2- إنكار سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عمران بن حصين إحرامه من البصرة (1) ، وإنكار سيدنا عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه من خراسان أو كرمان (2) .
3- تضييق الحجاج والعمار على أنفسهم ما وسّع الله عليهم، وأنه لا يؤمن ما يقع من التباس على الناس في الميقات، ولا يؤمن الوقوع في محظورات إن طال ذلك عليهم، وقال عطاء بن أبي رباح: انظروا هذه المواقيت التي وُقِّتت لكم، فخذوا برخصة الله فيها، فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنبا في إحرامه، فيكون أعظم لوزره، فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك.
4- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا من الميقات، ولا يفعلون إلا الأفضل، ومن بعده خلفاؤه الراشدون وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وهم أفضل الخلق من بعده ومن قبله خلا رسل وأنبياءه، وأحرص على الدرجات العلى (3) .
__________
(1) الزرقاني. شرح الموطأ: 2/241.
(2) البخاري. الجامع الصحيح. كتاب الحج. باب قول الله تعالى: {الحَجُّ أَشْهُر مَّعْلُومَات} ... إلخ. (مع الفتح) : 3/419.
(3) ابن قدامة. المغني: 3/265.(3/606)
ويبدو لي أن القول الثاني أرجح؛ لأن خير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم، وما استدل به أصحاب القول الأول لا يثبت على محك النقد.
أما الدليل الأول وهو: أن التقديم للاحترام على المواقيت المكانية أعظم أجرا وأكثر تعظيما، فليس بصواب؛ لأن (وَقّت) في حديث ابن عباس وغيره تقضي بالإهلال من هذه المواقيت، فيكون التقديم من الزيادة على المقدرات من المشروعات، وذلك لا يجوز، فهذا أولا، وثانيا: أن الأجر يكون على قدر المشقة، إنما يكون صحيحًا إذا كانت لازمة لتحصيل الأعمال التي يتوجه قصد المكلف إليها، لا ما جعلها المكلف هدفا من أهدافه، روى أمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه في الموطأ عن حميد بن قيس وثور بن زيد الديلي أنهما أخبراه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأحدهما يزيد في الحديث على صاحبه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((رأى رجلاً قائما في الشمس، فقال: ما بال هذا؟ فقالوا: نذر إلا يتكلم، ولا يستظل من الشمس، ولا يجلس ويصوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مروه فليتكلم، وليستظل، وليجلس وليتم صيامه)) (1) .
قال مالك رحمه الله: أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتم ما كان لله طاعة، ويترك ما كان لله معصية (2) .
ويتضح من الحديث، ومن تعليق ذي الإمامتين عليه أن الحنيفية السمحة ليس فيها مما يُتقرب به إلى الله إدخال المشقة والإعنات عن النفس.
__________
(1) الموطأ كتاب النذور والإيمان. مالا يجوز من النذور في معصية الله: 3/11 مع شرح الزرقاني.
(2) الموطأ: 3/61 مع شرح الزرقاني.(3/607)
وهذا الأصل من الأصول المقطوع بها في الشريعة الإسلامية؛ لأن أدلته في نصوصها كثيرة منتشرة.
وأما الدليل الثاني من أدلة أصحاب القول الأول وهو: أن جمعا من الصحابة والتابعين كانوا يستحبون الإحرام بالحج والعمرة من الأماكن البعيدة ... إلخ، فمردود بإنكار سيدنا عمر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وبإنكار سيدنا عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه من خراسان أو كرمان، وهذا أولا، وثانيا: أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه وخلفاءه الراشدين وأصحابه - خلا من ذُكِرَ وهم قلة - لم يفعلوا ذلك، وأحرموا من المواقيت (1) ، وخصوصا أن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رويا حديثي التوقيت السالفين، فدلت مخالفتهما لما رويا أنهما فقها أن المراد منع مجاوزة المواقيت حلالا، لا منع الإحرام قبلها، وأما الكراهة فلقدر آخر لعلة أخرى (2) سبق ذكرها في أدلة أصحاب القول الثاني.
وأما الدليل الثالث فمردود؛ لأن حديث أم سلمة رضي الله عنها كما قال ابن المنذر: اختلفت الرواة في متنه وإسناده اختلافا كثيرًا، وضعفه عبد الحق وغيره (3) هذا أولا، وثانيا: إن سلمنا أن إسناد الحديث جيد كما هو رأي جماعة من الرواة (4) ، فيحتمل اختصاص هذا ببيت المقدس – أرجعه الله إلى حظيرة الإسلام، آمين – دون غيره، ليجمع الحاج أو المعتمر بين الصلاة في المسجد الأقصى المبارك والمسجد الحرام، في إحرام واحد، ولذلك أحرم ابن عمر منه، ولم يكن يحرم من غيره إلا عند الميقات (5) ، وثالثا تؤول بأن ينشئ الحاج والمعتمر سفرا من بيت المقدس (6) .
وأما الدليل الرابع من أدلة أصحاب القول الأول وهو: ما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في تفسير قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] أنهما قالا: اتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، فمردود بأن عليا وعمر لم يحرما إلا من الميقات. هذا أولا، وثانيا تؤول مرادهما أن يوجد مريد النسك له سفرا من بلده كما فعل صلى الله عليه وسلم لعمرة الحديبية والقضاء، سفرا من المدينة.
ومما يعضد ما ذكرنا قولنا سابقا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاءه وجماهير صحابته لم يحرموا من دويرة أهلهم، ومنهم علي وعمر (7) .
__________
(1) ابن قدامة. المغني: 3/265.
(2) الزرقاني. شرحه على الموطأ: 2/241 بتصرف.
(3) المرجع السابق.
(4) ابن مفلح. كتاب الفروع: 3/285.
(5) ابن قدامة. المرجع السابق.
(6) الصنعاني. سبل السلام: 2/190.
(7) يراجع مغنى ابن قدامة: 3/266.(3/608)
النقطة الثامنة
الإحرام بعدها بين الضيق وبين السعة
فائدة نصب المواقيت تعيين الإحرام عندها، فإن أحرم قبلها فقد علمنا ذلك، وإن أحرم بعدها فلا يخلو الحال من أمرين:
1- أن يكون مريدا للنسك، وهو ممن يخاطب بالإحرام وجوبا.
2- أن لا يريد ذلك، وهو ممن يخاطب بالإحرام وجوبا.
فإن أراد النسك، وتجاوزها غير محرم، فعليه أن يرجع إلى الميقات ويحرم منه، إن تسنى له ذلك، ولا فرق في مجاوزة الميقات بين أن يكون عالما بأنه تجاوزه، وبين أن يكون غير عالم بذلك، وبين أن يكون عارفا بحكم المجاوزة أو جاهلا بالحكم.
فإن رجع إلى الميقات فأحرم منه فلا شيء عليه بلا خلاف (1) ما لم يشارف مكة عند مالك في قول وعليه الدم (2) ، لأنه أي الذي رجع إلى الميقات قد أحرم من الميقات فكأنه لم يتجاوزه، وكأن شيئا لم يكن.
وإن تجاوز مريد النسك الميقات، وأحرم من دونه، فقد اختلف الفقهاء على أقوال:
1- قال أبو حنيفة: إن رجع إلى الميقات فلبى سقط عنه الدم، وإن لم يلب لم يسقط (3) .
2- قال مالك: يتمادى ولا يرجع، وعليه دم تعدي الميقات، ولا يسقط عنه إن رجع، وبقوله قال الثورى وغيره (4) .
مذهب الشافعية: أن من جاوز الميقات من مريدي النسك غير محرم، وأحرم من دونه فلا شيء عليه قبل تلبسه بنسك ويسقط عنه الدم.
وأما إن عادة بعد تلبسه بنسك، ولو طواف قدوم فلا يسقط الدم عنه لتأدي النسك بإحرام ناقص، وحيث لم يجب بعوده، لم تكن مجاوزته محرمة كما جزم به المعاملي والروياني (5) .
4- الحنابلة: إن أحرم من الميقات فلا إشكال كما سلف، وإن تجاوز الميقات بلا إحرام وأحرم بعده من موضع التجاوز فعليه دم وأن رجع.
__________
(1) ابن قدامة. المغني: 3/266.
(2) ابن عبد البر. الكافى: 1/281.
(3) الكاسانى. البدائع: 2/165.
(4) الأبي. إكمال المعلم: 3/298.
(5) الرملي. نهاية المحتاج: 2/254.(3/609)
وهذا هو المذهب، وجزم به في المغني ابن قدامة، وفي الفروع ابن مفلح وغيرهما.
وفي رواية عن الإمام أحمد: يسقط الدم إن رجع إلى الميقات (1) .
5-وعن. عطاء والحسن والنخعي: لا شيء على من ترك الميقات بدون إحرام.
6- وعند سعيد بن جبير رضي الله عنه: لا حج لمن ترك الميقات.
ودليل الجمهور ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من ترك نسكا فعليه دم)) روي موقوفا ومرفوعا هذا أولا، وثانيا: أحرم دون ميقاته فاستقر عليه الدم، كما لو لم يرجع، أو كما لو طاف عند الشافعي، أو كما لو لم يلب عند أبي حنيفة؛ ولأنه ترك الإحرام من ميقاته فلزمه الدم، ولأن الدم ترتب على تركه الإحرام من الميقات فلا يسقط عنه برجوعه إلى الميقات ولا بتلبيته (2) .
ودليل أبي حنيفة أنه استدرك ما فاته بالرجوع ملبيا، وتحمل ما نقصه هذا أولا، وثانيا: ما روي عن ابن عباس أنه قال للذى أحرم بعد الميقات: أرجع إلى الميقات فلب وإلا فلا حج (3) .
وذكر ابن العربي وجها لمن أسقط على المتجاوز الميقات والمحرم بعده الدم وقال: وجه من قال: لا دم عليه، أنه لم يخل بعمل وإنما أخره، والدم إنما يجب على من ترك شيئا وأسقطه (4) .
ولم يظهر لي مدرك قول سعيد بن جبير.
بقي أنه لابد من التنبيه على الفرق بين مريد النسك الذي ترك الميقات، ثم عاد إليه ولم يحرم وأحرم منه، وبين مريد النسك الذي ترك الميقات وأحرم بعده، ثم عاد إليه، فالأول لم يترك الإحرام ولم يهتكه، والثاني ترك الإحرام منه وهتك حرمته (5) .
وإذا لم يعد إلى الميقات وأفسد إحرامه بالجماع قبل طواف العمرة، إن كان إحرامه بعمرة، أو قبل الوقوف بعرفه إن كان إحرامه بحج، أو بعبارة أشمل أفسد المحرم من دون الميقات نسكه، فهل يسقط عنه الدم؟
__________
(1) المرداوي. الإنصاف: 3/429.
(2) ابن قدامة. المغني: 3/267.
(3) الكاساني. البدائع: 2/165.
(4) عارضة الأحوذي: 3/52.
(5) ابن قدامة: المرجع السابق.(3/610)
قال الحنفية: سقط عنه ذلك الدم؛ لوجوب القضاء عليه، فينجبر ذلك كله بالقضاء (1) ، وبهذا القول الثوري (2) .
وقال المالكية: لا يسقط عنه الدم لتماديه على إحرامه، قال بعض: ولا أعلم فيه خلافا كما هو ظاهر كلام خليل في مختصره (3) ، وبقول المالكية قال الشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر (4) .
ودليل الحنفية قياسه على من سها في صلاته ثم أفسدها فقضاها، أنه لا يجب عليه سجود السهو، وكذلك إذا أفسد حجه لزمه القضاء، وليس عليه دم (5) .
ودليل الجمهور أن الدم واجب عليه بموجب هذا الإحرام، فلم يسقط بوجوب القضاء كبقية المناسك وكجزاء الصيد (6) .
ومن جاوز الميقات من مريدي النسك غير محرم، فخشي فوات الحج أحرم من موضعه، قال ابن قدامة: لا نعلم في ذلك خلافا، إلا أنه روي عن سعيد بن جبير: " من ترك الميقات فلا حج له " وما عليه الجمهور أولى، فإنه لو كان من أركان الحج، لم يختلف باختلاف الناس والأماكن كالوقوف والطواف.
وإذا أحرم من موضعه بعد الميقات فعلية دم، لا نعلم في ذلك خلافا عند من أوجب الإحرام من الميقات؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من ترك نسكا فعليه دم)) .
وإنما أبيح له الإحرام من موضعه بعد الميقات من اجل إدراك الحج، فإن مراعاة ذلك أولى من مراعاة واجب فيه مع فواته.
ومن لم يمكنه الرجوع لعدم الرفقة، أو الخوف من عدو أو لص أو مرض أو لا يعرف الطريق ونحو هذا مما يمنع الرجوع، فهو كخائف الفوات يحرم من موضعه بعد الميقات وعليه دم (7) .
بقي لابد من بيان أن ما قرر من الأحكام السابقة إنما هو في حق من خوطب بالحج.
__________
(1) راجع بدائع الكاسانى: 2/165.
(2) ابن قدامة. المغني: 3/267.
(3) عبد الباقى الزرقاني. شرحه على مختصر خليل: 2/255.
(4) راجع مغني ابن قدامة: 3/267.
(5) الكاساني. البدائع: 2/165.
(6) ابن قدامة. المرجع السابق.
(7) ابن قدامة. المرجع السابق: 3/270.(3/611)
أما غير المخاطب به من عبد وصبي وكافر إذا تجاوز الميقات وهو على حالته المذكورة، ثم تغيرت حالته بعد ذلك بأن عتق العبد وبلغ الصبي وأسلم الكافر، فإنهم يحرمون من الموضع الذي تغيرت فيه حالتهم، ولا دم عليهم. وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والأوزاعي وإسحاق، وهو قول الحنفية في الكافر يسلم، والصبي يبلغ، وقالوا في العبد: عليه دم، وقال الشافعي: على كل واحد منهم دم، وعن أحمد في الكافر يسلم كقوله، ويتخرج في الصبي والعبد كذلك قياسا على الكافر يسلم؛ لأنهم تجاوزوا الميقات بغير إحرام، وأحرموا دونه، فلزمهم الدم كالمسلم البالغ العاقل.
ودليل الجمهور أن العبد الذي عتق، والصبي الذي بلغ، والكافر الذي أسلم بعد مجاوزة الميقات بغير إحرام، ثم أحرم من موضعه، أنهم أحرموا من المكان الذي وجب عليهم الإحرام منه، فأشبهوا المكي، ومن قريته دون الميقات كبستان بني عامر إذا أحرم منها، ولا يشبهون بحال من خوطبوا بالإحرام قبل الميقات، ثم مروا به وتركوا الإحرام؛ لأنهم تركوا الواجب عليهم (1) .
وأما من لا يريد نسكا أصلا، وهو ممن يخاطب بالإحرام وجوبا، فمذهب الحنفية أن مكة حرام، فلا يجوز لأحد أن يدخلها إلا بالإحرام واستثنى الحنفية من ذلك من لم يرد مكة ولا الحرم، وإنما أراد أن يأتي ما بين الميقات والحرم كبستان بني عامر أو غيره مما هو داخل الميقات لحاجة فلا شيء عليه؛ لأن لزوم الحج، أو العمرة بالمجاوزة من غير إحرام لحرمة الميقات تعظيما للبقعة، وتمييزا لها من بين سائر البقاع في الشرف والفضيلة فيصير ملتزما للإحرام منه، فإذا لم يرد البيت لم يصر ملتزما للإحرام فلا يلزمه شيء.
فإن حصل في البستان، أو فيما وراءه من الحل، ثم بدا له أن يدخل مكة لحاجة من غير إحرام، فله؛ ذلك لأنه بوصوله إلى أهل البستان صار كواحد منهم ولهم أن يدخلوا مكة لحاجة بغير إحرام فكذا له (2) .
وروى عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يسقط عنه الإحرام ولا يجوز له أن يدخل مكة بغير إحرام، ما لم يجاوز الميقات بنية أن يقيم بالبستان خمسة عشر يوما فصاعدا؛ لأنه لا يثبت للبستان حكم الوطن في حقه إلا بنية مدة الإقامة (3) .
__________
(1) ابن قدامة. المغني: 3/268 – 269.
(2) الكاساني. البدائع: 2/116.
(3) الكاسانى. البدائع: 2/166.(3/612)
وأما مذهب المالكية: فمن أتي الميقات لا يريد نسكا، ولا دخول مكة، وإنما حاجته دونها أنه كان غير ضرورة، أو ضرورة ولا يستطيع، لم يلزمه إحرام، فإن كان مستطيعا ففي لزوم الإحرام له قولان، سببهما: هل الحج واجب على الفور أو على التراخي؟ (1) ؟
وأما من أتى الميقات لا يريد نسكا ويريد دخول مكة فإن دخلها لقتال بوجه جائز، أو تكرر كالحطابين وأصحاب الفواكه، وغيرهم ممن قرب إلى مكة، فكل هؤلاء يجوز أن يدخلوها حلالا، والاستحباب أن يأتى أول مرة محرما، فإذا تكرر منه ذلك لم يكن في ذلك شيء.
وأما أن دخلها لتجارة وما شاكلها مما لا يتكرر من الحاجات، فذكر ابن القصار عن مالك رحمة الله أنه استحب أن يدخل مكة حراما والى هذا يرجع قوله في المدونة، وإن فعل فلا شيء عليه، وذكر عبد الوهاب عنه أنه قال: عليه الدم وأرى أن الإحرام واجب عليه (2) .
وأما مذهب الشافعية: فقال النووي رضي الله تعالى عنه: من أتى الميقات لا يريد نسكا فلا يلزمه الإحرام لدخول مكة على الصحيح من مذهبنا سواء دخل لحاجة تتكرر كحطاب وحشاش وصياد ونحوهم، أو لا تتكرر كتجارة وزيادة ونحوهما.
وللشافعى قول ضعيف إنه يجب الإحرام بحج أو عمرة إن دخل مكة أو غيرها لما لا يتكرر (3) بشرط أن لا يدخل لقتال، ولا خائفا من ظهوره وبروزه (4) .
وأما مذهب الحنابلة: فمن أتى الميقات لا يريد نسكا، ولا دخول مكة ولا الحرم بصفة عامة، لم يلزمه إحرام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أتوا بدرا مرتين، وكانوا يسافرون للجهاد، فيمرون بذي الحليفة بغير إحرام.
وأما إن أتى الميقات لا يريد نسكا، ويريد دخول مكة، فإن فعلها لقتال مباح، أو خوف، أو حاجة متكررة، ومكي يتردد إلى قريته بالحل، جاز للجميع دخولها بغير إحرام.
__________
(1) الأبي إكمال المعلم: 3/298.
(2) أبو الحسن الصغير. تقييده على المدونة (تهذيب البرادعي) : 1/99 وجها – 155 ظهرا.
(3) شرحه على صحيح مسلم: 5/200.
(4) المرجع السابق: 5/188.(3/613)
وأدلة ذلك دخوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعلى رأسه المغفر، ولم يُنقل عنه، ولا عن أحد من أصحابه الإحرام يومئذ، وألحق الخوف بالقتال المباح، هذا بالنسبة للقتال المباح والخوف، وأما بالنسبة لذوي الحاجات المتكررة فما رواه حرب عن ابن عباس: " لا يدخل إنسان مكة إلا محرما، إلا الحمالين والحطابين، وأصحاب منافعها " احتج به أحمد، وأما بالنسبة للمكي المتردد إلى قريته بالحل، فلنفي الحرج الذي هو أصل من أصول الدين الحنيف هذا أولا، وثانيا: قال ابن عقيل: وكتحية المسجد في حق قيمه للمشقة (1) .
والذي يظهر لى أن المذهب الصحيح عند الشافعية هو القوي وذلك لأمور:
1- ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((هن لهن ولكل آت عليهن من غيرهم ممن أراد الحج والعمرة)) مفهومه أن من أتى المواقيت لا يريد حجا ولا عمرة لا إحرام عليه، وهو مفهوم عام.
2- ما رواه مالك عن نافع، أن عبد الله بن عمر أقبل من مكة حتى إذا كان بقديد جاءه خبر من المدينة، فرجع فدخل مكة بغير إحرام (2) .
3- لما يلزم على الأقوال الأخرى من إيجاب حج غير واجب، أو عمرة غير واجبة.
4- دخلها صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وعلى رأسه المغفر وهو غير محرم (3) .
هذا ولو لم يأت أي دليل وقعت الكفاية بأنه لم يأت بإيجاب الإحرام على من قصدها لغير حج أو عمرة، والله أعلم.
النقطة التاسعة
إحرام من لم يمر بالمواقيت
المواقيت التي وَقّتها رسول الله صلى الله عليه وسلم محيطة بالحرم المكي الشريف، وإن اختلفت قربا وبعدا، فذو الحليفة شامية ويلملم يمانية، والجحفة غربية، وقرن شرقية، وذات عرق حذوها.
إذا علمنا هذا، فمن سلك طريقا لا يمر فيه بميقات من المواقيت فمن أين يحرم؟ الجواب عن هذا السؤال أسٌّ متين من أسس هذا البحث: " الإحرام من جدة لركاب الطائرات في الفقه الإسلامي "، وقد تجانست فيه المذاهب أصلا، واختلفت تجزئة وتفصيلا، ونذكر اجتهادات المذاهب في هذه النقطة من نقاط هذا البحث كالتالي فنقول:
__________
(1) البهوتى. كشاف القناع عن متن الإقناع: 2/403.
(2) الموطأ مع شرح الزرقاني. كتاب الحج، جامع الحج: 2/398.
(3) إشارة إلى الحديث المروي عن مالك، والذي انفرد به ولم يروه أحد عن الزهري سواه (الموطأ مع شرح الزرقاني انظر الشرح: 2/397) .(3/614)
1- المذهب الحنفى: من كان في بر أو بحر، لا يمر بواحد من هذه المواقيت المذكورة، فعليه أن يحرم إذا حاذى آخرها (1)
وآخر المواقيت أقربها إلى مكة، وأقربها إليها – زادها الله شرفا – قرن المنازل فالمسافر من المغرب الأقصى أو الجزائر أو تونس، أو ليبيا أو مصر أو بلاد الشام، إذا سلك طريقا برا أو بحرا، لا ينتهي إلى رابغ، وإنما يحاذيه، له أن يؤخر إحرامه إلى محاذاة قرن المنازل؛ لأنه آخر المواقيت، قال العلامة ابن نجيم في البحر: " آخر المواقيت باعتبار المحاذاة قرن المنازل " (2) .
وسبيل معرفة المحاذاة، سؤال ذوي الخبرة بالطرق: إن وُجدوا، وإلا اجتهد السالك لطريق لا ينتهي إلى الميقات وأحرم، والتحري أن يغلب على ظنه أنه محاذ له (3) ، فإن لم يعلم المحاذاة لا باجتهاده ولا وجد أهل الخبرة بذلك، أحرم حين يصل إلى مكان يبعد مرحلتين عن مكة المشرفة.
__________
(1) ابن نجيم: البحر الرائق شرح كنز الدقائق: 2/241.
(2) المرجع السابق.
(3) ابن عابدين رد المحتار: 2/154.(3/615)
ووجه التقدير عند جهل المحاذاة بالمرحلتين أن ذلك أوسط المسافات،، وإلا فالاحتياط الزيادة (1) .
بقي مما ينبغي التنبيه إليه في هذه المسألة الأخيرة قول ابن نجيم في البحر: " فإذا لم يكن بحيث يحاذي " (2) إلخ، فليس بصواب لأن المواقيت محيطة بالحرم كما أسلفت ففي أي جهة كان حاذى، وكذلك قول الحصكفي في الدر المختار: " فإن لم يكن بحيث يحاذي " (3) ، وإن اختلف التعبير بينهما فصاحب البحر عبر بـ (إذ) المفيدة لليقين، وصاحب الدب بـ (إن) المفيدة للشك.
وسبب هذا الخطأ عدم المعرفة بجغرافية الحرم المكي الشريف وما حوله.
هذا ولم يعرض ابن نجيم في البحر، ولا الحصكفي في الدر، ولا ابن عابدين في حاشيته عليهما لمعنى المحاذاة الدقيق، فطلبتها من مكانها الأصلي وهو معاجم اللغة العربية، فوجدت الزمخشري في الأساس يقول: " حذى لي النَّعّال نعلا: قطعها على مثال، وحذوت النعل بالنعل: قطعتها مماثلة " (4) والمماثلة تعني المشابهة والمساواة، وجاء فيه أيضًا: " ومثله به، وتمثل به، تشبه به ومثل الشيء بالشيء: سوي به، وقدر تقديره " (5) ، ووجدت الفيروز آبادي يقول: " حاذاه: آزاه، والحذاء: الإزاء، ويقال: هو حذاءك، وحذوتك، وحذتك، بكسرهن، ومحاذاك، وداري حذوه داره، وحذتها، وحذتها بالفتح مرفوعا ومنصوبا: إزاؤها " (6) ، والإزاء هنا يفسره صاحب القاموس بقوله: " وهم إزاؤهم: أقرانهم وأزى الشيء: حاذاه، وحاره " (7) ، " والحرا، والحراة: الناحية " (8) ، ويزيد ابن منظور المعنى وضوحا فيقول: " وجاء الرجلان حذيتين: أي كل واحد منهما إلى جنب صاحبه، وجاء الرجلان حذتين: أي جميعا، كل واحد منهما إلى جنب صاحبه " (9) .
__________
(1) ابن عابدين، رد المحتار: 2/154.
(2) البحر: 2/241.
(3) الحصكفي: 2/154.
(4) الزمخشري: 78.
(5) الزمخشري: 420.
(6) القاموس المحيط: 4/317.
(7) القاموس: 4/301.
(8) المرجع السابق: 4/318.
(9) اللسان: 59/171.(3/616)
وبعد عرضنا لنصوص بعض المعاجم الأساسية فيما يتعلق بمعنى المحاذاة يتضح لنا أنها تعنى: الازاء، والجانب ميامنة، أو مياسرة مع المماثلة والمساواة.
بقي هل يشترط في المذهب النعماني أن تكون المحاذاة قريبة؟
قال الحصكفي: " وأحرم إذا حاذاه أحدها " (1) ، وقال صاحب البدائع: " إذا قصدها (أي مكة المكرمة) من طريق غير مسلوك فإنه يحرم إذا بلغ موضعا يحاذي ميقاتا من هذه المواقيت " (2) .
وقال عبد الغني الغنيمي الدمشقي الحنفي من علماء القرن الثالث في مصنفه: " اللباب في شرح الكتاب ": وإن لم يمر بميقات، تحرى وأحرم إذا حاذى أحدها " (3) ، و (أحد) في عبارة صاحب الدر وصاحب اللباب نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم، صرح به إمام الحرمين في البرهان، وتابعه عليه الأنبارى في شرحه له، واقتضاه كلام الآمدى وابن الحاجب (4) ، وكذلك " موضعا " في عبارة صاحب البدائع، وإذا قلنا بإفادة (أحد) وموضوع العموم اتضح عدم اشتراط القرب في المحاذاة، فقول ابن نجيم في البحر: " ولعل مرادهم بالمحاذاة المحاذاة القريبة من الميقات " يتنافى وما يفهم من عبارات فقهاء الأحناف مثل التي ذكرنا المفيدة للعموم، هذا أولا، وثانيا: رده أخوه عمر بن نجيم في النهر بقوله: " من لم يمر على المواقيت يحرم إذا حاذى آخرها قربت المحاذاة أو بعدت " (5) .
__________
(1) الدر المختار: 2/154.
(2) الكاساني: 2/164.
(3) اللباب: 2/170.
(4) عبد الرحيم الإسنوي. التمهيد في تخريج الفروع على الأصول: 318.
(5) ابن عابدين. حاشيته على البحر الرائق: 2/242.(3/617)
2- المذهب المالكي: ليس هنالك اتفاق داخل المذهب في خصوص هذه المسألة بل اختلفت الأنظار فيها على النحو التالي:
1- حيث حاذى أحد المواقيت المذكورة أحرم ببر أو ببحر، سواء كان البحر محاذيا للميقات كبحر السويس بالنسبة للجحفة، محاذاة قريبة، أو محاذاة بعيدة كبحر عيذاب بالنسبة لها، ولا يؤخره إلى البر، فإن أخر لزمه دم، قال خليل: " وحيث حاذى واحدا ولو ببحر " (1) وقال الخرشي معقبا على قوله: " ولو ببحر " يعني أن من سافر في البحر، فإنه يحرم إذا حاذى الميقات، ولا يؤخر إلى البر، ظاهره سواء كان ببحر القلزم أو ببحر عيذاب على ظاهر المذهب.
بقي إذا كان محاذيا في البر لأحد المواقيت المذكورة، وكان منزله قريبا من الميقات، فالأفضل الذهاب إليه، والإحرام منه (2) .
2- يفصل وهو لسند بن عنان، ويقوم تفصيله على تقييده لإطلاق قول مالك الذي أورده ابن أبي زيد في النوادر نقلا عن محمد بن المواز والذي يقول فيه مالك: " ومن حج في البحر من أهل مصر وشبههم إذا حاذى الجحفة ".
وتقييده لقول مالك هذا هو التالي: من أتى بحر عيذاب حيث لا يساحل البر، فلا يجب عليه الإحرام في البحر إلى أن يصل إلى البر، إلا أن يخرج على بر أبعد من ميقات أهل الشام، وأهل اليمن، ولا يلزمه بتأخير الإحرام هدي.
وأما أن أتي بحر القلزم حيث يساحل البر، فالإحرام عليه في البحر واجب، لكن يرخص له التأخير إلى البر ويلزمه أن يهريق دما.
وبنى سند هذه التفرقة بين من في اللجة كالمسافر في بحر عيذاب، وبين من يساحل كالمسافر في بحر القلزم، على أساس أن الأول لو أحرم في البحر وهو في اللجة ولا يساحل الميقات ففى ذلك خطر خوفا من أن ترده الريح فيبقى محرما، ويطول إحرامه، حتى يتسنى له أن يقلع إقلاعا سالما، وفي ذلك أعظم الحرج المنفي من الدين.
وإذا ثبت جواز تأخير الإحرام بالنسبة له إلى البر فلا يلزمه دم، حتى يقوم دليل على اللزوم، ولا دليل.
وأما الثاني فإنه قادر على الإحرام من البر، حيث يمكنه النزول إلى البر والإحرام منه، لكن فيه مضرة بمفارقة رحله، فيجوز له تأخير الإحرام إلى البر للمضرة وعليه دم، كما يجوز استباحة ممنوعات الإحرام للضرورة مع لزوم الفدية.
__________
(1) المختصر: 66.
(2) شرحه الصغير على المختصر: 2/303.(3/618)
ومما يجب التنبيه عليه أن النقل لقول سند ساده الغموض والإجمال عند جماعة من فقهاء المالكية، ومن بينهم العلامة خليل بن إسحاق الذي نقل في مناسكه ما يلي: ومن سافر في البحر أحرم أيضًا في البحر إذا حاذاه على ظاهر المذهب، خلافا لسند في قوله: يحرم إذا وصل البر، خوفا من أن ترده الريح فيبقى محرما، وهو ظاهر من جهة المعنى ونقل ابن الحاج عن ابن نافع مثل قول سند فقال: وقال ابن نافع: لا يحرم في السفن، ورواه عن مالك.
ونلاحظ على ما نقله خليل ملاحظتين:
1- أنه في قول سند أجمل ولم يبين، كما بينا سابقا.
2- أنه تقييد سند لما نقله ابن المواز عن مالك، ليس كقول ابن نافع من كل وجه.
لكنه في توضيحه نقل تقييد سند المذكور ولم يتعقبه بأنه خلاف ظاهر المذهب كما قال في مناسكه، وكذلك القرافى في ذخيرته، وابن عرفة، والتادلى، وابن فرحون في شرحه على جامع الأمهات وفي مناسكه، وقال الحطاب: ظاهر كلامهم أنهم قبلوا تقييد سند لكلام مالك بما ذكر، وهذا هو الظاهر، وقد شاهدت الوالد (محمد بن عبد الرحمن الحطاب) يفتي بما قاله سند غير مرة، والله أعلم.
بقي إذا أخر إحرامه إلى البر: قال سند: لا يرحل من جدة إلا محرما؛ لأن جواز التأخير إنما كان للضرورة، وقد زالت.
وهل يحرم إذا وصل البر؟ أو إذا ظعن من جدة؟ الوجهان محتملان، والظاهر إذا ظعن؛ لأنه سنه من أحرم، وقصد البيت أن يتصل إهلاله بالمسير.
وهذا التفصيل الذي ذكره سند في جهة الشام في بحر عيذاب وبحر القلزم (السويس) يقال مثله في جهة اليمن والهند، وهذا ظاهر (1) .
وبعد عرضنا لمذهب مالك رضي الله عنه في من حاذى ببر أو بحر، نلاحظ أن فقهاء المالكية اضطربوا في بيان مدلول كلمة محاذاة بين تارك لتفسيرها كالحطاب في مواهب الجليل (2) ، وبين محدد لها كالشيخ عبد الباقى الزرقاني الذي شرح قول خليل السالف: " وحيث حاذى واحدا، ولو ببحر ": فساوى بمقابلة، أو ميامنة أو مياسرة. وهو تحديد لم يسلم من الخطأ، وقد بين الخطأ محشيه المحقق البناني بقوله: قول الزرقاني: ساوى بمقابلة ... إلخ، بل ميامنة ومياسرة فقط، ولا تتصور المقابلة (3) ، وفي نفس الخطأ وقع أبو البركات الشيخ أحمد الدردير في شرحيه الكبير (4) والصغير (5) ، وفيه وقع الشيخ على العدوى في حاشيته على صغير الخرشى، حيث تابع الخرشي في تفسير حاذى بسَامَتَ، وأضاف إليه: أي سَامَتَ من بُعدٍ بمقابلة أو ميامنة أو مياسرة (6) ، ولا تتصور المقابلة؛ لأن للميقات سيصل إليه، ويحرم منه، ما لم ينحرف، وأن أحرم حين قابله الميقات، كان إحرامه قبله، وهو جائز مع الكراهة، وإن انحرف وأصبح محاذيا حين الوصول إليه أخذ حكم المحاذي.
__________
(1) الحطاب. مواهب الجليل: 3/35- 36.
(2) السابق: 3/34.
(3) شرحه على مختصر خليل: 2/252 مع حاشية البنانى عليه.
(4) الدردير: 2/23
(5) الشرح الصغير للدردير: 1/266.
(6) الخرشي: 2/303.(3/619)
وليس هذا الخطأ في تفسير هذه الكلمة " محاذاة " مقصورًا على من ذُكر، وإنما نبهت عليهم بالخصوص لتداول كتبهم بين المشتغلين بدراسة الفقه الإسلامي من خلال مذهب أمام دار الهجرة رضي الله عنه.
3- المذهب الشافعي: من سلك طريقا لا يؤدي إلى ميقات من المواقيت المذكورة، أحرم بالنسك حين يحاذي ميقاتا منها، قال الشيرازي: قد اجتهد عمر في ميقات أهل العراق واعتبر المحاذاة (1) ، قال النووي: وهذا الذي ذكره المصنف نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب.
وسبيل معرفة أنه حاذى ميقاتا سؤالُ ذوي الخبرة إن وُجدوا وإلا تحرى مريد النسك، واستظهر حتى يتيقن أنها حاذى الميقات أو فوقه استحبابا عند جمهور فقهاء الشافعية، ووجوبا عند القاضى أبي الطيب منهم، والمذهب ما عليه الجمهور (2) .
فإن حاذى ميقاتين أحرم من محاذاة أقربهما إليه.
فإن استويا في القرب أحرم من محاذاة أبعدهما من مكة.
وإن لم يحاذ ميقاتا أحرم على مرحلتين من مكة (3) .
هذا وقد فسر فقهاء الشافعية الذين رجعتُ إلى كتبهم كلمة محاذاة تعبيرا صحيحا. ومنهم شيخ الإسلام زكريا الأنصارى الذي يفسر المحاذاة بالمسامتة بيمينه أو يساره (4) ، ويضيف إليه سليمان الجمل تكميلاً فيقول: لا بظهره ولا بوجهه؛ لأن الأول وراءه والثانى أمامه (5) .
4- المذهب الحنبلي: من سلك طريقا لا يمر بميقات من المواقيت المذكورة، أو عرج عن الميقات، بأن مشى في طريق لا تمر عليه أحرم إذا حاذى أقرب المواقيت لقول عمر رضي الله عنه لأهل العراق: " انظروا حذوها من طريقكم ". فحد لهم ذات عرق، وسبيل معرفة المحاذاة الاجتهاد والتقدير كالقبلة.
وإن جهلت المحاذاة يستحب الاحتياط، فإن الإحرام قبل الميقات مكروه وتأخيره عنه حرام (6) .
هذا وإن تساوى الميقات في القرب إلى طريقه أحرم من حذو أبعدهما عن مكة من طريقة، وأطلق الآجري فقال: من خرج عن المواقيت يحرم إذا حاذى (7) .
__________
(1) المهذب مع المجموع: 7/198. بتصرف.
(2) المجموع: 7/198.
(3) إبراهيم البيجوري، حاشية على شرح ابن قاسم الغزي على متن أبي شجاع: 1/388.
(4) المنهج وشرحه له: 2/404.
(5) حاشيته على شرح المنهج: 2/404.
(6) البهوتي. كشاف القناه عن متن الإقناع: 2/402.
(7) المرداوي. الإنصاف: 3/427.(3/620)
وإما من لم يحاذ ميقاتا أصلا، فإنه يحرم بمقدار مرحلتين من مكة، نقل هذا ابن مفلح في كتابه الفروع ووصفه بأنه متجه (1) ونقله عنه المرداوي في الإنصاف وأقره (2) .
5- المذهب الزيدى: من سلك طريقا غير طريق المواقيت، فمن أرائها وعليه اليقين أن أمكنت المعاينة، وإلا فالظن كالقبلة، والاحتياط بتقديم الإحرام على المواقيت أفضل (3) .
6- المذهب الإمامي: لو حج على طريق لا يمر فيه بميقات من المواقيت، قيل: يحرم إذا غلب على ظنه محاذاة أقرب المواقيت إلى مكة، وكذا من حج في البحر (4) .
قال محمد جواد في مغنيه: ولا فرق في المحاذاة بين أن يكون السفر في البر أو البحر، أما السفر في الجو فلا تتحقق فيه المحاذاة إطلاقا،؛ لأن المحاذاة معناها أن يكون المحاذي عن يمينك أو يسارك، لا تحتك أو فوقك.
__________
(1) ابن مفلح: 3/277.
(2) الإنصاف: 3/427.
(3) أحمد بن يحيى المرتضى. البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار: 2/288.
(4) نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي: 4/1/241.(3/621)
وتثبت بقول أهل الخبرة، ويكتفى فيها بحصول الظن (1) .
المذهب الإباضي: من حاذى ميقاتا في بر أو بحر فميقاته المحاذاة، فالجحفة مثلاً ميقات من سلك من أهل المغرب طريق الساحل، فمن مر بها أو عن يمينها أو عن يسارها، أو في البر أو في البحر، فليحرم من مقابلها أو قبله.
"وقال الشيخ نور الدين السالمي في شرح حديث المواقيت من الجامع الصحيح للربيع بين حبيب ما نصه: قال أبو صفرة رحمه الله تعالى: كنا نحرم من جدة في الصيف، فلما جاء الشتاء، شق ذلك بنا، فصرنا نحرم من ذات عرق، وذلك أنه كان رحمة الله عليه من أهل العراق، وكلامه هذا يدل على أن جدة كانت أبعد من مكة من ذات عرق يحرمون منها قبل الميقات (2) .
وقال الشيخ بيوض إبراهيم عمر متحدثا عن مسألة إحرام ركاب الطائرات من جدة ما نصه: " ليس على حجاج الطائرات الذاهبين إلى جدة إحرام إلا من ميقات أهل جدة، ولا نرى هذا رخصة بل نراه عزيمة، فإنها لم تعارض دليلاً معتبرًا، ولقد روينا عن شيوخنا الأمر بفتوى الناس بما يسعهم، ومن أراد التضييق فيشدد على نفسه، قال العلامة الجليل أبو أيوب وائل بن أيوب من طبقة الربيع بن حبيب رحمه الله: " إنما الفقيه الذي يعلم ما يسع الناس فيه مما يسألونه، وأما التضييق فمن شاء أخذ بالاحتياط " وقال الإمام أبو سعيد الكدمى من كبار آئمة العلم بعمان: ليس العالم من حمل الناس على ورعه، إنما العالم من أفتى الناس بما يسعهم من العلم " (3) .
__________
(1) فقه جعفر الصادق: 1/170.
(2) محمد بن يوسف أطفيش: شرحه على كتاب النيل وشفاء الغليل: 4/42.
