والتصدير مثلا. واشترى الثاني بألفه مئتي سهم في شركة الطباعة والكتب أو الصحف، فإن على الأول أن يخرج الزكاة عن أسهمه المئتين، وما جلبت إليه من ربح أيضا في رأس كل حول، مطروحا من ذلك قيمة الأثاث ونحوه، كما هو الشأن في مال التجارة.
وأما الثاني فليس عليه زكاة عن أسهمه المئتين؛ لأنها موضوعة في أجهزة وآلات ومبان ونحوها، ولا زكاة فيما يأتي من ربح إلا إذا بقي إلى رأس الحول وبلغ نصابا بنفسه أو بغيره، فإذا أنفقه قبل الحول فلا شيء عليه.(4/511)
ثم إن الشيخ القرضاوي لمن يعجبه هذا الرأي فعقب عليه بقوله:
وبهذا يمكن أن تمضي أعوام على مثل هذا الشخص دون أن تجب عليه زكاة، لا في أسهمه ولا في أرباحه، بخلاف الشخص الأول فالزكاة واجبة عليه لزوما في كل عام عن أسهمه وعن أرباحها معا.
وهي نتيجة يأباها عدل الشريعة التي لا تفرق بين متماثلين، إن التفريق بين الشركات الصناعية أو شبه الصناعية وبين الشركات التجارية بحيث تعفى الأولى من الزكاة وتجب في الأخرى تفرقة ليس لها أساس ثابت من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، ولا وجه لأخذ الزكاة عن الأسهم إذا كانت تجارية وإسقاطها عنها إذا كانت في شركة صناعية، والأسهم هنا وهناك رأس مال نام يدر ربحا سنويا متجددا، وقد يكون ربح الثانية أعظم وأوفر.
هذا ما قرره الشيخ يوسف القرضاوي واختاره، وأريد هنا أن أعقب على هذا الرأي الذي استهجنه الأستاذ القرضاوي ورأى أن الشريعة تأباه وأنه لا يوجد له سند من مصادر التشريع والكتاب والسنة والإجماع والقياس. وسأناقشه مناقشة أقصد منها الحق إن شاء الله تعالى، وأعطي هذا الموضوع الجديد حقه في التوضيح والبيان، فأقول:
يوجد في مشروعية الزكاة ثلاثة أصول قد اتفق عليها الفقهاء وبنوا عليها أحكام الزكاة، من حيث وجوبها في المال أو عدمه، ومن هؤلاء العلماء الشيخ يوسف القرضاوي الذي هو الآخر يقررها ويبني عليها ما ذكره في كتابه (فقه الزكاة) ، ويحتج بهذه الأصول على ساحة المسائل التي تبنى عليها.
وهذه الأصول الثلاثة هي:
الأول: أن الزكاة لا تجب في أدوات القنية، ولا تجب في أدوات صاحب البضاعة والحرفة التي يستعملها في صناعته.
الثاني: أن الزكاة لا تجب في مال حتى يحول عليه الحول، وحول كل شيء بحسبه، وإذا لم يحل الحول على المال فلا تجب فيه الزكاة.
الثالث: أن الزكاة مبنية على المساواة بين الفقير والغني، فتجب مراعاة كل منهما بحسب ما يفهم من أحكام الشريعة وحكمة تشريعها.
فهذه ثلاثة أصول هي أسس تبنى عليها أحكام الزكاة.(4/512)
وتوضيح الأصل الأول بخصوص مباني الشركات ومعداتها الثقيلة والخفيفة، فهذه الأدوات قد أعفاها فقهاؤنا السابقون من الحداد والنجار والبناء ونحوهم، وتضخمها وزيادة حجمها وكثرة إنتاجها لا يغير من حكمها شيئا، فهي باقية على أصلها، وأحكام الشريعة تبقى على أصولها الأولى ما دامت هي هي، فقطع المسافات البعيدة بالسيارات والطائرات لا يغير شيئا من أحكام رخص السفر، وتنوع النفقات وتبدل أشكالها من المطاعم والملابس والمساكن لا يغير شيئا من حكم النفقة.
وهكذا فإن تغيير أدوات صاحب الصناعة وصاحب العمل لا يغير شيئا مما يجب عليه أو لم يجب، بل الأمور باقية على أصولها.
ثم إن هذه المباني المستعملة إما لمكاتب الشركات إما لحفظ أدواتها، وهذه المعدات الثقيلة والخفيفة وأجهزة الغيار وتلك الأدوات المرصودة لاستهلاكات أعمال الشركات ما هي إلا أشياء قائمة على خدمة الشركات وإمدادها بما تحتاجه مما يستهلك ويذهب أو ينقص ثم يتلف شيئا فشيئا، وإما عمائر معطلة النفع والفائدة لحساب أعمال الشركة والقائمين عليها والعاملين فيها.
وبهذا فإن ربح الشركة الصناعية ما هي إلا ثمرة تلك الأدوات من تالف مستهلك، ومن قائم معطل لأعمال الشركة ومشغول لصالحها ومتناقص ذاتا وقيمة فيما يعود عليها. فالأرباح والمكاسب هي نتائج هذه الأدوات، فكيف تقوم مع الأرباح في إخراج الزكاة.
وبهذا يظهر لنا أن أدوات الشركات الصناعية قد أدت خدمتها في تنمية الشركة، وأن ما حصل من ربح هو نتيجة وجودها واستعمالها. وإن وجوب الزكاة في ربح الشركة الصناعية فقط دون معداتها وأدواتها هو الذي يتفق والقياس الصحيح.(4/513)
أما الأصل الثاني:
وهو أن الزكاة لا تجب في مال حتى يحول عليه الحول. وحول ما يستجد من النقود هو تمام اثني عشر شهرا هلالية عليها.
وقد تقرر لدينا أن الزكاة في ربح الشركة الصناعية فقط دون أدواتها ومعداتها. فإن الربح يحسب ابتداء حوله من حصوله وقبضه. وقبل ذلك في عداد المعدوم، فإذا حصل بيد مالكه ابتدأ به الحول، فإذا حال عليه الحول زكاه وقبل ذلك لا تجب فيه الزكاة، وقد اختلف الفقهاء في إخراج زكاة العمائر المعدة للإيجار، هل هو من حين قبض الأجرة إذا دار عليها الحول أو من تاريخ عقد الإيجار ممن اعتبر الأجرة واجبة من حين العقد أو وجب فيها الزكاة من حين مرور العام من عقد الإجارة، ومن لم ير استقرار الأجور في الذمة إلا بعد فراغ مدة الإجارة جعل حول الزكاة من فراغ المدة وقبض الأجرة. والذي عليه الجمهور أن حولها يبتدئ أوله من قبضها وفراغ مدة الإجازة؛ لأنه قبل ذلك غير مستقر وقابل للسقوط، فثبوت ملكه مراعى.
وبهذا فإن ابتداء الحول في ربح أسهم الشركة الصناعية يكون ابتداؤه من قبضه هو المتمشي مع أصول الزكاة وقواعدها، وهو الذي ينطبق عليه كلام فقهائنا حين تدوين الفقه وتحرير مسائله.
لا ما ظنه الأستاذ القرضاوي من جمعه بين الشركة الصناعية والشركة التجارية في حكم واحد في تحديد مواعيد الزكاة، مع ما بين الشركتين من بون شاسع في القصد والعمل والاتجاه في التثمير.
والتفريق بينهما في الأحكام تابع للفروق التي بينهما في القصد والاتجاه والعمل والشريعة الإسلامية، كما إنها لا تفرق بين متماثلين، كذلك لا تجمع بين الضدين، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.
أما الأصل الثالث: وهو بناء الزكاة على المساواة بين الفقراء وإخوانهم الأغنياء، فهذا أصل عظيم، وهو روح الزكاة ولب أحكامها.
وبناء عليه فإن المساهم في الشركة الصناعية أحد رجلين إما صاحب رأس مال كبير، وصاحب أسهم وفيرة، فهذا سيقبض أرباح أسهمه وسيأتي عليها الحول وهي عنده ثم يزكيها بعد أن حال عليها الحول بعد قبضها وتم الحول عليها، وتمام الحول أحد الشروط الأساسية في وجوب الزكاة.
فهذا سيزكي ربح أسهمه كل عام، وليس كما توهمه الأستاذ القرضاوي من أن سيمضي عليه أعوام دون أن تجب عليه الزكاة، لا في أسهمه ولا في أرباحها، فصاحب رأس المال الكبير سيأتي العام وعنده ماله ثم يخرج زكاته منه في موعده المحدد شرعا، وهو تمام الحول عليه، أما قبل تمام الحول فلا يجب عليه إخراجه إلا إذا أراد أن يتطوع بتعجيل زكاته، فذلك أمر راجع إلى اختياره، وإلى وجود المصلحة من عدمها في التعجيل.(4/514)
أما الرجل الآخر، وهو صاحب الدخل المحدود، والذي أرباح أسهمه بقدر نفقته ونفقة أولاده، فهذا إذا قبضه وأنفقه على نفسه وعلى من يمون فليس ممن تجب عليه الزكاة؛ لأن مورده من الرزق بقدر ما وجب عليه من النفقات، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وإن نصوص الشريعة جاءت بمثل هذا؛ فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) : ((دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك))
وجاء في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا أجرت عليها، حتى ما تجعله في في امرأتك)) . وجاء في الصحيحين أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا انفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي له صدقة)) .
وبناء عليه فصاحب الأسهم القليلة إذا قبض ربح أسهمه ثم أنفقها على نفسه وعلى أهله، ثم لم يحل عليها الحول حتى أكلتها النفقة، فلا حرج عليه؛ لأنه ليس من أصحاب الثراء الذين قصروا في أداء الواجب الزكاة، وإنما زكاته ونفقاته فيمن يعول وهو مثاب أن كفى المسلمون مؤونة نفسه وأهله. وليس في عدم وجوب الزكاة على مثل هذا خطر كبير يهدد بمنع الزكاة، فهذا قد اتقى الله ما استطاع فأنفق ما وجد من الربح على من عنده من المحتاجين.
والأستاذ القرضاوي نفسه قال في كتابه (فقه الزكاة) جزء (1) ص 151: ومن الفقهاء من أضاف إلى شرط النماء في المال أن يكون النصاب فاضلا عن الحاجة الأصلية لمالكه. ومن الفقهاء من اعتبر شرط النماء مغنيا عن هذا الشرط.
والحق أن شرط النماء لا يغني عن هذا الشرط.
والمعتبر هنا: أن الحاجات الأصلية للتكلف بالزكاة من يعوله من الزوجة والأولاد مهما بلغ عددهم والوالدين والأقارب الذين تلزمه نفقتهم؛ فإن حاجتهم من حاجته، وبهذا الشرط سبق الفقه الإسلامي أحدث ما وصل إليه الفكر الغربي الحديث الذي نادى بإعفاء الحد الأدنى للمعيشة من الضريبة. اهـ كلام الشيخ القرضاوي.(4/515)
ونحن نؤيده فيما قال هنا.
ولكن لماذا كبر عليه أن صاحب الأسهم القليلة الذي لا يحول الحول إلا وقد أنفق ربحها على نفسه وعلى من يمونه من زوجة وأقارب. إن ربح الأسهم القليلة هي الحد الأدنى لمعيشته، وأداء شعيرة الزكاة ليست واجبة عليه ولا على أمثاله من ذوي الدخل المحدود.
أما أصحاب المساهمات الكبيرة فليطمئن الشيخ القرضاوي أن أرباح أسهمهم ستبقى، وقد تنمى أيضا حتى يحول عليها الحول وتزكى ويزكى معها نماؤها.
وهذا كله في أسهم الشركات الصناعية، أما الشركات التجارية فلا خلاف في كيفية تزكيتها؛ لأن مبناها على التجارة، فهي عروض تجارة.
وبعد: فالذي أراه هو ما قاله الجمهور من الفرق بين الشركات التجارية والشركات الصناعية، فالأولى وجوب الزكاة في عمومها؛ أي: في رأس مالها وأرباحها إذا حال عليها الحول وابتداء حولها من ملك المساهم فيها نصاب الزكاة.
وأما الشركات الصناعية فتكون الزكاة في أرباحها إذا حال عليها الحول بعد قبضها، ويشترط بلوغ نصاب الزكاة لكل مساهم، فمن لم تبلغ أسهمه نصاب الزكاة، فإنها لا تجب عليه ذلك، أن الخلطة في الأموال لا تؤثر إلا في زكاة بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، وأما ما عداها من أموال الزكاة فلا تؤثر فيها الخلطة، فكل مال معلق بصاحبه فقط، فلو فرضنا أن كل أسهم مساهم لا تبلغ نصاب الزكاة في كل أموال الشركة فإن الزكاة لا تجب فيها. وهي فروض بعيدة إذا علمنا أن نصاب الزكاة هو 56 ريالا سعوديا، أو ما يعادله من أية عملة أو عرض تجارة.
ما الذي يقدر من قيمتي السهم؟
إذا كانت الأسهم معدة للتجارة والتقليب في البيع والشراء فهذه أسهم تعتبر عروض تجارة، فتزكى زكاة العروض، ولدينا - غالبا - قيمتان للسهم:
إحداهما: قيمة الإصدار الرسمية.
الثانية: قيمة السوق للأوراق المالية.
فالزكاة تكون لقيمة السهم في سوق الأوراق المالية، سواء كانت زائدة عن قيمة الإصدار، أو ناقصة، أو مساوية. فهذه القيمة السوقية هي التي تقدر بها قيمة السهم لإخراج زكاته، وتزيد وتنقص حسب العرض والطلب؛ لأننا اعتبرنا هذه الأسهم عروض تجارة.
وهذا هو الحكم في عروض التجارة عند تقدير قيمها في إخراج زكاتها.
هذا ما تيسر بحثه، ونسأل الله تعالى أن يلهمنا السداد والصواب، وأن يجنبنا الخطأ والزلل.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
21/2/1406هـ. عبد الله بن عبد الرحمن البسام(4/516)
زكاة الأسهم في الشركات
إعداد
فضيلة أ. دكتور وهبه مصطفى الزحيلي، أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله بجامعة دمشق، والمعار حاليا إلى جامعة الإمارات ـ كلية الشريعة والقانون
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فهذا بحث في زكاة الأسهم في الشركات.
سبب وجود التعامل بالأسهم والسندات:
إن الإنسان حريص دائما على تحقيق الأرباح وابتغاء فضل الله من خلال التجارة الفردية أو الخاصة، والجماعية أو العامة، وذلك عملا بترغيب الشريعة واستجابة لحب النفس الفطري في تنمية المال واستثماره؛ كيلا تأكله الصدقة، وتستأصل الزكاة أصل رأس المال مع مرور السنوات والأعوام.
وقد لا يتمكن رأس المال الخاص في الغالب من تمويل المشروعات الصناعية والزراعية والتجارية الكبرى، التي تحتاج إلى رؤوس أموال ضخمة، كالشركات المساهمة التي تتطلب أموالا كثيرة لوجودها، فظهر في العصر الحديث طريقة تجزئة رأس المال الكبير بواسطة ما يسمى بالأسهم التي تطرح في الحياة الاقتصادية، وتسدد قيمتها من مئات أو آلاف الناس.
وقد تحتاج الشركة القائمة إلى الاقتراض من الأفراد، فتلجأ إلى ما يسمى بالسندات في مقابل دفع فائدة مقطوعة معينة.
وكل من الأسهم والسندات تسمى في العرف الاقتصادي الحديث بالأوراق المالية، التي يتداولها الناس عامة فيما بينهم، إما بواسطة الإعلان في الجرائد أو الصحف اليومية، وإما في أسواق خاصة تسمى بورصات الأوراق المالية.
وقد تساءل الناس منذ ظهور الشركات المساهمة من أكثر من أربعين عاما عن حكم التعامل بالأسهم والسندات حلا وحرمة، وعن حكم الزكاة الواجبة فيها، ومن تجب عليه الزكاة؟ وأفتى علماء العصر بفتاوى متشابهة في مشروعية التعامل بالأسهم وحرمة التعامل بالسندات، لما تشتمل عليه من الربا بسبب دفع فائدة مقطوعة على مبالغ الديون المدونة فيها. واختلفوا في نسبة الواجب في الزكاة أهي ربع العشر أم العشر؟ كما اختلفوا فيمن تجب عليه زكاة الأسهم، أهو مالك السهم أم الشركة؟ ولكنهم اتفقوا على وجوب الزكاة على كل من الأسهم والسندات إذا بلغت قيمتها النصاب الشرعي، وإن اختلطت السندات بالحرام وصاحبها الربا وخبث الكسب؛ لأن الحرمة المصاحبة لجزء من المال لا تمنع من فرض الزكاة، بل إنه على العكس لا سبيل إلى التخلص من المال الحرام إلا بالصدقة به.(4/517)
تعريف الأسهم والسندات:
الأسهم: عبارة عن صكوك متساوية القيمة، غير قابلة للتجزئة، وقابلة للتداول بالطرق التجارية، وتمثل حقوق المساهمين في الشركات التي أسهموا في رأس مالها.
فالسهم يمثل جزءا من رأس مال الشركة، وصاحبه مساهم، والأسهم تتصف بالخصائص التالية: (1)
أـ أنها متساوية القيمة الاسمية: فلا يجوز إصدار أسهم بقيمة مختلفة، والقيمة المتساوية هي القيمة الاسمية التي يصدر بها السهم، والتي يحددها القانون بنسبة تتراوح في بعض البلاد، كالإمارات، بين درهم ومائة درهم.
والقيمة الاسمية للسهم تختلف عن كل من قيمته التجارية والحقيقية، فالقيمة الاسمية هي القيمة المبينة في الصك والتي تدون عليه، ويحسب على أساسها مجموع رأس مال الشركة.
أما القيمة التجارية: فهي قيمة السهم في السوق أو البورصة، وهي قيمة متغيرة حسب العرض والطلب وأحوال السوق وسمعة الشركة وسلامة مركزها المالي.
وأما القيمة الحقيقية للسهم فهي القيمة المالية التي يمثلها السهم فيما لو تمت تصفية الشركة وتقسيم موجوداتها على عدد الأسهم.
ب ـ أنها غير قابلة للتجزئة: أي لا يمكن أن تتمثل في صورة كسور حين يتعدد مالكو السهم في مواجهة الشركة.
ج ـ أنها قابلة للتداول بالطرق التجارية: أي يمكن انتقال ملكية الأسهم من شخص إلى آخر بالطرق التجارية المعروفة، ودون ما حوالة مدنية من قبل الشركة.
وإن كان السهم إذنيا (أي يصدر لإذن أو أمر المساهم) فإن تداوله يتم بطريق التظهير.
وإن كان السهم لحامله (أي يصدر من دون ذكر صاحبه) فإن تداوله يتم بمجرد التسليم؛ أي: المناولة اليدوية.
ومعظم القوانين تستلزم أن تصدر الأسهم اسمية وبعضها يجيز إصدار الأسهم لحاملها بشروط.
__________
(1) انظر الشركات التجارية للدكتور حسين غنايم: ص 189 وما بعدها(4/518)
والخلاصة: أن الأسهم تمثل حصصا في شركة أموال.
أما السندات فهي جمع سند، والسند صك مالي قابل للتداول، يمنح للمكتتب لقاء المبالغ التي أقرضها، ويخوله استعادة مبلغ القرض، علاوة على الفوائد المستحقة، وذلك بحلول أجله. وبعبارة أخرى: السند: تعهد مكتوب بمبلغ من الدين (القرض) لحامله في تاريخ معين، نظير فائدة مقدرة.
والسند يشبه السهم من حيث وجود قيمة اسمية لكل منهما، ومن حيث قابليتها للتداول بالطرق التجارية، وعدم قابليتها للتجزئة.
والفارق الأساسي بين السهم والسند: أن السهم يمثل حصة في الشركة، بمعنى أن صاحبه شريك، في حين أن السند يمثل دينا على الشركة، أو يمثل جزءا من قرض على شركة أو دولة، بمعنى أن صاحبه مقرض أو دائن.
وبناء عليه، يحصل صاحب السهم على أرباح حين تحقق الشركة أرباحا فقط، أما صاحب السند فيتلقى فائدة سنويا، سواء ربحت الشركة أم لا.
وتكون الأسهم في الغالب اسمية، ضمانا لرقابة الدولة على حاملي الأسهم، أما السندات فتكون إما اسمية أو لحاملها.
التعامل بالأوراق المالية التجارية:
التعامل بالأسهم جائز شرعا؛ لأن أصحاب الأسهم شركاء في الشركة بنسبة ما يملكون من أسهم عشرة أو عشرين أو مائه مثلا، أما التعامل بالسندات فحرام شرعا؛ لاشتمالها على الفائدة الربوية المقطوعة، بغض النظر عن الربح والخسارة، فهي قروض بفائدة، وقد جاء في المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي بالكويت عام 1403هـ/1983م أن ما يسمى بالفائدة في اصطلاح الاقتصاديين الغربيين ومن تابعهم هو عين الربا المحرم شرعا، وجاء في الاجتماع الأول للفتوى والرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية بالقاهرة عام 1403هـ/1983م أنه بإجماع الآراء لا يصح للبنك الإسلامي استثمار جزء من أمواله في شراء أسهم الشركات التي لا يكون هدفها التعامل بالربا، لكن موارد تلك الشركات ونفقاتها تشتمل على فوائد مدفوعة وفوائد مقبوضة.(4/519)
زكاة السندات:
أشير فقط إلى حكم زكاة السندات؛ لأنه ليس من موضوع بحثي، فأقول: بالرغم من تحريم السندات فإنه تجب زكاتها؛ لأنها تمثل دينا لصاحبها، وتؤدى زكاتها عن كل عام؛ عملا برأي جمهور الفقهاء غير المالكية؛ لأن الدين المرجو (وهو ما كان على مقر موسر) تجب زكاته في كل عام. وشهادات الاستثمار أو سندات الاستثمار هي في الحقيقة سندات، وتجب فيها الزكاة، وإن كان عائدها خبيثا وكسبها حراما، وتزكى السندات كزكاة النقود أو عروض التجارة أي بنسبة 2.5 % من قيمتها
؛ وذلك لأن تحريم التعامل بالسندات لا يمنع من وجود التملك التام، فتجب فيها الزكاة، أما المال الحرام كالمغصوب والمسروق ومال الرشوة والتزوير والاحتكار والغش والربا ونحوها، فلا زكاة فيه؛ لأنه غير مملوك لحائزه، ويجب رده لصاحبه الحقيقي؛ منعا من أكل الأموال بالباطل، فإن بقي في حوزة حائزه وحال عليه الحول، ولم يرد لصاحبه، فتجب فيه زكاته؛ رعاية لمصالح الفقراء.
زكاة أسهم الشركات:
يتناول هذا الموضوع بحث أمور ثلاثة: هي وجوب الزكاة في الأسهم والنسبة أو المقدار الواجب إخراجه ومن تجب عليه الزكاة أهو صاحب السهم أم الشركة؟
أراء العلماء المعاصرين في زكاة الأسهم:
من الطبيعي أنه ليس للعلماء القدامى رأي في زكاة الأسهم؛ لأنه موضوع معاصر حديث، وإنما تكلم فيه العلماء المعاصرون ولم أجد كلام واحد منهم صوابا شاملا فيما اجتهد فيه، وإنما وجد جانبا من الصواب، والحق في كل اجتهاد، فلكل عالم بحث هذا الموضوع إصابة في جهة وخطأ في جهة أخرى، وسأعرض هذه الآراء وأبين مدى الإصابة والخطأ فيها، ثم أذكر رأيي نهائيا في الموضوع:(4/520)
1ـ رأي الشيخ عبد الرحمن عيسى:
يقسم الشيخ عبد الرحمن عيسى في كتابه " المعاملات الحديثة وأحكامها" الأسهم إلى نوعين بحسب موضوع استثمارها: (1)
أـ أسهم الشركات الصناعية
ب ـ أسهم الشركات التجارية
أما أسهم الشركات الصناعية المحضة التي لا تمارس عملا تجاريا كشركات الصباغة وشركات التبريد، وشركات الفنادق، وشركات الإعلانات، وشركات السيارات، والترام، وشركات النقل البري والبحري، وشركات الطيران، فلا تجب الزكاة فيها، إلا فيما تنتجه هذه الأسهم من ربح يضم إلى مال المساهم ويزكيه معها زكاة المال بعد مضي الحول عليه وبلوغه النصاب الشرعي؛ لأن قيمة هذه الأسهم موضوعة في الآلات والإدارات والمباني ونحوها.
وأما أسهم الشركات التجارية وهي التي تشترى البضائع وتبيعها كشركات التجارة الخارجية، وشركات الاستيراد والتصدير، وشركات بيع المصنوعات الوطنية، أو التي تقوم بتصنيع بعض المواد الخام أو تشتريها مثل شركات البترول وشركات الغزل والنسيج، وشركات الحديد والصلب، والشركات الكيماوية، فتجب الزكاة فيها؛ لأنها تمارس عملا تجاريا، سواء معه صناعة أو لا، وتقدر الأسهم بقيمتها الحالية بعد حسم قيمة المباني والآلات والأدوات المملوكة لهذه الشركات، وتقدر هذه القيمة للأصول الثابتة إما بالربع أو أكثر أو أقل.
وهذا يعني أن الشركات التجارية المحضة تجب زكاة أسهمها بحسب قيمتها التجارية في الأسواق، مع أرباحها المقررة لها في نهاية العام، كزكاة العروض التجارية بنسبة 2.5 % إذا كان أصل رأس المال والربح نصابا شرعيا، والزكاة على المحل التجاري من حيث البناء والتجهيزات التي فيه.
__________
(1) وقد ذكر الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي ذلك في كتابه "فقه الزكاة": 1/23 وما بعدها، وكذلك الدكتور خليفة بابكر الحسن في كتابه "بحوث ودراسات إسلامية" ص:101(4/521)
أما الشركات الصناعية- التجارية كشركات السكر والنفط والمطابع وصناعة السفن والطائرات والسيارات، فتقدر الأسهم بقيمتها التجارية الحالية، مع حسم قيمة المباني والآلات وأدوات الإنتاج.
وهذا الرأي متفق مع المقرر في المذاهب الأربعة، وهو أن المصانع والعمارات الاستغلالية لا زكاة فيها، وإنما الزكاة على أرباحها السنوية إذا بلغت النصاب الشرعي وحال الحول عليها (أي: مضى عام عليها في يد صاحبها) ، وهو الرأي الذي أخذ به مجمع الفقه الأسلامي في جدة في دورته الثانية لعام 1406هـ /1985، وقرر فقهاء المذاهب أنه لا زكاة على سلاح الاستعمال وكتب العالم وآلات المحترفين؛ لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية، ولسيت بنامية أصلا، وسبب الزكاة ملك النصاب النامي ولو تقديرا بالقدرة على الاستنماء.وجاء في المعيار المعرب 1/402 لأبي العباس الونشريسي:
وسئل عن الصناع يمر عليهم الحول، وبأيديهم من مصنوعاتهم ما إذا قوموها وأضافوها إلى مالهم من النقد اجتمع فيه نصاب، هل يجب عليهم التقويم؟ ويزكون ما حضر بأيديهم أم لا؟ فأجاب بأن قال: الحكم في ذلك أن الصناع يزكون ما حال الحول على أصله من النقد الذي بأيديهم إذا كان نصابا، ولا يقومون صناعاتهم ويستقبلون بأثمانها الحول؛ لأنها فوائد كسبهم استفادوها وقت بيعهم، إلا أن ما وضع فيه الصانع صناعته، من جلد أو خشب أو حديد أو نحو ذلك، يقومه المدير بعيدا من الصناعة إذا كان اشتراه للتجارة.
وهي فتوى في غاية الدقة والتيسير على الصناع، كصناعة الأحذية والمفروشات والخزائن الحديدية ونحوها.
وإني لمؤيد رأي الشيخ عبد الرحمن عيسى المذكور آنفا، مع ملاحظة إيجاب الزكاة على الشركات الصناعية، إذا كانت منتوجاتها تجارية، معدة للبيع أو التصدير، بعد استقطاع قيمة الآلة والبناء، فالمطابع مثلا تزكي كل ما تنتجه في آخر العام من أوراق وكتب مملوكة لها؛ كما تزكي أرباحها المستفادة من أجور طبع ما تطبعه لحساب المتعاملين معها، وتحسم قيمة آلة الطباعة وآلة التجليد ونحوهما من مجموع رأس المال.(4/522)
لكن الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي لم يرتض هذا الرأي وأوجب الزكاة في أسهم الشركات جميعها، صناعية وتجارية، وقال عن تفرقة الشيخ عبد الرحمن عيسى بين نوعي الأسهم: هي نتيجة يأباها عدل الشريعة التي لا تفرق بين متماثلين. ثم استصوب الرأي الثاني للأستاذ الشيخ محمد أبي زهرة ومن وافقه الذي لا يفرق بين نوعي الأسهم تبعا لنوع شركاتها، ورأى أنه أوفق بالنظر إلى الأفراد، وأيسر في الحساب، ثم قال: بخلاف ما إذا قامت دولة مسلمة وأرادت جمع الزكاة من الشركات، فقد أرى الاتجاه الأول (رأي الشيخ عيسي) أولى وأرجح، والله أعلم. (1)
2- رأي الأساتذة عبد الوهاب خلاف ومحمد أبي زهرة (2) : يرى هؤلاء الأساتذة أن الأسهم والسندات- الأوراق المالية- إذا كانت قد اتخذت للتجارة، فإنها تكون عروضا تجارية، يجب فيها ما يجب في عروض التجارة من زكاة أي 2.5 %، وتكون الزكاة ربع العشر من الأصل والنماء، على حسب ما قرره جمهور الفقهاء.
ورجح الدكتور القرضاوي هذا الاتجاه قائلا: ولعل هذا الاتجاه والإفتاء أوفق بالنظر إلى الأفراد من الاتجاه الأول، فكل مساهم يعرف مقدار أسهمه ويعرف كل عام أرباحها، فيستطيع أن يزكيها بسهولة، بخلاف الاتجاه الأول وما فيه من تفرقة بين أسهم في شركة، وأسهم في أخرى، فبعضها تؤخذ الزكاة من إيرادها، وبعضها تؤخذ زكاته من الأسهم نفسها حسب قيمتها، مضافا إليها الربح، وفي هذا شيء من التعقيد بالنظر إلى الفرد العادي.
ولكني أرى أن الاتجاه الأول هو المقرر فقها، وهو الذي جرى عليه العمل منذ ظهور الشركات المساهمة وبدأ انتشارها في الأربعينات، ولا تعقيد في الأمر، فالمسلم يعرف أن الآلات الصناعية لا زكاه فيها، فإذا وظف ماله بطريق الأسهم في شركات صناعية، يحسم ما يقابل تلك الآلات، وإذا وظف ماله في أسهم شركات تجارية، زكاها كزكاة الأموال التجارية. (3) وللأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة رأي قديم فيه تفصيل، ورد في تقرير حلقة الدراسات الاجتماعية لجامعة الدول العربية المنعقدة بدمشق سنة 1952، وهو الرأي الذي أعلنه أيضا في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1965، ومفاده: أن الأسهم والسندات إذا اتخذت للتجارة أو بغرض المضاربة وإعادة بيعها في أسواق الأوراق المالية، والكسب من تجارتها، تعتبر من عروض التجارة، ويؤخذ منها الزكاة بتقدير قيمتها في أول العام وقيمتها في آخره، بنسبة 2.5 % ربع العشر من الأصل والنماء متي بلغت نصابا.
__________
(1) فقة الزكاة: 1/525، 528
(2) حلقة الدراسات الاجتماعية الثالثة: ص242، بحث الأستاذ الشيخ محمد أبي زهرة، في مجمع البحوث الإسلامية – المؤتمر الثاني في القاهرة، في أيار مايو 1965 م.
(3) انظر ص 137، وأشار إليه الدكتور شوقي إسماعيل شحاتة في كتابه "التطبيق المعاصر للزكاة " ص 118، واعتمده في بحثه.(4/523)
أما إذا كانت بغرض الاستثمار وتوظيف الأموال، لا المضاربة والكسب من البيع والشراء، وإنما تقتنى للكسب من عائدها، وما تدره عليه من ربح سنوي، فإن الزكاة الواجبة على الشركة تكفي عن الزكاة على حملة الأسهم.
وهذا الرأي ينظر إلى الأسهم من جهة الشخص الذي يمتلكها، وعلى وفق نيته فيها: هل يقصد الاتجار أم الاستثمار؟
وهو رأي ينسجم مع الوقت الذي لم تكن الشركات فيه تزكي أموالها أو تسأل عن كيفيه الزكاة.
ولا أرى حاجة لهذا التفصيل؛ لأن الهدف من شراء الأسهم واحد، وهو الاتجار والاسترباح، وأن هذه الأسهم تزكى مثل زكاة عروض التجارة.
3- فتوى هيئة الرقابة الشرعية ببنك فيصل الإسلامي السوداني:
جاء في الفتوى رقم 17 حول أسس إخراج زكاة أسهم بنك فيصل الإسلامي السوداني لهيئة الرقابة الشرعية من غير أن تستفتى، ما يلي:
رأت الهيئة بأغلبية الأعضاء (1) أن يخرج البنك زكاة أسهمه على الأسس التالية:
1- يخرج البنك زكاة الأسهم عند مضي الحول بمقدار ربع العشر 2.5 % من النقود، الموجودة من المدفوع من قيمة الأسهم، زائدا قيمة عروض التجارة الخاصة بالأسهم، ولا زكاة في عروض القنية (الأصول الثابتة) زائدا ربح الأسهم.
2- العقارات التي يشتريها البنك بمال الأسهم إن كان اشتراها للتجارة فيها بالبيع والشراء، وزكاها زكاة عروض التجارة؛ أي: يضيف قيمتها إلى النقود الموجودة من الأسهم، وإن كان اشتراها لمؤجرها، فإنه يزكيها زكاة الأصول الثابتة؛ بإخراج العشر 10 % من أجرتها عندما يتسلمها.
3- إذا كان البنك أعطى بعض مال الأسهم لمن يعمل فيه مضاربة – التمويل، زكى رأس المال الذي وكل به المضارب ونصيبه الربح.
4- إذا كان على البنك ديون تجارية حالة من مال الأسهم، وله ديون على غيره تزيد على الديون التي عليه، فإنه يطرح الديون التي عليه من الديون الموجودة التي له، ويزكي الباقي، وإدا كانت الديون التي على البنك تزيد عن الديون التي له، طرح الزائد من النقود التي عنده وزكى الباقي، وإدا كانت ديون التجارة التي للبنك مؤجلة ومرجوة، فإنها تُقَوَّم بعرض، ثم يقوم العرض بنقد حال، وتزكى هذه القيمة.
5- إذا كان للبنك ديون (قرض) زكاها زكاة النقود الموجودة مادام سدادها مرجوا.
6- يستفسر من أصحاب الأسهم الصغيرة التي لا تبلغ النصاب، هل يجب عليهم فيها زكاة إذا ضمت إلى غيرها؟ فإن قالوا: لا تجب فيها الزكاة؛ لأنهم لا يملكون ما يكملها نصابا، استبعدت قيمتها من جملة الأسهم.
__________
(1) أربعة أعضاء من خمسة، ويرى العضو الخامس الدكتور خليفة بابكر الأخذ بالرأي الذي يعامل الأسهم معاملة الأموال الثابتة ويزكى ربحها فقط بمقدار العشر؛ أي: 10 % من الأرباح.(4/524)
هذه الأسس تتفق في جملتها مع الرأي القائل: إن الأسهم تزكى عروض التجارة، ولكنها تختلف عنها في بعض التفصيلات؛ حيث إنه في هذه الأسهم اعتبرت قيمة الأسهم الحقيقية - أي: الاسمية - لا القيمة السوقية كما يرى القائلون باعتبارها عروض تجارة؛ وذلك لأن قيمة السوقية تقديرية، والقيمة الحقيقية تمثل الواقع، ولا يصح اللجوء إلى التقدير ما دامت معرفة الحقيقة ممكنة، كما أخرجت العقارات المتخذة للاستغلال وجعلت الزكاة من أجرتها، لا من قيمتها؛ لأنها ليست عروض تجارة في الواقع، واضح أن المدفوع من القسط الأول من الأسهم حتى قد حال عليه الحول ووجبت زكاته على البنك أن يستخرجها على الأسس المتقدمة، وإذا كان تطبيق هذه الأسس متعذرا في الوقت الحاضر، فإنه يجوز أن يخرج البنك بالنسبة للقسط الأول 2.5 % من المبالغ المدفوعة عنه، بعد طرح قيمة الأثاثات الثابتة، والأسهم التي لا تبلغ النصاب حتى ترد إفادة أصحابها.. على أن يفكر في الطريقة التي تمكن من تطبيق هذه الأسس كاملة مستقبلا.
وهذا الحل المؤقت لا يختلف عن الرأي القائل باعتبار الأسهم عروض تجارة تؤخذ الزكاة من قيمتها في السوق، مضافا إليها الربح بعد طرح قيمة الأثاثات الثابتة إلا في ناحيتين:
الأولى: اعتبار القيمة الاسمية للسهم.
الثانية: عدم إضافة الربح؛ لأنه غير معروف، وعدم طرح المنصرفات وإن كانت معروفة؛ لأن المفروض أن تغطى المنصرفات من الربح، لا من رأس المال، وما دام الربح لم يؤخذ في الاعتبار، فمن العدل ألا تؤخذ المنصرفات أيضا في الاعتبار، والله أعلم.
ومع تأييدي لهذه الفتوى في الجملة، فإني أعارضها في الأمور التالية:
أولا: العقارات المستغلة تزكى من أرباحها بنسبة 2.5 %، وليس العشر من أجرتها عندما يتسلمها، وذلك بعد مضي الحول عليها وهي قائمة في يد أصحابها أو لدى البنك.
ثانيا: تزكى الأسهم في الشركات زكاة الخليطين، ولو كانت أسهم المساهم لا تبلغ نصابا شرعيا وحدها بالنسبة إليه، كما سيأتي.
ثالثا: تقدر الأسهم بالقيمة التجارية الموجودة في الأسواق (بورصات الأوراق المالية) فإنها أصبحت معروفة، وقد تتجاوز القيمة الاسمية عشرات أو مئات المرات، كما حدث فعلا في بعض الأسواق. فإذا لم تعرف حاليا تجب زكاتها بمجرد معرفتها.
رابعا: تضاف الأرباح عند معرفتها إلى أصل قيمة الأسهم؛ إذ ما من شركة إلا وتضع ميزانية شاملة في آخر كل عام، تبين فيها الأصول والخصوم بالتعبير التجاري، أو رأس المال والأرباح والديون.(4/525)
المقدار الواجب إخراجه في زكاة الأسهم:
تزكى الأسهم – كما عرفنا – زكاة عروض التجارة، فيكون مقدار الواجب فيها هو ربع العشر 2.5 % من الأصل والنماء أو الربح. وإذا كنا قد استبعدنا التفصيل المذكور في الرأي القديم للأستاذ الشيخ محمد أبي زهرة، واعتمدنا رأي الشيخ عيسى، مع ضرورة التمييز بين ما هو تجاري وما هو صناعي، فإن ما قرره أبو زهرة من زكاة الأسهم التجارية بنسبة 2.5 %، وزكاة الأسهم المتخذة للاستثمار؛ كزكاة الأصول الثابتة 10 % غير مناسب، ومخالف لما قرره فقهاؤنا في رأيهم المشهور من أن نسبة الزكاة في عروض التجارة هي 2.5 %. فيكون جعله نسبة زكاة أسهم الاستثمار 10 % غير متفق مع المذاهب الفقهية، ولا داعي للتفرقة بين أسهم التجارة وأسهم الاستثمار، وبخاصة فإنه في رأيه الأخير لم يذكر هذا التفصيل، واكتفى بالقول بوجوب الزكاة على الأسهم، مثل زكاة عروض التجارة.
والخلاصة: تجب زكاة الأسهم والسندات بنسبة ربع العشر 2.5 % من قيمتها التجارية مع ربحها في نهاية كل عام، ولا تزكى الأصول الثابتة من صافي الأرباح 10 %.(4/526)
مَن تجب عليه زكاة الأسهم:
يرى الأساتذة أبو زهرة ومن معه أن ما يؤخذ من الأسهم والسندات لمن يتجر فيها غير ما يؤخذ من الشركات نفسها؛ لأن الشركات التي تؤخذ منها الزكاة تكون باعتبار أن أموال الشركة نامية بالصناعة ونحوها، أما الأسهم للمتجر فيها، فهي أموال نامية باعتبار عروض التجارة.
وقد انتقد الدكتور القرضاوي بحق هذا الازدواج لإيجاب الزكاة على الأسهم ذاتها مرتين باعتبار صاحب الأسهم مرة بوصفه تاجرا، فأخذنا من أسهمه وربحها جميعا ربع العشر، ثم مرة أخرى بوصفه منتجا، فأخذنا من ربع أسهمه أو من إيراد الشركة العشر، والراجح أن نكتفي بإحدى الزكاتين؛ إما الزكاة عن قيمة الأسهم مع ربحها بمقدار ربع العشر، وإما الزكاة عن غلة الشركة وإيرادها بمقدار العشر من الصافي؛ منعا للثني أو الازدواج.
وأرى أن زكاة الأسهم هي فقط ربع العشر 2.5 % من الأصل، مع الربح السنوي، وتُقَوَّم الأسهم كما تقوم عروض التجارة في آخر كل عام بحسب سعرها في السوق وقت إخراج الزكاة، لا بحسب سعر شرائها، وتضم الأسهم التجارية إلى بعضها عند التقويم، ولو اختلفت أجناسها في التجارة والصناعة بعد حسم قيمة الآلات الصناعية.(4/527)
وتزكي الشركات جميع الأسهم؛ لأن للشركة ربحا من الأسهم، فهي شريك للمساهم، ولأن الشركة المساهمة لها شخصية اعتبارية مستقلة (1) وبما أن الزكاة تكليف متعلق بالمال نفسه، فإنها تجب على الشخص الاعتباري، حيث لا يشترط فيها التكليف الذي أساسه البلوغ مع العقل، وقياسا على زكاة الماشية في مذهب الشافعية الجديد القائلين بتأثير الخلطة في المواشي وغيرها، وهو مذهب المالكية والحنابلة أيضا في المواشي (2) عملا بعموم الحديث النبوي الثابت في الزكاة: ((لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)) ، ولأن السهم يعبر عن قيمة مالية أو مبلغ من مال، فهو مال تجب فيه الزكاة، فأثرت الخلطة في زكاتها كالماشية، ولأن المالين كالمال الواحد في المؤن (التكليف) من مخزن وناطور وغيرهما، فهي - أي: غير المواشي - من النقود والحبوب والثمار وعروض التجارة كالمواشي، فتخف المؤونة إذا كان المخزن والميزان والبائع واحدا.
وحينئذ لا يعفى من زكاة الأسهم في الشركات المساهمة أحد من المساهمين، ولو كانت حصته سهما واحدا، وتؤدى الزكاة من صافي مال الشركة المساهمة النامي ونمائه، بنسبة 2.5 % ربع العشر، فلا تحتسب قيمة الأموال والأصول الثابتة ـ عروض القنية ـ كالأراضي والمباني والآلات وغيرها؛ لأن السهم يمثل حصة في صافي الشركة المساهمة من أموال وأصول ثابتة وأموال وأصول متداولة (نقود وعروض تجارة) .
أما القول بزكاة الأسهم كزكاة الأصول الثابتة بنسبة 10 % من الأرباح فهو رأي ضعيف لا تقره آراء فقهائنا القدامى.
ثم إن في إلزام الشركة المساهمة بإخراج زكاة الأسهم جميعها نفعا محققا للفقراء، ويؤيد هذا الرأي أن الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة رأى في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1965 كما تقدم أنه إذا كانت الأسهم تتخذ للاستثمار، وهي ممثلة في رأس مال شركة مساهمة، فإن دفع الشركة للزكاة يغني عن دفع حامل السهم، إلا أن مجمع البحوث الإسلامية أوصى بأنه في الشركات المساهمة التي يساهم فيها عدد من الأفراد لا ينظر في تطبيق هذه الأحكام إلى مجموع أرباح الشركات، وإنما ينظر إلى ما يخص كل شريك على حدة.
لكني أخالف هذا الاتجاه للأسباب السابقة، أما في حال تفرقة الزكاة وتوزيعها فلا مانع من إعطاء صاحب الأسهم زكاته؛ ليتولى تفرقتها بالنيابة عن الشركة وأصالة عن نفسه.
__________
(1) وهذا رأي الدكتور شوقي إسماعيل شحاتة في التطبيق المعاصر للزكاة ص 119
(2) كتاب الفقه الإسلامي وأدلته 1/844 – 850(4/528)
وقد قررت الجمعية العمومية لحاملي أسهم دار المال الإسلامي في المملكة العربية السعودية إعطاء الحق لمن يريد من المساهمين سحب الزكاة المستحقة على حصته من الأسهم لتوزيعها بمعرفته الشخصية. وكان القرار ينص على استمرار الدار في مباشرة خصم (حسم) مبالغها (الزكاة) والمستحقة شرعا. وعلى كل مساهم يرغب في القيام بصرف ما يخصه من مبالغ طلب ذلك قبل ثلاثة أشهر من نهاية السنة المالية؛ وذلك حتى تقوم الدار بتسلميها له وفق الإجراءات التي تقرها هيئة الرقابة الشرعية للدار.
والخلاصة: أرى أن تكون زكاة الأسهم في الشركات بحسب قيمتها التجارية المعلن عنها في الأسواق، لا بقيمتها الاسمية فقط، وأن تزكى زكاة عروض التجارة بنسبة 2.5 % إذا كانت الشركة تجارية، فإن كانت الشركة صناعية محضة لا تتاجر ولا تنتج سلعا تجارية، فلا تزكى الأسهم، أما إن أنتجت سلعا تجارية، كشركة إنتاج الثلاجات، فتزكى الأسهم بعد استقطاع ما يقابل قيمة الآلات الصناعية والمباني، وتقوم الشركة نفسها بتقدير زكاة الأسهم جميعها، وتزكيها وتعلم أصحاب الأسهم، ويمكنها أثناء توزيع الزكاة إعطاء صاحب الأسهم زكاتها ليقوم هو بإعطائها للفقراء، والله أعلم.
أ. دكتور وهبه مصطفى الزحيلي.(4/529)
زكاة الأسهم في الشركات
إعداد
فضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف آل سعد عضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الهداة المهتدين، وعلى من دعا بدعوته بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فإن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وفريضة من فرائضه، وهي واجبة على الغني فيما يفضل عن حاجته وحاجة من ينفق عليهم، وتؤخذ من النقد وعروض التجارة ومن المواشي وثمار الزروع بنسب معروفة عند المسلمين، لا ترهق دافعي الزكاة، وتسد حاجة الفقير والمسكين، وتفي بإقامة المصالح العامة، وهي عبادة مالية، يكفر جاحدها، ويقاتل مانعها، يتجلى ذلك في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله تعالى عنه حينما بعثه واليا على اليمن: ((إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) . وفي قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} التوبة: 103
وأسهم الشركات هي مجموعة الأسهم التي يشتريها الناس، وتكون قيمتها مجتمعة هي رأس مال الشركة، موزعا على جميع المساهين فيها، وهي أموال قابلة للتعامل والتداول بين الأفراد والجماعات، وقد أصبحت وسيلة للاتجار فيها بالبيع والشراء؛ ابتغاء الربح، وهي حلال ما لم يكن عمل الشركة الذي تكون من مجموع الأسهم مشتملا على محظور شرعي، وهي بهذا الاعتبار تكون من عروض التجارة، وتجب فيها الزكاة؛ لأن صاحبها يتجر فيها بالبيع والشراء، ويكسب منها كما يكسب كل تاجر من سلعته، وقيمتها الحقيقية التي تقدر في الأسواق تختلف في البيع والشراء عن قيمتها الاسمية، فكان من الحق أن تكون وعاء للزكاة ككل أموال التجارة، ويلاحظ فيها ما يلاحظ في عروض التجارة، ويعتبر الحول فيها من تاريخ شراء الأسهم.
والأسهم: إما أن تكون أسهما تجارية أو صناعية أو عقارية، فإن كانت أسهما تجارية (بضائع) ، فالزكاة فيها تكون على رأس المال والعائد.
أما إذا كانت الأسهم في شركات صناعية، فالزكاة فيها على العائد فقط؛ لأن السهم يمثل جزءا شائعا من المصنع، وأدوات المصانع لا زكاة عليها.
أما الأسهم العقارية، فإن كانت تمثل شراء أرض لبنائها واستغلال ما عليها من مبان، فالزكاة فيها على العائد فقط.
أما إذا كانت العقارات من أرض ومبان قد اشتريت بقصد المتاجرة، فالزكاة فيها على الأصل والعائد.
ومعنى هذا أن تؤخذ الزكاة على الأسهم في آخر كل حول بمقدار 2.5 % في المائة من قيمة الأسهم، حسب تقديرها في الأسواق، مضافا إليها الربح إن وجد، بشرط أن يبلغ الأصل والربح نصابا، أو يكملا مع مال عنده نصابا، فكل مساهم يعرف مقدار ما يملك من أسهم، ويعرف مقدار أرباحها في كل عام، فيستطيع أن يزكيها بسهولة، هذا ما ذهب إليه كثير من العلماء المحققين المعتد بفتاواهم، والله أعلم وأحكم.
8 من شعبان 1406 هـ
17 إبريل 1986 م
محمد عبد اللطيف آل سعد.(4/530)
زكاة الأسهم في الشركات
إعداد
فضيلة الدكتور أبو بكر دوكوري.
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل التعرض لحكم الأسهم، نعطي فكرة موجزة عنه؛ لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره.
يراد بالأسهم الحقوق الملكية الجزئية لرأس مال شركة من الشركات المساهمة، فكل سهم يعتبر جزءا من أجزاء متساوية لرأس المال.
والأسهم في الشركات من المعاملات المالية المعاصرة؛ لذلك لا نكاد نجد لها ذكرا في كتب الفقه القديمة، وحتى في كتب المعاصرين لم يعط هذا المبحث العناية اللائقة به؛ إذ قليل من كتب فيه، لذلك نجد في العالم الإسلامي كثيرا من الناس لا يعرفون الأحكام المتعلقة بالأسهم، وخاصة فيما يتعلق بالزكاة.
والعلماء الذين بحثوا في هذا الموضوع ذهبوا إلى مذهبين:
المذهب الأول: أن ينظر إلى نوع الشركة التي أصدرت الأسهم: هل هي شركة صناعية محضة، أم هي تجارية محضة، أم هي مزدوجة؟
فإن كانت صناعية محضة، بحيث لا تمارس عملا تجاريا؛ كشركات الصباغة والتبريد مثلا، فلا تجب الزكاة في أسهمها؛ لأن قيمة هذه الأسهم قد صرفت في الآلات والإدارات والمباني، فما يحصل منها من ربح فإنه يضم إلى أموال المساهمين ويزكى معها زكاة المال، بشرط بقائه إلى الحول وبلوغه النصاب.
وإن كانت ـ أي الشركة المساهمة ـ تجارية محضة، تشتري البضائع وتبيعها، أو كانت مزدوجة صناعية تجارية معا، كشركات البترول مثلا، فإن الزكاة تجب في أسهمها بعد خصم قيمة المباني والآلات والأدوات المملوكة لهذه الشركة، وهذا المذهب قد ذهب إليه الشيخ عبد الرحمن عيسى في كتابه " المعاملات الحديثة وأحكامها "، بناء على الرأي المشهور في عدم وجوب الزكاة في المصانع والعمائر الاستغلالية ورؤوس الأموال المغلة على وجه العموم؛ كالفنادق والسيارات والطائرات ونحوها، وإنما تجب الزكاة في غلتها إذا بقي منها شيء وحال عليه الحول.
وقد ناقش الدكتور يوسف القرضاوي في كتابة "فقه الزكاة" هذا المذهب، واعترض عليه بشدة؛ لكونه يقوم على تفريق بين متماثلين، وهو غير معهود في شريعتنا الغراء؛ إذ لا وجه لأخذ الزكاة عن الأسهم إذا كانت في شركة تجارية وإسقاطها عنها إذا كانت في شركة صناعية؛ لأن الأسهم هنا وهناك هي رأس مال نام، يدر ربحا سنويا متجددا.(4/531)
المذهب الثاني: عدم النظر إلى نوعية الشركة المساهمة للتفريق بين أسهم شركة وأخرى، كما تقدم، وإنما ينظر إلى الأسهم نظرة واحدة بغض النظر عن الشركة التي أصدرتها، وتعطى حكما واحدا لاعتبارها من عروض التجارة حيث اتخذت للاتجار، تباع وتشترى، ويكسب فيها كما يكسب كل تاجر من سلعته، فتزكى زكاة عروض التجارة.
وذلك بأن يؤخذ من قيمة الأسهم مع الربح ربع العشر؛ أي: 2.5 % إذا بلغا نصابا.
وقد رجح بعض العلماء هذا الاتجاه الثاني بالنسبة إلى الأفراد نظرا إلى سهولته؛ لأن كل مساهم يعرف أسهمه ويعرف أرباحها في كل عام بخلاف الاتجاه الأول القائم على التفريق بين أسهم الشركات وأخذ الزكاة في إيراد بعضها، بينما في بعضها الآخر تؤخذ الزكاة من الأسهم نفسها حسب قيمتها، مضافا إليها الربح، وفي هذا صعوبة بالغة بالنسبة إلى الفرد العادي.
وإذا أوجبنا الزكاة على أسهم الشركات المساهمة، وأخذناها من المساهمين، فهل توجب الزكاة مرة أخرى على إيراد هذه الشركات نفسها أو لا؟ خلاف بين الباحثين.
وقد رأى الدكتور يوسف القرضاوي الاكتفاء إما بالزكاة عن قيمة الأسهم مع ربحها بمقدار ربع العشر، وإما الزكاة عن غلة الشركة وإيرادها بمقدار العشر، وذلك حتى لا نزكي مالا واحدا مرتين، وهو ممنوع شرعا، وأنا أيضا أميل إلى هذا الرأي وأرجحه، والله أعلم.
دكتور أبو بكر دوكوري(4/532)
زكاة الأسهم في الشركات
إعداد
فضيلة الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ
مفتي جمهورية القمر الاتحادية الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
إن مما لا خلاف فيه بين فقهاء المسلمين وجوب الزكاة على كل مسلم ملك نصاب مال زكوي إذا حال عليه حول وهو في ملكه، سواء كان ذلك المال في يده أو في يد أمين له كوديع وشريك ووكيل ومدير شركة، أو كان ذلك المال في يد غير أمين له؛ كغاصب ومدين له مليء مقر أو جاحد، وله عليه بينة، وسواء كان معزولاً في صندوق خصيصاً بمال الغير؛ كأسهم الشركات وما استودع في مخازن البنوك وصناديق التوفير.
وإنما الخلاف في المال المشترك والخليط بمال الغير إذا لم يبلغ سهم كل واحد نصاباً، وكان المال الخليط غير مواش سائمة، فعند الإمام الشافعي تجب الزكاة في المال المشترك والخليط بمال الغير إذا بلغ مجموع الأسهم نصابا، وإن لم يبلغ سهم كل فرد نصابا، سواء في ذلك المواشي وغيرها، كالنقدين ومال التجارة. راجع كفاية الأخبار ص: 113.
وعند الأئمة الثلاثة وأكثر أهل العلم تجب الزكاة في المال المشترك والخليط بمال الغير، شريطة أن يبلغ سهم كل واحد من المشتركين والخلطاء نصاباً. راجع بداية المجتهد جـ1 ص271. والمغني لابن قدامة جـ2 صـ218.
ولسنا في حاجة إلى الإطالة في ذكر أقوالهم وأدلتها ما دامت أسهم الشركات تبلغ نصابا في الغالب، وهو محل اختلافهم في وجوب زكاتها كما سبق القول بذلك.
وبما ذكرت أقول، ومن الله أستمد العون والتوفيق: تجب الزكاة في أسهم الشركات وفي الربح المستفاد منها إن كانت الشركة تجارية، وينعقد حول زكاتها من ابتداء عمل التجارة، وتجب أيضا في الربح المستفاد من الأسهم فقط، إن كانت الشركة غير تجارية كمعمل ودور وسيارات ومعدات للإيجار مثلا، وينعقد حول زكاته من حين قسمة الشركاء ودخول حصة كل شريك في ملكه، وإن بقيت في يد مدير الشركة كأمانة، هذا ويجوز لكل من أصحاب الأسهم توكيل مدير الشركة بإخراج القدر الواجب عليه من حصته إن بقيت في يده بعد القسمة، كما يجوز له إخراجه بمال آخر في جيبه.
والله تعالى أعلم، وهو ولي التوفيق.
الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ(4/533)
زكاة الأسهم في الشركات
إعداد
فضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير
أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية القانون
الخرطوم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد،
فهذا بحث عن (زكاة الأسهم في الشركات) في الفقه الإسلامي، أكتبه استجابة لرغبة مجمع الفقه الإسلامي، راجياً أن يجد فيه المؤتمرون ما يساعد على الوصول إلى رأي جماعي في هذا الموضوع.
التعريف بالسهم:
السهم في القانون التجاري هو الحصة التي يقدمها الشريك في شركات المساهمة، وهو يمثل جزءاً معيناً من رأس مال الشركة، ويتمثل السهم في صك يعطى للمساهم، ويكون وسيلته في إثبات حقوقه في الشركة، ويطلق السهم أيضاً على هذا الصك، فكلمة سهم تعني حق الشريك في الشركة، كما تعني الصك المثبت لهذا الحق.
ويقسم رأس مال شركة المساهمة إلى أسهم متساوية القيمة الاسمية، وهذا يقتضي المساواة في الحقوق التي يمنحها السهم، ولكن بعض القوانين يجيز للشركة أن تصدر أسهماً ممتازة تختص بمزايا لا تتمتع بها الأسهم العادية (1) .
والسهم قد يمثل حصة نقدية في رأس مال الشركة إذا كان ما قدمه الشريك نقداً، ويسمى هذا سهماً نقدياً، وقد يمثل حصة عينية إذا قدم الشريك للشركة عيناً، منقولاً أو عقاراً، ويسمى سهماً عينياً، والسهم سواء أكان نقدياً أم عينياً يعتبر مالاً منقولاً في قانون الشركات، ولو كانت الشركة تعمل في العقارات، ولو كانت الحصة التي قدمها الشريك عقاراً (2) .
وقد يكون السهم باسم شخص معين تثبت ملكيته للسهم، يقيد اسمه في سجل الشركة ويسمى "السهم الاسمي"، وقد لا يحمل السهم اسم المساهم، وإنما يذكر فيه أنه لحامله، ويعتبر حامل السهم هو المالك في نظر الشركة والغير، ويسمى "السهم لحامله" وتمنع بعض القوانين إصدار أسهم لحاملها.
__________
(1) لا أرى جواز إصدار هذه الأسهم الممتازة
(2) اعتبار السهم منقولا في جميع الأحوال غير مقبول عندي، وهو مخالف للواقع، فكيف يكون السهم في الشركة التي كل عملها في العقارات منقولاً(4/534)
وما دامت الشركة قائمة فليس للمساهم حق عيني في أعيانها، ولا المطالبة بقيمة سهمه، وإنما له الحق في الاستيلاء على نصيب في الأرباح؛ لأن الحصة التي يقدمها الشريك للشركة تخرج عن ملكه وتصبح مملوكة للشركة كشخص معنوي، فإذا انحلت الشركة كان لكل مساهم حصة في موجودات الشركة.
وإذا أراد المساهم الخروج من الشركة، فليس أمامه إلا أن يتنازل عن سهمه لغيره بقابل أو بغير مقابل، وحق التنازل عن السهم من الحقوق الأساسية للمساهم، ومن الأصول التي يقوم عليها نظام شركات المساهمة، وهو السر في ازدهار هذا النوع من الشركات؛ إذ يُقْدِم الناس على الاكتتاب في أسهمها وهم مطمئنون إلى أنهم يستطيعون الخروج منها كلما أحوجتهم ظروفهم إلى ذلك، ولا يترتب على خروجهم ضرر للشركة أو لدائنيها؛ لأن الشريك الذي خرج من الشركة يحل محله شريك آخر.
وتضع بعض قوانين الشركات ونظمها قيوداً على حرية تناول الأسهم لمنع التلاعب في قيمة السهم (1) .
__________
(1) الوجيز في القانون التجاري. الدكتور مصطفى كمال طه 193 و300 وما بعدها. والقانون التجاري –الشركات التجارية- الدكتور علي حسن يونس 113 و161 و175. وشرح القانون التجاري المصري لمحمد صالح بك 176 و294. وقانون الشركات السوداني لسنة 1925 المواد 24 و39 و40.(4/535)
هل في الأسهم زكاة؟:
قلنا في تعريف السهم: إنه الحصة التي قدمها الشريك في شركة المساهمة، وإن هذه الحصة قد تكون نقداً، وهذا هو الغالب، وقد تكون عيناً، منقولاً أو عقاراً، والنقود التي يقدمها الشريك يتحول جزء منها إلى منقول أو عقار، وكذلك المنقولات والعقارات قد يتحول جزء منها إلى نقود، تبعاً للعمل الذي تباشره الشركة، فالتكييف الحقيقي والواقعي للسهم هو أنه جزء من موجودات الشركة أياً كان نوعها، وهذه الموجودات أموال مملوكة يجب على مالكها زكاتها، إذا توافرت شروط الوجوب، لا فرق بينها وبين أي مال مملوك لأي شخص.
بعض الآراء في وجوب الزكاة في الأسهم:
رأي الأستاذ أبو زهرة:
يقول الأستاذ أبو زهرة: "وكان حقاً علينا أن نجعل الزكاة في الأسهم؛ لأننا لو أعفينا ملاك هذه الأسهم من الزكاة لكان في ذلك ظلم كبير على غيرهم من الملاك، وكان ظلماً للفقراء، وفوق ذلك يتهرب الناس بأموالهم التي تجب فيها الزكاة، فيشترون الأسهم حيث لا زكاة فيها، وإن نظرة عاجلة إلى ينابيع الثروة في مصر ترينا أن أكثرها إنتاجا وغلة هي هذه الشركات، فهل يسوغ عقلاً أن يعفى ملاك الأسهم من الزكاة، وتؤخذ من صغار الفلاحين ذوي المورد المحدد؟ " (1) .
فالأستاذ أبو زهرة يرى وجوب الزكاة في أسهم جميع الشركات المساهمة، وهو رأي أكثر من اطلعت على رأيهم ممن كتبوا في هذا الموضوع (2) ولكن الأستاذ أبو زهرة يبني الوجوب على أساس غير الأساس الذي بنيته عليه.
__________
(1) عن "التطبيق المعاصر للزكاة": 117
(2) منهم الدكتور يوسف القرضاوي في "فقه الزكاة": 1/52. والدكتور شوقي إسماعيل شحاتة في "التطبيق المعاصر للزكاة": 117. والدكتور غريب الجمال في "النشاط الاقتصادي في ضوء الشريعة الإسلامية": 230. والشيخ أبو الأعلى المودودي في "فتاوى الزكاة": 18 و75.(4/536)
رأي الشيخ عبد الرحمن عيسى:
كتب الشيخ عبد الرحمن عيسى عن زكاة أسهم الشركات ما يلي:
"قد لا يعرف كثير ممن يملكون أسهم الشركات حكم زكاة هذه الأسهم، وقد يعتقد بعضهم أنها لا تجب زكاتها، وهذا خطأ، وقد يعتقد البعض وجوب الزكاة في أسهم الشركات مطلقاً، وهذا خطأ أيضاً، وإنما الواجب النظر في هذه الأسهم تبعاً لنوع الشركة التي أصدرتها.
فإن كانت الشركة المساهمة شركة صناعية محضة؛ أي: لا تمارس عملاً تجارياً، كشركات الصباغة وشركات التبريد وشركات الفنادق، وشركات الإعلانات، وشركات الأوتوبيس، وشركات النقل البحري والبري، وشركات الترام، وشركات الطيران، فلا تجب الزكاة في أسهمها؛ لأن قيمة هذه الأسهم موضوعة في الآلات والأدوات والمباني، وما يلزم الأعمال التي تمارسها، ولكن ما ينتج ربحاً لهذه الأسهم يضم إلى أموال المساهمين ويزكى معها زكاة المال.
وإن كانت الشركة المساهمة شركة تجارية محضة تشتري البضائع وتبيعها بدون إجراء عمليات تحويلية على هذه البضائع؛ كشركة بيع المصنوعات المصرية، وشركة التجارة الخارجية، وشركات الاستيراد، وشركة شوكريل، وشركة شملا، أو كانت شركة صناعية تجارية، وهي الشركات التي تستخرج المواد الخام أو تشتريها ثم تجري عليها عمليات تحويلية، ثم تتجر فيها، مثل شركات البترول وشركات الغزل والنسيج للقطن والحرير، وشركة الحديد والصلب، والشركات الكيماوية كشركة كيما وشركة الملح والصودا، وشركة راكنا لصناعة الورق، فتجب الزكاة في أسهم هذه الشركات، فمدار وجوب الزكاة في أسهم الشركات أن تكون الشركة تمارس عملاً تجارياً، سواء معه صناعة أم لا. (1) .
وقد علق الدكتور القرضاوي على هذا الرأي بأنه مبني على الرأي المشهور أن المصانع والعمائر الاستغلالية ورؤوس الأموال المغلة غير التجارية على وجه العموم، كالفنادق والسيارات والترامات والطائرات ونحوها، ليس فيها كلها زكاة، لا في رأس المال والربح معا كمال التجارة، ولا في الغلة والإيراد كالخارج من الأرض الزراعية، إلا إذا بقي منها شيء وحال عليه الحول. (2) .
__________
(1) المعاملات الحديثة وأحكامها: 73 و74.
(2) فقه الزكاة: 1/524(4/537)
ويرى الدكتور القرضاوي أنه لا وجه لأخذ الزكاة عن الأسهم إذا كانت في شركة تجارية وإسقاطها عنها إذا كانت في شركة صناعية، والأسهم هنا وهناك رأس مالٍ نامٍ يدر ربحاً سنوياً متجدداً (1) .
والواقع أن هذا الاختلاف ليس خاصاً بالأسهم والشركات؛ لأنه يمكن أن يقال في كل مال مستثمر، والنتيجة على الرأيين هي أن الأسهم أموال تجب فيها الزكاة إذا توافرت شروط وجوبها، والاختلاف بين رأي الشيخ عيسى ورأي الدكتور القرضاوي هو في تحقق شروط الوجوب.
هل تجب الزكاة على الشركة أم على المساهم؟ (2)
بعدما قررنا أن السهم يمثل مالاً مملوكاً تجب الزكاة على مالكه إذا توافرت فيه شروط وجوبها، يبقى النظر فيمن تجب عليه زكاة السهم، هل هو الشركة أم المساهم؟
الزكاة تجب في المال على مالكه، فمَن المالك لأموال الشركة؟ يقول الدكتور مصطفى كمال:
للشركة ذمة مالية مستقلة بأصولها وخصومها عن ذمم الشركاء ... فأموال الشركة لا تعتبر ملكاً شائعاً بين الشركاء، بل تعتبر هذه الأموال ملكاً للشركة، ... والحصة التي يقدمها الشريك للشركة تخرج عن ملكه، وتصبح مملوكة للشركة كشخص معنوي، ولا يكون للشريك بعد ذلك إلا مجرد نصيب في الأرباح، أو في الأموال التي تبقى بعد تصفية الشركة ... " (3) .
إذا كان هذا الذي يقرره علماء القانون التجاري بشأن أموال الشركة مقبولاً فقهاً، فإن النتيجة المنطقية له هي أن زكاة أموال الشركة لا يطالب بها المساهمون، وإنما تطالب بها الشركة، وهذا هو رأي بعض من تعرض لهذه المسألة. منهم الدكتور شوقي إسماعيل شحاتة حيث يقول (4) :
"لما كانت الشركة المساهمة لها شخصية اعتبارية مستقلة، وبناء على أن الزكاة تكليف متعلق بالمال نفسه، (5) فإنها تجب على الشخص الاعتباري حيث لا يشترط التكليف الديني، وأساسه البلوغ والعقل، (6) وقياساً على زكاة الماشية، وإن الخلطة فيها قد خصت بخصوصية تراجع الخلطاء فيما بينهم بالسوية على التفصيل الذي سبقت الإشارة إليه، (7) وإن الشركة في الماشية هي شركة أموال بالمفهوم المعاصر، وليست شركة أشخاص، وإن الشركة في الماشية تكون على وجه المخالطة –لا الملك- ومؤداها أن الزكاة تجب في مال الشركة المجتمع ككل، وليس في مال كل شريك على حدة ... ".
__________
(1) فقه الزكاة: 1/525
(2) استعمال هذه الكلمة أصبح اصطلاحاً عاماً مع ما فيه من مخالفة لغوية
(3) الوجيز في القانون التجاري: 192 و193
(4) "التطبيق المعاصر للزكاة: 119
(5) انظر تفصيله لهذه المسألة في صفحة: 91-93 من " التطبيق المعاصر للزكاة "
(6) انظر تفصيله لهذه المسألة في صفحة: 66-68 من " التطبيق المعاصر للزكاة "
(7) انظر ص: 86-90 من "التطبيق المعاصر للزكاة"، وفي هذا القياس نظر(4/538)
ويرى الشيخ أبو الأعلى المودودي أن زكاة الأسهم تفرض على الشركة إذا كانت الدولة تقوم بتحصيل الزكاة (1) .
ويفهم مما نقلته عن الشيخ عبد الرحمن عيسى أن زكاة الأسهم يخرجها المساهم.
وأرى أن زكاة الأسهم تجب على المساهم؛ لأنه هو المالك الحقيقي للأسهم، والشركة تتصرف في أسهمه نيابة عنه، حسب الشروط المبينة في قانون الشركة ونظامها الأساسي، فإذا نص في النظام الأساسي على أن الشركة تخرج زكاة الأسهم وجب عليها إخراجها، ولا يطالب بها المساهمون، أما إذا لم يوجد هذا النص فلا تخرج الشركة الزكاة إلا بقرار من الجمعية العمومية، أو بقانون في الدولة يلزم الشركات بإخراج زكاة الأسهم، (2)
وأما القول بوجوب زكاة الأسهم على الشركة أصالة، باعتبار أن الشركة لها شخصية اعتبارية مستقلة عن شخصية المساهمين، فإنه لا يكون مقبولاً إلا في دولة تطبق أحكام الشريعة الإسلامية، وتوجب نظمها أخذ الزكاة من أموال الشركات، وإن الفتوى به في أوضاعنا الحاضرة قد يؤدي إلى عدم إخراج زكاة الأسهم.
__________
(1) فتاوى الزكاة: 18 و75 و81 وانظر أيضاً "فقه الزكاة" للدكتور القرضاوي: 1/528
(2) هذا الرأي قريب مما أفتت به اللجنة العلمية بالمؤتمر الأول للزكاة بالكويت في رجب 1404-إبريل 1984(4/539)
كيفية إخراج زكاة أسهم الشركات؟:
تخرج الشركة زكاة أسهمها الممثلة في الأموال الموجودة عندها كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال الشركة كأنها أموال شخص واحد، وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي.
فإذا كانت شركة تجارية تعامل معاملة التاجر، وإذا كانت شركة زراعية تعامل معاملة المزارع، وإذا كانت شركة عقارية تعامل معاملة الشخص الذي يستثمر أمواله في العقارات وهكذا. وقد تستثمر الشركة أموالها في مجالات متنوعة من التجارة والزراعة وغيرها، كما يفعل بعض أرباب المال بأموالهم. فإنها تعامل معاملتهم، وتخرج زكاة كل مال بحسب نوعه.
لا تطرح الأسهم التي لا تبلغ النصاب:
ينظر في بلوغ النصاب إلى أموال الشركة مجتمعة، لا إلى مقدار ما يملكه كل مساهم، فلا تطرح الأسهم التي لا تبلغ النصاب خلافاً لما ذهب إليه بعضهم من وجوب طرحها (1) .
وكل من الرأيين له سند من الفقه، يقول ابن رشد:
"عند مالك وأبي حنيفة أن الشريكين لا يجب على أحدهما الزكاة حتى يكون لكل واحد منهما نصاب، وعند الشافعي أن المال المشترك حكمه حكم مال رجل واحد، وسبب اختلافهم الإجمال الذي في قوله عليه الصلاة والسلام: ((ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة)) ؛ فإن هذا القدر يمكن أن يفهم منه أنه إنما يخصه هذا الحكم كان لمالك واحد أو أكثر من مالك واحد ... والشافعي كأنه شبه الشركة بالخلطة ... " (2) .
والذي في كتب الشافعية أن الشافعي له قولان في هذه المسألة: قول في القديم بعدم تأثير الخلطة في زكاة غير المواشي، وقول في الجديد بتأثيرها، وهو الأظهر.
__________
(1) انظر فتاوى الزكاة للشيخ أبو الأعلى المودودي: 18. كانت هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي السوداني أفتت بمثل ما أفتى به المودودي ولكنها رجعت عنها
(2) "بداية المجتهد": 1/258(4/540)
يقول الشيرازي:
"فأما الخلطة في غير المواشي وهي الأثمان والحبوب والثمار ففيها قولان: قال في القديم: لا تأثير للخلطة في زكاتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والخليطان ما اجتمعا على الحوض والفحل والرعي)) . ولأن الخلطة إنما تصح في المواشي؛ لأن فيها منفعة بإزاء الضرر. وفي غيرها لا يتصور غير الضرر؛ لأنه لا وقص فيها بعد النصاب (1) .
وقال في الجديد: تؤثر الخلطة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع)) ، ولأنه مال تجب فيه الزكاة فأثرت الخلطة في زكاتها كالماشية، ولأن المالين كالمال الواحد في المؤن فهي كالمواشي" (2) .
ويقول النووي: "ولو اشترك أهل زكاة في ماشية زكيا كرجل، وإلا ظهر تأثير خلطة الثمر والزرع والنقد وعرض التجارة" (3) .
ومما يرجح الأخذ بمذهب الشافعي الجديد أن طرح الأسهم التي لا تبلغ النصاب يجب ألا يتم إلا بعد التحقق من أن أصحابها لا يملكون ما يكمل النصاب، وفي هذا مشقة على الشركة، والمشقة تجلب التيسير.
طرح أسهم غير المسلمين:
هذا وينبغي التنبيه إلى أنه إذا كان في المساهمين غير مسلمين تطرح أسهمهم؛ لأنهم ليسوا من أهل الزكاة.
لا تأثير لما يباع من الأسهم في أثناء الحول:
إذا باع أحد المساهمين أسهمه في أثناء العام فإن هذا لا يؤثر في إخراج الزكاة؛ لأن السهم باق، وإنما تغير مالكه، ولا يضر كون المالك الجديد لم يمض حول على ملكه، ما دام السهم قد حال عليه الحول بالنسبة للشركة، ولو تنقل بين عدد من الأشخاص (4) .
__________
(1) المنفعة مقصورة من وجه آخر هو زيادة ربح الأسهم الصغيرة بضمها واستثمارها مع غيرها
(2) "المهذب": 1/153
(3) "المنهاج مع نهاية المحتاج": 3/58
(4) أفتى الشيخ المودودي بأن أسهم الشركات القابلة للبيع لا زكاة فيها، لا على البالغ ولا على المشتري، إذا بيعت قبل حولان الحول على دخولها في ملك أحدهما. فتاوى الزكاة: 22. هذه الفتوى قد تكون مقبولة إذا كان المساهم هو الذي يخرج زكاة أسهمه(4/541)
الأسهم المضافة في أثناء العام:
الأسهم التي تدفع قيمتها، أو تعرضها الشركة للاكتتاب في أثناء العام لا يستقبل بها عام جديد، وإنما تضم إلى موجودات الشركة، ويكون حولها حول المال الذي ضمت إليه إذا كان نصابا؛ عملا بمذهب الحنفية في أن الفوائد كلها تزكى بحول الأصل إذا كان الأصل نصابا.
زكاة الأسهم في الشركات التي لا تخرج الزكاة:
إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة، لو زكت الشركة أموالها على النحو الذي شرحناه، زكى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه الأصل في كيفية زكاة أسهم الشركات.
وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي (1) لا بقصد بيعها عندما ترتفع قيمتها، فإنه يزكيها زكاة المستغلات، وتمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما "تجب في الريع، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم القبض مع اعتبار توفر (2) شروط الزكاة وانتفاء الموانع" (3) .
وهذا الرأي متفق مع رأي الأكثرية في مؤتمر الزكاة الأول بالكويت المنعقد في 1 شعبان 1404هـ -2 مايو 1984 من حيث وجوب الزكاة في الريع دون الأصل، لكنه يختلف عنه من حيث الحول، فقرار مجمع الفقه الإسلامي يقضي بأن يبدأ حول الريع من يوم قبضه، ورأي الأكثرية في مؤتمر الزكاة يقضي بأن يضم الريع إلى سائر أموال مالك الأسهم من حيث الحول والنصاب، وهو الأولى عندي. ومؤدى الرأيين أن الأسهم المتخذة للاستثمار لا زكاة فيها.
ورأت الأقلية في مؤتمر الزكاة أن يخرج مالك السهم العشر 10 % من الريع فور قبضه، قياساً على غلة الأرض الزراعية، كما هو الشأن في زكاة المستغلات.
__________
(1) هنا هو الأصل في الغرض من اقتناء الأسهم
(2) هكذا في الأصل ولعلها "توافر"
(3) انظر القرار رقم (2) من قرارات الفتوى الصادرة عن الدورة الثانية لمجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406 22-28 ديسمبر 1985(4/542)
وإذا قبلنا مبدأ قياس زكاة الأسهم التي يتخذها صاحبها للاستفادة من ريعها على زكاة المستغلات، فينبغي أن نضيف إلى هذين الرأيين رأيين آخرين:
أحدهما: أن تزكى الأسهم زكاة عروض التجارة.
والثاني: أن يزكى الريع عند قبضه بمقدار ربع العشر 2.5 %، ولا ينتظر به الحول.
وكل من هذين الرأيين قال به بعض الفقهاء المتقدمين بالنسبة لزكاة الدور التي تتخذ للكراء، ونحوها من الأشياء التي تتخذ للانتفاع بغلتها، وقد بين الدكتور يوسف القرضاوي هذه الآراء بياناً شافياً في البحث الذي قدمه لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية عن زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية (1) .
وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد بيعها (2) عندما ترتفع قيمتها زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه زكى قيمتها الحقيقية، إذا استطاع معرفتها من الشركة، وإن لم يستطع زكى القيمة السوقية، وإذا لم يكن لها سوق زكى القيمة الاسمية بإخراج ربع العشر 2.5 % من القيمة، ومن ربح الأسهم إذا كان لها ربح.
وإذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاها معه عندما يجيء حول زكاته، أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها بحسب قصده ونيته، فإن اشتراها لاستغلالها زكاها زكاة المستغلات على النحو الذي ذكرته، وإن اشتراها ليبيعها (3) زكاها زكاة عروض التجارة.
والله أعلم.
__________
(1) البحث مأخوذ من كتابه "فقه الزكاة": 1/458-486
(2) بيع الأسهم بالنسبة للمساهم الأول لا شبهة في جوازه إذا تم بعد ما يتحول رأس مال الشركة كله أو أكثره إلى غير النقود
(3) أكثر الفقهاء الذين اطلعت على آرائهم يجوزون شراء الأسهم وبيعها والمتاجرة فيها من غير قيد، وفي نفسي شيء من هذا الحكم؛ لأن اتخاذ الأسهم سلعة تشترى وتباع بقصد الربح لا يخلو من شبهة بيع النقود بأكثر منها، ما دام مشتري السهم لا غرض له في المشاركة في موجودات الشركة، وإنما غرضه بيع السهم بأكثر مما اشتراه به. وأرى أن هذا الموضوع يحتاج إلى بحث، وأقترح أن يكون ضمن موضوعات المجمع في الدورة القادمة(4/543)
خلاصة بحث
"زكاة الأسهم في الشركات"
تجب زكاة الأسهم على أصحابها، وتخرجها الشركة نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة.
وتخرج الشركة زكاة الأموال الخاصة بالمساهمين كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين أموال شخص واحد. وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي.
وتطرح أسهم غير المسلمين إذا كان في المساهمين غير مسلمين.
ولا تأثير لما يباع من الأسهم في أثناء الحول.
وتضم الأسهم المضافة في أثناء العام إلى موجودات الشركة، ولا يستقبل بها عام جديد.
وإذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو الذي شرحته زكى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم.
وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك، فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، فإنه يزكيها زكاة المستغلات، وتمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهو ربع العشر، بعد دوران الحول من يوم القبض مع اعتبار توفر شروط الزكاة وانتفاء الموانع.
وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد بيعها عندما ترتفع قيمتها زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه زكى قيمتها الحقيقية إذا استطاع معرفتها من الشركة، وإن لم يستطع زكى القيمة السوقية، وإذا لم يكن لها سوق زكى القيمة الاسمية بإخراج ربع العشر 2.5 % من القيمة ومن الربح إذا كان للأسهم ربح.
وإذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاه معه عندما يجيء حول زكاته، أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها بحسب قصده، فإن اشتراها لاستغلالها زكاها زكاة المستغلات على النحو الذي ذكرته، وإن اشتراها لبيعها زكاها زكاة عروض التجارة.
والله أعلم
د. الصديق محمد الأمين الضرير(4/544)
زكاة الأسهم في الشركات
إعداد
فضيلة الشيخ هارون خليف جيلي
عضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين.. أمر بإيتاء الزكاة وأخذها من أموال المسلمين ليطهرهم ويزكيهم، إنه هو العزيز الحكيم، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فهذا بحث متواضع حول موضوع من الموضوعات المطروحة أمام أعضاء "مجمع الفقه الإسلامي" الموقر، للفتوى فيه، في دورته الثالثة القادمة. كما اقترحته لجنة التخطيط، وهو (زكاة أسهم الشركات) .
فالزكاة معروفة: لغة، وشرعاً، وحكماً، لدى عامة المسلمين، وكذلك الأسهم والشركات، لاسيما إذا أضيف بعض هذه الكلمات إلى بعض.
ولعل أن الأمر الذي جعلها غريبة، حتى احتيج إلى إفتاء شرعي في حكم زكاة أسهمها، هو ما طرأ في الشركات المعاصرة من تنوع وتكاثر، وما تضمنته من قيود لا تمت إلى قواعد الشريعة، وما حدث في أسهمها وألقابها المتداولة، حتى اشتبه لدى بعض من العلماء الكبار أسهم الشركات المالية بوثيقتها الكتابية، فأفتى مرة بعدم وجوب الزكاة فيها، ومرة بوجوبها.
فلكي نفهم بوضوح، ونقرر فتواها الشرعية بثقة، فلا بد لنا من استعراض الموضوع من جوانبه الثلاثة مع مقاصد الشريعة من تشريع الزكاة، حتى يتضح لنا الحكم الشرعي في زكاة مال الشركات الإسلامية وأسهمها.
وبطبيعة الحال لا أتكلم عن الشركات غير الإسلامية وأسهمها، لعدم تعلق الزكاة بها، ولأنها تحتاج إلى دراسة واسعة ... كما لا أتكلم عن الشركات الدولية التي لا يمتلكها أشخاص معينون؛ لأن الزكاة لا تجب فيها.
فليكن بحثنا إذاًَ محصوراً في الشركات الإسلامية التي يملكها أفراد معينون وأسهمها، وحكم الزكاة فيها ... وسيكون كلامي في هذا الموضوع منقسماً إلى ثلاثة مراحل: مبحثين، وخلاصة، مع حفظ الإيجاز في كل. إن شاء الله.
المبحث الأول: حول كل من: الشركة، والسهم، والزكاة: لغة، واصطلاحاً، وحكماً وحكمة.
المبحث الثاني: في أنواع الشركات.
الخلاصة: في تقرير المسألة مما سبق في المبحثين.(4/545)
المبحث الأول
فصل: في الشركات: لغة، وشرعاً، وحكمها في الأصل، وحكمة تشريعها.
الشركات في اللغة العربية: جمع شركة (بكسر الشين وسكون الراء) ، وقد تفتح الشين وتكسر الراء، والأول أفصح، ومعناها خلط أحد المالين بالآخر، بحيث لا يمكن التمييز بينهما.
ويقال: شركته في الأمر، أشركه شركة وشركة إذا صرت له شريكاً.
ويقال أيضاً: شاركه في شركة، أي صار شريكه فيها، كما يقال: اشتركا في كذا وتشاركا في كذا، في البيع، والشراء، وفي الإرث، وما إلى ذلك من العقود والامتلاك.
والشركة في اصطلاح الفقهاء: ثبوت الحق شائعاً في شيء واحد، أو عقد يقتضي ذلك، وهي أيضاً عبارة عن عقد بين شخصين فأكثر على الاشتراك في رأس المال وربحه، أو في الربح وحده إذا لم يكن رأس مال، أو كان المال من طرف والعمل من طرف آخر.
ولكنها تختلف باختلاف أنواعها؛ لأنها تتنوع إلى عدة أنواع، كما سنذكره إن شاء الله.
وحكم الشركة مبدئياً: الإباحة، فقد أباحتها الشريعة بمصادرها الأساسية: الكتاب، والسنة، والإجماع.
ففي الكتاب قوله تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} النساء: 13: قد بينت الآية أن إخوة الميت الذي ليس له ولد ولا والد يشتركون في ثلث المال الموروث. وفي الحديث القدسي: قوله تعالى: ((أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما)) رواه أبو داود، والحاكم، والبيهقي.
وفي الحديث النبوي: قوله صلى الله عليه وسلم: ((يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا)) ، رواه الدارقطني، فالشركة محمودة ومبرورة إذا حفظ كل شريك حق شريكه الآخر فيها.
وقد وقع التشارك في الأموال وتنميتها بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض من أصحابه، كما حصل بينه وبين سلمان الفارسي رضي الله عنه.
وأبرمت الشركات بين كثير من الصحابة من بعضهم البعض، كما ثبت في الأخبار والآثار.
والإجماع منعقد على إباحة أصل الشركة، إلا ما قام الدليل على حرمتها، أو أصبح ذريعة لأكل أموال الناس بالباطل، كما نقل الشوكاني في "نيل الأوطار" عن ابن بطال، وكما نقل محقق كتاب "خبايا الزوايا" للزركشي عن ابن حزم في "مراتب الإجماع " وكما في "بداية المجتهد" لابن رشد.
وحكمة مشروعية الشركة في نظر الإسلام: التعاون بين أفراد المجتمع بالمحافظة والتنمية والتوفير. وفتح مجال العمل والاستثمار أمام المجتمع، كما في شركة المضاربة بصورة ظاهرة، فقد يكون لدى أحد الأشخاص مال، ولكن لا يستطيع استثماره، كما قد يكون لدى أحد الأفراد خبرة واستعداد في التجارة ولكنه خالٍ عن رأس مال.
ومن هنا أجاز الإسلام عقود الشركات كالمضاربة.(4/546)
فصل في الأسهم، لغة، واصطلاحاً
اعلم أن الأسهم في اللغة: جمع سهم، وهو الرمح، والنصيب، والحظ، ويجمع على سهام، وسهمان، وأسهم، وسهمة.
والسهم هو الرمح في باب الرمي والصيد، وهو: النصيب والحظ في المال في باب الشركة، والغنيمة والإرث.
وهو النصيب والحظ في الشيء المشترك، وهذا الأخير هو المراد في: "باب الشركة" عند الفقهاء.
وبهذا كله نعلم أن السهم في اصطلاح الفقهاء في باب الشركة الذي نحن فيه، هو نصيب الشريك في مال الشركة، أياً كانت الشركة، أي مقدار ما يمتلكه فيها من رأس مال وربح، إذا كان هناك رأس مال، أو من ربح فقط إن لم يكن هناك رأس مال.
والله أعلم.
فصل في الزكاة، لغة، وشرعاً وحكماً وحكمة
الزكاة في اللغة: التطهير، والنماء، والزيادة، والإصلاح، وأصلها من زيادة الخير، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} الشمس: 9.
ويقال: زكاة الزرع إذا نما، وزكا يزكو زكاة، وكل شيء إذا زاد فقد زكا.
وأما الزكاة شرعاً: فهي اسم لأخذ شيء مخصوص، من مال مخصوص، على أوصاف مخصوصة، لطائفة مخصوصة؛ قاله في المجموع.
ويقال: هي تمليك مال مخصوص لمستحقه، بشرائط مخصوصة، قاله الجزائري في "الفقه على المذاهب الأربعة".
وهي: عبادة مالية مفروضة على كل مسلم يملك النصاب، قاله ابن قدامة في "المغني".
وهي: "حق يجب في المال"، كما هي: إعطاء جزء من النصاب إلى فقير ونحوه، غير متصف بمانع شرعي يمنع من التصرف فيه، ذكره الشوكاني في "نيل الأوطار"، والمودودي في "فتاوى الزكاة" له.
والزكاة: هي الركن الخامس من أركان الإسلام عند جميع الأمة، فيكفر جاحدها، ويفسق من لو يؤدها.
قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} البقرة: 43.
وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} التوبة: 103.
وفي الحديث الصحيح: ((بني الإسلام على خمس..)) وقال فيه: (( ... وإيتاء الزكاة..)) رواه: البخاري ومسلم في الصحيحين.
وفي حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: ((اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة مالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم)) ، رواه: الترمذي وحسنه وصححه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، كما نقله الحافظ الزيلعي في نصب الراية.(4/547)
فصل في مقاصد الزكاة، والأموال التي وجبت فيها
للزكاة مقاصد كثيرة وحكم عالية؛ إذ هي قبل كل شيء غرس لمشاعر الحنان، وتوطيد لعلاقات التعاون بين الناس، وهي مظهر التعاون، وعلامة الأخوة بين المسلمين، ووسيلة التكافل بين طبقات المجتمع وأفراده.
ومبعث حكمها ومدار مقاصدها:
أنها تقوم على تضامن الأفراد؛ لأن نزول الأغنياء من مبلغ معلوم زائد عن حاجتهم الأساسية لمن يستحقه من الفقراء فيه تحقيق معنى التضامن الذي أوجبه الله بين المسلمين، قياماً بحق الفقراء، وسد حاجاتهم، وحفظ كرامتهم عن ذل السؤال، فيطهر قلوبهم من الحقد والحسد للأغنياء، ففي الآية الكريمة إشارة إلى ذلك: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} التوبة: 103 أي: تطهر نفوسهم وتزكي أعمالهم، كما فسرها بعض المجتهدين كالماوردي في "الأحكام السلطانية" وابن تيمية في فتاويه، والقرطبي في تفسيره.
ويقول الزمخشري عقب تفسير قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} الحديد: 7: (إن هذه الأموال التي بين أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، وإنما مولكم إياها وخولكم الاستمتاع بها، وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها، فليست هي أموالكم في الحقيقة، وما أنتم إلا بمنزلة الوكلاء، والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله، وليهن عليكم الإنفاق منها، كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أذن له) الكشاف 3/200.
ويقول القاضي ابن العربي: إن الله خص بعض الناس بالأموال دون بعض، نعمة منه عليهم، وجعل شكر ذلك منهم: أن يتضح في صورة إخراج سهم يردونه إلى من لا مال له. نيابة عنه سبحانه، فيما ضمنه بفضله في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} هود: 6، كما في أحكام القرآن.
ويقول الإمام الرازي في التفسير الكبير: "إن الفقراء عيال الله، والأغنياء خزان الله؛ لأن الأموال التي في أيديهم أموال الله، فليس بمستبعد أن يقول المالك لخازنه: اصرف مبلغاً مما في تلك الخزانة إلى المحتاجين من عيالي" 16/103.
وإنها تطهر النفس من وباء الشح ومرض البخل، فيستحقون الفوز والفلاح، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الحشر: 9.
وإن الأموال التي تجب فيها الزكاة فهي معروفة مبينة في كتب الفقه وهي: الأموال النامية بطبيعتها، أو المعدة للنماء.
كالأنعام السائمة التي قصد منها التناسل، وكالزروع المزروعة للاقتيات وغيره وكالنقود وعروض التجارة.
فالزكاة تجب في هذه الأموال النامية، سواء كانت أموالاً مشتركة أو خاصة بشروطها المعروفة.(4/548)
وإليك شيء يسير من أدلة وجوب زكاة تلك الأنواع: فما يستدل لوجوب زكاة الأنعام: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البر صدقته)) رواه الحاكم بإسنادين صحيحين عن أبي ذر، كما في سبل السلام، والمغني، ونصب الراية.
وتوضيح مقادير هذه الصدقة مروية في كتب السنة والصحاح: مثل حديث أنس رضي الله تعالى عنه، وهو المعروف "بكتاب أبي بكر"، وهو في البخاري، وسنن أبي داود والحاكم والطحاوي.
وفي كتاب عمر رضي الله تعالى عنه مثله، عن أبي داود والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي، وابن أبي شيبة، وأحمد، والحاكم.
وكتاب عمرو بن حزم رضي الله تعالى عنه مثل ذلك، كما أخرجه: النسائي، وأبو داود والطبراني، وابن حبان، وعبد الرزاق.
ومن أدلة زكاة النقود: قوله صلى الله عليه وسلم:
((هاتوا ربع العشر، من كل أربعين درهماً درهم، وليس عليكم شيء حتى تتم مائتي درهم، فإن كانت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم، فما زاد فعلى حساب ذلك)) . رواه: الدارقطني، وأبو داود والبيهقي.
والإجماع منعقد على ذلك كما نقله ابن حزم في مراتب الإجماع، وابن رشد في بداية المجتهد.(4/549)
ومن أدلة زكاة الزروع قوله: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} الأنعام: 141.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فيما سقت السماء والسيل والبعل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر)) رواه: البيهقي والحاكم وصححه.
والاجتماع منعقد عليه كما نقله ابن حزم في مراتب الإجماع، وابن رشد في بداية المجتهد.
ومن أدلة زكاة التجارة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} البقرة: 267 فقد قال مجاهد: إنها نزلت في التجارة.
وحديث سمرة بن جندب رضي الله عنه: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع)) رواه أبو داود، والدارقطني، والبزار.
وقد اختلف العلماء في زكاة التجارة إلى مذهبين:
فالمذهب الأول: تجب الزكاة إذا حال الحول، وهو قول جماهير العلماء من السلف والخلف، وقال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة، وهو مذهب: الثوري والأوزاعي، والشافعي، وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وأبي عبيدة. ومالك يوافقهم في نوع، وفي نوع يقول فيه: زكاة عام واحد.
والمذهب الثاني: لا تجب الزكاة في التجارة، وهو مذهب: داود وغيره من أهل الظاهر.(4/550)
وأما زكاة الشركات التي نحن بصددها: فإن الزكاة فيها بغير خلاف معتبر.
وأدلتها هي نفس الأدلة السابقة عموماً. والأحاديث التي وردت بلفظ الخلطة بصفة خاصة، مثل خبر أنس رضي الله تعالى عنه وفيه: (( ... لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)) رواه البخاري وغيره.
وفي الخبر المشهور بكتاب عمر رضي الله تعالى عنه: "ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع مخافة الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية" رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي، ومثله ما في كتاب عمرو بن حزم، عند أبي داود والنسائي، وغيرهما.
هذا وتجب الزكاة في العملات المعدنية والورقية للقوة الشرائية التي منحت لها بحكم القانون، فقامت بذلك مقام الذهب والفضة، وهو قول جمهور الفقهاء، فقد أجمع الفقهاء الثلاثة من الأئمة على وجوب الزكاة فيها، وخالفت الحنابلة فقط.
ولوجوب زكاة الأموال –سواء كانت أموالاً مشتركة أو خاصة- شروط الزكاة المعروفة، ونذكر منها:
- أن يبلغ المال المملوك "نصاباً"، وهذا المقدار هو الذي يعتبره الإسلام مظهر الغنى، مع من يعولهم من الأهل. قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} البقرة: 219 والعفو: ما زاد من الضرورات اللازمة.
وفي الحديث: ((إنما الصدقة عن ظهر غنى)) رواه أحمد والبخاري، وهذا هو حد الكفاية عند حسابات الزكاة، وهو المسمى (بالنصاب) ، قاله حجة الله الدهلوي.
- وأن يحول عليه الحول، وهذا شرط لوجوب زكاة جميع الأموال، ما عدا الزرع والركاز والمعدن، والربح والنتاج. ففي حديث علي رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا زكاة في مال حتى يحول الحول)) رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وابن عدي ومالك في الموطأ والشافعي في مسنده وابن ماجه والبيهقي وأبو عبيد في كتاب الأموال، نقله الحافظ الزيلعي في نصب الراية.(4/551)
وفي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من استفاد مالاً فلا زكاة فيه حتى يحول الحول)) رواه الترمذي والدارقطني والبيهقي وابن أبي شيبة، كلهم موقوفاً إلا الترمذي فمرفوعاً.
ومن هذا كله نعلم أن الزكاة تجب في أموال الشركة إذا بلغت نصاباً، ولو لم تبلغ كل حصة من حصص المشتركين فيها النصاب وحدها كما يقول الشافعي، ويؤيده أحاديث الخلطة السابقة، فللخلطة والشركة عند الشافعي ومالك وآخرين من الفقهاء تأثير في وجوب الزكاة ومقدارها، في المواشي والزراعة والنقود وعروض التجارة كما ذكره صاحب "كفاية الأخبار" وبداية المجتهد، نقل ذلك المودودي في "فتاوى الزكاة" له مع تعليق صاحب التعليق.
والأحسن أن تقوم الشركة بعد طرح نفقاتها من أجر ومرتب العمال غير المشتركين مع طرح الأسهم التي لم تبلغ الحول منذ دخولها في الشركة، بأداء زكاة سائر الأسهم بإذن أصحابها على الأصح؛ لأن لها تسهيلات إدارية وليس هناك أي أصل من أصول الشريعة ينافي ذلك، قاله المودودي في فتاوى الزكاة، مع توسع بسيط.
هذا ما ذهب إليه الشافعي ومالك من الفقهاء، فقد اتفقوا: أن الشركاء يزكون عن شركتهم زكاة المال الواحد، باعتبار المقدار الواجب.
وتنظر العروض التجارية إذا حال الحول –من تاريخ البدء- إلى ما بقي لدى معارضها ومخازنها من رصيدها، فتقومها وتجمع القيمة إلى ما عندها من نقود، ثم تؤدي زكاة المجموع، وتنظر –أيضاً- إلى النصاب في أول الحول وآخره، ولا تنظر ما طرأ خلال الحول من زيادة أو نقصان، قاله المودودي.
وتقع مسؤولية ما إذا قل سهم من أسهم الشركة عن النصاب –وقلنا طرح مثل ذلك السهم- على مالكه، فإن كان لديه ما يكمله من شركة أخرى، أو رأس مال آخر، فعليه زكاة ذلك المطروح مع ما لديه، وإلا فلا. قاله المودودي.
ومن ساهم في الشركة بعمله فقط، فإن لم يأخذ حصته من الربح ولم يقسم له حتى حال الحول الثاني –مثلاً- فإن في سهمه الزكاة. كما قاله المودودي في "فتاوى الزكاة".
وأعتبر أنه أصاب الحكم الحق في هذه المسألة. والله أعلم.(4/552)
المبحث الثاني
أنواع الشركات
تنقسم الشركة إلى قسمين: "شركة أملاك"، و"شركة عقود":
1- شركة أملاك: وهي أن يمتلك أكثر من واحد مالاً من غير عقد، سواء كان التملك تملكاً إجبارياً، كالتملك بالإرث ونحوه، أو تملكاً اختيارياً، كاشتراك اثنين فصاعداً عيناً معاًَ بالشراء مثلاً.
وهذا النوع من الشركة جائز عند الجميع، وبه وردت الآية الكريمة السابقة: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} . النساء: 12.
فإن بقي مثل ذلك المال مشتركاً حتى يحول الحول ولم ينقص عن النصاب، مع كونه مالاً زكوياً –كالماشية، والنقود، وعقود التجارة- فإن الزكاة تجب على المشتركين في هذا المال، على مقدار الأسهم.
ففي الماشية بلا خلاف، وفي غيرها على الأصح.
2- وشركة عقود: وهي عبارة عن العقد الواقع بين شخصين فأكثر للاشتراك في مال وربحه.
وهي تنقسم إلى أقسام، هي: " شركة العنان "، و" شركة المفاوضة "، و" شركة الأعمال "، و" شركة الوجوه "، و" شركة المضاربة "، ولهذه الشركات أركان وشروط.
1- شركة العنان: ويقال: الشركة بالأموال: هي أن يتعاقد اثنان فأكثر على الخلط للاشتراك بمبلغ معين من مالهما للتجارة فيه على أن يكون الربح بينهما، واشترطا على أن لا يتصرف أحدهما إلا بإذن صاحبه.
وبعبارة أخرى هي: أن يشترك أكثر من واحد في رأس مال بأسلوب عقد مشترك، على أن يكون الربح الناتج منه مشتركاً بينهما بقدر رأس مال كل منهما، إذا كان العمل على السواء، وإلا اعتبر لصاحب العمل في الربح عمله ورأس ماله.(4/553)
وهذا النوع من الشركة جائز عند الجميع أيضاً.
ولشركة العنان أركان وشروط:
فأركانها: المتعاقدان، ورأس المال المشترك، والصيغة، عند أكثر العلماء، واقتصر بعضهم، وهم الحنفية ومن تبعهم على ركن واحد وهو الإيجاب والقبول كما نقل.
وأما الشروط: فيشترط لكل من المتعاقدين: الحرية، والرشد، والبلوغ.
والصيغة: أن تشتمل على ما يفيد الشركة عرفاً، والإذن بالتصرف لمن يتصرف منهما بالبيع والشراء ونحوهما.
ولرأس المال: اختلاط المالين من غير تمييز، واتحادهما في الجودة، ولو تفاضلاً في القدر، وكونهما معلومين لدى المتعاقدين.
ويشترط أيضاً أن يكون الربح والخسارة بحسب نسبة المالين، قلة وكثرة. وأن يكون الجزء المستحق لكل واحد من المشتركين من الربح جزءاً معلوماً مشاعاً.
وتلك الشروط مما اتفق فيه عند الأكثر.
وهذه الشركة جائزة عند الجميع كما سبق، وكما نقل الخطيب الشربيني في المغني على المنهاج.
وعمل الصحابة والتابعين جار.
وهذه الشركة: تجوز في جميع أنواع الأموال، فمن ادعى الاختصاص بنوع فعليه الدليل.
وفي الحديث: عن أبي المنهال: ((أن زيد بن أرقم والبراء بن عازب كانا شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهما: أن ما كان بنقد فأجيزوه، وما كان بنسيئة فردوه)) . رواه أحمد والبخاري، ودل هذا الحديث جواز الشركة في الدراهم والدنانير، وهو إجماع كما قاله ابن بطال ونقله الشوكاني في نيل الأوطار.
2- وشركة الأبدان: وهي شركة الأعمال: أن يشترك محترفان فأكثر بعقد من غير مال، على أن يعملا معاً بأبدانهما، ويقتسما أجرة عملهما، وعلى أن يتقبلا الأعمال، ويكون الكسب بينهما، فيصير كل واحد منهما وكيلاً عن الآخر في تقبل الأعمال والعمل، فتكون الأضرار الناجمة عن الأعمال عليهما معاً، وإن لم يعمل بعض منهم.
وهذه الشركة – أي شركة الأعمال - قد أجازها كل من: الحنفية والمالكية والحنابلة وغيرهم، ومنعتها الشافعية.(4/554)
وقد استدل الجمهور لجوازهما بأحاديث مثل حديث أبي عبيدة: عن عبد الله قال: "اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر، قال: فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء"، رواه أبو داود، والنسائي وابن ماجه.
وأجابت الشافعية عن مثل هذا الحديث: بأن غنائم بدر كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يدفعها لمن يشاء، وأظن أن الحق في هذه المسألة مع الجمهور، والله أعلم.
3- وأما شركة الوجوه: فهي: أن يشترك أكثر من شخص ليس لهما مال، ولكن لهما وجاهة عند الناس، على أن يشتريا تجارة بثمن مؤجل، ويكون الربح بينهما.
أو: أن يتفق ذو جاه مع خامل، على أن يبيع الوجيه تجارة الخامل، على أن يكون له جزء من الربح بدل الأجرة.
أو: أن يشتركا –أي المفلسان- في شراء تجارة بثمن في ذمتهما اعتماداً على وجاهتهما، ثم يبيعانه، والربح بينهما على ما اتفقا به.
وقد أجاز هذا النوع من الشركة: كل من الحنفية والحنابلة ومن تبعهم، ومنعها كل من الشافعية والمالكية ومن تبعهم.
ولعل الأصل يؤيد المجوزين، فقد قال الشوكاني في "نيل الأوطار": إن "الأصل جواز جميع أنواع الشركة المفصلة في كتب الفقه، فلا تقبل دعوى الاختصاص بالبعض إلا بدليل" الجزء الخامس صفحة (392) نشر وتوزيع رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، والله أعلم.(4/555)
4- وأما شركة المفاوضة: فإنها هي أن يتعاقد اثنان فصاعداً على الاشتراك بأموالهما من غير خلط المالين ببعضهما البعض قبل العقد.
أو أنها: الاشتراك في استثمار المال مع تفويض كل واحد لصاحبه في الشراء والبيع والمضاربة والتوكيل، والبيع بالدين، والارتهان، والضمان، ما عدا الكسب النادر.
أو: اشتراك أكثر من واحد في الاتجار بماليهما على أن يكون لكل منهما نصيب في الربح بقدر رأس ماله، بدون تفاوت، مع التصرف المطلق لكل منهما، في البيع والشراء والغيبة والحضور.
أو: أن يتعاقد اثنان فأكثر على أن يشتركا في ربح ماليهما، وما سيكون عليهما من ضمان من غير اختلاط المالين.
وهذا النوع من الشركة قد جوزه كل من الحنفية والمالكية ومن معهما، ومنعته الشافعية والحنابلة، وقد نقل عن الإمام الشافعي: أنه عد هذه الشركة من أشد العقود بطلاناً كما نقل عنه الخطيب الشربيني في المغني على المنهاج: قال: "قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فلا باطل أعرفه في الدنيا"، نقله في الجزء الثالث صفحة (212) ط: مطبعة الاستقامة بالقاهرة 1374هـ - 1955م، وأشار إلى ما فيها من غرر.
ودليل المجيزين: عموم أحاديث الشركة السابقة، مع ما نقلناه عن الشوكاني في "نيل الأوطار" قريباً.
5- وشركة المضاربة: وهي: القراض: فإن الحنفية لم تعدها من أقسام الشركة، وقد عدها الآخرون منها.
وهي: عقد بين طرفين: صاحب مال، وعامل، على أن يشتركا في الربح –لاعتبار هذا، سمي العقد شركة - ورأس المال من طرف، والعمل من طرف آخر، ولاعتبار هذا لم تسم بشركة.
وهي مطلقة ومقيدة، وكلاهما جائز عند الفقهاء، كما قاله ابن حزم في مراتب الإجماع، حين قال: "لكل أبواب الفقه أصل من الكتاب والسنة حاشا القراض فما وجدنا له أصلاً البتة، ولكنه إجماع مجرد".(4/556)
وكان القراض معمولاً به في الجاهلية: ((قارض النبي صلى الله عليه وسلم في مال خديجة رضي الله تعالى عنها قبيل زواجه بها)) ، وأقره الإسلام، ومما يستدل لذلك آثار عديدة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
منها: ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه: "أنه أعطى مال يتيم مضاربة" "رواه الشافعي والبيهقي وابن أبي شيبة ". ومنها: ما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه "أنه أعطى مالاً مضاربة" رواه البيهقي.
ومنها: ما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه أعطى زيد بن جليدة مالا مضاربة. رواه الشافعي والبيهقي.
ومنها ما روي أنه جرى بين عبد الله وعبيد الله ابني عمر رضي الله عنهما مع أبيهما في المال الذي أمرهما أبو موسى الأشعري من العراق ليتجرا به مضاربة إلى المدينة ويبلغاه إلى عمر رضي الله تعالى عنه، وقد فعلا ذلك وربحا منه، وتشاجرا مع عمر رضي الله تعالى عنه، فأخيراً قيل: إنها مضاربة. رواها مالك في الموطأ والشافعي والدارقطني. انظر المغني لابن قدامة والهداية ونصب الراية.
وإذا تتبعنا تلك الشركات ولا حظنا قواعدها وشروطها وقسنا عليها الشركات المعاصرة: نلاحظ أن الألقاب قد تغيرت والأساليب قد تعددت.
فإذا اعتبرنا أن هذه الشركات الإسلامية شركات مالية ذات ثروة طائلة، فإن الزكاة تجب فيها جملة واحدة، فإن أخرج من مجموعها فلا بد أنها ستكون على قدر الأسهم.
لأن الزكاة واجبة على مشتركيها في أموالها على مقدار الأسهم – رأس مال وربحاً.
فإن كانت الشركة كـ " شركة عنان " أو طابقت شروطها ومقاصدها، فالزكاة تجب على أصحاب الشركة إذا حال الحول ولم ينقص المال أي قيمته عن النصاب.
والأحسن –كما أشرت سابقاً- إن كان للشركة مركز إداري أو مدير عام أن يؤدي الزكاة من مركزها بعد سداد نفقاتها رأس مال وربحاً.(4/557)
وكذلك نقول في أنواع الشركات الأخرى، إلا أنها تختلف بعض الشيء؛ لأن في شركة المضاربة مثلاً رأس المال لصاحب المال، فزكاته عليه، والربح مشترك على ما اتفقا فيه –من تساوٍ وتكاثر، فزكاته عليهما وزكاة سهم صاحب المال حولها حول رأس ماله- وزكاة سهم المضارب حولها من ظهور الربح. ولأن شركة الأبدان ليس فيها رأس مال كما هو واضح، وقس على ذلك البقية.
وهناك شركات غير إسلامية، فلا نطيل الكلام فيها كما قلت سابقاً، ولكن لا بأس بالإشارة إلى بعض منها.
فمن هذه الشركات "شركة التأمين" بأنواعها الثلاثة، فليست من الشركات الإسلامية؛ لما فيها من التغرير والقمار بأموال الناس.
لأن العقد الصحيح لا يقع إلا على "العين المعوضة" المأذون فيها، كالبيع أو "العين بلا عوض" كالهبة، أو "المنفعة المعوضة" كالإجارة، أو المنفعة بلا عوض كالعارية، وعقد قد خلا من هذه المظاهر الأربعة؛ لأنه وقع على نوع من الضمان ولم يكن هذا النوع عيناً ولا منفعة، انظر: " فقه السنة " 2/126 -198 -232- 388. ط: 1968م دمشق. والمدخل الفقهي لمصطفى الزرقا: 1/539 -541-549.
ومنها شركات البنوك الربوية.
ومنها شركة المساهمة بصورها المختلفة الحديثة: المدنية، التجارية، شركات الأموال، الشركات العامة.
فلا نتكلم عن زكاة هذه الشركات، ولا أسهمها؛ لأنها لا تتفق مع قواعد الشريعة في الشركات، فقد افتقدت العنصر الأول في الشبه لدى الشريعة الإسلامية، وهو: الجهد البشري، كما لا يخفى.
وافتقدت أيضاً شروطاً كثيرة من شروط الاشتراك، مثل: بقاء أهلية الشركاء؛ فإن تلك الشركات لا تتوقف لموت أحد من شركائها، فلهذا أو غيره نعلم أنها غير إسلامية، فلا نتكلم عن الزكاة فيها؛ لأن الزكاة عن مثل هذه الأموال لا تطهرها ولا تزكي أصحابها.. انظر " المجتمع الإسلامي وفلسفته المالية والاقتصادية" للدكتور محمد الصادق العفيفي.
انتهى والله أعلم.(4/558)
الخلاصة
لقد تقرر فيما سبق في المبحثين حول الموضوع ما يلي:
1- أن الشركة: هي ثبوت الحق شائعاً في شيء واحد، كثبوت حقوق الورثة في المال الموروث.
وثبوت الحق شائعاً في شيء يعقد بين أكثر من واحد كثبوت أسهم الشركاء في المال المشترك بعقد، كما في " شركة العنان ".
أو كثبوت أسهم الشركاء في الربح المشترك بعقد كما في " شركة المضاربة " مطلقاً، و" المفاوضة " عند عدم الاختلاط، و"الوجوه" عند عدم رأس المال.
أو كثبوت أسهم الشركاء في الربح أو الأجر للمشتركين بعقد، كما في "شركة العمال". والله أعلم.
2- وأن أصل الشركة جائز شرعاً إلا ما قام الدليل على منعه، أو أصبح ذريعة لأكل أموال الناس بالباطل.
والله أعلم.
3- وأن من الشركات الجائزة شرعاً بالإجماع: الشركة بالامتلاك في الأشياء المباحة، كالمعادن المحفورة، والبئر.. و"شركة العنان" و"المضاربة" وما تفرع منهما مما لم يخرج عن قواعد الشريعة في حدود الشركات.. والله أعلم.
4- وأن السهم في باب الشركة: هو نصيب الشريك في مال الشركة من رأس مال وربح، كما في "شركة العنان" مثلاً، أو في الربح كما في سائر شركات العقود من مضاربة وغيرها ... والله أعلم.(4/559)
5- وأن السهم: هو من عين المال المشترك –أياً كانت نوعية المال- وليس هو الورقة المكتوبة لكل شريك، وأن هذه الورقة لا تعدو وثيقة الشركة وبيان مقدار الأسهم الحقيقية لكل المشتركين ... والله أعلم.
6- وأن الشركة مالها مال متحد، ولو تعدد ملاكه، أو تباعدت أماكنه، فإن كان هذا المال مالاً نامياً أو معداً للنماء، وأصبح مجموعه مبلغاً يظهر منه مظاهر الغنى لملاكه، ومظهر المطامع للمحتاجين، فلا بد أن فيه حقاً معلوماً مفروضاً؛ لأن حكمة وجوب الزكاة ومقاصدها متحققة ومجتمعة فيه، ومعظمها ما تشير إليه الآية الكريمة المنزلة في الزكاة المفروضة، قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} التوبة: 103. والله أعلم.
7- وأن وجوب تلك الزكاة في تلك الشركات على المشتركين على مقدار الحصص، وهي الأسهم، فإن سلم أحد الشركاء مبلغ زكاة الشركة، فسيرجع على الآخرين بمقادير أسهمهم: إذا كانوا من أهل الزكاة ... والله أعلم.
8- وأن الأولى والأحسن، والأسهل، لأصحاب الشركة وعاملي الزكاة، إذا كان للشركة مركز عام، أو مدير عام، أن يؤدي هذا المركز أو ذلك المدير العام زكاة مال الشركة كلها، كوكيل عن الآخرين إن كان من أصحاب الأسهم، أو عن المالكين إن لم يكن منهم بإذنهم مقسومة على قدر الحصص بعد طرح المصروفات اللازمة، من أجرة العمال والكراوات ... والله أعلم.
9- وأن الشركات المعاصرة التي لا تتفق مع قواعد الشريعة الإسلامية؛ لأنها تتوفر لها شروط، منها الجهد البشري وحمل رؤوس الأموال وعرضها على الربح والخسارة، وعدم التعامل بالربا والمقامرة، فلا نتكلم عن زكاتها؛ لأن الزكاة لا تطهر مثل هذه الأموال ولا تزكيها، ولا تنفع أصحاب تلك المعاملات صدقة يخرجونها منها، لا دنيا ولا آخرة. إلا إذا تابوا منها وأصلحوا أعمالهم فلهم رؤوس أموالهم..
والله الموفق، وهو يهدي إلى سواء السبيل.
والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.
15/7/1406-24/4/1986 الشيخ هارون خليف جيلي(4/560)
أهم المراجع
1- القران الكريم.
2- تفسير ابن كثير.
3- التفسير الكبير للرازي. من 16/103
4- الكشاف للزمخشري. من 3/200
5- مغني المحتاج للخطيب الشربيني: من 1/367 إلى 634 ومن: 2/211 إلى 216.
6- الفقه على المذاهب الأربعة الجزائري. من 1/590 إلى 615
7- مراتب الإجماع لابن حزم من: 40-37-105.
8- نيل الأوطار للشوكاني. من: 4/129- 5/390
9- خبايا الزوايا للزركشي. من 24-25-133-136-137-142-283
10- نصب الراية للحافظ الزيلعي. من: 2/327- إلى 376.
11- سنن أبي داود: من: 1/393 – إلى 395، ومن 2/251 – 252
12- سبل السلام من: 1/598 إلى 616
13- فتاوى الزكاة للمودودي من: 12-18-77-81-82-87-78-88
14- جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد. للشيخ محمد سليمان المغربي من 1/214-215-218-387-389.
15- الأموال وطرق استثماره للدكتور شوقي من: 212
16- المجتمع الإسلامي وفلسفته المالية والاقتصادية للدكتور محمد الصادق العفيفي من 310
17- بداية المجتهد لابن رشد من: 1/197 ومن 2/251
18- كتاب الأم للشافعي. من 2/20-24-38
19- فقه السنة للسيد سابق. من: 2/295
20- الموطأ للإمام مالك. من 1/246
21- فتح الباري. من: 3/189
22- المصباح المنير: 254
23- مختار الصحاح: 273
24- منجد اللغة والأعلام
25- المحلى لابن حزم من: 5/234 -199 ومن: 6/69
26- الأحكام السلطانية للماوردي: 119
27- كتاب الأموال لأبي عبيد من: 235-439-688-409-413.
28- أحكام القرآن من: 945
29- المغني لابن قدامة من 1/625 ومن 2/433
30- حجة الله الدهلوي من 2/506
31- فتاوى ابن تيمية
32- المجموع من: 5/324-325-434 ومن: 6/47-48.
33- صحيح البخاري: 110-6: الإيمان والزكاة في: 189
34- صحيح مسلم. 30-32 باب الصلاة وأركان الإسلام وفي: 315
35- سنن الترمذي من 78 وفضل الصلاة
36- سنن النسائي: من: 336
37- سنن البيهقي من 104
38- سنن ابن ماجه من: 2/66-129
39- صحيح ابن حبان
40- نهاية المحتاج من: 5/3
41- بدائع الصنائع للكاساني من: 6/56
42- النقود العربية للكرماني من: 9/18
43- الاختيار لتعليل المختار للموصلي من: 2/27(4/561)
زكاة الأسهم في الشركات
إعداد
فضيلة الشيخ رجب بيوضي التميمي
عضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأسهم في الشركات من الأوراق المالية التي تقوم عليها المعاملات التجارية في أسواق تسمى " سوق الأوراق المالية " وهي سوق منظمة لتداول الأسهم. والأسهم تمثل في الواقع أموالاً مادية موظفة في الإنتاج، ويطلق على هذه الأسهم "القيم المنقولة" في اصطلاح علماء الاقتصاد.
وهذه الأسهم حقوق ملكية جزئية لرأس مال كبير للشركات المساهمة، وكل سهم هو جزء من أجزاء متساوية لرأس المال، والسهم ينتج جزءاً من ربح الشركة المساهمة يزيد أو ينقص تبعاً لزيادة ربح الشركة أو نقصه، ويتحمل قسطاً من الخسارة إن تعرضت الشركة المساهمة للخسارة.
وللسهم قيمة اسمية وهي قيمته المقدرة عند إصداره، وله قيمة في سوق الأوراق المالية تزيد وتنقص تبعاً لزيادة العرض والطلب وهو كسائر السلع وسيلة للاتجار بالبيع والشراء ابتغاء الربح، وتتأثر قيمة السهم تبعاً لنجاح الشركة ومقدار الربح.
ويتبين من هذا أن الأسهم وملكيتها وبيعها وشراءها والتعامل بها حلال شرعاً ما لم يكن عمل الشركة التي تكونت من مجموع الأسهم مشتملاً على محرم كصناعة الخمور وبيعها والاتجار بها، أو كانت من الشركات التي تتعامل بالفوائد الربوية إقراضاً أو استقراضاً أو نحو ذلك.(4/562)
زكاة الأسهم:
ولما كانت الأسهم تمثل في الواقع أموالاً مخصصة للاستثمار، ويستطيع مالكها الاتجار بها بالبيع والشراء، ويربح صاحبها بالاتجار كما يربح أي تاجر من بيع سلعته وقيمتها الحقيقية التي تقدر في الأسواق المالية تختلف في البيع والشراء عن قيمتها الاسمية، فهي من عروض التجارة وهي كأموال التجارة ولأن مالك الأسهم يستطيع في أي وقت أن يعيد رأس ماله في الأسهم إلى قالب نقدي له أن يستخدمه في أي وجه يريد، لذلك تجب فيها الزكاة (1) ويؤخذ من مالكها في آخر كل حول ربع العشر من قيمة الأسهم حسب تقديرها في الأسواق، مضافاً إليها الربح بشرط أن يكون الأصل والربح نصاباً أو مكملا مع مال عنده نصاباً. فمالك الأسهم يعرف مقدار أسهمه ويعرف كل عام أرباحها ويستطيع أن يزكيها بسهولة، وهذا الحكم عام في جميع الأسهم سواء أكانت الشركات المساهمة شركات صناعية محضة أم شبه صناعية - أي: أنها لا تمارس عملاً تجارياً - أم كانت شركات تجارية.
وإذا أخرج مالك الأسهم زكاة أسهمه وأرباحها عنها فلا يؤخذ من الشركات المساهمة الزكاة حتى لا تؤخذ الزكاة مرتين؛ لأن الأموال التي هي رأس مال الشركة هي عبارة عن الأسهم المملوكة للأفراد والتي زكاها أصحابها.
والله أعلم وهو ولي التوفيق.
4 شوال 1406 / 10 / 6 / 1986 الشيخ رجب بيوضي التميمي
__________
(1) كعروض التجارة(4/563)
زكاة الأسهم في الشركات
إعداد
فضيلة الشيخ محمد عبده عمر
عضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
المبحث الأول: زكاة الأسهم في الشركات
المقدمة
اطلعت على بعض البحوث التي وصلت إلينا من المجمع تمهيداً لمناقشتها في الدورة القادمة، وكنت أتوقع أن تكون البحوث مقصورة على موضوعية البحث دون الخوض في موضوع الزكاة بوجه عام واستعراض أدلة وجوبها من الكتاب والسنة؛ لكون أدلة وجوبها معلومة من الدين بالضرورة، وركنا من أركان الإسلام الخمسة، فضلا عن جزئيات فقهية لا علاقة لها بصلب الموضوع، وإذا كان لا بد من السماح للقلم بأن يعرج على شيء، فإن الأولى بذلك التعريج على مسائل لها علاقة مفيدة في طلب البحث المطروح، وكنت أود لو أن البحوث المشار إليها تعرضت لها. وهي ما يلي:
1- إيضاح ما علق في أذهان جماهير الأمة الإسلامية في عصور الجهل والانحطاط إلى حد أصبح فيه مفهوم الزكاة يساوي فكرة الإحسان والتفضل.
2- هل في أموال الأغنياء للفقراء حق سوى الزكاة؟
3- ما هي حدود حق الفقراء في أموال الأغنياء عند تقريره؟
ولكي لا يطول بنا البحث أو يتشعب فقد قسمت الموضوع إلى ثلاثة مباحث:
الأغنياء المسلمين، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة: 60 وهي ضريبة إسلامية شرعها الإسلام، تأخذها الدولة من الأموال الظاهرة وغير الظاهرة؛ كالذهب والفضة وسائر النقود، وهي في نظر الإسلام ضريبة إجبارية وفريضة إسلامية محكمة وركن من أركان الإسلام الخمسة.(4/564)
وحارب الخليفة الأول للمسلمين الذين امتنعوا من أدائها معتبراً ذلك خروجاً منهم على الإسلام. والزكاة لا تؤخذ إلا بعد أن يتجاوز ما يمتلكه الإنسان عن حاجته ويرتفع عن مستوى المعيشة المناسب قليلاً. فإذا امتلك المسلم البالغ العاقل من الزروع والثمار والماشية أو عروض التجارة أو الذهب والفضة واستمر في حوزته كل ذلك أو بعضه حولا كاملاً، اعتبر في نظر الإسلام غنياً، ووجب عليه إخراج الزكاة بالمقادير التي حددها الشرع، وهي على وجه العموم عبارة عن 10 % من محصول الزرع والثمار المسقي بماء السماء دون جهد أو عناء، ونصف هذا المقدار إذا أسقي الزرع أو الثمر بعناء ومشقة وبالآلات، و2.5 % من قيمة الذهب أو الفضة أو السلع التجارية أو النسبة المتصاعدة العينية من الماشية حسبما حددته الشريعة الإسلامية.
مما تقدم يتضح بكل جلاء بأن مفهوم الزكاة في الإسلام قد تجاوز مرحلة الإحسان إلى فكرة الضريبة الإجبارية، وإلا لما كان هناك معنى لأن يكون الزكاة ركناً من الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام. وهذا هو ما أجمع عليه الصحابة وعلماء الأمة الإسلامية سلفاً وخلفاً وفي كافة العصور.(4/565)
ومن هذا الفهم الإسلامي الصحيح ظهرت فكرة الحق الشرعي في أموال الأغنياء للفقراء، ومما لا شك فيه بأن الأمم والشعوب قد تأثرت بهذا المفهوم للإسلام عبر عصور الإسلام المختلفة، مما جعلها تتحدث في العصر الحديث عن فكرة الحق في أموال الأغنياء للفقراء، بعد أن سبقها الإسلام إلى هذا قبل أربعة عشر قرناً ونيف من الزمن، وبعد أن كان هذا الحق في الضمير الإسلامي جزءاً لا يتجزأ من عقيدته كركن من أركان الإسلام الخمسة التي لا يقوم الإسلام بدونها، وأن الغني الموسر لا يمكن أن يكون خالي الذمة من أي واجب إزاء الفقير المعدم، وإذا كان من السهل أن يتجاهل الغني واجبه أمام هذا الحق الشرعي المفروض فليس من السهل إذا صار هذا الحق واجباً شرعياً للفقير أن تقف السلطة الشرعية مكتوفة الأيدي، ليس فقط لأخذ ذلك الحق الشرعي من الغني وإعطائه للفقير، ولكن الحق الشرعي هنا للسلطة، أخذ ذلك الحق ونصف مال الغني كعقوبة شرعية لذلك الغني الذي أراد أن يتهرب من أداء ذلك الحق، فإذا لم تقم السلطة الشرعية بواجبها فإن الفقراء لن يعجزوا في الوصول إلى حقوقهم بقوة الحق المشروع لهم في الإسلام. فلم تكن فريضة الزكاة فكرة إحسان؛ لأن الإحسان يمثل واجباً لاحقاً، ومن هنا ساد الفهم الخاطئ في عصور الجهل والانحطاط من أن فكرة الزكاة تساوي فكرة الإحسان، الأمر الذي جعل الأغنياء ظالمين، واستطاعوا أن يلبسوا مفاهيم هذا الحق الشرعي بمفاهيم الإحسان حتى تضعف قوة المطالبة به من ناحية الفقراء، طالما هو إحسان وتفضل وليس حقا واجبا فرضه الإسلام وجعله ركناً من أركانه الخمسة. كما أن تحويل فكرة هذا الحق الشرعي إلى فكرة إحسان جعل الدولة لا تدخل إلى جانب الفقير؛ لأن درجة الإلزام هنا قد ضيعت بضياع فكرة الحق الواجب ولم يبق إلا فكرة الإحسان. الأمر الذي جعل الناس لا يشعرون بإزاء فكرة الإحسان أنها تتمتع بدرجة عالية من الإلزام للناس. وقد عرفوا طوال عصور الجهل والانحطاط وفي عصور غياب الوعي الإسلامي الصحيح لهذا الركن الإسلامي بأن الخلق لا يمكن أن يرقى إلى سلم الإلزام للحق الواجب الشرعي.
إضافة إلى أن فكرة الإحسان خالية من الشروط الضرورية لتدخل الدولة، ولا يمكن أن نجبي من الإحسان ضريبة محددة المقادير مبينة الشروط. فالإحسان ليس هناك تحديد لمقاديره، ولا بيان واضح دقيق لمن يجبي الإحسان، ومن يجبي الإحسان إذا تجرد من فكرة الحق الواجب شرعاً. وواضح الأمر موكول بجملته إلى الأغنياء، متروك لمدى شعورهم بواجبهم إزاء الفقراء والمعوزين، وهو شعور يغالبه الحب الطبيعي للمال والنفور من بذله وإنفاقه، فكانت النتيجة أو المحصلة أن انصرف الناس عن الإحسان تدريجيا وسقط الفقراء في هوة سحيقة من البؤس والعوز دون أن يجدوا من نظام المجتمع عوناً أو كافلاً. لا شك أن في المال حقاً سوى الزكاة، وأن الزكاة ليست هي كل الواجب، وهذا ما قرره كثير من علماء السلف والخلف. وأن الواجب الإسلامي لا يتم إلا بتحقيق وسائل الحياة الكريمة للطبقة الفقيرة، وبذل ما يحتاج إليه هذا الهدف الإسلامي الجليل.(4/566)
وقد أشار ابن حزم في الجزء السابع من كتابه المحلى إلى أن تحقيق مستوى الحياة الكريمة للطبقة الفقيرة حق شرعي وواجب اجتماعي يجب على الدولة أن تضطلع به، ولا يجوز أن تتركه لجهود الأفراد، وأن للحاكم أن يأخذ من أموال الأغنياء ما يحقق به هذا الغرض إذا لم تف الزكاة به. والمغزى الاجتماعي لهذه الفكرة واضح، وهي تجعل المجتهد لا يفكر في تمديد واجب الأغنياء نحو الفقراء، ولكنه يفكر في ضرورة تحقيق مستوى خاص من الحياة لكل فرد من أفراد الطبقة الفقيرة.
ومعلوم بأن الحكم الشرعي يؤخذ من نصوص الكتاب والسنة ومن القياس والإجماع. والفقيه عندما يقوم بمهمته الاجتهادية إنما يتجه إلى نصوص الكتاب والسنة ليستخلص منها الحكم الشرعي طبقاً للقواعد المقررة في أصول الفقه الإسلامي. ونحن هنا لا نحب أن ندخل في تفصيلات طرق استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها، فهذا لا يعنينا هنا، وإنما الذي يعنينا بصورة خاصة هو طبيعة هذا المنهج من ناحيته الإيجابية والسلبية، فهو من الناحية الإيجابية ينحصر في النصوص، ويجتهد في استخلاص الأدلة وصولاً إلى الحكم الذي يدل عليه النص، أو يشهد له القياس أو الإجماع ثم الاستنباط، وانتهت المهمة.
وواضح أن هذا المنهج الاجتهادي لا بد من توافره كشرط ضروري للاجتهاد، إلا أن هذا المنهج يجب أن لا يغفل تطور الحياة الإنسانية، بل عليه أن ينظر إلى مصادر الأحكام الاجتهادية من واقع الإنسانية التي جاءت هذه الأحكام لتنظيمها. خاصة إذا علمنا بأن واقع التراث الاجتهادي الفقهي يعلمنا بأن المصادر الشرعية الاجتهادية عندما تؤخذ بعيداً عن واقع الحياة البشرية تظهر تلك الأحكام الفقهية التي تشق على الناس، علماً بأن الشريعة ليس فيها حرج أو مشقة، وهذا أمر مفروغ منه أصولياً، ولكن مرد ذلك إلى النظرة الفقهية الاجتهادية بمعزل عن الظروف التي استجدت في المجتمع من عصر إلى آخر.(4/567)
وإذا كان لمجمعنا من خصائص يمتاز بها على بقية المجامع الفقهية، فإنه إلى جانب أنه أول مجمع عالمي يضم في إطاره الأمة الإسلامية، فإن تفكير العقلية الاجتهادية لمجمعنا يجب أن لا تكون محصورة في دائرة النصوص، أو على استخلاص دلالتها.
1- لأننا نعتقد بأن باب الاجتهاد مطلق، وما مجمعنا الموقر إلا إثبات لهذه الحقيقة التي تنسجم مع عقيدة المسلمين بخلود الدين الإسلامي إلى قيام الساعة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان قادراً على استيعاب واقع الحياة البشرية المتطور في كافة مراحلها.
ومن هنا فإن النظرة الاجتهادية لا بد وأن تستوعب البيئة المحيطة به، وما يعتمل فيها من فقر وبؤس من ناحية، وانغماس الأغنياء في الترف والنعيم وعدم اكتراثهم بمن حولهم من شقاء وبؤس العيش من ناحية أخرى، ومن هنا لا بد للمجتهد من نظرة واسعة يقتضيها تطور المجتمع وانعكاساته على أوضاع الناس، بحيث ينظر ليس فقط بعقلية من يريد أن يجمع النصوص ومصادر الاجتهاد كي يستخرج منها دلالتها على الأحكام الشرعية، بل لا بد وأن يضيف إلى ذلك روح من يعتقد بأن الشريعة الإسلامية إنما جاءت لتحقيق السعادة الإنسانية ومحو مظاهر البؤس والفاقة من المجتمع، وأن مهمته الكبرى هي النظرة الفقهية إلى استخلاص العلاج الإسلامي الكامل من تلك المصادر والنصوص الشرعية، إلى جانب النظرة الموضوعية إلى واقع الحياة البشرية التي تطلب علاج أمراضها من شريعة الإسلام، خاصة إذا ما علمنا بأن هذه النظرة الفقهية إلى النصوص الشرعية قد سبقنا إليها أئمة من السلف كانت لهم الإمامة الفقهية في عصورهم، منهم الإمام الكبير والفقيه الحجة ابن حزم الظاهري الذي شعر في عصره بمشكلة الفقر في المجتمع، وتجرد في نظرته الفقهية إلى النصوص بروح النظرة الموضوعية للمصلح الاجتماعي والعقل المفكر الحر للبحث عن علاج حاسم لها في دائرة الإسلام.
ولم يكن ابن حزم مجرد فقيه عادي، كل همه دراسة النصوص ودلالتها دون التفكير في الإنسان وشقاء الإنسان واختلاف الزمن وتطور المجتمع. وقبل الإمام ابن حزم علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال: "إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي الفقراء، فإن جاعوا أو عروا فبمنع الأغنياء، وحق على الله أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه". وعلى هذا فإن المفروض إذاً هو ما يكفي الفقراء، وليس الزكاة وحدها، والذي يكفي الفقراء يتناول ما يسد حاجة الجموع، ويوفر لهم الغذاء والكساء، هذا الحق في مال الأغنياء غير الزكاة قرره علي بن أبي طالب وكبار علماء السلف والتابعين، وليس ابن حزم إلا معبراً عن هذا الاتجاه الإسلامي العظيم للسلف الصالح.(4/568)
وهذا مبدأ عام في الشريعة الإسلامية يشترك في فهمه جميع علماء الأمة الإسلامية.
2- أما حق الفقراء في أموال الأغنياء إذا لم تف الزكاة بحياة كريمة لهم فقد تقرر من مبادئ الإسلام ونصوص الشريعة كما فهمه السلف وطبقه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، ونخلص من هذه النقطة إلى تقرير حق شرعي في أموال الأغنياء للفقراء إذا لم تف الزكاة بذلك، وإن مبادئ الإسلام العامة قد أعطت الحاكم أو السلطة أخذ هذا الحق بما يحقق المستوى الاجتماعي للفقراء.
3- أما حدود هذا الحق فقد أشار الإمام ابن حزم بقوله: (يقام للفقراء بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ومن اللباس للصيف والشتاء بمثل ذلك ومسكن من المطر والشمس) . وهنا نجد أن هذا الفكر الإسلامي في مستوى سام على هذا النحو الرحب الذي يتضمن الغذاء والكساء والمسكن، وجعله حقاً للطبقة الفقيرة، يعبر عن روح الإسلام وجوهره الحقيقي. ومن هنا فإن واجب علماء الإسلام المجتهدين لا يقف عند الحديث عن الزكاة وأنواعها ومقاديرها، وأن لا يكون همه أيضاً فقط موجها إلى استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها فقط، وإنما أيضا إلى ذلك كله النظرة الفقهية الرشيدة والحكيمة إلى المجتمع وحاجاته؛ لأننا قد علمنا بأن في أموال الأغنياء حقاً سوى الزكاة. وأن الله قد فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، ولهذا فإن الحاكم أو السلطة لها أن تأخذ من أموال الأغنياء ما لا بد منه لتحقيق المستوى المناسب من الحياة للفقراء وتمكينهم من الاستمتاع بها، وإن تجاوزت في ذلك حدود الزكاة.
إذن نخلص من هذه الفقرة في نهاية المبحث الأول إلى أن هذا الحق ليس محدداً، ولن تقف حدوده الشرعية إلا عند مستوى الحياة الكريمة للطبقة الفقيرة. وواضح بأن ذلك كله يتجاوز حدود الزكاة، وبالتالي يجب أن يكون مرناً قابلاً للزيادة والنقص؛ حتى تستطيع الدولة مواجهة كافة الظروف، وتكفل للفقراء حياتهم الكريمة، ولا تعجز عن الوفاء بها إذا زاد عدد الفقراء في المجتمع، وبحيث يفي هذا الحق الذي تجاوز حدود الزكاة منضماً إلى ضريبة الزكاة، تحقيق الهدف الإسلامي العظيم، وهو محو الفقر والبؤس من المجتمع الإسلامي.(4/569)
المبحث الثاني
أنواع الشركات
أنواع الشركات المعروفة في فقه الشريعة الإسلامية.
1- عرف في فقه الشريعة الإسلامية على سبيل الإجمال نوعان من أنواع الشركات هما:
1- شركة أملاك، 2- شركة عقود، أما شركة الأملاك فهي أن يمتلك شخص فأكثر مالاً مشتركاً ومختلطاً بينهم من غير عقد، سواء أكان تملك تلك الأموال المختلطة بينهم تملكاً إجبارياً، مثل الأموال الموروثة ونحوها، أم كان تملك تلك الأموال تملكاً اختيارياً، مثل اشتراك شخصين فأكثر مالا مختلطاً ومشتركاً بينهم، أم ليس تملكاً إجبارياً ولا اختيارياً، بل تملك بعقد شراء، وهو جائز ومشروع بنص الكتاب والسنة. ومنه قوله تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} النساء: 12، وحكم مال هذه الشركة إذا بلغ النصاب ما لمجموعهم وحال عليه الحول، فإن الزكاة واجبة فيه، ولو لم يبلغ نصيب كل واحد من الشركاء الثلث على حدة. فالزكاة واجبة شرعاً على الشركاء في هذا المال المشترك على قدر نسبة كل واحد منهم من تلك الأسهم.
2- أما شركة العقود، وهي تملك المال المشترك بين الشركاء بعقد شراء، فإنها تنقسم عند فقهاء الشريعة الإسلامية إلى الأنواع التالية:
1- شركة العنان ويقال لها: شركة الأموال. وتعريفها الفقهي: هي أن يتعاقد شخصان فأكثر على أن يشتركوا فيما بينهم بمبلغ من المال معين الجنس والصفة والعدد، ويعملون فيه، ويكون الربح بينهم على حسب شروطهم، ولا يجوز لأي واحد منهم أن يتصرف إلا بإذن الآخر أو الشركاء الآخرين معه؛ لأن العقد مشترك بينهم والربح أيضاً مشترك بينهم بقدر رأس مال كل واحد منهم، والعمل أيضاً مشترك بينهم على قدر نصيب كل واحد منهم من رأس مال الشركة ومن الربح، فإذا لم يكن العمل بينهم على قدر ما لكل واحد من الشركاء في الربح ورأس المال المشترك أعطى لصاحب العمل ما يستحقه عمله في الربح، مضافاً إلى ما يستحقه من ربح رأس ماله.
ونص الفقهاء على وجوب توفر الأركان والشروط لهذا النوع من الشركات، فأركانها المتعاقدان أو المتعاقدون ورأس المال المشترك والصيغة التي هي الإيجاب والقبول وأما شروطها فهي الحرية، والرشد والبلوغ. وأن تشتمل الصيغة بين الشركاء بما تفيد معنى الشركة عرفاً والإذن بالتصرف لمن يتصرف من الشركاء بكل أنواع التصرف من بيع وشراء وهبة ونذر ووصية ونحو ذلك، أو بالإذن بالتصرف بالبيع والشراء فقط.
كما اشترط الفقهاء اختلاط رأس مال الشركة من غير تمييز، ولا بد أن يكون رأس مال الشركة معلوماً لدى الشركاء المتعاقدين، وأن يكون الربح والخسارة بحسب نسبة رأس مال الشركة بين الشركاء، وأن يكون الجزء المستحق لكل واحد من المشتركين من الربح جزءاً معلوماً مشاعاً، وهذه الأركان والشروط عند الفقهاء مأخوذة من مفهوم الحقيقة اللغوية الشرعية للشركة. والتي هي ثبوت الحق شائعاً في شيء واحد مشاع، كثبوت حقوق الورثة في المال الموروث، وثبوت الحق شائعا في شيء بعقدين اثنين فأكثر، كثبوت أسهم الشركاء في المال المشترك بعقد شرعي، كما في شركة العنان المذكورة. أو كثبوت أسهم الشركاء في الربح المشترك بعقد شرعي كما في شركة المضاربة.(4/570)
2 - شركة المضاربة:
وهي مشتقة من الضرب في الأرض، الذي هو السفر لتنمية المال بالتجارة.
وقد عرفها الفقهاء بأنها هي التي يكون رأسمالها من أحد الشريكين دون الآخر، ويكون العمل لتنمية هذا المال من الشريك الآخر دون صاحب رأسمال الشركة، بحيث يكون رأسمال الشركة لصاحبه، أما الشريك الآخر، وهو العامل، فإنما يستحق جزاء من ربح ذلك المال على حسب اتفاقه مع صاحب رأسمال الشركة، وهي أيضاً ثابتة بالسنة، ولها أركانها وشروطها في كتب الفروع الفقهية.
3 - شركة الوجوه:
وتعريفها في كتب الفقه: هي أن يتفق اثنان فأكثر على الاشتراك في شراء شيء ديناً في الذمة، ثم يتاجرون في ذلك المال، فما تحقق لهم من ربح فهو بينهم على حسب شروطهم، وهذا النوع جائز في الإسلام وله أركانه وشروطه في كتب الفروع.
4 - شركة الأبدان:
وعرفها الفقهاء: بأنه اتفاق اثنين فأكثر بالاشتراك بأبدانهم، وتسمى أيضاً بشركة الأعمال. فما ربحوا نتيجة لذلك العمل فهو بينهم على حسب شروطهم المسبقة، وهذا النوع جائز وله أركانه وشروطه في كتب الفقه.
5- شركة المفاوضة:
وعرفها الفقهاء بقولهم: هي أن يفوض كل واحد من الشركاء شريكه في كافة الأعمال والتصرفات المالية والبدنية، وكل عمل أو تصرف يدخل في أعمال تلك الشركة. وهي أيضاً جائزة ولها أركانها وشروطها في كتب الفروع أيضاً.
هذه هي أنواع الشركات المعرفة في فقه الشريعة الإسلامية.
2- أما النظرة الفقهية لهذا النوع من الشركات الإسلامية، فقد عنيت النظرة الفقهية لفقهاء الإسلام رضي الله عنهم عناية لا يدانيهم فيها تشريع، ولا غرابة في ذلك؛ فالإسلام هو خاتمة الرسالات السماوية التي جمعت بين العقيدة والشريعة في إطار واحد، واستكملت التفاعل بينهما حتى صارت مقتضيات كل منهما تؤثر في الأخرى وتتأثر بها. لقد عالج فقهاؤنا الأموال من حيث أنواع التملك وأسبابه، ومن حيث العقود التي ترد على الأموال – عقد البيع وعقد الإجارة وعقد الوكالة وعقد الرهن وعقد الكفالة وعقد الحوالة وعقد القسمة وعقد العارية وعقد القرض وعقد الوديعة وعقد الهبة وعقد الوصية وعقد الشركات المتقدم ذكرها، وفصلوا أحكامها تفصيلاً ليس وراءه زيادة لمستزيد، إلا أن جانباً من جوانب استثمار المال على ضوء ما يصح استنباطه من الكتاب والسنة لم يفصلوا فيه بقدر ما وصل إليه على المحدود تفصيلاً واضحاً وتشريعاً متكاملاً، مثل الشركات المعاصرة والتي نحن بصدد دراستها والاجتهاد في أحكامها الشرعية على سنة سلف الأمة المجتهدين على اختلاف عصورهم.
ولعل مرجع ذلك إلى أن ظروف عصرهم ومقتضيات مجتمعهم لم تكن تتطلب منهم اجتهاداً تفصيليا ولا افتراضا تخريجياً لأحكام شركات مستجدة في مستقبل حياة الأمة الإسلامية، وهذا هو الموضوع المطروح أمام مجمعنا الموقر في دورته الرابعة، وهو الذي سوف نعالجه في هذا البحث الذي نعرضه على صفوة علماء المسلمين لتمحيصه وإبداء الرأي فيه.(4/571)
وأود أن أشير إلى أن النظرة الفقهية للشركات المستجدة والمعاصرة يجب أن لا تكون محصورة في دائرة النصوص الشرعية، ولا في المسائل الفقهية للفروع المذهبية، بل يجب أن تأخذ بالاعتبار إضافة إلى ذلك المبادئ العامة للشريعة، والتي تعتبر المنطلقات الشمولية للاجتهاد، وتعطي للشريعة الإسلامية تكاملها الجمالي في حدود ضوابط الاجتهاد الأصولي وشروطه عند علماء الاجتهاد. وفي هذا أورد إشارة إجمالية إلى ما يلي:
1- لا يشك مجتهد من علماء الأمة الإسلامية بأن مبادئ الإسلام العامة والكلية تفرض على المالك أعمال استثمار ماله إذا قضت بذلك ظروف العصر وضرورات المجتمع الإسلامي.
2- وجوب اتباع أرشد السبل في استثمار هذا المال.
3- وجوب توجيه استثمار المال في المجتمع الإسلامي إلى جميع المسالك التي تتطلبها ضرورات المجتمع.
ومن هذه المبادئ العامة والمنطلقات الشمولية أجمع الفقهاء إلى أن أول تكليف شرعي يقع على مالك المال هو شكر الله وتوظيفه لمصلحة المجتمع لينتفع به، وذلك بإيداعه في المصارف والمشاريع العامة ليستفيد منه المجتمع الإسلامي. ولا يكون كذلك إلا إذا وجه نشاطه ومواهبه إلى استثمار هذا المال في نطاق الوجوه المشروعة للاستثمار والتنمية على نحو يفي بحاجاته وحاجات من يعيلهم، وبغير عدوان على مصلحة الجماعة أو المصلحة العامة؛ ذلك لأن الإسلام يبغض الفقر ويكافحه ويدعو المجتمع الإسلامي إلى الجد والاجتهاد في تنمية أمواله المادية أخذاً بنصيبه من الدنيا.
وبهذه النظرة الفقهية الشمولية تفهم العبادات التي فرضها الإسلام على المسلمين بأن أداءها والقيام بها لا يجوز أن يكون مدعاة للتراخي في نشاط المسلم المادي وابتغاء فضل الله بكسب المال الحلال واستثماره في نطاق الوسائل المشروعة لكسب المال واستثماره، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} الجمعة: 10. والنصوص الشرعية في هذا المجال معروفة لأصحاب الفضيلة أعضاء المجمع.(4/572)
المبحث الثالث
لقد جدت في مجتمعنا المعاصر شركات أخذت أسماء ومصطلحات جديدة وأطراً قانونية تبعاً لتطور الحياة واختلاف معاملات الناس والسبل الجديدة لاستثمار الأموال، مما استدعت الحاجة إلى بيان الحكم الشرعي باعتبار بيان الحكم الشرعي واجباً كفائياً مناطاً بعلماء الأمة المجتهدين لكافة القضايا والنوازل المستجدة في كل عصر، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ تحقيقاً لعقيدة المسلمين بخلود الإسلام، وأن الله تبارك وتعالى له في كل فعل من أفعال العباد حكم يدور على الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة.
من هذه الشركات:
1- شركة التضامن، 2- شركة الكهرباء، 3- شركة التوصية البسيطة، 4- شركة الكباري، 5- شركة النقل البري أو الجوي أو البحري إلخ، هذه الأسماء التي قد لا تقف عند حد من التسميات ونحن هنا لا تهمنا الأسماء ولا المصطلحات ولا الهياكل الشكلية لتلك الشركات المستجدة لكي نصل في بحثنا إلى معرفة زكاة الأسهم في تلك الشركات. ومعلوم بأن الشركات الدولية التي تخضع قانونياً للملكية العامة لكافة أفراد الشعب غير داخلة في بحثنا هذا لكونها لا تجب فيها الزكاة شرعاً؛ لأن حكم أموالها وأرباحها حكم بيت مال المسلمين أو الخزينة العامة للدولة. وإنما كلامنا على زكاة أسهم الشركات التي تخضع ملكيتها كليا أو جزئياً للجماعات أو الأفراد؛ لأن الحكم الشرعي في الزكاة مناط بأموالهم عند توفر شروط ذلك الحكم.(4/573)
2- موقف النظرة الفقهية من الشركات المعاصرة:
إن جمهور علماء الأمة الإسلامية سلفاً وخلفاً ينظرون إلى فريضة الزكاة من خلال النصوص الشرعية، على أن العلة في فرضية الزكاة التي يناط الحكم بوجوبها. هو النصاب النامي بالفعل أو بالقوة: أي القدرة على تنميته وإن لم يعمل على تنميته بالفعل، وأن العلة تؤخذ من النظرة الفقهية عند الفقهاء ومن تعليلاتهم في مواضع مختلفة ومن تتبع الأموال التي تجب فيها الزكاة، فهي في النقود لأنها نامية بالقوة وتجب في الزروع والثمار لإنماء الأرض والشجر وتجب في السائمة لأنها تنمو بمضي الزمن، ولا تجب في الأموال التي تكون لسد الحاجة الأصلية أو للاقتناء المباح شرعاً، ولذلك لم تجب في المسكن المعد لسكن رب المال، ولا أدوات الصناعة التي يعمل بها الصانع.
وهذا هو رأي الأحناف، واختاره الشيخ المرحوم محمد أبو زهرة في بحثه الخاص في الزكاة، والذي قدمه إلى مجمع البحوث في الأزهر. إذ يقول: "وقد وفرض النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة في النقود وطبقها الصحابة من بعده".
عروض التجارة: فرضها عليه الصلاة والسلام في الزروع والثمار وفي النعمة، واستنبط الفقهاء علة الزكاة في هذه الأنواع على أنها مال نامٍ. ثم يتساءل الشيخ أبو زهرة فيقول: "فهل إذا جد في هذه العصور أموال نامية بعضها لم يكن نامياً في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عصر الصحابة، ولا الأئمة المجتهدين، فهل يسوغ لنا أن نفرض فيها الزكاة تطبيقاً للعلة التي استنبطها الفقهاء لحكم وجوب الزكاة؟ وإذا فعلنا ذلك لا نكون قد أتينا بمحظور في الأحكام الشرعية.
وأجاب على هذا التساؤل بقوله: "إن الجواب على هذا السؤال سائغ لنا، ونحن فيه لا ننشئ اجتهاداً ولكن نطبق علة القياس كما لو رأينا مواد مسكرة غير ما كان معروفاً في عصر الاجتهاد الفقهي من مشروبات فهل نبيحها ونقول: إنه لم يرد نص فقهي بتحريمها". ونقول: إن تحريمها لا يجوز؟ إنه يجب تطبيق العلة. ثم يستطرد ويقول: "إن فرض زكاة في الأموال التي ظهرت في هذا العصر أو في الأموال التي تغير وصفها عن الماضي إذا كانت في الماضي تتخذ للحاجات وصارت الآن أموالاً نامية كالمصانع الكبيرة والعمائر الشاهقة التي تتخذ للاستغلال، والحيوانات التي تتخذ للنماء"، ثم يقول: إن فرض الزكاة في هذه الأموال ليس خروجاً على أقوال الفقهاء السابقين، بل هو تطبيق لأقوالهم. بأن نعمم حكم العلة في كل ما تتحقق فيه. هذا ما يسمى بتحقيق المناط، وتحقيق المناط لا يصح أن يخلو منه عصر من العصور.(4/574)
ثم استطرد الشيخ أبو زهرة رحمه الله بالنقل من الجزء الرابع من الموافقات للإمام الشاطبي ص 89-95 ما نصه:
"الاجتهاد على ضربين –أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى لا ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة. والثاني يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا. فأما الأول، فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، ولكن يبقى في تعيين محله: أي تطبيقه على الجزئيات والحوادث الخارجية. ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعداداً لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره، ولو في نفس التعيين، وأنه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفتٍ ولو فرض ارتفاع هذا النوع من الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الدين".
ثم يعقب أبو زهرة بقوله: وعليه فإن الأحكام الخاصة بالزكاة تعمم في كل ما يتحقق فيه العلة ويؤدي إلى أمر حق ويمنع أمراً ظالماً؛ لأنه يؤدي إلى المساواة العادلة بين الناس فلا يجب الزكاة في زرع من يملك فدادين ويعفى منها من يملك عمارة فخمة تدر عليه ربحاً فائضاً كبيراً، والأمر الظالم الباطل الذي يمنع فرض الزكوات على الأموال التي تدر مالاً كثيراً، ولم تكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. هو أن يفر الناس مما تجب فيه الزكاة إلى ما لا تجب، فتكون الكثرة الكاثرة في جانب من أبواب الكسب، والقلة في باب آخر. وربما كانت حاجة الأمة إليه أمس وأشد على ضوء هذه الحقائق المقررة. نقول: إن كل مال يتحقق فيه النماء والشروط التي ذكرها الفقهاء تجب فيه الزكاة، ولو لم يكن جاء به النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن القياس ثابت في الفقه الإسلامي، وتطبيق موجب القياس ثابت في كل العصور والأزمان وهو نوع من الاجتهاد ولا يصح أن يخلو منه عصر من العصور ليمكن تحقيق علة النصوص تحقيقاً علمياً سليماً، وقد وجدت أموال في هذا العصر يجب أن نبين حكم الله فيها: مثل الأسهم والسندات ونحوها مما هو موضع للاتجار، أو يدل على حصص شائعة في شركات صناعية أو تجارية.
ويستطرد أبو زهرة فيقول: إننا عند بيان حكم هذه الأموال وأخذ الزكاة منها نتجه أيضاً إلى تحقيق المناط، ونطبق المنهاج الذي نهجه السلف الصالح في تفسير الأموال التي فرضت فيها الزكاة والتي لم تفرض فيها. ثم يقول: إن الأسهم والسندات إذا اتخذت للتجارة فإنها تكون عروضاً تجارية يجب فيها ما يجب في عروض التجارة من زكاة يقدر مقدار نصابها على حسب قيمتها ذهباً، والزكاة تؤخذ من الأصل والنماء. على حسب ما قرره جمهور الفقهاء. وإذا كانت تتخذ للاستغلال فإن الشركات التي تكون الأسهم ممثلة لجزء شائع فيها فإن دفع الشركة يغني عن دفع حامل السهم.(4/575)
أما السندات فإن الزكاة تدفع من الفائدة التي تؤول إلى حاملها، ولو كانت للاتجار أخذت عنها زكاة عروض التجارة، فكأنه يؤخذ عنها زكاتان، زكاة نمائها من الفائدة وزكاة من الاتجار.
ثم يقول أبو زهرة: إننا لو أعفيناها من الزكاة لأدى ذلك إلى أن يقتنيها الناس بدل الأسهم وبذلك تنادي بالناس إلى أن يتركوا الحلال إلى الحرام. وإن زكاة الأسهم والسندات إذا كانت على أساس التجارة تكون ربع العشر كزكاة النقدين لأنها عروض تجارة، وقد بينا بأن نصابها وزكاتها كزكاة النقدين.
ثم يقول: وهذا ما نراه تطبيقا للسبب الذي استنبطه الفقهاء بالنسبة للأموال المنقولة، أما الأموال الثابتة، وتدخل فيها المصانع والشركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم، فإننا نرى أنه ينطبق عليها ما اتبعه السلف بالنسبة للزروع والثمار وجوب أخذ الزكاة من الغلات على أساس أنه يؤخذ عشر صافي الغلات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض العشر في الزروع والثمار إذا سقيت بغير آلة، وفرض نصف العشر إذا سقي بآلة، وأنه تحسب النفقات التي أنفقت على الزرع كما قرره الفقهاء، ونطبق على غلات المصانع وما يشبهها، فنقول: إن الصافي يشبه إنتاج الزرع والثمر إذا سقي بغير آلة؛ لأنه خالص كالزرع الذي يروى بماء السماء أو من الأنهار، بل إن صافي الغلات يكون خالياً من كل نفقة الذي سقي بغير آلة، وهذا القدر من الزكاة يؤخذ من ذات الشركة التي تقيم المصنع أو من صاحب المصنع إذا لم يكن المصنع منشأ بشركة بل أنشئ بعمل الآحاد، وبذلك لا يكون على المساهمين زكاة لأنها احتسبت مما يؤول إليهم، فالغلة تجيء إليهم صافية، ولا زكاة في الأسهم حينئذ إلا إذا اتخذت كعروض للتجارة.
أما السندات فإن الزكاة تدفع عنها لأنها دين على الشركة وتجيئه الفائدة ولم تحسب في الزكاة؛ لأن ما يأخذه قدر معلوم لا يزيد ولا ينقص، وهو يؤخذ على كل ما كسبت الشركة أو خسرت". انتهى كلام أبي زهرة.
لقد أطلنا نفس القلم في إيضاح النظرة الفقهية الأصولية كضرورة اجتهادية لا بد منها لخلفية الموضوع المطروح. وعلى ضوء هذه النظرة الفقهية الأصولية نقول: إن كل مال يتحقق فيه النماء وتتوفر فيه الشروط تجب فيه الزكاة وجوباً شرعياً، ولو لم نجد نصاً على ذلك من الكتاب أو السنة؛ لأن القياس الشرعي مصدر من مصادر الأحكام الشرعية عند عدم النص، ومما لا شك فيه بأن الشركات المساهمة أموالها مغلة بالفعل، وأنها من الأموال التي لم تكن معروفة النماء والاستغلال في عهد سلفنا الصالح رضي الله عنهم، ولأنها معللة وليست تعبدية. ولهذا فإن القياس فيها معتبر كما أشار أبو زهرة رحمه الله.
وقد خلصت من اطلاعي على المذاهب الفقهية في الموضوع إلى رأيين: الرأي الأول منهما يميل إلى جعل أسهم الشركة المساهمة عروض تجارة وأنها تعامل في البورصة بالبيع والشراء وبالتالي يكون حكمها حكم عروض التجارة، تؤخذ الزكاة منها بقدر قيمتها في نهاية الحول الذي ملكت فيه وذلك كل عام حينما يحول عليها الحول.
وأنا لست مع هذا الاتجاه الفقهي لأنه لا يستند إلى قواعد الشريعة ولا إلى قياس صحيح. بل استند إلى كون أدوات إنتاج الشركة مالاً نامياً، وأنها ليست من الحاجات التي تعد لإشباع الحاجات الشخصية بذاتها وأن الفقهاء إذا لم يفرضوا زكاة في أدوات الصناعة في عصورهم فلأنها كانت أدوات أولية، وبالتالي لم تعتبر مالاً نامياً بذاتها؛ لأن الإنتاج فيها للعامل. إن هذا الاتجاه في نظري هو الاستحسان الذي ذمه الإمام الشافعي رضي الله عنه عندما قال "من استحسن فقد شرع".(4/576)
وأما الرأي الثاني فإنه يوجب الزكاة في أرباح أسهم تلك الشركات، الأسهم نفسها؛ فإنها تعتبر كالعقار المعد للإيجار، تكون الزكاة في إيجاره دون رقبته؛ لأن هذه الأسهم قد جعلت في الأصل للاستثمار وتوظيف المال.
وأنا أميل إلى هذا الرأي ما لم تكن تلك الأسهم تستغل في الأسواق المالية والتداول بها بين الأفراد، فإنها في هذه الحالة يكون حكمها حكم سائر السلع التي يقصد منها الاتجار والبيع والشراء ابتغاء الربح من ورائها، وبالتالي فإن حكم تلك الأسهم حكم السلع التجارية، وتضم قيمتها مع أرباحها، وتزكى تلك الأرباح مع قيمة الأصول، ومن المتعارف عليه بأن للسهم قيمتين؛ قيمة اسمية وهي المقدرة عند الإصدار، وقيمة سوقية تحدد في سوق الأوراق المالية. وقيمتها الحقيقية التي تقدر في الأسواق المالية تختلف في البيع والشراء عن قيمتها الاسمية، فهي إذاً من عروض التجارة، وهي كأموال التجارة، ولأن مالك السهم يستطيع في أي وقت أن يعيد رأس ماله في الأسهم إلى قالب نقدي له يستخدمه في أي حاجة يريدها، لذلك وعليه فإن المعتبر بأن زكاة تلك الأسهم التي قصد منها الاتجار بها وليس المقصود ابتداء استغلالها للربح هو قيمتها في الأسواق، يضاف إليها الربح، وليس قيمتها الأصلية أو الاسمية المسجلة لدى الشركة، بشرط أن تبلغ قيمة الأسهم في الأسواق المالية الربح نصاباً أو تكملا ما عنده من مال نصاباً.
وأما مقدار زكاة الأسهم سواء حسب الرأي الأول أو الثاني فلا خلاف فيه، ربع العشر أي 2.5 %. وهذا في نظري ينطبق على كافة الأسهم في الشركات، سواء أكانت الشركات المساهمة شركات صناعية محضة، أم شبه صناعية؛ أي: أنها لا تمارس عملاً تجارياً، أم كانت شركات تجارية.
هذا وبالله التوفيق
الشيخ محمد عبده عمر(4/577)
أهم المراجع
1- القرآن الكريم
2- تفسير ابن كثير 3-4
3- الأم للإمام الشافعي ج2
4- المحلى لابن حزم ج7
5- سبل السلام ج1
6- منجد اللغة والأعلام ج1
7- موطأ الإمام مالك ج1
8- فتح الباري على صحيح البخاري ج6
9- المغني لابن قدامة ج1
10- نيل الأوطار ج1
11- الفقه على المذاهب الأربعة ج1
12- بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد ج1
13- سنن أبي داود ج1
14- بحث الزكاة لأبي زهرة
15- فتاوى ابن تيمية(4/578)
زكاة الأسهم في الشركات
إعداد
فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
عضو مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة الأدلة والبيانات
على
زكاة الأسهم والسندات في الشركات
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد صاحب الشريعة الغراء والمحجة البيضاء، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد،
فلقد طلب إلي مجمعنا العتيد مجمع الفقه الإسلامي بجدة، أن أوافيه ببحث وافٍ عن زكاة أسهم الشركات، ولقد بحث هذا الموضوع المهم في الدورة الثالثة في عمان ولم يصل فيه المجمع إلى نتيجة مرضية آنذاك، فأدليت بدلوي بين الدلاء، واستخرت الله عز وجل وكتبت هذه الرسالة في عدة صفحات، عرضت فيها ما كتب فقهاؤنا المعاصرون في هذا المضمار، ثم أثبت ما وفقني الله تعالى إليه من القول الراجح فيما ظهر لي، والله تعالى أعلم.
وإني لا أزعم أن ما وصلت إليه هو مراد الله عز وجل، وحكم الله في هذه الحادثة، لا، بل هو محض اجتهاد يقبل الخطأ والصواب، وما من أحد إلا رد ورد عليه، إلا صاحب هذا القبر صلوات الله عليه.
إني أردت الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.(4/579)
(1)
خلاصة لما ذهب إليه أعضاء
مجمعنا الموقرون من التيارات الفقهية
الأصل في وجوب الزكاة على مالك الأسهم، النظر إلى قصده من تملكها:
أ- فإن كان لغرض المتاجرة فيها، فتجب فيها زكاة عروض التجارة، وذلك على أساس قيمتها في السوق.
ب- وإن كان غرضه من تملكها الحصول على الأرباح منها دون المتاجرة بها، فتجب الزكاة في ربحها مع استقبال الحول، إلا إذا كان في الشركة نقد سائل وعروض معدة للبيع أو التصنيع، ولم تكن الشركة قد قامت بزكاة هذه الأموال، فيخرج المساهم ما يقابل أسهمه من زكاة هذه الأموال.
وكذلك إذا كانت الشركة زراعية ولم تقم الشركة بدفع زكاة الحبوب والثمار، فيدفع المزكي الواجب عليه منها.
(يرجع إلى المشروع التحضيري لقرارات المجمع في الدورة الثالثة في عمان)
(2)
خلاصة ما ذهب إليه الأستاذ المودودي
في كتابه (فتاوى الزكاة)
ذهب العلامة الأستاذ أبو الأعلى المودودي في رسالته القيمة (فتاوى في الزكاة) إلى وجوب الزكاة قطعاً في أسهم الشركات التجارية، ولم يتعرض للشركات الزراعية فيما أحسب، لكنه بعد ذلك خير الشركة والمساهم في إخراج هذه الزكاة، فإن أحبت الشركة بالاتفاق مع المساهم أن تخرج هي الزكاة عن سهمه لها ذلك، باعتبارها وكيلة عنه وشخصية اعتبارية، وإن أحب الشريك المساهم أن يخرج هو عن سهمه بالاتفاق مع الشركة على ذلك فله ولا حرج؛ لأنه هو الأصل المالك للسهم في نظر الأستاذ المودودي رحمه الله.
ولا يجب إخراج الزكاة مرتين، مرة من الشريك المساهم ومرة من الشركة المساهمة؛ لأنه خلاف الأصل المعمول به شرعاً.(4/580)
(3)
نص مقولة الدكتور وهبة الزحيلي
في كتابه "الفقه الإسلامي وأدلته"
السندات جمع سند: والسند: تعهد مكتوب بمبلغ من الدين (القرض) لحامله في تاريخ معين، نظير فائدة مقدرة.
فالسهم يمثل جزءاً من رأس مال الشركة، وصاحبه مساهم، والسند يمثل جزءاً من قرض على شركة أو دولة، وحامله مقرض أو دائن.
والتعامل بالأسهم جائز شرعاً، أما التعامل بالسندات فحرام؛ لاشتمالها على الفائدة الربوية.
وبالرغم من تحريم التعامل بالسندات، فإن ذلك لا يمنع شرعاً من التملك التام، فتجب فيها الزكاة (1) ، فتجب زكاتها بحسب قيمتها الحقيقية في البيع والشراء كزكاة العروض التجارية، أي: تؤدي زكاتها على رأس المال مع أرباحها في نهاية العام القمري بنسبة (2.5 %) إذا كان الأصل والربح نصاباً أو يكمل مع مال مالكها نصاباً، ويعفى الحد الأدنى للمعيشة إذا لم يكن لصاحب السهم مورد رزق سواها؛ كأرملة ويتيم ونحوهما، هذا في الشركات التجارية.
أما في الشركات الصناعية فتقدر الأسهم بقيمتها الحالية، مع حسم قيمة المباني والآلات وأدوات الإنتاج.
وجملة القول: أن تجب زكاة الأسهم والسندات بمقدار ربع العشر؛ أي: (2.5 %) من قيمتها مع ربحها في نهاية كل عام هجري، على مالكها الذي حال عليه الحول بعد تملكها، أو تؤدى الزكاة جملة "واحدة" عن غلة الشركة وإيرادها بمقدار العشر من صافي الأرباح قياساً على نصاب الزروع والثمار، باعتبار أن أموال الشركة نامية بالصناعة ونحوها.
ففي الحالة الأولى (الشركات التجارية) نعد صاحب الأسهم له وصف التاجر، وفي الحالة الثانية (الشركات الصناعية) نعد الشركة لها وصف المنتج (2) .
__________
(1) أما المال الحرام بعينه كالمغصوب والمسروق ومال الرشوة والتزوير والاحتكار والغش والربا ونحوها فلا زكاة فيه؛ لأنه غير مملوك لحائزه، ويجب رده لصاحبه الحقيقي منعاً من أكل الأموال بالباطل
(2) انظر كتاب (الفقه الإسلامي وأدلته) للدكتور وهبة الزحيلي ج: 2 ص77 وما بعدها(4/581)
(4)
القول الراجح الذي نصير إليه
وفي نظري - والله تعالى أعلم - أرى:
أنه بعد أن ذابت هذه الأسهم والسندات في شخصية اعتبارية واحدة هي الشركة، لا داعي للقول: إن المالك يستطيع أن يخرج الزكاة عن سهمه أو سنده الذائب في أموال الشركة، بل يجب على هذه الشركة باعتبارها شخصية اعتبارية أن تخرج هي الزكاة عن كل الأسهم والسندات المتوفرة لديها الداخلة في ملكيتها في نهاية الحول القمري بنسبة 2.5 % فقط، دون أن يعطى هذا الحق للشريك المالك للسهم ما دام هذا السهم ذائباً في الشركة، فلا سلطان هو عليه في حق الزكاة إلا إذا استرجعه لملكيته الخاصة وأخرجه عن مال الشركة فإنه يرجع حينئذ من الأموال الخاصة ويجري عليه حكم الأموال الخاصة بملاكها.
ولا أوافق الأستاذ المودودي ولا الدكتور الزحيلي حفظهما الله تعالى وجزاهما عن الإسلام والعلم كل خير، لا أوافقهما فيما ذهبا إليه من التخيير في دفع الزكاة بين المالك والشركة.
صحيح أن الشركة ليست مخاطبة شرعاً بالزكاة لعدم تكليفها شرعاً، ولكنها بالوكالة أو بالنيابة الإلزامية عن المالك، وأكبر دليل على ذلك أن المالك لا يستطيع أخذ سهمه المملوك له شرعاً وسحبه من الشركة التي تنوب عن المالك بالمتاجرة به قبل وقت محدد ومتفق عليه؛ كعشر سنوات مثلاًَ، وكذلك هنا لا يحق للمالك أن يدفع هو الزكاة عن سهمه ما دام هذا المال ذائباً في مال الشركة، فإن هذا الأمر يتعسر على الشركة ويربك حساباتها، وربما أدى إلى أن ترفض الشركة ذلك ويشح المالك فتضيع الزكاة على الفقراء.
أما جوهر دفع الزكاة في الأسهم والسندات مع تحريم التعامل بالسندات الربوية، وحل التعامل بالأسهم فهذا أمر مسلم لا غبار عليه، ولم يحصل فيه اختلاف بين الفقهاء القدامى ولا المعاصرين.
وأما ما ذهب إليه بعض أعضاء مجمعنا الموقرين من قضية النية، فلا أرى له وجهاً؛ لأن الشركة التي نتكلم عنها تجارية وليست استثمارية، فلا وجه لذلك شرعاً فيما أرى، والله تعالى أعلم.
دمشق 3/9/1987م الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور(4/582)
المناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
الرئيس:
أمامنا أصحاب الفضيلة المشايخ موضوع زكاة الأسهم في الشركات، ونرجو من فضيلة الشيخ محمد الصديق الضرير أن يعطينا عرضاً عن الوجهة الفقهية في زكاة الأسهم في الشركات.
الدكتور الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. وبعد،
الموضوع هو زكاة الأسهم في الشركات، وأود أولاً أن أوضح أن المقصود هو زكاة الأسهم في الشركات المساهمة بمفهومها الحالي، بمفهومها المعروف في القوانين التجارية، والأسهم أيضاً سنتحدث عنها بهذا المفهوم. ولهذا فقد بدأت بالحديث عن حقيقة الأسهم التي نريد أن نبحث في زكاتها، ثم بعد ذلك سننظر في هل هذه الأسهم بهذا المفهوم تجب فيها زكاة أو لا تجب، وإذا كانت تجب فيها زكاة، فعلى من تجب؟ على الشركة أم على صاحب السهم؟ وعلى التقديرين كيف تزكى هذه الأسهم؟
هذه هي رؤوس الموضوعات الأساسية في هذا الموضوع. فالسهم كما يعرفه رجال القانون هو الحصة التي يقدمها الشريك في شركات المساهمة، وهذا السهم يمثل جزءاً معيناً من رأس مال الشركة، وهو عبارة عن صك يعطى للمساهم، وهو وسيلته في إثبات حقوقه في الشركة. والعادة أن رأس مال الشركة يقسم إلى أسهم متساوية، غير أن بعض الشركات تصدر أسهماً تسميها أسهماً ممتازة، وتكون لها ميزة عن الأسهم العادية. وفي رأيي أن هذا غير مقبول فقهاً. هذا السهم قد يمثل حصة نقدية في رأس مال الشركة وهنا هو الغالب، وقد يمثل حصة عينية يسمون الشريك عيناً منقولاً أو عقاراً، ولكن علماء القانون يقولون: إن هذا السهم حتى ولو كان قدم في شكل عقار هو منقول، وفي رأيي أيضاً أن هذا تكييف غير مقبول من رجال القانون من وجهة النظر الفقهية؛ لأن إذا كان السهم عقاراً وفي شركة عقارية، فكيف يكون منقولاً، يرى رجال القانون أيضاً أن الشركة ما دامت قائمة فليس للمساهم حق عيني في أعيانها، وهذا مقبول لا مانع منه فقهاً، ولا المطالبة بقيمة سهمه، وإنما له الحق في الاستيلاء على نصيب في الأرباح.
ويعللون ذلك بأن الحصة التي يقدمها الشريك للشركة تخرج عن ملكه وتصبح مملوكة للشركة كشخص معنوي. فإذا انحلت الشركة كان لكل مساهم حصة في موجودات الشركة. هذه نقطة سأتحدث عنها فيما بعد، من المالك للسهم.
من المعروف أيضاً أن هذا المساهم إذا أراد أن يخرج من الشركة فليس أمامه إلا أن يتنازل عن سهمه لغيره؛ إما بمقابل أو بدون مقابل، وهذا أمر ضروري ولازم في الشركات؛ لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تلزم الناس إلى الدخول في هذه الشركات إذا أراد أن يتخلص من السهم.(4/583)
نأتي إلى النقطة الفقهية، وهي: هل الأسهم بهذا التكييف فيها زكاة؟ ما دام السهم هو حصة في موجودات الشركة، هذه الحصة قد تكون نقوداً وقد تكون عيناً منقولاً أو عقاراً، والنقود التي يقدمها الشريك قد تتحول إلى عقار أو منقول، وكذلك الحصة العينية المنقول أو العقار قد يتحول إلى نقود، فالتكييف الحقيقي والواقعي في نظري للسهم هو أنه جزء من موجودات الشركة، أياً كان نوعها، هذه الموجودات أموال، ما في هذا من شك، مملوكة، تجب على مالكها زكاتها إذا توافرت طبعاً شروط الوجوب، وهذا الحكم - وهو وجوب الزكاة في الأسهم - لم أر من خالف فيه.
وقد نقلت في المذكرة رأياً لما كتبه الأستاذ أبو زهرة في هذا الموضوع، ونقلت أيضاً رأي الشيخ عبد الرحمن عيسى الذي قد يفهم منه أنه يرى أن بعض الأسهم لا زكاة فيها، وهي الأسهم التي تكون في الشركات الصناعية، بل هو قد صرح بهذا وعارضه في هذا الدكتور القرضاوي. والأستاذ الشيخ عبد الرحمن عيسى يفرق بين الأسهم في الشركات التجارية والأسهم في الشركات الصناعية، فيوجب الزكاة على أصحاب الأسهم في الشركات التجارية دون الشركات الصناعية. عارضه في هذا بعض الفقهاء، منهم كما قلت الدكتور القرضاوي.
والواقع أن هذا الاختلاف ليس خاصاً بالأسهم والشركات؛ لأنه يمكن أن يقال في كل مال مستثمر، فالأستاذ عبد الرحمن عيسى يرى أن الأسهم في الشركات الصناعية لا زكاة فيها؛ لأنها لم تتوافر فيها الشروط، والموضوع هذا بحث في المجمع على أساس أن المستغلات لا زكاة فيها، وإنما الزكاة في ريعها. فالنتيجة على الرأيين هي أن الأسهم أموال تجب فيها الزكاة إذا توافرت شروط وجوبها.
والاختلاف إنما هو في تحقق شروط الوجوب، لا في أصل الوجوب، ولهذا أقول: إن وجوب الزكاة في الأسهم يكاد يكون إجماعاً.
بعد ذلك ننظر في: هل الزكاة تجب على الشركة أم على المساهم؟
الزكاة تجب في المال على مالكه، فمال المالك لأموال الشركة، هنا أيضاً رجعت إلى كتب القانون. يقول الدكتور مصطفى كمال: "للشركة ذمة مالية مستقلة بأصولها وخصومها من ذمم الشركاء"، فأموال الشركة لا تعتبر ملكاً شائعاً بين الشركاء، بل تعتبر هذه الأموال ملكاً للشركة، والحصة التي يقدمها الشريك للشركة تخرج عن ملكه وتصبح مملوكة للشركة كشخص معنوي، ولا يكون للشريك بعد ذلك إلا مجرد نصيب في الأرباح أو في الأموال التي تبقى بعد تصفية الشركة، وهذا هو رأي القانونيين، إذا كان هذا الرأي مقبولاً فقهاً، فإن النتيجة المنطقية له هي أن زكاة أموال الشركة لا يطالب بها المساهمون، وإنما تطالب بها الشركة.
وإلى هذا الرأي ذهب بعض من تعرض لهذه المسألة، وقد أطال الحديث في هذا الموضوع الدكتور شوقي إسماعيل شحاته في كتابه "التطبيق المعاصر في الزكاة"، والدكتور وهبة الزحيلي، ووافقه على رأيه في بحثه المقدم للمجمع.(4/584)
يقول الدكتور شوقي إسماعيل: "لما كانت الشركة المساهمة لها شخصية اعتبارية مستقلة، وبناء على أن الزكاة تكليف متعلق بالمال نفسه، فإنها تجب على الشخص الاعتباري، حيث لا يشترط التكليف الديني، وأساسه البلوغ والعقل وقياساً على زكاة الماشية، وأن الخلطة فيها خصت بخصوصية تراجع الخلطاء فيما بينهم بالسوية على التفصيل الذي سبقت الإشارة إليه، وتحدث في هذا طويلاً". ويقول أيضاً: "إن الشركة في الماشية هي شركة أموال بالمفهوم المعاصر، وليست شركة أشخاص، وأن الشركة في الماشية تكون على وجه المخالطة، لا الملك، ومؤداها أن الزكاة تجب في مال الشركة المجتمع ككل، وليس في مال كل شريك على حدة". هذا هو رأي الدكتور شوقي.
الشيخ أبو الأعلى المودودي ذكر في كتابه "فتاوى الزكاة" أن زكاة الأسهم تفرض على الشركة إذا كانت الدولة تقوم بتحصيل الزكاة، ويفهم مما نقلته عن الشيخ عبد الرحمن عيسى أن زكاة الأسهم يخرجها المساهم؛ لأنه يتكلم عن المساهم، ورأيي في أن زكاة الأسهم تجب على المساهم، لا على الشركة؛ لأنه هو المالك الحقيقي للأسهم، والقول بأن الشركة هي المالك، وإن كان هذا رأي القانونيين، إلا أنني لا أوافق عليه؛ بدليل أنهم أعطوا لصاحب هذا السهم حق التصرف كما يتصرف المالك، كل ما هنالك أنه ليس له حق في أن يطالب بالمال الذي دفعه، وعندما تنحل الشركة يأخذ نصيبه. فهو المالك الحقيقي، ولذلك فالوجوب ينبغي أن يوجه إليه هو، لا إلى الشركة، أما الشركة فتتصرف في أسهمه نيابة عنه حسب الشروط المبينة في قانون الشركة ونظامها الأساسي. فإذا نص في النظام الأساسي على أن الشركة تخرج زكاة الأسهم وجب عليها إخراجها، لا تجب عليها الزكاة هي إنما يجب عليها إخراج الزكاة نيابة عن أصحاب الأسهم لهذا الشخص، ولا يطالب بها المساهمون في هذه الحالة، أما إذا لم يوجد هذا النص فلا تخرج الشركة الزكاة، إلا إذا صدر قرار من الجمعية العمومية؛ لأن هذا يعتبر تفويضاً منهم، أو إذا كان فيه قانون في الدولة يلزم الشركات بإخراج زكاة الأسهم.
أما القول بوجوب زكاة الأسهم على الشركات أصالة باعتبار أن الشركة لها شخصية اعتبارية مستقلة عن شخصية المساهمين، فإنه لا يكون مقبولاً إلا في دولة تطبق أحكام الشريعة الإسلامية، وتوجب نظمها أخذ الزكاة من أموال الشركات.
وفي رأيي أن الفتوى في أوضاعنا الحاضرة قد تؤدي إلى عدم إخراج زكاة الأسهم إذا أوجبناها على الشركة، ونحن نعلم أن كثيراً من الشركات أو أكثر الشركات لا تخرج الزكاة، ومعنى ذلك إنما سقطت عن المساهم؛ لأنه ليس مالكاً، فهذا غير مقبول في نظري على الأقل في أوضاعنا الحاضرة.(4/585)
كيف تخرج زكاة الأسهم؟ أولاً سأتحدث عن كيفية إخراجها، إذا كانت الشركة هي التي ستخرجها نيابة عن المساهمين، أما لأنه في النظام الأساسي أن الشركة تخرج كما هو الحال في كثير من البنوك الإسلامية فيها نص صريح بأن الشركة تخرج الزكاة. فرأيي أن الشركة تخرج زكاة الأسهم بالنسبة للأموال، أموال المساهمين كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال الشركة كأنها أموال شخص واحد، وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث النوع، نوع المال، ومن حيث النصاب، المال بلغ النصاب أو لم يبلغ، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، إلى غير ذلك مما تجب مراعاته في الزكاة بالنسبة للشخص الطبيعي. فعلى هذا إذا كانت الشركة شركة تجارية تعامل معاملة التاجر، وإذا كانت شركة زراعية تعامل معاملة المزارع، إذا كانت شركة عقارية تعامل معاملة الشخص الذي يستثمر أمواله في العقارات، قد تكون تجارة، وقد تكون للاستغلال، وقد تستثمر الشركة أموالها في مجالات متنوعة كما هو الحاصل الآن بالنسبة للبنوك الإسلامية، قد تتاجر وقد تشتري عقارات وقد تزارع إلخ.
أيضاً هنا لا فرق بين الشركة وبين الشخص الاعتيادي، تعامل معاملة أرباب المال في أموالهم. وبناء على هذا فإن الأسهم في الشركات، الأسهم التي لا تبلغ النصاب بمفردها لا تعفى من الزكاة؛ لأن النظر في بلوغ النصاب إلى أموال الشركة مجتمعة، لا إلى مقدار ما يملكه كل مساهم. فلا تطرح الأسهم التي تبلغ النصاب.(4/586)
ولابن رشد عبارة في هذا مختصرة وجامعة، يقول: "عند مالك وأبي حنيفة أن الشريكين ليس يجب على أحدهما زكاة حتى يكون لكل واحد منهما نصاب". وعند الشافعي أن المال المشترك حكمه حكم مال رجل واحد، وسبب اختلافهم الإجمال الذي في قوله عليه الصلاة والسلام: ((ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة)) ، فإن هذا القدر يمكن أن يفهم منه أنه إنما يخصه هذا الحكم إذا كان لمالك واحد فقط، ويمكن أن يفهم منه أنه يخصه هذا الحكم كان لمالك واحد أو أكثر من مالك واحد والشافعي كأنه شبه الشركة بالخلطة. كتب الشافعي فيها تفصيل في هذا الموضوع في الخلطة نقلته في المذكرة. ومما رجح الأخذ بمذهب الشافعي مذهبه الجديد أن البنوك تجد صعوبة في طرح الأسهم التي لا تبلغ النصاب، تحتاج إلى أن تتصل بكل شخص تسأله، لا يكفي أن يكون المال الذي عند الشركة لا يبلغ نصاباً؛ لأنه قد يكون عنده هو ما يكمله نصاباً، هو فيه صعوبات عملية، لذلك أخذنا بالأيسر وهو مذهب الشافعي مع أن فيه عدالة؛ لأنه حتى لو فرضنا أن هذا الشخص المساهم سهمه لا يبلغ النصاب، لكنه استفاد من ضمه إلى هذه الأموال الكثيرة، فربح ربحاً ما كان سيربحه لو كان بمفرده، وهذا هو المعنى الذي لاحظه الشافعي في موضوع الخلطة.
وقد أشرت هنا إلى أنه لا بد من طرح أسهم غير المسلمين إذا كانت الشركة لغير مسلمين؛ لأنه غير المسلم ليس من أهل الزكاة. أيضاً فيه مسائل صغيرة تأتي، منها أن الإنسان قد يبيع أسهمه في أثناء الحول، فما حكم هذا إذا باع أحد المسلمين أسهمه في أثناء العام؟ هذا لا يؤثر في إخراج الزكاة بالنسبة للشركة؛ لأن السهم باقٍ، تغير المالك ولا يضر كون المالك الجديد لم يمض حول على ملكه ما دام السهم قد حال عليه الحول بالنسبة للشركة، حتى ولو تنقل هذا السهم في أثناء العام بين أيدٍ كثيرة.
كذلك الأسهم المضافة أثناء العام الشخص دفع قيمة السهم في أثناء العام لم يدفعه من أول العام، أو قد تعرض الشركة أسهما للاكتتاب في أثناء العام، هذه لا يستقبل لها عام جديد، تضاف إلى موجودات الشركة، ويكون حولها حول المال الذي ضمت إليه ما دام نصاباً، وهو مذهب الحنفية.(4/587)
هذا ما يتعلق بكيفية إخراج الزكاة إذا كانت الشركة هي التي ستخرجها. أما إذا لم تخرج الشركة الزكاة لا يسقط الوجوب عن المالك صاحب السهم، وعليه هو أن يخرج زكاة أسهمه. كيف يخرجها؟ أولاً إذا استطاع هذا المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو الذي شرحته زكى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه اعتبر هذا هو الأصل، لكن هذا قد يكون فيه صعوبة أو معتذراً في بعض الأحيان، فإذا لم يستطع معرفة ذلك فإذا كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ربح الأسهم السنوي لا بقصد بيعها عندما ترتفع قيمتها يزكيها زكاة المستغلات، ونحن نفرق بين حالتين، وهذا يرجع إلى قصد المساهم إذا كان قصده استغلال هذه الأسهم، وهذا هو الغالب في الذين يشترون الأسهم يستفيدون من الربح هذا السنوي. يزكيها زكاة المستغلات، وزكاة المستغلات حصل فيها بحث في هذا المجمع، ودونته هنا وقلت تمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة، وهذه تجمعها زكاة المستغلات، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب في الريع، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم القبض، مع اعتبار توفر شروط الزكاة وانتفاء الموانع.
هذا هو قرار المجمع، فنقلته هنا تمشياً مع قراركم السابق، هذا الرأي متفق مع رأي الأكثرية في مؤتمر الزكاة الأول في الكويت، متفق معه من حيث وجوب الزكاة في الريع دون الأصل في الربح يعتبر ما فيه زكاة فيها، وإن كان في رأي الأقلية خالفت هذا، ولكنه يختلف عنه من حيث الحول. قرار مجمع الفقه الإسلامي يقضي بأن يبدأ حول الريع من يوم القبض، ورأي الأكثرية في مؤتمر الزكاة يقضي بأن يضم الريع إلى سائر أموال مالك الأسهم من حيث الحول والنصاب، وهذا أولى عندي مما قرره مجمعكم الموقر، ولكن مؤدى الرأيين أن الأسهم المتخذة للاستثمار لا زكاة في أصلها، وهذا أيضاً موضع خلاف ومعروف، الذي هو رأي الأقلية في مؤتمر الزكاة أن يخرج مالك السهم العشر من الربح فور قبضه، ولا ينتظر به الحول، قياساً على غلة الأرض الزراعية.(4/588)
فهذان هما الرأيان، وإذا قبلنا مبدأ قياس زكاة الأسهم التي يتخذها صاحبها للاستفادة من ريعها على زكاة المستغلات، فسنجد هناك رأيين آخرين في هذه المسألة، أحدهما أن تزكى الأسهم زكاة عروض التجارة، والآخر أن يزكى الريع عند قبضه بمقدار ربع العشر بدل العشر. وكل من هذين الرأيين قال به بعض الفقهاء المتقدمين بالنسبة لزكاة الدور، لم يتحدثوا عن المستغلات بهذا التعبير، وإنما تحدثوا عن زكاة الدور التي تتخذ للكراء، وهذا هو معنى المستغلات، والموضوع هذا بينه الدكتور يوسف القرضاوي في بحثه الذي قدمه إلى المجمع في دورته السابقة، وهو مدون في كتابه.
هذا إذا كان المساهم اتخذ السهم لاستغلاله، أما إذا كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد بيعها عندما ترتفع قيمتها، أن يتاجر فيها، في هذه الحالة يزكيها زكاة عروض التجارة. فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه زكى قيمتها الحقيقية، وأقول قيمتها الحقيقية خلافاً لما ذهب إليه الأستاذ وهبة في بحثه إذا استطاع معرفتها من الشركة وإن لم يستطع زكى القيمة السوقية، وإن لم يكن لها سوق زكى القيمة الاسمية بإخراج ربع العشر من القيمة ومن ربح الأسهم.
طبعاً القيم الثلاثة هذه هي المعروفة عند علماء قانون الشركات، فيه قيمة اسمية التي تصدر في أول الأمر، وفيه قيمة حقيقية التي تمثل موجودات الشركة من حيث قيمتها، وهذا تقدره الشركة، وقيمة سوقية وهذه ما يباع به في السوق أو ما هو في البورصة.(4/589)
والقيمة السوقية هذه تتأثر بعوامل متعددة، بعضها قد لا يكون مقبولاً، ولهذا نحن أخذنا في بنك فيصل الإسلامي في السودان بأن التقدير لا بد أن يكون بالقيمة الحقيقية، ولأنه ما دامت الحقيقة معروفة فلا نلجأ إلى الناحية التقديرية، القيمة السوقية هي قيمة تقديرية، وهذه قيمة حقيقية إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول يضم ثمنها إلى ماله ويزكيه، هذا لا إشكال فيه عندما يجيء الحول، أما المشتري هو الذي سيأتي فيه الكلام؛ لأنه امتلك سهماً، فيزكي الأسهم التي امتلكها بحسب قصده أيضاً، فإن كان اشتراها لاستغلالها زكاها زكاة المستغلات على النحو الذي ذكرته، وإن اشتراها ليبيعها زكاها زكاة عروض التجارة.
وأنا هنا تكلمت وفي هامش المذكرة أشرت إلى موضوع، وهو جدير بالبحث؛ لأني وجدت جميع الذين كتبوا في هذا الموضوع تقريباً يجوزون التجارة في بيع الأسهم من غير تفصيل ولا تقييد. والتجارة فيها وفي رأيي أو في نفسي شيء من هذا الحكم، الموضوع يحتاج إلى بحث لم أتعرض له هنا، لكن هذا ما توصلت إليه فيما يتعلق بزكاة الأسهم. وأود أن أشير إلى نقطة دفعني إلى الإشارة إليها بحث أخينا الدكتور وهبة؛ لأنه أشار إلى فتوى صدرت عن هيئة الرقابة الشرعية في بنك فيصل الإسلامي السوداني، وتعرض لبعض نواحيها، هذه الفتوى صدرت قبل سنوات عدة وحصل فيها بعض التعديلات، والذي عليه العمل الآن فيما يتعلق بإخراج الزكاة في البنوك الإسلامية عندنا في السودان هو أن الزكاة تخرج على أساس رأس المال ينظر في آخر العام إلى رأس مال البنك زائداً الأرباح زائداً الاحتياطيات ناقصاً قيمة الأصول الثابتة، والباقي يؤخذ منه 2.5 %، وهذه فتوى أيضاً صدرت بعد الفتوى الأولى تسهيلاً على البنك؛ لأننا وجدنا صعوبة في تطبيق ما ضمن في الفتوى الأولى. فأخذت الهيئة بهذه النظرة، وهي سهلة وليس فيها تعقيد ومقبولة، ولها سند من الفقه؛ لأننا هنا لا نعتبر القيمة، وإن كانت البنوك هي بنوك تجارية فلا تقوم الموجودات، وإنما نعتبر رأس المال كأنما نعتبر الشراء للموجودات لأنه الأصل.
شيء طبيعي أن البنك يرى النقود السائلة التي عنده وينظر أيضاً إلى الموجودات التي عنده البضاعة ويقومها، وهذه عمليات فيها صعوبة، فصدرت فتوى بأن يزكى رأس المال. والله أعلم بالصواب. وشكراً.(4/590)
الرئيس:
شكراً فضيلة الشيخ، بناء على ما قررتم من أنه تجب الزكاة على المساهم وتخرجها الشركة بناء على ما قررتم من أنه تجب الزكاة على المساهم، الوجوب على المساهم، والشركة تتولى إخراجها نيابة عنه، وأن الشركة تنزل منزلة الشخص الطبيعي.
نأتي إلى الفرع الأخير وهو أن المساهم إذا باع في أثناء الحول فإن بيعه لا يسقط الزكاة. كيف يتخرج هذا؟
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
إذا باع في أثناء الحول فالزكاة باقية ما دامت الشركة هي التي ستخرجها، غير المساهم لا يؤثر.
الرئيس:
لكن الوجوب على من؟
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
يبيعها شخص آخر.
الرئيس:
لا، وجوب الزكاة على من؟ على صاحب السهم وبشرط حولان الحول؟ على صاحب السهم الذي هو باسمه؟
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
انتقل الوجوب. الشخص المالك الأول باع سهمه، كان الوجوب عليه هو فعندما باعه لشخص آخر انتقل الوجوب إلى هذا الشخص الآخر، والسهم باقٍ. الشخص الذي اشترى السهم أصبح واجباً عليه، وهو اشتراه في أثناء الحول. وأنا قلت: إن هذا لا يضر. مال مستفاد للشركة لأن الشركة هي التي ستخرج، فكأن شخصاً جديداً جاء وساهم في هذه الشركة. وهذا ينطبق أيضاً على حالة ما إذا طرحت الشركة أسهماً في أثناء الحول وجاء المساهمون واكتتبوا في هذه الأسهم. لا نستقبل بها حولاً جديداً، هي واجب عليهم وعلى هؤلاء الذين اكتتبوا كما هي واجبة على المشتري الذي دخل في أثناء الحول. فلا أظن أن هذا يتعارض مع قولي: إن الوجوب أصالة عن المساهم.(4/591)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
سيدي الرئيس، حضرات الأعضاء المحترمين. بتتبعي للبحث القيم الذي تفضل به الدكتور الضرير، وجدت إشكالات كثيرة في نفسي، أعرضها على سيادته طلباً للإجابة.
فإن الذي أعرف هو أن المنظومة الفقهية لا بد أن تكون منظومة متناسقة، وأنه إذا قبلنا بمبدأ أصلي فإنه يجب أن ينطبق هذا المبدأ على جميع الفروع.
ولما عرض سيادته على من تجب الزكاة فرض فرضين: إما أن نقول: إن الزكاة تجب على الشركة وإما أن نقول: إن الزكاة تجب على المسلم في الشركة.
أما القول الأول: إن الزكاة تجب على الشركة باعتبارها ذاتاً معنوية، فالإشكال الذي حصل في نفسي هو أننا بصدد بيان الأحكام الشرعية، أعني حكماً من الأحكام الخمسة، وكل حكم من الأحكام الخمسة له حقيقته. فإذا قلنا: الواجب فمعناه ما يثاب على فعله وما يعاقب على تركه وهو غير الواجب العقلي أو معنى الإلزام. فالإلزام هنا من الله يترتب على الإلزام ثواب للمطيع وعقاب للعاصي.
وإذا قلنا الشركة ذات معنوية فلا أفهم كيف تكون ذاتاً معنوية وهي تثاب وتعاقب. وبهذا استشكل هذا الرأي كيف يمكن تخريجه.
الأمر الثاني أو الفرض الثاني: وهو أن الزكاة تجب على المسلم ذاته على صاحب السهم وإذا كانت الزكاة تجب على المسلم ذاته فإن هذا السهم في حقيقة التعامل خرج إلى صورة هي صورة قيمة متمولة فكل سهم له قيمة مالية وأنه لا يفترق السهم سواء أكان النشاط نشاطاً زراعياً أم نشاطاً صناعياً أم نشاطاً تجارياً. فهو قيمة مالية تباع في الأسواق، ترخص وترتفع أثمانها حسب تغير السوق. وإذا كان الشخص المسهم هو المطالب وكانت القيمة للسهم هي قيمة مالية فإنه يجب الزكاة على هذا المسهم متى تحققت شروط وجوب الزكاة.
ولا بد أن نطبق هذه الشروط جميعها. فإذا كان المسلم لا يملك مالاً ولا يملك نصاباً فلا أرى أن يلزم بإخراج الزكاة نظراً إلى أن الحديث واضح: ((تؤخذ من أغنيائه فترد على فقرائهم)) . وحد الفقر والغنى هو ملك نصاب. فغير مالك النصاب لا يعتبر غنياً، بل هو صالح لأن يتقبل الزكاة، وهو مصرف من مصارف الزكاة. فكيف نوجب عليه من ناحية أن يخرج الزكاة على سهمه، ونبيح له من ناحية ثانية أن يقبل الزكاة لأنه فقير لا يملك نصاباً؟. من الإشكالات أنه إذا كان المسهم.. أن أسهم الشركات إذا بيعت قبل حولان الحول، وهو ما جاء في صفحة تسعة، فإن هذا لا يؤثر في إخراج الزكاة؛ لأن السهم باقٍ وإنما تغير مالكه. فالمنظومة إذا تقتضي أنه إذا كان الواجب إنما هو على ذات الشخص المالك للسهم فيجب أن نسير مع هذا إلى النهاية، ولا يمكن أن تكون. أولاً نذهب إلى أن السهم هو الذي تجب عليه الزكاة، ثم نعود عندما تطبق فنقول: إن تعلقت بالأسهم لا بذات الشخص، وأنه إذا تغير المالك ولو تغير إلى عشرة فإنه يجب على جميعهم إخراج الزكاة قبل دوران الحول. فهذا إشكال آخر بقي في نفسي أرجو الجواب عنه.(4/592)
أيضاً جاءت قضية أنه إذا كان المسهم قد اشترى هذه الأسهم قصد بيعها عندما ترتفع قيمتها زكاها بالشروط المعتبرة وإذا باع أسهمه في أثناء الحول انتظر الحول. هذا أيضاً، إذا كان المسهم قد اشترى هذه الأسهم قصد بيعها عندما ترتفع قيمتها زكاها بالشروط المعتبرة. أنا أسأل فضيلة الشيخ: هل يعتبر هذا محتكراً أو يعتبر مديراً؟ وهل يطبق عليه زكاة المحتكر أم زكاة المدير؟ أو لم يعتمد مذهب مالك واعتمد مذهب غيره؟ أما إذا ساهم المشارك في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي زكيت زكاة المستغلات ثم ألزم مجمع الفقه الإسلامي بما رآه في المستغلات.
أولاًَ أن هذا القرار الذي وصل إليه من أنه إذا أسهم المشارك في شركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي زكيت زكاة المستغلات. هذا ولم أفهم تعليله ولا الأصل الذي اعتمد عليه.
ولذلك فأنا أتحفظ على هذا، وأرجو منه أيضاً أن يبين لي معتمده في ذلك. هذه بعض آراء أولية. وشكراً لكم والله أعلم.
الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كلمة موجزة جداً، وهي تكرار للتساؤل الذي طرحه السيد رئيس مجلس المجمع الفقهي. إذا كان الأستاذ المحاضر في بحثه القيم يقرر أن ملكية الأسهم للمساهم وليست للشركة، وإنما الشركة هي التي تدفع الزكاة نيابة عن المالك، فكيف نوفق بين هذا الكلام وبين ما قاله فيما بعد من أنه إذا باع سهمه أو أسهمه أثناء العام يستمر الحول ويتواصل ولا ينقطع الحول ليبتدئ حول جديد من المشتري الجديد؟ هذا الكلام أظن أنه وقر في ذهن الأستاذ الجليل صاحب البحث نتيجة لما يتصوره رجال القانون من أن الشركة هي المالك.
إذا انطلقنا من هذا وتصورنا أن الشركة هي المالكة فعندئذ هذا الكلام متفق ومتسق مع هذا التصور. ولكن الشريعة لا تتفق مع هذا قط، ولا توجد جذور امتلاك لشخص معنوي. والحق ما قاله الأستاذ المحاضر صاحب البحث من أن المالك هو المساهم. ولكن ما دمنا قررنا ذلك فإن الحول ينتهي وينفسخ بتحول الملكية منه إلى مالك جديد، الشأن فيه كالشأن في أي مال من الأموال مهما اختلفت أنواعها ما دمنا نشترط حولان الحول. وشكراً لكم.(4/593)
الدكتور سامي حسن حمود:
بسم الله الرحمن الرحيم.. هذه النقطة دقيقة، وقد واجهتنا بالفعل كمسألة عملية عند تأسيس البنك الإسلامي الأردني قبل عشر سنوات، فتنبهت الأذهان إلى أن هذا البنك وهو شركة مساهمة أردنية يجب أن يزكي، وأن ينص في قانونه على تأدية الزكاة، وهذا شأن العواطف عندما تتجه إلى العمل الإسلامي تريد أن تحيطه من كل جانب بصورة الكمال، فبدأت أتفهم المسألة التي حوصرت فيها، ونظرت في آيات الله فوجدت أن الخطاب: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} فالخطاب تكليف لمن يؤدي العبادة صلاة يكملها عبادة مالية بالزكاة بأن يؤديها وهو مؤتجر، ويطلب الأجر من الله، فهي بعد الإسلام. فكان هذا الحديث البسيط مع لجنة الفتوى الأردنية التي ناقشت معها مشروع القانون كان للإقناع، ثم عندما تأسس بنك إسلامي لاحق وجدت الزكاة نص عليها في القانون، فسألت: كيف تدفع الشركة المساهمة وهي غير أو ليست مكلفة بالخطاب الشرعي، ولا تحاسب ولا تدخل الجنة أو النار بأن تدفع الزكاة؟ قالوا: هي تظاهرة إسلامية، فعجبت في نفسي. والذي أعرفه أن العواطف والتظاهرات لا تقرر حكماً شرعياً، وإنما المسلم مأمور بأن يكون هواه تبعاً للشرع، وليس العكس. فبدأت أدقق في المسألة، وهنا سر الإشكالات التي تثار، وقد تشجعت في الإشكالات التي في نفسي عندما رأيت عالماً جليلاً كالأستاذ المختار السلامي، وأيده في ذلك الأستاذ البوطي، يثيرون هذه الإشكالات لأن الخروج عن المقاصد تؤدي إلى هذه النتائج. فالزكاة محلها المال، والمكلف بها ليس كل شخص، إنما المسلم، والمال ليس كل مال، وإنما المال المخصوص الذي له شروط محددة في الشرع. فهي تكليف في مال معرف مملوك لمكلف. فإذا خرجنا عن هذا الحد نجد إذا فرضت بشكل عام الزكاة في الشركة المساهمة على الأسهم بذاتها، وهي حصة مالية مملوكة لمسلمين وغير مسلمين. وهذا واقع بحيث إن في البنك الإسلامي الأردني هناك مساهمون غير مسلمين، وقد ساهموا في هذا البنك، ويعطيهم القانون هذا الحق، فكيف تؤخذ الزكاة من شخص غير مكلف أصلاً بأدائها؟
هناك وزارة الأوقاف الأردنية ومال الوقف ليس مكلفاً بالزكاة، وهي مساهمة في هذا البنك، كيف تؤخذ الزكاة من مال الوقف؟
هناك إنسان يملك موجودات من الأسهم حقيقة، ولكن عليه في ميزانيته الشخصية ديون تفوق موجوداته، وليس عنده نصاب، وإن كان يملك المائة ألف سهم؛ لأن عليه ديوناً مئتا ألف، كيف يمكن أن يطالب بالزكاة؟ هذه الخروجات جميعاً نتيجة تطبيق أن الزكاة تؤديها الشركة. مرد هذا إذا قيل: إن الشركة هي التي تملك، وهذه النقطة التي أشار إليها فضيلة الدكتور البوطي. الشركة لا تملك نفسها، وإنما هي مملوكة لمساهم، وإن العجز عند القانونيين في تصوير حقيقة هذه الملكية المنفصلة شركة لا ينطلق ولا ينصرف إلى الفهم الواضح عند الفكر الإسلامي. فهذا الملك يرى الذي يملكه المساهم في الشركة هو يملك حق رقبة المال، ولكن التصرف في هذا المال قد فوض أمره إلى إدارة الشركة، وهناك فهم واضح للتفرقة في الملك بين ملكية الرقبة وملكية التصرف، بدليل أن هذا المساهم وإن صغر سهمه إلى سهم واحد من مليون سهم تمثلها الشركة له صوت ينتخب فيه مجلس الإدارة، ومن حقه أن ينتخب. فهو ممثل وفوض هذا المجلس بالإدارة بالنيابة عنه، فهو المالك حقيقة، ويبقى ملكه قائماً إلى النهاية.(4/594)
النقطة المتعلقة في أنواع الشركات. الواقع أن الشركات بأنواعها المختلفة هي شركات مفهومها ومردها التداول بقصد الربح، سواء أكانت تجارية تتعامل بالسلع أم قابضة مباشرة أم شركات صناعية تتعامل في المواد الخام، وتحولها لتزيد القيمة فتبيعها وتحقق ربحاً، أم كانت شركات خدمات كالخدمات الفندقية والسياحية، فهي تحقق ربحاً من التداول في المال. فكل عمل فيه تداول وتقليب للمال فيه صورة من صور التجارة.
فالذي أراه باجتهادي على قدر علمي كطالب علم أن هذه جميعاً يطبق عليها قواعد عروض التجارة. مشكلة بسيطة أعرضها في الشركات التي تختص بالزراعة وتبيع الإنتاج الزراعي. هنا جاء النص القرآني بأن الحق في الزراعة {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} الأنعام: 141. فإذا أخرجت الشركة الزكاة يوم الحصاد من الإنتاج وليس من رأس المال عندئذ ومنعا للازدواجية لا يزكى المال مرتين طالما المال سلط لأن يكون في أرض زراعية ولها إنتاج زراعي وزكي هذا الإنتاج عند الحصاد.
النقطة الأخيرة التي تخص القياس في الشركة على مسألة الخلط بين الخلطاء والشريك هي أولاً كما يستدل من آراء المستدلين ليست مسألة متفقا عليها بدليل أن الإمام الشافعي نفسه له فيها قولان، ثم إن الإمام الشافعي والإمام مالك رحمهما الله كانا يتحدثان عن مجتمع مسلم، والشركاء الذين يتحدثون عنهم شركاء مسلمون، ولم يدر في بالهما أو لم ينطل في المثال هنا شريك مسلم وشريك غير مسلم، فهل إذا اجتمعت الملكية في خمسة من الإبل أو سبعة من الإبل بين مسلم يملك أربعاً وغير مسلم يملك ثلاثا والمجموع سبعة فوق حد النصاب هل يصبح المال خاضعاً للزكاة لأن شريكاً غير مسلم وغير مكلف ضم إلي أم ينفصل الملك القابل للتزكية والمطالب للتزكية فتصبح الإبل الأربعة أو الأربع نياق التي يملكها المسلم دون النصاب الذي حدده الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكون بذلك مكلفاً بالزكاة. فهذه نقطة جديرة بالبحث.
نقطة أخيرة على هامش ما أثاره فضيلة الدكتور الضرير في تجارة الأسهم، إنه يرى أنها ليست محلاً للتجارة، وهذه نقطة أستغرب بأن الأسهم لها قيمة مالية والتداول يقوم عليها، إذا حدثت نكسات في سوق الأموال فلا يعني ذلك أن النكسة دليل على المنع، فقد يحدث في أحد المناجم انفجار فلا يتوقف التعدين عن المعادن إنما نعالج سبب الانفجار وسبب التلف والتعطيل. وهكذا تعالج الأمور. وشكراً لكم. والسلام عليكم.(4/595)
الدكتور حسن عبد الله الأمين:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
الحقيقة من العرض الذي سرده علينا فضيلة الدكتور الضرير نشأ عندي سؤلان في موضعين من عرضه وفيما كتب. الأول أنه في الصفحة الخامسة من بحثه وكما عرضه قرر أن الخلاف بين الفقهاء المعاصرين فيما يتعلق بوجوب الزكاة في أسهم الشركات المتعلقة بشركات الصناعة وشركات التجارة على الرغم مما اختلف فيه الفقهاء، واتخذت فيه وجهتان مختلفتان، أن هذا الأمر أمر واحد في النتيجة. وهذه القضية لم يوضحها، غير أنه ذكر أنها في النتيجة واحدة. ويبدو لي أن الخلاف قائم وليس هناك في النتيجة خلاف. رأي من آراء الفقهاء يذهب إلى أن شركات الصناعة لا تجب الزكاة في أصولها، وإنما تجب في ريعها، وشركات التجارة تجب الزكاة في أصلها وفي ريعها. وآخر يعمم فيقول: إن الزكاة تجب في الأمرين في الأصل وفي الريع، أصل الأسهم وريعها.
الدكتور لم يوضح كيف التقى هذا الأمر في النتيجة، وإنما ذكر أن الجميع اتفقوا على أن الأسهم تجب فيها الزكاة، وهذا أمر كافٍ في تحديد أو في إيجاد الاتفاق بينهم، والأمر ليس كذلك فيما أرى. إن الخلاف قائم كما هو ذلك أن الرأي الذي يذهب إلى أن أسهم شركات الصناعة تجب الزكاة في ريعها، لا في أصلها لا يقرر الزكاة بطبيعة الحال في أصل الأسهم، وإنما يقرها في الريع باعتباره مالاً، فسواء كان هذا المال ناتجاً عن هذه الأسهم، أم جاء من أي طريق آخر، ما دام استوفى الشروط، فتجب فيه الزكاة، أما الأصل فيستبعد أصل أسهم الصناعة. شركات الصناعة لا تجب فيها الزكاة في رأيه، فلم يقل هذا الرأي بوجوب الزكاة ابتداءً من أسهم شركات الصناعة، وإنما قال: تجب الزكاة في ريعها وعوائدها. فهذا أمر مفهوم بصرف النظر عن أنه حتى ولو جاء من طريق آخر غير ريع الزكاة فإنه تجب فيه الزكاة باعتباره مالاً.
أما الرأي الآخر الذي يقول بوجوب الزكاة في شركات التجارة وفي ريعها فهو أمر مختلف، حيث يقرر الزكاة في الأصل، أصل الأسهم وفي ريعها. فالخلاف قائم وليس هناك نقطة التقاء بين هذين الرأيين فيما أرى.
النقطة الأخرى التي ذكرها الأستاذ في عرضه، وأثبتها في الصفحة التاسعة من بحثه، أنه إذا لم تقم بإخراج الزكاة فما الذي يعمل صاحب السهم؟ قال: إذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو الذي شرحناه، زكى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه الأصل في كيفية زكاة أسهم الشركات. وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك. هنا تفريع، فذهب إلى أنه إن كانت الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم، وإن لم يكن القصد منها الريع وإنما القصد فيها الاتجار وهذا له حكم، وذاك له حكم، وفي رأيي أن هذه النقطة الأخرى لا تحتاج إلى الصيرورة إليها؛ ذلك أن الحساب الختامي الذي يعرض فيه التقارير السنوية للشركات أياً كان نوعها واضح فيه كل شيء، واضح فيه حساباتها وقيم الأسهم وريعها، ومن هذه الأشياء الواضحة يستطيع أن يقرر ملكيته للنصاب بطبيعة الحال، ولما يضاف عليه من ريع، وعلى ضوء ذلك يخرج الزكاة من غير أن يحتاج إلى الصيرورة للتفريعات الأخرى التي ذكرها في عرضه فيما بعد. وشكراً.(4/596)
الشيخ إبراهيم بشير الغويل:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
شكراً سيدي الرئيس.. الحقيقة قد يكون ما أريد أن أقوله هو ما أشار إليه الشيخ الضرير تاركاً لصاحبه أن يجليه. هناك أحد البحوث أشار - وهو بحث الشيخ هارون خليف - إلى أن موضوع الشركات وشركات الأسهم نفسها تحتاج إلى دراسة موسعة، وبناء على هذا لم يدل برأي فيما يتعلق بزكاة الأسهم في هذه الشركات. فهو في الصفحة الأولى من دراسته أوضح أنه لا يتكلم عن الشركات المستجدة؛ لأنه لا يرى أن فقهاءنا الأسبقين قد تعرضوا لها، واضح أن موضوع الشركات نفسها يحتاج إلى دراسة موسعة، ووددت أن أذكر هذا الرأي لأقول: إن هذه الشركات التي استجدت وفقاً لنظام معين أراد أن يتوسع في مفهوم رأس المال وحق رأس المال في أن يزداد زيادة غير عادية عن طريق مساهماته المتعددة في كل مكان، بحيث يتحقق لصاحب رأس المال دخل من كل مال يدفع به في مكان. هذا النظام هو الذي أوجد في آخر تطوراته شركات المساهمة، هذه الشركات التي جاءت من هذا النظام تحتاج بالأصل إلى وقفة من هذا المجمع. النظام نفسه الذي أوجد هذا التطور وكما سبق لي أن قلت في موضوع النقود: إن هذا النظام أعطى لقضية النقود مفهوماً كما أعطى لقضية الائتمان وقضية توالد رأس المال وزيادته مفهوماً ترتبت عليه أشكال، هذه الأشكال في أعلى صورها، هي شركات المساهمة التي أصبحت تأخذ شركات مساهمة متعددة الجنسية. هل لهذا المجمع أن يعالج نظاماً بديلاً يقوم على أسس إسلامية، أم أنه يتابع النظام القائم ويبرر له تصرفاته؟ في ذهني هذه الملاحظة البسيطة التي أبداها صاحب هذا البحث جديرة بأن توضح أن البحث الآن إنما هو بحث كما أود أن أقوله بشكل آسف له، كما نبحث هل دخل إنسان من فوائده على رأس ماله خاضع للزكاة أم لا؟
الأساس أن نبحث موضوع الفوائد، الأساس أن نبحث موضوع الريع، الأساس أن نبحث موضوع الشركات. الشركات المساهمة وكيف ولدت؟ وهل هي جزء من تصور إسلامي أو جزء من تصور مغاير للتصور الإسلامي؟ هذا الجانب له أهمية كبرى؛ لأن هذه الشركات أصبحت تتوسع وتتضخم وتستوطن حتى أصبحت متعددة الجنسية، وأصبحت هي المسؤولة عن كثير من مشكلات العالم الإسلامي وديونه، وددت أن أذكر الإخوة بها وشكراً.(4/597)
الشيخ إبراهيم فاضل الدبو:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله محمد الأمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وبعد،
بودي أن أسأل السادة الباحثين: هل هذه الأسهم أموال أم ليست بأموال؟ الجواب بالطبع أنها مال ولا خلاف في ذلك. لذا ينبغي أن نراعي في مثل هذه الحالة ما يلي: الزكاة في مثل هذه الشركات لا تختلف عن الزكاة في غيرها من الشركات المعروفة في الفقه الإسلامي، وأرى أن نعتبر الشركات التي تناولها فقهاؤنا المسلمون أساساً نعتمده في مثل هذه الحالة. ومن المعروف لدى أساتذتي الأفاضل أن المالك هو المسؤول عن دفع الزكاة وبإمكانه أن ينيب عنه الشركة في ذلك، فعلى هذا يشترط تحقق كافة شروط الزكاة التي شرطها الإسلام أو فقهاؤنا المسلمون في هذه الأموال.
أما بالنسبة لبيع هذه الأسهم خلال هذا الحول، فإني أتساءل كما تساءل السيد رئيس المجمع، أنه كيف تجب زكاة مال قبل حولان الحول عليه؟ فينبغي أن تتوافر فيه شرط حولان الحول. والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وشكراً.
الشيخ محمد سالم عبد الودود:
لا أريد أن أكرر ما ذكره الإخوة، ولكن أريد أن أصحح بعض ما نسب إلى المذهب المالكي أمانة للأئمة رحمهم الله تعالى. أولاً المذهب المالكي يرى أن أسهم المؤلفة قلوبهم باق على متن خليل يقول: هو مؤلف كافر ليسلم وحكمه باق. ثانياً يرى أن الاستنابة في الزكاة مندوبة وقد تجب، ومتن السيد خليل يقول: والاستنابة وقد تجب. ثالثاً: يرى أن الخلطة لا تأثير لها إلا في الأنعام، ويرى أن الخلطة بين المسلم والكافر لا تأثير لها، وبين المسلم والمحرر من الرقيق لا تأثير لها. ولذلك يقول خليل في متنه الذي هو المعتمد على الأهم الأغلب في الفتوى في المذهب المالكي يقول: وخلطاء الماشية بخلاف الزرع والعين كمالك فيما وجب من قدر وسمن وصنف. إلى قوله: وكل حر مسلم ملك نصاباً يحول. بمعنى أن الأئمة الأوائل تصوروا بل شاهدوا الخلطة والاشتراك بين المسلم والكافر وطرحوا لذلك أحكاماً. فلا يمكن أن نقول اليوم: إنهم لم يكن يدور في أذهانهم وجود شركة يساهم فيها كافر إلى جانب مسلم. فالرسول صلى الله عليه وسلم قد شارك غير المسلم، وكان نعم الشريك، لا يماريه إلى آخره.
المهم الآن أمام شركات بالنسبة للمذهب المالكي لا تأثير للخلطة في غير زكاة الماشية، ولا تأثير للخلطة مع من لا تجب عليه الزكاة من عبد وكافر. ولا تأثير لخلطة بالنسبة لمن لم تبلغ حصته نصاباً. إما أن نوجب الزكاة على من لم تبلغ حصته نصاباً وعلى من لم يحل عليه الحول، فهذا خلاف صريح للأحاديث الصريحة التي تشترط حولان الحول في زكاة الأموال، وتشترط أن لا ينقص المال عن النصاب المعروف. ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، ليس فيما دون خمس من الإبل صدقة، إلى آخره في التحديد بالمثل. فإذا قلنا: إن سهم المساهم في الشركة أقل من النصاب، وأوجبنا عليه الزكاة نظراً لمساهمته في الشركة، فقد خالفنا الحديث الصريح. وإن قلنا: إن مشتري السهم تجب عليه الزكاة قبل مرور الحول، فقد خالفنا الحديث الصريح. وإن قلنا: إن الذي يساهم في الشركة في أثناء العام يجب عليه أن يزكي قبل أن يمر عليه الحول فقد خالفنا. وإذا قلنا: إن الشركة هي التي تؤدي الزكاة بالنيابة عن المساهمين، فهذا صحيح إذا اعتبرنا شروط وجوب الزكاة في حق كل مساهم. أما الشركة نفسها فهي شخص معنوي، والأشخاص المعنويون ليسوا من أشخاص يوم القيامة، وليست مكلفة بالأحكام الخمسة كما قال الإخوة، ولا تبعث ولا تثاب ولا تعاقب. وشكراً.(4/598)
الدكتور معروف الدواليبي:
بسم الله الرحمن الرحيم، سيدي الرئيس، إخواني الكرام، استمعت بكل انتباه إلى ملاحظات الإخوة الأفاضل، وهي ملاحظات دقيقة، ولكن يبدو ليس بالنسبة لفهمي أننا إذا أخذنا بعين الاعتبار الناحية التي تفضل فيها زميلنا الدكتور سامي حمود فيما يتعلق بالإنتاج الزراعي مثلاً حقه يوم الحصاد، فما قولكم مالك هذا الزرع لو ضمنه قبل حصاده لرجل، فالذي قبض المال يزكيه والذي بقي عليه الزرع يزكيه يوم الحصاد. إذن فكرة أن المال قد دفع عنه الزكاة مرتين غير واردة بعد أن تغير المال. فنحن إذا أخضعنا الشركات بمختلف أنواعها إلى مفهوم الحول لأن لكل مالك نوعا من الأجل في الأموال وفي عروض التجارة لكل رجل التاريخ الذي يبدأ منه. أما في قضايا الزراعة والإنتاج الحيواني ونحو ذلك، فهي حلول موسمية، ويصدق عليها قضية الضمان. تضمين الأرض بمزروعاتها وبإنتاجها الزراعي، قد يضمنها ويبيعها قبل أن يحصدها.
فالذي ملك الحصاد وقد مضى عليه خمسة أيام يتوجب عليه أن يدفع، والذي قبض الثمن فيدخله عندئذ في عروض أمواله، بذلك تنتهي المشكلة وأرى أنه لا مشكلة في الموضوع. وشكراً.
الدكتور علي أحمد السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
نريد أن ننظر هنا للمسألة الواقعية. الشركات القائمة الآن التي نجد في عقود تأسيسها نصاً على أنها ملزمة بإخراج الزكاة. هل هذا التصرف يعتبر تصرفاً شرعياً أم لا؟ والذين اشتركوا في هذه الشركة واشتروا الأسهم هل يعتبر هؤلاء قد وكلوا الإدارة لأن ذات الشركة لا تملك إنما الشركة مملوكة، فهل نعتبر أن هؤلاء وكلوا الإدارة في إخراج الزكاة، أم نقول: إن هذا تصرف غير شرعي، ونقول للشركات: يجب إلغاء هذا من عقد التأسيس؟. هذه نقطة.
نقطة أخرى، بعض الإخوة ذكر السندات والسندات هذه ليست محل بحثها، ثم قالوا: إن السندات بفوائدها تزكى وهذا مخالف لنص الآية {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} البقرة: 279. والذي يزكى هو رأس المال وليس الفوائد، فإقحام السندات هنا ثم الإفتاء بهذه الفتوى فأرجو أن تلاحظ.
كذلك بعض الإخوة في أبحاثهم تحدثوا عن الأسهم على أنها حلال بصفة مطلقة بدون أية قيود، باستثناء أستاذنا الدكتور الضرير الأسهم الممتازة ونضيف إلى هذا الاستثناء كذلك الأسهم التي هي لشركات تتعامل بحرام. فلا بد أن نشير إلى أن الزكاة التي نتحدث عنها إنما هي لأسهم حلال لشركات تلتزم وتتعامل بالحلال.(4/599)
نقطة أخرى، وهي أن بعض الإخوة الباحثين ذكروا الزكاة في الأرباح فقط، وبعضهم اشترط ألا تكون في رأس المال والربح إلا إذا كانت في الأسواق العالمية. ونقول هنا: السهم حصة شائعة في شركة، فإذا نظرنا على سبيل المثال نحن في مصرف قطر الإسلامي عندما جئنا لتقدير الزكاة العقد التأسيسي لا ينص على إخراج الزكاة فقلنا: نقدر، فنظرنا إلى الأصول الثابتة ثم هذه لم نحسبها ونظرنا إلى الأصول المتداولة الموجودة والنقود وكل هذا جمعناه ثم في النهاية قلنا: كل سهم زكاته مقدارها كذا. إذن هنا مسألة الربح فقط، ورأس المال إذا كان من الأموال الزكوية كيف لا يزكى؟ هذا لو أن الأسهم لشركة كل رأس المال تحول إلى أموال غير زكوية، مصنع، مزرعة. لو أنه تحول إلى هذا. وكما تفضل أستاذنا الأستاذ الضرير بأن هذا بعيد؛ لأنه هناك لا بد من أموال سائلة موجودة. إذن هنا الإخوة الباحثون الذين ذكروا بأن الزكاة على الربح فقط أرجو أن نراجع هذه النقطة وأن ننظر هنا إلى الربح وإلى رأس المال المدفوع له، وإنما إلى الموجود من الأموال الزكوية الأصول الثابتة هي التي لا تحسب.
بالنسبة للأسهم أيضاً نريد أن نفرق بين أمرين: من يتملك الأسهم للتجارة؟ ومن يتملك الأسهم بقصد الغلة وليس للتجارة ونفرق هنا يعني لو فرضنا مثلاً أن عمائر موجودة للإيجار فالزكاة في الإيجار، لو أن تاجر عقارات اشترى هذه ليبيعها ويشتري ويبيع فالزكاة في ذات العين. لو أن هذه قسمت إلى أسهم الزكاة أيضاً تختلف. فالأسهم لعمارات بقصد التجارة. فإذن هنا التسوية بين الأسهم التي تتخذ للتجارة والأسهم التي يقصد الغلة، هذا التساوي هنا غير دقيق. لذلك يجب أن نفرق بين هذين النوعين. وأكتفي بهذا وشكراً.(4/600)
الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. أشير إلى النقطة الأخيرة التي أثارها الدكتور السالوس عرضاً، وهو أن ما ذكر في بعض البحوث من قضية زكاة السندات، في الحقيقة ذكر لإتمام الفائدة، وإن لم يكن في صلب البحث. فهذه السندات وإن كانت حراماً وعائدها حرام وخبيث وكسب حرام، لكن لا يعني ذلك من الإعفاء من واجب فريضة الزكاة، فبعض المسلمين يتعاملون بالحرام وعندهم أموال حلال وحرام هل نعفي أموالهم المحرمة من الزكاة؟ لم يقل أحد من الفقهاء.
أما الموضوع الأصلي وهو قضية زكاة الأسهم في الشركات: منشأ الخلط في هذا الموضوع هو ما طرحته علينا القوانين الوضعية الحديثة، لو لم نكن في عالم تسيطر عليه هذه القوانين لكانت المشكلة في غاية السهولة ولا مشكلة. القوانين الحديثة افترضت أن للشركات شخصية معنوية، ويعني ذلك أن لها شخصية مقابل الشخص الطبيعي، وهذا يعني أن لها اسماً وموطناً وأهلية وقابلية للتملك والتمليك والالتزام بالواجبات وأداء الحقوق. هذا ما أرادته القوانين الحديثة في افتراض الشخصية المعنوية أو الاعتبارية أو الحكمية لهذه الشركات لكي تستطيع الوفاء بديونها والتزاماتها، خصوصاً في فترة التصفية، أو لتستطيع أيضاً التعامل في أثناء وجودها وعيشها من استيفاء ما لها من حقوق، وأداء ما عليها من واجبات. ولم تتصور هذه الشركات لا من قريب ولا من بعيد، حتى ولا البنوك التي نشأت أخيراً باسم البنوك الإسلامية لم يتعرضوا لموضوع الزكاة.
الزكاة كما هو معلوم لدى الجميع عبادة شرعية تتطلب النية والمطالب والمكلف بها هو الإنسان، هو المسلم، وأما غير المسلم فليس مكلفاً. وقد كفاني الشيخ عبد الودود من أنه إذا وجدت شركة بين مسلم وغير مسلم الحقيقة لا نطبق أحكام شركة الخلطة عليهما؛ لأنه لا زكاة على الطرف الآخر، فلا زكاة على المسلم إذا لم يبلغ ماله النصاب الشرعي. هذه محلولة.(4/601)
القضية الأساسية هي ما دام التكاليف منصباً على الشخص المسلم وهو المساهم وهو المخاطب أصالة كما قال زميلنا الأستاذ الدكتور الشيخ الضرير الحقيقة أن هذه الأصالة يجب أن لا نتخلى عنها، ولكن يجب أن نراعي مسألة الحول ولا نكلف المسلم ولا الشركة التي تنوب عن المساهمين بأن تدفع زكاة المساهمين، إلا إذا استمر الحول الزكوي طوال العام، وهذا ما تصوره الفقهاء في قضية زكاة الخليطين.
وأما ما أثير مما سمعته واستغربت سماعه، كأن بعض الإخوة لم يسمعوا بشيء اسمه الحكم الوضعي. الحكم التكليفي صحيح هو أساس الثواب والعقاب، والشركة شركة اعتيادية لا تدخل الجنة ولا النار. هذا كلام صحيح، لكن هذا الموضوع لا ينطبق على الحكم التكليفي. لا ينطبق عليه الحكم التكليفي، وإنما ينطبق عليه الحكم الوضعي وهو ربط الحكم بالسبب أو الشرط أو المانع أو الصحيح أو الفاسد، كما هو معلوم لدى الجميع. فالشركة عندما نكلفها ويكلفها المساهمون بأن تزكي عنهم، فهي أولاً إما من قبيل أنها وكيلة ومدير الشركة وكيل ونائب عن الشركة، وإما أنه لا يشترط التكليف أصالة في موضوع الزكاة. فزكاة مال الصبي تجب وإن لم يكن مكلفاً، وقالوا هذا من قبيل الحكم الوضعي وليس من قبيل الحكم التكليفي عند جمهور الفقهاء. طبعاً أما إذا كل شيء أردنا أن نخضع كل قراراتنا للخلافات لن نخرج إلى نتيجة ولكن يجب أن نراعي الأولويات.
أولاً الزكاة يجب كما نص فقهاؤنا أن نراعي فيها مصلحة الفقير ويجب علينا أن نختار من هذه الخلافات وهذه الآراء – وألا نكون دائماً مقيدين بها أن نختار- ما يحقق المصلحة العامة للمسلمين. فلا يشترط التكليف في الشركة حتى نطبق الحكم التكليفي، وإنما يجب أن نراعي مصلحة الفقراء ونقيس هذه الموضوعات. الآن الاتجاه العالمي إلى تجميع رؤوس الأموال الصغيرة من طريق الشركات المساهمة ومئات الملايين تقوم على أساس شركات. هل من المعقول أو هل يتصور مسلم أن نعفي هذه الشركات من أداء فريضة الزكاة؟ وحينئذ نقتل الفقراء، وخصوصاً إن كثيراً من المسلمين لا يزكون مع الأسف. الحقيقة من الممكن ونأخذ الأصلح لا تعصباً وإنما دائماً نفتي في الزكاة بما هو الأصلح للفقراء. فالشافعية نصوا في مذهبهم الجديد على أن الخلطة تؤثر في المواشي وغيرها، وهو مذهب المالكية والحنابلة أيضاً في المواشي عملاً بالحديث النبوي: ((لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)) ، ولأن السهم يعبر عن قيمة مالية أو مبلغ من المال فهو مال تجب فيه الزكاة فأثرت الخلطة في زكاة هذه الأسهم كالماشية، أو لأن المالين كالمال الواحد في المؤن (التكاليف) من مخزن وناطور وغيرهما، فهي أي غير المواشي من النقود والحبوب والثمار وعروض التجارة، كالمواشي فتخف المؤونة إذا كان المخزن والميزان والبائع واحداً. فحينئذ حتى زكاة الخلطة فيها تيسير على الناس وليس فيها تشدد. فالواجب أن نراعي ونأخذ بهذا الاتجاه مراعاة لمصلحة الفقراء.(4/602)
أما قضية أن يكون المساهم مديناً من المعلوم لدى الجميع أن هذا رأي الحنفية، تخصم الديون من المكلف، لكن رأي الجمهور الدين لا يمنع إيجاب الزكاة على المسلم، وألا الدائن لا يزكي والمدين يزكي. أين ذهب حق الفقراء؟ الحقيقة مذهب الشافعية في هذا يوجبون الزكاة على صاحب المال وإن كان ماله قد أعطي ديناً لأناس آخرين. فالقضية إذا أردنا أن نحسم ديون الناس. اليوم أغلب العالم وأغلب الناس عليهم ديون، ولهم حقوق وعليهم واجبات، فإذا أيضاً أردنا أن نعفيهم من هذه التكاليف أسقطنا أموالاً كثيرة من الزكوات. فالحقيقة نحن قد أطلنا هذا الموضوع، أجل من الجلسة السابقة، ورجائي ألا نطيل الكلام فيه، وأن نختار لجنة لصياغة موضوعاته؛ لأنه أرجئ فقط للصياغة. أما إذا أعيد بحثه كما أعيد في العام الماضي ثم في الجلسة الختامية عندما أريد التصويت على الاقتراحات أثير بحث بعض الأمور لأن لجنة الصياغة لم توفق في صياغة الموضوع. فالقضية قضية صياغة فقط وليس الموضوع مما يحتاج إلى عناء كبير في البحث. فلنقرر المبدأ والتفاصيل الحقيقة أغلب ما ذكره الأستاذ الصديق الضرير أنا أوافقه عليه، وبحثي أيضاً متفق مع بحثه. والقضية نبدأ من الأمور المبسطة حتى نصل إلى الحكم الشرعي الواجب وألا نضيع الوقت في هذا الموضوع مرة أخرى، وربما إذا سرنا في متاهات الخلافات لن نصل إلى نتيجة، لا في هذا الموضوع ولا في موضوع آخر. وشكر الله الجميع.(4/603)
الرئيس:
شكراً.. في الواقع إن جوانب هذا البحث سبق أن أعطيت حقها من المناقشة بصفة وافية في الدورة الثالثة المنعقدة في عمان، والأمر كما تفضل الشيخ وهبة. والمتخلص الآن أنه لا خلاف في قضية وجوب الزكاة وأن الزكاة هي على المساهم المسلم، ولهذا فإنه قد ترون مناسباً في ما بقي لدي في طلب المناقشة أن يكون التركيز في كيفية الإخراج. فإن الدورة الثالثة في القرار الذي أجل لأجل إعادة الصياغة هو تكييفه على أساس النية في التفريق بين فيما إذا أريد المتاجرة أو أريد مطلق التمليك للحصول على الأرباح. فإذا رأيتم أن يكون التركيز فيما بقي من المداولات على التكييف الفقهي لكيفية الإخراج. هل الأمر يتكيف مع اختلاف النية أم أنه ينزل منزلة الشخص الطبيعي مطلقاً في جميع صورها؟ ثم هل الزكاة تكون على قيمة السهم الاسمية أو السوقية أو الحقيقية؟ فلعلكم ترون هذا مناسباً فيما بقي من كلام. وليتفضل الأستاذ رفيق.
الدكتور رفيق يونس المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم.. أنا في الحقيقة لا أستطيع أن أبت في المسائل التي عرضها السيد الرئيس مؤخراً، ولكنني أحاول أن أساعد بقدر الإمكان في طريق هذا البت إن شاء الله فلست مفتياً وإنما أنا باحث وأحاول أن أطلع على ما يكتب وأسمع ما يقال في هذا الباب والأبواب المشابهة.
أولاً أريد أن أبين بأن زكاة الأسهم عندما تطرح بهذه الصورة، بهذه العبارة زكاة الأسهم لا يفهم منها أنها زكاة على صنف زكوي يسمى الأسهم، فليست الأسهم هنا كما تردد على مسامعي أكثر من مرة مالاً، إنما السهم صك بحصة مالية، فسواء قام المساهم بالزكاة أم قامت الشركة بهذه الزكاة فهذه الزكاة عندي لا تخرج عن كونها زكاة عروض تجارية. وإذا أردتم تسميتها بزكاة الأسهم فليس هذا إلا من باب المجاز. هذه نقطة.
النقطة الثانية: ولعلها مهمة في الصياغة التي هي موضع الإشكال المؤجل. سمعت بعض الإخوة الذين ميزوا بين أسهم تتخذ للتجارة وبين أسهم تتخذ للاستغلال كما فهمت. أما الأسهم التي هي عبارة عن حصة مالية في شركة فهذا لا خلاف فيه، ولكن إذا اتخذت الأسهم عروضاً تجارية للمتاجرة بها فأرجو على الأقل عند الصياغة أن يراعى ما فهمنا. الموقف الشرعي من جواز ذلك قبل مسألة الزكاة. هل يجوز أن تتخذ الأسهم عروضاً تجارية يتاجر بها. بعد ذلك إذا فرضتم الزكاة عليها من باب أنها زكاة على حرام أو على حلال فهذه مسألة أخرى، ولكني أتفق مع الدكتور الصديق في أن هذا الموضوع ليس مسلماً به عندي على الأقل.(4/604)
النقطة الأخرى. مما يساعد في نظري والله أعلم على الاجتهاد في المسائل المستحدثة في باب الزكاة ألا ننظر فقط إلى المال وطبيعته وتصنيفه بين الأصناف الزكوية، بل أن ننظر أيضاً إلى أمور أخرى، منها مثلاً على سبيل المثال المعدل. فمعدلات الزكاة المأثورة هي كما تعلمون ربع العشر 2.5 % ونصف العشر 5 %، و10 % و20 % هذه هي المعدلات الأربعة التي أوثرت لنا في الفقه الإسلامي، وعندما يقال مثلا: زكاة على أرباح، على أرباح الشركة أرجو أن لا يفهم من ذلك أن هذه الزكاة يعني لا يمكن أن يقال هذا بغض النظر عن المعدل. فالزكاة مثلاً عندما تفرض على الأرباح لا تفرض بمعدل 2.5 % قولاً واحداً، وإنما تفرض بمعدل 10 % مثلاً إذا كان على الربح الصافي و5 % مثلاً إذا كانت على الربح المجمل.
فلذلك حتى لو أخذت الزكاة من الأرباح فإنها لا تعتبر في نظري من كل الوجوه زكاة على الربح، وإنما تعتبر زكاة على الأصل أيضاً، ولكنها لا تؤخذ إلا إذا وجد الربح. هذه نقطة.
نقطة أخرى. ذكر على سبيل العرض السريع نصف دقيقة الدكتور السالوس حول الكلام عن سندات الفائدة. أعتقد أن هذه النقطة غطاها فضيلة الدكتور وهبة فلا أعود إليها. حول موضوع الشخصية المعنوية أريد أن أقول كلمة موجزة. من خلال ما قرأت عن الشخصية المعنوية بقلم الكتاب المسلمين أساتذتنا الأفاضل لم أستطع أن أتبين بوضوح: هل هناك فرق يا ترى بين الشخصية المعنوية التي ابتكرها رجال القانون الغربيون وبين أن يقال: إن هذا المال في مجموعه ملك لمجموع الشركاء، لا أكاد أرى الفرق بينهما. هل هناك فرق بين أن نقول لهذه الشركة شخصية معنوية أو أن مجموع أموال الشركة تعود إلى مجموع أموال الشركاء؟ لا أكاد أرى الفرق ولاسيما في هذا الباب، وهذه مسألة مهمة فيما نحن بصدده ومهمة في موضوعات أخرى.(4/605)
النقطة الأخرى التي أريد أن أتعرض لها قد عرج عليها أستاذنا الدكتور الزحيلي حول موضوع الديون والمصاريف –أنا أضيف إليها المصاريف- الذي ألفناه من مألوفات الفقه الإسلامي أن المصاريف والديون أمور باطنة، وأنا الذي أعرفه في حدود علمي القاصر أن هذه الأمور الباطنة قد تركها الشارع لكي تعالج مع الأموال الباطنة لا مع الأموال الظاهرة، دليلي على ذلك باختصار ما يلي:
فعند الكلام مثلاً عن زكاة النقود التي وكلت إلى ضمائر الأفراد كما في عهد عثمان بن عفان كما هو معلوم، وفيما بعد ذلك، وأنا أوافق على هذا الرأي، يستطيع الإنسان المزكي أن ينزل ما عليه من الديون ويخرج الزكاة من الباقي، لكن في أموال ظاهرة كأموال السائمة والزروع والثمار لم أعهد الشارع رعاية لموضوع المصاريف والديون. كل الذي نعرفه أن هناك نصاباً إذا توافر هذا النصاب أخذت الزكاة. فإذن موضوع المصاريف وموضوع الديون لا قيمة له في نظري في الأموال الظاهرة، وهذا موضوع عملي في التطبيق العملي من باب التيسير.
زكاة الأسهم موضوع النقطة الأخيرة التي أعرج عليها، وهي النقطة التي طلب سيادة الرئيس الكلام عنها. زكاة الأسهم إذا زكيت فأنا أرى أنه لا خلاف عندي في أن زكاتها تجب بالقيمة الفعلية بالقيمة السوقية. وأريد أن أقول إن هذه القيمة السوقية يجب أن لا تتدخل فيها المضاربات "المقامرات"، وإنما القيمة السوقية المستندة إلى التقويم التقريبي التقديري على الأقل لميزانية الشركة. أقول هذا وأستغفر الله. وشكراً.(4/606)
الدكتور محمد عمر الزبير:
بسم الله الرحمن الرحيم.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هناك حقيقة اقتصادية أود أن أعرضها لتنير لنا التكييف الشرعي لقضية الأسهم. الواقع وجود الأسواق المالية وتداول هذه الأسهم حولها إلى جنس جديد يختلف عن طبيعة جنس الشركات أو أجناس الشركات، سواء كانت شركات إنتاجية أو شركات زراعية أو شركات صناعية. فسيولة الأسهم الآن في الأسواق يتداولها الناس وتباع للاتجار. فعندي في الواقع أن حقيقة هذه الأسهم هي من عروض التجارة، لا ترجع إلى أصلها، فقد تحولت من جنسها باعتبار جنس إلى جنس آخر جديد، حتى ولو كان أصلها زراعية أو صناعية أو إنتاجية؛ وذلك لسهولة تداول هذه الأسهم. وهناك سوق مالية في الواقع النمط السلوكي لكثير من المساهمين والمشتركين في هذه الأسهم لا يتلكونها للقنية ولا الاحتفاظ بها فترة طويلة، وإنما لتداولها في هذه الأسواق، وإن كانت هذه الظاهرة غائبة عنا في بعض مجتمعاتنا، وبعض الأفراد يقتنون مثل هذه الأسهم لأجل القنية وليس لأجل التجارة فهذه ظاهرة مع الزمن تتغير وتتحول إلى الظاهرة الأخرى التي تسود الأسواق العالمية. فهذه النقطة أود أن أعرضها على الفقهاء في التمييز بين التملك للقنية والتملك لأجل الاتجار، فتخضع أغلب –أقول: أغلب- الأسهم إلى جنس عروض التجارة. وشكراً.
الرئيس:
شكراً.. نحن أمامنا في هذه الليلة "انتزاع الملك للمصلحة العامة" فهل ترون أن نكتفي بما حصل من مداولات وإلا فإن بقي لدي سبعة أسماء من أصحاب الفضيلة، فهل ترون أن نكتفي وننهي الموضوع ثم نشرع في نزع الملك للمصلحة العامة، إذن الشيخ عبد السلام مع الاختصار.(4/607)
الشيخ عبد السلام داود العبادي:
بسم الله.. أختصر وفقط أقول كلمة بالنسبة للشخصية الاعتبارية. في الواقع الشخصية الاعتبارية هنا تملك الشركة تملك وهي مملوكة، لا نستطيع أن نقلل من قضية الشخصية الاعتبارية هنا باعتبارها تملك، وهذا تخريج عرفه فقهاؤنا ووثقه الفهم القانوني الحديث. لكن هذا موضوع آخر غير موضوع الزكاة لأن حديثنا في موضوع الأسهم وكما وضح الآن هو موضوع الحصص، فباعتبار الزكاة ننظر إلى موضوع الأسهم، يعني الذين يملكون هذه الأسهم، الذين يملكون هذه الحصص هم الذين نبحث معهم قضية الزكاة.
ولا يعني أن وجود الملكية لجهة أنه لا بد من الحديث عن الزكاة. فالوقف جهة الوقف تملك بيت المال يملك ولا نثير قضية الزكاة في الأعم الأغلب من أقوال فقهائنا. فباعتبار الزكاة ننظر إلى جهة الحصص، فهي زكاة الأسهم وليست زكاة الشركات المساهمة باعتبارها مالكة لأموالها؛ لأن الملكية كما نعلم أساسها التصرف. ما دمت أتصرف إذن أملك. في ظني أنه يجب الإبقاء على مفهوم النية والقصد إذا كانت هذه الحصص تملك للقنية لا بد من ملاحظة أنواع الأموال ولا بد من ملاحظة ربط الزكاة بالدخل. وإذا كانت للمتاجرة وهذا هو موضوع السيولة لأنه نعم السيولة سيلت هذا المال لكن ليس شخص يقصد تسييل هذا المال ينالها للقنية، ويسجلها بأسماء أبنائه للمستقبل، فعند ذلك تعامل معاملة عروض التجارة ويكون أساس التقويم هو السعر الحقيقي وليس السعر الرسمي. وشكراً.
الشيخ رجب بيوض التميمي:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أريد أن أوجز، ما أريد أن أقوله: إن الأسهم في الشركات المتنوعة إن كانت تجارية أم زراعية أم صناعية هي أموال قصد أصحابها تنميتها والاستفادة من أرباحها ولا وجه للتفرقة بين الشركات لأنها جميعها تعمل للتنمية والربح، وإذا أردنا أن نعفي بعض الشركات كالشركات الصناعية أو نعتبر الشركات الزراعية كالأرض الزراعية تؤتي أكلها يوم حصادها. فإننا نعفي كثيراً من الأموال الطائلة من الزكاة، هذه الأموال التي في الشركات الصناعية، وهذا الزمن هذا الوقت العالمي الأموال كلها أو أكثرها تجمع في شركات تجارية أو زراعية أو صناعية، ولقد أثبت الواقع أن ربح هذه الشركات يفوق ربح الأشخاص الذين يتاجرون بأموالهم منفردين. فإذا أردنا أن نعفي بعض هذه الشركات وهي تنتج وتربح كثيراً فإننا نسهل السبيل على بعض أصحاب الأموال لوضع أموالهم في مثل هذه الشركات للتخلص من الزكاة ولذلك وباختصار فإني أقول: إن جميع الشركات سواء كانت تجارية أم صناعية أم زراعية أم شركات أخرى كخدمات أو غيرها هي شركات تعمل للتنمية والربح والمال والزكاة على مالكي الأسهم الذين يخرجونها بنيتهم؛ لأنها عبادة، ولا وجه لإعفاء أي شركة لأي سبب كان، وإلا قضينا على قسم كبير من الأموال لتخرج الزكاة.
أقول قولي هذا لأوضح وقد بينت هذا في بحثي وأود أن أقول: إن الفتوى كرأي أن تكون شاملة لكل شركة ولكل مال بلغ نصاباً وحال عليه الحول بلا تفريق. وشكراً.(4/608)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
اضطررت لأخذ الكلمة لتعليق بسيط وهو أنه لا يمكن أن يقع بين العلماء وهم يتحدثون ومن ينتسبون إلى العلم إلا مع الاتفاق على المصطلحات واستعمال المصطلح في مكانه. فإذا وجوب فهو خطاب تكليف وإذا قلنا سبب أو شرط أو مانع أو تقادير شرعية من إعطاء المعدوم حكم الموجود أو إعطاء الموجود حكم المعدوم أو رخصة أو عزيمة فذلك من خطاب الوضع. وشكراً.
الشيخ عمر سليمان الأشقر:
الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المشكلة عندما تقوم دولة إسلامية تريد أن تطبق حكم الزكاة على المجتمع المسلم، فهل يستطيع علماؤنا الأفاضل أن يستثنوا الشركات المساهمة من أن تؤخذ منها الزكاة، وهي تمثل التجمعات المالية الضخمة في المجتمعات المعاصرة. أنا لا أريد أن أخوض في مشروعية الشركات المساهمة. فكما نعلم جميعاً المعاملات على الإباحة ما لم يأت نص يحرمه. أما العبادات فإنها على التوقيت والمنع، إلا إذا جاء النص المشرع. لا شك أن هذا نمط جديد من الشركات لم يكن له وجود في المجتمع المسلم قديماً، والشريعة الإسلامية لا تمنع أن توجد الأنماط في المعاملات إذا لم تكن هناك نصوص مانعة. لا نستطيع أن نقول للدولة الإسلامية: دعي الأموال ثم خذي منها الزكاة وهي التي تحرص على أنه إذا ما اجتمع بعض الإبل أو بعض الغنم أن تأخذ منها الزكاة؛ حرصاً على أن نأخذ حق الفقراء بأيسر السبل وأسهلها. فإذا ما تجمع ملايين ومئات الملايين ثم بعد ذلك نسمح أن تتوزع هذه الأموال لنأخذ عليها الزكاة بعد توزيعها. النمط الجديد من المعاملات هو الذي يجتمع له الناس لا ليطبقوا عليه القواعد الجزئية والأحكام الجزئية، إنما المشكلات الجديدة تحتاج إلى نظرة فقهية واسعة. أنا لا أتكلم كما ذكر بعض إخواننا بالعاطفة، ولكن هذه طبيعة المشكلات التي تجد وتظهر لا نتعامل معها بالنظرات الجزئية وإنما ننظر إليها نظرة كلية، هذه مشكلات تواجه المجتمع المسلم، وسيزداد أمرها عندما تقوم دولة إسلامية شاملة تريد أن تأخذ الزكاة من الجميع وتجد أمامها تجمعات مالية تبلغ ملايين ومئات الملايين ومليارات لا نستطيع أن نعفيها من أن تأخذ الزكاة. أكتفي بهذا المقدار وشكراً.(4/609)
الشيخ خليل محيي الدين الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم.. تعقيب بسيط على كلام الأخ الدكتور وهبة عندما حيرنا بين الدائن والمدين، وهو يعلم أنه من لم يوجب الزكاة على الدائن أوجبها على المدين، ومن لم يوجبها على المدين أوجبها على الدائن.
أمر آخر خطر في البال الشخصية المعنوية في الشركة. فالشركة من حيث إنها تملك لذلك أقتصر حكم الإفلاس على المال الذي هو بنية الشركة أي رأس المال ولا يتجاوز حكم الإفلاس على مال المالكين خارج الشركة. إذن من حيث إنها تملك اقتصر حكم الإفلاس على المال رأس مال الشركة ولا يتجاوز إلى الأشخاص الآخرين. ومن حيث إنها مملوكة لذلك يخاطب المالكون بالزكاة. فإذن هي مالكة وهي مملوكة. والله أعلم والسلام عليكم.
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد
أود أن أبين ما هو السهم؟ يعني تعريف السهم حسب فهمي أنه يمثل حصة عينية مشاعة في شركة مساهمة يتداول أسهمها في السوق بيعاً وشراء، والشركات أنواع منها تجارية ومنها عقارية وزراعية، حتى الزراعية الآن تشمل الأبقار والدواجن، وصناعية، ومنها عامة فيها نقود وفيها تجارة وفيها عقار وفيها زراعة وفيها صناعة. وهناك نوعان من المستثمرين: مستثمرون يقتنون للريع السنوي، ومستثمرون متداولون للسهم كتجارة. فبيت التمويل الكويتي ذكر الإخوة عن البنوك الإسلامية فلا بد أن أبين ما ذهب إليه بيت التمويل الكويتي في الزكاة. بيت التمويل الكويتي لا يزكي البيت عن الناس، إنما المساهمون هم يزكون أسهمهم حسب معرفتهم، إلا من يوكل البيت في ذلك فالبيت يقوم بالنيابة عنه بالزكاة عنه. إذا هناك شركة مساهمة لا يتداول أسهمها في السوق بيعاً وشراءً، إنما ملاك الأسهم لا يتغيرون إلا بالتصفية.
أنا أميل إلى رأي الدكتور الصديق الضرير لأن هذه ما فيها إشكال الحق ولا فيها تغيير للمالك، وهذه نادرة الوجود. أميل في الحقيقة إلى أن نرد الشيء إلى أصله في كيفية إخراج الزكاة. إذا كانت شركة تجارية نزكيها كعروض التجارة، إذا كانت عقارية، وإن كان نوى للتجارة وهي عقار أو صناعة ربما لا يمكنه السوق من التداول في بيع عقاره أو بيع ما يملك من مصانع فكيف في الحقيقة أنا في نفسي منها شيء. كيف نزكي على النية ونترك حقيقة العين.
أنا أرى أن نرجع كل شيء إلى حقيقته إلا إذا هناك في الفقه الإسلامي من حكم يتغير بتغير الظرف إذا كانت نيتي اقتناء السهم للتجارة. السهم الصناعي والعقاري وما إلى ذلك ونويت فيها للتجارة، ثم لم أمكن من ذلك وبقي عقاري وبقي مصنعي عشر سنوات بدون تداول، هل هناك في الفقه الإسلامي ما يمكنني بما أني لم أتمكن من تحقيق نيتي بأن يتغير حكم الزكاة في ذلك، إذا كان في الفقه الإسلامي شيء من هذا نريد الجواب عليه. وشكراً.(4/610)
الشيخ محمد سيد طنطاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم.. تعجبني الكلمة التي حفظناها خلال عهد طلبنا للعلم وما زلنا طلاباً للعلم، تلك الكلمة التي يقول أصحابها: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، والموضوعات التي بين أيدينا منها موضوعات فقهية خالصة ومنها موضوعات بجانب أنها فقهية تحتاج في جانب منها أيضاً تارة إلى أن يكون مع رجل الفقه رجل الاقتصاد أو رجل الطب؛ لأن العلم رحم بين أهله كما يقولون، والفتاوى أقرب ما تكون إلى الصواب عندما يكون مع الفقيه في المسألة التي تحتاج إلى دراسة متنوعة يكون إلى جانبه الرجل المتخصص، وأنا شخصياً أميل في أمثال هذه البحوث إلى أن يكون معنا من الرجال العاملين في البنوك الذين نثق بعلمهم ونثق بدينهم، أن يكون معنا واحد أو اثنان أو ثلاثة على حسب ما يرى فضيلة الدكتور رئيس المجلس لكي يوضح الصورة أكثر وأكثر وأكثر؛ لأن الشركات في أيامنا هذه شركات متنوعة ومتعددة، وأيضاً يا حبذا لو كان بين أيدينا بعض اللوائح والقوانين التي تتعلق بهذه الشركات تكون الصورة أكثر وضوحاً. ولا أقول ذلك بالنسبة لجميع مشايخنا الذين يجلسون معنا وجميع زملائنا، وإنما أنا أقول ذلك بالنسبة لنفسي.
الأمور في مثل هذه الموضوعات الشائكة تحتاج إلى أن يكون إلى جانب رجل الفقه رجل القانون ورجل الاقتصاد، وقد أشار إلى ذلك الأخ الدكتور الأستاذ رفيق المصري والأخ الدكتور الزبير، وفي الحقيقة أنا أميل إلى هذا الرأي، ولهذا أرى إذا ما تشكلت لجنة للبت في هذا الموضوع أرى من المناسب أن يكون مع هذه اللجنة الفقهية بعض من نثق بعلمهم وفضلهم من الرجال المتخصصين في الناحية الاقتصادية أو القانونية أو غيرها؛ حتى تكون الفتوى إن شاء الله أقرب إلى الصواب وأقرب إلى الحق بإذن الله. والله الموفق.(4/611)
الرئيس:
شكرا، وأحب أن أحيط فضيلتكم بأنه يوجد متخصصون وهم الفاضلان بجانبك الاثنان الجاران لك. وأما المستشارون في البنوك فيوجد عندنا، وعلى رأسهم الشيخ الضرير. الشيخ الضرير.
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم.. في الواقع أنا طلبت الكلمة لأعلق على بعض التساؤلات أو الاعتراضات، وأبدأ بالمتحدث الأول، فقد ذكر قاعدة أوافقه عليها، وهي أن المنظومة لا بد أن تكون متناسقة، والمبدأ يجب أن ينطبق على جميع الفروع، هذا كلام جيد. والمبادئ التي بنيت عليها كلامي أو بحثي هي ثلاثة مبادئ:
المبدأ الأول: أن الزكاة واجبة على المساهمين، وليست واجبة على الشركة.
المبدأ الثاني: وهذا المبدأ أظنه أصبح محل اتفاق، كما قرره السيد الرئيس: وجوب زكاة الأسهم على المساهمين.
المبدأ الثالث: الأخذ بمبدأ الخلطة في الأموال، وهذا لم أبتدعه أنا ولم أخالف فيه النصوص كما أشار بعض الإخوة الكرام، وإنما هذا هو رأي الشافعي. وقد نقلت كلام ابن رشد في هذا الذي بين فيه بوضوح منشأ الاختلاف بين الشافعي وغيره، وكلام هؤلاء الأئمة الأجلاء، وقفوا على الحديث واختلفوا في تفسيره. فالاختلاف راجع إلى فهم الحديث، فلا نستطيع أن نقول: إن من يقول بأخذ بمبدأ الخلطة في النقود قد خالف النص، وإلا حكمنا على الشافعي بأنه خالف النص مع علمه به.
المبدأ الثالث: مبدأ المال المستفاد أنه يتبع أصله ولا يشترط فيه حولان الحول، وهذا هو رأي الحنفية وبعض غيرهم، وهو معروف ومدون. وسرت على هذه المبادئ الثلاثة لم أخرج عنها في أي جزئية من الجزئيات. ولعل أهم جزئية أثيرت هي ما بدأ به السيد رئيس المجلس، وهي كيف نوجب الزكاة على المشتري الجديد الذي دخل في هذه الشركة. هذا يخضع لهذين المبدأين: مبدأ الخلطة، ومبدأ المال المستفاد. فبعدما قررنا أن الشركة واجبة على المساهمين، وهذه الشركة قد اشترك فيها ... مساهم ثم جاء أحدهم خرج من الشركة ودخل شخص آخر، فهذا مال مستفاد بالنسبة لهؤلاء الشركاء المساهمين، الذين تجب عليهم الزكاة، والذين اعتبرنا الأموال كلها كمال شخص واحد بمقتضى مبدأ الخلطة، تجب فيها الزكاة، وفي هذا الإجابة على اعتراض آخر كيف تجب الزكاة في مال لم يبلغ النصاب. أنا لم أقل هذا. لم أقل: إن الزكاة تجب في مال لم يبلغ النصاب هذه مسألة مسلم بها. إنما قلنا: إن إعمالنا لمبدأ الخلطة إذا كان أموال الخلطاء، ويجب أن يكونوا مسلمين، وقد غناني بعض الإخوة الإجابة عن هذا بين مسلم وغير مسلم، وهذا غير متصور إذا كان مجموع المال الذي يملكه من تجب عليهم الزكاة، وكانوا عشرة، وكل واحد منهم عشر النصاب، هؤلاء العشرة تجب عليهم الزكاة. فليس هناك قول بأن المال الذي لا يبلغ النصاب تجب فيه الزكاة.(4/612)
المتحدث الأول استشكل موضوع: كيف تجب الزكاة على الشركة، وهذا في الواقع ليس إشكالاً، وأنا قد قررت فيه رأيي. موضوع مذهب الإمام مالك في موضوع المحتكر والمدير، هذا رأي تفرد به الإمام مالك، وأنا لم آخذ به، وكما قلت لكم: نحن مشينا في رأينا بالنسبة للزكاة على التيسير، ومذهب الإمام مالك هذا معروف في التفرقة بين هذا لم آخذ به، ولا إلزام في الأخذ به.
فيما يتعلق بفكرة المستغلات، أنا كل ما فعلته أني نقلت هذا الرأي. وأنتقل من هنا للرد على جزئية ذكرها بعض الإخوة، وهي ما ورد في الصفحة الخامسة. قلت في الصفحة الخامسة: والواقع أن هذا الاختلاف ليس خاصاً بالأسهم. أنا لم أقل ليس هناك اختلاف، وإنما قلت: إن الاختلاف بين الشيخ عبد الرحمن عيسى في أنه لا يوجب الزكاة في الشركات الصناعية وبين الشيخ القرضاوي ومن وافق كلا منهما. قلت: إن هذا الاختلاف ليس خاصاً بالأسهم والشركات؛ لأنه يمكن أن يقال في كل مستثمر على الرأيين هي أن الأسهم أموال تجب فيها الزكاة، ولم أقف عند هذا كما ذكر الأخ الكريم، وإنما قلت: تجب فيها الزكاة إذا توافرت شروط وجوبها.
والاختلاف بين رأي الشيخ عيسى والدكتور القرضاوي هو في تحقق شروط الوجوب فليس هناك خلاف خاص بأسهم، الخلاف في جزئية كبيرة يدخل فيها الأسهم.
بعض الإخوة اعترضوا على أن نقيس على الخلطة، ولا أدري لم هذا الاعتراض؟ نحن لم نقس وإنما أخذنا رأي الشافعية بعينه، ليس هناك قياس، فأنا أخذت برأي الشافعية في أن الخلطة تؤثر في الأموال.
أما ما يتعلق بالتجارة في الأسهم فأنا قلت: إن في نفسي من هذا شيئاً، وأرجو أن يكون محل بحث، ولست أنا الذي تفردت بهذا القول، وهناك كثير أو بعض الفقهاء المعاصرين لم يجوزوا، حتى صراحة منعوا بيع الأسهم.(4/613)
نقطة أخرى في التفرقة بين المساهم إذا عرف من حسابات الشركة أو لم يعرف. الأخ المعترض يقول: إن المساهم يستطيع أن يعرف دائما هذا فليكن لا إشكال في هذا، أنا كلامي فيما إذا لم يعرف. أما الشركات التي نتحدث عنها وأنا ذكرت البنوك، والبنوك شركات تلتزم بالأحكام الشرعية. طبعاً نحن لا نتكلم عن شركات لا تلتزم بالأحكام الشرعية، أو تتعامل بالربا، هذه طبعاً لا يجوز الدخول في أسهمها من أول الأمر، هذه مفروغ منها، وليست محلا للبحث.
نقطة أخيرة من كلام الشيخ الزبير في حقيقة السهم، وهو يرى أن الأسهم لا تتخذ لأجل القنية، وإنما تتخذ لأجل التجارة. لا أدري كيف نوفق بين هذا وبين الواقع. الذي أعرفه أن عدداً لا يستهان به يقتنون هذه الأسهم لأجل القنية، ولأجل الاستفادة من ربحها، أما أن يقتنيها لأجل التجارة فهذا فهم جديد إذا كان هذا هو رأي الاقتصاديين، وأن الأسهم الغرض الأساسي منها أن تقتنى للتجارة، هذا يقتضي منا نظرة أخرى إلى الموضوع. وأكتفي بهذا وشكراً.
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
فضيلة الرئيس، الحقيقة كما قال الشاعر: " هل غادر الشعراء من متردم" أعتقد أن الخطباء لم يتركوا مقالاً لقائل ولا مجالاً لجار. ولأجل ذلك اقتصاراً للوقت أرى أنه بإمكانكم أن تطلبوا من المؤتمرين: هل يوافقون على تقليد الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة الخلطة؟ وهل يوافقون على تقليد أبي حنيفة رحمه الله تعالى في المسألة المتعلقة بالموضوع؟ نكون بهذا قد قطعنا خطوة في اتجاه الحل. لا يبقى بعد ذلك إلا تكييف المسألة أو ما يسمى بتحقيق المناط في عرف الأصوليين. هذا التكييف يتعلق بالأسهم، وقد تقوم به لجنة من الاقتصاديين؛ لأن المبادئ قد ووفق عليها وانتهى. الذي دفعني إلى هذا التعليق حقيقة هو كلمة قالها أحد الإخوة المحترمين، وهو أن المال الحرام تجب فيه الزكاة، وقال: إنه لا يعلم أحد من الأئمة قال بعدم وجوب الزكاة فيه، وأنا أسأله: هل عرف أحداً؟ وهل يمكن أن يقول: إن عالماً واحداً أوجب الزكاة في المال الحرام؟ المال الحرام غير مملوك لصاحبه، والزكاة من شرطها تمام الملكية. لا بد من تمام الحول وتمام الملكية.
إذن كيف يسمح لنفسه أن يقول: إن المال الحرام تجب فيه الزكاة؟ وإنه لا يعلم أحد من المسلمين يقول بعدم وجوب الزكاة فيه. أرجو التنبيه إلى هذا. وشكراً سيدي الرئيس.(4/614)
الدكتور سامي حسن حمود:
شكراً سيدي الرئيس، أتكلم في نقطتين وبدقيقتين. النقطة الأولى دفعاً للبس الذي قد يظن أن القول بالشركات المساهمة لا تزكى أنه منع الزكاة كلياً. الحقيقة هي تحوير الدفة أن الزكاة على المساهم يزكيها بحساباته ووفق حوله ونظامه.
النقطة الثانية: هي سمعت من بعض الإخوة أنه إذا عملنا كذا وقلنا في الزراعة كذا، فقد يخشى تحول المستثمرين إلى الزراعة ليتهربوا من الزكاة. الواقع أن الشريعة الإسلامية شريعة كاملة، ولا ينطبق عليها ما قد ينطبق على القوانين الحديثة من حيث براعة المحامين في الدوران من خلف النصوص القانونية، وقد يكون هناك توجيه اقتصادي دقيق في المعايير التي وضعها الشرع في نصاب الزكاة. وأضرب مثلاً حسابياً سريعاً: شخص يملك ألف دينار، أبقاها كما هي، زكاتها مع حلول الحول 25 ديناراً. آخر تاجر في ماله ومع تقليب التجارة عدة مرات خلال العام أصبح عروض التجارة في موجوداتها 1400، وزكاتها 35 دينار. شخص اشترى بالألف دينار أرضاً تسقيها السماء فأعطت إنتاجاً قدره 300 دينار، فيه العشر، فعليه زكاة 30 دينارا، شخص آخر رواها بالآلة، وأعطته إنتاجا زائداً قدره 400 دينار، فزكاته 20 ديناراً. هذه التوجهات وكأنها تشير إلى أن مالك المال إذا أراد أن يتهرب وأن يقلل من زكاته، فأعطى المردود في الزراعة المروية 20 ديناراً هو أقل مقدار ممكن أن يؤديه، لكن لينظر المفكرون الاقتصاديون المسلمون في الأثر الناتج عن زراعة الأرض بالآلة، انتفع مصنع الآلة وانتفع العامل على الآلة، وانتفعت الأرض بالإحياء، كل هذه نتائج اقتصادية مرتبطة بهذه المعايير الشرعية. فليست قضايا النصاب وقضايا التوزيع من القضايا التهريبة أو التي يتم بها التحايل على الشريعة، ولكن الشريعة تبرز جمال التطبيق في المجتمع المتكامل، بحيث إن هذا المال الذي استعمل في أشد الأمور معاناة عبؤه في الزكاة خفيف، ولكن أثره في المجتمع قوي وكبير. هذه هي النقطة التي تتحكم في توزيع الأنصبة والمقادير. وشكراً لكم.(4/615)
الدكتور رفيق يونس المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم، النقطة الأولى التي أحب الكلام عنها هي مسألة السهم إذا بيع خلال الحول. في الحقيقة أن شركة المساهمة النقطة المفيدة فيها إذا كانت هناك من فوائد، ولا أتكلم عن الشركات المثلى في الشريعة الإسلامية، أن رأس مال الشركة يعتبر ثابتاً وإن تغيرت أشخاص المساهمين، فالسهم إذا بيع خلال الحول فإن الشركة طبعاً طالما أنها هي التي تقوم بإخراج الزكاة في نهاية الحول، هذه الزكاة لا شك أنها ستنزل من الأرباح القابلة للتوزيع على المساهمين. معنى ذلك أن الشخص الذي يشتري السهم خلال الحول لا في بدايته ولا في نهايته، فإنه يتوقع أن يكون الربح الذي يخص سهمه أو أسهمه أقل، ومعنى ذلك أن هذه المسألة يمكن استدراكها من خلال ثمن السهم الذي يباع، وإن وقعت الزكاة على شخص المساهم الأخير، شخص المساهم التي تمت الزكاة في وقته. أما الشخص الأول فإنه يخسر المقدار المتوقع من الزكاة من خلال الثمن الذي يباع به السهم.
ما أشار إليه الدكتور الزبير حول موضوع سهم للقنية وسهم للتجارة، أنا لا أرى أن هذا التمييز وارد في هذا المجال بين قنية وتجارة، فهذا قد ذكره الفقهاء في باب العروض فقالوا: إن هناك عروض قنية وعروض تجارة من أجل الوصول إلى عروض القنية لا تزكى. لا أدري هل يريد الدكتور الزبير أن الأسهم إذا كانت للقنية لا تزكى كعروض القنية. والله أعلم.
أنا أشكر أستاذنا الشيخ ابن بيه على هذه النقطة التي أطلقها وهي أن المال الحرام غير مملوك لصاحبه، وأنا في الحقيقة لا أتصور كيف أن شخصاً يأكل الحرام ويخرج الزكاة. وشكراً لكم.(4/616)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فيتضح من المناقشات التي جرت في موضوع زكاة الأسهم في الشركات أنه لا نزاع في وجوب الزكاة، وأن الزكاة في أصل وجوبها إنما تجب على المساهم المسلم، ثم يأتي البحث في تكييفها، ولعل الاتجاه العام من خلال هذه المداولات يفيد تنزيل التكييف لها منزلة الشخص الطبيعي، فيما لو كان مالكاً لكل الشركة، أو لكل رأس المال، سواء كان من حيث النصاب أو من حيث المقدار الذي يخرج زكاة في عين المال، مع مراعاة المشروع الذي سبق أن أعد في الدورة الثالثة في عمان ثم حصل إيقافه لاختلاف حول صياغته، ورغبة في أن يخرج الموضوع بصفة دقيقة وأن يحوي الأصول التي تجرى عليها الأحكام في زكاة الأسهم، فقد ترون مناسباً تأليف لجنة من العارض والمقرر وبعض الأعضاء وهو المشايخ: الصديق الضرير، السالوس، الشيخ محمد عبد اللطيف، طه العلواني، أحد البازيع. والشيخ طه إذا كان منشغلاً بلجنة أخرى ممكن نضيف إليهم الشيخ عمر الأشقر، فإن حضر الشيخ طه فجزاه الله خيراً وإن لم يحضر فالشيخ عمر الأشقر فيه البركة مع المشايخ. هل ترون هذا مناسباً؟
شكراً، وبهذا ترفع الجلسة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(4/617)
مناقشة مشروع القرار الذي وضعته اللجنة
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
زكاة الأسهم في الشركات بعد الديباجة. قرر المجمع ما يلي:
أولاً: تجب زكاة الأسهم على أصحابها، وتخرجها إدارة الشركة نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة، أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه.
ثانياً: تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين أموال شخص واحد، وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب.
الرئيس:
ما ترون أن يقال: تعتبر جميع أموال المساهمين كأنها مال شخص واحد، بمثابة شخص واحد.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بمثابة أموال شخص واحد.
الشيخ عمر جاه:
بسم الله الرحمن الرحيم، هي المشكلة أنه نفترض أن المساهمين كلهم مسلمون على فرض الشركة فيها مساهمون مسلمون وغير مسلمين.
الشيخ علي المغربي:
قد يكون شخص مساهم قلنا وأن الشركة تؤدي زكاة أموال المساهمين، وقد يكون هناك شخص مساهم لم تصل إليه في أسهمه لم يجب عليه الزكاة؛ لأنه دخل متأخراً ولم يحل عليه الحول. قد يكون شخص دخل في وسط السنة أو في آخر السنة، وكان للشركة مرور حول، غير أن أموال مساهم لم تصل إلى الحول فهل نوجب عليه الزكاة في هذه الحالة.(4/618)
الرئيس:
سيأتي يا شيخ. سيأتي في القرار.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي، وذلك أخذاً بمبدأ الخلطة عند من عمم من الفقهاء في جميع الأموال. ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة، ومنها أسهم الخزانة العامة، وأسهم الوقف الخيري، وأسهم الجهات الخيرية، وكذلك أسهم غير المسلمين.
ثالثاً: إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، زكى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم. وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك: فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، فإنه يزكيها زكاة المستغلات، وتمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع، مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع.
وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه، زكى قيمتها السوقية، وإذا لم يكن لها سوق، زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر 2.5 % من تلك القيمة ومن الربح إذا كان للأسهم ربح.
رابعاً: إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاه معه عندما يجيء حول زكاته. أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق.
الشيخ محمد تقي العثماني:
الحقيقة في الفقرة الأخيرة من ثالثاً حينما نقول: إن لم يستطع المساهم معرفة ذلك فإنه يزكي ريع الأسهم السنوي فقط. فكأننا تركنا بعض ماله غير مزكى لأن بعض ماله مصروف في النقود وفي البضائع التجارية باليقين ولكن قدره غير معلوم. فحينئذ يصير ذلك المال غير مزكى، وأرى أن في هذه الصورة يجب أن تزكى القيمة السوقية من السهم لا الريع فقط؛ لأن من المعلوم أن بعض ماله مصروف في النقود والبضائع التي تجب فيها الزكاة. فكيف نتركها غير مزكاة؟(4/619)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
إن هذا الترديد: وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك. إلى قوله: وانتفاء الموانع. أنا أتحفظ عليه لأني أعتقد أن أسهم الشركات هو مال يجب أن يدفع منه زكاته في نهاية السنة.
الرئيس:
أين هذه يا شيخ؟
الشيخ محمد المختار السلامي:
وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي فإنه يزكيها زكاة المستغلات، وتمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع.
هذا أتحفظ عليه تحفظا كاملاً، ولا أعتبر أن أسهم الزكاة هو كعقار. فجعل قياس السهم في الشركة كالعقار هذا ما أتحفظ عليه ولا أراه صحيحاً ولا أدين به. وشكراً.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
كلمة انتفاء الموانع المقصود منها إذا كان هذا المساهم الذي يزكي الآن فردياً ليس زكاة أسهم الشركات ككل شركة، وإنما مساهم لديه سهم يستغله وينتظر ريعه. فإذا كان عليه دين يسقط هذا الدين من قيمة السهم.(4/620)
الرئيس:
لأنه من الموانع.
الشيخ محمد المختار السلامي:
إن الزكاة تجب في الريع فقط. هذه هي القضية. إن السهم كله بريعه يجب إخراج الزكاة فيه..
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
الأصل والريع.. ليس الاعتراض على كلمة الموانع.
الشيخ محمد المختار السلامي:
لا أنا قلت الترديد كله وإن لم يستطع المساهم. إن هذا الذي أعترض عليه.
الشيخ عبد الله إبراهيم:
بالنسبة لأسهم غير المسلمين أرى أن يؤخذ أيضاً مثل الزكاة لا كزكاة، لكن مثل الزكاة؛ ليكون هناك توازن في الأداء المالي للأغراض الاجتماعية. فالجزء المأخوذ من غير المسلمين لا يضم إلى الزكاة من المسلمين، ولكن نوردها إلى بيت المال لينفق في الجهات العامة ولخير الجميع.
الرئيس:
أرى قراءة ثالثا يا شيخ.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
ثالثاً: إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه, زكى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم.
الرئيس:
هذا ماشي.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك، فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي فإنه يزكيها زكاة المستغلات.(4/621)
الشيخ محمد المختار السلامي:
هنا الاعتراض والإشكال.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
هذا السبب فيه الحقيقة افتقاد النية، نية التجارة غير موجودة. هو اشترى السهم للريع فقط وليس للتجارة. وأنتم تعلمون أن زكاة عروض التجارة لا بد فيها من النية، ونية الشركة لا تغني عن نية الفرد؛ لأن الشركة تجارية بطبيعتها وأموالها، والنية موجودة في تأسيسها ونظامها وعملها لكن هذا المساهم اشترى السهم بقصد الاستغلال.
الشيخ محمد تقي العثماني:
السهم عبارة عن حصة في الأموال بالبضائع والنقود، وهذه الأموال بالبضائع والنقود ما دامت نقوداً وبضائع ففيها زكاة.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
اشترى هذه الحصة بدون نية التجارة للاستغلال.
الشيخ محمد تقي العثماني:
ولكن أنا إذا كنت شريكاً في الشركة؟
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
لو فرضنا أن الشركة تتاجر في السيارات، فجاء إنسان واشترى سيارة من هذه السيارات ليستغلها، هل نقول له: زك زكاة التجارة؟ نية التجارة غير موجودة. النية موجودة لدى الشركة لكن لدى المساهم غير موجودة.
الشيخ محمد المختار السلامي:
لا يمكن أن يكون الكل هو تجارة والفرد ليس تجارة!!
الشيخ طه جابر العلواني:
في الحقيقة أنا أضم صوتي إلى صوت الأستاذ السلامي في تحفظه على هذا حيث إن طبيعة الأسهم في الشركات المساهمة بصفة عامة هي الاتجار. فجميع الشركات المساهمة السهم مطروح باستمرار في أي لحظة بسعر المساهم أن له ربحاً في بيع السهم يبيعه. فليست هناك أسهم للاستغلال وأسهم للبيع. الأسهم دائماً للبيع.
الشيخ محمد المختار السلامي:
أكثر من هذا إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب فإذا زكته أصبح يخرج من ماله مقدار الزكاة، فإذا لم تزك الشركة هو عليه أن يتحوط ويعرف القيمة. فإذا لم يعرف القيمة سقطت زكاته.
الرئيس:
أما هذه الفقرة يا مشايخ فهي تلتقي مع قراركم في زكاة المستغلات؛ لأنها تدور على النية فإذا كان لا ينوي التجارة وإنما ينوي الاستغلال في هذه الأسهم، وهذه كثيرة الوقوع وكثيرة التصور والحدوث، فإن الزكاة هي في الغلة لا في الأصل. فإذا كنتم ترون إبقاء المادة على هذا فالذي يراها يتفضل برفع يده.(4/622)
الشيخ إبراهيم بشير الغويل:
لا يصبح مشتري السهم تاجراً إلا إذا اعتاد ذلك واحترفه، فإن لم يحترف وإنما الشركة باستمرار تجارية فوضع الفرد في كل الأحوال إن كانت مساهمته ليست بقصد الاتجار يخرج عن هذا الموضوع.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
أنا قصدت التفرقة بين الشركات؛ لأن هناك شركات تجارية وشركات غير تجارية، هذه تفرقة قانونية وأما في الفقه فكل الشركات فيها تجارة، لكن الفرد الذي اشترى السهم ولم ينو للتجارة بالسهم؟
الشيخ إبراهيم بشير الغويل:
هذا ليس تاجراً.
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
افتراض أن الشخص اشترى السهم ليتاجر فيه، هذا في رأيي غير وارد وليس هذا هو الأصل إلا في الذين يتاجرون في الأسهم وهذه جهات معروفة وليست المكتتب في الشركة من أول الأمر، انظروا إلى شركة ستنشأ جديداً كما حصل مثلاً في بنك فيصل، طرح أسهماً واشتركوا فيها، وأنا أكثر المشتركين، ولم تكن نيتي أن أبيع هذا السهم أو أتاجر فيه بتاتاً، وإنما نيتي أن أستفيد من ريعه وأن يقوم هذا البنك فاشتريت عدداً من الأسهم بهذه النية، وأن أقول لكم: إن الغالبية التي اشترت هذه الأسهم قصدها أن تستفيد من ريعها، وليس بقصد الاتجار فيها، وإلى الآن لم أعرف أحداً تاجر في هذه الأسهم وليس عندنا سوق أسهم يتاجر فيه. فكيف نقول لمثل هذا الشخص: زك زكاة عروض التجارة؟
الشيخ محمد المختار السلامي:
وهذه الأسهم من يزكيها؟
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
يزكيها البنك، فهذه محلولة.
الشيخ محمد المختار السلامي:
فإذا لم يزكها البنك؟(4/623)
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
يزكيها البنك، ولكن لو كان البنك لو يزك لزكيتها كما اقترحت هنا وانتهينا. نحن افترضنا هذه الصورة لا تأتي إلا إذا كانت الشركة لم تزك. إذا الشركة هي التي زكت فلا إشكال وليس على المساهم زكاة. لكن هذا الكلام إذا لم تزك الشركة ولم يستطع صاحب السهم هذا أن يعرف ما يجب عليه من الزكاة لو زكت الشركة. لو انتفى كل هذا ماذا نفعل؟
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
أو بالعكس بقصد الاستفادة من ريع الأسهم وليس بقصد التجارة. نضع القصد الذي قصده وننفي ما لم يحصل.
الرئيس:
المهم وجود القيد هذا ينهي الموضوع.
الشيخ محمد المختار السلامي:
لا، ما ينهي الموضوع.
الرئيس:
هذا تحفظك يا شيخ تحفظه أنت.
الشيخ محمد المختار السلامي:
أعرض القضية على الكل.
الرئيس:
هي الآن معروضة يا شيخ، القيد هذا يؤكد المراد من المادة. ما فيه داع أننا نطيل الجدل وأن كون إنسان اتخذ رأياً أنه يؤخذ به.
الشيخ محمد المختار السلامي:
ما يؤخذ به، أعرض القضية على التصويت فقط هذا ما أحب. القضية التي نختلف فيها تعرض على التصويت.
الأمين العام:
فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي وليس بقصد التجارة.
الرئيس:
هو فيه وضوح تماماً.(4/624)
الشيخ محمد تقي العثماني:
لأن الموضوع موضوع زكاة أموال، الحقيقة أننا لو أسسنا هذه المسألة على أساس أنه لا تجب الزكاة إلا على الريع فليكن ذلك أيضاً، إلا إذا عرف المساهم الحسابات أيضاً ولكننا قلنا في البداية: إنه إذا عرف الإنسان ما يدفع، يزكي السهم بكامله.
الرئيس:
ذاك قلنا ينزل منزلة الشخص الطبيعي. فمنزلة الشخص الطبيعي يأتي من جميع نواحيه، ومن جميع فروعه نروح نأتي مئات الفروع. نحن نذكر أبرزها التي هي تمثل الجزء الأكبر في التعامل في الأسهم. فهل ترون بعد التعديل مناسباً. الذي يرى هذا الشيء يرفع يده والذي لا يرى هذه الفقرة يرفع يده. تقرأ مرة ثانية.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك، فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، وليس بقصد التجارة، فإنه يزكيها زكاة المستغلات تمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع، مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع.
الشيخ طه جابر العلواني:
سيدي الرئيس، كلمة توضيحية بسيطة جداً. إن قياس قضايا الأسهم على قضايا العقارات والمستغلات قياس مع فارق كبير من شأن الأسهم وشركات الأسهم الاتجار بها فتحويلها من فكرة المؤسسة إلى نية الفرد وربط الحكم الفقهي بنية الفرد وفكه عن تنظيم المؤسسة، هذا هو الذي نتحفظ عليه. شركات الأسهم بطبيعتها هي مؤسسة للاتجار، لكن الفرد مثل الشيخ الضرير أو يتيم لا يعرف الاتجار ممكن يأخذ السهم ويحاول أن يتمسك به لكن طبيعة الأسهم دائماً إنما هي للاتجار.
الرئيس:
استكمل المادة: فإذا كان المساهم. صفحة سبعة.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
وإن كان المساهم اقتنى الأسهم بقصد التجارة زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه زكى قيمتها السوقية، وإذا لم يكن لها سوق زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة فيخرج ربع العشر من تلك القيمة من الربح إذا كان للأسهم ربح.
الرئيس:
المعارضون يرفعون أيديهم على المادة جميعها. من هنا ثلاثة، أربعة ومن هنا ثلاثة. الأكثرية الآن على بقائها.(4/625)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم (3) د 4/08/88
بشأن
زكاة الأسهم في الشركات
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18-23 جمادى الآخرة 1408هـ. الموافق 6-11 فبراير 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع "زكاة أسهم الشركات"
قرر ما يلي:
أولاً: تجب زكاة الأسهم على أصحابها، وتخرجها إدارة الشركة نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة، أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه.
ثانياً: تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد، وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي، وذلك أخذاً بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء في جميع الأموال.
ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة، ومنها أسهم الخزانة العامة، وأسهم الوقف الخيري، وأسهم الجهات الخيرية، وكذلك أسهم غير المسلمين.(4/626)
ثالثاً: إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، زكى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم.
وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك:
فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، وليس بقصد التجارة؛ لأنه يزكيها زكاة المستغلات، وتمشياً مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع.
وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه، زكى قيمتها السوقية، وإذا لم يكن لها سوق، زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر 2.5 % من تلك القيمة ومن الربح إذا كان للأسهم ربح.
رابعاً: إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاه معه عندما يجيء حول زكاته. أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق.(4/627)
المثامنة في العقار للمصلحة العامة
إعداد
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد. . .
فإن العقود الجبرية منتشرة في كتب المحدثين وتفريعات الفقهاء؛ كبيع مال المحتكر، والتسعير، والشفعة، وقسمة الإجبار، وبيع مال المفلس ... ونحو ذلك، ومنه المثامنة في العقار للمصلحة العامة، المعروف بلسان العصر باسم (نزع ملكية العقار للمصلحة العامة) .
وقد تكلم الفقهاء عليه قديمًا وحديثًا، وهذه أبحاث مختصرة تلم شتات ما تناثر في هذه المسألة لما لها من أهمية في العصر الراهن , بل صارت تمثل ظاهرة حضارية في المدن والقرى والأمصار، كتوسعة المساجد وإنشائها، والطرق ومدها، ونحو ذلك في أعقاب تلبية متطلبات الحضارة ومعايشتها، ولأهميتها، أدخلت في مشروع (وثيقة حقوق الإنسان في الإسلام) من أن الناس مسلطون على أملاكهم، ويجوز لولي الأمر نزع الملك من مالكه لمصلحة عامَّة لقاء تعويض فوري عادل.
وقد أدرت البحث فيها على ما يلي:
أولا: التعريف بمفردات العنوان.
ثانيًا: تمهيد عن الملكية.
ثالثًا: القيود الواردة عليها.
رابعًا: المثامنة في العقار للمصلحة العامة.(4/628)
وفيه ستة فروع:
ا - وقائعها على مدى العصور الإسلامية.
2- كلام الفقهاء فيها.
3 - أدلتها.
4 - شروطها.
5 - موقف المالك منها.
6 - حكم نزع العقار من مالكه ليتملكه آخرون.
فإلى بيانها:
أولًا: التعريف بمفردات العنوان.
هذا العنوان (نزع ملكية العقار للمصلحة العامة) اصطلاح حادث في العصر الحاضر، وهو لدى الفقهاء ينطوي تحت ما يطلقون عليه (1) :
ا - العقود القهرية.
2 - الإكراه بحق.
3 - الإكراه الجائز.
4 - الجبر الحلال.
5 - الجبر الشرعي.
__________
(1) انظر: نزع ملكية العقار للمصلحة العامة للشيخ عبد العزيز بن عبد المنعم ص437.(4/629)
ومن مفرداته: الشفعة، التسعير، بيع مال المحتكر، بيع مال المفلس، جبر غير المسلم على بيع عبده المسلم، قسمة الإجبار، إجبار مالك رقيق أو حيوان ببيعه إذا لم ينفق عليه. . . وهكذا في عدة فروع منتشرة في عدد من أبواب الفقه.
فيتبقى التعريف بأمرين:
1– الملك
2- المصلحة العامة.
أما الملك فهو في اصطلاح الفقهاء:
اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقًا لتصرفه فيه، وحاجزا عن تصرف غيره فيه (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (2) :
(الملك: هو القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة) .
ومدار الملك في تعريفاتهم على الشرعية في أسبابه، فحيث يكون ملكًا شرعيا تترتب عليه آثاره (حقوق التملك) الشرعية. والله أعلم.
المصلحة العامة:
أصبح نزع ملكية العقار لعموم المصلحة في أي بلد يشكل ظاهرة حضارية في العصر الراهن , وذلك لتحقيق مصالح الخلق الضرورية في أعقاب تغير وجوه التعايش، وظهور المخترعات من السيارات والقطارات ونحوها، لتسهيل سبل التعايش وتوفير الأمن ونحو ذلك من المصالح.
__________
(1) تهذيب الفروق، 4/ 234.
(2) الفتاوى الكبرى 3/ 114، 347(4/630)
ومنه: بناء المساجد، وتوسعتها، وإيجاد الميادين، ومد الطرقات. . .
والمصلحة على مراتب:
ا - المصلحة في الضروريات: بتوفير ما يحفظ للناس ضروريات حياتهم الخمس المشهورة: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
2 - المصلحة في الحاجيات: وهي ما يحتاجه الناس للتوسعة، ورفع الضيق والحرج.
3 - المصلحة في التحسينات: وهي الأخذ بما يليق في محاسن العادات، ومكارم الأخلاق.
المصلحة العامة:
تمتاز المصلحة العامة عن المصلحة الخاصة بالشمول وعموم النفع، فلذا كانت أولى بالتقديم وعموم النفع، سواء كان عمومها لأهل بلد أو حي , أو إقليم أو مملكة من الممالك، وهكذا كلما كان اتساع نفعها كان تحقيقها ورعاية تحصيلها ألزم وأولى. والله أعلم.
ثانيًا: تمهيد عن الملكية:
بما أن الملكية الفردية للأشياء وحيازتها والاختصاص بها غريزة طبيعية لبني آدم، فقد واكبته منذ عهد ابني آدم عليه السلام، كما قال الله تعالى:
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] .
وقد ذكر المفسرون: ابن كثير، والقرطبي، وغيرهما أن: هابيل كان صاحب غنم، وقابيل كان صاحب زرع، والله أعلم.(4/631)
وقال تعالى ممتنا على خلقه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71]
وبتطور النوع الإنساني وتكاثره تولدت الملكية الجماعية، لتشابك مصالحها وتبادلها , ونشأت أيضًا الملكية العامة التي يرتفق بها الجميع دون استثناء , مثل: الطرقات، وما على الأرض من كلأ وما في البحار من صيد، وهكذا.
وما زال بنو آدم على هذا المنوال تجري عليه حياتهم الفردية، والجماعية والعامة.
وفي خصوص العرب كانت هذه جارية لديهم في جزيرتهم يتعاملون بها , ويأخذون بأسباب التملكات الفردية مثلًا من: البيع، والشراء، والحرث، والتوارث، وهكذا.
فلما جاء الله بالإسلام علم منه بالضرورة (التملك) في حدود: قواعد، وضوابط، ومعالم، يتوارث العلم والعمل بها عامة المسلمين من ميدان التشريع والتطبيق في المباحثات كافة من منقول وغير منقول بأسباب نصبها الله تعالى، موجبة للتملك: من الإحياء، والتحويط، والإرث، والوصية، والهبة، والبيوعات، ونحوها من (أسباب التملك) في إطار الشرع المطهر , فلا يجوز الأخذ بسبب التملك من المحرمات وشوائبها؛ كالربا والغش، والاغتصاب، ونحو ذلك.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279] .(4/632)
وصانه عن اعتداء الغير عليه , فقال سبحانه: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] .
كما فصل سبحانه آثاره (حقوق التملك) من التوارث، والزكوات، والصدقات، والحقوق، والارتفاق، والانتفاع. وهلم جرا، مما يحتسب حماية وصيانة لهذا التشريع في التملك، وتصرف مالكه به، وإباحة استعماله بوجوه (حقوق التملك) من: الاستعمال، والاستغلال، والتصرف، مشمولة بصفتي الإطلاق والدوام في إطار التشريع المطهر، فلا يجوز استعمال (حق التملك) في محرم مثلًا.
وقد تواردت نصوص الشرع المطهر من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، وأقضيتهم على هذه الأصول العظيمة التي تجعل النوع الإنساني يعيش في ظل حياة رغيدة على صراط مستقيم مصونًا من المكاسب المحرمة التي فصلها الله سبحانه , فقال لعباده: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] . وزجر عنها وعن كل إثم , فقال تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} [النساء: 111] . محفوفًا بوجوه البذل الإلزامية التي لا تجحف بالمالك وملكه والطوعية التي تنبئ عن شرف نفسه وتساعد على بقاء جنسه، ولهذا كانت النفقات الشرعية زكاة وطهرة ونماء، فسبحان من شرع فأحكم بما نهى عنه، وأمر وألزم.(4/633)
ولهذا بسط العلماء أحكام التملك وآثاره في مؤلفاتهم الحديثية والفقهية وغيرها. فإلى بيان ما يتعلق منها بنزع الملكية للمصلحة العامة:
ثالثًا: القيود الواردة على الملك في (أسبابه وحقوقه) :
دل الاستقراء لنصوص الشرع على أن هذه الملكية بقدر ما فيها من إطلاق وثبات ودوام لأسباب تملكها وحيازتها والاختصاص بها في قالب الشرع، فإن هذا المالك له حق الاستعمال والاستغلال والتصرف ببيع ونحوه في حدود الشرع، برعاية حقوق الله وحقوق عباده على كلا الحالين.
والشرع قد دل في مصادره وموارده على صيانة المالك وحمايته في حقه وأسبابه , باعتباره مالكًا مسالمًا يعايش إخوانه المسلمين، ويعيش لبنة بناء لرعاية مصالحهم وتوفيرها في محيط جواره وأقاربه وأهل حيه وأهل بلده وعامة المسلمين , وهذا ما يندرج تحت قاعدتي الشريعة من (تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام) و (الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف) ونحوهما من قواعد دفع الضرر والترجيح بين المصالح.
ولهذا دل الاستقراء على ورود قيود على (أسباب التملك) و (حقوقه) من جهات ثلاث:
1- قيود لمصلحة المالك نفسه.
2- قيود لمصلحة فرد آخر أو أفراد.
3- قيود لمصلحة المسلمين عامة.(4/634)
وإيضاحها كما يلي على وجود تداخل وتلازم في بعضها:
الأولى: قيود لمصلحة المالك نفسه، فلا يجوز كسبها من محرم كالخمر , ولا صرفها فيه.
الثانية: قيود لمصلحة الغير من الأفراد، فلا يجوز كسبها باغتصاب مال الغير، ولا استغلالها بما يضر الغير كالجوار.
الثالثة: قيود لمصلحة المسلمين عامة، وهي التي لا تختص بواحد معين، أو جماعة معينين , فلا يجوز أن يتملك مرافق المسلمين العامة؛ كالطرق، والرحاب، والمعادن، والمراعي، وسوح الديار.
ولذا صار لثبوت التملك شرعًا بالإحياء شروطه المعتبرة شرعًا عند الفقهاء، كالنهي عن تلقي الجلب، وبيع حاضر لباد. وهكذا.
وعند التزاحم للمصالح العامة والخاصة يرجح بينها , فتغلب المصلحة الراجحة على المرجوحة , والعامة على الخاصة، سواء كانت عن طريق التحقيق والإيجاب بإيجادها , مثل حاجة البلد إلى نزع عقار من ملك مالكه لبناء مسجد للكافة , أو قنطرة ونحو ذلك.
أو عن طريق الدفع للأذى والضرر عن المسلمين؛ كمنع المالك من استعمال عقاره المملوك له في وسط بلدة أو حي بآلات ذات أصوات مزعجة، أو فيها مخاطر، أو مصنع للأسمنت أو لمواد ذات روائح كريهة، وهكذا.(4/635)
رابعًا: المثامنة في العقار للمصلحة العامة:
وفيه الأبحاث الآتية:
ا - وقائعها على مدى العصور الإسلامية.
2 - كلام الفقهاء فيها.
3 - أدلتها.
4 - شروطها.
5 - موقف المالك منها.
6 - حكم نزع الملك ليتملكه آخرون. وهذا بيانها:
الفرع الأول: تاريخ نزع ملكية العقار وجملة من وقائعها على توالي العصور.
التاريخ التشريعي لنزع ملكية العقار لمصلحة المسلمين العامة هو من أول يوم هبطت فيه قدما النبي صلى الله عليه وسلم؛ مهاجرة (المدينة النبوية المنورة) .