(3) أجوبة وفتاوى: 5/17- 18.(3/622)
المبحث الخامس
الإرخاص لركاب الطائرات في تأخير الإحرام إلى جدة
ويشتمل على النقاط الآتية:
النقطة الأولى: مقاصد شرعية عامة تساعد على الترخيص للأفقيين في تأخير الإحرام إلى جدة.
النقطة الثانية: تيسرات خاصة بالحج.
النقطة الثالثة: نصوص فقهاء الإسلام ترخص للقادمين جوا في تأخير الإحرام إلى جدة.
النقطة الأولى
مقاصد شرعية عامة تساعد على الترخيص للافقيين
من ركاب الطائرات في تأخير الإحرام إلى جدة
قبل الشروع في دراسة مسائل هذه النقطة، لابد من تقديم نقطتين هامتين هما:
1- أن هذه المقاصد الشرعية التي سأتناولها بالدرس قطعية ثابتة بالأدلة الفاشية المنتشرة في نصوص الشريعة الإسلامية.(3/623)
2- أن اعتمادي عليها اعتماد دعم للنصوص المنقولة عن أئمة الفقه الإسلامي، واستعانة على التخريج عليها لا استمدادا مباشر منها، فذلك داب المجتهدين.
وبعد هذا التقديم نشرع في دراسة مسائل هذه النقطة فنقول: المقاصد الشرعية العامة المساعدة بالاعتبار السالف على الترخيص لركاب الطائرات من الأفقيين في تأخير الإحرام إلى جدة هي:
1- أن الشريعة الإسلامية تعتمد التيسير أصلا من أصولها القواطع الثابتة بالأدلة الفاشية المنتشرة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار السلف الصالح لهذه الأمة.
أما القرآن الكريم فآي كثيرة منها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقوله جل من قائل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وقوله تبارك وتقدس: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مَّن حَرَج} [المائدة: 6] .
وأما السنة النبوية الشريفة فأحاديث كثيرة منها قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسدودا وقاربوا، وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)) (1) وقوله صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا موسى الأشعري ومعاذا إلى اليمن: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)) (2) .
__________
(1) البخاري. الجامع الصحيح. كتاب الإيمان باب الدين يسر: 1/93 مع الفتح.
(2) البخاري، الجامع الصحيح، كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع: 8/62 مع الفتح.(3/624)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)) . (1) ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين قط، إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه)) الحديث (2) .
وأما آثار السلف فكثيرة: منها قول مطرف بن الشخير التابعي " خير الأمر أوساطها " (3) ، ومنها قول الشعبي: " إذا اختلف عليك في أمرين فخذ بأيسرهما "، ثم قرأ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] (4) ، ومنها قول أمام الفقه والحديث مالك بن أنس رضي الله عنه في مواضع كثيرة من الموطأ: " دين الله يسر " (5) ، ولا أخاله قالها إلا بعد استقراء تام لنصوص الشريعة ومواردها، واستخلاص هذا المقصد من مقاصدها.
واليسر وسط بين الشدة والتساهل، والتشدد والتساهل يدعو إليهما الهوى، وقد حذرنا الشرع من اتباعه في مواضع كثيرة، فقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] ، وقال جل وعلا: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] ، وقال جل جلاله، محذرا هذه الأمة المحمدية من الغلو في الدين والابتداع كما فعل ذلك أهل الكتاب فاستوجبوا غضب الله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] ، وقال صلوات الله وسلامة عليه في حق إليهود: ((إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شدودا شدد الله عليهم الحديث)) (6) .
وحين نقف موقفا وسطا بين الشدة وبين التساهل في قضية الإرخاص لركاب الطائرات من الأفقيين في الإحرام من جدة، نجد أن قيام الشريعة على الوسيطة يساعدنا على إيجاد الجواب الصحيح، وهو الجواز فيما يبدو؛ لأن الحاج من الأفقيين على الطائرة لابد من النزول بجدة، وفيما يؤذن له، أو لا يؤذن بدخول مكة من طرف الحكومة السعودية، فإذا أضفنا إلى ذلك مشقة ركوب الطائرة وحمل الأمتعة بعد النزول واجتياز الجمارك، ومكاتب جوازات السفر، واستعداد ذي النسك بعد ذلك لتبديل عملته، وحمل أمتعته، والسفر إلى مكة، فهل من تيسير الشريعة الذي سقنا أدلته أن يقوم بهذه الأعمال كلها وهو محرم؟ ويكفي ما يتعرض إليه من توتر الأعصاب والإرهاق والغضب وكبح النفس عن الشهوات، مما يجبره قصرا وهو يعاني هذه الأتعاب إلى حرج شديد عند الأكثر، وإلى سباب وشتم عند البعض.
__________
(1) ابن حمزة الحسيني، البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف: 2/111.
(2) مالك، الموطأ، كتاب الجامع، ما جاء في حسن الخلق: 4/251.
(3) ابن عاشور رحمه الله، مقاصد الشريعة 62، قال وبعضهم يرويه حديثا.
(4) الخطيب البغدادي، الفقيه والمتفقه 2/204.
(5) ابن عاشور أصول النظام الاجتماعى في الإسلام: 26-27.
(6) ابن جرير الطبرى. جامع البيان في تفسير القرآن: 1/175.(3/625)
ونحن نعلم أن الخصام من محظورات الإحرام، فعلينا بالتدبر والاعتبار في هذا كله واضعين نصب أعيننا أن السماحة أول أوصاف الإسلام وأكبر مقاصده، وأن الإسلام قد حافظ على استدامة السماحة وقدر لها إن عرض لها عارض من العوارض الزمنية أو الحالية ما يصيرها مشتملة على شدة، انفتح لها باب الرخص المشروع بقوله تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وبقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمة)) (1) ، (2) ، أفلا يكون من اليسر مع هذا المقصد أن نيسر على حجاج البيت وعماره بواسطة الطائرات، فنرخص لهم في الإحرام من جدة، فذلك ما تقتضيه الفطرة السليمة التي تأبى الإعنات والشدة، وذلك ما يستلزمه عموم الإسلام وخلوده من نفي الضيق والحرج على هذه الأمة، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] ، وقال تبارك وتقدس: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وقال الجصاص: قال ابن عباس: مِن ضيق، وكذلك قال مجاهد، ويحتج به في كل ما اختلف فيه من الحوادث إن أدى إلى الضيق فهو منفي، وما أوجب التوسعة فهو أولى " (3) وقال الشاطبي في عديد من المواضع من كتاب المواقيت: " إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع " (4) .
__________
(1) راجع مبحث السماحة في كتاب " أصول النظام الاجتماعى في الإسلام " للأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور: 27.
(2) ابن حجر العسقلاني. بلوغ المرام مع سبل السلام كتاب الصلاة باب صلاة المسافر: 2/28.
(3) أحكام القرآن: 3/251.
(4) الشاطبي. الموافقات: 1/203- 204.(3/626)
2- ما أقره الفقهاء قاعدةً أساسية من قواعد الفقه الإسلامي: المشقة تجلب التيسير، وقد ذكر السيوطى " أن على هذه القاعدة خرجت جميع رخص الشرع وتخفيفاته، كما ذكر أن أسباب التخفيف في العبادات وغيرها أولها: السفر، وهو نوعان: طويل وغير طويل، ورخصه ثمانية على ما قال النووى، وهي تنقسم - باعتبار طول السفر وقصره - أربعة أقسام:
1-ما يختص بالسفر الطويل: القصر، والفطر.
2-ما لا يختص به قطعا: وهو ترك الجمعة، وأكل الميتة.
3-ما فيه خلاف والأصح اختصاصه به، وهو الجمع.
4-ما فيه خلاف والأصح عدم اختصاصه كالتنفل عن الدابة ونحوه (1) .
والحج سفر طويل على كل المذاهب في تحديد السفر الطويل، فيه من المشاق المادية والمعنوية ما وصفت سالفا، ولو كان بالطائرة أفلا يكون هذا السفر مدعاة للتخفيف واليسر، وهما روح الحنيفية السمحة المبنية على نفي الحرج والضيق.
والعجب أن فقهاءنا المعاصرين يفتون المسافر بالقصر والفطر والجمع طريقا ومكوثا بالنزل الفاخرة لا يقطع السفر، وبعضهم لا يفتيه بتأخير إحرامه إلى جدة، معرضا صفحا عما يعانيه من المشاق، مقترحا تقديم إحرامه من دويرة أهله، أو من المطار في بلده، غير مراع ما يحصل من المشاق المادية والنفسية، وبخاصة الجنسية في الطائرة، وبعد النزول كما وصفت، أو غير حاسب حسابا للطبائع البشرية هذا أولا.
وثانيا: فقد أنكر عمر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وأنكر عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه من خرسان، قال الحافظ ابن عبد البر: وهذا من هؤلاء – والله أعلم – كراهة أن يضيق المرء على نفسه ما وسع الله عليه، وأن يتعرض لما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه، وقال عطاء: انظروا هذه المواقيت التي وُقتت لكم فخذوا برخصة الله فيها، فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنبا في إحرامه، فيكون أعظم لوزره، فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك. وعن سفيان بن عيينة قال: قال رجل لمالك بن أنس: من أين أحرم؟ قال: أحرم من حيث أحرم صلى الله عليه وسلم. فأعاد عليه مرارًا، وقال: فإن زدتُ على ذلك. قال: فلا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة. قال: وما في هذا من الفتنة؟ إنما هي أميال أزيدها. فقال مالك: قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] ، قال: وأى فتنة في هذا؟ قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك أصبت فضلا قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ترى اختيارك لنفسك في هذا خير من اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .
__________
(1) الأشباة والنظائر: 77.
(2) الحطاب مواهب الجليل: 3/40.(3/627)
وقال ابن العربي في الرد على القول بأفضلية الإحرام من دويرة الأهل: فإنها مشقة رفعها الشرع وهدمتها السنة بما وقت النبي صلى الله عليه وسلم من المواقيت (1) . فإن وجدت المشقة جاز القياس، ورجعت المشقة كما فعل عمر في توقيت ذات عرق باجتهاده؛ دفعا للمشقة الحاصلة لأهل العراق إذا أحرموا من قرن وهو جور عليهم، وأما القصد إلى الاحتياط بالزيادة فهو من الزيادة على المقدرات الشرعية، ومزلفة نحو هاوية الفتنة إن نوى حصول فضل زائد عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ((وخير ديننا أيسره)) الحديث (2) أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه.
3- تتبع الرخص: يبدو لى أن من أفضل الطرق لمعالجة المشاكل المستجدة التي حدثت حصيلة التقدم الحضاري والتقني أن نأخذ برخص المذاهب الفقهية، خصوصا ونحن نعاني فقدان المجتهد في حاضرنا الإسلامي، إذا لم يمنع من ذلك مانع شرعي، بأن نأخذ من كل مذهب بما هو الأهون والأسهل، في أمور ديننا عبادات ومعاملات، قال الكمال بن الهمام في تحريره: " ولا يمنع منه (تتبع الرخص) مانع شرعي، إذا للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل، وكان عليه الصلاة والسلام يحب ما خف على أمته " (3) وعلل محمد العزيز جعيط شيخ الإسلام المالكي بالديار التونسية سابقا جوازَ تتبع الرخص فقال: " لأنه نوع من اللطف بالعباد، والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد، بل تحصيل الصالح، كالطبيب يريد بالدواء شفاء المريض لا إيذاءه، وإن لزم من ذلك الإيذاء، والمسألة ذات خلاف. وممن مال إلى القول بالجواز عز الدين بن عبد السلام، والشهاب القرافى والكمال بن الهمام " (4) .
__________
(1) ابن العربي أحكام القرآن: 1/118.
(2) حديث الخطيب البغدادي الفقه والمتفقه: 2/24
(3) محمد بخيت المطيعى. سلم الوصول لشرح نهاية السول: 4/626.
(4) مجالس العرفان ومواهب الرحمان: 1/114- 115.(3/628)
ولعل مما يدعم الأخذ بالرخص ما لم يمنع مانع شرعى ما جرى على ألسنة السلف الصالح لهذه الأمة، وتغنى به خلفها، وهو: أن خلاف الفقهاء رحمة؛ لأنه من تيسير الله على العباد، وأوضح ذلك القاسم بن محمد فقال: " لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيرا منه قد عمله "، وعنه أيضًا: " أي ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شيء "، ومثله مروي عن عمر بن عبد العزيز: " ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم "، قال القاسم: " لقد أعجبني قول عمر ابن عبد العزيز: " ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا " (1) .
وعلل ذلك شيخ الإسلام المالكي محمد العزيز جعيط بقوله: " لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة " (2) .
وهذا على رأي من يرى تخيير العامي في العمل بآراء المجتهدين، والمسألة ذات خلاف، ولكن من تيسير مواكبة الشريعة الإسلامية لقافلة الحياة الإسلامية المعاصرة في غيبة الاجتهاد أن نعمل بهذا الرأي.
__________
(1) محمد العزيز جعيط. مجالس العرفان ومواهب الرحمان: 1/111-112.
(2) المرجع السابق.(3/629)
وبناء على ذلك أقول: قد سبق لنا أن الحسن وعطاء والنخعي لم يروا في مجاوزة الميقات بدون إحرام شيئا، أي أثما أو دما، وناهيك بهؤلاء من خيرة فقهاء التابعين، وروى ابن نافع عن مالك أنه قال رحمه الله: " ولا يحرم في السفن "، وعلق عليه الأستاذ الإمام المغفور له محمد الطاهر بن عاشور بقوله: وهذا يحتمل وجوب النزول إلى الميقات وفيه مشقة ينبغي نفيها عن الدين، ويحتمل أن يريد أنه يرخص له تأخير الإحرام إلى النزول إلى الأرض " (1) ، وأنا أقول: والاحتمال الثانى هو الذي يتناسب مع المقصد الشرعي الذي ردده مالك في مواضع من الموطأ أن " دين الله يسر " هذا أولا.
وثانيا قال ابن ناجي في شرحه على رسالة ابن أبي زيد القيروانى: " ذكر لى بعض أشياخي أن في المذهب قولا آخر، أنه يؤخر الإحرام إلى البر " (2) ، وابن ناجي يقول في مقدمة شرحه المذكور: " مهما عبرت ببعض شيوخنا، فهو الشيخ الفقيه العالم الصالح التقى الزاهد أبو عبد الله محمد بن الشيخ الصالح المجاور المرحوم أبي عبد الله محمد بن عرفة الورغمى " (3) ، وقال ابن حزم أما المدرسة الظاهرية بالأندلس: " ومن كان طريقه لا تمر بشيء من هذه المواقيت فليحرم من حيث شاء برا أو بحرا " (4) .
فإذا تخيرتُ هذه الأقوال الميسرة وما شاكلها، وجنحتُ إلى القول بترخيص الإحرام من جدة للأفقيين القادمين بطريق الجو، أفعليَّ حرج في ذلك؟ خصوصا وأن القادمين بطريق الجو لا يتأتى منهم المرور بالميقات، كما جاء في فتوى الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور حيث يقول: " أما المسافر في الطائرة فهو لا يمر بالأرض أصلا " (5) ، وأكد ذلك سماحة الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة – دام حفظه – في فتواه في نفس الموضوع، فقال: " إن المسافر في الطائرة لا يمر بالميقات بالأرض أصلا " (6) وغيرهما كثير مشرقا ومغربا، لكن لم أر لواحد تعليلا في عدم اعتبار من طار فوق الميقات مارا به.
ويبدو لي أن حديث المواقيت جاء فيه ((هن لهن، ولمن أتى عليهن)) ، و (على) في كلام العرب تفيد الاستعلاء، وهو كما قال ابن هشام: أما على المجرور كقوله تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر: 80] ، أو على ما يقرب منه، نحو: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 10] وقوله:
وبات على النار الندى والمعلق
(7) .
__________
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. إحرام المسافر إلى الحج في المركبة الجوية، والهداية: عدد 2 س 5 ذو القعدة 1379 هـ/21.
(2) ابن ناجي. شرح الرسالة: 1/347.
(3) المرجع السابق: 1/4.
(4) المحلى: 7/71.
(5) محمد الطاهر ابن عاشور إحرام المسافر إلى الحج في المركبة الجوية الهداية: عدد 2 س 5 ذو القعدة 1379 هـ./21.
(6) محمد الحبيب ابن الخوجة فتاوى الهداية. الهداية. عدد 6 س 4 رجب 1397 هـ - 91.
(7) المغني: 1/116.(3/630)
وهو المراد هنا بمعنى قوله صلوات الله وسلامه عليه ((ولمن أتى عليهن)) إتيانا ملاصقا أو قريبا، ويدعم ذلك أن شراح الحديث جميعهم فيما رأيت فسروا كلمة أتى بـ (مر) ، كما فسرت كلمة أتى بمعنى المجيء بعينه في القرآن بـ (مر) قال الزمخشرى في كشافه في تفسير قوله تعالى {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40] ، يعني أن قريشا مروا مرارا كثيرة في متاجرهم إلى الشام على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء (1) ، وقال في تفسير قوله تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] ، مروا على قوم (2) ، ومر يتعدى إلى المفعول به بنفسه، وبحرفي الجر الباء وعلى، كما في القاموس: تقول " مره ومر به: جاز عليه، وامتر به وعليه كمر " (3) .
والباء في التراكيب السابقة تفيد الإلصاق وهو المعنى الذي لا يعارض بالرغم من تعدد معانيها حتى أوصلها ابن هشام إلى أربعة عشر معنى، ومن أجل كون معنى الإلصاق لا يفارقها في جميع معانيها اقتصر عليه سيبويه، يقال: مررت بزيد، أي ألصقت مروري بمكان يقرب من زيد (4) .
إذا علمنا هذا فأي إلصاق؟ وأي مرور قريب بالميقات لراكب طائرة تجتاز السحاب، ولا يتسنى نزولها إلا في المطارات، والمطار المعد لنزول الطائرات المقلة لحجاج البيت وعماره هو مطار جدة، ولا يُعترض علينا بأن سطح المسجد من المسجد، وبأن الهواء تابع للقرار، فالتابع غير المبتوع، ونحن متعبّدون بالمرور بالميقات أو المحاذاة له، وواضح عدم تصور المحاذاة لركاب الطائرة؛ لأن محاذاتك للشيء أن يكون على يمينك أو يسارك، لا فوقك ولا تحتك.
هذا والأخذ من كل مذهب بما هو الأهون والأسهل وقع فعلا من أعلام في الفقه الإسلامي، انتقلوا من مذهبهم إلى مذهب آخر قصد التيسير في زمن لم ينقطع فيه اجتهاد المذهب، أو اجتهد الفتوى على الأقل، لا في وقت لا يوجد فيه إلا من يقلد، حُكِيَ أنه أقيمت صلاة الجمعة، وهمَّ القاضى أبو الطيبِ بالتكبير، فإذا طائر قد ذرق عليه، فقال: أنا حنبلي. ثم أحرم بالصلاة، ومعلوم أن الشيخ شافعي يقول بنجاسة ذرق الطائر، فلم يمنعه مذهبه من تقليد المذهب الحنبلي قصدَ التيسير ودفعا للحاجة، كما ذكروا أن القاضى أبا عاصم العامري الحنفي كان يفتي على باب مسجد القفال، والمؤذن يؤذن بالمغرب، فترك الفتوى ودخل المسجد، فلما رآه القفال أمر المؤذن أن يُثني الإقامة، وقدّم القاضي للإمامة، فتقدم وجهر بالبسملة مع القراءة جريا على المذهب الشافعي.
__________
(1) الزمخشرى. الكشاف: 2/110.
(2) المرجع السابق: 1/505.
(3) الفيرروز آبادي. القاموس المحيط: 2/137.
(4) المغني: 1/88.(3/631)
ونقل صاحب الفتاوى البزازية أن الإمام أبا يوسف صلى يوم الجمعة إماما بالناس مغتسلا من الحمام، وبعد تفرق الجماعة أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام، فقال – وهو المجتهد –: إذن نأخذ بقول إخواننا أهل المدينة: " إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل خبثا ". وما ذلك إلا لقصد التيسير، نقل هذا الشرنبلالي في رسالته في جواز التقليد ساكتا عليها (1) .
4- أن منافع الإنسان مقدمة على العبادات، جاء في صحيح البخاري عن الأزرق بن قيس قال: " كنا بالأهواز نقاتل الحرورية، فبينا أنا على جرف، إذا رجل يصلي، وإذا لجام دابته بيده، فجعلت الدابة تنازعه، وجعل يتبعها – قال شعبة: هو أبو برزة الأسلمي – فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا الشيخ. فلما انصرف الشيخ قال: أنى سمعت قولكم، وإني غزوت مع رسول الله ست غزوات - أو ثمانيا - وشهدت تيسيره، وأني أن كنت أن أراجع مع دابتي أحب إلى من أن أدعها ترجع إلى مألفها فيشق علي " (2) .
قال ابن حجر العسقلاني قد أخذ الفقهاء قاعدة أن كل شيء يخشى إتلافه من متاع وغيره يجوز قطع الصلاة لأجله (3) .
__________
(1) محمد العزيز جعيط. مجالس العرفان ومواهب الرحمان: 1/110- 111.
(2) البخاري. الجامع الصحيح باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة 3/81 مع الفتح.
(3) ابن حجر. فتح الباري: 3/82.(3/632)
ووقع في رواية حماد: فقال: " إن منزلي متراخ - أي متباعد - فلو صليت وتركته – أي الفرس – لم آت أهلي إلى الليل " أي لبعد المكان (1) .
وترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: باب: إذا انفلتت الدابة في الصلاة، وقال قتادة: إذا أخذ ثوبه يتبع السارق، ويدع الصلاة " (2) ، وفقه البخاري يتجلى في تراجمه.
وعلق عليه الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله فقال: مشاهدته أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعددة، استخلص منها أن من مقاصد الشريعة التيسير، فرأى أن قطع صلاته من أجل إدراكه فرسه، ثم الرجوع إلى استئناف صلاته، أولى من استمراره على صلاته مع إضاعة فرسه؛ لما في ذلك من شديد الحرج، فهذا المقصد بالنسبة لأبي برزة مظنون ظنا قريبا من القطع (3) .
وإن ظهر للأستاذ الإمام فيما عقب به على هذا الحديث الحرج الشديد في إضاعة الفرس، فإن الحرج يسير في الوصول إلى المنزل متأخرًا، وأيسر منه إضاعة الثوب، ولكن سيدنا قتادة رضي الله عنه يقول: إذا أخذ ثوبه يتبع السارق ويدع الصلاة.
وإذا كانت الصلاة يقطعها من أجل أن لا يدرك أهله متأخرا، أو من أجل ثوب أخذه سارق، أو من أجل متاع وغيره يخشى أتلافه، أفلا يرخص للحاج أو المعتمر وهو يعاني مشاق السفر التي وصفت في تأخير إحرامه إلى جدة، والصلاة عماد الدين والفيصل بين الكفر والإيمان، وأفضل من الحج ومقدمة عليه، قال الشهاب القرافي رحمه الله: " تقدم ركعة من العشاء على الحج، إذا لم يبق قبل الفجر إلا مقدار ركعة العشاء والوقوف. قال أصحابنا رحمهم الله: يفوّت الحج ويصلي. وللشافعية رحمهم الله أقوال: يفوّتها ويقدم الحج لعظم مشقته، يصلي وهو يمشي كصلاة المسايفة، والحق مذهب مالك لأن الصلاة أفضل، وهي فورية إجماعا (4) .
ولو أعمل الفقهاء المخرّجون على أقوال الأئمة فيما يَجِدُّ من المسائل النظرَ مليا، فيما كان عليه سلفنا الصالح من مراعاة مقصد التيسير؛ لَيَسَّرُوا على المسلمين ولم يعنتوهم.
__________
(1) ابن حجر. السابق.
(2) البخاري، الجامع الصحيح مع الفتح: 3/81.
(3) مقاصد الشريعة الإسلامية: 18.
(4) الفروق: 2/230.(3/633)
النقطة الثانية
تيسيرات خاصة بالحج
الحج مبني على كثرة المشاق فناسبه التخفيف، ذلك ما صرح به الشهاب القرافي في فروقه، وذلك ما ينطبق على شرط الاستطاعة لحج البيت.
وقد جاءت هذه التيسيرات من النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وصحابته الخيرة المنتجبين، وورثة هديه علماء أمته العاملين، رضوان الله عليهم أجمعين.
وإحصاء هذه التيسيرات الخاصة بالحج يحتاج إلى تأليف خاص، ولكن سنعرض لنماذج من هذه التخفيفات، تفتح لنا باب التيسير على ذوي النسك القادمين إلى الحج أو العمرة بطريق الجو، وتساعدنا على الفتوى بالإرخاص لهم في الإحرام من جدة، وهذه النماذج هي:
1- توقيت المواقيت من لدنه عليه الصلاة والسلام، نمط من رخص الله للأمة الوسط، وتخفيف من المشاق.
2- وقوفه عليه الصلاة والسلام بمنى، وتيسيره على أمته أداء النسك، روى مالك في الموطأ عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: "وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، والناس يسألونه، فجاءه رجل فقال له: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انحر ولا حرج)) ، ثم جاءه آخر فقال: يا رسول الله، لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي. قال: ((أرم ولا حرج)) قال: فما سئل صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدِّمَ ولا أُخِّرَ إلا قال: ((افعل ولا حرج)) (1) .
__________
(1) كتاب الحج، جامع الحج: 2/390- 391.(3/634)
3- رخص الرعاة: روى مالك في الموطأ، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أبيه أن أبا البداح بن عاصم بن عدي أخبره عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أرخص لرعاء الإبل في البيتوته خارجين عن منى يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر)) (1) .
وروي عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عطاء بن أبي رباح، أنه سمعه يذكر أنه ((أرخص للرعاة أن يرموا بالليل، يقول: في الزمان الأول)) (2) .
والرخصة التي تضمنها الحديث الثانى أولوية؛ لأنه إذا رخص لهم في تأخير اليوم الثانى فرميهم بالليل أولى.
4- انعقاد الإجماع على جواز التمتع: روى مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب أنه حدثه ((، أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك بن قيس: لا يفعل ذلك إلا من جهل أمر الله عز وجل. فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخى. فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك. فقال سعد: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصنعناها معه.)) (3) .
والمسألة مفصلة في كتب الفقه، ولا نريد أن نطيل هنا بجلب ما قيل فيها، ولكن سنقتصر على ما رواه مسلم حين سُئل عمر عما أحدث في التمتع من نهي، فقال: ((قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رؤسهم.)) (4) .
قال الزرقاني: فبيّن عمرُ العلة التي لأجلها كره التمتع، وكان من رأيه عدم التوجه للحاج بكل طريق، فكره قرب عهدهم بالنساء؛ لئلا يستمر الليل إلى ذلك، بخلاف من بعد عهده به، ومن تفطم ينفطم (5) .
5- حد عمر رضي الله عنه لأهل العراق ذات عرق باجتهاد منه اعتمادا على محاذاتها لقرن، ولو محاذاة بعيدة، حين قالوا له: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّ لأهل نجد قرنا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنا شق علينا؟ قال: ((فانظروا حذوها من طريقكم. فحد لهم ذات عرق)) .
__________
(1) الموطأ كتاب الحج، الرخصة في رمي الجمار: 2/371.
(2) المرجع السابق.
(3) الموطأ كتاب الحج، ما جاء في التمتع: 2/265.
(4) مسلم، صحيحه، كتاب الحج، باب جواز التمتع: 5/335.
(5) الزرقاني شرحه على الموطأ: 2/265.(3/635)
6- إنكار عمر وعثمان على من قَدّم الإحرام: فقد أنكر عمر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وأنكر عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه من خراسان، قال الحافظ ابن عبد البر معللا ذلك: وهذا من هؤلاء – والله أعلم – كراهةَ أن يضيقَ المرءُ على نفسه ما وسع الله عليه، وأن يتعرض لما لا يُؤْمَن أن يحدث في إحرامه.
7- اتحاد الفدية لمن ارتكب العديد من محظورات الإحرام متأولا بسقوط الأجزاء، أو جاهلا بموجب إتمامه: قال الشهاب القرافى في كتاب " الفروق " في الفرق الثانى عشر بعد المائة بين قاعدة تداخل الجوابر في الحج، وقاعدة ما لا يتداخل الجوابر فيه في الحج: قال مالك رحمه الله: من أفسد حجه فأصاب صيدا، أو حلق، أو تطيب مرة بعد مرة تعددت الفدية وجزاء الصيد أن أصابه.
فإن كان متأولا بسقوط أجزائه، أو جاهلا بموجب إتمامه اتحدت الفدية؛ لأنه لم يوجد منه الجرأة على محرم، فعذره الجهل، وإن كانت القاعدة عدم عذره به؛ لأنه جهل يمكن دفعه بالتعلم، كما قال في الصلاة، غير أنه لاحظ هنا معنى مفقودًا في الصلاة، وهو كثرة مشاق الحج، فناسب التخفيف (1) .
وبعد عرض هذه التيسيرات من المنعوت في القرآن الكريم بالرؤوف الرحيم محمد صلى الله عليه وسلم ومن خلفائه الراشدين المهديين بهديه من بعده، وورثة فقه شريعته من الأئمة المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين، أفلا نتأسى بهم، ونرخص لحجاج البيت وعماره بطريق الجو في الإحرام من جدة التي هم مضطرون إلى النزول بها لا مختارون، والتي منها يؤذن لهم، أو لا يؤذن في الدخول إلى مكة، فهم بنفي الحرج أولى، وقد نفاه الرسول بمنى على من قدّم أو أخر بعض الواجبات عن بعض، ولم يراعِ الترتيب المطلوب، حتى قال راوي الحديث: فما سئل عن شيء قُدّم ولا أُخّر إلا قال: ((افعل ولا حرج)) ، وأن ندفع عنهم المشاق ما أمكن حتى يكملوا واجبات التعارف، واجتياز حرس الحدود، وتبديل العملة وتهيئة السفر إلى مكة ... كما دفعها عمر رضي الله عنه عن أهل العراق حين شق الإحرام من قرن عليهم، وأن نراعي أثر محظورات الإحرام عن نفس ذي النسك، خصوصا أن نصوص فقهاء الإسلام إذا أُحسن تخريجها تُرخص في ذلك بلا تعسف.
__________
(1) الزرقاني شرحه على الموطأ: 2/265.(3/636)
النقطة الثالثة
نصوص فقهاء الإسلام ترخص للقادمين جوا في تأخير الإحرام إلى جدة
هذه المسألة من المسائل المستحدثة، فلا توجد صرائح النصوص الدالة عليها بصريح العبارة، ولكن بقرب من التخريج غير المتكلف نجد نصوص الفقه ترخص للقادمين إلى جدة بطريق الجو في الإحرام منها.
ففى المذهب الحنفى: إذا ثبت أن راكب الطائرة لا يمر بالميقات أصلاً؛ لأن الميقات أرضي وهو لا يمر بالأرض، ولا يحاذيه من باب أولى، لأن المحاذاة المسامتة ميامنةً أو مياسرةً فحسب، فقد نص فقهاء هذا المذهب على حكم من لم يمر بالميقات وجهل المحاذاة، فقال خاتمة المحققين العلامة ابن عابدين: فإن لم يعلم المحاذاة فعلى مرحلتين من مكة، ووجهه أن المرحلتين أوسط المسافات، وإلا فالاحتياط الزيادة.
ومن انعدم عنده المرور بالميقات؛ لأنه طائر في أجواز الفضاء وفوق السحاب، ولا تتصور بالنسبة إليه محاذاة، أولى أن يحرم قبل مكة بمرحلتين وجدة تبعد عن مكة بمرحلتين.
وأما في المذهب المالكي فقد سبق أن نقلنا ما نقله صاحب المدخل في مناسكه عن ابن نافع رواية عن مالك أنه قال: " لا يحرم في السفن " بإطلاق، وعلق الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمة الله عليه على هذه القولة فقال: " وهذا يحتمل وجوب النزول إلى الميقات وفيه مشقة ينبغى نفيها عن الدين، ويحتمل أن يريد أنه يرخص له تأخير الإحرام إلى النزول إلى الأرض "، وأنا أقول: والاحتمال الثانى هو الذي يتناسب مع المقصد الشرعي الذي ردده مالك في مواضع كثيرة من الموطأ؛ أن " دين الله يسر " وأيضا فما يدعمه ما نقله ابن ناجي في شرحه على رسالة ابن أبي زيد القيرواني حيث قال: " ذَكر لى بعض أشياخي أن في المذهب قولا آخر أنه يؤخر الإحرام إلى البرّ "، وابن ناجي ذكر أنه إذا قال: قال بعض شيوخى، فالمقصود ابن عرفة، نقادة المذهب المالكى، ونقل الحطاب في مواهب الجليل عن أبي إسحاق التونسي أنه قال: " ومن كان بلده بعيدًا عن الميقات، مشرقا عن الميقات أو مغربا عنه، وإذا قصد إلى الميقات شقّ عليه ذلك، لإمكان أن تكون مسافة بلده إلى الميقات مثل مسافة بلده إلى مكة، فإذا حاذى الميقات بالتقدير والتحري أحرم ولم يلزمه السير إلى الميقات (1) .
__________
(1) الحطاب مواهب الجليل: 3/34.(3/637)
وما نقله الحطاب عن أبي إسحاق التونسي، وجه الاستدلال به أن هذا الفقيه جعل من لم يمر بالميقات، وجهل المحاذاة ممن وصف يحرم بالتحري والتقدير، ولم يلزمه بالذهاب إلى الميقات؛ دفعا للمشقة وتيسيرا على ذوى النسك، كما حد عمر رضي الله عنه ذات عرق لأهل العراق لما شق عليهم قرن المنازل، أفلا نرخص لركاب الطائرات من ذوى النسك، وهم الذين لا يمرون بالميقات بالأرض أصلا، ولا تتصور منهم محاذاة، أن يحرموا من جدة حين يحاذون قرن المنازل محاذاة بعيدة مع العلم أني لم أر في كتب المالكية والحنابلة والشافعية من اشترط القرب من المحاذاة، وحين قال ابن نجيم في البحر: " ولعل مرادهم بالمحاذاة القريبة من الميقات " تعقبه محشيه ابن عابدين ردا عليه بما قاله أخوه (عمر بن نجيم) في النهر "من لم يمر على المواقيت يحرم إذا حاذى آخرها، قربت المحاذاة أو بعدت "، وقواعد المذهب المالكي لا تأباه، بل ربما يستروح ذلك من تقييد سند القائم على التفريق بين من يساحل الجحفة كالمسافر في بحر السويس، وبين من لا يساحل كالمسافر في بحر عيذاب.
هذا وقد أفتى علم مشهور من أعلام المالكية في العالم الإسلامي الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمة الله عليه المسافر إلى الحج في المركبة الجوية بالإحرام من جدة؛ معتمدًا بالدرجة الأولى في فتواه المشار إليها في النقطة الأولى من هذا المبحث تقييد سند بن عنان لقول مالك الذي يرويه ابن أبي زيد في النوادر عن ابن المواز عن مالك أنه قال: " ومن حج في البحر من أهل مصر، وشبههم إذا حاذى الجحفة " الذي وسعت القول فيه في النقطة التاسعة من المبحث الرابع.
ويظهر أنه قاس من في الطائرة على المحاذي في اللجنة ولا يستطيع النزول إلى البر كالمسافر في بحر عيذاب، وما استظهرته هو الذي أكده بوضوح سماحة الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة – دام حفظه – حيث قال " إن المسافر في الطائرة لا يمر بالميقات بالأرض أصلا، ولا يتصور فيه إمكان النزول إلى البر قبل الوصول إلى مركز الميناء الجوي المعد لنزول الطائرة، فأشبه حاله حال من سافر في بحر لا يحاذي الشواطئ مثل بحر الهند، وبحر اليمن، وبحر عيذاب ".
قال سند: من أتى بحر عيذاب حيث لا يحاذي البر، فلا يجب عليه الإحرام في البحر، إلى أن يصل إلى البر، ولا يلزمه بتأخير الإحرام إلى البر هدي.
وهذا هو الذي نراه، وهو ما أفتى به شيخنا المقدس المبرور محمد الطاهر ابن عاشور رحمة الله عليه إلخ الفتوى التي أشرت إليها في النقطة الأولى من نقاط هذا المبحث.
وأما في المذهب الشافعي فيبدو أن ما قرر في حق من سلك طريقا لا ميقات فيه من بر أو بحر، ولم يحاذ ميقاتًا أحرم على مرحلتين من مكة.(3/638)
وركاب الطائرات لا يمرون بالميقات بالأرض أصلا، ولا يحاذون، إذ المحاذاة كما فسرها شيخ الإسلام زكريا الأنصارى الشافعي في شرحه على منهج: المسامتة بيمينه أو يساره، وأكملها محشيه سليمان الجمل فأضاف إلى تيسيره قوله: " لا بوجهه، ولا بظهره؛ لأن الأول أمامه، والثانى وراءه، ومن هنا يحرمون على مرحلتين من مكة، وجدة تبعد عن مكة بمرحلتين.
وكذلك الشأن في المذهب الحنبلى، يقول البهوتي في كشاف القناع عن متن الإقناع: " وإحرام من لم يحاذ ميقاتا بقدر مرحلتين عن مكة ".
هذا ما اهتديت إليه من تخريج لقضية البحث: " الإحرام من جدة لركاب الطائرات " والله أسأل أن يكون صوبا من فضله جل جلاله.
ولا يفوتني هنا أن أشير إلى كثرة ما صدر في هذه القضية من فتاوى يتسنى تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
1- القسم الأول يجيز بإطلاق غير راء على المحرم من جدة إثما ولا دما، ومن هؤلاء محمد الطاهر ابن عاشور رحمة الله عليه وسماحة الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة، والشيخ محمد المهيري من تونس والشيخ عبد الله كنون من المغرب، والشيخ بيوض إبراهيم بن عمر من بني ميزاب من الجزائر، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، والشيخ عبد الله الأنصارى من قطر، ولجنة الفتوى بالأزهر الشريف في تصحيحها لفتوى المرحوم الشيخ جعفر بن أبي اللبني الحنفي المدرس بالحرم المكي لركاب السفن في الإحرام من جدة، والتي نشرها في شكل رسالة سماها: " دفع الشدة بجواز تأخير الآفاقي الإحرام إلى جدة "، وطبعت في الأستانة سنة 1327 هـ، وغيرهم.
2-المجيز بتقييد وهو القائل بنفي الإثم ولزوم الهدي، ولم أطلع على فتوى من هذا القبيل، ولكن رأيت ذلك في " أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك " لأبي بكر بن حسن الكشناوي من العلماء المعاصرين يقول: " قد أفتى العلماء المعتبرون من أهل العصر بوجوب الهدي على من تعدى الميقات على الطائرة وغيرها من المركوب الحادث".(3/639)
وعلى تلك الفتوى لو أحرم القادم على الطائرة وغيرها قبل الميقات المكاني لسقط عنه الدم، وإن كان الإحرام قبل الميقات مكروها، والكراهة لا تنافي الجواز، فلقد قال الحافظ أحمد الطبري في " القرى لقاصد أم القرى ": والتقديم جائز بالإجماع وإنما كرهه قوم (1) .
3- المانع لركاب الطائرات أن يحرموا من جدة ومن أشهرهم سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز، سواء فيما نشر بركن الفتاوى في مجلة الدعوى السعودية بملحق خاص بمناسبة موسم الحج سنة 1403 هـ، أو في " التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيادة على ضوء الكتاب والسنة " قبل ذلك، أو في رده على ما أملاه الشيخ عبد الله الأنصارى، ونقل في التقويم القطرى المنشور بمجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحت عنوان " بيان خطأ من جعل جدة ميقاتا لحجاج الجو والبحر " (2) .
ولكل وجهة، ونسأل الله إجزال الأجر والثواب لكل من قصد بتيسيره أو أخذه الحيطة في اجتهاد ابتغاء مرضاة الله، وخدمة شريعته، إنه سميع مجيب، وهو حسبي ونعم الوكيل (3) .
__________
(1) الطبري القرى: 1/451.
(2) عدد 53 المحرم – صفر - ربيع الأول 1402، 0/93 – 94- 95- 96.
(3) سأصور ما تصل إليه يدى من الفتاوى التي ذكرتها، وتكون ملحقا لهذا البحث بعونه تعالى(3/640)
الوثائق
كتاب حدود المشاعر المقدسة
لفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب حدود المشاعر المقدسة
1103- الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله:
وبعد: فأنا من أكثر من عشرين سنة وأنا حريص على معرفة حدود المشاعر وما قاله العلماء عنها، وأقف عليها مصطحبا معي أهل الخبرة فيها والمعرفة، ومقيدًا كل ما أعثر عليه من علم عنها.