ا - ففي صحيح البخاري وغيره (1) ،: (قصة مهاجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الصديق أبو بكر رضي الله عنه إلى المدينة , وفيه بروك راحلة النبي صلى الله عليه وسلم في موضع المسجد اليوم
__________
(1) صحيح البخاري: 5/ 61، جامع الترمذي. 2/ 121، أسد الغابة: 1/ 86، الإصابة، طبقات ابن سعد 2/ 4.(4/636)
وهو مربد ممر: لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: ((هذا إن شاء الله المنزل، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين، فساومهما بالمربد، ليتخذه مسجدًا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة , حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدًا)) اهـ.
2 - مثامنة النبي صلى الله عليه وسلم لبني النجار في حائطهم لبناء مسجده صلى الله عليه وسلم.
(عن أنس رضي الله عنه قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد , فقال: ((يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا قالوا: لا والله , لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.)) .
رواه البخاري (1)
3، 4 - توسعته صلى الله عليه وسلم لمسجده الشريف. وشراء بئر رومة لسقيا المسلمين عامة.
__________
(1) فتح الباري: 1/ 525، باب 48، الصلاة ومواضع أخرى في البيوع وغيرها.(4/637)
عن ثمامة بن حزن القشيري قال:
" شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان رضي الله عنه , فقال: ائتوني بصاحبيكم اللذين ألباكم علي، قال: فجيء بهما كأنهما جملان، أو كأنها حماران، قال: فأشرف عليهم عثمان , فقال: أنشدكم بالله والإسلام، هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها حتى أشرب من ماء البحر، قالوا: اللهم نعم.
فقال: أنشدكم بالله والإسلام , هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة , فاشتريتها من صلب مالي.)) رواه الترمذي (1) .
5 - مع بني ساعدة في مكان مقابرهم سوقًا للمسلمين (2) :
__________
(1) جامع الترمذي، رقم 3787. وقصة بئر رومة أصلها في صحيح البخاري، وسنن النسائي وغيرهما. انظر فتح الباري 5 /406 - 409.
(2) وفاء الوفاء 2/ 748.(4/638)
فقد خرج السنهوري، عن تاريخ ابن زبالة بسنده عن عباس بن سهل , عن أبيه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بني ساعدة، فقال: إني جئتكم في حاجة، تعطوني مكان مقابركم، فأجعلها سوقًا , وكانت مقابرهم ما حاذت دار ابن أبي ذئب إلى دار زيد بن ثابت، فأعطاه بعض القوم، ومنعه بعضهم، وقالوا: مقابرنا، ومخرج نسائنا. ثم تلاوموا، فلحقوه وأعطوه إياه , فجعله سوقًا.)) اهـ.
في عصر الخلفاء الراشدين:
وقد حفظت كتب الحديث والسير، وتاريخ الحرمين الشريفين، وغيرهما من كتب التاريخ العامة وقائع متعددة في توسعة الحرمين لما ضاقا بالمصلين ونزع ملكيات الدور المحيطة لذلك في عصر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم , فمن أصحاب الدور من تصدق بها ولم يقبل العوض، ومنهم من ثامنوه فقبله، ومنهم من بيعت عليه جبرًا لتوسعة المسجد.
الوقائع في هذا في عصر الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم يطول البحث بسياقها , لكني أذكر رؤوس المسائل لها مع الدلالة على مصادرها , ليقف الراغب عليها في مظانها , والله الموفق.(4/639)
1- توسعة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمسجد النبوي الشريف , أخرجها ابن سعد في الطبقات: 4 /13، 14، السنن الكبرى للبيهقي: 6/ 168. وانظر وفاء الوفاء: 2 /482، 483، 488.
2 - توسعته رضي الله عنه للمسجد الحرام:
انظر فيها: أخبار مكة للأزرقي: 2/ 54 - 55 , الذهب المسبوك للمقريزي 14 وفيه:
(وفي سنة سبع عشرة اعتمر عمر رضي الله عنه، وبنى المسجد الحرام، ووسع فيه، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على قوم أبوا أن يبيعوا دورهم، وعوضهم أثمانها من بيت المال) اهـ.
وفي مجموع هذه الوقائع عن عمر رضي الله عنه , أن نزع الدور إما بالبيع لقاء تعويض عادل , أو هبة المالك لداره , أو تصدقه بها لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم , أو البيع على صاحبها جبرًا وهدم الدار عند امتناعه. والله أعلم.
3 - سجن عارم في مكة. وشراء دار له في خلافة عمر رضي الله عنه , كما في: مصنف عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والبيهقي، والبخاري معلقًا. انظر: فتح الباري: 5/ 75.(4/640)
4 - توسعة الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه للمسجد النبوي الشريف. كما في فتح الباري:5 /408، وفاء الوفاء: 2 /502.
5 - توسعة ابن الزبير رضي الله عنه للمسجد الحرام. كما في تاريخ مكة للأزرقي 2/ 55
6 - توسعة المسجد النبوي الشريف في عهد إمارة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بأمر عبد الملك بن مروان. كما في الذهب المسبوك للمقريزي: ص 30.
وفي الخبر:
(فقوم عمر بن عبد العزيز الأملاك قيمة عدل، وأعطى الناس أثمانها) اهـ.
والخبر بطوله مفصل في تاريخ ابن النجار ص 81 - 84.
7 - توسعة الوليد بن عبد الملك للمسجد النبوي الشريف. كما في السير للذهبي 2 /218. وابن كثير: 5 /273، 9 /77 وفاء الوفاء: 2 /513.
8 - توسعة المسجد الحرام في عهد أبي جعفر المنصور م. سنة 158 هـ , كما في أخبار مكة للأزرقي:2 /57. وتاريخ ابن كثير: 10/ 74، 149 – 14 /42.(4/641)
9 - توسعة المسجد الحرام في زمن المهدي م , سنة 169 هـ. كما في السير للذهبي 7 /402. تاريخ ابن كثير: 10 /132
10- توسعة جامع قرطبة في ولاية عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان م. سنة 172 هـ رحمه الله تعالى. كما في سير أعلام النبلاء:8/ 220 – 221.
11 - توسعة المسجد النبوي في عهد بيبرس عام 668 هـ. كما في: تاريخ ابن كثير 13 /256.
وهكذا في وقائع يطول ذكرها وسياقها، ولينظر على سبيل المثال:
سير أعلام النبلاء: 2 /218، 3 / 379، 8/ 221. المنتظم: 10 /212. تاريخ ابن كثير. ذيل الروضتين: ص87. الإصابة: 3 /204. معالم الإيمان: 2/ 37 - 38.
الفرع الثاني: كلام الفقهاء في هذه المسألة (1) :
__________
(1) انظر في نزع الملكية للمصلحة العامة عند العلماء. فتاوى قاضيخان: 4/ 293، شرح علي حيدر على المجلة:3 /245، وفاء الوفاء: 2/ 482، 500، 501.(4/642)
لم يحصل الوقوف على خلاف يؤثر في جواز نزع ولي الأمر أو نائبه أي ملك فردي أو مشترك لتحقيق مصلحة عامة تعود على المسلمين بالنفع لتوسعة الطرق والمساجد ونحوها.
بل تكاد تتفق كلمتهم على ذلك، وأن هذا من الإكراه بحق , وأكتفي بنص واحد من كل مذهب من المذاهب الأربعة (1) :
ا - في حاشية الشلبي على شرح الكنز للزيلعي:
(ولو ضاق المسجد على الناس وبجنبه أرض لرجل، تؤخذ أرضه بالقيمة كرهًا، ولو كان بجنب المسجد أرض وقف على المسجد , فأراد أن يزيدوا شيئًا في المسجد من الأرض , جاز ذلك بأمر القاضي) اهـ.
2 - وقال الحطاب:
(من الجبر الشرعي: جبر من له ريع يلاصق المسجد، وافتقر لتوسيع المسجد به على بيعه لتوسيع المسجد ... ) اهـ.
ويأتي كلام الشاطبي المالكي في: مبحث الشروط.
3- في الأحكام السلطانية للماوردي ذكر فعل عمر رضي الله عنه في توسعة الحرمين الشريفين.
__________
(1) انظرها مجموعة محررة في نزع ملكية العقار للمصلحة العامة: ص437 – 450 للشيخ ابن عبد المنعم.(4/643)
4- وللحنابلة في منصوص الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ويأتي كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.
الفرع الثالث: في أدلتها:
والأدلة فيها:
ا - عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمل خليفتيه الراشدين، عمر وعثمان رضي الله عنهما، وعمل ابن الزبير رضي الله عنه.
وتوارث العمل بذلك إلى عصرنا من غير نكير , وعليه تواردت كلمة الفقهاء رحمهم الله تعالى.
2 - دخولها تحت قواعد الشريعة العامة في نفي الضرر:
أ- تحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
ب - الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.
ج - الشريعة جاءت بتحصيل المقاصد وتكميلها , وتعطيل المفاسد وتقليلها.
والله أعلم.(4/644)
الفرع الرابع: شروطها:
في ضوء ما تقدم يمكن تصنيف شروط نزع ملكية العقار للمصلحة العامة على ما يلي:
1- أن يكون نازع العقار ولي الأمر أو نائبه فيه.
2- أن يكون نزعه لمصلحة عامة.
وهي كما تقدم التي يستفيد منها عموم الخلق؛ كالمساجد والطرقات، والميادين ونحوها، وكلما اتسعت دائرة الانتفاع , كانت الضرورة إليها أشد , فتوسعة المسجد الحرام، أو المسجد النبوي الشريف ليست كتوسعة مسجد حي من أحياء المسلمين. وهكذا.
قال الشاطبي رحمه الله تعالى (1) :
(المصالح العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره مما رضي أهله، وما لا. وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص , ولكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة) اهـ.
3 - أن يكون نزعه مقابل بذل عوض عادل.
__________
(1) الموافقات: 2/ 275.(4/645)
وبذله على مرتبتين:
الأولى: مساومة المالك ومثامنته كما تقدم في حديث أنس رضي الله عنه.
الثانية: التقويم العادل في حال امتناع المالك.
4 - أن يكون العوض فوريا. والله أعلم.
الفرع الخامس: موقف الملاك منها:
من المسلمات في الشرع المطهر أن الملاك مسلطون على أملاكهم , فلا ينتقل الملك من مالكه إلا عن رضا واختيار، قال الله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى (1) :
(الناس مسلطون على أموالهم، ليس لأحد أن يأخذها أو شيئًا منها بغير طيب أنفسهم، إلا في المواضع التي تلزمهم الأخذ فيها) اهـ.
ومن المواضع اللازمة التي ترد على هذا التصرف المطلق: نزع الملك للمصلحة العامة من باب ترجيح المصالح العامة على الخاصة.
__________
(1) الطرق الحكمية: ص 256.(4/646)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
(يجوز إخراج الشيء من ملك صاحبه قهرًا بثمنه للمصلحة الراجحة) اهـ.
والمصلحة الراجحة ما كانت للعامة كما يعلم مما تقدم من وقائع المثامنة على الملكية، وكلام الفقهاء.
وعليه: فإن المالك الذي يقع ملكه في دائرة ما يراد نزعه لتحقيق مصلحة عامة , ينبغي أن يبيع ذلك الملك عن رضا واختيار؛ تحقيقًا للمصلحة العامة، كتوسعة مسجد أو سابلة ونحوها، متى كان ذلك المبيع لقاء عوض عادل فوري لا وكس ولا شطط. وهذا ما قررته (وثيقة حقوق الإنسان في الإسلام) .
وإنه إذا لم يرض وامتنع فيكون تمنعه غير مشروع , فيجبره ولي الأمر أو نائبه بذلك , وينزع منه ملكه (للمصلحة العامة) لقاء تعويض فوري عادل، لتحقيق مصلحة عموم الخلق.
فهذا من الإكراه بحق، وقد تقدم في وقائع نزع الملكية على مدى العصور أمثلة لهذا.
وله نظائر لدى الفقهاء في (العقود الجبرية) كما تقدم. والله أعلم.
الفرع السادس: في حكم نزع الملكية الفردية أو الموقوفة ليتملكها ويستثمرها آخرون.(4/647)
قد علم من الشرع بالضرورة حرمة مال المسلم , وأنه لا سلطان لغير مالكه عليه، وأن نزع العقار جبرًا على مالكه مقيد بشروط وضوابط يلزم توفرها ليصح المشروط، وإلا فيكون باطلًا وجبرًا بغير حق، ومن هذه الشروط، بل هو أساسها الأشد: أن يكون العقار (للمصلحة العامة) , والعقار الذي ينزع من يد مالكه أو واقفه ليتملكه آخرون يفتقد الشرط المذكور (المصلحة العامة) , فيكون هذا من باب الظلم لفرد له الصفة الكاملة المطلقة في ملكه استعمالا واستغلالا وتصرفًا , ثم تنزع ليد أجنبي عنها ليستغلها , مثلًا فهذا تصرف ينابذ مشروعية التملك وحقوقه، وهو من التظالم والغصوب التي نهى الله عنها ورسوله، ولا يقرها أهل العلم والإيمان و ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)) . والحاصل أن هذا النوع من التصرف تنسحب عليه أحكام (الغصب) وأن إقراره بوابة الولوج في التيار المادي المعاصر من أن الملكية الفردية شر، تشل فعاليته ويحصر في أضيق الحدود.
اللهم فاحفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا. وصلى الله وسلم على نبينا ورسولنا محمد وآله وصحبه.
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد(4/648)
انتزاع الملكية للمصلحة العامة
إعداد
الدكتور عبد الله محمد عبد الله المستشار بمحكمة الاستئناف العليا بدولة الكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، حمدًا لا ينقطع عدده، ولا يفنى مدده، وأصلي وأسلم على مصدر الفضائل، الذي ظل ماضيًا في الدعوة إلى الله حتى أضاء الطريق للضال، وهدى الله به القلوب النافرة , وأقام به موضحات الأعلام سيدنا محمد بن عبد الله خاتم أنبيائه، وصفوة أوليائه، وأكرم خلقه عليه، وأعلاهم منزلة عنده , صلى الله عليه وعلى صحابته الأخيار وآله الأبرار.
وبعد فإن الإسلام دين ودنيا , هدى الله به الإنسانية من الضلالة , وبين في كتابه المجيد الأحكام التي بها سعادتهم في الدنيا والآخرة أفرادًا وجماعات , وتناول جميع الارتباطات التي تربط الإنسان بكل من سواه , واشتملت شريعته الغراء على النظام القانوني الذي قامت على عمده وقضاياه مبادئ الدين ونظام الدنيا.
وفي مبحث (نزع الملكية للمنفعة العامة) يتجلى سمو الشريعة الإسلامية ونزعتها الإصلاحية وحمايتها لحقوق الفرد والجماعة على أساس من الحق والعدل.
وسأبدأ بمقدمة كتمهيد أتناول فيها العمل في الإسلام وملك الإنسان لثمرة عمله وكفاحه، ثم أبين معنى المال والملك والمقصود من المنفعة العامة، ثم أستعرض المواطن التي يسوغ فيها تدخل ولي الأمر. وقد أجملت هذه المسوغات في ست حالات , وتكلمت على كل حالة بإيجاز , ثم أستعرض آراء الأئمة في نزع الملك الخاص لأجل المنفعة العامة.(4/649)
مقدمة
أجمعت الشرائع السماوية على حرية التملك واقتناء الأموال، وحثت الشريعة الخاتمة على العمل والسعي، ونظمت البحث عن المال وطريقة تحصيله , وجعلت العمل أساسًا وسببًا لملكية الإنسان نتائج كده وكفاحه، وقد سخر الله سبحانه هذا الكون الفسيح , وجعله ميدانًا لنشاط الإنسان بما يحويه من مصادر للرزق وموارد للثروة , وينبوعًا لا ينفذ ولا يقصر عن حاجته , وركب المولى عز سلطانه في فطرة الإنسان غريزة التملك وحب الاقتناء , فأقبل بفطرته يستنبت سطح الأرض مختلف الزرع والثمار من الغابات والصحارى على كل ما يريد من الأخشاب والحيوان , ثم أخذ يتجه إلى الماء , فاصطاد أسماكه وشاركها السباحة فيه والغوص في أعماقه بحثًا عن اللآلئ الثمينة والتقاطًا للأحجار الكريمة واستخراجًا للثروات المختلفة , ثم مخر عبابه بالفلك، فقرب القاصي، وأدنى البعيد من الجهات , ثم اتجه إلى السماء , فاقتنص طيورها , ولم يرض حتى شاطرها الطيران في أجواء الفضاء طاويًا بذلك ما بقي بين سائر جهات الأرض من مسافات، ولم يقف في شيء مما حصل عليه من الثروات عند صورتها الأولى , وإنما عالجها وغير من أشكالها وتركيباتها وفق حاجاته واستعمالاته وتطلعاته باذلًا في سبيل ذلك غاية الجهد؛ كي يفيد منها أقصى فائدة , ويحوز منها أكثر ما يقدر عليه استجابة لميله وما فطر عليه من حب التملك والاقتناء.
وقد استجاب الإسلام - وهو دين الفطرة - لميول الإنسان هذه دون أن يترك لها العنان حتى لا ينقلب إلى أداة فساد وطغيان , ولم يقف عقبة إزاء تلك الفطرة الداعية إلى حب التملك والاقتناء؛ لأن حب التملك غريزة فطر عليها الإنسان , وهي في قوتها واندفاعها تفوق غيرها من الغرائز , إلا غريزة حب البقاء. والإنسان مطبوع على الاستجابة لغرائزه وإشباعها بالعمل والحصول على ما يرغب فيه , ولذلك يرى كادحًا ساعيًا إلى جمع المال والاستكثار فيه , يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كان لابن آدم واديان من المال لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)) (1)
__________
(1) مسلم، ج/7، ص 139، من كتاب الزكاة.(4/650)
يقول: ((يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان: الحرص على المال , والحرص على العمر)) (1) ومن أجل هذا جعل الإسلام للعمل قيمة , وجعله سببًا لملكية العامل ثمار عمله , ورتب على ذلك:
أولا: اعتبار العمل عنصرًا أساسيا من عناصر توزيع الثروة بين أفراد المجتمع.
ثانيًا: سمح للفرد حق التملك على أساس من العمل.
ثالثًا: حدد نطاق هذه الملكية الخاصة بالثروات التي يكون للعمل دخل في إيجارها أو تشكيلها.
رابعًا: إبقاء الثروات التي لم يتدخل فيها العمل بالإيجاد أو التشكيل على الملكية العامة لجميع أفراد المجتمع تتولى الدولة تنظيم استثمارها واستغلالها والإفادة منها على النحو الذي يتفق ومصلحة الجماعة.
وإتمامًا للفائدة أستعرض معاني كل من هذه الكلمات: المال، والملك، والمنفعة العامة وبيان المقصود منها.
المقصود من المال:
وردت هذه الكلمة في آيات كثيرة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة , وجاء الحث على اقتناء المال والسعي في كسبه والحض على إنفاقه وبذله , وأسندت ملكيته إلى الله عز وجل في بعض الآيات , وأسندت إلى الناس في آيات أخرى , كل ذلك يقتضينا أن ندرك حقيقته ثم نتعرف على بعض الجوانب لتلك الإطلاقات.
يقول ابن الأثير: المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة , ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم.
وفي تفسير القرطبي جملة أقوال فيما يعد مالا وما لا يعد كذلك , ونقل عن أبي عمرو أن المعروف من كلام العرب أن كل ما تمول وتملك فهو مال (2)
__________
(1) مسلم، ج/7، ص 139، من كتاب الزكاة.
(2) تفسير القرطبي، ج/8، ص 245.(4/651)
وأما في لسان الفقهاء فإن من تتبع أقوالهم في تعريفه يستخلص منها أن المال هو كل ما له قيمة بين الناس , وينتفع به انتفاعًا مشروعًا , ومع هذا نجد فريقًا منهم وهم الأحناف يستبعدون المنافع من حيز المالية , أما جمهور الفقهاء فإنهم يلحقون المنافع ضمن المال , وهذا المعنى يمكن ملاحظته من تعريفاتهم , فقد عرفه الأحناف بأنه ما يمكن حيازته وإحرازه والانتفاع به انتفاعًا معتادًا , وعلى هذا عرفت المادة 126 من مجلة الأحكام العدلية بأنه ما يميل إليه طبع الإنسان , ويمكن إدخاله إلى وقت الحاجة منقولًا أو غير منقول , فالمنافع لما كانت معدومة قبل كسبها وبعد كسبها , لا يمكن إحرازها , فإنها ليست بمال , ولكن إن لم تعتبر مالا , فإنها تعتبر ملكًا؛ لأن الملك لا يقتضي الوجود كالمالية , إذ هو القدرة على التصرفات الشرعية (1)
المال في اصطلاح جمهور الفقهاء:
جاء في كتب المالكية أن المال هو ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه. ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها وما يؤدي إليها من جميع المتمولات (2) .
وعرفه النفراوي المالكي في (الفواكه الدواني) : بأنه كل ما ملك شرعًا ولو قل (3) وهو عند الشافعية ما كان متمولًا محترمًا (4) ويشمل المنفعة (5) وينقل السيوطي عن الشافعي بأن اسم المال لا يقع إلا على ما له قيمة يباع بها وتلزم متلفه وإن قلت , وما لا يطرحه الناس؛ مثل الفلس وما أشبه ذلك (6) .
__________
(1) الملكية ونظرية العقد - أبو زهرة ص 47،54 , الملكية في الشريعة الإسلامية للعبادي، ج/1، ص 172،175.
(2) الموافقات 2 - 17.
(3) الفواكه الدواني على رسالة القيرواني 2 - 372، وانظر في هذا المعنى الشرح الصغير 4 - 742
(4) حاشية القليوبي على منهاج الطالبين 3 - 28.
(5) حاشية القليوبي على منهاج الطالبين 2 - 314.
(6) الأشباه والنظائر: 327.(4/652)
وجاء في متن الإقناع للخرقي الحنبلي: أن المال ما فيه منفعة مباحة لغير حاجة أو ضرورة , ثم تعقب هذا التعريف شارحه , فقال: ظاهر كلامه هنا كغيره , أن النفع لا يصح بيعه , مع أنه ذكر في حد البيع صحته , فكان ينبغي أن يقال هنا: كون المبيع مالا أو نفعًا مباحًا مطلقًا أو يعرف المال بما يعم الأعيان والمنافع (1) ولا يختلف علماؤنا المحدثون عن سلفهم في تلك التعريفات وإن اختلفت عباراتهم , وذلك منشؤه تبسيط عبارات المتقدمين بقصد التوضيح والإفهام. وقد عرفه الإمام ابن عاشور: بأنه كل ما به غنى صاحبه في تحصيل ما ينفع لإقامة شؤون الحياة (2) .
ويزيده توضيحًا , فيقول: يطلق اسم المال على كل ما يحصل به هذا المقصد , سواء أحصل بأعيان الأشياء؛ مثل القمح والزيت والصوف , أم بالاستبدال وتعويض أعيان بأعيان بطريق المبادلة بين جانبين لاستغناء أحد الجانبين عما يبذله واحتياجه لما يأخذه أو بذل أثمان اصطلاحية من النقود والأوراق المالية أو كفاية عمل مثل عمل الأجراء بجهودهم العقلية أو اليدوية كالمعلمين وأهل المعرفة والحراثين والحمالين، وقد يخص اسم المال بالنقدين والأوراق , ويخص ما عداها باسم المتمول , وهو أعم من المال (3) .
أنواع المال وما يصح تملكه منها وما لا يصح , وأسباب الملك:
أما بالنسبة لقابلية المال للتملك وعدمه , فهو على أنواع ثلاثة:
1- نوع لا يقبل التمليك ولا التملك بحال من الأحوال؛ كالطرق العامة والجسور والأنهار العظيمة والحدائق العامة.
2 - ونوع لا يقبل التملك إلا بمسوغ شرعي كأموال بيت المال الخاصة , فهذه لا يجوز بيعها ولا تملكها إلا بمسوغ؛ كاحتياج بيت المال إلى ثمنه أو رأي ولي الأمر المصلحة في ذلك لما له من الولاية العامة.
3 - ونوع يصح تملكه وتمليكه وهو ما عدا هذين النوعين.
__________
(1) كشاف القناع. 1 - 7.
(2) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 198.
(3) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 198.(4/653)
وقد فصل الإمام السيوطي في كتابه الحاوي للفتاوى ج 1 /198- 230، أحكام النوعين السابقين نظما ونثرًا , واستوفى النقل عن أئمة المذاهب الأربعة في جواز التملك. وأما أحكام النوع الأخير , فقد بسطت كتب الفقه مسائله وأحكامه , وأما أسبابه المفضية إليه فهي:
1 - الاستيلاء على المباح.
2 - العقود الناقلة للملكية كالبيع والهبة ونحوهما.
3 - الخلافة عن الميت عن طريق " الميراث " والوصية.
وهو إما أعيان عقار ومنقول , وإما منافع , وهي الفائدة المقصودة من الأعيان؛ كسكنى الدار وزراعة الأرض وركوب الدابة ولبس الثوب , وإما حقوق، سواء كانت حقوقًا متعلقة بمال؛ كحق الشرب والمرور والتعلي , أم لا , كحق حضانة الصغير.
أما لفظ الملكية:
فالملكية مصدر صناعي نسبة إلى الملك , ومعناه في اللغة كما جاء في اللسان والقاموس: عبارة عن احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به والتصرف فيه بانفراد. وبهذا المعنى أيضًا يرد الاستعمال الاصطلاحي للفقهاء , فقد عرفه القابسي الحنفي: بأنه عبارة عن الاختصاص الحاجز. وعرفه القرافي المالكي: بأنه حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة , يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك والعوض عنه من حيث هو كذلك. وعرفه ابن تيمية: بأنه القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة (1) .
والملكية في الإسلام حق تحميه الشريعة لصاحبه وتمكنه من الانتفاع بملكه والتصرف فيه طول حياته وبعد مماته ويحميه من كل اعتداء عليه , ولكن مع هذا يحمل المالك بعض التكاليف والالتزامات لمصلحة الجماعة , وهذا يؤكده القرآن الكريم بإسناد المال لله تعالى , وأن جميع ما في الكون ملك له سبحانه , قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (2) ويقول سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (3) والمنطق يقتضي أن يكون خالق الشيء هو مالكه، وقد جاءت آيات تقطع وتؤكد هذه الحقيقة {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} (4) ويقرر في آيات أخرى بأنه أنشأ الخلق من الأرض , واستعمرهم فيها , وجعلهم خلائف , وسخر لهم ما خلق في السماوات والأرض , وسلطهم عليه بقدر ما يستطيعون من استغلاله واستثماره {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (5) ويقول سبحانه: {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (6) .
__________
(1) الملكية في الشريعة الإسلامية:1 - 128، 133.
(2) [البقرة:29] .
(3) [الأنعام:103] .
(4) المائدة: 17.
(5) لقمان:20.
(6) الحديد:7(4/654)
فالمال الذي في أيدي الناس هو مال الله , وهم فيه خلفاء، ولهذا يقول سبحانه: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} (1) .
فالملك كله لله , وإن الحقوق كلها سنها العليم الخبير , فقد منح الفرد حقه كما منح الجماعة ما تستحقه من عناية واهتمام.
يقول الإمام المرحوم الشيخ محمود شلتوت في هذا المعنى: " وإذا كان المال مال الله , وكان الناس جميعًا عباد الله , وكانت الحياة التي يعملون فيها ويعمرونها بمال الله , هي لله , كان من الضروري أن يكون المال وإن ربط باسم شخص معين لجميع عباد الله , يحافظ عليه الجميع , وينتفع به الجميع. وقد أرشد إلى ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (2) .
ومن هنا أضاف الأموال إلى الجماعة , وجعلها قوامًا لمعيشهم {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} , (3) {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (4)
الإنسان مستخلف من الله في المال , ومأمور بأن يؤدي دور الخلافة عن الله في عمارة الأرض. وقد بين سبحانه لخليفته طرق تحصيله وإنفاقه على نحو يتفق والغاية من استخلافه في الأرض لعمارتها، وبهذا الاعتبار فإن الإنسان ممنوع من أن يلحق ضررًا بنفسه أو بغيره، وإن ثمة قيود مفروضة عليه لمصلحة الآخرين أفرادًا وجماعات , ويظهر أثر هذه القيود في منعه من استغلال غيره بسبب المال أو إهدار كرامته أو حبس المال عن التداول واكتنازه وعدم استخدام الفائض عن حاجته فيما يحقق مصلحة الجماعة. واستخلاف الله الإنسان في المال له صورتان:
__________
(1) النور:33
(2) البقرة: 29.
(3) البقرة: 188
(4) النساء: 5(4/655)
إحداهما: استخلاف فردي يتولاه الفرد في صورة ملكية فردية.
ويظهر ذلك جليا من الآيات التي تثبت ملكية المال إلى آحاد الناس مثل قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (1) وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (2) وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (3) .
والثانية: استخلاف جماعي تتولاه الأمة ممثلة بولي الأمر , ويقول الإمام محمد الطاهر بن عاشور: والمال بهذا النظر ينقسم إلى مال خاص بآحاد وجماعات معينة , وإلى مال مرصود لإقامة مصالح طوائف من الأمة غير معينين , فالأول من هذا النظر هو الأموال الخاصة المضافة إلى أصحابها.
والثاني هو المسمى في اصطلاح الشريعة بمال المسلمين أو مال بيت المال بمختلف موارده ومصارفه , وقد كان أصله موجودًا في زمن النبوة؛ مثل أموال الزكاة , ومثل أدوار الإبل المعدودة لحمل المجاهدين. واللازمة المرصودة للمجاهدين , وفي الحديث ((: إن خالدًا قد احتبس أدرعه وأعتدته في سبيل الله.)) .
إلى أن يقول: إن مال الأمة هو ثروتها , والثروة هي ما ينتفع به الناس آحادًا أو جماعات في جلب نافع , أو دفع ضار في مختلف الأحوال والأزمان والدواعي , ويبين الصفات التي تجعل من المال ثروة حقيقية للفرد وسلامه , وهو ما اجتمع فيه خمسة أمور:
1- أن يكون ممكنًا ادخاره.
2 - أن يكون مرغوبًا في تحصيله.
3 - أن يكون قابلًا للتداول.
4 - أن يكون محدود المقدار.
5 - أن يكون مكتسبًا.
__________
(1) آل عمران: 186.
(2) سورة المعارج الآيتان: 24،25
(3) التوبة: 111(4/656)
ويذكر رحمه الله مقاصد الشرع في الأموال , وأنها تدور على خمسة أمور: رواجها، ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدول فيها (1) . ويذكر وسائل توفيرها ويكون بالتدبير والعمل والمادة (2)
نزع الملكية للمنفعة العامة
تتردد لفظة المنفعة العامة , ويقصد منها ما ينتفع به جمهور كبير من الناس بدون تخصيص؛ كالطرق العامة , وسكك الحديد , والترع , والمدارس , ودور القضاء , ومباني الوزارات والمستشفيات , والساحات العامة , والأسواق , والقلاع , والحصون والمعسكرات , ونحوها. ولقد كانت المساجد في الإسلام في بادئ الأمر تقوم بمعظم المصالح التي أفرد لها مبنى خاص. يقول الإمام ابن تيمية: (وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسس مسجده المبارك على التقوى؛ ففيه الصلاة والقراءة , والذكر وتعليم العلم والخطب , وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات وتأمير الأمراء وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون عنده لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم.
وكذلك عماله في مثل مكة والطائف وبلاد اليمن وغير ذلك من الأمصار والقرى , وكذلك عماله في البوادي , فإن لهم مجمعًا , فيه يصلون , وفيه يسألون. وكان الخلفاء والأمراء يسكنون في بيوتهم كما يسكن سائر المسلمين في بيوتهم، لكن يجلس الإمام في الجامع، الجامع هو المسجد الجامع. . . إلى أن قال: أحدثت الملوك والأمراء القلاع والحصون , وإنما كانت تبنى الحصون والمعاقل قديمًا في الثغور , خشية أن يدهمها العدو , وليس عندهم من يدفعه عنها , وكانوا يسمون الثغور الشامية العواصم , وهي قنسرين، وحلب.
وأحدثت المدارس لأهل العلم , وأحدثت الربط والخوانق لأهل التعبد , وأول ما بنيت المدارس والرباطات للمساكين , ووقفت عليها وقوف تجرى على أهلها) (3)
ولهذا كان من أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة الاعتناء (4) بالمرافق العامة , فأنشأ مسجده الشريف الذي كان يطلع بالمهمات التي سلف بيانها.
__________
(1) مقاصد الشريعة الإسلامية: 171، 175 – أصول الاجتماع الإسلامي:190، 191.
(2) أصول الاجتماع الإسلامي: ص 199.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية:35، 39، 41.
(4) فتح الباري:8 / 267. 268 - شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام: 2/ 331(4/657)
كما أنشأ سوقًا تزاول فيه أعمال التجارة، أزال ما كان فيها من قبور , وحمى المراعي التي كانت مباحة للجميع على خلاف ما كان عليه الأمر قبل الإسلام من الحيازة القائمة على القوة والغلبة , وإنما جعل الحمى لمنفعة عامة المسلمين , روى الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((: لا حمى إلا لله ورسوله)) والمعنى الظاهر لهذا الحديث أن الحمى إنما هو لمنفعة عامة , لا تخص أحدًا , وإلى هذا المعنى ذهب أبو عبيد في كتاب الأموال , إذ قال: للإمام أن يحمي ما كان لله؛ مثل حمى النبي صلى الله عليه وسلم وحمى عمر , فهذا كله داخل في الحمى لله , وقد روى نافع , قال: عن ابن عمر ((, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين. والنقيع: موضع معروف بقرب المدينة.)) (1) , وحمى عمر رضي الله عنه الربذة والشرف لهذا الغرض , وهما موضعان بين مكة والمدينة , وقال: لولا النعم التي يحمل عليها في سبيل الله ما حميت على الناس شيئا من بلادهم أبدًا. قال أسلم: فسمعت رجلًا من بني ثعلبة يقول له: يا أمير المؤمنين، حميت بلادنا , قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها في الإسلام. يرددها عليه مرارًا، وعمر واضع رأسه , ثم إنه رفع رأسه , فقال: البلاد بلاد الله وتحمى , النعم مال الله، يحمل عليها وفي وسبيل الله (2)
ومن ثم فإن لولي الأمر وهو ينوب عن الأمة في رعاية مصالحها ويدبر شؤونها قد يقتضي الأمر إلى أن يتدخل , وإن أدى ذلك إلى تقييد حرية الفرد تغليبًا لمصلحة الجماعة , فله عند ذلك أن يباشر من الإجراءات ما تتحقق بها تلك المصالح , وقد تتعدد صور هذا التدخل ومسوغاته في أوقات معينة وظروف معينة , ويمكن إرجاع هذه المسوغات إلى الصور التالية:
أولًا: فرض الأموال على القادرين لسد حاجة المحتاجين وأهل الخصاصات منهم إذا لم تف الأموال المرصودة لهذا الغرض.
__________
(1) كتاب الأموال، ص 417.
(2) كتاب الأموال، ص 418،419.(4/658)
ثانيًا: فرض الأموال التي يحتاج إليها لأجل الدفاع والذود عن البلاد الإسلامية إذا خلا بيت المال منه , أو كان المال الموجود لا يكفي لدرء الأخطار.
ثالثًا: توجيه وإلزام من تحتاج الأمة إلى أعمالهم للقيام بهذه الأعمال.
رابعًا: منع الاحتكار , وإلزام المحتكرين ببيع السلع التي يحتاجها الناس , ويكون في احتكارها ضرر بهم , وتسعيرها عليهم عند الحاجة، ومنع الغش , ومصادرة المواد المغشوشة , أو بيعها على أصحابها , أو التصدق بها على الفقراء.
خامسًا: البيع جبرًا لمصلحة الدائنين.
سادسًا: نزع الملكية لأغراض يعود نفعها على الكافة، هذا عدا ما تأتي الإشارة إليه أثناء البحث.
وسنفرد الكلام على كل واحدة منها باختصار شديد إتمامًا للفائدة:
المسوغ الأول: فرض الأموال على القادرين لسد حاجة المحتاجين وأهل الخصاصة من الضعفاء والمساكين , وذلك إذا ضاق المال عنهم , ولم يكف الموجود في بيت المال لسد حاجتهم , يقول إمام الحرمين أبو المعالي الجويني: وأما سد الحاجات والخصاصات فمن أهم المهمات ... إلى أن يقول: فإن اتفق مع بذل المجهود في ذلك فقراء محتاجون , لم تف الزكوات بحاجاتهم , فحق على الإمام أن يجعل الاعتناء بهم من أهم أمر في باله، فالدنيا بحذافيرها لا تعدل تضرر فقير من فقراء المسلمين في ضر، فإن انتهى نظر الإمام إليهم رم ما استرم من أحوالهم. . . فإن لم يبلغهم نظر الإمام , وجب على ذوي اليسار والاقتدار البدار إلى رفع الضرار عنهم، وإن ضاع فقير بين ظهراني موسرين خرجوا من عند آخرهم، وباءوا بأعظم المآثم , وكان الله طليبهم وحسيبهم (1) .
__________
(1) غياث الأمم في التيات الظلم: ص 172، 173.(4/659)
ويبين في موضع آخر عندما تحدق الكوارث بالمسلمين وتنزل الشدائد بهم , فيقول: " فإذا تقرر ما ذكرناه , فالوجه عندي إذا ظهر الضر وتفاقم الأمر وأنشبت المنية أظفارها وأشقى المضرون , استشعر الموسرون أن يستظهر كل موص بقوت سنة , ويصرف الباقي إلى ذوي الضرورات وأصحاب الخصاصات (1) , وهو إنما جعل قوت السنة في حق الأغنياء فطنة عقلية لانجلاء الكارثة؛ ولأن في انقضاء السنة مدة الغلات وأمد الثمرات , وفيها تحول الأموال وتزول , وتعتقب الفصول , وقد جعل الشارع السنة ضابطًا ينتهى إليه فيما يبذله الموسر، وتأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يضع لنسائه في أوقات الإمكان قوت سنة (2) .
ويعقد الإمام ابن حزم في كتابه المحلى في آخر كتاب الزكاة فصلًا يختم به كتاب الزكاة , قال فيه: وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم ولا في سائر أموال المسلمين , فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة (3) ويستظهر مراجعه من نصوص الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ويستنبط من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((:المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)) . إن من ترك أخاه المسلم يجوع ويعرى وهو قادر على إطعامه وكسوته , فقد أسلمه. ويستدل بالحديث الذي رواه مسلم , عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((: من كان معه فضل ظهر , فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد , فليعد به على من لا زاد له)) . قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر , حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل. ثم عقب على ذلك بقوله: وهذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم , يخبر بذلك أبو سعيد , وبكل ما في هذا الخبر نقول. ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت , لأخذت فضول أموال الأغنياء , فقسمتها على فقراء المهاجرين ".
__________
(1) غياث الأمم في التيات الظلم، ص 175، 176.
(2) غياث الأمم في التيات الظلم 175، 176
(3) المحلى ج3، ص 452،453.(4/660)
وقال: صح عن أبي عبيدة بن الجراح وثلثمائة من الصحابة رضي الله عنهم أن زادهم فني , فأمرهم أبو عبيدة , فجمعوا أزوادهم في مزودين , وجعل يقوتهم إياها على السواء.
ثم عقب على ذلك بقوله: فهذا إجماع مقطوع من الصحابة رضي الله عنهم , لا مخالف له منهم، ونقل عن الشعبي ومجاهد وطاوس وغيرهم , كلهم يقول: في المال حق سوى الزكاة (1)
ثانيًا: فرض الأموال (الضرائب) على القادرين إذا تعرض كيان الأمة للخطر من قبل الأعداء. وسند هذا التدخل أن الشارع الحكيم قد حث على الإنفاق في سبيل الله، وسبيل الله كلمة جامعة تتسع لكل ما تتطلبه مصلحة الأمة. وأنذر سبحانه وتعالى الأمة إن هي قبضت يدها وأحجمت عن الإنفاق الوقوع في التهلكة، ولما كان الإنفاق في صدر الإسلام كان يجري سماحة وتطوعًا , وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتسابقون في هذا الميدان , حتى إن أحدهم كان يعد جيشا كاملًا بماله , ومنهم من كان يأتي بشطر ماله , لا يضيق صدره , ولا يشعرون في أنفسهم حرجًا , وإنما ينطلق أحدهم عن سماحة نفس وصدق يقين , فإذا ما أحجم الناس عن الإنفاق وضاق بيت المال عما يكفي لسد النازلة , فإن ولي الأمر يكون في سعة من أن يتدخل ويفرض على الأفراد ضريبة يقتطع بها جيرانهم شطر أموالهم. وحكى الإمام القرطبي الإجماع على وجوب فك الأسرى , وأنه إذا خلا بيت المال , فهو فرض على كافة المسلمين (2) ويذكر الشاطبي في الاعتصام في الباب الذي عقده للفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان: أن الإمام إذا كان مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأخطار , وخلا بيت المال , وارتفعت حاجة الجند إلى ما لا يكفيهم , فللإمام أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال , إلى أن يظهر مال بيت المال (3)
__________
(1) المحلى ج3، ص 455.
(2) تفسير القرطبي 2 – 22،23.
(3) الاعتصام، ج/ 2، ص 121.(4/661)
وذكر الغزالي في مبحث الاستصلاح: أن توظيف الخراج من المصالح فإذا خلت الأيدي من الأموال , ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر , ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب؛ لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام , أو خيف ثوران الفتنة , فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند. . . لأنا نعلم أنه إذا تعارض شران أو ضرران , قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرين. وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور ويقطع مادة الشرور , وكان هذا لا عن شهادة أصول معينة (1)
ولإمام الحرمين كلام نفيس لا يتسع له المقام , فهو يبسط القول ويقلبه على مختلف الوجوه وشتى الاحتمالات , ويعد لكل حالة فصلًا مطولًا , ويستطرد في ذكر الفروض والأمثلة , نقتصر منه على موضع الاستشهاد , فيقول: فأما الفصل الثالث منها , وهو أهمها , فالغرض ذكر ما تقتضيه الإيالة الشرعية والسياسة الدينية فيه , فإذا اصفرت يد راعي الرعية عن الأموال والحاجات ماسة , فليت شعري كيف الحكم , وما وجه القضية , فإن ارتقب الإمام حصول أموال في الاستقبال , ضاع رجال القتال , وجر ضياعهم أسوأ الأحوال , وإن استرسل في مد اليد إلى ما يصادفه من مال من غير ضبط الشرع في الأقوال والأفعال , وقد قدمنا حيثما سبق ألا نحدث لتربية الممالك في معرض الاستصواب مسالك لا نرى لها من شرعة المصطفى مدارك، فإن بلي الإمام بذلك , فليتئد , وليمعن النظر هناك , فقد دفع إلى خطتين عظيمتين:
إحداهما: تعريض الخطة للضياع.
والثانية: أخذ مال في غير استناد استحقاقه إلى مستند معروف مألوف , فإذا خلا بيت المال , انقسمت الأحوال ونحن نرتبها على ثلاثة أقسام , ونأتي في كل قسم منها بما هو مأخذ للأحكام , ونمزج القضايا السياسية بالموجبات الشرعية , فلا تخلو الحال , وقد اصفر بيت المال من ثلاثة أنحاء:
__________
(1) المستصفى: 2 - 303،305.(4/662)
أحدها: أن يطأ الكفار - والعياذ بالله - ديار الإسلام.
والثاني: لا يطؤوها , ولكنا نستشعر من جنود الإسلام اختلالا، ونتوقع انحلالا وانفلاتا، لو لم نصادف مالا، ثم يترتب على ذلك استجراء الكفار في الأقطار، وتشوفهم إلى وطء أطراف الديار.
والثالث: أن يكون جنود الإسلام في الثغور والمراصد على أهب وعتاد وشوكة واستعداد، لو وقفوا ولو ندبوا للغزو والجهاد , لاحتاجوا إلى ازدياد في الاستعداد، وفضل استمداد، ولو لم يمدوا , لانقطعوا عن الجهاد (1)
وينتهي إلى القول في الاحتمالات الثلاثة إلى أنه يتسبب في اقتراض الأموال من الموسرين (2) ولا يتفق مع من يقول: إن الإمام يقترض على بيت المال , ويقول في هذا: والمرتضى عندي , فإن للإمام أن يأخذ من الجهات التي ذكرناها ما يراه سادا للحاجة , ولا يلزمه الاستقراض , سواء فرض أخذه من معينين أو من الموسرين أجمعين (3) ومن الفتاوى في هذا الشأن ما أفتى به القاضي أبو عمر بن منظور في جواز فرض الخراج على الرعية , بأن الأصل أن لا يطالب المسلمون بمغارم غير واجبة بالشرع. . . فإذا عجز بيت المال عن أرزاق الجند وما يحتاج إليه من آلة حرب وعدة فيوزع على الناس ما يحتاج إليه من ذلك بشروط: أن تتعين الحاجة , وأن يتصرف فيه بالعدل , وأن يصرف مصرفه بحسب المصلحة , وأن يكون على القادر من غير ضرر ولا إجحاف , وأن يتفقد في كل وقت , فربما جاء وقت لا يفتقر فيه لزيادة على ما في بيت المال (4)
ثالثًا: من مسوغات تدخل ولي الأمر إذا اقتضت الظروف ذلك وإلزام من يتعين عليهم القيام بأمر يحتاجه المجتمع ولا يتم إلا عن طريق إلزامهم القيام به , ويضرب الإمام ابن تيمية لذلك أمثلة كثيرة , منها: إذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم , صار هذا العمل واجبًا , يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل، وكما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم , ألزم من صناعته الفلاحة بأن يضيفها لهم (5)
__________
(1) غياث الأمم: ص 189، 190.
(2) غياث الأمم 191 - 200.
(3) غياث الأمم: ص 202.
(4) المعيار: 11 - 128.
(5) الحسبة في الإسلام. ص 28.(4/663)
وكذلك إذا احتاج الناس إلى من يصنع لهم آلات الجهاد من سلاح وجسر للحروب وغير ذلك , فيستعمل بأجرة المثل , ويستطرد الإمام ابن تيمية في ذلك ويخصص لهذا المبحث صفحات يركز فيها على هذا الجانب مما يحتاجه المجتمع، ولا أرى مانعًا من متابعة الإمام وذكر بعض الأمثلة التي تبين مدى سعة أفق الأئمة والفقهاء وأخذ مصالح الناس بعين الاعتبار وإعطاء الاهتمام اللائق به , فيقول: فإذا كان الناس محتاجين إلى من يطحن لهم ومن يخبز لهم لعجزهم عن الطحن والخبز في البيوت , كما كان أهل المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فإن لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء ولا حتى يبيع طحينًا ولا خبزًا , فإن ولي الأمر يتدخل هنا لإلزامهم بالعمل من ناحية , ولتحديد أجورهم أو السعر الذي ينبغي أن يلتزموا بمقتضاه (1) وهذه قاعدة تطرد في مسألة الواجب الكفائي وأنه قد ينقلب إلى فرض عين إذا تعين للمطالبة بالكفائي فرد أو أفراد معينون , وأنهم إذا لم يقوموا به طواعية , أجبروا عليه وألزموا به.
رابعًا: من المسوغات التي تعطي لولي الأمر الحق في التدخل , وذلك عند حلول الأزمات الاقتصادية التي يتضرر بها الناس , فلولي الأمر أن يمنع المحتكرين ويضرب على أيديهم ويلزمهم بالبيع وبالسعر المعقول الذي لا يدخل على الناس ضررًا (2) كذلك مع الغش في الأسواق وجواز مصادرة المواد المغشوشة والتصدق بها على الفقراء جبرًا عنهم , وهو موضوع تكفلت كتب الحسبة ببيانه (3)
__________
(1) الحسبة في الإسلام، ص 33، 35، 37.
(2) الحسبة في الإسلام، ص 37، 44.
(3) تحفة الناظر وغنية الذاكر لأبي العقباني التلمساني، 118، 121.(4/664)
خامسًا: من المسوغات أيضًا التي تعطي لولي الأمر حق التدخل حالة المدين المماطل , فيبيع ماله جبرًا عليه لمصلحة دائنيه. وهذا في قول جماهير العلماء , ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة رضي الله عنهم , وذلك رفعًا للظلم الذي ركب الناس من جراء هذه المماطلة؛ لأن المطل ظلم , والظلم يجب رفعه , فإذا امتنع عن أداء الحق مختارًا , قام ولي الأمر أو من ينوب عنه في رد الحقوق إلى ذويها (1) أما أبو حنيفة فإنه قصر جواز البيع على الدراهم والدنانير , ومنع في العروض والعقار.
سادسًا: نزع الملكية للمنفعة العامة وهو عمدة الموضوع , وما سبق إنما هو بمثابة التوطئة له , ولم تستوعب جميع الحالات التي تبرر تدخل ولي الأمر , فذلك بحث قد يطول , والمقصود هنا الإجمال , ويقاس ما ترك على ما ذكر، وقد جمع المغفور له الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في سطور قليلة أمهات تلك المسائل , فقال رحمه الله: " فحق على ولاة أمور الأمة ومتصرفي مصالحها العامة النظر في حفظ الأموال العامة , سواء تبادلها مع الأمم الأخرى أو بقاؤها بيد الأمة الإسلامية فمن الأول: سن أساليب تجارة الأمة الإسلامية مع الأمم الأخرى ودخول السلع وأموال الفريقين إلى بلاد الأخرى , كما في أحكام التجارة إلى أرض الحرب وأحكام ما يؤخذ من تجار أهل الذمة والحربيين على ما يدخلونه إلى بلاد الإسلام , وأحكام الجزية والخراج. ومن الثاني: نظام الأسواق والاحتكار وضبط مصارف الزكاة والمغانم ونظام الأوقاف العامة (2) فكل هذه الأمور مما ينبغي ألا تغيب عن نظر ولي الأمر , ولا يمنع من أن يبسط يده فيها حسب مقتضيات الأحوال , وهذا مما لا يختلف فيه نظر فقيه , وإلا وقعوا في حرج شديد , والله سبحانه يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج:78. أما نزع الملكية بالمعنى المقصود , فهو نزع الملك الخاص جبرًا عن صاحبه لتحقيق نفع عام لقاء تعويض عادل , ويعبر عنه بالاستملاك.
__________
(1) النتف في الفتاوى 2 - 752، المحلى 5 - 196، البهجة شرح التحفة 2 - 330، 331، فتح العزيز شرح الوجيز مع المجموع 10 - 216، الملكية لأبي زهرة 149.
(2) مقاصد الشريعة الإسلامية:181.(4/665)
وقد نص الفقهاء على جواز ذلك تطبيقًا لقاعدة تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة إذا تعارضت المصلحتان , ولم يمكن التوفيق بينهما، وقاعدة إذا اجتمع ضرران أسقط الأكبر الأصغر وعلى هذا نص الفقهاء على استملاك الأملاك الخاصة المجاورة للمسجد جبرًا عن صاحبها إذا ضاق بالناس، واستملاك العقار الخاص المجاور للطرق العامة جبرًا عن أصحابها إذا احتاج الناس إليها (1) ونقل الأتاسي في شرحه على المجلة أن للسلطان أن يجعل ملك الرجل طريقًا عند الحاجة (2) .
ويخرج عن التعريف الذي ذكرناه نوعان من الاستملاك , فلا تطبق في شأنهما ذات القواعد التي تطبق على نزع الملك الخاص من حيث الاستحقاق للتعويض أو البدل , ولا يرد فيهما الإكراه والإجبار , وهما:
أحدهما: الأراضي التي يقطعها الإمام آحاد الناس , وهي الصوافي، وهي كل أرض كان لها ساكن في آباد الدهر , فانقرضوا , فلم يبق منهم أنيس، وكذلك كل أرض موات لم يحيها أحد , ولم يملكها مسلم ولا معاهد (3) . وقد أصفى عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أرض السواد أصنافًا منها: كل أرض قتل صاحبها في الحرب أو هرب، وكل أرض لكسرى، وكل أرض كانت لأحد من أهله، وكل مغيض ماء , وكل دير بريد (4) .
__________
(1) البهجة شرح التحفة: ج/2، ص 76.
(2) شرح مجلة الأحكام العدلية للأتاسي: ج/ 4، ص 158
(3) كتاب الأموال: 392، 393.
(4) الرتاج المرصد على خزانة كتاب الخراج. 1- 396، 397.(4/666)
فإن هذه الصوافي مردها إلى رأي الإمام يقطع فيها لمن أراد إقطاعه , ويطلق عليها صوافي الأسفار أو صوافي الأشبار , وعلى الإطلاق الأول معناه: الأراضي المستخلصة في الأسفار , وعلى الثاني: الأراضي المستخلصة للإعطاء (1) فإن لولي الأمر أن يجيز من هذه الأراضي ويعطي من كان له غناء في الإسلام , ويضع ذلك مواضعه , ولا يحابي به , فإن هذه الإقطاعات إنما يقطعها الإمام لأجل العمل بها واستثمارها قال أبو يوسف في كتاب الخراج: "والأرض عندي بمنزلة المال , فللإمام أن يجيز من بيت المال من كان له غناء في الإسلام ومن يقوى به على العدو , ويعمل في ذلك بالذي يرى أنه خير للمسلمين وأصلح لأمرهم، وكذلك الأرضون يقطع الإمام منها من أحب من الأصناف التي سميت , ولا أرى أن يترك أرضًا لا ملك لأحد فيها ولا عمارة حتى يقطعها الإمام , فإن ذلك أعمر للبلاد وأكثر للخراج (2)
فإن كل أرض أقطعها الإمام فأهملها ولم يستثمرها حتى مضى على ذلك ثلاث سنين , فإن للإمام أن يأخذها منه أو يقطعها غيره بدون تعويض (3) وكذلك إذا عجز عن استغلالها واستثمارها لكبر مساحتها، فإن للإمام أن يسترد ما زاد على مقدرته ويقطعها غيره. وقد أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث المزني ما بين البحر والصخر , فلما كان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه , قال له: إنك لا تستطيع أن تعمل هذا , فطيب له أن يقطعها للناس ما خلا المعادن , فإنه استثناها (4)
__________
(1) الرتاج المرصد على خزانة كتاب الخراج: 1 / ص 395.
(2) الرتاج 1 -418.
(3) الرتاج 1- 418.
(4) الرتاج، 425، وانظر أيضًا في هذا المعنى مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها لعلال الفاسي، ص 259.(4/667)
الثاني: الأخذ مما هو مخصص للمنفعة العامة وتحويله إلى شيء آخر يعود أيضًا نفعه إلى العام , كالأخذ من الشارع للمسجد أو العكس , ومما جاء في هذا ما ذكره الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية: "النوع الثاني أن يبنى في الطريق الواسع ما لا يضر بالمارة لمصلحة المسلمين؛ مثل بناء مسجد يحتاج إليه الناس أو توسيع مسجد ضيق بإدخال بعض الطريق الواسع فيه , أو أخذ بعض الطريق لمصلحة المسجد , مثل حانوت ينتفع به المسجد , فهذا النوع يجوز في مذهب أحمد المعروف , وكذلك ذكره أصحاب أبي حنيفة , ولكن يفتقر إلى إذن ولي الأمر على روايتين عن أحمد , ومن أصحاب أحمد من لم يحك نزاعًا في جواز هذا النوع , ورواية ثالثة بالمنع مطلقًا.
وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد عن طريق واسع وللمسلمين منه غنى , وبهم إلى أن يكون مسجدًا حاجة , هل يجوز أن يبنى هناك مسجد؟ قال: لا بأس , إذا لم يضر بالطريق.
إلى أن قال: فإذا جاز , جعل البقعة المحترمة المشتركة بين المسلمين بقعة غير محترمة للمصلحة , فلأن يجوز جعل المشتركة التي ليست محترمة كالطريق الواسع بقعة محترمة , وتابعة للبقعة المحترمة بطريق الأولى والأحرى، فإنه لا ريب أن حرمة المساجد أعظم من حرمة الطرقات , وكلاهما منفعة مشتركة (1) .
ومن ذلك ما جاء بالفتوى الصادرة عن لجنة الفتوى بالأزهر الشريف ردا على السؤال الموجه لها من مدير بلدية الكويت (2) , وما جاء بهذه الفتوى: " أما بعد , فقد اطلعت اللجنة على هذا السؤال , وتفيد بأنه قد جاء في الجزء الثالث من حاشية ابن عابدين على الدر المختار من كتب الحنفية , أنه إذا كان الطريق ضيقًا والمسجد واسعًا لا يحتاج إلى بعضه , جازت الزيادة في الطريق من المسجد؛ لأن كلا منهما للمصلحة العامة , وهذا هو المعتمد عليه متون المذهب.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 30، 402، 406.
(2) مجلة الأزهر عدد جمادى الآخرة سنة 1372 هـ، ص 715، 716.(4/668)
وجاء في كتب المالكية أن ما كان لله , فلا بأس فيه أن يستعان ببعضه في بعض. ومعنى هذا: أنه يجوز توسيع الطريق من المسجد والمقبرة كما يجوز توسيع المسجد من الطريق والمقبرة وتوسيع المقبرة من الطريق والمسجد، تراجع حاشية العدوي على الخرشي على متن خليل في باب الوقف.
إلى أن قال: "ومن هذه النصوص يتبين أنه متى كانت الحاجة ماسة إلى أخذ جزء من المسجد لتوسعة الطريق واستقامته تيسيرًا على المارة والسيارات , فإنه يجوز أن يؤخذ ذلك الجزء من المسجد للطريق العام ".
" هذا وكما يجوز ذلك في المسجد أخذًا من هذه النصوص , يجوز أن يؤخذ من المقابر ما يوسع به الطريق , ولكنه بعد أن ينقل رفات الموتى إلى المكان الذي يجعل مقبرة , كما نص على ذلك الفقهاء ".
التقنيات التي صدرت لتنظيم نزع الملكية:
أصدرت الدولة العثمانية عدة قوانين وقرارات لتنظيم عملية الاستملاك , من ذلك قرار الاستملاك الصادر في رجب سنة 1272 هـ. وقانون الاستملاك الصادر في 21 جمادى الأولى سنة 1296 هـ , وقانون الاستملاك الجديد الصادر في 7 ربيع الأول سنة 1332 هـ. ونصت المادة 1216 من مجلة الأحكام العدلية على حكم ذلك , ونصها: لدى الحاجة يؤخذ ملك كائن من كان بالقيمة بأمر السلطان , ويلحق بالطريق , لكن لا يؤخذ من يده ما لم يؤد له الثمن (راجع مادتي 251، 262) . وقال شارح المجلة محمد سعيد المحاسني عند شرحه لهذه المادة: "ويشترط في الاستملاك على الإطلاق وجود المنفعة العامة والضرورة , وهذا الفرع معروف بين الفقهاء في الأخذ من المسجد , بقيد (إذا ضاق) .
وشرح المرحوم علي حيدر هذه المادة , فقال: (يستملك ملك أي أحد بقيمته الحقيقية للمنافع العمومية , كالطريق والمسجد وسيل الماء , ولو لم يرض صاحبه ببيعه. فلذلك يؤخذ لدى الحاجة؛ أي: إذا كان الطريق ضيقًا ومست الحاجة إلى توسيعه ملك؛ أي: أخذ بقيمته بأمر السلطان , ولو لم يرض صاحبه , ويلحق بالطريق.(4/669)
فلذلك لو كان مسجد ضيق وغير كاف لاستيعاب المصلين , وكان لأحد ملك متصل بذلك المسجد , ووجدت حاجة لإلحاق قسم من تلك الدار للجامع، وتعنت صاحب الدار عن بيع ذلك المقدار من ملكه , فلا ينظر لرضائه , ويؤخذ المقدار اللازم للجامع وحريم الجامع بقيمته جبرًا وكرهًا , ويوسع الجامع. وقد وسع عمر والصحابة رضوان الله عليهم المسجد النبوي على هذا الوجه (جامع الإجارتين والتنقيح والخانية) .
وكذلك يؤخذ محل مرور المياه بقيمته ولو لم يرض صاحبه , انظر مادة (26) (فتاوى أبي السعود) , ولكن لا يؤخذ الملك من يده ما لم يؤد له الثمن معجلًا , هذا إذا كان سيؤخذ الملك بدون رضاء صاحبه أو أخذ الملك برضاء صاحبه بالبيع المطلق بثمن معجل. انظر المواد (251، 262، 278) , أما إذا أخذ الملك برضاء صاحبه بالبيع المطلق بثمن مؤجل , فتجري المعاملة وفقًا للمادة (283) .
إن المقصود في هذه المادة هو المال الذي يؤخذ الملك به بدون رضاء صاحبه , كما وضح ذلك أثناء الشرح , ولكن لا يجوز أخذ ملك أحد بدون رضائه ما لم يثبت لزومه للمنافع العامة.
ومن هذا العرض لنص المجلة وشروحها يتبين أن الاستيلاء على الملك الخاص للمنفعة العامة لا بد فيه من تحقق الأمور التالية:
أولًا: تسري عليها الأحكام المتعلقة بالبيوع كأصل عام.
ثانيًا: الأصل أن يتم الانتفاع بالملك الخاص للمنفعة العامة باتفاق بين السلطة والأفراد الذين تحتاج إلى أملاكهم الخاصة طبقًا لأحكام عقد البيع وبذات الشروط التي ينبغي تحقيقها في العقود التي تجري بين الأفراد وسلامة الرضاء , وهو ما يعبر عنه فريق من الفقهاء بالطوع؛ أي: بالاختيار وعدم الإكراه.
ثالثًا: في حالة امتناع الأفراد من البيع طواعية لا بد من تحقق الشروط التالية للاستيلاء على الملك الخاص.(4/670)
أولًا: أن تشتد الحاجة إلى الملك الخاص.
ثانيًا: أن يكون الغرض من الاستيلاء على الملك الخاص لأمر يعود نفعه على العام , كتوسيع الطرق , وتنظيم المدن وسكك الحديد , وتوسعة المساجد وإنشائها ونحوها.
ثالثًا: أن يصدر قرار من السلطة المختصة في الدولة بالاستملاك طبقًا للقوانين والقرارات التي تسنها الدولة في هذا الشأن.
رابعًا: أن يدفع له قيمة المال المنزوع للمنفعة العامة.
خامسًا: أن لا يستولي على العقار الذي تقرر نزعه للمنفعة العامة إلا بعد سداد الثمن كاملًا لصاحبه في حالة ما إذا لم يتم اتفاق بين الطرفين. أما إذا تم اتفاق على طريقة دفع الثمن , فيكون هو الذي يتعين المصير إليه.
وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية القول على ضرورة بذل ما يحتاج إليه وجواز تدخل ولي الأمر في أكثر من موضع من مجموع فتاويه ومصنفاته , من ذلك ما جاء في معرض كلامه على الولايات والتدخل لمنع الاحتكار وغلاء الأسعار , قال: وهذا واجب في مواضع كثيرة من الشريعة، فإنه كما أن الإكراه على البيع لا يجوز إلا بحق , يجوز الإكراه على البيع بحق في مواضع , مثل بيع المال لقضاء الدين الواجب والنفقة الواجبة والإكراه على أن لا يبيع إلا بثمن المثل لا يجوز إلا بحق , ويجوز في مواضع مثل المضطر إلى طعام الغير , ومثل الغراس والبناء الذي في ملك الغير , فإن لرب الأرض أن يأخذ بقيمة المثل , لا بأكثر , ونظائر كثيرة (1) ويبسط القول أكثر في موضع آخر من مجموع فتاويه (2) ، نقتصر من ذلك على فقرات من كلامه رحمه الله , قال: " ففي الجملة ما يجب إيتاؤه من المال أو منفعته أو منفعة البدن بلا عوض , له تفصيل في موضع آخر , ولو كان كثير من المتفقهة مقصرين في عامه بحيث ينفون وجوب ما صرحت الشريعة بوجوبه , ويعتقد الغالط منهم: " أن لا حق في المال سوى الزكاة " , إن هذا عام , ولم يعلم أن الحديث المروي في الترمذي عن فاطمة ((: إن في المال حقا سوى الزكاة)) .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 28/ 77، 78
(2) ج/29، ص 185، 196.(4/671)
من قال بالأول , أراد الحق المالي الذي يجب بسبب المال , فيكون راتبًا , وإلا فنحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله قد أوجب إيتاء المال في غير الزكاة المفروضة في مواضع , مثل الجهاد بالمال عند الحاجة، والحج بالمال، ونفقة الزوجة والأقارب والممالك من الآدميين والبهائم , ومثل ما يجب من الكفارات من عتق وصدقة. . . إلخ.
وإنما الغرض هنا ما يجب من المعاوضات , مثل المبايعة والمؤاجرة وما يشبه ذلك، ومثل المشاركات كالمساقات والمزارعة ونحو ذلك , فإن هذا كثيرًا ما يغلط فيه الغالطون , لما استقر في الشريعة أن الظلم حرام , وأن الأصل في هذه العقود لا تجوز إلا بالتراضي , إلا مواضع استثناها الشارع , وهو الإكراه عليها بحق , صار يغلط فريقان:
قوم يجعلون الإكراه على بعضها بحق، وهو إكراه بباطل. وقوم يجعلونه إكراهًا بباطل , وهو بحق، وفيها ما يكون إكراهًا بتأويل حق , فيدخل في قسم المجتهدات، أما الاجتهادات المحضة أو المشوبة بهوى وكذلك المعاوضات.
ونحن نعلم قطعًا أنه إذا كان إيتاء المال أو المنفعة بلا عوض واجبًا بالشريعة في مواضع كثيرة جدا لأسباب اقتضت الإيجاب الشرعي، وليس ذلك من الظلم الذي هو أخذ لحق الغير بغير حق , فلأن يكون إيتاء المال والمنفعة بعوض واجبًا في مواضع أولى وأحرى , بل إيجاب المعاوضات أكثر من إيجاب التبرعات وأكبر , فهو أوسع منه قدرًا أو صفة.
ولعل من استقرأ الشريعة تبين له أن المعاوضة إذا احتاج المسلمون إليها بلا ضرر يزيد على حاجة المسلمين , وجبت، فأما عند عدم الحاجة ومع حاجة رب المال المكانية لحاجة المعتاض , فرب المال أولى. فإن الضرر لا يزال بالضرر، والرجل أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين ((وابدأ بنفسك ثم بمن تعول)) وهذه قاعدة حسنة مناسبة , ولها شواهد كثيرة في الشريعة , وجماع المعاوضات أربعة أنواع:(4/672)
معاوضة مال بمال كالبيع، وبذل مال بنفع كالجعالة، وبذل منفعة بمال كالإجارة، وبذل نفع بنفع كالمشاركات من المضاربة ونحوها , فإن هذا بذل نفع بدنه، وهذا بذل نفع ماله، وكالتعاون والتناصر ونحو ذلك.
وبالجملة فوجوب المعاوضات من ضرورة الدنيا والدين , إذ الإنسان لا ينفرد بمصلحة نفسه , بل لا بد له من الاستعانة ببني جنسه , فلو لم يجب على بني آدم أن يبذل هذا لهذا ما يحتاج إليه , وهذا لهذا ما يحتاج إليه , لفسد الناس , وفسد أمر دنياهم ودينهم , فلا تتم مصالحهم إلا بالمعاوضة.
ولا ريب أن النفوس مجبولة على بذل المعاوضة لحاجتها إليها , فالشارع إذا بذل ما يحتاج إليه بلا إكراه , لم يشرع الإكراه , ورد الأمر إلى التراخي في أصل المعاوضة وفي مقدار العوض، وأما إذا لم يبذل , فقد يوجب المعاوضة تارة , وقد يوجب عوضًا مقدرًا تارة , وقد يوجبهما جميعًا.
مثال الأول: من عليه دين فطولب به , وليس له إلا عرض , فعليه أن يبيعه ليوفيه الدين، فإن وفاء الدين واجب , ولا يتم إلا بالبيع , وما لا يتم الواجب إلا به , فهو واجب , وللحاكم أن يكرهه على بيع العرض في وفاء دينه , وله أن يبيع عليه إذا امتنع؛ لأنه وجب عليه , فقبل النيابة , فقام ذو السلطان فيهم مقامه , كما يقوم في توفية الدين وتزويج الأيم من كفئها إذا طلبته وغير ذلك. إلى أن يقول: وهكذا بيع أحد الشريكين من الآخر في ما لا ينقسم , فإن الشريك محتاج إلى البيع ليأخذ نصيبه , ولا ضرر على الآخر فيه، وكذلك تقويمه ملك الشريك إذا أعتق الشريك نصيبه , فإن العتق يحتاج إلى تكميل , لما في تبعيض العتق من الضرر على البائع في بيع نصيبه , وهكذا فيمن تعلق حق الغير بماله , كمن له في ذلك الغير عرض محترم من غراس أو بناء أو بئر , كالمشتري إذا أخذ الشقص بالشفعة , والبائع إذا رد عليه المبيع بعيب , وكان الثمن عقارًا، وكالمستعير والمستأجر إذا انقضت المدة , فإن لرب الأرض أن يبتاع ذلك بقيمته إذا لم يقلعه صاحبه أو يبقيه بأجرة المثل , وكلاهما معاوضة , إما على العين , أو على منفعة أرضه.(4/673)
كما نستشهد بآراء جماعة من الفقهاء المعاصرين ممن ذهبوا إلى جواز نزع الملكية للمنفعة العامة , وممن قال بذلك:
أولًا: أحمد إبراهيم (1) قال رحمه الله:
الأصل عدم انتزاع الإنسان مال غيره إلا برضاه , ولكن استثنى من ذلك نزع الملك
في ثلاث حالات:
الأولى: الأخذ بالشفعة.
الثانية: نزع الملك لقضاء الدين.
الثالثة: نزع الملك للمنافع العمومية؛ كتوسيع الطرق وإنشاء ترع أو سكك ينتفع بها الناس انتفاعًا عاما , ولكن لا يؤخذ الملك من يد المالك إلا إذا أدي إليه ثمنه مقدرًا بمعرفة من يوثق بعدالته من أهل الخبرة؛ وذلك لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة ولا ينبغي أن يظلم المالك. وقد نقل في حاشية أبي السعود على ملا مسكين عن الزيلعي: أنه إذا ضاق المسجد على الناس وبجنبه أرض الرجل , تؤخذ بالقيمة كرهًا؛ لأنه لما ضاق المسجد الحرام أخذ الصحابة بعض ما حوله من الأراضي بكره , وأدخلوها في المسجد. وهذا من الإكراه الجائز.
ثانيًا: الشيخ الإمام محمد أبو زهرة رحمه الله قال: (2)
"ذكرنا فيما مضى أن أسباب انتقال الملكية هي العقود الناقلة للملكية , والعنصر الفعال في هذه العقود هو الرضا , كما يستثنى. فالرضا هو القاعدة العامة لنقل الأموال في الشريعة الإسلامية؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) , بيد أنه قد ينتزع الملك من صاحبه بغير رضاه في سبيل النفع العام أو لدفع الأذى عن غيره , بحيث تكون المنفعة التي ينالها المالك من بقاء العين في ملكه أقل من الضرر الذي ينال غيره بهذا البقاء.
__________
(1) المعاملات الشرعية المالية ص 72، 73.
(2) الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية: 148، 149.
(3) النساء: 29(4/674)
والأحوال التي ينتزع فيها الملك من غير رضا صاحبه ترجع إلى ثلاث:
نزع الملك لمنافع الكافة , كنزع الملك للطرق العامة , أو شق الترع، وقد اعتبر بعض الفقهاء من المنافع العامة توسيع المساجد , حتى لا تضيق بالناس. ثم نقل ما سبق عن حاشية أبي السعود على ملا مسكين عن الزيلعي , وأحال إلى كتاب الشيخ أحمد إبراهيم , ثم قال: والأصل في هذا ترجيح منفعة الكافة على منفعة الآحاد , ولأنه لا يترتب على الأخذ من المالك كبير ضرر به؛ لأنه يعوض بالقيمة , والقيمة تقدر بمعرفة أهل الخبرة العدول.
ثالثًا: وممن قال بذلك أيضًا الشيخ علي الخفيف في بحث له منشور في مجلة الأزهر الشريف (1) والشيخ محمد عرفة عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر (2) ومما قاله الشيخ الخفيف في بحثه المنشور في مجلة الأزهر عدد صفر سنة 1384 هـ: "ويجب أن يلاحظ مع هذا أن عدوان إحدى الملكيتين على الأخرى محظور , فلا يجوز أن يتملك الفرد ما كان ملكًا للجماعة مخصصا للمنافع العامة , إلا إذا خرج عن ذلك بالاستغناء عنه , فعند ذلك يجوز تملكه بعوضه , على أن يقوم بهذه المبادلة ولي الأمر متحريا ألا يكون فيه غبن , كما لا يجوز لولي الأمر أن يعتدي على ملك فرد من الأفراد , فليس له أن يجعله في منفعة عامة مملوكًا لجماعة المسلمين , إلا إذا تطلبت مصلحة المسلمين ذلك , فيأخذه الإمام عن رضا أو عن قهر ببدله دون غنى على صاحبه؛ وذلك لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة. وذلك ما حدث في توسعة المسجد الحرام حين ضاق على الناس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه , فقد كانت دور الناس محدقة به من كل جانب , عدا فتحات يدخل منها الناس إليه , فاشترى عمر دورًا منها , وأبى عليه أصحاب الدور الأخرى , فأخذها منهم قسرًا , ووضع قيمتها بخزانة الكعبة , وأدخل الجميع المسجد.
__________
(1) مجلة الأزهر عدد صفر 1384 هـ.
(2) مجلة الأزهر عدد صفر سنة 1372 هـ.(4/675)
وظلت القيمة بالخزانة إلى أن أخذها أصحابها , ثم كثر الناس في عهد عثمان وضاق عليهم المسجد مرة أخرى , فأراد توسعته , فاشترى من قوم , وأبى عليه آخرون , فأخذ دورهم جبرًا , وعزرهم؛ لأنه ليس للمالك أن يأبى حين يدعوه إلى بيع ملكه داعي المصلحة العامة , فإذا أبى , كان إباؤه ظلما , فيدفع. وليس يجوز أن يؤخذ ملك إنسان بلا عوض لمصلحة عامة , بل يجب تعويضه من بيت مال المسلمين , فإن لم يكن فيه ما يقوم بذلك , كان لولي الأمر أن يفرض على القادرين من الوظائف المالية ما يقوم بحاجة الدولة , ويدفع ما أنزل بها بالقسطاس المستقيم , فيعم بذلك جميع القادرين كلا بقسطه , ولا يقصره على بعضهم , وبذلك يشترك كل قادر في دفع ما ألم بالأمة مما يجب دفعه".
وذكر الأزرقي وغيره من المؤرخين للمسجد الحرام وما كان عليه المسجد وعمارته وتوسعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه له , وأنه لما ضاق على الناس , اشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنه دورًا , فهدمها وهدم على من قرب من المسجد , وأبى بعضهم أن يأخذ الثمن , وتمنع من البيع , فوضعت أثمانها في خزانة الكعبة حتى أخذوها بعد، ثم أحاط عليه جدارًا قصيرًا , وقال لهم عمر: إنما نزلتم على الكعبة فهو فناؤها , ولم تنزل الكعبة عليكم. ثم كثر الناس في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه , فوسع المسجد , واشترى من قوم , وأبى آخرون أن يبيعوا , فهدم عليهم , فصيحوا به , فدعاهم فقال: إنما جرأكم علي حلمي عنكم , فقد فعل بكم عمر هذا , فلم يصح به أحد , فاحتذيت على قباله , فصيحتم بي , ثم أمر بهم إلى الحبس , حتى كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد , فتركهم. (1)
__________
(1) تاريخ مكة للأزرقي، ج2/ 68، 69. القرى في قاصد أم القرى ص 657 تاريخ الطبري 4 - 68.(4/676)
ومن صور العقود التي تمت والاتفاق على بدل العقار الذي احتيج إليه للمنفعة العامة ما ذكره الحافظ أبو الطيب تقي الدين محمد بن أحمد بن علي الفاسي المكي المالكي في (شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام) عن توسعة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة الوليد بن عبد الملك. وذلك أنه لما استعمل عمر بن عبد العزيز على المدينة , أمره بالزيادة في المسجد وبنيانه , فاشترى ما حوله من المشرق والمغرب والشام من أبي سبرة الذي كان أبى أن يبيع عليه , ووضع الثمن له , فلما صار إلى القبلة , قال له عبد الله بن عمر: لسنا نبيع هذا , هو من حق حفصة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكنها , فقال له عمر: ما أنا بتارككم، أنا أدخلها المسجد. فلما كثر الكلام بينهما , قال له عمر: أجعل لكم في المسجد بابًا تدخلون منه , وأعطيكم دار الرقيق مكان هذا الطريق , وما بقي من الدار فهو لكم. ففعلوا , فأخرج بابهم في المسجد , وهي الخوخة التي في المسجد تخرج في دار حفصة , وأعطاهم دار الرقيق (1) وهذا يدل على أنه لا يتعين النقد بدل العين المنزوع ملكيتها للمنفعة العامة , بل يجوز أن يكون شيئًا آخر كالتعويض العيني وهو ما يعرف في البيوع بالمقايضة , أو بهما معًا , ونظير ذلك ما جاء في معجم البلدان في مادة (بصرة) : وكان جانب الجامع الشمالي - أي: جامع البصرة - منزويًا؛ لأنه كان دارًا لنافع بن الحارث أخي زياد , فأبى أن يبيعها , فلم يزل على تلك الحال حتى ولى معاوية عبيد بن زياد على البصرة , فقال عبيد الله بن زياد: إذا شخص عبد الله بن نافع إلى أقصى ضيعة , فأعلمني، فشخص إلى قصر الأبيض، فبعث فهدم الدار , وأخذ في بناء الحائط الذي يستوي به تربيع المسجد، وقدم عبد الله بن نافع فضج. فقال له: إني أثمن لك , وأعطيك مكان ذراع خمسة أذرع , وأدع لك خوخة في حائطك إلى المسجد , وأخرى في غرفتك، فرضي , فلم تزل الخوختان في حائطه حتى زاد المهدي فيه ما زاد , فدخلت الدار كلها في المسجد (2)
__________
(1) شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام: ج/2، ص 372.
(2) معجم البلدان: ج1/ 434 مادة بصرة.(4/677)
ويستدل من كل ذلك على جواز نزع الملك الخاص إذا اقتضت المصلحة والضرورة ذلك ببدل يعطى لصاحبه , ولا ضير إذا كان هذا البدل قد بولغ فيه وأعطي أكثر من قيمته الحقيقية تطييبًا لخاطره وترضية لما عسى أن يكون قد لحقه من جراء حرمانه من ملكه الخاص من ضيق , كما فعل السلف الصالح.
وبعد:
فإن هذا ما انتهى إليه النظر في هذا الموضوع , وهو رأي تتبعت فيه آثار السلف وأقوال الأئمة رضوان الله عليهم أجمعين , الذين هم لنا الأسوة والقدوة.
أرجو أن أكون قد أصبت فيه الحق أو قاربته.
الكويت في 17 شعبان سنة 1407هـ
الدكتور عبد الله محمد عبد الله(4/678)
انتزاع الملكية للمنفعة العامة
إعداد
أ. د. يوسف محمود قاسم
أستاذ ورئيس قسم الشريعة الإسلامية
كلية الحقوق - جامعة القاهرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، مالك الملك، بيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي، الذي بلغ شريعة ربه وبينها لأمته بيانًا شافيًا , وعلى آله وأصحابه الذين حملوا هذه الشريعة للدنيا كلها، فكانت النور المبين الذي شمل العباد والبلاد على مدى القرون والأجيال.
فإن موضوع انتزاع الملكية للمنفعة العامة هو في غاية الأهمية , وهو أيضا في غاية الخطورة.
أهمية الموضوع:
تبدو أهمية هذا الموضوع في التوفيق بين حقوق الله تعالى، وحقوق العباد، ومراعاة التوازن بين هذين النوعين من الحقوق.
وهذا التوفيق مهمة صعبة للغاية، لكن في الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يذلل كل صعوبة ويرفع كل عقبة، ففيهما الجواب الكافي والدواء الشافي لكل ما يعن للبشرية من معضلات.
وفيما يتعلق بالملكية العامة التي لها أهميتها، والملكية الخاصة التي يجب احترامها إلى أبعد الحدود، يقول الله جل شأنه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (1) . ولقد ظهر لي فهم في هذا النص الكريم , أرجو أن يكون صوابًا , فقوله عز وجل: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} نهي صريح عن تضييع الأموال ووجوب حفظها وتدبيرها والقيام عليها قيامًا حسنًا حيث جعلها الله قوام المجتمع , فهي السبب في إصلاح المعاش وانتظام الأمور (2) ولذلك وصفها الله تعالى بقوله: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} . أي: التي تقوم بمعاشكم، وصلاح أولادكم (3) فقوام المجتمع ثروته , وقوة الأمة بقوة اقتصادها.
__________
(1) سورة النساء. الآيتان: 5، 6.
(2) فضيلة المرحوم الشيخ محمد السايس: تفسير آيات الأحكام ج 2، ص 29 طبعة صبيح.
(3) تفسير الجلالين مع المصحف الشريف، ص 103 (دار مروان: بيروت) .(4/679)
وأما قوله تعالى: {أَمْوَالَكُمُ} , فإن معناها: أموالهم - أي: أموال السفهاء - التي في أيديكم (1) , وهذا يدل بلا شك - في اعتقادنا - أن المال وإن كان مملوكا لليتيم ومن في حكمه من السفهاء، فإنه عندما يصير معرضًا للضياع يعتبره القرآن مالا للجماعة , به قوامها، وعليه المدار في منعتها وقوتها , فيتعين على الأمة في مجموعها أن تحافظ عليه؛ لأنه وإن كان ملكًا خاصا , إلا أن حق الجماعة فيه ظاهر , لا ينكر.
أما عندما تزول هذه الظروف التي تعرض المال فيها للضياع , ويعود السفيه إلى رشده، ويصبح الصغير بالغًا عاقلًا رشيدًا , يعود ماله الخاص إليه. حيث يصير المال عندئذ في يد عاقلة رشيدة تنفقه في وجوهه المشروعة التي من شأنها تحقيق مصالح الفرد، وهذا بدوره يعود على المجتمع بالخير والرفاهية: {فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} .
فيا لروعة القرآن: حينما عبر عن المال المعرض للضياع بكلمة {أَمْوَالَكُمُ} ، أموال الجماعة التي يجب أن تحافظ على هذا المال؛ لأن الله تعالى جعله قوامها وعمودها الفقري الذي إن فرطت فيه ضاعت هيبتها , وكانت النتيجة وبالًا على المجتمع بأسره.
بيد أنه عند إيناس الرشد، يعدل القرآن إلى التعبير المناسب لمقتضى الحال؛ لأن كامل الرشد يتصرف في هذا المال، فكان في قوله سبحانه: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} أعظم دلالة في المحافظة على الملكية الخاصة، وصيانة حقوق العباد صيانة كاملة غير منقوصة (2)
__________
(1) تفسير الجلالين مع المصحف الشريف، ص 102. ولهذا نظائر عديدة في أسلوب القرآن العظيم. مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} . وقوله سبحانه: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} .
(2) مبادئ الفقه الإسلامي للدكتور يوسف قاسم ص 342 - 344 طبعة سنة 1403 هـ. دار النهضة العربية بالقاهرة.(4/680)
خطورة البحث في هذا الموضوع:
وأما خطورة البحث في هذا الموضوع، فتتجلى في بعض الأنظمة الأرضية الإلحادية، التي نرى بعض أفرادها {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1)
فقد حاول بعضهم أن يبرر مسلك بعض الظلمة من ذوي السلطات في تأميم بعض الملكيات الخاصة عن طريق أن المال مال الله. وهي كلمة حق أريد بها باطل في هذا الخصوص.
ذلك أنه مما لا شك فيه أن الملك الحقيقي في كل شيء إنما هو لله رب العالمين , فهو سبحانه مالك الملك بما فيه ومن فيه. ولكنه جل شأنه هو الذي أعطى لعباده حق الملكية , وأثبته لهم , فلا يحق - إذن - لأي سلطة مهما كانت أن تمس هذا الحق (2) الذي أثبته الله لعباده بحجة أن المال مال الله.
بل إن الله سبحانه هو الذي تشدد في حقوق عباده تشددًا كبيرًا على الرغم من أنه تعالى هو الذي تسامح في بعض حقوقه لدرجة أن التوبة تمحو كل ذنب يتعلق بحقوق الله، أما بالنسبة لحقوق العباد فالتوبة وحدها قد لا تكفي، إذ لا بد من رد المظالم حتى يمكن القول بأنها توبة صادقة (3)
ومن هنا كانت خطورة البحث في هذا الموضوع، فلا يصح التعلل بأن المال مال الله للافتئات على حقوق العباد وتأميم أموالهم التي يملكونها بحكم الشرع.
__________
(1) آل عمران: 78.
(2) إلا في الحدود المشروعة.
(3) على خلاف في الرأي بين العلماء: هل رد المظالم شرط في التوبة أو أنه مظهر للتوبة الصادقة.(4/681)
فالتأميم بمعناه الاصطلاحي المعاصر محرم شرعًا , لا شك في ذلك (1) لكن موضوع البحث الهام والخطير هو: مدى سلطة ولي الأمر في انتزاع الملكية الخاصة تحقيقًا لمنفعة عامة. هذا هو محل البحث الذي نرجو من الله تعالى أن يوفقنا إلى الحكم الشرعي وهو سبحانه المستعان.
خطة البحث:
ودراسة هذا الموضوع تحتاج إلى تحديد القواعد العامة التي تحكم الملكية الثابتة شرعًا للأفراد.
ثم بيان الحدود الضيقة التي يمكن لولي الأمر في إطارها تحقيق المصلحة العامة، حتى ولو ترتب على ذلك المساس بحقوق الأفراد وضوابط هذا المساس.
نبحث ذلك في الفصلين الآتيين:
الفصل الأول: القواعد العامة التي تحكم حق الملكية.
الفصل الثاني: ضوابط انتزاع الملكية للمنفعة العامة.
__________
(1) وفي حالة تأكد ولي الأمر من أن هذا المال المملوك قد أخذه مالكه ظلما , فإنه يجوز شرعًا لولي الأمر التدخل , لا على أساس التأميم , بل على أساس رد المظالم لأهلها؛ لأن وظيفة ولي الأمر رفع الظلم.(4/682)
الفصل الأول
القواعد التي تحكم حق الملكية
القواعد التي تحكم حق الملكية، هي قواعد كثيرة، لا تحتمل هذه السطور دراستها التفصيلية , ولذلك فإني أرى الاكتفاء بدراسة بعض القواعد التي ترتبط ارتباطًا مباشرًا بموضوع البحث , ألا وهو: انتزاع الملكية للمنفعة العامة.
وهذه القواعد تتلخص فيما يأتي:
1) المال مال الله.
2) الله سبحانه هو الذي أثبت لعباده حقهم فيما يملكون.
3) تحمل أخف الضررين تجنبًا لأشدهما.
المال مال الله:
مما لا شك فيه أن المالك الحقيقي لكل شيء هو الله رب العالمين الذي بيده ملكوت كل شيء.
قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} (1) .
وقال سبحانه: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2)
وهذه الآيات المباركات التي تؤكد ملكية الله تعالى لكل شيء وهو الغني عن كل شيء - وما أكثرها في القرآن العظيم - إنما تسوق البراهين العقلية على إثبات هذه الملكية لله رب العالمين (3)
__________
(1) سورة الملك: صدر هذه السورة المباركة.
(2) سورة المائدة: الآية رقم "120".
(3) أما ملكية الأفراد فما هي إلا استخلاف لهم في ملك الله تعالى. يراجع في هذا: " كتاب التعامل التجاري في ميزان الشريعة للدكتور يوسف قاسم، طبعة سنة 1406 هـ. دار النهضة العربية بالقاهرة.(4/683)
لأن الذي خلق الموت والحياة هو خالق للمال ولكل شيء، وكما قال سبحانه:
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (1)
فهي إذن براهين عقلية يسوقها رب العالمين لقوم يعقلون.
الله منح عباده حق الملكية لأجل مسمى:
وقد خلق الله تعالى كل شيء لعباده. سخره لهم، ووهبه إياهم. قال تعالى:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (2) وقال جل شأنه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (3)
وقد حرم الله تعالى المساس بهذه الملكية الثابتة شرعًا للأفراد تحريمًا مؤبدًا حتى تقوم الساعة. وذلك بنص الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (4) وقوله جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (5)
والخطاب في الآيتين يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق (6) فيدخل في هذا القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق وما لا تطيب به نفس مالكه أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفسه (7)
__________
(1) سورة يونس الآية رقم "31".
(2) سورة الجاثية: رقم "12".
(3) سورة يس الآية رقم " 71 ".
(4) سورة البقرة من الآية رقم " 188". وقد نزلت هذه الآية في عبد الله بن الأشوح الحضرمي، أدى مالا على امرئ القيس الكندي، واختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكر امرؤ القيس، وأراد أن يحلف , فنزلت , فكف عن اليمين (تفسير القرطبي ص 713 طبعة الشعب) .
(5) سورة النساء: الآية رقم " 29 ".
(6) أحكام القرآن لابن العربي جـ1 ص 97 طبعة دار المعرفة بيروت. ومعنى في قوله تعالى: {بالباطل} أي: بما لا يحل شرعا , ولا يفيد مقصودًا.
(7) القرطبي، ص 713، وابن العربي، جـ1، ص 97.(4/684)
وأما السنة. فقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا شافيًا، في الحديث الصحيح الذي بلغ حد التواتر وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم)) .
وقد أجمعت الأمة في كل عصورها على هذا الحكم الشرعي.
تحمل أخف الضررين تجنبًا لأشدهما:
أما قاعدة: تحمل أخف الضررين تجنبًا لأشدهما، فهي قاعدة شرعية مجمع عليها , إذ لا ريب أنه إذا اجتمع ضرران أحدهما أخف من الآخر، وكان لا بد من تحمل أحدهما , فإنه يجب تحمل الضرر الأخف دفعًا للضرر الأشد , وهو مما لا يخفى على عاقل، حتى قبل ورود الشرع، بل إن ذلك مركوز في طبائع العباد (1) بحكم الفطرة. ولذلك يقول علماء القواعد: إذا اجتمعت المفاسد المحضة، فإن أمكن درؤها , درأنا. وإن تعذر درء الجميع , درأنا الأفسد فالأفسد، والأرذل فالأرذل (2)
ولهذه القاعدة تطبيقات كثيرة جدا تكلم عنها الفقهاء في كتب الفروع بالتفصيل الوافي.
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للإمام عز الدين بن عبد السلام، جـ1، ص 7 طبعة سنة 1388 هـ وأول عبارته في هذا الموضع: "واعلم أن تقديم الصالح فالأصلح ودرء الفاسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد، نظرًا لهم من رب الأرباب. فلو خيرت الصبي الصغير بين اللذيذ والألذ لاختار الألذ , ولو خير بين الحسن والأحسن , لاختار الأحسن. ولو خير بين فلس ودرهم , لاختار الدرهم، ولو خير بين درهم ودينار , لاختار الدينار. ولا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح، أو متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت ".
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للإمام عز الدين بن عبد السلام، جـ1، ص 93.(4/685)
من ذلك: بالنسبة للمال المملوك للغير، وهو محرم شرعا - كما أكدنا - لكنه في حالة الضرورة (1) يباح للمضطر أن يتناول من مال غيره القدر الذي ينقذ نفسه من الهلاك؛ لأن حرمة مال الغير أخف من حرمة النفس.
انتزاع الملكية للمنفعة العامة لا يباح إلا في هذه الحدود
ومن هذا القبيل انتزاع الملكية للمنفعة العامة. حيث لا يجوز مثل هذا الإجراء شرعًا إلا في هذه الحدود، أي: الحدود الضرورية اللازمة لتحقيق النفع العام، الذي لا يمكن تحقيقه إلا عن هذا الطريق. فلو أمكن الوصول إلى هذه المنفعة العامة دون المساس بحقوق الأفراد , فلا يجوز ذلك مطلقًا؛ لأن الشريعة تحرم المساس بحقوق العباد تحريمًا قاطعًا مؤبدًا. وكما جاء في الحديث الصحيح ((إلى أن تلقوا ربكم))
لكن ماذا نقول إن تعطلت مصالح العباد، وأصبح من المستحيل تحقيق هذه المصلحة أو المصالح إلا عن طريق التضحية بملكية بعض الأفراد تحملًا للضرر الأخف في سبيل تجنب الضرر الأشد المتمثل في تفويت المصلحة العامة للمجتمع في حين أن حق الفرد في ملكيته مضمون بالتعويض المناسب كما سيأتي تفصيله. وأيضًا فإن المبدأ الأول الذي سبق شرحه يأتي دوره هنا. فما دام المال مال الله، فلا يصح أن تعطل المصالح العامة لعباد الله مع مراعاة تعويض الأفراد عما يلحقهم من ضرر. وبهذا يتم التوفيق بين النوعين من الحقوق؛ حقوق الله وحقوق العباد.
هذا ما أردت بيانه في هذا الفصل: تأكيد حق الملكية الثابت شرعا للأفراد , وبيان الصلة بين هذه الملكية وبين المبدأ الثابت شرعًا وعقلًا , وهو أن المال مال الله، وبيان الحدود الضيقة التي يمكن فيها المساس بحق الملكية عملًا بقاعدة تحمل أخف الضررين، ومن هنا كانت إباحة انتزاع الملكية للمنفعة العامة. لكن ما هو المصدر الشرعي لهذا الحكم , أو ما هي ضوابط انتزاع الملكية للمنفعة العامة؟ هذا هو موضوع الفصل الثاني , وبالله تعالى التوفيق.
__________
(1) للتوسع في هذا الموضوع، يراجع: نظرية الضرورة في الفقه الجنائي الإسلامي والقانون الجنائي الوضعي للدكتور يوسف قاسم. طبعة سنة 1401/ 1981 دار النهضة العربية بالقاهرة.(4/686)
الفصل الثاني
ضوابط انتزاع الملكية للمنفعة العامة
البحث في ضوابط انتزاع الملكية للمنفعة العامة يتطلب أن نبحث أولا عن المصدر الشرعي لهذا الحكم , ثم عن تفصيل الضوابط التنفيذية لهذا الإجراء من الناحية العملية , حتى يكون في دائرة المشروعية.
نتناول ذلك في مبحثين متواليين:
المبحث الأول: المصدر الشرعي لإباحة انتزاع الملكية للمنفعة العامة.
المبحث الثاني: الضوابط التنفيذية لهذا الإجراء.(4/687)
المبحث الأول
المصدر الشرعي لانتزاع الملكية للمنفعة العامة
الأصل في إباحة انتزاع الملكية للمنفعة العامة بضوابطها الشرعية هو عمل الصحابة رضوان الله عليهم. وبيان ذلك أنه: " لما استخلف عمر رضي الله عنه , وكثر الناس , وسع المسجد، واشترى دورًا هدمها وزادها فيه , وهدم على قوم من جيران المسجد أبوا أن يبيعوا، ووضع لهم الأثمان حتى أخذوها بعد ذلك , واتخذ للمسجد جدارًا قصيرًا دون القامة , وكانت المصابيح توضع عليه , فلما استخلف عثمان رضي الله عنه , ابتاع منازل , فوسع بها المسجد , وأخذ منازل أقوام , ووضع لهم أثمانها , فضجوا منه عند البيت , فقال: إنما جرأكم علي حلمي عنكم , فقد فعل بكم عمر رضي الله عنه هذا , فأقررتم ورضيتم. وبنى للمسجد الأروقة حين وسعه " (1)
وقد استشهد فقهاء الشريعة على هذا الحكم السابق بعمل، الصحابة رضوان الله عليهم. والاستدلال بعمل الصحابة إنما هو استدلال بالسنة والإجماع اللذين أوجب الله العمل بهما بنص كتابه العزيز. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)) .
وهذا الحكم قام به خليفتان جليلان؛ عمر وعثمان رضي الله عنهما، وهذا العمل من كل منهما على فترات متباعدة بمرأى ومسمع من الصحابة الكرام , هو إجماع منهم رضوان الله عليهم واجب الاتباع دون شك.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي، ص 162 طبعة دار الكتب العلمية ببيروت.(4/688)
وفيما يلي أسوق عبارة ابن عابدين الفقيه الحنفي في هذا الموضوع , حيث يقول: "ولو ضاق المسجد وبجنبه أرض وقف أو حانوت جاز أن يؤخذ ويدخل فيه. زاد في البحر عن الخانية: بأمر القاضي (1) بالقيمة كرها لما روي عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنه لما ضاق المسجد الحرام أخذوا أرضين بكره من أصحابها بالقيمة وزادوا في المسجد الحرام. ولعل الأخذ كرهًا ليس في كل مسجد ضاق، بل الظاهر أن يختص إذا لم يكن في البلد مسجد آخر، إذ لو كان فيه مسجد آخر يمكن دفع الضرورة بالذهاب إليه. نعم فيه حرج , لكن الأخذ كرها أشد حرجًا منه. ويؤيد ذكرنا فعل الصحابة , إذ لا مسجد في مكة سوى المسجد الحرام (2)
وبنفس الحكم قال المالكية (3) والشافعية (4) والحنابلة (5) .
__________
(1) وإني لأسجد لله تعالى شاكرًا. حيث وجدت هذه الجملة القصيرة التي أراحت ضميري , فقد سبق لي أن تعرضت بإيجاز لهذا الموضوع في كتابي (مبادئ الفقه الإسلامي) . وظهر لي حينذاك ضرورة اشتراط عرض الأمر على القضاء لما رأيته من الافتئات على بعض حقوق العباد من غير ضمان , فرأيت أن هذا الشرط يحد من التجاوزات , فلما قرأت هذه العبارة , حمدت الله على واسع فضله.
(2) حاشية ابن عابدين المسماة رد المحتار على الدر المختار جـ4، ص 379 طبعة سنة 1386 هـ.
(3) فقد جاء في مواهب الجليل شرح مختصر خليل للعلامة الحطاب رحمه الله: "يجبر ذو أرض طريقا هدمها نهر، لا ممر للناس إلا فيها، على بيع طريق لهم فيها بثمن يدفعه الإمام من بيت المال " (جـ4، ص 253 طبعة سنة 1329 هـ مطبعة السعادة) .
(4) مختصر المزني هامش كتاب الأم للإمام الشافعي، جـ2، ص 209 طبعة سنة 1386 هـ، حيث جاء في هذا الموضع: "إن الناس مسلطون على أموالهم , ليس لأحد أن يأخذها أو شيئًا منها بغير طيب أنفسهم , إلا في المواضع التي تلزمهم ".
(5) فقد أورد العلامة ابن القيم رحمه الله عبارة مفادها أن الناس مسلطون على أموالهم , ليس لأحد أن يأخذها أو شيئًا منها بغير طيب من أنفسهم , إلا في المواضع التي تلزمهم، الطرق الحكمية، ص 238 - 243.(4/689)
المبحث الثاني
الضوابط التنفيذية لانتزاع الملكية للمنفعة العامة
نقصد بالضوابط التنفيذية الضوابط أو الشروط التي يجب مراعاتها عند اتخاذ هذا الإجراء ضمانًا لحق المالك.
وبناء على القواعد السابقة التي تكلمنا عنها في الفصل السابق , يمكن القول كما أشرنا بأنه يباح شرعًا انتزاع الملكية للمنفعة العامة إذا كانت هذه المنفعة أمرًا ضروريا محتما لا بد منه، وليس هنالك مجال لتحقيقها إلا بالمساس بحق ثابت للأفراد؛ لأن إطلاق مثل هذا الحكم يفتح بابًا كبيرًا من أبواب الشر (1) أمام سلطات الفساد والظلم. ولذلك فإن هذه الإباحة ليست على إطلاقها , وإنما لها ضوابطها وشروطها التي تجعلها في دائرة المشروعية، بحيث تحقق المصلحة العامة للناس، وتحقق في نفس الوقت المصلحة الخاصة أيضًا للفرد الذي انتزعت ملكيته.
وليس هذا جمعًا بين النقيضين , وإنما هو العمل بحكم الشرع الذي أوجب تحقيق المصالح العامة والخاصة، وحتى عند التعارض لا بد من مراعاة هذا الجمع بقدر الإمكان.
وهذا يتمثل - على ما نفهمه من نصوص الشريعة والله أعلم - في الضوابط التالية:
الضابط الأول:
التأكد فعلًا من أن هذا المال المملوك للغير لازم بالضرورة لتحقيق مصالح العباد، وهو الوحيد المتعين لذلك.
__________
(1) نسأل الله السلامة والعافية.(4/690)
وهذا الضابط أو هذا الشرط جوهري إلى أبعد الحدود، فانتزاع الملكية رغما عن إرادة المالك غير جائز أبدًا , اللهم إلا في حالة واحدة. وهي ما إذا تأكد ولي الأمر من ضرورة تحقيق النفع العام عن طريق المساس بملك أحد الأشخاص. وإذن فلابد من توفر هذا الشرط حتى لا تنطلق يد السلطة في أموال العباد بحجة المنفعة العامة , بحيث تنعدم كل الوسائل الأخرى لتحقيق النفع العام إلا عن هذا الطريق.
فإذا كانت هنالك وسيلة أخرى تحقق مصلحة المجتمع بدون المساس بحقوق العباد , فهنا لا يصح أبدًا التعرض لما يملك الناس، حيث يكون هذا التعرض خروجًا على أحكام الله تعالى ومخالفة وعصيانًا لبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بين لنا أن الأموال محرمة إلى أن تقوم الساعة (1)
الضابط الثاني: التعويض العادل:
إذا توفر الضابط الأول وبات من المؤكد أن مصلحة المجتمع لا يمكن أن توجد إلا عن طريق المساس بملك أحد الأفراد , فهنا يتعين على الدولة أن تدفع للمالك قيمة ملكه كاملًا بالتقدير المرضي لصاحب الشأن. الذي ينبغي عليه أن يقبل هذا التعويض نظير التنازل عن ملكه بنفس راضية تحقيقًا لمصلحة المجتمع؛ لأن المال في المبدأ والانتهاء هو مال الله تعالى، وينبغي أن يسخر لخدمة عباد الله. ولذلك فلا يصح لصاحب المال أن يرفض التعويض (2) المعروض عليه من الدولة ما دام كافيًا ومرضيا إذ الرفض في هذه الحالة يعتبر تعنتًا يبيح لولي الأمر انتزاع الملكية رغم إرادة المالك في إطار التعويض الوافي كما قلنا.
__________
(1) مبادئ الفقه الإسلامي: للدكتور يوسف قاسم، ص 299.
(2) والمقصود هنا: الرفض لعدم كفاية التعويض. أما لو تبرع بأرضه لله تعالى دون مقابل ورفض أخذ التعويض ابتغاء وجه الله تعالى , فهذا لا كلام فيه هو الذي ينبغي أن يكون(4/691)
أما إن عرضت الدولة تعويضًا أقل من القيمة الأصلية للشيء المملوك، ورفض المالك التنازل عن ملكه بأن رفضه , هنا يكون مبررًا على أساس ما قد يلحقه من ضرر أو ظلم في تقدير ملكه , فإن انتزعت الدولة الملكية على هذه الصورة يكون عملها ظلما حرمه الله على نفسه , وجعله بين عباده محرمًا. وكفى بالظلم إثما مبينًا يستوجب العذاب في الدنيا والآخرة.
وأبسط صور عذاب الدنيا نزع البركة من المشروع الذي يقوم على الظلم وأكل أموال الناس بالباطل (1)
على أن رحمة الله قريب من المحسنين حيث يرتفع الإثم برفع التعويض إلى حدود القيمة الحقيقية التي ترضي صاحب الشأن (2)
وقد سبق أن تكلمنا في المبحث السابق عن المصدر الشرعي لهذا الحكم وهو عمل الصحابة رضوان الله عليهم بل وإجماعهم على توسعة المسجد الحرام مرتين، الأولى في عهد عمر، والثانية في عهد عثمان رضي الله عنهما.
ملحوظة هامة:
وهنا ينبغي التنبيه إلى بعض العبارات التي وردت على إطلاقها في عبارات الفقهاء , حيث قالوا: مثل المسجد والمقبرة.
وهنا نقول: إن الإطلاق غير مقصود أبدًا، فليس المراد كل مسجد أو كل مقبرة ونحوهما، بل المسجد الذي لا يمكن أن يوجد له بديل أو مكان في منطقة مماثلة. إذ لا نتصور أن تنشأ في قرية أو مدينة عادية ضرورة ملحة في ضم أرض مجاورة إلى مسجد، حيث يمكن إنشاء مسجد آخر في مكان آخر من البلدة دون اعتداء على حقوق العباد. وما هكذا المسجد الحرام في مكة المكرمة ولا المسجد النبوي في المدينة المنورة.
__________
(1) مبادئ الفقه، ص 300.
(2) والخاضعة لتقدير القضاء كما سيأتي.(4/692)
ولهذا فقد كان التعليق من بعض الفقهاء تعليقًا في غاية التوفيق حين قال رحمه الله: "ولعل الأخذ كرهًا ليس في كل مسجد ضاق، بل الظاهر أن يختص بما إذا لم يكن في البلد مسجد آخر، إذ لو كان فيه مسجد آخر لأمكن دفع الضرورة بالذهاب إليه. نعم فيه حرج , لكن الأخذ كرهًا أشد حرجًا منه , ويؤيد ما ذكرنا فعل الصحابة , إذ لا مسجد في مكة سوى المسجد الحرام (1)
والحكم واحد في نظري، والله أعلم، فيما لو تمكن إنشاء مسجد آخر في مكان آخر من البلدة أو القرية وهو يدفع ضرورة التوسع دون حاجة إلى ظلم بعض الأفراد , فالله غني عن العالمين، ولا يتصور أن تتقرب السلطة إلى الله رب العالمين بتوسعة مسجد عادي على حساب عباد الله.
نعم يمكننا أن نضرب مثلًا بالكلية التي تضيق بطلابها فتحتاج إلى مدرج أو إلى معمل آخر بجانب المعمل الأصلي نزولًا على ضرورات التقدم العلمي وليس هنالك مجال إلا إلى الأرض المجاورة المملوكة لأحد الأفراد، حيث لا يمكن نقل الكلية، كما لا يتصور أن تكون الكلية في طرف المدينة وأحد مدرجاتها أو معاملها في الطرف الآخر، في مثل هذه الظروف تكون الإدارة مضطرة إلى توسعة الكلية ولو على حساب مالك الأرض المجاورة الذي له حقه الكامل في التعويض العادل، الذي ينبغي أن يتولى القضاء تقديره على نحو ما نبينه في الفقرة التالية:
__________
(1) من عبارة ابن عابدين المشار إليها في هامش (1) ص 11 من هذا البحث.(4/693)
الضابط الثالث: عرض الأمر على القضاء
ذكرنا تحت الضابط الأول أنه لا بد من التأكد من أن هذا المال المملوك للغير لازم بالضرورة لتحقيق مصالح العباد , وأنه الوحيد المتعين لذلك.
كما ذكرنا الضابط الثاني وهو لزوم التعويض العادل لصاحب الحق وتقدير هذين الأمرين ينبغي أن تقوم به سلطة محايدة حتى تتحقق العدالة الكاملة من هذين الوجهين. والسلطة المحايدة هي من غير شك السلطة القضائية.
لكل ما تقدم أرى - والله أعلم - أنه يجب على ولي الأمر قبل أن يقدم على هذا الإجراء - انتزاع الملكية للمنفعة العامة - أن يعرض الأمر على القضاء لينظر في الأمر من جميع جوانبه وعلى الأخص من الجوانب الثلاثة الآتية.
الأول: مدى أهمية المنفعة العامة المراد تحقيقها للمجتمع. فإذا ثبت أمام القضاء أنها غير ضرورية , فلا يصح التضحية بملك الأفراد، أو انتهاك حقوق العباد من أجل منفعة غير ضرورية.
وقد تكون المنفعة ضرورية , وتثبت أهميتها القصوى , ويثبت لزومها للعباد , ويتأكد القضاء من ذلك. غير أنه لا بد من التأكد من جانب آخر وهو الجانب الثاني.
الجانب الثاني: مدى لزوم ملك الغير لتحقيق المنفعة العامة.
لا يجوز اتخاذ مثل هذا الإجراء حتى عندما يتأكد القضاء من لزوم هذه المنفعة وضرورتها للعباد، إذ قد يثبت ذلك فعلا. ولكن قد تكون هنالك وسائل أخرى لتحقيق هذه المنفعة العامة بدون المساس بحقوق العباد، وهنا يكون انتزاع الملكية محرمًا؛ لأنه غير لازم حيث وجد البديل الذي لا مساس فيه بحق الغير , فيكون هذا الانتزاع ظلما.(4/694)
ولذلك كانت أهمية عرض الأمر على القضاء للتأكد من انتفاء كل البدائل أو كل الوسائل الأخرى، وصار من المتعين تحقيق هذه المنفعة عن طريق هذا المال المملوك لفرد من الأفراد.
فإذا ما ثبت لزوم المنفعة ولزوم ملك الغير لتحقيقها - وهذا كله لا يكون إلا أمام السلطة القضائية - وعند ذلك يجب النظر القضائي في الجانب الثالث.
الجانب الثالث: مدى عدالة التعويض:
ولا شك أن هذا الجانب هو المرحلة النهائية لإحقاق الحق والبعد عن الظلم. وليس هنالك أقدر من السلطة القضائية على تحقيق هذا الجانب الهام؛ لأن ولي الأمر من أعضاء السلطة التنفيذية مهما كان تدينهم وورعهم , إلا أنهم في الحقيقة إنما يحكمون أو يقدرون التعويض على أنفسهم لغيرهم. وهذا مما قد يتنافى مع الحياد الكامل، فكان من الواجب أن تقوم السلطة القضائية بتقدير هذا التعويض من حيث عدالته وجبر كل الأضرار التي قد تمس صاحب الحق من اتخاذ هذا الإجراء , وهو انتزاع الملكية للمنفعة العامة.
وقد سعدت كثيرًا عندما قرأت عبارة ابن عابدين رحمه الله: "زاد في البحر عن الخانية: بأمر القاضي، (1)
وبناء عليه فلم يكن إذن اقتراح أن يعرض الأمر على القضاء مجرد فكر معاصر يخشى من ظلم بعض الجهات واستبدادها بحقوق العباد , وإنما لهذا الشرط أصل فقهي ثبت عن علماء الشريعة رحمهم الله تعالى. مما يدعو إلى زيادة الاطمئنان.
والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أ. د: يوسف محمود قاسم
__________
(1) حاشية ابن عابدين،ج4، ص 379.(4/695)
نزع الملكية الخاصة للمنفعة العامة
إعداد
الدكتور عبد السلام العبادي
ممثل المملكة الأردنية الهاشمية في المجمع
ونائب رئيس المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلامًا عل رسوله الكريم وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين , وبعد:
1- فهذه دراسة مكثفة حول موقف الشريعة الإسلامية من موضوع "نزع الملكية الخاصة للمنفعة العامة (1) أعتمد فيها بصفة أساسية على الدراسة التفصيلية التي كنت قدمتها عن هذا الموضوع وغيره في رسالتي للحصول على الدكتوراة سنة 1392 هـ الموافق سنة 1972م والتي طبعت في ثلاثة أجزاء بعنوان: (الملكية في الشريعة الإسلامية طبيعتها ووظيفتها وقيودها ودراسة مقارنة بالقوانين والنظم الدينية) .
2 - والواقع أن هذا الموضوع على جانب كبير من الأهمية لأسباب عديدة منها:
أ- أنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقضية الملكية والموقف منها وهي أمر اختلفت فيه النظم والقوانين اختلافًا واسعًا.
ب - يتداخل هذا الموضوع في الدراسات المعاصرة مع موضوع التأميم , وهو من التأميم , وهو من القضايا الاقتصادية التي كانت محل اختلاف واسع.
ج - باتت الحاجة ملحة في هذه الأيام للجوء إلى نزع الملكية للمنفعة العامة أمام توسع العناية بالمرافق العامة وضرورة تنظيم المدن ونمو وسائل المواصلات وغيرها.
ونعرض في هذه الدراسة الموجزة لموضوع نزع الملكية للمنفعة العامة من جوانب:
الأول: حرص الشريعة الإسلامية على حماية الملكية الخاصة.
الثاني: التملك القهري ومدى معرفة الشريعة الإسلامية له (حالات نزع الملكية الخاصة في الشريعة) .
__________
(1) نشر مكتبة الأقصى , عمان – الأردن سنة 1394 هـ الموافق 1974 م(4/696)
الثالث: حكم نزع الملكية للمنفعة العامة والضوابط التي قررها الفقهاء لذلك.
أولا: حرص الشريعة الإسلامية على حماية الملكية الخاصة:
أ. اهتمت الشريعة الإسلامية بالملكية الخاصة ووضعت القواعد الكفيلة بحمايتها ومنع الاعتداء عليها لتؤدي دورها الفاعل في المجتمع الإنساني.
والأدلة على مشروعية الملكية الخاصة في الشريعة الإسلامية من الكتاب والسنة النبوية الشريفة كثيرة ومتعددة بما يدل على معارضة الإسلام التامة لإلغاء الملكية (1)
قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2)
وقال سبحانه: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} (3)
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عدد من الصحابة بألفاظ متقاربة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا في شهركم هذا. .)) .
وأخرج مسلم وأحمد وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((:كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) .
__________
(1) انظر في استعراض هذه الأدلة الملكية في الشريعة الإسلامية د. عبد السلام العبادي ج 1 ص 396 – 403
(2) الأنعام: 152.
(3) النساء:7.(4/697)
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة وغيره بألفاظ متقاربة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قالها , فقد عصم مني ماله ودمه ونفسه، إلا بحقه وحسابه على الله)) .
وإن في تحريم الإسلام للسرقة والغصب، وإيجاب رد المال لصاحبه، ومعاقبة السارق بالحد، والغاصب بالتعزير، ما يدل على حماية الإسلام التامة للملكية الخاصة وتحريمها لأي اعتداء عليها. يقول الله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) ويقول صلى الله عليه وسلم، فيما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ متقاربة عن عائشة وأبي هريرة وغيرهما: ((من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين)) . ويقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأصحاب السنن والحاكم وغيرهم عن سمرة بن جندب: ((: على اليد ما أخذت حتى تؤديه)) .
ويقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم ومالك والنسائي وابن ماجه وغيرهم بألفاظ متقاربة , عن عبد الله بن مسعود وأبي أمامة الحارثي: ((: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه , فقد أوجب الله له النار , وحرم عليه الجنة. فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك)) . قالها ثلاث مرات. وعند البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود بلفظ: ((: من حلف يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)) .
__________
(1) المائدة: 38.(4/698)
ويقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو داود وابن حبان والترمذي عن عبد الله بن السائب بن يزيد , عن أبيه , عن جده: ((: لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعبا ولا جادا , ومن أخذ عصا أخيه , فليردها)) .
بل قد قرر الإسلام من قتل وهو يدافع عن ماله فهو شهيد , فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمجاهد فيما أخرجه البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان وابن ماجه وغيرهم: ((: من قتل دون ماله فهو شهيد)) .
وبعد ذكر هذا العدد من الأدلة، نستطيع القول بأن إقرار الإسلام للملكية الخاصة أمر ليس فيه أدنى شبهة أو ريبة، فهو مما يصح أن يقال فيه: إنه مما يعلم من الدين بالضرورة (1)
وقد وضعت الشريعة مبدأ ضمان الأموال المتلفة لأصحابها، ومبدأ تحريم أكل الأموال بالباطل، كما تعددت النصوص التي تقرر أن الأساس في انتقال ملك الإنسان إنما هو رضاه: إما على سبيل التجارة وتبادل الأموال , وإما على سبيل الهبة والإعطاء , ففي كل الأحوال لا بد من الرضا وطيب النفس والاختيار. يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2)
وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} استثناء منقطع، والمعنى: ولكن إذا كانت تجارة عن تراض منكم، فإنها لا تدخل في النهي السابق.
ويقول سبحانه: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (3) فالأساس هو طيب النفس والإعطاء عن طواعية واختيار.
__________
(1) انظر تخريج الأحاديث، المرجع السابق في المواضيع السابقة.
(2) النساء: 29.
(3) النساء: 4.(4/699)
وأخرج البيهقي وابن ماجه وابن حبان عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما البيع عن تراض)) . وفي زوائد ابن ماجه للبوصيري (إسناده صحيح ورجاله موثقون، ورواه ابن حبان في صحيحه) وهو عند البيهقي بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ألفين الله عز وجل من قبل أن أعطي أحدا من مال أحد شيئا بغير طيب نفسه، إنما البيع عن تراض)) (1)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي والدارقطني والبزار وابن حبان بألفاظ متقاربة , عن أبي حميد الساعدي وابن عباس وابن عمر وأبي حرة الرقاشي وغيرهم: ((: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) . (2)
وقد نص الفقهاء على أن التملك القهري خلاف مقتضى الملك. . (3) ، ويقول صديق حسن خان في كتابه إكليل الكرامة: (وقد ثبت بالقطع الذي لا يخالف فيه مسلم أن أصل أموال العباد التحريم، وأن المالك للشيء مسلط عليه يحكم فيه، ليس لغيره فيه إقدام ولا إحجام إلا بدليل يدل على ذلك كالحقوق الواجبة في الأموال. . فمن ادعى أنه يحل له أخذ مال أحد من عباد الله ليضعه في طريق من طرق الخير وفي سبيل من سبل الرشد , لم يقبل منه إلا بدليل يدل على ذلك بخصوصه ولا يفيده أنه يريد وضعه في موضع حسن، وصرفه في مصرف صالح، فإن ذلك ليس إليه بعد أن صار المال ملكًا لمالكه، وهذا لا يخفى على أحد ممن له أدنى علم بهذه الشريعة المطهرة، وبما ورد في الكتاب والسنة) (4) .
__________
(1) سنن البيهقي جـ 6 ص 17، الفتح الكبير: جـ 1 ص 435، سنن ابن ماجة: جـ 2 ص 737.
(2) سنن البيهقي: جـ6 ص 97 - 10، جـ9 ص 358، مجمع الزوائد: ج4 ص 171، الزواجر لابن حجر: جـ1 ص 212، سبل السلام - الطبعة المنيرية: جـ3 ص 82، الفتح الكبير: جـ3 ص 359 سنن الدارقطنى: جـ1 ص 26.
(3) طريقة الخلاف القاضي حسين: و200 ب.
(4) إكليل الكرامة: ص 198.(4/700)
وقال الشافعي: (لا يزول ملك المالك إلا أن يشاء، ولا يملك رجل شيئًا إلا أن يشاء إلا في الميراث. . قال الله عز وجل: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) فلم أعلم أحدًا من المسلمين خالف في أنه لا يكون عل أحد أن يملك شيئًا إلا أن يشاء أن يملكه إلا الميراث، فإن الله عز وجل نقل ملك الأحياء إذا ماتوا إلى من ورثهم إياه شاؤوا أو أبوا ألا ترى أن الرجل لو أوصي له، أو وهب له أو تصدق عليه، أو ملك شيئًا لم يكن عليه أن يملكه إلا أن يشاء.
(ولم أعلم أحدًا من المسلمين اختلفوا في أن لا يخرج ملك المالك المسلم من يديه إلا بإخراجه إياه هو نفسه، ببيع أو هبة أو غير ذلك، أو عتق أو دين في ذمة , فيباع في ماله، وكل هذا فعله , لا فعل غيره) (3)
ويقول صاحب إكليل الكرامة: "وسأضرب لك ههنا مثلًا يزيدك فائدة ويوضح لك ما ذكرناه، وهو أن رجلًا لو كان له مال كثير، وقد أخرج زكاته الواجبة عليه، وفعل ما يجب عليه، فقال من له سلطان: لا عذر لهذا الرجل الغني الكثير المال من إخراج بعض ماله يصرف في فقراء المسلمين، وفي محاويج العباد. . مستدلا على ذلك بما تقدم من الآيات التي ذكر فيها الأمر بالإنفاق، والترغيب فيه، قائلًا: هذا الإنفاق من جملة ما يدخل تحت هذه الآيات، وتصدق عليه (4) ثم تسأل: هل هذا الذي فعله وأمر به صواب أم خطأ وظلم وتصرف في مال غيره بما لم يأذن الله به؟ ثم قرر إجابة على هذا السؤال أن تصويب فعله مخالفة لإجماع المسلمين وتجويز لما لم يجوزه أحد من سلف هذه الأمة وخلفها.
وواضح أن في هذا الكلام ردا على ما أخذنا نسمعه في هذه الأيام من تبرير لنزع أموال الناس بدون حق أنها ستنفق في مصالح الأمة، مع أنه ليس في هذا التصرف إلا الإضرار بالناس، وضياع أموالهم وحقوقهم وفساد أحوالهم العامة والخاصة.
__________
(1) النساء: 29.
(2) البقرة: 275
(3) الأم: جـ3 ص 218 - 219.
(4) إكليل الكرامة: ص 118.(4/701)
هذا وقد أنيط بقضاء المظالم مراقبة الولاة والعمال لمنعهم من أن يجوروا على الناس ويغصبوا أموالهم ويعتدوا على حقوقهم , وقد أوضح الفقهاء ذلك عند حديثهم عن قضاء المظالم وما يناط به من وظائف خاصة ما يتعلق بإعادة الأموال المغصوبة عن هذا الطريق لأصحابها، فالماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) يبين الأمور التي يختص بالنظر فيها والي المظالم، ويذكر منها:
1 - جور العمال فيما يجبونه من الأموال وأساس معرفة ذلك كما يقرر الماوردي القوانين العادلة في دواوين الأئمة فيحمل والي المظالم الناس عليها , ويأخذ العمال بها , وينظر فيما استزادوه عما هو مطلوب من الناس، فإن رفعوه إلى بيت المال , أمر برده , وإن أخذوه لأنفسهم استرجعه لأربابه (1) وذكر الماوردي أن هذا الأمر من جملة ما يختص به والي المظالم ولو لم يتظلم منه أحد.
2 - رد الغصوب، وقد بين أنها ضربان:
الضرب الأول: غصوب سلطانية قد تغلب عليها ولاة الجور، كالأملاك المقبوضة عن أربابها، إما لرغبة فيها , وإما لتعد على أهلها، فهذا إن علم به والي المظالم عند تصفح الأمور , أمر برده قبل التظلم، وإن لم يعلم به , فهو موقوف على تظلم أربابه.
الضرب الثاني: ما تغلب عليها ذوو الأيدي القوية، وتصرفوا فيه تصرف الملاك بالقهر والغلبة , فهذا موقوف على تظلم أربابه، ولا ينزع من يد غاصبه إلا بأحد أمور أربعة:
الأول: اعتراف الغاصب وإقراره.
الثاني: علم والي المظالم , فيجوز له أن يحكم على الغاصب بعلمه.
الثالث: بينة تشهد على الغاصب بغصبه , أو تشهد على المغصوب منه بملكه.
الرابع: تظاهر الأخبار الذي ينفي عنها التواطؤ (2)
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي، ص 80.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي: ص 81 - 82 وانظر الأحكام السلطانية - أبو يعلى/ ص 76 - 78.(4/702)
ويظهر من كلام الماوردي وغيره من الفقهاء في هذا المجال أن قضاء المظالم يملك سلطات واسعة في مراقبة سلوك الحكام وأصحاب الجاه والنفوذ في تعاملهم مع الرعية، وذلك من أجل حمايتهم من كل أنواع الظلم وصنوف العدوان. هذا وقد بين الدكتور عبد الحميد الرفاعي في محاضراته في الحقوق الإدارية أن قضاء المظالم قد سبق بأشواط ما عليه القضاء الإداري اليوم في مراقبة تصرفات الدولة وذوي الجاه والسلطان: إن في تنظيماته، أو اختصاصاته أو أقضيته (1)
وقد تعرض الغزالي في كتابه (شفاء الغليل) إلى أنه لا يجوز للإمام مصادرة أموال المسرفين، ووضعها في بيت المال، وأوضح أن هذه المسألة لا يمكن أن تقاس على مسألة جواز توظيف ضرائب جديدة على أموال الناس إذا توافرت شروط جوازه، فقال: (فإن قال قائل:إذا رأى الإمام جمعا من الأغنياء يسرفون في الأموال ويبذرون ويصرفونها إلى وجوه من الترفه والتنعم وضروب من الفساد، فلو رأى المصلحة في معاقبتهم بأخذ شيء من أموالهم، ورده إلى بيت المال , وصرفه إلى وجوه المصالح، فهل له ذلك؟
(قلنا: لا وجه له، فإن ذلك عقوبة بتنقيص الملك وأخذ المال، والشرع لم يشرع المصادرة في الأموال عقوبة على جناية، مع كثرة الجنايات والعقوبات، وهذا إبداع أمر غريب لا عهد به، وليست المصلحة فيه متعينة، فإن العقوبات والتعزيرات مشروعة بإزاء الجنايات , وفيها تمام الزجر , فأما المعاقبة بالمصادرة , فليس من الشرع، وليس هذا كالمثال السابق - يقصد جواز توظيف ضرائب جديدة على أصحاب الأموال، فإن الأموال مأخوذة بطريق إيجاب الإنفاق منهم على جند الإسلام، لحماية مصلحة الدين والدنيا , لا بطريق العقاب ... ومسالك الإنفاق والإرفاق مقيدة من الشرع، أما المعاقبة بالمصادرة , فليس مشروعًا , والزجر حاصل بالطرق المشروعة , فلا يعدل عنها مع مكان الوقوف عليها.
ثم قال: فإنه قيل: روي أن عمر رضي الله عنه شاطر خالد بن الوليد على ماله حتى أخذ رسوله فردة نعله، وشطر عمامته.
__________
(1) انظر محاضرات في الحقوق الإدارية - د. عبد الحميد الرفاعي: ص 34 - 35.(4/703)
(قلنا: والمظنون بعمر رضي الله عنه أنه لم يبدع العقاب بأخذ المال على خلاف المألوف من الشرع، وإنما ذلك لعلمه باختلاط ماله بالأموال المستفادة من الولاية , فلعله خمن الأمر فرأى شطر ماله من فوائد الولاية وثمراتها، فيكون ذلك كالاسترجاع للحق بالرد إلى نصابه , فأما أخذ المال المستخلص للرجل عقابًا على جناية , شرع الشرع فيها عقوبات سوى أخذ المال , فهو مصلحة غريبة لا تلائم قواعد الشرع , وقد ذهب إلى تجويز ذلك ذاهبون، ولا وجه له) (1)
ثم إن العلماء قد بينوا أن مصادرة الأموال، وتقييد حرية الناس في الاكتساب والتحصيل يقتل روح العمل، ويؤدي إلى تكاسل الناس، وعدم انطلاقهم إلى الإبداع والإنتاج، ومن ثم تأخر المجتمع، واختلال أحواله، وفساد أوضاعه , وقد عقد ابن خلدون في مقدمته فصلًا في أن الظلم مؤذن بخراب العمران، أوضح فيه خطورة التعدي على أموال الناس، وآثاره على الأفراد والجماعات، بتحليل رائع وبيان مشرق , فليراجع هناك.
ثانيًا: أجازت الشريعة الإسلامية نزع الملكية الفردية من صاحبها في صور متعددة عندما تدعو الضرورة إليه، وذاك إما مراعاة لمصلحة فردية أخرى أولى بالاعتبار من مصلحة المالك، وإما مراعاة لمصلحة عامة (2)
أولًا: الصور التي أجازت الشريعة فيها نزع الملكية مراعاة لمصلحة فردية أخرى أولى بالاعتبار من مصلحة المالك
__________
(1) انظر شفاء الغليل: ص 343 - 345 وانظر مباحث التعليل - الكبيسي: ص 133.
(2) أحكام المعاملات الشرعية - الشيخ علي الخفيف: ص 106 - 109، المعاملات الشرعية المالية، أحمد إبراهيم: ص 72 - 73، الملكية ونظرية العقد - أبو زهرة، ص 143 - 145 الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي، د. النبهان ص 187 - 189.(4/704)
قد تتعارض المصالح الخاصة ببعضها مع بعض , فتقدم الشريعة أولى المصلحتين بالاعتبار , وانطلاقًا من هذا المبدأ , أجازت الشريعة نزع الملكية الفردية مراعاة لمصلحة فردية جديرة بالعناية والاعتبار، وذلك في صور متعددة منها:
أ- الشفعة
الشفعة صورة من صور نزع الملكية جبرًا على صاحبها، رعاية لمصلحة فردية أخرى أولى من مصلحة المالك.
وقد اختلفت تعريفات الفقهاء للشفعة نتيجة اختلاف مذاهبهم فيها:
فعرفها المالكية بأنها: استحقاق شريك أخذ مبيع شريكه بثمنه، أو هي طلب الشريك بحق أخذ مبيع شريكه بثمنه (1)
وعرفها الحنفية بأنها: تملك البقعة جبرًا بما قام على المشتري بالشركة والجوار (2)
وعرفها الشافعية بأنها: تملك قهري يثبت للشريك القديم على الشريك الحادث فيما ملك بعوض (3)
وعرفها الحنابلة بأنها: استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه من يد من انتقلت إليه إن كان مثله أو دونه بعوض مالي بثمنه الذي استقر عليه العقد (4)
ويلاحظ هنا أن تعاريف المالكية والشافعية والحنبلية تعاريف متقاربة، لاتفاق مذاهبهم في سبب الشفعة , أما تعريف الحنفية فيختلف؛ لأنهم يخالفون في سبب الشفعة كما يظهر في الفقرة التالية:
__________
(1) شرح حدود ابن عرفة: ص356.
(2) التعريفات – الجرجاني، ص 112 وانظر عقود الجواهر المنيفة: جـ2 ص88
(3) حاشية الباجوري: جـ2 ص15 حاشية قليوبي: جـ3 ص 42.
(4) كشاف القناع: جـ2 ص375(4/705)
وقد تعددت مذاهب الفقهاء في الشفعة واختلفوا فيها على عدة أمور أهمها:
أولًا: مدى الأخذ بالشفعة:
أ- فذهب أبو بكر الأصم وابن علية إلى عدم ثبوت الشفعة بحال. ونقل هذا عن جابر بن زيد من التابعين.
ب - وذهب جمهور الفقهاء (الشافعية والمالكية والحنبلية والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور (إلى ثبوت الشفعة للشريك في الملك فقط. وذلك فيما يقبل القسمة.
ج - وذهب الحنفية والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة إلى ثبوتها للشريك في الملك ثم للشريك في حقوقه ثم للجار الملاصق.
د - وذهب فقهاء البصرة وعبد الله العنبري إلى ثبوتها بالشركة في الملك، ثم بالشركة في حقوقه , والواقع أن سبب ثبوت الشفعة هو الاتصال بين العقار المبيع وعقار الشفيع. والفقهاء متفقون على ذلك، ولكنهم مختلفون في شموله لكل صور الاتصال، أم أنه قاصر على بعضها. .
وصور الاتصال ثلاث:
1- اتصال شركة على الشيوع بين العقارين.
2 - اتصال شركة في حقوق الارتفاق.
3 - اتصال مجاورة.
وقد رجح ابن القيم ثبوتها بالجوار , بالإضافة إلى ثبوتها بشركة الملك، وذلك إذا كان بين الجارين حق مشترك من حقوق الأملاك، من طريق أو ماء أو نحو ذلك، وإذا لم يكن بينهما حق مشترك البتة، فلا شفعة (1) .
__________
(1) إعلام الموقعين: جـ2 ص 130 - 131.(4/706)
وقال: (والقياس الصحيح يقتضي هذا القول، فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك، والضرر الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب إليه , ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشترى) (1)
ثانيًا: فيما تثبت فيه الشفعة من الأشياء:
أ- ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الشفعة تثبت في العقار، ولا تثبت في غيره.
ب - وذهب الظاهرية، وفي رواية عن الإمام أحمد. . إلى ثبوتها في كل شيء، سواء كان عقارًا أم منقولًا , وقد رجح هذا المذهب ابن القيم (2) والشيخ إبراهيم الدسوقي الشهاوي (3)
ثالثًا: نوعية الضرر المراد دفعه بها:
اتفق الفقهاء على أن الشفعة قد شرعت لدفع الضرر عن الشفيع، واختلفوا في نوعية هذا الضرر:
أ- فذهب جمهور الفقهاء إلى أن الضرر المراد دفعه هو ضرر مؤنة القسمة، من الكلفة ودفع أجرة القسام، والضيق في المنزل، واستحداث المرافق في حصته بعد القسمة.
ب - وذهب الحنفية إلى أن الضرر الذي قصد الشارع دفعه هو ضرر سوء الجوار، والشركة في العقار والأرض، فالجار قد يسيء الجوار، ويؤذي جاره بأنواع مختلفة من الأذى، لذلك رتب الشارع حقوقا كثيرة بين الجيران , فهي قد وجبت لدفع الضرر وسوء العشرة الدائم الذي قد يلحق الشفيع من المشتري (4)
__________
(1) إعلام الموقعين: جـ2 ص 131 - 132.
(2) إعلام الموقعين:ج2 ص 121، 123 - 124.
(3) المذاهب الفقهية في الرهن والشفعة: ص 63.
(4) انظر في مذاهب العلماء في الشفعة وأدلتهم: المراجع والمصادر المشار إليها في الملكية في الشريعة الإسلامية جزء (2) ص 171.(4/707)
وقد استدل الذين خالفوا في مشروعية الشفعة بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) وبقوله صلى الله عليه وسلم ((: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) (2) . ورد هذا الاستدلال بأن الشفعة قد ثبتت بعدد كبير من الأحاديث النبوية، فلا مجال للاجتهاد والقول بالرأي أمام النصوص الثابتة.
وقد رفض السرخسي في المبسوط مجرد القول بأن الشفعة ثابتة على خلاف القياس، فقال: (وزعم بعض أصحابنا رحمهم الله أن القياس يأبى ثبوت حق الشفعة؛ لأنه يتملك على المشتري ملكا صحيحًا له بغير رضاه، وذلك لا يجوز، فإنه نوع من الأكل بالباطل، وتأيد هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) . ولأنه بالأخذ يدفع الضرر عن نفسه على وجه يلحق الضرر بالمشتري في إبطال ملكه عليه، وليس لأحد أن يدفع الضرر عن نفسه بالإضرار بغيره , ولكننا نقول: تركنا هذا القياس بالأخبار المشهورة في الباب.
(والأصح أن نقول: إن الشفعة أصل في الشرع، فلا يجوز أن يقال: إنه مستحسن من القياس، بل هو ثابت، وقد دلت على ثبوته الأحاديث المشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضوان الله عليهم (3) . وبين ابن القيم في (إعلام الموقعين) أن مشروعية الشفعة أصل من الأصول المقررة في الشريعة، فقال: (من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد ورودها بالشفعة، ولا يليق بها غير ذلك، فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن، فإن لم يكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقاه على حاله، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به , ولما كانت الشركة تنشئ الضرر في الغالب، فإن الخلطاء يكثر فيهم بغي بعضهم على بعض، شرع الله سبحانه وتعالى رفع هذا بالقسمة تارة، وانفراد كل من الشريكين بنصيبه. وبالشفعة تارة، وانفراد أحد الشريكين بالجملة، فإذا لم يكن على الآخر ضرر في ذلك، فإذا أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه , كان شريكه أحق بدفع العوض من الأجنبي.
__________
(1) النساء: 29.
(2) في تخريجه: انظر القسم الثاني من الملكية: ص 167.
(3) المبسوط: جـ 14 ص 90 وقارن الملكية ونظرية العقد لأبي زهرة: ص 145، حيث بين أن الفقهاء قد قرروا أن الشفعة تثبت على خلاف الأصل والقياس.(4/708)
ويزول عنه ضرر الشركة، ولا يتضرر البائع، لأنه يصل إلى حقه من الثمن، وكان هذا أعظم العدل، وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد. ومن هنا يعلم أن التحيل لإسقاط الشفعة مناقض لهذا المعنى الذي قصده الشارع ومضاد له) (1)
قال في مكان آخر: (قال المنبثق للشفعة: إنما كان الأصل عدم انتزاع ملك الإنسان منه إلا برضاه , لما فيه من الظلم له والإضرار به. فأما ما لا يتضمن ظلما ولا إضرارًا، بل مصلحة له بإعطائه الثمن، فلشريكه دفع ضرر الشركة عنه. . فليس الأصل عدمه، بل هو مقتضى أصول الشريعة، فإن أصول الشريعة توجب المعاوضة للحاجة والمصلحة الراجحة، وإن لم يرض صاحب المال. وترك معاوضته هنا لشريكه مع كونه قاصدا للبيع ظلم منه وإضرار بشريكه، فلا يمكنه الشارع منه , بل من تأمل مصادر الشريعة ومواردها تبين له أن الشارع لا يمكن هذا الشريك من نقل نصيبه إلى غير شريكه، وأن يلحق به الضرر مثل ما كان عليه، أو أزيد منه، مع أنه لا مصلحه له في ذلك (2)
ويقول الأستاذ الشيخ إبراهيم الشهاوي: (فحرية الحصول على الأموال والتعاقد عليه ليست مطلقة، بل هي مقيدة بقيود تمنع الضرر بالغير، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) . على أنه لا ضرر في الأخذ بالشفعة على الأجنبي؛ لأنه سيحصل على ما دفعه ثمنًا لما اشتراه , وكل ما في الأمر أن الصفقة أخذت منه، فحاله بعد أخذ الصفقة هوحاله قبل أخذها.
(ولو سلمنا أن في أخذها منه ضررًا، فإن ضرر الشفيع أعظم بالتضييق عليه والظهور على عوراته , ورفع أعظم الضررين واجب، ولذلك جاءت الأحاديث متضافرة على ثبوت الشفعة، وأنها حق للشريك أو الجار إذا طلبها , فكانت مخصصة للعموم في حديث: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه)) (3) وهكذا يظهر أن الشفعة قيد يحد من حرية المالك في نقل أمواله عنه قررته الشريعة , لما يترتب عليه من مصالح معتبرة، وفي ذلك توضيح؛ لأن أصول الشريعة توجب المعاوضة للحاجة أو المصلحة الراجحة، وإن لم يرض صاحب المال. كما ذكر ابن القيم في قوله السابق.
ب - الحجر على المدين وبيع أمواله جبرًا عنه وفاء لديونه:
__________
(1) إعلام الموقعين: جـ2 ص 120.
(2) إعلام الموقعين: ج1 ص 123.
(3) المذاهب الفقهية والشفعة: في الرهن ص 11.(4/709)
قد تستغرق الديون أموال المدين وتحيط به، ويصبح الدائنون مهددين بضياع ديونهم إذا قام المدين بالتصرف في أمواله تصرفًا يضر بهم , فهل يجب على الحاكم الحجر عليه ومنعه من التصرف إذا طلب الدائنون ذلك حفظًا لديونهم؟ وهل له أن يبيع أمواله إذا امتنع عن بيعها ليسدد ديونه ويقسمها بين غرمائه بالحصص؟ اختلف الفقهاء في ذلك (1)
1- فذهب جمهور الفقهاء (المالكية، والشافعية، والحنبلية، وأبو يوسف ومحمد من الحنفية) إلى وجوب ذلك على الحاكم إذا كانت الديون مستغرقة لأموال المدين، وطلب غرماؤه الحجر عليه. وأما بيع أموال المدين الممتنع عن السداد، فللحاكم ذلك، سواء أكانت الديون مستغرقة لأموال المدين، أم لم تكن مستغرقة لها.
2 - وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يحجر على المدين بحال، كما أنه لا يجوز أن يبيع الحاكم أمواله عليه لوفاء ديونه، بل يحبسه حتى يقضي ديونه , فلا يجوز عنده بيع المال على حر رشيد. ولست هنا بصدد الحديث عن تفصيلات الحجر على المدين، إنما يهمني الإشارة إلى نقطتين:
الأولى: أن الشريعة أجازت الحجر على المدين لمنعه من التصرف في أمواله حفظًا لحق دائنيه , وعلى خلاف بين الفقهاء.
الثانية: أن الشريعة أجازت نزع مال المدين، وبيعه عليه لسداد ديونه على خلاف بين الفقهاء (2) هذا وقد استدل أبو حنيفة لما ذهب إليه بعدد من الأدلة منها:
__________
(1) انظر في مراجع ذلك ومصادره الملكية في الشريعة الإسلامية جـ2 ص 173.
(2) المذاهب الفقهية والقوانين الوضعية متفقة على وجوب ترك قدر معين من المال للمدين لتستمر به حياته على خلاف بينها في مقداره، انظر المقارنات والمقابلات: ص 81 - 84.(4/710)
ا - أن المالك حر في أمواله لا يجوز التعرض له فيها بحال، يدل على هذا المعنى آيات وأحاديث متعددة منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1) فالآية الكريمة تقرر أن أساس البيوع هو التراضي، وهو لا يوجد قطعًا عند بيع الحاكم مال المدين جبرًا عنه، فلا يكون ذلك لا أكلًا للأموال بالباطل كما هو نص الآية. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) (2)
2 - ثم إن المدين مطالب بالوفاء، ولا يتعين البيع سبيلًا للوفاء , فقد يرزق مالا آخر يسدد به دينه. نعم للحاكم إجباره على الوفاء بحبسه والتضييق عليه، والحبس هو الثابت المتفق عليه، فلا يصح تجاوزه إلى غيره.
فأبو حنيفة يتمسك بالحرية التامة للمالك، ويرفض أية قيود عليها، ولو كانت لمصلحة المالك نفسه؛ لأن المالك أدرى بمصلحته , ثم الضرر الذي يصاب به عنده بإهدار أمواله، وعدم اعتبار تصرفاته أكبر بكثير من الضرر الذي يصيبه إذا خسر ماله، أو بعض ماله.
وقياس هذا الكلام يتطلب القول بأن الحاكم لا يجوز له أن يحبس المدين أيضًا لجبره على الوفاء بديونه؛ لأن الحبس فيه إضرار بشخص المدين وكرامته , فلا يستقيم كلام أبي حنيفة حجة لمنع الحجر على المدين، ومنع بيع أمواله، ما دام أن أبا حنيفة قد قال بالحبس (3)
والواقع أن للجمهور أدلتهم القوية على ما ذهبوا إليه , منها:
1- ما أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وغيرهم بألفاظ متقاربة عن أبي سعيد الخدري وغيره قال: ((أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه. فتصدق الناس عليه , فلم يبلغ ذلك وفاء دينه , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: خذوا ما وجدتم , وليس لكم إلا ذلك ")) (4)
__________
(1) النساء: 29.
(2) في تخريجه: انظر القسم الثاني من الملكية ص 167.
(3) انظر أبو حنيفة لأبي زهرة: ص 408 - 409.
(4) الذخيرة: جـ7 ص193 - 194. وانظر تخريج الحديث الملكية ص 175 - 176.(4/711)
ولم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلع ماله لهم، ولم يحبسه
2 - وكان رجل من جهينة زمن عمر بن الخطاب يشتري الرواحل , فيغلي بها. ثم يسرع السير , فيسبق الحجاج , فأفلس. فخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه , فقال: (يا أيها الناس، إياكم والدين، فإن أوله هم , وآخره حزن، وإن أسيفع جهينة (1) قد رضي من دينه وأمانته أن يقال: سبق الحاج. فأدان معرضًا , فأصبح وقد دين به , ألا إني بائع عليه ماله , فقاسم ثمنه بين غرمائه بالحصص , فمن كان عليه دين فليفد) . ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فكان هذا اتفاقًا منهم على أنه يباع مال المديون عليه (2)
3 - ثم إن مصلحة الناس تتحقق بالحجر عليه، لأنه لو نفذت تصرفاته وإقراراته لكان في ذلك إضاعة لحقوق الدائنين، لأنه قد يلجأ إلى تهريب أمواله بالبيع الصوري، ويهبها لأقربائه , فيجب الاحتياط لحفظ الأموال، خاصة وهو ظالم بالامتناع عن تسديد ديونه.
__________
(1) وأسيفع: اسم رجل، وهو تصغير الأسفع، وجهينة: قبيلة. المبسوط للسرخسي: 24، 164 غلب بالدين طلبة الطلبة: ص 142 - 143. انظر الحاوي للماوردي: جـ7 و13 الذخيرة جـ7 ص 163 - 194، الإشراف على مسائل الخلاف: ب2 ص11 , وانظر هذا الأثر بألفاظ مقاربة في الموطأ لشرح الزرقاني: جـ4 ص 75 - 76، جواهر العقود للسيوطي جـ1ص 162.
(2) اللؤلؤ والمرجان: جـ2 ص 147، صحيح مسلم بشرح النووي: جـ 0 1 ص 227 - 228، سبل السلام جـ2 ص 83.(4/712)
كما أن في إعطاء هذا الحق للقاضي تشجيعًا للناس على التعامل دون خوف من ضياع حقوقهم وأموالهم، إذا استغرقت الديون أموال المدينين , ثم والامتناع عن سداد الديون ظلم يجب رفعه، وللحاكم ولاية ذلك ببيع ماله عليه. . فعن أبي هريرة رضي الله عنه، فيما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء , فليتبع)) (1) وعن عمرو بن الرشيد عن أبيه فيما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته))
ونشير هنا إلى أن القوانين الوضعية قد نصت على أنه إذا أفلس التاجر وجب إعلان إفلاسه والحجر عليه، وبيع ماله في ديونه (2) ويلاحظ على قواعد إعلان الإفلاس في هذه القوانين أن فيها تشهيرا بالمدين المفلس بصرف النظر عن أسباب إفلاسه , بدل مساعدته والأخذ بيده.
ومن المعلوم أن الشريعة الإسلامية قد قررت رصد جزء من ميزانية الزكاة لمساعدة الغارمين، وهم المدينون في غير معصية، كما رغبت في إنظار المعسر حتى يوسر. قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (3)
جـ - صور أخرى:
وهنالك صور أخرى نص فيها الفقهاء على نزع الملكية، مراعاة لمصلحة خاصة جديرة بالاعتبار (4) ومنها:
__________
(1) وهذا الحديث علقه البخاري. البخاري بشرحه - فتح الباري طبعة الحلبي جـ6 ص 459 سنن ابن ماجه جـ2 ص 811 المستدرك: جـ4 ص 102، حيث صححه الحاكم , ووافقه الذهبى، سنن البيهقي جـ6 ص 51، تلخيص الحبير: جـ3 ص 29.
(2) انظر المقارنات والمقابلات جـ3 ص 81.
(3) البقرة: 279.
(4) بل نص الفقهاء على أنه إذا امتنع من الإنفاق على بهائمه , فإنه يجبر على الإنفاق أو البيع، كذا أطلق كثير من الحنابلة. وقال ابن الزاغوني: إن أبى باع الحاكم عليه. انظر قواعد ابن رجب ص 22.(4/713)
1) إذا امتنع الراهن من بيع الرهن، فإن الحاكم يجبره عليه ويحبسه , فإذا هو أصر باع عليه، وبعض الحنابلة يقولون: الحاكم مخير: إن شاء أجبره على البيع، وإن شاء باع عليه , وهو المجزوم به في المغني (1)
2) وذكر ابن رجب في قواعده التالية: (من اتصل ملكه بملك غيره متميزًا عنه، وهو تابع له ولم يمكن فصله منه بدون ضرر يلحقه، وفي إبقائه على الشركة ضرر، ولم يفصله مالكه، فلمالك الأصل أن يتملكه بالقيمة من مالكه، ويجبر المالك على القبول , وإن كان يمكن فصله بدون ضرر يلحق مالك الأصل، فالمشهورأنه ليس له تملكه قهرًا: لزوال ضرره الفصل) ثم ذكر عددًا من المسائل التي تتخرج على هذه القاعدة (2)
3) وجاء في تبصرة الحكام: (الأشياء التي تنقسم أو في قسمتها ضرر , يجوز أن يجبر على البيع من أباه إذا طلب البيع أحدهما. وإنما جبر على البيع من أباه، دفعًا للضرر اللاحق بالطالب؛ لأنه إذا باع نصيبه مفردا نقص ثمنه (3) وواضح من هذا النص أنه يقرر مبدأ البيع الجبري لإزالة الشيوع في الأموال غير القابلة للقسمة أو التي في قسمتها ضرر، إذا طلب أحد الشركاء ذلك (4)
4) وجاء في الأحكام لابن حزم (يؤخذ الملك من مالكه كرهًا فيما لزمه من نفقة زوجه التي هي لعلها أغنى منه وأقدر على المال، وفي أشياء كثيرة من أروض ما أتلف، بخطأ , وبغير قصد، وبقصد (5) . وسيأتي في مبحث الوظيفة العائلية للملكية أن نفقة القريب المعسر تؤخذ كرها إذا امتنع القريب الموسر عن دفعها.
ثانيًا: الصور التي أجازت الشريعة فيها نزع الملكية مراعاة لمصلحة عامة: قررت الشريعة مبدأ تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، فيما إذا تعارضت المصلحتان ولم يمكن التوفيق بينهما. . لذلك أجازت الشريعة نزع الملكية الخاصة مراعاة لمصلحة عامة في صور كثيرة منها:
__________
(1) قواعد ابن رجب: ص 32.
(2) قواعد ابن رجب: ص 174 -150.
(3) تبصرة الحكام: جـ2 ص 216.
(4) قارن المدخل الفقهي العام - الطبعة الثامنة -: ص 283 - 285.
(5) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: ج1 ص 48.(4/714)
أ- بيع الطعام المحتكر جبرًا عن صاحبه عند الحاجة إليه. وقد سبق ذكر نصوص الفقهاء في ذلك (1)
ب - استملاك الأراضي المجاورة للمسجد جبرًا عن صاحبها، إذا ضاق المسجد بالناس (2)
جـ- استملاك الأراضي المجاورة للطرق العامة جبرًا عن أصحابها إذا احتاج الناس إليها (3)
هذا وقد نصت المادة (1216) من مجلة الأحكام العدلية على ما يلي: لدى الحاجة يؤخذ ملك كائن من كان بالقيمة بأمر السلطان ويلحق بالطريق، ولكن لا يؤخذ من يده ما لم يؤد له الثمن (4)
وقال في شرح المنهج المنتخب: (إذا اجتمع ضرران أسقط الأكبر الأصغر، ومن ثم يجبر المحتكر على البيع، وجار المسجد إذا ضاق، وجار الطريق والساقية إذا أفسدهما السيل (5)
د - ويظهر عند الحديث عن الوظيفة الاجتماعية للملكية أن الحقوق التي تجب في المال كالزكاة، للحاكم أخذها من المالك إذا امتنع عن دفعها رغما عنه.
__________
(1) انظر القسم الثاني من الملكية: ص 148 - 149
(2) البهجة شرح التحفة: ج 2 ص 76، شرح المجلة - الأتاسي: ج 4 ص 158، المدخل الفقهي الزرقاء م1 ص 227، الذخيرة:ج6 ص 33، الدين الخالص: جـ3 ص 250- 251
(3) البهجة شرح التحفة: جـ2 ص 76 وجاء في المقارنات التشريعية جـ1 ص386: يؤخذ ملك الفرد، وإن كان حرمًا محرمًا لمنفعة الجماعة، ولا يجيز أحد على (إخراج ملكه ببيع أو هبة) أو أي تصرف إلا لسعة مسجد أو مقبرة أو طريق أو شق مجرى ماء أو نحو ذلك من المصالح العامة مع وجوب دفع التعويض عن ملكه من بيت المال.
(4) انظر في نصوص الحنفية بهذا الصدد شرح المجلة - الأتاسي: جـ4 ص 158.
(5) شرح المنهج: و188 ب.(4/715)
هذا وقد نظمت القوانين الوضعية أحكام نزع الملكية للمنفعة العامة، وبينت أن ذلك لا بد أن يكون مقابل تعويض عادل معقول، ووضعت القواعد التي تكفل حقوق الأفراد بهذا الصدد (1) هذا وقد نص دستور جمهورية مصر العربية الصادر سنة 1971 في المادة 34 منه على ما يلي: (الملكية الخاصة مصونة، ولا يجوز فرض الحراسة عليها إلا في الأحوال المبينة في القانون، وبحكم قضائي، ولا تنزع الملكية إلا للمنفعة العامة، ومقابل تعويض وفقا للقانون وحق الإرث فيها مكفول) .
وتنص المادة (11) من الدستور الأردني على ما يلي: لا يستملك ملك أحد إلا للمنفعة العامة، وفي مقابل تعويض عادل، حسبما يعين في القانون) .
وتنص المادة (12) منه على ما يلي: لا تفرض قروض جبرية، ولا تصادر أموال منقولة أو غير منقولة إلا بمقتضى القانون (ويلاحظ هنا أن قانون استملاك الأراضي للمشاريع العامة الأردني الصادر سنة 1953 تنص المادة 21 منه في فقرتها الأولى على أنه إذا كان القسم المستملك من الأرض لا تزيد مساحته على ربع مجموع مساحتها، فإنه لا يدفع تعويض عنه إلا إذا ثبت أنه سيحصل لصاحبها ضرر كبير إذا لم يدفع التعويض، وأوجبت الفقرة الثالثة من هذه المادة التعويض عن الأبنية والأشياء المقامة في الأرض، ولو كان المستملك لا يزيد على ربع مساحة الأرض.
ونصت الفقرة الرابعة على أنه إذا زادت المساحة عن الربع , فإنه يدفع تعويض عما زاد عن الربع , انظر مجموعة القوانين الأردنية جـ2 ص 242 - 250 الجريدة الرسمية لسنة 1961 ص 36 (2)
__________
(1) انظر بالتفصيل نزع الملكية للمنفعة العامة فقها وقضاء - حسن البغال، طبعة ثانية سنة 1966
(2) مجموعة القوانين الأردنية: جـ1 ص 6.(4/716)
ويقول الدكتور سليمان الطماوي بعد عرض من النصوص التي تقرر صيانة حق الملكية الخاصة في دستور مصر الصادر عام 1964: (ومقتضى هذه النصوص أن إجراءات نزع الملكية هي إجراءات استثنائية. لخروجها على حق أساسي مقرر في صلب الدستور، ولهذا يجب أن تفسر تفسيرًا ضيقًا. كما أن عدم اتباع الإدارة للإجراءات التي نص عليها قانون نزع الملكية، باستيلائها على أموال الأفراد تعنتًا يعد غصبًا يرفع عن قراراتها صفتها العامة، ويجعلها أعمالًا مادية يختص بها القضاء العادي، فنحكم بعدم تعرض الإدارة للأفراد، وبالتعويضات إذا نابهم ضرر من جراء تصرف الإدارة المعيب) .
وذهب أغلب الشراح في القانون الوضعي إلى أن اغتصاب الإدارة مالا مملوكًا للأفراد وتخصيصه للنفع العام لا يمكن أن يحول المال الخاص إلى مال عام، إذ على الإدارة أن تكتسب المال بإحدى الطرق المشروعة قانونًا ثم تخصيصه بعد ذلك للمنفعة العامة.
ثالثًا: حكم نزع الملكية للمنفعة العامة والضوابط التي قررها الفقهاء لذلك:
يحتاج البحث في موضوع نزع الملكية للمنفعة العامة بيان جملة من الأمور هي:
1- المقصود بنزع الملكية للمنفعة العامة وعلاقته بمفهوم التأميم.
2 - الأسس والقواعد التي تضبط عملية تدخل الدولة في الملكيات الخاصة عن طريق نزع الملكية أو غيره.
3 - بيان الحكم في كل الصور التي يمكن أن تندرج تحت عنوان التأميم.
4 - حكم التعويض عن نزع الملكية للمنفعة العامة.
وفيما يلي بيان لكل أمر من هذه الأمور:
الأمر الأول: المقصود بنزع الملكية للمنفعة العامة وعلاقته بمفهوم التأميم:
التأميم هو أشد صور تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية فعالية وأثرًا، إذ فيه تنقل الدولة ملكية أموال معينة من دائرة الملكية الخاصة لتصبح ملكًا لمجموع الأمة، وتقوم الدولة بإدارتها واستغلالها والإشراف عليها نيابة عنهم، بطريقة تستبعد فيها مشاركة الرأسماليين في الربح والإدارة (1) . فهو إحلال للإدارة العامة محل الاستغلال الرأسمالي (2) في ملكية أموال معينة.
__________
(1) محاضرات في القانون الإداري - الأستاذ عبد الحميد الرفاعي: ص30
(2) المشروعات المؤممة - برنار شينو: ص 16.(4/717)
يقول الدكتور الطماوي: (المدلول الأصيل للتأميم ينحصر في تحويل مشروع خاص على قدر من الأهمية إلى مشروع عام يدار بطريقة المؤسسة العامة، أو في شكل شركة تملك الدولة كل أسهمها) (1) . فهو يقوم على نزع ملكية المشروعات الخاصة ذات النفع الحيوي للأمة، وتحويلها إلى ملكية الدولة (2)
والتأميم في الدولة الرأسمالية وكثير من الدول الاشتراكية كان مقابل تعويض، وإن اختلفت مسالك الدول في تقديره وكيفية دفعه. والأفكار الماركسية وحدها هي التي نادت بتأميم جميع وسائل الإنتاج بدون تعويض، واعتبرت هذا التأميم نزعًا للملكية من غاصبي الملكية (3) فلا يستحقون عليه أي تعويض، بل يجب أن تسارع الدولة إلى القيام به بكل حزم وصرامة.
ونشير هنا إلى أن هناك فرقًا بين التأميم وكل من المصادرة ونزع الملكية للمنفعة العامة في الاصطلاح القانوني، فالمصادرة عبارة عن عقوبة بأخذ المال، فلا مجال فيها للقول بالتعويض. ونزع الملكية للمنفعة العامة غالبًا ما ينصب على ملكية عقارية يتطلب النفع العام نزع ملكيتها، أما التأميم فهو يتناول مختلف أنواع المشروعات الاقتصادية من أجل أهداف اقتصادية واجتماعية متعددة (4)
والواقع أننا نبحث في نزع الملكية للمنفعة العامة في ما هو أوسع من الملكية العقارية كما يظهر من هذا البحث.
__________
(1) مبادئ القانون الإداري. د. الطماوي ص9
(2) مبادئ القانون الإداري: ص 510 وما بعدها.
(3) المشروعات المؤممة: ص 37 - 38. وقال س. أكروسلاند: ولكن حدث أخيرًا أن أدرك أن المصادرة الكاملة للملكية الخاصة عن طريق التأميم لا تنم عن عدل أو كياسة وأن لا بد من دفع تعويض معقول) . التخطيط الاشتراكي والمساواة الاجتماعية - له ص 169.
(4) هناك فروق أخرى بين هذه الأنواع , لسنا بصدد استيعابها.(4/718)
الأمر الثاني: الأسس والقواعد التي تضبط عملية تدخل الدولة في الملكيات الخاصة عن طريق نزع الملكية أو غيره.
تتعدد الأسس والقواعد التي يقوم عليها تدخل الحاكم المسلم في أمور الناس تنظيما وتقييدًا، وذلك بما يكفل تحقيق المصلحة العامة، وإقامة العدل، ومنع الضرر، ورفع الحرج.
وإن تلك الأسس والقواعد لتعتبر الأساس لجميع وجوه التدخل التي يقوم بها الحاكم المسلم في الملكية الفردية.
ونذكر فيما يلي أهم تلك الأسس والقواعد:
1- الأحكام الشرعية مشروعة لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة.
2 - مسؤولية الحاكم عن أحوال الرعية.
3 - سلطة ولي الأمر في تقييد المباح، واتخاذ الإجراءات الاستثنائية.
4 - الأخوة بين أفراد المجتمع المسلم.
5 - المصالح المرسلة.
6 - لا ضرر ولا ضرار، ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، ودرء المفاسد مقدم على جلب المنافع.
7 - الضرورات تبيح المحظورات، والحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة.
ولست بصدد دراسة تفصيلية لهذه الأسس والقواعد ويمكن العودة لدراسة تفصيلية عنها. (1) .
__________
(1) انظر كتاب الملكية في الشريعة الإسلامية جـ 2 ص 255 - 278.(4/719)
ويهمنا أن نشير هنا إلى المعيار الذي يضبط تدخل الحاكم المسلم في حريات الناس وملكياتهم , فقد بين بعض الباحثين أن مقياس تدخل ولي الأمر ما دام مسؤولا عن تنفيذ التكاليف الشرعية ينقبض وينبسط تبعًا لمستوى السلوك الخلقي السائد في الأمة، فإذا التزم الأفراد بتعاليم الإسلام الخلقية عن طواعية واختيار خفت مؤنة الدولة، وقلت حاجة ولي الأمر، إلى التدخل لإلزامهم بها، واذا هبط مدى تمسكهم بها كبر دور ولي الأمر في التدخل لحمل الأفراد على تنفيذها، هذا بالإضافة إلى الظروف الاستثنائية التي قد يتعرض لها المجتمع وتهدد كيانه. وبالتالي فإنه لا توجد قاعدة جامدة يتقيد بها ولي الأمر، تحدد مدى تدخله لتنفيذ تعاليم الإسلام الخلقية في تنظيم المجتمع، بما في ذلك ملكية المال , فهو له الحق في التدخل بكل ما يكفل تنفيذ التكاليف الشرعية، وأما كيف يكون التنفيذ فأمر تعالجه السياسة الشرعية في كل بلد إسلامي على ضوء ظروف هذا البلد وواقعه (1)
والواقع أن الأمر ليس إلا اجتهادًا في معرفة الحكم الشرعي في وضع حادث أو قضية مستجدة. والشريعة نظمت عملية الاجتهاد، وحددت وسائله، ووضعت القواعد التي بها يستنبط الحكم الشرعي للحوادث المستجدة، مما لست هنا بصدد تفصيله , وهو يرتبط بأدلة الأحكام الشرعية المختلفة، من كتاب وسنة وإجماع وقياس واستحسان ومصالح مرسلة وغيرها، ويعتمد على ما قررته الشريعة من قواعد لضبط عملية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
وواضح أن الحوادث والقضايا المستجدة تختلف الأحكام فيها من حادثة إلى حادثة، ومن قضية إلى قضية، لاختلاف الظروف والأوضاع من حال إلى أخرى. وعليه فإن الشريعة قد وضعت القواعد الكفيلة بمعالجة كل ما يتعرض له المجتمع من قضايا ومشكلات , ومنهج الشريعة يقوم على معالجة المشكلة بعد وقوعها، وليس قبل وقوعها وفق نظر أساسه أن الإسلام نظام متكامل جاء لمعالجة مشكلات البشرية كلها بأنظمة متناسقة تتعاون جميعها في حل هذه المشكلات , ولكل حكم جزئي مكانه من البناء الإسلامي الكامل.
__________
(1) الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد المعاصر د. محمد عبد الله العربي، المؤتمر الثالث، ص 229 - 231.(4/720)
ومما يذكر هنا أن الناظر في نصوص العلماء بخصوص فرض ضرائب جديدة على أموال الناس يتضح له أن علماء الشريعة يجيزون للحاكم المسلم فرض ضرائب جديدة على أموال الناس إذا توافرت الشروط التالية:
1 - أن يكون الحاكم بحيث تجب طاعته، أي: تتوافر فيه الشروط التي اشترطتها الشريعة في الحاكم.
2 - أن تقوم حاجات حقيقية للمال من أجل الدفاع عن البلاد، وسد نفقات الدولة وغير ذلك من فروض الكفاية.
3 - أن لا يكون هنالك مال في بيت المال يمكن أن يقوم بهذه الحاجات.
4 - أن تكون هذه الضرائب بالقدر الذي يكفي لسد هذه الحاجات.
وقد بين علماء الشريعة أن للحاكم أن يختار في سبيل ذلك ما يراه مناسبًا وصالحًا من الطرق والوسائل.
والواقع أن سلطة الحاكم المسلم مقيدة دائما بقواعد الشريعة وأحكامها. فليس له حرية التدخل في أموال الناس وملكياتهم، دون قيد أو ضابط، وإذا كان مبدأ المصالح المرسلة يعطيه سلطات واسعة لتحقيق مصالح المجتمع الإسلامي، فإن لهذا المبدأ قواعد مقررة، وشروطًا محددة، ولا بد أن تراعى عند تطبيقه والأخذ به , فلم تترك الشريعة أمر تقدير المصالح لأهواء الحكام والمجتهدين، فقد بين فقهاء الشريعة الشروط التي يجب توافرها في المصلحة التي يرد بها نص في كتاب أو سنة، حتى تتخذ أساسًا في استنباط الحكم الشرعي) . . وأهم هذه الشروط:
أ- أن تكون مصلحة قطعية غير موهومة، فلا يجوز أن تعارض مصلحة أهم منها، أومثلها.
ب - أن تكون مصلحة عامة تهم مجموع الناس، فلا وزن للمصالح النادرة التي تتعلق بآحاد الناس أو بعضهم.(4/721)
جـ- أن تكون مصلحة ضرورية، بالأخذ بها رفع حرج لازم عن مجموع الأمة.
د - أن تكون من جنس المصالح التي جاءت الشريعة لتحقيقها، وإن لم يشهد لها دليل خاص بالاعتبار فلا تصادم أدلة الشريعة وأحكامها المقررة، إنما تتفق معها وتلائمها. (1)
والتحقق من وجود هذه الشروط في كل مصلحة على حدة من وظيفة المجتهدين الذين تتوافر فيهم أهلية الاجتهاد وشروطه، والذين يتبعون ما قررت الشريعة من قواعد لضبط عملية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها.
الأمر الثالث: بيان الحكم في كل الصور التي يمكن أن تندرج تحت حكم التأميم. ويمكن إيجاز القول في حكم التأميم على ضوء ما يقصد بهذا الاصطلاح في كلام الدارسين والباحثين والمهتمين فيما يلي:
إذا كان التأميم يعني مصادرة الأموال التي حيزت عن طريق محرم وإعادتها لأصحابها إذا كانوا معروفين، أو لبيت المال لصرفها في مصالح المسلمين، أو للتصدق بها على فقرائهم إذا لم يكونوا معروفين، كما بينت عند الحديث عن حكم الأموال التي تحاز عن طريق محرم في فضل قيود أسباب الملك (2) فإن هذا جائز، بل واجب على الحاكم ملزم بالقيام به , فالملكية لا تقوم على الأموال التي تحاز عن طريق محرم، وبالتالي يجب أن لا تحترم ولا تصان حيازة هذه الأموال. وواضح أنه في هذه الحال تتم مصادرة هذه الأموال واستعادتها دون أي تعويض، بل للحاكم أن يعزر المصادر بالعقوبة المناسبة جزاء على ما ارتكب من حرام، وردعًا لغيره أن يفعل مثل ما فعل.
وقد أرسى هذا المبدأ من الناحية التطبيقية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعله مع ابن اللتبية عندما استعمله على الصدقات، وكذلك عمر بن الخطاب عندما كان يحاسب ولاته بدقة، فإذا ثبت له أنهم حازوا مالا عن طريق غير مشروع صادره.
__________
(1) انظر القسم الثاني من كتابه الملكية: ص271 -273.
(2) الملكية جـ2 ص 54 -64.(4/722)
وقد يقال بهذا الصدد: إن هناك ملكيات كبيرة قائمة في المجتمع تستأثر بمعظم الثروة العامة، وتتحكم فيها كما تشاء، وتستغل وتظلم كما تريد، وإن كثيرًا منها كان سبب قيامه عن طريق غير مشروع، ولكن التحقيق في أصلها جمعيًا لاكتشاف ما حيز منها عن طريق مشروع وما لم يحز، أمر مستحيل بسبب قدم العهد وتفرق الأموال بالإرث والشراء وغيرهما ... وهذا يشبه ما واجهه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عندما أراد أن يسترد الأراضي التي كانت لبيت المال، والتي سمح خلفاء بنى أمية ببيعها رغم ذلك ولكنه وجدها قد حيزت في المواريث، وعن طريق البيع لأيدٍ كثيرة، فعدل عن استردادها ومنع بيعها مستقبلا. (1)
ولكن الأمر في هذه الأيام ليس بهذه الصعوبة، فنحن جميعًا نريد أن نزيل انحرافًا ورثناه في كثير من بلادنا عن عهود طويلة من الاستعمار المستغل الذي لعب في مقدراتنا , وشجع كل ما يدعم استعماره ويديمه، وعاث فسادًا في قوانيننا وأنظمتنا، وأقام بيننا فئات رضعت لبنه، ونفذت أفكاره , وعملت لمصالحه، وأطلق لها العنان لتمص دماء الأمة وتستحوذ على أموالها، فسلكت كل السبل لتعيش بترف، تجتر الشهوات وتغرق في المتع الحرام، وجماهير الأمة تعيش في فقر ومرض وجهل , لذا يجب ألا نصغي لقول من يقول: إن الأموال التي في يد هؤلاء المستغلين هي أموال ملكوها , ولا نعرف السبب الذي ملكوها عن طريقه، فملكيتهم عليها محترمة، لأن الشريعة تحترم الملكية وتحميها , ولكن يجب ألا ينقلب الأمر إلى الأخذ بالتهمة، دون روية وبحث، إنما تشكل لذلك اللجان المتخصصة والمخلصة والواعية والتي تخاف الله في سرها وعلنها.
ب- وإذا كان التأميم يعني استرجاع أموال الأمة من أيدي الشركات الأجنبية فهو واجب، ذلك أنه لا يجوز في الشريعة أن يسمح للحربيين بالتحكم في المسلمين والسيطرة على مقدراتهم. يقول الشيخ علي الخفيف: (وأما ما ذهبت إليه بعض البلاد العربية من منع الأجانب أن يمتلكوا من أراضيها الزراعية شيئًا، فذلك ما يتسق مع ما للحربي والمستأمن من عدم إقرارهما على البقاء في ديارنا، إلا أن يتحولا ذميين، فيكون لهما ما للمسلمين , وعليهما ما على المسلمين , وإذا لم يكن للأجنبي أن يقيم في ديار المسلمين إلا بعهد موقت , لم يكن من المعقول أن يملك عقارًا يستمر تملكه له؛ لأنه إن خرج حربيا كان ماله فيئًا للمسلمين , وكان منعهم من التملك متسقا مع أحكامه.
__________
(1) انظر القسم الأول من الملكية: ص 323.(4/723)
وعلى هذا فليس ما يمنع شرعًا من حظر تملك الأراضي الزراعية في البلاد الإسلامية على الأجانب , بل ربما كان ذلك هو الأقرب لتحقيق ما تهدف إليه الشريعة الإسلامية قصدًا إلى المحافظة على سلامة الدولة، واستئثار أهلها بثروتها القومية) (1)
ومما يذكر هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة عمل جاهدًا على تخليص سوق المدينة من سيطرة اليهود.
وقد نص الفقهاء الحنفية على جواز أن يجبر الحاكم أهل الذمة على بيع ما امتلكوه من دور في أمصار المسلمين إذا رأى في ذلك مصلحة للمسلمين. (2)
جـ- وإذا كان التأميم يعني إعادة الأموال التي يجب أن تكون لمجموع الأمة، والتي لا يصح أن تقع تحت التملك الفردي إلى وضعها هذا بعد أن تكون قد دخلت تحت التملك الفردي، فهذا أيضًا واجب , لا غبار عليه (3)
. . والتعويض في هذه الحال والتي قبلها لا يكون إلا في مقابل ما أقيم من منشآت لاستغلال هذه الأموال، ولا يكون مقابل هذه الأموال نفسها، لأن الملكية القائمة عليها ليست مشروعة , أما المنشآت وما يلحق بها , فهي من جملة الممتلكات التي يجب أن يعوض عنها أصحابها إذا صحت ملكيتهم لها , ولم يمنع من تعويضهم مانع شرعي.
__________
(1) الملكية في الشريعة الإسلامية: جـ1 ص96.
(2) مشتمل الأحكام: و 26 أ، الأحكام المرعية في الأراضي المصرية: ص 22.
(3) بينت كيف استرد رسول الله ملح مأرب عندما تبين له أنه كالماء العذب. انظر القسم الأول من هذه الرسالة ص -356.(4/724)
د - واذا كان المراد بالتأميم نزع ملكية أحد الأفراد في ظروف استثنائية، أو عند قيام حاجة عامة مقابل تعويض عادل لمصلحة يراها الحاكم المسلم بعد مشورة أهل الرأي والخبرة والتقوى , فهذا أيضا لا غبار عليه، تطبيقًا لمبدأ الضرورة، ومبدأ الحاجة العامة التي تنزل منزلة الضرورة. ويستدل على ذلك ما أخرجه أبو داود والبيهقي، عن سمرة بن جندب ((أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار. قال: ومع الرجل أهله. قال: فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به، ويشق عليه، فطلب إليه أن يبيعه , فأبى , فطلب إليه أن يناقله , فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم , فذكر ذلك، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه , فأبى، فطلب إليه أن يناقله , فأبى، قال: فهبه له، ولك كذا وكذا. أمر رغبة فيه , فأبى , فقال: أنت مضار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري: اذهب فاقلع نخله)) (1)
وقال المجيزون بعد ذكر هذا الحديث: (فهذا انتزاع للملك جبرًا عن صاحبه حين أدت ملكيته إلى ضرر جاره. فكيف إذا أدت إلى ضرر المجتمع؟!) (2)
ورد المانعون هذا الاستدلال بأن الأرض في هذا الحديث ملك للأنصاري وليس لسمرة بن جندب إلا النخل , وهو الذي سبب بقاؤه في أرض الأنصاري ضررًا له , وقد تعين دفع هذا الضرر بالقلع، بعد أن امتنع سمرة من قبول ما عرض عليه، إذ لا ضرر ولا ضرار.
وواضح أن المجيزين لا يخالفون في هذا، ولا يقولون بأن الأرض كانت لسمرة بن جندب، إنما مدار استدلالهم على نزع ملكية سمرة لنخله، وقد كان يملكه ملكًا خاصا.
__________
(1) انظر في تخريج هذا الحديث القسم الثاني من الملكية: ص 13.
(2) اشتراكية الإسلام: ص 162.(4/725)
ثم قال المانعون: إن بعض العلماء - الخطابي - قد بينوا أنه ليس في هذا الحديث إلا الأمر بإزالة الضرر، فليس فيه أنه قلع نخله، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك ليردعه به عن الإضرار. فالحديث لا يدل على أن هنالك قلعا محققا، وإنما الأمر ردع وزجر عن الإضرار (1)
والحقيقة أن هذا الحديث يقرر جواز المساس بالملكية الفردية إذا اقتضت ذلك ضرورة رفع الضرر الغالب عن غير صاحبها، وضمن هذا الإطار فقط، سواء قلنا: إن القلع قد تم أم لا , فالمهم أن رسول الله قد قرر بقوله: ((أنت مضار)) وقوله ((اذهب فاقلع نخله)) هذا المبدأ.
وقد قال ابن القيم في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على سمرة بن جندب: (وإن كان عليه في ذلك ضرر يسير، فضرر صاحب الأرض ببقائها في بستانه أعظم , فإن الشارع الحكيم يدفع أعظم الضررين بأيسرهما. فهذا هو الفقه والقياس والمصلحة وإن أباه من أباه، والمقصود أن هذا دليل على وجوب البيع لحاجة المشترى، وأين حاجة هذا من حاجة عموم الناس إلى طعام وغيره (2)
هذا بالإضافة إلى ما نقل من نزع للملكية بخصوص توسعة المسجد النبوي في المدينة المنورة في أوقات متعددة زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم.
هـ - وإذا كان المراد بالتأميم أن يكون وسيلة لتحقيق المساواة المادية بين الناس، أو إيجاد وضع - بالتدريج - تكون فيه أدوات الإنتاج ووسائله مملوكة ملكية عامة، أو مطاردة الملكيات الكبيرة بصرف النظر عن ظروف قيامها وطريقة تنميتها وزيادتها، فإن الشريعة لا تجيزه؛ وذلك لأنها لا تسعى إلى تحقيق المساواة الفعلية بين الناس , وتقيم نظامها الاقتصادي على أساس الاعتراف بالملكية الفردية، بل وتشجعها ما دامت ملتزمة بقواعد الشريعة، ولم تخرج من دائرة الملكية الفردية إلا أنواعًا من الأموال سبق بيانها عند الحديث عن الملكية العامة في القسم الأول من الملكية (3) وعند مناقشة أدلة المجيزين للتأميم (4)
__________
(1) نظرات في كتاب اشتراكية الإسلام ص 58 - 60 وعبارة الخطابي في معالم السنن: (وفيه من العلم أنه أمر بإزالة الضرر عنه، وليس في هذا الخبر أنه قلع نخله، ويشبه أن يكون أنه إنما قال ذلك ليردعه عن الإضرار) معالم السنن: جـ5 ص 240.
(2) الطرق الحكمية: ص 310. وانظر الحسبة لابن تيمية ص 44.
(3) انظر القسم الأول من الملكية: ص 33، 344 -353.
(4) انظرالقسم الثاني من الملكية: ص 368 - 370.(4/726)
وهذا الكلام لا يعني أن لا تكون للدولة أملاكها التي تستطيع زيادتها بكل الطرق المشروعة والتي تعمل عن طريقها على تحقيق أهداف النظام الاقتصادي الإسلامي، في مثل مبدأ أدلة الثروة ومبدأ كفاية المحتاجين والفقراء. وقد كان من قرارات المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية (وأن أموال المظالم، وسائر الأموال الخبيثة، والأموال التي تمكنت فيها الشبهة، على من هي في أيديهم أن يردوها إلى أهلها أو يدفعوها إلى الدولة، فإن لم يفعلوا صادرها أولياء الأمر ليجعلوها في مواضعها , وإن لأولياء الأمر أن يفرضوا من الضرائب على الأموال الخاصة ما يفي بتحقيق المصالح العامة وأن المال الطيب الذي أدي ما عليه من الحقوق المشروعة إذا احتاجت المصلحة العامة لشيء منه أخذ من صاحبه نظير قيمته يوم أخذه، وأن تقدير المصلحة وما تقتضيه هو من حق أولياء الأمر وعلى المسلمين أن يسدوا إليهم النصيحة إن رأوا في تقديرهم غير ما يرون) (1)
الأمر الرابع
حكم التعويض عن نزع الملكية للمنفعة العامة ومناقشة من يقولون بعدم وجوب التعويض
بين الشيخ علي الخفيف في بحثه المقدم إلى المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية أنه عندما يحدد ولي الأمر للملكية حدا معينا , فإنه يجب عليه أن يأخذ منها ما زاد على هذا الحد، ويعيده إلى ملك الأمة دون مقابل أو تعويض، شأنه شأن ما يجبى من الأموال العامة؛ لأن في ترك هذه الزيادة في أيدي أصحابها إبقاء على ثروتهم، وفيه إهمال وترك لهذا الواجب، ونقص لمقتضى الحد منها وعدم ثبوت ملكية صاحب الزيادة في يديه من زيادة، وعلى ذلك يجب أخذ هذه الزيادة، وانتقاص ملكية صاحبها بأخذها.
__________
(1) انظر بحوث المؤتمر الأول: ص 394 - 395.(4/727)
(ولا يتم هذا الانتقاص إلا إذا أخذت بلا بدل، ذلك أن في أخذها بالبدل إبقاء على مقدار ثروة صاحبها، وليس فيه إلا تغيير عناصرها. . وليس يعد هذا اعتداء على ملك محترم، لأنه لا ملك بعد الحد منها، ووجوب نفاذ ذلك شرعًا) (1) . وقد استدل على أن الزيادة تؤخذ بلا بدل بجملة من الأدلة منها:
أ- أنها تشبه المال الذي يؤخذ في تجهيز الجيوش والدفاع عن البلاد، فما يؤخذ في هذه الحالة يؤخذ بلا عوض، والأخذ في الحالين سواء، لأن كلا منهما تقضي به الضرورة.
ب- إن هذا الأخذ أخذ بحق، فلا يعتبر اعتداء على الملكية، تمامًا كأخذ الجائع المشرف على الهلاك من مال غيره ما يقيم حياته.
جـ- ثم إن في أخذ هذه الزيادة منعًا للمالك من الإضرار بغيره عن طريق الملكية، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما خلع نخل سمرة بن جندب من بستان غيره.
د- ويدل على ذلك أيضًا مشاطرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لولاته أموالهم عندما رأى في ذلك مصلحة عامة، وهي البعد بالولاية عن الشبهات، وعن اتخاذها مغنما، ووسيلة للاستكثار من الأموال.
وبعدما قرر هذه الأدلة قال: (وعلى ذلك يرى أن أخذ هذه الزيادة إذا ما دعت مصلحة عامة إلى أخذها بغرض انتقاص ملكية صاحبها، إنما يكون بلا بدل يعطى , وعندئذ تكون هذه الزيادة ملكًا لكافة المسلمين، يوجهها ولي الأمر الوجهة التي من أجلها أخذت، لا لوجهة أخرى، وإلا كان أخذها اعتداء لا يستند إلى حق. ذلك ما انتهى إليه النظر في هذا الموضوع، وهو رأي رأيته، فإن كان صوابًا , فمن الله، وإن كان خطأ فلا عصمة إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يشرع للناس (2) .
__________
(1) انظر بحثه في المؤتمر الأول: ص 130.
(2) بحثه في المؤتمر الأول: ص 131.(4/728)
ولست مع الشيخ علي الخفيف في أن الزيادة عن المقدار المحدد تؤخذ بدون تعويض لما يلي:
1- أن القول بأن الزيادة عن الحد المقرر تؤخذ بلا بدل يستقيم حاله ما إذ اكان الهدف من تحديد الملكية هو منع قيام التملك الكبير في المجتمع، وهذا واضح في قول الشيخ الخفيف: "ذلك أن في أخذها بالبدل إبقاء على مقدار ثروة صاحبها، وليس فيه إلا تغيير عناصرها ". والواقع أن الشريعة لا تطارد الملكيات الكبيرة، إنما تطارد الملكيات الظالمة المستغلة، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة. والضرورة هنا تقدر بقدرها، والاضطرار لا يبطل حق غير المضطر في التعويض والضمان (1) . هذا يدل على أنه لا وجه في الشريعة الإسلامية لتقرير أن الزيادة تؤخذ في هذه الحال دون تعويض أو بدل.
ثم إن تحديد الملكية الفردية لا يقوم حتى عند القائلين به إلا في أنواع معينة من الأموال؛ كالأراضي فيما سمي بقوانين الإصلاح الزراعي , عندما تكون حيازة كميات كبيرة منها مسببة للضرر بمجموع الأمة، فهم لا يقولون بتحديد عام في جميع الأموال، فهدفهم هو منع الملكيات الكبيرة في نوع معين من الأموال، وليس منع مجاوزة التملك لأي مال عن حد معين، لذلك رأينا أن تحديد الملكية في معظم الدول التي أخذت به كان مقابل تعويض.
2- قرر الفقهاء مبدأ التعويض في التملك القهري، ونصوا عليه بكل وضوح. جاء في حاشية الجمل: (ولا يحل تملك مال المسلم والذي بغير بدل قهرا (2) وبينوا الأساس في الإلزام بالتعويض. فقد قال ابن رجب: ( ... لأن التسليط على انتزاع الأموال قهرًا إن لم يقترن به دفع العوض، وإلا حصل به ضرورة فساد ... وأصل الانتزاع القهري إنما شرع لدفع الضرر، والضرر لا يزال بالضرر (3) .
__________
(1) انظر القسم الثاني من الملكية: ص 274.
(2) حاشية الجمل: جـ 2 ص 263.
(3) قواعد ابن رجب: ص 73.(4/729)
وقال القرافي في الذخيرة: (إذا ثبت الملك في عين , فالأصل استصحابه بحسب الإمكان، فإذا اقتضى سبب نقل ملك، أو إسقاطه، وأمكن قصر ذلك على أدنى الرتب، فعلنا. ولهذه القاعدة قلنا: إن الاضطرار يوجب نقل الملك إلى المضطر إليه، ولكن يمكن قصر ذلك على المرتبة الدنيا , بأن يكون بالثمن، ولا حاجة إلى المرتبة العليا، وهي النقل بغير ثمن (1) وقال في الفروق: " إن الملك إذا دار بين المرتبة الدنيا والمرتبة العليا حمل على الدنيا، استصحابًا للملك بحسب الإمكان، وانتقال الملك بعوض هو أدنى رتب الانتقال، وهو أقرب لموافقة الأصول من الانتقال بغير عوض (2) وقال القاضي أبو عبد الله المقري: (إذا دار الملك بين أن يبطل بالجملة أو من وجه، فالثاني أولى، لأنه أقرب إلى الأصل) .
وقد تعرض ابن رجب في قواعده إلى مسألة: (هل يتوقف الملك في العقود القهرية على دفع الثمن، أو يقع بدونه مضمونا في الذمة؟ (3) فبين أن هذا على ضربين: أحدهما: التملك الاضطراري، كمن اضطر إلى إطعام غيره، ومنعه منه، وقدر على أخذه، فإنه يأخذه مضمونًا، سواء أكان معه ثمن يدفعه في الحال أم لا، لأن ضرره لا يندفع إلا بذلك.
والثاني: التمليكات المشروعة لإزالة الضرر كالأخذ بالشفعة وأخذ الغراس والبناء من المستعير والمستأجر، فقد اختلف الفقهاء فيها على مذهبين:
الأول: لا تملك إلا بعد دفع الثمن، وهو محكي عن ابن عقيل من فقهاء الحنبلية.
الثاني: تملك بدون دفع الثمن، ولكنه يقع مضمونا في الذمة، واختار هذا المذهب ابن تيمية (4)
3 - وأما ما استدل به الشيخ علي الخفيف على أن الزيادة تؤخذ بلا عوض:
أ- فالبنسبة إلى دليله الأول فإن قياسه أخذ الزيادة في تحديد الملكية على أخذ الأموال لتجهيز الجيوش والدفاع عن البلاد، والذي يكون بدون عوض، بجامع أن كلا منهما تقضي به الضرورة، قياس مع الفارق؛ لأن الضرورة في حالة أخذ الأموال لتجهيز الجيوش تقضي باستهلاك هذه الأموال فيما أخذت له , أما الضرورة في حال الزيادة في تحديد الملكية فهي تقضي بأخذ الزيادة، لا لتنفق، إنما لتعطى لغير المأخوذ منه، والهدف من ذلك هو منع قيام ملكية كبيرة في نوع معين من الأموال، وليس أخذ هذا المال لينفق في مصلحة عامة للأمة.
__________
(1) الذخيرة. جـ 5 ص 30.
(2) الفروق جـ 1 ص 195-196 جـ4 ص9، وانظر شرح المنهج المنتخب: و 157 أ.
(3) القاعدة 50 من قواعد ابن رجب.
(4) قواعد ابن رجب: ص 72 - 73.(4/730)
ب - وبالنسبة إلى دليله الثاني , فليس الأخذ بحق، يعني أن يكون بلا تعويض , فقد قضت الضرورة بالأخذ دون رضا صاحب المال، والضرورة تقدر بقدرها فيكون الأخذ مقابل تعويض عادل , وهذا ما نص عليه الفقهاء في صور التملك القهري.
جـ – وبالنسبة إلى دليله الثالث , فإن الأمر في حديث سمرة يختلف عما نحن فيه، فقد تعين دفع الضرر الذي كان يسببه سمرة للأنصاري بالقلع بعد أن امتنع عن قبول ما عرض عليه من الأنصاري، ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد عرض الأنصاري عليه البيع أو المناقلة، وعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع أو المناقلة أو الهبة، ولكنه أبى , مما يدل على أن الأصل هو دفع المقابل، وإلا لما كان هناك أي وجه لما عرض عليه، والأمر بالقلع إنما كان لبيان أنه لابد من إزالة الضرر، أما وجوب التعويض في حالات نزع الملكية الفردية , فالحديث يشير إليه هذه الإشارة، بالإضافة إلى ما تقرره الأدلة الأخرى , وقد اعتبر ابن القيم هذا الحديث دليلًا على وجوب البيع والمعاوضة لحاجة المشتري بثمن المثل (1) وعلى أية حال , فإذا فهم من هذا الحديث إيجاب القلع دون تعويض , فإن الأمر يكون عقوبة على الإصرار على إيصال الضرر إلى الآخرين.
هذا، وقد بين بعض العلماء أنه ليس في هذا الحديث إلا الأمر بإزالة الضرر، فليس فيه أنه خلع نخله، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك ليردعه عن الإضرار، فالحديث لا يدل على أن هناك قلعا محققا، وإنما الأمر أمر ردع وزجر عن الإضرار (2)
وعلى أية حال فكل ما يقرره حديث سمرة هو جواز المساس بالملكية الفردية إذا اقتضت ذلك ضرورة رفع الضرر الغالب عن غير صاحبها، سواء أقلنا: إن القلع قد تم أم لا.
وبالنسبة إلى دليله الرابع فإن مشاطرة عمر لولاته كانت مصادرة للمال الذي اعتبره عمر بن الخطاب مجازًا بطريق غيرمشروع، فلا حق لهم فيه , لذلك كان أخذه بلا تعويض.
وهكذا يظهر أن نزع الملكية الفردية دون تعويض لا يجوز، إلا إذا كان النزع من قبيل استعادة الحق، أو استيفاء القدر الواجب في المال الخاص، قيامًا بحاجة عامة أو خاصة.
__________
(1) انظر القسم الثاني من الملكية: ص 313، 314.
(2) انظر القسم الثاني من الملكية: ص 378.(4/731)
انتزاع الملك للمصلحة العامة
إعداد
الدكتور محمود شمام
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه وسلم
{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}
العنوان يشتمل على أربعة عناصر:
انتزاع - ملك - مصلحة - عامة.
وسوف نتحدث عن كل عنصر منها بانفراد حتى إذا جمعنا شملها وأكملنا شرحها , وصلنا إلى غايتنا وأدركنا بحول الله هدفنا.
الانتزاع:
الانتزاع لغة: استلب واقتلع وأخذ.
جاء في لسان العرب لابن منظور:
"فرق سيبويه بين نزع وانتزع , فقال: انتزع: استلب، ونزع حول الشيء عن موضعه.
والانتزاع فقهًا وقانونًا هو: أخذ الشيء من يد صاحبه والاستيلاء عليه وتوظيفه لفائدة المجموعة , وبذلك يصبح ملكا لها دون صاحبه الفرد المالك الأصلي وهو بهذه الصفة:
نزع ملكية خاصة لتحقيق نفع عام لقاء تعويض شرعي وعادل ". والاستيلاء والانتزاع والأخذ أشياء , الأصل فيها الحرمة المطلقة؛ لأن الشرع يحمي المصالح والحقوق سواء منها العامة أو الفردية الواسعة بمفهومها الكامل العام أو بمعناها الفردي الضيق.
وكل اعتداء على حق الغير وعلى ملكه هو محرم شرعًا، والشرع يقف في وجه الغاصب , ويرد عمله ويبطله حتى في البسيط من الأمر , كماء الطهارة , وثياب الصلاة , ومكان أداء العبادة , وحتى في نفقة الحج والمصاريف التي يصرفها لأدائه.
ومن هنا يمكن القول: إن حكم العنصر الأول من هذه العناصر الأربعة - أي: الانتزاع - هو الحرمة والمنع. عدا ما استثني بصورة ضيقة تعتمد المبدأ العادل الذي لمحنا إليه عرضًا , وهو أخذ الشيء واغتصابه وانتزاعه من يد صاحبه لتحقيق مصلحة عامة , شريطة التعويض العادل النزيه.
ووجب علينا لذلك بيان حقيقة الملك وشرح عناصره كبيان المصلحة العامة وتدقيق حدودها حتى نبلغ الحكم المذكور.
الملك:
هو لغة: ما يملك ويتصرف فيه، يذكر ويؤنث. قال الله سبحانه وتعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . الشورى: 49.(4/732)
والملك هو: ما يملكه الإنسان ويتصرف فيه ويحوزه، وجمعه أملاك. يقال: هذا ملك يميني , أي: أملكه وأتصرف فيه بتثليث الميم: ملكه يملكه ملكًا وملكًا وملكًا.
وملكه الشيء تمليكًا جعله ملكًا له يملكه (1)
ومن ملك شيئًا كان له حق استعماله وحق استغلاله وحق التصرف فيه.
أما في الاصطلاح:
فالملك هو: اختصاص بالشيء يمنع الغير منه ويمكن صاحبه من التصرف فيه ابتداء إلا لمانع شرعي.
قال القرافي في الفرق الثمانين بعد المائة:
إن الملك إباحة شرعية في عين أو منفعة تقتضي تمكين صاحبها من الانتفاع بذلك العين أو المنفعة أو أخذ العوض عنها من حيث هي كذلك.
والملك ينقسم إلى قسمين: تام مطلق، أي: ملك الرقبة والمنافع. وللمالك وحده هنا في حدود القانون حق التصرف في ملكه واستعماله واستغلاله دون قيود أو شروط.
وناقص وهو ملك الرقبة دون المنافع , أو ملك المنافع دون الرقبة؛ كحقوق الارتفاق من مرور وكشف وغيرها.
والملك التام الذي نقصد في بحثنا هذا له مصادر عامة جاءت بها شريعتنا السمحة.
أولا: المباح: أي المال الذي لم يكن على ملك أحد ولا ينسب لأي شخص معين بذاته ولا يوجد أي مانع شرعي في الاستيلاء عليه والاستبداد به كالماء في منبعه والكلأ والحطب والشجر في الفلاة من البر، وكإحياء الموات. فالرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم يقول فيما يرويه جابر بن عبد الله: ((من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر وما أكلت العافية فهو له صدقة)) .
__________
(1) لسان العرب لابن منظور 12 /382.(4/733)
وهو حديث صحيح أخرجه أبو عبيد في الأموال، وأخرجه الإمام أحمد وابن حبان من حديث حماد بن سلمة عن أبي الزبير , عن جابر. وأخرجه أحمد وابن حبان من طرق عن هشام بن عروة , وإسناده جيد صحيح. (شرح السنة للإمام البغوي ج6 صفحة 150) .
ثانيًا: الملك الحاصل بعقد , سواء كان العقد عقد عوض كالبيع أو بدونه كالهبة، والوصية، وسواء أكان العقد عن طريق التقاء الإرادتين أم طريق الجبر به بإرادة فردية شرعية قانونية كالشفعة.
أو ما يسمى الاستملاك للصالح العام لتوسيع مسجد أو طريق أو إحداث معلم من معالم الدولة للمصلحة العامة بشروط وقيود سوف نأتي عليها إن شاء الله.
ثالثًا: التملك عن طريق الشرع والقانون كالتملك عن طريق الإرث هذا التملك الذي سنه الشرع وأباحه ونظم طرقه وحدد سبله ولم يهمل أمره وأبان حليته وكان ذلك عن طريق النص , ومن المعلوم أن الاجتهاد لا يجوز فيما ورد فيه نص قطعي الثبوت، قطعي الدلالة.
حرية الفرد في الملك
ما هي هذه الحرية؟ وما هو نطاقها ومداها؟ وما هي حدودها؟
تنطلق صيحة الحرية الفردية عندما يستهل مولودنا صارخًا: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟
فإذا هذا المولود الذي استهل بتلكم الصيحة واستقبلته الحياة وهي تستقبل الآلاف من أمثاله كل يوم بفرحة القدوم وبسمة اللقاء يتدرج في نفس تلكم الحياة في طريق وعرة ملتوية تخيم عليها السحب وتغطي أرضيتها الأشواك.(4/734)
وإذا المجتمع وإذ الطبيعة وإذ القانون يأخذ بيده ويرعاه ويحضنه ويرشده , وإذا هذه الحرية يحد من أطرافها ويتقلص ظلها في صالح ذلكم القادم نفسه وفي صالح مجتمعه وأمته وقومه وشعبه , بل وفي صالح العالم البشري بأجمعه.
فالحرية التي يتغنى بها الكل والتي يتعشقها الجميع والتي هي حرية بذلك , يختلف الناس في أمرها , وتتباين النظريات في شأنها.
فهل إن الفرد لا يكون حرا طليقًا متمتعًا بلذائذ هذه الحرية إلا متى أرخى له المجتمع العنان في تصرفاته وأعماله حتى ولو كان في أفكاره وآرائه ما يهدم بعض قواعد مجتمعه ويحطم أركان دولته حتى ولو أدى به الأمر إلى أن يكون فوضويا في مجتمع تعمه الفوضى وتسوسه وتغشاه.
أم أن الحرية الحق هي التي تصان معها كرامة الفرد وكرامة أسرته ومجتمعه وقومه ودولته بصرف النظر عن مدى اتساعها وترامي أطرافها، ضرورة أن الحرية المطلقة لا وجود لها , إذ أنها تشبه الفوضى إن لم تكن هي الفوضى عينها؟
لقد حار ذلكم الفرد من قبل التاريخ في أمره وتخبط في دياجير ظلامه وطافت به الأحداث كل مطاف واشتدت به الأعاصير وضغطت عليه الأيام , فإذا هو يفتش عن مذهب يحميه وقانون يقيه وملجأ يأويه يرجو العثور على الضوء الذي ينير له السبيل ويقيم له الدليل على حقيقة تلكم الحرية واتساع أرجائها وامتداد بساطها وشرعية ما يوضع لها من حدود تحد من امتدادها وترامي أطرافها.
وإذا المذاهب يشع بريقها ويتوهج لمعانها تسعى لفتح الطريق وتعبيد السبل وإقامة الدعائم المتينة لمبادئ الحرية والانعتاق وقواعد التحرر والانطلاق لكن في حدود حددتها ومناطق رسمتها وخطتها وحصنتها , فلم تدع الفرد وشأنه ولم تنس أن تجعل القانون هو السيد الذي يركع لأوامره ونواهيه الفرد وتخضع لسيادته الجماعات.
أما الإسلام ديننا الحنيف فقد جاء من أول وهلة واحتضن شجرة الحرية وتبناها وبارك زرعها وسقاها وتعهد أصولها وفروعها وغذاها فأينعت في أيامه وفاخرت بجليل أحكامه.(4/735)
جاء الدين الإسلامي الحنيف يشع منه نور التسوية في الحقوق والواجبات ويشرع المساواة الشاملة الخالدة ويقي الحريات ويوسع نطاقها ومدلولها ومفاهيمها.
ولقد صدق من قال وهو شاهد من أهلها (1)
: ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدن على شفا جرف هار من الفوضى لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت ولم يكن ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة مشرفة على التفكك والانحلال وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية , إذ القبائل تتحارب وتتناحر , لا قانون ولا نظام. وكانت المدنية كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب.
وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد محمد الرجل الذي حرر العالم ووحده.
وفعلًا فقد اتخذ الإسلام الحرية دعامة لكل ما سنه من أحكام وخطه من نظم وحرص الحرص كله على تطبيق تلكم الحرية في مختلف أمور الحياة , فجاء بالحرية السياسية والحرية الفكرية والحرية الدينية والحرية المدنية بمفهومها الواسع , خاصة حرية الأفراد في أموالهم وممتلكاتهم.
فالإسلام يعبد طريق الحرية في ميادين الحياة المدنية , ويحمي الأنفس والأموال , وقواعده ظاهرة جلية في هذه النواحي.
فالفرد حر في تصرفه المدني ومعاملاته وعقوده، والتشريع يحميه ويرد عنه المعتدي , ولم يحدث قط أن أحل الإسلام مال غني وأعطاه لفقير مهما اشتدت حاجته.
__________
(1) هو العالم ج - هـ - دينسو مؤلف كتاب: العواطف كأساس للحضارة.(4/736)
والإسلام يسن العقاب الصارم الحازم لكل من يحاول الاعتداء على الأنفس والذوات والأموال والأعراض.
وهكذا نشاهد أن الإسلام قد قرر وحقق المبادئ الخاصة بحقوق الإنسان الفرد وحريته في تصرفه على أكمل صورة وأوسع نطاق , خاصة فيما يتعلق بأملاكه ومكاسبه , لكن نشاهده مع ذلك لم يترك الحبل على الغارب , ولم يهمل شأن المصالح العامة تلقاء المصالح الفردية.
فتراه للمصلحة العامة الاجتماعية ولمنفعة جماعة المسلمين يحد من بعض الحرية الفردية , ويضحي بالبسيط من الأمر لفائدة الهام والمهم.
والأديان التي هي في أصلها وواقعها جهاد متصل مسترسل لتحرير العقل البشري وإثبات حريته وكرامته وإزاحة كل حجر عليه.
ألم تكن هذه الأديان نفسها قيودا لحرية المرء وانطلاقه بما جاء فيها من أمر ونهي وتحليل وتحريم وإباحة ومنع؟
فالإسلام يحرص الحرص كله على تقرير المساواة بين الناس في الشؤون الاقتصادية , وذلك بالعمل على تحقيق تكافئ الفرص بينهم في شؤون الحياة المدنية وعلى تقليل الفوارق بين الطبقات وتقريبها من بعضها وتحقيق المساواة في أحسن وأجمل صورها.
يقول الأستاذ سيد قطب في كتابه العدالة الاجتماعية (صفحة 60) : " لا تستقيم حياة يذهب فيها كل فرد إلى الاستمتاع بحريته المطلقة إلى غير حد ولا مدى , يغذيها شعوره بالتحرر الوجداني المطلق من كل ضغط وبالمساواة المطلقة التي لا يحدها قيد ولا شرط , فإن الشعور على هذا النحو كفيل بأن يحطم المجتمع كما يحطم الفرد ذاته، فللمجتمع مصلحة عليا لا بد أن تنتهي عندها حرية الأفراد , وللفرد ذاته مصلحة خاصة في أن يقف عند حدود معينة في استمتاعه بحريته لكي لا يذهب مع غرائزه وشهواته ولذائذه إلى الحد المردي ثم لكي لا تصطدم حريته بحرية الآخرين , فتقوم المنازعات التي لا تنتهي وتستحيل الحرية جحيما ونكالا ويقف نمو الحياة وكمالها عند المصالح الفردية القريبة الآماد.(4/737)
والإسلام يمنح الحرية الفردية في أجمل صورها والمساواة الإنسانية في أدق معانيها , ولكن لا يتركهما فوضى , فللمجتمع حسابه , وللإنسانية اعتبارها , وللأهداف العليا للدين قيمتها , لذلك يقرر مبدأ التبعة الفردية في مقابل الحرية الفردية , ويقرر إلى جانبها التبعة الجماعية التي تشمل الفرد والجماعة بتكاليفها وهذا ما ندعوه بالتكافل الاجتماعي. انتهى.
ويقول الغزالي في الإحياء:
إنه لا يجوز أن يستعمل الإنسان حقه في غير الغاية الاجتماعية التي منح من أجلها الحق.
ويقول أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات (ص 348 وما بعدها) :
"إن من يثبت حقه الشرعي في أي أمر فإنه يمنع من استعماله إذا لم يقصد من ذلك إلا الإضرار بالغير".
ويقول القاضي الأستاذ زهدي يكن في محاضرة له عن المسؤولية المدنية، نشرية القضاء والتشريع التونسية ملحق عدد جانفي 1961:
"إن فكرة المصالح المرسلة دليل على المرونة المباحة في دائرة الشريعة نفسها , ويمكن أن نفهمها فهمًا عصريا بأنها اتخاذ ما يقتضيه الصالح العام , ويمكن أن نجعل أساسًا لها جميع القيود التي أوجبتها القوانين والأنظمة تقييدًا لحرية الأفراد في ملكيتهم من أجل الصالح العام , فحق الملكية حق فردي مقدس , إلا أنه يضحى به في سبيل المصلحة العامة عن طريق الاستملاك , وقد زيد في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام , واشتري الزائد من أصحابه في غير ضرار حينما كانت المصلحة العامة تقتضي ذلك , ويحسن أن ننوه بما صرح به الزرقاني في شرحه على الموطأ من أنه من الممكن اتخاذ أحكام جديدة في الظروف التي تطرأ عليها حوادث جديدة ولا غرو في تبعية الأحكام للأحوال. انتهى.(4/738)
هذا وقد أباح الإسلام للإمام رئيس الدولة أن يتصرف في توزيع الأموال على وجه يحقق التوازن الاقتصادي بين الطبقات ولو أدى ذلك إلى أن يخص ببعض المال طبقة دون أخرى.
وقد سن هذه السنة الحكيمة وأنفذها عمليا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من الله عز وجل فقد منح الرسول جميع أموال الفيئ من بني النضير للمهاجرين خاصة , ولرجلين فقيرين من الأنصار , ليقرب بذلك بين ثروات المهاجرين وثروات الأنصار , أي: مقدرة هؤلاء ومقدرة هؤلاء الحياتية ليحقق شيئًا من التوازن في ملكية الأموال بين هذين الفريقين اللذين كان يتألف منهما أول مجتمع إسلامي.
وفي هذا يقول الله سبحانه في كتابه العزيز:
{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (1) .
فالملكية الفردية معترف بها , لكنها محددة بهذه القاعدة , قاعدة ألا يكون المال دولة بين الأغنياء ممنوعًا بين الفقراء.
ومن ثم فالنظام الإسلامي يبيح الملكية الفردية وهي نظام فريد متوازن الجوانب متعادل الحقوق والواجبات (في ظلال القرآن: 6/ 3524) .
وقد حرم الإسلام تحريمًا قاطعًا كل الطرق التي تؤدي إلى تضخم رؤوس الأموال بأكل أموال الناس بالباطل أو الغش أو التحكم في المعاش بانتهاز الفرص في الأوقات الاستثنائية وبذلك منع الاحتكار وسد الباب في وجوه مستغلي أسواقه.
__________
(1) (الحشر:7 -8)(4/739)
قال سبحانه وتعالى:
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1)
وقال عز من قائل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2)
وقال عليه الصلاة والسلام:
((من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه))
ويقول عليه الصلاة والسلام:
((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم.
وهو عليه الصلاة والسلام يحمي أملاك الناس وأموالهم فيقول:
((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه)) ويقول: ((من ظلم شبرا من الأرض طوقه الله من سبع أرضين))
وقد أقامت الشريعة الإسلامية في باب الميراث حدودًا ضيقة منسقة جعلتها سدا منيعًا في سبيل تضخم الثروات , وتجمعها بيد واحدة , وكان النظام الإسلامي في هذا الباب نظامًا محكما , من شأنه أن يكفل توزيع الأموال بين الناس توزيعًا عادلًا لا تتفتت معه رؤوس الأموال وتقسم دائرة الانتفاع بها بين عدة عائلات , الأمر الذي من شأنه تقليل الفروق بين الطبقات.
وقد وقفت تلك الحدود التي حرم الله تجاوزها في وجه بعض التصرفات الشاذة التي من شأنها العبث بالأموال وجمعها بيد واحدة أو الانحراف بها عن مصرفها الشرعي.
فقد حرم الإسلام الوصية للوارث , وأباحها لغيره في حدود الثلث فقط , فحد بذلك حرية تصرف الفرد في تركته بعد مماته إلا طبق الحدود الشرعية.
__________
(1) (البقرة: 188)
(2) (النساء: 29)(4/740)
((عن سعد بن أبي وقاص قال: مرضت عام الفتح مرضا , أشفيت منه على الموت، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني , فقلت: يا رسول الله , إن لي مالا كثيرا , ولا يرثني إلا ابنتي , أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا. قلت: فثلثي مالي؟ قال: لا. قلت: فالشطر. قال: لا. قلت: فالثلث؟ قال: الثلث , والثلث كثير , إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس , وإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت فيها , حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك)) .
رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
يقول الإمام ابن تيمية في الفتاوى:
قال الله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} النساء: 12.
فالله سبحانه وتعالى إنما يقدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة بها , فإذا أوصى ضرارًا كان ذلك حرامًا , وكان للورثة إبطاله , وحرم على الموصى له أخذه بدون رضاهم , فلو اعترف الموصي أنه أوصى ضرارًا , لم تجز إعانته على تنفيذ هذه الوصية , ووجب ردها.
قيود في طريق الملكية الفردية:
قد رأينا أن الإسلام لا يمنع الملكية الفردية , ولا يقف في وجه حرية الأفراد وتصرفاتهم المالية , وهو بالعكس جاء حاميًا صائنًا لهذه الملكية مدافعًا عنها رادا الأيدي المعتدية عليها.
وبصرف النظر عن هذه الاعتبارات اللفظية التي جاء بها العصر الحاضر من أن الملكية الفردية هي وظيفة اجتماعية , هدفها وغايتها إرضاء متطلبات كافة أفراد المجتمع , والفرد موظف في خدمته , والقانون يحميه , فإن تشريعنا الإسلامي كما أنه يحمي المالك الفرد , يقي المجموعة البشرية الإسلامية من سوء تصرفات هذا الفرد ومن إفراطه في استعمال حقه وتجاوز حدوده فيه.(4/741)
فالتشريع الإسلامي يرفض الطرق الملتوية للملكية الفردية , ويأبى الاعتراف بالملكية غير المشروعة التي من أسبابها الغش والاختلاس والاعتداء وظلم الناس.
والتشريع الإسلامي يمهد الطريق لإقرار السلم الاجتماعي بين المتساكنين والأجوار في حقوق الارتفاق مثلًا بما سنه من حدود لها تنظم شأنها.
وهو يمنع إلحاق الضرر بالآخرين ويقف بالفرد عند حد إذا تطاول إلى الأموال ذات النفع العام مما يهم المجموعة كاملة.
والتشريع الإسلامي يخطط ويبين الأوامر التي فزع الناس إليها في عصورهم المتأخرة آخذين مبادئها عن المبادئ الإسلامية السامية. وتراه بذلك يحمي الفرد والمجتمع من اعتداء أحدهما على الآخر , ولا نقصد بالاعتداء الاعتداء على أملاك الناس وحرماتهم وأعراضهم , فهذه أمور أساسية تنبع من مقاصد الشريعة السمحة.
وإنما المراد حماية الأفراد والمجتمع من الإفراط في استعمال الحق والبعد بهذا الاستعمال والتعرف على الخطوط الكبرى التي يرسمها التشريع للمجتمع الإسلامي. وقد اعتمد فقهاء الإسلام على حديث ((لا ضرر ولا ضرار)) كأصل ثابت لهذا الموضوع , وهو حديث صحيح أخرجه الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة رضي الله عنه في الموطأ.
وقد اقتضى هذا النص حرمة صدور الضرر من كافة الأشخاص على غيرهم , سواء في البدن أو الأموال , وذلك عند التصرف المباح فيما هو من حقوق الفرد فضلًا عن تصرفه اعتداء على ما هو راجع لغيره.
واعتمد فقهاؤنا من المالكية بناء على قاعدة المصالح المرسلة أن ذلك يقوم على ثلاثة أركان:
أ) عدم جوز استعمال الحق إذا كان هذا الاستعمال لا تتولد عنه أية منفعة , بل ينشأ عنه ضرر للغير.
ب) عدم جواز ممارسة الحق إلا في الحدود التي منح من أجلها هذا الحق.
ج) ينقطع استعمال الحق المشروع في الوقت الذي ينشأ عنه ضرر فاحش للغير.(4/742)
قال عليه الصلاة والسلام في الحديث ذي السند الصحيح:
((خذ حقك في عفاف واف أو غير واف)) .
وفي رواية أخرى:
((خذ حقك في كفاف وعفاف واف أو غير واف يحاسبك الله حسابا يسيرا))
وقال عليه الصلاة والسلام:
((لا تستعل على جارك بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه)) .
والنظم العصرية تنظر إلى سوء استعمال الحق من زاوية الضرر. أما الشريعة الإسلامية فهي لا تقتصر على تقييد استعمال الحق بضرورة عدم وجود نية الإيذاء وانتفاء الإهمال أو المصلحة لصاحب الحق والوقوف عند ما يسمح به القانون وتحدده التراتيب , بل إنها ترمي إلى تقييد ممارسة الحق بالأغراض الاجتماعية والمناهج الاقتصادية التي وجد الحق وتكون من أجلها , وهي حينئذ تقوم على مبادئ سامية ومقاصد عالية اعتمدتها وقررتها هي نفسها , وهي:
أ) إذا تعارضت المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة , قدمت هذه.
ب) جواز تحمل الضرر الخاص في سبيل دفع الضرر العام.
ج) إن درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
وهذه النظرية مبسوطة في كتب الفقه معروفة منذ قرون عديدة تسبق التشاريع العصرية بآماد طويلة بعيدة , وقد طبقها علماء الإسلام تطبيقًا نظريا وعلميا منذ أزمان غابرة قبل أن يتناولها فقهاء القانون بالغرب وقبل أن ينقلوها عنا وقبل تدوينها في نظمهم العصرية متباهين متفاخرين بها.(4/743)
فإبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي المالكي المتوفى سنة790 هـ/1388 م. (صاحب الموافقات والاعتصام والمجالس والإفادات) قد حلل في كتبه مقاصد الشريعة والمصالح التي بنيت عليها أحكامها , فأوجب في الأحكام الشرعية أن تطبق وفاقًا للمقاصد التي وضعت لها , وعلى هذا توصل إلى منع استعمال الفعل المأذون فيه شرعًا إذا لم يقصد منه فاعله إلا الإضرار بالغير وفي ذلك حرمة وحماية لأموال وأملاك الناس ووقاية لمبادئ عالية أساسها الأخلاق والحق.
وهذا هو عين نظرية التعسف في استعمال الحق التي لم يعرف عنها الغرب شيئًا إلا منذ زمن قريب.
وهذا ابن تيمية في الفتاوى ج 3 ص 39 يقول: إن المقاصد - أي النوايا - معتبرة في التصرفات والعادات كما هي معتبرة في التقربات والعبادات , فقد قال الله سبحانه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [لنساء: 12] , فهو سبحانه يقدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة بها , فإذا أوصى ضرارًا كان ذلك حرامًا وكان للورثة إبطاله , وحرم على الموصى له أخذه بدون حصول رضا الورثة.
فلو اعترف الموصي أنه أوصى ضرارًا أو ثبت ذلك من الخارج لم تجز إعانته على تنفيذ هذه الوصية لما فيها من اعتداء على الحقوق يتجاوز ما أحل لصاحب الملك والمال.
وهويقول ج 3 ص 212:
إن قصد بالعقد غير ما شرع له العقد , فيجب أن لا يصح؛ وذلك لأنه سبحانه وتعالى شرع العقود أسبابًا إلى حصول أحكام مقصودة , وأن القصود والنيات معتبرة في العقود كاعتبارها في العبادات , فإنما الأعمال بالنيات. اهـ.
واتباعًا لنظرية ابن تيمية في كون المقاصد والنوايا معتبرة في التصرفات والعادات كما هي معتبرة في التقربات يمكن القول: إن الإنسان المسلم المؤمن بمبادئ دينه الحنيف والعامل بأحكامه يجب عليه أن لا يمارس حقه بصورة تمس بحقوق الآخرين حتى ولو كان القانون في جانبه والقضاء لفائدته والظواهر لصالحه.(4/744)
فالإنسان المسلم يقيم من ضميره ووجدانه حارسًا رقيبًا يتعقب أعماله وتصرفاته يأمره وينهاه ويصده عن البغي والاعتداء ويجعله مثالا في الإنصاف والعدل ينصف الناس من نفسه حتى ولو كان التشريع والقانون ظاهريًا في جانبه ولفائدته.
ويقول عليه الصلاة والسلام:
((كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد)) .
أي: أن صاحبه مسؤول عنه ومردود عليه , ويناله العقاب من أجله.
والتشريع الإسلامي يقرر أن المسلم مطالب باحترام حقوق الآخرين وأن القاضي بشر يخطئ ويصيب , وعلى المحكوم لفائدته أن يرد نفسه عن غيها وينهاها عن فجورها , فإذا كان القضاء لفائدته وهو يعلم أنه مخالف للحقيقة , فالواجب يقتضيه أن لا يستفيد من ذلكم الحكم , وأن يعترف بالحقيقة , وأن ينصف الناس من نفسه.
يقول عليه الصلاة والسلام:
((إنما أنا بشر , وإنكم لتختصمون إلي , ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض , فأقضي له على نحو ما أسمع منه , فمن قضيت له بشيء من حق أخيه , فلا يأخذنه , فإنما أقطع له قطعة من نار))
وعن أبي أمامة أنه صلى الله عليه وسلم قال:
((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة , وأوجب له النار. قالوا: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك. قالها ثلاث مرات)) .
كما يمكن أن نلاحظ أن الدين الإسلامي الحنيف في احترامه للحقوق جاء ناهيًا عن تجاوز الحق والإفراط فيه حتى ولو كان ضد المعتدي , فلا يمكن أن يجازى الإنسان عما اقترف من إثم بعقاب يتجاوز حدود ما صنعه واقترفه.(4/745)
يقول الشاطبي في الموافقات:
"الممنوعات في الشرع إذا وقعت , فلا يكون إيقاعها من المكلف سببًا في الحيف عليه بزائد عما شرع له من الزواجر وغيرها كالغصب إذا وقع فإن المغصوب منه لا بد أن يوفى حقه , لكن على وجه لا يؤدي إلى الإضرار بالغاصب فوق ما يليق به من العدل والإنصاف , فإذا طولب الغاصب بأداء ما غصب أو قيمته أو مثله , وكان ذلك من غير زيادة صح؛ لأن العدل هو المطلوب مع عدم الزيادة.
ومن الملاحظ أيضًا أن فقهاء الإسلام تقصوا مظاهر التعسف في استعمال الحق احترامًا للملكية الفردية وصونًا لحقوق الأفراد ونصوا على ذلك في الفقه التقديري.
فقد ذكر الإمام ابن تيمية أنه إذا سلطت مظلمة على جماعة من الناس بأداء مال معين ظلما , فليس من حق أحدهم أن يتهرب من أداء منابه وقسطه من هذه المظلمة , فيحمل على باقيهم ويضاعف بذلك مظلمتهم , بل إنه مدعو لدفع قسطه وإن لم يفعل يكون آثما.
ويمكن أن نذكر أمثلة مختصرة تبرز بوضوح آراء الفقهاء المسلمين في احترام الملكية الفردية واحترام حقوق الأفراد والنهي عن المس بهذه الحقوق حتى ولو كان الإنسان بصدد استعمال حق مباح له. فقد منع سحنون (1) رضي الله عنه صعود الصومعة إذا كان في ذلك كشف على المحلات والدور المجاورة لها.
وجاء في التبصرة لابن فرحون (2) : إنه من حق المالك أن يفتح في داره نافذة لدخول النور والهواء بشرط عدم تجاوز حقه , بأن تكون هذه النافذة كاشفة على جاره يستطيع بواسطتها الاطلاع على أحواله.
__________
(1) هوعبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي الملقب بسحنون ففيه مالكي ولد سنة 160 هـ/777 م بالقيروان. عالم جليل تولى القضاء وأحسن إدارته وله مواقف مشهورة , توفي بالقيروان سنة 240 هـ/ 854 م.
(2) ابن فرحون هو أبو الوفاء برهان الدين إبراهيم ابن الإمام شمس الدين محمد بن فرحون اليعمري المغربي المالكي. ولد ونشأ ومات بالمدينة سنة 799 هـ/1397 م , وتولى القضاء بها. فقيه مالكي محقق جليل , له كتب مطبوعة , منها تبصرة الحكام في أصول الأقضية والأحكام , وكتاب الديباج المذهب في تراجم أهل المذهب.(4/746)
وتعرض الفقهاء إلى أن ما يغرسه الجار في حديقة له يجب أن لا يتأذى منه جاره , ورتبوا على ذلك أن الفروع الممتدة إلى أرض الجار يجب أن تقطع.
جاء في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي (450 هـ) بسط ضاف في هذا الموضوع أثناء الحديث عن الحسبة والمحتسب.
والتشريع الإسلامي يصل به إلى التشدد في هذا المضمار إلى إزالة آثار الاعتداء ولو كانت نافعة.
فعن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن هشام بن عروة عن أبيه يرفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال:
((من أحيا أرضا ميتة فهى له , وليس لعرق ظالم حق. قال: الجمحى: قال هشام: العرق الظالم أن يجيء الرجل إلى أرض قد أحياها رجل قبله , فيغرس فيها أو يحدث فيها شيئا)) .
قال أبو عبيد: فهذا التفسير للحديث يحققه حديث آخر: سمعت عبادة بن عوام يحدثه , عن محمد بن إسحاق , عن يحبى بن عروة , عن أبيه يرفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام مثل هذا الحديث. قال عروة: ولقد أخبرني الذي حدثني بهذا الحديث ((أن رجلًا غرس في أرض رجل من الأنصار نخلًا , فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقضى للأنصاري بأرضه , وقضى على الآخر أن ينزع نخله. قال: فلقد رأيتها يضرب في أصولها بالفؤوس وأنها لنخل عم)) أي تامة في طولها والتفافها , والمفرد: عميهة , شرح السنة للإمام البغوي ج 8/ ص 230.
والتشريع كذلك يحترم حق الجماعة على حساب الأفراد , وينظر من زاوية المصلحة العامة إلى مصلحة الجماعة , فيدفع عنهم المضرة ويجنبهم التصرفات الشاذة ببعض الأفراد ويحد من حق هؤلاء لفائدة المجموعة العامة.(4/747)
من ذلك وضع القيود في كيفية تداول بعض السلع الغذائية التي هي ضرورية لفائدة الناس في يومهم القريب وتحريم احتكارها ومنع تداولها , فالفرد وإن كان من حقه الاتجار والاقتناء والربح , فإنه ليس من حقه أن يتحكم بسبب ثرائه وقوته المالية في الحياة الاقتصادية بإلحاق الأذى والمضرة بالضعفاء والمساكين. قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحتكر إلا خاطئ)) .
جاء في شرح الزرقاني على مختصر خليل في باب البيع:5/4:
للشخص أن يشتري وقت السعة قوت سنة أو أكثر، لا بوقت الضيق , فإنما يشتري ما لا يضيق على غيره كقوت شهر أو أيام , فإن اشترى ما يضيق أو اشترى كثيرًا وقت السعة , ثم حصل للناس ضرر , وجب عليه بيع ما زاد على قوته وقوت من تلزمه نفقته إن خيف بحبسه إتلاف المهج. باتفاق الباجي والقرطبي وابن رشد , فإن مست الحاجة ولم يكن الخوف المذكور , بل دونه , وجب عند ابن رشد. وقال الباجي: لا. واتفق على جواز احتكار غير الطعام كصوف وكتان , حيث لا ضرر على الناس في احتكاره , وفي الطعام حيث لا ضرر خلاف.
وعلق البناني في حاشيته على الزرقاني بقوله:
من اشترى ما يضيق على الناس فإنه يؤخذ منه بالسعر الذي اشتراه به , وأما من اشتراه وقت السعة , فإنه يؤخذ منه بسعر وقته.
وقول الزرقاني: وفي الطعام حيث لا ضرر خلاف ما قال المازري: قال ابن القاسم وابن وهب: سئل مالك عن التربص بالطعام وغيره رجاء الغلاء , قال: ما سمعنا فيه بنهي , ولا أرى بأسًا أن يحبس إذا شاء , ويبيع إذا شاء , ويخرجه إلى بلد آخر. وقال ابن العربي: إذا كثر الجالبون للطعام وكانوا إن لم يشتر منهم ردوه , كانت الحكرة مستحبة.
وعلى كل فإن القاعدة هي وقوف التشريع في وجه المضر بالناس المتجاوز لحقه في اتجاره , وهذا ما يفيده النقل السابق.(4/748)
ومن ذلك أيضًا تحريم الربا بأنواعه وتحريم عقود الغرر والمخاطرة والإثراء على حساب الآخرين وحتى الاعتداء بالرائحة الكريهة في المجتمعات والأندية وخاصة المساجد. قال عليه الصلاة والسلام: ((من أكل من هذه الشجرة فلا يقرب مسجدنا يؤذينا بريح الثوم)) .
ومن هذا أيضًا حق الحجر على السفهاء الذين لا يحسنون التصرف في أموالهم وإنفاقه في أوجهه الصالحة. فهم وإن كان من حقهم التصرف في خالص ما يملكون , فإنه من حق الجماعة أيضًا ومن حق الأمة أن تراقب تصرف أفرادها وطرق صرف أموالهم حتى لا يحيدوا بها عن طريق الصلاح والمنفعة والخير لفائدتهم ولفائدة مجتمعهم , كل ذلك اعتمادًا على قوله سبحانه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} النساء: 4
وقوله سبحانه وتعالى في آية الدين:
{فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} (1)
وقد عارض الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في عموم هذه القاعدة اعتمادًا على حرية التصرف في الأموال والاستقلال الذاتي , إلا أنه لا يخالف في عدة فروع يتجسم فيها الضرر بالمجموعة , فيحجر على الرشيد تصرفه فيها.
والإمام أبو حنيفة يبسط رأيه هذا , ويقدم بين يديه أدلته وأسانيده التي اعتمدها وأخذ بها , وذلك منذ ثلاثة عشر قرنًا (80 – 150) بينما نرى فقهاء القانون العصري عند تعرضهم لهذه النظرية ينسبونها إلى فقيه فرنسي معاصر هو الفقيه بلانيول الذي يقول: إن التعسف في استعمال الحق هو خروج عن الحق وهذا ينتهي حيث يبدأ التعسف , وأن العمل الواحد لا يصح أن يكون في وقت واحد متفقًا مع القانون ومخالفًا له.
وهذا عين ما ذهب إليه فقيهنا المسلم منذ قرون.
__________
(1) البقرة: 282(4/749)
تطور النظم العصرية
أما في النظم العصرية الحديثة فلقد تطور القانون المدني والقانون التجاري والقوانين الاجتماعية وسائر القوانين الأخرى من الفردية إلى الجماعية , وانفصلت عنها عدة فروع , وأخذت شكلًا جماعيًا يبتعد شيئًا فشيئًا عن الفردية المحضة؛ ذلك لأن الركنين الأساسيين في القانون الاعتيادي الكلاسيكي، وهما الملكية والالتزام , قد أخذا هما في التطور وقد تغير مظهرهما وكثير من أجزائهما الطبيعية.
لقد كانت فكرة الالتزام حجر الزاوية الذي تقوم عليه وترتكز علاقات الأفراد ضرورة أن الالتزام هو القانون الضاغط على الفرد للوفاء بالتزاماته وعقوده نحو معاقديه الأفراد الآخرين. وهذا النظام هو الذي يكون ويحدث الخلاف والنزاع والشجار بين الأفراد أنفسهم ويخلق ويوجد التصادم الضروري بين مصالح هؤلاء الأشخاص.
والمقنن العصري اتباعًا لسنة التطور واتباعًا لاتجاهات الناس وتغييرات أحوالهم ونزول نوازلهم أخذ يتدرج بهذا الحق نحو الزوال.
فقد كانت الحياة تقوم على أساس هذه المصانع البسيطة المتواضعة يملكها فرد واحد ويتعامل مع أجراء يبادلونه الحب والمودة والعاطفة ويكونون جميعًا أسرة واحدة ليس بين أفرادها خصومات أو شحناء , بل إن كل واحد يشعر بحاجته إلى صاحبه , وأن ربحه متوقف على دوام الصلة القائمة على الود والمحبة.
ثم جاءت الآلة وتضخم بها الإنتاج وسهل أمره كما وكيفًا وتكون المصنع العملاق يملكه جماعة من أصحاب رؤوس الأموال وقوم من الأثرياء يستخدمون فيه آلافًا مؤلفة من العملة الفقراء المحتاجين الذين لا يملكون قوت يومهم ولا يجدون ما يرضي متطلبات الحياة , وقد أصبحت معقدة لا يعرف الضروري فيها من غيره، وظهرت الجفوة ودب الخلاف وتحكمت المادة في العلاقة بين الجانبين , ودب الخلاف بين الأجير والعرف , ونبت الحقد وظهرت الكراهية , وأطلت الفتن بنارها الوقادة.(4/750)
وجمع العمال شتاتهم وتكتلوا في هذه المنظمات والهيئات التي توحد صفوفهم وتلم شملهم , تشد أزرهم وتخذل من يخذلهم , جاعلة منهم قوة تواجه قوة أصحاب وأرباب المعامل والمصانع والمؤسسات.
أخذت الفردية تضمحل في الميادين القانونية لتحل محلها النظم الجماعية القائمة على ذلكم البساط وتنازل الفرد الواحد عن حقوقه الضيقة لفائدة الجماعة الذي هو لبنة في هيكلها وانخرط معها في عقد جديد هذبه القانون إن لم نقل: صنعه وحماه , وشد ساعده ورعاه بغية إقامة علاقات ينقطع بها التزاحم والصراع بين أفراد هاتيكم المجموعات لتحل محلها روابط التعاون لإدراك الأهداف وتحقيق المصالح وحمايتها والإبقاء عليها عند تكونها ووجودها.
ومن هذا الوقت صار هذا المجتمع يمثل بصفة قانونية أفراده المتكون منهم الذين تخلوا طوعًا منهم واختيارا أو كرهًا وجبرًا عن حقوقهم أي عن التمتع بها بصفة فردية لها صبغة الحرية المطلقة وما لها من طعم خاص وصار التعاون الجماعي إن لم يكن اختياريا فهو مفروض فرضًا اقتضته الظروف وأملته المصالح وتغيرت بذلك فكرة الالتزام بمعناها التقليدي المتعارف بين الناس قديمًا.
وتجلى عن هذه الحقيقة أن الحياة الجماعية لم تعد أمرًا ماديا محضًا وجد بين أفراد أرادوا ذلك وسعوا إليه وعملوا على وضعه وإقامة حدوده , بل أصبحت نظامًا مقررًا ودستورًا مصادقًا عليه يقتضي التزام الفرد باحترام المبدأ للجماعة الذي هو أساسها , ذلكم المبدأ المتولد عن تكتلها واجتماعها وإقامة العلائق بينها على أساس المصلحة المشتركة لحماية الكل والذود عن حقوق كافة الأفراد , فلا تنقطع الشاة عن القطيع ولا يأكلها الذئب.
وهكذا أصبحت العلاقة الفردية مركزة بصورة قانونية شرعية على مبادئ وقوانين هاتيكم الجماعات.
ولنضرب لذلك بعض الأمثلة التي توضح هذه الحقيقة وتتجلى معها تلكم الفكرة بصورة واضحة ضرورة أن التطور الجديد أحدث تغييرًا في الأهلية وفي الالتزام وفي التمتع بالحقوق وحتى في تعاطيها.
فالشريك مثلًا في الشركات التجارية عندما يتم العقد يكتسي حقه صبغة جديدة لا علاقة لها بالحق الذي كان له سابقًا فهو غير حر في تصرفه وتمتعه إلا حسب بنود عقد الشركة واتفاق الأفراد المشاركين له، والأقلية في الشركات تكون خاضعة لرأي الأغلبية حتى في مالها الخاص الذي هو نتيجة أرباح لمال قدمه.(4/751)
والمحكمة عليها أن تقضي بذلك وأن تعمل به حادة من إرادة وحرية بعض الأفراد لصالح الأغلبية من بقية الجماعة. انظروا مثلًا ما جاءت به الفصول 122 حتى 134 من القانون التجاري التونسي.
ونشاهد أن النقابات تستطيع التحدث باسم جميع أفرادها وتدافع عن حقوقهم وتعلن الإضراب باسمهم , وبعبارة عامة تستطيع تعاطي كل الحقوق النقابية باسم سائر المنخرطين , ولا يستطيع المنخرط الواحد أن يصنع ذلك بالرغم عن كونه عضوًا في تلكم الجماعة وهاتيكم المنظمة.
وفي النقابات الصناعية والخاصة كأصحاب العمارات مثلا رعاية الدائنين المجردة ديونهم عن الامتياز , فإن الحق المشترك يقع تعاطيه بصفة جماعية لا بصفة فردية ولو أن الغاية لا تتغير.
وقد نرى تغييرًا تاما في الالتزام بالقيام بالشيء أو عدم القيام به فيما يتعلق بمخالفات الاحتكار وتحجير البيع بالثمن المختار وتحديد الأسعار. وفي الحجرات التجارية والفلاحية والشركات الصناعية أو بين أصحاب المهن كالمحامين والأطباء , فهذه تنظم تعاطي التجارة والصناعة أو المهنة , وترخص أو لا ترخص فيها تحت قيود وبنود يجب أن يخضع لها الفرد.
ونذكر هنا أيضًا المدينين المتضامنين فإن سلوك الواحد منهم يتوقف على سلوك الآخر.
والدعوى المنحرفة قيام الدائن لإبطال عقود مدينة فإنها مسموح بها لبعض الدائنين الذين كان دينهم متقدمًا عن الأعمال التي كانت سببًا في نقص المكاسب وترهلها وفقدان الضمان الكافي بسببها.
وفي حقوق العائلة نرى القانون يضغط على الحق الفردي لفائدة العائلة نفسها ومنفعتها وإبعاد الأذى عنها كإهمال العيال، فالأب يعاقب عقابًا عسيرًا؛ لأنه أهمل عياله وأبناءه ماديا وحتى أدبيا.
ونذكر أيضًا الأضرار الحربية ومشاركة الجميع فيما ضحاه أحدهم لفائدة ومصلحة المجموعة.
وقوانين الأكرية التي هي قوانين استثنائية تولدت ووجدت بموجب أزمة السكن في العصور الأخيرة بسبب الحرب وما نشأ عنها من وجود احتكار من طرف المالكين وانتهاز الفرصة لاستغلال حاجة المتسوغين فاقدي المسكن والمأوى , فاخترع المشرع هذه القوانين لحماية هؤلاء عادا بذلك لحقوق المالكين , وذلك لإحداث توازن عادل بين شرائح المجموعة وللوقوف في وجه الاحتكار والمحتكرين.(4/752)
وكذلك كافة القوانين الاجتماعية بصفة عامة المكونة هي أيضًا لتوازن بين الأجير ومؤجره والعامل وعرفه.
ونذكر عقود الانخراط وقوة فاعليتها وتأثيرها على المرتبطين بها الذين أمضوها وارتضوها.
وأخيرًا فقد تطور حق الملكية تطورًا كبيرًا محسوسًا وفقد طبيعته المطلقة ووقع السير به نحو المصلحة الاجتماعية وزالت عنه فكرة الملكية الفردية الحرة في التصرف المطلق واصطبغ بلون آخر يهدف إلى اعتبار أن الحق منح لخدمة الأفراد تحقيقًا لغرض اجتماعي , وبذلك أصبح وظيفة يقوم بها المالك تحت شروط وقيود تهم النظام العام وصالح الجماعة , وبذلك فإن أساء صاحب الحق استعماله , يكون قد أخل بالقيام بوظيفته , وكان ذلك داعيًا لتدخل الهيئة الاجتماعية وموجبًا للجزاء والعقاب والمؤاخذة والمسؤولية.
وهكذ نشاهد اندفاعًا قانونيا نحو الجهة المعاكسة يرمي إلى الوقوف في وجه الفرد ومنعه من تحطيم غيره والإضرار به وتمكين الجماعة من السير بأفرادها في الطريق السوي والاتجاه الحسن النافع ولفائدة الكل والقانون هنا لا يعتبر الفرد بل يعتبر الجماعة التي ينتمي إليها ذلكم الفرد.
وهذا الاتجاه الجديد الذي جاء بعد الانطلاقة الفردية يصور لنا أن القانون لا يترك الأمور تتغلب لجهة دون الأخرى , فمتى شاهد اندفاعًا نحو إحدى الجهتين عدل بين الكفتين , فهو يمسك بيده الميزان الحقيقي ميزان العدالة وهو وحده الذي يستطيع أن يجري التوازن بين هذه الحرية الفردية المطلقة المتحررة وبين اندفاع الجماعات لتضييق هذه الحرية والحد منها بل وحتى القضاء عليها أحيانًا.(4/753)
فالحرية المطلقة الكاملة المتحررة من كل القيود والموانع التي هي فوضى لا وجود لها ولم يكن لها وجود شرعي في الغابر منذ بدأت الخليقة ومنذ بدأت معركة الحرية سواء حرية العقل والفكر أو حرية التملك واكتساب الأموال والتصرف فيها , وليس لها وجود في الحاضر ولا يمكن أن يكون لها وجود في المستقبل , إذ إن الفرد الذي يعيش في مجتمع لا بد أن يتنازل عن بعض حريته لهذا المجتمع وبمقدار اعتزازه بحريته واستقلاله في تفكيره وآرائه يكون تأثير المجتمع فيه وفي حريته وحرية تصرفه وكل ما ينقص من هذه الحرية يضاف إلى سلطان المجتمع هذا المجتمع الذي يجب أن يؤمن بمفهوم هذه الحرية على حقيقتها الواقعية ويشيع هذا الإيمان وذلكم الفهم في كل أفراده على حد سواء بتصرفه الحاذق العادل النزيه.
ومع أن كل الدساتير تحترم حرية الأفراد وحرية المعتقد وتزجر كل من يحاول النيل منها.
ومع أن كل الشعوب تنادي بحرية القول والرأي والتملك والتعلم إلا أن كل ذلك لا يسمح للفرد الذي يعيش في أمة تريد أن تنهض وتريد أن تبلغ غايتها وتدرك أهدافها لا يسمح له أن يشل هذه النهضة وأن يوقف سير تطورها وتقدمها وذلك بالخروج بالحرية عن إطارها الطبيعي القانوني وتشويه صورتها والعبث بما فيها , وهذا أمر لا يحده ولا يرده إلا القانون في ظل المبادئ الدينية الأخلاقية , وهو الذي يرعى الحرية ويحتضنها , فيسير بها في هذه الطرق الملتوية والمنعرجات الخطرة يجنبها العثرات ويقيها مغبة الهفوات وينطلق بها انطلاقًا كاملًا في إطار من النظام والعدالة الاجتماعية الشاملة النافذة التي تخدم الصالح العام تحقيقًا لصالح الأفراد.
والفرد مهما ترنم وتغنى بحريته المطلقة في التصرف المالي والتملك العقاري وفي استعمال الحق وفي اختيار الطرق لهذا الاستعمال وانتخاب السبل التي يراها صالحة للوصول إلى تحقيق مخططاته وأدرك أغراضه والانتهاء إلى غاياته وتدعيم خططه ومناهجه لا يمكن له أن يستغني قط عن رعاية حاضنته العطوف الحنون الدولة التي هو أحد أفرادها , وهو ركن من أركانها , والتي تسعى إلى إسعاده وحفظ حقوقه وتوجيهه إلى السبيل القويم وحتى ولو كان في ذلك مظهر من مظاهر الحد من حريته وانطلاقه وتمتعه تمتعًا كاملًا بماله وأملاكه.(4/754)
وهو لا يكون عضوا صالحًا فيها ومواطنًا شريفًا قائما بواجبه إلا إذا سلك السبيل المؤدية إلى مصلحة الجميع وإلى خير الكل , وإلا كان بنقيض ذلك فوضويا أنانيا يسعى عن غير قصد إلى تخريب أعماد الجماعة والفت في ساعد الأمة.
والفرد مهما اعتز بهذه الحرية حرية التصرف والتملك وتنادى بالمحافظة عليها والذود عن حياضها , فهو كمعاقد لأمته يلتزم بأن لا يقوم إلا بكل نافع ومفيد وهذا العقد وهذا الالتزام يقتضيانه التنازل طبعًا عن بعض حريته ومصالحه لفائدة المجتمع ولصالح الأمة.
والدولة التي لا تسعى إلى تحقيق هذا الصالح العام وإقراره ولو بالحد من بعض الحريات - بقيود وشروط طبعًا - تكون خانت الأمانة التي ألقاها نفس ذلكم الفرد على عاتقها وطوق بها عنقها.
فالحرية المقيدة يزداد حسنها ويلمع بريقها ويصان جمالها بما يسن لها من أحكام.
إن من سن للمليحة قيدًا إنما صان حسنها حين سنا
المصلحة
أما وقد ربطنا الانتزاع بالملك , وسار التيار في هذا السلك , وعلمنا أن النزع والاستيلاء قد يصيب الملك من طرق مباحة شرعًا وعرفًا وعادة وقانونًا.
فلا بد أن ندرس بعد ذلك المعنى الثالث من عناصر الموضوع التي حواها عنوانه حتى يصيب التيار المفتاح , وتنقدح الشرارة وتنير المصباح.
وقد علمنا أن قداسة حق التملك مصانة محترمة إلا في صور استثنائية خاصة تدعو إليها وتلح في شأنها المصلحة.
فما هي هذه المصلحة المنظور إليها عند استنباط القواعد وترتيب الأحكام عليها وإباحة النافع وما فيه فائدة ومنع الضار المضر بالمسلمين وجلب المنفعة لهم ودفع المفسدة عنهم.(4/755)
هي المصلحة التي يمتطيها القرار توصلا إلى الملك دون النظر إلى الجوانب الأخرى والزوايا المتعددة لهذه المصلحة.
ما حقيقة المصلحة حينئذ , وما هي حدودها وظروفها وملابساتها حتى تكون المفتاح الذي ينير المصباح ويمهد الطريق لفعل مباح لحالة يعبر عنها بالاستصلاح , ويتوصل بها المصلح إلى الانتزاع في سبيل الإصلاح؟
المصلحة لغة:
هي مفعلة تدل على المكان , كمأسدة ومسبعة: مكان تكثر به الأسود والسباع.
وهي كل ما يبعث على الصلاح والمنفعة.
قال المعري:
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
والمصلحة مصدر ميمي أريد منه الحدث دون الزمان والمكان ومعناه: الصلاح والحسن الموجود في الفعل.
جاء في لسان العرب 3/348:
"المصلحة: الصلاح جمع مصالح , والاستصلاح نقيض الاستفساد".
ويطلق رجال العصر المصلحة على قسم من الإدارة يهتم بفرع من فروعها وشأن من شؤونها , له رئيس يسمى رئيس المصلحة.(4/756)
المصلحة عرفًا وفقهًا:
عرفها رجال التشريع الإسلامي بعدة تعاريف تصب كلها في مصب واحد وتنبع من منبع متحد.
عرفها الأصوليون بأنها تشريع الحكم في واقعة لا نص فيها ولا إجماع بناء على مراعاة مصلحة مرسلة أي: مطلقة أو ساذجة لم يرد عن الشارع دليل باعتبارها ولا بإلغائها.
وقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف المصلحة وتعيين المقصود منها على أقوال:
عرفها أبو حامد الغزالي (في المستصفى 1/286) بأنها عبارة عن جلب منفعة أو دفع مضرة ويعني بها المحافظة على مقصود الشرع وهو المحافظة على الدين والنفس والمال والعقل والنسل , وهذه الأمور الخمسة هي معيار المصلحة , فما يفوقها فهو مفسدة , وما يؤكدها فهو مصلحة.
وهو يقصد أن المصلحة المعتبرة هي ما قام الدليل الشرعي على اعتبارها , وليس كل ما اعتبره الناس أن فيه جلب منفعة أو دفع مضرة.
ويعرفها عز الدين بن عبد السلام وينوعها إلى أربعة أقسام: اللذات وأسبابها , والأفراح وأسبابها , والمفسدة: الآلام وأسبابها , والهموم وأسبابها (1)
وهو يمثل للمصالح المجازية التي هي في الأصل مفاسد , وأمر بها الشارع لما فيها من مصلحة كالقطع في حد السرقة والقتل في جرائم القتل والرجم في الزنا. فهذه مفاسد أوجبها الشارع وسنها؛ لأنه تترتب عنها مصالح , فهي مصالح مجازًا من باب تسمية السبب باسم المسبب (2)
والشيخ ابن عاشور في كتابه (مقاصد الشريعة) يقول: المصلحة وصف للفعل يحصل به الصلاح؛ أي: النفع منه دائما أو غالبًا للجمهور أو للأفراد , وتحقيق الحد الذي نعتبر به الوصف مصلحة أو مفسدة أمر دقيق في العبارة , ولكنه ليس عسيرًا في الاعتبار والملاحظة (3)
جلب المصالح ودرء المفاسد:
__________
(1) ابن عبد السلام: قواعد الأحكام 1/10 وما بعدها.
(2) ابن عبد السلام: قواعد الأحكام 1/10 وما بعدها.
(3) ابن عاشور: مقاصد الشريعة: 66.(4/757)
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بانية أحكامها على جلب المصالح ودرء المفاسد , ذلك أنها تسعى إلى مصالح الناس ومنافعهم وفاء بمطالب الحياة البشرية الإنسانية. والناس متفقون على أن التشريع الإسلامي قائم على حكم ومقاصد لرعاية مصلحة الخلق واللطف بهم وتحسين أحوالهم والرفع من مستواهم في حياتهم هذه ثم ما يثيبهم ويجلب لهم الأجر في حياتهم الأخرى.
فكل حكم من الأحكام الشرعية التي سنتها الشريعة السمحة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بحكمة ومصلحة ومنفعة دعت إلى تقرير ذلكم الحكم وتشريعه.
والفقهاء لا يختلفون في كون استنباط القواعد الشرعية وترتيب الأحكام عليها يستند في كثير من مصادره إلى البحث عن هذه الحكمة التي قصد إليها الشارع وراعاها وجعل بعض الأوامر والنواهي علاقة عليها ووسيلة للوصول إليها.
وهذا الحكم هو ما يعبر عنه بالمصلحة والبحث عن هذه المصالح واستقصائها هو ما يسمى أحيانًا بالاستصلاح؛ لأنه إذا كانت هذه المصلحة مطلقة في أحكام الشريعة فمن الخير استكشافها والبحث عنها للاستدلال بها على الحكم الشرعي وهذا ما يرمي إليه الإمام مالك رضي الله عنه في تسميته هذا الاستصلاح بالمصلحة المرسلة.
وعلماء الأصول متفقون على اعتبار المصلحة إذا ورد دليل شرعي على اعتبارها , كما أنه لا خلاف في عدم اعتبارها إذا قام الدليل على إلغائها.
وشيخنا الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور يعتني بوصف هذا الموضوع ويصف واجب علماء المسلمين في تتبع مقاصد الشريعة والإلمام بما ترمي إليه والاستعداد لما يحدث من قضايا لا نص فيها لما أحدثه الناس من أمور فيقول:
" فمن حق العالم بالتشريع أن يخبر أفانين هذه المصالح في ذاتها وفي عوارضها وأن يسبر الحدود والغايات التي لاحظتها الشريعة في أمثالها وفي أحوالها اعتمادًا ورفضًا لتكون له دستورًا يقتدى وإمامًا يحتذى , إذ ليس له مطمع عند عروض النوازل والنوائب العارضة أن يظفر لها بأصل مماثل في الشريعة المنصوصة ليقيس عليه بلا نص مقنع يفيئ إليه , فإذا عنت للأمة حاجة وهرع الناس إليه يطلبون قوله الفصل فيما يقدمون , وجدوه ذكي القلب صارم القول غير كسلان ولا متبلد (1)
__________
(1) ابن عاشور: مقاصد الشريعة: 80.(4/758)
أقسام المصلحة
القسم الأول: المصلحة التي قام دليل على اعتبارها واعتبرها الشارع وهي في نفسها ثلاثة أقسام:
أ) مصالح ضرورية وهي التي يتوقف عليها قيام مصالح الناس في حياتهم الدينية والدنيوية وإذا اختلت لم يستقم أمر هذه الحياة , وحفظ هذه المصالح يكون بالمحافظة على الأمور الخمسة: الدين , والنفس , والعقل , والمال , والنسل.
وهذه مصالح تتولد عنها الأحكام كالحكم بتحريم كل ما يفسد العقل، مما لم يكن له وجود في عصر النبي عليه الصلاة والسلام.
ب) مصالح حاجية وهي التي يحتاجها الناس لرفع الحرج عنهم , فلو فاتت هذه المصالح لم ينخرم ولم يضطرب حبل النظام في الحياة , ولكن يحصل العنف والحرج , والدين يسر لا عسر.
ج) ومصالح تحسينية وهي التي تكون من قبيل محاسن العادات وسمو الأخلاق كالتجمل بلبس الثياب الجديدة في الأعياد والمحافل والاجتماعات وكنبذ أكل ما فيه رائحة كريهة عند غشيان المجتمعات. وهذه المصالح التحسينية لا اعتبار بها في الاستنباط.
القسم الثاني: مصالح لم يعتبرها الشارع وألغاها , إذ أقام الدليل على الغائها؛ لأنه وضع أحكامًا تدل على إهدارها ضرورة أن الشرع الإسلامي لا ينظر إلى مجرد مصلحة الفرد , بل ينظر إليها من زاوية مصالح الآخرين , أي: مصالح المجتمع بصفة عامة , فهو لا يترك الحبل على الغارب في تصرفات الأفراد ولا يهمل شأن المصالح العامة تلقاء المصالح الذاتية الفردية , وتراه من أجل المصلحة الاجتماعية ولمنفعة جماعة المسلمين يحد من بعض تصرفات الأفراد , ويضحي بالبسيط من الأمر لفائدة الهام والمهم. وهذا ما يرشد إليه قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا ضرر ولا ضرار)) فهذا الحديث لفظه خبر , والمراد منه النهي عن الإضرار بالناس ابتداء , وعن رد الفعل بمضارتهم بسبب ما وقع منهم من ضرر , فلا يجازي المسلم أخاه لإدخال الضرر عليه , وهذه قاعدة مهمة جدا , بنيت عليها كثير من الأحكام الشرعية.(4/759)
ومن أمثلة هذه المصالح الملغاة إبرازًا لما نحن بصدده وإيضاحًا له نذكر:
1) حقوق الجواروالكشف , فقد تعرض الفقهاء إلى أنه ليس للجار أن يستعمل حقه بحيث يترتب على هذا الاستعمال ضرر لجاره. وقد منع سحنون رضي الله عنه صعود الصومعة إذا كان في ذلك كشف على المحلات والدور المجاورة.
وقد جاء في الحديث المتفق على صحته الذي رواه مالك في الموطأ، ورواه الإمامان البخاري ومسلم:
عن أبي هريرة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبته في جداره)) .
ثم يقول أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين , والله لأرمين بها بين أكتافكم.
يقول الإمام البغوي (1) هذا حديث متفق على صحته , أخرجه محمد بن عبد الله بن مسلمة , وأخرجه مسلم عن يحيى , كلاهما عن مالك. والعمل على هذا عند بعض أهل العلم. قالوا: إذا بنى الرجل بناء , فاحتاج فيه إلى أن يضع رأس الخشب على جدار الجار , فليس للجار منعه , وإليه ذهب الشافعي في القديم , وهو قول أحمد.
وذهب الأكثرون إلى أنه لا يجبر الجار عليه , والخبر محمول على الندب والاستحباب وحسن الجوار وهو قول مالك وأصحاب الرأي وعامة أهل العلم وقول الشافعي في الجديد. اهـ.
وعلى هذا الرأي الأخير العمل لدى القوانين الوضعية، ومنها القانون التونسي.
ومن مظاهر ذلك حرمة الطريق وعدم الاعتداء عليه وعدم حيازته وفي قضاء فقهاء المسلمين ما يوضح ذلك:
__________
(1) البغوي: فقه السنة 8/ 246.(4/760)
اختلف رجلان جاران في أمر , وهو أن أحدهما أحدث "دكانة" بالطريق لصق باب داره ليجلس عليها مع أصحابه يتحدثون ويتسامرون , فتعرض له جاره , وطلب منه إزالتها , إذ لا حق له في إشغال الطريق بهذه الدكانة , ولما احتد الخلاف بينهما , اتفقا على رفع أمرهما إلى قاضي القيروان حماس بن مروان الهمذاني (1) قاضي الجماعة في عهد الأمير زيادة الله الأغلبي , وقصداه وعثرا عليه في الطريق حاملًا لجرة ماء , فاستوقفاه وأشعراه بأنهما يريدانه لأمر بينهما , وطلبا منه أن يسمع منهما , فرحب بذلك , وأمرهما ببسط ما يتشاجران فيه , ثم وضع جرة الماء على ركبته , وتهيأ للسماع , فطلبا منه أن يستريح وأن يضع الجرة على الأرض , فقال: إن الطريق جعل للمارة , ومن حقي أن أمر منه , وليس من حقي أن أشغله بجرتي , وإن فعلت أكن قد تجاوزت حقي , وألحقت الضرر بالناس , وهذا لا يجوز.
فوليا عنه شاكرين قائلين: إنك قضيت بيننا , ولو أنك لم تسمع مقالتنا. وذهبا لحالهما , وأزال صاحب الدكانة دكانته , ورجع إلى الحق , وعدل عن تجاوزه.
3) ويندرج تحت هذا حرمة المساكن؛ لأنها ملك للغير , لا يجوز للناس حتى دخولها بدون موافقة أربابها.
4) الحجر على فاقدي الأهلية والسفهاء.
5) حق الشفعة.
6) الانتحار فهو ممنوع مطلقًا وقد تكون فيه مصلحة ومنفعة , كأن يكون مريضًا يعاني من الآلام من جراء مرض ميؤوس من شفائه , وهذا يحدث الآن في غير بلاد الإسلام , وقد يقتل المريض شفقة عليه.
7) مصلحة الجبان في عدم خوض المعركة والهروب من الميدان أو الاستسلام للعدو وذلك محافظة على نفسه وهذه ألغاها الشارع طالبًا بذل النفس في سبيل عزة كلمة الله.
__________
(1) القاضي حماس بن مروان ولي القضاء في رمضان سنة290 هـ/902 م بالقيروان من طرف زياد الله الأغلبي. قال الشيخ الجودي عنه في كتابه تاريخ قضاة القيروان: وكان لولايته فرح شديد , إذ كان من أفضل القضاة وأعلمهم , حسن الفطنة والنظر , وكانت أيامه أيام حق وعدل , وقص القصة أعلاه. توفي سنة 304 هـ/ 916 م ودفن بالقيروان.(4/761)
8) لا يمكن الحكم بقطع أصبع شاهد الزور , وإن كانت المصلحة ظاهرة , منعًا له من التمادي في الباطل وزجرًا أو ردعًا لغيره , لكن الشارع ألغى هذه المصلحة وردها؛ لأن التشريع الإسلامي قرر حفظ النفوس والأبدان إلا بحدود جاءت بها أحكام هذا التشريع.
9) جاء في رسائل الإصلاح للعلامة المرحرم الشيخ محمد الخضر حسين أن الشارع لا يلغي مصلحة إلا إذا عارضتها مصلحة أرجح منها.
ومن هنا نلاحظ العناية الفائقة باحترام النصوص وبحسن تطبيقها وعدم مسايرة المصالح العارضة لإهمال هذا التطبيق الحازم وظاهر أن حسن تطبيق النص أفضل من جهة المصلحة وأعمق أثرًا وأكثر خيرًا من احترام بعض الاستثناءات العارضة وخرق النص من أجلها.
وهذا ما يحدث الآن لبعض رجالات القضاء عند تطبيق النصوص الجامدة الجافة التي لم تترك فرصة للقاضي بأن يفسرها أو يؤولها لفائدة بعض المصالح الظاهرة الواضحة التي قد تهدر عند تطبيق النص واحترام حرفيته.
فالخصم الذي يطرق باب الاستئناف مثلًا بعد مضى الأجل يوجب النص على القاضي رفض مطلبه شكلًا ومنعه من الدخول في تفاصيل القضية وسبر أغوارها؛ لأن باب الاستئناف لم يفتح في وجهه بسبب شكلي. جاء القانون الحازم قاضيًا باحترامه وعدم إلغائه.
فإذا اطلع القاضي رغم ذلك على ما يحويه الملف واتضح له حصول غلط في القضاء الابتدائي , فهل يسوغ له لمصلحة إصلاح هذا الغلط وإنصاف هذا الخصم المتظلم الذي تهاون في طلب الاستئناف في أجله أن يفتح الباب وأن يقبل عنه الاستئناف رغم النص الحازم الشديد القاضي بالرفض تقديمًا للمصلحة على المفسدة.
الجواب بالنفي طبعًا؛ لأنه من الخير للناس أن تحترم النصوص وأن تطبق تطبيقًا سليما من أن تتلاعب بها الأهواء , وقد يكون هذا القاضى المحاول للإصلاح والتدارك هو المخطئ في نظرته , والأول هو المصيب.
ومن هنا جاء تمسك الفقهاء من المسلمين بحرمة النص ورعايته وعدم اللجوء إلى الاجتهاد مطلقًا في فهمه وتأويله متى كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة واضح المقصود.(4/762)
من ذلك مثلًا ما أفتى به بعضهم لبعض السائلين الأثرياء من أن كفارة جماع الزوجة في رمضان هي الصيام دون غيره. ولما قيل له في ذلك , قال: إن مثل هذا الثري يمكنه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة , ولكن الواجب حمله على أصعب الأمور. قال الشاطبي: هذا مخالف للإجماع (1)
وهو قبل ذلك مخالف للنص. والفتوى لا تجوز بما لم يأت به نص.
10) المثال العاشر إلغاء الشارع مصلحة صاحب المال في إنماء ثروته بالربا.
11) حرمان بعض الأزواج من إرجاع مطلقاتهم في بعض الصور.
والأمثلة كثيرة لا تدخل تحت حصر , وما قدمناه منها يوضح ما قصدنا إليه.
القسم الثالث: مصلحة لم يقم دليل على اعتبارها ولا على إلغائها , وأرسلها الشارع فلم يقيدها , من أرسل الشيء؛ إذا أطلقه , وهذا المسلك في التشريع وابتناء الأحكام عليه هو من محاسن الشريعة الإسلامية السمحة.
اختلاف الفقهاء في تعريف هذه المصلحة:
يعرفها بعضهم بأنها هي التي لم يقم دليل من الشارع على اعتبارها ولا على إلغائها وإنما سميت مرسلة؛ لأن الشارع أرسلها فلم يقيدها باعتبار ولا إلغاء. وذهب الإمام مالك رضي الله عنه إلى اعتبار هذه المصلحة كنظائرها عند تحققها.
ويلاحظ آخر بأن المراد أن أمر تقدير المصلحة موكول للاجتهاد والرأي دون اعتبار الشارع لها أو عدم اعتباره.
ويلاحظ ثالث أن المراد ألا يتقيد المجتهد في حكمه على ما يحدث من القضايا ويستجد من الأحداث المختلفة بالقياس على أصل منصوص عليه وأن تقيد بالمصالح والمقاصد والأهداف التي يرمي الشارع إليها.
والاختلاف في الأخذ بها:
كل المذاهب تأخذ بالمصلحة وكلها تستند إليها بقلة أو كثرة , وللمالكية القدح المعلى.
__________
(1) الشاطبي: الاعتصام 2/ 98.(4/763)
يقول شيخنا المنعم محمد العربى الماجري رحمه الله في دراسة له قيمة نشرها بمجلة جوهر الإسلام عدد1- 2 سنة أولى 1388 /1986.
: قد رأينا أن العمل بالمصلحة قد ترجح بكثرة دلائله , فعمل بها في سائر المذاهب مع الاختلاف في القدر , فيكون القول بالنعم غير بين , لهذا تصدى شهاب الدين القرافي لبيان هذا السر , وإليك زبدته:
إن السر في ذلك الإعراض عن تقرير هذا الأصل تقريرًا صريحًا واضحًا في ابتناء الأحكام عليه مع اعتبارهم له في الواقع , هو الخوف من استناد أئمة الجور عليه , وجعله حجة يصلون بها إلى تحقيق أهوائهم وإرضاء شهواتهم في دماء المسلمين وأموالهم.
لذا أرجعوا جميع الأحكام إلى النصوص ولو بأقيسة خفية وبناء على هذا يكون عدم نسبته للقائل به الخوف من طلب الإفتاء منه على وفقه عندما تدعو الحاجة إلى ذلك.
يقول الشيخ الماجري: ورأيي أن هذا التوجيه بعيد , إذ تواطأ جمهرة العلماء على إهدار هذا الأصل وعدم العمل به لتوهم ذلك الاستغلال مع ما في هذا الأصل من التبسط في ابتناء الأحكام عليه بطريق ميسور , وكيف يصح ما قالوا , والغزالي من رجال الطبقة الثانية في التأليف في الصناعة الأصولية بعد الإمام الشافعي وقد بسطه مع وضوح وسلامة في التعبير يعسر الظفر بمثيل له , فالظاهر أن السر هو تمسك السلف بالاعتماد على الكتاب والسنة والإجماع والقياس والبعد عن الاعتماد على الرأي , ألا ترى ابن حزم لهذا السبب أعرض حتى عن القياس , وقد توسم في كتابه الإحكام في إبطاله بما يساوي جزءًا خاصا. وقال في الإحكام ما مجمله: إن الاستصلاح والاستحسان والرأي لا يجوز الاستناد عليها. انتهى كلام الشيخ الماجري.
يقول شيخنا الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية ص 47:
وبعضهم نفى الاعتماد على القياس وعلى المصلحة (الظاهرية) وهم يقعون بذلك في ورطة التوقف عن إثبات الأحكام فيما لم يرو فيه عن الشارع حكم وهو موقف خطير يخشى على المتردد فيه أن يكون نافيًا عن شريعة الإسلام صلاحها لجميع العصور والأقطار. انتهى.(4/764)
والعلماء فيما يظهر ينقسمون في شأن هذه المصالح التي يمتطونها للوصول إلى أهدافهم , ومنها الانتزاع , الموضوع الضيق لدراستنا , ينقسمون إلى عدة شعب:
أ) نفي الاستصلاح والاقتصار على اتباع كل معنى له أصل.
ب) جواز اتباع وجوه الاستصلاح إذا لم يكن هناك نص من كتاب أو سنة أو إجماع يصادمه.
ج) التمسك بالمعنى وإن لم يكن فيه نص على شرط قربه من معاني الأصول الثابتة.
د) نظرية الطوفي التي تعتمد أن المصلحة هي مقصود الشارع ومن ثم فهي أقوى أدلته وأخصها وإذا عارض النص أو الإجماع المصلحة , فإنها تقدم , هذا في المعاملات , لا في العبادات.
ومن المعلوم المتفق عليه أن المجتهد الذي تعرض له قضية ينظر عند البحث عن حل لها وجواب مقنع للسائل عنها من الكتاب والسنة , فإن لم يجد فيها , فزع إلى إعمال الرأي , وأقوى دعائمه القياس. وهذا ما أشار إليه الحديث المشهور حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي رواه أبو داود والترمذي والإمام أحمد وهو ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعثه قاضيًا على اليمن قال له: كيف تقضى إذا عرض لك قضاء؟ فقال: أقضي بكتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو.
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدر معاذ , وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)) (1) والمراد بقول معاذ رضي الله عنه: أجتهد رأيي. القياس طبعًا؛ لأن معنى أجتهد: أبذل الجهد في معرفة الحكم بالقياس على النصوص الواردة بالكتاب العزيز أو بالسنة الكريمة , وليس المراد به الرأي الذي يلوح به من قبل نفسه أو يخطر بباله ولا يستند إلى أصل منها , إذ لا بد أن يكون اجتهاد الرأي مرده إلى أصل من الدين وإلا كان رأيًا مرسلًا. لا مستند له , والرأي المرسل لا عبرة ولا اعتداد به في الأحكام الشرعية.
__________
(1) مال إلى صحة هذا الحديث غير واحد من المحققين , منهم أبو بكر الرازي وأبو بكر بن العربي والخطيب البغدادي وابن قيم الجوزية. وهذا حديث جامع لعدة مبادئ في طريقة أخذ النصوص وفهمها وتأويلها وإعمال الرأي والاجتهاد.(4/765)
ونلاحظ أن في هذا الحديث ما يرشد إلى تشريع الامتحان بل المناظرة لانتخاب القاضي من بين المترشحين حفظًا لهذه الخطة وصونًا لها ورعاية لمصالح الناس وحقوقهم من أن يسند النظر فيها إلى غير الأكفاء.
ونلاحظ أن وجود القياس واعتباره كمصدر من مصادر التشريع عند غالب المذاهب وإن خالف فيه بعضهم كابن مسعود وبعض أهل الظاهر , فهو من أبرز الأدلة على سمو التشريع الإسلامي وسماحته ويسره وملاءمته لكل العصور , ذلك أن أحكام المعاملات تتغير بتغير الأحوال , فلزم الالتجاء إلى القياس , ومن ثم مراعاة مصالح الناس. قال سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور.
والشريعة الإسلامية في مجموع أحكامها وعامة عناصرها وكافة أسسها إنما هي معقولة المعنى واضحة الغاية جلية الإدراك وهي تشرح أسباب الأحكام وتعلل التحريم والإباحة والندب والترغيب ثم هي تعتمد قواعد جامعة , لها أصل من الكتاب والسنة وتعتمد لكل باب من أبواب الفقه أصولًا عامة يمكن إرجاعها إليها.
وهذا ما اعتمده الفقهاء وقرروا إخضاع المسائل المعروضة عليهم إلى تلك الأصول وقياسها عليها ولو لم يكن فيها نص سابق نظرًا لاتحاد علة الحكم وتشابه أوجه الأمر وفي ذلك يسر لا يضارعه أي يسر.
فإذا اهتدى الفقهاء إلى وصف مناسب في فعل منصوص على حكمه أمكن لهم القياس فيما يجد ويحدث من الأحداث وهي تنزل كل يوم بل كل ساعة , والمشاكل تطرح نفسها , وأصحابها يطالبون بالحلول.
فإذا حدث فعل ولم يوجد له نظير نص عليه ويمكن القياس عليه أي بالتعبير العصري إذا طرحت مشكلة لم يسبق فقه قضائي نظري أو حكمي فيها , فما هو العمل؟
فهل نحكم هنا باعتبار ما يترتب من جلب منفعة أو دفع ورد مضرة , أي برعاية المصلحة المطلقة المرسلة التي لا تتقيد رعايتها فيما جد من الأعمال بنظير سابق منصوص عليه وعلى حكمه أو بوجود وصف في الفعل المحكوم عليه سبق أن شهد الشارع باعتباره؟(4/766)
هذا هو مناط البحث بين الفقهاء , فالعمل بالمصلحة المرسلة يفيد تعليل الأحكام في الأفعال التي لم ينص على حكمها بالمصالح المشروعة المترتب عليها أو بضوابط ومعايير اجتهادية , هي أوصاف مناسبة مرسلة في الأفعال المحكوم عليها لم يشهد الشارع بإلغائها كما أنه لم يشهد باعتبارها بأي وجه من الوجوه.
يقول شيخنا الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة: (1)
"لا شبهة في صحة الإسناد إلى المصالح المرسلة لأنا إذا كنا نقول بحجية القياس الذي هو إلحاق جزئي حادث لا يعرف له حكم في الشرع مجزئ ثابت حكمه في الشريعة والمماثلة بينهما في المصلحة المستنبطة وهي مصلحة جزئية ظنية غالبًا لقلة صور العلة المنصوصة. فلأن نقول بقياس مصلحة كلية حادثة في الأمة لا يعلم لها حكم في الأثر على كلية ثابت اعتبارها في الشريعة استقراء أدلة الشريعة الذي هو قطعي أو ظني قريب من القطعي أولى بنا وأجدر بالقياس وأدخل في الاحتجاج الشرعي.
أمثلة:
ولنذكر أمثلة عامة باختصار للأخذ بقاعدة هذه المصالح تمهيدًا لما نحن بصدد دراسته وبحثه وتحقيقه بصفة عامة شاملة.
1) لا شك ولا خلاف أن الشارع متشوف لإثبات الأنساب وللمحافظة عليها , ولذا جاءت شهادة الشهود في عقود الأنكحة وأخذت بذلك التراتيب الإدارية الوضعية , فقانون الحالة المدنية يشترط شهادة شاهدين يحضران العقد ويصرحان بخلو الزوجين من الموانع الشرعية. ومما لا شك فيه ولا ريب أن شهادة الزور انتشرت وتفشى عدم التحري والجري وراء العواطف السطحية على حساب الأخلاق والأنساب مما تكفي الإشارة إليه بلا إطناب.
__________
(1) ابن عاشور: مقاصد الشريعة: 86.(4/767)
وحينئذ فالواجب يقتضي تسجيل عقود النكاح وإثباتها إثباتًا منظما محافظة على الأسرة والأنساب , والمصلحة تدعو إلى هذا , وهي مصلحة مطلقة مرسلة راعاها الشارع من جهة حثه على المحافظة والعناية بالإنسان والنسل , ولا يمكن بحال أن نترك الحبل على الغارب , فلا نأمر بتسجيل عقود الأنكحة , ولا ننهى عن العقود العرفية بعلة أنه ليس هناك نص , وأنه ليس هناك فعل مماثل منصوص عليه وعلى حكمه نقيس عليه , خاصة إذا كنا أمام الواقع وأمام قوانين الحالة المدنية العصرية التي توجب تسجيل عقود الزواج ولا تعترف بغيرها من العقود المدعى وقوعها على العرف والعادة فالتشريع الإسلامي والفقه المنبثق عنه سباق للأخذ بما فيه مصلحة وخير ومنفعة , لا أن يقف في سبيل ذلك.
2) وهذا أيضًا يقال في عقود البيع وخاصة عقود بيع العقار.
فالشارع يدعو إلى المحافظة على المال وينهى عن أكل أموال الناس بالباطل ويحرض الناس على الإصداع بالحق وعدم كتم الشهادة ويحرضهم على الإشهاد في تعاملهم المدني في آية التداين اجتنابًا لكل الخصومات وبعدًا عن الخلافات والمشاجرات والنزاعات.
وهذه الآية الكريمة التي هي دستور وسائل الإثبات ومصدر التشريع في موضوعها جاءت آمرة بالإثبات.
فحمل الناس حينئذ على تسجيل عقودهم حفظًا على مصلحة شرعية من غير قياس على فعل مماثل أو إلزامهم بذلك لوجود وصف مناسب يترتب على ربط الإلزام به تحقيق مصلحة شرعية هو من باب مصالح الخلق ورعاية منافعهم واتباع مقاصد الشريعة , وفي كل ذلك عمل بالمصلحة وأخذ بها.
3) وهناك مثال آخر فرضته الظروف وجاءت القضايا النازلة والحوادث الواقعة ثم التراتيب المعاصرة المعمول بها في كافة البلدان وهو موضوع تسجيل العقار باسم صاحبه حفظًا له وصونًا من كل نوائب الدهر.(4/768)
هذا الموضوع الذي كنا أشرنا إليه إشارة عابرة هو من أجل وأعظم المنافع التي تهم الأملاك العقارية , فالقوانين الآن تفرض تسجيل العقار وترسيمه بالسجل العقاري وتجعل حقوق المالكين غير معتبرة بالنسبة لغير المتعاقدين.
فإذا باع أحدهم عقارًا لشخص , وهذا أهمل ترسيمه بالسجل العقاري , وحدث أن باعه صاحبه مرة أخرى , فالمشتري الجديد إذا رسم شراءه , كان هو المالك , وضاع حق المشتري الأول ولم يبق له إلا الرجوع على صاحبه البائع له , أما العقار فهو لمن سجله ورسمه.
وطبيعي أن يعتبر هذ الإجراء السليم المطهر للعقار خاضعًا للمصلحة مطبقًا لمقصد الشريعة السمحة (1) .
__________
(1) جاء في كتب التاريخ عن سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: شكا رجل من بنى مخزوم أبا سفيان لعمر بن الخطاب بدعوى أن أبا سفيان ظلمه في حد مشترك بينهما ولزم إجراء توجه عيني من القاضي يحضره الخصمان والشهود وتجري فيه المعاينات وتحدد الحدود. وتوجه عمر رضي الله عنه مع المتداعيين إلى المكان الذي تنازعاه , وأجرى أبحاثه وأدرك بفراسته واستنتج مما سمعه صدق الشكوى , فأمر أبا سفيان بأن ينقل الحجر دلالة الحد وأن يرده إلى مكانه الصحيح , فأخذه ووضعه في مكانه الأصلي. ومن هنا نفهم أن تحديد العقارات وجعل علامات حجرية دالة على الحدود هو أمر عرفه المسلمون في صدر الإسلام ومارسوه ماديا وهم يسبقون بعدة قرون ما وضعه (تورانس) الاسترالي منظم تسجيل العقار في العصر الحديث. وفعلًا فإن عمر رضي الله عنه كان أنشأ ديوان الأموال الذي تحصى وتسجل فيه الأراضي والعقارات.(4/769)
اختلاف المذاهب
في الأخذ بهذه المصلحة
العلماء والأئمة والفقهاء متفقون على أن أمور العبادة لا يعتد فيها إلا بالنص.
يقول الشاطبي (1) إن الشارع لم يكل شيئًا من التعبدات إلى آراء العباد , فلم يبق إلا الوقوف عند حده , والزيادة عليه بدعة , كما أن النقصان منه بدعة. اهـ
وسبق أن قلنا: إن التشريع الإسلامي كان ثابتًا في ميدان العقيدة وأمور العبادة وأصول الأخلاق وما إلى ذلك , وحصل شبه الاتفاق على الاقتصار على النص في هذه المسائل.
وهو متطور في ميادين المعاملات المدنية والاجتماعية والتجارية بالأخص في كل ما يمس حياة التعامل بين الناس في معاشهم وحياتهم اليومية.
وفي المعاملات اختلف العلماء في اعتبار المصلحة , أخذ بها قوم , وذهب آخرون إلى عدم الاعتداد بها , ونشأ بسبب هذا الاختلاف أو الخلاف تأثير على الفروع الفقهية بين المذاهب.
الرأي الأول: الذي يذهب إلى جواز العمل بالمصالح المرسلة وهو رأي مالك بن أنس رضي الله عنه يقول أبو الحسن علي الآمدي: قد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك بالمصلحة المرسلة , وهي الحق , إلا ما نقل عن مالك أنه يقول بها مع إنكار أصحابه ذلك عليه , ولعل النقل إن صح عنه , فالأشبه أنه لم يقل بذلك في كل مصلحة , بل فيما كان من المصالح الضرورية الكلية القطعية , ومثل لذلك , كما إذا تترس الكفار في الحرب بأسرى المسلمين. وقد رد على الآمدي شيخنا المنعم محمد العربي الماجري في دراسة له منشورة بمجلة جوهر الإسلام التونسية لصاحبها المغفور له العلامة الحبيب المستاوي قائلًا: ادعاء الآمدي أنه لم يقل بالمصلحة المرسلة فقهاء الشافعية والحنفية وغيرهم فهو ينفيها عما عدا مالك , والواقع خلافه , إذ ما من مذهب إلا وفيه من يقول بها , وهو يدعي أن الفقهاء المالكية ردوا على إمامهم , ولم يذكر لنا ولو واحدًا منهم , وهو الواقع. والواقع أن عدة شبه نسبت لمالك وهو منها بريء.
ققالوا: إنه قال: يقتل الثلث لإصلاح الثلثين. وهذا لا أصل له. أنكر ذلك الشهاب القرافى والتاودي وغيرهم , ونسبوا إليه قطع العضو في التعزير , ولا أصل له في المذهب , ونسبوا إليه: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور , وهو غلط , فالنص نقله مالك نقلًا , ونسبه الزقاق والتاودي في شرحه للزقاقية لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. .
__________
(1) الشاطبي: الاعتصام: 2/ 316.(4/770)
يشترط لذلك ثلاثة شروط:
أ) أن تكون متفقة مع مقاصد الشرع ولا تنافي أصلًا من أصوله ولا دليلًا من أدلته.
ب) أن تكون معقولة في ذاتها تتلقاها العقول بالقبول متى عرضت عليها.
ج) أن يكون في الأخذ بها حفظ أمر ضروري أو رفع حرج لازم في الدين لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج: 78] .
ثم إن مالكًا رضي الله عنه يستدل على هذا الجواز بأكثر من دليل:
1) إن التشريع الإسلامي عودنا بأنه بني وأسس على المصالح مع إيضاحها أحيانًا وتبيانها وتسهيل فهمها على الناس.
قال الله سبحانه وتعالى:
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الآية 6 من سورة المائدة] .
فالقرآن يعلل سبب الدعوة والأمر بالوضوء بوجود مصلحة عامة هي التطهر. وهو يدعو الناس لإقامة الصلاة والمحافظة عليها؛ لأن في ذلك مصلحة عامة وكبيرة بينها وشرحها في قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} . [العنكبوت الآية 45] .
2) إن في الأخذ بالمصالح دليلا على اتباع منهاج التشريع الإسلامي وهو المرونة واليسر والسهولة والاحتياط.(4/771)
فالناس تختلف مصالحهم الدنيوية ومعاملاتهم المدنية وتتغير بتغير الزمان ولا يمكن حصرها ولا سبيل إلى تقصيها وفرض وضبط أحكام جامعة لها، ولا يمكن حينئذ الوقوف عند الحوادث التي حدثت في عهد التنزيل وفي صدر الإسلام , إذ من شأن هذا تضييق المحيط التشريعي والحيلولة بين الناس والتفكير في تيسير سبل معاشهم والتماس أفضل الوسائل توصلًا إلى الأغراض الشريفة والمصالح النافعة في حياتهم الدنيوية هذه.
ومن شأن هذا التضييق إلحاق المضرة بالناس وبمصالحهم وبسير دواليب المجتمع بصفة عامة , والدين يسر لا عسر.
فكان من الواجب ومن اللازم التوسع في استنباط الأحكام وابتنائها اعتمادًا على مقاصد الشريعة الإسلامية وشواهدها الجامعة المرشدة والدالة على الطريق بما وضعته من منارات توضح السير ويجب عدم الوقوف عند الجزئيات الفردية الحوادث الخاصة والشواهد المفردة.
وهذا بدون شك ولا ريب ضرب من محاسن هذه الشريعة السمحة ومن أسباب مرونتها وتطورها وصلاحيتها لكل زمان ومكان ولكافة شرائح المجتمع أي مجتمع.
3) إن علماء الأصول يجعلون الركن المهم في القياس هو العلة وما بني عليه الحكم في الأصل وتحقق في الفرع.
فالفقيه يعلل الأحكام بأوصاف في الأفعال المحكوم عليها مناسبة تلك الأحكام.
والمجتهد إذا وجد العلة التي بني عليها الحكم في الأصل متحققة أمر لم يرد فيه نص لزم بطريق القياس أن يكون الحكم في هذا الفرع مماثلًا للأصل الوارد فيه نص , ومن هنا جاء ما يعرف بتوليد الأحكام بطريق القياس.
فالخمر نص على حكمه بالحرمة لعلة الإسكار، ونبيذ الشعير أو التمر المسكر فرع لم ينص على حكمه , فإذا وجدت العلة التي بني عليها الحكم في الأصل متحققة في الفرع , لزم بطريق القياس أن يكون الحكم في الفرع مثله كالأصل.
فقد ورد في الحديث المتفق على صحته الذي أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه , فإن ذلك يحزنه)) وعلة ذلك لئلا يقع في نفسه الشك بأنهما يتناجيان ضده أو يبديان رأيا فيه أو لا يثقان في أمانته وحفظه للسر.(4/772)
فهذا أصل يقاس عليه حرمة الكلام ومنعه بين اثنين بلغة لا يفهمها ثالثهما متى كانا يحسنانها طبعًا.
فالصلة قد وجدت وتحققت في فرع لم ينص عليه , فيحكم فيه بمثل حكم الأصل.
وقد صح عن عائشة رضي الله عنها: ((إنا كنا أزواج النبي عليه الصلاة والسلام عنده , فأقبلت فاطمة رضي الله عنها , فلما رآها رحب بها ثم سارها)) . أخرجه البخاري. يقول البغوي: ففيه دليل على أن المسارة في الجمع حيث لا ريبة ولا شك جائزة، والله أعلم. ج 3 ص 91.
ومن المعلوم أن القياس أصل هام من أصول التشريع يقول بعض علماء الأصول: نظير الحق حق , ونظير الباطل باطل , وهو معمول به من طرف الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين بصفة عامة.
وقد أنكره إبراهيم النظام المعتزلي (221هـ) وداود الظاهري (270 هـ) وحاربه ابن حزم (456 هـ) وبالغ في إنكاره , وألف رسالة سماها" إبطال القياس". وتبعا للقياس يلاحظ أن الشارع أثر عنه تعليل الأحكام بالمصالح المترتبة عنها.
وإذا صح القياس بناء على تعليل الأحكام من طرف الشارع بالأوصاف المناسبة كما شرحنا سابقًا وجب تبعًا لذلك أن يصح اعتبار المصلحة المطلقة والمرسلة؛ لأن الشارع علل كثيرًا من الأحكام بالمصالح الناجمة عنها.
وهذه أمثلة لما ذكرنا:
أ) علل وجوب الوضوء بالطهارة , وعلل وجوب الصلاة بما يترتب على حسن أدائها من البعد عن الشرور والآثام.
ب) وعلل النهي عن شرب الخمر ولعب الميسر باتقاء المضار المترتبة عليها.
قال سبحانه وتعالى:
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] .(4/773)
ج) وعلل قسمة الفيء على ذوي الحاجة وعدم قسمته كما تقسم الغنائم بحسن توزيع الثروات وعدم تجمعها في يد واحدة وعدم تكون الطبقات بعيدة المستوى.
قال جل من قائل:
{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (1)
ومن أمثلة ذلك في السنة قوله عليه الصلاة والسلام للمغيرة بن شعبة وقد خطب امرأة لم يشاهدها ((انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) . فعلة النظر واضحة جلية يمكن القياس عليها متى وجدت هذه العلة ولم يؤثر النص.
4) ونجد الشارع يدعو دومًا إلى المحافظة على النفس والمال والنسب والعقل , والمجتهدون يقيسون بناء على ذلك عدة أمور وجدت فيها الأوصاف التي علل بها الشارع بأوصاف مشابهة.
ومثال ذلك تحريم المخدرات بناء وقياسًا على تحريم الخمر لجامع فقد العقل وعدم المحافظة عليه.
وحينئذ فالمجتهد عندما يراعي المصلحة في حادثة ما لا يعدو في الواقع أن يكون قد قاس على الأعمال التي أقرها وارتضاها الشارع لتحقيق هذه المصالح بناء على تعليل الأحكام بالمصلحة المترتبة عليها حين تعذر تعليلها بأوصاف مناسبة في أفعال منصوص على حكمها.
ونرتب على ذلك أن الشارع قرر أحكامًا وعللها بالمحافظة على النسل والمال , فنقول: إن المصلحة تدعو إلى تسجيل عقود الزواج , وفي ذلك حفظ للأنساب والنسل , لا شك فيه , وخاصة في زمن أصبح فيه ضمير الشاهد يشترى بالمال , والمصلحة كذلك , تدعو لتسجيل عقود بيع العقارات؛ لأن في ذلك حفظًا للمال وإقرارًا للنظام في هذا المجتمع المتقلب.
5) والدليل الخامس الذي يستند إليه القائلون بجواز الأخذ بالمصالح المرسلة هو جريان العمل.
__________
(1) [الحشر:7] .(4/774)
فالصحابة رضوان الله عليهم راعوا المصالح ورتبوا عليها أحكامًا من غير قياس على حوادث خاصة حدثت زمن التنزيل:
أ) فهذا أبو بكر رضي الله عنه جمع صحف القرآن المتفرقة , ولم يجمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم , وذلك فيما روى الإمام البخاري عن عبيد بن السياق أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إلي أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عنده , فقال: إن القتل قد اسحعر يوم اليمامة بقراء القرآن , وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن , وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن.
قلت لعمر: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير.
فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت الذي رأى عمر , قال زيد: قال لي أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك , وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم , فتتبع القرآن فاجمعه. (1)
وأبو بكر - رضي الله عنه - يحارب مانعي الزكاة ولم يحارب أحد من قبل جماعة من المسلمين؛ وذلك لأن المصلحة مصلحة الجماعة دعت لهذه الحرب وهو نفسه - رضي الله عنه - يشرح العلة وسبب الحكم.
ب) وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يراعي المصلحة في أحكامه فقد أسقط سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات لزوال العلة ولوجود المصلحة , كما أسقط لنفس الغرض حد السرقة في عام المجاعة كما منع بيع الإماء أمهات الأولاد.
روي عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد , والنبي صلى الله عليه وسلم حي لا يرى في ذلك بأسًا , وكذلك في زمن أبي بكر , فلما كان عمر , نهانا فانتهينا.
__________
(1) ابن حجر: فتح الباري 10 /384.(4/775)
وعن بريدة أنه قال:
كنت جالسًا عند عمر إذ سمع صائحة , فنادى غلامه , وقال له: انظر ما هذا الصوت. فنظر ثم جاء , فقال: جارية من قريش تباع أمها. فقال عمر: ادع لي المهاجرين والأنصار. فلم يمكث ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة , فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد , فهل كان في ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم القطيعة؟
قالوا: لا.
قال: فإنها أصبحت فيكم فاشية. ثم قرأ:
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (1)
ثم قال: وأي قطيعة أفظع من أن تباع أم امرئ منكم وقد أوسع الله لكم؟
قالوا: فاصنع ما بدا لك.
فكتب إلى الآفاق: ألا تباع أم حر , فإنها قطيعة , وأنه لا يحل. فهو رضي الله عنه يجتهد ويتتبع مسالك العلة ويراعي المصلحة , ويستشير أصحابه , ويبدي رأيه معللًا إياه بما اقتضته المصلحة العامة , ثم يأتي بالتنفيذ. فقد كان - رضي الله عنه - يفهم الإسلام ومقاصده , ويطبق أحكامه بنظرة واعية وبصيرة نافذة وسعي لخير الأمة وتحقيق مصالحها العامة.
ونقل أن سيدنا عليا كرم الله وجهه هم بالإذن ببيع أمهات الأولاد , وقال: إن عمل عمر كان رأيًا وافقناه عليه , فقال له قاضيه عبيدة السلماني: يا أمير المؤمنين , رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك. فقال علي: اقضوا كما كنتم تقضون , فإني أكره الخلاف.
وسيدنا عمر - رضي الله عنه - يراعي المصلحة العامة ويقدمها على مصالح الأفراد ويتخذ الحكم المناسب.
__________
(1) محمد: 22.(4/776)
روي أنه كان يمارس تفقد أحوال المسلمين ويحرسهم حتى في الليل , فمر ذات ليلة في المدينة وسمع امرأة تغني:
هل من سبيل إلى الخمر فأشربها
أو من سبيل إلى نصر بن حجاج
فسأل عن نصر هذا , فإذا هو أصبح الناس وجهًا وأحسنهم شعرًا , فأمر بقص شعره , فلم يفقد حسنه , فأمره بأن يعتم , فازداد حسنًا , فقال عمر: والله لا يقيم بأرض أنا فيها , ونفاه إلى البصرة بعد أن سلمه ما ينفعه في سفره.
وما روته كتب السيرة يفيد أن عمر بن الخطاب قسى في حكمه هذا على هذا الشاب الذي جادله وقال له: لقد سمتني قتل نفسي. فقال عمر: كيف ذلك قال: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} (1)
فقرن قتل النفس بالنفي والخروج من الديار. فقال عمر: ما أبعدت ولكن أقول ما قال شعيب عليه السلام:
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (2)
ثم قال له: ولقد أضعفت عطاءك ليكون ذلك عوضًا لك.
وقد حاول بعضهم تفسير موقف عمر هذا طبق مقاصد الشريعة وأحكامها في حرمة الناس وحرمة حرياتهم في أبدانهم وأموالهم خاصة إذا لم يقترفوا جريمة تعاقب عليها. يقول العقاد في كتابه عبقرية عمر:
" وفي القضية جور على نصر بن حجاج لا جدال فيه , ولكن في سبيل مصلحة أكبر وأبقى , أي في مصلحة عامة يرعاها الحكم العسكري في أزمنة كأزمنة عمر ويقضي فيها بما هو أعجب من إقصاء نصر بن حجاج يرعاها أحيانًا بمنع الإقامة بمكان ومنع المرور من طريق وتحريم تجارة لا حرام فيها ومراقبة إنسان يخشى أن يقترف جريمة وتقييد السهر بعد وقت معين من الليل.
ويقول عميد كلية عين شمس الأستاذ سليمان الطماوي في كتابه عمر بن الخطاب:
إن عهد عمر كان عهد تعبئة عامة لجميع الرجال القادرين على القتال , ونصر بن حجاج شاب فيه فتوة , وليس فيه ما يمنعه من الذهاب إلى ميادين القتال , ولكنه بدلًا من ذلك بقي في المدينة يصفف شعره ويجالس النساء. حقيقة إن الجهاد في الإسلام يقوم على التطوع الاختياري , ولكن أليس الخليفة ملزمًا بأن يحافظ على أعراض جنوده المجاهدين في سبيل الله.
__________
(1) النساء: 66.
(2) هود: 88.(4/777)
وكيف يستقيم ذلك وكثيرات من نساء المدينة قد تغيب أزواجهن , ومثل نصر بن حجاج يسرح بينهن , إذن فليذهب إلى مدينة عسكرية كالبصرة تعج بالرجال الأشداء , فلعله يراجع نفسه ويجاهد في سبيل الله؟
وأضيف إلى كلام السابقين خروجًا من التمحلات أن عمر - رضي الله عنه - راعى المصلحة , ولما جادله الرجل رجع عن قراره كحاكم وأمير تنفذ قراراته وجوبًا إلى استرضاء الرجل ومنحه ما يكفيه وزيادة حتى يرحل عن البلاد ويكف الأذية عن أهلها , وبذلك فلا نفي ولا إخراج , ولا جبر ولا إخراج , وكثيرًا ما رجع عمر - رضي الله عنه - إلى رأي غيره وسار مع الرأي المعارض , وهنا يكون قد صرف من بيت مال المسلمين مالا لمصلحة عامة , دعت إليها الضرورة الاجتماعية , وأقام بفعله دليلًا آخر على ما نحن بصدد شرحه.
والنفي والتغريب عن البلاد من الأمور المتعارفة الآن , وللقوانين الوضعية تفاصيل في شأنها , أهمها عدم النفي إلى خارج تراب الجمهورية.
وفي قضاء عمر أيضًا اعتمادًا على الأصل العام , وهو إباحة النافع وما فيه مصلحة , ومنع الضار المضر بالمسلمين ولو لم يكن ذلك بالقياس على حكم معين في قضية سابقة.
ما رواه الإمام مالك في الموطأ عن عمر بن يحيى المازني , عن أبيه , أن الضحاك بن خليفة ساق خليجًا له من العريض , فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة , فأبى محمد , فقال له الضحاك (1) .
__________
(1) الضحاك بن خليفة بن ثعلبة الأنصاري الأشهلي شهد غزوة بنى النضير قيل: هو الذي قال صلى الله عليه وسلم: " يطلع عليكم رجل من أهل الجنة ذو مسحة من جمال زنته يوم القيامة زنة أحد ". فطلع الضحاك بن خليفة. والخليج: شبه ساقية قال ابن منظور في لسان العرب 3/ 81: الخليج: شعبة تتشعب من الوادي تنقل بعض مائه إلى مكان آخر , والجمع خلج وخلجان. والخليج: نهر في شق من النهر الأعظم , وهو يقتطع من النهر الأعظم إلى موضع ينتفع به فيه. وفي الحديث: أن الضحاك ساق خليجًا ... وساق الأثر. والعريض: واد بالمدينة المنورة.(4/778)
: لم تمنعني وهو لك منفعة تشرب به أولا وآخرا , ولا يضرك. فأبى , فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب , فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة , فأمره أن يخلي سبيله , فقال محمد: لا. فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه , وهو لك نافع , فتسقي به أولًا وآخرًا , وهو لا يضرك؟ فقال محمد: لا والله. فقال عمر عندئذٍ: والله ليمرن به ولو على بطنك. فأمر عمر , فمر به الضحاك.
وسيدنا عمر- رضي الله عنه - في قضاء آخر له يعتمد ذلك. فقد جاء في الموطأ عن عمر بن يحيى المازني , عن أبيه , أنه قال: كان في حائط جده (وهو أبو الحسن تميم الأنصاري الصحابي) ، ربيع - أي: جدول صغير – لعبد الرحمن بن عوف فأراد عبد الرحمن أن يحوله إلى ناحية من الحائط هي أقرب إلى أرضه , فمنعه صاحب الحائط , فكلم عبد الرحمن بن عوف عمر بن الخطاب في ذلك , فقضى لعبد الرحمن بتحويله (1)
وهذا اجتهاد من الخليفة الثاني - رضي الله عنه - يقرر المبدأ والقاعدة بصرف النظر عن الأخذ بذلك في هذا الفرع من عدمه.
فقد علق الزرقاني بقوله: قضاء سيدنا عمر لأنه حمل حديث: ((لا يمنع أحدكم جاره خشبة يغرزها في جداره)) . على ظاهره , وعداه إلى كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه.
روى ابن القاسم عن مالك: ليس العمل على حديث عمر هذا , ولم يأخذ به , وقال الشافعي في (كتاب الرد) لم يرد مالك عن الصحابة خلاف عمر في ذلك , ولم يأخذ به , ولا بشيء مما في هذا الباب , بل رد ذلك برأيه.
__________
(1) شرح الزرقاني على الموطأ 4/ 34 - 35. - ط. دار الفكر 1401.(4/779)
قال ابن عبد البر: وليس كما زعم؛ لأن محمد بن مسلمة والأنصاري صاحب عبد الرحمن كان رأيهما خلاف رأي عمر وعبد الرحمن , وإذا اختلف الصحابة , رجع إلى النظر , وهو يدل على أن دماء المسلمين وأموالهم من بعضهم على بعض حرام , إلا بطيب نفس في المال. ومذهب مالك أن لا يقضي بشيء مما في هذا الباب؛ لحديث: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)) . وهو قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - وهو أيضًا قول الشافعي - رضي الله عنه - في القديم , ومشهور قوله في الجديد. انتهى.
وهذا هو الذي اقتبسته النظم الحديثة فيما وضعته من قوانين , ومنها القانون التونسي في شأن حقوق الارتفاق. الفصل 165 من مجلة الحقوق العينية.
ولقد اهتم الخليفة الثالث سيدنا عثمان بن عفان - رضي الله عنه وأرضاه - بموضوع جمع القرآن لما خاف الفتنة في اختلاف الرواة , فجمع القرآن في مصحف واحد , وأمر بإحراق ما عداه , وما ذلك إلا مراعاة منه للمصلحة العامة.
فقد روى البخاري , عن أنس بن مالك , أن حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل الشام وأهل العراق حتى فتح أرمينية وأذربيجان فأفزعه اختلافهم في القرآن , فقال لعثمان رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين , أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة (1)
__________
(1) حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ولدت سنة 18 / 604 قبل الهجرة. من أمهات المؤمنين. صحابية جليلة صالحة. ولدت بمكة وتزوجت خنيس بن حذافة السهمي , فكانت عنده إلى أن ظهر الإسلام. فأسلما وهاجرت معه إلى المدينة , فمات عنها , فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيها , فزوجه إياها سنة 2 هـ أو سنة 3 هـ , واستمرت في المدينة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أن توفيت بها سنة 45 هـ/ 665 م روى لها الشيخان ستين حديثًا. (الأعلام 2/ 292) .(4/780)
: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان , فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش , فإنما نزل بلسانهم. ففعلوا , حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف , رد عثمان الصحف إلى حفصة , وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا , وأمر بسواه في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق (1)
وحدثت في عهد سيدنا علي - كرم الله وجهه - قضية , صورتها أن رجلًا كان يلاحق آخر لقتله , وكاد الهارب أن يتملص ويفر وينجو بنفسه , إلا أن مارا بالطريق أعان الملاحق وساعده , وذلك بمسكه للفار المراد قتله , حتى تمكن منه خصمه وقتله , وكان هناك رجل آخر بالطريق ينظر ولم يساعد القتيل , ولم ينجده ولم يسع لإبعاد الموت عنه.