وشاركت في عدة لجان شكلت بأوامر سامية لتحديدها، وأكثر القرارات الصادرة من اللجان أنا الذي أحضر نصوصها وأكتب قراراتها، فصار عندي خبرة جيدة فيها، واجتمع عندي أصول لتلك القرارات التي اعتمدت ونفذ أكثرها.
وعند تأليفي لهذا الكتاب رأيت أن أشرك القراء بالاطلاع عليها.
فمعرفة المواقيت وحدود الحرم وسائر المشاعر المقدسة أمر يهم المسلم؛ لأنه يترتب على ذلك أداء المناسك على الوجه المشروع، ولهذه المشاعر من الأحكام والخصائص ما ليس لغيرها، ولها في صدور المسلمين من المكانة والتعظيم ما يوجبه عليهم دينهم.
قال الله تعالى {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] .
ورأيت أن أفرد تحديد هذه المشاعر وحدها لتأخذ موضوعا واحدًا أمام القراء.
وأسأل الله تعالى أن يجعله عملا خالصا لوجهه الكريم مقربا لديه في جنات النعيم.(3/641)
موقع مكة المكرمة من العالم
1104- كتب الأستاذ حسين كمال الدين أحمد بحثا في مجلة البحوث الإسلامية بين فيه أن مكة المكرمة في الإسقاط المساحي المكي هي مركز العالم كله.
نلخص من هذا البحث خلاصة نلحقها في هذا البحث لعلاقته به من حيث جغرافية البلاد، هذا النوع من إسقاط الخرائط هو نوع جديد من جميع الوجوه، ولا يرتبط بنوع من أنواع الإسقاطات الأخرى للخرائط المعروفة بين علماء المساحة أو الجغرافيا.
والغرض من كتابة هذا البحث هو شرح هذا الإسقاط الجديد، ليمكن معرفة موقع مكة المكرمة من القارات السبع.
ولقد أصبح من البديهي الآن أن الأرض جسم كروي، ونظرًا لهذا فإن أي نقطة من سطح الأرض تتميز عن غيرها من النقط السطحية، فلجأنا إلى تصور وجود خطوط وهمية على سطح الكرة الأرضية.
وإذا تصورنا أن الكرة الأرضية تدور حول نفسها دورة منتظمة، فإن ذلك يستوجب فرض محور ثابت داخل هذه الكرة يحدد هاتين النقطتين الثابتتين القطب الشمالي والقطب الجنوبى.
والخط الدائري بين هذين النصفين هو خط الاستواء.
وبعد، فالإسقاط المكي للعالم هو نوع جديد، والذي دفعنا إلى هذا العمل هو البحث عن طريقة خاصة تساعد على اتجاه القبلة والمحافظة على الاتجاه الصحيح بين أي بلد وبين مكة المكرمة.(3/642)
وبما أن الأرض كرة منتظمة إذن من الممكن الربط بين أي مكانين بعدد كثير من الأقواس، ولكن الاتجاه الصحيح الوحيد بين هذين المكانين هو أقصر هذه الأقواس طولا، فيكون الاتجاه الصحيح للصلاة في أي مدينة هو أقصر قوس يربط بينها وبين مكة المكرمة، وعندما تم توقيع حدود القارات السبع على خريطة الإسقاط، وجدنا أن الحدود الخارجية لهذه القارات يجعلها محيط دائرة واحدة مركزها عند مكة المكرمة أي أن مكة المكرمة تعتبر مركزًا وسطا للأرض اليابسة على سطح الكرة الأرضية.
وكذلك إذا أخذنا في الاعتبار القارات الثلاث أوروبا وآسيا وأفريقيا التي تحتل العالم القديم وقت الرسالة الإسلامية، نجدها كذلك تكاد تحيط بمدينة مكة المكرمة.
فهذا الإسقاط المكي الجديد يعطي مكة المكرمة مركزا خاصا بين جميع أماكن العالم، ولله تعالى في خلقه حكم وأسرار {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] .(3/643)
باب المواقيت
1105- المواقيت: جمع ميقات، وهي زمانية ومكانية.
فالزمانية: أشهر الحج، شوال، وذو القعدة، وعشر ذو الحجة.
والمكانية: ما ذكرتْ في الحديثين الآتيين.
وجعلتْ هذه المواقيت تعظيما للبيت الحرام وتكريما؛ ليأتي إليه الحجاج والزوار من هذه الحدود، معظمين خاضعين خاشعين.
ولذا حرم ما حوله من الصيد وقطع الشجر، لأن في ذلك استخفافا بحرمته، وغضا من كرامته.
والله سبحانه وتعالى جعله مثابة للناس وأمنا، ورزق أهله من الثمرات لعلهم يشكرون.
الأول: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقّتَ لأهل المدينة " ذا الحليفة " ولآل الشام " الجحفة " ولأهل نجد " قرن المنازل " ولأهل اليمن " يلملم " وقال: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة)) .
والثانى: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن المنازل)) قال عبد الله: وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ويهل أهل اليمن من يلملم)) .
ذو الحُلَيْفَةَ: بضم الحاء وفتح اللام تصغير الحلفاء: نبت معروف ينبت بتلك المنطقة وتسمى الآن " آبَارُ عَلَيّ "، ويكاد عمران المدينة المنورة – الآن – يصل إليها، وتبلغ المسافة من ضفة وادي الحليفة إلى المسجد النبوي ثلاثة عشر كيلا، ومن تلك الضفة إلى مكة المكرمة عن طريق وادي الجموم أربعمائة وعشرين كيلا، والحليفة ميقات أهل المدينة ومن أتى عن طريقهم.(3/644)
الجُحْفَة: بضم الجيم وسكون الحاء المهملة وفتح الفاء بعدها هاء: قرية بينها وبين البحر الأحمر عشرة أكيال، وهي الآن خَرَاب ويحرم الناس من:
رَابغ: مدينة كبيرة فيها الدوائر والمرافق والمدارس الحكومية، وتبعد عن مكة المكرمة عن طريق وادي الجموم مائة وستة وثمانين كيلا، ويحرم من رابغ من لم يمر بالمدينة المنورة من أهل لبنان وسوريا والأردن وفلسطين ومصر والسودان وحكومات المغرب الأربع وبلدان أفريقيا وبعض المنطقة الشمالية في المملكة العربية السعودية.
يَلَمْلَم: بفتح الياء المثناة التحتية فلام فميم فلام أخرى بعدها ميم أخرى ويقال: أَلَمْلَم، وسكان تلك المنطقة الآن يقولون: لَمْلَم، ولما زفلتت حكومتنا الطريق الآتى من ساحل المملكة العربية الجنوبي إلى مكة المكرمة والمار بوادى يلملم من غير مكان الإحرام القديم المسمى "السعدية " كنت أحد أعضاء لجنة شكلت لمعرفة مكان الإحرام مع الطريق الجديد، فذهبنا إليه ومعنا أهل الخبرة والعارفون بالمسيمات، واجتمعنا بأعيان وكبار السن من سكان تلك المنطقة وسألناهم عن مسمى يلملم هل هو جبل أم واد؟ فقالوا: إن يلملم هذا الوادي الذي أمامكم، وإننا لا نعرف جبلا يسمى بهذا الاسم، وإنما الاسم خاص بهذا الوادى وسيوله تنزل من جبال السراة ثم تمده الأودية في جانبيه، وهو يعظم حتى صار هذا الوادي الفحل الذي تشاهدونه، وإن مجراه ممتد من الشرق إلى الغرب حتى يصب في البحر الأحمر عند مكان في الساحل يسمى "المجيرمة ".(3/645)
وإنه من سفوح جبال السراة حتى مصبه في البحر الأحمر يقدر بنحو مائة وخمسين كيلا، ونحن الآن في السعدية في نحو نصف مجراه، وبعد التجول في المنطقة والمشاهدة وتطبيق كلام العلماء وسؤال أهل الخبرة والسكان تقرر لدينا أن مسمى يلملم الوارد في الحديث الشريف ميقاتا لأهل اليمن ومن أتى عن طريقهم؛ هو كل هذا الوادى المعترض لجميع طرق اليمن الساحلي وساحل المملكة العربية السعودية، وأن الاسم عليه من فروعه في سفوح جبال السراة إلى مصبه في البحر الأحمر، وأنه لا يحل لمن أراد نسكا ومر به أن يتجاوزه بلا إحرام من أي جهة من جهاته وطريق من طرقه.
وقد كان الطريق يمر بالسعدية وهي قرية فيها بئر السعدية، وفيها إمارة ومدرسة ومسجد قديم جدد الآن ينسب إلى معاذ بن جبل، والسعدية تبعد عن مكة المكرمة اثنين وتسعين كيلا، أما الطريق التي زفلتته حكومتنا فهو يقع عن السعدية غربا بنحو عشرين كيلا يمر على وادي يلملم، وعند ممره إلى يلملم يكون وادي يلملم عن مكة مائة وعشرين كيلا، ونحن بيّنا للمسئولين جواز الإحرام من الطريق القديم والطريق الجديد وغيرهما مما يمر في هذا، وذلك في حج عام 1401 هـ، والآن صار طريق الناس من الطريق الجديد وصارت ضفة الوادى الجنوبية قرية يحرم منها الناس.(3/646)
ويحرم من يلملم أهل اليمن الساحلي وسواحل المملكة العربية السعودية وإندونيسيا وماليزيا والصين والهند وغيرهم من حجاج جنوب آسيا، والآن أصبح الحج غالبه عن طريق الطائرات أو البواخر التي لا ترسو إلا في موانئ جدة.
قَرْنُ الْمَنَازِلِ: بفتح القاف وسكون الراء وقد يقال: قَرْنَ الثَّعَالِبِ لوجود أربع روابي صغار تسكنها الثعالب، وقد أزيلت إحدى تلك الروابي لتوسعة طريق مكة – الطائف وبقى الآن منها ثلاثة، أما الثعالب فمع توسع العمران هربت عن المنطقة، والقرن هو الجبل الصغير.
وهذا الميقات اشتهر اسمه الآن " بالسَّيْلِ الْكَبير " ومسافته من بطن الوادى إلى مكة المكرمة ثمانية وسبعون كيلا، ومن المقاهي والأمكنة التي اعتاد الناس أن يحرموا منها خمسة وسبعين كيلا، والسيل الكبير الآن قرية كبيرة فيها محكمة وإمارة وجميع الدوائر والمرافق والخدمات والمدارس المنوعة.
ويحرم من قرن المنازل أهل نجد وحجاج الشرق كله من أهل الخليج والعراق وإيران وغيرهم.(3/647)
وَادِي محرم: هذا هو أعلى " قرن المنازل " وهو قرية عامرة فيها مدرسة وكان لا يحرم منه إلا قله حتى فتحت حكومتنا طريق الطائف – مكة المار بالهدا فصار محرما هاما مزدحما، فبنت فيه الحكومة مسجدًا كبيرا جدا له طرقه المزفلته الداخلية والخارجية ومواقف السيارات ومكان الراحة وأمكنة الاغتسال ودورات المياه بأحدث تصميم وبناء لهذا المحرم الهام، وهو لا يعتبر ميقاتا مستقلا من حيث الاسم؛ لأنه هو قرن المنازل، فاسم قرن شامل للوادي كله، سواء من طريق ما يسمى " بالسيل الكبير " أو من طريق ما يسمى " الهدا "، ولذا جاء في الإقناع وغيره: وميقات أهل نجد اليمن وأهل نجد الحجاز وأهل الطائف قرن، فوادي قرن هو الطريق السالك من هذه الجهات الثلاث، وبهذا يكون قرن بمعنى المنصوص عليه.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ما خلاصته: لا خلاف بين أهل العلم فيما اقتضته الأحاديث من أن " قرن المنازل " هو ميقات أهل نجد وأهل الطائف وبعد أن سمي في تسهيل طريق كرا وغلب على ظني نجاح ذلك، صرت إلى مزيد من الاحتياط لهذا الميقات المسمى " محرما " فعمدت إلى لجنة علمية مؤلفة من عالمين فاضلين لديهما الملكة العلمية والخبرة الوطنية والفقه والنباهة ما لا يوجد عند كثير من أضرابهما وهما:(3/648)
الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر رئيس هيئة التمييز للمنطقة الغربية، والشيخ محمد بن على البيز رئيس محكمة الطائف أن يذهبا إلى " وادي محرم " المذكور وينظرا هو أعلى وادي قرن المسمى بالسيل، فذهبا ونظرا وبذلا وسعهما واستصحبا في مسيرهما خبراء من أهل تلك الناحية، وتحصّل لديهما أنه هو أعلى وادي قرن المنازل، وكتبا لنا بذلك كتابة صريحة واضحة بأنه هو أعلى وادي قرن المنازل.
وقد صرحت كثير من وثائق عقارات أهل وادي محرم الموجودة في سجلات محكمة الطائف بما لا يدع للشك مجالا، أن وادي محرم هو وادي قرن، ولا تظن أن تلك العقارات هي في أسفل الوادي المسمى بالسيل، بل كلها أو أكثرها في أعلاه المسمى " وادي محرم " كالدار البيضاء وقرية المشائخ وغيرها.
قلت: ويبعد عن مكة بخمسة وسبعين كيلا، ولولا كثرة تعرجات جبل كرا لكان عن مكة نحو ستين كيلا فقط.
ويحرم منه من يحرم من الميقات الذي في أسفل الوادي ويزيد بحجاج الطائف وحجاج جنوب المملكة الحجازي وحجاج اليمن الحجازي.(3/649)
تكميل:
ذَاتُ عِرْقٍ: بكسر العين وسكون الراء بعدها قاف سمي بذلك لأن فيه عرقا، وهو الجبل الصغير، ويسمى الآن " الضريبة " قال ياقوت: الضريبة واد حجازي يدفع سيله في ذات عرق.اهـ.
والضَّرِيبَة: بفتح الضاد المعجمة بعدها راء مكسورة، ثم ياء مثناة تحتية، ثم باء موحدة تحتية، ثم هاء، واحدة الضراب، وهي الجبال الصغار، وهذا الميقات لم يرد في حديث الصحيحين ولكن في بعض السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم وَقّتَ لأهل العراق ذات عرق، وقد ضعف بعض أهل العلم هذا الحديث.
قال في فتح الباري: والذي في البخاري عن ابن عمر قال: لما فتحت الكوفةُ والبصرةُ أتوا عمرَ فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّ لأهل نجد قرنا، وهو جور عن طريقنا. قال: فانظروا في طريقكم. فحد لهم ذات عرق ".
قال الشافعي: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حد ذات عرق، وإنما أجمع عليه الناس. هذا يدل على أن ذات عرق ليس منصوصا عليه، وبه قطع الغزالي والرافعي في شرح المسند والنووي في شرح مسلم، وكذا وقع في المدونة لمالك.
وصحح الحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية أنه منصوص، وقد وقع ذلك في حديث جابر عند مسلم إلا أنه مشكوك في رفعه، وقد رفع في حديث عائشة وحديث الحارث السهمي، وكلاهما عند أحمد وأبي داود والنسائي، وهذا يدل على أن للحديث أصلا، فلعل من قال: إنه غير منصوص عليه لم يبلغه، أو رأى ضعف الحديث. اهـ، ملخصا من فتح الباري.
قلت: وعلى كل فقد صح توقيته عن عمر رضي الله عنه، فإن كان منصوصا عليه وجهله فهو من موافقاته المعروفة، وإن لم يكن نص عليه فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)) . وقد أجمع المسلمون على أنه أحد مواقيت الحج، ولله الحمد.(3/650)
وقد قمت بشهر محرم في عام 1402هـ من مكة المكرمة إلى هذا الميقات ومعي الشريف: محمد بن فوزان الحارثي، وهو من العارفين بتلك المنطقة، ومن المطلعين على التاريخ، وقصدي بحث طريق الحج من الضريبة إلى مكة على الإبل، فوجدت الميقات المذكور شِعْبًا بين هضاب، طوله من الشرق إلى الغرب ثلاثة أكيال، وعرضه من الجنوب إلى الشمال نصف الكيل، ويحده من جانبيه الشمالي والجنوبي هضابة، ويحده من الشرق "ريع أنخل "، ويحده من الغرب وادي الضريبة الذي يصب في وادي مر الظهران، ويعتبر هذا الميقات من الحجاز، فلا هو من نجد ولا هو من تهامة، ولكنه حجاز منخفض يكاد يكون حرة، فليس فيه جبال عالية، ويقع عنه شرقا بنحو عشرة أكيال وادي العقيق، ثم يلي العقيق شرقا " صحراء ركبة " الواسعة، حيث تبتدئ بلاد نجد، ويحرم من العقيق الشيعة، والمسافة من ميقات ذات عرق حتى مكة مائة كيل، وأشهر الأمكنة التي يمر بها الطريق مكة - الزقة، وفيها آثار وبركة عظيمة قديمة من آثار بني العباس، ثم وادي نخلة الشامية، ثم المضيق، ثم البرود، ثم شرائع المجاهدية، ثم العدل، وهذا الميقات مهجور الآن، فلا يحرم منه أحد؛ لأن الطرق المزفلتة في نجد وفي الشرق لا تمر عليه، وإنما على الطائف والسيل الكبير " قرن المنازل ".(3/651)
ملاحظة: جميع مواقيت الإحرام أودية عظام، ولذا فإن الاحتياط أن يحرم الحاج أو المعتمر من الضفة التي لا تلي مكة من الوادي؛ لئلا يعتبر متجاوزا لليمقات.
ومن تجاوز الميقات بلا إحرام يريد نسكا فرضا أو نفلا ولو كان جاهلا أنه الميقات أو حكمه أو ناسيا أو مكرها؛ لزمه أن يرجع إلى الميقات فيحرم منه حيث أمكن كسائر الواجبات، فإن خاف لم يلزمه الرجوع ويحرم من موضعه، فإن رجع إلى الميقات فأحرم منه فلا دم عليه لأنه أتى بالواجب عليه، كما لو لم يجاوزه ابتداء.
وإن أحرم دون الميقات لعذر أو غيره صح وعليه دم وفاقا للأئمة الثلاثة، وإن رجع محرما إلى الميقات لم يسقط عنه الدم برجوعه نص عليه؛ لأنه وجب عليه لتركه إحرامه من ميقاته فلم يسقط، كما لو لم يرجع.
وإذا كان في الطائرة قادما من نجد فميقاته قرن المنازل " السيل الكبير ".
وإذا كانت الطائرة فوقه نوى الإحرام وإن كان عنه يمنة أو يسرة فإذا حاذاه لا يؤخر إحرامه حتى يصل جدة لأن ميقاته هذا.
فبناء عليه فإنه يتأهب للإحرام بخلع المخيط وكشف الرأس فلبس لباس الإحرام إذا كان رجلا قبل وصوله لأنه وهو في الطائرة لا يتمكن من عمل هذا عند محاذاته حتى تكون جاوزته بمسافة بعيدة وهكذا كل من قدم إلى جدة بالطائرة من أي جهة كانت، لأن جدة ليس ميقاتا وإنما هي داخل المواقيت.(3/652)
الحرم المكي وحدوده
1106- الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فهذا تحديد للحرم المكي الشريف يكتب لأول مرة في التاريخ فيما أعلم؛ ذلك أنى اشتركت في تحديده مع هيئتين من أهل العلم ومن أهل الخبرة ومن سكان كل جهة من جهات الحرم.
الهيئة الأولى، قامت بالعمل في عام 1385 هـ واستمر عملها عدة أشهر.
والهيئة الثانية، عملت فيه سنتين في فترات خلال عام 1398 هـ وعام 1400 هـ.
وقد عمدت الهيئتان بأوامر سامية تصدر على رئاسة القضاء ثم على وزارة العدل وعلى وزارة الحج والأوقاف وعلى رئاسة شئون الحرمين، والهيئتان مكونتان من الأعضاء الآتية أسماؤهم:
1- الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر رئيس هيئة التمييز بمكة المكرمة.(3/653)
2-محرر هذه الأسطر عبد الله بن عبد الرحمن البسام في الأولى قاضي المحكمة المستعجلة الثانية بمكة المكرمة، وفي الثانية قاضي محكمة التمييز بمكة المكرمة.
3- الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع قاضي محكمة التمييز بمكة المكرمة.
4- الشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل أحد أئمة المسجد الحرام ونائب رئيس رئاسة شئون الحرمين.
5- الشيخ حسن بابصيل أحد قضاة المحكمة الكبرى بمكة ومندوب عن وزارة الحج والأوقاف.
6- الشريف شاكر بن هزاع أبو طين قائم قام مكة المكرمة.
7- الشريف محمد بن فوزان الحارثي عضو هيئة النظر بالمحكمة الكبرى.
8- عدد كبير من سكان تلك المناطق تستعين الهيئة بخبرتهم بالمسميات لكل جهة، ممن عُرفوا بالخبرة والمعرفة والثقة رافقتنا في هذه المهمة، فعمدة بحثي هذا ومصدره الأمور الآتية:(3/654)
الأول: الاطلاع على مصادر النصوص من كتب معاجم البلدان وتواريخ مكة وكتب المناسك وكتب الأحكام والتفاسير وشروح الأحاديث وغير ذلك.
الثاني: استصحاب أهل الخبرة والمعرفة وثقات سكان كل منطقة من جهات الحرم ومناقشتهم ومعرفة المسميات والجبال والشعاب والأدوية والبقاع، وتطبيقها على ما ورد في المصادر العلمية.
الثالث: الوقوف على الحدود مع أهل الخبرة والصعود إلى قمم الجبال وسفوحها للبحث عن الأعلام القديمة وآثارها ومعرفة المسافة فيما بين حدٍّ وآخر، وصعودنا تارة طلوعا بالرجال والأخرى بالطائرة العمودية.
والذي يقوم بمعرفة ثقات السكان ويحضرهم هو أميرهم الشريف شاكر ابن هزاع قائم قام العاصمة المقدسة.
وكان أغلب عملنا هو في فصل الشتاء وفصل الربيع.(3/655)
المقدمة
قال الله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57] .
وقال تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] .
وجاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم هذا البلد حرمة الله يوم خلق السموات والأرض فهي حرام بحرمة الله عز وجل إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده)) .
وجاء في الصحيحين أيضًا عن أبي شريح العدوي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتحه مكة يقول: ((إن مكة حرمها الله تعالى ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد شجرة، فليبلغ الشاهد الغائب)) .
وأخرج النسائي والترمذي وابن حبان وغيرهم عن عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لمكة: ((والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت)) .
وروى صاحب القرى بسنده إلى أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الدجال لا يدخل مكة، على كل نقب من نقابها ملك شاهر سيفه)) .
ولما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتّاب بن أسيد على أهل مكة قال: ((يا عتاب، أتدري على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله، فاستوص بهم خيرًا. يقولها ثلاثا.))(3/656)
المسجد الحرام هو الحرم كله
أخرج سعيد بن منصور في سننه عن ابن عباس قال: " الحرم كله المسجد الحرام. وهو قول بعض أهل العلم، ويتأيد بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] وكان ذلك من بيت أمِّ هانئ، وأصرح منه قوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} [البقرة: 217] .
وأخرج ابن ماجة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك شهر رمضان في مكة فصامه؛ كتب له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه)) .
وقال الحسن البصري: " صوم يوم بمكة بمائة ألف، وصدقة درهم بمائة ألف، وكل حسنة بمائة ألف " وقال المحب الطبري: وهذا الحديث يدل على أن المراد بالمسجد الحرام الحرم جميعه؛ لأنه عمم التضعيف في جميع الحرم، وكذلك حديث تضعيف الصوم عممه في جميع مكة وحكم الحرم ومكة في ذلك سواء بالاتفاق ".اهـ. القرى.(3/657)
وقال ابن القيم في زاد المعاد: قال الشافعي: الحديبية بعضها من الحل وبعضها من الحرم. وروى الإمام أحمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل، وفي هذا كالدلالة على أن مضاعفة الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم، ولا يُخص بها المسجد الذي هو مكان الطواف، وأن قوله: ((صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في مسجدي)) كقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] وقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] ، وكان الإسراء من بيت أم هانئ.
وذكر أن ابن عمر كان يتنزل في الحل قرب الحرم، فإذا أراد الصلاة دخل حدود الحرم فصلى، قال في الفروع: وظاهر كلام أصحاب أحمد " في المسجد الحرام " أنه نفس المسجد، ومع هذا فالحرم أفضل من الحل، فالصلاة فيه أفضل، ولهذا ذكر في المنتقى قصة الحديبية من رواية أحمد والبخاري: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل ".
وذكر ابن الجوزي: أن الإسراء كان من بيت أم هانئ عند أكثر المفسرين، فعلى هذا المسجد الحرام والحرم كله مسجد.(3/658)
وذكر القاضي وغيره: مرادهم في التسمية لا في الأحكام.
وقد يتوجه من هذا حصول المضاعفة بالحرم كنفس المسجد، وجزم به صاحب الهدي من أصحابنا، لاسيما عند من جعله كالمسجد في المرور قدّام المصلى وغيره.
أما فضيلة الحرم فلا شك فيها.
وروي في المختار بسنده إلى ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة، والماشى سبعون حسنة من حسنات الحرم)) قيل: يا رسول الله ما حسنات الحرم؟ قال: ((الحسنة فيها بمائة ألف حسنة)) هـ.
وقال عطاء بن أبي رباح: الحرم كله مسجد.
اختلف العلماء: هل الذي حرّم مكةَ وحَرَمَها – بأمر الله تعالى – هو إبراهيم عليه السلام وكانت قبل دعوته حلالا أم ما زالت حرما؟
فمن رأى أنها حرمت بدعوة إبراهيم استدل بمثل قوله تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا} [إبراهيم: 35] وبما رواه مسلم عن جابر ((إن إبراهيم حَرّمَ مكة، وإني حرمت المدينة)) .(3/659)
وبما في الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة ما بين لابتيها)) واللفظ للبخاري.
وأما من يرى أزلية تحريمها قبل إبراهيم فيستدل بما جاء في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين فتح مكة: ((هذا بلد حرمه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض، وهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة)) وبما جاء في الصحيحين أيضًا عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس)) ، والجمع بين هذه الأدلة أن يقال: إنها كانت محرمة منذ خلق الله السماوات والأرض، وكان تحريمها خفيا مهجورا، فأظهره الله تعالى على لسان رسوله وخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
خصائص الحرم وأحكامه
1107- أولا – فضله وكرامته وأن العبادة فيه أفضل من العبادة في الحل، وهذا باتفاق العلماء.
ثانيا – مضاعفة الأعمال الصالحة فيه كمضاعفتها بالمسجد الحرام وهذا قول طائفة من أهل العلم.(3/660)
ثالثا – عظم السيئات وغلظها وشدتها فيه، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] .
قال ابن مسعود: لو أن رجلا أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن لأذاقه الله من العذاب الأليم، ولما هَمّ أصحاب الفيل بتخريب البيت أرسل الله عليهم طيرا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، وقد دمرتهم قبل أن يصلوا أو يعلموا. ولقد جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يغزو هذا البيت جيش، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم)) ، فأمر هذا البيت وحرمه عظيم، رزقنا الله فيه الاستقامة، آمين.
رابعا – تحريم صيده على المحرم والحلال، وهذا بإجماع العلماء.
خامسا – تحريم قطع شجره وحشيشه الأخضرين إلا الإذخر، واستثنى بعض العلماء ما له شوك فلا يحرم، فيقاس على الحيوان المؤذي، ويُستثنى ما أنبته الآدميُّ فلا يحرم.
سادسا – يكره إخراج تراب وحجارة الحرم إلى الحل، كما يكره إدخال حجارة وتراب الحل إلى الحرم، وهذا حكم له وجه صحيح من النظر.
ولذا أرى أن ينبه ولاة الأمور على أصحاب المباني ومقاولي البناء وأصحاب الأعمال والشركات على ذلك، ليحافظوا على هذا الحكم ولو ببعض ما يستطاع كالبطحاء.
سابعا – يحرم أن يدخله الكافر لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] قال عطاء: الحرم كله قبلة ومسجد؛ فينبغى أن يمنعوا من دخول الحرم لقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] وإنما رفع من بيت أم هانئ.
وله خصائص وأحكام تتعلق بالعبادات والمناسك كثيرة، وهناك خصائص طبيعية لم أتحقق من صحتها تركتها لذلك.
حدود الحرم
1108- هذا هو البحث الجديد الذي ربما أنه لم يُكتب قبل هذه المرة، وإليك البيان، فالهيئتان ابتدأتا عملهما بالبحث عن حدود الحرم من نَمِرَةَ، وهي بفتح النون وكسر الميم بعدها تاء مربوطة.(3/661)
هي المنتهى الشرقي لسلسلة جبال فاصلة بين طريق المأزمين وطريق ضب ويذكر الفقهاء أن على جبالها أنصاب الحرم، إلا أننا لم نجد الأنصاب إلا في السهل الواقع على الضفة الغربية لوادي " عرنة " بالنون، ففي سهل نمرة المذكورة وجدنا أربعة أعلام: علمين قديمين متهدمين لم يبق منهما إلا أنصافهما، وعلمين أَجدَّ منهما، ومن المتفق عليه بين المسلمين أن هذه الأعلام هي أعلام الحرم الفاصلة بينه وبين الحل، فما عنهن شَرّقَ فهو عرنة من الحل، وما عنهن غَرّبَ فهو من الحرم.
ويذكر مؤرخو مكة في كتبهم أن المظفر صاحب إربل أمر بعمارة علمين للحرم من جهة عرفة - بالفاء الموحدة - وذلك سنة ست عشرة وستمائة بعد الهجرة.
ثم اتجهنا نحو الشمال الشرقى نسير على الضفة الغربية لوادي عرنة (بالنون) ، فوصلنا إلى مكان يسمى " الخطم " عنده قرية لآل أبي سمن من قريش، ففى الوقوف الأول الذي هو في صباح عشرين شعبان عام 1385 هـ وجدنا علما قديما متهدما لم يبق منه إلا نحو نصف المتر، أسطواني التصميم مبني بالحجارة والنورة، وهو مسامت لأعلام " نَمِرَة "المتقدم ذكرها، ويبعد عنها بنحو كيلوين.
أما في وقوفنا المرة الثانية الموافقة أربعة وعشرين محرم عام 1399 هـ فلم نجد من العلم المذكور إلا أساسه، وأخبرنا المرافقون أنهم أدركوه بطول القامة، ثم اتجهنا شمالا حتى وصلنا جبلا يسمى " ستر " وقال لنا المرافقون: إن سبب التسمية أنه ستر ما يليه من الحرم عن الحل؛ لأنه حد الحرم من الحل فما سال منه غربا فهو في الحرم، وما سال منه شرقا فهو في الحل.
ووجدنا في جانبيه علمين مصممين تصميما أسطوانيا بين أحدهما عن الآخر نحو عشرة أمتار، والعلمان واقعان في عرض الجبل المذكور.
كما وجدنا فوق قمة الجبل علما قائما على شكل أسطواني أيضًا يبعد عن هذين العلمين نحو خمسة عشر مترا، ثم وجدنا في سفح جبل ستر مما يلي الشمال بمسافة تبعد عن الأعلام الثلاثة مائة متر علما في شكل وتصميم الأعلام الثلاثة قد تهدم بعضه وبقي منه نحو ثلاثة أرباع المتر.
ثم اتجهنا نحو الشمال حتى وصلنا إلى ثينة يقال: أنها تسمى " ثينة عبد الله بن كرز " وهي واقعة في سفح جبل الطارقي، فوجدنا فيها علما على شكل الذي تقدّم قبله لم يبق منه إلا أساسه، ويبعد هذا العلم عن أعلام جبل ستر نحو خمسة كيلوات، وهو واقع عنها شمالا.(3/662)
قال الأزرقي: النبعة بعضها في الحل وبعضها في الحرم، فما سال منه شمالا فهو في الحرم، وما سال منها جنوبا فهو حل، ثم صعدنا جبل الطارقي فوجدنا في شرقيه علما، ثم اتجهنا في أرض مستوية حتى وصلنا إلى علمي طريق نجد والعراق المار بالشرائع، وهما علمان كبيران يمر بهما الطريق العام متجها إلى السيل والطائف والحوية ونجد والعراق وبلاد الشرق، وتقدر المسافة بين هذين العلمين وبين ثينة عبد الله بن كريز بنحو أربعة كيلوات.
ثم اتجهنا إلى جبل " الستار " قال الأزرقي: سمي " الستار" لأنه ستر ما بين الحل والحرم، فوجدنا فيه علما أسطوانيا باقيا لم يندثر إلا قليل من رأسه، وهو في الجانب الشمالي من الجبل، ويبعد جبل الستار عن علمي طريق الشرائع المتجه إلى نجد نحو كيلو ونصف الكيلو، وجبل الستار يقابله شرقا جبل المقطع، ويمر من بينهما حل المستنفرة.
ثم اتجهنا إلى ثينة هي سفح جبل المقطع، وهذه الثينة منتهى الحرم من طريق العراق وسماها الفاكهي " ثينية خل الصفاح " فقال: ثينية خل الصفاح بطرف المقطع منتهى الحرم من طريق العراق.
ثم اتجهنا شمالا مع السفح الغربي لجبل المقطع، حتى وصلنا إلى شعب بين السفح الغربي لجبل المقطع والسفح الغربي لجبل الستار فوجدنا ثلاثة جبال صغار سود يقال لهن: "الغربان"، وتقع شمال جبلي الستار والمقطع، وفي الوسط من هذه الجبال الثلاثة علم قد بني بالحجارة والنورة وهو الآن متهدم.
ثم اتجهنا شمالا إلى ثينة بيضاء، هي الفاصلة بين وادي ثرير وشعب عبد الله بن خالد بن أسيد، فما سال منها شرقا نزل على ملعب لحيان وهو رأس وادي ثرير وهو حِلٌّ، وما نزل منها غربا فهو على شعب عبد الله بن خالد بن أسيد وهو حرم، وتسمى هذه الثينة البيضاء "المستنفرة "قال الأزرقي: المستنفرة ثينة تظهر على حائط " ثرير "، على رأسها أنصاب الحرم، فما سال منها على ثرير فهو حل، وما سال منها على الشعب فهو حرم.
ثم اتجهنا نحو الغرب، فوصلنا إلى ثينية يقال لها: " النقوى "، ونزلنا من هذه الثينة على شعب عبد الله بن خالد بن أسيد، ونحن في هذا السير متجهون نحو الغرب وعلى يميننا سلسلة جبال تحد الشعب المذكور من ضفته الشمالية، فبحثنا في قمم هذه السلسلة فوجدنا فيها أعلاما كثيرة متهدمة، مما يؤكد أن ما سال من السلسلة على شعب عبد الله بن أسيد وهي السفوح الجنوبية فهو حرم، وما سال على السفوح الشمالية فهو حل، فقمم هذه السلسلة سائرة نحو الغرب حتى إلى " التنعيم "، وسنفصلها فيما يلي:(3/663)
بشم: بالباء الموحدة ثم شين معجمة ثم آخره ميم: ريع ينزل على شعب عبد الله بن أسيد، وجد في القمة إلى الثنية علم كالأعلام السابقة، وقد أكد لنا المرافقون أنهم أدركوه علما قائما.
كما أكدوا أن ما سال من هذه القمة شمالا فهو حل، وما سال منها جنوبا فهو حرم. وبين ريع بشم وبين النقوى المتقدمة نحو أربعة كيلوات.
بغبغة: باء موحدة بعدها غين معجمة، ثم باء موحدة ثم غين معجمة ثم تاء مربوطة: قمة حمراء بينها وبين "بشم" نحو أربعة كيلوات. وفي قمة "بغبغة" علم كالأعلام السابقة.
حجلى: شعب فيه علم كالعلمين في بشم وبغبغة. وبين حجلى وقمة بغبغة نحو خمسة كيلوات.
جبال اليسر: قمم جبال متصل بعضها ببعض تبعد عن قمة حجلى بنحو نصف كيلو. وجدنا فيها ثلاثة أعلام مشابهات للأعلام السابقة.
الشرفة: ثنية تنفذ على "وادي ياج" بالياء المثناه التحتية.
قال لنا المرافقون من السكان وأهل الخبرة: ما سال من هذه الشرفة شمالا فهو على وادي ياج فهو حل، وما سال منها جنوبا فهو حرم. ومن جبال اليسر إلى بشم نحو ثلاثة كيلوات.
ثم اتجهنا إلى التنعيم، والتنعيم يمر به الطريق العام المتجه إلى وادي الجموم "وادي مر الظهران"، وهو طريق المدينة المنورة وتسميه الناس " مساجد عائشة "؛ لأن عائشة رضي الله عنها أحرمت منه لعمرتها عام حجة الوداع، لأنه أقرب الحل إلى المسجد الحرام.
قال مؤرخو مكة ومنهم الفاسي وإبراهيم رفعت وطاهر الكردي وغيرهم: إن العلمين الكبيرين اللذين في التنعيم أمر بعمارتهما الخليفة العباسي الراضي، وذلك في عام خمسة وعشرين وثلاثمائة.
قال الفاسي في شفاء الغرام: واسمه مكتوب عليهما.
قال في المنقور نقلا عن جمع الجوامع لابن عبد الهادي: الأعلام المنصوبة عند مساجد عائشة هما علمان كبيران وأعلام صغار متصلة بالجبلين من الجانبين يسميها العامة "خطوات النبي" أو "خطوات علي".
شرفة شيق: ثم اتجهنا من التنعيم غربا مع شعب يقال له: "ملحة" يمتد إلى "شرفة شيق"، وقد وجدنا علمين مندثرين: أحدهما فوق ربوة يبعد عن أعلام التنعيم نحو ثلاثة كيلوات. والعلم الثانى إلى الشمال بنحو نصف كيلو، ثم يتصل الحد إلى شعب شيق.(3/664)
ذات الحنظل: قال الأزرقي: شيق طرف بلدح الذي يسلك إلى ذات الحنظل من يمين طريق جدة. وذات الحنظل ثنية في مؤخر هذا الشعب وأنصاب الحرم على رأس الثنية. اهـ. كلام الأزرقي.
قلت: ذات الحنظل هي ما يسمى الآن "أم الجود"، فما سال من رأس الثنية المذكورة شمالا فهو حرم. وكان رأس الثنية هو أحد مدخلي مكة من المدينة المنورة ووادي الجموم. قال الأزرقى: هو طريق المدينة الغربي، والأنصاب على هذه الطريق على رأس الثنية تسمى ذات الحنظل.
والمسافة بين "التنعيم" وبين "ذات الحنظل" تقدر بنحو خمسة كيلوات.
الرحا: ثم يتجه الحد غربا ليتصل "بالرحا" والرحا: ريع يصب من جهته الجنوبية بذات الحنظل وهو حرم، ويصب بجهته الشمالية في وادي سرف وهو حل. ووجدنا في رأس هذا الريع علمين على يمين الريع وعلى يساره كقبضتي الباب.
قال الأزرقي: الرحا في الحرم وهو ما بين أنصاب المصانع إلى ذات الجيش.
والرحا: ثينة ينفذ منها من بين جبال شاهقة، وهذه الثينة هي كانت طريق المدينة المنورة الغربي كما تقدم، ذكر ذلك عند ذات الحنظل. أما الطريق الشرقي فهو الطريق العام الآن والمار بالتنعيم كما تقدم وصفه.
وبناء على أن هذا أحد مدخلي مكة المكرمة من المدينة ومن وادي الجموم، فقد وجدنا أعلاما كثيرة تزيد عن العشرة على قمم تلك الجبال، فكونها طريقا رئيسيا حظيت بالعناية بكثرة الأعلام لتمييز الحل فيها عن الحرم، فسيل هذه الجبال من الجنوب في الحرم وسيلها من الشمال في الحل.
الْمُرَيْر: ومن ثينة الرحال، يتجه الحرم غربا بسلسلة جبال حتى يصل إلى ثينة المرير، تصغير مر، وعلى قمم هذه السلسلة أعلام كثيرة تزيد عن العشرين مندثرة، وباقي مؤنتها من الحجارة والنورة عندها. وما سال من هذه الجبال شمالا فهو في الحل، وما سال منها جنوبا فهو في الحرم.
ثم بعد ثينة المرير تستمر سلسلة جبال متجهة إلى الغرب تطل على وادي "الجوف"، ووجدنا في قسمها أعلاما كثيرة بين كل علم عن الآخر نحو خمسين مترا وهي مهدمة، وآخر علم منها يبعد "ثينة المرير" بنحو كيلو ونصف كيلو.(3/665)
قال ابن إسحاق في السيرة: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك في ثينة المرار بركت ناقته، فقال الناس: خلأت ناقته، فقال: ((ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها)) .
قال ياقوت: وثينة المرار مهبط الحديبية.
وبعد سلسلة تلك الجبال تستمر حدود الحرم على الأمكنة الآتية:
الراحة: على يمين الذاهب إلى جدة.