فقضى سيدنا علي كرم الله وجهه بأن يقتل القاتل , وبأن يسجن المساعد حتى الموت , وأن تفقأ عين الذي كان يرى ويشاهد , ولا يساعد ولا ينجد.
وهذا من باب قاعدة المصلحة واعتمادًا على قاعدة التعزير إذ لا نص فيه.
وعقاب الممسك عن النجدة أخذ منه مبدأ المشاركة المعبر عنها بالامتناع المحظور , وهي جريمة جاءت بها القوانين الحديثة , ونص عليها في قانون العقوبات التونسي بالأمر المؤرخ في رجب 9 جويلية 1361 /1942 والأمر المؤرخ في جمادى الآخرة سنة 1373 فيفري 1954 , والقانون عدد 48 المؤرخ في صفر 1386 الموافق 3 جوان 1966 المنشور بالرائد الرسمي عدد 24 المؤرخ في صفر جوان 1386 /1966.
وقد نص الفصل الثاني من هذا القانون على مبدأ إغاثة الغير ونص على عقاب من أمسك وامتنع عن هذه الإغاثة.
__________
(1) ابن حجر: فتح الباري 10/ 391 وما بعدها.(4/781)
وهذه العقوبة تصل إلى خمسة أعوام سجنًا وعشرة آلاف من الدنانير خطية. وحينئذ فإن أصل هذه المخالفة الزجرية التعزيرية مأخوذ عن التشريع الإسلامي وعن فقه قضائه الذي اعتمد المصلحة في إقراره.
الفقه القضائي والفتاوى
وهناك فقه قضائي وفتاوى لكبار الفقهاء وبالرغم من عدم الأخذ بنظرية المصالح من طرف كثير من أئمة الفقه الإسلامي إلا أنه تطبيقيًا نشاهد آثار ذلك متعددة تفيد أن غالب هؤلاء يوافقون المالكية ويبنون اجتهاداتهم وأحكامهم واستنتاجاتهم على المصالح للنظر في استنباط الأحكام وابتنائها عليها.
الحنفية:
فالإمام أبو حنيفة النعمان - رضي الله عنه- لم يتعرض في الأصول التي بنى عليها أحكامه إلى المصلحة المرسلة , ولم يتخذها مصدرًا مستقلا من مصادر التشريع الإسلامي , ولكنه مع ذلك أخذ بالاستصلاح , وابتنى كثيرًا من اجتهاداته عليه , وهو زعيم أصحاب الرأي وأسبقهم في مضماره.
ولئن لم يدون في أصوله ما يدل على أخذه بذلك , فإن فيما نقل عنه أصحابه كأبي يوسف مما كتبه في خلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى لدليلًا يوضح أهمية المصلحة في فقه أبي حنيفة وعموم اجتهاده (1)
وخط المصلحة في فقه أبي حنيفة يكمن في دليلين من أهم الأدلة التي امتاز بها فقهه - رضي الله عنه - وهما الاستحسان والعرف.
فقد كان الاستصلاح أو المصلحة المرسلة معتمدة عنده , ولكنه كان داخلًا في اعتباره ضمن ما يسميه بالاستحسان أو اعتماد العرف , وكما يقال: لا مشاحة في الاصطلاح.
وأكثر الناس استعمالا للعرف واستنادًا إليه هم الأحناف , فقد اعتبروه وخرجوا عليه كثيرًا من الأحكام الشرعية ويأتي بعدهم المالكية والحنابلة ثم الشافعية.
__________
(1) د. الخن، ص 535.(4/782)
قال العلامة ابن عابدين في رسائله (ج1 ص 44) :
والعرف في الشرع له اعتبار
لذا عليه الحكم قد يدار
وذكر ابن نجيم في الأشباه والنظائر قاعدة العادة محكمة.
والاستحسان عند الإمام النعمان هو ما عرفه أبو الحسن الكرخي بقوله: " أن يعدل المجتهد عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول".
وعرفه بعضهم: (بأنه العدول عن موجب القياس إلى قياس أقوى منه) .
فالاستحسان عند أبي حنيفة النعمان - رضي الله عنه - أساسه أن يأتي الحكم مخالفًا لقاعدة مطردة لأمر يجعل الخروج عن القاعدة أقرب إلى الشرع من التمسك بالقاعدة.
والاستحسان كيفما كانت صوره وأقسامه , فإنه يكون في مسألة جزئية ولو نسبيا في مقابل قاعدة كلية يلجأ إليه الفقيه في تلك الجزئية حتى لا يؤدي الإغراق في القاعدة إلى الابتعاد عن الشرع في روحه ومعناه ومقاصده وغاياته العامة.
وهو عند المالكية الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي عرفه ابن رشد بقوله: الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعم من القياس هو أن يكون طرحًا لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه , فعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم مختص به ذلك الموضع (1)
__________
(1) ومن هنا نفهم البون بين ما نحن بصدده والعرف. فالعرف يعتبر أصلًا من أصول التشريع عند المالكية فيما لا يكون فيه نص قطعي. وقد تختلف الفتوى أو الحكم تبعًا لتغير العرف , وكثير من الفقهاء عدلوا من فتاواهم عن المشهور من المذهب وبينوها على العرف. قال القرافي: إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك , لا تجره على عرف بلدك والمقرر في كتبك , فهذا هو الجهل الواضح. الفرق 28 من فروقه.(4/783)
وشرح هذا أن الاستحسان لا يقيد الفقيه المجتهد عند بحث الجزئيات بتطبيق ما يؤدي إليه اطراد القياس , بل يترك لتقديره الفقهي ما يراه صالحًا أي مصلحة أو أمرًا حسنًا في هذه الحادثة الطارئة ما دام ذلك يخالف نصا من كتاب أو سنة (1)
وبعض فقهاء المالكية يعبرون عن الاستحسان تعبيرًا جميلًا فيقول:
"إنه دليل ينقدح في نفس المجتهد , لا تساعده العبارة عنه , ولا يقدر على إظهاره ".
أي أن الاستحسان هو ما يعرف اليوم بالاتجاه إلى روح القانون , والاعتماد في ذلك كمال فقه المجتهد وإلمامه التام بالشريعة ومقاصدها , وليس معنى أن العبارة لا تساعده أنه لا يمكنه إقامة الدليل على وجه المصلحة فيه , فهذا حتمي الوجوب والثبوت , بل معناه أنه لا يمكن إظهار الأصل الفقهي الذي يعتمد عليه ويسند أمره إليه.
والفرق بين المصالح المرسلة والاستحسان عند المالكية أن الأولى هي الأخذ بمصلحة لا يشهد لها دليل خاص بالنفي والإثبات في موضع لا دليل فيه غير كونها مصلحة.
والاستحسان الأخذ بمصلحة في مسألة جزئية ينطبق عليها دليل كلي , وترك ذلك الدليل العام الكلي وعدم الأخذ به في هذه الجزئية.
فلو اشترى بضاعة بالخيار ثم مات , فاختلف الورثة إمضاء وردا. فالقياس الدليل الكلي - الفسخ. قال أشهب المالكي: ومع ذلك نستحسن إذا قبل البعض الممضي نصيب الراد إذا امتنع البائع وهو صاحب إيجاب معروض منه ومطروح على معاقده , لا يمكنه التداخل في خلاف الورثة الذين انجر لهم الحق بوجه عام إذا رضي بعضهم ورفض البعض الآخر؛ لأنهم يمثلون مورثهم , وانتقلت حقوقه إليهم جملة , وخلافهم لا يهم معاقده البائع.
والعرف عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - أصل فقهي للاستنباط وابتناء الأحكام , وذلك لحديث:
"ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح "
__________
(1) انظر كتاب أبو حنيفة لأبي زهرة.(4/784)
ولأن مخالفة العرف والعادة لا تخلو من حرج وضيق والله سبحانه وتعالى يقول:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1)
يقول بعض الحنفية: كلام أبي حنيفة أخذ بالثقة , وفرار من القبح , والنظر في المعاملات بين الناس وما استقاموا عليه وصلحت به أمورهم , فيمضي الأمور على القياس , فإذا قبح القياس , يمضيها على الاستحسان ما دام يمضي له , فإذا لم يمضي له رجع إلى ما يتعامل به المسلمون.
ومعنى هذا أنه يأخذ بالقياس والاستحسان عند فقد النص , فإذا لم يكن عنده قياس دائما عند فقد النص , فإنه يدرس تعامل الناس والعرف الجاري عندهم ثم يقرر الحكم.
وأحسن مثال نقدمه هنا على الأخذ بالعرف والعادة لما فيهما من مصلحة ما قصه ابن عابدين في رسائله (ج3 ص143) في موضوع العشر الواجب في الأراضي الزراعية المستأجرة , هل هو على المستأجر أم على المؤجر؟
فالإمام أبو حنيفة يحمله على المالك؛ لأن الزكاة مؤونة الملك وثمرته , وملك الأرض للمؤجر , لا للمستأجر.
وقال الصاحبان أبو يوسف ومحمد بن الحسن: إن العشر على المستأجر؛ لأن الزكاة تؤخذ من الزرع , فتتبع مالك الزرع وهو المستأجر.
قال ابن عابدين: إن تطبيق رأي الإمام الذي يرجحه الأقدمون يؤدي إلى ظلم أراضي الأوقاف , ولذا أفتي برأي الصاحبين تماشيًا مع العرف.
يقول الكاساني في بدائعه (ج 2، ص 56) :
(ملك الأرض ليس بشرط لوجوب العشر , وإنما الشرط ملك الخارج , فيجب في الأراضي التي لا مالك لها وهي الأراضي الموقوفة؛ لعموم قوله سبحانه وتعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (2) وقوله عز وجل: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (3)
__________
(1) الحج: آية 78
(2) البقرة 267.
(3) الأنعام: 141(4/785)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما سقته السماء ففيه العشر)) (1) وذلك لأن العشر يجب في الخارج لا في الأرض , ولو آجر أرضه , فعشر الخارج على المؤجر عنده , وعندهما على المستأجر.
المذهب الشافعي:
الشافعي رحمه الله لا يعتمد إلا الكتاب والسنة والإجماع والقياس دون غيرها.
يقول في الرسالة: لا تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها. وفي كتاب المصلحة في التشريع الإسلامي يشير مؤلفه الأستاذ مصطفى زيد إلى أن الشافعية قد أفتوا في بعض الصور تطبيقًا لقاعدة المصلحة المرسلة.
المذهب الحنبلي: هذا المذهب يعتمد اعتمادًا واضحًا على المصالح العامة المرسلة. يقول ابن القيم في كتابه "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: " إن ابن عقيل الحنبلي حاج شافعيا في موضع العمل بالمصلحة المرسلة. فقال الشافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع. قال ابن عقيل: السياسة ما كان الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد , وإن لم يضعه الرسول , ولا نزل به وحي.
فإن أردت بقولك: " إلا ما وافق الشرع " أي: لم يخالف ما نطق به الشرع , فصحيح , وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع , فغلط , وتغليط للصحابة , فقد جرى منهم من ذلك ما لا يجحده عالم بالسنن.
__________
(1) في البخاري ومسلم: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عشريا العشر , وما سقي بالنضح نصف العشر ". قال البغوي: حديث صحيح.(4/786)
الطوفي: ولا يجمل بنا أن نهمل الحديث عن رأي هذا الفقيه الحنبلي الذي يبالغ في الأخذ بالمصلحة , وأول من ألقى الأضواء على نظرية هذا الفقيه هو علامة الشام السلفي الشيخ جمال الدين القاسمي , إذ نشر رسالة للطوفي في شرح حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) . وعلق على ذلك. ثم تبعه الشيخ رشيد رضا , ثم وضع عنه الأستاذ مصطفى زيد رسالة للحصول على الأستاذية , ثم كتب عنه الأستاذ د. عبد الوهاب خلاف وغيرهم كثير.
من هو الطوفي (1) :
هو أبو الربيع نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي الصرصري فقيه حنبلي ولد بقرية طوف من صرصر بالعراق. دخل بغداد سنة 691 هـ 1291م ورحل عنها سنة 704/ 1304م وزار مصر والحرمين حيث أقام هناك وتوفي سنة 716 /1316م ببلدة الخليل.
ألف عدة كتب وهي:
1) بغية السائل في أمهات المسائل.
2) الإكسير في قواعد التفسير.
3) الرياض النواخر في الأشباه والنظائر.
4) معراج الوصول في أصول الفقه.
5) الذريعة إلى معرفة أسرار الشريعة.
6) تحفة أهل الأدب في معرفة لسان العرب.
7) الإشارات الإلهية في المباحث الأصولية.
__________
(1) راجع ترجمة الطوفي في الدرر الكامنة لابن حجر 2/ 154 وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 366 زيادة على ما ذكرناه.(4/787)
8) العذاب الواصب على أرواح النواصب - حبس من أجله وطيف به في القاهرة.
9) تعاليق على الأناجيل.
10) شرح مقامات الحريري.
11) شرح مختصر الجامع الصغير للترمذي.
وقد شرح الأربعين حديثًا للإمام النووي وحينما وصل في شرحه إلى حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) . أطنب في شرحه وإجلاء مقاصد الشارع منه حتى انتهى به القول إلى اعتبار المصلحة اعتبارًا أساسيا وتقديمها على جميع الأدلة.
وقد طبع الشيخ جمال الدين القاسمي هذا الشرح لحديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) وعلق عليه في رسالة خاصة.
ويتلخص رأي الطوفي فيما يلي:
1) إن المصلحة هي مقصود الشارع , ومن ثم فهي أقوى الأدلة وأخصها.
2) إنه ليس ضروريا أن تكون حيث القاطع أو الإجماع فقد يعارض النص أو الإجماع وجود المصلحة , فتقدم عليها.
3) هذا في العادات والمعاملات لا العبادات.
وهو يعتمد على حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) . الذي يكون أصلًا عظيما يبني عليه اعتبار المصلحة حيث دارت؛ لأن المصلحة لا تكون إلا حيث لا يكون هناك ضرر ولا ضرار. ويشرح الطوفي مذهبه ورأيه في هذه القضية فيقول:(4/788)
واعلم أن هذه الطريقة التي ذكرناها معتمدين فيها على الحديث المذكور ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك , بل هي أبلغ من ذلك , وهو التعويل على النصوص والإجماع في العبادات وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام.
ورأيه هذا لا يظهر أن أحدًا من الفقهاء شايعه فيه , بل لم يسلم من النقد والرد. وأفضل من ناقشه من المتأخرين هو شيخنا العلامة المبرور الأستاذ محمد العربي الماجري الأستاذ بجامع الزيتونة إذ يقول باختصار (1) :
إن الطوفي تعرض في شرحه للأربعين النووية عند قوله صلى الله عليه وسلم ((لا ضرر ولا ضرار)) للمصلحة المرسلة , ورأيه يرجع إلى:
أ) أن كل مصلحة راجحة يعمل بمقتضاها ولو عارضها نص أو إجماع , وذلك في غير العبادات.
ب) استدلاله على تقديمها على الإجماع.
ج) استدلاله على تقديمها على نص الكتاب والسنة.
إن المصلحة المرادة للطوفي هي المصلحة التي اعتبرها الشرع. والمصلحة المرسلة إذا ترجحت بمرجح من المرجحات في نظر المجتهد , فهذا النوع من المصلحة كلما ظفر به الطوفي يقدمه على الكتاب والسنة والإجماع. هذه الدعوة التي تعلق بها الطوفي ما سبقه إليها أحد لمخالفتها للقواعد , إذ من الأصول المقررة أنه كلما وجد نص من الكتاب أو السنة أو وجد إجماع تعين بذلك العمل , إذ لا اجتهاد مع وجود النص. وبهذا ظهر أن أصل الدعوى ساقط عن الاعتبار , ويقول الطوفي في استدلاله على تقديمها على الإجماع: إن منكري الإجماع قالوا برعاية المصلحة , فهي إذن متفق عليها والإجماع مختلف فيه , والتمسك بالمتفق عليه أولى من التمسك بالمختلف فيه.
__________
(1) دراسة نشرت بمجلة جوهر الإسلام التونسية عدد1- 2 السنة الأولى في ربيع الآخر سنة 1388، جويلية 1968.(4/789)
هذا الاستدلال سفسطائي ضعيف فاسد , لا يلزم من انضمام من أنكر الإجماع إلى القائلين بالمصلحة أن تكون مجمعًا عليها , إذ من يقول بالإجماع لا يقول بالمصلحة , فبطل ما ادعاه. ويبطله أيضًا ما نقلته في الشروط أن لا يخالفها نص.
ويقول في استدلاله على تقديمها على نص الكتاب والسنة:
إن النصوص مختلفة متعارضة , ومن ذلك نشأ الاختلاف في الأحكام المذموم شرعًا , والمصلحة أمر حقيقي في نفسه لا شائبة للخلاف فيه , فهي سبب الاتفاق المطلوب شرعًا , فكان اتباعها أولى.
وهذا أيضًا كسابقه يبطله الشرط السابق , وأيضًا استدلاله الأحمق بأن النصوص متعارضة نشأ عنها خلاف , وهو مذموم شرعًا , وهذا باطل؛ لأن سبب الاختلاف في المعاني المستفادة من الألفاظ أمر ضروري , وذلك من جمال العربية وحسنها , وهو راجع إلى سببين: طريق الدلالة على المعنى والأسلوب الذي يقتضيه المقام. فطريق الدلالة على المعنى المنطوق آونة والمفهوم أخرى , والمنطوق منه النص , ومنه الظاهر , ومنه المجمل , فكيف تتحد الدلالة , ولكل واحد منها مقامه عند التركيب , والناس في إدراك معنى المفاهيم ليسوا سواسية , نظرًا للشرائط. وأما الأسلوب فهو البلاغة كلها , فالبليغ يجعل لكل كلمة مع صاحبتها مقامًا خاصا بها , فيسلك البليغ: الإيجاز - الإطناب - الحقيقة - المجاز - الاستعارة - الكناية - التشبيه وغير ذلك , ولكل ضروبه الخاصة.
فكيف تتفق العقول في إدراكها , وأعجب منه جعله معنى المصلحة أمرًا حقيقيا مع أنها من الأمور النسبية , إذ لو كانت حقيقة كما ادعى , لم يختلف العقلاء فيها , ولله في خلقه شؤون. انتهى.
وعلى كل فالطوفي يذهب بعيدًا جدا في اعتماد مصالح الناس لتقرير الأحكام وفض المشاكل.
ويظهر أنه لو أوكل الناس أمر تقدير المصالح إلى اجتهاد المجتهدين لما حصل الاتفاق قط على مقياس معين محدد يقول أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الحفيد صاحب كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) في كتابه فصل المقال: إذا كانت هذه الشريعة حقا وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق , فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع , فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له , وإذا كان هذا هكذا , فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما في المعرفة بموجود ما , فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه الشرع أو عرف به , فإذا كان قد سكت عنه فلا تعارض هنالك , وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام , فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي , وإن كانت الشريعة نطقت به , فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفًا , فإن كان موافقًا , فلا قول هنالك , وإن كان مخالفًا طلب تأويله.(4/790)
العنصر الرابع
العموم
سوف لا نطيل الكلام هنا , فلا يتطلب هذا العنصر إيضاحًا وشرحًا مستفيضًا.
فالأمة أوكلت لقادتها وأئمتها أمر تسيير شؤونها , وهؤلاء يعنون برعاية المصالح العامة التي تتناول الأفراد وتتجاوزهم إلى مصالح المجموعة الكاملة , أي: بما يعم الكافة بالخير , كأمن وحماية كل فرد في ذاته ودينه وماله وعرضه وكإقامة السدود وإنشاء الطرق وإصلاحها وإقامة المساجد ورعايتها والسعي إلى إقامة وحفظ كل معالم الدولة ولو على حساب بعض الأفراد في بعض الأحيان.
فالمصالح التي يرعاها الشارع ويساندها والتي يراعيها عند سن أحكامه وينظر إليها المجتهد عند تخريج قضاياه هي التي تتصف بالعموم والتي يعود نفعها على المجتمع بصفة عامة تعم كافة أفراده.
والانتزاع لا يكون إلا لوجود مصلحة عامة بإشراف الدولة ممثلة في فروعها الإدارية.
وبذلك يخرج عن موضوعنا الأخذ لمصلحة فردية خاصة مثل الشفعة , فهذا استثناء تحت قيود مضيقة جاءت بها الأحكام الخاصة بالشفعة , وهي لا تكون بمجرد أمر أو قرار , بل لا بد من رفع القضية إلى المحاكم وصدور حكم فيها.
ومثل هذا يقال في بعض الصور الأخرى , مثل البناء بأرض الغير , أو الحيازة المكتسبة , فهي صور فردية , لا تدخل تحت المصلحة العامة , ولا تتأثر بحق الانتزاع المخول للدولة فقط.
مظاهرالتطبيق
بعد هذه البسطة التحليلية لكافة شرائح وعناصر هذا الموضوع , هذه البسطة التي كان من الواجب علينا وضعها وتقديمها حتى تتضح الحقائق وتتجلى الصورة بكيفية مدققة تدعو إليها طبيعة هذا البحث الجامع التحليلي المعمق والذي يكون في دائرة نوره سبيلًا يوصل إلى جميع الكلمات المعنون بها ومنطلقًا لإبداء ما يعن في شأنها على أسس ثابتة من حقائق شرعية لا لبس فيها ولا غموض , وخير الحوار ما كان عن علم سابق بكافة عناصر وجزئيات الموضوع , وخير نقاش ما دار في دائرة الوضوح والبيان على أرض ثابتة من الحقائق المسلم بها.(4/791)
وعلى قدر علو همة وسعة اطلاع المخاطب واتساع صدره وبالغ أهمية الموضوع ووجوب الحرص على تحقيقه , يكون العذر لنا في بعض هذا الطول الذي نرجو أن لا يكون مملا بل نرجو أن يكون مفيدًا ونافعًا ضرورة أنه يجمع الحقائق حول عناصر الموضوع يمكن الانتهاء تلقائيا إلى الإصداع بالحكم ومعرفة النتائج المطلوبة دون عناء أو زيادة بحث ودرس.
والآن نرجو أن ننتقل إلى الجزء الثاني من هذه الدراسة الذي نقسمه هو نفسه إلى قسمين اثنين:
أ) صور تطبيقية من تاريخنا التشريعي الإسلامي وحوادث جدت به تظهر تطبيع ما سبق من قواعد وجاء من مبادئ تخص الملك واحترامه وصونه , ثم أخذه للمصلحة العامة عند اللزوم.
ب) وصور أخرى لبعض النظم العصرية وبيان أسانيدها وشروطها وأحكامها إجراءا للمقارنة وتعريفًا بما هو واقع الآن عمليا.
السنة:
يمكن التحقيق بأن السند الأول لتطبيق أحكام انتزاع الملك الخاص لفائدة المصلحة العامة هو السنة.
فالرسول عليه الصلاة والسلام قام بأفعال وإنجاز بعد هجرته إلى المدينة المنورة في سبيل إنشاء هياكل المرافق العامة وإحداث ما يحتاجه بناء هذه القواعد الأساسية الاجتماعية للأمة الإسلامية.
فقد دخل الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام المدينة المنورة مهاجرًا من مكة المكرمة على ناقته فتزاحم الأنصار لدعوته واستضافته وأمسكوا بزمام الناقة , فقال: دعوها فإنها مأمورة حتى جاءت موضع المسجد فبركت فيه , فقال: هذا منزلنا. وكان مربدًا يباع فيه التمر ويجفف وحديقة فيها عوسج ونخل ومسيل لمياه الأمطار وقبور للمشركين , وكان المربد ليتيمين تحت الوصاية , فاشتراه من وصيهما , وأمر بإزالة آثار القبور , ودفن المسيل , وقطع العوسج , وتسوية الأرض وبناء المسجد (1)
__________
(1) كتاب وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى 1 /229 - 242.(4/792)
أقوال وأعمال الصحابة:
كان ذلك في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد لزم توسيع المسجد بإدخال أملاك للغير مجاورة إليه إلى رحابه باعتبار أن تحقيق النفع العام مسوغ شرعي لنزع الملكية الخاصة.
ووقع إحصاء هذه الدور والعقارات ودعا أصحابها وعرض عليهم الخليفة الأمر وقرار الدولة بضم هذه العقارات إلى المسجد توسعة له لضيقه وشدة الحاجة إلى هذه التوسعة التي تدعو إليها المصلحة العامة.
فقد أخرج ابن سعد عن سالم أبي النضر رضي الله عنه قال: لما كثر المسلمون في عهد عمر رضي الله عنه ضاق بهم المسجد , فاشترى عمر ما حول المسجد من الدور إلا دار العباس بن عبد المطلب وحجر أمهات المؤمنين , فقال عمر للعباس: يا أبا الفضل , إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم وقد ابتعت ما حوله من المنازل نوسع بها على المسلمين في مسجدهم , إلا دارك وحجر أمهات المؤمنين. أما حجر أمهات المؤمنين فلا سبيل إليها , وأما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسع بها في مسجدهم , فقال العباس رضي الله عنه: ما كنت لأفعل.
فقال عمر: اختر مني إحدى ثلاث: إما أن تبيعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين , وإما أن أحطك حيث شئت من المدينة وابنها من بيت مال المسلمين، وإما تصدق بها على المسلمين , فيوسع بها في مسجدهم. قال: لا , ولا واحدة منها.
فقال عمر رضي الله عنه: اجعل بيني وبينك من شئت. فقال: أبي بن كعب رضي الله عنه. فانطلقا إلى أبي , فقصا عليه القصة , فقال:
إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقالا: حدثنا. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((إن الله أوحى إلى داود: ابن لي بيتا أذكر فيه. فخط هذه الخطة , خطة بيت المقدس , فإذا بربعها زاوية بيت من بنى إسرائيل , فسأل داود أن يبيعه إياه , فأبى , فحدث داود نفسه أن يأخذه منه , فأوحى الله إليه: أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتا أذكر فيه , فأردت أن تدخل في بيتي الغضب , وليس من شأني الغضب , وإن عقوبتك أن لا تبنيه , قال: يارب , فمن ولدي. قال: من ولدك)) .(4/793)
قال: فأخذ عمر رضي الله عنه بمجامع ثياب أبي بن كعب رضي الله عنه , وقال: جئتك بشيء فجئت بما هو أشد منه لتخرجني مما قلت. فجاء يقوده حتى أدخله المسجد , فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو ذر رضي الله عنه , فقال أبي: إني نشدت الله رجلًا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حديث بيت المقدس حيث أمر الله تعالى داود أن يبنيه إلا ذكره. فقال أبو ذر: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال آخر: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسل أبيا , فأقبل أبي على عمر رضي الله عنهما , فقال: يا عمر , تتهمني على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: يا أبا المنذر , لا والله ما اتهمتك عليه , ولكني كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا , ثم قال للعباس: اذهب فلا أعرض لك في ذلك. فقال العباس رضي الله عنه: أما إذا فعلت هذا فإني قد تصدقت بها على المسلمين أوسع بها عليهم في مسجدهم , فأما وأنت تخاصمني فلا. فخط عمر رضي الله عنه داره التي هي له اليوم وبناها من بيت مال المسلمين (1)
، (السيوطي في الدر المنثور: 4/ 153) .
__________
(1) يتجلى من هذا الأثر عدة أمور منها: 1- أنه عند حدوث خلاف فالإمام أصبح خصما وعليه الالتجاء إلى القضاء. 2- على المتقاضي وإن كان صاحب السلطة والحكم والنفوذ العام أن يسعى إلى القاضي وأن يأتيه إلى مكان حكمه وقضائه وأنه ليس على القاضي أن يتحول وينتقل لمباشرة القضاء وفصل النزاعات إلى مجلس أحد الخصوم مهما كانت منزلته. 3- على الحاكم أن يعتمد على النصوص التشريعية وأن يطبقها بنهاية الإنصاف حتى ولو كان أحد الأطراف من ذوي النفوذ في الدولة. 4- على صاحب الحق أن يجهر بحقه وأن يرفع أمره إلى القضاء وعلى المحكوم عليه أن يرضخ لما تصدر به الأحكام.(4/794)
وهذا الأثر يدل بوضوح على أن الخليفة العظيم عمر الفاروق رضي الله عنه كان يرى تقديم المصلحة العامة على الخاصة المتعلقة بالأفراد وهو يحاول إرضاء المخالفين بمختلف الطرق حتى يتحصل على رضاهم وموافقتهم خاصة من كان في منزلة عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
والظاهر أن نهاية الخلاف بين صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن دالة على الحرمة والمنع , وإنما تدل على الأمر بالصلح , وما جرى عليه العمل عند الفقهاء.
والمؤرخون أصحاب السير يحققون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أول من سعى في توسعة المسجد وقام بانتزاع الأملاك الخاصة لفائدة المصلحة العامة لقاء تعويضات عادلة ومحقة غير مجحفة.
ونرى أنه في عهد حفيده الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما كان واليًا على المدينة للوليد بن عبد الملك تلقى الإذن بتوسعة المسجد النبوي وبعث إليه الخليفة بالمال وكتب يقول له:
" من باعك فأعطه الثمن , ومن أبى فاهدم عليه , وسلم له المال , فإن أبى أخذه , فاصرفه للفقراء ".
ولم يتحرج عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه من إتمام إجراءات الانتزاع بالرغم من وجود بعض المعارضين وهو من عرفنا تخلقا بأخلاق الشرع ووقوفًا عن حدوده.
وهكذا فعل بعده أبو جعفر المنصور بعد أن استفتى العلماء لتوسعة المسجد الحرام بمكة المكرمة.
وفعل ذلك المهدي الخليفة العباسي لما أراد توسعة المسجد الحرام بمكة ووجد من يفتيه من العلماء بحلية الانتزاع لما فيه من مصلحة عامة.
الفقه والاجتهاد(4/795)
كان الرأي الفقهي على حلية وجواز الانتزاع انتزاع الملك للمصلحة العامة , إذا تحققت هذه المصلحة وثبت جدواها كما رأينا في الانتزاع لفائدة توسيع المساجد.
ومن هنا جاء الرأي الفقهي مقررًا انتهاك حرمة الأوقاف بأخذ أعيانها لفائدة المرافق الاجتماعية العامة خارقًا بذلك القاعدة القائلة بحرمة بيع أعيان الموقوفات وبطلان عقود بيعها.
قال سيدي خليل في شأن بيع الموقوف:
"لا عقار وإن خرب , ولا نقض ولو بغير خرب , إلا أن يباع لتوسيع كمسجد ولو جبرًا. وقال شارحه سيدي عبد الباقي الزرقاني:
كمسجد وطريق ومقبرة , فيجوز بيع حبس غير هذه الثلاثة لتوسيع الثلاثة أو واحد منها , فيجبر صاحب ملك على بيعه لتوسيع ما ذكر.
وقال شارحه البناني:
" الظاهر حسب النقل أن ما وسع به المسجد من الرباع لا يحب أن يعوض منه إلا ما كان ملكًا أو حبسًا على معين وأما ما كان غير معين فلا يلزم تعويضه سواء في أحباس المسجد المعين أو غيره , أو على الفقراء ونحوهم على ما يفيده جواب أبي سعيد بن لب أثناء نوازل الأحباس من المعيار.
ووجهه أن ما كان على غير معين لم يتعلق به حق لمعين وما يحصل من الأجر لواقفه إذا دخل في المسجد أعظم مما يقصد تحبيسه لأجله أولًا (1)
كما استثنى ما كان في الحبس الذي أدخل في المسجد لمعين وهو الخلو , فلا حق لأربابها؛ لأنها محض كراء على التبقية , والكراء ينفسخ بتلف ما تستوفى منه المنفعة ولا شركة لأصحابها في الأصل.
__________
(1) شرح سيدي عبد الباقي بن يوسف الزرقاني على مختصر سيدي خليل بحاشية محمد بن الحسن البناني 7 /111 المطبعة الكبرى بمصر 1293 هـ/1095 م.(4/796)
قال العلامة أحمد الدردير: (1)
قول خليل: لتوسيع كمسجد ولو جبرًا أدخلت الكاف الطريق والمقبرة , فيجوز بيع حبس غير هذه الثلاثة لتوسيع الثلاثة حتى ولو أبى المستحق أو ناظر الحبس وإذا أجبر على ذلك في الوقف فالملك أحرى , فلا يقال: إنه من باب الغصب كما وقع لبعض الطلبة حين وسع جامع الأزهر بالقاهرة.
وعلق على ذلك الشيخ الدسوقي في حاشيته بقوله:
يجوز البيع وظاهره كان الحبس على معين أو على غير معين وهو خلاف ما نقله الزرقاني كما رأينا.
ويقول في باب البيع عند قول خليل: " إلا أن أجبر عليه جبرًا حرامًا ".
قوله: جبرًا حرامًا , أي: وأما لو أجبر على البيع جبرًا حلالًا كان البيع لازمًا كجبره على بيع الدار لتوسعة المسجد أو الطريق أو المقبرة أو على بيع سلعة لوفاء دين أو لنفقة زوجة أو ولد أو الأبوين , ومن الجبر الحلال الجبر على البيع لأداء ما عليه من الخراج الحق , كما قاله شيخنا العدوي (2)
وذكر البناني أن المسألة لها عدة نظائر تصل إلى عشرة تدل كلها على جواز الأخذ للمصلحة العامة.
والعلامة الزرقاني يذكر: أن الانتزاع يمكن أن يكون لمساحات من الأرض للمصلحة الحربية , فهو يقول في باب البيع: يجوز انتزاع الفدان في رأس جبل يحتاج الناس إليه في الحراسة من العدو (3)
ومنها نفهم أن الأراضي المدنية في المناطق الحربية يمكن انتزاعها للمصلحة العامة لفائدة المجموعة.
__________
(1) أحمد الدردير 4/ 91 - المطبعة الأزهرية.
(2) العدوي 3/ 6.
(3) ج5/ ص 10.(4/797)
قال الونشريسي في المعيار لما تكلم على ما إذا ضاق الجامع بأهله: والحكم في ذلك وجوب الزيادة في الجامع حتى يحمل أهله , فإن كان ما حواليه من الربع والعقار مملوكًا , أجبر أربابه على بيعه بالقيمة , رشيدًا كان المالك أو سفيهًا , كما يجبر على بيع الماء لمن به عطش , وهذا هو المعروف؛ لأن أصل الشريعة المعظمة القضاء للعامة على الخاصة كما في هذه المسائل , والقاعدة في اجتماع الضررين وتقابلهما , أن يسقط الأصغر للأكبر , ولا أكبر من ضرر الذي لا بدل له , والمال عنه بدل , وهي القيمة , وقد أنزلها الشرع منزلة المقوم , فلا حيف على أرباب الدور ولا شطط في كل ما جاء من هذا النمط وإن كان ما حوالي المسجد الجامع حبسًا فإنه يؤخذ جميعه أيضًا لتوسعة المسجد.
ونقل ابن رشد أن مالكًا وجميع أصحابه المتقدمين والمتأخرين لم يختلفوا فيه.
وقال مطرف: وإذا كان النهر بجنب طريق عظيم من طرق المسلمين التي يسلك عليها العامة فحفرها حتى قطعها فإن السلطان يجبر أهل تلك الأرض التي حولها على بيع ما يوسع به الطريق أحبوا أم كرهوا.
قال ابن الماجشون في مقبرة ضاقت عن الدفن وبجانبها مسجد ضاق بأهله: لا بأس أن يوسع المسجد ببعضها؛ لأن المقبرة والمسجد حبس للمسلمين.
وفي نوازل سحنون: لم يجز أصحابنا بيع الحبس بحال إلا دارًا بجوار مسجد احتيج أن تضاف إليه ليوسع بها , فأجازوا ذلك.
وقال ابن جزي في قوانينه: والعقار لا يجوز بيعه إلا المسجد تحوط به دور محبسة , فلا بأس أن يشترى منها ليوسع به , والطريق كالمسجد في ذلك.
والبرزلي في نوازله ينقل الفتوى عن شيخه ابن عرفة بجواز بيع الحبس إذا لم يصبح ذا نفع وعدد مسائل حدثت بتونس أفتى فيها ابن عرفة بالبيع.(4/798)
فالمذهب المالكي حصل به الاتفاق تقريبًا على عدم جواز بيع الحبس حتى وإن خرب , والإمام سحنون يقول: "لم يجز أصحابنا بيع الحبس بحال.
ومعلوم أن ذلك لحرمة الوقف وصونه واحترام إرادة الواقفين ومع ذلك فقد حصل الاتفاق الكامل على جواز هذا البيع إذا كان ذلك لمرفق عام يهم مصالح جماعة المسلمين كتوسعة المسجد والطريق وإنشاء مراكز حربية دفاعية عن حرمة المسلمين وما شابه ذلك من المرافق العامة التي ينتفع بها المسلمون بصفة عامة شاملة والتي يمكن القياس عليها عند حدوث الأقضية ونزول المشاكل والدوافع ومن باب أحرى إذا كانت الحاجة والمصلحة داعية لنزع الأملاك غير المحبسة من أربابها لفائدة المرافق العامة.
وهذا هو أيضًا رأي الحنفية في الموضوع. يقول العلامة الزيلعي شارح الكنز عند الحديث عن الوقف:
"إذا ضاق المسجد على الناس وبجنبه أرض لرجل تؤخذ أرضه بالقيمة كرهًا , لما روي عن الصحابة في هذا الشأن " (1)
وما استعرضناه سابقًا من آراء الفقهاء مع اختلاف مذاهبهم يتلاءم في قواعده العامة ومبادئه الواسعة الشاملة مع ما شرحنا آنفًا في شأن الملك والمصلحة وترابطهما برباط متين.
تراتيب النظم الحديثة الوضعية للانتزاع
جاء الفصل 57 من القانون العقاري القانون العقاري وضعته لجنة من علماء وفقهاء الزيتونة وصدر به أمر 19 رمضان 1302 الملاقي 12 جوان 1885. وهو يتكون من ثلاثمائة وواحد وثماثين فصلًا تتعلق بالعقار وحقوقه وكل ما يتصل به. وقد دام العمل بهذا القانون حتى عوضته وحلت محله مجلة الحقوق العينية المعمول بها الآن الصادرة في 11 شوال 1384 الملاقي 12 فيفري 1965.
والانتزاع أفرد بقوانين خاصة حسبما نراه فيما بعد. وقانون الحالة المدنية التونسي القديم المؤرخ في 27 رمضان 1303 الملاقي ماي 1886 المشتمل على أربعين فصلًا تخص الولادة والزواج والوفاة والذي نص على ابتداء العمل به في أكتوبر 1886 (3محرم 1304) جاء ناصا بفصليه 11و12 على موضوع الانتزاع. التونسي الموضوع 1302 /1885 قائلًا:
__________
(1) شرح كنز الدقائق 3 /332. ط. بولاق.(4/799)
"لا يجبر أحد على التنازل عن ملكه إلا لمصلحة عامة , ولا يقع إكراهه على ذلك إلا بحسب القوانين الموضوعة لأخذ الملكية جبرًا".
ولما كانت القاعدة العامة السائدة تنادي باحترام حق الملكية والسماح للمالك بالانتفاع بملكه وبالتصرف فيه بالطرق التي يختارها وبسائر أوجهها , فقد جاء الدستور التونسي ضامنًا حق الملكية صائنًا إياه من العبث والاعتداء رادعًا كل من يحاول فعل ذلك. الدستور التونسي الذي صدر به القانون عدد 57 في 25 ذي الحجة الحرام 1378 الملاقي غرة جوان 1957 جاء فصله السابع قائلًا:
"يتمتع كل مواطن بحقوقه كاملة بالطرق والشروط المبينة بالقانون , ولا يحد من هذه الحقوق إلا بقانون يتخذ لاحترام حقوق الغير ولصالح الأمن العام والدفاع الوطني والازدهار الاقتصادي وللنهوض الاجتماعي. وجاء الفصل 14 منه قائلًا: "حق الملكية مضمون , ويمارس في حدود القانون".
والدولة المنبثقة عن الشعب بموجب هذا الدستور تسعى إلى رفع شأن المواطن من كافة النواحي والجهات من خلال تحسين وتحقيق صلاح ظروفه الصعبة والمحافظة على أمنه وصيانته وتعليمه وتيسير سبل ذلكم التعليم وتسيهله على كافة الناس حتى يكون في متناول الغني والفقير، الثري والمحتاج , لا فرق بين مواطن وآخر , ثم بناء سياسة عامة لإقامة السكن وترقيته وتسهيل أموره على كل المواطنين بجعل سياسة سكنية تسعى إلى إقراره وإسعاده.(4/800)
وهي كذلك تسعى إلى التنمية الشاملة في كل المرافق خاصة ما يتعلق بالنقل برا وبحرًا وجوا وبعث المشاريع الصناعية والفلاحية والتنموية حتى تجد كل يد عاملة شغلًا ترتزق منه وتستمد منه متطلبات الحياة خاصة القوت.
والدولة والمقنن إزاء هذه التطلعات الاقتصادية والاجتماعية لحياة الشعب الذي تخدمه وتحكمه مضطرة لوضع بعض القيود في طريق الانتفاع المطلق بحق الملكية الفردية.
والطريقة المثلى التي كان من الممكن الالتجاء اليها لتحقيق الوصول إلى الهدف بين الإدارة الممثلة للقانون والدولة وبين الفرد والمواطن الذي لزم تقييد حريته وسلب إرادته في شأن من شؤون حق تملكه المطلق هي المبادرة لطريقة العرض والطلب والمفاهمة لحصول الرضا على هذا القيد والحد والسلب والاتفاق على العقد وتوابعه وشرائطه وتنفيذه طبق أحكام القوانين المدنية وبحرها الواسع الشامل العميق الذي وإن تلاطمت أمواجه فهو الملاذ المنيع لكل متظلم.
لكن النظرة قد تختلف والرغبة قد تشط وعقلية بعض الناس قد تنسيهم الصالح العام فلا يفكرون إلا في مصالحهم الخاصة الضيقة , والمال عزيز وقطعة من الكبد , وقد يرفض أحدهم أن يبيع داره أو حقله أو أرضه عن طوع واختيار لفائدة مرفق عام يراد تأسيسه أو توسعته أو إصلاحه ويتعذر ذلك دون ضم ملك هذا الأحد , ويكون الرفض لا لأن الثمن بخس وزهيد , ولكن قد يكون لأسباب تافهة خيالية ينظر إليها الرافض من زاوية لا يقدرها الناس ولا يعتبرونها؛ لأنها خيالية، لا تهم إلا خيال صاحبها كوجود بعض الآثار والذكريات العائلية التي لا قيمة لها تقدر وتوضع في الميزان إلا في خيال صاحبها ورقة عاطفته وجموحها إلى حب الذات فقط.
والبيع الحر طبق القوانين المدنية قد تقف في وجهه وتحول دونه تصرفات فردية جامحة وعواطف شخصية طائشة وإرضاء الناس أمر لا يدرك.(4/801)
فاضطرت الدولة واضطر التشريع القانوني لإحداث الانتزاع بجميع كلماته الأربع حتى تتمكن الإدارة من تنفيذ سياستها الإصلاحية الاجتماعية والاقتصادية، وحتى الحربية دون عرقلة في السير أو صعوبة في التنفيذ , أما وقد أصبح الأمر بيدها , فلا بد من حفظ حقوق الأفراد بقوة القانون وحمايته وصونه ومراقبته.
ومن هنا وفي ظل المبادئ الشرعية الإسلامية كان للنظام التونسي شرف السبق في تخطيط مخطط حافظ لكافة الحقوق وصائن للملك وحقوقه من أن تداس أو يعبث بها عند إرادة الانتزاع والأخذ للمصلحة العامة دون حصول الموافقة المسبقة من صاحب الشأن.
ولحفظ هذه الحقوق وصونها وتحقيق المصلحة العامة كانت الدعائم التي اعتمدها المقنن لهذا النظام تعتمد على المبادئ التالية:
1) أن يكون الانتزاع الصادر من الإدارة بناء على أمر رئاسي أي: في أعلى مستوى تنظيمي.
2) أن يشرح به الغرض الأساسي والمصلحة العامة من الانتزاع مع بيان المشروع المزمع إنجازه وتحقيقه في العقار المنتزع.
3) أن يعوض صاحبه تعويضًا عادلًا لا غبن فيه.
4) أن يتصل صاحبه بحقه في العوض مسبقًا.
وهذه المبادئ العادلة بنفسها يجب لتحقيقها سلوك إجراءات وتطبيق معطيات رسمتها قوانين نشرحها فيما يلي:
قانون الانتزاع التونسي هو قانون عدد 85 المؤرخ في 2 شعبان 1396 الملاقي 11 أوت 1976 والمنشور بالرائد الرسمي عدد 51 , وقد جاء معوضًا للأمر القديم السابق عنه المؤرخ في 2 صفر 1358 الملاقي 9 مارس 1939.(4/802)
1) وقد نص الفصل الأول من قانون الانتزاع على:
يتم الانتزاع للمصلحة العمومية بأمر يعين به المشروع المزمع إنجازه في العقار المنتزع.
إذن فالانتزاع لا يكون إلا بأمر ولا يكون إلا للمصلحة العامة مع وجوب بيانها وإيضاحها في نفس الأمر حتى تحمى مصالح الناس أولًا ثم لفرض رقابة قضائية تمكن القضاء من التحري في وجود المصلحة العامة في هذا المشروع المزمع إنجازه والذي بينه أمر الانتزاع نفسه.
والقضاء يقوم بناء على ذلك برقابة الإدارة في كيفية ممارسة نشاطها.
وقرارات الانتزاع هي من قبيل القرارات الفردية أو الجماعية التي لا تكتسي صبغة ترتيبية , ومن ثم فإنه يصبح من الجائز الطعن فيها بالإلغاء.
ونلاحظ هنا للمقارنة أن مجلة الأحكام العدلية نصت بمادتها 1216: "يؤخذ عند الحاجة ملك كائن من كان بالقيمة بأمر السلطان , ويلحق بالطريق العام , ولكن لا يؤخذ ملكه من يده ما لم يؤد إليه الثمن".
وجاء في شرح هذه المادة للمرحوم علي حيدر:
"يستملك ملك أي أحد بقيمته للمنافع العمومية كالمسجد والطريق ومسيل الماء ولو لم يرض صاحبه ببيعه".
ثم أصدرت الدولة العثمانية التركية بعد المجلة نظما أخرى في الموضوع ترمي كلها إلى وضع قواعد للانتزاع.
ومن ذلك مثلًا القرار المؤرخ في 8 رجب 1272/ 1856 والقانون المؤرخ في 21 جمادى الأولى 1296/ 1879 والقانون المؤرخ 7 ربيع الأنور 1332/ 1914.
وقد جاءت المادة 805 من القانون المدني المصري قائلة:
"لا يجوز أن يحرم أحد ملكه إلا في الأحوال التي يقررها القانون وبالطريقة التي يرسمها ويكون ذلك في مقابل تعويض عادل.(4/803)
والقانون الكويتي الخاص بنزع الملكية رقم 33 سنة 1384 / 1964 جاء فصله الأول قائلًا:
"نزع ملكية العقارات والأراضي والاستيلاء عليها مؤقتًا لا يكون إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل".
وقد جاءت بهذا المبدأ - الانتزاع للمصلحة مقابل التعويض العادل - التقنيات العربية الأخرى مثل المادة 722 من القانون السوري , والمادة 814 من القانون الليبي , والمادة 1050 من القانون العراقي. (وكلهم من التشريع الإسلامي ملتمسون) .
2) جاء القانون التونسي صونًا لحقوق الأفراد الذين انتزع ملكهم بفصله الثاني بوجوب التأمين المسبق قبل الحوز.
"لا يمكن للمنتزع أن يحوز العقارات المنتزعة إلا بعد دفع غرامة عادلة أو تأمين مقدارها مسبقًا ".
وقد استقر فقه القضاء الإداري على أنه حتى في صورة التأكد لا يمكن أن تحوز الإدارة العقار بمجرد صدور أمر الانتزاع , بل لا بد من اتصال صاحب العقار بالغرامة أو تأمين مقدار الغرامة الوقتية عند رفض صاحب الملك للغرامة المعروضة عليه.
ذلك أن حوز العقار من طرف الإدارة يتنافى مع القاعدة الأساسية للانتزاع التي أشرنا إليها سابقًا. والمالك الذي انتزع عقاره لا يمكن أن يتضرر من الانتزاع , وهو وإن نقل الملكية بموجب أمر الانتزاع طبق الفصل الثاني إلا أنه يمكنه حبس العقار حتى يخلص في الغرامة خاصة , وأن الفصل 16 من قانون الانتزاع المتحدث عنه يقول صراحة: "يتوقف حوز المنتزع على دفع غرامة الانتزاع إلى المستحقين أو تأمينها".
3) وقانون الانتزاع سمح للإدارة بحوز العقار المنتزع حالًا لكن تحت قيود وشروط تحمي حقوق المالك المنتزع عقاره.
فقد نص الفصل 16 وما بعده من هذا القانون على أنه يمكن للإدارة طلب الحوز والقاضي المستعجل يعين لها المبلغ الذي يجب عليها تأمينه بعد إجراء اختبارات إذا تراءى له ذلك.(4/804)
وهذه النصوص جاءت - تشريعًا - حامية لحقوق الأفراد , لكن مع الأسف قد لا يرى التطبيق إلا مسايرة الإدارة في مطالبها باعتبار أن الأمر يتعلق بأمر وقتي لا نهائي.
ومن المؤسف أن يحل الخبير محل القاضي في التقدير والاجتهاد , وقد تضيع بذلك الحقوق وتتلاشى , والأولى أن يعنى القضاء الاستعجالي بالأمر تماشيًا مع روح النص والمبادئ السامية المستوحاة من التشريع الاسلامي وقد جاءت حامية لحقوق الأفراد وساعية لتطييب خاطرهم وجبر جرحهم , فمنحتهم الضمانات الموصلة والحافظة.
ومن المؤسف أن تقدير بعض الأراضي المنتزعة مثلا والمهيأة للبناء والسكن يقع على اعتبار أنها أراض فلاحية فتتغير القيمة تغيرًا جذريا كاملًا وتحصل المأساة بالنسبة للمالك.
فالأجدر بالقاضي أن يتولى الأمر بنفسه , والقانون منحه ذلك وهو خبير عالم فقيه ثقة نزيه يصون الحقوق ويسعى لحفظها ولا تأخذه في الحق لومة لائم مستعينًا في عمله بذوي الخبرة والمعرفة للإرشاد لا للاعتماد , وبذلك يضع الأمور من أول وهلة في نصابها حتى يتصل كل ذي حق بحقه وعلى شفتيه ابتسامة الرضا تنسيه ألم الأخذ والانتزاع وحتى يقع تطبيق القانون تطبيقًا عادلًا من طرف قضاة عدول.
4) والإدارة لا حق لها في منع المالك الذي انتزع عقاره من سحب الغرامة الوقتية أو سحب بعضها عن إذن المحكمة طبعًا وهذه لها حق الاجتهاد في الموضوع.
وقد قضت المحكمة الإدارة في القضية الاستئنافية عدد 80 في 13 مارس 1980 بذلك تقول في أسانيد حكمها:
"حيث إنه سبق لهذه المحكمة أن أقرت بأن التشريع المتعلق بالانتزاع من أجل المصلحة العامة لا يوجب تأخير تسديد الغرامة الوقتية من قبل المنتزع إلى فصل النزاع بصورة باتة.
وحيث إن عمل هذه المحكمة جرى على تمكين المنتزع منهم باستخلاص جزء من الغرامة الوقتية في حدود العروض المبذولة من قبل الجهة المنتزعة.(4/805)
وحيث إن العروض إذا كانت بعيدة عن الواقع وغير جدية أو كانت مفقودة , فإنه يستحسن للمحكمة تحديد المبلغ الواجب تسديده مؤقتًا للمنتزع منه بمحض اجتهاد المحكمة.
والمادة 2 - 3 من القانون الكويتي تحرم المالك الذي رفع أمره للقضاء من المال المعروض , تحرمه من سحب جزء من الغرامة المؤمنة لحين الفصل النهائي.
ويتعرض السنهوري إلى أن القانون المتعلق بالانتزاع المصري لا يمنع من السحب وحصول ذي الشأن على المبالغ المقدرة من طرف الإدارة لكن إذا تعذر الدفع فإنها تشعر المالك بذلك.
ويظهر أن فقه القضاء التونسي كان أفضل من جهة الإنصاف والعدل.
5) وسيرًا على المبادئ العامة الحافظة لكافة الحقوق التي رسمها لنفسه قانون الانتزاع , فإنه جاء بفصله التاسع قائلًا:
فإذا لم تستعمل العقارات المنتزعة في أشغال ذات مصلحة عمومية المنصوص عليها بأمر الانتزاع خلال أجل قدره خمسة أعوام من تاريخ أمر الانتزاع جاز للمالكين السابقين أو لمن أنجزت لهم منهم حقوق أن يطلبوا استرجاعها ما لم يقع الاتفاق على خلافه وذلك بشرط أن يقدموا مطلبًا كتابيا للمنتزع في بحر السنتين المواليتين لانقراض الأجل المشار إليه في هذا الفصل وإلا سقط حقهم ويجب عليهم عندئذ إرجاع كامل مبلغ الغرامة التي قبضوها.
وفي صورة امتناع المنتزع أو سكوته فللمنتفعين أن يرفعوا القضية للمحاكم المختصة ".
أي إلى المحكمة الابتدائية في الطور الابتدائي وأمام المحكمة الإدارية استئنافيا غير أنه لا يجوز مقاضاة الإدارة بحق الإلغاء.(4/806)
وهكذا نرى أن تأسيس الأخذ للمصلحة العامة مقابل التعويض العادل كان يعتمد في القانون التونسي المبادئ الفقهية التي شرحناها سابقًا وكذلك الإجراءات العدلية السابقة عنه والمبادئ العامة التي جاءت بها مجلة الأحكام العدلية أول من سعى لوضع المدونات القانونية هو الخليفة السلطان سليمان القانوني المولود سنة 900 /1494 والمتوفى سنة 974 /1566 فقد كلف شيخ الإسلام أبا السعود الآمدي فجمع عدة قوانين في مجموعة عرفت باسم قانون نامه , وكلف كذلك الشيخ إبراهيم الحلبي بأن يجمع أحكام الفقه في كتاب مختصر موحد , فلخص الشيخ الحلبي المسائل الواردة في كتب الحنفية في كتاب سماه (ملتقى الأبحر) , ولهذا الكتاب شرح اسمه الدر المنتقى شرح الملتقى. وفي عهد السلطان عبد العزيز خان وضعت مجلة الأحكام العدلية (أول مجلة) سنة 1286 /1869. ولهذه المجلة عدة شروح , أهمها شرح علي حيدر بالتركية ترجمة الأستاذ فهمي الحسيني إلى العربية. وهناك شرح لسليم باز اللبناني في جزأين طبع سنة 1306/ 1888 ببيروت بالمطبعة الأدبية , وهناك شرح آخر لها في جزأين بعنوان "مرآة المجلة " ليوسف آصاف , طبع بالمطبعة العمومية بمصر سنة 1312 /1894.
وابن النجيم صاحب الأشباه والنظائر هو زين العابدين بن إبراهيم بن محمد بن نجيم ولد سنة 926 /1519 وتوفي سنة 970 /1563. فقيه حنفي مصري له كتاب الأشباه والنظائر وله كتاب (البحر الرائق في شرح كنز الدقائق) مطبوع في 8 أجزاء , وله كتاب (الفتاوى الزينية) مطبوع أيضًا وهو صنو الفقيه الحنفي سراج الدين عمر المتوفى سنة 1005 /1596 , له شرح على الكنز سماه النهر الفائق. ولزين العابدين كتاب آخر هو رسائل ابن نجيم مطبوع أيضًا.
وأما ابن السبكي فهو تاج الدين عبد الرهاب بن علي بن عبد الكافي المصري السبكي قاض فقيه مؤرخ باحث سكن مع والده العالم الفقيه دمشق وتوفي بها سنة 771/ 1370 له عدة مؤلفات مطبوعة منها طبقات الشافعية الكبرى وكتاب (جمع الجوامع ومنع الموانع) وكتاب الأشباه والنظائر وكتاب التاج.
والسيوطي هو عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضري السيوطي له مؤلفات بلغت فيما قيل 600 مصنفًا , منها كتاب الأشباه والنظائر في العربية والنحو , وكتاب الأشباه والنظائر في الفقه الشافعي مطبوعان , ومنها بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة , توفي سنة 911 /1505 , أما المجلة المدنية التونسية فقد وضعت سنة 1314 /1896 من طرف لجنة مؤلفة من شيوخ الزيتونة , وكان رئاستها لفضيلة المنعم المبرور شيخ الإسلام محمود بن الخوجة المتوفى سنة 1329 /1911 وهي معمول بها حتى الآن. في مبادئها العامة(4/807)
مثل: "هي مبادئ عامة مأخوذة من كتب الفقه خاصة الأشباه والنظائر في أصول الفقه لابن نجيم , وكذلك الأشباه والنظائر لابن السبكي في أصول الفقه أيضًا , وكذلك الأشباه والنظائر لجلال الدين السيوطي.
وهذه المبادئ أخذت بها المدونة التونسية , وبنت عليها أحكامها.
وخلاصة القول وفي ختامه فإن الانتزاع لا يكون حلالًا مباحًا إلا تحققت المصلحة العامة منه وخلص من كل شوائب المصالح الذاتية الفردية ونال صاحب الملك المنتزع تعويضًا عادلًا ومنصفًا عن حقوقه ومكاسبه المأخوذة والمنتزعة كل ذلك بالاتفاق والمراضاة أو بإشراف قضاء عادل يعتمد كافة المعطيات وصولًا إلى الحق.
وفقنا الله لما فيه الصواب، وألهمنا لمزيد من شكره والثناء عليه بما هو أهله اعترافًا بنعمه التي لا تحصى ولا تعد.
الدكتور محمود شمام(4/808)
الإسلام
وانتزاع الملك للمصلحة العامة
إعداد
فضيلة الشيخ محمد الحاج ناصر
بيانات لا بد منها:
ا) لم نضع مسردًا لمصادر المراجع لضيق الوقت ونأمل أن نضعه عند تقديم البحث "كتابًا للنشر".
2) أحلنا كل كلمة نقلناها عن غيرنا إلى مصدرها في تعليق جعلنا ترقيمه مسلسلًا.
3) كذلك أحلنا كل حديث وكل أثر إلى مصادره.
4) حرصنا على تخريج الأحاديث والآثار التي اعتمدناها مباشرة في هذا البحث تخريجًا يكاد يكون استقرائيا، أما تلك التي اعتمدها غيرنا ممن نقلنا كلامهم من صدور الأئمة والباحثين فقد اكتفينا بتخريجها من مصدر أو أكثر من المصادر المعتمدة حسب أهمية الحديث أو الأثر للبحث في رأينا، وأحلنا أحيانًا على "المزي" وكتابه تحفة الأشراف بيان مصادرها الأخرى وإن كنا غير مستريحين إلى الاقتصار على إحالات المزي؛ لأنه حصر مجاله في السنن الست مضافًا إليها السنن الكبرى للبيهقي، وقد نعود إلى الاعتماد على أنفسنا في تخريج تلك الأحاديث والآثار قبل تقديم الكتاب إلى النشر.
هـ) لم نذكر الطبعات التي اعتمدناها موطنًا أو تاريخًا وتركنا ذلك إلى "المسرد" الذي سنضعه للمصادر والمراجع وهي على أية حال في أغلبها الطبعات المصورة المتداولة بين الناس وأكثرها من بيروت.
6) لم نتخذ من كتب الفقهاء مصادر إلا ما كان من المحلى لابن حزم والتمهيد لابن عبد البر وما شاكلهما من المؤلفات التي تعتمد السنة ولا تخوض مع الخائضين في جدل الفقهاء وتصوراتهم الموغلة كثيرًا في الخيال لأننا لا نرى جدوى لمن يستنبط حكما شرعيًا من أن يوغل مع الفقهاء في معتسفاتهم. ونعتقد أن استنباط الحكم الشرعي لا يجوز أن يصدر إلا من الكتاب والسنة فإن تجاوزهما في حالات اضطرارية خاصة فإلى آثار الصحابة وفي أحيان قليلة إلى آثار كبار التابعين وليس معنى ذلك أننا لم نحاول الاستئناس بآراء الفقهاء وتطورها إنما معناه أننا لم نعتمدها إلا مرة أو مرتين استظهارًا لرأينا أو لموقفنا بقول رأيناه شريفًا جديرًا بالتقدير.(4/809)
7) بالرغم من أننا رجعنا إلى عدد من كتب المعاصرين وبحوثهم المتصلة ببحثنا هذا , فإننا لم نر أية جدوى من الإحالة عليها أو على البعض منها إلا ما كان من تفسير التحرير والتنوير لأستاذنا العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور - رحمه الله - ومن تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا نقلا عن الشيخ محمد عبده , فكلا الكتابين مما لا يصنف مع كتب المعاصرين , وإنما يصنف مع كتب الأئمة الأول , لا سيما كتاب الشيخ ابن عاشور , فهو علم حتى بين كتب الأئمة الأول.
على أنا نقلنا مرة أو مرتين من كتاب للشيخ محمد أبو زهرة وهو متميز عن غيره من المعاصرين كما نقلنا مرة كلامًا للدكتور فاروق النبهان إذ وجدناه جديرًا بالتميز عن غيره من كلام المعاصرين.
8) والمنهج الذي التزمناه في هذا البحث وهو منهجنا في كل بحث شرعي لنا هو حصر الاعتماد في الاستدلال والاستنباط على الكتاب والسنة وآثار الصحابة وقليل من آثار كتاب التابعين وتوثيق كل كلمة اعتمدنا عليها ونقلناها ونقل ما ننقله من كلام غيرنا كاملًا بلفظه غير مبتور من أوله أو آخره؛ لأن نقل الجملة أو الفقرة منتزعة من سياقها يفقدها غالبًا دلالتها الكاملة , ثم إن بتر كلام الغير وإحالة القارئ إلى مصدره قد يحمل القارئ رهقًا من أمره , فمن المحتمل أن لا يكون المصدر متيسرًا له أو عند متناول يده وهو يقرأ وفي هذه الحال إما أن يعتمد النص المبتور , فيستعسر عليه اجتلاء الدلالة , وإما أن لا يعتمده فيستعسر عليه مسايرة النص الذي يقرؤه , وفي كلتا الحالتين إساءة إلى القارئ والمنقول عنه والنص المستدل به والموضوع المستدل له , لذلك اضطررنا إلى نقل صفحات كاملة من الوسيط للسنهوري الذي اعتمدناه وحده كمصدر قانوني إلى نقل قريب منها من بعض مصادر التفسير وحتى من بعض الأئمة الأول من الفقهاء؛ لأن نقلنا منها على طوله كان في تقديرنا ضروريًا للإحاطة بالمعاني التي نقلناه من أجلها.
هذه بيانات ارتأينا من الضروري وضعها أمام القارئ بين يدي البحث لنجلو له ما يمكن أن يراه البعض نشازًا أو مأخذًا يأخذنا به ولكل واحد من قبل ومن بعد رأيه وتقديره , والله الموفق.(4/810)
بسم الله الرحمن الرحيم
علاقة الإنسان بالأرض
الحمد لله، أحمده وأشكره , وأستعينه وأستغفره , وأستهديه وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أتخذ من هديها نبراسًا أسترشد به، ومن نورها سببًا استمد به التوفيق من الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، شهادة من أشرب قلبه بحبه، ووقف عقله عند هديه , لا تنصرف به الأوجه والآراء إلى مصارفها، ولا تنحرف به النحل والأهواء إلى مساربها.
اللهم صل وسلم على من ختمت برسالته أسباب الاتصال المباشر بين الأرض والسماء، وجعلت شريعتك المنزلة إليه صفوة الشرائع المهيأة لتكون حكمك الباقي في الأرض إلى أن ترثها ومن عليها، وأنزلت عليه تعريفا بها وتمييزًا لها {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (1) وعلى آله وأصحابه الذين استجابوا لدعوة الحق , فكانوا جندك في نصرة الحق، وقادت البشرية كافة إلى سبل الحق، وعلى التابعين وتابعيهم وكل من سلك منهاجهم واتبع هديهم بإيمان وصدق، صلاة وسلامًا أتوسل بهما إليك، في دنياي، أن تجنبني مواقع الزلل، وتعصمني من أسباب الخطأ والخطل، وتجنبني الانحراف والتحريف، وتعصمني من نوازع الضلال والزيف. وفي أخراي أن تكون سببًا لي إلى عفوك وغفرانك، ووشيجة بيني وبين المصطفى الحبيب تميلني شفاعته وتبلغني تحت لوائه ما يطمع فيه كل مسلم قانت من رحمتك ورضوانك.
وبعد:
فهذه محاولة معجلة لاجتناء جوانب من موقف الإسلام من الملك، أستجيب بها إلى دعوة كريمة من مجمع الفقه الإسلامي الموقر، شاكرًا أجزل الشكر وأصدقه وأعمقه، أخي رفيق العمر الأستاذ العميد الدكتور الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة أن أحسن بي الظن، فوجهها إلي غير مشفق من قصوري وما قد يجلبه عليه من تبعات.
__________
(1) الآية رقم: (48) من سورة المائدة.(4/811)
وكنت حريًا أن أعتذر عن المشاركة في دورة "المجمع الموقر" هذه , تقديرًا لخطر التبعة وضعف الاستعداد، لولا أني أحببت أن أتخذ إسهامي وسيلة إلى أن أستزيد من العلم بالبحث في الموضوع الذي اخترته من موضوعات هذه الدورة، وبالاستماع إلى من سيتاح لي خلالها أن أجلس منهم مجلس التلميذ، يرى مجرد الجلوس إليهم شرفًا عظيمًا، فكيف بما سيفضونه علي من أقباس علومهم، ونوافح عقولهم، ونوافل نقولهم من فيوض عسى الله أن ينفعني بها فيما بقي من عمري وفيما أستقبل من آخرتي.
ولقد آثرت موضوع "انتزاع الملك" على خطره وتشابكه تقديرًا لإلحاحه على حياة المسلمين منذ ما يقرب من نصف قرن وإلى أمد أحسبه سيطول إلى أن يتجلى لأولي الأمر في الأقطار الإسلامية منهاج الاقتصاد الإسلامي الحق، وينجلي عنهم الانبهار بما يتجاذبهم من الفتن الواردة من يمين ويسار، فيما يتحررون من أغلال التحجر والجمود على أوضاع وأعراف ومفاهيم، يزخر بها الفقه الإسلامي القديم، انعكاسًا لأطوار من الحضارة وأنماط من الحياة تجاوزتها البشرية اليوم في أطوار متلاحقة حتى لتكاد تنغمر معالم التواصل بين هذه وتلك من مراحل الحضارة والحياة، وتنطمس الأسباب ويوشك أن يتخذ الوضع الحضاري البشري والنمط الحياتي صبغة تنكر مظاهرها وظواهرها كل علاقة بالمراحل السالفة لحياة الإنسان , ذلك بأن ما يشهده المسلمون اليوم من حوافز إلى الانبعاث أخذ يتجاوز بسرعة تشاكل أو تكاد سرعة التطور الحضاري البشري نطاق مجرد الشعور الملتهب بضرورة الانبعاث وتجديد الحيوية إلى نطاق البحث عن الأسباب الواقعة والوسائل العملية الكفيلة بتحقيق التجدد والانبعاث، وما كانت الحياة البشرية منذ كانت منعزلة عن التأثير المادي في تكييفها وضبط مسيرتها وتحديد مسارها وتعيين مقاصدها، ولا يمكن أن تكون , فليس البشر ملائكة، ولا يمكن لحياتهم أن تكون إلا متأثرة متكيفة بالمؤثرات المادية والمقومات الروحية.
والإنسان الذي خلق من الأرض وإليها يعود، حددت مهمته بأنها خلافة الله في الأرض، وحددت مسؤوليته بأنها عمارة الأرض. يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (1) ويقول: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} (2) . ويقول: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (3)
__________
(1) الآية رقم: (30) من سورة البقرة.
(2) الآية رقم: (165) من سورة الأنعام
(3) الآية رقم: (14) من سورة يونس(4/812)
كما بينت معالم السداد لسلوكه في الأرض، واطلاعه بما وكل إليه من مهام ومسؤوليات بيانًا دقيقًا صريحًا ضابطًا في قوله سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1)
وما أحسب أحدًا يماري في أن المسلمين سيظلون يضطربون في شبه متاهة من سراب الأحلام وتهويمات العقول العشواء، والبصائر المضببة، ما لم ينصرفوا عن الانحباس في قمقم اجتهادات الفقهاء الأقدمين الذين تقطعت بيننا وبينهم أو أوشكت أن تتقطع أسباب التشابه بين أنماط الحياة وأطوار الحضارة، أو يتطلعون في لهث الملهاف إلى ما يتجاذبهم من يمين ويسار، من ألوان النحل والشرائع الوضعية، بعضها وضع لغيرهم ممن يختلف عنهم اختلافًا جذريًا، في البيئة المادية والروحية، وبعضها يبهرج ويزخرف ضلة بهم وانصرافًا عن هويتهم الحضارية وكيانهم العقلي والروحي، أملًا ممن يضعه في تخليد عبوديتهم وتأبيد تسخيرهم، إمابإبقائهم على ضلالة لا يكادون يهتدون لا إلى أسباب اللحاق به، ولا إلى سبل الاحتفاظ بهويتهم واستلهامها والاهتداء بها، وإما بالقضاء عليهم حين تتجاوزهم التطورات الحضارية تجاوزًا يقضي فيهم على كل عنصر من العناصر الأهلية للبقاء، ويقضي عليهم بشريعة البقاء للأصلح.
وما أحسب أحدًا يماري أيضًا في أن قاعدة انصراف المسلمين عن هذه وتلك، من المثبطات أساسها أن يتأهلوا لاستئناف مهمتهم في خلافة الله في الأرض واستعادة الاطلاع بمسؤوليتهم في عمارتها عمارة تنهض على أساس من الأخذ بآخر ما انتهى إليه الفكر البشري من الألوان التقنية المختلفة، وعلى ضبط مسار تلك الألوان وتكييف مسيرتها وتحديد مقصدها، بالتصرف بها وفيها، طبقًا لمقتضيات (العمل الصالح) الجامع بين صلاح الدنيا وصلاح الآخرة، والذي هدى إليه الله سبحانه وتعالى ووشج به وعده حين حدد شروط استخلافهم في الأرض في الآية الكريمة التي استلهمناها آنفًا، وفي قوله جل ثناؤه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2)
__________
(1) الآية رقم: (55) من سورة النور.
(2) الآيات رقم: (105) و (106) و (107) من سورة الأنبياء.(4/813)
2 - الإنسان خليفة الله في الأرض.
ذلك بأن الانبعاث الإسلامي حضاريا ودعوة، ما كان ليخرج أو يشذ عن السنن الإلهي لنشأة الإنسان كافة وتطوره، وهو أنه خُلِقَ من الأرض واستخلف في الأرض وعهد إليه بعمارة الأرض، وإنما ميزة المسلم عن غيره أنه ينهض بتبعة الخلافة عن الله، ومسؤولية العمارة لأرض الله مهتديًا بما أنزل على أصفيائه منه، من ضوابط السلوك وأحكام التصرف وشرائع التصريف، وفي ما عدا ذلك لا يختلف عن غيره من بني الإنسان، وهذا يعني أن المواءمة بين مقتضيات المواكبة الحضارية مع أبناء البشر كافة، وتصحيح المسار الحضاري وتكييفه طبقًا لمقتضيات الهدي الإلهي وتكليفه هي الفيصل بين ما هو من عمل الإنسان المسلم، لا يريد من أهله النشاز عن المسار العام للتطور البشري، إن يريد إلا أن يتولى ضبط المسيرة، وتحديد المسار وتكييف السير بضوابط العدالة وحدود الإنصاف وصيغة التوازن بين تعاليم السماء وسنن التطور في الأرض.
ولعل مما يرشد إلى ذلك إيحاء أن الأرض مجردة ومضافة ورد ذكرها في القرآن حوالى (461) مرة (1) أغلبها كانت في معرض الاستدلال على عظمة الله وسعة ملكه وتعدد نعمه وتنوعها، وقليل منها كان منسوبًا إلى البشر إلى نسبة تكليف من الله أو نسبة ادعاء يكون في معظمه نمطًا من كفر النعمة وتحدي الرسالات الإلهية، فلم ترد الأرض مضافة إلى البشر إلا في نحو سبعة مواضع (2) على حين وردت مع النهي عن الفساد أو البغي فيها والتنديد بالمفسدين والبغاة حوالي ست عشرة مرة (3) ووردت في تحديد مهمة الإنسان باعتباره خليفة في الأرض وإبراز تبعة هذه الخلافة على عاتقه من حيث جسامتها ومعقباتها في نحو عشرة مواضع (4) منها ما جاء فيه ذكر الأرض صريحًا , وما جاء في ذكرها فيه بمقتضى السياق.
__________
(1) انظر محمد فؤاد عبد الباقي أو غيره "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم".
(2) الآية رقم: (110) من سورة الأعراف. الآية رقم: (13) من سورة إبراهيم. الآية رقم: (57) و (63) من سورة طه. الآية رقم: (35) من سورة الشعراء. الآية رقم: (57) من سورة القصص. الآية رقم: (27) من سورة الأحزاب.
(3) الآية رقم: (60) من سورة البقرة. الآية رقم: (205) من سورة البقرة. الآية رقم: (32) و (64) من سورة المائدة. الآيات رقم: (56) و (74) و (85) من سورة الأعراف. الآيتان رقم: (85) و (116) من سورة هود. الآيتان رقم: (77) و (83) من سورة القصص. الآية رقم: (36) من سورة العنكبوت. الآية رقم: (28) من سورة ص. الآية رقم: (42) من سورة الشورى. الآية رقم: (20) من سورة الأحقاف. الآية رقم: (22) من سورة محمد.
(4) الآية رقم: (30) من سورة البقرة. الآيتان رقم: (133) و (165) من سورة الأنعام. الآيتان رقم: (129) و (169) من سورة الأعراف. الآية رقم: (14) من سورة يونس. الآية رقم: (55) من سورة النور. الآية رقم: (57) من سورة هود. الآية رقم: (59) من سورة مريم. الآية رقم: (26) من سورة ص.(4/814)
ولم يرد ذكر الأرض في القرآن الكريم متصلًا بكلمة "ملك" أو غيرها مما يدل على الملكية منسوبة إلى البشر إلا ما كان من ادعاء الكفار وهو ادعاء تدحضه بقية الآيات المتضمنة له (1)
وجاء القرآن الكريم صريحًا في تحديد مهمة الإنسان في الأرض بأوضح وأدق من أنها خلافة الله فيه. فقال الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه صالح عليه السلام مخاطبًا ثمود {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (2) وهذا التحديد الواضح إلى جانب مهمة "الاستخلاف" الذي ورد بصيغ مختلفة في القرآن الكريم يميز - في تقديرنا - طبيعة علاقة الإنسان بالأرض كما يريد أن تكون، ويبرز أن كل علاقة لا تنضبط بضابط " الخلافة " و"الإعمار" ليست هي العلاقة التي أراد الله أن تكون بين الأرض والإنسان.
وقد يكون مما يبرز هذا المعنى أن نتدبر أن كلمة "ملك" وما تصرف منها – باستثناء ما له علاقة بالملائكة - وردت في القرآن الكريم (117) مرة، أغلبها يتصل بتأكيد ملكية الكون لله سبحانه وتعالى وحده في صيغ مختلفة , وعشرون منها مما له علاقة بالإنسان تتصل بملك اليمين من العبيد والإماء , وستة فحسب لها علاقة بالمال غير الأرض، وما من واحدة منها تنص على علاقة ملكية للإنسان بالأرض، ونحسب أن هذه الحقيقة جديرة بالتدبر والاعتبار وإن كانت لا تنهض نصًا على استنباط أي حكم حاسم فيما يتصل بتحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان والأرض، وجلي أن تحديد مهمة الإنسان بأنها خلافة الله في الأرض في عشر مواضع من القرآن الكريم كما ذكرنا آنفًا وإنعدام وصف علاقة الإنسان بالأرض بالملك أو الملكية أو بتعبير من هذا القبيل من القرآن الكريم، وتحديد مسؤولية الإنسان في خلافة الله في الأرض بأنها إعمارها، وليس امتلاكها , له دلالته التي لا ينبغي إغفالها عند تدبر التشريعات الواردة في الكتاب والسنة لضبط تصرفات الإنسان في الأرض طبقًا لمهمته ومسؤولياته.
__________
(1) انظر التعليق رقم: (8) .
(2) الآية رقم: (61) من سورة هود.(4/815)
3 - ملك، خلف، عمر، مال. لغة وشرعًا
ولكي نتبين الفروق المتحتم استحضارها ونحن نتدبر ونستبين طبيعة علاقة الإنسان بالأرض وطبيعة التشريعات والأحكام التي تضبطها وتحدد مسارها وتعين مقصدها، يجب أن نميز بين دلالات كل من كلمة "ملك" و"خلف" وكلمة "عمر"، وكلمة "مال".
- أ - ملك: قال ابن منظور وابن الأثير (1)
وفي حديث أبي سفيان: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر يروى بضم الميم وسكون اللام وبفتحها وكسر اللام.
ويقال: طالت مملكته وساءت مملكته وحسنت مملكته وعظم ملكه، وكثر ملكه.
ابن سيده: الملك والملك والملك احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به، ملكه يملكه ملكا وملكا وملكا وتملكا، الأخيرة عن اللحياني لم يحكها غيره.
وما له ملك وملك وملك وملك أي شيء يملكه، كل ذلك عن اللحياني.
وهذا ملك يميني وملكها وملكها أي: ما أملكه. قال الجوهري: والفتح أفصح.
وفي الحديث: كان آخر كلامه الصلاة والزكاة وما ملكت أيمانهم، يريد الإحسان إلى الرقيق، والتخفيف عنهم، وقيل: أراد حقوق الزكاة وإخراجها من الأموال التي تملكها الأيدي كأنه علم بما يكون من أهل الردة، وإنكارهم وجوب الزكاة وامتناعهم من أدائها إلى القائم بعده , فقطع حجتهم بأن جعل آخر كلامه الوصية بالصلاة والزكاة، فعقل أبو بكر - رضي الله عنه - حين قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
ابن السكيت: الملك وما ملك. يقال: هذا ملك يدي وملك يدي وما لأحد في هذا ملك غيري وملك، وقولهم: ما في ملكه شيء، أي: لا يملك شيئًا.
__________
(1) لسان العرب: ج:10. ص: 491 وما بعدها. وابن الأثير: ج: 4. ص: 359.(4/816)
وملك الولي المرأة وملكه وملكه: حظره إياها وملكه لها.
وقال فيروز أبادي (1)
ملكه يملكه مثلثة، وملكه محركة ومملكة بضم اللام أو يثلث، احتواه قادرًا على الاستبداد به وما له ملك مثلثة ويحرك وبضمتين شيء يملكه.
ولي في الوادي ملك مثلثا ويحرك مرعى ومشرب ومال , أو هي البئر يحفرها وينفرد بها وقال الراغب الأصبهاني (2) الملك هو المتصرف في الأمر والنهى في الجمهور، وذلك يختص بسياسة الناطقين، وبهذا يقال: ملك الناس ولا يقال: ملك الأشياء، وقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (3) تقديره الملك في يوم الدين، وذلك لقوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (4) والملك ضربان: ملك هو التملك والتولي، وملك هو القوة على ذلك تولى أو لم يتول. فمن الأول قوله تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} (5) ومن الثاني قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} (6) فجعل النبوة مخصوصة والملك عامًا، فإن معنى الملك ههنا هو القوة التي يترشح بها للسياسة لأنه جعلهم كلهم متولين للأمر، فذلك مناف للحكمة كما قيل: لا خير في كثرة الرؤساء.
قال بعضهم: الملك اسم لكل من يملك السياسة، إما في نفسه , وذلك بالتمكين من زمام قواه وصرفها عن هواها، وإما في غيره , سواء تولى ذلك أو لم يتول، على ما تقدم.
قال تعالى: {فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} (7) والملك الحق الدائم لله , فلذلك قال: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} (8)
__________
(1) القاموس المحيط، ج: 3. ص: 320 وما بعدها.
(2) غريب مفردات القرآن ص: 717 وما بعدها.
(3) الآية رقم: (4) - سورة الفاتحة.
(4) الآية رقم: (16) من سورة غافر.
(5) الآية رقم: (34) من سورة النمل.
(6) الآية رقم: (20) من سورة المائدة.
(7) الآية رقم: (54) من سورة النساء.
(8) الآية رقم: (1) من سورة التغابن(4/817)
وقال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} (1)
فالملك ضبط الشيء، التصرف فيه بحكم، والملك بكسر الميم كالجنس للملك بضم الميم، فكل ملك بالضم ملك بالكسر، وليس كل ملك ملكا.
قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} (2) وقال تعالى: {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (3) وقال: {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} (4) وقال: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} (5) وفي غيرها من الآيات.
والملكوت مختص بملك الله تعالى وهو مصدر ملك , أدخلت فيه التاء نحو: رحموت ورهبوت، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (6) وقال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (7) والمملكة سلطان الملك وبقاعه التي يملكها، والمملوك يختص في التعارف بالرقيق من الأملاك، قال تعالى: {عَبْدًا مَمْلُوكًا} (8)
وقد يقال: فلان جواد بمملوكه أي بما يتملكه. والملكة بكسر الميم تختص بملك العبيد، ويقال: فلان حسن الملكة أي الصنع إلى مماليكه.
__________
(1) (1) و (2) الآية رقم: (26) من سورة آل عمران.
(2) الآية رقم: (26) من سورة آل عمران.
(3) الآية رقم: (31) من سورة الفرقان.
(4) الآية رقم: (31) من سورة يونس.
(5) الآية رقم: (188) من سورة الأعراف والآية رقم: (49) من سورة يونس.
(6) الآية رقم: (75) من سورة الأنعام.
(7) الآية رقم: (185) من سورة الأعراف.
(8) الآية رقم: (75) من سورة النحل.(4/818)
وخص ملك العبيد في القرآن باليمين. وقال تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1)
قال تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (2) {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} (3)
ومملوك مقر بالموكلة والملكة والملك. وملاك الأمر: ما يعتمد عليه منه. وقيل: القلب ملاك العبد. والملاك التزويج. وأملكوه: زوجوه، شبه الزوج بملك عليها في سياستها. وبهذا النظر قيل: كاد العروس أن يكون ملكًا. وملك الإبل والشاء: ما يتقدم ويتبعه سائره تشبيهًا بالملك. ويقال: ما لأحد في هذا ملك وملك غيري. قال تعالى: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} (4) وقرئ بكسر الميم.
- ب - خلف: وقال ابن منظور (5) استخلف فلان من فلان: جعله مكانه.
وخلف فلان فلانا إذا كان خليفته، يقال: خلفه في قومه خلافة، وفي التنزيل العزيز: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} (6) ويقال: خلفت فلانا أخلفه تخليفًا، واستخلفته أنا جعلته خليفتي، واستخلفه جعله خليفة.
والخليفة الذي يستخلف من قبله، والجمع خلائف.
وقال ابن الأثير (7) وفي حديث أبي بكر: "جاء أعرابي , فقال له: أنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. قال: فما أنت؟ قال: أنا الخالفة بعده) .
الخليفة من يقوم مقام الذاهب ويسد مسده، والهاء فيه للمبالغة، وجمعه الخلفاء على معنى التذكير , لا على اللفظ، مثل ظريف وظرفاء , ويجمع على اللفظ خلائف، كظريفة وظرائف.
__________
(1) الآية رقم: (58) من سورة النور.
(2) الآية رقم: (36) من سورة النساء.
(3) الآية رقم: (31) من سورة النور.
(4) الآية رقم: (87) من سورة طه.
(5) لسان العرب: ج: 9. ص: 82 بتصرف يسير.
(6) الآية رقم: (142) من سورة الأعراف.
(7) النهاية: ج: 2. ص: 69 بتصرف يسير.(4/819)
وقال الراغب الأصبهاني (1)
خلف فلان فلانًا قام بالأمر عنه , إما معه , وإما بعده. قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} (2)
والخلافة النيابة عن الغير، إما لغيبة المنوب عنه , وإما لموته , وإما لعجزه , وإما لتشريف المستخلف، وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} (3)
وقال: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} (4)
وخلفاء جمع خليف. قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} (5) {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ} (6)
- ج - عمر: وقال فيروز أبادي (7)
.... وعمر الله منزلك عمارة وأعمره جعله آهلًا والرجل ماله وبيته عمارة وعمورًا ألزمه، وعمر المال نفسه كنصر وكرم وسمع عمارة صار عامرًا، وأعمره المكان واستعمره فيه جعله يعمره , والعمر كسكن المنزل الكثير الماء والكلأ، وأعمر الأرض وجدها عامرة، وعليه أغناه، والعمارة ما يعمر به المكان، وبالضم أجرها , وبالفتح كل شيء على الرأس من عمامة وقلنسوة وتاج وغيره كالعمرة.
وقال الراغب الأصبهاني (8)
عمر: العمارة نقيض الخراب، يقال: عمر أرضه يعمرها عمارة. قال تعالى: {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (9) وقالوا: عمرته فعمر فهو معمور. قال تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} (10) وقال: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} (11) وأعمرته الأرض واستعمرته إذا فوضت إليه العمارة.
قال تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (12)
__________
(1) مفردات القرآن. ص: 223 بتصرف يسير.
(2) الآية رقم: (60) من سورة الزخرف.
(3) الآية رقم: (165) الأخيرة من سورة الأنعام.
(4) الآية رقم: (57) في سورة هود.
(5) الآية رقم: (26) من سورة ص.
(6) الآية رقم: (73) من سورة يونس.
(7) القاموس المحيط. ج: 2. ص: 95.
(8) المفردات في غريب القرآن ص:518.
(9) الآية رقم: 19) من سورة التوبة.
(10) الآية رقم: (9) من سورة الروم.
(11) الآية رقم: (4) من سورة الطور.
(12) الآية رقم: (61) من سورة هود.(4/820)
وقال اليزيدي (1) {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (2) جعلكم عمارها. يقال: أعمرته الدار أي: جعلتها له أبدا. وقال أبو عبيدة (3)
استعمركم مجازه: جعلكم عمار الأرض، يقال: أعمرته الدار، أي: جعلتها له أبدًا وهي العمرى، وأرقبته: أسكنته إياها إلى موته.
- د - مال: قال ابن منظور وابن الأثير (4)
قال ابن الأثير: المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل لأنها كانت أكثر أموالهم.
ويقال: تمول فلان مالا إذا اتخذ قينة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فليأكل منه غير متمول مالا وغير متأثل مالا)) والمعنيان متقاربان.
قال ابن الأثير: وقد تكرر ذكر المال على اختلاف مسمياته في الحديث ويفرق فيها بالقرائن.
ومال أهل البادية النعم.
وقال فيررز أبادي (5)
المال: ما ملكته من كل شيء، جمع أموال.
__________
(1) غريب القرآن. ص: 175.
(2) الآية رقم: (61) من سورة هود.
(3) مجاز القرآن: 1. ص: 291.
(4) لسان العرب. ج: 11. ص: 635 والنهاية ج: 4. ص: 172.
(5) القاموس - المحيط. ج: 4. ص:52.(4/821)
وقال عياض (1)
قوله: فلم تغنم ذهبًا ولا فضة إلا الأموال، المتاع والثياب كذا رواية يحيى بن يحيى وكافة رواة الموطأ. وفي رواية ابن القاسم: إلا الأموال والمتاع. بواو العطف، وعند القعنبي نحوه , قيل: دليل أن العين لا يسمى مالا , وهي لغة دوس , وإنما المال عندهم ما عدا العين، وغيرهم يجعل المال العين، قال ابن الأنباري: ما قصر عن الزكاة من العين والماشية فليس بمال. وقال غيره: كل ما تمول فهو مال. وهو مشهور كلام العرب وليس في قوله: إلا الأموال. دليل لغة دوس لأنه قد استثنى الأموال من الذهب والفضة , فدل أنها منها , إلا أن يجعله استثناء منقطعًا , فتكون "إلا" هنا بمعنى "لكن"، كما قال تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (2)
وقوله: فلك في الأموال، يريد الحوائط. وقوله: إضاعة المال , قيل: يريد الممالك من الرقيق وسائر ما يملك من الحيوان , ونهى عن تضييعهم كما مر في غير هذا الحديث بالرفق بهم، وقال: وما ملكت أيمانكم. وقيل: إضاعة المال ترك الإصلاح به والقيام عليه، وقيل: وإنفاقه في غير حقه من الباطل والسرف , وقال مالك وسعيد بن جبير: هو إنفاقه فيما حرم الله، وقيل: إضاعته إبطال فائدته والانتفاع به.
قوله: غير متمول مالا. أي: غير مكتسب منه مالا وغير مستكثر منه , كما قال: غير متأثل في الرواية الأخرى.
4 - التطور القانوني والتاريخي لمفهوم الملكية
وعلى ضوء هذه التعريفات اللغوية والشرعية للكلمات الأربع التي عرضنا لها في الفقرة السابقة، نتدرج إلى بيان علاقة الإنسان بالأشياء التي ملكها الشارع له , أو استخلفه عليها أو استعمره فيها أو جعلها مالا له. وهذه العلاقة هي ما أطلق عليه الفقهاء والقانونيون كلمة "الحق".
__________
(1) مشارق الأنوار. ج:1 ص: 390.
(2) الآيتان رقم: (25) و (26) من سورة الواقعة.(4/822)
والحق: كما عرفه السنهوري (1) : "مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون". ولو بهذا التعريف يخرج منه فيما يتعلق بتحديد علاقة الحق بالشخص الذاتي أو المعنوي من حيث إنها متمثلة في "الملكية" أو "الملك" بمختلف دلالاتها ما يتصل بالحقوق العامة والحقوق المتعلقة بالأحوال الشخصية , لأنها وإن كانت حقوقًا، ليست بذات قيمة مالية " (2)
وقبل أن ننتقل إلى تقسيم الحق إلى شخصي وعيني، نشير إلى الفرق بين الحق والرخصة، فالحق هو ما عرفناه , أما الرخصة: فهي مكنة واقعية باستعمال حرية من الحريات العامة أو هي إباحة يسمح بها القانون - أو الشرع أو كلاهما - في شأن حرية من الحريات العامة. ذلك أن الشخص في حدود القانون - أو الشرع أو كليهما - له حرية العمل والتنقل والتعاقد والتملك وغير ذلك من الحريات العامة. فإذا وقفنا عند واحدة من هذه الحريات , حرية التملك مثلًا، أمكن أن نقول في سبيل المقابلة بين الحق والرخصة: إن حرية التملك رخصة , أما الملكية فحق.
وما بين الرخصة والحق توجد منزلة وسطى، هي أعلى من الرخصة وأدنى من الحق. ونستبقي مثلنا السابق، وهو حرية التملك. فحق التملك وحق الملك، الأول رخصة , والثاني حق، وما بينهما منزلة وسطى , هي حق الشخص في أن يتملك. فلو أن شخصًا رأى دارًا أعجبته ورغب في شرائها، فهو قبل أن يصدر له إيجاب البائع بالبيع، كان له حق التملك عامة في الدار وفي غيرها، فهذه رخصة. وبعد أن يصدر منه قبول بشراء الدار صارت له ملكية الدار، وهذا حق. ولكنه قبل القبول وبعد الإيجاب في منزلة وسطى بين الرخصة والحق بالنسبة إلى الدار، فهو من جهة ليس له فحسب مجرد الرخصة في تملك الدار كغيرها من الأعيان التي لا يملكها، وهو من جهة أخرى لم يبلغ أن يصبح صاحب الملك في الدار، بل هو بين بين , له أكثر من رخصة التملك , وأقل من حق الملك , له الحق في أن يتملك، إذ يستطيع بقبوله البيع، أي: بإرادته وحده أن يصبح مالكًا للدار
(3)
وليس يعنينا في هذا البحث موضوع الحق الشخصي إلا في حالات ثانوية سنلم بها في مواضعها.
__________
(1) مصادر الحق ج: 1. ص: 1 بتصرف يسير.
(2) مصادر الحقوق. ص: 30/ 34 بتصرف يسير.
(3) مصادر الحق بتصرف يسير.(4/823)
الحقوق العينية الأصلية
على رأس هذه الحقوق حق الملك وجميع الحقوق الأصلية الأخرى متفرعة.
فحق الملك هو الحق العيني الكامل، وقد تتجزأ عناصره، فتتفرع عنه حقوق عينية تعتبر بالنسبة إلى حق الملك بمثابة الجزء من الكل.
فالملك التام هو ملك الرقبة ومنفعتها معا. ويتفرع عنه ملك المنفعة وحدها وملك الرقبة وحدها، وحقوق الارتفاق.
حق الملك التام
الملك التام من شأنه أن يتصرف به المالك تصرفا مطلقا فيما يملكه عينا ومنفعة واستغلالا، فينتفع بالعين المملوكة وبغلتها وثمارها ونتاجها، ويتصرف في عينها بجميع التصرفات الجائزة.
ونرى من ذلك أن عناصر حق الملك في الفقه الإسلامي كما هي في الفقه الغربي ثلاثة: 1) الانتفاع بالعين المملوكة 2) الانتفاع بالغلة والثمار والنتاج، وهذا هو الاستغلال. 3) التصرف في العين.
وليس حق الملك مطلقا كما توهم العبارة المذكورة آنفا، بل هو حق مقيد بوجوب عدم الإضرار بالجار.
للمالك أن يتصرف كيف شاء في خالص ملكه الذي ليس للغير حق فيه فيعلي حائطه، ويبني ما يريده ما لم يكن تصرفه مضرا بالجار ضررا فاحشا.
وعرف الضرر الفاحش بأنه ما يكون سببا لوهن البناء أو هدمه أو يمنع الحوائج الأصلية , أي المنافع المقصودة من البناء، وإما ما يمنع المنافع التي ليست من الحوائج الأصلية , فليست بضرر فاحش.
ويزال الضرر الفاحش سواء كان قديمًا أو حديثًا.(4/824)
إذا كان العين مشتركا بين اثنين أو أكثر، فلكل واحد من الشركاء حق الانتفاع بحصته والتصرف فيها تصرفا لا يضر الشريك، وله استغلالها وبيعها مشاعة حيث كانت معلومة القدر بغير إذن الشريك.
حق المنفعة
الانتفاع الجائز هو حق المنتفع في استعمال العين واستغلالها ما دامت قائمة على حالها وإذا لم تكن رقبتها مملوكة، فحق المنفعة يختص بعنصرين من عناصر الملكية الثلاثة، الاستعمال والاستغلال، وقد يقتصر على الاستعمال فتسمى المنفعة بحق الاستعمال , وقد يقتصر الاستعمال على السكن , فيسمى ذلك بحق السكنى، ومن ثم يقترن عادة حق المنفعة بحق الاستعمال وحق السكني.
وأسباب ملك المنفعة ثلاثة: العقد والوصية والوقف.
حق الرقبة
ويوجد هذا الحق حيث ينتزع حق المنفعة من الملك التام، فتبقى الرقبة على ملك صاحبها الأصلي، ويملك المنفعة شخص آخر غير مالك الرقبة.
ومالك الرقبة لا يجوز له أن ينتفع بالعين ولا أن يتصرف في منفعتها، إذ المنفعة في ملك غيره كما تقدم. وكذلك لا يجوز له أن يتصرف في الرقبة ذاتها إلا بإذن صاحب المنفعة , فإن مالك الرقبة يعود له الملك التام على العين.(4/825)
حق الارتفاق
وتسمى بالحقوق المجردة , وقد عرف بأنه حق مقرر على عقار لمنفعة عقار شخص آخر. ومن حقوق الارتفاق الشرب والمجرى والمسيل والمرور والتعلي والجوار. فالشرب هو نوبة الانتفاع بالماء سقيًا للأرض أو الشجر أو الزرع. وحق المجرى هو حق مرور مسقى في أرض الجار لتصل إلى أرضه. وحق المسيل هو حق مرور مصرف في أرض الجار لصرف الماء الزائد عن الحاجة أو غير الصالح. وحق المرور هو حق مرور الإنسان إلى ملكه من طريق خاص في ملك غيره , وحق التعلي هو أن يكون الإنسان محقًا في أن يعلو بناؤه بناء غيره. ويتحقق ذلك في دار لها سفل لمالك الدار وعلو لمالك آخر. وحق الجوار هو أن لا يضر الجار بجاره ضررًا فاحشًا.
وحقوق الارتفاق محصورة عند الحنفية في الحقوق المتقدمة الذكر. وعند المالكية هي غير محصورة: فيجوز إنشاء حقوق ارتفاق اتفاقية بالعقد، ويمكن على هذا النحو الاتفاق على ارتفاق بعدم العلو بالبناء إلى أكثر من بعد معين أو على ارتفاق بالبناء في رقعة محدودة.
وقال في الوسيط (1)
الأساس الذي يقوم عليه حق الملكية ومشروعية هذا الحق:
حق الملكية من أوسع الحقوق العينية نطاقًا، بل هو جماع الحقوق العينية، ومنه تتفرع جميعًا، فمن له حق الملكية على شيء كان له حق استعماله وحق استغلاله وحق التصرف فيه، ولذلك يستجمع كل السلطات التي يعطيها القانون للشخص على الشيء، فإذا اقتصر حق الشخص على استعمال الشيء واستغلاله كان هذا حق انتفاع متفرعًا عن حق الملكية، وإذا اقتصر حقه على استعمال الشيء لحاجته الشخصية وحدها، أو اقتصر حقه على السكنى دون أي وجه آخر من وجوه الاستعمال.
__________
(1) الوسيط. ج: 8. ص: 481 الفقرة: 291 بتصرف يسير.(4/826)
كان هذا حق استعمال أو حق سكنى وكلا الحقين متفرع من حق الملكية. وإذا اقتصر حقه على استعمال الشيء على وجه معين أو الحصول منه على منافع معينة كان هذا حق ارتفاق، هو أيضًا متفرع من حق الملكية. وإذا اقتصر حق الشخص على التصرف في الشيء جبرًا على المالك لاستيفاء حقه متقدمًا على غيره من الدائنين كان هذا حق رهن أو حق اختصاص أو حق امتياز، وكلها حقوق تبعية إذ هي تكفل
الدين فهي تابعة له، وهي أيضًا متفرعة من حق الملكية. فالمالك إذن يستطيع أن يفعل في ملكه ما يشاء , إلا ما ينهى عنه القانون، أما صاحب أي حق عيني آخر , فلا يستطيع أن يفعل في الشيء إلا ما نص عليه القانون، ولا يستطيع أن يفعل أي شيء آخر.
وقد استتبع اتساع نطاق حق الملكية إلى هذا المدى البحث عن مشروعيته والأساس الذي يقوم عليه، فاختلفت المذاهب والأنظار في ذلك. فبعض يذهب إلى أن الملكية الفردية تقوم على القانون الطبيعي، ولكن لو كانت الملكية الفردية تقوم على القانون الطبيعي , لوجدت في كل الأزمان والعصور، وسنرى أنها إنما كانت ثمرة تطور طويل , ولم تكن موجودة من قبل. وبعض يذهب إلى أنها تقوم على الاستيلاء، فمن وضع يده على مال ملكه , وبقي مالكًا له , وانتقل منه إلى ورثته، ولكن الاستيلاء كسبب من أسباب كسب الملكية الفردية يفترض أن ضرورة الملكية الفردية كانت موجودة قبله، حتى يصح أن يكون الاسيتلاء سببًا في كسبها، وهناك من يذهب إلى أن الملكية الفردية تقوم على النفع الاجتماعي لتفوقها على جميع نظم الملكية الأخرى، إذ المجتمع الذي يمارس الملكية الفردية أرقى بكثير من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية من المجتمع الذي لا يمارسها. ولكن ذلك يفترض أن المجتمع كان بالخيار بين الملكية الفردية والملكية غير الفردية , فاختار الملكية الفردية لنفعها.(4/827)
والصحيح أن الملكية الفردية لم تكن نتيجة مقارنة واختيار، بل كانت ثمرة تطور طويل ظل أحقابًا عديدة حتى انتهى إليها. وسنرى فيما يلي كيف تطورت الملكية.
وإذا أريد للملكية الفردية أن تقوم على أساس مشروع، فخير أساس لها هو العمل. فالعامل يكسب أجر عمله، وهذا الكسب الحلال هو بذرة الملكية الفردية. ومتى سلمنا بأن الفرد له حق مشروع في كسب عمله، فقد سلمنا بمشروعية الملكية الفردية. هذا الكسب الذي جناه الفرد ثمرة لعمله هو ملك له , وينبغي أن يستأثر به دون غيره، فقد كسبه بعرق جبينه وبكده، ولا يوجد كسب حلال لكسب العمل، ولا حافز على العمل أفضل من الكسب الحلال. وإذا قلنا: من حق الفرد أن يستأثر بكسب عمله , فقد أثبتنا له حق ملكية فردية على هذا الكسب، ومن حقه إذن أن يستمتع بجميع عناصر حقه , فينتفع به استعمالا واستغلالا. ويتصرف فيه , وهو لا يزال حيا، وينتقل منه إلى ورثته بعد موته، هذه هي عناصر الملكية الفردية، لا مناص من التسليم بها متى ما سلمنا بمبدأ الملكية الفردية في ذاته. وإذا كان الملك ينتقل في بعض الأحيان إلى ورثة لا يستحقونه ولم يكسبوه بعملهم هم. فهذه ضرورة لا معدى منها، ويعوض عنها ما تؤيده الملكية الفردية من حافز على العمل. على أن المالك إذا انتقل إلى ورثة لا يستحقونه ايلبث أن ينتقل من أيديهم وينتقل إلى أيد أصلح.
فالعمل إذن هو الأساس المشروع الذي تقوم عليه الملكية الفردية، وما الملك إلا الأجر واستحقه الأجير، وينبغي أن يعطى إياه قبل أن يجف عرقه.
وقد نقلنا هذا البحث الدقيق كله لما اشتمل عليه من عناصر وأحكام سنعود إليها أثناء هذا البحث استنادًا أو تحليلًا.
واستقراء للعناصر الضرورية لتعريف حق الملكية في الوقت الراهن، لا مناص من تتبع نشأته ومسايرة تطوره.(4/828)
فنبقى مع السنهوري إذ يقول (1)
: "ذهب كثيرون من الباحثين إلى أن الملكية بدأت أولًا ملكية جماعية، يشترك فيها جميع أفراد القبيلة , ولا يستأثر بها أحد منهم، فكانت الأرض والأسلحة والعدد بوجه خاص مملوكة ملكية جماعية للقبيلة في الحضارة البدوية. ولما استقرت الجماعات في الأرض، وتطورت الحضارة من حضارة بدوية تقوم على رعي المواشي إلى حضارة زراعية تقوم على زراعة الأرض، تطورت الملكية مع تطور الحضارة , فأصبحت ملكية عائلية. وانتهت الملكية بعد تطور طويل إلى
أن تكون ملكية فردية، ولكن مع بقاء بعض آثار الملكية العائلية كالميراث والنصاب الذي يجب أن يستبقى للورثة دون أن تجوز الوصية فيه. وإذا تابعنا التطور التاريخي لحق الملكية في غرب أوروبا منذ عهد
الرومان إلى نشوب الثورة الفرنسية وصدور التقنين المدني الفرنسي، وجدنا أن هذا الحق لم يبق على وتيرة واحدة، بل إنه تطور تطورًا غير مطرد. فتبسطت الملكية ثم تعقدت، ثم عادت إلى التبسط، لتعود بعد ذلك إلى التعقيد، وتنتهي أخيرًا إلى التبسط.
ففي العهود الرومانية القديمة كانت الملكية جماعية وعائلية، وكانت فردية في بعض الأشياء الاستثنائية المحددة كالمنقولات والعبيد، وكان معنى الملكية يختلط بالمعنى الديني وبمعنى سيادة الدولة. ولما قوي سلطان الدولة قامت الملكية العامة وبدأ معنى الملكية الفردية يظهر على الأراضي التي كانت الدولة تقطعها للأفراد في صور مختلفة. وانتهى الأمر في العهد الكلاسيكي إلى ظهور الملكية الفردية ظهورًا كاملًا مع دعمها على أسس قوية. وإلى جانب هذه الملكية الفردية المبسطة ظهرت في الأقاليم ملكية أخرى معقدة وهي الملكية البريطورية أو الملكية غير الرومانية، حيث تقوم ملكية الدولة فوق ملكية الفرد في الأرض الواحدة، وأخذت هذه الملكية الجديدة تتبسط شيئًا فشيئًا، وتختفي فيها ملكية الدولة ويغلب حق الفرد، حتى أصبحت في عهد جيستنيان ملكية فردية تامة على غرار الملكية الرومانية.
__________
(1) مصادر الحق. ص: 481/ 485 الفقرة: 292/293 بتصرف يسير.(4/829)
ولكن ما لبثت العصور الوسطى والعادات الجرمانية أن عقدت الملكية الفردية من جديد، وكانت الملكية في العادات الجرمانية ملكية فردية في المنقولات وفي منزل السكنى جماعة في الأراضي الزراعية. وفي عهود الإقطاع بعد أن هدأت الحروب وتوطدت السلطات المركزية، سادت الملكية الإقطاعية في الأرض، وقامت الملكية الفعلية إلى جانب الملكية الأصلية. وتجردت الملكية الأصلية شيئًا فشيئًا عن معاني الملكية، وأصبحت الملكية الحقيقية في يد صاحب الملكية الفعلية، وتمثلت الملكية الأصلية في بعض مزايا وخدمات وأعطيات يؤديها التابع أو الحائز وهو صاحب الملكية الفعلية إلى السيد , وهو صاحب الملكية الأصلية. ولم تعد الملكية في الواقع من الأمر إلا ملكية فردية واحدة، هي ملكية التابع أو الحائز أي الملكية الفعلية، وآلت الملكية الأصلية إلى أن تكون مجرد تكاليف تثقل الأرض , وأقرب إلى أن تكون حقا من حقوق الارتفاق.
ثم نشبت الثورة الفرنسية، واكتسح الفلاحون في الأقاليم قصور النبلاء، وحرقوا السجلات التي تتضمن ما لهؤلاء النبلاء من حقوق وتكاليف على الأرض، بل وحرقوا معها في بعض الأحيان القصور ذاتها وقتلوا النبلاء أصحاب هذه القصور، ونادوا بتحرير الأرض من كل التكاليف والحقوق الإقطاعية. وفي ليلة 4 أغسطس سنة 1789، بعد هدم الباستيل بأقل من شهر، أقرت الجمعية الوطنية قانونًا يقضي بإلغاء الإقطاع إلغاء تاما، وتخلصت ملكية الأرض من جميع أثقالها الإقطاعية وأصبحت ملكية خالصة لصاحبها، بل "أصبحت" حقا مقدسًا لا يجوز انتهاك حرمته، لا يجوز حرمان صاحبه منه، إلا إذا قضت بذلك في وضوح ضرورة من مصلحة عامة ثبتت قانونًا، وبشرط تعويض عادل يدفع مقدمًا (م: 17 من إعلان حقوق الإنسان) . وفي دستور سنة 1791، في المادة 87 منه، وصف حق الملكية بأنه حق مقدس لا يجوز انتهاك حرمته.(4/830)
وسرت روح الثورة فيما يتعلق بحق الملكية إلى التقنين المدني الفرنسي، فعرفته المادة: 544 من هذا التقنين بما يأتي: "الملكية هي الحق في الانتفاع بالشيء وفي التصرف فيه على نحو أشد ما يكون إطلاقًا، بشرط ألا يستعمل الشيء على وجه يحرمه القانون أو اللوائح". وقال بورتاليس في صدد هذه المادة: "لقد اعتبر دائما مبدأ من المبادئ الحرة أن الملكية الفردية في التقنين المدني تدخل ضمن النظم الطبيعية، بل النظم الإلهية، وأن حقوق الملاك على أملاكهم هي حقوق مقدسة يجب أن تحترمها الدولة نفسها".
التطور التاريخي لحق الملكية
في البلاد الإسلامية وفي مصر
واستمرارا لقوله ما جاء في هذه الفقرة:
"حق الملكية في المنقول اعترف به اعترافًا كاملًا في جميع البلاد الإسلامية وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية.
أما الأراضي فكانت قسمين: 1) أرضًا عشورية، وهي مملوكة ملكية تامة لأصحابها، وتدفع العشر عينًا مما تغله للإمام (أي الدولة) , وتشمل جميع الأراضي الواقعة في الجزيرة العربية إذ لا يقبل فيها إلا الإسلام، والأراضي التي أسلم أهلها طوعًا , فتبقى لهم ويدفعون عنها العشر، والأراضي التي فتحت عنوة وقهرًا وقسمت بين الغانمين المسلمين , فهؤلاء يملكون الأرض بقسمتها بينهم ويدفعون عنها العشر.
2) أرضا خراجية وهذه تدفع الخراج للإمام ويتراوح بين الخمس والنصف بحسب تقدير الإمام.(4/831)
وتشمل الأرض الخراجية الأراضي التي فتحت عنوة وقهرًا (في غير الجزيرة العربية) وتركها الإمام في يد أصحابها وضرب عليها الخراج بحسب تقديره، والأراضي التي لم تفتح عنوة وقهرًا , بل سلم أهلها صلحًا، يضرب عليها الخراج
بحسب عهد الصلح. والأرض الخراجية في الأرض المفتوحة صلحًا تكون ملكيتها بحسب الوارد في عهد الصلح، فقد يرد في هذا العهد أن تترك الملكية لأصحابها , فتكون لهم عليها ملكية تامة ولا يلتزمون إلا بدفع الخراج للإمام، وقد يرد في عهد الصلح أن الأرض تكون وقفًا , ولا يكون لأصحابها عليها إلا حق الانتفاع بها في نظير دفع الخراج. أما في البلاد المفتوحة عنوة وقهرًا، فللإمام الخيار بين جعل الأرض وقفًا وترك حق الانتفاع بها لأصحابها في نظير دفع الخراج وبين ترك ملكية الأرض لأصحابها يملكونها تامة ولا يلتزمون إلا بدفع الخراج.
ولما فتح العرب مصر، أقروا المصريين على أراضيهم , ولم تنزع منهم، وأصبحت أراضي خراجية يلتزم أهلها بدفع خراجها. ولما كان المصريون لا يملكون رقبة الأرض منذ حكم الرومان ومن قبلهم من الفاتحين، بل منذ عهود الفراعنة، فإن العرب اعتبروا أن رقبة الأرض قد انتقلت إلى الدولة الجديدة , وقد حلت في ذلك محل الدولة البيزنطية، وبقي لأصحاب الأراضي حق الانتفاع بها في نظير دفع الخراج.
ثم عاد فعرف حق الملكية في الوسيط بقوله (1)
" ... إن حق ملكية الشيء هو حق الاستئثار لاستعماله واستغلاله والتصرف فيه على وجه دائم، وكل ذلك في حدود القانون ".
ثم قال (2)
"لمالك الشيء، ما دام ملتزمًا حدود القانون أن يستعمله وأن ينتفع به، وأن يتصرف فيه دون أي تدخل من جانب الغير بشرط أن يكون ذلك متفقًا مع ما لحق الملكية من وظيفة اجتماعية".
ثم قال (3)
__________
(1) مصادر الحق. ص: 492/ 494 الفقرة:297 بتصرف يسير.
(2) مصادر الحق بتصرف يسير.
(3) مصادر الحق بتصرف يسير.(4/832)
" ... الصفة الاجتماعية لحق الملكية هي المتغلبة في التقنيات الجديدة، وهي التي تمثل النزعة الحديثة في تطور حق الملكية , فليس هذا الحق مطلقًا لا حد له، بل هو وظيفة اجتماعية يطلب إلى المالك القيام بها، ويحميه القانون ما دام يفعل.
أما إذا خرج على هذه الحدود، فلا يعتبره القانون مستحقا لحمايته. ويترتب على ذلك نتيجتان: (1) حيث يتعارض حق الملكية مع مصلحة عامة , فالمصلحة العامة هي التي تقدم. (2) حيث يتعارض حق الملكية مع مصلحة خاصة هي أولى بالرعاية من حق الملكية , فإن هذه المصلحة هي التي تقدم بعد أن يعوض المالك تعويضًا عادلا".
ونواصل مع السنهوري ملاحقته القيمة لما صار إليه حق الملكية من تمايز بين ما هو من خصائصه وما هو من وظيفته , فننقل من "الوسيط" قوله (1)
"الملكية حق ذاتي في عناصره وخصائصه:
الملكية حق ذاتي كسائر الحقوق، بل هي أكثر الحقوق عناصر، وأشملها خصائص.
فالملكية حق ذاتي في عناصره. وقد قدمنا أن المالك له سلطة ذاتية على الشيء الذي يملكه، وسلطته على الشيء هي أوسع السلطات، فله أن يستعمل الشيء في شؤونه الخاصة، ويستعمله على الوجه الذي يقدر أنه نافع له. وله أن يستغل الشيء إرضاء لمصالحه الشخصية، ووفاء بحاجاته الذاتية. وله أن يتصرف في الشيء بجميع أنواع التصرفات، فله أن ينقل ملكيته إلى غيره بمقابل أو بغير مقابل، وله أن يرتب حقوقًا متنوعة على الشيء، من حق انتفاع إلى حق ارتفاق إلى حق رهن إلى غير ذلك من الحقوق. وله أن يغير من معالم الشيء، وأن يزيد عليه، وأن ينتقص منه، بل له أن يستهلكه وأن يتلفه وأن يعدمه، كل ذلك سعيًا وراء مصالحه الشخصية، ووفاء بحاجاته الخاصة، فالملكية إذن كسائر الحقوق، حق ذاتي من حيث عناصره، بل هو أكثر الحقوق الذاتية عناصر كما سبق القول.
والملكية حق ذاتي في خصائصه. وقد قدمنا أن الملكية حق جامع، فيجمع المالك في يده جميع السلطات على الشيء، على النحو الذي رأيناه. ومن المالك تستمد كل سلطة على الشيء، وما لم يثبت أجنبي أنه استمد سلطة معينة بموجب إرادة المالك أو بموجب حكم القانون، فهذه السلطة للمالك , لا لأحد غيره. وقدمنا أن الملكية حق مانع، فيستأثر المالك بالشيء وحده , وليس لأحد أن يشاركه فيه.
__________
(1) مصادر الحق. ص: 550/562 الفقرة: 333/343 بتصرف يسير.(4/833)
وهذه الذاتية في حق الملكية تعتبر من مقوماته، وخصائصه البارزة. فإذا كان الشيء المملوك أرضًا فضاء، كان للمالك أن يسورها وأن يمنع دخول الغير فيها، حتى لو لم يصبه من دخول الغير ضرر. ولا يجوز لأحد أن يشارك المالك بغير إذنه في استعمال الشيء، أو في استغلاله، أو في التصرف فيه , والملكية أخيرًا حق دائم. وتتميز الملكية بالدوام عن أي حق ذاتي آخر , فكل حق - عينيا كان أو شخصيا - هو حق مؤقت , أو يمكن أن يكون مؤقتًا، وذلك فيما عدا حق الملكية , فإنه يدوم ما دام الشيء المملوك. وهذا وحده كاف لنطبع الملكية بطابع ذاتي، إذ يستطيع المالك، ومن بعده خلفاؤه، أن يستأثروا بالشيء المملوك. ويبقون مستأثرين به، إلى أن يهلك الشيء أو يتلف. ومن ثم كانت دعوى الاستحقاق غير قابلة للسقوط بالتقادم، وكذلك لا يجوز أن تقترن الملكية بأجل.
الملكية حق ذاتي
ونطاق الملكية يتسع، حتى ليشمل سطح الأرض وما فوقها وما تحتها. وإذا كانت الملكية كما قدمنا أكثر الحقوق الذاتية عناصر وأشملها خصائص، فهي إذن أوسعها نطاقًا. ولا تقتصر على هذا القدر من العلو والعمق، بل هي أيضًا تتناول مع الشيء المملوك كل ما ينتجه هذا الشيء من ثمار ومنتجات. بل إن مالك الأرض يملك بالالتصاق كل ما اتصل بها من مبان وغراس، ويستأثر إلى أوسع مدى بحقه الذاتي في ملكه.
وهكذا يمتد حق المالك، فيتناول الأرض في سطحها طولًا وعرضًا، وفي حيزها علوا وعمقًا، ويشمل كل ما يتصل بالأرض من ملحقات، وما تخرجه من ثمار ومنتجات. وهذا أقصى ما يصل إليه الحق في اتساع نطاقه.
الملكية حق ذاتي في حمايته
ويحمي القانون المالك حماية شاملة، فيمنع الغير من الاعتداء على ملكه، ويضع في يده سلاحًا قويا في دعوى الاستحقاق يسترد بموجبها ملكه من تحت يد أي حائز لها، غاصبًا كان أو غير غاصب.
ولا يجوز نزع الملكية جبرًا على صاحبها إلا بشروط , أهمها أن يقوم مبرر قانوني لذلك، وأن يعوض المالك مقدمًا عن ملكه.(4/834)
الملكية الذاتية ثمرة العمل وجزاؤه الحق
وإذا كان المالك يستأثر بما يملكه ويحوزه لمصلحته الخاصة وللوفاء بحاجاته الشخصية، فما ذلك إلا لأنه في الأصل قد بذل جهودًا في العمل، وكانت الملكية هي ثمرة هذه الجهود، والأجر على هذا العمل. ومتى ثبتت لصاحبها، وجب أن تثبت له بجميع عناصرها من استعمال واستغلال وتصرف، وبجميع خصائصها فتكون جامعة مانعة دائمة.
فللمالك أن يتصرف في الشيء حال حياته، وينتقل الشيء إلى ورثته بعد وفاته. وإذا كان يبدو أن الوارث لم يبذل جهدًا في تملكه للشيء الموروث، فإن الميراث ينظر إليه لا على أنه جزاء للوارث، بل جزاء للموروث ذلك أن الموروث إذا كان لم يتصرف في الشيء وهو حي وهذا حقه، فإنه أراد بذلك أن ينتقل الشيء إلى وارثه بعد وفاته , وهذا حقه أيضًا، بل هذا هو جزاؤه على عمله. ولا ضير من أن ينتقل الشيء إلى وارث قد لا يستحقه، فإن هذا الوارث إذا كان حسن التدبير , فما ورثه يكون عونًا له , فلا يكون عالة على المجتمع، وإذا كان سيئ التدبير , فإنه لا يلبث أن يضيع ما ورثه. وفي بعض الحالات يكون الورثة، وبخاصة الزوجة والأولاد، قد ساهموا في الجهود التي بذلها المورث في الحصول على ملكه.
فالملكية الذاتية إذن هي ثمرة العمل، وهي جزاؤه الحق.
الملكية الذاتية أقوى حافز على العمل
وخير ضمان للاستقلال الشخصي
ولا يجوز الاقتصار في النظر إلى الملكية الذاتية على أنها جزاء، فهي قبل أن تكون جزاء على العمل، أقوى حافز عليه. ذلك أن الإنسان بطبعه قد ركب فيه من حب الذات وما يجعله أقوى ما يكون نشاطًا وإقبالا على العمل عندما يعلم أن لعمله جزاء يستأثر به لنفسه، ولا يشاركه فيه غيره. وليس الأمر هنا أمر سلوك يمدح أو يذم، بل هو أمر الواقع المشاهد، وليس لنا بد من استخلاص نتائجه. فالنشاط الفردي وهو من الأسس القوية التي يقوم عليها المجتمع، لا بد له من حافز، وأقوى حافز له هي المصلحة المادية، وأبرز صور المصلحة المادية هي الملكية الذاتية.(4/835)
ثم إن الملكية الذاتية لا تقتصر على أن تكون أقوى حافزا على العمل، بل هي أيضًا خير ضمان للاستقلال الشخصي. فمن لا يملك شيئًا يفقد استقلاله، ويكون عبدًا لمن ملك. ومهمة الدولة ليست في أن تلغي الملكية الذاتية وتكون هي المالكة لكل شيء , فيصبح الناس جميعًا عبيدًا لها، بل مهمتها على العكس من ذلك هي أن تجعل الملكية الذاتية في متناول كل من يعمل. فتكون الملكية الذاتية أفضل جزاء على العمل، وأقوى حافزا عليه وخير ضمان للاستقلال والحرية.
الأساس الذي تقوم عليه الوظيفة الاجتماعية للملكية
وإذا كان حق الملكية حقا ذاتيا على النحو الذي بسطناه فإن لهذا الحق وظيفة اجتماعية يجب أن يقوم بها. وقد وقف التقنين المدني الفرنسي في سنة 1804 عند ذاتية حق الملكية، وأغفل كثيرًا من مظاهر الوظيفة الاجتماعية التي لهذا الحق. ولكن المذاهب الاشتراكية التي بدأت تنتشر طوال القرن التاسع عشر، وأخذت تنفذ إلى صميم النظم الاجتماعية والاقتصادية والقانونية، ووصلت إلى الأوج من انتشارها في القرن العشرين، ما لبثت أن أبرزت جانب الوظيفة الاجتماعية لحق الملكية، وكان ذلك بطبيعة الحال على حساب جانب الذاتية في هذا الحق.
ولا شك في أن الملكية حق ذاتي وحق اجتماعي في وقت واحد. أما أنها حق ذاتي، فقد تقدم القول في ذلك، وأما أنها حق اجتماعي فينهض أساسًا لذلك أمران:
ا) مبدأ التضامن الاجتماعي، فإن هذا المبدأ يقضي بوجوب التعاون في المجتمع. والملكية من أهم الدعائم التي يقوم عليها هذا التعاون، فالمالك يجب أن يعتبر نفسه , كما هو الواقع، عضوًا في المجتمع الذي يعيش فيه، يأخذ منه ويعطيه.(4/836)
2) على أن المالك إذا كان قد كسب ملكه بعمله كما سبق القول، مدين أيضًا للمجتمع بما كسب. فليس عمله وحده هو الذي أكسبه الملك، بل إن المجتمع ساهم مساهمة ملحوظة في جهود المالك حتى يحصل هذا على ما أصبح مالكًا له. ومساهمة المجتمع في جهود المالك هي على نفس مستوى مساهمة الأسرة أو لعلها تزيد , فإذا كانت مساهمة الأسرة هي أحد مبررات الميراث , فلا شك في أن مساهمة المجتمع تبرر هي الأخرى أن تكون للملكية وظيفة اجتماعية.
ومقتضى أن تكون للملكية وظيفة اجتماعية هو أن يقيد حق الملكية لا للمصلحة العامة فحسب، بل أيضًا للمصلحة الخاصة.
تقييد حق الملكية للمصلحة العامة
"حيث يتعارض حق الملكية مع مصلحة عامة، فالمصلحة العامة هي التي تقدم، فما ينبغي أن تقف الملكية حجر عثرة في سبيل تحقيق المصلحة العامة، ولا يدخل هذا في وظيفتها الاجتماعية" وقد رأينا أن نطاق الملكية يتسع حتى يشمل سطح الأرض وما فوقها وما تحتها. وليس معنى ذلك أن مالك الأرض يسوغ له أن يمنع أي عمل يقام به للمصلحة العامة فوق سطح الأرض أو تحتها، كمرور الأسلاك المعدة للمواصلات التلغرافية أو التلفونية أو المعدة للإضاءة أو لنقل القوى الكهربائية ومواسير المياه والغاز. وبوجه عام ليس للمالك أن يعارض فيما يقام من عمل على مسافة من العلو أو العمق لا تضر بصاحب الأرض.(4/837)
وقد تصل المصلحة العامة في التعارض مع حق المالك إلى حد أن تلغي هذا الحق. وقد أجاز القانون فعلًا نزع الملكية للمنفعة العامة بشروط وقيود.
كذلك تقتصي المصلحة العامة تأميم الملك ونقله إلى الدولة كما وقع ذلك - حتى في بعض الدول الغربية - في شأن البنوك وشركات التأمين والشركات الصناعية، فلا يجوز أن يقف حق الملكية حائلًا دون ذلك.
ثم إن هناك كثيرًا من القيود ترد على حق الملكية، قررتها القوانين واللوائح لمصلحة عامة اقتضتها، ومن أهم هذه القيود حقوق الارتفاق الإدارية، كحقوق التطرق المتعلقة بالشوارع هي الارتفاقات التي يتحمل بها الملاك الذين توجد أملاكهم على جانبي الطريق العام كتقرير خط التنظيم وعدم البناء من غير رخصة أو هدم الأبنية المختلفة أو الآيلة للسقوط، والحقوق المتعلقة بمجاري المياه كحق الحكومة في قلع الأشجار المغروسة في الجسور وميول الترع العامة إذا كانت هذه الأشجار تعوق سير المياه في الترع أو تعطل الملاحة فيها أو تمنع السير على جسورها. ومن هذه القيود أيضًا ما تقرر لمصلحة الأمن العام أو الصحة العامة , كالقيود التي تجب مراعاتها في إنشاء العزب أو الزرائب، أو المحال العامة أو المحال المقلقة للراحة والضارة بالصحة والخطرة، أو إقامة الآلات الرافعة أو تركيب الآلات البخارية، أو إحداث الحفر أو البرك. ومن هذه القيود ما تقرر لمصلحة الزراعة كالقيود الخاصة بوقاية القطن والمحاصيل الأخرى، ومنع زراعة القطن في أكثر من مساحة معينة. ومنها ما تقرر للمصلحة الحربية كإنشاء مناطق خطر حول القلاع. ومنها ما وضع لحفظ الثروة القومية وإنمائها كالقيود الخاصة بالمناجم وحماية الآثار التاريخية.
تقييد حق الملكية لمصلحة الخاصة
" ... حيث يتعارض حق الملكية، فإن هذه المصلحة الخاصة هي التي تقدم، بعد أن يعوض المالك تعويضًا عادلًا. وهنا نجد القيد الذي يرد على حق الملكية قد تقرر، لا للمصلحة العامة، بل للمصلحة الخاصة" وهذا المظهر من تقييد حق للمصلحة الخاصة وهو أبلغ مظهر لمبدأ التضامن الاجتماعي ولكون الملكية لها وظيفة اجتماعية يجب عليها أن تؤديها.(4/838)
فالمبدأ الأساسي إذن هو أنه حيث تتعارض مصلحة المالك مع مصلحة خاصة لأجنبي، فليس من الضروري أن تقدم مصلحة المالك وإن كان من الضروري تقديمها , لو أن الملكية حق ذاتي فحسب. ولكن الملكية لها وظيفة اجتماعية، وهذه الوظيفة تقضي بأنه تجب الموازنة بين مصلحة المالك ومصلحة الأجنبي، فإن كانت مصلحة الأجنبي أولى بالرعاية من مصلحة المالك، وجب تقديم مصلحة الأجنبي مع تعويض المالك التعويض العادل. وبذلك تكون الملكية قد أدت وظيفتها الاجتماعية على خير وجه يقضي به التضامن الاجتماعي.
وإذا رجحت مصلحة الأجنبي على مصلحة المالك، فأقل ما يطلب من المالك أعمال سلبية يمتنع بها عن الإضرار بالجار , وقد يجاوز الأمر الأعمال السلبية من المالك إلى أعمال إيجابية من الجار , بل قد يصل الأمر إلى حد يقتضي من المالك نفسه أن يقوم بأعمال إيجابية , وهذه هي أبلغ مظاهر الوظيفة الاجتماعية لحل الملكية , وبها يكون التضامن الاجتماعي قد بلغ الذروة في التقييد من سلطان المالك.
أعمال سلبية من المالك
الأمثلة كثيرة على الأعمال السلبية التي تقتضي من المالك حتى يقوم بما للملكية من وظيفة اجتماعية، ونجتزئ هنا بإيراد بعض الأمثلة:
"ا) - يجب على المالك أن يمتنع عن استعمال ملكه بحيث يضر بالجار ضررًا فاحشًا. وإذا جاز للمالك أن يطلب من جاره أن يتحمل مضار الجوار المألوفة، فليس له أن يحمله المضار غير المألوفة للجوار.
2) - وليس للجار أن يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي يمكن تجنبها، وإنما له أن يطلب إزالة هذه المضار إذا تجاوزت الحد المألوف على أن يراعى في ذلك العرف، وطبيعة القارات، وموقع كل منها بالنسبة إلى الآخر، والغرض الذي خصصت له. ولا يحول الترخيص الصادر من الجهات المختصة دون استعمال هذا الحق".(4/839)
3) - لمالك الحائط أن يتصرف في حائطه كما يشاء، فله أن يرممه إذا احتاج إلى الترميم، وله أن يعدل في طريقة بنائه، وله أن يهدمه ويعيد بناءه، بل له أن يهدمه ثم لا يعيد بناءه. ولا يجبر على النزول عن جزء من حائطه لجاره الملاصق إلا في حالة خاصة، ومع ذلك إذا كان الجار يستتر بالحائط، امتنع على صاحب الحائط هدمه دون عذر قوي إن كان الهدم يضر بالجار.
4) - في ملكية الطبقات حيث يوجد علو وسفل، يجوز لكل من مالك العلو والسفل أن يتصرف في ملكه كما يشاء، فيعدل من بنائه، ويزيد فيه أو ينتقص منه، ويعليه إذا كان يحتمل الإعلاء. ومع ذلك يجب على صاحب العلو أن يمتنع عن إعلاء علوه، إذا كان هذا الإعلاء يحمل السفل ثقلًا جسيما بحيث يضر به.
أعمال إيجابية من الغير
وقد تقتضي الوظيفة الاجتماعية لحق الملكية أن يتدخل الغير تدخلًا إيجابيا في انتفاع المالك بملكه، ليتوقى ضررًا أشد بكثير من الضرر الذي يصيب المالك من التدخل، على أن يعوض المالك التعويض العادل. وقد طبق هذا المبدأ تطبيقات بعيدة المدى، نذكر منها ما يأتي:
1- لمالك المسقاة أو المصرف أن ينتفع بمسقاته أو مصرفه، وأن يستقل بهذا الانتفاع فلا يشاركه فيه أحد. ومع ذلك يجوز للجار أن يأخذ ماء من المسقاة (حق الشرب) لري أرضه، أو يصرف ماءه في المصرف (حق الصرف) بعد أن يكون المالك قد استوفى حاجته من مسقاته أو مصرفه.
2 - مالك الأرض حر في التصرف في ملكه كما يشاء، وله أن يمنع غيره من الانتفاع بالأرض، ومع ذلك يجوز للجار أن يجبر المالك على أن تمر بأرضه المياه الكافية لري أرض الجار البعيدة عن مورد المياه (حق المجرى) ، أو أن تمر بأرضه مياه الصرف الآتية من أرض الجار لتصب في أقرب مصرف عام (حق المسيل) بشرط تعويض المالك تعويضًا عادلًا.(4/840)
3 - لمالك الأرض أن يمنع جاره من المرور بأرضه. ومع ذلك إذا كانت أرض الجار محبوسة عن الطريق العام، فإن للجار حق المرور في أرض جاره بالقدر اللازم لاستغلال أرضه واستعمالها على الوجه المألوف، وذلك في نظير تعويض
عادل. وهذا ما يسمى بحق المرور.
أعمال إيجابية من المالك
وهنا تصل الوظيفة الاجتماعية لحق الملكية إلى أبعد غاياتها فيجبر المالك على أن يقوم بأعمال إيجابية لمصلحة الغير. ونذكر على سبيل المثال ما يأتي:
1 - في ملكية الطبقات، يجبر صاحب السفل على أن يقوم بالأعمال والترميمات اللازمة لمنع سقوط العلو.
2 - في الملكية على الشيوع، تجبر أقلية الشركاء على الموافقة على ما تقرره الأغلبية في شأن إدارة المال الشائع.
وليس الأمر مقصورًا على أعمال الإدارة المعتادة، بل يجاوز ذلك إلى ما يخرج عن حدود الإدارة المعتادة، فتجبر أقلية الشركاء على الموافقة تحت رقابة المحكمة، على ما تقرره الأغلبية من تغييرات أساسية وتعديل في الغرض الذي أعد له المال الشائع.
بل إن الأمر يجاوز حدود الإدارة المعتادة، ويصل إلى حد للتصرف في المال الشائع. فتجبر أقلية الشركاء على الموافقة تحت رقابة المحكمة على ما تقرره الأغلبية من التصرف في المال الشائع، إذا استندت هذه الأغلبية في قرارها إلى أسباب قوية.
3 - وقد جعلت التشريعات الاستثنائية الخاصة بالإيجار نظرًا لأزمة المساكن، للمستأجر حقوقًا واسعة إزاء المالك، بحيث يكاد المستأجر يصبح شريكًا للمالك في ملكه. وأجبرت المالك على قبول أنواع شتى من تدخل المستأجر، وبخاصة في تعيين حد أقصى للأجرة، وفي ترك المستأجر يبقى بالعين المؤجرة حتى بعد انقضاء مدة الإيجار، المدة التي يراها. ويستوي في ذلك إيجار الأماكن وإيجار الأراضي الزراعية. وقد دعا ذلك الفقهاء في فرنسا، ويشتمل القانون الفرنسي على تشريعات مماثلة، أن يروا أن المالك قد أصبح اليوم إزاء المستأجر غير خالص الملكية، بل هو لا يملك على داره أو أرضه إلا ما كان يسمى في العصور الوسطى بالملكية المشرفة، يتقاضى بموجبها أجرًا زهيدًا، أما الملكية الحقيقية أو الملكية النافعة فهي للمستأجر ".(4/841)
والتزامًا بالمنهج الذي رسمناه لهذا البحث ومن مقتضياته محاولة الاستنارة بكل ما يتيسر لنا الاطلاع عليه من الآراء الجادة فيما يتصل بكل عنصر من عناصره وإشراك القارئ معنا إشراكًا كاملًا في تمحيص الآراء التي نستنير بها وتقدير مدى جديتها وسدادها ننقل - إلى جانب ما اقتبسنا من آراء السنهوري آنفًا - بعض ما قاله جواد علي في "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" (1) حول تاريخ الملكية عند العرب.
فبالإضافة إلى أن جواد علي من الباحثين الجادين الملتزمين بمقتضيات المنهج العلمي غالبًا، وإن تكن له بعض الأخطاء العجيبة الناتجة عن محاولته إيثار ما يعتبره تجردًا علميا على ما يقتضيه الإيمان الصادق لدى المسلم الحق من اعتبار
النصوص الإسلامية الثابتة وخاصة النصوص القرآنية والسنية المتواترة غير قابلة للخضوع لأي تقييم علمي , إذ هي في ذاتها توجب علما قطعيا. فإن من المهم الوقوف مليا عند تطور مفهوم الملكية، وخاصة ملكية الأرض عند العرب بالذات، إذ بلغتهم وفي بيئتهم نزل القرآن , وهم المكلفون الأول بنقله وتبيانه وتبيان السنة المكملة له إلى الأمم الأخرى.
ويتراءى لنا من استقراء تشريعات المعاملات الواردة في القرآن أو السنة، أو ما كان منها من عمل الصحابة مما يبلغ درجة الإجماع، أو يقف عند مستوى الاستفاضة والشهرة أن العادات والتقاليد العربية كانت مرعية - أو على الأقل ملحوظة - فيها , ومرد ذلك فيما يتراءى لنا أن موطن العرب كان وسطًا، فهو ليس موغلًا في المشرق ولا موغلًا في المغرب، والأمم الضاربة إلى المشرق كثيرًا ما يغلب عليها الانصياع والهيمنة الروحية، وما تقتضيه من الإيغال في السلبيات وعدم التعامل مع الشؤون المادية بتقدير ووعي.
__________
(1) ج: 7. ص: 130 بتصرف يسير.(4/842)
وآية ذلك أن نزعات التصرف المسرفة وما شاكلها من الفلسفات المثالية تسلل أغلبها إلى الأمة الإسلامية، من الأمم الضاربة إلى الشرق بعد الفتح الإسلامي، وبعد أن أصبحت مؤثرة في الشعوب الإسلامية الأخرى بما نقل إلى العربية من ثقافاتها وفلسفاتها كما أن مواطن العرب ليست ضاربة إلى المغرب، وأعني بالمغرب أوروبا وما وراءها جنوب المحيط الأطلسي، حيث تستوطن أمم خاضعة خضوعًا يكاد يكون تاما للمؤثرات المادية، عازفة عزوفًا يكاد يكون مطلقًا عن المواجد والاعتبارات الروحية، لذلك كانت ثقافاتها وفلسفاتها في أغلبها أشد تجانسًا مع الظواهر الملموسة ومظاهر الأشياء، وأشد نزوعًا إلى إيثار مقتضياتها عن أية مقتضيات أخرى. ولعل مما يؤيد هذا الذي تراءى لنا من وسطية العرب واعتبار الشرع لها، لا سيما في ضبط قواعد المعاملات وجانب من ضوابط الشؤون الاجتماعية أن الثقافات الوافدة - إن لم نقل: المتسللة - إلى الأمة الإسلامية من أعماق المشرق وأعماق المغرب لم تستطع أي منها أن تستحوذ على الجمهرة الغالبة من المدارك والمواجد العربية، وأن الفكر الإسلامي كان أقرب إلى التجاوب مع فلسفة المشائين منه مع فلسفة الإشراق.
وما نريد أن نمضي في هذا الاستطراد , إن نريد به إلا تبيان الحافز الذي حفزنا على نقل ما ننقله عن جواد علي مما يتصل بتاريخ الملكية عند العرب , فهو يقول (1)
: "الأرض هي مصدر الثراء والغنى للإنسان، وعلى مقدار ما يملكه الإنسان من أرض، تكون ثروته ويكون غناه، وعلى قدر ما يبذله صاحب الأرض من جهد في استغلالها وفي تطويرها وفي استنباط ما في باطنها من خيرات يتوقف دخله منها. وغلته التي تأتيه من أرضه هذه.
ولا تعرف ملكية الأرض والماء إلا بين الحضر. أما الأعراب فإن هذه الملكية تكون عندها للقبيلة ولسادتها، حيث يحمون بعض الأرضين، أو يستنبطون الماء من أرض موات لا ماء فيها، فتحول الأرض بذلك إلى أرض نافعة ذات ماء، يبسط حافرها حمايته عليه ويجعلها ملكًا له، وقد يزرع عليها فتصير الأرض التي يزرعها ملكًا له، وبهذه الطريقة، تكونت الملكية بين القبائل، ولا يستطيع أن ينال من هذه الملكية بالطبع إلا المتمكن من أبناء القبيلة ومن سادتها، ممن يتمكن بما لديه من مال وإمكانيات من استنباط الماء ومن إحياء الأرض واستغلالها بما عنده من موال وعبيد ويكتسب هذا التملك صفة شرعية، إذ يعتبر ملكًا صرفًا لصاحبه.
__________
(1) "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج: 7. ص: 130 بتصرف يسير.(4/843)
ليس لأحد حق منازعته عليه، ولمالكه أن يتصرف به كيف يشاء. له أن يبيعه، وله أن يهبه، وإن مات انتقلت ملكيته إلى ورثته.
فالأمر في معظم جزيرة العرب حق عام مشاع , لا تعود ملكيته لأحد. إلى أن صار الرعي، وأخذت تنتقل من مكان إلى مكان، ففرض سادتها حق الحمى وهو نوع من التملك المتولد من حق الاستيلاء بسبب الزعامة والقوة والاغتصاب، فصار الحمى ملكًا لسادات القبائل، وصارت الأرض المتبقية التي دخلت في حوزة القبيلة بسبب بسطها سلطانها عليها ملكًا لها، ملكًا مشاعًا بين جميع أبناء القبيلة ليس لأحد صد أحد من أبناء قبيلته من ارتياض أرضها، إلا بقانون القوة والعزة والتجبر، أو يفرض سلطانه على الأرض باستنباط مائها. وهو حق لا يعمل به إلا القوي المتمكن.
ومن هذا الإحياء للأرض الموات، تكونت بعض المستوطنات في الوادي، جلب ظهور الماء فيها الناس إليها، فسكنوا حولها وجاؤوا من أطرافها للاستقاء من مائها، وشجع العثور عليه في هذا الموضع التمكين للآخرين على الحفر أيضًا، فكان إذا اظهر ماء عذب، جذب الناس إليه، وسحرهم بسحره، وأناخهم حوله، فوسعت بذلك تلك المستوطنات، وتعددت، وظهرت فيها الملكية الفردية، والحياة الحضرية القائمة على الحيازة والتملك الفردي بصورة أوسع مما نجدها عند البدوي الاعتيادي لا يملك إلا بيته، وهو خيمته وأهله، وما قد يكون معه من الإبل" (1)
وقد فصل القول في هذه الأطوار وذكر أنماطًا من الوثائق والعقود ترسم معالم جلية لكل طور منها، كما توضح التمايز بين أقطار الجزيرة العربية (الجنوب والشمال) فيما يتصل بالملكية وتطورها، ورغم أهمية هذه التفاصيل، رأينا الاكتفاء بالإشارة إليها وإحالة من يريد استيفاءها والاستفادة منها في استجلاء طبيعة الاستمرار التطوري لتاريخ الملكية في الإسلام التي لا تختلف في جوهرها عن الأوضاع المتتالية لتعامل العرب خلال أحقابهم المتوالية مع الأرض بل ومع العقارات أيضًا.
__________
(1) "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج1 ص: 36/31.(4/844)
5 - الانعكاسات التشريعية والحضارية للملكية الفردية
على أن ما نطمئن إليه من أصالة التجاوب بين التشريع الإسلامي وطبيعة الحضارة العربية السابقة له، لا يعني أننا نحصر اعتبار التشريع بينه وبين الحضارة العربية وحدها , وإنما يعنى أننا نرى التجاوب أقوى بينهما، على حين لا سبيل إلى إنكار أن التشريع الإسلامي نظر أيضًا إلى حضارات أخرى غير الحضارة العربية، وعمل على تقويم المنحرف منها، وتنظيم الصالح وتحديد مسار تطوره كما كان شأنه مع الحضارة العربية. لذلك نحاول في هذه الفقرة أن نتتبع معالم نشأة وتطور الملكية لدى بعض الشعوب والأمم المحيطة بشبه الجزيرة العربية، والتي كان لها معها علاقات تجارية وغير تجارية مما ينشأ عنه بالطبع تفاعل حضاري يتفاوت بين قطر وآخر، بتفاوت علاقات أبنائه مع العرب. ونبدأ بما قاله ول ديورانت في قصة الحضارة، وهو يصور تصويرًا بديعًا نشأة الملكية عند الإنسان كافة ملاحقًا لها في قارات مختلفة، قال (1) "كانت التجارة أعظم مثر للعالم البدائي، لأنه لم يكن هناك ملك، وبالتالي لم يكن هناك من نظم الحكم إلا قليل، قبل أن تدخل في حياة الناس وتجر وراءها ذيولها من أموال وأرباح، ففي المراحل الأولى من التطور الاقتصادي كانت الملكية محصورة - في الأعم الأغلب - في حدود الأشياء التي يستخدمها المالك لشخصه، وكان معنى الملكية هذا من القوة بحيث لازمت الأشياء المملوكة مالكها، فغالبًا ما دفنت معه في قبره (وانطبق هذا على الزوجة نفسها) ، وأما الأشياء التي لا تتعلق بشخص المالك فلم تكن الملكية مفهومة بالنسبة إليها مثل هذا الفهم القوي , فلا يكفي أن تقول: إن فكرة الملكية ليست فطرية في الإنسان، إنما يجب أن تضيف إلى ذلك أنها في مثل هذه الأشياء البعيدة عن شخصية المالك، كانت من الضعف في أذهان الناس بحيث تحتاج إلى تقوية مستمرة وتلقين مستمر.
__________
(1) "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج 2، 27.(4/845)
فتكاد تجد الأرض في كل الشعوب البدائية ملكًا للمجتمع بأسره، فالهنود في أمريكا الشمالية، وأهل بيرو، وقبائل الهنود التي على تل تشيتاجونج، وأهل بورنيو، وسكان الجزر في البحر الجنوبي، مثل هؤلاء - فيما نرجح - كانوا يملكون الأرض جماعة ويحرثونها جماعة ويقتسمون الثمار جماعة، وفي ذلك قال هنود أوماها: "إن الأرض كالماء والهواء لا يمكن أن تباع"، وكذلك لم يكن بيع الأرض معروفًا في ساموا قبل قدوم الرجل الأبيض، ولقد وجد الأستاذ رفرز شيوعية الأرض لا تزال قائمة في مالينزيا وبولينزيا ويمكنك أن تلحظها اليوم قائمة في داخل ليبريا.
وأما شيوعية القوت فقد كانت أقل من ذلك انتشارًا، فمن المألوف عند "الهمج" أن من يملك طعامًا يقتسمه مع من لا يملك منه شيئًا، كما كان من المألوف كذلك للمسافرين إذا ما أرادوا طعامًا أن يقفوا عند أي دار يشاؤون في طريقهم، بل كان من المألوف أن تستعين الجماعات التي ينزل بها القحط بجيرانها، وكان إذا ما جلس إنسان في الغابة ليأكل وجبته، توقع منه الناس أن يصيح لمن أراد أن يشاطره الطعام قبل أن يبدأ هو في تناوله، وبغير ذلك لا يكون الصواب في جانبه، فلما قص "تيرنر" على رجل من "ساموا"، قصة فقير في لندن، سأله "الهمجي" في دهشة: "وكيف هذا؟ أليس هناك طعام؟ أليس له أصدقاء؟ أليس في المكان بيت للسكنى؟ أين إذن نشأ هذا الفقير؟ أليس لأصدقائه منازل؟ ". والجائع من الهنود ما عليه إلا أن يسأل فيجاب سؤاله بالعطاء، فمهما يكن مورد الطعام ضئيلًا عند المعطي، فإنه لا بد أن يعطي منه هذا السائل ما دام محتاجًا، "فيستحيل أن تجد إنسانًا يعوزه القوت ما دامت الغلال موجودة في مكان بالمدينة ". وكانت العادة عند الهوتنتوت أن يقتسم من يملك أكثر من سواه هذه الزيادة حتى يتساوى الجميع , وقد لاحظ الرحالة البيض أثناء رحلاتهم في أفريقيا قبل أن تدخلها المدنية، لاحظوا أن "الرجل الأسود" إذا ما قدمت له هدية من طعام أو غيره من الأشياء ذوات القيمة، فإنه يقسمها بين ذويه فورًا، وإذا ما أعطى المسافر بدلة لأحد هؤلاء السود، فسرعان ما يرى الموهوب يلبس من الهبة جزءًا كالقبعة مثلًا، ثم يرى صديقًا له يلبس السراويل وصديقًا آخر يرتدي السترة، وكذلك الأسكيمو لا يرون للصائد حقا شخصيا في امتلاك صيده(4/846)
بل يلزم توزيعه على أهل القرية جميعًا، وكانت الآلات والمخزون من الطعام ملكًا مشاعًا بين الجميع وقد وصف (كابتن كارفر) هنود أمريكا الشمالية فقال: "إنهم لا يعرفون من فوارق الملكية شيئًا سوى الأدوات المنزلية ... وهم أسخياء بعضهم لبعض غاية السخاء، وإذا ما فاض عند أحدهم فيض , ونقص عند الآخر ما يحتاج إليه، فلا بد أن يسد الأول بفيضه نقص زميله"، وكذلك كتب مبشر ديني يقول: "إن ما يثير الدهشة العميقة أن تراهم يعاملون بعضهم بعضًا برقة ومجاملة قل أن تراهما عند أكثر الأمم تحضرًا، وذلك بغير شك يرجع إلى أن لفظتي "ملكي" و"ملكك" اللتين قال عنهما القديس كريسوستم: إنهما تخدمان في قلوبنا شعلة الإحسان وتشعلان نار الجشع، لا يعرفهما هؤلاء الهمج". ويقول شاهد آخر: "لقد رأيتهم يقتسمون الصيد إذا كان لديهم ما يقتسم، لكني لا أذكر مثلًا واحدًا لتنازعهم أو لتوجيههم النقد لطريقة التقسيم , كأن يقولوا: إنه غير عادل أو غير ذلك من أوجه الاعتراض، إن الواحد منهم ليؤثر أن يرقد على معدته الخاوية، على أن يتهم بأنه أبى أن يعين المحتاج ... إنهم يعدون أنفسهم أبناء أسرة واحدة كبيرة".
لماذا اختفت الشيوعية البدائية حين نهض الإنسان إلى ما نطلق عليه في شيء من التحيز اسم المدنية؟ يعتقد "سمنر" أنها دلت على أنها ليست بيولوجية في اتجاهها لأنها عقبة في سبيل تنازع البقاء، وأنها لم تحفز الناس بما يكفي لتشجيعهم على الاختراع والنشاط والاقتصاد، وأن عدم مكافأتها للأقدر وعقابها لمن هو أقل قدرة سوى بين الكفايات تسوية تعاند النمو وتعارض التنافس الناجح مع سائر الجماعات، وكتب "لوسكيل"، عن بعض القبائل الهندية في الشمال الشرقي يقول: "إنهم من الكسل بحيث لا يزرعون شيئًا بأنفسهم، بل يعتمدون كل الاعتماد على احتمال أن غيرهم لن يرفض أن يقاسموه في إنتاجه، ولما كان النشيط لا يتمتع من ثمار الأرض بأكثر مما يتمتع الخامل، فإن إنتاجهم يقل عامًا بعد عام" , ومن رأي دارون أن المساواة التامة بين الفويجيين تقضي على كل أمل في تحضرهم أو ربما قال الفويجيون في ذلك: إن المدنية إذا ما أتتهم فإنها ستقضي على المساواة القائمة بينهم، نعم إن الشيوعية طمأنت هؤلاء الذين خلصوا بحياتهم من حوادث الفقر والجهل وما يترتب(4/847)
عليهما من مرض في المجتمع البدائي، لكنها لم تنتشلهم من ذلك الفقر انتشالا، وأما الفردية فقد جاءت بالثراء، لكنها كذلك جرت معها القلق والرق، نعم إن الفردية حركت في الممتازين من الرجال قواهم الكامنة، لكنها كذلك نفخت نار التنافس في الحياة فأشعلتها، وجعلت الناس يحسون الفقر إحساسًا مريرًا، مع أن هذا الفقر لم يكن ليؤذي أحدًا حين استوى فيه الجميع.
تستطيع الشيوعية أن تعيش في سهولة أكثر في مجتمعات دائمة الانتقال، لا يزول عنها الخطر والعوز، فالصائدون والرعاة ليس بهم حاجة إلى ملك يحتفظون به، لكن لما أصبحت الزراعة صورة الحياة المستقرة، لم يلبث الناس أن تبينوا أن العناية بالأرض تبلغ أقصاها من حيث غزارة الثمر إذا ما عاد جزاء تلك العناية إلى الأسرة التي قامت بها، فنتج عن ذلك بحكم الانتخاب الطبيعي الكائن بين النظم الاجتماعية والأفكار، كما هو كائن بين الأفراد والجماعات ينتج عن الانتقال من الصيد إلى الزراعة استتبع تحولًا من الملكية القبلية إلى ملكية الأسرة، وبذلك أصبحت أكثر الوحدات الاجتماعية اقتصادًا في نفقات الإنتاج، هي كذلك وحدة الملكية، فما أن أخذت الأسرة شيئًا فشيئًا تتخذ الصورة الأبوية التي تركز السلطة كلها في أكبر الذكور سنا، أخذت الملكية كذلك يزداد تركزها شيئًا فشيئًا في أيدي أفراد، ثم نشأ التوريث لشخص معين عن شخص معين، ولما كان كثيرًا ما يحدث لفرد مغامر أن يغادر مرفأ الأسرة الآمن، ليضرب بمغامراته خارج الحدود التي وقف عندها ذووه، ثم ينتهي به العمل المتصل الشاق أن يستولي على قطعة أرض من الغابة أو الحرج أو المستنقع، فإنه يحرص عليها حرصًا شديدًا لا يسمح لغيره بانتزاعها لأنها ملكه الخاص، حتى لتضطر الجماعة في النهاية أن تعترف بحقه فيها، وبهذا نشأ ضرب آخر من ضروب الملكية الفردية، ومثل هذا الاستيلاء على الأراضي أخذ يزداد اتساعًا حين ازداد السكان واستنفدت قوة الأرض القديمة، حتى وصل الأمر في المجتمعات الأكثر تعقدًا من سواها إلى أن باتت الملكية الفردية هي النظام السائد، ثم جاء اختراع المال فساعد هذه العوامل بتيسيره لجمع الثروة ونقلها وتحويلها، واتخذت حقوق القبيلة القديمة وتقاليدها صورة الملكية بمعناها الدقيق، وأما المالك عندئذ فهو أهل القرية جماعة أو الملك، ثم خضعت الملكية لإعادة التوزيع حينًا بعد حين، ومضى هنا العصر الذي جعل أمر الملكية يتذبذب فيه على هذا النحو من طرف إلى طرف، بين النظام القديم والنظام الجديد، وبعدئذ استقرت الملكية الفردية الخاصة استقرارًا لا شبهة فيه، وأصبحت هي النظام الاقتصادي الأساسي الذي أخذت به المجتمعات في العصور التي دون أخبارها التاريخ.(4/848)
ونواصل رحلتنا خلال العصور والأقطار المجاورة لشبه الجزيرة العربية مع ديورانت فنقف عند السومريين الذين يقول عنهم (1)
: وكان نظام الإقطاع وسيلة حفظ النظام الاجتماعي في الإمبراطورية السومرية، فقد كان عقب كل حرب يقطع - أي الملك - للزعماء البواسل مساحات واسعة من الأرض ويعفيها من الضرائب , وكان من واجب هؤلاء الزعماء أن يحافظوا على النظام في إقطاعاتهم ويقدموا للملك حاجته من الجند والعتاد. وكانت موارد الحكومة تتكون من الضرائب التي تجبى عينًا وتختزن في المخازن الملكية وتؤدى منها مرتبات موظفي الدولة وعمالها.
ثم يقول وهو يلخص مياسم الحضارة السومرية: نجد أول ما أسسه الإنسان من دول وإمبراطوريات وأول نظم الري ... إلخ.
فإذا انتقل إلى مصر تحدث في أولى خطاه إليها عن العلاقة الحضارية بينها وبين السومريين، فذكر من بينها ما يتصل بالزراعة , فقال:
ولقد لفت "شوينفرث" أنظار العلماء إلى تلك الحقيقة الطريفة العظيمة الخطر، وهي أن الشعير والذرة الرفيعة والقمح وتأنيس الماشية والمعز والضأن وإن ظهرت كلها في مصر وبلاد فيما بين النهرين من أقدم العهود المدونة، لا توجد في حالتها البرية الطبيعية في مصر بل في بلاد آسيا الغربية وبخاصة في بلاد اليمن وبلاد العرب القديمة، وهو يستدل من هذا على أن الحضارة، وهي هنا زراعة الحبوب واستخدام الحيوانات المتأنسة، قد ظهرت في العهود القديمة غير المدونة في بلاد العرب، ثم انتشر منها في صورة "مثلث ثقافي" إلى ما بين النهرين (سومر وبابل وأشور) وإلى مصر. ولكن ما وصل إلى علمنا من تاريخ العرب القديم حتى الآن ليبلغ من القلة حدا لا تستطيع معه إلا أن تقول: إن هذا مجرد فرض جائز الوقوع (2)
__________
(1) "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 2. ص: 43.
(2) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 82 و83.(4/849)
ولقد سقنا هذه الفقرة استئناسًا إلى ما ذهبنا إليه من التفاعل الحضاري بين العرب ومن يجاورهم تفاعلًا كان في اعتبار التشريع الإسلامي الذي استهدف تنظيم الحياة البشرية تنظيما قائما على العدل بين الناس وتقويم عاداتهم وتقاليدهم وعدم الالتجاء إلى تغييرها جذريا ما أمكن التوفيق بينها وبين إقرار العدالة والسلم.
ويقول ديورانت في وصف حضارة مصر:
كان من وراء هؤلاء الملوك والمملكات بيادق مجهولون، ومن وراء تلك الهياكل والقصور والأهرام عمال المدن وزراع الحقول ويصفهم "هيرودوت" كما وجدهم حوالى عام 455 ق. م. وصفًا تسوده روح التفاؤل فيقول:
"إنهم يجنون ثمار الأرض بجهد أقل مما يبذله غيرهم من الشعوب، لأنهم يضطرون إلى تحطيم أخاديد الأرض بالمحراث أو إلى عزقها (1) أو القيام بعمل كالذي يضطر غيرهم من الناس إلى القيام به لكي يجنوا من ورائه محصولًا من الحب، ذلك أن النهر إذا فاض من نفسه وأروى حقولهم، ثم انحسر ماؤه عنها بعد إروائها، زرع كل رجل أرضه وأطلق عليها خنازيره، فإذا ما دفنت هذه الخنازير الحب في الأرض بأرجلها انتظر حتى يحين موعد الحصاد، ثم جمع المحصول.
__________
(1) قال ابن منظور في لسان العرب ج:10. ص: 250: ... وعزق الأرض يعزقها عزقًا، شقها وكربها , ولا يقال ذلك في غير الأرض , والمعزقة والمعزق المر من حديد ونحوه يحفر به، وجمعه المعازق , وأرض ممعزقة إذا شققتها بفأس أو غيره ويقال لتلك الآلة التي تشق بها الأرض: معزقة ومعزق وهي كالقدوم وأكبر منها، قال ابن بري: المعزقة ما تعزق به الأرض فأسًا كانت أو مسحاة أو سكة. وقال ابن الأثير في - النهاية. ج: 3. ص: 230 -: في حديث سعيد: "وسأله رجل فقال: تكاريت من فلان أرضًا فعزقتها " أي: أخرجت الماء منها. يقال: أعزقت الأرض أعزقها عزقا إذا شققتها، وتلك الأداة التي يشق بها معزقة ومعزق , وهي كالقدوم والفأس. قيل: ولا يقال ذلك لغير الأرض.(4/850)
وكما كانت الخنازير تدوس الحب بأرجلها كذلك أنست القردة ودربت على قطف الثمار من الأشجار، وكان النيل الذي يروي الأرض يحمل لها في أثناء فيضانه مقادير كبيرة من السمك يتركها في المناقع الضحلة: وكانت الشبكة التي يصطاد بها السمك هي بعينها التي يحيط بها رأسه أثناء الليل ليتقي بها شر لذع البعوض. على أنه لم يكن هو الذي يفيد من سخاء النهر، ذلك بأن كل فدان من الأرض كان ملكًا لفرعون لا يستطيع غيره من الناس أن ينتفعوا به إلا بإذن منه. وكان على كل زارع أن يؤدي له ضريبة سنوية عينية تتراوح ما بين عشر المحصول وخمسه. وكان أمراء الإقطاع وغيرهم من الأثرياء يملكون مساحات واسعة من الأرض , وفي وسعنا أن نتصور ما كانت عليه أملاكهم من الاتساع إذا علمنا أن واحدًا منهم كان يملك ألفًا وخمسة مائة بقرة، وكانت الحبوب والسمك واللحوم أهم الأطعمة. وقد عثر على بقية من نقش يحدد ما يسمح للتلميذ أن يأكله ويشربه وقد ذكر فيه ثلاثة وثلاثون نوعًا من لحم الحيوان والطير، وثمانية وأربعون صنفًا من الشواء، وأربعة وعشرون من الشراب. وكان الأغنياء يبلعون طعامهم بالنبيذ والفقراء بشراب الشعير المخمر.
وكانت معيشة الفلاحين معيشة ضنكًا. فأما من كان منهم مزارعًا "حرا" فلم يخضع إلا للوسيط والجابي، وكان هذان الرجلان يعاملانه على أساس المبادئ الاقتصادية التي ثبتت تقاليدها على مدى الأيام، فكانوا يأخذون من محصول الأرض كل ما تحمله وسائل النقل.
قلت: من هذه النصوص التي نقلها ديورانت والتي قد تبدو متناقضة، إذ تنص على أن ملكية الأرض كلها كانت لفرعون فيما تنص على وجود الإقطاع ووجود المزارع الحر، تبين عند تأملها أن ملكية الأرض كانت عند المصريين في ذلك العهد قد تمايزت بين ملكية "الرقبة " وملكية "المنفعة" فلفرعون وحده ملكية "الرقبة"، ولغيره سواء كانوا إقطاعيين أو مزارعين أحرارا ملكية "المنفعة". وبهذا الفهم وحده ينزاح ما يبدو على النص من ظلال التناقض.(4/851)
وحين يتحدث ديورانت عن الدولة البابلية وهي دولة تجارية أساسًا، مركز الزراعة في اقتصادها مركز ثانوي، يذكر أن قانونها "يعد الملكية الفردية للعقار والمنقولات أمرًا مسلما به ولا جدال فيهًا" (1)
فإذا انتقل ديورانت إلى الدولة الأشورية قال (2)
لم تكن الحياة الاقتصادية عند الأشوريين تختلف كثيرًا عنها عند البابليين، لأن هؤلاء وأولئك لم يكونوا في كثير من الأحوال إلا أبناء الشمال وأبناء الجنوب من حضارة واحدة. وأهم ما كان من البلدين من فروق أن المملكة الجنوبية كانت أكثر اشتغالا بالتجارة، على حين أن الشمالية كانت أكثر اشتغالا بالزراعة، فكان أثرياء البابليين تجارًا في الغالب، أما أثرياء الأشوريين فكانوا عادة من كبار الملاك، يشرفون بأنفسهم على ضياعهم الواسعة، ويزدرون ازدراء الرومان من بعدهم أولئك الذين كانوا يكسبون المال بشراء البضائع رخيصة وبيعها غالية , بيد أن النهرين نفسيهما كانا يفيضان على أرض المملكتين ويغذيانها ونظام الجسور والقنوات بعينه كان يسيطر فيهما على ما زاد من مياه النهرين والشواديف (3) ذاتها كانت ترفع المياه من المجاري المنخفضة لتروي الحقول التي تزرع نفس القمح والشعير والذرة الرفيعة والسمسم. ويقول ديورانت عن فارس والأرض (4) وكان الرجل العادي - يعني الفارسي - أميا راضيًا عن أميته، يبذل جهده كله في فلاحة الأرض.
__________
(1) ديورانت ص: 209.
(2) ديورانت. ص: 278.
(3) "الشدوف" كما جاء في - المعجم الوسيط الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة. ج:1. ص: 479 -: أداة مائية لري الأرض وهي كلمة مصرية قديمة ويقولون: شدف: سقى بها. قلت: يظهر من استعمال المترجم كلمة "الشواديف" إذا كان قد التزم الدقة في الترجمة، أن المصريين استعملوا نفس الآلة التي استعملها الآشوريون لضخ الماء من المجاري المنخفضة لري الحقول والمزارع وهذا مما يثبت تلاقح الحضارتين، وقد يستدل منه مع قرائن أخرى على أن الحضارة البابلية الآشورية أقدم من الحضارة المصرية.
(4) ديورانت. ص: 412.(4/852)
ثم يقول:
وكانت بعض الأراضي يزرعها ملاكها المزارعون. وكان هؤلاء الملاك في بعض الأحيان يؤلفون جماعات زراعية تعاونية مكونة من عدة أسر لتزرع مجتمعة مساحات واسعة من الأرض، والبعض يمتلكه الأشراف الإقطاعيون ويزرعه مستأجروه نظير جزء من غلته، وبعضها الآخر يزرعه الأرقاء الأجانب (ولم يكونوا قط فرسا) وكانوا يستخدمون محاريث من الخشب ذات أطراف من الحديد تجرها الثيران، وكانوا يجرون الماء من الجبال إلى الحقول بطرق الري الصناعية. وكان الشعير والقمح أهم محاصيل الأرض وأهم مواد الغذاء، ولكنهم كانوا يأكلون كثيرًا من اللحم ويتجرعون كثيرًا من الخمر.
ثم قال:
وكان يربط معظم أفراد الطبقة الموسرة بالعرش أن الملك هو الذي يهبهم ضياعهم، وكان في مقابل هذا يمدونه بالرجال والعتاد إذا نفر إلى القتال. وكان لهؤلاء الأشراف في إقطاعاتهم سلطان لا يكاد يحده شيء، فكانوا يجبون الضرائب ويسنون القوانين، وينفذون أحكام القضاء، ويحتفظون بقواهم المسلحة.
وحين يعرض ديورانت لليونان والأرض ينقل عن بعض المؤرخين قولهم: "إن "ليقورغ" (1) أعاد تقسيم أراضي "لكونيا" ثلاثين ألف قسم متساوية ووزعها على المواطنين" في حين ينقل عن مؤرخ آخر قوله: "إن تقسيما من هذا النوع لم يحدث قط". ثم يحاول أن يجمع بين الروايتين فيقول: "ولعل الذي حدث فعلًا أن الأملاك القديمة لم تمس , وإنما وزعت الأرض التي استولوا عليها حديثا توزيعًا متساويًا (2)
__________
(1) الزعيم اليوناني الذي يعتقد اليونانيون أنه واضع شرائع "اسبارطة ".
(2) ديورانت. ج: 6. ص: 149.(4/853)
فإذا انتهى به المطاف إلى أثينا في عهدها الألجركي قال وهو يصف مجتمعها عندئذ: "وكان السكان ينقسمون من الوجهة الاقتصادية ثلاثة أقسام , كذلك فكان على رأسهم الأشراف الكريمو المحتد الذين كانوا يعيشون عيشة مترفة بالنسبة إلى غيرهم من الجماعات ويقيمون في المدن، بينما يقوم العبيد والعمال المأجورون بزراعة أملاكهم في الريف".
ثم يقول: "وكان أفقر الأهلين عمال الأرض وهم الزراع الصغار الذين ينتزعون القوت من التربة الضنينة ومن شره المرابين والأشراف، وليس لهم من عزاء إلا التباهي من أنهم يملكون قطعة من الأرض. وكان بعض هؤلاء الزراع يملكون في أيامهم الخالية أراضي واسعة، ولكن زوجاتهم كن أكثر خصوبة من أرضهم، فتقسمت هذه الأراضي , ثم تقسمت بين أبنائهم وأحفادهم على مر الأجيال. وكان امتلاك العشائر أو الأسر الأبوية يزول زوالا سريعًا، كما كانت الأسوار والخنادق والحواجز تشير إلى الأملاك الفردية وما يصحبها من غيرة وتحاسد، ولما صغرت مساحة الأرض التي يملكها الأفراد وأضحت الحياة الريفية مزعزعة غير مأمونة باع كثيرون من الفلاحين أرضهم رغم ما كان يوقع على الذين يبيعونها من عقاب وما يحرمون بسببه من حقوق , ونزحوا إلى أثينا أو غيرها من المدن الصغرى ليشتغلوا فيها تجارًا أو صناعًا أو فعلة. وأصبح غيرهم ممن عجزوا عن تحمل التزامات الملكية، مستأجرين لضياع الأشراف أو عاملين فيها لقاء نصيب من غلتها. وظل غيرهم في أرضهم يكافحون، يقترضون المال بربا فاحش ويرهنون أرضهم ضمانًا لما اقترضوه، ولكنهم عجزوا عن الوفاء بديونهم وألفوا أنفسهم لاصقين بالأرض يلزمهم بذلك دائنوهم، ويعملون فيها عمل الرقيق الإقطاعيين. وكان الدائن المرهونة إليه الأرض يعد مالك الأرض الحقيقي حتى يسترد ماله من دين، وكان يضع عليها لوحًا من الحجر يعلن فيه هذه الملكية. وتضاءلت الملكية الصغيرة على توالي الأيام، وقل عدد الملاك واتسعت الأملاك الكبيرة. ويقول "أرسطاطاليس " في هذا: وأصبحت كل الأراضي ملكا لعدد من الناس، وتعرض الزراع هم وأزواجهم وأبناؤهم لأن يباعوا بيع الرقيق لا داخل البلاد فحسب بل خارجها أيضًا، إذا عجزوا عن أداء إيجار الأرض، أو الوفاء بما عليهم من ديون. وألحقت التجارة الخارجية واستبدال النقود بالمقايضة ضررًا آخر بالأهلين، لأن منافسة مواد الطعام المستوردة من خارج البلاد أبقت أثمان محصولاتهم منخفضة، على حين أن ما كان عليهم أن يؤدوه ثمنًا للسلع المصنوعة التي كانوا مضطرين إلى شرائها كانت تحدده عوامل لا سلطان لهم عليها، وظلت هذه الأثمان تزداد على توالي السنين. وإذا ما أجدبت البلاد عامًا حل الخراب بكثير من الزراع وهلك بعضهم جوعًا. وبلغ الضنك في "أتكا " درجة رحب معها الأهلون بالحرب وعدوها نعمة وبركة، فقد تؤدي إلى كسب أرض جديدة، وستؤدي حتما إلى قلة الأفواه التي تتطلب الطعام) (1)
__________
(1) ديورانت. ص: 207/205.(4/854)
فإذا انتهى إلى ثورة "صولون" ونتائجها ذكر من بين أعماله الأولى أعمالا بسيطة ولكنها كانت من قبيل الإصلاحات الاقتصادية الشاملة، وقد خيب آمال المتطرفين بإحجامه عن إعادة تقسيم الأرض. ولو أنه فعل هذا لأدى ذلك إلى الحرب الأهلية وإلى الفوضى التي تدوم جيلًا كاملًا، وإلى عودة الفوارق مسرعة , ولكن "صولون" استطاع بفضل قانونه الشهير قانون "السيسكثيا" أو رفع الأعباء، أن يلغي كما يقول "أرسطاطاليس" جميع الديون القائمة , سواء أكانت للأفراد أم للدولة". وهكذا حرر أراضي (أتكا) من جميع الرهون بجرة قلم، هذا إلى أنه أطلق سراح جميع من استرقوا أو التصقوا بالأرض وكل من بيعوا رقيقًا خارج البلاد وطلب إليهم أن يعودوا إلى مواطنهم، وحرم مثل هذا الاسترقاق في المستقبل. وخليق بنا أن نذكر من خصائص الخلق في هذا المقال أن بعض أصدقاء "صولون" قد عرفوا ما يعتزمه من إلغاء الديون فاشتروا أراضي واسعة مرتهنة ثم احتفظوا بها فيما بعد من غير أن يؤدوا ما عليها من رهون، ويحدثنا "أرسطاطاليس" بأسلوب تهكمي بأن هذا كان منشأ ثروات طائلة كثيرة العدد "ظن الناس" فيما بعد، أنها ترجع إلى أزمنة لا يذكرها الناس لعدم عهدها. وقال بعض الناس إن "صولون" قد تقاضى ثمن هذا العمل , وأنه استفاد منه، حتى تبين بعدئذ أنه وهو الدائن الكبير قد خسر بقانونه الشيء الكثير" (1)
ويتطور التشريع في أثينا مع تطورها السياسي والحضاري ولكن حق الملكية يظل ثابتًا بل تزيد القوانين والدساتير ولعل من أسباب ذلك أن التشريع نشأ في أثينا من تجميع العادات التي كانت مقدسة عند الأثينيين لأن الآلهة ارتضتها، ثم تنظيمها وصياغتها في شكل قوانين. وفيما يتصل بالملكية منها يقول ديورانت: "وقانون الملكية صارم لا هوادة فيه , فالتعاقد واجب التنفيذ، وكان يطلب إلى القضاة أن يقسموا بأنهم "لن يطلبوا إلغاء الديون الخاصة، أو توزيع الأراضي أو المساكن التي يملكها الأثينيون" وكان كبير الأركونين - أي الحكام - حين يتولى منصبه في كل عام يكلف مناديًا بأن يؤذن في الناس أن "كل مالك سيبقى له ما يملك وسيظل صاحبه المطلق التصرف فيه". وكان حق الوصية لا يزال مقيدًا بقيود شديدة، فإن كان للمالك أبناء ذكور، فإن الفكرة الدينية القديمة عن الملك، والتي تربطها بتسلسل الأسرة وبالعناية بأرواح السلف تتطلب أن ينتقل هذا الملك من تلقاء نفسه إلى الأبناء الذكور، ذلك أن الوالد إنما كان يحتفظ بالملك وديعة لديه للأموات من الأسرة والأحياء منها ولمن يولدون من أبنائها.
__________
(1) ديورانت. ص: 211.(4/855)
وكان الملك في أثينا يقسم بين الورثة الذكور كما هي الحال في فرنسا إلى حد كبير، وكان أكبرهم سنًا ينال نصيبًا أكبر بعض الشيء من سائر الورثة , ولم يكن الأثينيون كالإسبارطيين القدماء والإنجليز في هذه الأيام يبقون الملك من غير تقسيم ويعطونه أكبر الأبناء الذكور. وترى الزارع من عهد "هزيود " يحدد عدد أبنائه كما يفعل الفرنسيون في هذه الأيام حتى لا تنقسم أملاكه بين أبنائه انقسامًا يقضي عليها آخر الأمر، ولم تكن للأرملة أن ترث ملك زوجها، بل كان كل ما تناله من هذا الملك أن تسترد بائنتها , وكانت الوصايا معقدة في أيام "بركليز" تعقدها في أيامنا هذه، وكانت تصاغ في لغة شبيهة إلى حد كبير بلغة هذه الأيام والتشريع اليوناني في هذا كما هو في غيره من المسائل أساس التشريع الروماني الذي أصبح فيما بعد الأساس القانوني في المجتمع الغربي" (1)
وعند حديثه عن العمل والثروة في أثينا الديمقراطية يقول: "وعماد المجتمع هو الفلاح أفقر الناس فيه وألزمهم له. وقد كان الفلاح في "أتكا " يستمتع على الأقل بحقوقه السياسية ذلك أن المواطنين وحدهم هم الذين كان يحق لهم أن يمتلكوا الأرض، وكان الفلاحون جميعهم تقريبًا يملكون الأرض التي يفلحونها وكان نظام امتلاك العشيرة كلها للأرض قد اختفى، واستقر نظام الملكية الفردية وتوطدت أركانه. وكانت هذه الطبقة من صغار الملاك في "أتكا"، كما هي الآن في فرنسا وأمريكا، قوة محافظة تعمل على الاستقرار في الديمقراطية، على حين أن سكان المدن الذين لا ملك لهم كانوا يدفعون الدولة على الدوام نحو الإصلاح والتغيير (2)
على أن هذا التقديس للملكية الفردية لا يلبث أن يتداعى أمام الدعوات الأفلاطونية الملحة في ضرورة نمط من الاشتراكية يشبه أن يكون شيوعية هذه الأيام , إذ وجدت هذه الدعوات تطبيقها في مصر على يد "البطالمة" أي: استطاع "البطالمة" إجراء تجربة واسعة في الاشتراكية الدولية.
__________
(1) ديورانت. ج:7. ص: 29و30.
(2) ديورانت. ص: 44و45.(4/856)
ويقول ديورانت في هذا الشأن: "لقد كانت ملكية الأرض من زمن بعيد عادة مقدسة في مصر، وكان لفرعون بوصفه ملكا وإلها حق كامل على الأرض وعلى ما تنتجه. ولم يكن الفلاح عبدًا، ولكنه لم يستطع أن يترك مكانه إلا بإذن من الحكومة، وكان يطلب إليه أن يورد الجزء الأكبر من محصوله إلى الدولة. وأبقى البطالمة على هذا النظام ووسعوا نطاقه باستيلائهم على الأراضي الواسعة التي كانت في عهد الأسرة الحاكمة السابقة ملكًا للأعيان المصريين أو الكهنة، وكانت هيئة بيروقراطية كبيرة من الموظفين المحكومين يؤديها الحراس المسلحون، تدير شؤون أرض مصر كلها كأنها مزرعة حكومية ضخمة. وكان هؤلاء الموظفون يعينون لكل زارع تقريبًا قطعة من الأرض التي ينبغي أن يزرعها والمحصولات التي يجب أن ينتجها (1) وكان في وسع الدولة أن تجنده ودوابه للعمل في المناجم وإقامة المباني العامة، والصيد، وشق قنوات الري، وإنشاء الطرق، وكانت محصولاته تكال بمكايل حكومية، ويدون الكتبة مقدارها وتدرس في أجران الملك، ويحملها الفلاحون أنفسهم إلى خزائن الملك. وكان يستثنى من هذا النظام بعض الحالات. فقد كان البطالمة يجيزون للفلاح أن يمتلك بيته وحديقته، ويجيزون الملكية الخاصة في الحواضر، ويؤجرون قطعًا من الأرض للجنود يكافئونهم بها على ما قدموا للدولة من خدمات. ولكن هذه الأرض المستأجرة كانت مقصورة في العادة على المساحات التي يوافق صاحبها على أن يخصصها للكروم، أو البساتين أو أشجار الزيتون، ولم يكن يسمح له أن يورثها أبناءه أو أن يوصي بها لمن يشاء، وكان للملك أن يلغي حق الإيجار متى أراد. ولما تحسنت حال هذه الأرض التي يشترك في ملكيتها الفرد والدولة بفضل جهود اليونان ومهارتهم بدأ أصحابها يطالبون بأن يكون لهم حق توريثها أبناءهم وكان العرف لا القانون يجيز هذا التوريث في القرن الثاني، ثم اعترف به القانون في القرن الأول قبل الميلاد، وتم بذلك التطور المألوف من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة.
وما من شك في أن تطور هذا النظام الاشتراكي الحكومي قد حدث؛ لأن أحوال الزراعة في مصر كانت تتطلب من التعاون ووحدة العمل في الزمان والمكان أكثر مما تستطيع أن تهيئه الملكية الفردية، وأن مقدار ما يزرع من الغلات ونوعها يقفان على مقدار الفيضان السنوي، وكفاية نظام الري والقرف، وهذه كلها مسائل تتطلب أن تشرف عليها هيئة مركزية" (2)
__________
(1) قارن بين هذا وبين ما جرى عليه التشريع والعمل في مصر بأمر من جمال عبد الناصر واستمر من بعده وإن بشكل أخف ... والتاريخ يعيد نفسه.
(2) ديورانت ج: 8. ص: 65 و66.(4/857)
وعرف الرومان الذين اقتبسوا أصول تشريعهم الأولى من اليونان، فضلًا عن مرورهم مثل غيرهم من الشعوب والأمم بالمراحل البدائية الأولى في تطورهم الحضاري، نظام الملكية الفردية.
يقول ديورانت (1) "ونجد الملكية الفردية قائمة في روما منذ أقدم العصور المعروفة على أن بعض الأراضي تعد من الأملاك العامة التي تستولي عليها الدولة من طريق الفتح وتحتفظ لنفسها بملكيتها. وكانت أسرة الزراع في عهد الجمهورية الباكر تمتلك فدانين أو ثلاثة أفدنة (2) , يشتغل عليها جميع أفرادها وعبيدها إن كان لها عبيد، وتعيش عيشة متقشفة على ما تنتجه من الغلات.
ومع تطور التشريع الروماني طبقًا لتطورهم الحضاري تدعمت الملكية وتنوعت وتفرعت مقتضياتها وحاجاتها إلى الضبط والتقنين".
يقول ديورانت (3) : "وكان أكبر قسم في القانون الروماني هو الخاص بالملكية والالتزامات، والتبادل والتعاقد، والديون، ذلك أن الممتلكات العينية كانت هي حياة روما، وكان ازدياد الثروة واتساع التجارة يتطلبان طائفة من القوانين أكثر تعقيدًا إلى أبعد حد من قوانين العشرة الساذجة (4) وكانت الملكية تجيء عن طريق الوراثة أو وضع اليد. وإذا كان الوالد يملك بوصفه وكيلًا عن الأسرة أو وليا عليها، فقد كان الأبناء والأحفاد ملاكًا بالإمكانية أو "ورثة أنفسهم"، حسب النص الفذ الوارد في القانون، فإذا مات الوالد من غير أن يترك وصية، ورث أبناؤه أملاك الأسرة من تلقاء أنفسهم، وورث الآباء من هؤلاء الأبناء حق الولاية على الأسرة.
وبعد أن يورد تفاصيل تتصل بالوصية والإرث في القانون الروماني يقول:
__________
(1) ديورانت. ج:9. ص:158.
(2) الفدان مقدار من الأرض الزراعية، مساحته: 333 قصبة مربعة و4200 متر مربع بتقريب الكسر. انظر مجمع اللغة العربية - المعجم الوسيط. ج: 2. ص: 684
(3) ديورانت. ج: 10. ص: 374 و375.
(4) اللجنة التي اقتبست القوانين الرومانية الأولى من التشريعات اليونانية.(4/858)
" ... يضاف إلى هذا أن الهبة كانت سبيلًا آخر إلى الفرار من قانون الوصية، غير أن الهبات التي كانت توهب قرب الوفاة كانت عرضة لأن تبحث بحثًا قانونيًا دقيقًا، وأضحت في عهد "جيستنيان" خاصة لنفس القيود التي كانت مفروضة على الوصايا (1) وكان الاستحواذ يجيء عن طريق الأيلولة أو الانتقال المترتب على قضية حكمت فيها المحاكم، فأما الأيلولة أو التسليم باليد فكانت الوسيلة إليها هي الهبة القانونية أو البيع أمام شهود ووجود كفتي ميزان يوضع فيهما سبيكة نحاسية رمزًا لمبدأ البيع. فإذا لم تسحبها هذه المراسيم القديمة، فإن القانون لا يقر أي انتقال للملك. وكانت هنالك ملكية وسطى أو إمكانية يعترف بها القانون وتسمى حق وضع اليد على الملك أو استخدامه: فكان الذين يفلحون أرض الدولة مثلا من هذا الصنف "الجالسين" لا المالكين،
فإذا ما ظلوا عامين يشغلون هذه الأرض ولا ينازعهم فيها منازع أصبحوا ملاكًا لها لا شك في ملكيتهم، وكانت لهم بحق الانتفاع أو وضع اليد في لغة هذه الأيام (2) , ولعل الحصول على الملك بعد شغله بهذه الوسيلة السهلة اللينة يرجع في أصله إلى عمل الأشراف الذين حصلوا به على الأراضي العامة، وبهذه الطريقة طريقة الملك بالانتفاع أو وضع اليد كانت المرأة التي تعاشر رجلًا عامًا كاملًا لا تغيب عنه فيه ثلاث ليال تصبح ملكا له.
على أن تدعيم الملكية الفردية بدون قيد في القانون الروماني وفي الحياة الرومانية نتج عنه ما لا بد أن ينتج عن كل تشريع لا يفكر واضعوه تفكيرا محيطًا في جميع معقباته. ذلك بأن الزراعة كانت من أهم أسباب الثورة التي اكتسحت روما وكانت لها معقبات خطيرة حتى قال عنها ديورانت (3)
__________
(1) ينبغي أن يلاحظ التشابه بين هذه الفقرة والبحوث الواردة في الفقه الإسلامي في حالات مماثلة.
(2) قارن بين هذا وبين التشريع الإسلامي في كل من "إحياء الموات" و"الحيازة".
(3) ديورانت. ج: 9. ص: 232 و233.(4/859)
"ولم تنشب قط قبل الحرب أو بعدها إلى أيامنا هذه حرب كان لأهدافها من الخطر مثل ما كان لتلك الحرب ولم تمثل على المسرح العالمي في يوم من الأيام مأساة ما تمثيلا أقوى مما مثلت به مأساة تلك الأيام (1) وكان أول أسباب هذه الثورة تدفق الحبوب الناتجة من عمل الرقيق في صقلية وسردانية وأسبانيا وأفريقيا، وما أحدثه تدفقها من خراب حل بالزراع الإيطاليين، إذ خفض ثمن الحبوب التي تنتجها أراضيهم إلى أقل من تكاليف إنتاجها وكان سببها الثاني تدفق الرقيق الذين حلوا محل الزراع في الريف والعمال الأحرار في المدن، وكان ثالث هذه الأسباب زيادة عدد الضياع الواسعة، وكانت الدولة قد أصدرت في عام 220 ق. م. قانونًا يحرم على أعضاء مجلس الشيوخ أن يتعاقدوا على الأعمال العامة أو يستثمروا أموالهم في التجارة، فما إن زاد ثراؤهم من غرائم الحرب اشتروا بهذه الأموال مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وكانت الأرض في البلاد المفتوحة تقسم في بعض الأحيان قطعا صغيرة وتباع للرومان المستعمرين، وقلت بذلك حدة الفتن والنزاع القائمين في المدن، وأعطي جزء كبير من هذه الأراضي للممولين وفاء ببعض ما أقرضوه للدولة من أموال في أثناء الحرب، أما الجزء الأكبر فقد ابتلعه أعضاء مجلس الشيوخ ورجال الأعمال أو استأجروه بشروط حددها مجلس الشيوخ نفسه، وكان من أثر انتشار هذه الضياع الواسعة أن اضطر المالك الصغير إلى اقتراض المال بأرباح فاحشة يستحيل عليه الوفاء بها، فلم يلبث أن وقع في هاوية الفقر أو الإفلاس أو فقد أرضه ونزح إلى المدن ليسكن في أحيائها القذرة الحقيرة الوبيئة ...
إلخ".
6 - بعض المؤثرات في الفقه العقاري الإسلامي
وإنما قطعنا كل هذه الأشواط في مواكبة تطور أنظمة الملكية عرفًا وتشريعًا لدى أهل الجزيرة العربية والشعوب المتصلة بها، لنستبين ويستبين معنا القارئ الكريم المؤثرات المتوالية والمتناسخة أحيانًا فيما انتهى إليه أمر التشريع العقاري في الفقه الإسلامي. ولقد ألمعنا فيما سلف إلى أن الشريعة الإسلامية لم تأت لتكون بدعا في الشرائع التي عرفها الإنسان ليس لها أصول من أوضاعه، وإنما جاءت تكييفًا وتنظيما لأوضاعه تلك لتقييمها على أساس من العدل والمساواة بين جميع أفراده وأممه.
__________
(1) أحسبه غفل عما حدث في روسيا غداة الحرب العالمية الثانية من ثورة البولشفيك ".(4/860)
كما ألمعنا إلى رأينا في أن التشريع الإسلامي أعار الأوضاع العربية خاصة وأوضاع الشعوب المتصلة بالجزيرة العربية اعتبارًا خاصا لما يمتاز به العرب من وسطية حفظت لهم التوازن بين مقتضيات الحياة المادية الصرفة ومستلزمات الحياة الروحية الخالصة، وهذه الوسطية في رأينا من بين ما وصف به القرآن الكريم الأمة الإسلامية في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (1) وهي في رأينا أيضًا من مدلولات قوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ، (2) وقوله عز من قائل: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) والله أعلم.
ومضيا مع هذا الفهم الذي يمثل واحدًا من أسس منهجنا في استشراف تطور التشريع الإسلامي فيما يتصل بالملكية. ألمعنا بالتشريعات البابلية والآشورية والمصرية والرومانية باعتبارها في رأينا مؤثرات في التشريعات العربية قبل الإسلام، ثم في اجتهادات بعض فقهاء المسلمين منذ العصر الأول.
واستكمالا لهذه الأشواط، نقف مليا عند التشريعات العربية السابقة للبعثة النبوية، لكن ليس في تفاصيلها بل في مصادرها، إذ إن تفاصيلها لا تختلف في جوهرها عن مثيلاتها في مصادرها. ونقتبس من جواد علي قوله:
"وإذا أردنا أن نتحدث بلغة هذا العصر عن أصول التشريع الجاهلي، أي عن المنابع التي أمدت فقه الجاهلية بالأحكام فإنا نرى أنها استمدت من العرف ومن الدين، ومن أوامر أولي الأمر، ومن أحكام ذوي الرأي " (4)
وجلي أن العرب قبل الإسلام لم يكونوا جميعًا وثنيين فقد كان منهم بقايا الحنفاء الذين احتفظوا بأثارات من ملة إبراهيم عليه السلام (5) وكان منهم يهود (6) وكان منهم نصارى (7) بل تعددت فيهم المذاهب النصرانية (8) وكان فيهم مجوس (9) وإن كانوا قلة ينحصرون في الجنوب، في اليمن وما جاورها من المناطق التي احتلها الفرس حينًا.
__________
(1) الآية رقم: (143) من سورة البقرة.
(2) الآية رقم (135) من سورة البقرة
(3) الآية رقم: (161) من سورة الأنعام.
(4) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج: 5. ص: 478.
(5) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 6 ص: 347/ 449.
(6) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 551.
(7) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 582.
(8) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 623.
(9) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 691.(4/861)
بيد أن المجوسية لم يكن لها من التأثير في الحياة العربية العامة، وخاصة في حياتها للشمال ما كان لليهودية والنصرانية فضلًا عن الحنفية والحنفاء.
ذلك بأن علاقات العرب بفارس وحتى بالعراق العربية الخاضعة للهيمنة الفارسية في العهد الجاهلي أيام اللخميين ملوك الحيرة، لم تكن على نفس المستوى من الوثوق والسعة الذي كانت عليه العلاقات العربية مع الروم البيزنطيين، وعرب الشام (الغساسنة) الخاضعين لهيمنتهم مع الحبشة ومع الروم. تلك العلاقات التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة قريش , إذ وصفها بما نتج عنها من (رحلة الشتاء والصيف) ومردها تاريخيا على الأرجح إلى عهد قصي بن كلاب الجد الرابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ذكر أنه هو الذي وضع أول اتفاق تجاري مع الببزنطيين يكفل بمقتضاه لأهل مكة إباحة الاتجار في الأصقاع الخاضعة لبيزنطة، وحماية قوافلهم في القبائل البدوية الخاضعة أو المتحالفة معها، والضاربة في الطريق بين مكة والشام.
وقد نقل جواد علي (1) عن ابن قتيبة "خبرا مفاده أن (قيصر) أعان (قصيا) على (خزاعة) "
وإذا صح الخبر فإن إجلاء خزاعة من مكة واستخلاص الكعبة وسدانتها لقريش، تم بإعانة من حاكم الشام. ولعل هذه الإعانة كانت مساعدة مالية أو إيعازًا منه "إلى الأعراب المحالفين للروم بمساعدته للتغلب على خزاعة " (2)
بل إن العلاقات بين مكة والشام البيزنطية بلغت من العمق حدا جعلت الطامعين في انتزاع حكم مكة من قصي يحاولون الاستعانة بحاكم الشام البيزنطي، أو ممثل بيزنطية لدى ملوك الشام - وهو في الغالب من يطلق عليه العرب كلمة "قيصر" - على تحقيق أطماعهم. فيقال: إن (عثمان بن الحويرث) سعى لدى البيزنطيين ملتمسًا مساعدته لتنصيب نفسه ملكًا على مكة وهو من (بني أسد بن عبد العزة) .
__________
(1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 4. ص: 38.
(2) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام.(4/862)
"ويظهر أنه أدرك المرارة التي أصيب بها البيزنطيون من خروج الحبش من اليمن ومن دخول الفرس إليها، وسيطرتهم بذلك على باب المندب، مفتاح البحر الأحمر. فتقرب إلى الروم وتوسل إليهم لمساعدته بكل ما عنده من وسائل لتنصيب نفسه ملكًا على مكة , علما منه أن هذا الطلب سيجد قبولًا لديهم , وأن في إمكانهم في حالة عدم رغبتهم بمساعدته مساعدة عسكرية أو مالية، الضغط على سادات مكة ضغطًا اقتصاديًا بعرقلة تجارتهم مع بلاد الشام أو بمنع الاتجار مع مكة، أو برفع مقدار الضرائب التي تؤخذ عن تجارتهم، وبذلك يوافقون على الاعتراف به ملكًا عليهم على نحو ما كان عليه الملوك الغساسنة"
(1)
وواضح أنه لم يلق استجابة من البيزنطيين لتحقيق مطامعه، إذ واجه معارضة صامدة من أشراف مكة وأثريائها؛ لأنهم كانوا تجارًا يتاجرون مع الفرس والروم، وانحيازهم إلى الروم معناه خروج مكة عن سياسة الحياد التي اتبعوها اتجاه
المعسكرين. وذلك من شأنه الإضرار بتجارتهم ووضعهم تحت رحمة الروم واحتكارهم وحدهم , فضلًا عن أن "بين أهل مكة رجال لهم شأن ومكانة في قومهم وكانوا أرفع منزلة من (عثمان بن الحويرث) ، لذلك لم يكن من الممكن بالنسبة لهم الانصياع له حتى وإن أرسل الروم جيشًا قويا منظما على مكة" (2)
وقد وقفنا هونا عند محاولة (عثمان) هذه لأنها تصور مدى ما وقر في أنفس الحجازيين من عمق العلاقة والتأثر والتأثير بين عرب شمال الجزيرة ومراكز الحكم في الشام، سواء كانت بيزنطية أم عربية خاضعة للبيزنطيين. وآية ذلك أن (عثمان) لم يحاول الاستعانة بالفرس وقد غلبوا على اليمن بعد أن أخفق في تحقيق مطامعه لدى البيزنطيين، إذ كان يدرك أن محاولة مثل هذه ستجلب له عداء أشد وعنادًا أصلب من أشراف مكة وأثريائها.
وما نريد أن نتابع تطور العلاقات التجارية بين الحجازيين والروم، أو بينهم والحبشة، فذلك ليس من شأننا في هذا المجال , بحسبنا أن نؤكد مدى التفاعل الحضاري المنعكس على العادات والتقاليد والأعراف والتشريعات بين الفريقين تفاعلًا كان له أبلغ الأثر في تكييف مفاهيم الفقهاء للتشريع الإسلامي.
__________
(1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 39.
(2) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 40 بتصرف.(4/863)
ولم يكن هذا شأن أهل مكة وحدهم، وإنما كان شأن أهل (يثرب) - المدينة المنورة - الذين كانوا "تجارًا يخرجون إلى أسواق الشام فيتجرون بها". كذلك "كان يهود (يثرب) بما يحتاجون إليه من تجارات"، وكما كانت الساقطة تنزل المدينة في الجاهلية والإسلام يقدمون بالبر والشعير والزيت والتين والقماش وما يكون في الشام" (1) ويلاحظ من تتبع التاريخ التجاري لعرب شمال الجزيرة وخاصة الحجازيين، بل ولعرب اليمن أيضًا أن التجارة العربية مع الروم والحبشة كانت أوفر نشاطًا وأدق تنظيما وكانت موسمية على حين أن تجارتهم مع الفرس والعراق الخاضع لهيمنتهم كانت محدودة، ولعلها كانت فردية نتيجة لفرص وظروف لا يضبطها نظام زمني ولا تنظيم جماعي.
يقول جواد علي (2)
"ولم يشر أهل الأخبار إلى رحلة على شكل رحلتي الشتاء والصيف إلى العراق، وإنما أشاروا إلى تجار كانوا يتاجرون مع الحيرة. ومعنى هذا ذهبوا قوافل صغيرة إلى العراق، لم تكن بحجم قوافل قريش إلى بلاد الشام أو اليمن، ولم يشر القرآن الكريم أيضًا إلى رحلة جماعية إلى العراق أو إلى موضع آخر. أو مما يدل على أن قريشًا كانت ترحل رحلتين جماعيتين كبيرتين في السنة إلى بلاد الشام في الصيف وإلى بلاد اليمن في الشتاء. أما رحلاتهم الأخرى فلم تكن ضخمة وجماعية، بل كانت قوافل دون القافلتين في الحجم، وكانت خاصة أصحابها أغنياء، لهم رؤوس أموالهم، يبعثون بقوافلهم على حسابهم، في كل وقت شاؤوا، وتكون أرباحهم لا يشاركهم فيها مشارك، وقد يرأسون بأنفسهم قوافلهم , فيذهبون بها إلى العراق، ولهم فيه تجار وأصحاب، فإذا باعوا عادوا ببضاعة جديدة وبما كسبوه إلى مكة.
__________
(1) ليس واضحًا ما تعنيه كلمة "الساقطة" التي نقلها جواد علي - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 4. ص: 141 - عن الواقدي في الفتوح فقد "تكون السواقط وهم الذين يمتارون التمر من اليمامة أو من ساقطة الأخبار كما تدل عليه الفقرة التي بعد هذه ونصها "وكانوا يتسقطون الأخبار وينقلونها إلى الروم عند ظهور الإسلام. فقدم بعض الساقطة المدينة وأبو بكر ينفذ الجيوش، وسمع أبو بكر لعمرو بن العاص وهو يقول: عليك بفلسطين وإيليا، فساروا بالخبر إلى الملك هرقل، وتهيأ لملاقاة المسلمين) نفس المرجع نقلًا عن الواقدي أيضًا".
(2) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 7. ص: 294.(4/864)
ويظهر أن قريشًا ومن على شاكلتها من تجار عرب الشمال لم يكونوا يتجهون وراء العراق فيتصلون بفارس مباشرة، وإنما كانت صلتهم بالفرس بواسطة عرب الحيرة وذلك خلافًا لما كانت عليه صلاتهم مع الروم والحبشة. فبالإضافة إلى انتظام التحرك الجاري بين الحجاز وكل من الروم والحبشة. كانت لأهل مكة أجهزة في الشام وفي الحبشة تشبه أن تكون نمطًا مختلطًا من التمثيل السياسي والتجاري".
يقول جواد علي (1)
"وقد أقام تجارهم وكالات ومتاجر في مواضع متعددة تتولى أمر البيع والشراء. ولعلهم كانوا يمثلون مصالح مكة السياسية في الحبش كذلك , كأن يتولى هؤلاء التفاوض في عقد عهود سياسية واقتصادية وما شابه ذلك. وقد كان اتصال أهل مكة بالحبشة وثيقًا ودائما. ويظهر أنهم كسبوا منافع مهمة من أعمالهم وانتقالهم إلى تلك البلاد.
وقد عهدت قريش إلى أناس آخرين من رجالها. بقيادة قوافلها إلى بلاد الشام أو إلى اليمن. كما قام رجال منها بتجهيز قوافل لهم لتتاجر بأموالهم".
ومع أن عرب يثرب لم يكونوا على مثل شهرة قريش بالتجارة , لأن أغلبهم كانوا منصرفين إلى الزراعة وخاصة النخيل، فإن منهم "من كان يتاجر مع بلاد الشام واليمن وله أموال شغلها في التجارة" كما يقول جواد علي (2)
وقد نستطيع أن نستشف "مياسم" من التشابه بين ما تواضع عليه العرب الجاهليون من قوانين أغلبها كان مجرد أعراف تقادم احترامها والالتزام بها وبين القوانين الرومانية. على أننا لا نريد في هذا المجال المحدود أن نتتبع هذه "المياسم" في شتى مجالات التشريع، إن نريد إلا أن نحاول استشفافها في نطاق مجالنا هذا، مجال "الملكية " و"المال" وما يتصل به.
__________
(1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 297.
(2) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ص: 311 و312.(4/865)
يقول جواد علي (1)
: "الملكية حق محترم عند الجاهليين ولصاحب الملكية حق المحافظة على ما يملك والدفاع عنه. ويدخل في ملكية الإنسان كل ما ملكه أو استولى عليه ولم ينتزعه منه أحد مثل الغنائم والسلب والأسر وما شابه ذلك. وعلى المالك الدفاع عن حقه في ملكه وإثباته. ومن أنواع الملكية: تملك العقار وبقية الأشياء الثابتة والأموال المنقولة". ثم يقول: "والملكية نوعان: ملكية ثابتة وملكية متنقلة، ومن النوع الأول العقار، مثل الدور والأرض. ومن النوع الثاني المال وهو الإبل عند الجاهليين بصورة خاصة، والمواشي بالنسبة للمزارعين والرعاة وأهل المدن، وأثاث البيت، سواء كان البيت مستقرًا مثل بيوت أهل المدر أو متنقلًا مثل بيوت أهل الوبر. وأغلب ملك الأعراب هو ملك مستقل. وذلك لأن الحياة التي يحيونها هي حياة تنقل، أما الملك الثابت، أي الأرض , فإنه ملك لهم ما داموا فيه , فإذا ارتحلوا عنه، انتقلت ملكيتهم إلى الأرض الجديدة التي ينزلون بها فيملكونها طوعًا، أي من غير مقاومة أو بحق السيف.
ويدخل في باب الملك كل شيء وضع ليستفاد منه أو ليدل على حماية ملك، أو يفهم من وضعه أنه ذو فائدة وأن له صاحبًا، كجدران الأملاك وحيطان البساتين أو سور القرى أو الرجمات وهي أحجار القبور. وقد عثر المنقبون على رجام في مواضع مختلفة من جزيرة العرب، كتب عليها: أن لعنة الآلهة على من يرفع هذا الحجر عن موضعه وعلى من يغيره أو يأخذه أو يتصرف به. كما سألوا الآلهة بأن تنزل الأمراض ومنها العمى والبرص وأنواع الأذى والشر بكل من يتطاول على هذه الرجام، أو على معالم القبور أو القبور، وذلك لأنها ملك. ولا يجوز لأحد التصرف بملك غيره بأي وجه من الوجوه.
وقد أخذ الجاهليون بحق الشفعة في شراء الملك كالدور والأرض" , كما عرفوا " الرق " وما يتصل به من العتق والمكاتبة والتدبير. كذلك عرفوا الأموال الثابتة , وفي ضمنها البيوت، وهي تباع وتشترى وتؤجر وترهن بحسب رغبة صاحبها. ولأجل إثبات حق تملك الأفراد للبيوت، كانوا يثبتون أحجارًا مكتوبة على واجهة البيت في بعض الأحيان يدون عليها اسم مالك البيت والعمار الذي بنى البيت والزمن الذي بني فيه، أو الزمان الذي أجريت فيه ترميمات عليه. والحجر عندهم في مقام سند التملك في أيامنا هذه.
__________
(1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج: 5. ص: 569.(4/866)
وتوضع على حدود الملك، ولا سيما حدود الحقول والبساتين، علامات.
ولا نكاد نجد في الفقه الإسلامي تشريعًا يتصل بشؤون الأموال أو بالجنايات أو بالأحوال الشخصية ليس له مثيل في التشريع العربي الجاهلي وإن اختلفا في كثير من الجزئيات نتيجة الاختلاف بين ما هو من وضع البشر الناتج عن الأعراف وما هو من وضع الله القائم على الحق الهادف إلى إقرار العدل.
وما من أحد يستطيع أن يماري في التفاعل بين الفقه الإسلامي والقانون الروماني، كما أنه ما من أحد يستطيع أن يماري في أوجه الشبه العديدة بين الشرائع المعمول بها عند الجاهليين وخاصة عرب الشمال، والتي كانت أعرافًا فتطورت إلى شرائع، وبين الشرائع الرومانية والبابلية ما كان منها قبل التدوين وما كان بعده. ولقد ألححنا في تأكيد هذا الشبه لأننا سنلمسه في مسارنا ونحن نستتبع ونستقرئ خطوات التشريع الإسلامي نصوصًا واجتهادات فيما يتعلق بالملكية والأموال.
7 - تطور مدلول الملكية في الفقه الإسلامي:
لم نقف على تعريف دقيق لـ"الملك " أو "الملكية"، عند الفقهاء المسلمين الأول، ومرد ذلك عندنا إلى أنهم لم يكونوا قد تأثروا بالمنطق الصوري "الأرسطي" الذي تأثر به المتأخرون فصرف جانبًا من جهدهم الفكري إلى صياغة "التعريفات" و"الحدود، وإنما كان همهم تمييز الأحكام وتبيين مصادرها وأدلتها تمييزًا وتبيينًا يستمدان من النصوص القرآنية والسنية ومن التطبيقات المأثورة عن العصر الأول، عصر الصحابة وكبار التابعين. وكان الجانب التطبيقي هو المستحوذ على جهودهم الفكرية تتناوله بالتمييز والتمحيص والتحليل والتعليل. وكانوا على قناعة كاملة بأن مهمة الفقيه هي مواجهة كل حدث وكل واقعة في ظروفها وشكلها بالحكم الذي يوائمها طبقًا لظروفها وشكلها وأسباب وقوعها والعواقب المحققة أو المرجحة لوقوعها.
فلما هيمن التقليد على الفقهاء والمتفقهين، واستحوذ المنطق الصوري على جهدهم الفكري بعد عصر التدوين وعصر أئمة الاجتهاد الأول وعصر تمحيص الآثار المدونة بالأحكام والآراء الاجتهادية , وجدوا "مشغلة" لهم في وضع الحدود والتعريفات ومناقشة ألفاظها ونقدها وتعديلها بالزيادة أو النقص أو إعادة الصياغة مما يرتؤونه ضروريا، إما للمزيد من الضبط أو للمزيد من البيان.
وقد واكب هذا الاتجاه في جهود الفقهاء والمتفقهين اتجاه آخر فيها أيضًا هو العناية بوضع "المختصرات"، ثم شرحها ثم تهميش وتذييل كل من المختصرات والشروح بالحواشي والتعاليق والتقارير.
وعماد هذه المختصرات والشروح والذيول "اجتهاد" ثري - ثراء يثير الإعجاب بما صرف فيه من جهد مضن بقدر ما يثير الأسى لقلة جدواه، وأحيانًا لعدم جدواه إطلاقًا - في تمييز الألفاظ وتمحيصها ومناقشتها ووضع الحدود والتعريفات لها، حتى لا يكاد القارئ يتساءل في كثير من الأحيان ما جدوى هذا التدقيق المسرف في توجيه وتحليل ألفاظ وضعها البشر، في حين أن المسلم ينحصر تكليفه بالفهم فهما صحيحًا للنصوص المؤصلة للشريعة من قرآنية وسنية.(4/867)
ونكاد نجزم بأن هذا الاتجاه من مقلدي الفقهاء والمتفقهين جاء نتيجة اتصال مباشر من بعضهم، وغير مباشر من آخرين بالتشريع الروماني الذي كان قائما على "صياغات" وضعية، وكان من الطبيعي أن يخضع استنباط الحكم منها فضلًا عن تطبيق أحكامها للدقة القصوى في فهم ألفاظها وتمييزها وتمحيصها وتعليلها وتحليلها للتأكد من أن تطبيق أحكامها أو استنباط حكم جديد منها، لا يخرج عن مقاصد ومدارك واضعيها الأولين , إذ إن تلك التشريعات بلغت لدى الملتزمين بها من متدينين وغير متدينين - باعتبار المسيحية دينًا تعبديا - وقبل أن يفتحوا لأنفسهم مجال الاجتهاد ويتحرروا من قيودها جزئيا أو كليا، أقصى ما يمكن أن تتصوره مداركهم ومواجدهم من الاحترام والتقديس.
على أن هذا الذي نرتئيه من تأثر فقهاء ومتفقهي ما بعد عصور الاجتهاد بكل من المنطق الصوري والتشريع الروماني وما تفرع عنه من حواشي وشروح وتعاليق، لا يصرفنا عن الوقوف عند تعريفاتهم وحدودهم التي وضعوها لـ "الملك" و"الملكية" استكمالا لعناصر وأطوار التصور البشري لكل منهما واستئناسًا بها في محاولتنا استشراف الحكم الشرعي الصحيح الدقيق فيما يتداوله الناس من أموال، وفيما يترتب عليهم أو لهم من تداوله من حقوق وواجبات، ذلك بأن اجتهادات فقهية متأخرة اعتمدت بعض تلك التعريفات والحدود، أو استأنست بها نشأت عنها تصورات وأحكام لا سبيل إلى إعقابها، بل ولا إلى عدم اعتمادها في محاولتنا هذه وما على شاكلتها من جهود لتوضيح معالم التشريع الاقتصادي الإسلامي في شكل يتماثل مع صيغ التشريعات الاقتصادية المعاصرة تماثلا يهيئ له قابلية الموازنة والمقارنة والمفاصلة والتنظير.
ويتراءى لنا أن أدق التعريفات والحدود التي اطلعنا عليها في هذا المجال، تعريف شهاب الدين القرافي (1) الذي نورده مع تحليله وتعديله له على طوله , لما يتضمنه من إشارة إلى أحكام قد نلفت إليها فيما نستقبل من هذا البحث.
يقول - رحمه الله - في " الفرق الثمانون والمائة بين قاعدة الملك وقاعدة التصرف ":
__________
(1) الفروق. ج: 3. ص: 208 وما بعدها.(4/868)
"يعلم أن الملك أشكل ضبطه على كثير من الفقهاء فإنه عام يترتب على أسباب مختلفة: البيع، والهبة، والصدقة والإرث وغير ذلك، فهو غيرها ولا يمكن أن يقال: هو التصرف؛ لأن المحجور عليه يملك ولا يتصرف، فهو حينئذ غير التصرف , فالتصرف والملك كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه، فقد يوجد التصرف بدون الملك، كالوصي والوكيل والحاكم وغيرهم يتصرفون ولا ملك لهم، ويوجد الملك بدون التصرف كالصبيان والمجانين وغيرهم يملكون ولا يتصرفون، ويجمع الملك والتصرف في حق البالغين الراشدين النافذي الكلمة الكاملي الأوصاف. وهذا هو حقيقة الأعم من وجه والأخص من وجه، أن يجتمعا في صورة وينفرد كل واحد منهما بنفسه في صورة كالحيوان والأبيض.
والعبارة الكاشفة عن حقيقة الملك أنه حكم شرعي مقدم في العين أو المنفعة، يقتضي تمكن من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك والعوض عنه من حيث هو كذلك (1)
أما قولنا: حكم شرعي، فبالإجماع لأنه يتبع الأسباب الشرعية. وأما أنه مقدر، فلأنه يرجع إلى تعلق إذن الشرع , والتعلق عدمي ليس وصفًا حقيقيًا، بل يقدر في العين أو المنفعة عند تحقق الأسباب المفيدة للملك (2)
وقولنا: في العين أو المنفعة تملك كالبيع، والمنافع كالإجارات.
__________
(1) سيأتي فيما ننقل عن ابن الشاط ما يمكن اعتباره "تحريرا" لحقيقة الملكية أو الملك في الشرع الإسلامي بما نقل عن المازري - رحمه الله - من اعتبار حق الإنسان في التصرف والتصريف فيما لديه وفيما صار أو يصير إليه من الثابت والمنقول إنما هو حق المنفعة والانتفاع وليس ملكًا بمعنى السيادة على الرقبة , إنما الملك لله وحده بهذا المعنى , وسنعرض لهذا الأمر بمزيد من التحرير عند ذكر ما يترتب عليه من الأحكام.
(2) لا ندري كيف يقدر في العين إذا اتخذنا اعتبار الملك المجرد أو ملك الرقبة لله الواحد القهار قاعدة، لأن تقديره في العين يعني إقرار ملك الرقبة , وهذا لا يتأتي عند التحقيق.(4/869)
وقولنا يقتضي انتفاعه بالمملوك ليخرج التصرف للوصية والوكالة، وتصرف القضاة في أموال الدائنين والمجانين، فإن هذه الطوائف لهم التصرف بغير الملك.
وقولنا: أو العوض عنه , ليخرج عنه الإباحات في الضيافات , فإن الضيافة مأذون فيها , وليست مملوكة على الصحيح , ويخرج أيضًا الاختصاصات بالمساجد والربط والخوانق (1) ومواضع المطاف والسكك ومقاعد الأسواق، فإن هذه الأمور لا ملك فيها مع المكنة الشرعية من التصرف في هذه الأمور.
وقولنا: من حيث هو كذلك , إشارة إلى أنه يقتضي ذلك من حيث هو، وقد يختلف عنه ذلك لمانع يعرض كالمحجور عليهم , لهم الملك , وليس لهم المكنة من التصرف في تلك الأعيان المملوكة. لكن تلك الأملاك في تلك الصور لوجود النظر فيها اقتضت مكنة التصرف، وإنما جاء المنع من أمور خارجة، ولا تنافي بين القبول الذاتي والاستحالة لأمر خارجي، ولذلك نقول: أن جميع أجزاء العالم لها القبول للوجود والعدم بالنظر إلى ذواتها، وهي إما واجبة لغيرها إن علم الله تعالى وجودها , أو مستحيلة لغيرها إن علم الله تعالى عدمها. وكذلك ههنا بالنظر إلى الملك، يجوز التصرف المذكور، وبالنظر لما عرض من الأسباب الخارجة يقتضي المنع من التصرف لسنا ندري لماذا لم ينتبه القرافي - رحمه الله - إلى ما في عمق كلامه من تناقض , فإقراره مبدأ امتناع التصرف عن بعض الطوائف التي ينسب إليها "الملك" كالصبيان والمحجورين كان ينبغي أن يلفته إلى حقيقة جوهرية هي مدار الحكم ومدركه في هذا الشأن وهي أن علاقة الإنسان بما لديه من المال الثابت والمنقول علاقة خاضعة لضوابط، فإن اختل ضابط أو أكثر من تلك الضوابط تقلص مجال العلاقة أو زالت زوالا تاما ومعنى هذا أنه ليس للإنسان الحق المطلق أو "السيادة" أو "ملكية الرقبة" فيما لديه أو فيما صار أو يصير إليه من المال الثابت أو المتنقل وإنما الذي له هو حق الاستعمال إذا أحسن الاستعمال؛ لأن ما أشار إليه القرافي من الامتناع الطارئ الذي يقلص ما سماه بالملك ويخول التصرف فيه إلى الغير هو نفسه ما نعتمد عليه من اعتبار العلاقة بين الإنسان وبين المال أو ما يسميه القرافي الملك هي في الحقيقة "وظيفة" تزول عنه أو ينحصر مداها تبعًا لمدى صلاحه وقابليته للاطلاع بمقتضياتها وهذا المعنى العميق هو ما لم ينتبه إليه القرافي فمضى ينقض نفسه بما اعتبره تقريرًا أو توضيحًا لرأيه. فتأمل.
__________
(1) الخوانق: الأزقة والشعاب الضيقة. انظر - ابن منظور لسان العرب. ج: 10. ص: 92.(4/870)
وكذلك إذا قلنا: الأوقاف على ملك الواقفين، مع أنه لا يجوز لهم البيع وملك العوض عنها بسبب ما عرض من المانع من البيع كالحجر المانع من البيع، فقد انطبق هذا الحد على الملك.
فإن قلت: قد قالت الشافعية: إن الضيافة تملك، وهل بالمضغ أو البلع أو غير ذلك على خلاف عندهم، فهذا ملك مع أن الضيف لا يتمكن من أخذ العوض على ما قدم له، ولا يتمكن من إطعامه لغيره، ولذلك قال المالكية: إن الإنسان قد يملك أن يملك، وهل يعد مالكًا أو لا , قولان: فمن ملك أن يملك لا يتمكن من التصرف ولا أخذ العوض من ذلك الشيء الذي ملك أن يملكه مع أنهم قد صرحوا بحقيقة الملك من حيث الجملة. وكذلك قال المالكية وغيرهم: إن الإنسان قد يملك المنفعة، وقد يملك الانتفاع فقط، كبيوت المدارس والأوقاف والربط ونحوها. مع أنه في هذه الصور، لا يملك أخذ العوض عن تلك المنافع. قلت: أما السؤال الأول فإن الصحيح في الضيافات أنها إباحات , لا تمليك هذا نمط من اختلاف الفقهاء الذي لا طائل وراءه , لأنه عند التحقيق والتحرير لا يتصور عمليا أن ينتج عنه حكم له أثره في المعاملة بين الناس. فالضيافة نمط من الهبة لكنها هبة منضبطة بظرف زمني وبيئوي لا تتجاوزه , ومجالها إعطاء المضيف ضيوفه حق التصرف بالانتفاع والنفع بما قدمه إليهم من طعام أو شراب أو فيما يسر لهم من سكن خلال فترة الضيافة ونقول: حق الانتفاع والنفع لرفع كل التباس مما يثيره المتفقهة ولا طائل وراءه فيما يحدث عالق بين الضيوف من إيثار بعضهم بعضًا بشيء مما قدم إليهم من مأكل أو مشرب أو سكن إيثارًا مصدره رغبتهم في إكرام بعضهم بعضًا تعبيرًا عن الود أو التوقير وهو أمر جرت العادة بين الناس على التعامل به ولم يحدث عمليا أن تحرج أحد منه بدعوى أن المضيف خول له أو لمن أكرمه حق الانتفاع شخصيا بما أكرمه به ولم يخوله حق النفع. أما موضوع سكنى المدارس فهو مختلف بعض الشيء عن موضوع الضيافة، فالطلبة الذين يسكنون المدارس يسكنونها بالحق الذي خوله لهم الوقف أثناء ممارستهم للدراسة وهم بذلك لا يملكون "المنفعة" وإنما يملكونا "الانتفاع" و"النفع" إذا لم يحظره قانون المدرسة أو نص الوقف. ومعنى "النفع" الذي يملكونه ما لم يحظره قانون أو نص هو أن للطالب أن يسكن معه رفيقًا له طيلة فترة سكناه أو أمدا منها , لكن بدون أجر؛ لأن إسكانه بأجر إنما تخوله ملكة "المنفعة" وهي غير متاحة له. فتأمل. كما أباح الله السمك في الماء والطير في الهواء والحشيش والصيد في الفلاة لمن أراد تناوله. ولم يقل: إن هذه الأمور مملوكة للناس (1) فكذلك الضيف جعل له أن يأكل إن أراد أو يترك.
__________
(1) هذا المثل يؤكد ما ذهبنا إليه سابقًا من أن قوله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وما شاكل هذه الآية من الآيات البينات لا يعنى التمليك إنما يعنى الاختصاص. فارجع إليه.(4/871)
والقول بأنه يملك مشكل، فإن الملك لا بد فيه من سلطان التصرف من حيث الجملة، وبعد أن بلع الطعام، كيف يبقى سلطان بعد ذلك على الانتفاع بتلك الأعيان لأنها فسدت عادة، ولم تبق مقصودة للتصرف البتة، فالحق أنها إباحات لا تمليكات (1)
وأما السؤال الثاني، فنقول للمالكية: إن من ملك أن يملك هل يعد مالكًا أو لا؟ قولان، وقد تقدم أن هذه العبارة رديئة جدا أنها لا حقيقة لها، فلا يصح إيراد النقض بها على الحد لأنا نمنع الحكم فيها.
وأما السؤال الثالث وهو ملك الانتفاع دون المنفعة فهو يرجع للإذن والإباحة كما في الضيافة، فتلك المساكن مأذون فيها لمن قام بشرط الواقف (2) لا أنها فيها ملك لغير الواقف (3) بخلاف ما يطلق من الجامكيات فإن الملك فيها يحصل لمن حصل له شرط الواقف , فلا جرم صح أخذ العوض بها أو عنها لم نعثر في مصادر اللغة على كلمة "الجامكيات" ولعل فيها تحريفًا أو أنها من العامية المستعملة في موطن القرافي ويظهر أنه يقصد بها ما يمكن استغلاله أو الانتفاع به من الغلال والخضروات. وإذا فتحرير الأمر في هذه المسألة هو أن حق الانتفاع أو النفع ينضبط بشروط الواقف , فإذا أباح الواقف الأكل فحسب , لم يجز للمنتفع البيع أو الهبة إلا في حالة الضرورة مثل أن يكون مضطرا إلى ما يقيه البرد أو الحر أو يستر عورته ولا يجد وسيلة لاقتنائه إلا ببيع شيء مما أبيح له استغلاله عن طريق الوقف وهذه حالة خاصة داخلة في نطاق "الضرورات تبيح المحظورات" أما في الأحوال العادية فشرط الواقف - مادام في نطاق الشرعية غير متجانف لإثم – هو الذي يضبط مدى حق الانتفاع بالوقف لمن توفرت فيه الشروط المؤهلة له أن ينتفع به.
فإن قلت: إذا أتضح حد الملك فهل هو من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف الذي هو من الأحكام الخمسة. قلت: الذي يظهر لي أنه من أحد الأحكام الخمسة. وهو إباحة خاصة في تصرفات خاصة، وأخذ العوض عن ذلك المملوك على وجه خاص كما قررت قواعد المعاوضات في الشريعة وشروطها وأركانها وخصوصيات هذه الإباحة هي الموجبة للفرق بين المالك وغيره من جميع الحقائق. لذلك قلنا: إنه معنى شرعي مقدر، نريد أنه متعلق الإباحة , والتعلق عدمي من باب النسب والإضافات التي لا وجود لها في الأعيان بل في الأذهان، فهو أمر يفرضه العقل كسائر النسب والإضافات كالأبوة والبنوة والتقدم والتأخر وغير ذلك.
__________
(1) انظر التعليق السابق
(2) هذا المثل يؤكد ما ذهبنا إليه سابقًا من أن قوله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وما شاكل هذه الآية من الآيات البينات لا يعنى التمليك إنما يعنى الاختصاص. فارجع إليه.
(3) هذه عبارة غامضة قد تكون بحاجة إلى تحرير.(4/872)
ولأجل ذلك لنا أن نغير عبارة الحد فنقول: إن الملك إباحة شرعية في عين أو منفعة تقتضي تمكن صاحبها من الانتفاع بذلك العين أو المنفعة أو أخذ العوض عنها من حيث هي كذلك.
ويستقيم الحد بهذا اللفظ أيضًا ويكون الملك من خطاب التكليف لأن الاصطلاح أن خطاب التكليف هو الأحكام الخمسة المشهورة، وخطاب الوضع هو نسب الأسباب والشروط والموانع والمقادير الشرعية، وليس هذا منها بل هو إباحة خاصة ومنهم من قال: إنه من خطاب الوضع وهو بعيد (1)
فإن قلت: إن الملك سبب الانتفاع، فيكون سببًا، فيكون من باب خطاب الوضع، قلت: وكذلك كل حكم شرعي سبب لمسببات تترتب عليه من عقوبات وتعزيزات ومؤاخذات وكفارات وغيرها (2) وليس المراد بخطاب الوضع مطلق الترتب، بل نقول: الزوال سبب لوجوب الظهر , ووجوب الظهر سبب لأن يكون فعله سبب الثواب وتركه سبب العقاب، ووجوبه سبب لتقديمه على غيره من المندوبات، وغير ذلك مما يترتب على الوجوب، مع أنه لا يسمى سببًا، ولا يقال: إنه من خطاب الوضع، بل الضابط للبابين أن الخطاب متى كان متعلقًا على وجه الاقتضاء أو التخيير , فهو من خطاب التكليف. ومتى لم يكن كذلك , وهو من أحد الأمور المتقدمة , فهو خطاب الوضع، وقد يجتمع خطاب الوضع وخطاب التكليف , وقد تقدم بسط ذلك فيما تقدم من الفروق.
__________
(1) الذي نرجحه أنه من خطاب التكليف انطلاقًا من القاعدة التي سبق أن أشرنا إليها في التعليق: من أن حق الإنسان في التصرف فيما لديه أو فيما صار أو يصير إليه إنما هو وظيفة، والوظيفة تكليف وسنوضح ذلك في الفصول الآتية.
(2) ليس في هذا الاختلاف أو الاعتراض طائل قد يجدي فيما نحن فيه من تحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان وبين ما لديه من المال الثابت والمنقول وإنما هو - في أغلب شأنه - من تفريعات الأصوليين الناتجة عن ولوعهم بالمقارنات والمعارضات اللفظية المنعدمة أو القليلة الأثر في تقرير الأحكام أو تكييفها.(4/873)
فإن قلت: الملك حيث وجد هل يتصور في الجواهر والأجسام أم لا يتصور إلا في المنافع الخاصة؟ قلت: قال المازري - رحمه الله - في شرح التلقين قول الفقهاء: الملك في البيع كما يحصل في الأعيان وفي الإجارات يحصل في المنافع ليس على ظاهره , بل الأعيان لا يملكها إلا الله تعالى؛ لأن الملك هو التصرف، ولا يتصرف في الأعيان إلا الله تعالى بالإيجاد والإعدام والإماتة والإحياء ونحو ذلك، وتصرف الخلق إنما هو في المنافع فقط بأفعالهم من الأكل والشرب والمحاولات والحركات والسكنات. قال: وتحقيق الملك أنه إن ورد على المنافع مع رد العين , فهو الإجارة وفروعها من المساقاة والمجاعلة والقراض ونحو ذلك , وإن ورد على المنافع مع أنه لا يرد العين , بل يبدلها لغيره بعوض أو بغير عوض، فهو البيع والهبة , والعقد في الجميع إنما يتناول المنفعة , فقد ظهر بهذه المباحث وهذه الأسئلة حقيقة الملك والفرق بينه وبين التصرفات وما يتوهم التباسها.
قال ابن الشاط في حاشيته على الفروق:
(هذا الحد فاسد من وجوه، أحدها: أن الملك من أوصاف المالك لا المملوك، لكنه وصف متعلق والمملوك هو متعلقه.
وثانيها: أنه ليس مقتضيًا للتمكين من الانتفاع، بل المقتضي لذلك كلام الشارع.
ثالثها: أنه لا يقتضي الانتفاع بالمملوك والعوض بل بأحدهما.
رابعها: أن المملوك مشتق من الملك فلا يعرف إلا بعد معرفته فيلزم الدور) (1)
ما قاله أنه حكم شرعي، إن أراد أنه أحد الأحكام الخمسة ففيه نظر، وإن أراد أنه أمر شرعي على الجملة فذلك صحيح.
__________
(1) وما دمنا نقرر أن الملك بالمعنى الذي يقرره ابن الشاط وغيره من عامة المتفقهة لا وجود له إلا مجازًا , فلا نرى جدوى من هذا البحث اللفظي القائم على منطق أرسطوطاليس والذي لا نجد له وجودًا في تقرير الأحكام وتحريرها وإنما هو لغو من لغو المناطقة الأرسطيين.(4/874)
قال: (وأما أنه مقدر فلأنه يرجع إلى تعلق إذن الشرع) إلى قوله: (عند تحقق الأسباب المفيدة للملك) . قوله: إنه عدمي , بناء على أن النسب أمور عددية وفيه نظر (1) (كلامه هذا يشعر بأن التصرف هو موجب الملك وليس الأمر كذلك , بل موجبه الانتفاع، ثم الانتفاع يكون بوجهين: انتفاع يتولاه المالك بنفسه، وانتفاع يتولاه نائب عنه. ثم النائب قد يكون باستنابة المالك وقد يكون بغير استنابته، فغير المحجور عليه يتوصل إلى الانتفاع بملكه بنفسه ونيابته، والمحجور عليه لا يتوصل إلى الانتفاع بملكه إلا بنيابته , ونائبه لا يكون إلا باستنابته) (2)
(ما قاله غير صحيح، بل الصحيح أنها تمليك للانتفاع بالأكل خاصة سواء أوقع البناء على الحد الذي ارتضيته أو على الحد الذي ارتضاه هو، أما على الحد الذي ارتضيته فلأن مقدم الضيافة مكنه من الانتفاع بأكملها. وأما على الحد الذي ارتضاه هو فإنه قال: "حكم مقدر في العين أو المنفعة يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك وبالعوض عنها. وقد بينا أنه لا يقتضي الانتفاع بهما فيبقى الانتفاع مطلقا) هذا نمط من اختلاف الفقهاء الذي لا طائل وراءه , لأنه عند التحقيق والتحرير لا يتصور عمليا أن ينتج عنه حكم له أثره في المعاملة بين الناس. فالضيافة نمط من الهبة لكنها هبة منضبطة بظرف زمني وبيئوي لا تتجاوزه , ومجالها إعطاء المضيف ضيوفه حق التصرف بالانتفاع والنفع بما قدمه إليهم من طعام أو شراب أو فيما يسر لهم من سكن خلال فترة الضيافة ونقول: حق الانتفاع والنفع لرفع كل التباس مما يثيره المتفقهة ولا طائل وراءه فيما يحدث عالق بين الضيوف من إيثار بعضهم بعضًا بشيء مما قدم إليهم من مأكل أو مشرب أو سكن إيثارًا مصدره رغبتهم في إكرام بعضهم بعضًا تعبيرًا عن الود أو التوقير وهو أمر جرت العادة بين الناس على التعامل به ولم يحدث عمليا أن تحرج أحد منه بدعوى أن المضيف خول له أو لمن أكرمه حق الانتفاع شخصيا بما أكرمه به ولم يخوله حق النفع. أما موضوع سكنى المدارس فهو مختلف بعض الشيء عن موضوع الضيافة، فالطلبة الذين يسكنون المدارس يسكنونها بالحق الذي خوله لهم الوقف أثناء ممارستهم للدراسة وهم بذلك لا يملكون "المنفعة" وإنما يملكونا "الانتفاع" و"النفع" إذا لم يحظره قانون المدرسة أو نص الوقف. ومعنى "النفع" الذي يملكونه ما لم يحظره قانون أو نص هو أن للطالب أن يسكن معه رفيقًا له طيلة فترة سكناه أو أمدا منها , لكن بدون أجر؛ لأن إسكانه بأجر إنما تخوله ملكة "المنفعة" وهي غير متاحة له. فتأمل. (هذه مملوكة بعد التناول وإباحة التناول سبب ملكها) (3)
__________
(1) هذا أيضًا من لغو المناطقة الذي أشرنا إليه في التعليق أعلاه.
(2) هذا يقرر القاعدة التي ننطلق منها في تحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان وما لديه من الثابت والمنقول وفي أن الملكية كما يعتبرها عامة المتفقهين موجودة , وإنما هي الانتفاع والمنفعة. أما التصرف بالإنابة أو الاستنابة فلا ينفي حق الإنسان المتصرف نيابة عنه في التصرف , وإنما ينفي أهليته في التصرف أو ينقل الأهلية إلى الغير باختيار من صاحبها , وكلا الحالين لا تتنافيان مع ثبوت حق التصرف أساسًا لمن لديه الشيء المتصرف فيه بالنيابة أو الاستنابة.
(3) ليست الإباحة تمليكًا , وإنما هي تخويل لأن التمليك يستلزم تحديد الملك أما التخويل فيقتضي إباحة الانتفاع أو التخصيص بالانتفاع إذا اعتبرنا تخويل الانتفاع من المضيف للضيف بما قدم له تخويلًا للمنفعة أيضًا ويشبه على هذا الاعتبار عقد الكراء الذي يترتب عنه تخويل المنفعة والانتفاع عند القول بأنه يجوز للكاري أن يكري لغيره بأجر أعلى أو بأجر ومنفعة وهو ما نميل إليه.(4/875)
(ما قاله من أن الملك مشكل لا إشكال فيه , تعليله بأن الملك لا بد فيه من سلطان التصرف , ليس كما قال، بل لا بد فيه من سلطان الانتفاع لا التصرف، والسلطان هو التمكن بعينه , وقد بين هو قبل هذا أن المحجور عليهم لا يتصرفون مع أنهم يملكون. فكيف يقول: لا بد في الملك من سلطان التصرف؟ هذا غير صحيح. وما قاله من أنه إذا بلع الطعام كيف يبقى سلطان بعد ذلك، إنما هو استبعاد لقول من يقول: يملك بالبلع وهو بعيد كما قال. بل الصحيح أنه يملك الطعام بالتناول حتى إذا تناول لقمة لا يجوز لغيره انتزاعها من يده , فإن ابتلعها فقد كان سبق ملكه لها قبل البلع، وإن لم يبتلعها ونبذها من يده فقد عادت إلى ملك صاحبها وجاز لغيره تناولها؛ لأن صاحبها لم يمكنه منها إلا ليأكلها , فإذا لم يأكلها بقيت على ملك صاحبها، أو إن كان تناولها عادت إلى ملك صاحبها هذا هو الصحيح، والله تعالى أعلم. وما قال من أنها إباحات لا تمليكات ليس بصحيح، بل الإباحات هي التمليكات أو أسباب التمليكات) (1)
(وإذا كانت مأذونًا فيها فمن أذن له فتمكن من الانتفاع فهو مالك الانتفاع) (2)
(أما الانتفاع ففيه الملك لغير الواقف، وهو من توفرت فيه شروط الوقف، وأما عين الوقوف فالصحيح أنه لا ملك عليه، لا للواقف ولا لغيره لأنه لا يتمكن أحد من الانتفاع بملك العين ولا من التصرف فيها ولا من أخذ العوض عنها. وإذا لم يكن شيء من ذلك، فلا ملك , إذ لا معنى للملك إلا التمكن من الانتفاع ومن أخذ العوض أو من الانتفاع خاصة) (3)
__________
(1) بل الصحيح أن الإباحات تخويلات منضبطة بأسبابها وظروفها وما جرت عليه العادات من كيفيتها مثال ذلك أن تخويل المضيف لضيفه الانتفاع وحده أو المنفعة أيضًا بما قدم إليه أو يسره له لا يعني تخويلًا مطلقًا وإنما تخويل حق محدود في ظرف محدود طبقًا لعادات معينة وهذا الضبط بحدود وأوضاع خاصة يتعارض مع دعوى "التمليك" حتى وإن انحصر في رأينا من أنه الحق في التصرف للانتفاع والمنفعة إذ هنالك فرقًا دقيقًا بين الحق المطلق والحق المقيد بظرف وكيفية وعادة. فتأمل.
(2) ولكنه حين أذن تخلى عن حق الانتفاع الذي لديه في ظرف معين وطبقًا لكيفية معينة وعادة معينة لمن أذن له. فتأمل.
(3) وهكذا يتبين حتى من أقوال المتفقهة أن ضابط "الملك" هو حق الانتفاع والمنفعة.(4/876)
(إنما كان ذلك لأن مقتضى الوقف إن كان سكنى الموضع الموقوف، فلا يتعدى الموقوف عليه السكنى لأنه لم يسوغ له غيره وإن كان الاستغلال فالغلة مسوغة بعينها فيصح أخذ العوض عنها) .
(ما قاله من أنه إباحة ليس عندي بصحيح، فإن الإباحة في حكم الله تعالى، والحكم عند أهل الأصول خطاب الله تعالى وخطابه كلامه، فكيف يكون الملك الذي هو صفة المالك على ما ارتضيته أو صفة المملوك على ما ارتضاه هو كلام الله تعالى؟
هذا ما لا يصح بوجه أصلًا. فالصحيح أن سبب الإباحة هو التمكن , والإباحة هي التمكين) (1)
(لما فسر الملك بالإباحة سلم أنه سبب الانتفاع وليس الأمر كذلك، بل الملك سبب الإباحة وهو التمكين من الانتفاع، والانتفاع متعلق الملك، ولا يقال في المتعلق: إنه سبب المتعلق إلا على وجه التوسع في العبارات لا على المتقرر في الاصطلاح) (2) ولكن ابن الشاط - رحمه الله - في حاشيته على الفروق بعد أن انتقد تعريف القرافي وأشمل، فقال: وتعقبهما الشيخ محمد علي بن حسين في تهذيبه للفروق بأن نقل تعريفًا لأحد الفقهاء فقال (3)
__________
(1) ولكن كلام ابن الشاط وما يدعيه من أن الاباحة هي خطاب الله تعالى. فعند التمحيص يتبين أن المباح هو ما لم يرد؛ بشأنه خطاب وما ذهب إليه بعض الأصوليين من أن ما لم يرد بشأنه خطاب يبقى على الوقوف وأن الإباحة إنما تتأتى نتيجة لخطاب من الله تعالى غير واقعي , فليس كل مباح وارد في شأنه خطاب من الله تعالى. وهو أيضًا يتناقض مع صرف معنى اللام إلى الاختصاص في قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} وما شاكله من الآيات , ولا سبيل إلى الدعوى من أنه هو الخطاب المبيح لأنهم لو اعتمدوا هذا الخطاب في جميع الإباحات لأراحوا واستراحوا ولما جاءت حكاية الوقوف فيما لم يرد فيه خطاب. فتأمل.
(2) ليس هذا أكثر من نقاش لفظي لا طائل من ورائه.
(3) على هامش الفروق. ج: 3. ص: 234 و235.(4/877)
"والسيد الجرجاني قدس الله سره جعل الملك صفة مشتركة بين المالك والمملوك فقال في تعريفاته:
والملك في اصطلاح الفقهاء اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقًا لتصرفه فيه وحاجزًا عن تصرف غيره فيه". ولكن هذا الحد لا يكون جامعًا إلا بأمرين: الأول التعميم في قوله: "لتصرفه فيه" بأن يقال: "بالانتفاع إما مع أخذ العوض أو بدونه , وإما مع رد العين أو بدونه بنفسه أو بنائبه" والثاني التقييد في قوله:
"عن تصرف غيره فيه " بأن يقال: "بدون استنابته" فتأمل. وقال عقب الحد المذكور: "فالشيء يكون مملوكًا ولا يكون مرفوقًا، ولكن لا يكون مرفوقًا وإلا ويكون مملوكًا , يريد بأن المملوك أعم مطلقًا من المرفوق، وقال قبل ذلك الحد:
"والملك في اصطلاح المتكلمين حالة تعرض للشيء بسبب ما يحيط به وينتقل بانتقاله كالتعميم والتقمص، فإن كلا منهما حالة لشيء بسبب إحاطة العمامة برأسه والقميص ببدنه) والله أعلم. ولعل أقرب التعريفات إلى البساطة التشريعية في الإسلام وإلى الإدراك الفطري السليم البعيد عن التمحل والإيغال في التصورات والاحتمالات والفروض، تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (1) إذ قال: (الملك هو القدرة الشرعية على التصرف في الرقبة بمنزلة القدرة الحسية) ، فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعًا كما يثبت ذلك حسيًا، ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعًا، كما أن القدرة تتنوع أنواعًا. فالملك التام يملك فيه التصرف في الرقبة بالبيع والهبة ويورث عنه. ويملك التصرف في منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك. ثم قد يملك الأمة المجوسية أو المحرمة عليه بالرضاع، فلا يملك منهن الاستمتاع. ويملك المعاوضة عليه بالتزويج بأن يزوج المجوسية مثلًا، وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين. ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم. وكذلك يملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم، كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد. ويملك المرهون وتجب عليه مؤونته، ولا يملك فيه من التصرف ما يزيل حق المرتهن، لا بيع ولا هبة، وفي العتق خلاف مشهور".
__________
(1) مجموع الفتاوى. ج: 29. ص: 178.(4/878)
ثم قال: فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك في البيع والهبة. وكذلك ملك الموهوب له، حيث يجوز للواهب الرجوع كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث، كالشافعي وأحمد: نوع مخالف لغيره، حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده. ونظيره سائر الأملاك في عقد يجوز للمتعاقدين فسخه، كالبيع بشرط عند من يقول: انتقل إلى المشتري. كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما. وكالبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز. وكالبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة، عند جميع المسلمين، فهنا في المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه، وملك الأب لا يملك انتزاعه وجنس الملك يجمعهما، وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذين اتبعوا فيه معنى الكتاب وصريح السنة. وطوائف من السلف يقولون: هو مباح للأب مملوك للابن بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء. وملك الابن كانت عليه، بحيث يتصرف فيه تصرفًا مطلقًا. فإذا كان الملك يتنوع أنواعًا وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته وما لم أصفه , لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضًا إلى الإنسان يثبت منه ما رأى فيه مصلحة له، ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة له فيه. والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض. فإذا لم يكن فيه فساد أو كان فساده مغمورًا بالمصلحة لم يحظره أبدًا.
قلت: وقد نقلنا ما أعقب به شيخ الإسلام - رحمه الله - تعريفه للملك من هذه التفاصيل كلها لأننا نعتبرها متممة وموضحة بالضرورة لتعريفه.
ونقل الشيخ علي الخفيف - رحمه الله - في بحث له بعنوان "الملكية الفردية وتحديدها في الإسلام" قدمه إلى "المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية المنعقد في شوال سنة 1384 هـ. 1964 م". عن الحاوي للقدسي قوله - في تعريف الملك -: "بأنه الاختصاص الحاجز". وعقب عليه بقوله: أي الذي يخول صاحبه منع غيره مجلة مجمع البحوث الإسلامية. عدد: ا. ص: 99 و. 100 الحاوي القدسي: محمد محيي الدين الحاوي فقيه أديب أفتى بصيدا , هكذا ترجم له رضا كحالة في معجم المؤلفين. ج: 12. ص: 8 , ويظهر أن الشيخ محمد أبو زهرة - رحمه الله - وهم في اسمه - على غير عادته - أو التبس عليه اسم مؤلفه , فقال في كتابه الملكية ونظرية
العقد. ص: 65 -: "وعرف القدسي في الحاوي الملك" ... إلخ , والعبارة السليمة هي: وعرف الحاوي القدسي في "ألحان الحاوي بين المراجع والمبادئ". هذا إذا كان التعريف قد نقل من هذا الكتاب ونحن لم نطلع عليه والعهدة على كل من الشيخين علي الخفيف وأبي زهرة رحمهما الله.(4/879)
ونقل أيضًا في نفس البحث تعريفًا للكمال بن الهمام في أول كتاب البيع من كتابه "فتح القدير" من أنه - أي الملك – "القدرة على التصرف ابتداء إلا لمانع". وعقب عنه بقوله: يريد أنه قدرة مبتدأة لا مستمدة من شخص آخر.
ثم نقل شرحًا لصدر الشريعة لشرح الوقاية عرف فيه الملك بأنه: "اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقًا تصرفه فيه وحاجزًا عن تصرف الغير".
ثم قال: "وقد تضمنت هذه التعريفات - وقد أورد أيضًا تعريف القرافي - جميعها معنى الاختصاص والاستئثار , فهو مصرح به في بعضها ولازم لما يدل عليه بعضها الآخر".
ونقل الدكتور فاروق النبهان (1) عن الدكتور محمد موسى أنه عرف الملك في كتابه الفقه الإسلامي - ص: 254 - بأنه "حيازة الشيء متى كان الحائز وحده قادرًا على التصرف فيه والانتفاع به عند عدم المانع الشرعي".
ونقل عن الشيخ علي الخفيف (2) أنه عرفه في كتابه مختصر معاملات الأحكام الشرعية -: ص 9 - بأنه "اختصاص يمكن صاحبه من أن يستبد بالتصرف والانتفاع عند عدم المانع الشرعي".
ووضع له الشيخ أبو زهرة رحمه الله (3) تعريفًا حاول أن يجمع فيه بين تعريف ابن الهمام وتعريف القدسي بعد أن أبدى ملاحظات على كلا التعريفين. وانتهى إلى أنهما يكمل الواحد منهما الأخر وقال:
"فالتعريف الذي نكونه من الاثنين يكون هكذا: الملك هو الاختصاص بالأشياء الحاجز للغير عنها شرعًا، الذي به تكون القدرة على التصرف في الأشياء ابتداء إلا لمانع يتعلق بأهلية الشخص".
__________
(1) الاتجاه الجماعي في التشريع الإسلامي ص: 178.
(2) الاتجاه الجماعي في التشريع الإسلامي ص: 178.
(3) الملكية ونظرية العقد. ص: 64 و65. الفقرات: 15 و16 و17.(4/880)
ثم عرض لتعريف المازري الذي سبق أن نقلناه ضمن تعريف الفروق والحاشية عليه وملاحظات كل من القرافي وابن الشاط فقال:
"وقد وجدنا تعريفًا للملك في كتب المالكية نذكره تتميما للمقام، وتوضيحًا للمراد، فقد جاء في كتاب الفروق للقرافي وحاشيته ومهذبه، أن الملك هو تمكن الإنسان شرعًا بنفسه أو بنيابة عنه من الانتفاع بالعين، ومن أخذ العوض، أو تمكنه من الانتفاع خاصة. وهذا تعريف واضح، فهو يبين أن الملك هو التمكن من الانتفاع، ولكن ذلك التمكن لا يكون إلا بسلطان من الشارع، فالشارع في الحقيقة هو الذي أعطى الإنسان الملك بترتيبه على السبب الشرعي، ولذا جاء في بعض التعريفات أن الملك حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة بمقتضى تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالشيء وأخذ العوض عنه. وهذا المعنى، وهو أن الملكية لا تثبت إلا بإثبات الشارع لها وتقريره لأسبابها، فالحق ليس ناشئًا عن طبائع الأشياء ولكنه ناشئ عن إذن الشارع، وجعله السبب منتجًا لمسببه شرعًا. وهذه التعريفات مهما تختلف عباراتها كلها ترمي إلى معنى واحد، هو أن الملك أو الملكية هو العلاقة التي أقرها الشارع بين الإنسان والمالك وجعله مختصًا به بحيث - يتمكن من الانتفاع به بكل الطرق السائغة له شرعًا وفق الحدود التي بينها الشارع الحكيم".
قلت: قد يكون هذا التعريف الأخير الذي وضعه الشيخ أبو زهرة - رحمه الله - أدق التعريفات المعاصرة للملكية والملك وأجمعها بالضوابط والحدود والأحكام التي يجب أن تجتمع في التعريف.
ثم قال: "ولا نريد أن نترك هذا المقام من غير أن نتصدى لنقطة أثارها بعض فقهاء المالكية في فلسفة الملك. هي: أيرد الملك على الأعيان أم على المنافع فقط؟
ويعنون بذلك: أمن ملك عينًا يملك ماهيتها ذاتها ومنفعتها أم يملك منفعتها فقط؟ أما الذات فليست تحت سلطان الإنسان ولا تقع في مكنته. الظاهر الذي يرى بادئ الرأي أن الملك يقع على الأعيان إذا كانت الأسباب الشرعية تقتضي امتلاك العين. ويقع على المنافع إذا كانت الاسباب الشرعية تقصره عليها. ولكن فقهاء المالكية اختلفوا في ذلك، ففريق منهم قالوا: إن الملك ومعناه: القدرة على التصرف , لا يتجاوز المنافع ويعدوها إلى جواهر الأشياء وذواتها، لأن التصرف لا يقع على الذوات ولكن يقع على المنافع وعلى أغراض الذات وأحوالها , فلا يمس جوهرها وماهيتها، لأن التصرف على ماهيتها يكون بالإحياء والإفناء وذلك ليس في قدرة الإنسان.(4/881)
إنما التصرف الذي في قدرة الإنسان هو ما حصر في ذات المنافع، وانتقال العين من يد إلى يد، وتلك لا تمس الذات في شيء من المساس. ويفرقون بين الأسباب التي تتيح الانتفاع فقط، والأسباب التي تعطي القدرة على التصرفات كلها، بأن هذه، كالبيع والهبة ونحوها تعطي القدرة على منافع العين إلى غير زمن محدود لا تلزم برد العين، وأما الأخرى كالإجارة والإعارة والوصية بالمنافع فإنها تعطي ملك المنافع إلى زمن محدود طال أو قصر، وبعدها ترد الأعيان إلى مالكي المنفعة ملكًا مطلقًا، وكأن المرمى في هذا أن أسباب الملك، إما أن تعطي ملك المنافع مطلقًا غير مقيد، فتكون بيعًا أو هبة أو ميراثًا، وإما أن تعطيه مقيدًا بزمن وترد العين بعده , ويسمى التصرف إجارة أو إعادة أو وصية بالمنافع. والحنفية (كما تدل على ذلك ظواهر عبارات الكتب والفقهاء) على أن الملك يقع على العين في الملكيات المطلقة ويقع على المنفعة في العقود التي تفيد ملكية المنفعة فقط وليست ثمة حاجة إلى الفلسفة التي أثارها المازري من فقهاء المالكية، لأن ذلك كله أمور فرضية اعتبارية ولا جداء في هذا الخلاف".
وعرفه الدكتور محمد الشرباصي (1) بقوله:
"الملك - بكسر فسكون - اتصال شرعي بين الإنسان وبين شيء يكون مطلقًا لتصرفه فيه، وحاجزا عن تصرف غيره فيه".
وعرفه الدكتور مصطفى الزرقاء - حفظه الله - (2) بقوله:
"الملك هو اختصاص حاجز شرعًا يسوغ صاحبه التصرف إلا لمانع". ووصف تعريفه هذا بقوله: "وهذا أوجز وأجمع تعريف استخلصناه مركبًا من عدة تعاريف ذكرها الفقهاء , مشيرًا إلى تلك التعريفات التي نقلها الشيخ أبو زهرة - رحمه الله - ونقلناها عنه آنفًا , في كل منها مزية ونقص، فجاء جامعًا لمزاياها ومستدركًا لنواقصها".
قلت: من الصعب اعتبار هذا التعريف أجمع وأدق من تعريف الشيخ أبي زهره الذي أدرجناه وعقبنا عليه منذ قليل.
__________
(1) المعجم الاقتصادي الإسلامي. ص: 441.
(2) المدخل الفقهي العام. ج: 1. ص: 256. الفقرة: 101.(4/882)
ثم قال موضحًا: "والمراد بكونه حاجزًا أنه يحجز غير المالك عن الانتفاع والتصرف دون إذن المالك. وأما المانع الذي يمنع المالك نفسه عن التصرف فيشمل حالتين: نقص الأهلية، كما في الصغير إذ يتصرف عنه وليه، وحق الغير، كما في المال المشترك والمال المرهون، إذ تتقيد فيهما تصرفات الشركاء والراهن رغم ملكيتهم. فوجود هذا المانع لا ينافي الملك بأنه عارض".
قلت: هذا غير واضح لأن الشركة تعني شيوع الملك وهو وضع لا يعين في الشيء المملوك حصة المالك أو قسطه تعيينًا دقيقًا يمكن معه التصرف في نطاقه، فضلًا عن أن الشركة تعني ارتباط وتشابك جميع متعلقات الشيء أو الأشياء المشترك فيها ارتباطًا وتشابكًا محددين بمدة الشركة، بحيث إن المساس الفردي بشيء أو أكثر من متعلقات الشركة من شأنه إحداث اختلال أو اعتلال بمجموع المنافع الثابتة أو المرجوة من تكوين الشركة ذاتها. أما فيما يتصل بالشيء المرهون فإن ملكيته أصبحت مشكوكًا فيها وغير مقطوع بها لأن الرهن يعني تعليق كل الحقوق المملوكة قبله للراهن في الشيء المرهون ضمانًا للقدر أو الشيء المرهون فيه والذي هو ملك للمرتهن لديه، وهذا يعنى أن ملكية الشيء المرهون لم تعد خالصة للراهن في حقيقتها بل أصبحت على نوع من الشيوع أو المشاركة بينه وبين المرتهن لديه إلى أن ينتهي سبب الرهن.
ثم قال: "وهذا التعريف يتناول جميع أنواع الملكية الآتي بيانها من ملكية الأعيان أو المنافع أو الديون. ومن هذا التعريف يتضح أن الملك هو عبارة عن علاقة الإنسان بالمال وما في حكمه من المنافع، فهو التصوير الشرعي لهذه العلاقة وثمرتها وحدودها. وبذلك يتبين أن الملكية ليست شيئًا ماديا , وإنما هي حق من الحقوق، والحق نوع من الاعتبار الشرعي، فحيثما أقر الشرع هذه العلاقة الاختصاصية بين الإنسان والمال ثبت الملك، وحيثما نفى الشرع هذه العلاقة انتفى الملك. وذلك بخلاف المال فإنه ذو مفهوم مادي يقع على الموجودات ذات المنافع حتى إن المال في الاجتهاد الحنفي يختص بالأعيان المادية فلا يشمل المنافع في نظر الحنفية".
قلت: هذا كلام شريف، والتعريف الأخير الذي أورده الأستاذ الدكتور مصطفى الزرقاء - حفظه الله - أدق من التعبير الأول وأبرأ من الغموض أو اللبس الذي تراءى لنافيه.
وقال فاروق النبهان فيما يشبه أن يكون تعريفًا منه للملكية بعد أن ذكر تعريفات لغيره من السلف والمعاصرين سبق أن نقلناها (1) : "والملك اعتبار شرعي يقر به الشرع العلاقة الاختصاصية بين الإنسان والمال".
__________
(1) الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي. ص: 178.(4/883)
وتعقبه بقوله موضحًا: "فإذا نفى الشرع هذه العلاقة انتفى الملك بخلاف المال، فهو ذو مفهوم مادي يقع على الموجودات ذات المنافع".
وعلى هامش هذا التوضيح نقل تعريفًا آخر لا ندري لماذا لم يدرجه في الأصل مع غيره من التعريفات، فقال:
"وعرفه الشيخ أحمد إبراهيم بأنه ارتباط شرعي بين الإنسان والشيء المملوك يجعله قادرًا على التصرف فيه بوجه الاختصاص".
ومع أن موقع الإحالة على التعليق الذي أورد فيه المؤلف هذا التعريف يوحي بأنه تعريف للمال لا للملك. فنحن نشعر بأنه تعريف للملك لأن "الشيء المملوك الذي يقع بينه وبين الإنسان ارتباط شرعي يجعل الإنسان قادرًا على التصرف فيه بوجه الاختصاص هو "المال" لا "الملك " , أما "الارتباط الشرعي" فهو الملك" أو "الملكية ".
ثم عاد فاروق النبهان في بحث له قدمه لمؤتمر الفقه الإسلامي المنعقد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة 1396 هـ أي بعد نحو تسعة أعوام من الفراغ من إعداد كتابه المذكور آنفًا وتقديمه للمناقشة، أطروحة لنيل الدكتوراة (1) فعرف الملكية بأنها: "يراد بها حق الفرد في احتواء شيء ما وتمكينه من الانتفاع بكل الطرق الجائزة شرعًا بحيث لا يجوز للغير الانتفاع بهذا الشيء إلا بموافقة المالك الأصلي، وفقًا لصورة من صور التعامل الجائز".
ثم عاد في نفس البحث (2) فعرف الملكية بأنها: "العلاقة التي أقرها الشارع بين الإنسان والمال وجعله مختصًا بحيث يتمكن من الانتفاع به بكل الطرق السائغة له شرعًا وفي الحدود التي بينها الشرع الحكيم".
وعقب على هذا التعريف موضحًا بقوله: "وهذا التعريف يؤكد لنا أن - المال إذا قامت بينه وبين الإنسان علاقة ما فإن هذه العلاقة تنشئ بين كل من المال والإنسان وصفًا جديدًا لم يكن قائما قبل أن يصبح الإنسان مالكًا ويصبح المال مملوكًا وتصبح علاقة المال بالإنسان علاقة ملك ... ".
قلت: والتعريفات الثلاثة التي نقلناها للدكتور فاروق النبهان تعريفات جليلة قد تكون أدق وأوضح ما وقفنا عليه من تعريفات المعاصرين وقد يكون آخرها أجلها وضوحا وشمولًا.
__________
(1) أثر تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي في المجتمع. ص: 297.
(2) أثر تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي في المجتمع. ص: 300 و301.(4/884)
وقبل أن نفرغ من هذه الفقرة، فقرة التعريفات المختلفة للملك والملكية , نورد كلاما جليلا لابن نجيم في هذا المجال جاء فيه: (1)
"وقال في الفتح القدير: الملك قدرة يثبتها الشارع ابتداء على التصرف، فخرج نحو الوكيل (انتهى) . وينبغي أن يقال: إلا لمانع , كالمحجور عليه، فإنه مالك ولا قدرة له على التصرف، والمبيع المنقول مملوك للمشتري ولا قدرة له على بيعه قبل قبضه".
ثم أورد تعريف القدسي في "الحاوي" ويظهر أن المعاصرين - وخاصة الشيخ علي الخفيف - نقلوا عنه، لكن العبارة التي نقلها ابن نجيم إن كانت كلها للقدسي أوضح وأشمل لذلك نعود فننقلها عنه، قال: وعرفه في "الحاوي القدسي" - وهي نفس العبارة الملتبسة التي سبق أن نقلناها عن الشيخ علي الخفيف وعقبنا عليها في التعليق رقم1 ص 1181. ويظهر أن فيها خطأ كما قلنا في ذلك التعليق - بأنه الاختصاص الحاجز وأنه حكم الاستيلاء، لأنه به يثبت لا غير، إذ المملوك لا يملك، كالمكسور لا ينكسر، لأن اجتماع الملكين في محل واحد محال، فلا بد وأن يكون المحل الذي ثبت الملك فيه خاليًا من الملك، والخالي من الملك هو المباح، والمثبت للملك في المال المباح الاستيلاء لا غير ... إلخ.
ومن أسف لم نطلع على كتاب القدسي هذا، إذ يظهر أن فيه مزيدًا من التوضيح لم ينقله ابن نجيم ولعله مصدر "مسائل" فصلها ابن نجيم بعد ذلك وبلغ بها ثلاث عشرة مسألة.
ولقد حرصنا على أن نورد كل هذه التعريفات التي وقفنا عليها بنصوصها، بل وبتعقيبات على بعض منها لنتيح للقارئ عناصر موثقة لتصور كامل لمختلف أطوار نظرية الملك في الفقه الإسلامي سواء ما كان من تلك العناصر من وضع الفقهاء المقلدين المعنيين بوضع الصيغ للتعريفات والحدود وما كان منها من وضع بعض الأساتذة الجامعيين الذين لا نستطيع اعتبارهم "فقهاء متخصصين" في الفقه الإسلامي، وإنما هم في اعتبارنا "منهجيون متخصصون" في دراسة النصوص وتحليلها وإعادة صياغتها بالأسلوب المعاصر.
__________
(1) الأشباه النظائر. ص: 346.(4/885)
وشتان بين الفقيه المتخصص والأستاذ المنهجي الجامعي، ويتجلى ذلك عند التمييز بين "المتأهل" للاستنباط - ولا أقول للإجهاد فتلك مرتبة أسمى - وبين المنشغل بإعادة الصياغة وتحكيم المنهج اعتمادًا على ما يتيسر له الإطلاع عليه والنقل منه من "مراجع" المتأخرين دون الاعتماد على "المصادر" الأولى للفقه الإسلامي من اجتهادات فقهاء الصحابة إلا ما تيسر لهم - دون قصد إليه مباشرة وبذل الجهد بحثًا عنه في مظانه - من نقل مؤلفي "المراجع" التي "يقنعون" بها من المتأخرين.
ولم نقف عند هذا التمييز استطرادًا إلى نوع من النقد والتقييم إنما قصدنا به لذاته. فنحن لم نورد هذه التعريفات كلها اعتمادًا لها وعليها وحدها وإنما أوردناها - كما ذكرنا آنفًا - لاستكمال عناصر التصور لمدلول الملكية وتطوره، ونحن فيما نستقبل من صميم مقصدنا ونتائج محاولتنا هذه نعتمد أساسًا على المصادر الأولى للفقه الإسلامي ما كان منها نصا تشريعيا من الكتاب والسنة والإجماع، وعمل الصحابة المعتمد، وما كان اجتهادًا ينبغي الاستئناس به من التابعين ومن تبعهم من أئمة الاجتهاد الأول وذلك ما سيتضح في الفقرات المقبلة.
8 - تحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان والمال:
ويبلغ بنا المسار إلى تحديد طبيعة العلاقة بين الإنسان والمال كما أرادها الإسلام أن تكون ورسم لها الحدود والمقاصد والغايات. ويقتضينا المنهج أن نقف هونًا عند ثلاث كلمات وردت في القرآن الكريم، تتصل بالعلاقة بين الإنسان والمال، وتصفها بالملك - بصرف النظر عن فتح الميم أو ضمها أو كسرها، فدلالتها في الأحوال الثلاثة واحدة.
قال الله تعالى في سورة النساء: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} (1) وقال عز من قائل في سورة طه: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} (2)
وقال جل جلاله في سورة يس: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (3)
__________
(1) الآية رقم: (53) .
(2) الآية رقم: (87) .
(3) الآية رقم: (71)(4/886)
ولا جدال في أن هذه الآيات الكريمة تطلق على علاقة الإنسان بالمال كلمة "ملك"، بيد أنه لا سبيل إلى دعوى أن المال المقصود في كل من الآيات الكريمات أو في إحداها "يعني" أو "يشمل" الأرض. وإنما هو في الآية الثانية والثالثة يتصل اتصالا صريحًا بالمنقول على حين أنه إن لم يكن في الآية الأولى على مثل المستوى من "الصراحة" فهو بقرينته لا يخرج عن المنقول بدليل قوله سبحانه وتعالى في خاتمتها: {فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} وهي أن النقير لا يمكن أن يكون قطعة من الأرض إلا أن يكون "قبصة" (1) من التراب، وبدهي أن هذا النوع من المعنى ليس مما يمكن أن يكون من مقتضى الآية الكريمة.
نقول هذا تأكيدًا لما نلح في تقريره من أن العلاقة التي خولها الله للإنسان بالأرض ليست "الملكية" بمعناها عند أغلب الفقهاء وعامة رجال القانون غير الاشتراكيين وإنما هي الخلافة، وفرق واضح بين أن تكون "مالكًا " لشيء وبين أن تكون خليفة فيه أو عليه , فالله سبحانه وتعالى جعل الإنسان "خليفة " في الأرض ليقوم بمهمة "الإعمار" وليس بمهمة السيطرة والهيمنة. وبهذا الموقف الذي نقرره نتفق اتفاقًا تاما مع "المازري" - رحمه الله - في موقفه الذي ذكره القرافي وابن الشاط - رحمهما الله - ونقلناه عنهما آنفًا , ولسنا وحدنا في تقرير هذه الحقيقة التي لا ينبغي أن يقر في فهم الفقيه المسلم الواعي غيرها، بل سبقنا إلى تقريرها أئمة الاجتهاد الأول وإن لم يعبروا عنها تعبيرًا محددًا بصيغة من صيغ "التعريفات" و" الحدود " كما عرفها فقه المتأخرين , وإنما عبروا عنها بتصرفاتهم وأحكامهم التي سنورد بعضها في فقرات مختلفة من هذا البحث.
__________
(1) القبصة بالصاد المهملة ما ينقبض بين أصبعين من تراب ونحوه حين تتصلان به، ثم تنضم إحداهما إلى الأخرى، ومنه قراءة في قوله سبحانه وتعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} على قراءة من قرأها بالصاد المهملة. الآية رقم: (96) من سورة طه.(4/887)
كذلك قررها بعض المعاصرين من الأساتذة والفقهاء وفيما يلي نقول عنهم:
يقول الدكتور أحمد حسين فراج (1)
"تقوم عقيدة المسلمين على أن الملك الحقيقي لهذا الكون بكل ما فيه من جماد وحيوان وإنسان، هو لله تعالى، فهو الذي خلقه وصوره وأبدعه، وهو الحاكم فيه بما يشاء لا معقب لحكمه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (2) " وقد دل على ذلك كثير من آيات القرآن الكريم، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} (3) و {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في الدلالة على أن لله وحده جميع الكائنات خلقًا وتملكًا وتصرفا.
وقد شاءت حكمته سبحانه وتعالى أن يستخلف الناس في الأرض ويسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض بنعمهما المختلفة , ويقول عز من قائل: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (5) أي: خلقكم من الأرض وجعلكم عمارها وسكانها. ويقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (6)
وفي شأن المال يقرر القرآن الكريم ذلك الاستخلاف الآلهي صراحة فيقول: {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (7)
__________
(1) الملكية ونظرية العقد. ص: 27.
(2) الآية رقم: (23) من سورة الأنبياء.
(3) الآية رقم: (85) من سورة الزخرف.
(4) الآية رقم: (120) من سورة المائدة.
(5) الآية رقم: (61) من سورة هود.
(6) الآية رقم: (165) آخر آية من سورة الأنعام.
(7) الآية رقم: (7) من سورة الحديد.(4/888)
فقد أفادت هذه الآية الكريمة أن أصل الملك لله سبحانه , وأن الإنسان ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضي الله، وأن ما بيده من المال لا يتجاوز أن يكون وديعة أو عارية من الله تبارك وتعالى، وهذا يدل على أن الأموال التي هي بأيدي الناس ليست بأموالهم على الحقيقة، وما هم إلا بمنزلة النواب والوكلاء عن الله تعالى، فالعاقل من الناس من يغتنم الفرصة منها بإقامة الحق قبل أن تزول عنه إلى غيره. واستخلاف الناس ليس مطلقًا وملكيتهم ليست أصيلة يتصرفون فيها على مقتضى أهوائهم وأغراضهم الشخصية بل إن هذا الاستخلاف وتلك الملكية مقيدة بقيود تحدد مداها وكيفياتها، وتوضح طريقة الانتفاع والتمتع بها، فإذا تصرف المستخلف عليها تصرفًا مخالفًا لشروط المالك، وقع هذا التصرف باطلًا، وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا، أما في الآخرة فهو محاسب على باطله , ومخالفته لشرط المالك صاحب الملك الأصيل.
التكييف الشرعي لاختصاص الإنسان بالشيء:
رأينا فيما عرضناه من الآيات الكريمة أن المالك الحقيقي لكل ما في الكون من أشياء، إنما هو الله تعالى وأنه بكرمه وفضله قد استخلف الإنسان في الأرض، ويسر له كل ما ينفعه ليقيم حياته، ومن ثم قرر كثير من الفقهاء أن ليس للإنسان إلا الانتفاع بما يكون في حوزته من الأشياء على الوجه الذي أدانت به شريعة الله. وإضافة الملك للإنسان من باب التوسع والتجوز , وقد وردت آيات تنسب الملك إلى الإنسان صراحة كالآيات التي سبقت الإشارة إليها.
وكما في قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (1) {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (2)
ونسبة الملك للإنسان في النصوص القرآنية إنما كان على سبيل المجاز والتوسع وعلى معنى الاستخلاف، لا على سبيل الحقيقة والتنزل وكان القصد منه.
أولًا - توجيه المالك إلى الانتفاع بما يملك من مال في الحدود التي رسمها الله تعالى، فهذه الإضافة لم يقصد بها إلا تمليك الانتفاع بكل ما يقتضيه هذا الانتفاع من حق التصرف وحق الاستهلاك وحق الاستثمار".
__________
(1) الآية رقم: (279) من سورة البقرة.
(2) الآية رقم: (71) من صورة يس.(4/889)
قلت: كان ينبغي أن يضيف إلى هذا على سبيل الاحتراس القول: " في حدود ما رسمه الشرع بأحكامه المختلفة "، فبذلك وحده يستكمل التحديد معالمه.
ثم قال: "وقصد بها ثانيًا المسؤولية والمحاسبة؛ لأن الإسلام لا يقبل أن تكون مسؤولية البشر عن المال الذي سخره الله لهم وأودعه بين أيديهم مسؤوليته شائعة غير محدودة فكان أن أقر الملكية الفردية ليسأل كل فرد في الجزء الذي بين يديه من مال الجماعة عن حق الجماعة فيه، ثم جعل ولي الأمر مسؤولًا عن حق الجماعة فيما خص الأفراد من هذا المال (1) وقصد بها. ثالثًا - إشباع الفطرة التي فطر الله الناس عليها ومنها غريزة حب التملك".
ويقول الدكتور فاروق النبهان بعد أن عرض لاختلاف رجال القانون في تعيين مصادر الملكية طبقًا لاختلاف نحلهم:
"ونجد في التصور الإسلامي المنطلق من الحقائق القرآنية تفسيرًا لهذا اللبس الذي وقع فيه رجال القانون وينطلق هذا التصور من فكرة (2) الإيمان بالله وأن الإنسان مخلوق ليكون خليفة الله في أرضه. وأن الله قد سخر له كل شيء ليكفل له الاستفادة مما سخره الله له، وأن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي سخر الله له المخلوقات الأخرى ولم يسخره لخدمة تلك المخلوقات، لأنه يمتاز على غيره بالتكليف، والتكليف يرتبط بالعقل. ولما كانت الملكية ضرورية للإنسان فقد استخلفه الله على ملكية ما في الأرض، وأوجب عليه أن يتذكر معنى الاستخلاف ومدلوله، وأن يتقيد في تصرفه في ملكيته بإرادة الله التي يعبر التشريع الإسلامي عنها سواء من حيث أسباب التمليك أو من حيث طرائق الاستفادة من هذه الملكيات.
__________
(1) قد تكون سقطت كلمة "به" من الطابع إذ قوام العبارة أن يقال: "فيما خص به الأفراد من هذا المال ".
(2) الإيمان بالله ليس فكرة وكل ما في التشريع الإسلامي ليس فكرًا أو نظريات وإنما هو قواعد ومبادئ وشعائر وشرائع، ووصفها بأنها فكر أو نظريات وإن على سبيل التجوز وهو ما جرت عليه أو جرت به أقلام من يكتبون في الشؤون الإسلامية من المعاصرين أقل ما يوصف به أنه إسراف في الانحراف بكلمتي "النظرية" "الفكرة" عن دلالاتها فضلًا عن أنه إساءة للأدب مع الله ومع شريعته وإن تكن إساءة غير مقصودة بل جاءت نتيجة ممارسة غير متحررة للمألوف من عوائد التعبير. يغفر الله له.(4/890)
ولا يعترف الإسلام بأي ملكية لا تنشأ وفقًا لسبب من الأسباب الشرعية المعترف بها ولا يحترم الإسلام أية ملكية لا تنمو وفق الطريق الشرعي الذي حددته الشريعة من حيث عدم الإضرار بالمجتمع، وفضلًا عن هذا فإن المالك مكلف بأن يرعى حق الجماعة في ملكيته، وإلا فإن الإسلام لا يعترف بأية ملكية لا تخضع لهذه الضوابط التشريعية".
على أن هذا الموقف الذي يمثله النموذجان السابقان ليس إجماعيا من المعاصرين، وإنما هو موقف الجمهرة من الأساتذة والاقتصاديين ذوي الثقافة المزدوجة أو الذين تفتحت عقولهم ومداركهم لتفهم التشريع الإسلامي من أصول مباشرة دون التقيد بمرحلة من مراحل الفقه فيه كما هو الشأن عند معاصرين آخرين. ولعل أحسن من يمثل هؤلاء وإن امتاز عن كثير منهم بسعة الاطلاع والاستقلال النسبي في الفهم والاتساع النسبي في الإدراك الشيخ محمد أبو زهرة - رحمه الله - وفي هذا المجال ننقل قوله من كتابه "الملكية ونظرية العقد" (1)
"ذكرنا أن المال لا يعتبر مالا إلا بتمول الناس له، لذلك كانت علاقة الإنسان هي التي تعطيه خواصه المالية والشرعية ولقد قرر الشرع (2) الإسلامي تلك العلاقة , ورتب عليها ثمراتها ونتائجها، وتلك العلاقة المقررة في الإسلام ككل الشرائع هي الملك، وهو معنى نسبي يفرض بتعيين النسبة بين المال والإنسان كالأبوة والبنوة والتقدم والتأخر، فكل هذه أمور نسبية لتعيين النسب بين الأشياء والأشخاص، فالأبوة والبنوة لتعيين النسبة والإنسان ومن نشأ منه، كذلك الملك هو معين للنسبة بين الإنسان والمال، الإنسان مالك والمال مملوك".
ولا نريد أن نتقصى "مقولات" ذاك الفريق أو ذاك , حسبنا ما عرضناه من نماذج لأرائهما إنما نريد أن نقدم صورة لآراء المعاصرين على اختلاف تأثرهم بالنحل والقوانين الحديثة وبالمواقف والآراء الفقهية التي حددها وفرع عنها واستنبط منها ثروة من الأحكام والتصورات والافتراضات الفقه الإسلامي. وذلك قبل أن نمضي في مسارنا الذي رسمناه لأنفسنا في هذا البحث وفي غيره من أبحاثنا المتصلة بالشريعة الإسلامية من اعتبار النصوص التشريعية القطعية والظنية، (من قرآنية أو سنية متواترة ومن سنية آحادية أو آثار لكبار الصحابة ومن اجتهادات لكبار التابعين والأئمة الأول) هي المصدر الوحيد الواجب اعتماده دون غيره لكل فقه يحاول الاهتداء إلى حكم الله في ما يستجد للمسلمين أو للإنسانية كافة من أوضاع وأحداث حضارية فردية كانت أم جماعية أم اجتماعية.
__________
(1) ص: 64. فقرة: 15.
(2) لعل في العبارة خطأ صوابه "الشرع".(4/891)
لذلك ننتقل مباشرة إلى النصوص القرآنية المتعلقة لعلاقة الإنسان بالمال وخاصة الأرض وآراء أئمة التفسير في تأويلها ثم إلى النصوص السنية وتحقيقها وتخريجها وأراء أئمة السنة وشرحها في فقهها ثم إلى آثار الصحابة وكبار التابعين والأئمة الأول للاجتهاد، فهذه المصادر هي معتمدنا فيما نستقبل في مسارنا إلى نهايته لا نضيف إليها مرجعًا إلا لمجرد "الاستئناس " عند الاقتضاء.
9 - التكييف القرآني لعلاقة الإنسان بالأرض:
التبس على البعض ما ورد في القرآن الكريم من أن الله خلق الأرض وسخرها لبني آدم فحسبوا ذلك يعني أنه سبحانه وتعالى ملكها لهم، وبنوا على هذا "اللبس" قواعد أصولية وفقهية من بينها الاستدلال بأن القرآن ينص على ملكية الإنسان لما يحوزه من الأرض.
وهذا "اللبس" الساذج تكشفه الآثار والنصوص التي نوردها فيما يلي تبيانًا للمعنى الذي فهمه السلف من الصحابة والتابعين وأئمة التفسير والتأويل لتلك الآيات الكريمة الملتبس تأويلها على بعض المتفقهة المقلدة الذين لا يتحرجون من محاولة تسخير النصوص القرآنية والسنية لمساندة ودعم آرائهم وآراء أئمتهم وشيوخهم الذين بلغ بهم تقليدهم أنهم يحكمون آراء في النصوص القرآنية السنية فإن استعسر عليهم تسخيرها تمحلوا أسبابًا لادعاء نسخها، وهو ادعاء قد نقف عنده بعد حين.
قال الله تعالى في سورة البقرة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1)
ويقول الطبري - رحمه الله - في تفسيره (2)
"فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع - تأمل جيدًا كلمة "منافع" - أما في الدين فدليل على وحدانية ربهم، وأما في الدنيا فمعاش وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه".
ثم قال:
"وبنحو الذي قلنا في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} كان قتادة (3) يقول: "حدثنا بكر بن معاذ , قال: حدثنا مرثد بن سعيد , عن قتادة قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} أنعم , والله سخر لكم ما في الأرض". وقد أخرج هذا الأثر السيوطي في الدر (4) بأوضح وأسلم تعبير , فقال: " ... أخرج عبد بن حميد وابن جرير - يعني الطبري - عن قتادة في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} قال: سخر لكم ما في الأرض جميعًا كرامة من الله ونعمة لابن آدم متاعًا وبلغة ومنفعة إلى أجل".
__________
(1) الآية رقم: (29) .
(2) ج:1. ص: 149.
(3) يعنى ابن دعامة.
(4) ج: ا. ص: 42.(4/892)
وقال الزمخشري في الكشاف (1) ". (لكم) لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم، أما الانتفاع الدنيوي فظاهر , وأما الانتفاع الديني فالنظر فيه وما فيه من عجائب الصنع الدالة على الصانع القدير الحكيم، وما فيه من التذكير بالآخرة وثوابها وعقابها لاشتماله على أسباب الأنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمواكب والمناظر الحسنة البهية، وعلى أسباب الوحشة والمشقة من أنواع المكاره كالنيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف. وقد استدل بقوله: (خلق لكم) على أن الأشياء التي يصح أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات في العقل خلقت في الأصل مباحة مطلقة لكل أحد أن يتناولها وينتفع بها) .
وقال الرازي - رحمه الله - في تفسيره (2) "وأما قوله: (لكم) فهو يدل على أن المذكور بعد قوله: (خلق) لأجل انتفاعنا في الدين والدنيا. أما في الدنيا فليصلح أبداننا ولنتقوى به على الطاعات، وأما في الدين فللاستدلال بهذه الأشياء وللاعتبار بها. وجمع بقوله: (ما في الأرض جميعا) جميع المنافع، فمنها ما يتصل بالحيوان والنبات والمعادن والجبال، ومنها ما يتصل بضروب الحرف والأمور التي استنبطها العقلاء، وبين تعالى أن كل ذلك إنما خلقها كي ينتفع بها. كما قال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (3) وكأنه سبحانه وتعالى قال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} وكيف تكفرون بالله وقد خلق لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا، أو يقال: كيف تكفرون بالله على الإعادة وقد أحياكم بعد موتكم ولأنه خلق لكم ما في الأرض جميعًا، فكيف يعجز عن إعادتكم. ثم إنه تعالى ذكر تفاصيل هذه المنافع في سور مختلفة كما قال: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} (4) وقال في أول سورة النحل {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} (5) ثم أورد - على عادته - مسائل تتعلق بتأويل الآية وما قد يستنبط منها من معاني وأحكام ومنها قوله:
"المسألة الثانية" احتج أهل الإباحة بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} على أنه تعالى خلق الكل للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلًا لأنه تعالى قابل الكل بالكل، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد، والتعيين يستفاد من دليل منفصل، والفقهاء - رحمهم الله - استدلوا به على أن الأصل في المنافع الإباحة".
وقال ابن عطية في "المحرر الوجيز" (6)
__________
(1) ج:1. ص: 270.
(2) المجلد الأول. ج: 2. ص: 168.
(3) الآية رقم: (13) من سورة الجاثية.
(4) الآية رقم: (25) من سورة عبس.
(5) الآية رقم: (5) .
(6) ج: ا. ص:159.(4/893)
"و (لكم) معناه الاعتبار، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء، والإماتة، والخلق، والاستواء إلى السماء وتسويتها. وقال قوم: بل معنى (لكم) إباحة الأشياء وتمليكها، وهذا قول من يقول: إن الأشياء قبل ورود السمع على الإباحة بينته هذه الآية. وخالفهم في هذا التأويل القائلون بالحظر، والقائلون بالوقف، وأكثر القائلين بالحظر استثنوا أشياء اقتضت حالها مع وجود الإنسان الإباحة، كالتنفس والحركة. ويرد على القائلين بالحظر كل حظر في القرآن وعلى القائلين بالإباحة كل تحليل في القرآن. ويترجح في الوقف. إذا قدرنا نازلة لا يوجد فيها سمع ولا تتعلق به.
ومعنى الوقف أنه استنفاد جهد الناظر فيما يحزب من النوازل.
وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال: "لم يخل العقل قط من السمع ولا نازلة إلا وفيها سمع أو لها به تعلق أو لها مال تستصحبه".
قال: "فينبغي أن يعتمد على هذا، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف".
وقال القرطبي في "الجامع لأحكام?القرآن" (1) وهو يستخرج مسائل من هذه الآية الكريمة:
"الثانية - استدل من قال: إن أصل الأشياء التي ينتفع منها الإباحة بهذه الآية وما كان مثلها، كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (2)
حتى يقوم الدليل على الحظر. وعضدوا هذا بأن قالوا: إن المآكل الشهية خلقت مع إمكان أن لا تخلق فلم تخلق عبثًا فلا بد لها من منفعة، وتلك المنفعة لا يصح رجوعها إلى الله لاستغنائه بذاته، فهي راجعة إلينا. ومنفعتنا إما في نيل لذاتها، أو في اجتنابها لنختبر بذلك، أو في اعتبارنا بها. ولا يحصل شيء من تلك الأمور إلا بذوقها، فلزم أن تكون مباحة. وهذا فاسد، لأنا لا نسلم لزوم العبث من خلقها إلا لمنفعة، بل خلقها كذلك لأنه لا يجب عليه أصل المنفعة بل هو الموجب. ولا نسلم حصر المنفعة فيما ذكروه ولا حصول بعض تلك المنافع إلا بذوق، بل قد يستدل على الطعوم بأمور أخر كما هو معروف عند الطبائعيين ثم هو معارض بما يخاف أن تكون سمومًا مهلكة ومعارضون بشبهات أهل الحظر. وتوقف آخرون، وقالوا: ما من فعل لا ندرك منه حسنًا ولا قبحًا إلا ويمكن أن يكون حسنًا في نفسه، ولا معين قبل ورود الشرع، فتعين الوقف إلى ورود الشرع. وهذه الأقاويل الثلاثة للمعتزلة. وقد أطلق الشيخ أبو الحسن وأصحابه وأكثر المالكية والصيرفي في هذه المسألة القول بالوقف. ومعناه عندهم أن لا حكم فيها في تلك الحال، وأن للشرع إذا جاء أن يحكم بما شاء وأن العقل لا يحكم بوجوب ولا غيره، وإنما حظه تعرف الأمور على ما هي عليه".
__________
(1) ج:1. ص:251 و252.
(2) (2) الجاثية: 13.(4/894)
ثم قال: "الثالثة - الصحيح في معنى قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} الاعتبار يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء، والإماتة، والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها، أي الذي قدر على إحيائكم وخلقكم وخلق السماوات والأرض لا تبعد منه القدرة على الإعادة.
فإن قيل: إن معنى (لكم) الانتفاع، أي: لتنتفعوا بجميع ذلك، قلنا: المراد بالانتفاع الاعتبار كما ذكرنا. فإن قيل: وأي اعتبار في العقارب والحيات؟ قلنا: قد يتذكر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سببًا للإيمان وترك المعاصي. وذلك أعظم الاعتبار. قال ابن العربي: وليس في الإخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظرًا ولا إباحة ولا وقفًا، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليستدل به على وحدانيته.
وقال أرباب المعاني في قوله: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} لتتقووا به على طاعته لا لتصرفوه في وجوه معصيته. وقال أبو عثمان: وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك، فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد".
وقال ابن حيان الأندلسى في "البحر المحيط" (1) بعد أن أورد الآية:
"مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وهو أنه لما ذكر أن من كان منشئا لكم بعد العدم ومفنيًا لكم بعد الوجود وموجدًا لكم ثانية، إما في جنة وإما إلى نار، كان جديرًا أن يعبد ولا يجحد ويشكر ولا يكفر. ثم أخذ يذكرهم عظيم إحسانه وجزيل امتنانه، من خلق جميع ما في الأرض لهم، وعظيم قدرته وتصرفه في العالم العلوي وإن العالم العلوي والعالم السفلي بالنسبة إلى قدرته على السواء وأنه عليم بكل شيء".
ثم قال:
"و (لكم) متعلق بـ (خلق) واللام فيه للسبب، أي: لأجلكم ولانتفاعكم. وقدر بعضهم لاعتباركم، وقيل: للتمليك والإباحة، فيكون التمليك خاصا، وهو تمليك ما ينتفع الخلق به، وتدعو الضرورة إليه.
وقيل: الاختصاص هو أعم من التمليك.
__________
(1) ج: 1. ص: 132 و133.(4/895)
والأحسن حملها على السبب , فيكون مفعولًا من أجله، لأنه بما في الأرض يحصل الانتفاع الديني والدنيوي. فالديني النظر فيه وفيما فيه من عجائب الصنع ولطائف الخلق الدالة على قدرة الصانع وحكمته، ومن التذكير بالآخرة والجزاء. وأما الدنيوي فظاهر , وهو ما فيه من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب والمناظر البهية وغير ذلك. وقد استدل بقوله: (خلق لكم) من ذهب إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة , فلكل أحد أن ينتفع بها وإن احتمل أن يكون اللام لغير التمليك والإباحة لم يكن في ذلك دليل على ما ذهبوا إليه. وقد ذهب قوم إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر فلا يقدم على شيء إلا بإذن. وذهب قوم إلى أن الوقف لما تعارض عندهم دليل القائلين بالإباحة ودليل القائلين بالحظر قالوا بالوقف" (1)
ثم قال:
"وإذا جعلنا اللام للسبب، فليس المعنى أن الله فعل شيئًا للسبب، لكنه لما فعل ما لو فعله غيره لفعله لسبب، أطلق عليه لفظ السبب. واندرج تحت قوله: {مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ما كانت الأرض مستقرا له من الحيوان والنبات والمعدن والجبال، وجميع ما كان بواسطة من الحرف والأمور. المستنبطة".
وقال محمد الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (2)
" ... والمقصود من الكلام فيما أراه موافقًا للبلاغة. التذكير بأن الله هو خالق الأرض وما عليها وما في داخلها، وأن ذلك كله خلقه بقدر انتفاعنا بها بما فيها في مختلف الأزمان والأحوال فأوجز الكلام إيجازًا بديعًا بإقحام قوله: (لكم) ، فأغنى عن جملة كاملة، فالكلام مسوق مساق إظهار عظيم القدرة وإظهار عظيم المنة على البشر وإظهار عظيم منزلة الإنسان عند الله تعالى. وكل أولئك يقتضي اقتلاع الكفر من نفوسهم. وفي هذه الآية فائدتان"
الأولى: أن لام التعليل دلت على أن خلق ما في الأرض كان لأجل الناس، وفي هذا تعليل للخلق، وبيان لثمرته وفائدته".
__________
(1) هذه الجملة غير واضحة.
(2) ج: 1. ص: 379 و380 و382.(4/896)
وبعد أن أورد مقولات المتكلمين حول تعليل أفعال الله تعالى وناقشها مناقشة بديعة نأسف أن ليس هذا مجالها قال - رحمه الله -:
"هذا وقد نقل أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات عن جمهور الفقهاء والمتكلمين أن أحكام الله تعالى معللة بالمصالح ودرء المفاسد. وقد جمع الأقوال الشيخ ابن عرفة في تفسيره فقال: هذا هو تعليل أفعال الله تعالى وفيه خلاف، وأما أحكامه فمعللة.
الفائدة الثانية: أخذوا من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} أن أصل استعمال الأشياء فيما يراد له من أنواع الاستعمال هو الإباحة حتى يدل دليل على عدمها، لأنه جعل ما في الأرض مخلوقًا لأجلنا، وامتن بذلك علينا. وبذلك قال الإمام الرازي والبيضاوي وصاحب الكشاف ونسب إلى المعتزلة وجماعة من الشافعية والحنفية منهم الكرخي ونسب إلى الشافعي. وذهب المالكية وجمهور الحنفية والمعتزلة - في نقل ابن عرفة - إلى أن الأصل في الأشياء الوقف ولم يروا الآية دليلًا. قال ابن العربي في أحكامه: إنما ذكر الله تعالى هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه على طريق العلم والقدرة وعلى تصريف المخلوقات بمقتفى التقدير والإتقان بالعمل ... إلخ.
والحق أن الآية مجملة، قصد منها التنبيه على قدرة الخالق بخلق ما في الأرض أنه خلق لأجلنا، إلا أن خلقه لأجلنا لا يستلزم إباحة استعماله في كل ما يقصد منه، بل خلق لنا فيه الجملة. على أن الامتنان يصدق إذا كان لكل من الناس بعض مما في العالم، بمعنى أن الآية ذكرت أن المجموع للمجموع , لا كل واحد لكل واحد، كما أشار إليه البيضاوي، لا سيما وقد خاطب الله بها قومًا كافرين منكرًا عليهم كفرهم، فكيف يعلمون إباحة أو منعا؟ وإنما محل الموعظة هو ما خلقه الله من الأشياء التي لم يزل الناس ينتفعون بها من وجوه متعددة. وذهب جماعة إلى أن أصل الأشياء الحظر، ونقل عن بعض أهل الحديث وبعض المعتزلة، فللمعتزلة الأقوال الثلاثة كما قال القرطبي. قال الحموي في شرح كتاب الأشباه لابن نجيم نقلًا عن الإمام الرازي - رحمه الله -: وإنما تظهر ثمرة المسألة في حكم الأشياء أيام الفترة قبل النبوة، أي فيما ارتكبه الناس من تناول الشهوات ونحوها. ولذلك كان الأصح أن الأمر موقوف وأنه لا وصف للأشياء يترتب من أجله عليها الثواب والعقاب.(4/897)
وعندي: أن هذا لا يحتاج العلماء إلى فرضه، لأن أهل الفترة لا شرع لهم، وليس لأفعالهم أحكام إلا في وجوب التوحيد عند قوم. وأما بعد ورود الشرع، فقد أغنى الشرع عن ذلك. فإن وجد فعل لم يدل عليه دليل من نص أو قياس أو استدلال صحيح، فالصحيح أن أصل المضار التحريم والمنافع الحل، وهذا الذي اختاره الإمام في المحصول، فتصير للمسألة ثمرة باعتبار هذا النوع من الحوادث في الإسلام".
وجلي من هذه النقول - وهي الخلاصة الشاملة لآراء أئمة التفسير والتأويل من قدماء ومحدثين - أن الجمهرة تذهب إلى القول بأن اللام في قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}
للاختصاص وليست لأي معنى غيره إلا ما ذهب إليه القلة من اعتبارها سببية أو للتمليك أو للاستحقاق.
وقد يكون من تمام الفائدة أن ننقل رأي النحاة أو ما يشبه أن يكون رأيًا لهم في الفرق بين لام الاختصاص ولام الاستحقاق ولام التمليك ولام شبه التمليك ولام التعليل.
يقول ابن هشام - رحمه الله - في "المغني" (1)
"واللام الجارة اثنان وعشرون معنى:
أحدها الاستحقاق، وهي الواقعة بين معنى وذات، نحو "الحمد لله" و"العزة لله"
و"الملك لله" و"الأمر لله" و"نحو {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} (2) و {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} (3) و"منه للكافرين النار" أي: عذابها.
والثاني: الاختصاص نحو الجنة للمؤمنين، وهذا الحصير للمسجد، والمنبر للخطيب، والسرج للدابة، والقميص للعبد، ونحو {إِنَّ لَهُ أَبًا} (4) {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} (5) وقولك: هذا الشعر لحبيب، وقولك: أدوم لك ما تدوم لي.
والثالث. الملك، نحو: {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (6) ووردت في غيرها أيضًا.
__________
(1) ص: 275.
(2) الآية رقم: (1) من سورة المطففين.
(3) الآية رقم: (41) من سورة المائدة.
(4) الآية رقم: (78) من سورة يوسف.
(5) الآية رقم: (11) من سورة النساء.
(6) الآية رقم: (255) من سورة البقرة.(4/898)
وبعضهم يستغني بذكر الاختصاص عن ذكر المعنيين الآخرين ويمثل بالأمثلة المذكورة ونحوها، ويرجحه أن فيه تقليلًا للاشتراك، وأنه إذا قيل "هذا المال لزيد والمسجد" لزم القول بأنها الاختصاص مع كون زيد قابلًا للملك، لئلا يلزم استعمال المشترك في معنييه دفعة، وأكثرهم يمنعه.
الرابع: التمليك، نحو "وهبت لزيد دينارًا ".
الخامس: شبه التمليك، نحو {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} (1)
السادس: التعليل، كقوله: "ويوم عقرت للعذارى مطيتي" (2)
ثم مضى يورد شواهد أخرى لهذا المعنى، ثم يتابع المعاني الأخرى للام الجارة، وهو مما ليس من شأننا في هذا المجال.
ومن هذا الذي ساقه ابن هشام من الفروق بين معاني ودلالات اللام الجارة، يترجح لدينا القول بأن اللام للاختصاص في الآية الكريمة التي نحن بسبيل استجلاء الحكم منها، وحتى لو كانت للملك - وما من أحد قال: إنها للتمليك فيما
نعلم - فإن الملك الذي تعنيه جماعيا وليس فرديا , ذلك بأنهم أجمعوا أو كادوا يجمعون على أن "الاختصاص" أو "التمليك" الذي تعنيه في الآية لا يتجه بالأساس إلى الفرد وإن وجهه بعضهم , ومال الرازي - رحمه الله - إليه بالتبعية.
ونعيد هنا فقرة سبق أن نقلناها عنه للتذكير واستجلاء المعنى. قال رحمه الله:
"المسألة الثانية: احتج أهل الإباحة بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} على أنه تعالى خلق الكل للكل , فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلًا وهو ضعيف لأنه تعالى قابل الكل بالكل، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد والتعيين يستفاد من دليل منفصل، والفقهاء - رحمهم الله - استدلوا به على أنه الأصل في المنافع الإباحة".
__________
(1) الآية رقم: (1) من سورة الشورى.
(2) البيت لامرئ القيس من معلقته المشهورة وتمامه: "فيا عجبا عن رحلها المتحمل".(4/899)
وقد سبق أن لفتنا في معرض نقلناه عن الطبري - رحمه الله - ما شرح به الآية الكريمة إلى قوله:
"فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع. تأمل جيدًا كلمة "منافع".
وقلنا تعقيبًا على هذا: تأمل جيدًا كلمة "منافع" , إذ هي صريحة من عبارته كما أن ما يشاكلها من عبارات غيره ممن اعتمدناهم ونقلنا عنهم من أئمة التفسير آراءهم ورواياتهم في تأويل هذه الآية الكريمة صريح في أن علاقة الإنسان بالأرض طبقا لما تعينه الآية الكريمة وتحدده تتكيف بكونها "تسويغ الانتفاع" أو "تسويغ المنفعة"، وهذا ما سنبينه ونبين الفرق فيه بين "تسويغ الانتفاع" وبين "تسويغ المنفعة" في محله من هذا البحث. لكننا الآن نود أن نقف هونا عند رأي الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور - رحمه الله - إذ إنه يختلف بعض الاختلاف عن رأينا في تحديد معنى "اللام " من (لكم) فهو يراها للتعليل، ولكن ما يبدو بين الموقفين من تغاير لا يعدو أن يكون لفظيا أو بلاغيا صرفًا لا يترتب عنه حكم إلا بانتحال متكلف غير صائغ. وآية ذلك أنه - رحمه الله - يخلص إلى القول بأن من علة خلق الأرض جعلها لمنفعة الإنسان في مجموعه وأفراده فهو يقول: "والحق أن الآية مجملة قصد منها التنبيه على الخالق بخلق ما في الأرض أنه خلق لأجلنا، إلا أن خلقه لأجلنا لا يستلزم إباحة استعماله في كل ما يقصد منه، بل خلق لنا في الجملة على أن الامتنان يصدق إذا كان لكل من الناس بعض مما في العالم لمعنى أن الآية ذكرت أن المجموع للمجموع، لا كل واحد لكل واحد، كما أشار إليه البيضاوي، لا سيما وقد خاطب الله بها قوما كافرين منكرًا عليهم كفرهم، فكيف يعلمون إباحة أو منعا؟
ومع أنه يستنبط من الآية "تسويغ الانتفاع" أو تسويغ المنفعة للأفراد، كما هو للمجموع على مستوى متماثل حسب ما هو ظاهر عبارته - وإن كنا ننكر أشد الإنكار التوقف عند تحليل عبارات البشر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجتهدي الصحابة لولا أننا بصدد تحديد مذاهب من يعتمد اجتهاده من المفسرين - وذلك ما قد لا نختلف معه في ما يؤدي إليه من نتائج وإن لم نوافقه في التسوية بين دلالة الآية على حقوق المجموع ودلالتها على حقوق الأفراد. فإننا نجده غير مختلف مع جمهرة أئمة التأويل في أن المنفعة أو الانتفاع هو ما تعنيه - أو بعض ما تعنيه - الآية الكريمة وتدل عليه اللام في (لكم) سواء كانت "للاختصاص" أو "للتعليل" أو حتى "للملك" أو "للتمليك" كما قد يقول بعض النحاة.(4/900)
والذي نستخلصه مما نقلناه عن أئمة التأويل، ونشعر أنه الحق أن الآية الكريمة نص صريح على أن علاقة الإنسان بالأرض تنحصر فيما يتصل بما خول الله له من انتفاع أو منفعة، مما فيها ولا تتجاوزه طبقًا لما تتضمنه الآية الكريمة من دلالات إلى ملكية "الرقبة " وعلى من يدعي ملكية الإنسان مجموعة أو أفرادًا للأرض ملكية رقبة أن يستظهر بدليل أو أدلة غير هذه الآية، وسنقف عند ما قد يستظهرون به حين يعرض لنا شيء منه خلال مسارنا هذا.