الجفة: ردهة يجتمع فيها الماء يقال لها:
النحاير: وبعض النحاير في الحل وبعضها في الحرم، وهي على يمين الذاهب إلى جدة.
الأعشاش: ردهة تتصل من الشرق بالنحائر ومن الغرب بالحديبية، ويسمى الآن " الشميس " بعض الأعشاش في الحرم وبعضها في الحل، فما أقبل من الأعشاش شمالا فهو حل وسيله يتجه إلى مر الظهران، وما أقبل منه جنوبا فهو حرم؛ لأن سيله يصب في المرير من الحرم.(3/666)
الحديبة: ثم اتجهنا إلى "أعلام الشميس" الحديبة، وفيها العلمان الكبيران اللذان يمزجهما طريق مكة – جدة القديم المار بجدة ثم بحرة ثم أم السلم.
ولم أعثر على تاريخ هذين العلمين ولا من بناهما، وإنما الذي وجدته للشيخ طاهر الكردى قوله: يوجد علمان عند الشميس المسمى قديما بالحديبة بطريق جدة، وهما يقابلان الكيلو 19، يعني من مكة.
وهذان العلمان قديمان يقعان في الطريق القديم لقافلة الجمال، ثم إنه في جمادى الأولى من سنة (1376 هـ) ست وسبعين وثلاثمائة وألف بني علمان آخران في مقابلة العلمين القديمين، وبنيا في طريق السيارات المزفلت عند الكيلو 19، وكان ذلك بأمر صاحب الجلالة الملك المعظم سعود بن عبد العزيز آل سعود وفقه الله تعالى لكل خير. اهـ.
قال ياقوت الحموي وغيره: الحديبة قرية متوسطة ليست بالكبيرة، سميت ببئر هناك عندها مسجد الشجرة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه تحتها، وبعض الحديبة في الحل وبعضها في الحرم، وهي أبعد الحل من البيت، وليست في طول الحرم ولا في عرضه، بل هي في مثل زاوية الحرم، فلذلك صار بينها وبين المسجد أكثر من يوم ". اهـ. وتسمى الآن الشميس" بسبب أحجار فيها حمر يعمل منها الرحي.(3/667)
وبئرها المذكور تسمى "الهديبة"، وأخبرني الشيخ محمد حسين نصيف رحمه الله أنه كان يسكن عندها رجل ليس بعربي، وكان يسقى الناس منها ويسميها بلغته "الهديبة"، فنسي الاسم الصحيح وبقي الاسم المحرف.
فتحقق لنا أن في الشميس أربعة أعلام: اثنان قديمان على الطريق الحالي وكان طريق الإبل وغيرها في القديم. والعلمان الآخران بحذوهما من الجنوب أمر ببنائهما الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله.
وبعد أعلام الشميسي اتجهنا جنوبا إلى "أظلم" جبل يمتد من الشمال إلى الجنوب ويقطعه طريق جدة – مكة الجديد السريع، وبين طرفه الشمالي وبين الشميسي نحو ثلاثة كيلوات، أما جبل "أظلم" فيمتد إلى طريق الليث بطول بنحو سبعة كيلوات. ووجدنا عليه سبعة أعلام متهدمة،
وفي الوقوف الأول عام (1385 هـ) لم يكن عند الهيئة تردد في أنه حد للحرم.
أما في هذه المرة عام (1400 هـ) فصار عند الشيخ عبد الله بن منيع والشيخ محمد بن سبيل بعض التردد في كونه حدا، إلا أن المرافقين من السكان وأهل الخبرة لم يترددوا في صحة الحد واعتبارهم إياه حدا يتوارثونه مع وجود الإعلام فيه ومحاذاته لأعلام الشميسي.
الدوقة: ومن سلسلة جبل "أظلم" اتجهنا نحو الشرق مع سهل ممتد، قال المرافقون: إن هذه بلدان لجماعة من الأشراف يقال لهم: العرامطة، يسمى ذلك السهل: "أم هشيم"، حتى وصلنا هضبة تسمى الدومة الجنوبية، ووجدنا فيها علما مندثرا.(3/668)
البشائم: ثم في نفس الاتجاه ذهبنا إلى "البشائم" قال الأزرقي: البشائم ردهة تمسك الماء فيما بين أضاة لبن، بعضها في الحل وبعضها في الحرم.
أضاة لبن: وبالقرب من البشائم في نفس الاتجاه "أضاة لبن" قال الأزرقي: أضاة لبن في طريق اليمن من جهة تهامة، وأنصاب الحرم على رأس جبل غراب بعضه في الحل وبعضه في الحرم.
وقال ياقوت: أضاة لبن من حدود الحرم على طريق اليمن. اهـ.
وقال الفاكهي: وأما لبن فهو في طرق أضاة لبن، والأضاة هي الأرض، ولبن هو جبل طويل له رأسان، والأضاة من أسفله.
غُرَّاب: بضم الغين المعجمة وتشديد الراء: جبل يلي أضاة لبن في الحل وبعضه في الحرم. قال الأزرقي: غراب جبل بأسفل قرية بعضه في الحل وبعضه في الحرم.
البيبان: على نفس طريق اليمن فيها أكمات بينها منافذ تشبه البيبان، وعلى تلك الأكمات أعلام واضحة هي حدود الحرم.
مهجرة: ويليها من الشرق جبل أسمر يقال له: "مهجرة" وفيه علم قديم. ووضعنا عليه مسار حديد في الوقوف الأول عام 1385 هـ. ووجدناه في الوقوف الثاني عام 1400 هـ.(3/669)
صيفي: وفي شرق جبل مهجرة قرن صغير أبيض يقال له: "صيفي" عليه علم وهو في سمت مهجرة نحو الشرق.
عارض الحصن: ثم يمتد حد الحرم من القرن المسمى صيفي إلى سلسلة جبال تمتد من الغرب إلى الشرق يقال لها: "عارض الحصن" فما سال من سلسلة تلك الجبال شمالا فهو حرم، وما سال منها جنوبا فهو في الحل.
والحدود الثلاثة مهجرة وصيفي وعارض الحصن في بلدان زراعية تسمى "الحسينية"
قرن العميرية: ومن عارض الحصن يتصل الحد بضفة وادي عرنة الغربية، وهي نهاية حد الحرم من هذه الناحية، وعلى ضفة الوادي جبل يقال له: "قرن العميرية" نسبة إلى بلاد زراعية تحته.
نمرة: ومن قرن العميرية يسامته على ضفة الوادي المذكور جبال نمرة التي هي حد الحرم، والتي كان منها ابتداء التحديد.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
1109 – وقد اختلف المؤرخون في تحديد قدر المسافات التي بين الكعبة المشرفة وحدود الحرم من كل جهة.(3/670)
ولعل هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف الابتداء من المسجد الحرام إلى تلك الحدود. على أنهم لم يذكروا إلا مسافات الطرق الرئيسية ونحن نذكر تحديداتهم باختصار:
طريق عرفة: قيل: سبعة أميال، وقيل: تسعة أميال، وقيل: ثمان عشرة ميلا، وقيل: أحد عشر ميلا، ولعله أقربهن إلى الصواب.
طريق نجد والعراق: قيل: ستة أميال، وقيل: ثمانية أميال، وقيل: عشرة أميال، وقيل: سبعة أميال، وهو أقربهن إلى الصواب.
طريق الجعرانة: قيل: اثنا عشر ميلا، وقيل: تسعة أميال، وهو أقربهما للصواب.
طريق التنعيم: ثلاثة أميال قريب جدًا.
طريق جدة: قيل: أحد عشر ميلا، وقيل: ثمان عشرة ميلا، وهو أقربهما إلى الصواب.
طريق اليمن: قيل: ستة أميال، وقيل: سبعة أميال، وهو أقربهما إلى الصواب.
وهذا الاختلاف في قدر المسافات إما راجع إلى اختلاف الطرق، وإما إلى تحديد المبدأ، وإما إلى اختلاف في وحدة المقاييس، وإلا فهم متفقون على المنتهى حيث يصلون إلى الأنصاب التي على الطرق الرئيسية.(3/671)
المحصب
1110 – اختلف العلماء في النزول بالمحصب ليلة الرابع عشر من ذي الحجة بعد النزول من منى، هل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من هذا النزول سُنة ومنسك من مناسك الحج فالأفضل اتباعه فيه، أم أنه منزل عادة نزله لأنه أسهل لخروجه من مكة إلى المدينة؟ فبعض العلماء ذهب إلى هذا، وبعضهم ذهب إلى الآخر.
والمحصب هو جزء من "وادي إبراهيم" الداخل من أعلى مكة والخارج من أسفلها. وحده من "المنحنى" الواقع عند قصر آل الشيبي مقر إمارة مكة المكرمة الآن، حتى الحجون الثنية الصاعدة فيما بين مقابر المعلاة، وقد جعل عليها الآن جسر ومساران، وسمي محصبا لأن فيه حصباء.
أما الآن فأصبح هذا المحصب شارعا مزفلتا تحف به المساكن العالية والأرصفة المبلطة ودكاكين ومعارض البضائع والسلع، وازدحم بالسكان والسيارات والمارة ولم يبق للتحصيب فيه مجال، سواء كان سنة أو منزلا عاديا.(3/672)
حدود منى
1111 – صدر قرار من وكيل وزارة الحج إلى مدير الإدارة الفنية في وزارة الحج برقم 522/1 وتاريخ 28/1/1393هـ بشأن إنشاء أعلام لحدود مزدلفة ومنى، لتوضيح حدود هذين المشعرين.
وتشكيل لجنة من وزارة العدل والإشراف الديني بالمسجد الحرام والرئاسة العامة لهيئات الأمر بالمعروف وأمانة العاصمة المقدسة والإدارة الفنية في وزارة الحج.
فشكلت اللجنة المذكورة وقامت بالعمل المذكور وتحقق لديها بموجب قرارها المؤرخ في 25/2/1393 هـ ما يلي:
(أ) ظهر أن مبتدأ منى من جهة مكة المكرمة هو جمرة العقبة، وحدها من جهة مزدلفة ضفة وادي محسر مما يلي منى، ليكون وادي محسر فاصلا بين منى ومزدلفة، وذلك استنادا منا إلى ما جاء عن عالم مكة ومفتيها عطاء بن أبي رباح. قال الأزرقي في أخبار مكة بسنده عن ابن جريح قال: قلت لعطاء بن أبي رباح: أين منى؟ قال: من العقبة إلى محسر. قال: فلا أحب أن ينزل أحد إلا فيما بين العقبة إلى محسر، هذا طولا.
(ب) ظهر أن عرض منى ما بين الجبلين الكبيرين بامتدادهما من العقبة إلى وادي محسر، ليكون ما بينهما من الشعاب والهضاب وما لهما من السفوح والوجوه الموالية لمنى كلها مشعر منى، وليكون كل ما أدخله "وادي محسر" ابتداء من روافده في أصل جبل ثبير حتى يصل إلى حد منى في أصل جبلها الجنوبي بامتداد ضفته الغربية، كل ذلك داخل في حدود منى.
وهذا التحديد استناد إلى ما نص عليه العلماء وطبقناه على الحدود المذكورة بالمشاهدة. قال النووي في المجموع: "واعلم أن منى شعب محدود بين جبلين أحدهما ثبير والآخر الصايح. قال الأصحاب: ما أقبل على منى من الجبال فهو منها وما أدبر فليس منها". اهـ كلامه.
وقد وجدنا أعلاما على ضفة وادي محسر ما بين منى ليست بعيدة العهد، ووجدنا وضعها مقاربا للحد الشرعي فأقريناها وأوصينا أن تجعل الأعلام الجديدة بجانبها، إلا أن تلك الأعلام لم تستوف تمام الحد، فقررنا استيفاء ما بقي منه بالأعلام الجديدة.(3/673)
حدود مزدلفة
1112 – أما حدود مزدلفة من قرار لجنة وزارة العدل والإشراف الديني وهيئات الأمر بالمعروف ووزارة الحج ومندوب أمانة العاصمة المقدسة المشكلة من قبل وكيل وزارة الحج برقم 522/1 في 28/1/1393 هـ فقرر لحدود مزدلفة بقراره المؤرخ في 25/3/1393 هـ ما يلي:
(جـ) ظهر أن مبتدأ حد مزدلفة مما يلي منى هو ضفة وادي محسر الشرقية ليكون الوادي المذكور فاصلا بينها وبين منى، فإذا وصل الوادي المذكور إلى جبل منى الجنوبي، وتغير اتجاهه من الجنوب إلى الشرق جاعلا الجبل المذكور يمينه ومزدلفة يساره، ثم فاض مع سفح الجبل المسمى "دقم الوبر"، حيث يعتدل اتجاهه إلى الجنوب (كما كان) ، فظهر أن ضفة الوادي الشمالية هي حد مزدلفة من هذه الجهة.
كما ظهر أن حد مزدلفة مما يلي عرفات هو مفيض المأزمين مما يليها (يلي مزدلفة) ، كما أن حدها من طريق ضب ما يسامت مفيض المأزمين، وقد وجدنا أعلاما فأبقيناها، وأوصينا بأن تجعل الأعلام الجديدة بجانبها، هذا هو حد الطول.
أما حد مزدلفة العرضي فما بين هذين الجبلين الكبيرين هو مزدلفة.
فظهر لنا أن ما بين حدي مزدلفة طولا وما بين حديها عرضا من الشعاب والهضاب والقلاع والروابي ووجوه الجبال؛ كلها تابعة لمشعر مزدلفة وداخل في حدودها.
وذلك استنادا إلى النصوص التي قمنا بتطبيقها على الحدود المذكورة حين الوقوف والمشاهدة، ومن تلك النصوص ما يلي:
روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وقفت هاهنا وجمع كلها موقف)) .
وروى الإمام مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((المزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن محسر)) .
وروى ابن جرير في تفسيره قال: "عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال "ما بين الجبلين اللذين بجمع مشعر".
وقال في المغني "وحد مزدلفة ما بين وادي محسر ومأزمي عرفة إلى قرن محسر، وما على يمين ذلك وشماله من الشعاب ففي أي موضع وقف أجزأ".(3/674)
وقال الأزرقي: "حد مزدلفة ما بين وادي محسر ومأزمي عرفة، وليس الحدان من المزدلفة، فجميع تلك الشعاب القوابل والظواهر والجبال الداخلة في الحد المذكور".
هذا ما قررناه بخصوص حدود هذين المشعرين العظيمين: منى ومزدلفة. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
بعد هذا أثير موضوع حدي مزدلفة الشمالي الغربي والجنوبي الغربي، ودرس من عدة لجان، وأخيرا درس من هيئة كبار العلماء واشتركت معهم أنا محرر هذه الأسطر (عبد الله بن عبد الرحمن البسام) ، وقائمقام العاصمة المقدسة شاكر بن هزاع، والشريف محمد بن فوزان الحارثي، بصفتهما من أهل البلاد وصاحبا خبرة ودراية بهذه الديار.
وعقد في نفس الحدود مخيم اجتمع غالب أعضاء هيئة كبار العلماء، وأقاموا فيه يومين وقفوا على الحدود ودرسوا الموضوع بما أعد فيه من نصوص وقرارات سابقة وتداولوا الرأي، وذلك برئاسة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
وبعد هذا صدر من المجلس القرار الذي ننقل منه الغرض المطلوب في الموضوع وهو: استمع المجلس إلى نصوص العلماء في تحديد مزدلفة، ورجع إلى محاضر اللجان السابقة، فاطلع على قرار اللجنة المؤرخ في 25/2/1393 هـ، الموقع من مندوب وزارة العدل ورئاسة الإشراف الديني بالمسجد الحرام والرئاسة العام للهيئات بالحجاز ووزارة الحج وبلدية منى.(3/675)
واطلع على المحضر المؤرخ في 11/10/1396 هـ الموقع من رئيس المحكمة الكبرى بمكة وعضو هيئة التمييز وقائمقام العاصمة ومندوب إمارة مكة ومندوب أمانة العاصمة الخاص بالحد الجنوبي الغربي لمزدلفة.
واطلع على المحضر الموقع في 3/11/1402 هـ من فضيلة الشيخ سليمان بن عبيد وفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع وفضيلة الشيخ عبد الله بن بسام، والخاص بالحدين الشمالي والغربي والجنوبي الغربي لمزدلفة.
وانتهى المجلس بالأكثرية على ما رأته اللجنة السابقة في محضر 11/10/1396 هـ أن الحد للجهة الجنوبية الغربية من هذا المشعر يبتدئ من الجهة الشمالية بالجبل المسمى "بقرن" الواقع شرقي وادي محسر والمقابل لدقم الوبر، فيقع دقم الوبر عنه غربا شمالا ويمتد الحد من جهة الجنوب من قمة القرن المذكور إلى خشم الجبل الذي يقع في نهاية الجبال الممتدة من مزدلفة جهة الجنوب، فكل ما وقع شرقي هذا الحد يعتبر من مشعر مزدلفة، وما كان غربيه فهو خارج عنها، وبهذا يتضح أن جزءا كبيرا من حدائق أمانة العاصمة الموجودة هناك داخل في حدود مزدلفة.
وتقترح اللجنة أن الأعلام الموضوعة في الجانب الشرقي الشمالي من وادي محسر يوضع أعلام مماثلة لها بمحاذاتها حتى تصل إلى خشم الجبل الجنوبي الموضح أعلاه. انتهى ما يتصل بحدود مزدلفة من هذا القرار.(3/676)
المعارضون
1113 – توقف عن التحديد جملة وتفصيلا بعض الأعضاء وبعضهم غائب، ولكن حصل القرار المذكور بأكثرية المجلس ممن تم بهم النصاب وعارض في الحد الجنوبي الغربي:
1- الشيخ محمد بن جبير.
2- الشيخ عبد الله بن منيع.
3- الشيخ عبد الله بن بسام (محرر هذه الأسطر) .
ويرون أنه – كما نص العلماء – جميع الحد الغربي لمزدلفة هو " وادي محسر " وأن الحد الجنوبي لمزدلفة هو جبالها الجنوبية المنحرفة خشما جبل مزدلفة الجنوبي، فإذا حاذى الوادي خشم الجبل ثم الحد الجنوبي الغربي لمزدلفة بمحاذاة الوادي لخشم الجبل الغربى، وتسمى تلك الجبال الجنوبية لمزدلفة "جبال المريخيات". وبهذا تكون حدائق أمانة العاصمة كلها داخلة في حدود مزدلفة.
هذا ما نقرره ونعتقده ونرى أن النصوص تدل عليه. والله من وراء القصد.
أما الحد الشمالي الغربي لمزدلفة فقد قرر هيئة كبار العلماء عنه قرارا نأخذ منه قدر موضع الحاجة بما يلي:
في الدورة العشرين لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف من الخامس والعشرين في شوال حتى السادس من ذي القعدة عام 1402 هـ، نظر المجلس في مزدلفة من الناحية الشمالية الغربية بناء على الأمر السامي رقم 11148 في 12/5/1402 هـ. واستمع المجلس إلى نصوص العلماء في تحديد مزدلفة، ورجع إلى محاضر اللجان السابقة، واطلع المجلس على المحضر المؤرخ في 3/11/1402 هـ والموقع من فضيلة الشيخ سليمان بن عبيد وفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع وفضيلة الشيخ عبد الله بن بسام، والخاص بالحدين الشمالي الغربي والجنوبي الغربى.
وفي الدورة الواحدة والعشرين أعاد بحث الموضوع فرأى أن البت فيه ينبغي أن يكون بعد وقوف المجلس على الموقع وتطبيق كلام أهل العلم.
وفي الدورة الاستثنائية السادسة المنعقدة في مكة المكرمة في الفترة من يوم الأربعاء الموافق 3/5/1403 هـ حتى يوم الأحد الموافق 7/5/1403 هـ رجع المجلس إلى كلام أهل العلم مرة أخرى، وإلى محاضر اللجان السابقة، ووقف في المكانين المذكورين عدة مرات واستمع إلى ما لدى كل من فضيلة الشيخ عبد الله ابن بسام والشريف شاكر بن هزاع والشريف محمد بن فوازان الحارثي وانتهى بعد ذلك إلى ما يلي:(3/677)
نظرا إلى أن العلماء قد نصوا على أن حد منى من الجهة الشرقية وادي محسر وحد مزدلفة من الجهة الغربية الوادى نفسه، ونصوا أيضًا على أن حد مزدلفة شمالا جبل ثبير، وحيث أن جبل ثبير ينعطف شمالا قبل أن يصل إلى وادي محسر، فإن المجلس بالأكثرية يرى أن الحد يمتد غربا من منعطف ثبير مارًّا بجنوبي الجبل المقابل لمنعطف ثبير إلى وادي محسر، فما أقبل من الجبال جنوبا فهو من مزدلفة، وما أدبر شمالا فهو خارج عنها. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
رقم القرار – 105 – وتاريخه 7/5/1403 هـ.
وسبق قرار الحد الغربي الجنوبي بالقرار رقم 106 في 7/5/1403.اهـ.
وتأكد هذان القراران بالموافقة السامية بخطاب موجه من رئيس مجلس الوزراء إلى وزير الداخلية برقم 4/986/م في 30/4/1404 هـ. وجاء فيه.
نخبركم بموافقتنا على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء بقراريه رقم 105 – 5/106 في 7/5/1403 هـ بالأكثرية من حيث تحديد مزدلفة من الناحيتين الشمالية الغربية والجنوبية الغربية، وعلى وزارتكم إنفاذ مقتضاه وقد زودنا الجهات المعنية بنسخة من أمرنا هذا للاعتماد فأكملوا ما يلزم بموجبه.
رئيس مجلس الوزراء(3/678)
حدود عرفات
1114 – في عام 1386 هـ تشكل لجنة لتحديد عرفات بناء على تعميد المقام السامي على رئاسة القضاة.
1-الشيخ عبد الله بن عمر بن دهيش – رئيس المحكمة الكبرى بمكة المكرمة.
2-كاتب هذه الأسطر عبد الله بن عبد الرحمن البسام – قاضي المحكمة المستعجلة الثالثة كلاهما مندوبا عن رئاسة القضاة.
3-الشيخ سيد علوى بن عباس مالكي المدرس بالمسجد الحرام.
4-الشيخ أحمد العربي مدير أوقاف العاصمة المقدسة.
5-قائمقام العاصمة الشريف شاكر بن هزاع.
وعدد كبير من أهل الخبرة بالمنطقة من السكان فأحضرنا النصوص من مراجعها من كتب التفسير والحديث والأحكام والمناسك والتواريخ ومعاجم البلدان، وطال ترددنا على مشعر عرفات والوقوف عليه والبحث مع السكان وأهل الخبرة.
وبعد أن قارب الموضوع على أن ينتهي أحيل الشيخ عبد الله بن دهيش على المعاش، ونقلت أنا إلى رئاسة المحكمة الكبرى بالطائف.
فشكلت لجنة أخرى لدراسة الموضوع مرة أخرى وصدر فيها القرار الآتي ما نحتاج إليه منه:
الحمد لله وحده، وبعد؛ فبناء على ما تلقيناه من سماحة رئيس القضاة برقم 3615 في 22/8/1388 هـ نحن عبد الله بن جاسر وسليمان عبيد والسيد علوي مالكي وعبد العزيز بن فوزان، على أمر صاحب الجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز بتشكيل هيئة مؤلفة من طلبة العلم ومن سكان عرفات ومن وزارة الحج والأوقاف والشيخ بابصيل والمهندس فؤاد حوارى واستعرضنا النصوص في حدود عرفات ووقفنا على منتهى جميع جهات عرفات لنا بعد الدراسة:
الحد الشمالي: حد موقف عرفة من جهة الشمال الشرقي هو الجبل المشرف على بطن عرفة المسمى "جبل سعد".(3/679)
الحد الغربي: وحد موقف عرفة من الجهة الغربية وادي عرنة يبتدئ من الجهة الشمالية من ملتقى وادي وصيق بوادي عرنة، وينتهي من جهة الجنوب عندما يحاذي أول سفح الجبل الواقع جنوبي المأزمين وطريق ضب. وتبلغ المساحة لهذا الحد ابتداء من ملتقى وصيق بوادي عرنة من الجهة الشمالية إلى منتهاه من الجهة الجنوبية (خمسة آلاف متر) .
الحد الجنوبي: ويحد موقف عرفات من الجهة الجنوبية الجبال المقابلة للجبل الشمالي ويمتد الحد حتى يلتقي بمجرى وادي عرنة، وبهذا ينتهي الحد من الجهة الجنوبية الغربية.
أما منتهاه الجنوبي الشرقي، فهو من الجهة الجنوبية الشرقية سلسلة الجبال الجنوبية من جهة الشرق التي يخترقها طريق السيارات الذاهبة إلى الطائف.
الحد الشرقى: ويحد موقف عرفات من الجهة الشرقية جبل سعد.
قال محرره: هكذا قالت اللجنة وجبل سعد تقدم أنه حد شمالي ولكن الحد الشرقى لعرفات هو ما ذكره صاحب جغرافية شبه الجزيرة العربية حيث قال: وهناك تحد جبل سعد خلف الوادي "عرفات" وقفله أمامك من الشرق بشكل قوس كبير، وعلى طرف القوس من جهة الجنوب طريق الطائف، فهذا في الحق هو الحد الشرقي لعرفات (1) .
هذا ويعلم أن وجوه الجبال المحيطة بعرفات داخلة في الموقف كما قال ذلك إمام الحرمين، حيث قال: "ويطيف بمنعرجات عرفات جبال وجوهها المقبلة من عرفات. وقال الماوردي عن الشافعي: عرفات حيث وقف الناس من عرفات من جوانبها ونواحيها وجبالها وسهولها وبطاحها وأوديتها". اهـ.
هذا ما ظهر لنا من حدود هذا الموقف العظيم بعد استقصاء للأدلة وتتبع الآثار والمعالم وسؤال أهل الخبرة من سكان تلك الجهة.
هذا ونوصي بأن يوضح على الحدود التي أوضحناها أعلام كبيرة عالية وكتب عليها باللغات المشتهرة بأنها حدود الموقف، وأن يكون بين كل علمين مائتا متر على الحد الأقصى. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) هذا قبل أن يحدث الطريق السريع الذي يجعل جميع عرفات عن يساره للذاهب إلى الطائف.اهـ. عبد الله البسام(3/680)
حدود حمى المشاعر
1115 – الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد، بناء على أمر المقام السامي رقم 4/4/1155 في 18/5/1401 هـ، المبني على خطاب سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد رقم (473/2) في 7/3/1401 هـ.
المتضمن ما جاء بقرار مجلس هيئة كبار العلماء في الدورتين (السادسة عشرة) و (الخامسة الاستثنائية) حول ما رفع من التعديات على أجزاء من المشاعر المقدسة والطرق المؤدية إليها ... إلخ.
وموافقة المقام السامي الكريم على ما جاء فيه من لجنة مكونة من:
1-الرئيس العام لشئون الحرمين الشريفين سليمان بن عبيد.
2-القاضي بمحكمة التمييز عبد الله البسام.
3-القاضي بمحكمة التمييز عبد الله المنيع.
4-وكيل إمارة منطقة مكة المكرمة حمد بن محمد الشاوي.
5-أمين العاصمة المقدسة عبد القادر كوشك.
6-قائمقام العاصمة المقدسة الشريف شاكر بن هزاع.
7-مندوب عن وزارة الحج والأوقاف.(3/681)
للنظر والقيام بما يلي:
وذكر أشياء يهمنا منها هنا ما يلي:
إزالة جميع التعديات التي حدثت على المشاعر وطرقها وما ينبغي أن يكون من مرافقها وحماها، وقد أوصى المجلس اللجنة المذكورة بالاهتمام بالعناية بها والاهتمام بأمر المشاعر والمحافظة عليها في الحاضر والمستقبل، وملاحظة الاحتياط في العمل والإسراع في إنجازه، وبعد ذلك تبدأ اللجنة بكامل أعضائها بدراسة الموضوع.
وقامت بعدة استطلاعات على مشعري عرفة ومزدلفة وما يجب أن يكون حمى لها وبعد تداول الرأي وتبادل المشورة والاستماع إلى وجهات النظر تقرر ما يلي.
ثالثا: فيما يتعلق بحمى المشاعر من طرق ومواقف للسيارات ومرافق عامة، فيكون الحد الغربي لها الطريق العام المسمى شارع مزدلفة الممتد من دقم الوبر جنوبا حتى يصل إلى جسر الشارع العام طريق الطائف السريع، ثم ينعطف شرقا مع الشارع طريق الطائف المذكور ليشكل حدا جنوبيا، حتى يصل إلى جسر مفرق الطريق المؤدي إلى جدة الواقع جنوب شرقي عرفة، ثم ينعطف إلى الشمال مع سلسلة جبال ملحة حتى يتصل بجبل سعد، ويمتد هذا الحد إلى أن يصل إلى ملتقى "وادي وصيق" بوادي عرنة ثم يمتد متجها إلى الجهة الشمالية الغربية مع ضفة "فج الحرمان" الشرقية الشمالية، حتى يصل إلى جبل الطارقي، ثم ينعطف الحد غربا حتى يلتقي بوادي سديرة المشهور بوادي المعيصب، ثم يستمر الحد مع وادي المعيصب حتى يصل إلى سفح الناحية الشرقية من جبل ثبير الواقع شمال منى.
وتوصي اللجنة بأن يعهد إلى جهة الاختصاص فتقوم بوضع أعلام على مرافق المشاعر ومحارمها. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
تواقيع اللجنة التاريخ 9/3/1402 هـ.
بعد هذا صدرت الموافقة السامية بموجب خطاب نائب رئيس مجلس الوزراء إلى وزير الداخلية بخطابه رقم 18366 في 2/8/1402 هـ الذي جاء فيه:
يقوم معالي الرئيس العام لشئون الحرمين الشريفين الشيخ سليمان بن عبيد وفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع وفضيلة الشيخ عبد الله بن بسام بالإشراف على تنفيذ ما قررته اللجنة المذكورة ومتابعة العمل ومواصلة الجهود حتى يتم ذلك على الوجه الأكمل. ولموافقتنا على ذلك نرغب إليكم إكمال ما يلزم بموجبه، وقد زودنا كلا من وزارة العدل وأصحاب الفضيلة بنسخة من أمرنا هذا للاعتماد.
نائب رئيس مجلس الوزراء.(3/682)
الجمرات
1116 – الجمرات جمع جمرة: قال في المصباح: هي مجتمع الحصى بمنى، فكل كومة من الحصى جمرة، والجمع جمرات.
قال الشيخ محمد حسن مكرم في كتابه "غيبة الناسك":
الجمرة: موضع الشاخص لا الشاخص، فإنه علامة الجمرة، فإن وقع الحصى في الشاخص ولم ينزل لا يجزئه.
قال في النخبة: محل الرمي هو الموضع الذي عليه الشاخص وما حوله لا الشاخص، وقدروا مجتمع الحصى بثلاثة أذرع، فلو كان في الشاخص طاق فاستقرت الحصاة فيه لم يجزئ.
وقال الشافعي رحمه الله: الجمرة مجتمع الحصى لا ما سال من الحصى، فمن أصاب مجتمع الحصى بالرمي أجزأه ومن أصاب مسائل الحصى الذي ليس هو مجتمعه لم يجزه. والمراد مجتمع الحصى في موضعه المعروف، والذي هو كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حجر الهيثمي: حَدَّهُ الجمالُ الطبري بأنه ما كان بينه وبين أصل الجمرة ثلاثة أذرع فقط.
وهذا من تفقهه وكأنه قرر به مجتمع الحصى غير السائل، والمشاهدة تؤيده، فإن مجتمعه غالبا لا ينقص عن ذلك. وقال ابن حجر الهيثمي أيضًا قول النووي: والمراد مجتمع الحصى المعهود الآن بسائر جوانب الجمرتين الأوليين، وتحت شاخص جمرة العقبة هو الذي كان في عهده صلى الله عليه وسلم.
وقال المحب الطبري: وليس للمرمى حد معلوم، غير أن كل جمرة عليها علم، وهو عمود معلق هناك فيرمى تحته وحوله ولا يبعد عنه احتياطا.
وحده بعض المتأخرين بثلاثة أذرع من سائر الجوانب، إلا في جمرة العقبة فليس لها إلا جانب واحد لأنها تحت جبل.
وقال الشيخ منصور البهوتي: فظهر أن موضع الحصى لا ما سال منه ولا الشاخص كما نص عليه الشافعي رحمه الله تعالى.
وقال الشيخ سليمان بن علي: المرمى الذي يترتب عليه الأحكام هو الأرض المحيطة بالميل المبني ولم أقف على حد ذلك هل هو ذراع أو أكثر أو اقل.
فلو طرح الحصاة على رأس البناء لا يعتد بها لأنها لم تحصل بالمرمى، هذا في الجمرتين، أما جمرة العقبة، فالذي يظهر لي والله أعلم أن المرمى منها الأرض التي في أصل البناء مما يلي بطن الوادى فلو رمى ظهرها لم يعتد برميه. اهـ.(3/683)
قال محرره عبد الله بن بسام: كأن الشيخ سليمان بن علي لم يطلع على أقوال العلماء التي نقلناها وغيرها.
وبعد، فما تقدم من النصوص في بيان وتحديد مكان رمي الجمرات منقول عن علماء مكة المكرمة ويلاحظ منه أمور:
أولا: كان مرمى الجمار الثلاث غير محوط، وكان الناس يرمون الحصى بأصل الشاخص وما قرب منه من الأرض، والعلماء قد اختلفوا في قدر المرمى، فبعضهم يقدره إلى أصل الشاخص بثلاثة أذرع وبعضهم باقل من ذلك والثالث منهم يرون أن الشاخص وأرضه ليسا من المرمى، فلو تعلقت الحصاة في المرمى لم تجز، ولو أزيل الشاخص فرمى مكانه لم يجز، فبينهم في ذلك خلاف طويل جدًا، لاسيما بين علماء الحنفية وعلماء الشافعية. أما الحنابلة فلم نعثر لهم على تقدير وتحديد لموضع المرمى، وإنما يتناقلون عبارة الشافعي المتقدمة.
قال الشيخ محمد شكري إسماعيل حافظ كتب الحرم المكي ؤفى رسالته "الأنهار الأربعة في مرمى جمرة العقبة". الزحمة عند جمرة العقبة يلزم إزالتها بوضع شباك حواليها.
هكذا أفتى كل من العلامة إبراهيم أدهم أفندي قاضي مكة المكرمة، والفاضل إسحاق أفندي قاضي مكة المكرمة، والفاضل إسحاق أفندي قاضي المدينة المنورة، والشيخ الكامل أحمد أفندي الطاغستاني مدرس السليمانية، والفاضل حسن أفندي مدرس الداوودية، والمولوك عبد الحق من أكابر علماء الهند، والفاضل محمد أفندي الشليانى المدرس بالحرم المكي، وغيرهم من العلماء، قال كل منهم: يجب إزالة الزحمة بالشباك، فأحدث في آخر شهر ذي القعدة من شهور السنة إحدى وتسعين ومائتين وألف شباك حديدى، والحامل لهم على ذلك دفع معظم زحمة الرامين لجمرة العقبة، لا لتحديد ذات المرمى، ومساحة يسار العلم إلى جهة منى ما بين ركن العلم والشباك بذراع اليد أربعة أذرع وخمس أصابع ونصف، ويمينه إلى جهة مكة ما بين ركنه والشباك خمسة أذرع، وأما من جهة الوادى ذراع واحد وعشرة أصابع من جهة مكة ومنى وما بين طرفي الشباك مع إدخال مساحة العلم فيه ثلاثة عشر ذراعا وعشر أصابع ونصف. فهذه حدود العلم إلى الشباك.
قال محرره عبد الله بن عبد الرحمن البسام: وقد اعترض على أحداث هذه الشباك بعض العلماء، وأشدهم إنكارا له الشيخ على باصرين عالم مدينة جدة في زمنه، فقال في رسالة له: أن المقصود من وضع ذلك الشباك رفع معظم زحمة الرامين وهو حسن، غير أنه بالتحويط بذلك الشباك وعلى ما يعتبر فيه الرمي وما لا يعتبر؛ يحصل إيهام العوام، فيتوهمون أن جميع ما أحاط به ذلك مرمى، وليس الأمر كذلك.(3/684)
ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فكان يتعين على فاعلي ذلك بالقصد الحسن أن يتداركوا رفع إيهام المفسدة الشرعية بأحد أمرين:
أحدهما: إحداث شباك ثان من حديد يكون بقدر منصوص المرمى المتفق عليه في عرض أساس العلم المبني والثلاثة الأذرع معتبرة من أساس ظاهر العلم إلى جهة الوادي.
الثانى: وضع دكة مرتفعة من حجر على المرمى المذكور بخصوصه ليميز من غيره مما أحاط به الشباك الحادث من الأرض التي لا يجزئ الرمي فيها.
وأما بإزالة هذا الشباك الحادث الموهم. وإذا لم يفعل شباك ثان يحيط بالمرمى المتفق عليه فقط لم يخل بقاؤه على هذه الهيئة من إيهام ما لا ينبغى، فحينئذ يجب أن يفعل شباك ثان ليتميز عن غيره ويندفع ما يخشى من إيهام الشباك الأول.
قال محرره عبد الله بن عبد الرحمن البسام: بعد مناقشة حول وضع هذا الشباك والتحقق أن وجوده يوهم بأن ما حواه كله مرمى أزيل، وأحدث بدله بناء أحواض حول الجمار الثلاثة، وذلك في السنة التي بعدها وهي سنة اثنتين وتسعين ومائتين وألف. ويظهر لى من الرسالة والبحث والمناقشة أن أحواض الجمار لما ثبت عام (1392 هـ) بنيت بشكل واسع ثم اختصرت أحواضها على ما هي عليه الآن.(3/685)
وأرى أن الواجب هو إبقاء المشاعر على ما هي عليه بلا إحداثات فيها.
وكلمة الإمام مالك رضي الله عنه للخليفة كلمة جيدة حينما قال: يا أمير المؤمنين، أخشى أن تتخذ الملوك بيت الله ملعبة.
فالأحداث في المشاعر سبب لاتخاذها من الولاة ملعبة. نسأل الله تعالى أن يحفظ دينه ومشاعره ومقدساته، آمين.
ثانيا: أن الشاخص الذي على الجمرات الثلاث كان موجودا زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقبله.
قال أبو طالب في قصيدته اللامية وهو يعد المشاعر المقدسة ويعظمها:
وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها
يؤمون قذفا رأسها بالجنادل
ثالثا: تقدير المرمى بثلاث أذرع.
أما علماء القرن الرابع عشر الهجري فذكروا وجود هذا الحائط بالمدار على المرمى لأنهم ألفوا كتبهم بعد بنائه.
قال إبراهيم رفعت في كتابه "مكة الحرمين":
الجمار: هي حائط من الحجر ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار في عرض نحو مترين، أقيم على منطقة صخرية مرتفعة عن الأرض بنحو متر ونصف، ومن أسفل هذا الحائط حوض من البناء تسقط إليه حجارة الرجم. اهـ.
وقال الشيخ عبده بن علي العمري الحضرمي في منسكه "دليل الطريق لحجاج بيت الله العتيق" الذي ألف كتابه عام 1355 هـ:
"المرمى: هو المحل المبني فيه العلم - أي العمود - وضبط بثلاثة اذرع من مجموع جوانبه، وقد حوط الآن على هذا المقدار بجدار قصير فالمرمى يكون داخله.
وهذا في غير جمرة العقبة أما هي فلها جهة واحدة وعليه دائرة أمامها، فالمرمى يكون في وسط الدائرة تحتها " اهـ.
قلت أنا محرر هذه الأسطر عبد الله بن بسام: وقد أدركت جمرة العقبة وهي في سفح العقبة المذكورة والجمرة في جهتها الغربية الجنوبية وقد أزيلت العقبة المذكورة وجعل وراء الجمرة ما يلي الشمال الشرقي قاعدة بناء لمنع الرمى من خلفها.(3/686)
قال العالم المعاصر الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر:
قولهم: ترمى جمرة العقبة من فوقها، وذلك أن هناك عقبة معتلية في جانب الجمرة، وقد أزيلت العقبة في زمننا هذا.
فما ذكره العلماء من رمي جمرة العقبة من فوقها إنما كان ذلك قبل إزالة العقبة التي في ظهر الجمرة المذكورة شمالا شرقا. وكان إزالة العقبة في جمادى الأولى سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف هجري.