لكن قبل ذلك نقف مع ابن تيمية (1) في رأي له لا يتصل في جوهره بعلاقة الإنسان بالأرض وبالأشياء من حيث تكييفها الشرعي، وإنما يتصل بها من حيث الممارسة والملابسة وهذا الجانب منها ليس من شأننا في هذا المجال، بيد أن ابن تيمية - رحمه الله - ألمح عرضًا إلى ما نحن بسبيله. ذلك بأنه خلال ما ساق من الأدلة لتأكيد قاعدته التي بنى عليها حكمه في طهارة أو نجاسة "مني الإنسان وغيره من الدواب الطاهرة وفي أرواث البهائم المباحة " وقد ساق في ذلك عشرة أدلة قال:
"الصنف الأول الكتاب، وهو عدة آيات، الآية الأولى قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} والخطاب لجميع الناس لافتتاح الكلام بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} ووجه الدلالة أنه خلق جميع ما في الأرض للناس مضافًا إليه باللام، واللام حرف الإضافة، وهي توجب اختصاص المضاف بالمضاف إليه، واستحقاقه إياه على الوجه الذي يصلح له. وهذا المعنى يعم موارد استعمالها. لقولهم: المال لزيد، والسرج للدابة، وما أشبه ذلك. فيجب إذن أن يكون الناس مملكين ممكنين لجميع ما في الأرض، فضلًا من الله ونعمة. وخص من ذلك بعض الأشياء وهي الخبائث، لما فيها من الإفساد لهم في معاشهم، أو معادهم، فيبقى الباقي مباحًا بموجب الآية".
__________
(1) مجموع الفتاوى ج:21. ص: 535 و536.(4/901)
وجلي من كلام ابن تيمية أنه مع القائلين أن في الأصل الإباحة ما لم يقم دليل على غيرها، بيد أنه يعتبر إباحتها للمجموع بدليل استدلاله بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} . ثم قوله في ثنايا كلامه:
"فيجب أن يكون الناس مملكين ممكنين لجميع ما في الأرض". إذ إن تعبيره بكلمة "الناس" بعد استدلاله بالآية الكريمة المذكورة آنفًا والنداء فيها موجه إلى (الناس) لا يمكن صرفه إلى "الجميع" بمعنى إلى الأفراد منفصلين إلا بقرينة.
وبدونها لا ينصرف إلا إلى "المجموع" باعتباره كيانًا له وجود معنوي متميز.
على أن ابن تيمية جمع بين معنيي الاختصاص والاستحقاق للام في (لكم) ، وهو ما قد يلبس على بعض الناس مراده، لا سيما وقد جاء في كلامه بعد ذلك لفظ "مملكين" فيحسبه صرفًا لمدلول الاختصاص عن عمومه إلى خصوص الدلالة على الملكية وهذا رأي ابن تيمية، ولكنه ليس صريحًا من عبارته هذه. فإن يكن هو رأيه فليس في عبارته ما يصرف "الملكية" التي يعنيها إلى الفرد وإنما هي مصروفة بالأصالة إلى "المجموع " ما لم تقم قرينة على غير ذلك.
وقبل أن نفارق ابن تيمية ننتقل معه إلى دليل آخر استدل به البعض على دعوى ملكية الإنسان للأرض ملكية رقبة.
قال وهو يواصل الاستدلال لموضوعه المذكور آنفًا:
"الآية الثالثة قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} (1)
وإذا كان ما في الأرض مسخرًا لنا جاز استمتاعنا به".
تأمل جيدًا قوله: "جاز استمتاعنا به , إذ اقتصر على كلمة "الاستمتاع" بدل كلمة "الملك" أو "الملكية" أو ما يدل عليهما مثل "الاستئثار" أو "الاستحواذ".
__________
(1) الجاثية 13.(4/902)
وقد يقال: إن "الملك" وما في معناه من مشتقاته يدخل في مدلول "الاستمتاع" وهذا صحيح، بيد أن "الاستمتاع" لا ينصرف إلى بعض مدلولاته دون بعض إلا بقرينة، وإذا لم توجد القرينة يظل "عاما" في انتظار ما يخصصه و"مطلقًا" في انتظار ما يقيده إذا أريد له "التخصيص" أو "التقييد". وجميع القرائن تدل على أنه غير مخصص ولا مقيد إلا بما جاء الشرع بإيجابه أو الندب إليه أو تحريمه أو كراهته. وسنتبين أثناء مسارنا هذا ما إذا كان الشرع قد جاء بحكم من هذه الأحكام فيما يتصل بالملك.
ونواصل وقفتنا عند قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13] . وأجمع ما وقفنا عليه وأدقه في تفسير هذه الآية عند أئمة التأويل ما قاله محمد الطاهر ابن عاشور (1) من أن: " {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} عام مخصوص بما تحصل للناس فائدة من وجوده: كالشمس للضياء، والمطر للشراب، أو من بعض أحواله: الكواكب للاهتداء بها في ظلمات البر والبحر، والشجر للاستظلال، والأنعام للركوب والحرث ونحو ذلك. وأما ما في السماوات والأرض مما لا يفيد الناس فغير مراد، مثل الملائكة في السماء والأهوية المنحبسة في باطن الأرض التي يأتي منها الزلزال" (2)
قلت: وهذه الآية دليل حاسم داحض لكل دعوى مخالفة على أن اللام للاختصاص في قوله: (لكم) ، ذلك بأن الآية السابقة لها (3) وبدونها لا يستقيم معنى الآيتين جاء فيها {اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . وما من أحد يستطيع أن يزعم بأن لام (لكم) في هذه الآية تعني الملك أو ما يشتق منه. لأن هذا الزعم يقتضي بالضرورة أن الإنسان يملك البحر وأنه أيضًا يملك السماء وما فيها أو {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} على الأقل. وما من أحد يستطيع أن يدعي ملكية الإنسان للبحر أو للملائكة ولا حتى للطير وهي تطير في طبقات من الهواء تعتبر جغرافيا من طبقات الكوكب الأرضي لأنها خاضعة لجاذبيته، بل إن الخلاف حاد شهير في جواز بيع السمك في البحر قبل أن يكون واقعا في شبكة الصائد بالرغم من أن بيعًا من هذا القبيل إنما يعني في حقيقته "التزام" من البائع للمشتري بتقديم نوع معين من السمك في وقت محدد وهو التزام يقوم على أغلب شروط العقد الصحيح كما يعينها الشرع والقانون، ومدار هذا الاختلاف، هو أن اعتبار ما في البحر ليس ملكًا للإنسان وأن الالتزام الذي يقوم عليه بيع السمك قبل اصطياده يعتمد على تصرف الملتزم في شيء لم يكن قد دخل في ملكه فأصبح قادرًا فعلًا على التصرف فيه.
__________
(1) التحرير والتنوير. ج: 25. ص: 337.
(2) وانظر أيضًا تفسير الطبري. المجلد: 9. ج: 25. ص: 87. وتفسير الرازي. المجلد: 14. ج: 27. ص: 263. وتفسير ابن كثير. ج: 4. ص:148. والدر المنثور.
(3) الجاثية: 12.(4/903)
وإذا كان هذا موقفهم مما يسر الله للإنسان استخراجه من البحر وهو الموقف الذي يرتضيه العقل ويطمئن إليه العدل، فكيف يكون الموقف من دعوى ملكية الأرض ملكية رقبة في حين أن الأرض ليست في حجمها وفي محتواها شيئًا يمكن للإنسان فردًا أو مجموعًا أن يحوزه حيازة كاملة وأن ينتفع به كله وبكل ما فيه انتفاعًا كاملا؟
وما قيل في هذه الآية عن دلالة اللام في (لكم) يقال في غيرها مثل قوله سبحانه وتعالى في سورة إبراهيم: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (1) وما من أحد يستطيع أن يدعي أن الإنسان يملك الأنهار أو يملك الليل والنهار وإن ملكية "انتفاع" أو "منفعة " , وقصارى ما يمكن استجلاؤه من هاتين الآيتين الكريمتين ومن آيتي سورة الجاثية السابقتين إباحة الانتفاع للإنسان بما يستطيع الانتفاع به من هذه المخلوقات إباحة امتنان من الله سبحانه وتعالى على عباده ودلالته على عظيم قدرته وجليل نعمته. وقد تكون هذه الآيات الأربع صالحة للاستدلال على أن الأصل في الأشياء الإباحة إذا أخذت على ظاهرها، بيد أننا نرى أنها صالحة للاستدلال على أن الله أباح الانتفاع بما في الأرض والبحر والسماوات والأنهار وما شاكلها مما يستطيع الإنسان الانتفاع به من مخلوقاته انتفاعًا لا يخرج عن دائرة الشرع، ودلالة هذه الآيات على الإباحة تقتضي أن المخلوقات قبل إباحة الانتفاع بها للإنسان كانت غير منضبط التصرف فيها بحكم شرعي فهي على الوقوف حتى جاء الشرع الكريم فبين إباحة ما أبيح وعين ما خرج من نطاق الإباحة إلى حكم آخر من أحكامه من الانتفاع بتلك المخلوقات.
10 - التكييف السني لعلاقة الإنسان بالأرض
وإذا انتقلنا إلى السنة النبوية ابتغاء ما ورد فيها قولًا وفعلًا من بيان للتكييف الشرعي للعلاقة بين الإنسان والأرض، ثم للعلاقة بينه وبين ما يحصل ويكتسبه من منافع مما في الأرض كان أبرز ما يجب الوقوف عنده واستلهامه من النصوص السنية حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض عامة وفي المزارعة والمساقاة خاصة، وفي هذا الشأن وردت نصوص قولية وفعلية اضطرب في تأويل بعضها فقهاء الحديث قبل فقهاء الرأي وخاصة أتباع المذاهب من مجتهدين ومقلدين، لذلك نؤثر أن نقف عند كل حديث من الأحاديث الواردة في الاستدلال في هذا المجال , فنستقصي روايته ونتقصى رواته ونجتلي ظروفه وظروف رواته ورواياته لنستبين إن كان فيه اضطراب أو بين نصوصه تعارض، كما يذهب جمهور فقهاء الحديث وفقهاء الرأي، ونستعين في استجلاء ذلك بما ورد من آثار كبار الصحابة وفقهائهم من اجتهادات وتصرفات مما يتصل بموضوع هذه الأحاديث مباشرة أو بالاستنباط.
__________
(1) الآيتان رقم: (32) و (33) .(4/904)
وأول حديث نقف عنده حديث رافع بن خديج:
روى مالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، وابن حبان، بألفاظ متقاربة وأسانيد مختلفة وبعضهم بأكثر من سند واحد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة بن قيس الزرقي
حديث رافع بن خديج. ونورد رواياتهم متوالية فيما يلى:
روى مالك (1)
"عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس الزرقي عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع.
قال حنظلة: فسألت رافع بن خديج: بالذهب والورق؟ قال: أما الذهب والورق فلا بأس".
وقال الشافعي (2)
"أخبرنا مالك , عن ربيعة بن عبد الرحمن - خطأ صوابه بن أبي عبد الرحمن - , عن حنظلة بن قيس , أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض فقال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض , فقال: أبالذهب والورق؟
فقال: أما بالذهب والورق , فلا بأس به)) .
__________
(1) الموطأ. ص:602.
(2) ترتيب مسند الشافعي. ج: 2. ص: 136. ج: 448.(4/905)
وقال أحمد في مسنده (1)
"حدثنا يحيى بن سعيد , عن مالك بن أنس , قال: حدثني ربيعة , عن حنظلة بن قيس , عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع. قال: قلت: بالذهب والفضة؟ قال: لا , إنما نهى عنه ببعض ما يخرج
منها , أما بالذهب والفضة فلا بأس به)) . وحدثنا أحمد أيضا ورواه ابن حبان في صحيحه (2)
"حدثنا قتيبة بن سعيد , قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد , عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة الزرقي , عن رافع بن خديج ((أن الناس كانوا يكرون المزارع في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماذيانات (3) وما سقى الربيع (4) وشيء من التبن فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كراء المزارع بهذا ونهى عنها)) وقال رافع: ولا بأس بكراء بالدراهم والدنانير.
__________
(1) الفتح الرباني. ج:15. ص:119. ج: 381 و384.
(2) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 315. ح: 5173 و5174.
(3) قال النووي (شرح صحيح مسلم. ج:10. ص:192) : أما الماذيانات فبذال معجمة مكسورة ثم ياء مثناة تحت , ثم ألف , ثم نون , ثم ألف , ثم مثناة فوق. هذا هو المشهور وحكم القاضي عن بعض الرواة فتح الذال في غير صحيح مسلم وهي مساييل المياه وقيل على ما ينبت على حافتي مسيل الماء , وقيل: ما ينبت حول السواقي وهي لفظة معربة ليست عربية.
(4) وقال النووي (شرح صحيح مسلم. ج:10. ص: 192) : وأما الربيع فهو الساقية الصغيرة وجمعه أربعاء كنبي وأنبياء وربعان كصبي وصبيان.(4/906)
وحدثنا يونس قال: حدثنا ليث , عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة بن قيس , عن رافع بن خديج أنه قال: حدثني عمي اتخذ بعضهم من اختلاف الروايات عن رافع وهو يتحدث عن عمه أو عن عميه سببًا لدعوى الاضطراب
في حديث رافع والغمز في الاحتجاج به وهي دعوى غير سليمة ولا وجيهة ذلك بأن رافعًا لم يحدث بهذا الحديث مرة ولم يروه عنه راو واحد وإنما حدث به حديثًا أكثر من مرة وصدع به فتوى ويظهر أنه اتخذ منه قضية تولى الدعوة إليها وسيأتي بيان ذلك. ونتيجة لهذا الوضع كان رافع يحدث أحيانًا عن عمه ظهير وأحيانًا عن عميه , وظاهر أنه ظهير ومظهر (انظر ترجمتها في التعليق رقم: 1ص 1234 والراجح عندنا، بل الذي نكاد نجزم به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه كرر النهي لآل خديج , فتارة كان يشهد ظهير وحده، وتارة كان يشهد ظهير ومعه أخوه مظهر وربما غيره من ذويه , فقد جاء ذكر خال رافع في بعض الروايات عنه وأن تكرار نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم آل خديج عن كراء الأرض كان لأنهم اتخذوا منه وسيلة من وسائل الكسب الذي يستغلون فيه جهود الآخرين وكان ذلك شائعًا بينهم فتكرر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيا زاجرا ملحا تتبع التصرفات الفردية والجماعية , يشهد هذا الذي تذهب إليه اختلاف الروايات عن رافع عمن نقل إليه النهي ثم ما حدث لرافع نفسه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هو مبين بالأسانيد في الأحاديث المتوالية التي سقناها مدونات السنة وبمختلف أسانيدها في ثنايا هذا الفصل. ((أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء (1) وشيء من الزرع يستثنيه صاحب الزرع، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقلت لرافع: كيف كراؤها؟ بالدينار والدرهم؟ فقال رافع: ليس بها بأس، بالدينار والدرهم)) .
قال البخاري في صحيحه (2)
"حدثنا عمرو بن خالد وحدثنا الليث عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس عن رافع بن خديج قال: حدثني عماي: ((أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء (3) أو بشيء يستثنيه صاحب الأرض، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقلت لرافع: فكيف هي بالدينار والدرهم؟ فقال رافع: ليس بها بأس بالدينار والدرهم)) .
__________
(1) راجع هامش (1) أعلاه.
(2) ج: 3. ص: 73.
(3) راجع هامش ص (116) .(4/907)
وقال مسلم في صحيحه (1)
"حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس قال: إنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض فقال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض , قال: فقلت: أبالذهب والورق؟ فقال: أما بالذهب والورق فلا بأس به)) .
حدثنا إسحاق. أخبرنا عيسى بن يونس. حدثنا الأوزاعي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن. حدثني حنظلة بن قيس الأنصاري قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق. فقال: ((لا بأس إنما كان الناس يؤاجرون
على عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الماذيانات وأقبال الجداول (2) وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به)) .
قال أبو داود في سننه (3)
"حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي. أخبرنا عيسى. حدثنا الأوزاعي.
وحدثنا قتيبة بن سعيد. حدثنا ليث.
كلاهما عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن واللفظ للأوزاعي. حدثنا حنظلة بن قيس الأنصاري قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق. فقال: لا بأس بها ((إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع , فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا. ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء مضمون معلوم فلا بأس به.))
__________
(1) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 205.
(2) قال النووي (شرح صحيح مسلم. ج:10. ص: 192) : وأما قوله: أقبال بفتح الهمزة أي: أوائلها ورؤوسها , والجداول جمع جدول هو النهر الصغير.
(3) ج: 3. ص: 258. ح: 3392 و3393) .(4/908)
وتعقبه أبو داود بقوله: وحديث إبراهيم أتم.
وقال قتيبة عن حنظلة عن رافع: قال أبو داود: ورواية يحيى بن سعيد عن حنظلة نحوه.
وحدثنا قتيبة بن سعيد , عن مالك , عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة بن قيس , أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض , فقال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض , فقلت: بالذهب والورق؟ فقال: أما بالذهب والورق فلا بأس به)) .
وقال النسائي في سننه (1)
"أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك , قال: حدثنا حجين بن المثنى , قال: حدثنا الليث , عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة بن قيس , عن رافع بن خديج , قال: حدثني عمي ((أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء وشيء من الزرع يستثني صاحب الأرض، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقلت لرافع: فكيف كراؤها، بالدينار والدرهم؟ فقال رافع: ليس بها بأس بالدينار والدرهم)) . أخبرني المغيرة بن عبد الرحمن , قال: حدثنا عمى - هو ابن يونس - قال: حدثنا الأوزاعي , عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة بن قيس , قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالدينار والورق، فقال: ((لا بأس بذلك، إنما كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول، فيسلم هذا ويهلك هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به.))
وأخبرنا عمرو بن علي , قال: حدثنا يحيى , قال: حدثنا مالك , عن ربيعة , عن حنظلة بن قيس , قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض، فقال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض، فقلت: بالذهب والورق؟ قال: لا، إنما نهى عنها بما يخرج منها، فأما الذهب والفضة فلا بأس)) .
وقال الدارقطني في سننه (2)
"حدثنا الحسين بن إسماعيل. حدثنا أحمد بن إسماعيل المدني. حدثنا مالك , عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة بن قيس الزرقي , أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض , فقال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض، فقال له: أبالذهب والورق؟ قال: أما الذهب والورق فلا بأس به)) .
__________
(1) ج: 7. ص: 42.
(2) ج: 3. ص: 36. ح: 146.(4/909)
وقال ابن حبان (1)
"أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم , قال: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم , قال: حدثنا الوليد , قال: حدثنا الأوزاعي , عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة بن قيس الزرقي , عن رافع بن خديج قال: ((كنا نكري الأرض فيستثني صاحب الأرض ما على الماذيانات وأقبال الجداول، فيهلك هذا , ويسلم هذا، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال رافع: أما بشيء مضمون معلوم فلا بأس به.))
وأخبرنا محمد بن الحسن بن خليل , قال: حدثنا هشام بن عمار , قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد , قال: حدثنا ربيعة بن أبي عبد الرحمن , عن حنظلة بن قيس , عن رافع بن خديج قال: ((كانت الأرض تنكري بالماذيانات وشيء من التبن
يستثنى به، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض.
فقال رافع: فأما الذهب والورق فلا بأس به.))
وروى عبد الرازق، والحميدي، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، والطحاوي حديث رافع عن طريق يحيى بن سعيد , عن حنظلة بن قيس الزرقي بألفاظ وأسانيد نوردها كما يلي:
قال عبد الرزاق في مصنفه (2)
"أخبرنا ابن عيينة , عن يحيى بن سعيد , عن حنظلة بن قيس الزرقي , قال: سمعت رافع بن خديج يقول: كنا أكثر الأنصار حقلًا
__________
(1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 315. ح: 5173 و5174.
(2) ج: 8. ص: 93. ح: 1453.(4/910)
قال ابن الأثير (النهاية ج: 1. ص: 416) : المحاقلة مختلف فيها , قيل: هي اكتراء الأرض بالحنطة , هكذا جاء مفسرًا في الحديث , وهو الذي يسميه الزراعون المحارثة , وقيل: هي المزارعة على نصيب معلوم كالثلث والربع ونحوهما , وقيل: هي بيع الطعام في سنبله بالبر , وقيل: بيع الزرع قبل إدراكه.
ثم قال: وفيه النسيئة , والمحاقلة مفاعلة من الحقل , وهي الزرع إذا تشعب قبل أن يغلظ سوقه , وقيل: هي من الحقل , وهي الأرض التي تزرع ويسميه أهل العراق القراح. ومنه حديث: كانت فيا امرأة تحقل على أربعاء لها سلقا. هكذا رواه بعض المتأخرين وصوابه: أي تزرع. والرواية: تزرع وتجعل. وقال ابن منظور (لسان العرب. ج:10. ص: 160) : الحقل قراح طيب , وقيل: قراح طيب يزرع فيه , وحكى بعضهم الحقلة، أبو عمرو: الحقل الموضع الجادس وهو الموضع البكر الذي لم يزرع فيه قط. وقال أبو عبيد: الحقل القراح من الأرض ومن أمثالهم: لا ينبت البقلة إلا الحقلة , وليست الحقلة بمعروفة. ثم قال: وهو يضرب مثلًا للكلمة الخسيسة تخرج من الرجل الخسيس. والحقل: الزرع إذا استجمع خروج نباته , وقيل: هو إذا ظهر ورقه واخضر , وقيل: إذا كثر ورقه وقيل: هو الزرع ما دام أخضر , وقد أحقل الزرع , وقيل: الحقل الزرع إذا تشعب ورقه من قبل أن تغلظ سوقه , ويقال منها كلها: أحقل الزرع وأحقلت الأرض. ثم قال: وفي الحديث: ما تصنعون بمحاقلكم. أي: مزارعكم؟ واحدتها محقلة من الحقل الزرع , كالمبقلة من البقل. ثم نقل حديث ابن الأثير المذكور آنفًا , ولكن قال فيه: "والرواية تزرع وتحقل" بدل "وتجعل". ثم قال: المحاقلة بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه , وقيل: بيع الزرع في سنبله بالحنطة , وقيل: المزارعة على نصيب معلوم بالثلث والربع أو أقل من ذلك أو أكثر وهو مثل المخابرة , وقيل: المحاقلة اكتراء الأرض بالحنطة , وهو الذي يسميه الزراعرن: المجاربة. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة وهو بيع الزرع في سنبله بالبر , مأخوذ من الحقل القراح. وروي عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما المحاقلة؟ قال: المحاقلة بيع الزرع بالقمح , قال الأزهري: فإن كان مأخوذًا من إحقال الزرع إذا تشعب , فهو بيع الزرع قبل صلاحه , وهو غرر , وإن كان مأخوذًا من الحقل وهو القراح وباع زرعًا في سنبله نابتًا في قراح بالبر , فهو بيع بر مجهول ببر معلوم , ويدخله الربى؛ لأنه لا يؤمن التفاضل , ويدخله الغرر لأنه مغيب في أكمامه , ويروي أبو العباس عن ابن الأعرابي قال: الحقل بالحقل أن يبيع زرعًا في قراح بزرع في قراح.
فكنا نكري الأرض، فربما أخرجت يرة (1) ولم تخرج مرة فنهينا عن ذلك، وأما بالورق فلم ننه عنه".
__________
(1) يرة: وردت الكلمة في نسخة مطبوعة بالياء المثناة قبل الراء ولم نجد لها تأويلًا , والظاهر أنها مصحفة صوابها: "برة" بالباء الموحدة قبل الراء , قال ابن الأثير في (النهاية ج: 1. ص: 117) : وفيه أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم , فقال: إن ناضح آل فلان قد أبر عليهم أي: استصعب وغلبهم من قوله: أبر فلان على أصحابه أي علاهم. وفي حديث زمزم أتاه آت , وقال: احفر برة، سماها برة لكثرة منافعها وسعة مائها.(4/911)
قال الحميدي في مسنده (1)
"حدثنا سفيان قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: أخبرني حنظلة بن قيس الزرقي , أنه سمع رافع بن خديج يقول: كنا أكثر الأنصار حقلًا وكنا نقول للذي نخابره قال ابن الأثير (النهاية: ج: 2. ص: 17) : وفيه أنه نهى عن المخابرة قيل: هي المزارعة على نصيب معين كالثلث والربع وغيرهما. والخبرة: النصيب , وقيل: هي من الخبار الأرض اللينة , وقيل: أصل المخابرة من خيبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها في أيدي أهلها على النصف من محصولها , فقيل: خابرهم أي: عاملهم في خيبر. وفيه فدفعنا في خبار من الأرض أي سهلة لينة. وفي حديث طهفة: واستخلب الخبير. الخبير: النبات والعشب شبه بخبير الإبل وهو وبرها واستخلابه: احتشاشه بالمخلب , وهو المنجل. والخبير يقع عل الوبر والزرع والأكار. وقال ابن منظور في (لسان العرب. ج: 4. ص: 228) : والخبر من مواقع الماء ما خبر المسيل في الرؤوس فتخوض فيه. وفي الحديث: فدفعنا في خبار من الأرض أي سهلة لينة، والخبار من الأرض ما لان أو استرخى وكانت فيه جحرة , والخبار الجراثيم وجحرة الجردان واحدته خبارة. وفي المثل: من تجنب الخبار أمن العثار، والخبار أرض رخوة تتعتع فيه الدواب. ثم قال: ابن الأعرابي: والخبار ما استرخى من الأرض وتحدر , وقال غيره: وهو ما تهور وساخت فيه القوائم , وخبرت الأرض خبرًا كثر خبارها , والخبر أن تزرع على النصف أو الثلث من هذا , وهي المخابرة واشتقت من خيبر؛ لأنها أول ما اقتطعت كذلك، والمخابرة: المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض وهي الخبر أيضًا بالكسر. وفي الحديث: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا حتى أخبر رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وفي الحديث: أنه نهى عن المخابرة , قيل: هي المزارعة على نصيب معين كالثلث والربع وغيرهما , وقيل: هو من الخبار الأرض اللينة. ثم قال: وقال اللحياني: هي المزارعة تعم بها , والمخابز أيضًا المؤاكرة , والخبير الأكار قال:
تجز رؤوس الأوس من كل جانب كجز عقاقير الكروم خبيرها.
رفع خبيرها على تكرير الفعل أراد: جزه خبيرها , أي: أكارها , والخبر الزرع. قلت: لا أرى أن المخابرة مشتقة من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر , إذ لا حاجة إلى ذلك مع وجود علاقة بين وجود علاقة بين أوصاف للأرض وأوصاف لنباتها وللعمل فيها ولأحوال لها مأخوذة من كلمة خبر ومشتقاتها. فتأمل.
__________
(1) ج:1. ص: 198 ح: 406.(4/912)
لك هذه القطعة ولنا هذه القطعة يزرعها لنا، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما بورق فلم ينهنا، فقيل لسفيان: فإن مالك يرويه , عن ربيعة , عن حنظلة وما كان يرجو أنه إذا كان عند يحيى، ويحيى أحفظهما , لكنا حفظناه عن يحيى".
قلت: في اللفظ التباس , لعل صوابه: "ما كان يرجو أنه كان عند يحيى , ويحيى أحفظهما , فقال سفيان: ولكنا حفظناه من يحيى".
وقد لاحظ المعلق على مسند الحميدي أن كلمة "يرجوانه" كانت في الأصلين اللذين نقل عنهما من غير نقط.
وقال البخاري في صحيحه (1)
"حدثنا محمد بن مقاتل. أخبرنا عبد الله. أخبرنا يحيى بن سعيد , عن حنظلة بن قيس الأنصاري , سمع رافع بن خديج قال:
((كنا أكثر أهل المدينة مزدرعًا كنا نكري الأرض بالناحية منها مسمى لسيد الأرض. وقال: فمما يصاب ذلك وتسلم الأرض , ومما يصاب الأرض ويسلم ذلك , فنهينا، وأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ)) .
حدثنا صدقة بن المغفل. أخبرنا ابن عيينة , عن يحيى , سمع حنظلة الزرقي , عن رافع رضي الله عنه قال: ((كنا أكثر أهل المدينة حقلًا , وكان أحدنا يكري أرضه , فيقال: هذه القطعة لي , وهذه لك , فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم)) .
قال مسلم في صحيحه (2)
"حدثنا عمرو الناقد. حدثنا سفيان بن عيينة , عن يحيى بن سعيد , عن حنظلة الزرقي , أنه سمع رافع بن خديج يقول: ((كنا أكثر الأنصار حقلًا، قال: كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه , فنهانا عن ذلك , وأما الورق فلم ينهنا)) .
__________
(1) ج: 3. ص: 68 و69.
(2) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 205.(4/913)
حدثنا أبو الربيع , حدثنا حماد. وحدثنا ابن المثنى. حدثنا يزيد بن هارون. جميعًا عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد نحوه".
قال النسائي في سننه (1)
"روى يحيى بن سعيد عن حنظلة بن قيس ورفعه، كما رواه مالك عن ربيعة. أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي في حديثه , عن حماد بن زيد , عن يحيى بن سعيد , عن حنظلة , عن رافع بن خديج قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء أرضنا , ولم يكن يومئذ ذهب ولا فضة. فكان الرجل يكري أرضه بما على الربيع والأقبال وأشياء معلومة ... وساقه)) .
رواه سالم بن عمر عن رافع بن خديج.
(سنسوقه مع رواية سالم عن ابن عمر ". قال ابن ماجه في سننه (2)
"حدثنا محمد بن الصباح. حدثنا سفيان بن عيينة , عن يحيى بن سعيد , عن حنظلة بن قيس قال: سألت رافع بن خديج قال: ((كنا نكري الأرض على أن لك ما أخرجت هذه , ولي ما أخرجت هذه , فنهينا أن نكريها بما أخرجت , ولم ننه أن نكري الأرض بالورق)) .
قال الطحاوي (3)
"حدثنا روح بن الفرج , قال: حدثنا حماد بن يحيى , قال: حدثنا سفيان , قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري , قال: حدثنا حنظلة بن قيس الزرقي , أنه سمع رافع بن خديج يقول: ((كنا أكثر أهل المدينة حقلا , وكنا نقول للذي نخابره: لك
هذه القطعة , ولنا هذه القطعة تزرعها لنا , فربما أخرجت هذه القطعة , ولم تخرج هذه شيئًا، وربما أخرجت هذه , ولم تخرج هذه شيئا، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأما بالورق فلم ينهنا)) .
__________
(1) ج: 7. ص: 42.
(2) ج: 2. ص: 281. ح: 2458.
(3) معاني الآثار. ج: 4. ص: 109.(4/914)
وروى أحمد والنسائي والطحاوي عن طريق مجاهد حديث رافع بأسانيد مختلفة وألفاظ متقاربة كالآتي:
قال أحمد في مسنده (1)
"حدثنا وكيع , قال: حدثنا شريك , عن أبي حصين , عن مجاهد , عن رافع بن خديج قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تستأجر الأرض بالدراهم المنقودة أو بالثلث والربع. حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة , عن الحكم , عن مجاهد , عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله في عن الحقل. قال الحكم: والحقل الثلث والربع)) .
حدثنا عفان , قال: حدثنا شعبة، قال الحكم: أخبرني مجاهد - أي أن شعبة قال: أخبرني الحكم عن مجاهد - عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحقل , قلت: وما الحقل؟ قال: الثلث والربع، فلما سمع ذلك إبراهيم , كره الثلث والربع , ولم ير بأسًا بالأرض البيضاء يأخذها بالدراهم)) .
حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا شعبة , عن عبد الملك بن ميسرة , عن طاوس وعطاء ومجاهد , عن رافع بن خديج قال: ((خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنهانا عن أمر كان لنا نافعًا , وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لنا مما نهانا عنه , قال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليذرها أو ليمنحها)) قال: فذكرت ذلك لطاوس , وكان يرى أن ابن عباس من أعلمهم , قال: قال ابن عباس: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض أن يمنحها خير له)) . قال شعبة: وكان عبد الملك يجمع هؤلاء طاوسًا وعطاء ومجاهدًا , وكان الذي يحدث عنه مجاهد، قال شعبة: كأنه صاحب الحديث".
وقال النسائي في سننه (2)
"أخبرنا علي بن حجر , قال: أنبأنا عبيد الله - يعني ابن عمرو - عن عبد الكريم , عن مجاهد قال: أخذت بيد طاوس حتى أدخلته على ابن رافع بن خديج , فحدثه عن أبيه , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن كراء الأرض)) ، فأبى طاوس , فقال: سمعت ابن عباس لا يرى بذلك بأسًا.
__________
(1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 115 إلى 121. ح: 369 إلى 388.
(2) ج: 7. ص: 34.(4/915)
أخبرنا قتيبة , قال: حدثنا أبو عوانة , عن أبي حصين , عن مجاهد قال: قال رافع بن خديج: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا , وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرأس والعين، نهانا أن نتقبل الأرض
ببعض خراجها)) ..
أخبرنا أحمد بن سليمان , عن عبد الله قال: حدثنا إسرائيل , عن إبراهيم بن مهاجر , عن مجاهد , عن رافع بن خديج قال: ((مر النبي صلى الله عليه وسلم على أرض رجل من الأنصار قد عرف أنه محتاج , فقال: لمن هذه الأرض؟ قال:
لفلان أعطانيها بالأجر , فأتى رافع الأنصار , فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان لكم نافعًا , وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لكم)) .
أخبرنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار , قالا: حدثنا محمد , قال: حدثنا شعبة , عن الحكم , عن مجاهد , عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحقل)) .
أخبرنا عمرو بن علي , عن خالد - وهو ابن الحارث - قال: حدثنا شعبة , عن عبد الملك , عن مجاهد قال: حدث رافع بن خديج قال: ((خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنهانا عن أمر كان لنا نافعًا , فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها أو يذرها)) .
وأخبرنا عبد الرحمن بن خالد , قال: حدثنا حجاج , قال: حدثني شعبة , عن عبد الملك , عن عطاء وطاوس ومجاهد , عن رافع بن خديج قال: ((خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنهانا عن أمر كان لنا نافعًا , وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لنا , قال: من كان له أرض فليزرعها أو ليذرها أو ليمنحها)) .
وقال الطحاوي (1)
"حدثنا إبراهيم بن مرزوق , قال: حدثنا أبو عامر , قال: حدثنا شعبة , عن الحكم , عن مجاهد , عن رافع بن خديج ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحقل)) قال شعبة: فقلت للحكم: وما الحقل؟ قال: أن تكري الأرض.
__________
(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 105 و110.(4/916)
قال أبو جعفر: أراه إنما قال: بالثلث والربع.
حدثنا أبو بكرة , قال: حدثنا يحيى بن حماد , قال: حدثنا أبو عوانة , عن سليمان عن مجاهد , عن رافع بن خديج قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا , وأمر نبي الله أنفع لنا , قال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها)) .
حدثنا يونس بن عبد الأعلى , قال: حدثنا علي بن معبد , قال: حدثنا عبد الله بن عمر , عن عبد الكريم الجزري , عن مجاهد قال: أخذت بيد طاوس حتى أدخلته على رافع بن خديج , فحدثه عن أبيه ((عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كري الأرض)) فأبى طاوس , وقال: سمعت ابن عباس أنه لا يرى به بأسًا.
وحدثنا إبراهيم بن مرزوق , قال: حدثنا وهب , قال: حدثنا شعبة , عن عبد الملك بن مرزوق , قال: حدثنا وهب , قال: حدثنا شعبة , عن عبد الملك بن ميسرة , قال: سمعت مجاهدًا , عن رافع بن خديج قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن أمر كان لنا نافعًا , وأمرنا بخير منه , فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو يمنحها)) . قال: فذكرت ذلك لطاوس , فقال: قال ابن عباس: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يمنحها أخاه خير له , أو يمنحها خيرا)) .
وروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والطحاوي وابن حبان والطبراني حديث رافع عن طريق مجاهد , عن ابن رافع عن طريق ابنه أو ابن أخيه بألفاظ وأسانيد مختلفة نوردها فيما يلي:
قال ابن أبي شيبة في الكتاب المصنف (1)
"حدثنا وكيع , قال: حدثنا عمرو بن ذر , عن مجاهد , عن ابن رافع بن خديج , عن أبيه قال: جاءنا أبو رافع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان يرفق بنا، وطاعة الله وطاعة رسوله أرفق بنا، أن يزرع أحدنا إلا أرضا يملك رقبتها أو منحة يمنحها من رجل)) .
__________
(1) ج: 6. ص: 347 ح: 1303.(4/917)
وروى عبد الرزاق في مصنفه (1)
"عن الثوري , عن منصور , عن مجاهد , عن أسيد بن ظهير يظهر أن آل خديج - إذا صح التعبير - تداول فيه اسم أسيد إما بالضم وإما بالفتح لبعض وبالضم لغيره فقد اضطرب أصحاب تراجم الرجال وبعض رواة الحديث في ضبط اسم أسيد بالفتح أو بالضم لأوله وفي ضبط نسبته لذلك ارتأينا أن ننقل كلام المعتمدين منهم ممن تيسرت لنا مؤلفاتهم. قال البخاري في (التاريخ الكبير المجلد: 2. ص: 11 في باب أسيد بفتح الألف الترجمة: 1528) : أسيد بن رافع الأنصاري المديني روى عنه بكير بن الأشج أن أخا رافع أتى عشيرته – قاله لي أحمد بن عيسى عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث , قلت: يشير إلى حديث المزارعة. وقال في (ص: 47 نفس المرجع في باب أسيد بضم الألف الترجمة 1641) : أسيد بن ظهير الحارثي الأنصاري مدني له صحبة، ثم أورد حديثًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: (الترجمة: 1642) : أسيد بن أخي رافع بن خديج الأنصاري. قال لنا موسى عن عبد الرحمن الزبيدي , عن مجاهد , عن أسيد بن رافع بن خديج ... الزرع.
وقال منصور: عن مجاهد , عن أسيد بن ظهير , عن رافع. وقال خصيف - لم نعثر على تعريف بهذا ولعل فيه خطأ مطبعيا - عن مجاهد , عن ابن رافع , عن أبيه وقال أبو حصين: عن مجاهد , قال رافع بن خديج: وقال لنا عبد الله: حدثني الليث حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز , سمع أسيد - بفتح الألف - أو أسيد - بضم الألف - بن رافع بن خديج الأنصاري أنهم منعوا المحاقلة. وقال لي أحمد: حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو. سمع بكير أن أسيد بن رافع حدثه , أن أخا رافع أتى عشيرته , فقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحقل. وقال لي قيس بن حفص: حدثنا خالد بن الحارث، سمع عبد الحميد بن جعفر. سمع أباه عن رافع بن أسيد بن ظهير , عن أبيه: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم. وقال لي محمد: أخبرنا عبد الله , سمع سعيد بن يزيد , سمع عيسى بن سهل بن رافع , سمع رافعًا جده ... نحوه. وقال الرازي في (الجرح والتعديل. ج: 2. ص: 310 - في باب تسمية من روي عنه ممن اسمه أسيد - الترجمة: 1164) : أسيد بن ظهير الحارثي الأنصاري له صحبة مدني روى عنه أبو الأبرد مولى بني خطمة سمعت أبي يقول ذلك.
__________
(1) ج: 8. ص: 95. ح: 14463.(4/918)
ثم قال (الترجمة: 1165) : أسيد بن أخي رافع بن خديج الأنصاري روى عنه مجاهد , واختلفوا عن مجاهد , فروى ابن الطباع عن أبي عوانة عن أبي حصين عن مجاهد عن ابن رافع بن خديج عن أبيه , سمعت أبي يقول ذلك. وقال ابن حبان في (الثقات. ج: 3. ص: 7) : أسيد بن ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم مدني حارثة بن الحارث بن الخزرج الأنصاري عم رافع بن خديج كنيته أبو ثابت , قلت: الظاهر أن في العبارة خطأ من الطابع أو الناسخ صوابه: "ابن عم رافع بن خديج، إلا أن يكون ابن حبان استعمل كلمة: "عم رافع بن خديج" على أنها عطف بيان أو بدل من "ظهير". وآية ذلك أنه قال: عن ظهير في (نفس المرجع. ج: 4. ص: 206) عندما ترجم له "عم رافع بن خديج ". ثم قال (نفس المرجع: ج: 4. ص: 42) : أسيد بن أخي رافع بن خديج يروي عن عمه رافع بن خديج روى عنه مجاهد. وقال المزي في (تهذيب الكمال. ج: 3. ص: 254. الترجمة: 518) : أسيد بن رافع بن خديج الأنصاري أن أخا رافع قال لقومه: لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء كان لهم رافقًا. الحديث. روى عنه بكير بن عبد الله بن الأشج ولم ينسبه إلى جده وعبد الرحمن بن هرمز. قال الدارقطني: أخرجه البخاري في باب أسيد - بفتح الألف - وفي باب أسيد - بضم الألف - في الموضعين جميعًا , والصواب أسيد - يعني بالضم - والله أعلم. وروى له النسائي هذا الحديث الواحد. ثم قال (نفس المرجع. ص: 255 الترجمة: 519) : أسيد بن ظهير بن رافع الأنصاري الأوسي أخو عباد بن بشر لأمه وابن عم رافع بن خديج , وقيل: ابن أخيه , له ولأبيه صحبة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عن رافع بن خديج , وروى عنه ابنه رافع بن أسيد بن ظهير , وزياد أبو الأبرد مولى بني خطمة وعكرمة بن خالد ومجاهد بن جبر , واستصغر يوم أحد , وشهد الخندق , ومات في خلافة مروان بن الحكم , روى عنه الأربعة. وقال ابن حجر في (تهذيب التهذيب: ج:1. ص: 348 و349 ترجمة: 634) : أسيد بن رافع بن خديج أن أخا رافع قال لقومه: نهى النبي صلى الله عليه وسلم القوم عن شيء كان لهم رافقًا. الحديث. وعنه الأعرج وبكير بن الأشج. قال الدارقطني: الصواب فيه: أسيد بالضم وقد ذكره البخاري في الوجهين. قلت - القائل ابن حجر -: وقد ذكر فيه البخاري في التاريخ اختلافًا كثيرًا في حديثه وبكير بن الأشج لم ينسبه إلى جده من طريق مجاهد عن أسيد بن أخي رافع بن خديج , واختلف على مجاهد فيه أيضًا.(4/919)
والحديث واحد، وذكر ابن حبان في الثقات في التابعين تبعًا للبخاري: أسيد بن أخي رافع بن خديج وفي أتباع التابعين أسيد بن رافع عن الحجازيين وعنه بكير بن الأشج , ثم قال (الترجمة: 635) : أسيد بن ظهير بن رافع الأنصاري الأوسي أخو عباد بن بشر لأمه , قيل: إنه ابن أخي رافع بن خديج وقيل: ابن عمه ولأبيه ظهير صحبة. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن رافع بن خديج وعنه ابنه رافع وزياد أبو الأبرد وعكرمة بن خالد ومجاهد، استصغر يوم أحد وشهد الخندق ومات في خلافة مروان بن الحكم. قلت - القائل هو ابن حجر -: وقال ابن عبد البر: توفي في خلافة عبد الملك بن مروان , وفرق ابن حبان والحاكم بين أسيد بن ظهير الصحابي وبين أسيد بن أخي رافع بن خديج الذي يروي عنه أبو الأبرد , فقال الحاكم: لا يصح صحبته , لأن في إسناده أبا الأبرد , وهو مجهول , وقال ابن حبان: قيل: له صحبة , ولا يصح عندي؛ لأن إسناد خبره فيه اضطراب , وهكذا قال في ثقات التابعين وذكر قبل ذلك أسيد بن ظهير في الصحابة ولم يتردد والذي روى عنه أبو الأبرد , فقد صحح الترمذي أنه أسيد بن ظهير صاحب الترجمة وصحح حديثه. وقال ابن حجر في (الإصابة. ج:1. ص: 49 الترجمة: 188) : أسيد بن ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن عمرو بن زيد بن جشم بن حارثة الأنصاري الحارثي بن عم رافع بن خديج , يكنى أبا ثابت , له ولأبيه صحبة، قال البخاري: مدني يماني له صحبة وأخرج له أصحاب السن. قال الترمذي بعد أن أخرج له حديثًا في الصلاة في مسجد قباء: لا يصح لأسيد بن ظهير غيره. قلت - القائل هو الحافظ ابن حجر-: وقد أخرج له ابن شاهين حديثًا آخر لكن فيه اختلاف على رواته , قال ابن عبد البر: مات في خلافة عبد الملك بن مروان. وقال المقدسي في (الاستبصار. ص: 239) : أسيد بن
ظهير بن رافع يكنى أبا ثابت , وهو أخو عباد بن بشر لأمه , استصغره رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فرده وشهد الخندق وما بعدها. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أتى مسجد قباء وصلى فيه كان كعمرة.
توفي في خلافة عبد الملك بن مروان. بن أخي رافع بن خديج قال: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث والربع والنصف ويشترط ثلاث جداول والقصارة.(4/920)
قال ابن الأثير (النهاية: ج: 4. ص: 70) : وفي حديث المزارعة: إن أحدهم كان يشترط ثلاثة جداول والقصارة، والقصارة بالضم ما يبقى من الحب في السنبل مما لا يتخلص بعدما يداس , وأهل الشام يسمونه القصري بوزن قبطي , وقد تكرر في الحديث. وقال ابن منظور (لسان العرب. ج:5. ص: 100 و101) : والقُصَارة والقِصْرِي والقَصَرَة والقِصْرَى والقَصَر، الأخيرة عن اللحياني ما يبقى في المنخل بعد الانتخال، وقيل: هو ما يخرج من الفت , وما يبقى في السنبل من الحب بعد الدراسة الأولى , وقيل: القشرتان اللتان على الحبة , سفلاهما الحشرة , وعلياهما القصرة. الليث: والقصر كعابير الزرع الذي يخلص من البر وفيه بقية من الحب , يقال: في القِصْرى على فعلى. الأزهري: وروى أبو عبيد حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم في المزارعة أن أحدهم كان يشترط ثلاثة جداول والقصارة والقصارة بالضم ما سقى الربيع , فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال أبو عبيد: والقصارة ما بقي في السنبل من الحب مما لا يتخلص بعد ما يداس. فقال: وأهل الشام يسمونه القصري بوزن القبطي. قال الأزهري: هكذا أقرأنيه ابن هاجك عن ابن جبلة عن أبي عبيد بكسر القاف وسكون الصاد وكسر الراء وتشديد الياء
قال: وقال عثمان بن سعيد: سمعت أحمد بن صالح يقول: هي القصرى إذا يبس الزرع فغربل فالسنابيل الغليظة هي القصرى على فعلى وما سقى الربيع وكان العيش , إذ ذاك شديدًا وكنا نعمل فيها بالحديد وما شاء الله , ونصيب منها منفعة، فأتى رافع بن خديج فقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان نافعًا , وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن الحقل ويقول: من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع وينهى عن المزابنة)) (1) والمزابنة أن يكون الرجل له المال العظيم من النخيل فيأتيه الرجل ويقول: قد أخذته بكذا وكذا وسقا من ثمر"
__________
(1) قال ابن الأثير (النهاية ج: 2. ص: 294 و295) : تكرر ذكر المزابنة في الحديث وهي بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر وأصله من الزبن وهو الدفع , كأن كل واحد من المتابيعين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه , وإنما نهى عنه لما يقع فيه من الغبن والجهالة , وفي حديث علي رضي الله عنه: كالناب الضروس تزبن برجلها أي: تدفع , وفي حديث معاوية ربما زبنت فكسرت أنف حالبها. يقال للناقة إذا كان من عادتها أن تدفع حالبها عن حلبها: زبون. ومنه حديث: لا يقبل الله صلاة الزِّبِّين وهو الذي يدفع الأخبثين وهو بوزن السِّجِّيل هكذا رواه بعضهم والمشهور بالنون.(4/921)
وقال أحمد في مسنده (1)
"حدثنا عبد الرزاق , قال: أخبرنا سفيان , عن منصور , عن مجاهد , عن أسيد بن ظهير - ابن أخي رافع بن خديج - قال: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطى بالثلث والربع والنصف , ويشترط ثلاث جداول والقصارة وما سقى الربيع , وكان العيش إذ ذاك شديدًا وكان يعمل فيها بالحديد وما شاء الله , ويصيب منها منفعة، فأتانا رافع ابن خديج , فقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن أمر كان لكم نافعًا وطاعة الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لكم , إن النبي صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن الحقل , ويقول: من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع , وينهاكم عن المزابنة)) ، والمزابنة: أن يكون الرجل له المال العظيم من النخل , فيأتيه الرجل , فيقول: قد أخذته بكذا وكذا وسقا من ثمر.
وحدثنا وكيع. حدثنا عمرو بن ذر , عن مجاهد , عن ابن رافع بن خديج , عن أبيه قال: جاءنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان يرفق بنا، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أرفق، نهانا أن نزرع أرضًا يملك أحدنا رقبتها أو منحة رجل)) .
وقال أبو داود في سننه (2)
"حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , حدثنا وكيع. حدثنا عمرو بن ذر , عن مجاهد , عن ابن رافع بن خديج , عن أبيه قال: جاءنا أبو رافع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان يرفق بنا , وطاعة الله وطاعة رسوله أرفق بنا، نهانا أن يزرع أحدنا إلا أرضًا يملك رقبتها أو منيحة يمنحها رجل)) .
__________
(1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 116و117 ح: 372 و373.
(2) ج: 3. ص:260. ح: 3397 و3398.(4/922)
وحدثنا محمد بن كثير. أخبرنا سفيان , عن منصور , عن مجاهد , أن أسيد بن ظهير , قال: جاءنا رافع بن خديج وقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن أمر كان لكم نافعا , وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن الحقل , وقال: من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع)) .
قال أبو داود: وهكذا رواه شعبة ومفضل بن مهلهل , عن منصور قال شعبة: أسيد بن أخي رافع بن خديج".
قال النسائي في سننه (1)
"أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك , قال: حدثنا يحيى - وهو ابن آدم - قال: حدثنا مفضل - وهو ابن مهلهل - عن منصور , عن مجاهد , عن أسيد بن ظهير قال: جاءنا رافع ابن خديج فقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن
الحقل , والحقل: الثلث والربع، وعن المزابنة , والمزابنة: شراء ما في رؤوس النخل بكذا وكذا وسقا من ثمر)) .
وأخبرنا محمد بن إبراهيم , قال: أخبرنا خالد - هو ابن الحرث - قال: قرأت على عبد الحميد بن جعفر. أخبرني أبي , عن رافع بن أسيد بن ظهير , عن أبيه أسيد بن ظهير , أنه خرج إلى قومه إلى بني حارثة , فقال: يا بني حارثة قد دخلت عليكم مصيبة , قالوا: ما هي؟ قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض. قلنا: يا رسول الله، إنا نكريها بشيء من الحب. قال: لا. وكنا نكريها بالتبن. قال: لا. وكنا نكريها بما على الربيع الساقي. قال: لا , ازرعها أو امنحها أخاك)) .
وأخبرنا محمد بن المثنى , قال: حدثنا محمد , قال: حدثنا شعبة , عن منصور , سمعت مجاهدًا يحدث , عن أسيد بن ظهير قال: أتانا رافع بن خديج , فقال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم، نهاكم عن الحقل , وقال: من كانت له أرض فليمنحها أو ليدعها , ونهى عن المزابنة، والمزابنة: الرجل يكون له المال العظيم من النخل، فيجيء الرجل , فيأخذها بكذا وكذا وسقا من ثمر))
__________
(1) ج: 7. ص 33(4/923)
أخبرني محمد بن قدامة , قال: حدثنا جرير , عن منصور , عن مجاهد , عن أسيد بن ظهير , قال: أتى علينا رافع بن خديج , فقال: ولم أفهم، فقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان ينفعكم , وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم مما ينفعكم، نهاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحقل , والحقل: المزارعة بالثلث والربع، فمن كانت له أرض فاستغنى عنها , فليمنحها أخاه أو ليدع، ونهاكم عن المزابنة، والمزابنة: الرجل يجيء إلى النخل الكبير بالمال العظيم , فيقول: خذه بكذا وكذا وسقا من ثمر ذلك العام)) .
وأخبرني إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق , قال: حدثنا عبد الواحد , قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن عن مجاهد قال: حدثني أسيد بن رافع بن خديج , قال: قال رافع بن خديج: ((نَهَاكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا وَطَاعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَعُ لَنَا , قَالَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا , فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا فَلْيُزْرِعْهَا أَخَاهُ)) .
قال ابن ماجه في سننه (1)
"حدثنا محمد بن يحيى , أنبأنا عبد الرزاق. أنبأنا الثوري , عن منصور , عن مجاهد , عن أسيد بن ظهير بن أخي رافع بن خديج , عن رافع بن خديج قال: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث والربع والنصف , واشترط ثلاث
جداول والقصارة , وما يسقي الربيع , وكان العيش إذ ذاك شديدا , وكان يعمل فيها بالحديد وبما شاء الله , ويصيب منها منفعة، فأتانا رافع بن خديج فقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان لكم نافعًا , وطاعة الله وطاعة رسوله أنفع لكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن الحقل ويقول: من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع)) .
ثلاث جداول؛ أي: ثلاث حصص من جداول. والجدول: النهر الصغير أي: ما يخرج عن أطرافه، والقصارة بالضم ما بقي من الحب في السنبل بعدما يداس وما يسقي الربيع هو النهر الصغير".
قال الطحاوي (2)
__________
(1) ج: 2. ص: 822. ح: 2460.
(2) معاني الآثار. ج: 4. ص: 105.(4/924)
"حدثنا ابن أبي داود , قال: حدثنا يحيى بن إبراهيم , قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد , قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي , قال: سمعت مجاهدًا يقول: حدثنى أسيد بن أخي رافع بن خديج , قال: قال رافع بن خديج ... فذكر مثله , غير أنه قال: ((فليزرعها , فإن عجز عنها فليزرعها أخاه)) .
قال ابن حبان (1)
"أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى , قال: حدثنا أبو خيثمة , قال: حدثنا جرير , عن منصور , عن مجاهد , عن أسيد بن ظهير قال: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه وافتقر إليها غيره زارعها بالثلث والربع والنصف وكان يشترط ثلاث جداول وما سقى الربيع , وكنا نعالجها علاجًا شديدًا بالبقر والحديد وبأشياء , وكنا نصيب منها , فأتانا رافع بن خديج فقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان ينفعكم , عن الحقل , والحقل: الثلث والربع , فمن كانت له أرض فاستغنى عنها , فليمنحها أخاه أو ليدع , ونهاكم عن المزابنة)) .
قال الطبراني (2)
"حدثنا حفص بن عمر بن الصباح الرقي. حدثنا قبيصة بن عقبة. حدثنا سفيان , عن منصور , عن مجاهد , عن أسيد بن ظهير قال: جاءنا رافع بن خديج ((فذكر أن رسول الله في نهى عن المحاقلة , وقال: من كان له
أرض فاستغنى عنها فليمنحها أخاه , ونهى عن المزابنة)) .
وروى الطبراني حديث رافع عن طريق مجاهد عن ابن عمر فقال:
قال الطبراني في معجمه الكبير أيضًا:
"حدثنا معاذ بن المثنى , حدثنا مسدد , حدثنا حماد بن زيد , عن أيوب , عن أبي الخليل , عن مجاهد قال: قال ابن عمر: لقد منعنا رافع بن خديج نفع أرضنا".
__________
(1) الإحسان بترتيب صحيح بن حبان. ج: 7. ص: 315. ح: 5175.
(2) المعجم الكبير. ج: 4. ص: 241 و242. ح: 4253 و4256.(4/925)
وروى حديث رافع عن طريق سليمان بن يسار كل من أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والطحاوي، وفيما يلي رواياتهم بأسانيدها وألفاظها المختلفة:
قال أحمد في مسنده (1)
"حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب , عن يعلى بن حكيم , عن سليمان بن يسار , عن رافع بن خديج قال: ((كنا نحاقل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى، فجاء ذات يوم رجل من عمومتي فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا , وطاعة الله ورسوله أنفع لنا , نهانا أن نحاقل فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى , وأمر رب الأرض أن يزرعها أو يزرعها , وكره كراءها وما سوى ذلك)) .
وقال أبو داود في سننه (2)
"حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة. حدثنا خالد بن الحارث. حدثنا سعيد , عن يعلى بن حكيم , عن سليمان بن يسار , أن رافع بن خديج قال: ((كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فذكر أن بعض عمومته أتاه فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا , وطواعية الله ورسوله أنفع. قال: قلنا وما ذاك؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو فليزرعها أخاه , ولا يكاريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى)) .
وحدثنا محمد بن عبيد. حدثنا حماد بن زيد , عن أيوب قال: كتب إلى يعلى بن حكيم , أني سمعت سليمان بن يسار بمعنى إسناد عبيد الله وحديثه".
وقال النسائي في سننه (3)
__________
(1) الفتح الرباني ج: 15 ص: 118. ح: 378.
(2) ج: 3. ص: 259. ح: 3395 و3396.
(3) ج:7. ص:41.(4/926)
"أخبرنا زياد بن أيوب , قال: حدثنا ابن علية , قال: أنبأنا أيوب , عن يعلى بن حكيم , عن سليمان بن يسار , عن رافع بن خديج قال: ((كنا نحاقل بالأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى، فجاء ذات يوم رجل من عمومتي , فقال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا , وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهانا أن نحاقل بالأرض ونكريها بالثلث والربع والطعام المسمى , وأمر رب الأرض أن يزرعها أو يزرعها , وكره كراءها وما سوى ذلك)) .
أخبرني زكرياء بن يحيى , قال: حدثنا محمد بن عبيد , قال: حدثنا حماد , عن أيوب قال: كتب إلي يعلى بن حكيم أني سمعت سليمان بن يسار يحدث عن رافع بن خديج قال: كنا نحاقل الأرض نكريها بالثلث وبالربع وبالطعام المسمى.
وأخبرنا إسماعيل بن مسعود قال: حدثنا خالد بن الحارث , عن سعيد , عن يعلى بن حكيم , عن سليمان بن يسار , أن رافع بن خديج قال: ((كنا نحاقل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فزعم أن بعض عمومته أتاه , فقال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا , وطواعية الله ورسوله أنفع لنا. قلنا: وما ذاك؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه , ولا يكاريها بثلث ولا ربع ولا طعام مسمى)) . وقال ابن ماجه في سننه (1)
"حدثنا حميد بن مسعدة. حدثنا خالد بن الحارث , حدثنا سعيد بن أبي عروبة , عن يعلى بن حكيم , عن سليمان بن يسار , عن رافع بن خديج قال: ((كنا نحاقل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فزعم أن بعض قومه أتاهم , فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فلا يكريها بطعام مسمى)) .
وقال الطحاوي (2)
"حدثنا يونس , قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني جرير بن حازم , عن يعلى بن حكيم , عن سليمان بن يسار , عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها بالثلث ولا بالربع ولا بطعام مسمى)) .
__________
(1) ج: 2. ص: 823. ح: 2465.
(2) معاني الآثار. ج: 4. ص: 106 و109.(4/927)
وحدثنا ابن أبي داود , قال: حدثنا محمد بن المنهال , قال: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا ابن أبي عروبة , عن يعلى بن حكيم , عن سليمان بن يسار , عن رافع بن خديج قال: ((كنا نحاقل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمحاقلة أن يكري الرجل أرضه بالثلث أو الربع أو طعام مسمى , فبينا أنا ذات يوم , إذ أتاني بعض عمومتى , فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعًا , فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع , قال: من كانت له أرض فليمنحها أخاه , ولا يكريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى)) .
وروى حديث رافع عن طريق أبي النجاشي مولاه كل من أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه وابن حبان والطحاوي.
قال أحمد في مسنده (1)
"حدثنا هاشم بن القاسم , قال: حدثنا عكرمة , عن أبي النجاشي مولى رافع بن خديج , قال: سألت رافعًا في كراء الأرض، فقلت: إن لي أرضًا أكريها، فقال رافع: لا تكريها بشيء , فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كانت له أرض فليزرعها , فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه , فإن لم يفعل فليدعها)) . فقلت له: أرأيت إن تركته وأرضي فإن زرعها ثم بعث إلي من التبن , قال: لا تأخذ منها شيئًا ولا تبنًا. قلت: إني لم أشارطه , إنما أهدى إلي شيئًا , قال: لا تأخذ منه شيئًا".
قال البخاري في صحيحه (2)
__________
(1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 116. ح: 370.
(2) ج:3. ص:71.(4/928)
"حدثنا محمد بن مقاتل. أخبرنا عبد الله. أخبرنا الأوزاعي , عن أبي النجاشي (تابعي ثقة اسمه عطاء بن مصيب) مولى رافع بن خديج. سمعت رافع بن خديج بن رافع , عن عمه ظهير بن رافع قال: قال ظهير ذكره ابن حبان في (الثقات. ج: 3. ص: 206) فقال: ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم الأنصاري من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج عم رافع بن خديج , له صحبة. ثم أورد حديثه في المزارعة عن طريق أبي النجاشي وقد نقلناه هنالك. وقال المقدسي في (الاستبصار. ص: 239) : مظهر وظهير ابنا رافع بن عدي بن زيد بن جشم عما رافع بن خديج بن رافع , شهدا أحدًا , وشهد ظهير العقبة الثانية , ولم يشهد بدرا , وشهد أحدًا مع أخيه مظهر بن رافع , وقتل مظهر بن رافع بخيبر , وقتله غلمان له في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأجلى أهل خيبر من أجل ذلك؛ لأنه كان يأمرهم. وقال ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج:5. ص: 37. الترجمة: 64) : ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي المدني شهد العقبة الثانية , واختلف في شهوده بدرًا , وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في المخابرة , وعنه ابن أخيه رافع بن خديج وفي الحديث اختلاف. والله أعلم. وذكره في (الإصابة. ج: 2. ص: 741. الترجمة: 4328) فقال: ظهير - بالتصغير - بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة الأنصاري الأوسي الحارثي شهد بدرًا , وذكره موسى بن عقبة وابن إسحاق فيمن شهد العقبة. وذكر ابن عبد البر في (الاستيعاب - نفس المرجع - على الهامش) فقال: ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحرث بن الخزرج بن عمرو , وهو النبيت بن مالك بن الأوس شهد العقبة الثانية وبايع النبي صلى الله عليه وسلم بها , ولم يشهد بدرًا , وشهد أحدًا وما بعدها من المشاهد هو وأخوه مظهر بن رافع فيما قال ابن إسحاق وغيره , وهو عم رافع بن خديج , ووالد أسيد بن ظهير , روى عنه رافع بن خديج. وقال ابن حجر في (الإصابة ج: 3. ص: 426. الترجمة: 8035) : مظهر بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة الأنصاري الحارثي عم رافع بن خديج ضبطه ابن ماكولا - بضم الميم وفتح الظاء وتشديد الهاء المكسورة - قال: له ولأخيه ظهير بالتصغير صحبة ورواية , روى عنهما ابن أخيهما رافع. قلت - القائل هو ابن حجر -: ورواية رافع عن عميه في الصحيح بالإيهام وسمي ظهيرًا في رواية , ويقال: اسم آخر مهير بالميم مصغرا أيضًا ومظهر. وذكره الواقدي فيمن شهد أحدًا وعاش في خلافة عمر , فقتله أعلاج من عبيده بخيبر , وكان أقامهم يعملون له في أرضه , فحملهم اليهود على ذلك. وقال ابن عبد البر في (الاستيعاب على هامش المرجع السابق. ص: 6519) : مظهر بن رافع أخو ظهير بن رافع لأبيه وأمه وهما عما رافع بن خديج لهما جميعًا صحبة , روى عنهما ابن أخيهما رافع بن خديج , شهد مظهر أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأدرك خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال الواقدي:
حدثني محمود بن يحيى بن أبي حثمة , عن أبيه قال: أقبل مظهر بن الحارث بأعلاج من الشام ليعملوا له في أرضه , فلما نزل خيبر أقام بها ثلاثًا , فحرضت يهود الأعلاج على قتل مظهر ودسوا بسكينين أو ثلاث فلما خرجوا من خيبر وثبوا عليه فبعجوا بطنه , فقتلوه ثم انصرفوا إلى خيبر فزودهم يهود قوتهم حتى لحقوا بالشام , وجاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الخبر بذلك , فقال: إني خارج إلى خيبر وقاسم ما كان لها من الأموال وحاد لها حدودها ومجلي اليهود عنها , فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: أقركم ما أقركم الله , وقد أذن الله في إجلائهم , ففعل ذلك بهم.(4/929)
((لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا رافقًا. قلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق. قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلت: نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من الثمر والشعير , قال: لا تفعلوا ازرعها أو أزرعوها أو أمسكوها)) . قال رافع: قلت: سمعًا وطاعة".
وقال مسلم في صحيحه (1)
"حدثني إسحاق بن منصور. أخبرنا أبو مسهر. حدثني يحيى بن حمزة أبو عمرو الأوزاعي , عن أبي النجاشي مولى رافع بن خديج , عن رافع , أن ظهير بن رافع وهو عمه قال: أتاني ظهير , فقال: ((لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقًا , فقلت: وما ذاك؟ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق. قال: سألني كيف تصنعون بمحاقلكم؟ قلت: نؤاجرها يا رسول الله على الربيع أو الأوسق من الثمر أو الشعير , قال: فلا تفعلوا، ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها)) .
وحدثنا محمد بن حاتم. حدثنا عبد الرحمن بن مهدي , عن عكرمة , عن عمار , عن أبي النجاشي , عن رافع , عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا , ولم يذكر عن عمه ظهير.
ورواه - يعني حديث ابن عمر - أبو النجاشي عطاء بن صهيب , واختلف فيه.
__________
(1) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 205.(4/930)
أخبرنا أبو بكر بن إسماعيل الطبراني , قال: حدثنا عبد الرحمن بن يحيى , قال: حدثنا مبارك بن سعيد , قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير , قال: حدثني أبو النجاشي , قال: حدثني رافع بن خديج , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرافع: أتؤاجرون محاقلكم على الربع وعلى الأوساق من الشعير؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تفعلوا ازرعوها أو أعيروها أو أمسكوها)) .
خالفه الأوزاعي فقال: عن رافع , عن ظهير بن رافع. أخبرنا هشام بن عمار , قال: حدثنا يحيى بن حمزة , قال: حدثني الأوزاعي , عن أبي النجاشي , عن رافع قال: أتانا ظهير بن رافع , فقال: ((نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا رافقًا , قلت: وما ذاك؟ قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حق، سألني: كيف تصنعون في محاقلكم؟ قلت: نؤاجرها على الربع والأوساق من الثمر أو الشعير، فقال: لا تفعلوا ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها)) رواه بكير بن عبد الله بن الأشج عن أسيد بن رافع".
وقال النسائي في سننه (1)
"أخبرنا أبو بكر محمد بن إسماعيل الطبراني , قال: حدثنا عبد الرحمن بن يحيى , قال: حدثنا مبارك بن سعيد , قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير , قال: حدثني أبو النجاشي , قال: حدثني رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرافع: أتؤاجرون محاقلكم؟ قلت: نعم يا رسول الله، نؤاجرها على الربع وعلى الأوساق من الشعير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا , ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها)) .
خالفه الأوزاعي , فقال: عن رافع عن ظهير بن رافع.
وأخبرنا هشام بن عمار , قال: حدثنا يحيى بن حمزة , قال: حدثني الأوزاعي , عن أبي النجاشي , عن رافع قال: أتانا ظهير بن رافع , فقال: ((نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا رافقًا , قلت: وما ذاك؟ قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حق، سألني: كيف تصنعون في محاقلكم؟ قلت: نؤاجرها على الربع والأوساق من الثمر أو الشعير , قال: فلا تفعلوا , ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها)) .
رواه بكير بن عبد الله بن الأشج , عن أسيد بن رافع , فجعل الرواية لأخي رافع.
__________
(1) ج: 7. ص: 49.(4/931)
وقال ابن ماجه في سننه (1)
"حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي. حدثنا الوليد بن مسلم. حدثنا الأوزاعي. حدثنا أبو النجاشي , أنه سمع رافع بن خديج يحدث , عن عمه ظهير قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا رافقًا، فقلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق , فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلنا: نؤاجرها على الثلث والربع والأوسق من البر والشعير وقال: لا تفعلوا , ازرعوها أو أزرعوها)) .
وقال ابن حبان (2)
"أخبرنا ابن مسلم , قال: حدثنا عبد الرحمن. حدثنا الوليد , قال: حدثنا الأوزاعي , قال: حدثنا أبو النجاشي , أنه سمع رافع بن خديج يحدث , عن عمه ظهير بن رافع قال: ((نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا موافقًا، فقلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق. فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلنا: نؤاجرها على الثلث والربع والأوسق من البر والشعير , قال: فلا تفعلوا , ازرعوها أو أزرعوها)) .
وقال أيضًا في "كتاب الثقات" عند ترجمته لظهير:
حدثنا عمرو بن محمد الهمذاني , قال: حدثنا عمرو بن عثمان , قال: حدثنا الوليد بن مسلم , عن الأوزاعي قال: حدثنا أبو النجاشي , قال: سمعت رافع بن خديج يحدث , عن عمه ظهير بن رافع قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقًا , قلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلنا: نؤاجرها على الربع أو على الأوسق من التين - لعل فيه خطأ مطبعيًا صوابه: "من التبن " بالموحدة لا بالمثناة، كما ورد في الروايات الأخرى - والشعير , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تفعلوا , ازرعوها أو أزرعوها)) .
وقال الطحاوي (3)
__________
(1) ج: 2. ص: 821. ح: 2459.
(2) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 313. ح: 5168 الثقات. ج: 3. ص:206.
(3) معاني الآثار ج: 4. ص: 106.(4/932)
"حدثنا أبو بكرة , قال: حدثنا عمر بن يونس , قال: حدثنا عكرمة بن عمار , قال: حدثني أبو النجاشي مولى رافع بن خديج , قال: قلت لرافع: إن لي أرضًا أكريها , فنهاني رافع , وأراه قال لي: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض , قال: إذا كانت لأحدكم أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه , فإن لم يفعل فليدعها ولا يكريها بشيء. فقلت: أرأيت إن تركتها فلم أزرعها ولم أكرها بشيء فزرعها قوم فوهبوا لي من نباتها شيئًا آخذه؟ قال: لا)) .
وروى أبو داود حديث رافع عن طريق عمران بن سهل فقال (1)
"قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني قلت له: حدثك ابن المبارك , عن سعيد بن أبي شجاع , حدثني عثمان بن سهل بن رافع بن خديج , قال: ((إني يتيم في حجر رافع بن خديج وحججت معه , فجاءه أخي عمران بن سهل , فقال: أكرينا أرضنا فلانًا بمائتي درهم , فقال: دعه فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .
وروى النسائي حديث رافع عن طريق أسيد بن رافع , فقال (2)
"أخبرنا محمد بن حاتم , قال: حدثنا حبان , قال: حدثنا عبد الله بن المبارك , عن الليث , قال: حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج , عن أسيد بن رافع بن خديج , أن أخا لرافع بن خديج قال لقومه: ((قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم عن شيء كان لكم رافقًا وأمره طاعة وخير نهى عن الحقل)) .
وروى عبد الرزاق حديث رافع عن طريق أيوب عن الزرقي فقال (3)
__________
(1) سنن أبي داود ج: 3. ص: 261.
(2) سنن النسائي ج: 7. ص: 49.
(3) المصنف. ج:8. ص: 96. ح: 14464.(4/933)
"أخبرنا معمر , عن أيوب , عن الزرقي , عن رافع بن خديج قال: ((دخل علي خالي يومًا , فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم عن أمر كان لكم نافعًا , وطواعية الله ورسوله أنفع لنا وأنفع لكم , ومر على زرع , فقال: لمن هذا؟ فقالوا: لفلان. فقال: لمن الأرض؟ فقالوا: لفلان. قال: فما شأن هذا؟ قالوا: أعطاه إياه على كذا وكذا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا. ونهى عن الثلث والربع وكراء الأرض. قال أيوب: فقيل لطاوس: إن ههنا ابنا لرافع بن خديج يحدث بهذا الحديث , فدخل ثم خرج , فقال: قد حدثني من هو أعلم من هذا , إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على زرع فأعجبه , فقال: لمن هذا؟ قالوا: لفلان , قال: لمن الأرض؟ قالوا: لفلان , قال: وكيف؟ قالوا: أعطاه إياها على كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأن يمنح أحدكم أخاه خير له. ولم ينه عنه)) .
وروى النسائي حديث رافع عن طريق أبي سلمة والقاسم فقال: (1)
"أخبرنا زكريا بن يحيى , قال: حدثنا محمد بن يزيد بن إبراهيم , قال: حدثنا عبيد الله بن حمران , قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر , عن الأسود بن العلاء , عن أبي سلمة , عن رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة)) .
رواه القاسم بن محمد عن رافع بن خديج.
وأخبرنا عمرو بن علي , قال: حدثنا أبو عاصم , قال: حدثنا عثمان بن مرة , قال: سألت القاسم عن المزارعة , وحدث عن رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزارعة)) .
قال أبو عبد الرحمن مرة أخرى:
__________
(1) سنن النسائي. ج: 7. ص: 39.(4/934)
أخبرنا عمرو بن علي , قال: قال أبو عاصم , عن عثمان بن مرة قال: سألت القاسم عن كراء الأرض , فقال: قال رافع بن خديج ((: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .
وروى النسائي حديث رافع عن ابن شهاب وسعيد بن المسيب مرسلًا , فقال (1)
"أخبرنا أحمد بن سليمان , قال: حدثنا عبد الله بن موسى , قال: أنبأنا إسرائيل , عن طارق , عن سعيد قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة)) قال سعيد: فذكر نحوه. وروى الزهري الكلام الأول عن سعيد فأرسله.
قال الحارث بن مسكين - قراءة عليه وأنا أسمع - عن ابن القاسم , قال: حدثنا مالك , عن ابن شهاب , عن سعيد بن المسيب ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة)) .
رواه محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة , عن سعيد بن المسيب , فقال: عن سعد بن أبي وقاص.
وأخبرنا محمد بن خالد بن خلي , قال: حدثنا بشر بن شعيب , عن أبيه , عن الزهري , قال: بلغنا أن رافع بن خديج كان يحدث أن عميه - وكان يزعم شهدا بدرًا - ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .
رواه عثمان بن سعيد عن شعيب , ولم يذكر عميه.
وقال الحارث بن مسكين - قراءة عليه وأنا اسمع - عن ابن وهب , قال: أخبرني أبو خزيمة عبد الله بن طريف , عن عبد الكريم بن الحارث عن ابن شهاب , أن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض)) ، قال ابن شهاب: فسئل رافع بعد ذلك: كيف كانوا يكرون الأرض؟ قال: بشيء من الطعام مسمى ويشترط أن لنا ما تبنت ماذيانات وأقبال الجداول.
__________
(1) سنن النسائي. ج: 7. ص: 40 و44 و 45.(4/935)
رواه نافع عن رافع بن خديج، اختلف عليه فيه".
ورواه عن طريق سعيد بن المسيب كل من ابن أبي شيبة وأبي داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني والطحاوي وابن عدي بألفاظ وأسانيد مختلفة نوردها فيما يلي:
قال ابن أبي شيبة (1) حدثنا أبو الأحوص , عن طارق طارق بن عبد الرحمن البجلي أحمسي كوفي هكذا نسبه ابن عدي في - الكامل. ج: 4. ص: 1434 - وقال عنه - بعد أن أورد بسنده قولين ليحيى فيه. وأورد حديثه له عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج - وطارق بن عبد الرحمن له أحاديث وليس بالكثير , وأرجو أنه لا بأس به. وقال عنه ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج:5. ص:5) "ورمز له بأنه روى عنه الجماعة" بعد أن ذكر نسبه ومن روى عنهم ومن رووا عنه. قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ليس بذاك , هو دون مخارق. وقال علي بن مديني عن يحيى عن سعيد: طارق بن عبد الرحمن ليس عندي بأقوى من أبي حرملة , وطارق وإبراهيم بن مهاجر يجريان مجرى واحدًا. وقال ابن معين العجلي: ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به , يكتب حديثه , يشبه حديثه حديث مخارق. وقال النسائي: ليس به بأس (انظر الضعفاء. ص: 43. الترجمة: 133) وقال ابن عدي: لا بأس به , وذكره ابن حبان في كتاب الثقات، ثم أورد له حديثًا عند الترمذي , ثم قال: قلت: وقال النسائي في الضعفاء: طارق بن عبد الرحمن ليس بالقوي , فلا أدري عنى هذا أو الذي قبله. وذكره ابن البرقي في باب من احتمل حديثه , فقال فيه: وأهالي الحديث يخالفون يحيى في سعيه فيه ويلقونه , وحكى الساجي عن أحمد: في حديثه بعض الضعف , وقال الدارقطني ويعقوب بن سفيان: ثقة , ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير. وقلت: ذكره العقيلي في (كتاب الضعفاء الكبير. ج: 2. ص:227. الترجمة: 774) حدثنا عبد الله قال: سمعت أبي قال: موسى الجهني أحب إلي من طارق - يعني ابن عبد الرحمن - وطارق في حديثه بعض الضعف. حدثنا عبد الله قال: سمعت أبي يقول: طارق بن عبد الرحمن ليس حديثه بذاك.
__________
(1) الكتاب المصنف. ج: 7. ص: 85. ح: 2473(4/936)
لكن قال الذهبي في (الميزان. ج: 2. ص: 332. الترجمة: 3965) : طارق بن عبد الرحمن (ع) - أي: روى عنه الجماعة - البجلي , عن سعيد بن المسيب ثقة مشهور، ثم أورد قول أحمد ويحيى , ثم أورد حديث أبي الأحوص عن طارق في
المزارعة. ثم قال: قلت: قد روى عنه شعبة وأبو عوانة ووكيع ووثقه ابن معين والعجلي , وقال أبو حاتم: لا بأس به يكتب حديثه، ثم ذكر قول ابن عدي. وترجم له الرازي في (الجرح والتعديل. ج: 4. ص: 485. الترجمة: 2130)
وورد في شأنه الأقوال السابقة كما ترجم له البخاري في (التاريخ الكبير. ج:4. ص: 353. الترجمة: 3115) ولم يعقب في شأنه بشيء , ثم أورد في الصفحة: 354. الترجمة: 3121) ذكرًا لطارق بن أبي الحسناء , ورجح المعلق أنه هو طارق بن عبد الرحمن وكما أن ابن حبان قال في (الثقات. ج: 6. ص: 490) ما نصه: طارق بن أبي الحسناء يروي عن الحسن، روى عنه الأعمش , أحسب أن اسم أبيه عبد الرحمن , بأن الأعمش روى عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد
بن جبير أحرفًا يسيرة. وقال العجلي في (معرفة الثقات. ج: 1. ص: 476. الترجمة: 788) : طارق بن عبد الرحمن كوفي ثقة. قلت: تمييز البخاري بين طارق بن عبد الرحمن البجلي وطارق بن أبي الحسناء بترجمتين منفصلتين يمكن أن يفهم منه أن البخاري يراهما شخصين مختلفين وأن اعتبار ابن حبان لهما شخصًا واحدًا يدعو إلى التأمل. عن سعيد بن المسيب , عن رافع بن خديج , عن النبي صلى الله عليه وسلم ((إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها , ورجل منح أرضًا فهو يزرع ما منح , ورجل استكرى أيضًا بذهب أو فضة)) قال أبو داود في سننه (1)
"حدثنا مسدد. حدثنا أبو الأحوص. حدثنا طارق بن عبد الرحمن , عن سعيد بن المسيب , عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة , وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها، ورجل منح أرضًا فهو يزرع ما منح , ورجل استكرى أرضًا بذهب أو فضة)) .
قال النسائي في سننه (2)
"أخبرنا قتيبة , قال: حدثنا أبو الأحوص , عن طارق , عن سعيد بن المسيب , عن رافع ابن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة , وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها , أو رجل منح أرضًا فهو يزرع ما منح , ورجل استكرى أرضًا بذهب أو فضة)) .
__________
(1) ج: 3. ص:260. ح: 3400.
(2) ج:7. ص:40 و45.(4/937)
ميزه إسرائيل عن طارق فأرسل الكلام الأول , وجعل الأخير من كلام سعيد.
وأخبرنا أحمد بن محمد بن المغيرة , قال: حدثنا أحمد بن سعيد , عن شعيب , قال الزهري: كان ابن المسيب يقول: ليس باستكراء الأرض بالذهب والورق بأس , وكان رافع بن خديج يحدث ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك)) .
وقال ابن ماجه في سننه (1)
"حدثنا معاذ بن السري. حدثنا أبو الأحوص , عن طارق بن عبد الرحمن , عن عبد الرحمن , عن سعيد بن المسيب , عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة , وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها , ورجل منح أرض فهو يزرع ما منح , ورجل استكرى أرضًا بذهب أو فضة)) .
وقال الدارقطني في سننه (2)
"حدثنا أبو القاسم بن منيع. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , أخبرنا أبو الأحوص , عن طارق , عن سعيد بن المسيب , عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة , وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل كانت
له أرض فهو يزرعها , أو رجل منح أرضًا فهو يزرعها , أو رجل اكترى أرضًا بذهب أو فضة)) .
__________
(1) ج: 2. ص: 762 و819. ح: 2267 و2449.
(2) ج: 3. ص: 36. ح: 145.(4/938)
---------------------------
مجلة مجمع الفقه الإسلامي
---------------------------
معذرة، لا يمكن نسخ اكثر من 10 صفحات فى اليوم
---------------------------
موافق
---------------------------(4/939)
قال الطحاوي (1)
"حدثنا صالح بن عبد الرحمن , قال: حدثنا سعيد بن منصور , قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الأحوص , عن طارق بن عبد الرحمن , عن سعيد بن المسيب , عن رافع بن خديج قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة , وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو يزرعها , ورجل منح أخاه أرضًا فهو يزرع ما منح منها , ورجل اكترى بذهب أو فضة)) .
حدثنا أبو أمية , قال: حدثنا أبو نعيم والمعلى بن منصور , قالا: حدثنا أبو الأحوص ثم ذكر بإسناده".
وقال ابن عدي في الكامل (2)
"حدثنا ابن ذريح. حدثنا هناد. حدثنا أبو الأحوص , عن طارق بن عبد الرحمن , عن سعيد بن المسيب , عن رافع بن خديج قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة , وقال: إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فهو
يزرعها , ورجل منح أرضًا فهو يزرع ما منح , ورجل استكرى أرضًا بذهب أو فضة)) .
وروى حديث رافع عن طريق سعيد بن المسيب عن ابن عمر كل من أبي داود والنسائي.
قال أبو داود في سننه (3)
"حدثنا محمد بن بشار. حدثنا يحيى. حدثنا أبو جعفر الخطمي , قال: بعثني عمي أنا وغلامًا له إلى سعيد بن المسيب , قال: فقلنا له: شيء بلغنا عنك في المزارعة قال: كان ابن عمر لا يرى بها بأسًا حتى بلغه عن رافع بن خديج حديث فأتاه , فأخبره رافع ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حارثة , فرأى زرعًا في أرض ظهير , فقال: ما أحسن زرع ظهير!! قالوا: ليس لظهير. قال: أليس أرض ظهير؟ قالوا: بلى، ولكنه زرع فلان. قال: فخذوا زرعكم وردوا عليه النفقة)) . قال رافع: فأخذنا زرعنا ورددنا إليه النفقة.
__________
(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 106.
(2) ج: 4. ص: 1434.
(3) ج: 3. ص:260. ح: 3399.(4/940)
قال سعيد: أفْقِر أخاك - أي: أعره أرضك للزراعة - أو أكر بالدراهم".
وقال النسائي في سننه (1)
"أخبرنا محمد بن المثنى , قال: حدثنا يحيى , عن أبي جعفر الخطمي - اسمه عمير بن يزيد - قال: أرسلني عمي وغلامًا له إلى سعيد بن المسيب أسأله عن المزارعة , فقال: كان ابن عمر لا يرى بها بأسًا حتى بلغه عن رافع بن خديج حديث , فلقيه فقال رافع: ((أتى النبي صلى الله عليه وسلم بني حارثة , فرأى زرعا , فقال: ما أحسن زرع ظهير. فقالوا: ليس لظهير , فقال: أليس أرض ظهير؟ قالوا: بلى، ولكنه أزرعها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا زرعكم وردوا إليه نفقته، فأخذنا زرعنا ورددنا إليه نفقته)) .
ورواه طارق بن عبد الرحمن عن سعيد , واختلف عليه فيه".
وروى حديث رافع عن طريق عمرو بن دينار عن ابن عمر كل من الشافعي وأحمد والحميدي والنسائي وابن ماجه والطيالسي والطحاوي والطبراني. وفيما يلي رواياتهم بأسانيدها وألفاظها المتقاربة.
قال الشافعي في مسنده (2)
"أخبرنا سفيان , عن عمرو , عن ابن عمر قال: كنا نخابر , فلا نرى بذلك بأسا حتى زعم رافع ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها , فتركناها من أجل ذلك)) .
وقال أحمد في مسنده (3)
"حدثنا سفيان , قال: سمع عمرو ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا حتى زعم رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه فتركناه)) .
__________
(1) ج:7. ص:40.
(2) ترتيب مسند الشافعي. ج: 2. ص: 136. ح: 447.
(3) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 119. ح: 380 و386.(4/941)
وحدثنا وكيع. حدثنا سفيان , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: كنا نخابر , ولا نرى بذلك بأسًا حتى زعم رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه)) قال عمرو: فذكرته لطاوس فقال طاوس: قال ابن عباس: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يمنح أحدكم أخاه الأرض خير له من أن يأخذ لها خراجًا معلوما)) .
وقال الحميدي في مسنده (1)
"حدثنا سفيان , قال: حدثنا عمرو بن دينار , قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: ((كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا , حتى زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه , فتركنا ذلك من أجل قوله)) .
وقال النسائي في سننه (2)
"أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك , قال: أنبأنا وكيع , قال: حدثنا سفيان , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: ((كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا , حتى زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة)) .
وأخبرنا عبد الرحمن بن خالد , قال: حدثنا حجاج , قال: قال ابن خديج: سمعت عمرو بن دينار يقول: أشهد لسمعت ابن عمر وهو يسأل عن الخبر , فيقول: ((ما كنا نرى بذلك بأسًا حتى أخبرنا عام الأول ابن خديج أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخبر)) .
وأخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي , عن حماد بن زيد , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: ((كنا لا نرى بالخبر بأسًا , حتى كان عام الأول , فزعم رافع أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه)) .
خالفه عارم , فقال: عن حماد , عن عمرو بن دينار , عن جابر ".
__________
(1) ج: 1. ص: 198 ح: 405.
(2) ج: 7. ص: 48.(4/942)
وقال ابن ماجه في سننه (1)
"حدثنا هشام بن عمار ومحمد بن الصباح , قالا: حدثنا سفيان بن عيينة , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا حتى سمعنا رافع ابن خديج يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه)) فتركناه لقوله".
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده (2)
"حدثنا حماد بن زيد , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: كنا لا نرى بالخبر بأسًا , حتى زعم ابن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحقل)) قال شعبة: قلت للحكم: ما الحقل؟ قال: الثلث والربع، قال شعبة: قال الحكم: لما سمع إبراهيم هذا الحديث كره الثلث والربع , ولم ير بأسًا لكراء الأرض بالذهب والفضة".
وقال الطحاوي (3)
"حدثنا علي بن شيبة وفهد بن سليمان قالا: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين , قال: حدثنا سفيان , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: سمعت رافع بن خديج يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزارعة)) .
وحدثنا أبو بكرة بكار بن قتيبة , قال: حدثنا إبراهيم بن بشار , قال: حدثنا سفيان , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى زعم رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة فتركناها.))
وحدثنا روح بن الفرج , قال: حدثنا حامد , قال: حدثنا سفيان قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: سمعت ابن عمر يقول: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا حتى زعم رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فتركناها من أجل قوله)) .
__________
(1) ج: 2. ص: 819. ج: 2450.
(2) ص: 130. ح: 365.
(3) معاني الآثار. ج: 4. ص: 105 و111.(4/943)
وقال الطبراني (1)
"حدثنا علي بن عبد العزيز. حدثنا أبو نعيم. حدثنا سفيان , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: ما كنا نكري المزارعة حتى سمعت رافع بن خديج يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزارعة)) .
وحدثنا عبيد بن غنام. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة.
وحدثنا أبو يزيد القراطيسي. حدثنا حجاج بن إبراهيم الأزرق قال: حدثنا سفيان بن عيينة , عن عمرو بن دينار , قال: كنا نخابر ولا نرى بأسًا , حتى زعم رافع بن خديج ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه)) وتركناه من أجل قوله.
وحدثنا يوسف بن يعقوب القاضي. حدثنا سليمان بن حرب.
وحدثنا معاذ بن المثنى. حدثنا مسدد قالا: حدثنا حماد بن زيد , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: كنا لا نرى بالخبر بأسًا حتى كان عام أول , فزعم رافع ابن خديج ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه. وتركناه من أجل قوله: نهى عنه)) .
حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي.
وحدثنا معاذ بن المثنى. حدثنا مسدد قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم. حدثنا أيوب , عن عمرو بن دينار , قال: ((سمعت ابن عمر يقول: ما كنا نرى بالخبر بأسًا حتى زعم رافع بن خديج عام أول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وتركناه.))
وحدثنا محمد بن أحمد بن أبي خيثمة. حدثنا عمر بن يحيى الأبلي. حدثنا عبد الوارث. حدثنا أيوب , عن عمرو بن دينار , عن ابن عمر قال: كنا لا نرى بالخبر بأسًا , فقال رافع بن خديج: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .
وروى: الطبراني حديث ابن عمر عن طريق عبد الله بن دينار فقال (2)
"حدثنا عبد الله بن ناجية. حدثنا أحمد بن منصور , حدثنا أبو عاصم. حدثنا سفيان , عن عبد الله بن دينار , عن ابن عمر , عن رافع بن خديج ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .
وروى حديث رافع عن طريق ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر كل من أحمد وأبو داود والنسائي والطحاوي وفيما يلي رواياتهم بأسانيدها المختلفة وألفاظها المتقاربة: قال أحمد في مسنده (3)
__________
(1) المعجم الكبير. ج: 4. ص: 240 ح: 4248.
(2) المعجم الكبير. ج: 4. ص: 241. ح: 4254.
(3) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 118. ح: 377.(4/944)
"حدثنا حجاج. حدثنا ليث بن سعد , عن عقيل , عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني سالم بن عبد الله , أن عبد الله بن عمر قال: يابن خديج، ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟ قال رافع: سمعت عمي - وكان قد شهدا بدرًا - يحدثان أهل الدار ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .
وقال أبو داود في سننه (1)
"حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث. حدثني أبي , عن جدي الليث. حدثني عقيل , عن ابن شهاب. أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر , ((أن ابن عمر كان يكري الأرض , حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كراء الأرض. فلقيه عبد الله , فقال: يابن خديج , ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟ قال رافع لعبد الله ابن عمر: سمعت عمي - وكانا قد شهدا بدرًا - يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) . قال عبد الله: والله لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , أن الأرض تكرى , ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله أحدث في ذلك شيئا لم يكن علمه , فترك كراء الأرض.
قال أبو داود: رواه أيوب وعبيد الله وكثير بن فرقد , وذلك عن نافع , عن رافع , عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الأوزاعي , عن حفص بن عنان , عن نافع , عن رافع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك رواه زيد بن أبي أنيسة , عن الحكم , عن نافع , عن ابن عمر , أنه أتى رافعًا , فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم. وكذا قال عكرمة بن عمار , عن أبي النجاشي , عن رافع بن خديج , قال: سمعت النبي عليه السلام. ورواه الأوزاعي , عن أبي النجاشي , عن رافع بن خديج , عن عمه ظهير بن رافع , عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال النسائي في سننه (2)
"أخبرنا محمد بن يحيى بن عبد الله، قال: حدثنا عبد الله بن حمد بن أسماء, عن جويرية, عن مالك, عن الزهري, أن سالم بن عبد الله, وذكره نحوه - يعني نحو حديث حماد بن يزيد, ويحيى بن سعيد, عن حنظلة بن قيس -.
__________
(1) ج: 3. ص: 259. ح: 3394.
(2) ج: 7. ص: 44.(4/945)
أخبرنا عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد, قال: حدث أبي, عن جدي, قال: أخبرني عقيل بن خالد , عن ابن شهاب , قال: أخبرني سالم بن عبد الله, أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه , وبلغه أن رافع بن خديج كان ينهى عن كراء
الأرض، فلقيه عبد الله فقال: يا ابن خديج , ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟ فقال رافع لعبد الله: سمعت عمّي - وكانا قد شهدا بدرًا - يحدثان أهل الدار ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن
كراء الأرض)) . قال عبد الله: فلقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تكرى. ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئًا لم يكن يعلمه , فترك كراء الأرض".
وقال الطحاوي (1)
"حدثنا نصر بن مرزوق , وابن أبي داود , قالا: حدثنا أبو صالح قال: حدثنا الليث قال: حدثني عقيل , عن ابن شهاب , قال: أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر , أن أباه - يعني عبد الله بن عمر - كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج كان ينهى عن كراء الأرض فلقيه وقال: يا ابن خديج , ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟ فقال: سمعت عمي - وكان قد شهد بدرًا - يحدث أهل الدار ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء
الأرض)) . قال عبد الله: لقد كنت أعلم أن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئًا لم يكن علمه فترك كراء الأرض".
وروى حديث رافع , عن طريق أيوب , عن نافع , عن ابن عمر كل من أحمد , والبخاري , والنسائي , وابن ماجه , وابن حبان , والطحاوي , وابن عدي، وفيما يلي رواياتهم على اختلاف أسانيدها بألفاظها المتقاربة:
__________
(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 105.(4/946)
قال أحمد في مسنده (1)
"حدثنا إسماعيل , أنبأنا أيوب , عن نافع , عن ابن عمر , قال: ((قد علمت أن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء وشيء من التبن , لا أدري كم هو , وأن ابن عمر كان يكري أرضه في عهد أبي بكر وعهد عثمان وصدر إمارة معاوية , حتى إذا كان في آخرها بلغه أن رافعًا يحدث في ذلك بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأتاه وأنا معه , فسأله فقال: نعم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع)) فتركها ابن عمر فكان لا يكريها، فكان إذا سُئل يقول: زعم ابن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نهى عن كراء المزارع)) .
وقال البخاري في صحيحه (2)
"حدثنا سليمان بن حرب , حدثنا حماد , عن أيوب , عن نافع , أن ابن عمر - رضي الله عنه - كان يكري مزارعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم , وأبي بكر , وعمر , وعثمان , وصدرًا من إمارة معاوية , ثم حدث عن رافع بن خديج ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع)) فذهب ابن عمر إلى رافع , فذهبت معه فسأله فقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع، فقال ابن عمر: قد علمت أنَّا كنا نكري مزارعنا على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء وشيء من التبن".
وقال النسائي في سننه (3)
"أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع , قال: حدثنا فضيل , قال: حدثنا موسى بن عقبة , قال: أخبرني نافع , أن رافع بن خديج أخبر عبد الله بن عمر أن عمومته جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم رجعوا فأخبروا ((أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع)) , فقال عبد الله: قد علمنا أنه كان صاحب مزرعة يكريها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن له ما على الربيع الساقي الذي يتفجر منه الماء وطائفة من التبن لا أدري كم هي.
__________
(1) (1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 118. ح: 376.
(2) (2) ج: 3. ص: 72.
(3) (3) ج:7. ص: 45.(4/947)
أخبرني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم , قال: حدثنا يزيد , قال: أنبأنا ابن عون , عن نافع , قال: كان ابن عمر يأخذ كراء الأرض , فبلغه عن رافع بن خديج شيء، فأخذ بيدي فمشى إلى رافع وأنا معه , فحدثه رافع عن بعض عمومته ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) فترك عبد الله بعد.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك , قال: حدثنا إسحاق الأزرق , قال: حدثنا ابن عون , عن نافع , عن ابن عمر , أنه كان يأخذ كراء الأرض حتى حدثه رافع عن بعض عمومته ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض فترك بعد)) .
وأخبر محمد بن عبد الله بن بزيع , قال: حدثنا يزيد , وهو ابن زريع , قال: حدثنا أيوب , عن نافع , ((أن ابن عمر كان يكري مزارعه , حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يُخبر فيه بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأتاه وأنا معه فسأله فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع، تركها ابن عمر بعد، فكان إذا سُئل عنها قال: زعم رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها)) .
وأخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين , قال: حدثنا شعيب بن الليث , عن أبيه , عن كثير بن فرقد , عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يكري المزارع، فحدث أن رافع بن خديج ((يأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك. قال نافع: فخرج إليه على البلاط (1) وأنا معه فسأله فقال: نعم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع، فترك عبد الله كراءها)) .
وأخبرنا إسماعيل بن مسعود , قال: حدثنا خالد - وهو ابن الحارث - قال: حدثنا عبيد الله بن عمر , عن نافع , ((أن رجلًا أخبر ابن عمر أن رافع بن خديج يأثر في كراء الأرض حديثًا, فانطلقت معه أنا والرجل الذي أخبره , حتى أتى رافعًا فأخبره رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض فترك عبد الله كراء الأرض)) .
__________
(1) البلاط: بفتح الباء، وقيل: بكسرها، اسم موضع بالمدينة بين المسجد والسوق.(4/948)
وأخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا أبي , قال: حدثنا جويرية , عن نافع , ((أن رافع بن خديج حدث عبد الله ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع)) . أخبرنا هشام بن عمار قال: حدثنا يحيى بن حمزة , قال: حدثنا الأوزاعي , قال: حدثني حفص بن غياث , عن نافع , أنه حدثه , قال: كان ابن عمر يكري أرضه ببعض ما يخرج منها , فبلغه أن رافع بن خديج يزجر عن ذلك , وقال: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: كنا نكري الأرض قبل أن نعرف رافعًا , ثم وجد في نفسه , فوضع يده على منكبي حتى دفعنا إلى رافع , فقال له عبد الله: أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض؟ فقال رافع: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تكروا الأرض بشيء)) .
أخبرنا حميد بن مسعدة , عن عبد الوهاب , قال: حدثنا هشام , عن محمد ونافع أخبراه عن رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) . رواه ابن عمر , عن رافع بن خديج , واختلف على عمرو بن دينار".
وقال ابن ماجه في سننه (1)
"حدثنا أبو كريب, حدثنا عبدة بن سليمان , وأبو أسامة , ومحمد بن عبيد , عن عبيد الله - أو قال: عبد الله بن عمر - عن نافع , عن ابن عمر , أنه كان يكري أرضًا له مزارعًا , فأتاه إنسان فأخبره عن رافع بن خديج ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع, فذهب ابن عمر وذهبت معه حتى أتاه بالبلاط , فسأله عن ذلك , فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع , فترك عبد الله كراءها)) .
وقال ابن حبان في الإحسان (2)
"أورده ابن حبان تحت ترجمة (ذكر الخبر المصجد قول من زعم أن نافعًا لم يسمع هذا الخبر عن رافع بن خديج) .
__________
(1) ج: 2. ص: 820. ح: 2453.
(2) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 314. ح: 5171.(4/949)
أخبرنا الفضل بن الحباب , قال: حدثنا مسدد , عن مسرهد , عن يزيد بن زريع , قال: حدثنا أيوب , عن نافع , قال: ((انطلق ابن عمر وانطلقنا معه حتى دخلنا على رافع بن خديج , وقال له ابن عمر: إني نبئت أنك تحدث عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كراء المزارع, قال: نعم، فكان ابن عمر إذا سُئل بعد ذلك يقول: حدثنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع)) .
وقال الطحاوي (1)
"حدثنا ربيع الجيزي , قال: حدثنا حسان بن غالب , قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن , عن نافع , أن رافع بن خديج أخبر ((أن عبد الله بن عمر وهو متكئ على بدني , أن عمومته جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع , فقال ابن عمر: قد علمنا أنه كان صاحب مزرعة يكريها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , على أن له ما في الربيع الساقي الذي تفجر منه الماء وطائفة من التبن لا أدري ما التبن ما هو؟)) ".
وقال ابن عدي (2)
"حدثنا يحيى بن عيسى بن محمد الجيلاني بحمص , حدثنا سعيد بن عمرو الكوفي وعطية بن بقية , قالا: حدثنا بقية , عن لوذان بن سليمان
وقدم لهذا الحديث بقوله: لوذان بن سليمان، حدث عنه بقية , وهو مجهول , وما رواه مناكير لا يتابع عليه , وبعد أن روى حديثين آخرين عنه , قال: وهذه ثلاثة أحاديث عن هشام بن عروة , عن نافع , لا يرويها عن هشام غير لوذان هذا , وهو مجهول، وعن لوذان بقية , ولا أعلم غير هذه الأحاديث , وهشام بن عروة , عن نافع عزيز جدًا , وهذه الثلاثة أحاديث يرويها لوذان بن سليمان. وقال ابن حبان في (الثقات. ج: 7. ص: 462) : لوذان بن سليمان يروي عن هشام بن عروة , ويروي عنه بقية بن الوليد , وقال محقق الثقات: زاد في "ظ" - إحدى نسخ الكتاب المخطوطة التي قابل بينها - رضي الله عنهم أجمعين -. وقال الذهبي في (الميزان. ج: 3. ص: 319. الترجمة:6991) : لوذان بن سليمان شيخ لبقية. قال ابن عدي: مجهول , وما رواه لا يتابع عليه , وأسند له ثلاثة أحاديث.
__________
(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 111.
(2) الكامل. ج: 6. ص: 2109.(4/950)
وبقية الذي يروي عن لوذان هو بقية بن الوليد , روى عنه البخاري في التاريخ , ومسلم , وأبو داود , والترمذي , والنسائي , وابن ماجه , بذلك رمز ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج:1. ص:473) , وساق اختلافًا بينهم فيه ما بين موثق بعامة وموثق في بعض مروياته ومتردد في توثيقه وغامز فيه. ولم أجد للوذان بن سليمان ذكرًا عند غير عدي وابن حبان، إلا ما كان من رواية ساقها الطبري في (تاريخه. ج: 5. ص:399) وابن كثير في (البداية والنهاية. ج: 8. ص: 171) عن أبي مخنف حول خروج الحسين , عليه السلام , إلى العراق , ورحبه مع جيش يزيد , واستشهاده وكلاهما قال: "قال أبو مخنف" وعند الطبري: (فحدثني لوذان - أحد بنى عكرمة - أن أحد عمومته سأل الحسين عليه السلام: أين تريد" إلى آخر الخبر. وعند ابن كثير: "حدثني - بدون فاء - لوذان قال: حدثنى عكرمة - بدلًا من "أحد بنى عكرمة " عند الطبري - أنه أحد عمومته , سأل الحسين: أين تريد" إلى آخر الخبر. وبقية عبارتهما تشبه أن يكون ابن كثير نقل عن الطبري،
ويتراءى لي أن عبارة ابن كثير هي الصحيحة , وأن ما جاء في الطبري أو منسوبًا إليه من وصف لوذان من أنه من "أحد بني عكرمة" خطًا من الناسخ أو الطابع , فلم أقف في (المظان) على جماعة أو عشيرة أو قبيلة ممن عرفوا في ذلك العصر تدعى "بني عكرمة" , ولم يذكر كلاهما اسم والد لوذان , وأميل إلى أنه هو لوذان بن سليمان , وأنه كان شيعيًا , ولعله أسهم في الدعوة إلى نحلته أو - على الأقل - في رواية أخبار الشيعة الأول. ذلك بأن أبا مخنف لوط بن يحيى
وصفوه بالضعف , وقال عنه ابن عدي في (الكامل. ج: 6. ص: 2610) : حدثنا محمد بن أحمد بن حماد , حدثنا عباس , عن يحيى , قال: أبو مخنف ليس بشيء , وهذا الذي قاله ابن معين يوافقه عليه الأئمة , فإن لوط بن يحيى معروف بكنيته
وباسمه , حدث بأخبار مَن تقدم مِن الصالحين , ولا يبعد منه أن يتناولهم وهو شيعي محترق , صاحب أخبارهم , وإنما وصفته لأستغني عن ذكر حديثه , فإني لا أعلم له من الأحاديث المسندة ما أذكره , وإنما له من الأخبار المكروه الذي لا أستحب ذكره. قلت: يغفر الله لابن عدي , فإن من أخبار أبي مخنف ما ينبغي لا أن يذكره فحسب، بل أن يستذكره المسلم المحب لآل البيت , مثل ما يتصل بالحسين , عليه السلام , وما من مسلم صادق إلا وهو محب لآل البيت.
وقال الذهبي في (الميزان. ج: 3. ص: 419. الترجمة: 6992) : لوط بن يحيى أبو مخنف , إخباري تالف لا يوثق به، تركه أبو حاتم وغيره. وقال الدارقطني: ضعيف.(4/951)
وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال مرة: ليس بشيء. وقال ابن عدي: شيعي محترق صاحب أخبارهم. قلت - القائل الذهبي -: روى عن الصعق بن زهير , وجابر الجعفي , ومجالد , روى عنه المدائني وعبد الرحمن بن المغراء , مات قبل السبعين ومائة. وقال ابن معين في (تاريخه. ج: 2. ص: 500. الترجمة: 1358) : أبو مخنف ليس بشيء، أبو مخنف ليس بثقة، أبو مخنف وأبو مريم وعمرو بن شمر ليسوا هم بشيء، قلت ليحيى: هم مثل عمرو بن شمر؟ قال: هم شر من عمرو بن شمر. وقال الدارقطني في كتاب الضعفاء والمتروكين. ص: 146. الترجمة: 449: لوط بن يحيى الكوفي أبو مخنف , إخباري ضعيف. ونقل العقيلي في كتاب الضعفاء والمتروكين. ج: 4. ص: 18 الترجمة: 1572: كلام يحيى بن معين , ولم يعقب عليه بشيء , لكن محقق الكتاب قال في التعليق عن الترجمة بعد أن نقل كلام الذهبي في الميزان: ولكن المستشرقين اهتموا به واحتضنوا مؤلفاته , فحققوها , ونشروها؛ ليجدوا ثغرة لإفراغ جهدهم في اتهام تراثنا التاريخي اتفاقًا إلى هز الثقة فيما نقل إلينا من نصوص السنة , وهي المصدر الثاني للتشريع وأغلب هذه المؤلفات نشرت في ألمانيا وهولندا. ولم يرد له ذكر في كتب البخاري والنسائي وابن حبان عن الضعفاء. وذكر الذهبي في (المغني. ج: 2. ص: 535. الترجمتان: 5120 و5121) : كلا من لوذان ولوط , ونقل كلام ابن عدي في لوذان , ووصف لوطًا بأنه "ساقط , تركه أبو حاتم , وقال الدارقطني: ضعيف". ونعود إلى قول ابن عدي في ترجمة لوذان "وما رواه مناكير " ... إلخ. فنشير إلى أن الظاهر من كلامه هو أنه يعتبر المنكر والشاذ والمنفرد واحدًا. وإلى ذلك ذهب بعض علماء الحديث، لكن الحافظ ابن حجر يقول في (النكت على كتاب ابن الصلاح. ج: 2. ص: 675) بعد أن ذكر أقوالاً مختلفة في تحديد معنى "المنكر" من الحديث وأقسامه، وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه ما نصه: وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت رواية للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى خالفت روايته روايتهم , لم تكد توافقها , فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك , كان مهجور الحديث غير مقبولة ولا مستعملة.(4/952)
قلت - القائل هو ابن حجر -: فالرواة الموصفون بهذا هم المتروكون، فعلى هذا رواية المتروك عند مسلم تسمى منكرة , وهذا هو المختار. والله أعلم. وانظر في هذا الشأن مقدمة صحيح مسلم , وتعليق النووي (شرح النووي لصحيح مسلم. ج: 1. ص: 56 وما بعدها) . وحول وصف لوذان بأنه "مجهول نسوق ما ذكره الخطيب - رحمه الله - في (كتاب الكفاية في علم الرواية. ص: 142) إذ قال: المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه , ولا عرفه العلماء به , ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد. قلت: يبدو لي مما تيسر من استقراء أمر لوذان ولوط بن يحيى أن المحدثين انصرفوا عنهما لتشيعهما , وقد يكونان من دعاة الشيعة اعتمادًا على مبدأ عدم قبول حديث أهل الأهواء الذي أخذ به كثير من المحدثين لكن رفضه غيرهم , وليس هذا مجال تفصيل أقوالهم , بيد أننا ننقل عن الخطيب - رحمه الله - ما قاله في (المرجع السابق. ص: 201) من أن الذي يعتمد عليه في تجويز الاحتجاج بأخبارهم اشتهر من قبول الصحابة أخبار الخوارج وشهادتهم ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل , ثم استمرار عمل التابعين والخالفين بعدهم على ذلك , لما رأوا من تحريهم الصدق , وتعظيمهم الكذب , وحفظهم أنفسهم عن المحظورات من الأعمال , وإنكارهم على الريب والطرائق المذمومة روايتهم الأحاديث التي تخالف آراءهم , ويتعلق بها مخالفوهم في الاحتجاج عليهم , فاحتجوا برواية عمر بن حطان , وهو من الخوارج , وعمرو بن دينار , وكان ممن يذهب إلى القدر والتشيع , وكان عكرمة إباضيا , وابن أبي نجيح وكان معتزليًا , وعبد الوارث بن سعيد , وشبل بن عباد , وسيف بن سليمان , وهشام الدستوائي , وسعيد بن أبي عروبة , وسلام بن مسكين , وكانوا قدرية. وعلقمة بن مرثد , وعمرو بن مرة , ومسعر بن كدام , وكانوا مرجئة , وعبيد الله بن موسى , وخالد بن مخلد , وعبد الرزاق بن همام , وكانوا يذهبون إلى التشيع , في خلق كثير يتسع ذكرهم، دون أهل العلم - قديمًا وحديثًا - رواياتهم واحتجوا بأخبارهم , فصار ذلك كالإجماع منهم , وهو أكبر الحجج في هذا الباب , وبه يقوى الظن في مقاربة الصواب.
قلت: وما الذي يميز لوذان عمن ذكر الخطيب ممن يذهب مذهب التشيع , ولئن نقل بعض أخبار الشيعة فهو لم يشتهر في الدعوة لهم، ولئن اشتهر في الدعوة لهم فما الذي يمنع من قبول حديثه في غير ما له صلة بالتشيع؟ لقد آن الأوان لأن نعيد النظر في بعض قواعد الجرح والتعديل ذات العلاقة بالاعتبارات السياسية والجدلية والبعيدة عن التمحيص العلمي المجرد، فقد مضى بعيدًا ذلك الزمن الذي لم يستطع فيه نقاد الحديث(4/953)
وضباط الأسانيد أن يتخلصوا من مؤثرات ما كانوا يعايشونه من أحداث من أن الحاجة إلى تجميع مواجد المسلمين توجب مراجعة ما من شأنه تعويض ذلك مما لا علاقة له بتحري الدقة في تحقيق نصوص الشريعة , بل إن تخريج كثير من الأحكام الشرعية واستنباط الأحكام لما يستجد من الأحداث يقتضيان التعامل مع كل نص , لا تحوم حوله شبهة إذا استبعدت الاعتبارات السياسية والجدلية. على أن حديث لوذان الذي أورده ابن عدي وعقب عليه ذلك التعقيب العجيب ليس غريبًا , بل رواه بنفس اللفظ وبما يشاكله أو يقاربه عدد كبير من الرواة الموفقين أثبتنا رواياتهم بما يشبه الاستقراء في هذا البحث، ومن شأن هذا أن ينفي أية شبهة عن رواية لوذان , وهذا شأن الحديثين الآخرين اللذين ساقهما ابن عدي عند الاستقراء والتمحيص. والله الموفق.
عن هشام بن عروة , عن نافع , أنه أخبرهم أن رافع بن خديج أخبر عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع)) . والحديث الثاني الذي نقف عنده حديث جابر بن عبد الله الذي روي عنه من طرق متعددة مثل حديث رافع بن خديج. فمنها ما رواه كل من أحمد , والحميدي , والبخاري , ومسلم , والنسائي , وابن ماجه , والدارقطني , وابن حبان , والطحاوي , وابن عدي , عن طريق عطاء بن أبي رباح، وفيما يلي رواياتهم بأسانيدها المختلفة وعباراتها التي تكاد تكون متفقة.
قال أحمد في مسنده (1)
"حدثنا إسحاق بن يوسف, أنبأنا عبد الملك , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت له أرض فليزرعها، وإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها)) .
وحدثنا أبو المغيرة , ومحمد بن مصعب , قالا: حدثنا الأوزاعي , حدثني عطاء , وقال ابن مصعب: عن عطاء بن أبي رباح , عن جابر بن عبد الله , قال: ((كانت لرجال فضول أرضين , فكانوا يؤجرونها على الثلث والربع والنصف , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه , فإن أبى فليمسك أرضه....)) .
__________
(1) الفتح الرباني. ج: 15 ص:117. ح: 375.(4/954)
وقال الحميدي في مسنده (1)
"وحدثنا سفيان , قال: حدثنا ابن جريج , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة والمخابرة , وأن لا يباع الثمر حتى يبدو صلاحه , وأن لا يباع إلا بالدينار والدرهم , إلا أنه رخص في العرايا والمخابرة وكري الأرض على الثلث والربع , والمحاقلة: بيع السنبل بالحنطة , والمزابنة: بيع الثمر بالتمر)) .
وقال البخاري في صحيحه (2)
"حدثنا عبيد الله بن موسى , أخبرنا الأوزاعي , عن عطاء , عن جابر - رضي الله عنه - قال: ((كانوا يزرعون بالثلث والربع والنصف , وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن لم يفعل فليمسك أرضه)) .
وقال مسلم في صحيحه (3)
"حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , ومحمد بن عبد الله بن نمير , وزهير بن حرب , قالوا جميعًا: حدثنا سفيان بن عيينة , عن ابن جريج , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة , والمزابنة , والمخابرة , وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه , ولا يباع إلا بالدينار والدرهم إلا العرايا)) .
وحدثنا عبد بن حميد، أخبرنا أبو عاصم , أخبرنا ابن جريج , عن عطاء , وأبي الزبير , أنهما سمعا جابر بن عبد الله يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكر مثله.
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي , أخبرني مخلد بن يزيد الجزري , حدثنا ابن جريج , أخبرنا عطاء , عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة , والمحاقلة , والمزابنة , وعن بيع الثمرة حتى تطعم , ولا تباع إلا بالدراهم والدنانير إلا العرايا)) .
__________
(1) ج: 2. ص: 540. ح: 1292.
(2) ج: 3. ص: 72.
(3) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 192 وما بعدها.(4/955)
قال عطاء: فسر لنا جابر قال: أما المخابرة فالأرض البيضاء يدفعها الرجل إلى الرجل لينفق فيها , ثم يأخذ من الثمر , وزعم أن المزابنة بيع الرطب في النخل بالثمر كيلًا , والمحاقلة في الزرع على نحو ذلك بيع الزرع القائم بالحب كيلًا.
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم , ومحمد بن أحمد بن أبي خلف, كلاهما عن زكرياء, قال ابن أبي خلف: حدثنا زكرياء بن عدي , أخبرنا ابن عبيد الله , عن زيد بن أبي أنيسة , حدثنا أبو الوليد المكي , وهو جالس عند عطاء بن أبي رباح , عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة , والمزابنة , والمخابرة , وأن تشترى النخل حتى تشقه , والإشقاه أن يحمر أو يصفر أو يأكل منه شيء)) والمحاقلة: أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم , والمزابنة: أن يباع النخل بأوساق من التمر , والمخابرة: الثلث والربع وأشباه ذلك. قال زيد: قلت لعطاء بن أبي رباح: أسمعت جابر بن عبد الله يذكر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
وحدثني إسحاق بن منصور , حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد , حدثنا رباح بن أبي معروف , قال: سمعت عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض , وعن بيعها السنين , وعن بيع الثمر حتى
يطيب)) .(4/956)
وحدثني أبو كامل الجحدري , حدثنا حماد، يعني ابن زيد، عن مطر الوراق قال ابن حبان في (كتاب الثقات. ج:5. ص: 435) : مطر بن طهمان الوراق , مولى علياء السلمي , كنيته أبو رجاء , أصله من خراسان , سكن البصرة , يروي عن أنس بن مالك , وربما أخطأ، روى عنه حماد بن زيد , وهشام الدستوائي , مات قبل الطاعون سنة خمس وعشرين ومائة , وأوصى إلى فرقد السبخي , وكان قتادة قد أوصى إلى مطر , ويقال: إنه مات سنة تسع وعشرين ومائة , وكان معجبًا بروايته , وقد حدثنا محمد بن أحمد , قال: حدثنا محمد بن نصر الفراء , قال: حدثنا أحمد بن حنبل , قال: حدثنا حجاج , قال: سمعت شعبة يقول: مطر الوراق هؤلاء لا يحسنون يحدثون. وذكر الرازي (الجرح والتعديل. ج: 8. ص: 287 و288. الترجمة: 1319) : أن أبا زرعة قال: روايته من أنس مرسل لم يسمع مطر عن أنس شيئًا , ونقل روايات عن أحمد , أن يحيى بن القطان يضعف حديثه عن عطاء , ويشبهه بابن أبي ليلى في سوء الحفظ , وكان ذلك أيضًا رأي أحمد فيه حسب ما يروي عنه ابنه.
وروى ابنه أيضًا عن يحيى بن معين أنه قال: إنه ضعيف فى حديث عطاء , لكن روى الرازي عن أبيه , عن إسحاق بن منصور , عن يحيى بن معين , أنه قال: مطر الوراق صالح الحديث. قلت: لم أجد في تاريخ يحيى بن معين ما نقل عنه الرازي , عن أبيه , أو عن أحمد , والترجمة الواردة له فيه (تاريخ ابن معين. ج: 2. ص: 568) : مطر بن طهمان السلمي أبو رجاء. مطر بن طهمان أبو رجاء. مطر الوراق هو مطر بن طهمان. ثم نقل عنه أثرًا فقال: حدثنا العباس , قال: حدثنا أبو إسحاق الطالقاني , قال: حدثنا ضمرة , عن ابن شوذب , عن مطر , قال: مثل الذي يروي عن عالم واحد مثل رجل له امرأة واحدة إذا حاضت بقي. وذكره العجلي (معرفة الثقات. ج: 2. ص: 181. الترجمة: 1736) فقال: مطر الوراق بصري صدوق , وقال مرة: لا بأس به. وترجم البخاري في (التاريخ الكبير. ج: 7. ص:400. الترجمة: 1752) فقال: مات قبل الطاعون. وترجم له ابن القيسراني (الجمع بين كتابي أبي نصر الكلاباذي وأبي بكر الأصبهاني. ج:2. ص:526. ترجمة:2050) ونقل عن عمرو بن علي قوله: مات سنة تسع عشرة ومائة. وترجم له ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج:10. ص: 167. ترجمة: 316) فذكر أن البخاري روى عنه في الصحيح مرتين تعليقًا , وأورد روايات في تاريخ وفاته، ثم قال في آخر الترجمة: "وقرأت في تذكرة ابن حمدون أن المنصور قتله". فعلى هذا يكون تأخرت وفاته إلى قرب الأربعين ومائة. لكن الذهبي (سير أعلام النبلاء. ج:5. ص:452. ترجمة:202) وصفه في صدر ترجمته له بقوله: "الإمام الزاهد الصادق , أبو رجاء بن طهمان الخراساني , نزيل البصرة , مولى علياء بن أحمد اليشكري، كان من العلماء العاملين , وكان يكتب المصاحف ويتقن ذلك. وروى عن أنس بن مالك , والحسن , وابن بريدة , وعكرمة , وشهر بن حوشب , وبكر بن عبد الله , وطائفة. حدث عنه شعبة , والحسين بن واقد , وإبراهيم بن طهمان , وحماد بن زيد , وعبد العزيز بن عد الصمد العمي , وآخرون، وغيره أتقن للرواية منه , لا ينحط حديثه عن رتبة الحسن , وقد احتج به مسلم. وبعد أن أورد أقاويل الناس فيه ما بين مضعف وموثق , قال: يقال: توفي مطر الوراق سنة تسع وعشرين ومائة. قلت: يتضح من قوله: "الإمام الصادق" وقوله: "لا ينحط حديثه عن رتبة الحسن" وقد احتج به مسلم أنه يوثقه وليس بعد قول الذهبي قول.(4/957)
عن عطاء , عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .
وحدثنا عبد بن حميد , حدثنا محمد بن الفضل، لقبه عارم , وهو أبو النعمان السدوسي , حدثنا مهدي بن ميمون , حدثنا مطر الوراق , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها , فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه)) .
حدثنا الحكم بن موسى , حدثنا هقل، يعني ابن زياد، عن الأوزاعي , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: ((كان لرجل فضول أرضين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له فضل أرض فليزرعها , أو ليمنحها أخاه , فإن أبى فليمسك أرضه)) .
وحدثني محمد بن حاتم , حدثنا معلى بن منصور الرازي , حدثنا خالد , أخبرنا الشيباني , عن بكير بن الأخنس , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ للأرض أجر)) .
حدثنا ابن نمير , حدثنا ابن أًُبي , حدثنا عبد الملك , عن عطاء , عن جابر , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها , فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم , ولا يؤاجرها إياه)) .
وحدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا همام , قال: سأل سليمان بن موسى عطاء , فقال: ((أحدثك جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها؟ قال: نعم)) .
وقال النسائي في سننه (1)
"حدثنا إسماعيل بن مسعود , قال: حدثنا خالد بن الحارث قال: حدثنا عبد الملك , عن عطاء , عن جابر , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان له أرض فليزرعها , فإن عجز أن يزرعها فليمنحها أخاه المسلم ولا يزرعها إياه)) .
أخبرنا عمرو بن علي , قال: حدثنا يحيى , حدثنا عبد الملك , عن عطاء , عن جابر , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه ولا يكريها)) .
وأخبرنا هشام بن عمار , عن يحيى بن حمزة , قال: حدثنا الأوزاعي , عن عطاء , عن جابر , قال: ((كان لأناس فضول أرضين يكرونها بالنصف والثلث والربع. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أو يمسكها)) .
__________
(1) ج: 7. ص: 36.(4/958)
أخبرنا عيسى بن محمد , وهو أبو عمير بن نحاس , وعيسى بن يونس , هو الفاخوري , قال: حدثنا ضمرة بن شوذب , عن مطر , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: ((خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من كانت له أرض
فليزرعها أو ليزرعها ولا يؤاجرها)) .
وافقه عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج على النهى عن كراء الأرض. أخبرنا قتيبة قال: حدثنا المفضل , عن ابن جريج , عن عطاء , وأبي الزبير , عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة , والمزابنة , والمحاقلة , وبيع الثمر حتى يطعم إلا العرايا)) .
أخبرني زياد بن أيوب , قال: حدثنا عباد بن العوام , قال: حدثنا سفيان بن حسين , قال: حدثنا يونس بن عبيد , عن عطاء , عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة , والمزابنة , والمخابرة , وعن الثنيا إلا أن تعلم)) . وفي رواية همام بن يحيى كالدليل على أن عطاء لم يسمع من جابر
ترجم له يحيى بن معين (التاريخ. ج:2. ص: 402) . فقال: كان عطاء بن أبي رباح معلم كتاب. اسم أبي رباح: أسلم، كان عطاء أسود. حدثنا يحيى بن سعيد القطان , قال: لم يسمع عطاء عن ابن عمر , رآه رؤية. وقال الرازي (الجرح والتعديل. ج: 6. ص:330. الترجمة: 1839) : اسم أبي رباح أسلم , مولى أبي خثيم القرشي الفهري , أبو محمد المكي , رأى عقيل بن أبي طالب , وروى عن أبي هريرة , وابن عباس , وجابر بن عبد الله , ورافع بن خديج , وجابر بن عمير , وعائشة , ومعاوية بن أبي سفيان. ونقل الرازي عن أبي زرعة سماع عطاء عن عائشة. كما نقل عنه ما يشبه إثبات سماعه عن ابن عمر , وترجم له ابن حبان (الثقات. ج: 5. ص: 198) فقال: مولده بالجند من اليمن بمكة , وكان أسود أعور أشل أعرج , ثم عُمي في آخر عمره , وكان من سادات التابعين فقهًا وعلمًا وورعًا وفضلاً، لم يكن له فراش، إلا المسجد الحرام , إلى أن مات سنة أربع عشرة ومائة , وقد قيل: إنه مات سنة خمس عشرة ومائة، كان مولده سنة سبع وعشرين.(4/959)
وقال عنه العجلي (معرفة الثقات. ج: 2. ص: 135 الترجمة: 236) : مكي تابعي ثقة , وكان مفتى أهل مكة في زمنه. ونقل ابن سعد في (الطبقات الكبرى. ج:5. ص: 467 وما بعدها) وصفه أنه أعلم الناس بالمناسك والبيوع , وأنه كان لا يفتر عن ذكر الله والناس يخوضون , فإن تكلم أو سُئل عن شيء أحسن الجواب , وحدث في مجلسه رجل بحديث , فاعترضه رجل آخر , فغضب عطاء , فقال: ما هذه الأخلاق؟! ما هذه الطباع؟! والله إن الرجل ليحدث بالحديث لأنا أعلم به منه , ولعسى أن يكون سمعه مني , فأنصت إليه وأريه كأني لم أسمعه قبل ذلك. قال: وقال سفيان بن عيينة , والفضل بن دكين , ومحمد بن عمر: مات عطاء بمكة سنة خمس عشرة ومائة. وقال محمد بن عمر: وكان له يوم مات ثمان وثمانون سنة , ثم قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي , قال: حدثنا أبو المليح , قال: مات عطاء سنة أربع عشر ومائة. وذكره خليفة (الطبقات. ص: 280) لكنه قال: إن أباه مولى لبني جمح , ويقال: لبني فهر، مات سنة سبع عشرة. وترجم له البخاري (التاريخ الكبير. ج: 6. ص: 463. الترجمة: 2969) فقال: أبو محمد مولى آل أبي خثيم القرشي الفهري الملكي.
ثم قال: قال حيوة بن شريح , عن عباس بن الفضل , عن حماد بن سلمة: قدمت مكة سنة مات عطاء سنة أربع عشرة ومائة. وقال أبو نعيم: مات سنة خمس عشرة ومائة , سمع أبا هريرة , وابن عباس , وأبا سعيد , وجابرًا وابن عمر، رضي الله عنهم. وقال الذهبي (سير أعلام النبلاء. ج:5. ص: 78 وما بعدها. ترجمة: 29) : يقال: ولاؤه لبني جمح , كان من مولدي الجند , ونشأ في مكة , ولد في خلافة عثمان، حدث عن عائشة , وأم سلمة , وأم هانئ , وابن عباس , وحكيم بن حزام , ورافع بن خديج , وزيد بن أرقم , وزيد بن خالد الجهني , وصفوان بن أمية , وأبي الزبير , وعبد الله بن عمرو , وابن عمر , وجابر , ومعاوية , وأبي سعيد , وعدة من الصحابة , وأرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم , وأبي بكر , وعتاب بن أسيد , وعثمان بن عفان , والفضل بن عباس , وطائفة. ثم قال بعد أن ذكر لطائفة من مشايخه التابعين وتلاميذه، قال أبو داود: أبو نوبي , وكان يعمل المكاتل , وكان عطاء أعور أشل أفطس أعرج أسود , قال: وقطعت يده مع ابن الزبير.(4/960)
ثم قال: وقال أبو عاصم الثقفي: سمعت أبا جعفر الباقر يقول للناس وقد اجتمعوا: عليكم بعطاء , هو والله خير مني. وعن أبي جعفر قال: خذوا من عطاء ما استطعتم. وبعد أن ذكر طرفًا مما روي عن شدة إيمانه وغزارة علمه , قال: قال الأصمعي: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك وهو جالس على السرير وحوله الأشراف , وذلك في وقت حجه في خلافته , فلما بصر به عبد الملك قام إليه فسلم عليه وأجلسه معه على السرير , وقعد بين يديه , وقال: يا أبا محمد , حاجتك؟ قال: أمير المؤمنين , اتق الله في حرم الله وحرم رسوله , فتعاهده بالعمارة , واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار , فإنك بهم جلست هذا المجلس , واتق الله في أهل الثغور , فإنهم حصن المسلمين , وتفقد أمور المسلمين , فإنك وحدك المسؤول عنهم , واتق الله فيمن على بابك , فلا تغفل عنهم ولا تغلق دونهم بابك , فقال له: أفعل. ثم نهض وقال: فقبض عليه عبد الملك وقال: يا أبا محمد , إنما سألتنا حوائج غيرك وقد قضيناها , فما حاجتك؟ قال: ما لي إلى مخلوق حاجة، ثم خرج فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد. في آثار وأخبار غريبة وكثيرة عنه.
وترجم له في (تذكرة الحفاظ. ج:1. ص: 91. الترجمة:90) وفي (ميزان الاعتدال. ج:3. ص:70. الترجمة: 5640) وفيه نقل عن يحيى القطان قوله: مرسلات مجاهد أحب إلينا من مرسلات عطاء , يأخذ كل من ضرب. وقال أحمد: ليس في المرسل أخف من مرسل الحسن وعطاء , كانا يأخذان من كل أحد. وأسند إلى علي بن المديني القول بأن ابن جريج وقيس بن سعد تخليا عن عطاء لآخرة. قلت: رحم الله القطان وأحمد , ليس بعد مقالهما مقال لقائل، لكن في النفس شيء من حديثهما عن عطاء والحسن , فإن يكن أبو محمد والحسن لا يتخيران من يأخذان عنه , فما من شك في أنهما كانا يتخيران ما يأخذان ينخلانه ويمحصانه , ومثلهما في علمهما وتقواهما من ينتهي إليه في التوثيق , فإن لم يكن في توثيق الرجال , ففي توثيق نقله , أما نحن فنتقرب إلى الله - ونرجو أن يتقبل - بالأخذ بكل ما رواه عطاء والحسن , إلا أن يثبت لدينا ما يخالف روايتهما , ولا نحسب إلا أنه لم يبلغهما رحمهما الله رحمة واسعة. وانظر ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 7. ص: 199. الترجمة: 384) .(4/961)
حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان له أرض فليزرعها".
أخبرني أحمد بن يحيى , قال: حدثنا أبو نعيم , قال: حدثنا همام بن يحيى , قال: سأل عطاء سليمان بن موسى , قال: حدث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها أخاه)) .
وقال ابن ماجه في سننه (1)
"حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي , حدثنا الوليد بن مسلم , حدثنا الأوزاعي , حدثني عطاء قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ((كان لرجال منا فضول أرضين يؤاجرونها على الثلث والربع , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كانت له فضول أرضين فليزرعها أو ليزرعها أخاه , فإن أبى فليمسك أرضه)) .
وحدثنا عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي , حدثنا ضمرة بن ربيعة , عن ابن شوذب , عن مطرف , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: ((خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها ولا يؤاجرها)) .
وقال الدارقطني في سننه (2)
"حدثنا ابن صاعد , ومحمد بن هارون الحضرمي , وأحمد بن علي بن العلاء , والقاضي الحسين بن إسماعيل , وأحمد بن الحسين بن الجنيد , قالوا: أخبرنا زياد بن أيوب , أخبرنا عباد بن العوام، أخبرني سفيان بن حسين , عن يونس بن عبيد , عن جابر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة , والمزابنة , والمخابرة , وعن الثنيا , إلا أن يعلم)) .
وقال ابن حبان (3)
"أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم , قال: حدثنا محمد بن إبراهيم , قال: حدثنا الوليد , قال: حدثنا الأوزاعي , قال: حدثني عطاء , قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ((كانت لرجال منا فضول أرضين يؤاجرونها على الثلث والربع والنصف وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له فضول أرضين فليزرعها أو ليزرعها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه)) .
قال أبو حاتم - رضي الله عنه -: قوله: ((ليزرعها أخاه)) يريد به: فليمنحها أخاه , ولو كان ذلك للزراعة نفسها لم يكن لقوله: ((أو ليزرعها)) معنى؛ لأنهم كانوا يزارعون على الثلث والربع والنصف على ما في الخبر.
وأخبرنا الحسن بن سفيان , قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء , قال: حدثني مهدي بن ميمون , قال: حدثنا مطر الوراق , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت له أرض فليزرعها , فإن عجز عنها فليمنحها أخاه)) .
__________
(1) ج: 2. ص: 819 و 820. ح: 2451 و2454.
(2) ج: 3. ص: 48. ح: 200.
(3) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 312 و313. ح: 5166 و5167.(4/962)
وقال الطحاوي (1)
"حدثنا ربيع المؤذن , قال: حدثنا بشر بن بكير , قال: حدثني عطاء بن أبي رباح , عن جابر بن عبد الله , قال: ((كان لرجال منا فضول أرضين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكانوا يؤاجرونها على النصف والثلث والربع , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنح أخاه , فإن أبي فليمسك)) .
وحدثنا ابن مرزوق , قال: حدثنا أبو عاصم , عن ابن جريج , قال: حدثنا عطاء , عن جابر ... مثله.
وحدثنا سليمان بن شعيب , قال: حدثنا الخصيب , قال: حدثنا همام , قال: قيل لعطاء: هل حدثك جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يؤاجرها؟)) قال عطاء: نعم.
وحدثنا محمد بن خزيمة , قال: حدثنا عبد الله بن رجاء , قال: قال: حدثنا همام , قال: سأل سليمان بن موسى عطاء وأنا شاهد، ثم ذكر بإسناده مثله.
وحدثنا إبراهيم بن أبي داود , قال: حدثنا خطاب بن عثمان الفوزي , قال: حدثنا ضمرة , عن ابن شوذب , عن مطر , عن عطاء , عن جابر بن عبد الله , قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وذكر مثله.
وحدثنا ربيع المؤذن , قال: حدثنا سعيد بن عفير , قال: حدثنا يحيى بن أيوب , عن ابن جريج , عن عطاء , وأبي الزبير , عن جابر , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... مثله.
__________
(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 107.(4/963)
وقال ابن عدي (1)
"أخبرنا ابن أبي سويد، حدثنا عبد الله بن رجاء، أنبأنا همام , أن عطاء سأله سليمان بن موسى سليمان بن موسى: في أحاديث شتى أوردها بعد أن ترجم له أعقبها في نهاية الترجمة بقوله: ولسليمان بن موسى أورد له ابن عدي أحاديث شتى منها هذا الحديث، ثم أعقبها بقوله كذا: غير ما ذكرته من الحديث , وهو فقيه راوٍ, حدث عنه الثقات من الناس , وهو أحد علماء الشام , وقد روى أحاديث ينفرد بها لا يرويها غيره , وهو عندي ثبت صدوق. وذكر ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج: 4. ص: 226. ترجمة: 377) ، فأشار إلى أنه أخرج له البيهقي والأربعة , وأورد توثيقه , ووصفه بالعلم عن جماعة , وعن ابن معين أنه وصف حديثه عن مالك بن مخامر وعن جابر بأنه مرسل , وأورد عن آخرين وصفه بالإرسال , وبأنه لم يدرك بعض من أسند إليهم , ونقل عن ابن حاتم: محله الصدق , وفي حديثه بعض الاضطراب , ولا أعلم أحدًا من أصحاب مكحول أفقه ولا أثبت منه. قلت: قال البخاري (في الضعفاء الصغير. ص: 109. ترجمة: 146) سليمان بن موسى الدمشقي، ويقال: كنيته أبو أيوب , سمع عطاء , وعمرو بن شعيب. ثم أشار إلى حديث له عن الزهري: "لا نكاح إلا بولي" ثم نقل عن ابن جريج قوله: سألت الزهري فلم يعرفه. قال ابن جريج: وكان سليمان بن موسى يثني عليه. ثم قال البخاري: عنده مناكير. وقال النسائي في (كتاب الضعفاء والمتروكين. ص: 122 الترجمة: 867) : سليمان بن موسى الدمشقي أحد الفقهاء ليس بالقوي في الحديث. وذكره الذهبي في (الميزان. ج: 2. ص: 225 و226. الترجمة: 318) وبعد أن أورد أقوالهم فيه وأحاديث ممن انتقدوه بشأنها , قال: قلت: سليمان فقيه أهل الشام في وقته قبل الأوزاعي , وهذه الغرائب التي تستنكر له يجوز أن يكون حفظها. وأنا شاهد , حدثك جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها؟)) قال عطاء: نعم.
وحدثك جابر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ينبذ البسر والثمر جميعًا والزبيب والثمر جميعا)) ؟ قال: نعم.".
وعن طريق سعيد بن ميناء روى حديث جابر كل من أحمد , ومسلم , وابن حبان , والطحاوي , وابن الجارود.
__________
(1) الكامل. ج: 3. ص: 118.(4/964)
قال أحمد (1)
"حدثنا عفان , حدثنا سليم بن حيان , حدثنا سعيد بن ميناء , عن جابر بن عبد الله قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له فضل أرض أو ماء فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا تبيعوها، فسألت سعيدًا: ما (لا تبيعوها؟) الكراء؟ قال: نعم)) .
وقال مسلم في صحيحه (2)
"حدثنا عبد الله بن هاشم , حدثنا بهز , حدثنا سليم بن حيان، حدثنا سعيد بن ميناء , عن جابر بن عبد الله: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة , والمحاقلة , والمخابرة , وعن بيع الثمرة حتى تشقح)) قال: قلت لسعيد: ما تشقح؟ قال: تحمار وتصفار ويؤكل منها.
وحدثنا عبيد الله القواريري , ومحمد بن عبيد الغبري , واللفظ لعبيد الله , قالا: حدثنا حماد بن زيد , حدثنا أيوب , عن أبي الزبير , وسعيد بن ميناء , عن جابر بن عبد الله قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة , والمزابنة
, والمعاومة , والمخابرة - قال أحدهما: بيع السنين هي المعاومة - وعن الثنيا ورخص في العرايا)) .
وحدثني حجاج بن الشاعر , حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد , حدثنا سليم بن حيان , حدثنا سعيد بن ميناء , قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان له فضل أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا تبيعوها)) . فقلت لسعيد: ما قوله: لا تبيعوها؟ يعني الكراء؟ قال: نعم.
وقال ابن حبان (3)
"أخبرنا الحسين بن عبد الله القطان بالرقة , قال: حدثنا حكيم بن سيف الرقي قال: حدثنا عبيد الله بن عمرو , عن زيد بن أبي أنيسة , عن أبي الوليد المكي , عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة , والمزابنة , والمخابرة , وأن يباع النخل حتى يشقح , والإقشاح أن تحمر أو تصفر , ويطعم منه شيء. قال زيد: فقلت لعطاء: أسمعت هذا من جابر بن عبد الله ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم)) . قال أبو حاتم: أبو الوليد اسمه سعيد بن ميناء المكي".
__________
(1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 117. ح: 375.
(2) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 192 وما بعدها.
(3) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 313. ح: 5169.(4/965)
وقال الطحاوي (1)
"وحدثنا إبراهيم بن مرزوق , قال: حدثنا أبو داود , عن سليم بن حيان , عن سعيد بن ميناء , عن جابر بن عبد الله , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان له فضل ماء أو فضل أرض فليزرعها أو يزرعها ولا تبيعوها)) قال
سليم: فقلت لهم: يعني الكراء؟ قال: نعم.
وقال ابن الجارود (2)
"حدثنا محمد بن يحيى , قال: حدثنا أبو النعمان ومسدد , قالا: حدثنا حماد بن زيد , عن أيوب , عن أبي الزبير , وسعيد بن ميناء , عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة , والمزابنة , والمخابرة , والمعاومة - وقال: الآخر بيع السنين - وعن الثنيا ورخص في العرايا)) .
وروى حديث جابر عن طريق عمرو بن دينار كل من مسلم , والحميدي , والنسائي , والطحاوي.
قال مسلم في صحيحه (3)
" حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سفيان , عن عمرو , عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة)) .
وقال الحميدي في مسنده (4)
"وحدثنا سفيان , قال: حدثنا عمرو بن دينار , قال: قال جابر بن عبد الله: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة)) قال سفيان: وكل شيء سمعته من عمرو بن دينار قال لنا فيه: سمعت جابرًا، إلا هذين الحديثين، يعني: لحوم الخيل، والمخابرة، فلا أدري بينه وبين جابر فيهما أحد أم لا".
__________
(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 107.
(2) المنتقى. ص: 205. ح: 598.
(3) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 192 وما بعدها.
(4) ج:2. ص: 529. ح: 1255.(4/966)
وقال النسائي في سننه (1)
"حدثنا حرمي بن يونس، قال: حدثنا عارم , قال: حدثنا حماد بن زيد , عن عمرو بن دينار , عن جابر بن عبد الله ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .
أخبرني محمد بن عامر , قال: حدثنا شريح , قال: حدثنا محمد بن مسلم , عن عمرو بن دينار , عن جابر , قال: ((نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة , والمحاقلة , والمزابنة)) .
جمع سفيان بن عيينة حديثين فقال عن ابن عمر وجابر:
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن , قال: حدثنا ابن المسور , قال: حدثنا سفيان بن عيينة , عن عمرو بن دينار , عن ابن عمر وجابر: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر حتى يبدو صلاحه , ونهى عن المخابرة كراء الأرض بالثلث أو الربع)) . رواه أبو النجاشي واخلتف عليه فيه"
وقال الطحاوي (2)
"حدثنا فهد , قال: حدثنا ابن أبي مريم , قال: أخبرنا ابن مسلم الطائفي , قال: أخبرني إبراهيم بن ميسرة , قال: أخبرني عمرو بن دينار , عن جابر بن عبد الله قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة , والمحاقلة، والمخابرة على الثلث والربع والنصف من بياض الأرض، والمزابنة: بيع الرطب في رؤوس النخل بالثمر، وبيع العنب في الشجر بالزبيب , والمحاقلة: بيع الزرع قائمًا هو على أصوله بالطعام)) .
وروى حديث جابر عن طريق أبي الزبير المكي كل من أحمد , وأبو حنيفة , ومسلم , والترمذي , وابن ماجه , وابن حبان , والرامهرمزي , والطحاوي.
قال أحمد في مسنده (3)
"حدثنا حسن , حدثنا زهير , عن أبي الزبير , عن جابر , قال: ((كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنصيب من القصري , ومن كذا , فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه وإلا فليدعها)) .
__________
(1) ج: 7. ص: 48.
(2) معاني الآثار. ج: 4. ص: 111
(3) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 116. ح: 371.(4/967)
وقال أبو حنيفة في إسناده عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي (1)
عن جابر , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ((نهى عن المزابنة والمحاقلة)) .
وقال مسلم في صحيحه (2)
"حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , وعلي بن حجر , قالا: حدثنا إسماعيل - وهو ابن علية - عن أيوب , عن أبي الزبير , عن جابر , عن النبي صلى الله عليه وسلم ... بمثله، غير أنه لا يذكر بيع السنين هي المعاومة.
وحدثنا أحمد بن يونس , حدثنا زهير , حدثنا أبو الزبير , عن جابر قال: ((كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنصيب من القصري ومن كذا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو فليحرثها أخاه وإلا فليدعها)) .
وحدثني أبو الطاهر , وأحمد بن عيسى , جميعًا عن ابن وهب، قال ابن عيسى: حدثني عبد الله بن وهب , حدثني هشام بن سعد , أن أبا الزبير المكي حدثه , قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم
نأخذ الأرض بالثلث والربع بالماذيانات , فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: ((من كانت له أرض فليزرعها , فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها)) .
وقال أبو عيسى (3)
"حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب الثقفي , حدثنا أيوب , عن أبي الزبير , عن جابر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة, ورخص في العرايا)) . وتعقبه بقوله: حديث
حسن صحيح".
وقال ابن ماجه في سننه (4)
"حدثنا أزهر بن مروان , حدثنا حماد بن زيد , عن أيوب , عن أبي الزبير , وسعيد بن ميناء , عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة)) .
__________
(1) مسند أبي حنيفة. ص: 171.
(2) على هامش شرح النووي. ج: 10 ص: 192 وما بعدها.
(3) الجامع الصحيح. ج: 3. ص: 605. ح: 1313.
(4) ج: 2. ص: 762. ح: 2265.(4/968)
وقال ابن حبان (1)
"أخبرنا أبو يعلى , قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم المروزي , قال: أخبرنا يحيى بن سليم , عن ابن خثيم , عن أبي الزبير , عن جابر , قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لم يذر المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله)) . هو إسحاق بن أبي إسرائيل".
وقال الرامهرمزي (2)
"حدثني أبي , حدثنا أبو داود , حدثنا يحيى بن معين , حدثنا عبد الله بن رجاء، قال: ابن خثيم حدثنا، عن أبي الزبير , عن جابر , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله)) .
وقال الطحاوي (3)
"حدثنا ابن أبي داود , قال: حدثنا يحيى بن معين , قال: حدثنا عبد الله بن رجاء , قال: ابن خثيم حدثني، عن أبي الزبير , عن جابر , قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله عز وجل)) .
حدثنا فهد , قال: حدثنا محمد بن السعيد , قال: أخبرنا يحيى بن سليم الطائفي , عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، فذكر بإسناده مثله، وزاد: ((من الله ورسوله)) .
وحدثنا يونس , قال: أخبرنا ابن وهب , قال: أخبرني هشام بن سعد , أن أبا الزبير المكي حدثه قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ((كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ الأرض بالثلث والربع وبالماذيانات , فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك)) .
__________
(1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 317. ح: 5177.
(2) المحدث الفاضل. ص: 486. ح: 594.
(3) معاني الآثار. ج: 4. ص: 107 و108.(4/969)
وحدثنا يونس , قال: حدثنا عبد الله بن نافع المدني , عن هشام بن سعد , عن أبي الزبير المكي , عن جابر بن عبد الله , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن رجالاً يكرون مزارعهم بنصف ما يخرج منها وبثلثه وبالماذيانات، فقال في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه فإن لم يفعل فليمسكها)) .
وحدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني هشام بن سعد , أن أبا الزبير المكي حدثه , قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ((كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ الأرض أو الربع "بالماذيانات" فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك)) .
وحدثنا سليمان بن شعيب , قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد , قال: حدثنا زهير بن معاوية , عن أبي الزبير , عن جابر قال: ((كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنصيب كذا وكذا , فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه وإلا فليزرعها)) .
وروى الطحاوي حديث جابر عن طريق واسع بن حبان فقال (1)
"حدثنا ابن أبي داود , قال: حدثنا الوهبي , قال: حدثنا ابن إسحاق , عن محمد بن يحيى بن حبان , عن عمه واسع بن حبان (2)
عن جابر بن عبد الله قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) .
__________
(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 112.
(2) واسع بن حبان المازني المدني روى عن رافع بن خديج وعبد الله بن عمر وأبي سعيد وجابر وآخرين روى عنهم ابن حبان وابن أخيه محمد بن يحيى. قال عنه أبو زرعة: مدني ثقة. (الجرح والتعديل. ج: 9. ص: 48. الترجمة:204) . قال ابن حبان (الثقات. ج: 5. ص: 498 و499) : أمه هند بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وقال ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج: 11. ص: 102. ترجمة: 125) : بعد أن أورد كلام أبي زرعة وابن حبان ذكره البغوي في الصحابة وقال: في صحبته مقال. وقال العجلي: مدني ثقة. انظر العجلي (معرفة الثقات. ج: 2. ص: 338. الترجمة: 1925) وزعم العبدوي أنه شهد بيعة الرضوان - زاد في (الإصابة ج: 3. ص: 627 الترجمة: 9093) نقلًا عن العبدوي - والمشاهد بعدها , وقتل يوم الحرة. وتعقبه بقوله: قلت: وهذا غير الراوي فيما أظن لأنه مشهور في التابعين وحديثه في صحيح مسلم. وقد فرق بينهما ابن قنصون في ذيل الاستيعاب.(4/970)
وروى النسائي حديث جابر عن طريق أبي سلمة , فقال (1)
"أخبرنا الثقة , قال: حدثنا حماد بن مسعدة , عن هشام بن عبد الله , عن يحيى بن أبي كثير , عن أبي سلمة , عن جابر بن عبد الله ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمخاضرة (2) -والمخاضرة: بيع الثمر قبل أن يزهو - والمخابرة وبيع الكرم بكذا وكذا صاع.)) خالفه عمرو بن أبي سلمة , فقال: عن أبي هريرة ".
وروى الدارقطني حديث جابر عن طريق ابن المنكدر , فقال (3)
"حدثنا محمد بن نوح. أخبرنا جعفر بن محمد بن حبيب , أخبرنا عبد الله بن رشيد. أخبرنا عبيد الله بن عبيد الله , عن ذر , عن محمد بن المنكدر , عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض إلا بذهب أو فضة)) .
وروى مسلم حديث جابر عن طريق أبو سفيان , فقال (4)
__________
(1) ج: 7. ص: 36.
(2) قال ابن الأثير (النهاية. ج: 2. ص: 41) : وفيه أنه نهى عن المخاضرة وهي بيع الثمار خضرًا لم يبد صلاحها. والكلمة مدارها الطراوة التي يتسم بها النبات في عنفوان خروجه ويتسم بها الزهر عند انبثاق الأكمام عنه ثم استعملت في وصف الطري من كل شيء
(3) سنن الدارقطني. ج: 3. ص: 36. ح: 147.
(4) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 192 وما بعدها.(4/971)
"حدثنا أحمد بن المثنى. حدثنا يحيى بن حماد. حدثنا أبو عوانة , عن سليمان، حدثنا أبو سفيان , عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كانت له أرض فليهبها أو ليعرها)) .وروى حديث جابر عن طريق ابن أبي عياش كل من مسلم وابن حبان.
قال مسلم في صحيحه (1)
"حدثني هارون بن سعيد الأبلي. حدثنا وهب. أخبرني عمرو - وهو ابن الحارث - أن بكيرًا حدثه , أن عبد الله بن أبي سلمة حدثه , عن النعمان بن أبي عياش , عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .
وحدثنيه حجاج بن الشاعر. حدثنا أبو الجواب. حدثنا عمار بن زريق , عن الأعمش بهذا الإسناد , غير أنه قال: ((فليزرعها أو فليزرعها رجلا)) .
وقال ابن حبان (2)
"أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم , قال: حدثنا حرملة بن يحيى , قال: حدثنا ابن وهب , قال: أخبرني عمرو بن الحارث , أن بكيرًا حدثهم , أن عبد الله بن أبي سلمة حدثه , عن النعمان بن أبي عياش , عن جابر بن عبد الله ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)) .
قال بكير: وحدثني نافع , أنه سمع ابن عمر يقول: ((كنا نكرى أرضنا , ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .
وروى النسائي حديث جابر عن طريق يزيد بن نعيم (3) ومطر , فقال (4) : "وقد روى النهي عن المحاقلة يزيد بن نعيم عن جابر بن عبد الله.
__________
(1) على هامش شرح النووي. ج:10. ص: 192 وما بعدها.
(2) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 314. ح: 5170.
(3) يزيد بن نعيم بن هزال الأسلمي حجازي , كذا قال ابن حجر (تهذيب التهذيب ج: 11. ص:365. الترجمة: 708) روى عن أبيه وجده. يقال: مرسل - يعنى أنه يرسل عن جده ولم يسمع منه - وجابر , ويقال: لم يسمع منه , وسعيد بن المسيب وعنه زيد بن أسلم , وهو من أقرانه , وأبو سلمة بن عبد الرحمن , وهو أكبر منه , ويحيى بن سعيد الأنصاري , ويحيى بن عبد الرحمن , وهو أكبر منه , ويحيى بن سعيد الأنصاري , ويحيى بن كثير , وهشام بن سعد , وعكرمة بن عمار , ذكره ابن حبان في الثقات. قلت - القائل ابن حجر -: حديثه عن جابر متصل , ووقع التصريح به عند مسلم. وقال البخاري: سمع جابر.
(4) ج: 7. ص: 36.(4/972)
أخبرنا محمد بن إدريس , قال: حدثنا أبو توبة , قال: حدثنا معاوية بن سلام , عن يحيى بن أبي كثير , عن يزيد بن نعيم , عن جابر بن عبد الله ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحقل وهي المزابنة)) .
أخبرني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم , عن يونس , قال: حدثنا حماد , عن مطر , عن جابر رفعه ((نهى عن كراء الأرض)) .
أما الحديث الثالث الذي نقف عنده فهو حديث سعد بن أبي وقاص الذي رواه كل من أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والطحاوي، وقد رأينا أن نثبته هنا ونقدمه على غيره اعتبارًا لمقام سعد - رضي الله عنه – فهو أحد العشرة وآخرهم لحاقًا بالرفيق الأعلى , وأحد السبعة الذين عهد لهم الفاروق - رضي الله عنه - بأمر الخلافة من بعده , وإن كنا نشك في صحة هذا الحديث , إذ مداره عبد الرحمن بن لبيبة , أو ابن أبي لبيبة عبد الرحمن بن عطاء القرشي مولاهم أبو محمد ابن بنت أبي لبيبة ويقال أحيانًا: ابن لبيبة المدني , روى عن عبد الملك بن جابر بن عتيك ومحمد بن جابر بن عبد الله وسليمان بن يسار وسعيد بن المسيب وأبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر , وعنه ابن أبي ذئب وسليمان بن بلال والدراوردي وهشام بن سعد وحاتم بن إسماعيل وغيرهم , نقل ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: ص: 230. الترجمة: 467) عن أبي حاتم قوله: شيخ يحول من كتاب الضعفاء , ولفظ أبي حاتم الرازي. (الجرح والتعديل. ج: 5 ص: 299. الترجمة:1269) رواه ابنه , فقال: وسألته عنه , فقال: شيخ. قلت: أدخله البخاري في كتاب الضعفاء , قال: يحول من هناك. ولفظ البخاري (التاريخ الكبير. ج:5. ص: 336.الترجمة: 1070. والضعفاء الصغير ص: 142. الترجمة: 206) "فيه نظر". ونقل ابن حجر , عن النسائي أنه قال: ثقة. قال: وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن سعد: توفي سنة ثلاث وأربع ومائة , وكان ثقة , قليل الحديث. ثم قال: قلت: وقال ابن حبان: بصري , أصله من أهل المدينة , يعتبر حديثه إذا روى عن غير عبد الكريم أبي أمية. وقال الأزدي: لا يصح حديثه.(4/973)
وقال ابن وضاح: كان رفيقًا لمالك في الطلب. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. وقال ابن عبد البر: ليس عندهم بذاك، وترك مالك الرواية عنه هو وجاره.
قلت: لم أقف على ترجمة له في النسخة المطبوعة التي بين يدي من كتاب الثقات لابن حبان , ولعله ذكره في معرض ترجمة أخرى , ولعل ابن حبان مثل عدد غيره من نقدة الحديث , ومنهم يحيى بن معين ممن يضعف حديث عبد الكريم أبي
أمية؛ لأنهم يتهمونه بالقول بالإرجاء , ولذلك ضعفوا ابن أبي لبيبة , وحصر ابن حبان تضعيفه فيما نقل عنه ابن حجر في روايته عن عبد الكريم , وانظر ترجمة عبد الكريم وأقوالهم فيه في (تهذيب التهذيب. ج: 6. ص: 376. الترجمة:716) . ونقل الذهبي في (الميزان. ج:2. ص: 579. ترجمة: 4919) تلخيصًا لما نقله ابن حجر، ثم قال: قيل: مات سنة ثلاث وأربع ومائة. وفيه كلام. كما أن الحديث نفسه يختلف في الحكم الذي يشرعه عن حديثي رافع بن خديج وجابر بن عبد الله اللذين سبق أن أدرجناهما بأسانيدهما المختلفة وغالبيتها صحيحة لا مجال للكلام فيها. وعن أحاديث كل من أبي سعيد الخدري , وأبي هريرة , وأنس بن مالك , وثابت بن الضحاك , التي سندرجها على التوالي عقب هذا الحديث المنسوب إلى سعد بن أبي وقاص , وهي كما سيتضح من أسانيدها أقوى من حديث ابن لبيبة أو ابن لبيبة عن سعد , فمعظم أسانيدها لا مجال للتقول فيها.
قال أحمد في مسنده (1)
"حدثنا يعقوب , قال: سمعت أبي يحدث , عن محمد بن عكرمة , عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة , عن سعيد بن المسيب , عن سعد بن أبي وقاص ((أن أصحاب المزارع في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي بالزرع , وما سعد بالماء مما حول النبت، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فاختصموا في بعض ذلك , فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا بذلك , وقال: أكروا بالذهب والفضة)) .
__________
(1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 120. ح: 385.(4/974)
وقال أبو داود في سننه (1)
"حدثنا عثمان بن أبي شيبة , حدثنا يزيد بن هارون , أخبرنا إبراهيم بن سعد , عن محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام , عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة (2) عن سعيد بن المسيب عن سعد قال: ((كنا نكري الأرض بما على السواقي من الزرع وما سعد بالماء منها , فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك , وأمرنا أن نكريها بذهب أو فضة)) .
وقال النسائي في سننه (3)
"أخبرنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم , قال: حدثني عمي , قال: حدثنا أبي , عن محمد بن عكرمة , عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة , عن سعيد بن المسيب , عن سعد بن أبي وقاص , قال: ((كان أصحاب المزارع يكرون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم مزارعهم بما يكون علي المساقي من الزرع , فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فاختصموا في بعض ذلك , فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا بذلك , وقال: أكروا بالذهب والفضة)) .
وقال ابن حبان (4) : "أخبرنا عبد الله بن محمد , قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم , قال: أخبرنا يزيد بن هارون , قال: أخبرنا إبراهيم بن سعد , عن محمد بن عكرمة , عن عبد الرحمن بن الحارث , عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة , عن بن المسيب , عن سعد بن أبي وقاص , قال: ((كنا نكري الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على السواقي من الزرع , وبما سقي بالماء منها , فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك , ورخص لنا أن نكريها بالذهب والورق)) .
__________
(1) ج: 3. ص 258. ج: 3391.
(2) ج: 3. ص 258. ج: 3391.
(3) ج:7. ص:41.
(4) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص:317 و318. ح: 5178.(4/975)
وقال الطحاوي (1)
"حدثنا أحمد بن داود , قال: أخبرنا إبراهيم بن سعد , قال: حدثني محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن لبيبة - في السند وهم أكبر الظن أنه من الطابع، فمحمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي , وجده عبد الرحمن ليس هو عبد الرحمن بن لبيبة، وهذا الأخير له ابن يسمى محمد بن عبد الرحمن أيضًا، وقد روى عنه ابن عكرمة كما روى هو نفسه مباشرة - عن سعيد بن المسيب , عن سعد بن أبي وقاص , قال: ((كان الناس يكرون المزارع بما يكون على السواقي وما يسقى بالماء مما حول البير , فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك , وقال: أكروها بالذهب والورق)) .
وأما الحديث الرابع الذي نقف عنده , فهو حديث أبي سعيد الخدري , الذي رواه كل من أحمد , ومالك , والنسائي , وابن ماجه.
قال أحمد في مسنده (2)
"حدثنا محمد بن إدريس، يعني الشافعي , قال: أنبأنا مالك , عن داود بن الحصين , عن أبي سفيان مولى أبي أحمد , عن أبي سعيد الخدري ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة)) . والمزابنة: اشتراء الثمر بالتمر في رؤوس النخل , والمحاقلة: استكراء الأرض بالحنطة. وفي لفظ: والمزابنة: اشتراء الثمرة في رؤوس النخل كيلاً".
وقال مالك (3)
"عن داود بن الحصين , عن أبي سفيان مولى ابن أحمد , عن أبي سعيد الخدري ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة , والمحاقلة)) ، والمزابنة: اشتراء الثمر بالثمر في روض النخل، والمحاقلة: كراء الأرض بالحنطة ".
__________
(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 111.
(2) الفتح الرباني ج: 5. ص: 36. ح: 113.
(3) الموطأ. ص:521. ح:21.(4/976)
وقال النسائي في سننه (1)
"أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك , قال: حدثنا يحيى , هو ابن آدم , قال: حدثنا عبد الرحيم , عن محمد بن عمر , عن أبي سلمة , عن أبي سعيد الخدري قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) . خالفهم الأسود بن العلاء فقال: عن أبي سلمة , عن رافع بن خديج ".
وقال ابن ماجه في سننه (2)
"حدثنًا محمد بن يحيى , حدثنا مطرف بن عبد الله , حدثنا مالك , عن داود بن الحصين , عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد , أنه أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة)) . والمحاقلة استكراء الأرض.
أما الحديث الخامس الذي نقف عنده , فهو حديث أبي هريرة الذي رواه كل من البخاري , وابن ماجه , والطحاوي.
قال البخاري في صحيحه (3)
"وقال الربيع بن نافع أبو توبة: حدثنا معاوية بن يحيى , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه , فإن أبى فليمسك أرضه)) .
__________
(1) (3) ج: 7. ص: 39.
(2) ج: 2. ص: 820. ح: 2455.
(3) ج: 3. ص: 72.(4/977)
وقال ابن ماجه في سننه (1)
"حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري , حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع بن معاوية بن سلام , عن يحيى بن أبي كثير , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه)) .
وقال الطحاوي: "حدثنا أبو بكرة , حدثنا حسين بن حفص الأصبهاني , حدثنا سفيان , قال: حدثني سعد بن إبراهيم , قال: حدثني عمرو بن أبي سلمة , عن أبي سلمة بن عبد الرحمن , عن أبي هريرة , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله - يعني مثل حديث واسع بن حيان عن جابر وقد تقدم –".
على أن حديث أبي هريرة هذا قد روي من طرق ثلاث فيها كلام، وبلفظ يختلف عن الروايات السابقة اختلافًا يدعو إلى التأمل!؟.
فروى أحمد في مسنده (2)
"حدثنا أسود , حدثنا شريك , عن سهيل سهيل بن أبي صالح , واسمه ذكوان السمان بن يزيد المدني , روى عن أبيه , وسعيد بن المسيب , والحارث بن مخلد الأنصاري , وآخرين , وفيهم أقرانه , وروى عنه الأربعة , والأعمش , ويحيى بن سعيد , ومالك , وشعبة , وإسحاق الفزاري , وابن جريج , والسفيانان , وخلق غيرهم. قال ابن عيينة: كنا نعد سهيلًا ثبتًا في الحديث. وقال حرب عن أحمد: ما أصلح حديثه. وقال أبو طالب عن أحمد: قال يحيى بن سعيد: محمد - يعني ابن عمرو - أحب إلينا , وما صنع شيئًا سهيل أثبت عندهم. وقال الدوري , عن يحيى بن معين (انظر تاريخ ابن معين ج:2. ص:243) : سهيل بن أبي صالح والعلاء بن عبد الرحمن حديثهما قريب من السواء , وليس حديثهما بحجة.
__________
(1) ج: 2. ص: 820. ح: 2452.
(2) الفتح الرباني ج: 15. ص: 36 ح: 112.(4/978)
وقال ابن أبي حاتم (انظر الرازي الجرح والتعديل. ج: 4. ص: 246. ترجمة:1063) عن أبي زرعة: سهيل أشبه وأشهر , يعني من العلاء، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به , وهو أحب إليَّ من العلاء، وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي (انظر الكامل. ج:3. ص: 1285) - بعد أن أسند إليه عدة أحاديث - ولسهيل أحاديث كثيرة غير ما ذكرت وله نسخ، روى عنه الأئمة مثل النووي , وشعبة , ومالك , وغيرهم من الأئمة , وحدث سهيل عن جماعة عن أبيه , وهذا يدل على ثقة الرجل. حدث سهيل عن سمي , عن أبي صالح. وحدث سهيل , عن الأعمش , عن أبي صالح. وحدث سهيل , عن عبد الله بن مقسم , عن أبي صالح , وهذا يدلك على تمييز الرجل وتمييز بين ما سَمع من أبيه ليس بينه وبين أبيه أحد , وبين ما سمع من سمي الأعمش وغيرهما من الأئمة , وسهيل عندي مقبول الأخبار ثبت لا بأس به , وقد نقل عنه الذهبي (الميزان. ج: 2. ص 243. ترجمة: 3604) هذا القول مع بعض التغيير لعل سببه التلخيص وأحسب ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج: 4. ص: 263. ترجمة: 453) نقل ما أثبته عن الذهبي وكلاهما فيما نقله تقديم وتأخير. وترجم له البخاري في (التاريخ الكبير ج: 4. ص: 104، 105. ترجمة: 2120) ولم ينقل فيه تجريحا , بل أسند إليه حديثًا , وكأنه يريد بذلك الإشارة إلى أنه غير ملتفت إلى تجريحه. عن أبيه عن أبي هريرة قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة: وهو اشتراء الزرع وهو في سنبله بالحنطة , وعن المزابنة: وهو شراء الثمار بالثمر)) .
وقال الترمذي (1)
"حدثنا قتيبة. حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الإسكندراني , عن سهيل بن أبي صالح , عن أبيه , عن أبي هريرة قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) .
وتعقبه بقبوله: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
وشرحه بقوله: والمحاقلة: بيع الزرع بالحنطة , والمزابنة: بيع الثمر على رؤوس النخل بالثمر".
وقال النسائي في سننه (2)
__________
(1) الجامع الصحيح ج: 3 ص: 527. ج: 1224.
(2) ج: 7. ص: 37.(4/979)
"أخبرنا عمرو بن علي , قال: حدثنا ابن عبد الرحمن , قال: حدثنا سفيان , عن سعيد بن إبراهيم , عن عمرو بن أبي سلمة عمرو بن أبي مسلمة التنيمي - بمثناة فنون ثقيلة بعدها تحتانية ثم مهملة - أبو حفص الدمشقي مولى بني هاشم روى عن الأوزاعي وصدقة بن عبد الله وحفص بن ميسرة ومالك والليث وطائفة وعنه ابنه سعيد والشافعي وآخرون وصفه أحمد بن صالح المصري بأنه حسن المذهب وأوضح ذلك بقوله: وكان عنده شيء سمعه من الأوزاعي وشيء أجازه له , فكان يقول فيما سمع: حدثنا الأوزاعي , ويقول في الباقي: عن الأوزاعي. ويظهر أنه يحدث إجازة أكثر مما يحدث سماعًا , فقد روى ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 8. ص: 43. ترجمة: 70) - وعنه ننقل هذه الترجمة بشيء من الإيجاز - عن حامد بن زنجويه , قوله: لما رجعنا من مصر قال لنا أحمد: مررتم بأبي حفص , قلنا: وأي شيء عنده , إنما عنده خمسون حديثًا , والباقي المناولة. قال: المناولة كنتم تأخذون منها وتنظرون فيها ومع أنه روى عنه الجماعة , فقد روي عن ابن معين تضعيفه , وعن أبي حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به , ووصفه العقيلي بأن في حديثه وهما , ووثقه ابن حبان , واختلفوا في وفاته ما بين سنة اثنتي عشرة وسنة أربع عشرة , وذكروا أنه أخطأ في إسناد بعض الأحاديث عن أبيه عن أبي هريرة قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) .
خالفهما محمد بن عمرو , فقال: عن أبي سلمة , عن أبي سعيد.
أما الحديث السادس الذي نقف عنده , فهو حديث أنس بن مالك الذي رواه كل من الحاكم والدارقطني والطحاوي.(4/980)
قال الحاكم في مستدركه (1)
"حدثنا أبو الوليد الفقيه. حدثنا أبو نعيم الجرجاني , حدثنا حماد بن الحسن بن عبسة. حدثنا عمر بن يونس بن القاسم. حدثنا أبي , عن إسحاق بن عبد الله بن طلحة , عن أنس رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والمنابذة)) قال ابن الأثير (النهاية. ج:5. ص: 6) : فيه أنه نهى عن المنابذة في البيع , هو أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب أو أنبذه إليك ليجب البيع، وقيل: هو أن يقول: إذا نبذت إليك الحصاة فقد يجب البيع , فيكون البيع معطاة من غير عقد , ولا يصح. يقال: نبذت الشيء أنبذه نبذًا فهو منبوذ , إذا رميته وأبعدته , ومنه حديث: فنبذ خاتمه , فنبذ الناس خواتمهم؛ أي: ألقاه من يده. وفي حديث علي بن حاتم أمر له لما أتاه بمنبذة أو وسادة , سميت بها؛ لأنها تنبذ؛ أي: تطرح , ومنه الحديث: فأمر بالستر أن يقطع ويجعل له منه وسادتان منبوذتان , وفيه: أنه مر بقبر منتبذ عن القبور؛ أي: منفرد بعيد عنها. وقال ابن منظور (لسان العرب. ج: 3. ص: 512) :
والنبذ يكون بالفعل والقول في الأجسام والمعاني , ومنه نبذ العهد ونقضه وألقاه إلى من كان بينه وبينه , والمنابذة في التجر أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب أو غيره من المتاع , أو أنبذه إليك فقد وجب البيع بكذا وكذا. وقال اللحياني: المنابذة أن ترمي إليه بالثوب , ويرمي إليك بمثله , والمنابذة أيضًا أن يرمي إليك بحصاة عنه أيضًا , وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المنابذة في البيع والملامسة , قال أبو عبيد: المنابذة أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلي الثوب أو غيره من المتاع , أو أنبذه إليك , وقد وجب البيع بكذا وكذا. قال: ويقال: إنما هي أن تقول: إذا نبذت الحصى إليك فقد وجب البيع. ومما يحققه الحديث الآخر أنه نهى عن بيع الحصاة , فيكون البيع معاطاة من غير عقد ولا يصح , ونذر بقية الحديث. وتعقبه بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد , وقد تفرد بإخراجه البخاري وأقره الذهبي ".
وقال الدارقطني في سننه (2)
"حدثنا أبو طالب علي بن محمد بن أحمد بن الجهم الكاتب. أخبرنا حماد بن الحسن. أخبر عمر بن يونس. أخبرنا أبي , عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة , عن أنس بن مالك قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمنابذة والمزابنة)) .
قال عمر: فسره أبي: المخاضرة: لا يشتري شيئًا من الحرث والنخل حتى يونع يحمر أو يصفر، وأما المنابذة: فيرمي بالثوب ويرمى إليكم بمثله , فيقول: هذا لك بهذا. والملامسة: يشتري المبيع فيلمسه لا ينظر إليه. والمحاقلة: كراء الأرض ".
__________
(1) ج:2. ص:57.
(2) ج: 3. ص: 75. ح: 285(4/981)
وقال الطحاوي (1)
"حدثنا إبراهيم بن مرزوق. حدثنا عمر بن يونس بن القاسم , قال: حدثنا أبي , عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة , عن أنس بن مالك مثله، يعني حديث واسع بن حيان عن جابر ".
أما الحديث السابع والأخير , فهو حديث ثابت بن الضحاك الذي رواه كل من ابن حبان والطحاوي.
قال ابن حبان (2)
أخبرنا بكر بن محمد بن عبد الوهاب أبو عمر القزاز بالبصرة، قال: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب , قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد , قال: حدثنا سليمان الشيباني , قال: حدثنا عبد الله بن السائب , قال: سألت عبد الله بن مغفل عن المزارعة , فقال: أخبرني ثابت بن الضحاك ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة)) .
وقال الطحاوي (3)
حدثنا إبراهيم بن مرزوق , قال: حدثنا حبان بن هلال. وحدثنا محمد بن داود , قال: حدثنا هارون بن مسلم , قالا: وحدثنا عبد الواحد بن زياد , قال: حدثنا سليمان الشيباني , قال: حدثني عبد الله بن السائب , قال: سألت عبد الله بن مغفل عن المزارعة , فقال: أخبرني ثابت بن الضحاك ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة)) .
حدثنا فهد , قال: حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني , قال: حدثنا علي بن مهر , عن الشيباني , قال: أخبرنا عبد الله بن السائب ... فذكر بإسناده مثله.
ويظهر أن نفرًا من الصحابة وخاصة من شبابهم , لم تبلغهم بادئ الأمر الأحاديث التي سقناها آنفًا وما شاكلها، أو بلغهم بعض منها بالمعنى وعلى صور غير محددة , أو اختلفت عليهم أسباب ورودها، فكانت لهم فتاوى ناتجة عن اجتهادات شخصية في موضوع التصرف بالكراء وفي تأويل ما بلغهم عن تلك الأحاديث بشأنه , وبتتبع نصوص فتاويهم واجتهاداتهم التي بين أيدينا , يتضح أن حديث جابر بن عبد الله وحديث أبي هريرة وحديث سعد بن أبي وقاص وحديث أبي سعيد الخدري وحديث ثابت بن الضحاك، كل ذلك لم يبلغهم، إنما بلغهم حديث رافع بن خديج , وهو منقول عنه في نصوص بعضها ينقص من بعض , لما سنذكره بعد حين، ويظهر أنهم بعد أن أعلنوا اجتهاداتهم في تأويل حديث رافع وفتاواهم في شأن التصرف في الأرض بالكراء , بلغهم من حديث رافع أو غيره ما حملهم على تعديل مواقفهم.
__________
(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 12.
(2) الإحسان بترتب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 312. ح: 5165.
(3) معاني الآثار. ج: 4. ص: 106.(4/982)
ومن أبرز هؤلاء النفر من الصحابة الذين كانت لهم فتاوى يمكن أن تصفها من أنها متناسخة في هذا الشأن كل من ابن عباس وزيد بن ثابت، وفيما يلي ما نقل عنهما على الترتيب الذي التزمناه في نقل الأحاديث النبوية السالفة: أما ما أُثِر عن ابن عباس، فقد رواه كل من أحمد وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والحميدي والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والطحاوي.
قال أحمد في مسنده (1) حدثنا عبد الرزاق. أنبأنا معمر , عن ابن طاوس , عن أبيه , عن ابن عباس قال: لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها كذا وكذا لشيء معلوم. قال ابن عباس: وهو الحقل , بلسان الأنصار: المحاقلة.
وقال عبد الرزاق في مصنفه (2) أخبرنا معمر , عن عبد الكريم الجزري , قال: قلت لسعيد بن جبير: إن عكرمة يزعم أن كراء الأرض لا يصلح فقال: كذب عكرمة , سمعت ابن عباس يقول: إن خير ما أنتم صانعون في الأرض أن تكروا الأرض البيضاء بالذهب والفضة.
وعن الثوري , عن عبد الكريم الجزري , عن سعيد , أن ابن عباس قال: إن أمثل ما أنتم صانعون أن تستأجروا الأرض البيضاء.
وأخبرنا ابن عيينة , عن عمرو بن دينار , قال: قلت لطاوس: ((لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها. فقال: أي عمرو , أخبرني أعلمهم - يعني ابن عباس – أنه لم ينهه عنها)) .
أخبرنا معمر وابن جريج , عن ابن طاوس , عن أبيه , عن ابن عباس قال: لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها كذا وكذا - لشيء معلوم - قال: وقال ابن عباس: هو الحقل وهو بلسان الأنصار المحاقلة.
__________
(1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 119. ح: 383.
(2) ج: 8. ص: 91 و97. ح: 4447 و4466 و4467) .(4/983)
وقال الحميدي في مسنده (1) حدثنا سفيان , قال: حدثنا عمرو , قال: قلت لطاوس: يا أبا عبد الرحمن , ((لو تركت المخابرة , فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها , فقال: أي عمرو، أخبرني أعلمهم بذلك - يعني ابن عباس - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها , ولكن قال: لأن يمح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليه خراجًا معلومًا)) . وأن معاذًا حين قدم اليمن أقرهم عليها , وأني - أي عمر - أعينهم وأعطيهم , فإن ربحوا , فلي ولهم , وإن نقصوا فعلي وعليهم , وأن (الحيقلة) في الأنصار , فسل عنها. فسألت علي بن رفاعة , فقال: هي المخابرة.
قلت: قال المعلق في الأصل؛ أي الذي نقل عنه: (وإن ألحقت) , وفي (ع) : (وإن الحيقلة) , والصواب عندي: (الحقلة) , والحقيلة: قراح طيب يزرع فيه وفي (ظ) : (الحقلة) .
وقال البخاري في صحيحه (2) حدثنا علي بن عبد الله. حدثنا سفيان , قال عمرو: قلت لطاوس: ((لو تركت المخابرة , فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم نهى عنها، قال: أي عمرو، إني أعطيهم وأغنيهم , وإن أعلمهم أخبرني - يعني ابن عباس رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه , ولكن قال: لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خراجًا معلومًا.))
وحدثنا قبيصة. حدثنا سفيان , عن عمرو قال: ذكرته لطاوس , فقال: يزرع، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه , ولكن قال: ((لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئًا معلومًا)) .
وتعليقًا تحت ترجمة (باب كراء الأرض بالذهب والفضة) .
وقال ابن عباس: إن أمثل ما أنتم صانعون أن تستأجروا الأرض البيضاء من السنة إلى السنة.
وقال مسلم في صحيحه (3)
حدثنا يحيى بن يحيى. أخبرنا حماد بن زيد , عن عمرو , أن مجاهدًا قال لطاوس: انطلق بنا إلى رافع بن خديج فاسمع منه الحديث , عن أبيه , عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال: فانتهره , قال: والله لو أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهى عنه ما فعلته , ولكن حدثني من هو أعلم به منهم - يعني ابن عباس - أن رسول الله قال: ((لأن يمنح الرجل أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا)) .
__________
(1) ج: ا. ص: 236. ح 509.
(2) ج: 3. ص: 69، 72، 73.
(3) على هامش شرح النووي ج: 10. ص: 207.(4/984)
وحدثنا ابن أبي عمر. حدثنا سفيان , عن عمرو وابن طاوس , عن طاوس أنه كان يخابر , قال عمرو: فقلت له: ((يا أبا عبد الرحمن , لو تركت هذه المخابرة، فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة. فقال: أي عمرو، أخبرني أعلمهم في ذلك، أي ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها , إنما قال: لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا)) .
حدثنا ابن أبي عمر. حدثنا الثقفي عن أيوب. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم. جميعًا , عن وكيع , عن سفيان.
وحدثنا محمد بن رمح. أخبرنا الليث , عن ابن جريج.
وحدثني علي بن حجر. حدثنا الفضل بن موسى عن شريك عن شعبة. كلهم عن عمرو بن دينار , عن طاوس , عن ابن عباس , عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديثهم.
وحدثني عبد بن حميد ومحمد بن رافع - قال عبد: أخبرنا , وقال ابن رافع: حدثنا عبد الرزاق - أخبرنا معمر , عن ابن طاوس , عن أبيه , عن ابن عباس , أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها كذا وكذا)) لشيء معلوم , قال: وقال ابن عباس: هو الحقل , وهو بلسان الأنصار المحاقلة.
وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي. أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي. حدثنا عبد الله بن عمر , عن زيد بن أبي أنيسة , عن عبد الملك بن زيد , عن طاوس , عن ابن عباس , أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كانت له أرض فإنه أن يمنحها أخاه خير)) .(4/985)
وقال الترمذي في صحيحه (1) حدثنا محمود بن غيلان , أخبرنا الفضل بن موسى الشيباني. أخبرنا شريك , عن شعبة , عن عمرو بن دينار , عن طاوس , عن ابن عباس , ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم المزارعة , ولكن أمر أن يوفق بعضهم ببعض)) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وقال أبو داود في سننه (2) حدثنا محمد بن كثير. أخبرنا سفيان , عن عمرو بن دينار , قال: سمعت ابن عمر يقول: ما كنا نرى بالمزارعة بأسًا , حتى سمعت رافع بن خديج يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها , فذكرته لطاوس , فقال: قال لي ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها , ولكن قال: ((لأن يمنح أحدكم أرضه خير له من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا)) .
وقال ابن ماجه في سننه (3) حدثنا محمد بن رمح. أنبأنا الليث بن سعد , عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج , عن عمرو بن دينار , عن طاوس , عن ابن عباس أنه لما سمع إكثار الناس في كراء الأرض , قال: سبحان الله , إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا منحها أحدكم أخاه)) ولم ينه عن كرائها.
حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري. حدثنا عبد الرزاق , أنبأنا معمر , عن ابن طاوس , عن أبيه , عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها كذا وكذا)) لشيء معلوم. قال ابن عباس: هو الحقل , وهو بلسان الأنصار المحاقلة.
حدثنا محمد بن الصباح , أنبأنا سفيان بن عيينة , عن عمرو بن دينار , قال: قلت لطاوس: يا أبا عبد الرحمن، لو تركت هذه المخابرة , فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فقال: أي عمرو، إني أعينهم وأعطيهم , وأن معاذ بن جبل أخذ الناس عليها عندنا , وإن أعلمهم - يعني ابن عباس - أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها , ولكن قال: ((لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها أجرًا معلومًا)) .
__________
(1) ج: 3. ص: 668. ح: 1385.
(2) ج: 3. ص: 257. ح: 3389.
(3) ج: 2. ص: 821 و823. ح: 2456 و2457 و2462 و2464.(4/986)
وحدثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي ومحمد بن إسماعيل قالا: حدثنا وكيع , عن سفيان , عن عمرو بن دينار , عن طاوس قال: قال ابن عباس: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يمنح أحدكم الأرض خير له من أن يأخذ خراجًا معلومًا)) .
وقال ابن حبان (1) أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بـ (بست) . حدثنا علي ابن حجر السعدي. حدثنا الفضل بن موسى , عن شريك , عن شعبة , عن عمرو بن دينار , عن طاوس , عن ابن عباس قال: ((لم يحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المزارعة ولكن أمر الناس أن يرفق بعضهم بعضًا)) .
وقال الطحاوي (2)
حدثنا ربيع المؤذن , قال: حدثنا أسد , قال: حدثنا سفيان وحماد بن سلمة وحماد بن زيد , عن عمرو بن دينار , عن طاوس قال: قلت له: يا أبا عبد الرحمن , لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها. فقال: أخبرني أعلمهم - يعني ابن عباس - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها , ولكنه قال: ((لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خراجًا معلومًا)) .
__________
(1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 314. ح: 5172.
(2) معاني الآثار. ج: 4. ص: 110.(4/987)
حدثنا أبو بكرة. حدثنا إبراهيم بن بشار , قال: حدثنا سفيان , عن عمرو ... فذكر بإسناده مثله.
لكن روي عن ابن عباس ما يختلف عن الأقوال المنسوبة إليه , والتي أوردناها آنفًا , ويظهر أنه بعد أن أنكر على رافع ما أنكر , تأكد لديه خلاف ما كان ينسب إليه قول رافع، وأن ما رواه رافع ليس نقلًا غير دقيق لحادثة الرجلين اللذين اختصما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حول المزارعة - ويأتي لفظه قريبًا في حديث زيد بن ثابت - فحكم بينهما بما كان بلغ ابن عباس، ولا توجيهًا خلقيًا، كما نقل عنه بعض الرواة، وإنما هو حكم صريح صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم لآل رافع وفي ظرف مختلف عن ظرف الرجلين صاحبي الخصومة التي كان ابن عباس قد اعتمدها في فتواه، وهذا هو التعليل الوجيه للأثرين اللذين سنوردهما فيما يلي منسوبين إلى ابن عباس , وهما يختلفان جوهريًا عن فتواه التي اعتمدها طاوس ورواها عنه غيره أيضًا.(4/988)
وروى ابن أبي شيبة حديث ابن عباس عن طريق حبيب بن أبي ثابت , فقال (1) حدثنا أبو بكر , قال: حدثنا علي بن مسهر , عن الشيباني , عن حبيب بن أبي ثابت , قال: كنت جالسًا مع ابن عباس في المسجد الحرام , إذ أتاه رجل , فقال: إنا نأخذ الأرض من الدهاقين، فأعتملها ببذري وبقري، فآخذ حقي وأعطيه حقه، فقال له: خذ رأس مالك , ولا تردد عليه عينا، فأعادها عليه ثلاث مرات، كل ذلك يقول له هذا.
وروى أحمد حديث ابن عباس عن طريق عكرمة , فقال (2) حدثنا أبو معاوية. حدثنا الشيباني , عن ابن عباس قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) وكان عكرمة يكره بيع الفصيل. قال ابن منظور (لسان العرب. ج: 11. ص: 558) : والقصيل ما قصل من الزرع أخضر , والجمع قصلان , ويظهر أن القصيل بالقاف هو الرواية الصحيحة؛ لأن الفصيل بالفاء لم يستعمل في النبات , وإنما استعمل في الحيوان. قال ابن منظور (لسان العرب. ج: 11. ص: 558) : والفصال: الفطام قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} . المعنى: ومدى حمل المرأة إلى منتهى الوقت الذي يفصل فيه الولد من رضاعها ثلاثون شهرًا , وفصلت المرأة ولدها أي: فطمته , وفصل المولود عن الرضاع يفصله فصلًا وفصالًا , وأفصله: قطعه والاسم الفصال. وقال اللحياني: فصلته أمه , ولم يخص نوعًا. وفي الحديث: لا رضاع بعد فصال. قال ابن الأثير: أي بعد أن يفصل الولد من أمه وبه سمي الفصيل من أولاد الإبل , فعيل بمعنى مفعول , وأكثر ما يطلق في الإبل , قال: وقد يقال في البقر , ومنه حديث أصحاب الغار فاشتريت به فصيلًا من البقر وفي رواية: فصيلة , وهو ما فصل عن اللبن من أولاد البقر، والفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه والجمع فصلان وفصال.
وروى الهيثمي حديث ابن عباس قال (3) عن ابن عباس قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة)) وكان عكرمة يكره بيع الفصيل , وتعقبه بقوله: رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح) .
__________
(1) الكتاب المصنف. ج: 6. ص: 346. ح: 1297.
(2) الفتح الرباني. ج:15، 36. ح: 114.
(3) مجمع الزوائد. ج: 4. ص: 103.(4/989)
يشهد بهذا التوجيه ما سبق أن نقلناه عن عبد الرزاق من طريق معمر , عن عبد الكريم الجزري (أن عكرمة يزعم أن كراء الأرض لا يصلح) . وعكرمة كان من ألزم الناس لابن عباس وأكثرهم رواية عنه , وقد اعتمده جمهور المحدثين، وإن غمز فيه بعض أقرانه من التابعين , ومعلوم أن تقولات الأقران في بعضهم بعضًا لا تعتمد في تجريح الراوي. وقد نقل ابن حزم في المحلى (1) عن عبد الرزاق أثر عكرمة هذا , ولكن بلفظ مختلف قليلًا عن ذلك الذي نقلناه من مصنف عبد الرزاق , قال ابن حزم: (وعن طريق عبد الرزاق , عن معمر , عن عبد الكريم الجزري , أن عكرمة مولى ابن عباس قال: لا يصلح كراء الأرض) .
أما أثر زيد بن ثابت , فرواه كل من أحمد وعبد الرزاق وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وفيما يلي رواياتهم بألفاظها التي توشك أن تكون واحدة وبأسانيدها.
__________
(1) ج:8. ص:313.(4/990)
قال أحمد في مسنده (1) حدثنا إسماعيل. حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق , عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار , عن الوليد بن أبي الوليد , عن عروة بن الزبير قال: قال زيد بن ثابت: يغفر الله لرافع، أنا والله أعلم بالحديث منه , إنما أتى رجلان قد اقتتلا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع)) ، قال: فسمع رافع قوله: ((فلا تكروا المزارع)) .
وقال عبد الرزاق في مصنفه (2) قال الثوري عن نصر بن جزي , عن عبد الرحمن بن إسحاق , عن الوليد , عن عروة بن الزبير , عن زيد بن ثابت أنه قال: ((يغفر الله لرافع بن خديج، والله ما كان هذا الحديث هكذا، إنما كان ذلك لرجل أكرى لرجل أرضًا فاقتتلا واستبا بأمر تداريا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كان هذا شأنكم فلا تكروا الأرض)) )) . فسمع رافع آخر الحديث ولم يسمع أوله.
قال أبو داود في سننه (3) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا ابن علية.
__________
(1) الفتح الرباني. ج: 15. ص: 121. ح: 389.
(2) ج: 8. ص: 97. ح: 14465.
(3) ج: 3. ص: 275. ح: 3390.(4/991)
وحدثنا مسدد. حدثنا بشر العمي , عن عبد الرحمن بن إسحاق , عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن الوليد بن أبي الوليد , عن عروة بن الزبير , قال: قال زيد بن ثابت: يغفر الله لرافع بن خديج، أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما أتاه رجلان - قال مسدد: من الأنصار ثم اتفقا - قد اقتتلا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع)) . زاد مسدد فسمع قوله: ((لا تكروا المزارع)) .
قال النسائي في سننه (1) أخبرنا الحسين بن محمد قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق , عن أبي عبيدة بن محمد , عن الوليد بن أبي الوليد , عن عروة بن الزبير قال: قال زيد بن ثابت: يغفر الله لرافع بن خديج , أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما كان رجلان اقتتلا , فقال رسول الله: ((إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع)) ، فسمع قوله: ((لا تكروا المزارع)) .
قال ابن ماجه في سننه (2) حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي. حدثنا إسماعيل بن علية. حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق. حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر , عن الوليد بن أبي الوليد , عن عروة بن الزبير قال: قال زيد بن ثابت: يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه، إنما أتى رجلان النبي صلى الله عليه وسلم وقد اقتتلا فقال: ((إن هذا شأنكم فلا تكروا المزارع)) ، فسمع رافع بن خديج قوله: ((فلا تكروا المزارع)) .
__________
(1) ج:7. ص: 50.
(2) ج: 2. ص: 822. ح: 2461.(4/992)
قلت: مدار طرق هذا الحديث جميعها أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، وقد اختلفوا إن كان هو سلمة بن محمد بن عمار أو أخًا له. ونقل ابن حجر في تهذيب التهذيب (1) عن ابن أبي حاتم عن أبيه أنه منكر الحديث , ولا يسمى. قال ابن حجر: وقال في موضع آخر: صحيح الحديث. ومن قبل ذلك نقل عن ابن معين أنه ثقة، ونقل عن الحاكم أبو أحمد أنه ذكر أبا عبيدة هذا فيمن لا يعرف اسمه. ومع توثيق ابن معين وغيره له فانفراده بهذا الحديث عن زيد بن ثابت يدعو إلى التساؤل وخاصة ما رواه من أن زيدًا أقسم بالله أن رافعًا روى الحديث على غير وجهه , وإن كان زيد قد أقسم فعلًا فهذا أمر مستغرب لأن زيدًا ليس بمن يخفى عنه مورد حديث آل خديج، وقد استفاض استفاضة تبلغ حد التواتر كما سننقل عن ابن حزم وحتى لو اشتبه عليه أمر حديث رافع , فما نحسبه يخفى عليه حديث كل من جابر وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وأبي سعيد الخدري وثابت بن الضحاك وإنما الذي نرجحه هو أن يكون لزيد اجتهاد في تأويل هذه الأحاديث ولكن نقل عنه بصيغة فيها بعض المبالغة، غفر الله للراوي.
__________
(1) ج: 12. ص: 160. ترجمة: 765.(4/993)
ثم إن أبا عبيدة روى هذا الأثر عن الوليد بن أبي الوليد عثمان القرشي الذي اختلفوا في ولائه كما اختلفوا في اسم أبيه , ولبعضهم فيه كلام (1)
وكما هو الشأن في ابن عباس وما نقل عنه، تغايرت الرواية عن زيد بن ثابت فقد روى ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود عن طريق جعفر بن برقان , عن ثابت بن الحجاج , عن زيد بن ثابت ما يخالف ما سبق أن نسب إليه.
قال ابن أبي شيبة (2)
حدثنا عمر بن أيوب , عن جعفر بن برقان , عن ثابت بن الحجاج , عن زيد بن ثابت قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، قلت: وما المخابرة؟ قال: أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع)) وقال أحمد في مسنده (3) حدثنا كثير (4) بن جعفر، حدثنا ثابت بن الحجاج قال: قال زيد بن ثابت: ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة)) . قلت: وما المخابرة؟ قال: يؤجر الأرض بنصف أو بثلث أو بربع (زاد في رواية) وبأشباه هذا.
__________
(1) ج: 11. ص: 157. ترجمة: 262.
(2) الكتاب المصنف. ج: 6. ص: 346 الآثر: 2296.
(3) الفتح الرباني ج: 15. ص: 119. ح: 379.
(4) صوابه , عن كثير , عن جعفر , وكثير هذا هو ابن هشام الكلابي أبو سهلة الرقي , وهو ممن روى عن جعفر بن برقان الكلابي , والحديث كما أوردناه رواه كل من ابن أبي شيبة , وعنه أبو داود , عن جعفر بن برقان , وانظر في ترجمة كثير وجعفر , ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 2. ص:84. الترجمة: 131. وج: 8. ص: 429. الترجمة: 709) .(4/994)
وقال أبو داود في سننه (1) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا عمر بن أيوب , عن جعفر بن برقان , عن ثابت بن الحجاج , عن زيد بن ثابت قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة)) . قلت: وما المخابرة؟ قال: أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع.
على أنه قد روي عن رافع بن خديج واقعة تثبت عمليا صحة ما فهمه من نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض , وذلك بطرق يقوي بعضها بعضًا , وإن يكن مدارها بُكير بن عامر وفيه كلام. وفي بعض أسانيدها إليه أيضًا من ينبغي التحري في أمره.
قال أبو داود في سننه (2) حدثنا هارون بن عبد الله. حدثنا الفضل بن دكين , حدثنا بكير (3) - يعني ابن عامر - عن ابن أبي نعم. حدثني رافع بن خديج أنه زرع أرضًا , فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسقيها، فسأله: ((لمن الزرع ولمن الأرض؟)) فقال: زرعي ببذري وعملي , لي الشطر ولبني فلان الشطر , فقال: ((أربيتما فرد الأرض على أهلها وخذ نفقتك)) .
__________
(1) ج3. ص: 261. ح: 3402.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) بكير بن عامر البجلي بن إسماعيل الكوفي , تكلموا فيه فوثقه بعضهم , وضعفه آخرون , حتى قال فيه يحيى بن سعيد - سُئل عنه -: حفص بن غياث تركه , وحسبه إذا تركه حفص كان حفص يروي عن كل أحد , وقال عنه يحيى بن معين: ليس بشيء , ويظهر أن أحدًا من الستة لم يرو عنه غير أبي داود، انظر ابن حجر (تهذيب التهذيب. ج: 1. ص: 491 الترجمة: 907.(4/995)
وقال الدارقطني في سننه (1) حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز. أخبرنا محمد بن حميد. أخبرنا عبد الرحمن بن مغراء , عن عبيدة الضبي (2)
عن عبد الحميد بن عبد الرحمن , عن سالم بن عبد الله بن عمر عن عبد الله عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في مسير له , فإذا هو بزرع تهتز فقال: ((لمن هذا الزرع؟)) قالوا: لرافع بن خديج، فأرسل إليه، وكان أخذ الأرض بالنصف وبالثلث فقال: ((انظر نفقتك في هذه الأرض فخذها من صاحب الأرض وادفع إليه زرعه وأرضه)) .
__________
(1) ج: 3. ص: 37. ح: 148.
(2) عبيدة بن متعب الضبي - بميم مضمومة وعين مفتوحة ومثناة فوق مكسورة مشددة فباء موحدة - تكلموا فيه كثيرًا , وإن روى عنه بعض الكبار مثل شعبة , والثوري , ووكيع , وهشيم , وغيرهم , وقد اجتنبه نقاد كبار مثل يحيى بن معين , وعبد الرحمن بن مهدي , وكان يحيى بن سعيد ينهى عن كتابة حديثه , ووصفوه أنه سييء الحفظ , ضرير متروك الحديث , وممن تركه عبد الله بن المبارك , وأحمد. بل وصفه بعضهم بما يشبه نسبة الآثار إلى غير أهلها من التابعين , فزعموا أنهم ينسبوا إلى إبراهيم النخعي ما لم يقله قياسًا على ما قاله، وقد ذكره البخاري في التاريخ , وروى عنه الترمذي , وابن ماجه. انظر ابن حجر (تهذيب التهذيب: ج: 7. ص: 86. الترجمة: 189) .(4/996)
وقال الطحاوي (1) حدثنا فهد قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا بكير بن عامر , عن ابن أبي نعم قال: حدثني رافع بن خديج أنه زرع أرضًا , فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسقيها فسأله: ((لمن الزرع ولمن الأرض؟)) فقال: زرعي ببذري وعملي , لي الشطر ولبني فلان الشطر فقال: ((أربيت فرد الأرض إلى أهلها وخذ نفقتك)) .
ويظهر أن هذه الواقعة تكررت في بني حارثة فكما حدثت لرافع حدثت لظهير عمه.
فقد روى الطحاوي (2)
وحدثنا محمد بن سليمان الباغندي (3) وفهد قالا: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا بكير بن عامر , عن ابن أبي نعم قال: حدثني رافع بن خديج أنه زرع أرضًا فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسقيها، فسأله: ((لمن الزرع ولمن الأرض؟)) فقال: زرعي ببذري وعملي , لي الشطر ولبني فلان الشطر , فقال: ((أربيت، فرد الأرض على أهلها وخذ نفقتك)) .
__________
(1) معاني الآثار. ج: 4. ص: 106.
(2) مشكل الآثار. ج: 3. ص: 282.
(3) لم نقف على ترجمة إلا ما نقله محقق معاني الآثار محمد زهري النجار في مقدمة معاني الآثار من كتاب الأماني ونصه (مقدمة معاني الآثار. ج: 1. ص: 15) : محمد بن سليمان بن الحارث الأزدي الباغندي أبو بكر الواسطي , سكن بغداد , ولا بأس به. روايته مستقيمة , توفي سنة 283.(4/997)
وقال الطحاوي أيضًا (1)
حدثنا إبراهيم بن أبي داود (2) قال: حدثنا يحيى - يعني القطان - قال: حدثنا أبو جعفر الخطمي قال: أتيت سعيد بن المسيب فقلت: بلغنا عنك شيء في المزارعة فقال: كان ابن عمر لا يرى بها بأسًا حتى ذكر رافع بن خديج حديثًا فأعطى رافعًا، فأخبره رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حارثة رأى زرعًا في أرض ظهير قال: ((ما أحسن زرع ظهير)) فقالوا: ليس لظهير، فقال: ((أليست أرض ظهير؟)) فقالوا: بلى , ولكنه أزرع فلانًا , قال: ((فردوا عليه نفقته وخذوا زرعكم)) فقال رافع: فرددنا عليه نفقته وأخذنا زرعنا، قال سعيد: أفقر أخاك أو أكرها بالدراهم.
وحدثنا أحمد بن شعيب قال: أخبرنا أحمد بن المثنى قال: أخبرنا يحيى , عن أبي جعفر الخطمي ... ثم ذكر بإسناده مثله.
وقد تغايرت فتاوى بعض الصحابة في هذا الشأن , وكنا قد أوردنا بعضًا منها كما تعارضت فتاوى كبار التابعين، وليس من شأننا هنا أن نمضي في استقصاء كل ما ورد في هذا المجال , إنما شأننا أن نتقصى طبيعة ملكية العقار في الإسلام على ضوء النصوص القرآنية والسنية مع الاستئناس باجتهادات أهل الفتيا من الصحابة وكبار التابعين لنخلص إلى ما نحن بسبيله من بيان ما يترتب عن طبيعة الملكية في الإسلام من دلالات على حكم الله في انتزاع الملك للمصلحة العامة.
__________
(1) مشكل الآثار. ج: 3. ص: 281.
(2) إبراهيم بن أبي داود: لم أجد من ترجم له ممن يعتمد في الجرح والتعديل، وذكره محقق معاني الآثار في مقدمته (ج: 1. ص: 12. ترجمة: 11) فقال عنه نقلًا عن الأماني: حافظ ثقة من الحفاظ المكثرين. توفي بمصر سنة: 272. قلت: وهذا يعنى أن عمره حين توفي يحيى بن سعيد القطان كان ستة عشر عامًا , على أساس أن يكون عمّر تسعين عامًا , لكن إبراهيم بن أبي داود توفي بمصر. أما يحيى فلحق بالرفيق الأعلى في العراق , فهل رحل إبراهيم بن داود إلى العراق في طلب الحديث وهو دون السادسة عشرة من عمره؟! نظن أن في هذا الإسناد ما ينبغي تحريره.(4/998)
ويلوح لنا أن ابن حزم رحمه الله، قد أحسن - كدأبه غالبًا - استقصاء ما يمكن اعتماده من روايات الصحابة واجتهاداتهم واجتهادات التابعين , وهو يبحث حكم كراء الأرض في المحلى (1)
وقد لا نتفق معه في ما يراه من أنه لا يجوز كراء الأرض بشيء أصلًا، لا بدنانير ولا بدراهم ولا بعرض ولا بطعام مسمى ولا بشيء أصلًا، ولا يحل زرع الأرض إلا لأحد ثلاثة أوجه، إما أن يزرعها المرء بآلته وأعوانه وبذره وحيوانه، وإما أن يبيح لغيره زرعها ولا يأخذ منه شيئًا، فإن اشتركا في الآلة والحيوان والبذر والأعوان دون أن يأخذ منه للأرض كراء فحسن، وأما أن يعطي أرضه لمن يزرعها ببذره وحيوانه وأعوانه وآلته بجزء ويكون لصاحب الأرض مما يخرج الله تعالى منها مسمى، إما نصف أو ثلث أو ربع أو نحو ذلك، أكثر أو أقل، ولا يشترط على صاحب الأرض البتة شيء من ذلك , ويكون الباقي للزارع , قلّ ما أصاب أو كثر، فإن لم يصب شيئًا فلا شيء له ولا شيء عليه، فهذه الوجوه جائزة فمن أبى فليمسك أرضه.
وإنما أوردناه لئلا نعود إليه حين نورد صفايا آراء أئمة الفقه الملتزمين بالمذاهب.
غير أننا نطمئن إلى الاقتصار على نقل ما انتهى إليه من استقصائه لروايات كبار الصحابة واجتهاداتهم واجتهادات كبار التابعين.
فبعد أن أورد ما أسنده أو اطمأن إلى صحة سنده من طرق حديث رافع بن خديج وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري أسند إلى ابن عمر حديثًا تحسبه مرويًا بالمعنى ومختصرًا لحديث أطول رواه غيره من طرق مختلفة , ولكنا ننقله عنه , إذ قد يكون ثبت لديه بهذا المتن والسند بأنه بنى عليه حكمًا حاسمًا.
قال: ومن طريق حماد بن سلمة حدثنا عمرو بن دينار قال: سمعت عبد الله بن عمر بن الخطاب يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض)) .
__________
(1) ج: 8. ص: 221 المسألة: 1300 وما بعدها.(4/999)
ولم نقف عند غير ابن حزم على هذا المتن ولا على لفظ يدل دلالته مسندًا إلى ابن عمر غير مروي من طريقه عن رافع بن خديج فإن ثبت فمعناه أن ابن عمر اطمأن آخر الأمر إلى حديث رافع , أو ثبت لديه حديث جابر وأبي سعيد الخدري أو سعد بن أبي وقاص أو أبي هريرة أو ثابت بن الضحاك فجزم بالنهي عن كراء الأرض بعد أن كان مترددًا في شأنه. ونميل إلى ترجيح هذا الاحتمال لما سنفصله بعد حين.
ثم عقب ابن حزم على حديث ابن عمر وما سبقه من حديث رافع وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة بقوله: فهؤلاء شيخان بدريان رافع بن خديج وجابر
قال ابن حجر في (الإصابة. ج: 2. ص: 213. ترجمة: 1026) عند ترجمته لجابر بن عبد الله: وفي الصحيح عنه أنه كان مع من شهد العقبة وروى البخاري في تاريخه (ج: 2. ص: 207. ترجمة: 2208) بإسناد صحيح عن أبي سفيان عن جابر قال: كنت أمنع أصحابي الماء يوم بدر. قلت: وإذا صح هذا الأثر فمعناه أن جابرًا شهد بدرًا، لكن ابن حجر يروي في الإصابة من طريق حجاج بن الصواف. حدثني أبو الزبير أن جابرًا حدثهم قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين غزوة بنفسه شهدت منها تسع عشرة غزوة. ونقل ابن حجر عن الواقدي أنه أنكر رواية أبي سفيان عن جابر التي أوردها البخاري في تاريخه.(4/1000)
قلت: لكن البخاري أسندها ولفظه: قال لنا مسدد عن أبي عوانة عن الأعمش عن أبي سفيان. الحديث. ورجاله موثقون , وليس من عادة البخاري أن يسند إلا عن الثقات ومن عجب أن ينكر الواقدي هذا الأثر. قال ابن حجر: وروى مسلم عن طريق زكريا بن إسحاق. حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابرًا يقول: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة قال جابر: لم أشهد بدرًا ولا أُحُدًا منعني أبي، فلما قتل لم أتخلف. قلت: الجامع بين حديث أبي سفيان الذي رواه البخاري وحديث أبي الزبير الذي رواه مسلم هو أن جابرًا لم يشهد، أي لم يسهم فيها كمحارب , وهذا لا يمنع من أن يكون نفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يخدم المحاربين بأن يسقيهم أو يحضر لهم الماء من بعيد ويظهر أن جابرًا لم يعتبرهذا كافيًا لأن يسلكه فيمن شهد بدرًا.
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب على هامش الإصابة (ج: ا. ص: 221) : شهد العقبة الثانية مع أبيه وهو صغير ولم يشهد الأولى ذكره بعضهم في البدريين ولا يصح لأنه قد روي عنه أنه قال: لم أشهد بدرًا ولا أُحُدًا؛ منعني أبي. وذكر الخاري أنه شهد بدرًا وكان
ينقل لأصحابه الماء يومئذ. ثم شهد بعدها مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمان عشرة غزوة. ذكر ذلك الحاكم أبو أحمد.
وقال ابن الكلبي: شهد أُحُدًا وشهد صفين مع علي. ثم ساق حديث أبي الزبير عنه. وقال ابن حجر في (الإصابة. ج496. ترجمة: 2526) في ترجمة رافع بن خديج: عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فاستصغره وأجازه يوم أحد فخرج وشهد ما بعدها، وقد لحق كل من رافع وجابر - في أرجح الروايات - بالرفيق الأعلى سنة أربعين للهجرة وكان جابر قد أضر في آخر عمره أما رافع فاستشهد من إصابته يوم أحد إذ أصيب بسهم وقال له رسول الله: ((إن شئت نزعت السهم وتركت القطيفة وشهدت يوم القيامة أنك شهيد)) .
وفي تاريخ وفاة رافع أقوال أخرى وهو ليس بدريًا بالإجماع.(4/1001)
وأبو سعيد وأبو هريرة وابن عمر كلهم يروي عن النبي عليه السلام النهي عن كراء الأرض جملة , وأنه ليس إلا أن يزرعها صاحبها أو يمنحها غيره , أو يمسك أرضه فقط، فهو نقل تواتر موجب للعلم المتيقن فأخذ بهذا طائفة من السلف. ثم ذكرهم مسندًا إليهم ما نقل من آرائهم.
ثم قال: فهؤلاء عطاء ومجاهد ومسروق والشعبي وطاوس والحسن وابن سيرين والقاسم بن محمد كلهم لا يرى كراء الأرض أصلًا لا بدنانير ولا بدراهم ولا بغير ذلك، فصح النهي عن كراء الأرض جملة.
ثم عرض لحديث معاملة أهل خيبر بشرط ما يخرج من أرضها من زرع أو ثمر , وهو ما سنعرض له بعد حين. فخلص من ذلك - إن اعتبره من قبيل المزارعة أو كراء الأرض - إلى قوله: ففي هذا أن آخر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مات كان إعطاء الأرض بنصف ما يخرج منها من الزرع ومن الثمر ومن الشجر، وعلى هذا مضى أبو بكر , وعمر , وجميع الصحابة - رضي الله عنهم - معهما، فوجب استثناء الأرض ببعض ما يخرج من جملة ما صح النهي عنه من أن تكرى الأرض أو يؤخذ لها أجر أو حظ , وكان هذا العمل المتأخر ناسخًا للنهى المتقدم عن إعطاء الأرض ببعض ما يخرج منها، لأن النهي عن ذلك قد صح.(4/1002)
فلولا أنه قد صح لقلنا ليس نسخًا ولكنه استثناء من جملة النهي، ولولا أنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات على هذا العمل لما قطعنا بالنسخ، لكنه ثبت آخر عمله عليه السلام فصح أنه نسخ صحيح متيقن لا شك فيه وبقي النهي عن الإجارة جملة بحسبه , إذ لم يأت شيء ينسخه ولا يخصه الستة.
ثم مضى يناقش فقهاء المذاهب ويستظهر لمذهبه لما تيسر له من الحجج مما ليس هذا مجاله , على أننا سنعرض بإيجاز لآراء أئمة المذاهب في كراء الأرض بعد قليل.
بيد أننا نريد أن نقف مع ابن حزم عند وهم وقع فيه , إذ زعم أن رافعًا وجابرًا بدريان وليسا بدريين , وإن حضر جابر العقبة مع بعض ذويه، إذ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استصغر رافعًا حين عرض عليه وهو يتجهز لغزوة بدر. أما جابر فقد منعه أبوه عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - من شهود بدر وأُحد فلما استشهد يوم أحد تحرر جابر من منع أبيه فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع غزواته بعد ذلك، كما أن رافعًا شهد أُحدًا وكاد يحرم منها في قصة طويلة , ولسنا ندري كيف وهم ابن حزم - رحمه الله - وهو المطلع الثبت فزعم أن رافعًا وجابرًا بدريان، والظاهر أنه علق في ذهنه قول رافع في بعض ما روي عنه عن عميه أنهما بدريان، ولعل في عبارة ابن حزم سبق القلم , فلسنا نتصور أن يغيب عن ابن حزم أن جابرًا ورافعًا لم يحضرا بدرًا، على أن ذلك لا يغمز في حديثهما ولا في فتياهما فقد تصدرا للإفتاء منذ عهد عثمان - رضي الله عنه - وكانا من مراجع الفتيا وخاصة في عهد معاوية إلى أن لحقا بالرفيق الأعلى - رضى الله عنهما -.
أما ما وهم فيه ابن حزم أيضًا من دعوى أن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر ناسخة لنهيه عن كراء الأرض ففيها تناقض إلا أن يكون النسخ عنده تخصيصًا. وقد نفى ذلك وبقي ما ارتضاه من أنه استثناء لنوع من المعاملة من مجموع النهى. والواقع أننا لم نستطع أن ندرك بوضوح الخط الفاصل بين التخصيص والاستثناء في تصور ابن حزم، بيد أننا لن نمضي في مناقشته في هذه الدعوى لأن موضوع معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر في جوهره نختلف فيه مع ابن حزم وغيره ممن اعتبره من المزارعة اختلافًا جوهريًا نوضحه فيما يأتي:(4/1003)
حديث معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر قال عنه ابن حجر في التلخيص (1) حديث ابن عمر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع)) . متفق عليه بألفاظ متعددة منها:
لما فتحت خيبر سألت يهود النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرهم فيها على أن يعملوا على نصف ما يخرج منها ... الحديث.
حديث أنه عامل أهل خيبر بالشطر مما يخرج من النخل والشجر، الدارقطني من حديث ابن عمر , وحكى عن شيخه ابن صاعد أنه صاحب وهم في ذكر الشجر ولم يقله غيره.
ثم أشار إلى حديث أنه صلى الله عليه وسلم خرص على أهل خيبر وأحال عليه في كتاب الزكاة وقد أورده فيه (2) فقال: حديث عائشة: ((كان صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة غارسًا أول ما تطيب الثمرة)) . أبو داود من حديث حجاج عن ابن جريج أخبر عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت وهي تذكر شأن خيبر: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه)) وهذا فيه جهالة الواسطة. وقد رواه عبد الرزاق والدارقطني من طريقه عن الزهري ولم يذكر واسطة وهو مدلس. وذكر الدارقطني الاختلاف فيه فقال: رواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة وأرسله معمر ومالك وعقيل، لم يذكروا أبا هريرة. وأخرج أبو داود عن طريق ابن جريج. أخبرني أبو الزبير أنه سمع ابن جريج يقول: خرص أربعين وسقا.
وقال عبد الرزاق في مصنفه (3) أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب قال: ((دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر إلى يهود يعملونها ولهم شطرها، فمضى على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وسنتين من خلافة عمر حتى أجلاهم عمر عنها)) .
__________
(1) تلخيص الحبير. ج: 3. ص: 59. ح: 1279 و1280.
(2) تلخيص الحبير ج: 2. ص:71. ح: 848.
(3) ج: 8. ص:98. ح: 14468 و14469 و14485 وص: 102.(4/1004)
أخبرنا معمر عن عبيد الله بن عمر عن نافع أن خيبر شركها رسول الله صلى الله عليه وسلم , كان فيها زرع ونخل , فكان يقسم لنسائه كل سنة منها مائة وسق، ثمانين وسقًا ثمرًا وعشرون وسقًا شعيرًا لامرأة.
وأخبرنا ابن جريج قال: أخبرني عامر بن عبد الله بن نسطاس لم نقف على من عرف به، لكن وقفنا على ترجمة راو واسمه عبد الله بن نسطاس في بعض مصادر تراجم الرواة، وننقل ما قال عنه ابن حجر في (تهذيب التهذيب. ج:6. ص: 55. ترجمة: 104) . رمز إلى أنه روى عنه أبو داود والنسائي وابن ماجه ثم قال: عبد الله بن نسطاس – بكسر النون ومهملة ساكنة – المدني مولى كندة روى عن جابر بن عبد الله حديث الحلف على المنبر وعنه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص. قلت – القائل ابن حجر -: قال أبو عمر الصدفي: حدثنا محمد بن القاسم هو ابن يسار. سمعت النسائي يقول: عبد الله بن نسطاس ثقة. وقال مسلم: هو مولى آل كثير بن الصلت. وقال: هو أخو عبد الله بن بسطام شيخ الزهري. وقال ابن الحذاء: كان نسطاس جاهليًا وهو مولى أُبي بن خلف كذا قال في رجال الموطأ والذي يظهر أن نسطاسًا والد عبد الله غير مولى أُبي بن خلف كما في أول الترجمة. قلت: لم يذكروا له ولدًا ولكن لا يبعد أن يكون عامر هذا ولده من خيبر قال: فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت جمعًا له حرثها ونخلها قال: فلم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رقيق، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود على أنكم تكفون العمل ولكم شطر الثمر على أن أقركم ما بدى لله ورسوله، فذلك حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم ابن رواحة يخرص بينهم، فلما خيرهم أخذت اليهود الثمر، فلم تزل خيبر بأرض اليهود على صلح النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان عمر فأخرجهم فقالت اليهود: أليس قد صالحنا النبي صلى الله عليه وسلم على كذا وكذا؟ فقال: بلى، على أنه يقركم فيها ما بدا لله ورسوله، فهذا حين بدا لي أن أخرجكم، فأخرجهم ثم قسمها بين المسلمين الذين افتتحوها مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعط منها أحدًا لم يحضر افتتاحها وأهلها الآن مسلمون ليس فيها اليهود.
قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن عبيد بن عمير , عن مقاضاة النبي صلى الله عليه وسلم يهود أهل خيبر على أن لنا نصف الثمر ولكم نصفه وتكفون العمل.(4/1005)
وقال ابن أبي شيبة (1) حدثنا شريك عن جابر عن أبي جعفر قال الذهبي (سير أعلام النبلاء. ج:4. ص401 وما بعدها. ترجمة: (158) ما موجزه: هو السيد الإمام أبو جعفر محمد بن علي الحسين بن علي العلوي الفاطمي المدني وَلَدُ زين العابدين , ولد سنة ست وخمسين في حياة عائشة وأبي هريرة. أرخ ذلك أحمد بن برقي روى عن جديه – النبي صلى الله عليه وسلم وعلي – رضي الله عنه – مرسلًا وعن جديه – الحسن والحسين – عليهما السلام – مرسلًا أيضًا وعن ابن عباس وأم سلمة وعائشة مرسلًا وعن ابن عمر وجابر وأبي سعيد وعبد الله بن جعفر وسعيد بن المسيب وأبيه زين العابدين ومحمد بن الحنفية - عم أبيه - وطائفة. وعن أبي هريرة وسمرة بن جندب مرسلًا أيضًا. وليس هو بالمكثر، هو في الرواية كأبيه - زين العابدين - وابنه جعفر ثلاثتهم لا يبلغ حديث كل منهم جزءًا ضخمًا ولكن لهم مسائل وفتاوى حدث عنه ابنه , وعطاء بن أبي رباح , والأعرج , مع تقدمهما , وعمرو بن دينار , وأبو إسحاق السبيعي , والزهري , ويحيى بن أبي كثير , وربيعة الرأي وليث بن أبي سليم , وابن جريج , وقرة بن خالد , وحجاج بن أرطاة والأعمش ومخول بن راشد وحرب بن سريج والقاسم بن الفضل الحداني والأوزاعي وآخرون وكان أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤدد والشرف والثقة والرزانة، وكان أهلًا للخلافة وهو أحد الأئمة الاثني عشر الذين تبجلهم الشيعة الإمامية وتقوم بعصمتهم ومعرفتهم بجميع الدين فلا عصمة إلا للملائكة والنبيين وكل أحد يصيب ويخطئ ويؤخذ منه قوله ويترك سوى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه معصوم مؤيد بالوحي.
قلت: هكذا قال الذهبي وهو الحق. لكن أرجو أن لا يخزي نبيه في أسباطه الأقربين الذين يجب حبهم على مسلم وأحسبهم قد توارثوا منه صلى الله عليه وسلم ميزة الاصطفاء وإن على درجات ولست أقول بعصمتهم لكن أزعم - ولا أزكي على الله أحدًا - أن الله يكرمهم - إكرامًا لجدهم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم _ من أن يقعوا في مثل ما يقع فيه غيرهم من الخطأ الفاحش فإن وهم أحد منهم أو لم يصب صميم الحق فما أحسبه سيبلغ بوهمه درك الانحراف وحاشاهم جميعًا عليهم السلام أن يظن فيهم درك التحريف. ثم قال الذهبي: وشهر أبو جعفر بالباقر من بقر العلم أي شقه فعرى فصله وخفيه , ولقد كان أبو جعفر إمامًا مجتهدًا تاليًا لكتاب الله , كبير الشأن , ولكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير ونحوه ولا في الفقه درجة أبي الزناد وربيعة ولا في الحفظ ومعرفة السنن درجة
__________
(1) الكتاب المصنف. ج: 6. ص:337 و338. ح:1268 و1272.(4/1006)
قتادة وابن شهاب فلا نحابيه ولا نحيف عليه ونحبه في الله لما يجمع فيه من صفات الكمال. قلت: وبعض من ذكرهم الذهبي أنه لا يبلغهم لن يبلغوه ورعًا وزهدًا وتقوى وحتى في الخصائص التي ذكرها لهم لم يبرأوا من القول فيهم قولًا
بعضه وجيه لما يدعمه من وقائع لا سبيل إلى نكرانها وإن كنا نجلهم جميعًا ونرجو لهم من الله الرحمة والرضوان فهل برئ من الخطأ غير الأنبياء؟ ثم قال الذهبي: قال ابن فضيل عن سالم بن أبي حفصة سألت أبا جعفر وابنه جعفرًا عن أبي بكر وعمر , فقالا لي: يا سالم , تولهما وابرأ من عدوهما , فإنهما كانا إمامي هدى، كان سالم فيه تشيع ظاهر فيبث هذا القول الحق وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل وكذلك ناقلها أبو فضيل شيعي ثقة فعثر الله شيعة زماننا ما أغرقهم في الجهل والكذب , فينالون من الشيخين وزيري المصطفى صلى الله عليه وسلم , ويحملون هذا القول من الباقر والصادق على التقية. وروى إسحاق الأزرق عن بسام الصيرفي قال: سألت أبا جعفر عن أبي بكر وعمر فقال: إني والله لأتولاهما وأستغفر لهما , وما أدركت أحدًا من أهل بيتي إلا ويتولاهما. ثم قال: وبلغنا أن أبا جعفر كان يصلي في اليوم والليلة مائة وخمسين ركعة وقد عده النسائي وغيره في فقهاء التابعين بالمدينة واتفق الحفاظ على الاحتجاج بأبي جعفر. ثم قال: قال الزبير بن بكار: كان يقال لمحمد علي باقر العلم وأمه هي أم عبد الله بنت الحسن بن علي. ثم قال ابن عقدة: حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي نجيح. حدثنا علي بن حسان القرشي عن عمه عبد الرحمن بن كثير عن جعفر بن محمد قال: قال أبي: أجلسني جدي الحسن في حجره وقال لي: رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤك السلام. عن أبان بن تغلب عن محمد بن علي قال: أتاني جابر بن عبد الله وأنا في الكتاب فقال لي: اكشف عن بطنك، فكشفت فألصق بطنه ببطني ثم قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرئك السلام ثم قال: قال المطلب بن زياد: حدثنا ليث بن أبي سليم قال: دخلت على أبي جعفر محمد بن علي وهو يذكر ذنوبه وما يقول الناس فيه فبكى. وعن أبي جعفر قال: من دخل قلبه ما في خالص دين الله شغله عما سواه ما الدنيا؟ وما عسى أن تكون؟! هل هو إلا مركب ركبته وثوب لبسته أو امرأة أصبتها؟! ثم قال: محمد بن طلحة بن مصرف عن خلف بن حوشب عن سالم بن أبي حفصة وكان يترفض , قال: دخلت على أبي جعفر وهو مريض فقال - وأظن قال ذلك من أجلي -: اللهم إني أتولى وأحب أبا بكر وعمر , اللهم إن كان في نفسي غير هذا فلا نالتني شفاعة محمد يوم القيامة. ثم قال شبابة: أنبأنا بسام سمعت أبا جعفر يقول: كان الحسن والحسين يصليان خلف مروان يبتدران الصف , وكان الحسين يسب مروان وهو على المنبر حتى ينزل أفتقية هذه؟! ثم قال: سفيان الثوري: اشتكى بعض أولاد محمد بن علي , فجزع عليه , ثم أخبر عن موته , فسري عنه , فقيل له في ذلك، فقال: فندعو الله فيما نحب , فإذا وقع ما نكره لا نخالف الله فيما أحب. وروى الذهبي عن ابن عيينة: حدثنا جعفر بن محمد , سمعت أبي يقول لعمته فاطمة بنت الحسين: هذي توفي لي ثمانيًا وخمسين سنة , فمات فيها.(4/1007)
ونقل ابن حجر في (تهذيب التهذيب: 9. ص: 350. ترجمة: 580) هذه الرواية وتعقبها بقوله: وهذا السند في غاية الصحة ومقتضاها أن يكون ولد سنة ستين , وهذا هو الذي يتجه؛ لأن أباه علي بن الحسين شهد مع أبيه يوم كربلاء وهو ابن عشرين سنة , وكان يوم كربلاء في المحرم سنة إحدى وستين , ومقتضاه أن مولد علي كان سنة إحدى وأربعين , فمن يولد سنة أربعين أو سنة إحدى وأربعين كيف يولد له سنة خمس وأربعين؟ والأصح أنه مات سنة أربع عشرة لأن البخاري قال: حدثنا عبد الله بن محمد , عن ابن عيينة , عن جعفر بن محمد قال: مات أبي سنة أربع عشرة , فيكون مولده على هذا سنة ست وخمسين وهو يتجه أيضًا. قلت: ولعل ما نقلناه عن الذهبي فيه بعض الغناء لترجمة سريعة لهذا الإمام عليه السلام , ولمن شاء الاستزادة , أن يرجع إلى كتب الجرح والتعديل وتراجم الرجال , وخاصة طبقات ابن سعد (ج: 5. ص: 320) , وطبقات خليفة (ص: 255) , وتاريخ البخاري (ج: 1. ص: 183. ترجمة: 564) . والجرح والتعديل (ج: 8. ص: 26. ترجمة: 147) , وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص: 64) , وطبقات المفسرين (ج: 2. ص: 200. ترجمة: 537) , وتذكرة الحفاظ (ج: ا، ص: 124. ترجمة: 119) , ووفيات الأعيان (ج: 4. ص: 174. ترجمة: 560) . وصفة الصفوة (ج: 2. ص: 108. الترجمة: 171) . قال: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أرضه بخيبر يعنى بنصف.
ثم قال: حدثنا ابن أبي زائدة , عن حجاج , عن أبي جعفر قال: ((عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على الشطر)) .
وقال البخاري في صحيحه (1) في باب: المزارعة بالشطر ونحوه.
حدثنا إبراهيم ابن المنذر. حدثنا أنس بن عياض , عن عبيد الله بن نافع , أن عبد الله ابن عمر - رضي الله عنهما - أخبره , عن النبي صلى الله عليه وسلم ((عامل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع , وكان يعطي أزواجه مائة وسق، ثمانون وسقا ثمرا , وعشرون وسقا شعيرا، فقسم عمر خيبر , فخير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن من الماء والأرض أو يمضي لهن)) .
__________
(1) ج: 3. ص: 67 و68 و71.(4/1008)
فمنهن من اختار الأرض , ومنهن من اختار الوسق، وكانت عائشة اختارت الأرض.
ثم قال:
في باب: إذا لم يشترط السنين في المزارعة.
حدثنا مسدد. حدثنا يحيى بن سعيد , عن عبيد الله. حدثنا نافع , عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: ((عامل النبي صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع)) .
ثم قال في باب المزارعة مع اليهود: حدثنا ابن مقاتل. أخبرنا عبد الله. أخبرنا عبيد الله , عن نافع , عن ابن عمر - رضي الله عنهما – ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر اليهود على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرخ منها)) .
ثم قال في باب: إذا قال رب الأرض: أقركما أقرك الله , ولم يذكر أجلًا معلومًا , فهما على تراضيهما: حدثنا أحمد بن مقدام. حدثنا فضيل بن سليمان. حدثنا موسى. أخبرنا نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج , قال: حدثني موسى بن عقبة , عن نافع , عن ابن عمر , أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أجلى اليهود والنصارى عن أرض الحجاز وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها , وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين , وأراد إخراج اليهود منها، فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرهم بها أن يكفوا عملها , ولهم نصف الثمر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نقركم بها على ذلك ما شئنا)) ، فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء قال ياقوت الحموي (معجم البلدان ج: ا. ص: 165) : أريحاء: بالفتح ثم الكسر وياء ساكنة والحاء مهملة والقصر , وقد رواه بعضهم بالخاء المعجمة لغة عبرانية وهي مدينة الجبارين في الغور من أرض الأردن بالشام , بينها وبين بيت المقدس يوم للفارس في جبال صعبة المسلك , سميت فيما قيل بأريحاء بن مالك أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام.(4/1009)
قلت: لا تزال هذه المدينة معروفة باسمها حتى الآن وهي من أشهر مدن الضفة الغربية لنهر الأردن , وكانت إلى أن حدثت مأساة الاحتلال الصهيوني لفلسطين جزءًا من ولاية فلسطين. وقال ياقوت (معجم البلدان ج: 2. ص: 67) :
تيماء بالفتح والمد بليد في أطراف الشام، بين الشام ووادي القرى على طريق حاج الشام ودمشق. والأبلق الفرد حصن السموأل بن عادياء اليهودي مشرف عليها , فلذلك كان يقال لها: تيماء اليهودي. قلت: عرفها اليهود قبل السموأل , وكانت مهجرًا لهم حين طردهم الجبارون من القدس بأن الآشوريين أسكنوهم فيها , وكانت من أول ما استعمره الأشوريون عندما غزوا أرض العرب , وفيها يقول أحد الشعراء وقد نقله ياقوت نفسه:
إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني بتيماء تيماء اليهودي غريب
وأني بتهباب الرياح موكل طروب إذا هبت علي جنوب
وإن هب علوي الرياح وجدتني كأني لعلوّ الرياح نسيب.
وفي تيماء يقول المجنون:
ونبأتماني أن تيماء منزل لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا
وهذه شهور الصيف عنا قد انقضت فما للنوى ترمي ليلى المراميا.(4/1010)
وقال مسلم في صحيحه (1) حدثنا أحمد بن حنبل وزهير بن حرب واللفظ لزهير , قالا: حدثنا يحيى - وهو القطان - عن عبيد الله. أخبرني نافع , عن ابن عمر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع)) .
وحدثنا علي بن حجر السعدي. حدثنا علي - وهو ابن مسهر - أخبرنا عبيد الله , , عن نافع , عن ابن عمر قال: ((أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع , فكان يعطي أزواجه كل سنة مائة وسق، ثمانين وسقًا من ثمر , وعشرين وسقًا من شعير، فلما ولي عمر قسم , وخير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن الأرض والماء , أو يضمن لهن كل عام، فاختلفن , فمنهن من اختار الأرض , ومنهن من اختار الأوساق كل عام، فكانت عائشة وحفصة ممن اختار الأرض والماء)) .
وحدثنا ابن نمير، حدثنا عبيد الله. حدثني نافع , عن عبد الله بن عمر ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر)) ، واقتص الحديث بنحو حديث علي بن مسهر , ولم يذكر: فكانت عائشة وحفصة ممن اختارتا الأرض والماء. وقال: خير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن الأرض ولم يذكر الماء.
وحدثنى أبو الطاهر. حدثنا عبد الله بن وهب. أخبرني أسامة بن زيد الليثي , عن نافع , عن عبد الله بن عمر قال: لما افتتحت خيبر سألت يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم فيها على أن يعملوا على نصف ما خرج منها من الثمر والزرع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقركم فيها على ذلك ما شئنا)) .
ثم ساق الحديث بنحو حديث ابن نمير وابن مسهر عن عبيد الله , وزاد فيه: وكان الثمر يقسم على السهمين من نصف خيبر , فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس.
__________
(1) على هامش شرح النووي. ج: 10. ص: 208.(4/1011)
وحدثنا ابن رمح , أخبرنا الليث , عن محمد بن عبد الرحمن , عن نافع , عن عبد الله بن عمر , عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوا من أموالهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر
ثمرها.
وحدثني محمد بن رافع , وإسحاق بن منصور - واللفظ لابن رافع - قالا: حدثنا عبد الرزاق. أخبرنا ابن جريج. حدثني موسى بن عقبة عن نافع , عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى عن أرض الحجاز , وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إجلاء اليهود , وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين، فأراد إخراج اليهود منها، فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يقرهم بها على أن يكفوا عملها , ولهم نصف الثمر. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نقركم على ذلك ما شئنا)) ، فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء.
وروى أبو يوسف (1) حدثنا محمد بن السائب الكلبي , عن أبي صالح , عن عبد الله بن العباس قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر , قالوا: يا محمد , إنا أرباب الأموال , ونحن أعلم بها منكم , فعاملونا بها. فعاملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف , على أنا إذ شئنا أن نخرجكم أخرجناكم. فلما فعل ذلك أهل خيبر , سمع بذلك أهل فدك , فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم محيصة بن مسعود، فنزلوا على ما نزل عليه أهل خيبر على أن يصونهم ويحقن دماءهم، فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل معاملة أهل خيبر , فكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب.
وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم بن عتيبة , عن مقسم , عن عبد الله بن العباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر , فقال له أهلها: نحن أعلم بعملها منكم. فأعطاهم إياها بالنصف، ثم بعث عبد الله بن رواحة يقسم بينه وبينهم , فأهدوا إليه , فرد هديتهم , فقال: لم يبعثني النبي صلى الله عليه وسلم لآكل أموالكم , وإنما بعثني لأقسم بينكم وبينه، ثم قال: إن شئتم عاملت وعالجت , وكلت لكم النصف , وإن شئتم عاملتم وعالجتم , وكلتم النصف. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
__________
(1) كتاب الخراج. ص: 50.(4/1012)
وقال يحيى بن آدم (1) أخبرنا إسماعيل , قال: حدثنا الحسن , قال: حدثنا يحيى , قال: حدثنا زياد بن عبد الله بن الطفيل , عن محمد بن إسحاق قال: سألت ابن شهاب عن خيبر , فأخبرني أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال , وكانت خيبر مما أفاء الله على رسوله، فخمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقسمها بين المسلمين , ونزل من نزل من أهل خيبر على الجلاء، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاملة الأرض.
وقال أبو عبيدة (2) , فأما الحكم في الأرض العنوة , فإن عبد الله بن صالح قال: حدثنا الليث عن سعد , عن يونس بن يزيد الأيلي , عن ابن شهاب , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال وكانت مما أفاء الله على رسوله، فخمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمها بين المسلمين، ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوها , ويكون ثمرها بيننا وبينكم , وأقركم ما أقركم الله)) قال: فقبلوا الأموال على ذلك.
__________
(1) كتاب الخراج. ص: 20. فقرة: 18.
(2) الأموال. ص: 78 و79. فقرة: 141 و142.(4/1013)
وحدثنا يزيد بن هارون , حدثنا يحيى بن سعيد , أن بشير بن يسار أخبره , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه خيبر , قسمها على ستة وثلاثين سهمًا , جمع كل سهم منها مائة سهم، وعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به , وقسم النصف الباقي بين المسلمين , وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قسم، الشق والنطاة وما حيز معهما , وكان فيهما وقف الكتيبة والوطيحة وسلالم. فلما صارت الأموال في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له من العمال ما يكفون عمل الأرض , فدفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود يعملونها على نصف ما خرج منها. فلم تزل على ذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر حتى كان عمر , فكثر العمال في أيدي المسلمين , وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر اليهود إلى الشام , وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم.
وقال ابن زنجويه (1) فإن عبد الله بن صالح أنبأنا , عن ليث , عن يونس بن زيد , عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال، وكانت مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم , وقسمها بين المسلمين , ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال , فدعاهم رسول الله , فقال: ((إن شئتم دفعت إليكم هذه الأموال على أن تعملوها , ويكون ثمرها بيننا وبينكم , وأقركم ما أقركم الله)) قال: فقبلوا الأموال على ذلك.
وأنبأنا يزيد بن هارون , عن يحيى بن سعيد , أن بشير بن يسار أخبره , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه بخيبر , قسمها على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم، وعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به، وقسم النصف الباقي بين المسلمين وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومما قسم الشق ونطاة وما حِيز معهما، وكان فيما وقف الكتيبة والوطيحة وسلالم.
__________
(1) الأموال. ج: 1. ص: 188. فقرة: 218 و219.(4/1014)
فلما صارت الأموال في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن له من العمال ما يكفون عمل الأرض، فدفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود يعملونها على نصف ما خرج منها , فلم يزل على ذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أبي بكر حتى كان عمر , فكثر العمال في أيدي المسلمين , وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر اليهود إلى الشام , وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم.
ثم قال (1) أنبأنا محمد بن يوسف. أنبأنا عمر بن ذر , قال: جلسنا إلى أبي جعفر محمد بن علي , فسأله رجل من القوم عن قبالة الأرضين والنخل , فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل خيبر من أهلها بالنصف، فيقومون على النخل , فيسقونه ويحفظونه ويلقحونه، حتى إذا أينع ودنا صرامه , بعث عبد الله بن رواحة , فخرص ما في النخل , فيتولونه ويردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصته النصف. فأتوه في بعض تلك الأعوام , فقالوا: إن عبد الله بن رواحة قد جار علينا في الخرص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فنحن نأخذ بخرص عبد الله بن رواحة ونرد عليكم الثمن بحصتكم النصف)) فقالوا: هكذا بأيديهم وعقدوا ثلاثين، هذا الحق وبهذا قامت السماوات والأرض. بل نأخذ النخل , فقوموا النخل وردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الثمن بحصته النصف.
ثم قال (2) أخبرنا محمد بن يوسف. أخبرنا عمر بن ذر , قال: جلسنا إلى أبي جعفر محمد بن علي , فسأله رجل من القوم عن قبالة الأرضين والنخل، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل خيبر من أهلها بالنصف، فيقومون على النخل، فيسقونه ويحفظونه ويلقحونه , فإذا أينع ودنا صرامه , بعث عبد الله بن رواحة , فخرص ما في النخل , فيتولونه , ويردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصته النصف. فأتوه في بعض تلك الأعوام , فقالوا: إن عبد الله بن رواحة قد جار علينا في الخرص. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فنحن نأخذ بخرص عبد الله بن رواحة ونرد عليكم الشيء بحصتكم النصف)) . فقالوا: هكذا بأيديهم وعقد ثلاثين، هذا الحق وبهذا قامت السماوات والأرض، بل نأخذ النخل , فقوم النخل , وردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الثمن بحصته النصف.
__________
(1) الأموال. ص: 288. فقرة: 299.
(2) الأموال. ج: 3. ص: 1067. فقرة: 1979.(4/1015)
وقال ابن سعد (1) أخبرنا يزيد بن هارون. أخبرنا يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم , وجعل نصفها لنوائبه وما ينزل به، وعزل النصف الآخر , وقسمه بين المسلمين , وسهم النبي صلى الله عليه وسلم فيما قسم بين المسلمين الشق ونطاة وما حيز معهما، وكان فيما وقف الوطيحة والكتيبة وسلالم وما حيز معهما، وكان فيما وقف الوطيحة والكتيبة وسلالم وما حيز معهن، فلما صارت الأموال في يد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكن لهم من العمال ما يكفون عمل الأرض , فدفعها النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهود يعملونها على نصف ما يخرج منها، فلم يزالوا على ذلك حتى كان عمر بن الخطاب وكثر في يدي المسلمين العمال وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر اليهود إلى الشام وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم.
وقال أحمد في مسنده (2) حدثنا محمد بن فضيل , قال: حدثنا يحيى بن سعيد , عن بشير بن يسار - بضم أوله وفتح الشين - عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أدركهم يذكرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ظهر على خيبر وصارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ضعف عن عملها , فدفعوها إلى اليهود , ويقومون عليها , وينفقون عليها , على أن لهم ما يخرج منها. فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مائة سهم، فجعل نصف ذلك كله للمسلمين، وكان في ذلك النصف سهام المسلمين وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معها، وجعل النصف الآخر لمن ينزل عليه من الوفود والأمور ونوائب الناس.
عن سفيان بن وهب الخولاني , قال: لما افتتحنا مصر بغير عهد , قام الزيبر بن العوام - رضي الله عنه , فقال: يا عمرو بن العاص اقسمها. فقال عمرو: لا أقسمها , فقال الزبير: والله لتقسمنها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، قال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إلى عمر - رضي الله عنه - فكتب إليه عمر , أن أقرها حتى يغزو منها حبل الحبلة.
__________
(1) الطبقات الكبرى. ج: 2. ص: 113.
(2) الساعاتي الفتح الرباني. ج: 14. ص: 114. ح: 316.(4/1016)
وقال ابن حبان في صحيحه (1) أخبرنا خالد بن النضر بن عمر القرشي أبو يزيد المعدل بالبصرة قال: حدثنا عبد الواحد بن غياث , قال: حدثنا حماد بن سلمة , قال: أخبرنا عبيد الله بن عمر - فيما يحسب أبو سلمة - عن نافع , عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلب على الأرض والزرع والنخل , فصالحوه على أن يخلوا منها , ولهم ما حملت ركابهم , ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء , ويخرجون منها، فاشترط عليهم ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئًا , فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عصمة. فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب , كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي: ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟ فقال: أذهبته النفقات والحروب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العهد قريب والمال أكثر من ذلك)) ، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير بن العوام فمسه بعذاب، وقد كان حيي قبل ذلك قد دخل خربة , فقال: قد رأيت حييا يطوف في خربة ههنا , فذهبوا فطافوا , فوجدوا المسك في خربة , فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي حقيق , وأحدهما
زوج صفية بنت حيي بن أخطب , وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم , وقسم أموالهم للنكث الذي نكثوا , وأراد أن يجليهم منها , فقالوا: يا محمد , دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها , وكانوا لا يتفرعون (2) أن يقوموا فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم كل عام يخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر، قال: فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة خرصه , وأرادوا أن يرشوه، فقال: يا أعداء الله , أتطعموني السحت، والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليَّ , ولأنتم أبغض إليَّ من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
__________
(1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان. ج: 7. ص: 316. ح: 5176.
(2) لعل صوابه: لا يتفرغون أو لا يفرغون بالغين المعجمة كما في رواية البيهقي في سننه وابن كثير نقلًا عنه في البداية والنهاية.(4/1017)
وقال أبو داود في سننه (1) حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء. حدثنا أبي. حدثنا حماد بن سلمة , عن عبيد الله بن عمر قال- أحسبه عن نافع , عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر , فغلب على النخل والأرض، وألجأهم إلى قصرهم، فصالحوه على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة , ولهم ما حملت ركابهم، على أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئًا , فإن فعلوا فلا ذمة ولا عهد، فغيبوا مسكا لحيي بن أخطب , وقد كان قتل قبل خيبر , كان قد احتمله معه يوم بني النضير حين أجليت النضير , فيه حليهم، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعية: ((أين مسك حيي بن أخطب؟)) قال: أذهبته الحروب والنفقات فوجدوا المسك، فقتل ابن الحقيق , وسبى نساءهم وذراريهم , وأراد أن يجليهم , فقالوا: يا محمد , دعنا نعمل في هذه الأرض , ولنا الشطر ما بدا لك , ولكم الشطر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا من ثمر , وعشرين وسقا من شعير.
وحدثنا الربيع بن سليمان المؤذن , حدثنا أسد بن موسى , حدثنا يحيى بن زكرياء. حدثني سفيان، عن يحيى بن سعيد , عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة قال ((: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين، نصفا لنوائبه وحاجته , ونصفا بين المسلمين , قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما)) .
وحدثنا حسين بن علي بن الأسود , أن يحيى بن آدم حدثهم , عن أبي شهاب , عن يحيى بن سعيد , عن بشير بن يسار , أنه سمع نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا ... فذكر هذا الحديث , قال: فكان النصف سهام المسلمين , وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزل النصف للمسلمين لما ينوبه من الأمور والنوائب.
حدثنا حسين بن علي. حدثنا محمد بن فضيل , عن يحيى بن سعيد , عن بشير بن يسار مولى الأنصار، عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر , قسمها على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك، وعزل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس)) .
__________
(1) ج: 3. ص: 157 و159. ح: 3006 و3010 و3011 و3012 و3013 و3014.(4/1018)
وحدثنا عبد الله بن سعيد الكندي. حدثنا أبو خالد - يعني سليمان - عن يحيى بن سعيد , عن بشير بن يسار قال: لما أفاء الله على نبيه صلى الله عليه وسلم خيبر , قسمها على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم مائة سهم، فعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به الوطيحة والكتيبة وما أحيز معهما، وكان سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أحيز معهما.
وحدثنا محمد بن مسكين اليمامي. حدثنا يحيى بن حسان. حدثنا سليمان - يعني ابن بلال - عن يحيى بن سعيد , عن بشير بن يسار ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه خيبر , قسمها على ستة وثلاثين سهمًا جمع، فعزل للمسلمين الشطر ثمانية عشر سهما , يجمع كل سهم مائة، النبي صلى الله عليه وسلم معهم، له سهم كسهم أحدهم , وعزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهما , وهو الشطر لنوائبه وما ينزل به من أمر المسلمين، فكان ذلك الوطيح والكتيبة والسلالم وتوابعها. فلما صارت الأموال بيد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين , لم يكن لهم عمال يكفونهم عملها , فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود فعاملهم)) .
وقال الطبري في تاريخه (1) في آخر حديث طويل من غزوة خيبر إسناده إلى ابن إسحاق: فلما نزل أهل خيبر على ذلك - أي على الجلاء - سألوا رسول الله أن يعاملهم بالأموال على النصف , وقالوا: نحن أعلم بها منكم , وأعمر لها، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم , وصالحه أهل فدك على مثل ذلك، فكانت خيبر فيئًا للمسلمين , وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.
__________
(1) ج: 3. ص: 15.(4/1019)
وقال البيهقي (1) أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري. أنبأ الحسن بن محمد بن إسحاق. حدثنا يعقوب بن يوسف القاضي، حدثنا عبد الواحد بن غياث. حدثنا حماد بن سلمة. أنبأنا عبيد الله بن عمر - فيما يحسب أبو سلمة - عن نافع , عن ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم , فغلب على الأرض والزرع والنخل , فقالوا: يا محمد , دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها , ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها , فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم , وكان عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - يأتيهم كل عام فيخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام شدة خرصه , وأرادوا أن يرشوه فقال: يا أعداء الله تطعموني السحت وقد جئتكم من عند أحب الناس , ولأنتم أبغض إليَّ من عدتكم من القردة والخنازير , ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن أعدل عليكم , فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض)) .
__________
(1) السنن الكبرى. ج: 6. ص: 114 و115.(4/1020)
وأخبرنا الحسين بن الفضل القطان ببغداد. أنبأنا أبو سهل بن زياد القطان. حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا محمد بن المثنى. حدثنا سعيد بن سفيان. أنبأنا صالح - وهو ابن أبي الأخضر - عن الزهري , عن سعيد بن المسيب , عن أبي هريرة قال: ((لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر دعا يهود , فقال: عليكم نصف الثمر على أن تعملوا ما أقركم الله عز وجل)) قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله يخرصها ثم يُخيِّرُهم أن يأخذوها أو يتركوها، وأن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض ذلك , فشكوا إليه , فدعا عبد الله بن رواحة , فذكر له ما ذكروا , وقال عبد الله: يا رسول الله وهم بالخيار، إن شاؤوا أخذوها وإن تركوها أخذناها، فرضيت اليهود , وقالت: بهذا قامت السماوات والأرض، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه: ((لا يجتمع في جزيرة دينان)) . قال: فلما انتهى ذلك
إلى عمر - رضي الله عنه - أرسل إلى يهود خيبر , فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملكم على هذه الأموال وشرط لكم أن يقركم , يعني ما أقركم الله ورسوله , وقد أذن الله عز وجل في الجلاء لكم حين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عهد، فأجلاهم عمر - رضي الله عنه - كل يهودي ونصراني في أرض الحجاز ثم قسمها بين أهل الحديبية.(4/1021)
وذكر ابن هشام قصة صلح خيبر نقلًا عن ابن إسحاق كعادته , وما كنا لنعرض له , لولا نكتة هامة وردت أثناء عرضه , إذ قال: وكان فيمن مشى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني يهود فدك الذين جاؤوا يطلبون صلحًا كصلح خيبر - في ذلك محيصة بن مسعود أخو بني حارثة.
قلت: ومحيصة هذا حارثي أنصاري أوسي من رهط رافع بن خديج له بلاء في الإسلام وذكر , امتاز به في واقعة مع اليهود , حفظها له التاريخ. ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد قتل كعب بن الأشرف: ((من ظفرتم به من يهود فاقتلوه)) . فوثب محيصة على تاجر يهودي فقتله , فجعل أخوه حويصة يضربه , وكان أسن منه , وذلك قبل أن يسلم حويصة (1)
ولهذه النكتة أثر بعيد عميق في تكييف العلاقة بين قصة صلح خيبر وبين حديث رافع بن خديج والأحاديث المشاكلة له ولجابر بن عبد الله وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وأبي سعيد الخدري وثابت بن الضحاك وغيرهم. ذلك بأن مجموع النصوص المروية لهذه الأحاديث التي وردت فيها كلمة (المخابرة) أو ما يشبهها من مشتقات (خبر) بلغ أربعين نصًا (2)
__________
(1) ابن حجر الإصابة. ج: 1. ص: 363. ترجمة حويصة: 1881. وج: 3. ص: 388. ترجمة محيصة: 7825.
(2) انظر فيما سبق حديث كل من حنظلة بن قيس، سليمان بن يسار، أبي النجاشي، سعيد بن المسيب، سعد بن أبي وقاص، عبد الله بن دينار، عطاء ومجاهد بن شهاب، طاوس، عبد الله بن دينار، ابن عمر، نافع، أسيد بن ظهير، كلهم عن رافع بن خديج.(4/1022)
وكون محيصة الحارثي أحد البارزين من رهط رافع من الذين سعوا بين فدك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكون ليهود فدك ما ليهود خيبر من الصلح، وكان لهم ذلك فعلًا، لا ينبغي عدم اعتباره في محاولة تقدير الزمن الذي وقع فيه صلح خيبر , وذلك الذي وقع فيه نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم بني حارثة بالذات عن كراء الأرض.
ونعود إلى موضوع النسخ الذي ادعاه بعضهم , فاعتمدوا عليه - صراحة أو ضمنًا - في إبطال النهي عن المزارعة أو كراء الأرض. ونبدأ بما قاله ابن حزم الذي سبق أن نقلنا عنه القول بتواتر النهي عن كراء الأرض معنويًا إن لم يكن لفظيًا.
قال في الأحكام (1) والنسخ تخصيص بعض (2) الأزمان بحكم الوارد دون سائر الأزمان , وهم يجيزون بالسنة تخصيص بعض الأعيان مثل قوله عليه السلام: ((لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدًا)) أو ما أشبه ذلك. فما الفرق بين جواز تخصيص بعض الأعيان بالسنة وبين تخصيص بعض الأزمان بها؟ وما الذي أوجب أن يكون هذا ممنوعا وذلك موجودًا؟ فإن قالوا: ليس التخصيص كالنسخ؛ لأن التخصيص لا يرفع النص كله، قيل لهم: إذا جاز رفع بعض النص بالسنة - وبعض النص نص - فلا فرق بين رفع بعض نص آخر بها. وكل ذلك سواء , ولا فرق في شيء منها.
وقال الآمدي (3) أما المتفق عليه - أي من شروط النسخ - بأن يكون الحكم المنسوخ شرعيا , وأن يكون الدليل الدال على ارتفاع الحكم شرعيا متراخيًا عن الخطاب المنسوخ حكمه , وأن لا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدًا بوقت معين.
__________
(1) المجلد: ا. ص: 482.
(2) في النسخة المطبوعة بعد وهي خطأ بدليل ما بعدها.
(3) الإحكام في أصول الأحكام. ج: 3. ص: 164.(4/1023)
ثم قال (1) النصان إذا تعارضا وتنافيا , إما أن يتعارضا من كل وجه , أو من وجه دون وجه، فإن تنافيا من كل وجه، فإما أن يكونا معلومين أو مظنونين , أو أحدهما معلومًا , والآخر مظنونًا. فإن كانا معلومين أو مظنونين، فإما أن يعلم تأخر أحدهما عن الآخر , أو اقترانهما , أو لا يُعلم شيء من ذلك، فإن عُلِمَ تأخر أحدهما عن الآخر , فهو ناسخ , والمتقدم منسوخ، وذلك يُعرف إما بلفظ النسخ والمنسوخ , كما لو قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا ناسخ وهذا منسوخ , أو أجمعت الأمة على ذلك. وإما بالتاريخ , وذلك قد يعلم إما بأن يكون في اللفظ ما يدل على التقدم والتأخر لقوله صلى الله عليه وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)) . وإما بإسناد الراوي أحدهما إلى شيء متقدم , كقوله: كان هذا في السنة الفلانية، وإحداهما معلومة التقدم على الأخرى , هذا كله إذا كان سند الناسخ والمنسوخ مستويًا.
ثم قال: وإما إن علم اقترانهما مع تعذر الجمع بينهما , فعندي أن ذلك غير متصور الوقوع , وإن جوزه قوم وبتقدير وقوعه، فالواجب إما الوقف عن العمل بأحدهما أو التخيير بينهما إن أمكن، وكذلك الحكم فيما إذا لم يُعلم شيء من ذلك، وأما إن كان أحدهما معلومًا والآخر مظنونًا , فالعمل بالمعلوم واجب , سواء تقدم أو تأخر , أو جهل الحال في ذلك، لكنه إن كان متأخرًا عن المظنون , كان ناسخًا , وإلا كان مع وجوب العمل به غير ناسخ. هذ كله إذا تنافيا من وجه دون وجه , بأن يكون كل واحد منهما أعم من وجه دون وجه , كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)) . فإنه خاص بالمبدل , وعام في النساء والرجال، وقوله: ((نهيت عن قتل النسوان)) . فإنه خاص بالنساء , وعام بالنسبة إلى المبدل، فالحكم فيهما كما لو تنافيا من كل وجه.
وقال الشيرازي (2)
فصل: وكذلك يجوز نسخ السنة بالسنة , كما يجوز نسخ الكتاب بالكتاب، الآحاد بالآحاد , والمتواتر بالمتواتر , والآحاد بالمتواتر , فأما المتواتر بالآحاد , فلا يجوز، لأن التواتر يوجب العلم , فلا يجوز نسخه بما يوجب الظن.
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام. ص: 258 إلى 261.
(2) اللمع في أصول الفقه. ص: 173. فقرة: 113.(4/1024)
ثم قال (1) : واعلم أن النسخ قد يعلم بصريح النطق , كقوله عز وجل: {الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} (2) وقد يعلم بالإجماع , وهو أن تجمع الأمة على خلاف ما ورد من الخبر , فيستدل بذلك على أنه منسوخ؛ لأن الأمة لا تجتمع على الخطأ , وقد يعلم بتأخير أحد اللفظين عن الآخر مع التعارض، وذلك مثل ما روي أنه قال: الثيب بالثيب جلد مائة والرجم. ثم روي أنه رجم ماعزًا ولم يجلده، فدل على أن الجلد منسوخ.
ثم قال (3) ويعلم المتأخر في الأخبار بالنطق , كقوله صلى الله عليه وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)) . ويعلم بأخبار الصحابة أن هذا نزل بعد هذا وورد بعد هذا، كما روي أنه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار.
وذكر ابن قدامة (4) من بين ما يعرف به النسخ أن يذكر الراوي تاريخ سماعه , فيقول: سمعت عام الفتح. ويكون المنسوخ معلومًا بقدمه.
وقال الرازي (5) قد يعلم ذلك - أي كون الناسخ ناسخًا - باللفظ تارة وبغيره أخرى. أما اللفظ فهو أن يوجد لفظ النسخ، إما بأن يكون هذا منسوخًا, أو يقول: ذلك ينسخ هذا، وإما غير اللفظ , فهو أن يأتي بنقيض الحكم الأول أو بضده مع العلم بالتاريخ.
ثم قال: وأما التاريخ , فقد يعلم باللفظ أو بغيره. أما اللفظ فكما إذا قال أحد الخبرين قبل الآخر، وأما بغير اللفظ فعلى وجوه , أحدها: أن يقول: هذا الخبر ورد سنة كذا , وهذا في سنة كذا، وثانيهما: أن يعلق أحدهما على زمان معلوم التقدم والآخر بالعكس , كما لو قال: كان هذا في غزاة بدر والآخر في غزاة أحد، وهذه الآية نزلت قبل الهجرة والأخرى بعدها.
__________
(1) اللمع في أصول الفقه ص: 176 و178.
(2) الآية رقم (66) من سورة الأنفال.
(3) الفقرة: 121 من اللمع في أصول الفقهه.
(4) روضة الناظر. ص: 81.
(5) المحصول. القسم: 3. ص: 561 و562.(4/1025)
وثالثها: أن يروي أحدهما رجل متقدم الصحبة لرسول صلى الله عليه وسلم , ويروي الآخر رجل متأخر الصحبة , وانقطعت صحبة الأول للرسول عليه السلام عند ابتداء الآخرين بصحبته لهذا يقتضي أن يكون خبر الأول متقدمًا. أما لو دامت صحبة المتقدم مع الرسول عليه السلام لم يصح هذا الاحتمال.
وقال الشاطبي (1) بعد أن بين أن النسخ لا يكون إلا في الكليات: ويدل على أن ذلك الاستقراء التام , وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينات، وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء، بل إنما أتى بالمدينة (ص1335) ما يقويها ويحكمها ويحسنها.
ثم قال: ووجه آخر، وهو أن الأحكام ثبتت على المكلف، فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق؛ لأن ثبوتها على المكلف أولًا محقق , فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق. ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا
ينسخ القرآن , ولا الخبر المتواتر؛ لأنه رفع لمقطوع به بالمظنون , فاقتضى هذا أن ما كان من الأحكام الكلية يدعى نسخه لا ينبغي قبول تلك الدعوة فيه إلا مع قاطع بالنسخ , بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين بدعوى للأحكام فيهما.
وعقب عليه محقق الكتاب الشيخ عبد الله دراز بقوله: نعم، هو قول الأكثرين - يعني أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبر المتواتر - وحجتهم واضحة. وإنما قبلوا تخصيص المتواتر بالآحاد ولم يقبلوا نسخه به؛ لأن الأول بيان وجمع بين الدليلين بخلاف النسخ فإنه إبطال.
وقال ابن حزم الهمذاني (2) في معرض ذكره لشروط النسخ: ومنها أن يكون الخطاب الناسخ متراخيًا عن المنسوخ، فعلى هذا يعتبر الحكم الثاني، فإنه لا يعدو أحد القسمين إما أن يكون متصلًا بالأول لا يسمى نسخًا , إذ من شرط النسخ التراخي وقد فقد هاهنا لأن قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تلبسوا القمص ولا السراويلات ولا الخفاف إلا أن يكون رجل ليس له نعلان فليلبس الخفين)) . وإن كان صدر الحديث يدل على منع لبس الخفاف , وعجزه يدل على جوازه , وهما حكمان متنافيان , غير أنه لا يسمى نسخًا لانعدام التراخي فيه، ولكن هذا النوع لا يسمى بيانًا.
__________
(1) الموافقات. ج: 3. ص: 105.
(2) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار. ص: من 9 إلى 21.(4/1026)
وإن كان منفصلًا نظرت هل يمكن الجمع بينهما أم لا، فإن أمكن الجَمع جُمع , إذ لا عبرة بالانفصال الزماني مع قطع النظر عن التنافي , ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجه يكون أعم للفائدة كان أولى صونًا لكلامه - بأبي هو وأمي - من سمات النقص، ولأن في ادعاء النسخ إخراج الحديث عن المعنى المفيد وهو على خلاف الأصل , ألا ترى أن قوله عليه السلام: ((شر الشهود من شهد قبل أن يستشهد)) . وفي حديث آخر: ((خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد)) ، وهما حديثان قد تعارضا على ما ترى، وقد يشكل على غير الفقيه أن يجمع بينهما لما يتوهم فيه من ظاهر المنافاة مع حصول الانفصال فيهما، وربما يراه بعض من له معرفة بالإسناد فيرى إسناد الحديث الأول أمثل , فيحكم بنسخ الثاني , وليس الأمر على ما يتوهمه؛ لفقدان شرائط النسخ، لكن طريق الجمع بين هذين الحديثين أن يحمل الأول على ما إذا شهد قبل أن يستشهد من غير مسيس الحاجة إليه. وهذا التفسير ظاهر في حديث عمران بن الحصين , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم , ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم ينشأ قوم يشهدون ولا يستشهدون)) . ويحمل الحديث الثاني على ما إذا شهد عنه مسيس الحاجة , فهو خير الشهود، وعلى هذا ينبغي أن يحتال في طريق الجمع رفعًا للتضاد عن الأخبار.
وإن لم يكن الجمع وهما حكمان منفصلان، نظرت هل يمكن التمييز بين السابق والتالي، فإن تميزا وجب السير إلى الآخر منهما.
ويعرف ذلك بأمارات عدة، منها أن يكون لفظ النبي صلى الله عليه وسلم مصرحًا به , نحو قوله عليه الصلاة والسلام: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)) . أو يكون لفظ الصحابي ناطقًا به نحو حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس)) .
ومنها أن يكون التاريخ معلومًا نحو ما رواه أُبي بن كعب، رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله , إذا جامع أحدنا فأكسل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يغسل ما مس المرأة منه وليتوضأ ثم يصل)) . هذا حديث يدل على أن لا غسل مع الإكسال , وأن لا موجب الغسل الإنزال.(4/1027)
ثم لما استقرينا طرق هذا الحديث , أفادنا بعض الطرق أن شرعية هذا كان في مبدأ الإسلام , واستمر ذلك إلى ما بعد الهجرة بزمان، ثم وجدنا الزهري قد سأل عروة عن ذلك , فأجابه عروة أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ولا يغتسل وذلك قبل فتح مكة، ثم اغتسل بعد ذلك وأمر الناس بالغسل)) .
ثم قال: وإن لم يكن التمييز بينهما بأن أبهم التاريخ وليس في اللفظ ما يدل عليه تعذر الجمع بينهما، فحينئذ يتعين المسير إلى الترجيح , ووجوه الترجيحات كثيرة إنما أذكر معظهما، فمما يرجح به أحد الحديثين على الآخر:
الوجه الأول: كثرة العدد في أحد الجانبين , وهي مؤثرة في باب الرواية؛ لأنها تقرب مما يوجب العلم وهو التواتر.
ثم قال: وقال بعض الكوفيين: كثرة الرواة لا تأثير لها في الترجيحات لأن طريق كل واحد منهما غلبة الظن , فصار كشهادة الشاهدين مع شهادة الأربعة.
يقال على هذا: إن إلحاق الرواية بالشهادة غير ممكن , وإن شاركت الشهادة في بعض الوجوه فقد فارقتها في أكثر الوجوه , ألا ترى أنه لو شهد خمسون امرأة لرجل بمال لا تقبل شهادتهن , ولو شهد به رجلان قبلت شهادتهما، ومعلوم أن شهادة الخمسين أقوى في النفس من شهادة رجلين، لأن غلبة الظن إنما هي معتبرة في باب الرواية دون الشهادة. وكذا سوى الشارع بين شهادة إمامين عالمين وشهادة رجلين لم يكونا في منزلتهما. وأما في باب الرواية فرجح رواية الأعلم الأدين علمه غيره (ص1338) من غير خلاف يعرف في ذلك فَلاحَ الفرق بينهما.
ثم مضى يذكر أوجها في هذا الباب.
ثم قال: الوجه السابع: أن يكون أحد الراويين مباشرًا لما رواه الثاني حاكيًا، فالمباشر أعرف بالحال، مثاله حديث ميمونة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نكحها وهو حلال)) ، وبعضهم رواه: ((نكحها وهو حرام)) ، فمن رواه: نكحها وهو حلال أبو رافع، ومن رواه: نكحها وهو حرام ابن عباس وحديث أبي رافع أولاه بالتقديم؛ لأن أبا رافع كان سفيرًا بينهما , وكان مباشرًا للحال، وابن عباس كان حاكيًا، ولذلك أحالت عائشة - رضي الله عنها – إلى علي - رضي الله عنه - لما سألوها عن المسح على الخفين وقالت: سلوا عليًّا فإنه كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم.(4/1028)
والوجه الثامن: أن يكون أحد الراويين صاحب القصة , فيرجح حديثه
؛ لأن صاحب القصة أعرف بحاله من غيره وأكثر اهتمامًا , ولذلك رجع نفر من الصحابة ممن كان يرى الماء من الماء إلى حديث عائشة - رضي الله عنها - في التقاء الختانين.
الوجه التاسع: أن يكون أحد الراويين أحسن سياقًا لحديثه من الآخر وأبلغ استقصاء فيه؛ لأنه قد يحتمل أن يكون الراوي الآخر سمع بعض القصة فاعتقد أن ما سمعه مستقل بالإفادة، ويكون الحديث مرتبطًا بحديث آخر لا يكون هذا قد تنبه له. ولهذا من ذهب إلى الإفراد قدم حديث جابر، لأنه وصف خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة مرحلة مرحلة ودخوله مكة، وحكى مناسكه على ترتيبه وانصرافه إلى المدينة وغيره لم يضبط ما ضبطه.
ثم قال: الوجه السابع والثلاثون: أن يكون أحد الحديثين قولًا والآخر فعلًا، فالقول أبلغ في البيان ولأن الناس لم يختلفوا في كون قوله حجة , واختلفوا في اتباع فعله، ولأن الفعل لا يدل بنفسه على شيء بخلاف القول فإنه أقوى.
الوجه الثامن والثلاثون: أن يكون أحد الحديثين مخصصًا والثاني لم يدخله التخصيص أولى؛ لأن التخصيص يضعف اللفظ ويمنعه من جريانه على مقتضاه ويصير مجازًا عند جماعة من الأئمة , بخلاف ما لم يدخله التخصيص فيكون أقوى.
ثم قال: الوجه الأربعون: أن يكون أحد الحديثين مطلقًا والآخر واردًا على سبب، فيقدم المطلق لظهور أمارات التخصيص على الوارد على سبب , فيكون أولى بإلحاق التخصيص به.(4/1029)
ثم ذكر التمييز بين التخصيص والنسخ وجوهًا خمسة فقال:
أحدها: أن الناسخ لا يكون إلا متأخرًا عن المنسوخ والتخصيص يصح اتصاله به. والثاني: أن الدليل في النسخ لا يكون إلا خطابًا والتخصيص قد يقع بقول وفعل وقياس وغير ذلك. والثالث: أن نسخ الشيء لا يجوز إلا بما هو مثله في القوة أو بما هو أقوى منه في الرتبة , والتخصيص جائز بما هو دون المخصوص منه في الرتبة. والرابع: أن التخصيص لا يدخل في الأمر بمأمور واحد، والنسخ جائز في مثله سيما على أصل من يرى نسخ الشيء قبل وقته. والخامس: أن التخصيص يخرج من الخطاب ما لم يرد به , والنسخ رافع ما أريد إثبات حكمه.
ولعل أجود تلخيص وأشمله لأقوال السلف الأول من التابعين وأئمة المذاهب في موضوع كراء الأرض , وتأويل الأحاديث الواردة بشأنه , والتي تراءى للبعض تعارض بينهما ما قاله ابن حازم الهمذاني ونصه (1)
وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فذهب بعضهم إلى أن من استأجر أرضًا على جزء معين مما يخرج منها كالنصف والثلث والربع , أن ذلك جائز والعقد صحيح. روي ذلك عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وابن شهاب الزهري. ومن أهل الرأي: أبو يوسف القاضي ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة وقال ابن حنبل: يجوز ذلك إذا كان البذر من رب الأرض، وتمسكوا في ذلك بظاهر حديث ابن عمر - يعني ما روي عن طريق نافع ابنه من قوله: قد علمت أن الأرض كانت تكرى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث، وقد تقدم - قالوا: ويؤكده حديث ابن عباس - وقد تقدم - لأن قوله عليه السلام: لأن يمنحها أخاه خير. ليس فيه دلالة على اللزوم , وإنما اللفظ صدر مصدر التخيير ومنهم من تمسك بما روى ابن عمر ((أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل خيبر على الشطر مما يخرج من ثمر)) - وقد تقدم من طرق مختلفة، وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: العقد فاسد.
__________
(1) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار. ص: 171 وما بعدها.(4/1030)
وروي ذلك عن عبد الله بن عمر وابن عباس وعبد الله بن خديج وأسيد بن حضير وأبي هريرة ونافع وإليه ذهب مالك والشافعي. ومن الكوفيين أبو حنيفة، وتمسكوا في ذلك بأحاديث.
ثم أورد بعضًا من طرق حديث رافع بن خديج - وقد تقدمت - ثم قال: قرئ على أبي المحاسن محمد بن عبد الخالق الجوهري. أخبرك عبد الواحد بن إسماعيل الإمام في كتابه. أخبرنا أحمد بن محمد البلخي. حدثنا أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي قال: خبر رافع بن خديج من هذا الطريق - يعني الخبر الذي رواه مسلم عن طريق نافع أن ابن عمر كان يكري مزارعه.. الحديث - وقد تقدم خبر مجمل تفسره الأخبار التي رويت عن رافع بن خديج وعن غيره من طرق أخر، وقد عقل ابن عباس المعنى من الخبر وأنه ليس المراد به تحريم المزارعة بشطر ما تخرجه الأرض، وإنما أريد بذلك أن يتمانحوا أرضهم وأن يرفق بعضهم بعضًا. وقد ذكر رافع بن خديج في رواية أخرى عنه النوع الذي حرم منها , والعلة التي من أجلها نهى عنها.
ثم بين الرواية الأخرى التي أشار إليها الخطابي بأن أورد ما رواه مسلم من حديث ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس وقد تقدم.
قلت: وأحسب الخطاب واهمًا فيما نسبه إلى ابن عباس , فإنما عمدة ابن عباس الخصومة التي رفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين زارع أحدهما الآخر ثم اختصما، وقد سبق أن أوردناها في حديث ابن عباس في هذا الباب.
ثم قال: قلت: وإنما صدر هذا الكلام عن الخطابي ظنًا منه أن المنهى عنه في خبر رافع إنما هو القدر المجهول.
قلت: ولم يقع الخطابي وحده في هذا الظن، فقد وقع فيه جمهور من الفقهاء وخاصة المقلدة من المتأخرين.(4/1031)
ثم قال: ولو استقرأ طرق هذ االحديث لبان له أن النهي تناول المجهول والمعلوم وذلك بين في رواية سليمان بن يسار.
ثم ساقها بسنده إلى مسلم في روايته عن طريق يعلى بن حكيم، كما ساق حديث جابر عن طريق الأوزاعي عن عطاء من رواية مسلم.
ثم أورد حديث زيد بن ثابت وجميعها قد تقدمت، وتعقبه بقوله: وهذا يدل على أن الذي صدر من النبي صلى الله عليه وسلم كان على وجه المشورة والإرشاد دون الإلزام والإيجاب. والجواب أن هذا غير قادح فيما ذكرناه من دلالة النهي، فإن الاعتبار بلفظ النهي وعمومه دون السبب.
قلت: هذا بناء على القاعدة الأصولية المعروفة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب , فضلًا عن أن حديث زيد بن ثابت يعتمد أيضًا على توهيم رافع بن خديج في فهم حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية الخصومة المشار إليها آنفًا وهو أساس غير سليم، وقد ألمعنا إلى ضعفه فيما عقبنا به عن حديث زيد بن ثابت.
ثم قال: فإن قيل قول ابن عمر: إن الأرض كانت تكرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه دلالة على أن هذا الحكم كان مأذونًا فيه من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا من قبيل الأمور الدنيوية، فليس من شرطه إحاطة النبي صلى الله عليه وسلم وما لم تثبتوا ذلك. لا يستقيم لكم ادعاء النسخ؛ لأن المنسوخ لابد وأن يكون حكمًا شرعيًا. يقال: على هذا الكلام إن أكثر المحققين ذهبوا إلى أن قول الصحابي: كنا نفعل كذا , أو كانوا يفعلون كذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ظاهر في الدلالة على جواز الفعل، وأن ذكر الصحابي نحو ذلك في معرض الحجة يدل على أنه أراد ما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم , وسكت عنه دون ما لم يبلغه , وذلك يدل على الجواز.(4/1032)
ثم في حديث ابن عمر ما يدل عليه، حيث قال: قد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض ... قال: ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئًا , ولو لم يعلم أن ما كان يذهب إليه من الجواز كان مستندًا إلى إذن النبي صلى الله عليه وسلم , لما كان يتوقف في ذلك.
ثم أورد مستدلًا على أن النهي جاء بعد الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا عن رافع ابن خديج , فقال: أخبرنا الفضل بن القاسم. أخبرنا الحسن بن محمد. أخبرنا أحمد بن عبد الله. أخبرنا أبو إسحاق المزكي. حدثنا مكي بن عبد الله. حدثنا مسلم بن الحجاج. حدثنا قتيبة بن سعيد وإسحاق. قال قتيبة: حدثنا جرير , عن عبد العزيز - هو ابن رافع - عن رفاعة بن رافع بن خديج , أن رجلًا كانت له أرض , فعجز عنها أن يزرعها , فجاءه رجل , فقال له: هل لك أن أزرع أرضك، فما خرج منها من شيء كان بيني وبينك؟ فقال: نعم، حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فلم يرجع إليه شيئًا، قال: فأتيت أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - فقلت لهما، فقالا: ارجع إليه، فرجعت إليه الثانية , فسألته , فلم يرد علي شيئًا , فرجعت إليهما , فقالا: انطلق فازرعها، فإنه لو كان حرامًا نهاك عنه. قال: فزرعها الرجل حتى إذا اهتز زرعه واخضر , وكانت الأرض على طريق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر بها يومًا , فأبصر الزرع فقال: ((لمن هذه الأرض؟)) فقالوا: لفلان زارع بها فلانا، فقال: ((ادعوهما لي جميعًا)) قال: فأتياه , فقال لصاحب الأرض: ((ما أنفق هذا في أرضك , فرده إليه , ولك ما أخرجت أرضك)) .
قلت: ويشبه هذا ويقوي ما رواه كل من أبي داود والدارقطني والطحاوي من حديث رافع بن خديج الذي أوردناه آنفًا.(4/1033)
مهما يكن، فإن ملاك الأمر في تقديرنا ليس هو النسخ أو تأويل النهي بمجرد الإرشاد والتوجيه، وإنما هو أمر أعمق من ذلك وأجدر بأن يكون الفيصل ذلك , بأن بني حارثة رهط رافع كانوا أهل زرع ومزارعة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وربما بأجيال، ويصرح رافع في بعض طرق حديثه ما يفيد أنهم كانوا يمارسون نمطًا من الاستحواذ على الأرض الزراعية واستغلالها بما لهم من خبرة في الزراعة، وربما من طاقة مالية أيضًا.
وحين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من قبله ومن بعده مهاجرون من مكة وغيرها , ولم يكونوا يملكون شيئًا , كان أول حل اقتصادي واجتماعي لمشكلة المهاجرين شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤاخاة بينهم وبين الأنصار , وبلغ من كرم الأنصار في الفترة الأولى من الهجرة أنهم لم يكتفوا بمقاسمة إخوانهم المهاجرين - إلا من استغنى منهم بخبرته وآثر أن يعتمد عليها في إقامة وضع اقتصادي له مثل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ما يملكون من عقار وأموال، بل عرض بعض الأنصار على إخوته المهاجرين أن يختاروا من شاؤوا من زوجات أولئك الأنصار ممن كانت له أكثر من واحدة ليطلقها، فإذا استكملت عدتها تزوجها المهاجر.
ثم ذهب بعضهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأحسب هذا في فترة لاحقة وقد تكاثر المهاجرون وارتفع حكم المؤاخاة - يسألونه أن يقسم بينهم وبين إخوانهم المهاجرين ما يملكون من نخل، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك، فاتفق الأنصار والمهاجرون على أن يعملوا في نخيلهم , ويكون لهم الشطر من نتاجها كل عام.
لكن الهجرة استمرت ثماني سنوات، كما اتسعت الأرض التي أصبحت ملكًا للمسلمين بعد إجلاء يهود القرى المحيطة بالمدينة مثل بني النضير وبني قريظة، فنشأ وضع اقتصادي أدنى إلى الاستقرار واتساع النماء تطورت معه مواجد الناس ورغباتهم كما وجدت طبقة المهاجرين لم يشملها شرع المؤاخاة الذي انتهى العمل به بانتهاء ظرفه، ولم تصب من مغانم الحرب ما يلحقها بالطبقة المستقرة اقتصاديا، فقد كانت الهجرة في تلك السنوات الثمانية أوسع نطاقًا بأوفر عدد يمكن أن يوازيه التطور الاقتصادي الناشئ عن مغانم الحرب، إذ لم يكن آنئذ عامل تطور اقتصادي غيرها , فهي قد استأثرت بجهود المسلمين واهتمامهم لما تثيره قريش وحلفاؤها والأعراب من نواحي الجزيرة ويهود من حول المدينة من ألوان الاستفزازات والمحالفات والغدر وما إلى ذلك مما ليس من شأنه أن يهيئ فرصة استقرار ينتج عنه تطور اقتصادي سلمي، إلا ما كان من استمرار الظروف المستقرة السابقة للإسلام لدى بعض قبائل الأنصار مثل بني حارثة الذي كانت الزراعة وامتلاك الأرض أساسًا لوضع استقراري مكين يتمتعون به ويركنون إليه، فكان لا مناص من تشريع خليق بأن يحدث نمطًا من تكافؤ الفرص، ينشأ عنه الوضع الضروري للحفاظ على التكافل الاجتماعي في المدينة القائم على أساس من ضمان العيش الكريم بجميع أفراد المجتمع.(4/1034)
وبما أن الأساس الطبيعي للنمو الاقتصادي في المدينة المنورة هو استغلال الأرض سواء بالزراعة أو بالتشجير، ومنه غراسة النخل واستثمارها، فقد كان من الطبيعي أن يتجه التشريع إلى تلبية مقتضيات هذا الظرف الجديد لاجتناب استغلال ملاك الأرض لحاجة المهاجرين الذين لم تشملهم فوائد المآخاة المشروعة خاصة في الفترة الأولى من الهجرة، على أن لا يصطدم اصطدامًا حادا مع غريزة التملك التي فطر عليها الإنسان، وغالبًا ما تتحكم في مواجد وتصرفات أرباب الأملاك تحكما يطغى أحيانًا حتى على مقتضيات العقيدة نفسها. ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كما وصفه القرآن: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) يشفق من أن ينصف أحدًا على حساب الآخر ما استطاع إلى ذلك سبيلا , ويحرص على أن يقيم الإنصاف على قاعدة من التجاوب الأخوي بين المشاعر والمواجد.
فكان التشريع الذي ارتآه صلى الله عليه وسلم اجتهادًا أو هدي إليه وحيا هو منع أرباب الأراضي من استغلال ما يفيض على طاقتهم الاستثمارية مما يملكون من الأرض بجهود المحرومين من ملكية الأرض، وذلك ما يفيده , ولا يمكن أن يفيد غيره حديث رافع بن خديج بطرقه المختلفة، فهو حديث متكامل وليس بمضطرب كما بدا للترمذي وأحمد.
ذلك بأننا إذا اقتصرنا منه على الطرق التي أوردته كاملًا أو أوردت أغلب فقراته وجاءت بأسانيد ثلاثية أو رباعية لم يدخلها أناس ممن تكلموا فيهم كلامًا لا مناص من اعتباره نجده متسقًا يكمل بعضه بعضًا ليس فيه التباس ولا اضطراب، والذين وصفوه بالاضطراب إنما انصب وصفهم على أسانيده , وليس على متنه.
وبيان ذلك أن رافعًا - رضي الله عنه - لم يكن في حديثه راويًا فحسب , وإنما كان - وبالأساس - مفتيًا داعيًا، وآية ذلك أنه لم يشع حديثه إلا في عهد معاوية وربما في أواخر ذلك العهد , ويومئذ كانت الفتوحات قد كثرت واتسع ما تداولته أيدي المسلمين من الأراضي , فتجاوز الجزيرة العربية إلى الشام وإلى ما بين النهرين , وإلى ما وراءهما نتيجة لامتداد الفتوح امتدادًا كاد يكون بلا نهاية.
__________
(1) الآية رقم: (128) من سورة التوبة.(4/1035)
على حين أن ضعف وازع العقيدة في النفوس وخاصة في مسلمة الفتح ومن بعدهم. وهيمن عامل التهافت على الدنيا والاستكثار منها، بل ضعفت هيمنة الحكم الإسلامي الحازم على تصرفات أولي الأمر، وأخذت تحل محله عوامل السياسة غير الدينية , وهي عوامل لا تلتزم بضوابط الشريعة الإسلامية بقدر ما تتوخى حاجات السياسة الداخلية من استمالة ضعاف النفويس وشراء الذمم واستعباد الضمائر.
وكان عمل عمر - رضي الله عنه - في الامتناع من توزيع أراضي السواد والاحتفاظ بملكيتها بيت مال المسلمين تحسبًا لحاجات سلائل المسلمين المتعاقبة قد أوقف منذ أواسط عهد عثمان - رضي الله عنه- حتى إذا كان عهد معاوية وهو من هو لولا صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتمكنت الاعتبارات الدنيوية من الهيمنة على تصريف الأمور على تصورات النفوس ومواجدها.
ومن ذلك كله نشأ ظرف اضطر رافع بن خديج وهو أحد مراجع الفتوى في ذلك العهد إلى أن يجهر ويلح في الجهد بما ظل يجمعه في نفسه سنين طوالا من شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الأرض واستغلالها.
وكان جهره بذلك على أنماط وأساليب كان يجيب به فتوى لمن يسأله , فيقتصر على ذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الإفاضة في شرح ظروف ذلك النهي وأسبابه , وكان يرويه حديثًا مختصرًا لبعض طلبة الحديث الذين لا يرى جدوى في أن يذكر لهم جميع تفاصيل الواقعة أو الوقائع التي لابست النهي أو أعقبته , وكان يرويه كاملًا بجميع تفاصيله وملابساته حين يكون حديثه إلى رفيق له من الصحابة أو من كبار التابعين الذين يرى أن من واجبه أن يحيطهم بجميع ما لديه من العلم في هذا الأمر.
واشتد الجدل بين الناس، فلم يكن جميع الصحابة الذين لم يزالوا أحياء محيطين بأمر النهي كما علمه من أهمه بالأساس بنو حارثة , ومن أهمه منهم بالأصالة رافع بن خديج وأعمامه وأخواله وأخوته وبنوه، فأغلب الصحابة كانوا في عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفين إلى الحرب نصرة للإسلام أو إلى التلقي عنه حفظًا للشريعة وحملًا للرسالة، وقليل منهم كان مصروفًا إلى شؤون الفلاحة وامتلاك الأرض ومنهم جابر بن عبد الله الذي كان هو أيضًا من رهط يقوم كيانهم الاقتصادي على غراسة الأرض واستثمار النخيل، فكان طبيعيًا أن يلم بما يتصل بعمله وعمل ذويه من أحكام، وهو الراوي المكثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله فيما يتصل بحرفته وحرفة ذويه أحاديث وأخبار، كما كان منهم أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وسعد بن أبي وقاص وأنس بن مالك المنصرفون إلى التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرافًا متفاوتًا تبعًا لظروف كل واحد منهم , وكان حريصًا أشد ما يكون الحرص.(4/1036)
وكانت حروب الردة ثم الفتوح لعهد أبي بكر وعمر ولصدر من عهد عثمان قد أتت على عدد كبير من كبار الصحابة، فلما كان عهد معاوية تصدر للفتوى الحفظة والفقهاء من صغارهم ومنهم رافع بن خديج.
وكان الملتزمون بالسنة في ذلك العهد وفي طليعتهم فقهاء الصحابة وصدور الإفتاء منهم، يجهرون بإنكار ما يشهدونه من تغير وتبدل في تصرفات أولي الأمر والعامة، وكانوا على أولي الأمر منهم أشد على العامة، فهم يدركون أن صلاح العامة بصلاح أولياء الأمر منهم، بل إن الإنكار على معاوية ابتداء من عهد عمر - رضي الله عنه - ومع أن عمر كان يكله إلى ربه في بعض ما ينكر من مظاهره ويعتذر عنه معاوية بأعذار تتصل بالسياسة، فإن مآخذ بعض الصحابة عنه كانت من يومئذ تستعلن , بيد أنها اشتدت وبلغت حد المجابهة في عهد عثمان - رضي الله عنه - ثم ارتفعت إلى أن أصبحت نمطًا من التحدي لما صار إليه الأمر.
وكان لرافع بن خديج موقف من عثمان نفسه بادئ الأمر، ويظهر أنهما بلغا إلى تفاهم بعد ذلك، أو أن رافعًا فضل أن يسالمه اجتنابًا إلى مصير أبي ذر , ولأن ما ينكر عليه لم يكن في تقديره مما ينبغي أن يدفعه إلى مناهضته. ويظهر أن رافعا كان في عهد عثمان قد اعتزل الزراعة فالطبري يقول (1) إن عثمان فرض له ولأبي ذر عظما لكل واحد منهما كل يوم وما كان عثمان ليقبل هذا الفرض لو أنه لبث مواصلًا لعمله الفلاحي.
__________
(1) ج: 4. ص: 285. لم أقف في المصادر المعتمدة لتاريخ فترة الخلفاء الراشدين على بيان لما كان بين رافع وعثمان إلا ما كان من تلميحات أبرزها ما نقلناه عن الطبري. ثم ما كان من موقفه من رفع لواء الدعوة إلى مقاومة ما شاع منذ أواخر عهد عثمان , واستشرى لعهد معاوية من كراء الأرض , ونحسب أن رافعًا كان في نفسه شيء من بعض تصرفات عثمان , بيد أنه أشفق من أن يصدع به إجلالًا لذي النورين وحفظًا لوحدة الخلافة واجتنابًا لما أخذ يتململ بين الدهماء منذ أواخر عهد عثمان مما استفحل أمره حتى أسفر عن الفتنة الكبرى التي كانت شرارتها الأولى استشهاد الخليفة الثالث - رضي الله عنه - ثم أعقبت ما قدر الله على الأمة الإسلامية من معقباتها , ولله الأمر من قبل ومن بعد.(4/1037)
ومهما يكن فقد رفع لواء المعارضة ليس لمعاوية فحسب , ولكن لعامة المنصرفين إلى الاستكثار من المال , سواء كانوا من الصحابة أو من غيرهم , يتجلى ذلك في الحملة الصاخبة التي قادها على ملاك الأرض ومع أنه لم يكن وحده فيها، فقد ظاهره عدد من الصحابة من أترابه مثل جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وثابت بن الضحاك , فإن رافعًا كاد يكون ميسم تلك الحملة على ملاك الأرض.
وواضح أن لدى رافع ما يجعله أعمق وعيًا بالقضية التي قادها من غيره، فهو يعلم جميع الملابسات التي ميزت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض، إذ كان هو وعمومته هم الذين وجه إليهم النهي بالأصالة وإلى غيرهم ممن كانوا على مثل وضعهم.
وبتتبع حديث رافع على اختلاف ألفاظه وتباين صيغه , يتبين أن النهي كان في أواخر العهد النبوي، ذلك بأن رافعًا كان يوم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى في حوالى الخامسة والعشرين من عمره , وقد يزيد قليلًا.
وبتأمل مجموع أحاديث رافع يمكن القول بأن النهي كان على مرحلتين: المرحلة الأولى: ما ورد من طريق بكير بن عامر , ومن طريق عبيدة الضبي , من رواية رافع عن مزارعته غيره، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يأخذ نفقته , ويدع الزرع لصاحب الأرض , ومع أن كلا من بكير بن عامر وعبيدة الضبي تكلموا فيهما، فإن الحديث الذي رواه ابن حزم الهمذاني عن طريق مسلم , لا يختلف في جوهره عن حديثهما , وإن اختلف في بعض تفاصيله، فهو لم يذكر أن المزارع رافع , ولكن راوي الحديث رفاعة بن رافع، وقد يكون معقولًا أن لا يذكر الراوي أن أباه هو صاحب القصة , وذلك ما يؤكده حديث عائشة الذي نقلناه عن طريق عبيدة الضبي، والحديثان معًا لم يذكرا أن علة النهي هي الإرباء , كما جاء في حديث بكير بن عامر: (أربيتما) وأخذ منه بعض الفقهاء اعتبار علة النهي أن المزارعة نوع من الربا. ونحسب أن الحديث إذا ثبت بهذا اللفظ يمكن تأويله بأن وصف الإرباء ليس تعليلًا للنهي , وإنما هو وصف للزرع. فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه قد اخضر واهتز , وصفه بالنماء. والزيادة والنماء هما أصل معنى كلمة: (ربا) يربو.
يقول ابن منظور (1) ربا الشيء يربو ربوا ورباية: زاد ونمى، وأربيته: نميته. وفي التنزيل العزيز: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (2)
__________
(1) ج:4. ص:304
(2) الآية رقم: (276) من سورة البقرة.(4/1038)
وقال ابن الأثير (1) الأصل فيه - أي: في (الربا) – الزيادة. وربا المال يربو ربوا: زاد وارتفع.
ثم قال: ومنه الحديث: من أجبى فقد أربى. ومنه حديث الصدقة: فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل.
ثم قال: وفي حديث الأنصار يوم أحد: لئن أصبنا يومًا منهم مثل هذا , لنربين عليهم في التمثيل - أي: لنزيدن ولنضاعفن.
ويدل على أن (الربا) ليس هو علة النهي ما كان من المرحلة الثانية له من نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض عامة، وقد ورد ذكر الكراء وما اشتق منه وما شاكله مثل الإيجار والمؤاجرة في أحاديث رافع وجابر وأبي هريرة وسعد وأبي سعيد وثابت بن الضحاك، وجلها نقلناه فيما سبق تسعًا وعشرين ومائة , فثبت بالقطع أن الكراء وما في معناه هو لذاته علة النهي.
وبصرف النظر عن تأويلات الفقهاء الذين أباحوا الكراء بالذهب والفضة والذين أباحوا حتى بالجزء من نتاج الأرض وتقولاتهم في بعض هذه الأحاديث , وليس من شأننا في هذا المجال أن نناقشها , ولو قد اتسع لمناقشتهم لكان لنا موقف ولدينا ما نقول، فإن وقوع النهي لا سبيل إلى إنكاره , وهو في حد ذاته ينتج أمرًا , هو ما نحاول استجلاءه في هذا البحث.
ثم إن تتبع أحاديث رافع وغيره، يفضي إلى حقيقة أن النهي كان في تقدير ابن عمر - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة وكبار التابعين بعد قصة خيبر، فقد استظهر في محاولة تأويله بما تردد في بعض طرقه من إيراد كلمة المخابرة وبعض مشتقاتها بدلًا من كلمة الكراء وما شاكلها، أو كلمة المحاقلة ومشتقاتها. وقد سبق أن ذكرنا أنها وردت في هذه الأحاديث نحو أربعين مرة، ومع أننا لا نسلم بأنها مشتقة من خيبر بالضرورة , فإن الذي يعنينا هو أن من الصحابة ومن كبار التابعين من اعتبرها مشتقة من خيبر , وهذا كاف في تقرير أنهم اعتبروا أحاديث النهي كانت بعد قصة خيبر.
__________
(1) النهاية ج: 2. ص: 191 و192.(4/1039)
ومع ذلك فقد حاول بعضهم أن يزعم أن هذه الأحاديث نسختها قصة خيبر، ولسنا ندري كيف يستقيم هذا الزعم إذا كانت كلمة المخابرة مشتقة من خيبر , إلا أن تكون في الأربعين موضعًا التي وردت فيها إنما رويت بالمعنى. ونجد حرجًا عميقًا في تقبل مثل هذا الاحتمال، ويعضد تحرجنا هذا , أن غزوة خيبر كانت في السنة السابعة أي: بعد أربع سنوات من الإذن لرافع بالاشتراك في غزوة أحد وهو يومئذ لم يؤذن له إلا بعد أن أثبت كفاءته في الرمي , وكاد أن يُرَدَّ أيضًا، وهذا يعني أن رافعًا كان يوم خيبر في حوالى التاسعة عشرة من عمره أو يزيد قليلًا، وفي هذه السن ومع ثراء قومه وانشغالهم بالزراعة يبعد الاحتمال أن يكون قد استقل بنفسه , ولم يكتف بنصيبه من أرض قومه , فراح يلتمس أرضًا عند غيره ليزرعها , وإن كانت المزارعة وما يشبهها نوعًا من الاستحواذ على استغلال الأرض سمة اتسم بها قومه بنو حارثة على كثرة ما لديهم من الأرض كثرة جعلتهم يزارعون غيرهم بأرضهم , وكانت من أسباب نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض منعًا لاستحواذ أولي الخبرة والمال على استثمار الأرض مستعينين بطاقة الآخرين وحاجتهم , وهو التعليل الذي لا نجد غيره متسقًا مع الوقائع التي ذكرها رافع لظروفها في أوضاع مختلفة وذكرها غيره دون بيان لظروفها أو ببيان ينقصه اجتلاء المعالم.
والذي يمكن أن تسكن إليه النفس من تدبر النهي ومراحله وظروفه ومختلف النصوص الواردة في شأنه والاستئناس بالحد الذي يمكن أن يكون قد بلغه عُمُر رافع العنصر الأول البارز في قصة النهي هو ما سبق أن أشرنا إليه من أن الفتوحات الآخذة في الاتساع حوالي المدينة المنورة عقب إجلاء اليهود من القرى المحيطة بها , ثم إلى ما وراءها من الأرض التي أسلم أهلها أو أصبحت آمنة بعد إسلام الأعراب المختلفين إليها انتجاعًا للكلأ , قد أخذ ينشئ طبقة من المنصرفين إلى استثمار الأرض وابتغاء الثراء من نتاجها مستعينين على تحقيق مطامحهم بالاستفادة من جهود المعوزين الذين يلتمسون العمل لكفاية أنفسهم وذويهم. ونحسب أغلب هؤلاء من المهاجرين من غير قريش، فلم تكن الهجرة بعد خيبر قد انقطعت حتى كان فتح مكة وبعد فتحها لم تنقطع الهجرة باعتبارها وسيلة من الاقتراب من مركز الدولة وموطن الرسول عليه الصلاة والسلام , وإنما انقطعت باعتبارها واجبًا دينيًا ولتيسير الفرص المتكافئة للجميع ولتعميق مبدأ التعاون القائم على الأخوة والإسماح ولقطع السبيل على استغلال القادر للضعيف , نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيًا قاطعًا عن كراء الأرض , واتجه نهيه اتجاهًا تطبيقيًا إلى من كانت سمتهم استئمار أموالهم وخبرتهم في الأرض ليس بطاقتهم فحسب، ولكن أيضًا بطاقات الآخرين من الضعفاء.(4/1040)