وإزالة العقبة لصالح توسعة شوارع، وذلك بموجب خطاب من رئيس القضاة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ جاء فيه:
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم رئيس الديوان العام الموقر.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
بالإشارة إلى خطابكم رقم 15/5/3175 وتاريخ 11/8/1375 هـ حول توسيع ما حول جمرة العقبة نفيدكم أنه جرى الاطلاع على قرار رئيس المحكمة الكبرى بمكة بهذا الخصوص، ونرى الموافقة عليه على أساس أن يكون الأخذ من الجبل المذكور الذي تستند إليه جمرة العقبة بطريقة التسهيل فقط، على أساس أن لا يمس الشاخص والحوض وما يليه، ويكون الوصول إلى المرمى من تلك الجهة سهلا وتبقى الجهة التي فوق المشعر المذكور مع العلم أن التسامح في التسهيل المذكور نظرا للحالة الحاضرة ووجود الزحام الذي ينشأ عنه ما ينشأ من أضرار ولولا ذلك بقي كل شيء على ما كان عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تاريخ 1/9/1375 هـ.(3/687)
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رئيس القضاة في خطاب له وجهه إلى أمير مكة المكرمة بتاريخ 2/7/1383 هـ عند الكلام على جمرة العقبة:
يتعين إبقاء المرمى – وهو الحوض – على ما كان عليه فلا يزداد فيه ولا ينقص منه بل يبقى حسب حالته السابقة كنصف دائرة والشاخص في جانبها الشمالي.
أما الشاخص فيبقى على حالته قائما ملاصقا لجدار الجمرة الشمالي
، وينبغى أن يكون إصلاح ما ذكر بحضرة مندوب من قبلنا لإيضاح معنى ما قررناه وتطبيق ما تضمنته الفتوى. والسلام عليكم.
1117 – وقد بحث موضوع أحواض الجمرات في مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية أصدر فيه القرار الآتي:
قرار رقم (127) في 29/6/1405 هـ
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة والعشرين المنعقدة بمدينة الرياض في الفترة من 18/6/1405 هـ إلى 29/6/1405 هـ.
قد نظر في موضوع توسعة حواف دوائر الرجم العلوية في الجمرات وإنشاء مستودعات أرضية لاستيعاب الحصى، وذلك بناء على كتاب المقام السامى رقم 4/237/م في 14/2/1405 هـ، وقد اطلعت الهيئة على البحث الذي سبق أن أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في موضوع الجمرات، وعلى قرار المجلس رقم (12) في 16/4/1393 هـ وبعد المناقشة وتداول الرأى، قرر المجلس بالأكثرية إبقاء ما كان على ما كان وعدم أحداث شيء مما ذكر، سواء عمل مستودعات لحصى الجمار تحت حوض كل جمرة أو توسعة حواف جدار دوائر الرجم من اعلى. ومعلوم أن الحصى متى وصل إلى الحوض أجزأ ولو لم يستقر فيه، وتدحرج وسقط خارجه، وفي الإمكان تخفيف حصى الجمار المتجمع في الاحواض وحولها في جزء من آخر الليل لقلة الناس في ذلك الوقت. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء(3/688)
1118 – من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب الجلالة الملك سعود ابن عبد العزيز حفظه الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد، اطلعت على خطاب الشيخ حمود التويجرى لجلالتكم المؤرخ في 9/11/1376 هـ المتضمن النصيحة حول البناء في منى.
والحقيقة – حفظكم الله – أن ما ذكره هو عين الصواب.
وكما أن المسجد الحرام لا يجوز لأحد أن يبني فيه منزلا فهذا المشعر كذلك، ومن استولى على شيء منه تملكا وصلى فيه فصلاته غير صحيحة؛ لأنه صلى في مكان غصب، فالله الله يا إمام المسلمين في كف هذه الأيدى الغاصبة عن هذا المشعر الذي هو موضع العبادة الخاصة إلى يوم القيامة، واغتصاب شيء منه أعظم من اغتصاب أملاك المسلمين المحترمة.
وبعد أن كثر الحجاج واشتد الزحام على الجمرات فكر المسئولون بإنشاء دورتين للجمرات. فسئل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رئيس القضاة عن ذلك فأجاب بما يلي:
1119 – من محمد بن إبراهيم إلى حضرة معالى وزير الحج والأوقاف:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، اطلعنا على خطابكم رقم 1667/1 في 11/4/1382 هـ حول إنشاء دورتين للجمار الثلاث، كما اطلعنا على صورة الخرائط والمواصفات التي وضعت لهذا المشروع. ونفيدكم أننا لا نرى مانعا من ذلك بشرط الإتيان على الغرض المقصود، والخلو من أي محذور شرعى. وفق الله الجميع، وجعل هذا العمل نافعا. والسلام عليكم.
التاريخ 25/6/1382 هـ.
مقام إبراهيم
1120 – قال الشيخ محمد بن إبراهيم: مقام إبراهيم عليه السلام كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وبعض خلافة عمر رضي الله عنهما في سقع البيت. ثم أخره عمر أول مرة مخافة التشويش على الطائفين، ورده المرة الثانية حين حمله السيل إلى ذلك الموضع الذي وضعه فيه أول مرة.(3/689)
وما دام الأمر كذلك فلا مانع من تأخير المقام اليوم عن ذلك الموضع إلى موضع آخر في المسجد الحرام يحاذيه ويقرب منه، نظرًا إلى ما ترتب اليوم على استمراره في ذلك الموضع من حرج أشد على الطائفين من مجرد التشويش عليهم الذي حمل ذلك الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أن يؤخره من الموضع الذي كان فيه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وصدر خلافة عمر.
وبتأخيره نكون مقتدين بعمر بن الخطاب المأمورين بالاقتداء به، ونرفع الحرج من ناحية أخرى عن الأمة المحمدية التي دلت النصوص القطعية على رفع الحرج عنها.
قال العلماء الآتية أسماؤهم: أما تنحية مقام إبراهيم عن موضعه الآن شرقا مسمتا ليتسع المطاف، فحيث توقف بعض المشايخ في ذلك اتفق الرأى من الجميع على اختصار هذا الهيكل الذي على المقام الآن بجعله مترا في متر فقط، والباقي يبقى توسعة في المطاف، فيكون من المطاف من وجه وزيادة في مصلى الركعتين من وجه خر، إذا فقدت الزحمة صارت صلاة الركعتين فيه وفيما خلفه من المصلى الأول، وإذا وجدت الزحمة انشغل هذا الزائد بالطائفين وصلى المصلون ركعتي الطواف خلفه:
محمد بن إبراهيم آل الشيخ – عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ – عبد العزيز باز – عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر – عبد الله بن عمر بن دهيش – حسن بن عبد الله آل الشيخ – عبد العزيز بن ناصر بن رشيد – علوي عباس مالكي – محمد بن علي الحركان – عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ – أمين كتبي – محمد يحيى أمان.
تاريخ الخطاب المرفق بهذا القرار في 2/1/1380 هـ.
1121 – هذه فقرات مقتطفة من قرار الهيئة العلمية الآتية أسماؤهم:
جرى البحث فيما يتعلق بتحديد عرض المسعى، فجرت مراجعة كلام العلماء لم نجد للحنابلة تحديدا لعرض المسعى.
وقال النووي في المجموع: قال الشافعي والأصحاب: لا يجوز السعي في غير موضع السعى، لو مر وراء موضع السعي لم يصح سعيه؛ لأن السعي مختص بمكان فلا يجوز فعله في غيره كالطواف.
قال الشافعي في القديم: فإن التوى يسيرا أجزأه، وإن عدل حتى يفارق الوادي المؤدي إلى زقاق العطارين لم يجز.(3/690)
وقال الرفاعي: أن التوى في السعى يسيرا جاز، وإن دخل المسجد أو زقاق العطارين فلا. والله أعلم.
وقال الرملي الشافعى: لم أر في كلامهم ضبط عرض المسعى وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج إليه، فإن الواجب استبعاد المسافة التي بين الصفا والمروة كلها، ولو التوى في سعيه عن محل السعي يسيرا لم يضر، كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه.
وقال في تحفة المحتاج: الظاهر أن التقدير لعرضه بخمسة وثلاثين أو نحوها على الترتيب، إذ لا نص يحفظ من السنة فلا يضر الالتواء اليسير بخلاف الكثير فإنه بخرج عن تقدير العرض ولو على التقريب.
وقال الأزرقي: وذرع ما بين العلم الذي على جانب باب المسجد إلى العلم الذي بحذائه على باب دار العباس بن عبد المطلب وبينهما عرض المسعى خمسة وثلاثون ذراعا ونصف ذراع.
وحيث أن الحال ما ذكر بعاليه ونظرا إلى أنه في أوقات الزحمة عندما ينصرف بعض الجهال من أهل البوادي ونحوهم من الصفا قاصدا المروة يلتوي كثيرا حتى يسقط في الشارع العام، فيخرج من حد الطول من ناحية "باب الصفا" والعرض معا، ويخالف المقصود من البينية بين الصفا والمروة، وحيث أن الأصل في السعي عدم وجود بناء وأن البناء حادث قديما وحديثا، وأن مكان السعي تعبدي وأن الالتواء اليسير لا يضر؛ لأن التحديد المذكور بعاليه تقريبي بخلاف الالتواء الكثير، كما تقدمت الإشارة إليه في كلامهم فإننا نقرر ما يلي:
أولا: لا بأس ببقاء العلم الأخضر الذي بين دار الشيبي ومحل الأغوات، ولا بأس من السعي في موضع دار الشيبي؛ لأن مساحتها في بطن الوادي بين الصفا والمروة، على أن لا يتجاوز الساعي ما كان بين الميل والمسجد مما يلي الشارع العام وذلك للاحتياط والتقريب.
ثانيا: إننا نرى عرض كل ما ذكرناه على سماحة المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم حفظه الله.
الهيئة
علوي بن عباس مالكي – عبد الملك بن إبراهيم – عبد الله بن دهيش.
جلالة الملك المعظم – من خصوص قرار الهيئة في حدود المسعى قد اطلعنا عليه فوجدناه صوابا حفظكم الله.
محمد بن إبراهيم في 23/10/1374 هـ.(3/691)
جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحرية
لفضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود
جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحرية
لقد طلب مني أحد العلماء الأجلاء أن أدلي بدلوي في استنباط طريق الفقه الشرعي في جواز الإحرام بالحج من جدة أو عدمه.
لهذا وجب علي أن أبين للناس ما ظهر لي في حكمه حسب ما وصل إليه علمي، وقد يخفى علي ما عسى أن يظهر لغيري.
" إذ الحق فوق قول كل أحد. وفوق كل ذي علم عليم".
وأنه مما لا خلاف فيه ولا خفاء ما ثبت في البخاري ومسلم، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ميقات أهل المدينة ذو الحليفة وتسمى الآن: آبار علي وميقات أهل الشام الجحفة، وميقات أهل نجد قرن المنازل. وميقات أهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة)) .(3/692)
وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فتح هذا المصران (العراق ومصر) أتوا عمر. فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنًا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنًا شق علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم. فحد لهم (أهل العراق) ذات عرق. وهذه المواقيت المكانية تعد من معجزات النبوة، حيث وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه البلدان قبل إسلام أهلها، كما أشار إليه النظم بقوله:
وتعيينها من معجزات نبينا
لتعيينه من قبل فتح المعدد
لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يفتح في زمنه سوى مكة والطائف، والذي حج مع النبي صلى الله عليه وسلم هم أهل المدينة، وعرب الحجاز ومن يليهم من أهل نجد، وبعض من أسلم من أهل اليمن، فكانوا قليلين بالنسبة إلى الحجاج في هذه السنين.
وهذا التحديد بهذه الصفة، وقع حيث كان حج الناس على الدواب من الإبل والخيل والحمير، ويمرون بهذه الطرق، وهي المواقيت المكانية لسائر أهلها، ولمن مر عليها إلى يوم القيامة.
وقد انتشر الإسلام، وامتد سلطان المسلمين على كثير من البلدان التي لم يقع لها ذكر في التحديد، كمصر، والسودان، والمغرب، وسائر أفريقيا، وبلدان الترك، والهند، وكثير من المسلمين الذين يسكنون في بلدان النصارى، وفي الصين، واليابان، وروسيا، بحيث أنهم في تلك الأزمنة لا يستطيعون حيلة في الوصول إلى مكة، ولا يهتدون إليها سبيلاً، فلم يقع لهم ذكر في التحديد من جهة البحر سوى قوله: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) (1) .
ومن المعلوم أن ركاب الطائرات لا يأتون إلى هذه المواقيت، ولا يمرون عليها.
وقد صار حج جميع أولئك على متون الطائرات التي تحلق بهم إلى أجواء السماء مسافة الألوف من الأقدام في الارتفاع، حتى تهبط بهم على ساحل جدة بحيث لا يمرون بشيء من المواقيت.
والحكم يدور مع علته، ولكل حادث حديث، ولن يعجز الفقه الإسلامي الصحيح الواسع الأفق عن إخراج حكم صحيح في تعيين ميقات يعترف به لحج هؤلاء القادمين على متون الطائرات؛ لكون شريعة الإسلام كفيلة بحل مشاكل العالم ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع بعد أعوام.
__________
(1) رواه مسلم عن ابن عباس.(3/693)
وحاجة تعيين ميقات في جدة للقادمين على الطائرات آكد من هذا كله، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا ويرى كثرة النازلين من أجواء السماء إلى ساحة جدة، يؤمنون هذا البيت للحج والعمرة، لبادر إلى تعيين ميقات لهم من جدة نفسها، لكونها من مقتضى أصوله ونصوصه.
والحكمة في وضع المواقيت موضعها، أنها جعلت بمسالك طرق الناس إلى مكة، فهي كالأبواب إلى دخول مكة المشرفة. وفيها يعمل الحاج عمله في تنظيم دخوله في إحرامه، وما يلزم ذلك من التنظيف والاغتسال، وقلم الأظفار، والطيب، ثم التخلي عن المخيط، ولبس الإحرام المشبه بالأكفان، إزار ورداء، ثم تعليم العوام كيفية الدخول في النسك، وهذه الأعمال تطلب وقتًا ومكانًا، فشرع تعيين المواقيت لها، أو ما علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع نزل بذي الحليفة ميقات أهل المدينة، ضحى، فأقام بها يومه وليلته وبعض اليوم الثاني، بحيث صلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد تلك الليلة حتى صلى الصبح، فلما أضحى من اليوم الثاني اغتسل وتطيب.
وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه "إعلام الموقعين"، قال: فصل في تغير الفتوى واختلافها، بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوايد. قال: "وهذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا يطاق، مما يعلم أن الشريعة الباهرة لا تأتي به؛ لأن الشريعة مبناها على الحكمة والمصلحة للعباد في المعاش والمعاد، وهي عدل ورحمة ومصالح، وكل ما خرج عن العدل والرحمة والمصلحة فليس من الشريعة وأن نسب إليها". انتهى.
وقد يظن بعض من يسمع هذا الكلام، أن العلامة ابن القيم يقول بجواز تغير نصوص الدين وأصوله عن أصله كما سبق إليه فهم بعض الناس. وإنما يعني به: تغير الفتوى في فروع الفقه، مما وقع فيه التسهيل والتيسير في الشريعة نفسها، فما جعل عليكم في الدين من حرج، كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الصور، من ذلك ما روى الإمام أحمد، وأبو داود، والدارقطني، عن عمرو بن العاص، أنه احتلم في ليلة باردة شديدة البرد في عزوة ذات السلاسل، قال: فأشفقت أن اغتسلت أن أهلك، فتيممت وصليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له أصحابي ما صنعت، فقال لي: يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله، ذكرت قول الله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فتيممت وصليت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يقل شيئًا مما يدل على إقراره لهذه السنة بمقتضى سكوته عنها، وهي حقيقة في تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال، إذ الأصل وجوب الغسل لواجد الماء.(3/694)
ومثله ما روى الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، أن سعد بن عبادة ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رويجلا ضعيفًا في أبياتهم زنى بامرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اضربوه حده" فاقل سعد: أنه أضعف من ذلك. قال: خذوا عثكالا فيه مائة شمراخا فاضربوه به ضربة واحدة، ففعلوا.
فقد عرفت كيف تغيرت فتوى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا من حالة الشدة إلى حالة التيسير والتسهيل إذ الأصل في جلد الحد تفريق الضربات حتى تأخذ كل ضربة مكانها من جسده ونظرا لضعف حاله جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم جلدة واحدة بعثكول فيه مائة شمراخ.
وله نظائر كثيرة، وقد أفتى الصحابة بجواز فطر الحامل والمرضع متى خافتا على أنفسهما أو على ولديهما، وليس كل حامل أو مرضع تفتى بهذا.
وهذا هو عين الفقه، ولو حكم بموجبه قاض لرموه بالتشنيع والزراية، ونسبوه إلى عدم الرواية والدراية، وإلى التساهل في أمر الدين، كما أنهم الآن يعيبون كل من أفتى بالتيسير فيما يقتضيه، متى وجد العالم إليه سبيلاً، فيرمونه بالتساهل في أمر دينه، وكونه مستخفًا بحرمات الله وحدوده؛ لأن بعض الفقهاء المتحجرة أفهامهم يميلون إلى التشديد في أقضيتهم وأحكامهم، ويقيدون الشريعة بقيود توهن الانقياد، ويجعلونها ضيقة النطاق.
وقد قال لي أحد الفقهاء في محضر محشود بكبار العلماء، قد عقد للمناظرة في قولي بجواز رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق عند حصول هذا الحشد العظيم، حينما فتحت مشارق الأرض ومغاربها لحج بيت الله العتيق بالآلات الحديثة من السيارات والطائرات حتى ضاقت الأرض، فكان من قول هذا العالم: "أن من تتبع الرخص تزندق"، قاله بمسمع من جميع العلماء الحاضرين، حتى كأن التشديد والغلو من سنة الدين.(3/695)
وخفي على هذا العالم أن هذه كلمة كبيرة عند الله تنادي بإبطال سنة الله التي شرعها لعبادة؛ صدقة منه عليهم، ورحمة منه بهم؛ إذ الرخصة هي التسهيل، وهي ما ورد على خلاف أمر مؤكد لمعارض راجح، وضد الرخصة العزيمة، وهي الأمر المؤكد، ولما نزل قوله سبحانه: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] . ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي صدقة من الله تصدق بها عليكم فاقبلوا صدقته)) . فقصر الصلاة في السفر رخصة، وفطر الصائم في السفر رخصة، وفطر المريض رخصة، والمسح على الخفين رخصة، والمسح على الجبيرة رخصة.
أفيكون من عمل بهذه الرخصة زنديقًا؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، فإن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته. وقد سمى الله الرخصة تيسيرًا في جواز فطر المريض، والمسافر، والشيخ الكبير، فقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
ولما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن. قال لهما: ((يسرا ولا تعسرا)) . وقال يومًا لأصحابه: ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) . فالتيسير متى وجد العالم إليه سبيلاً، وجب أن يفتي بموجبه؛ لأنه من شريعة الدين الذي قال الله فيها: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 8] .
أراد الله تيسيرًا وأنتم
من التعسير عندكم ضروب
ولا ينبغي لنا أن نكون من سجناء الألفاظ، بحيث متى حفظ أحدنا قولاً من أقوال فقهائنا القدماء ليس له نصيب من الدليل والصحة، جعلناه حقًا لا محيص عنه ولا محيد، فنكون من سجناء الألفاظ الذين عناهم العلامة ابن القيم بقوله:
وأكثرهم بسجن اللفظ محبو
سون خوف معرة السجان
والكل إلا الفرد يقبل مذهبا
في قالب ويرده في ثاني(3/696)
جواز جعل جدة ميقاتًا لركاب الطائرات الجوية والسفن البحرية
إنه متى كان أصل فرض الحج موقوفًا على الاستطاعة، وكونه يسقط بجملته عمن لا يستطيعه سقوطًا كليًا بدون استنابة على القول الصحيح. ويسقط عمن يخاف على نفسه خوفًا محققًا، فكذلك سائر واجباته تسقط عمن لا يستطيعها بدون استنابة ولا فدية، ومتى كان الأمر بهذه الصفة، وأن جميع الطائرات التي تحمل الحاج مكلفة حسب النظام بالنزول في مطار جدة، ولا يحيد أحد عن هذا النظام الحكومي، وقد هيأت الحكومة - حرسها الله - للحجاج في مطار جدة سائر ما يحتاجون إليه، من وسائل الراحة والرفاهية، فأعدت لهم المحلات الواسعة المنظمة بالماء للشرب وللوضوء والاغتسال، ومواضع الراحة والصلاة، وكذا الكهرباء والأكل، بحيث يتمكنون من فعل الإحرام براحة وسعة.
ويوجد هناك من العلماء من يرشدهم إلى تعليم الدخول في النسك، وتعليم ما ينبغي لهم فعله، وبيان ما يجب عليهم اجتنابه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في المواقيت: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) (1) . ومن العلوم أن مرور الطائرة فوق سماء الميقات، وهي محلقة في السماء، لا يصدق على أهلها أنهم أتوا الميقات المحدد لهم، لا لغة ولا عرفًا؛ لكون الاتيان هو الوصول إلى الشيء في محله، كقوله سبحانه {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] . فإتيان البيوت هو: الوصول إليها أو دخولها، فلا يأثم من جاوزها في الطائرة، ولا يتعلق به دم عن المخالفة، كما أنه لن يتمكن ركاب الطائرات من الإحرام في بطن الطائرة بين السماء والأرض؛ لكونهم مشغولين بالاضطراب والخوف من خطر الطائرة خشية وقوع الحادث بها، ولن يزالوا في خوف حتى يصلوا إلى ساحل السلامة.
__________
(1) رواه مسلم عن ابن عباس.(3/697)
فمتى كان الأمر بهذه الصفة، وأن القضية هي موضع اجتهاد، وتطلب من العلماء والحكام تحقيق النظر في تعيين الميقات لهؤلاء القادمين على متون الطائرات لحجهم وعمرتهم، ولا أَوْفَقَ ولا أَرْفَقَ مِن جَعْلِ جدة هي الميقات، إذ هي باب الدخول إلى مكة من جهة البحر، فتكون ميقاتًا لجميع القادمين إليها على الطائرات أو البواخر والسفن لتمكن الحاج من فعل ما يسن في الإحرام، أشبه ما فعله عمر حين وقت لأهل العراق ذات عرق، ويجب على جميع الكافة طاعتهم ومتابعتهم على هذا التوقيت؛ لقوله سبحانه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} [النساء: 59] ، فألو الأمر هم: العلماء والحكام الذين تجب طاعتهم في مثل هذا، إذ هو من طاعة الله سبحانه.
وبما أن الحكمة في وضع المواقيت في أماكنها الحالية كونها بطرق الناس وعلى مداخل مكة، وكلها تقع بأطراف الحجاز، وقد صارت جدة طريقًا لجميع ركاب الطائرات، ويحتاجون بداعي الضرورة إلى تعيين ميقات أرضي يحرمون منه لحجهم وعمرتهم، فوجبت إجابتهم، كما وقت عمر لأهل العراق ذات عرق، إذ لا يمكن جعل الميقات في أجواء السماء أو في لجة البحر الذي لا يتمكن الناس فيه من فعل ما ينبغي لهم فعله، من خلع الثياب والاغتسال للإحرام والصلاة وسائر ما يسن للإحرام؛ إذ هو مما تقتضيه الضرورة، وتوجبه المصلحة، ويوافقه المعقول، ولا يخالف نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذه نصحيتي للملوك والحكام، وللعلماء الكرام، والله خليفتي عليهم، والسلام.(3/698)
حكم الإحرام من جدة للواردين إليها من غيرها
القرار الثاني لمجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة
القرار الثاني
حكم الإحرام من جدة للواردين إليها من غيرها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد ناقش في جلسته الثالثة صباح يوم الخميس الموافق 10/4/1402 هـ. والمصادف 4/2/1982 م موضوع "حكم الإحرام من جدة وما يتعرض إليه الكثير من الوافدين إلى مكة المكرمة للحج والعمرة عن طريق الجو والبحر" لجهلهم عن محاذاة المواقيت التي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب الإحرام منها على أهلها ومن مر عليها من غيرهم ممن يريد الحج أو العمرة.
وبعد التدارس واستعراض النصوص الشرعية الواردة في ذلك قرر المجلس ما يأتي:
أولاً: إن المواقيت التي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب الإحرام منها على أهلها وعلى من مر عليها من غيرهم ممن يريد الحج والعمرة، وهي: ذو الحليفة لأهل المدينة ومن مر عليهم من غيرهم وتسمى حاليًا (أبيار علي) ، والجحفة وهي لأهل الشام ومصر والمغرب ومن مر عليها من غيرهم وتسمى حاليًا (رابغ) ، وقرن المنازل وهي لأهل نجد ومن مر عليها من غيرهم وتسمى حاليًا (وادي محرم) وتسمى أيضًا (السيل) ، وذات عرق لأهل العراق وخراسان ومن مر عليها من غيرهم وتسمى (الضريبة) ، ويلملم لأهل اليمن ومن مر عليها من غيرهم.
وقرر أن الواجب عليهم أن يحرموا إذا حاذوا أقرب ميقات إليهم من هذه المواقيت الخمسة جوًا أو بحرًا، فإن اشتبه عليهم ذلك ولم يجدوا معهم من يرشدهم إلى المحاذاة وجب عليهم أن يحتاطوا وأن يحرموا قبل ذلك بوقت يعتقدون أو يغلب على ظنهم أنهم أحرموا قبل المحاذاة؛ لأن الإحرام قبل الميقات جائز مع الكراهة ومنعقد، ومع التحرى والاحتياط خوفًا من تجاوز الميقات بغير إحرام فتزول الكراهة؛ لأنه لا كراهة في أداء الواجب، وقد نص أهل العلم في جميع المذاهب الأربعة على ما ذكرنا، واحتجوا على ذلك بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في توقيت المواقيت للحجاج والعمار، واحتجوا أيضًا بما ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال له أهل العراق: إن قرنا جور عن طريقنا.(3/699)
قال لهم رضي الله عنه: انظروا حذوها من طريقكم. قالوا: ولأن الله سبحانه أوجب على عباده أن يتقوه ما استطاعوا، وهذا هو المستطاع في حق من لم يمر على نفس الميقات، إذا علم هذا فليس للحجاج والعمار الوافدين من طريق الجو والبحر ولا غيرهم أن يؤخروا الإحرام إلى وصولهم إلى جدة؛ لأن جدة ليست من المواقيت التي وقتها رسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا من لم يحمل معه ملابس الإحرام، فإنه ليس له أن يؤخر إحرامه إلى جدة، بل الواجب عليه أن يحرم في السراويل إذا كان ليس معه إزار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل. وعليه كشف رأسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: عما يلبس المحرم؟ قال: لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا الخفاف إلا لمن لم يجد النعلين)) . الحديث متفق عليه.
فلا يجوز أن يكون على رأس المحرم عمامة ولا قلنسوة ولا غيرهما مما يلبس على الرأس. وإذا كان لديه عمامة ساترة يمكنه أن يجعلها إزارا يتزر بها، ولم يجز له لبس السراويل، فإذا وصل إلى جدة وجب عليه أن يخلع السراويل ويستبدلها بإزار إذا قدر على ذلك، فإن لم يكن عليه سراويل وليس لديه عمامة تصلح أن تكون إزارا حين محاذاته للميقات في الطائرة أو الباخرة أو السفينة؛ جاز له أن يحرم في قميصه الذي عليه مع كشف رأسه، فإذا وصل إلى جدة اشترى إزارا وخلع القميص وعليه عن لبسه القميص كفارة، وهي إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من تمر أو أرز أو غيرهما من قوت البلد، أو صيام ثلاثة أيام، أو ذبح شاة، هو مخير بين هذه الثلاثة كما خيّر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة لما أذن له في حلق رأسه وهو محرم للمرض الذي أصابه.(3/700)
ثانيًا: يكلف المجلس الأمانة العامة للرابطة بالكتابة إلى شركات الطيران والبواخر بتنبيه الركاب قبل القرب من الميقات بأنهم سيمرون على الميقات قبل مسافة ممكنة.
ثالثًا: خالف عضو مجلس المجمع الفقهي الإسلامي معال الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء في ذلك، كما خالف فضيلة الشيخ أبو بكر محمود جومي عضو المجلس بالنسبة للقادمين من سواكن إلى جدة فقط، وعلى هذا جرى التوقيع والله ولي التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(توقيع)
محمد علي الحركان (1)
نائب الرئيس - (اعتذر لمرضه)
رئيس مجلس المجمع الفقهى
عبد الله بن حميد
- الأعضاء
-
(توقيع)
عبد العزيز بن عبد الله بن باز - (تخلف عن الحضور)
مبروك العوادي
(توقيع)
محمد بن عبد الله بن السبيل - (حضر بعض الجلسات واعتذر)
عبد القدوس الهاشمي(3/701)
(1) مع التحفظ في وجوب الفدية على لبس القميص في هذه الحالة، حيث أنه مضطر لعدم وجود ملابس الإحرام حين عقده وخلعه حين وجود الملابس لما ذكره في الفروع، حيث قال: فإن احرم في قميص ونحوه خلعه ولم يشقه ولا فدية؛ لأن يعلى بن أمية أحرم في جبة فأمره النبي بخلعها. متفق عليه. ولأبي داود: فخلعها من رأسه ولم يأمره بشق ولا فدية. اهـ.
(توقيع)
مصطفى أحمد الزرقاء (توقيع)
أبو بكر محمود جومي
(تخلف عن الحضور)
أبو الحسن على الحسنى الندوي (تخلف عن الحضور)
محمود شتيت خطاب
(توقيع)
محمد رشيد قباني (توقيع)
محمد محمود الصواف
(توقيع)
صالح بن عثيمين (توقيع)
محمد رشيدي
(توقيع)
محمد الشاذلي النيفر (تخلف عن الحضور)
حسنين محمد مخلوف
- (توقيع)
محمد سالم عدود
(مقرر المجمع الفقهي الإسلامي)
محمد عبد الرحيم الخالد نائب الرئيس
محمد علي الحركان(3/702)
المناقشة
الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة
11 صفر 1407 هـ/14 أكتوبر 1986م
الجلسة المسائية الثانية بعد المغرب
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين.
الموضوع الذي أمامنا هو الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة. هل يكون ميقاته من جدة أو يكون من المواقيت أو إذا حاذى المواقيت سواء كان جوًا أو بحرًا. وهذه المسألة هي كذلك من المسائل التي طرحت في مجمع الفقه الإسلامي بمكة، ولها تاريخ طويل، وأعد فيها هنا عدة بحوث، ونرجو من فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء أن يتفضل بعرض موجز عن هذه القضية وشكرًا.(3/703)
الشيخ مصطفى الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم.
إخواني الكرام، استهللت أنا بحثي ببيان حكمة الله تعالى والإسلام في الإحرام وكونه قبل الوصول إلى البيت العتيق، هذه الحكمة استعرضتها بشيء بسيط، يعني بكلام لطيف، وبينت أن هذه فيها تعظيمًا للبيت قبل الوصول إليه، وفيها التهيؤ لهذا التجرد الذي أوجبه الإسلام على الإنسان في ملابسه ورفاهيته وما إلى ذلك حتى يمثل يوم الحشر كيف يلقى ربه لكي يقبل متجردًا عن هذه الدنيا هو رمز للتجرد عن هذه الدنيا.
وكما هو معلوم أشرت إلى هذا إشارة عابرة، ثم بينت أن كلامي في هذا الموضوع سوف يحدد بأني سأقتصر فقط لا غير على بيان حكم الإحرام وميقاته للقادم جوًا بالطائرة، دون الوسائط الأخرى البرية ودون التكلم عن بقية أحكام الإحرام؛ لأن هذه ليست محل بحث، ورأيت أن كثيرين لما يبحثون عن موضوعنا الأساسي وهو القادم بالطائرة يتعرضون لأحكام الإحرام بوجه عام، مما هو ليس محل بحث، وإنما هو إطالة فقط بدون جدوى، بعد ذلك بينت قلت:
مما لا خلاف فيه بين أئمة السلف من محدثين وفقهاء أن المواقيت المكانية للإحرام قد حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم للقادمين من جهات أربع كما يلي:(3/704)
ذو الحليفة لأهل المدينة من أرد منهم الحج أو العمرة، الجحفة لأهل الشام، قرن المنازل لأهل نجد من الشرق، يلملم لأهل اليمن.
وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حددها أن هذه الحدود هي مواقيت لأهل تلك الجهات ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دون ذلك، أي من كان مقامه في موضع يقع بين أحد هذه المواقيت وبين مكة، فإنه يحرم في مقامه ذلك، حتى إن أهل مكة يهلون من مكة. أخرجه البخاري في باب مهل أهل مكة عن ابن عباس إلى آخر مما هو مدون، ومسلم والنسائي يعني أهل السنن.
واضح، قلت: أن حديث المواقيت هذا لا يشمل بالنص إلا أهل تلك المواقيت ومن مر بها فقط، فليس فيه شيء عمن لا يمر فعلاً بأحدها، ولكنه حاذى من قريب بعض تلك المواقيت، فإلحاق المحاذاة بالمرور إنما تقرر بالاجتهاد.(3/705)
فقد روى أئمة الحديث أن عمر رضي الله عنه هو الذي حدد ذات عرق ميقاتًا لأهل العراق لمحاذاتها قرن المنازل اجتهادًا منه، وذلك بعد فتح العراق، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فتح هذان المصران الكوفة والبصرة أتوا عمر بن الخطاب فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنًا، وإنه جور عن طريقنا – أي مائل – وإن أردنا أن نأتي قرنًا شق علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم. قال: فحد لهم ذات عرق. وروى الإمام الشافعي رضي الله عنه في الأم عن ابن جريح عن ابن طاوس عن أبيه قال: لم يوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات عرق، ولم يكن حينئذ أهل مشرق، فوقت للناس ذات عرق.
وروى الشافعي أيضًا مثل ذلك عن أبي الشعثاء في الأم وهذا الإحالة عليه. وهناك من الأئمة من يرى أن تحديد ذات عرق مهلا لأهل المشرق وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس اجتهادًا من عمر؛ ولكن بينت أن أهل الحديث يضعفون هذه الرواية، ولم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد ذات عرق.(3/706)
يتضح مما تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدد مواقيت مكانية إلا للقادمين برًا، وأؤكد على كلمة "برًا"، من أطراف شبه الجزيرة العربية الثلاثة، وهي الشمال والشرق والجنوب فقط؛ لأن هذه الجهات الثلاث هي التي يمكن إذ ذاك - وأقول: إذ ذاك وأؤكد عليها أيضًا - أن يأتي منها المسلمون حجاجًا أو معتمرين. وقد حدد للقادمين من الشمال ميقاتين: واحدًا لأهل المدينة ذا الحليفة، وآخر لأهل الشام الجحفة؛ لأن الشام كان فيه لأهل الحجاز رحلة الصيف التجارية، فقد يعودون من الشام قاصدين حجًا أو عمرة.
فهؤلاء عندئذ إما أن يأتوا من طريق يثرب فيتبعون ميقات أهلها، وإما أن يأتوا من طريق أخرى لا تمر بيثرب، فجعل الجحفة عندئذ ميقاتًا لهم، وهي قريب من مكة.
أما جهة الغرب فلم يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم لها ميقاتًا مكانيًا؛ لأن الجهة الغربية بحر وفي الغرب منه أفريقية التي لم يصل إليها الإسلام إذ ذاك، ولا يعلم ما سيكون من أمرها إلا الله. وقد حد الفقهاء فيما بعد لأهل مصر والمغرب إذا جاءوا بطريق البحر ميقات أهل الشام وهو الجحفة؛ لأنه طريقهم الطبيعي إذ ذاك قبل شق قناة السويس في عصرنا هذا.(3/707)
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم – كما هو معروف – لا يرغب أن يقرر أحكامًا مسبقة لأمور غير واقعية، حتى إنه لم يكن يرغب أن يسأل عما سكت عنه، بل كان يترك ذلك للاجتهاد في ضوء سنته الشريفة ومقاصد الشريعة المستفادة من كتاب الله تعالى الحكيم، وخاصة منها دفع الحرج، كما نَوّه به القرآن العظيم. ومعروفة قصة الصحابي الذي سأل عن الحج حين أوجبه الله على من استطاع إليه سبيلاً: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال له: ((لو قلت: نعم، لوجب عليكم، ولما استطعتم)) . وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح أحاديثه: ((إن الله حد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم فلا تسألوا عنها)) أي لا تسألوا عنها قبل وقوعها، فإذا وقعت فاجتهدوا برأيكم وعلمكم، أو اسألوا عندئذ أهل الذكر والعلم، أي بعد وقوعها، وليس المراد عدم السؤال عنها أبدًا، إذ لو وقعت في مستقبل الزمن واحتيج إلى معرفة حكم الشرع فيها لا بد حينئذ من السؤال عنها والبحث فيها لمعرفة ما يجب بشأنها في ضوء أدلة الشريعة.
ففي ضوء ما تقدم يتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد أيضًا ميقاتًا بحريًا؛ لأن المجيء للحج والعمرة إذ ذاك في حياة الرسول عليه السلام لم يكن بالسفن من جهة البحر الأحمر – بحر القلزم – فيبقى حكمه في المستقبل للاجتهاد أيضًا، إذا قَدّر الله للإسلام أن يمتد غربًا إلى أفريقية، كما حصل فيما بعد، والحمد لله.(3/708)
هذا، وقد قرر الفقهاء أن من لم يمر بأحد هذه المواقيت، بل سلك طريقًا بين ميقاتين، فإنه يتحرى ما يحاذي أحدهما من طريقه بغلبة الظن فيحرم منه، فإن لم يتبين له قال الحنفية: يهل عندئذ بالإحرام على بعد مرحلتين من مكة؛ لأن هذه المسافة هي مسافة أدنى تلك المواقيت إلى مكة.
هذا ما ذكره في الدر المختار الطبعة البولاقية مبين صفحاتها، والمقنع من كتب الحنابلة، والمغني مع الشرح الكبير، والإنصاف للمرداوي.
في ضوء ما تقدم من عرض الواقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من تحديد ما حدده بالنص الصريح من مواقيت الإحرام، وما سكت عنه وتركه للاجتهاد من علماء الأمة، وما حدث من اعتماد المحاذاة باجتهاد عمر رضي الله عنه؛ أقول في ضوء ذلك: إن معالجة قضايا الساعة لا يصح منا أن نعالجها ونقرر لها حلولاً شرعية منطلقين من خلفية مذهبية، أو فكرة مسبقة ننظر من زاويتها إلى القضية المستجدة ونجردها من ملابساتها وظروفها الخاصة، لنجرها جرًا إلى المقعد الذي هيأناه سلفًا لها إلحاقًا وتعميمًا، سواء أكان ملائمًا لطبيعتها وظروفها وملابساتها أم غير ملائم، ولو كان هذا الإلحاق والتعميم سيزج بالمكلفين في مشقة وحرج نفتهما النصوص القطعية في الكتاب والسنة عن هذه الشريعة السمحة الخالدة. فهذا - أي معالجة الأمور بهذه الخليفة المذهبية - لا يجوز.(3/709)
فقضايا الساعة، ومن أكبرها أهمية وحاجة للحلول الشرعية المناسبة اليوم موضوعنا هذا، وهو من أين يجب أن يحرم القادم جوًا بالطائرة إلى الحج أو العمر؟ يجب أن تعالج قضايا الساعة هذه بفكر فقهي حر، كأنما يريد أن يرى النصوص والأدلة المتعلقة بها لأول مرة، مجردًا عن الخلفيات المذهبية والآراء المسبقة التي تتحكم في توجيه فكرة دون أن يشعر، وعليه أن يمعن النظر في النصوص، وأن يتفهمها وفقًا للغة وأساليب البيان المعهودة في وقت ورود النص الشرعي، وما يوحي به للسامع من فهم بحسب القواعد والدلالات العرفية.
هذا إلى جانب الأساس المهم الآخر، وهو مقاصد الشريعة التي دلت عليها النصوص القطعية العامة، والتي لا يمكن عزلها وقطع علاقتها بالنصوص الخاصة إذا أردنا أن نفهمها فهمًا سديدًا، لا نبغي فيه سوى معرفة حكم الشارع والحل الصحيح في القضية المستجدة، سواء وافق تصوراتنا السابقة أو خالفها، فإن التعصب لرأي أو تصور سابق يحجب عن البصيرة الرؤية السليمة والإحاطة بالمسألة من جميع جوانبها وظروفها. فبناء على هذا المنطلق أقول:(3/710)
إن حديث المواقيت المكانية الذي روته كتب السنة الصحيحة، وهو النص الأصلي الوحيد في الموضوع- وأؤكد أيضًا على كلمة الوحيد في الموضوع - لا يمكن أن يعتبر شاملاً للطريق الجوي اليوم، ولو مرت الطائرة القادمة بقاصدي الحج أو العمرة من فوق أحد المواقيت الأرضية، وبالتالي لا يمكن فيه تطبيق حكم المحاذاة لأحد المواقيت تلك المحاذاة التي ألحقها سيدنا عمر رضي الله عنه بالمرور بالميقات، وذلك لما يلي:
أن حديث المواقيت محمول على الطرق المعروفة المألوفة في ذلك الوقت، وهي الطرق البرية التي يمكن أن يسلكها القادمون لحج أو عمرة من أطراف الجزيرة العربية التي مد عليها الإسلام رواقه. وهو في الوقت نفسه لم يحدد ميقاتًا من جهة الغرب، كما سبق أن أوضحته وبينت سببه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد هذه المواقيت للإحرام قد خصها نصًا وصراحة بمن يمر بها فعلاً، وذلك حين قال عليه السلام: ((هن مواقيت لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) .
وهذا الإتيان لا يمكن أن يتصوره أي سامع إلا أنه المرور في الأرض، وإن كان أهل الميقات المقيمين حوله قد وجب عليهم الإحرام منه فمن أتى على هذا الميقات من خارجه، وكان طريقًا له، أصبح هو وأهل ذلك الميقات سواء؛ لأنه قد أصبح بينهم كواحد منهم، فلا يعقل أن يجب عليهم الإحرام من هذا الميقات ولا يجب عليه. وهذا المعنى لا يتحقق إلا فيمن مر بالميقات نفسه أرضًا؛ لأن المرور فوق الميقات جوًا كما تمر الطيور لم يكن في بال أحد من الصحابة أهل اللسان الذين خوطبوا به ولا في حسبانه ولا يمكن أن يتصوره حتى يفهم أنه داخل في هذا التحديد.(3/711)
بل أستطيع القول: إن الطيران بالطائرات التي نسافر بها اليوم لو كان موجودًا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد هذه المواقيت الأرضية لأجل الإحرام؛ لما كان المرور جوًا بالطائرة فوق بقعة الميقات مشمولاً بهذا الحديث؛ لأن المرور بالميقات الذي يجعل المار به كأهل الميقات لا يفهم منه بأسلوب البيان إلا المرور الأرضي فعلاً.
فهذا ما يفهمه أهل اللسان الذين خوطبوا به. وهذا أيضًا ما يفهمه أهل اللسان في اللغة التي جاء بها النص هو أساس في فهم النص عظيم الأهمية لا يمكن تجاهله وتجاوزه.
إن الإمام أبا إسحاق الشاطبي رحمه الله في كتابه الإبداعي الموافقات في أصول الشريعة قد بسط القول في قسم المقاصد من كتابه هذا تحت عنوان "قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام"؛ بسط القول حول أساسين في فهم قصد الشارع لا تجوز الغفلة عنهما وهما:
أولاً: أن هذه الشريعة الإسلامية المباركة عربية، كلامه أنا آتي به، وأن القرآن الحكيم عربي.
ثانيًا: أن هذه الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك.
أما الأول فلقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] . وقد تكرر هذا الإعلان في آيات أخرى.(3/712)
وأما الثاني فلقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا} [الجمعة: 2] . وقد تكرر أيضًا هذا في آيات أخرى. وجاء أيضًا في صحاح الأحاديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((بعثت إلى أمة أمية)) ، وقوله: ((نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا)) هذا كله كلام الشاطبي وقد اختصرت منه بعض مقاطع. ولكن الذي أتينا به كله من كلامه وعباراته بالحرف.
وقد فسر الشاطبي الأمي بأنه منسوب إلى الأم، وهو الباقي على ولادة الأم لم يتعلم كتابًا ولا غيره، فهو على أصل خلقته التي ولد عليها. وفسر الأمة الأمية بأنهم ليس لهم معرفة بعلوم الأقدمين.
أقول: وقد يبدو لأول وهلة أن كون القرآن عربيًا والحديث النبوي عربيًا هو من البديهيات التي لا تحتاج إلى بسط وإيضاح وشواهد وأمثلة وتنبيهات في فصول من كتاب كما فعل الشاطبي رحمه الله في موافقاته.
ولكن الذي يرى النتائج التي بينها الشاطبي رحمه الله بناء على هذين الأصلين الأساسيين في فهم الشريعة، وتنزيل نصوصها في الكتاب والسنة النبوية على منازلها الصحيحة، يدرك عندئذ أن قضية هذين الأساسيين ليست من البساطة والبداهة كما يتراءى لأول وهلة. (فلتنظر الموافقات: 2/64 إلى 107) .(3/713)
وأول هذه النتائج وأهمها يتلخص في أن المقصود هنا من بيان الأساس الأول هو: أن القرآن قد نزل بلسان العرب وأساليبهم البيانية، فطلب فهمه إنما يكون بالطريق التي يفهمه بها من خوطبوا به حين ألقي إليهم، وهم أهل هذا اللسان خاصة على أميتهم وجهلهم بالعلوم والفلسفات التي وجدت لدى غيرهم من الأمم، وبالاصطلاحات والمفاهيم الطارئة حين أسست العلوم ووضعت فيها الاصطلاحات، وحددت لها المفاهيم العلمية في اللغة العربية بعد ذلك. يعني كل هذا لا يجوز أن ينظر إليه في فهم النص العربي.
وهذا يستلزم أن من يكون أكبر فقيه وأرسخ عالم في العصور اللاحقة يجب أن يفهم النص القرآني أو الحديث النبوي كما يفهمه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما يفهمه البدوي الأمي من العرب إذ ذاك؛ لأنهم هم أهل اللسان الذين خوطبوا به، ففهم أي عالم لمدلول النص بعد ذلك، مهما علا كعبه في العلوم وطال باعه، يجب أن يكون تبعًا لفهم ذلك العربي الأول ابن اللسان الذي جاء به ذلك النص وخوطب به.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله في هذا المقام: "فإن قلنا: إن القرآن نزل بلسان العرب، وأنه عربي لا عجمة فيه، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، وبالظاهر يراد به غير الظاهر. وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وأنها تتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره أو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة. وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها. فإذا كان كذلك فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب. والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام في رسالته الموضوعة في أصول الفقه. وإن كثيرًا ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ، فيجب التنبيه لذلك، وبالله التوفيق". هذا كلام الشاطبي في الموافقات نقلته بحرفه.(3/714)
أقول: ومن الواضح أن مثل هذا الاعتبار يجب أن يراعى في فهم كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنزيل أحاديثه الشريفة وهي من جوامع الكلام العربي على هذا الترتيب نفسه في فهم نصوص القرآن.
ثم أفاض الشاطبي في شرحه: إن الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك، إذ لم يكن لهم معرفة بعلوم الأقدمين، وأن تنزيلها على مقتضى حال الذين نزلت عليهم من أميتهم هو الأوفق والأجرى مع رعاية المصالح التي يقصدها الشارع الحكيم.
وقد أوضح العلامة الشيخ عبد الله دراز في تعليقاته، أنه وفقًا لهذا الاعتبار ربطت الشريعة مواقيت الصلاة بالدلائل الحسية المشهودة من الزوال والغروب والشفق، مما لا يحتاج إلى علوم كونية وآلات وتقاويم فلكية.
أقول – من كلامي هذا – وواضح أن الشريعة السمحة الخالدة إذا صلحت للأميين حتى يسهل تطبيقها عليهم، صلحت لغيرهم من أهل العلوم وللناس أجمعين، ولا عكس. وهذا من أسرار آخريتها وصلوحها للخلود، ما دام لبني الإنسان وجود، فجعلت حكمة الله فيما شرع لعباده.
ثم قال الشاطبي بصدد ما تفرع عن أمية الشريعة: " إنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثم عرف فلا يصح أن يجرى في فهمهما على ما لا تعرفه. وهذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب" إلى آخر ما قال. هذا كلام الشاطبي.(3/715)
أقول: بعد هذه المقتطفات من كلام الإمام الشاطبي عن أن الشريعة أمية، وأنها ودستورها وهو القرآن عربيان بالمعنى المشروح، وكذلك بيان رسولها نبي الهدى صلى الله عليه وسلم، نعود إلى موضوعنا الآن حول ميقات الإحرام الواجب للقادم جوًا بالطائرة لحج أو لعمرة في ضوء ما نقلناه عن الشاطبي رحمه الله، فأقول:
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد تلك المواقيت لأهلها، ولمن أتى عليها ومر بها من غير أهلها، وهذا منه بيان وتحديد لقوم أميين، وبلسان عربي مبين، هم أهله الأصليون، وأن علينا وعلى جميع الأجيال المسلمة التي تتلوهم من علماء في الشريعة وفي الطبيعة وفي مختلف العلوم من عرب وأعاجم، علينا أن لا نفهم من نصوص القرآن وكلام الرسول عليه السلام إلا ما يفهمه إذ ذاك أولئك الأميون أهل العربية المخاطبون بها بحسب مألوفهم ومعهودهم وعرفهم، كما يقول الإمام الشاطبي.
وإذا كان كذلك فمن الذي يستطيع أن يزعم أنهم يمكن أن يفهموا من تحديد الرسول لهم تلك المواقيت المكانية أنها شاملة للقادم جوًا بطائرة في مستقبل الدهر إذا اخترع البشر آلة تطير بهم، ومرت بأحد ركابها فوق ميقات أرضي وهو في السماء أو حاذى سمته، من الذي يزعم أنهم يفهمون ذلك، مع العلم أننا أوضحنا قبلاً أن الحديث النبوي المذكور لا يشمل المحاذاة من قريب أو بعيد، بل هو مقصور على أهل تلك المواقيت ومن مر بأحدها، وأن إلحاق المحاذاة لأحد المواقيت بالمرور به فعلاً هو اجتهاد عمر رضي الله عنه.(3/716)
ونحن نضع اجتهاد عمر هذا فوق الرأس والعينين – يعني أنا لا أقصد أن أخالف اجتهاد عمر حاشا لله – ونحن نضع اجتهاده هذا فوق الرأس والعينين، وهو معقول في ذاته؛ لأن ما تقتضيه حرمة البيت المعظم من أن يتهيأ من يقصده لحج أو لعمرة بالإحرام أن يتهيأ له بالإحرام قبل الوصول إليه، هو مما ينبغي أن يستوي فيه كل قاصد، سواء مر بالميقات الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو جاء من طريق أخرى لا تمر به، فجعل المحاذاة لأحد المواقيت هي الحد لغير من يمر بالميقات هي قياس معقول مبني على علة متحددة.
ولكن هذا القياس السليم لا يجوز أن يخرج عن أرضية المسألة، وهي أن تلك المواقيت التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفهم منها أهل اللسان الذين خوطبوا به إلا أنها لأهلها، أي للساكنين فيها، ولمن يمر بها المرور المعتاد الذي لا يعرفون سواه، وهو المرور بها في موقعها على سطح الأرض؛ لأن هذا هو ما تدل عليه لغتهم التي خوطبوا بها حين قال لهم الرسول عن هذه المواقيت: ((هن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) ، ولا يمكن أن يتصور أحدهم إذ ذاك مرور أحد من فوق الميقات وهو طائر في الجو.
وقد رأينا آنفًا قول الشاطبي رحمه الله: "أنه لابد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، وأنه لا يصح أنه يجرى في فهمها على ما لا يعرفونه، وأن هذا جاز في المعاني والألفاظ والأساليب" إلى آخره.(3/717)
فلاجتهاد عمر رضي الله عنه في إلحاق المحاذاة لا يمكن أن يتجاوز الأصل، فكما أن النص الأصلي وهو حديث المواقيت معناه المرور بالميقات فعلاً على سطح الأرض، فإن المحاذاة التي ألحقها به عمر معناها أيضًا المحاذاة ممن يمر فعلا حذو الميقات المرور المعتاد على سطح الأرض؛ ذلك لأن المقيس لا يمكن أن يعطى أكثر من حكم المقيس عليه. فإذا كان نص الحديث النبوي لا يتناول القدوم جوًا، مما لم يكن في حسبان أهل اللسان ولا معهودهم، فكذلك المحاذاة الملحقة بطريق القياس والاجتهاد لا تطبق على طريق الجو الذي لم يكن يتصوره عمر نفسه صاحب هذا الاجتهاد القياسي.
إننى أخلص من جميع ما تقدم بيانه إلى أن القادمين اليوم بطريق الجو في الطائرات لحج أو عمرة لا يشملهم تحديد المواقيت الأرضية التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في الجو، فهي حالة قد سكت عنها النص، وأكرر قولي فهي حالة قد سكت عنها النص؛ لأنها لم تكن في التصور أصلاً، كما سكت عن القادمين من الجهة الغربية إذ لم يكن إذ ذاك مسلمون يقدمون من أفريقية من وراء البحر ولا من مصر، أما الشام فإنه وإن لم يكن فيه مسلمون إذ ذاك قد كانت تجارة قريش وعرب الحجاز قائمة مع الشام في رحلة الصيف، فقد يعودون منه قاصدين جحا أو عمرة، فلذا حدد رسول صلى الله عليه وسلم للقادمين من الشام الجحفة ميقاتًا لهم كما أسلفنا بيانه.(3/718)
وإذا كان القادم جوًا ليس مشمولاً بتحديد المواقيت المكانية لما قد بينا، فهو إذن خاضع للاجتهاد في تحديد ميقات مكاني للقادمين منه بالوسائط الجديدة المبتكرة في عصرنا هذا، كسائر قضايا الساعة التي ليس عليها نص، فيجب أن يقرر الاجتهاد لها الحكم المناسب، وأقول الحكم المناسب، في ضوء أصول الشريعة ومقاصدها وفي طليعتها دفع الحرج.
وفي نظري أن الحكم المناسب في هذا الموضوع، والذي لا يترتب عليه حرج ولا إخلال هو أن القادمين بالطائرة اليوم لا يجب عليهم الإحرام إلا من بعد أن تهبط الطائرة بهم في البلد الذي سيسلكون بعده الطريق الأرضي، أما إذا كان ترانزيت ينزلون في بلد وهم لا يزالون يركبون الجو، فهذا أيضًا لا يشملهم متى وصلوا إلى النقطة التي ليس لهم بعدها إلا الطريق الأرضي، هنا التفصيل:
فإذا هبطت الطائرة بهم في بلد يقع خارج المواقيت يكون عندئذ ميقاتهم للإحرام هو الميقات الذي سيمرون به، أو من الموقع الذي يحاذي أحد المواقيت المحددة لمختلف الجهات، إذا كانوا لا يمرون بأحد تلك المواقيت، وهنا تأتي مسألة المحاذاة أما إذا كان المكان الذي تهبط فيه الطائرة بلدا يقع بعد أحد المواقيت المذكورة أي بينه وبين الحرم فإن ميقاته للإحرام هو ذلك البلد نفسه، فيصبح حينئذ كأهله، فلا يجوز له أن يجاوزه إلا محرمًا.(3/719)
وبما أن المطار الدولي اليوم الذي يهبط فيه الحجاج والمعتمرون، هو في مدينة جدة، وهي واقعة ضمن بعض المواقيت، فإن القادمين بطريق الجو إلى جدة لحج أو لعمرة يكون ميقاتهم للإحرام مدينة جدة، فلا يجوز أن يتجاوزوها إلا محرمين؛ لأنهم يصبحون عندئذ كأهل جدة، فيحرمون من حيث يحرم أهلها.
فلو أن المطار الذي يهبط فيه الحجاج والمعتمرون نقل فيما بعد إلى مكة، لأصبح القادمون جوا كأهل مكة، فيحرمون من حيث يحرم المكيون، أي أن القادم بالطائرة بوجه عام من أي جهة كان قدومه متى هبطت طائرته في آخر مكان لكي يتابع بعده السير بالطريق البري؛ يأخذ عندئذ حكم أهل ذلك المكان بشأن الإحرام.
أما القول بأن عليه أن يحرم وهو في الطائرة في الجو متى مرت الطائرة بأحد المواقيت أو حاذته، فهذا لا أرى دليلاً شرعيًا يوجبه، وهو مبني على تصور أن القدوم جوًا بالطائرة مشمول بالحديث النبوي الذي حدد المواقيت الأرضية. وهذا في نظري رأي غير سليم في فهم النصوص فهما فقهيًا كما سبق إيضاحه، علاوة على ما فيه من حرج شديد وصعوبة قد تصل إلى حد التعذر بالنظر إلى حال الطائرات العامة، ولا سيما الدرجة فيها، وهي التي تأخذها الجماهير، وضيق مقاعدها لاعتبارات تجارية، حتى إن الراكب ينزل في مقعده منها كما ينزل الأسفين في الخشب، ويعسر عليه التحرك في تناول وجبة الطعام، فضلاً عن أن يخلع ملابسه المخيطة ويرتدي الرداء والإزار، وأين في الطائرة مغتسل ومصلى ليقيم سنة الإحرام؟(3/720)
وأغرب من ذلك قول من يقول: إن هذا الحرج يمكن دفعه بأن يحرم بملابسه في الطائرة، ثم يخلعها بعد الهبوط ويفدي بدم جزاء، فمتى كانت هذه الشريعة الحكيمة السمحة تكلف أحدًا بما يشبه المستحيل لتعسره أو تعذره، على أن يخالفه المكلف ويتحمل بدلاً منه جزاء مكلفًا، إن الشريعة الحكيمة براء من مثل هذا التكليف.
وأشد غرابة من هذا رأي من يقول، وكل هذا قد سمعناه،: إن الحل لهذه المشكلة هو أن يحرم من يريد القدوم بالطائرة من بيته قبل ركوبها، فماذا يقول هؤلاء إذا كان قاصد الحج أو العمرة من أهل موسكو أو سيبيريا قادمًا في الشتاء، حيث درجة الحرارة تصل إلى خمسين تحت الصفر بمقياس سنتيغراد؟
هذا ما يبدو لي أنه الوجه الصحيح في هذه القضية واستنباط الحل والحكم الشريعي الذي يناسبها، وأقول: الذي يناسبها، بعد أعمال الفكر منذ سنوات في ملابساتها، وإمعان النظر في الأدلة، والاستئناس بالدلائل، فقد كثر السؤال عنها، وكلما تقدم الزمن سنة ألحت الحاجة إلى البيان الشافي فيها بصورة مدروسة بصيرة لا تسرع فيها ولا ابتسار، ينظر فيها إلى هذه القضية من مختلف الزوايا لا من زاوية واحدة.
وما يدرينا لعل سنوات قادمة غير بعيدة تصبح فيها الطائرات من الوسائل العتيقة البطيئة، ويحل محلها الصاروخ الذي يطوي المسافات الزمانية والمكانية الطويلة والبعيدة يختزلها في دقائق معدودات، كما يتنبأ به كثير من رجال العلم والفكر. وأن ما شهدناه في هذا العصر من عجيب الإنجازات التي كلما تحقق منها شيء لم يكن ليصدق لو رئي في المنام، فَتَحَ تحققُهُ طريقًا لما هو أعجب منه.(3/721)
وهذا الحل الذي ارتأيته بالدليل الذي رأيته - وأرجو أن يكون صوابًا - هو صالح لأن يتمشى مع مختلف الوسائل المبتكرة في النقل والأسفار مهما تطورت، فإن كان صوابًا فمن فضل الله تعالى، وإن كان خطأ فمن قصور فكري وعلمي، واللهُ سبحانه أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل. والسلام عليكم ورحمة الله.
الرئيس:
شكرًا.. فيه سؤلان يا فضيلة الشيخ:
السؤال الأول لم تتعرضوا للقادم بحرا عن طريق البحر.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
يا مولانا أنا لما كتبت هذا البحث كنت متصورًا السؤال في ذهني من السابق أنه عن الجو، وتعرضت إلى البحر عرضًا لكن لم أركز عليه بما يكفي؛ لأني قلت: إنه لم يحدد للجو، الرسول عليه السلام لم يشمل تحديده البحر وبينت السبب لذلك، وقلت: إن الميقات البحري أيضًا غير مشمول بالنص وخاضع للاجتهاد.(3/722)
الرئيس:
لأنكم ركزتم على كلمة، وهو أنه مواقيت أرضية، والبحار لا يطلق عليها أرض.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
نعم، مادام العرب يقدمون بالسفن من البحر الأحمر.
الرئيس:
فهل معنى هذا أن الذين يقدمون في البواخر أن حكمهم حكم نقلهم في الجو؟
الشيخ مصطفى الزرقاء:
نعم، يعني من جدة.
الرئيس:
إذن معنى هذا أنه بيان هذا الحكم في عصر النبوة لم يحصل والقادم في البواخر موجودين، وعلى عهد عمر رضي الله تعالى عنه وعلى عهد أبي بكر وعلى عهد الخلفاء الراشدين.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
عمر رضي الله تعالى عنه ما حدد لأهل البحر أيضًا بطريق إلا بالقياس.(3/723)
الرئيس:
لا أنا أقول: ألا يوجد حجاج يأتون من البحر؟
الشيخ مصطفى الزرقاء:
هو مجال للبحث، أنا أرى أن البحر كالجو غير مشمول بالنص، وأن الحل الأحسن له هو من حيث الوصول إلى البر مثل الطائرة، من حيث ينزل، نفس الحكم، وكلامي يشعر بهذا وإن لم أكن قد ذكرت.
الرئيس:
لا، أنا فقط أردت أن أثير الشهادة.
السؤال الثاني، سلمك الله، في قضية أهل المدينة أنت تعرف أن ميقات أهل المدينة مجاور للمدنية. فاليوم الذي يريد أن يطير من المدينة لا يأخذ ولا دقيقة واحدة وهو فوق الميقات، دقيقة واحدة ما يأخذ ويمشي بعد ذلك أربعمائة كيلو متر إلى جدة يترك الإحرام من الميقات ولا يحرم من جدة.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
إذا أراد أن يطير من المدينة بالطائرة إلى جدة عندئذ هذا لم يمر مرورًا أرضيًا بالميقات، فحكمه حكم من يكون قادم من الجو.(3/724)
الرئيس:
أقل من دقيقة بينه وبين الميقات أو نصف دقيقة.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
ليس هي القضية، الصاروخ قد يصل بثوان ممكن، وقد قرأت كتابًا لبعض العلماء يقدر أنه في سنة 2020 عندئذ ستصبح الأسفار بالصواريخ تحسب بالثواني ما بين القارات.
الرئيس:
شكرًا.. في الواقع قبل أن أعطي الكلمة للشيخ محمد عبده عمر، أحب أن أشير، أعطي ملخصًا عن المرحلة التي مر بها هذا الموضوع من خلال المجمع هذا. فإن هذا الموضوع سبق طرحه في الدورة الثانية، وقُدّمت فيه بعض البحوث التي هي بين أيديكم الآن عدد منها، ثم إنه جرت مداولات بشأنه، وقد رئي تأجيله لأمرين:
الأمر الأول: أنه يحتاج إلى مزيد من الدراسة وقد قدم فضيلة الشيخ عبد الله البسام الدراسة من الوجهة الشرعية في هذا الشأن؛ ولأن هناك أحد الأخوان من السودان الذين يعملون في رابطة العالم الإسلامي بمكة لديه دراسة ميدانية للمواقيت وللخطوط الجوية التي ترد إلى جدة، ليقرر مسألة المحاذاة من عدمها. فدراسة الشيخ البسام وصلت، أما دراسة الأخ السوداني لا يظهر أنها وصلت حتى الآن.(3/725)
المهم أن هذا الموضوع سبق أن طرح في تلك الدورة، كما سبق، وهو من المواضيع التي يبحثها علماء الحرم بمكة - شرفها الله تعالى - والموضوع ليس جديدًا في بحثه، فقد أُلّفت فيه رسائل عدة من علماء مكة، وإضافة إلى ذلك تتابعت عليه الدراسات، وكان آخر دراسة جماعية هي دراسة مجمع الفقه الإسلامي بمكة الذي فضيلة الشيخ مصطفى هو أحد أعضائه. وقد درس هذا في مجمع مكة كما هو بين أيديكم، وقرر المجمع بالإجماع ما عدا عضوين من أعضاء المجلس على إنفاذ مقتضى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في توقيت المواقيت، وعلى أن الذي يقدم في الطائرة فإنه يحرم إذا حاذى الميقات، وقد عمم هذا القرار على سفارات الدول لإعلانه في طائراتها إذا قدموا للحج أو العمرة. وصارت المخالفة لعضوين: فضيلة الشيخ مصطفى، وفضيلة الشيخ أبو بكر جومي في نقطة واحدة فقط، وهي الذين يقدمون إلى جدة عن طريق السواحل، هذا عرض تلخيص كما سبق أو دار في هذا الموضوع. والكلمة لفضيلة الشيخ عبده عمر.
الشيخ محمد عبده عمر:
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، أما بعد:
سيادة رئيس المجلس، فإن كلمتي تتخلص في ثلاث نقاط:(3/726)
النقطة الأولى: هي وصف الأمة الإسلامية بالأمية: سمعنا في حديث الأمس من شيخنا الفاضل الشيخ التارزي في حديث أن الأمة الإسلامية موصوفة بأنها أمة أمية، وأن هذا الوصف لازم لها لا ينفك عنها. أيضًا تأكد هذا الوصف من خلال استدلال شيخنا الفاضل مصطفى الزرقاء، حيث استدل بالآية: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2] . أيضًا قال: إن وصف الأمية للأمة الإسلامية وصف لازم لا ينفك عنها، وعلما بأن الإسلام هو دين العلم. ولا يخفى على فضيلة مشايخ المجمع بأن من الآيات التي جاءت تشير بالعلم وبالتعلم وبأن الدين الإسلامي هو دين العلم لا دين الأمية، وأن الأمية هي وصف مؤقت في ذلك، وليس وصف لازم في كل الأوقات للأمة الإسلامية، فمن هذه الآيات على سبيل المثال قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] . فبدأ جل جلاله بالعلم حتى على التوحيد، قَدّم الله العلم على كلمة التوحيد. فنحن في مجمع إسلامي، وهذه المفاهيم يجب أن تأخذ الصفة العلمية الدقيقة؛ لأنها تحمل إلى جميع بقاع العالم الإسلامي، فوصف الأمة الإسلامية بأنها أمية، وإن وصف الأمة الإسلامية بأنها أمية وأن وصف الأمية وصف ملازم لا ينفك عنها.
أنا هذا الفهم لا يناسبني ولا أنسجم معه، ولا أيضًا النصوص تنسجم ولا الإسلام بكلياته وجزئياته ينسجم مع هذا الفهم.
الرئيس:
أرجو الدخول في الموضوع يا شيخ.(3/727)
الشيخ محمد عبده عمر:
النقطة الثانية: شيخنا الفاضل مصطفى يقول: أن على جميع أعضاء المجلس أن يدخلوا في أي مسألة دون التأثر بأي مذهب كان أو بأي قول سابق، لكنه من خلال حديثه قال حفظه الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يعلم بأن الطيران سوف يكون من فوق هذه المواقيت لقال بعدم توقيت المحاذاة من فوق المواقيت التي حددها عليه الصلاة والسلام، وهذا تحكم منه دون دليل.
النقطة الثالثة: هو أن شيخنا الفاضل قال: إن من حكمة توقيت هذه المواقيت في هذه الأماكن وهو الحديث النبوي الصحيح في صحيح البخاري حدد النبي، أو وقت النبي عليه الصلاة والسلام لأهل المدينة: ذو الحليفة، ولأهل الشام ومصر: الجحفة، ولأهل نجد: قرن المنازل، ولأهل اليمن: يلملم. هذه المواقيت، وقال في الحديث ((هن لهم ومن أتى عليهن من غير أهلهن لمن أراد الحج والعمرة حتى أهل مكة من مكة)) . قال حفظه الله: إن من حكمة توقيت هذه المواقيت إنما المقصود بها تعظيم البيت الحرام، بحيث الإنسان أن يتهيأ وتسبيح الله وتقديسه واستذكار عظمة الله وعظمة ما هو قادم عليه، ثم يتناقض في نفس البحث فيقول: إن القادم عن طريق الطيران ليس بلازم أن يخضع لهذه المواقيت، حتى ولو كان الطيران في مكة عليه أيضًا أن ينزل ويحرم من مكة مثل أهل مكة، علمًا بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولم يوقت عليه الصلاة والسلام هذه المواقيت في هذه الأماكن إلا ليتخذ من النصوص قدوة وأسوة لحرمه البيت العتيق، سواء كان طريق الحاج عن طريق الطيران أو عن طريق المواقيت الأرضية، وأيضًا لو قلنا: إنه فيه فرق بين الطيران وبين المواقيت المحددة، الأوتوبيس والسيارة أيضًا، نحن لا نمشي على الأتوبيس والسيارة وأيضًا الناقة والخيل أيضًا في ذلك الوقت أيضًا الحاج ماشي بين السماء والأرض، فلماذا لم نجعل حكم الطيران مثل حكم الخيل والبغال التي تنقل الحجاج في ذلك الوقت هذا، وشكرًا.(3/728)
الشيخ مصطفى الزرقاء:
يا مولانا نقطة تصحيح إذا أردت … الأخ الكريم حفظه الله وبارك فيه، قال: إنني قلت: إن الرسول عليه الصلاة والسلام لو كان هناك طائرات للنقل تنقل الناس جوًا عندما قال ((هن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) فإن الرسول كان لا يجعل المحاذاة أو المرور بالجو واجبًا فيه. أنا لم أقل هذا، قال: هذا تحكم. أنا ما قلت هذا، أنا قلت: إن الرسول عليه السلام لو كان في عهده طائرات تنقل الناس جوًا، وعبر هذا التعبير الذي نقله الرواة إلينا بأن قال ((هن لأهلهن ولمن أتى عليهن)) أي مر بهن، فهذا التعبير باللسان العربي لا يدخل فيه المرور جوًا، هذا الذي قلته، وما قلت: إن الرسول كان يوجب كذا أو لا يوجب كذا، هذا لم أقله.
الشيخ أحمد محمد جمال:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد؛ في البداية لا بد أن نشكر فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء شكرًا عظيمًا على هذه المحاضرة القيمة في فهم النصوص أولاً، وفي فهم موضوع الأمية والأميين، لكن لا أريد أن أعلق على هذا الموضوع لأنه خارج عن نطاق المسألة المطروحة.(3/729)
ثانيًا: فضيلة الشيخ الزرقاء يقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام حدد المواقيت الأرضية فقط، وأن النص في هذا لا ينسحب على المواقيت للقادمين بطريق الجو والبحر، الواقع لو اتخذنا هذا الفهم في تناول النصوص القرآنية والنبوية لما أجيز لنا كثير من الأعمال أو الأحكام. الرسول عليه الصلاة والسلام يقول ((: جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا)) أفلا نصلي في الطائرة، وهناك نص على أن الأرض فقط للصلاة والطهور. لقد أجيز أن نصلي في الطائرة، وأخيرًا أيضًا أن نصلي في الطابق الثاني والثالث في المسجد والإمام في الطابق الأول. فالقول بأن هذا الحديث النبوي لا يعني إلا المواقيت الأرضية فقط حجر وتضييق من ناحية. فلا بد من الأخذ بأن المواقيت وإن شرعت للمارين بها أرضًا شرعت للمارين بها جوًا وبحرًا، وإذا كانت هناك مصاعب كما تفضل الأستاذ الزرقاء وقام بشرحها للقادمين من بلاد بعيدة كموسكو أو أمريكا، فهؤلاء الحل بالنسبة لهم بسيط وموجود؛ يحرمون من بلادهم وينوون الحج من الطائرة، أي لا يحتاجون إلى اغتسال في الطائرة؛ لأن الطائرة فعلاً ليست مجال اغتسال وتطهر، إنما يحرمون من بلادهم وينوون.
الرئيس:
يتأهبون من بلادهم.(3/730)
الشيخ أحمد محمد جمال:
يتأهبون من بلادهم، وعدد هؤلاء الحجاج بالنسبة للأكثرية قليل جدًا، الذين يحجون من موسكو ومن واشنطن، ولكن الحجاج الذين يردون من بلاد عربية وإسلامية قريبة حول البيت هم الأكثرية، فلماذا نضيق واسعًا؟ هذه ملاحظتي بالنسبة ما دامت أجيزت الصلاة في الجو، فكذلك يجوز اعتبار المواقيت أيضًا للجو وللبحر كذلك.. وشكرًا.
الشيخ عبد الله البسام:
ملاحظة على سماحة الشيخ مصطفى الزرقاء، هو أن العلماء قالوا: إن الهواء تابع للقران، وحتى قالوا: أن لو قف بعرفة جوًا صح حجه، والآن الأعراف الدولية أن الأجواء لا تنتهك تابعة للقران، تابعة لقرانها، ومملوكة كما أن التخوم مملوكة، وكذلك الهواء تابع للقران، والنبي صلى الله عليه وسلم في أحكامه ليس هذا معناه أنه ترك هذه الأشياء لعدم دخولها، أو أنه لا يسبق الحوادث، وإنما ترك هذا لفهم المسلمين. أي عربي يقول: إن النهر كذا وكذا سواء أن كان عن طريق البر أو عن طريق البحر، فهذه اللغة العربية هي الآن تشمل هذا، الطير الفلاني مر بكذا وكذا وطار على كذا وكذا. وشكرًا.(3/731)
الشيخ خليل الميس:
في الحقيقة هنالك فكرتان أشترك فيها مع من عقّب: الأولى كما تفضل فضيلة الشيخ وهي المجال الجوي، الآن نعرف أن أي عبور للطائرات لا بد له من إذْنٍ مسبق هذا معروف والمجال الجوي، وأيضًا أضيف المجال البحري تابع للأرض، ولذلك يسمونه وهذا معروف قصة بنزرت والمناورات حولها.
أمر آخر: التحكم على العرب أنهم يفهمون أولا يفهمون هذا أمر عجيب.
ثالثًا: أستاذنا الجليل بالغ بالنقل عن الشاطبي بحيث كان يكفي جملة واحدة، وإذا بالحديث كله يصير للشاطبي، وأن الأفكار أعيدت مرة ثانية وثالثة ورابعة ويكفي مرة واحدة، وما نقله عن الشاطبي كأنه حجة على المحاضر وليس حجة له. والسلام عليكم.
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
يبدو لي أني يجب عليَّ أن أؤكد ما قاله الأخ الدكتور عمر أن قضية الأمية هي قيد لبيان الواقع، كما هو معروف لدى الجميع، مثل {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] . {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ} [الجمعة: 2] . وهذا يعني غريب في وسط علمي في مستوى القرن العشرين أن نقبل أننا بهذا الوصف والوصف ملازم لنا وإلا كذبه الواقع.(3/732)
ويستحيل أن يصدر عن النبي عليه الصلاة والسلام أمر وهو يخبر عن المستقبل وبيانه معجز وقد أخبر كثيرًا، وقد وقع أنه سيحدث في آخر الزمان كذا وكذا، ثم نقول: إن وصف الأمية ملازم، إذن هذا قيد إن قبلناه فنحن نكذّب هذا الخبر؛ لأن الواقع يكذب خلاف ما كان موجودًا في الأمة الجاهلية، والإسلام بدد ظلمات الجهل. هذا أول شيء.
الشيء الثاني: من البديهيات المقررة لدى علماء الإسلام أولاً ما قاله الأستاذ البسام، أن الوقوف فوق عرفة يجزئ، وأن الصلاة فوق الكعبة المشرفة مجزئة، وأن العلماء قالوا في أحكام المساجد مثل الزركشي وهو معروف ومطبوع في الكويت وكان فضيلة الأستاذ موجودًا هناك، قالوا: المسجد مسجد إلى سابع سماوات وإلى سابع أراضين. ثم ما قاله الشيخ خليل: الأقليم الجوي تابع للأقليم البري، وهناك أقليم أيضًا بحري تابع للأقليم الجوي، الأعراف الدولية الحديثة تقرر ما قرره فقهاؤنا في الماضي.
فأرى أن الحديث واضح كل الوضوح، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام ماذا ننتظر من وعي يقول أبلغ من هذا البيان الشافي الكافي أنه حدد الجهات الثلاث أو الأربع، وأن سيدنا عمر - ونأخذ من كلام فضيلة أستاذنا فعلاً - قاس قضيةَ ذاتِ عرق على قرن المنازل، فَلِمَ لا نحدد الآن الجهات الأربع ونضع مخططًا جغرافيًا لهذه الأماكن أو دائرة تشملها بحيث تكون قرن المنازل مع الجحفة، فإن تجاوز أهل السودان هذا الخط ودخلوا ما يوازي هذا الخط بين يلملم والجحفة فهم تجاوزوا المحاذاة اللازمة.(3/733)
فسيدنا عمر الذي قرر ذلك بالنسبة لأهل العراق نحن أولى أن نقرره بالنسبة لأهل الغرب. وتكون هناك دائرة متخصصة وبالتالي لا يجوز تجاوزها بأي حال، أما الحرج في قضية الإحرام، حجزت وجئت بالطائرة مرات ولم أشعر بهذا الضيق إطلاقًا. اليوم حتى إننا نلبس البنطال نسلت هذا البنطال بسهولة ونحن في مقعدنا الضيق ومعنا كيس بملابس الإحرام ثم نرتديها. أما النساء طبعًا يحرمن بملابسهن فلا حرج. قضية الغسل وصلاة ركعتين هذه سنن وعادة كنت أفعلها قبل خروجي إلى الطائرة في المدينة مثلاً أصلي ركعتي الإحرام وهذا جائز بنية الإحرام الذي سيأتي وأغتسل بالنية التي ستأتي وعند ركوب الطائرة، وخصوصًا أن الطائرة قد تتأخر، إما نحرم من المطار أو نحرم من الجو ولا حرج في ذلك إطلاقًا، فأين المشقة؟ وأين الحرج؟ وأين الضيق؟ وأين الحاجة إلى مثل هذه الأحكام؟ وأعتقد أن رأي فضيلة أستاذنا يمكن يكون تابعًا لرأيه في الصباح. والله سبحانه وتعالى يلهمنا سواء السبيل.
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
نقطة الإحرام من الميقات في الطائرة هذه نقطة الإخوة الأفاضل تحدثوا عنها ولا أكرر، ولكن أقول هنا: إذا كان يتعذر أو من المشقة أن يحرم في الطائرة فهل يقدّم الإحرام قبل الميقات أم يؤخره بعد الميقات؟(3/734)
عندنا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كما نُسَلِّمُ جميعًا أَفْهَمُ الناسِ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندنا: عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس وأم سلمة رضي الله تعالى عنهم جميعًا، ابن عمر أحرم قبل الميقات وابن عباس أحرم قبل الميقات. ابن عمر المعروف بشدائده وابن عباس المعروف برخصه الاثنان التقيا هنا في الإحرام قبل الميقات، وعمر رواية فيها النهي ورواية فيها الأمر.
بالنسبة لسيدنا عثمان الرواية التي فيها النهي رواها الإمام البخاري تعليقًا في باب "الحج أشهر معلومات" قال الإمام البخاري: وكره عثمان رضي الله عنه أن يحرم من خراسان. هنا الباب "الحج أشهر معلومات" وهذا توقيت زماني، ثم وكره عثمان خراسان هذه توقيت مكاني، فقال فقال ابن حجر: ومناسبة هذا الأثر للذي قبله أن بين خراسان ومكة أكثر من مسافة أشهر الحج، فيستلزم أن يكون أحرم في غير أشهر الحج، فكره ذلك عثمان، وإلا فظاهره يتعلق بكراهة الإحرام قبل الميقات، فيكون من متعلق الميقات المكاني لا الزماني. إذن ما ثبت عن سيدنا عثمان والإمام البخاري ذكره تعليقًا.(3/735)
ومعلوم أن ما ذكره تعليقًا وصله ابن حجر وبيّن إسناده في كتاب تعليق التعليق، وفعلاً هنا في الفتح بين أنه وصله سعيد بن منصور وأخذ يتحدث الإسناد. إذن عثمان نهى لأن الإحرام كان قبل الميقات الزماني لا الميقات المكاني، بالنسبة لسيدنا عمر ما روي عنه لم أجد رواية تسقط رواية أخرى، فالأسانيد في مستوى واحد، فليس فيها رواية صحيحة وأخرى ضعيفة حتى نقول ولذلك وعن عمر روايتان. إذن هنا إمكان الإحرام قبل الميقات فعله تلامذة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان هناك طائرات وما كان هناك مشقة، بل أن الذين نهوا عن الإحرام قبل الميقات - كما رأينا فيما بعد - إنما نهوا من أجل المشقة، حيث بيّن هؤلاء بأنه لو أحرم مثلاً في البحر وهو في اللجنة ولم يساحل الميقات ففي ذلك خطر؛ خوفًا من أن ترده الريح فيبقى محرمًا، ويطول إحرامه حتى يتسنى له أن يقلع إقلاعًا سليمًا، وفي ذلك أعظم الحرج المنفي من الدين. إذن الذين نهوا عن الإحرام قبل الميقات لأن للإحرام محظورات، ورأوا أن الوقت قد يطول، وبذلك يمكن أن يكون فيه مشقة. لهذا الفقهاء أجمعوا على جواز الإحرام قبل الميقات، أجمعوا. والإحرام بعد الميقات فيه المنع المعروف.(3/736)
إذن نقول هنا: الذي يركب الطائرة إذا كان الأيسر له الأيسر أن يحرم من بيته فليحرم، أن يحرم من المطار فليحرم، أن يحرم في الطائرة من الميقات فليحرم، فليختر الأيسر، أحرم من بيته فلا حرج، من المطار لا حرج. ومسألة الصعوبة في الطائرة لا أدري كيف أنها صعوبة، يعني الأستاذ الدكتور تكلم عن البنطلون كذا، لا ممكن الأزار وفوق الأزار الجلباب، وفي الطائرة نخلع الجلباب ونضع الرداء بسهولة ويسر بدون أي مشقة. فعلى أي حال هنا الذي أرجو أن يتبناه المجمع الموقر هو أن الحاج بالطائرة له أن يحرم قبل الميقات إذا تعذر أو شق عليه أن يحرم من الميقات وهو في الطائرة، ولا يؤجل هذا إلى ما بعد الميقات. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
الرئيس:
شكرًا، في الواقع أولاً: أحب أن أشير إلى النقطة التي أشار إليها الشيخ علي السالوس، وهي الإحرام قبل الميقات، هي كذلك نفس قرار مكة، قرر الشيء هذا في قراره. الشيء الذي أحبه يا مشايخ في الحقيقة يظهر لي أن الاتجاه العام هو على ما في قرار مكة، يعني هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما يشمل أهل الأرض والبحر يشمل من يأتي عن طريق الجو، فإن رأيتم أنه يعمل التصويت عليه وينهي الموضوع، فهو مناسب.(3/737)
مناقش:
موافقون على قرار مكة.
الرئيس:
خلاص، أنا في نظري أن وجهة المخالفين كشف عنها الشيخ مصطفى، ووجهة الذين يبدو – والله أعلم – أنهم الأكثرية يعني اتضحت بعدد من المناقشات، ولا أظن أن المناقشات ستؤدي إلى رأي ثالث. فأنا أقول: إذا كانت المناقشات في محيط هذين الرأيين فقد تتكرمون بأن ننهي الموضوع بالتصويت، وإذا كان ثمة رأي ثالث فلا حرج.
الدكتور حسن عبد الله الأمين:
هنالك جهات ليس لها قياس صحيح يا مولانا.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم.
استرعى انتباهي ما تفضل به الأخ الكريم الدكتور وهبه الزحيلي من انتقاده على أن تكون الأمية وصفًا ملازمًا لهذه الأمة إلى يوم القيامة، وبين أن هذا يكذبه الواقع ولذلك نحن هنا. أنا نقلت كلام الشاطبي، وكلام الشاطبي ليس كما فهم منه الأخ الكريم الدكتور وهبه الزحيلي، فلا الشاطبي ولا أنا الذي نقلت كلامه وأقررته، لم يقل أحد منا بأن هذه الأمية وصف لازم للأمة إلى يوم القيامة، هذا كلام الشاطبي سأعيد اللقطة التي أخذتها منه، وإنما كان الكلام واردًا من الشاطبي ومما بينته أنا أن العرب الذين نزلت عليهم الشريعة هم أميون، ولذلك توصف الشريعة بأنها أمية، وفسر معنى الأمية بأن أحكامها لا تبنى على أمور علمية.(3/738)
الرئيس:
على كل حال يا شيخ كلامكم متضح للناس.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
سأقرأ كلمة الشاطبي سطرين.
الرئيس:
كلمة الشاطبي موجودة عندنا يا شيخ.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
فلذلك لو عاد الأخ إليها لتبين له أنه قد فهم خطأ.
الشيخ رجب التميمي:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة، الرسول صلى الله عليه وسلم في كلماته الشريفة: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] ، وكلامه صلى الله عليه وسلم صالح لكل زمان ومكان.(3/739)
ومن إعجاز هذا الحديث الشريف وما فيه من معان جميلة سامية أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((هن مواقيت لأهلهن ومن أتى عليهن من غير أهلهن)) لم يحدد، ذلك عام ((من أتى عليهن)) ، صحيح في ذلك الوقت لم يكن الطيران معروفًا لكن ((من أتى عليهن)) بأي وسيلة، لم يحدد الوسيلة، لم يكن أرضًا. ولذلك لا يصح لنا أن نقول في مجال الحديث: إن الطيران والطائرات التي نسافر بها اليوم لو كان موجودًا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد هذه المواقيت الأرضية لأجل الإحرام، لما كان المرور جوًا بالطائرة فوق بقعة الميقات مشمولة. هذا الكلام لا يقال، صحيح أن الطيران لم يكن موجودًا، ولم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لنا أن نقصر الحديث ونقول: إنه لا يشمل وقتنا هذا، ومن المعلوم أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هي شريعة ووحي من الله، وهي صالحة لكل زمان ومكان.
وأنا أقول في تفسير هذا الحديث أنه يشمل كل الطريق الذي يمر على المواقيت بأي أداة كانت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى. وقد أخبر في أحاديث كثيرة عن المغيبات التي وقعت في عصرنا هذا. فصلى الله عليه وسلم حينما يشرع يشرع تشريعًا عامًا في كل زمان ومكان، والعلم يتقدم والإسلام موافق للعلم، والآية الكريمة التي نقرأها في كتاب الله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] . منها الطائرة والباخرة وكل شيء، فلا يصح أن نقصر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وحي يوحى، فحينما نقرأ الأحاديث نتصور الناحية الروحية ولا نقصرها على الناحية المادية؛ لأن هذا لا يليق بأحاديث الرسول وهي وحي من عند الله {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] . وتكفي هذه الإشارة والتعقيب، ولا أريد أن أطيل، فالبحث طويل لكن اختصارًا للوقت. وشكرا للإخوان.(3/740)
الشيخ يوسف جيري:
شكرًا سيدي الرئيس، الواقع كما تفضل السيد الرئيس يعني هناك اتجاه عام إلى التمسك بما كان العمل به عند أسلافنا رضوان الله عليهم أجمعين، إلا أنه من الناحية العملية والتنظيمية في القارة الأفريقية اتجاه عام الآن، يعني وأريد الآن أن أعرف موقع هذا الاتجاه العام في القرار الذي سنتخذه.
العادة التي جرى عليها العمل الآن في القارة الأفريقية أو في كثير من تنظيمات الحج في الدول الأفريقية، أن الحاج لما يخرج من بلده يتجه إلى جدة ومن جدة يذهب إلى المدينة ليبقى في المدينة المنورة بضعة أيام، ثم من المدينة يقوم ويتجه إلى مكة، وفي هذا أنه يتعدى الميقات ويدخل في جدة ثم يخرج ثانيًا عن طريق آخر. فكثير من علماء الدين في القارة الأفريقية يقولون بأن ما جاء في الحديث ((هن لأهلهن ومن أتى عليهن من غير أهلهن)) ربما يطبق في هذه الحالات، وهذا يعني أن هؤلاء عندما يخرجون لا يحرمون، ولا يحرمون عندما يحاذون الميقات؛ لأنهم لما يدخلون جدة يخرجون أيضًا إلى المدينة المنورة، لكن عندما يخرجون من المدينة المنورة عليهم حكم أهل المدينة ويحرمون من الميقات، فلهذا أريد أن أعرف موقع هذا الحكم.(3/741)
الرئيس:
على كل حال الموضوع الحكم في هذا فيه وضوح ومنصوص عليه عند أهل العلم، وهو لا دخل له في أصل القضية؛ لأن هناك مسألة في قول النبي صلى الله عليه وسلم ((ممن أراد الحج والعمرة)) ، فهؤلاء يأتون مرتبين أحوالهم على ما يلي يرتبون زيادة المدينة النبوية، فمعناه ما أرادوا الحج والعمرة لأول وهلة. هذا هو.
الرئيس:
أرجو مع تقديري للشيخ حسن والشيخ قادي أمامكم أحد عشر اسما معذرة، أنا مقيد أسماءكم. ما عندي استعداد، أمامكم أحد عشر اسما، فهل ترون أنني أقيد الآن ما يقرب من عشرين اسما والقضية واحدة، أو نبتّ في الموضوع. إذن الذين يرون أن الميقات هو على حد قول رسول صلى الله عليه وسلم أنهم إذا حاذوا الميقات يحرمون؛ يتفضلون برفع أيديهم.
الشيخ عبد العزيز عيسى:
ما معنى المحاذاة؟ أسأل.(3/742)
الرئيس:
المحاذاة يا شيخ محمد سالم كما قررتم.
الشيخ محمد سالم عبد الودود:
عندي سؤال فيما قررته أنا مثلاً الذي يأتي فيما بين يلملم والجحفة معروف أن المواقيت ليست على نسب متساوية حتى تكون دائرة حول الحرم، فإذا أردنا أن نفرض المحاذاة فيما بين الجحفة ويلملم، فهل نفرض دائرة أو وترا نفرض قوسًا أو ترًا؟
الرئيس:
يا شيخ، قضية المحاذاة معلومة عند أهل الخطوط ومرسوم لها وواضحة، على كل أنه من خلال رفع الأيدي، فلا شك أن الأكثرية المطلقة هي تتفق مع ما في قرار مكة، من أن على مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي مرّ على أسماعكم الكريمة، وبهذه تنتهي جلستنا هذه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(3/743)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (7) د 3/07/86
بشأن "الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة"
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمرة الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407 هـ/11-16 أكتوبر 1986م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة بخصوص موضوع "الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة".
قرر:
أن المواقيت المكانية التي حددتها السنة النبوية يجب الإحرام منها لمريد الحج أو العمرة، للمار عليها أو للمحاذي لها أرضًا أو جوًا أو بحرًا؛ لعموم الأمر بالإحرام منها في الأحاديث النبوية الشريفة. والله أعلم.(3/744)
تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي
لفضيلة الدكتور نزيه كمال حماد
بسم الله الرحمن الرحيم
تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي
توطئة
1- إن من أبرز المشكلات الاقتصادية المعاصرة التي تمس الفرد والجماعة في أغلب دول العالم اليوم مشكلة التضخم، وما يرافقه من تأثير كبير وخطير على القوة الشرائية للنقد، حيث تضعف هذه القوة وتقل، مما يؤدي إلى رخص النقود تجاه السلع والمنافع والخدمات التي تبذل عوضًا عنها.
كما أن السياسية الاقتصادية لكثير من الدول الحاضرة قد تدعوها إلى تخفيض قيمة عملتها بالنسبة إلى بعض العملات الأخرى أو بالنسبة إلى الذهب، فتخفضها بالقدر المناسب، وقد تدعوها على عكس ذلك إلى رفع قيمة عملتها، فترفعها بالنسبة الملائمة.
وهناك العديد من الدول المعاصرة تحظر التعامل بنقدها خارج حدود أراضيها وفق سياسة اقتصادية معينة، وتمنع بالتالي إخراجه منها إلى أية دولة أخرى، ولو حدث أن أخرج منها بصورة ما، فإنها تمنع إدخاله إليها ثانية.(3/745)
وقد تمنع بعض الدول التعامل بالذهب أو بأية عملة غير عملتها في داخل أراضيها، وتعتبر ذلك من قبيل النظام العام الذي لا تجوز مخالفته، وتجعل كل اتفاق على خلافه باطلاً، وقد تلغي بعض الدول شيئًا من عملاتها الرائجة، وتستبدلها بنقد آخر تصطلح على التعامل به.. وقد.. وقد..
هذا في نطاق السياسية الاقتصادية للدول، أما في مجال المعاملات الفردية، فكثيرًا ما يقرض المرء لغيره مبلغًا من المال إلى أجل معين؛ رفقًا به ومعونة له، ودفعًا لحاجته، وتفريجًا لكربته، فإذا ما حل أجل الوفاء، وجد المقرض أن هذا المبلغ الذي عاد إليه أقل أو أكثر – بقليل أو كثير – من المبلغ الذي دفعه له قرضًا من حيث قوته الشرائية، أو من حيث قيمته بالنسبة إلى الذهب، أو بالنسبة إلى العملات الأخرى يوم أقرضه، وإن كان مماثلاً له في الكم والعدد، وكثيرًا ما يشتري التاجر بضاعة بنقد محدد مؤجل الوفاء إلى أمد متفق عليه، وعندما يحل الأجل ويحين وقت الأداء، يجد كل واحد من المتبايعين أن المبلغ المتفق عليه قد اختلف حاله من حيث القوة الشرائية، أو من حيث القيمة بالنسبة إلى الذهب أو إلى العملات الأخرى عن الوضع الذي كان عليه وقت وجوبه في الذمة بالعقد، وفي كثير من البلدان الإسلامية جرى العرف بين الناس على جعل بعض مهر الزوجة أو أكثره أو كله دينًا مؤجلاً في ذمة الزوج، لا يحل إلا بالموت أو الفرقة، ويسمونه "المهر المؤجل". وواقع الأمر في غالب حالات المهر المؤجل طروء التغير الفاحش على قيمة النقد الذي جعل مهرًا، وصار دينًا في ذمة الزوج عند حلوله بالنظر إلى يوم ثبوته في ذمته.(3/746)
هذه بعض صور القضية، وللقضية تعلقات شائكة وآثار خطيرة وأبعاد كثيرة لا تكاد تحصى، وأنها لتمس الفرد والمجتمع والدولة في مجالات مختلفة وجوانب شتى، غير أن الذي يعنينا بحثه في هذا المقام ما يتصل بالمعاملات المالية عند تغير أحوال النقد، وأثر ذلك على الديون في الذمم، أيًا كان سببها ومنشئوها.
وهذا الجانب – في الحقيقة ونفس الأمر – وإن كان عظيم الأهمية وبالغ الخطورة في هذا العصر على الخصوص، فإن مبادئه وأسسه موجودة ومعروفة في تعامل المسلمين وفقههم منذ أكثر من ألف عام مضى، ولفقهائهم في ذلك آراء ونظرات هامة جديرة بالعناية بها والإفادة منها، وبيان ذلك:
(أ) تغيرات النقود الذهبية والفضية
2- إن الدين الثابت في الذمة إذا كان عملة ذهبية أو فضية محدودة مسماة، فغلت أو رخصت عند حلول وقت الأداء، فلا يلزم المدين أن يؤدي غيرها؛ لأنها نقد بالخلقة – كما يعبر الفقهاء – وهذا التغير في قيمتها لا تأثير له على الدين البتة (1) .
يقول ابن عابدين في رسالته "تنبيه الرقود على مسائل النقود": "وهذا كالريال الفرنجي والذهب العتيق في زماننا، فإذا تبايعا بنوع منهما، ثم غلا أو رخص، بأن باع ثوبًا بعشرين ريالاً مثلاً، أو استقرض ذلك، يجب رده بعينه، غلا أو رخص" (2) .
ويقول أيضًا: "وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جار حتى في الذهب والفضة – كالشريفي والبندقي والمحمدي والكلب والريال – فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع (3) .
وعلى هذا نصت المادة (805) من "مرشد الحيران"، حيث جاء فيها: وإن استقرض شيئًا من المكيلات أو الموزونات أو المسكوكات من الذهب والفضة، فرخصت أسعارها أو غلت، فعليه رد مثلها ولا عبرة برخصها وغلوها".
3- وحتى لو زادت الجهة المصدرة لهذه العملة سعرها أو أنقصته، فلا يلزم المدين إلا ما جرى عليه العقد (4) .
__________
(1) تنبيه الرقود لابن عابدين: 2/64.
(2) تنبيه الرقود: 2/64.
(3) تنبيه الرقود: 2/64.
(4) منح الجليل لعليش: 2/534، قطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي (مطبوع ضمن الحاوي للفتاوى) : 1/97 وما بعدها.(3/747)
يقول ابن عابدين: "ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه. والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينًا، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال أفرنجي أو مائة ذهب عتيق" (1) .
4- ولو أبطلت السلطة المصدرة لهذه العملة التعامل بها، فإنه لا يلزم المدين سواها وفاء بالعقد، إذ هي المعقود عليها دون غيرها. وعلى ذلك نص الإمام الشافعي والمالكية في المشهور عندهم (2) .
قال الشافعي في "الأم": "ومن سلف فلوسًا أو دراهم أو باع بها، ثم أبطلها السلطان، فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي سلف أو باع بها" (3) .
وجاء في نوازل ابن رشد ما نصه: "وسئل رضي الله عنه عن الدنانير والدراهم إذا قطعت السكة فيها وأبدلت بسكة غيرها، ما الواجب في الديون والمعاملات المتقدمة وأشباه ذلك؟
فقال: المنصوص لأصحابنا وغيرهم من أهل العلم رحمهم الله، أنه لا يجب عليه إلا ما وقعت به المعاملة.
فقال له السائل: فإن بعض الفقهاء يقول: أنه لا يجب عليه إلا السكة المتأخرة؛ لأن السلطان قد قطع تلك السكة وأبطلها، فصارت كلا شيء.
فقال: لا يلتفت إلى هذا القول، فليس بقول لأحد من أهل العلم. وهذا نقض لأحكام الإسلام، ومخالفة لكتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام في النهي عن أكل المال بالباطل" (4) .
ثم قال: "ويلزم هذا القائل أن يقول: "إن السلطان إذا أبدل المكاييل بأصغر أو أكبر، أو الموازين بأنقص أو أوفى، وقد وقعت المعاملة بينهما بالمكيال الأول أو الميزان الأول أنه ليس للمبتاع إلا بالكيل الأخير، وإن كان أصغر. وأن على البائع الدفع بالثاني أيضًا وإن كان أكبر. وهذا مما لا خفاء في بطلانه. وبالله التوفيق (5) .
5- وقال بعض المالكية: إذا أبطلت تلك العملة واستبدلت بغيرها. فيرجع إلى قيمة العملة الملغاة من الذهب، ويأخذ صاحب الدين القيمة ذهبًا (6) .
6- أما إذا عدمت تلك العملة أو انقطعت أو فقدت في بلد المتعاقدين، فتجب عندئذ قيمتها.
__________
(1) تنبيه الرقود: 2/66.
(2) حاشية الرهوني: 5/118، 119، ومنح الجليل: 2/534، حاشية المدني على كنون: 5/118.
(3) الأم: 3/33.
(4) حاشية الرهوني: 5/119.
(5) حاشية الرهوني: 5/119.
(6) حاشية الرهوني: 5/119.(3/748)
جاء في مختصر خليل وشرحه لعليش: "وإن بطلت فلوس فالمثل، أو عدمت الفلوس أو الدنانير أو الدراهم بعد ترتبها في ذمة شخص ببيع أو قرض من بلد المتعاقدين، وإن وجدت في غيرها، فالقيمة واجبة على من ترتبت عليه مما تجدد التعامل به، معتبرة وقت اجتماع الاستحقاق – وذلك يوم حلول أجلها – والعدم لها، ولا يجتمعان إلا وقت المتأخر منهما. فإن استحقت ثم عدمت، فالتقويم يوم العدم. وإن عدمت ثم استحقت، قومت يوم استحقاقها" (1) .
7- ولو قلت أو عز وجودها في أيدي الناس، فإنه لا يجب غيرها، لإمكان تحصيلها مع العزة، بخلاف انقطاعها وانعدامها وفقدها (2) .
جاء في "تحفة المحتاج" للهيثمي: "ولو باع بنقد دراهم أو دنانير، وعين شيئًا موجودًا، اتبع وإن عز" (3) .
8- وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن الحنابلة قيدوا القول بإلزام الدائن بقبول مثل النقد الذي ثبت في ذمة المدين، وإلزام المدين بأدائه إذا كان متوفرًا: بأن يكون التعامل بذلك النقد مسموحًا به من قبل الدولة. أما إذا منعت الدولة الناس من التعامل به، فلا يجبر الدائن على قبوله، ويكون له القيمة وقت ثبوت الدين من غير جنسه من النقود إن ترتب على أخذ القيمة من جنسه ربا الفضل (4) سواء اتفق الناس على ترك التعامل بهذا النقد أو لم يتفقوا (5) .
__________
(1) منح الجليل: 2/535.
(2) نهاية المحتاج للرملي: 3/397.
(3) تحفة المحتاج: 4/255.
(4) أما إذا لم يترتب على أداء القيمة من جنسه ربا الفضل، فلا مانع من أن يكون الوفاء بقيمته من جنسه.
(5) كشاف القناع: 3/301، الشرح الكبير على المقنع: 4/358، المغني: 4/365، المبدع: 4/207، المحرر: 1/335.(3/749)
جاء في "منتهى الإرادات" وشرحه للبهوتي: "… ما لم يكن القرض فلوسًا أو دراهم مكسرة فيحرمها السلطان – أي يمنع التعامل بها – ولو لم يتفق الناس على ترك التعامل بها. فإن كانت كذلك، فله – أي المقرض – قيمته، أي القرض المذكور وقت قرض نصًا؛ لأنها تعيبت في ملكه، وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيرًا. وتكون القيمة من غير جنسه – أي القرض – إن جرى فيه – أي أخذ القيمة من جنسه – ربا فضل، بأن اقترض دراهم مكسرة، وحرمت، وقيمتها يوم القرض أنقص من وزنها، فإنه يعطيه بقيمتها ذهبًا (1) .
(ب) تغيرات النقود الاصطلاحية
9- أما إذا كان الدين الثابت في الذمة نقدًا بالاصطلاح لا بالخلقة، كسائر العملات الأخرى غير الذهبية والفضية (2) ، فطرأ عليه تغير عند حلوله، فعندئذ يفرق بين خمس حالات.
__________
(1) شرح منتهى الإرادات: 2/226.
(2) يقول العلامة الشيخ أحمد الزرقاء في "شرح القواعد الفقهية، ص 121: "هذا والذي يظهر أن الورق النقدي المسمي الآن بالورق السوري الرائج في بلادنا الآن، ونظيره الرائج في البلاد الأخرى، وهو معتبر من الفلوس النافقة، وما قيل فيها من الأحكام السابقة يقال فيه؛ لأن الفلوس النافقة هي ما كان متخذًا من غير النقدين، الذهب والفضة، وجرى الاصطلاح على استعماله استعمال النقدين، والورق المذكور من هذا القبيل، ومن يدعي تخصيص الفلوس النافقة بالمتخذ من المعادن فعليه البيان ".(3/750)
الحالة الأولى
الكساد العام للنقد
10- وذلك بأن توقف الجهة المصدرة للنقد التعامل به، فتترك المعاملة به في جميع البلاد، وهو ما يسميه الفقهاء بـ "كساد النقد" (1) .
ففي هذه الحالة: لو اشترى شخص سلعة ما بنقد محدد معلوم، ثم كسد ذلك النقد قبل الوفاء، أو استدان نقدًا معلومًا ثم كسد قبل الأداء، أو وجب في ذمته المهر المؤجل من نقد محدد، ثم كسد قبل حلوله، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال:
11- القول الأول: لأبي حنيفة، وهو أن النقد الذي كسد إذا كان ثمنًا في بيع، فإنه يفسد العقد، ويجب الفسخ مادام ممكنًا؛ لأنه بالكساد خرج عن كونه ثمنًا؛ لأن ثمنيته ثبتت بالاصطلاح، فإذا ترك الناس التعامل به، فإنها تزول عنه صفة الثمنية، فيبقى المبيع بلا ثمن، فيفسد البيع.
أما إذا كان دينًا في قرض أو مهرًا مؤجلاً، فيجب رد مثله ولو كان كاسدًا، لأنه هو الثابت في الذمة لا غيره (2) .
وحجة أبي حنيفة كما حكى الزيلعي في "تبيين الحقائق": "أن القرض إعارة، وموجبها رد العين معنى، وذلك يتحقق برد مثله – ولو صار كاسدًا – لأن الثمنية زيادة فيه، حيث إن صحة القرض لا تعتمد الثمنية، بل تعتمد المثل، وبالكساد لم يخرج من أن يكون مثلاً. ولهذا صح استقراضه بعد الكساد، وصح استقراض ما ليس بثمن كالجوز والبيض والمكيل والموزون وإن لم يكن ثمنًا، ولولا أنه إعارة في المعنى لما صح؛ لأنه يكون مبادلة الجنس بالجنس نسيئة، وأنه حرام. فصار المردود عين المقبوض حكمًا، فلا يشترط فيه الرواج، كرد العين المغصوبة، والقرض كالغصب، إذ هو مضمون بمثله" (3) .
وقد جاء في "بدائع الصنائع": "ولو اشترى بفلوس نافقة، ثم كسدت قبل القبض انفسخ عند أبي حنيفة، وعلى المشتري رد المبيع إن كان قائمًا، وقيمته (4) أو مثله (5) إن كان هالكًا" (6) .
__________
(1) الكساد في اللغة: من كسد الشيء يكسد – من باب قتل -: لم ينفق لقلة الرغبات، فهو كاسد وكسيد. ويتعدى بالهمزة، فيقال: "أكسده الله". وكسدت السوق، فهي كاسد- بغير هاء – في الصحاح، وبهاء في التهذيب، ويقال: أصل الكساد الفساد (المصباح المنير: 2/644) . أما الكساد في اصطلاح الفقهاء: "فهو أن يبطل التداول بنوع من العملة، ويسقط رواجها في البلاد كافة" (شرح المجلة لعلي حيدر: 1/108، تبيين الحقائق: 4/143، تنبيه الرقود: 2/60.
(2) الفتاوى الهندية: 3/225، بدائع الصنائع: 7/3244 وما بعدها، تبيين الحقائق: 4/142، درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 3/94.
(3) تبيين الحقائق: 4/144.
(4) أي أن كان قيميًا. (الزيلعي: 4/142) .
(5) أي أن كان مثليًا. (الزيلعي: 4/142) .
(6) بدائع الصنائع: 7/3244.(3/751)
وفيها أيضًا: "ولو استقرض فلوسًا نافقة وقبضها فكسدت، فعليه رد مثل ما قبض من الفلوس عددًا في قول أبي حنيفة" (1) .
12- والقول الثاني: لأبي يوسف (2) والحنابلة على الراجح (3) عندهم والمالكية في غير المشهور (4) ، وهو أنه لا يجزئ رد المثل بعد ما كسد، ويجب على المدين رد قيمة النقد الذي وقع عليه العقد – يوم التعامل – من نقد آخر (5) .
وبهذا الرأي أخذت المادة (805) من مرشد الحيران، حيث جاء فيها: "إذا استقرض مقدارًا معينًا من الفلوس الرائجة والنقود غالبة الغش (6) فكسدت وبطل التعامل بها، فعليه رد قيمتها يوم قبضها لا يوم ردها".
واستدلوا على ذلك:
أولاً: بأن إيقاف التعامل بها من قبل الجهة المصدرة لها منع لنفاقها وإبطال لماليتها، إذ هي أثمان بالاصطلاح لا بالخلقة، فصار ذلك إتلافًا لها، فيجب بدلها، وهو القيمة بناء على قاعدة الجوابر.
ثانيًا: ولأن الدائن قد دفع شيئًا منتفعًا به لأخذ عوض منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به.
13- وإنما اعتبرت القيمة يوم التعامل؛ لأنه وقت الوجوب في الذمة.
يقول ابن قدامة في "المغني": "وان كان القرض فلوسًا أو مكسرة، فحرمها السلطان، وتركت المعاملة بها، كان للمقرض قيمتها، ولم يلزمه قبولها، سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها؛ لأنها تعيبت في ملكه، نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة، وقال: يقوّمها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه، وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيرًا" (7) .
14- وذهب فريق آخر من المالكية – في ثمن المبيع – أنه تجب قيمة السلعة يوم قبضها من النقد الرائج (8) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/3245
(2) تبيين الحقائق: 4/142، الفتاوي الهندية: 3/225، درر الحكام: 3/94.
(3) كشاف القناع: 3/301، شرح منتهى الإرادات: 2/226، الشرح الكبير على المقنع: 4/358.
(4) حاشية الرهوني: 5/120، حاشية المدني: 5/118.
(5) وقد حكى صاحب "الذخيرة البرهانية" أن هذا القول هو المفتى به في مذهب الحنفية؛ وذلك لأنه أيسر، حيث إن القيمة يوم التعامل تكون معلومة، بخلاف يوم الكساد فإنها لا تعرف فيه إلا بحرج. (انظر الفتاوي الهندية: 3/225، تبيين الحقائق: 4/144، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 4/132، تنبيه الرقود: 2/59.
(6) المراد بالنقود غالبة الغش: العملة التي يكون غالبها من معدن غير الذهب والفضة.
(7) المغني: 4/365.
(8) حاشية المدني: 5/118، حاشية الرهوني: 5/120.(3/752)
15- والقول الثالث: لمحمد بن الحسن الشيباني (1) وبعض الحنابلة (2) ، وهو أنه يجب على المدين رد قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر وقت الكساد، أي في آخر نفاقها، وهو آخر ما تعامل الناس بها؛ لأنه وقت الانتقال إلى القيمة، إذ كان يلزمه رد مثلها مادامت نافقة، فإذا كسدت انتقل إلى قيمتها وقتئذ.
جاء في "جواهر الفتاوى": "قال القاضي الزاهدي: إذا باع شيئًا بنقد معلوم، ثم كسد النقد قبل قبض الثمن، فإنه يفسد البيع، ثم ينظر: إن كان المبيع قائمًا في يد المشتري يجب رده عليه، وإن كان خرج من ملكه بوجه من الوجوه، أو اتصل بزيادة بصنع من المشتري، أو أحدث في صنعة متقومة، مثل أن كان ثوبًا فخاطه، أو دخل في حيز الاستهلاك وتبدل الجنس، مثل أن كان هناك حنطة فطحنها أو سمسمًا فعصره أو وسمة فضربها نيلاً؛ فإنه يجب عليه رد مثله إن كان من ذوات الأمثال – كالمكيل والموزون والعددي الذي لا يتفاوت كالجوز والبيض – ومن كان من ذوات القيم – كالثوب والحيوان – فإنه يجب قيمة المبيع يوم القبض من نقد كان موجودًا وقت البيع لم يكسد، ولو كان مكان البيع إجارة، فإنه تبطل الإجارة، ويجب على المستأجر أجر المثل. وإن كان قرضًا أو مهرًا يجب رد مثله. هذا كله قول أبي حنيفة.
__________
(1) وقد جاء في كتب الحنفية نقلاً عن المحيط واليتيمة والحقائق أن الفتوى في المذهب بقول محمد بن الحسن رفقًا بالمدينين، حيث إن القيمة في آخر النفاق تكون عادة أقل منها يوم التعامل (انظر الفتاوي الهندية: 3/225، الزيلعي: 4/143، الشلبي على تبيين الحقائق: 4/142، تنبيه الرقود: 2/59، درر الحكام: 3/94) .
(2) الشرح الكبير على المقنع: 4/358.(3/753)
وقال أبو يوسف: "يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل" وقال محمد: "يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس" (1) .
16- والقول الرابع: للشافعية (2) والمالكية على المشهور (3) ، وهو أن النقد إذا كسد بعد ثبوته في الذمة وقبل أدائه، فليس للدائن سواه، ويعتبر هذا الكساد كجائحة نزلت بالدائن، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدين قرضًا أو ثمن مبيع أو غير ذلك.
جاء في "نهاية المحتاج" للرملي: "ولو أبطل السلطان ما باع به أو أقرضه لم يكن له غيره بحال" (4) .
وجاء فيها أيضًا: "ويرد المثل في المثلي؛ لأنه أقرب إلى حقه، ولو في نقد بطلب المعاملة به، فشمل ذلك ما عمت به البلوى في زماننا في الديار المصرية من إقراض الفلوس الجدد، ثم إبطالها وإخراج غيرها، وإن لم تكن نقدًا" (5) .
وقال النووي في "المجموع": "إذا باع بنقد معين، أو بنقد مطلق، وحملناه على نقد البلد فأبطل السلطان المعاملة به قبل القبض، قال أصحابنا: لا ينفسخ العقد، ولا خيار للبائع، وليس له إلا ذلك النقد المعقود عليه، كما لو اشترى حنطة فرخصت قبل القبض، أو أسلم فيها فرخصت قبل المحل، فليس له غيرها. هكذا قطع به الجمهور.
وحكى البغوي والرافعي وجها أن البائع مخير: إن شاء أجاز البيع بذلك النقد، وإن شاء فسخه، كما لو تعيب قبل القبض، والمذهب الأول.
قال المتولي وغيره: ولو جاء المشتري بالنقد الذي أحدثه السلطان، لم يلزم البائع قبوله فإن تراضيا به، فهو اعتياض، وحكمه حكم الاعتياض عن الثمن.
دليلنا عليه في الأول: أنه غير الذي التزمه المشتري، فلم يجب قبوله، كما لو اشترى بدراهم، وأحضر دنانير.
ودليلنا في الثاني: أن المعقود عليه باق، مقدور على تسليمه، فلم ينفسخ العقد فيه، كما لو اشترى شيئًا في حال الغلاء فرخصت الأسعار" (6) .
__________
(1) تنبيه الرقود لابن عابدين: 2/58.
(2) تحفة المحتاج وحاشية الشرواني عليه: 4/258، 5/44، أسنى المطالب: 2/143، قطع المجادلة عند تغيير المعاملة: 1/97 وما بعدها، المجموع شرح المهذب: 9/331، الأم: 3/33.
(3) الخرشي على مختصر خليل: 5/55، الزرقاني على خليل: 5/60، حاشية الرهوني: 5/120، 121.
(4) نهاية المحتاج: 3/399.
(5) نهاية المحتاج: 4/223.
(6) المجموع شرح المهذب: 9/282.(3/754)
وجاء في "منح الجليل" لعليش: "ومن ابتاع بنقد أو اقترضه، ثم بطل التعامل به، لم يكن عليه غيره أن وجد، ومن اقترض دنانير أو دراهم أو فلوسًا أو باع بها وهي سكة معروفة، ثم غير السلطان السكة وأبدلها بغيرها، فإنما عليه مثل السكة التي قبضها ولزمته يوم العقد.
وفيها (أي المدونة) : ومن أسلفته فلوسًا، فأخذت بها رهنا، فكسدت الفلوس، فليس لك عليه إلا مثل فلوسك، ويأخذ رهنه. وإن بعته سلعة بفلوس إلى أجل، فإنما لك مثل هذه الفلوس يوم البيع، ولا يلتف لكسادها، (1) .
الحالة الثانية
الكساد المحلي للنقد
17- وذلك بأن يكسد النقد في بعض البلاد لا في جميعها. ومثله في عصرنا الحاضر العملات التي تصدرها بعض الدول وتمنع تداولها في خارج حدود أراضيها.
18- ففي هذه الحالة إذا اشترى شخص بنقد نافق ثم كسد في البلد الذي وقع فيه البيع قبل الأداء، فإن البيع لا يفسد، ويكون البائع بالخيار بين أن يطالبه بالنقد الذي وقع به البيع، وبين أخذ قيمة ذلك النقد من عمله رائجة. وهذا هو القول المعتمد في مذهب الحنفية (2) .
جاء في "عيون المسائل" (3) : "وعدم الرواج إنما يوجب الفساد إذا كان لا يروج في جميع البلدان (4) ؛ لأنه حينئذ يصير هالكًا، ويبقي المبيع بلا ثمن. فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة فقط، ويروج في غيرها فلا يفسد البيع؛ لأنه لم يهلك، ولكنه تعيب، فكان للبائع الخيار: إن شاء قال: أعطني مثل النقد الذي وقع عليه البيع، وإن شاء أخذ قيمة ذلك دنانير" (5) .
وقال ابن عابدين: "وان كانت تروج في بعض البلاد لا يبطل، ولكنه يتعيب إذا لم يرج في بلدهم، فيتخير البائع: إن شاء أخذه، وإن شاء أخذ قيمته" (6) .
19- وحكى عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إذا كسد النقد في بلدة واحدة فيجري عليه فيها حكم الكساد العام في سائر البلاد اعتبارًا لاصطلاح أهل تلك البلدة (7) .
__________
(1) منح الجليل: 2/534.
(2) تبيين الحقائق للزيلعي: 4/143.
(3) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 4/143، تنبيه الرقود لابن عابدين: 2/59.
(4) أي على رأي الإمام أبي حنيفة.
(5) المراد بها الدنانير الذهبية.
(6) تنبيه الرقود: 2/60.
(7) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 4/143.(3/755)
الحالة الثالثة
انقطاع النقد
20- وذلك بأن يفقد النقد من أيدي الناس، ولا يتوفر في الأسواق لمن يريده (1) .
وفي هذه الحالة لو اشترى شخص سلعة بنقد معين، ثم انقطع قبل أن يؤدي الثمن، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال:
21 – القول الأول: للحنابلة (2) ومحمد بن الحسن الشيباني وهو المفتى به في مذهب الحنفية (3) ، وهو أن على المشتري أداء ما يساويه في القيمة في آخر يوم قبل الانقطاع؛ لتعذر تسليم مثل النقد بعد انقطاعه، فيصار إلى بدله وهو القيمة. ومثل ذلك يقال في دين القرض وغيره.
وإنما اعتبرت القيمة قبيل الانقطاع؛ لأنه الوقت الذي ينتقل الوجوب فيه من المثل إلى القيمة.
جاء في "تنبيه الرقود" لابن عابدين: "وإن انقطعت تلك الدراهم اليوم، كان عليه قيمة الدراهم قبل الانقطاع عند محمد، وعليه الفتوى" (4) .
وفي "المضمرات": فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع. وهو المختار" (5) .
__________
(1) وحد الانقطاع – كما جاء في تبيين الحقائق والذخيرة البرهانية – هو "ألا يوجد في السوق، وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت". (انظر تبيين الحقائق: 4/143، تنبيه الرقود: 2/60) وفي شرح المجلة لعلي حيدر: "الانقطاع: هو عدم وجود مثل الشيء في الأسواق، ولو وجد ذلك المثل في البيوت، فإنه ما لم يوجد في الأسواق، فيعد منقطعًا " (درر الحكام: 1/108) . وقال الخرشي والزرقاني في ضابط الانقطاع: "إن العبرة بالعدم في بلد المعاملة، أي البلد التي تعاملا فيها، ولو وجد في غيرها فإنه يعتبر منقطعًا". (انظر شرح الخرشي: 5/55، شرح الزرقاني علي خليل: 5/60) .
(2) الشرح الكبير على المقنع: 4/358.
(3) تبيين الحقائق للزيلعي وحاشية الشلبي عليه: 4/142.
(4) تنبيه الرقود: 2/59.
(5) تنبيه الرقود: 2/60.(3/756)
22- والقول الثاني: لأبي يوسف، وهو أنه يجب على المدين أداء ما يساويه في القيمة يوم التعامل؛ لأنه وقت الوجوب في الذمة (1) .
23- والقول الثالث: لأبي حنيفة، وهو أن الانقطاع كالكساد يوجب فساد البيع (2)
قال التمرتاشي في رسالته: "بذل المجهود في مسألة تغير النقود": والانقطاع عن أيدي الناس كالكساد، وحكم الدراهم كذلك. فإذا اشترى بالدراهم ثم كسدت أو انقطعت بطل البيع، ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائمًا، ومثله إن كان هالكًا وكان مثليًا، وإلا فقيمته. وإن لم يكن مقبوضًا فلا حكم لهذا البيع أصلاً. وهذا عند الإمام الأعظم.
وقالا: لا يبطل البيع؛ لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد، وذلك لا يوجب الفساد لاحتمال الزوال بالرواج (3) .
24- والقول الرابع: للشافعية والمالكية، وهو أنه وإن أمكن الحصول على ذلك النقد مع فقده وانقطاعه، فيجب الوفاء به، وإلا فتجب قيمته، سواء أكان دين قرض أو ثمن مبيع أو غير ذلك.
لكن أصحاب هذا القول اختلفوا في الوقت الذي تقدر فيه القيمة عندما يصار إليها:
- فقال الشافعية: تجب في وقت المطالبة (4) .
- وقال المالكية في المشهور عندهم (5) : تجب في أبعد الأجلين من الاستحقاق – وهو حلول الأجل – والعدم، الذي هو الانقطاع (6) .
- وذهب بعض المالكية إلى أن القيمة إنما تقدر وقت الحكم (7) .
__________
(1) الفتاوى الهندية: 3/225، تبيين الحقائق: 4/142.
(2) الفتاوى الهندية: 3/225، تبيين الحقائق: 4/142.
(3) تنبيه الرقود: 2/59.
(4) تحفة المحتاج للهيثمي: 4/258، وانظر قطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي: 1/97.
(5) منح الجليل: 2/535، الخرشي على خليل: 5/55، الزرقاني على خليل: 5/60.
(6) سواء مطله المدين بها أم لا، كما هو ظاهر كلام خليل والمدونة. وذهب الخرشي وغيره إلى أن هذا مقيد بما إذا لم يحصل من المدين مطل، وإلا وجب عليه ما آل إليه الأمر من السكه الجديدة الزائدة على القديمة؛لأنه ظالم. وقال صاحب تكميل المنهاج: هذا ظاهر إذا آل الأمر إلى الأحسن، فإن آل إلى الأردأ فإنما يعطيه ما ترتب في ذمته. (انظر الخرشي: 5/55، شرح الزرقاني: 5/60، منح الجليل: 2/535، حاشية الرهوني: 5/121.
(7) منح الجليل: 2/535، شرح الزرقاني على خليل: 5/60.(3/757)
قال الرملي في "نهاية المحتاج": فإن فقد وله مثل وجب، وإلا فقيمته وقت المطالبة. وهذه المسألة قد عمت بها البلوى في زمننا في الديار المصرية في الفلوس" (1) .
وقال القرافي: "ولو انقطع ذلك النقد حتى لا يوجد، لكان له قيمته يوم انقطاعه إن كان حالاً، وإلا فيوم يحل الأجل، لعدم استحقاق المطالبة قبله (2) .
وجاء في "شرح الخرشي على مختصر خليل": وإن عدمت فالواجب على من ترتبت عليه قيمتها مما تجدد وظهر، وتعتبر قيمتها وقت أبعد الأجلين عند تخالف الوقتين عن العدم والاستحقاق" (3) .
الحالة الرابعة
غلاء النقد ورخصه
25- وذلك بأن تزيد قيمة النقد أو تنقص بالنسبة إلى الذهب والفضة (4) . ويعبر الفقهاء عن ذلك بـ "الغلاء و"الرخص".
وفي هذه الحالة إذا تغيرت قيمة النقد غلاء أو رخصًا بعد ما ثبت في ذمة المدين بدلا في قرض أو دين مهر أو ثمن مبيع أو غيره، وقبل أن يؤديه، فقد اختلف الفقهاء في ما يلزم المدين أداؤه على ثلاثة أقوال:
26- القول الأول: لأبي حنيفة (5) والمالكية في المشهور عندهم (6) والشافعية (7) والحنابلة (8) ، وهو أن الواجب على المدين أداؤه هو نفس النقد المحدد في العقد، والثابت دينًا في الذمة، دون زيادة أو نقصان، وليس للدائن سواه. وقد كان القاضي أبو يوسف يذهب إلى هذا الرأي أولاً ثم رجع عنه.
جاء في "بدائع الصنائع" في الكلام على تغير الثمن: "ولو لم تكسد، ولكنها رخصت قيمتها أو غلت، لا ينفسخ البيع بالإجماع، وعلى المشتري أن ينقد مثلها عددًا، ولا يلتفت إلى القيمة ههنا؛ لأن الرخص والغلاء لا يوجب بطلان الثمنية، ألا ترى أن الدراهم قد ترخص وقد تغلو، وهي على حالها أثمان" (9) .
__________
(1) نهاية المحتاج: 3/399.
(2) منح الجليل: 2/534.
(3) الخرشي: 5/55.
(4) يقول العلامة علي حيدر في "درر الحكام": "وقد اعتبر الذهب والفضة هما المقياس الذي تقدر بالنظر إليه أثمان الأشياء وقيمتها، ويعدان ثمنًا. أما النقود النحاسية والأوراق النقدية "البنكنوت" فتعد سلعة ومتاعًا، فهي في وقت رواجها تعتبر مثلية وثمنًا، وفي وقت الكساد تعد قيمية وعروضًا". (درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 1/101) .
(5) تنبيه الرقود: 2/60، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 4/142، 143.
(6) الزرقاني علي خليل: 5/60، حاشية الرهوني: 5/121.
(7) قطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي: 1/97-99.
(8) الشرح الكبير على المقنع: 4/358، شرح منتهى الإرادات: 2/226.
(9) بدائع الصنائع: 7/3245.(3/758)
وجاء فيه أيضًا – في الكلام على تغير قيمة دين القرض -: "ولو لم تكسد، ولكنها رخصت أو غلت، فعليه رد مثل ما قبض" (1) .
وقال ابن قدامة في "المغني": وأما رخص السعر فلا يمنع ردها، سواء كان كثيرًا – مثل إن كانت عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق – أو قليلاً؛ لأنه لم يحدث فيها شيء، إنما تغير السعر، فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت" (2) .
وقال البهوتي في "كشاف القناع": "إن الفلوس إن لم يحرمها – أي يمنع السلطان المعاملة بها – وجب رد مثلها، غلت أو رخصت أو كسدت" (3) .
وقال السيوطي في رسالته "قطع المجادلة عند تغيير المعاملة": " وقد تقرر أن القرض الصحيح يرد فيه المثل مطلقًا، فإذا اقترض منه رطل فلوس، فالواجب رد رطل من ذلك الجنس، سواء زادت قيمته أم نقصت".
أما في صورة الزيادة، فلأن القرض كالسلم، وأما في صورة النقص، فقد قال في "الروضة" من زوائده: ولو أقرضه نقدًا، فأبطل السلطان المعاملة به، فليس له إلا النقد الذي أقرضه. نص عليه الشافعي رضي الله عنه، فإذا كان هذا مع إبطاله، فمع نقص قيمته من باب أولى" (4) .
ثم قال فيها في معرض كلامه من السلم: "ومنها السلم، والأصح جوازه في الدراهم والدنانير والفلوس بشرطه، فإذا حل الأجل لزمه القدر الذي أسلم فيه وزنا، سواء زادت قيمته عما كانت وقت السلم أم نقصت، ويجب تحصيله بالغًا ثمنه ما بلغ" (5) .
وجاء في "مختصر خليل" وشرحه لعليش: "وإن بطلت فلوس فالمثل لما بطل التعامل به على من ترتب في ذمته، وأولى إن تغيرت قيمتها مع استمرار التعامل بها" (6) .
وفي "المدونة": "وكذلك إن أقرضته دراهم فلوسًا، وهو يومئذ مائة فلس بدرهم، ثم صارت مائتي فلس بدرهم، فإنما يرد إليك مثل ما أخذ لا غير ذلك" (7) .
وبهذا الرأي أخذت مجلة الأحكام الشرعية الحنبلية، حيث جاء في م (750) منها: "إذا كان القرض فلوسًا أو دراهم مكسرة أو أوراقًا نقدية، فغلت أو رخصت أو كسدت ولم تحرم المعاملة بها وجب رد مثلها، وكذا الحكم في سائر الديون، وفي ثمن لم يقبض، وفي أجرة عوض خلع وعتق ومتلف، وثمن مقبوض لزم البائع رده".
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/3245.
(2) المغني: 4/365.
(3) كشاف القناع: 3/301.
(4) قطع المجادلة: 1/97.
(5) قطع المجادلة: 1/97.
(6) منح الجليل: 2/534.
(7) نقل عن منح الجليل: 2/535.(3/759)
27- والقول الثاني: لأبي يوسف، وعليه الفتوى عند الحنفية (1) وهو أنه يجب على المدين أن يؤدي قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة من نقد رائج، ففي البيع تجب القيمة يوم العقد، وفي القرض يوم القبض (2) .
قال التمرتاشي في رسالة "بذل المجهود في مسألة تغير النقود" – بعد كلام في المسألة طويل – " (وفي البزازية معزيًا إلى المنتقى: غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول (3) والثاني (4) أولاً (5) : ليس عليه غيرها. وقال الثاني (6) ثانيًا (7) : عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض (8) .
هكذا في الذخيرة والخلاصة بالعزو إلى المنتقى. وقد نقله شيخنا في بحره وأقره. فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات، فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء؛ لأن المفتي والقاضي واجب عليهما الميل إلى الراجح من مذهب إمامهما ومقلدهما، ولا يجوز لهما الأخذ بمقابله؛ لأنه مرجوح بالنسبة إليه" (9) .
__________
(1) قاله ابن عابدين، (انظر تنبيه الرقود: 2/60، 61) .
(2) تنبيه الرقود: 2/60، 63.
(3) أي أبي حنيفة.
(4) أي أبي يوسف.
(5) ، أي في قوله الأول الذي وافق فيه الإمام أبا حنيفة، ثم رجع عنه.
(6) أي أبي يوسف.
(7) أي في قوله الثاني الذي استقر عليه واعتمده.
(8) أي يوم البيع في عقد البيع، ويوم القبض في عقد القرض. كذا في النهر. (انظر تنبيه الرقود: 2/63) .
(9) تنبيه الرقود: 2/60.(3/760)
28- والقول الثالث: وجه عند المالكية، وهو أن التغير إذا كان فاحشًا، فيجب أداء، قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص. أما إذا لم يكن فاحشًا فالمثل (1) .
يقول الرهوني معلقًا على قول المالكية المشهور بلزوم المثل ولو تغير النقد بزيادة أو نقص: "قلت: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدًا، حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة (2) التي علل بها المخالف" (3) .
29 – وبالنظر في هذه الأقوال الثلاثة وتعليلاتها يلوح لي:
(أ) أن الاتجاه الفقهي لإيجاب أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة هو الأولى بالاعتبار من رأي الجهور الذاهبين إلى أن الواجب على المدين أداؤه، إنما هو نفس النقد المحدد في العقد والثابت في الذمة دون زيادة أو نقصان، وذلك لاعتبارين:
أحدهما: أن هذا الرأي هو الأقرب للعدالة والإنصاف، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل. والله يأمر بالقسط.
والثاني: أن فيه رفعًا للضرر عن كل من الدائن والمدين، فلو أقرضه مالاً فنقصت قيمته، وأوجبنا عليه قبول المثل عددًا تضرر الدائن؛ لأن المال الذي تقرر له ليس هو المستحق، إذ أصبح بعد نقصان القيمة معيبًا بعيب النوع المشابه لعيب العين المعينة (حيث إن عيب العين المعينة هو خروجها عن الكمال بالنقص، وعيب الأنواع نقصان قيمتها) . ولو أقرضه مالاً فزادت قيمته، وأوجبنا عليه أداء المثل عددًا تضرر المدين، لإلزامه بأداء زيادة عما أخذ، والقاعدة الشرعية الكلية أنه " لا ضرر ولا ضرار ".
(ب) أن الرأي الذي استظهره الرهوني من المالكية بلزوم المثل عند تغير النقد بزيادة أو نقص إذا كان ذلك التغير يسيرًا، ووجوب القيمة إذا كان التغير فاحشًا أولى في نظري من رأي أبي يوسف – المفتي به عند الحنفية – بوجوب القيمة مطلقًا؛ وذلك لاعتبارين:
__________
(1) حاشية المدني: 5/118.
(2) ويقصد العلة التي استدل بها أصحاب القول المقابل للمشهور في مسألة كساد النقلد، وهي أن الدائن قد دفع شيئًا منتفعًا به لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به (انظر حاشية الرهوني: 5/120، حاشية المدني: 5/118) .
(3) حاشية الرهوني: 5/121.(3/761)
أحدهما: أن التغير اليسير مغتفر قياسًا على الغبن اليسير والغرر اليسير المغتفرين شرعًا في عقود المعاوضات المالية من أجل رفع الحرج عن الناس نظرًا لعسر نفيهما في المعاملات بالكلية، ولغرض تحقيق أصل تشريعي مهم وهو استقرار التعامل بين الناس، بخلاف الغبن الفاحش والغرر الفاحش فإنهما ممنوعان في أبواب البيوع والمعاملات.
والثانى: أن التغير اليسير مغتفر تفريعًا على القاعدة الفقهية الكلية أن " ما قارب الشيء يعطي حكمه " (1) ، بخلاف التغير الفاحش، فإن الضرر فيه بين والجور فيه محقق.
الحالة الخامسة
التضخم والانكماش (2) .
__________
(1) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي: 170، المنثور في القواعد للزركشي: 3/144.
(2) التضخم: مصطلح اقتصادي حديث يراد به: وضع يكون فيه الطالب الكلي متجاوزًا العرض الكلي، وعادة ما تكون هناك زيادة كبيرة في كمية النقود في الدولة – أوراق البنكنوت والودائع المصرفية – دون أن تصاحب ذلك زيادة مناظرة في حجم الناتج من مختلف السلع. وهنا فإن الزيادة في القوة الشرائية والطلب الفعال يؤدي في الاقتصاد الحر إلى ارتفاع في الأسعار والأجور، مما يفضي في النهاية إلى "دورة مفرغة" من الزيادات المتلاحقة في الأجور والأسعار. وعندما تفرض الدولة قيودًا على إنفاق المستهلكين في صور رقابة على الأسعار ونظام البطاقات فإن التضخم لا تتكشف مظاهره المألوفة. أما الانكماش: فيدل على الحالة العكسية، أي الحالة التي تعمد فيها السلطات النقدية إلى إنقاص كمية النقود والائتمان. وهنا يهبط مستوى الأسعار والأجور وتتفشى البطالة بين العمال (موسوعة المصطلحات الاقتصادية للدكتور حسين عمر: 69) .(3/762)
30- وهذه الحالة لم يذكرها الفقهاء في كتبهم ولم يتعرضوا لها في مدوناتهم، إذ لم يكن لها من الخطر في زمانهم مثل ما لها في عصرنا الحاضر. وحقيقة هذه الحالة أن يطرأ التضخم أو الانكماش بعد الوجوب في الذمة وقبل والوفاء، بحيث تنخفض أو ترتفع القوة الشرائية للنقد الثابت دينًا في الذمة تجاه السلع والمنافع الخدمات التي تبذل عوضًا عنه.
والذي يُستنتج من كلام الفقهاء في مسألة تغير النقود، أن التضخم أو الانكماش وحدهما لا تأثير لهما على الديون البتة، ولو حدث أن قارن التضخم والانكماش إحدى الحالات الآنفة الذكر، فإن الحكم يناط بتلك الحالة بغض النظر عن التضخم والانكماش الملازم أو العارض.
31- هذا هو الحكم في الديون التي لا ارتباط لها عند وجوبها بالقوة الشرائية للنقد. أما الديون التي روعي في تحديدها قوة النقد الشرائية وقت الوجوب، ثم طرأ التضخم المالي وانخفضت تلك القوة الشرائية، فإنها تتغير بحسب نسبة التضخم الحادث، كما في دين النفقة إذا قدره القاضي وفرضه على من تجب عليه بالنظر إلى أسعار الأشياء التي يحتاجها مستحق النفقة وقت التقرير، ثم ارتفعت أسعار هذه الحاجيات في السوق، ففي هذه الحالة يحكم بتغير الدين تبعًا لتغير الوضع المالي للنقد؛ لأن القاعدة التي بنى عليها تقدير النفقة إنما هي تحقيق الكفاية للمنفق عليه، وهذا المبلغ المقرر بعد طروء التضخم أصبح غير كاف للوفاء بالغرض المناط به، فلهذا يتغير الدين تبعًا لتغير مناطه، ويزاد مقداره وفقًا لنسبة التضخم الحادث (1) .
__________
(1) انظر قطع المجادلة عند تغير المعاملة للسيوطي: 1/100.(3/763)
وعكس ذلك يقال في حالة طروء الانكماش في مثل هذه الواقعة. والله تعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع
البهوتي: منصور بن يونس ت 1501 هـ.
- شرح منتهى الإرادات. ط. القاهرة من غير تاريخ.
- كشاف القناع عن متن الإقناع. مطبعة الحكومة بمكة المكرمة سنة 1394 هـ.
ابن حجر الهيثمي أحمد بن محمد بن علي المكي ت 974 هـ.
- تحفة المحتاج شرح المناهج. وبهامشه حاشية عبد الحميد الشرواني.
- وحاشية ابن قاسم العبادي عليه. المطبعة الميمنية بالقاهرة سنة 1315 هـ.
الخرشي: محمد بن عبد الله.
- شرح مختصر خليل. وبهامشه حاشية على العدوي الصعيدي. مطبعة بولاق سنة 1318 هـ.
الرملي: محمد بن أحمد المصري ت 1004 هـ.(3/764)
- نهاية المحتاج شرح المنهاج. طبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1357هـ 1938 م.
الرهوني: محمد بن أحمد.
- حاشية على شرح الزرقاني لمختصر خليل. وبهامشه حاشية محمد ابن المدني على كنون. المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1306 هـ
الزرقاء: أحمد
- شرح القواعد الفقهية. تحقيق د/عبد الستار أبو غدة. دار الغرب الإسلامي ببيروت سنة 1403 هـ.
الزرقاني: عبد الباقي بن يوسف ت 1099 هـ.
- شرح مختصر خليل. مطبعة محمد مصطفى بالقاهرة سنة 1307 هـ وبهامشه حاشية محمد ابن الحسن البناني عليه.
الزيلعي: عثمان بن علي.
- تبين الحقائق شرح كنز الدقائق. وبهامشه حاشية أحمد الشلبي عليه. المطبعة الأميركية ببولاق سنة 1314 هـ.
السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ت 911 هـ.(3/765)
- قطع المجادلة عند تغيير المعاملة. مطبوع ضمن كتابه الحاوي للفتاوى الطبعة الثانية لدار الكتب العلمية ببيروت سنة 1395 هـ/1975 م.
الشافعي: محمد بن إدريس ت 204 هـ.
- الأم. طبعة دار المعرفة ببيروت سنة 1393 هـ.
ابن عابدين: محمد أمين.
- تنبيه الرقود على مسائل النقود. مطبوعة ضمن رسائل ابن عابدين في إستانبول من غير تاريخ.
عالم كير: أبو المظفر محيي الدين محمد أورنك.
- الفتاوى الهندية. المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1310 هـ.
علي حيدر:
- درر الحكام شرح مجلة الأحكام. تعريب فهمي الحسيني. ط. مكتبة النهضة في بيروت وبغداد.
عليش: محمد بن أحمد ت 1299 هـ.
- منح الجليل شرح مختصر الخليل. المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1294 هـ.
ابن قدامة: عبد الرحمن بن قدامة ت 682 هـ.
- الشرح الكبير على المقنع. مطبعة المنار بالقاهرة سنة 1374 هـ. بهامش المغني.
ابن قدامة: موفق الدين عبد الله بن أحمد المقدسي ت 620 هـ.
- المغني. مطبعة المنار بالقاهرة سنة 1347 هـ.
الكاساني: علاء الدين أبو بكر بن مسعود ت 587 هـ.
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع. مطبعة الإمام بالقاهرة من غير تاريخ.
النووي: يحيي بن شرف ت 676 هـ.
- المجموع شرح المهذب. مطبعة التضامن الأخوي بالقاهرة سنة 1347 هـ.(3/766)
أحكام أوراق النقود والعملات
لفضيلة القاضي محمد تقي العثماني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
التخريج الفقهي للأوراق النقدية:
قبل أن نخوض في أحكام الأوراق النقدية (البنكنوت) بجزئياتها وتفاصيلها يجب أن نعرف حقيقة هذه الأوراق، هل هي وثائق مالية؟ أو أثمان عرفية؟
فمن جعلها وثائق مالية اعتبرها سندات في ذمة مصدرها، فليست هذه الأوراق – حسب هذا الرأي – أثمانًا ولا أموالاً، وإنما هي عبارة عن وثيقة كتبها المديون، ليتسنى للدائن القبض على دينه إذا أراد، فكل من يدفع إلى غيره ورقًا من هذه الأوراق، فإنه لا يدفع إليه مالاً، وإنما يحيله على مديونه الذي أصدر ذلك الورق كوثيقة، فتجري عليه أحكام الحوالة الفقهية، فيجوز دفع هذه الأوراق قضاء لحق الآخر، حيث تجوز الحوالة فقط، فإن غطاء هذه الأوراق ذهب أو فضة، فلا يجوز أن يشتري بها الذهب أو الفضة أصلاً؛ لأن مبادلة الذهب أو الفضة بأحدهما صرف، والصرف يشترط فيه التقابض، والقبض على هذه الأوراق ليس قبضًا على غطائها من ذهب أو فضة، فانعدم التقابض الذي هو شرط في جواز الصرف، فبطلت هذه المعاملة شرعًا.(3/767)
وكذلك لو دفع غني هذه الأوراق إلى فقير لأداء الزكاة الواجبة عليه، فإن الزكاة لا تتأدى حتى يقبض الفقير على غطائه أو يشتري بها عروضًا، ولو ضاعت هذه الأوراق عند الفقير قبل أن يستمتع بها، لم تفرغ ذمة الغني الذي دفها من الزكاة الواجبة عليه.
ولكن هناك رأي آخر، وذلك أن هذه الأوراق قد أصبحت اليوم أثمانًا عرفية بنفسها، فدفعها دفع للمال أو للثمن، وليس حوالة للدين، فتتأدى بأدائها الزكاة، ويجوز شراء الذهب والفضة بها.
فيجب قبل الدخول في أحكام الأوراق النقدية والعملات المختلفة، أن نبت في أحد الرأيين في التخريج الفقهي لهذه الأوراق.
وإني بعد دراسة هذا الموضوع في كتب الفقه والاقتصاد، ممن يميل إلى الرأي الثاني، وهو أن هذه الأوراق أثمان عرفية، وليست حوالة.
وبما أن معرفة حقيقة هذه الأوراق تحتاج إلى معرفة تطور النظام النقدي في العالم، نريد أن نلم في البداية بشيء من خلاصة هذا التطور.(3/768)
تطور النظام النقدي في العالم:
من المعروف أن الناس في بداية الحياة البشرية كانوا يتبادلون الأشياء عن طريق المقايضة Barter، ولكن هذا الطريق كان فيه من مناقص تمنع من استعمالها كطريق عام يصلح في كل زمان ومكان.
فراج بعد ذلك نظام آخر يسمى "نظام النقود السلعية" (Commodity money System) ، وذلك أن الناس قد اختاروا بعض السلع لتستعمل استعمال الأثمان في معظم عقود المبادلة، وانتقيت من أجل ذلك سلع يكثر استعمالها، وتشتد الحاجة إليها في بيئة خاصة، كالحبوب الغذائية والملح والجلود وما إلى ذلك.
ولكن استعمال هذه السلع في التبادل كان فيه من مشاكل الحمل والنقل ما لا يخفى، فلما كثر العمران وازدادت الحاجات وكثرت المبادلات، شعر الناس بحاجة إلى اختيار نقد يخف حمله، وتتوفر ثقة الناس به.
ففي المرحلة الثالثة بدأ الناس في استعمال الذهب والفضة كأثمان في المبادلات؛ لقيمتها الذاتية في صنع الحلي والأواني، ولسهولة حملها وادخارها، حتى أصبح هذان المعدنان عيارا للقيمة يعتمد عليها الناس في جميع البلاد والأقطار. وإن هذا النظام النقدي يسمى "نظام النقود المعدنية (Metalic Money System) ، وقد مرت عليه تطورات كثيرة نستطيع أن نلخصها كما يلي:(3/769)
1- ففي البداية استعمل الناس الذهب والفضة كسلع نقدية في صورة قطع متباينة الحجم والوزن والنقاء، سواء كانت تبرا أو مصوغة في صورة الحلي أو الأواني وغيرها، وكان التعامل بهما يتم بالوزن.
2- ثم شرع الناس في سبك النقود من الذهب في بعض البلاد، ومن الفضة في بلاد أخرى، كوحدات متساوية في الحجم والوزن والنقاء، مختومة بختم رسمي يشهد بسلامتها وقابليتها للتداول. وكانت قيمة القطع الاسمية (Face Value) مساوية لقيمة ما تحتويه من ذهب أو فضة (Gold or Silver Content) ، وإن قيمة الذهب المسبوك بهذا الشكل كانت مساوية لقيمة التبر إذا كان وزنها واحدًا، وإن هذا النظام يسمى "نظام قاعدة التبر" أو "نظام قاعدة الورق (Gold Specie Standard) .
ويقال: إن أول من روج هذا النظام هم الصينيون في القرن السابع قبل ميلاد المسيح عليه السلام.
وكان المتعاملون في هذا النظام أحرارًا في التعامل بالذهب تبرا أو مسبوكًا أو مسكوكًا، وفي استيراده وإصداره خارج البلاد. وكانت الدولة تلزم بسك كل ما يرغب سكه من قبل المواطنين، فيأتي إليها الناس بتبر أو ذهب مصوغ، فتتولى الدولة ضربهما سكة، وردهما إلى مالكهما، وكذلك يأتي بعضهم بذهب مسكوك ويريدون تذويبه، فتتولى الدولة ذلك أيضًا، وترد إليهم الذهب بعد تذويبه تبرا.
3- اختار بعض الدول كلا المعدنين وليس معدنًا واحدًا فحسب كقاعدة نقدية في وقت واحد. وقررت قيمتهما كعيار لمبادلة أحدهما بالآخر، ويستعمل الذهب لقطع النقود الكبيرة، والفضة لقطع النقود الصغيرة، وإن هذا النظام يسمى "نظام المعدن الثنائي"
(Bi metalism) .
ولكن هذا النظام أحدث مشاكل أخرى؛ وذلك لأن نسبة القيمة بين قطع الذهب والفضة كانت تختلف بين بلد وآخر، فتحث الناس على المتاجرة بالعملة، فإن كانت القطعة الواحدة من الذهب تقوم بخمس عشرة قطعة من الفضة في أمريكا مثلاً، فإنها في نفس الوقت تقوم في أوروبا بخمس عشرة ونصف. وهذا يجعل تجار أمريكا يقتنون الذهب ويصدرونها إلى أوروبا؛ ليكسبوا بذلك كمية أكثر من الفضة، ويستوردونها إلى أمريكا؛ ليحولوها إلى الذهب، ثم يصدرون الذهب مرة أخرى، وهكذا. وصارت نتيجة هذه المتاجرة أن ذهب أمريكا مازال ينتقل إلى أوروبا، وأن القطع الفضية أخرجت القطع الذهبية من البلاد، ولما غيرت أمريكا النسبة في عام 1834 م فقومت قطعة الذهب بست عشرة قطعة من الفضة، حدث العكس وأقصت القطعُ الذهبية قطعَ الفضة.(3/770)
4- ثم إن القطع النقدية، سواء كانت من الذهب أو من الفضة، وإن كان يخف حملها بالنسبة إلى السلع النقدية، ولكنها في جانب آخر يسهل سرقتها في نفس الوقت، وكان من الصعب على الأثرياء أن يخزنوا كميات كبيرة من هذه القطع في بيوتهم، فجعلوا يودعون هذه الكميات الكبيرة عند بعض الصاغة والصيارفة، وكان هؤلاء الصاغة والصيارفة عندما يقبلون هذه الودائع يسلمون إلى المودعين أوراقًا كوثائق أو إيصالات (Receipts) لتلك الودائع، ولما ازدادت ثقة الناس بهؤلاء الصاغة صارت هذه الإيصالات تستعمل في دفع الثمن عند البياعات، فكان المشتري بدل أن يدفع القيمة نقدًا، يسلم إلى البائع ورقًا من هذه الإيصالات. وكان البائع يقبلها ثقة بالصاغة الذين أصدروها.
فهذه هي بداية الأوراق النقدية، ولكنها في بداية أمرها لم تكن لها صورة رسمية، ولا سلطة تلزم الناس قبولها، وإنما كان المرجع في قبولها وردها إلى ثقة البائع أو الدائن بمن أصدرها.
5- لما كثر تداول الإيصالات في السوق في مطلع القرن السابع عشر الميلادي تطورت هذه الأوراق إلى صورة رسمية تسمى " البنكنوت " ويقال: إن بنك إستاك هوم بالسويد أول من أصدرها كأوراق نقدية.(3/771)
وكانت هذه الأوراق النقدية آنذاك مغطاة بغطاء كامل عند البنك الذي أصدرها، ومدعومة بالذهب بنسبة مائة في المائة، وكان البنك يلتزم بأن لا يصدر هذه الأوراق إلا بقدر ما عنده من ذهب. وكان لكل من يحمل هذه الأوراق أن يذهب بها متى شاء إلى البنك، ويحول ما شاء منها إلى سبائك الذهب، ومن هنا يسمى هذا النظام "قاعدة سبيكة الذهب" (Gold bullion Standard) .
6- لما ازداد شيوع "البنكنوت" جعلتها الدول ثمنًا قانونيًا (Legal Tender) في سنة 1833م، وألزمت كل دائن أن يقبلها في اقتضاء دينه، كما يلزمه قبول النقود المعدنية، ثم منعت البنوك التجارية أيضًا من إصدارها، واقتصر إصدارها على البنوك الرئيسة الحكومية فقط.
7- ثم واجهت الحكومات مشاكل تمويل مشاريعها في السلع والحرب مع قلة ريعها، فلجأت إلى طبع كميات كبيرة من النقود الورقية، تزيد عن كمية الذهب الموجودة عندهم؛ لتستعملها في سد حاجاتها، فصار غطاء الأوراق النقدية يتناقص شيئًا فشيئًا، وهبطت نسبة دعمها بالذهب الحقيقي عن المائة في المائة إلى نسبة أدنى بكثير؛ وذلك لأن البنوك التي تصدر الأوراق النقدية كانت تستيقن بأن جميع هذه الأوراق لا يطلب تحويلها إلى الذهب في وقت واحد، وبعبارة أخرى قد راجعت في السوق أوراق نقدية لم تكن مدعومة بالذهب ولكن التجار قبلوها، لثقتهم بأن مصدرها يقدر على تحويلها إلى الذهب كلما طلب منه ذلك، بفضل الذهب الموجود عنده، وإن كانت كمية الذهب أقل من كمية الأوراق الصادرة من عنده. وإن هذه الأوراق النقدية تسمى "نقود الثقة" (Fiduciary Money) .(3/772)
ومن جهة أخرى، اضطرت الدول التي لم تزل تتعامل بالنقود المعدنية إلى تقليل كمية المعدن، أو تنقيص جودته في كل قطعة، بحيث أصبحت قيمتها الاسمية (Face Value) أعلى بكثير من قيمة ما تحتويه من ذهب أو فضة، (Intrinsic Value) ، وإن مثل هذه النقود تسمى "نقودًا رمزية" (Token Money) بحيث يرمز أصلها المعدني إلى قيمتها الاسمية التي تمثل قيمتها الحقيقية السابقة.
8- وإن تزايد "نقود الثقة" قد تدرج إلى حد أن الأوراق بلغت إلى مقدار ما يساوي أضعاف مقدار الذهب الموجود في البلاد، حتى خشيت الحكومات أن مقدار الذهب الموجود لا يفي بطلبات تحويل الأوراق إلى الذهب، ووقع ذلك فعلاً في بعض البلاد، حيث إن بعض البنوك لم تستطع تلبية بعض الطلبات في بعض الأحيان.
وحينئذ شرعت الدول تنفذ شروطًا قاسية على الذين يريدون تحويل أوراقهم إلى الذهب، وقد عطلت إنكلترا هذا التحويل بتاتًا بعد حرب 1914م، ثم عادت إلى جواز التحويل في سنة 1925م، ولكن بشرط أن ما يطلب من البنك تحويله، لا يكون أقل من ألف وسبعمائة جنيه، بما جعل عامة الناس لا يقدرون على تحويل أوراقهم إلى الذهب، ولكنهم لم يحتفلوا بذلك لشيوع الأوراق كنقد قانوني تنفعهم في متاجراتهم الأهلية ما تنفع الأوراق المعدنية.(3/773)
9- ثم في سنة 1931م منعت حكومة بريطانيا من تحويل الأوراق إلى الذهب إطلاقًا، حتى لمن يطلب أكثر من ألف وسبعمائة جنيه، وألزمت على الناس أن يقتنعوا بهذه الأوراق كبديل للذهب، ويتعاملوا بها في سائر مداولاتهم. ولكن الحكومات استمرت في احترام حق بعضها لبعض، فإن تحويل الأوراق وإن كان ممنوعًا داخل البلاد، ولكن كانت كل دولة ملتزمة بتحويل عملتها إلى الذهب لدولة أخرى إن تقدمت إليها بعملة الدولة الأولى، فلو شاءت أمريكا مثلاً أن تتقدم بأوراق جنيهات استرلينية إلى انكلترا، فإن إنكلترا كانت ملتزمة بتحويل تلك الأوراق إلى الذهب. وإن هذا النظام يسمى "قاعدة التعامل بالذهب" (Gold Exchange Standard) .
10- وقد ظل العمل بهذه القاعدة مستمرًا إلى أن واجهت الولايات المتحدة أزمة شديدة في سعر دولارها، وتدفق الذهب منها في سنة 1971م فاضطرت إلى إيقاف تحويل الدولار إلى الذهب للدول الأخرى أيضًا، وذلك للخامس عشر من شهر أغسطس سنة 1971م وبهذا قد قضي على آخر شكل من دعم الأوراق بالذهب. وفي سنة 1974 م اختار "الصندوق المالي العالمي " (International Monetary Fund) فكرة " حقوق السحب الخاصة " (Special Drawing Rights) كبديل لاحتياطي الذهب. وحاصل ذلك أن أعضاء هذا الصندوق يستحقون سحب كمية معينة من عملات شتى الدول لأداء ديونهم إلى الدول الأجنبية الأخرى، واعتبر 888676 جرامًا من الذهب كعيار لتعيين هذه الكمية، وإن حقهم لسحب هذه الكمية اعتبر بديلاً لاحتياطي الذهب.(3/774)
وهكذا أصبحت الذهب خارجًا عن نطاق النقود بتاتًا، وأصبحت الأوراق النقدية الرمزية تحتل مكانه من كل ناحية. وأن الأوراق النقدية لا تمثل اليوم ذهبًا ولا فضة، وإنما تمثل قوة شراء فرضية. وبما أن هذا النظام لم ترس قواعده بعد، كنظام أبدي خالد، وهنالك أصوات في كل بلد، للعودة إلى جعل الذهب كأساس للنظام المالي، حتى وللعودة إلى "قاعدة سبائك الذهب" فإن الدول لا تزعم أنفسها مستغنية عن الذهب إطلاقًا، بل تجتهد للإكثار من رصائدها الذهبية كأوثق احتياطي يفيدها في انقلابات الظروف المتغيرة، ولكن هذا الرصيد الذهبي، مهما عظم مقداره، احتياطي مجرد، ليس له علاقة رسمية بالنقود الرائجة في شكل الأوراق، أو في شكل العملة المعدنية الرمزية.
فهذه هي خلاصة تطورات النظام النقدي في العالم (1)
__________
(1) إن هذه الخلاصة لتاريخ النقود وتطوراتها مستمدة من الكتب الآتية: 1- An outline of Money, by Geoffrey Growther. 2- Money And Man, by Elgin Groseclose, Ivth. Ed. University of Okiahoma Press, Norman 197. 3- Modern Economic Theory, by K.K. Dewett New Delhi, 4- Encyclopaedia Britannica Banking and Credit Money Currency. 5- حكم التعامل في الذهب والفضة، للدكتور محمد هاشم عوض(3/775)
وإن هذه الدراسة تدل على أن الأوراق النقدية لم تكن قائمة على طور واحد في حقيقتها ومكانتها القانونية، وإنما مرت عليها أدوار وأطوار شتى.
فلا شك أنها كانت وثائق للديون في مبدأ أمرها، ولذلك أفتى كثير من العلماء بأنها سندات ديون وليست أموالاً ولا أثمانًا، يقول العلامة السيد أحمد بك الحسيني رحمه الله في كتاب "بهجة المشتاق في بيان حكم زكاة الأوراق":
" ولذلك لو بحثنا عن ماهية كلمة " بنك نوت " لوجدناها من الاصطلاح الفرنسي، وقد نص لاروس، وهو أكبر وأشهر قاموس للغة الفرنساوية الآن، في تعريف أوراق البنك، حيث قال: ورقة البنك هي ورقة عملة قابلة لدفع قيمتها عينًا لدى الاطلاع لحاملها، وهي يتعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية نفسها، غير أنه ينبغي أن تكون مضمونة ليثق الناس بالتعامل بها". اهـ. " فقوله: "قابلة لدفع قيمتها عينًا لدى الاطلاع لحاملها" لم يجعل شكًا في أنها سندات ديون"، ولا عبرة بما توهمه عبارته "التعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية"؛ لأن معنى تلك العبارة أن الناس يأخذونها بدل العملة، ولكن مع ملاحظة أن قيمتها تدفع لحاملها، وأنها مضمونة بدفع قيمتها، وهذا صريح في أن تلك الأوراق هي سندات ديون" (1) .
__________
(1) هذه العبارة مأخوذة من "بلوغ الأماني، شرح الفتح الرباني، للساعاتي رحمه الله: 8/248.(3/776)
وكذلك أفتى كثير من علماء الهند في القرن السابق بكون هذه الأوراق وثائق دين، فلا تتأدى بأدائها الزكاة، حتى يصرفها الفقير، ولا يجوز شراء الذهب والفضة بها (1) .
ولكن كان هناك في الوقت نفسه ثلة من العلماء والفقهاء، يعتبرون هذه الأوراق أموالاً، كأثمان عرفية. وقد أشبع الكلام على هذه المسألة العلامة أحمد الساعاتي رحمه الله، صاحب ترتيب مسند أحمد وشرحه، فقال في كتاب الزكاة من كتابه المذكور:
"فالذي أراه حقًا، وأدين الله عليه: أن حكم الورق المالي كحكم النقدين في الزكاة سواء بسواء؛ لأنه يتعامل به كالنقدين تمامًا؛ لأن مالكه يمكن صرفه وقضاء مصالحه به في أي وقت شاء. فمن ملك النصاب من الورق المالي، ومكث عنده حولا كاملاً وجبت عليه زكاته ... " إلخ (2) .
وبعين هذا الرأي كان يرى بعض علماء الهند، مثل مولانا الشيخ فتح محمد اللكنوي رحمه الله، صاحب "عطر الهداية" و "خلاصة التفاسير" وتلميذ الإمام عبد الحي اللكنوي رحمه الله، صاحب المؤلفات المعروفة في العلوم الإسلامية. وقد شرح ابنه المفتي سعيد أحمد اللكنوي رحمه الله رأيه في آخر كتابه "عطر الهداية"، وذكر أن الإِمام عبد الحي اللكنوي رحمه الله كان يوافقه في هذه المسألة.
__________
(1) راجع إمداد الفتاوى، للشيخ أشرف علي التهانوي رحمه الله: 2/5 والمجلد الثالث.
(2) شرح الفتح الرباني، آخر باب زكاة الذهب والفضة: 8/251.(3/777)
وخلاصة قوله: أن أوراق العملة لها جهتان: الأولى: أنها يتعامل بها في البيوع والإجارات، وسائر العقود المالية كالسكك والأثمان سواء بسواء، بل وقد ألزمت الدول جميع الناس لقبولها في اقتضاء الديون والحقوق، فلا يسع لدائن في القانون اليوم أن يمتنع من قبولها في اقتضاء دينه. ومن هذه الجهة صارت هذه الأوراق أثمانًا عرفية.
والجهة الثانية: أنها وثيقة من قبل الحكومة، والتزمت الحكومة بأداء بدلها عند هلاكها، فمن هذه الجهة أنها تخالف الأثمان العرفية المسكوكة، فإن الحكومة لا تؤدي بدلها عند هلاكها، ومن هذه الجهة ينبغي أن تعتبر كسندات لديون، أو كوثائق مالية أخرى.
ولكننا إذا أمعنا النظر في الجهة الثانية، رأينا أنها لا تبطل ثمنية هذه الأوراق، فإن الأصل أن الحكومة كانت تريد أن تصدر هذه الأوراق كأثمان عرفية، ولهذا ألزمت الناس قبولها في اقتضاء ديونهم، ولكن الأثمان المسكوكة سابقًا، حتى النقود الرمزية منها، كانت في أنفسها أموالاً لها قيمة يعتد بها، ولم يكن تقومها موقوفًا على إعلان الحكومة، ولا بجعلها أثمانًا رمزية، فإنها كانت تصنع تارة من الذهب والفضة، ومرة من الصفر، وأخرى من النحاس أو الحديد، مما هي أموال في أنفسها، ولو أبطلت الحكومة ثمنيتها بقي تقومها من حيث موادها.
وأما هذه الأوراق فليست أموالاً في أنفسها، وإنما جاء فيها التقوم من قبل الحكومة، ولو أبطلت الحكومة ثمنيتها بطل تقومها، فلم تكن هذه الأوراق لتحوز من ثقة الناس ما تحوزه الأثمان المعدنية، ولهذا التزمت الحكومة بأداء بدلها عند هلاكها أو ضياعها، لا لأنها لم تكن أثمانًا عرفية في نظر الحكومة، بل لتحوز هذه الأثمان ثقة العامة، ويتعامل بها الناس دون أيما خطر.
فليست جهة كونها وثيقة مما يبطل ثمنيتها، فإنها تنبئى عن وعد الحكومة بأداء بدلها، وليس لهذا الوعد أي أثر في تعامل الناس فيما بينهم، ولو كانت الحكومة لا تريد أن تجعلها أثمانًا عرفية، لما جبرت الناس على قبولها، بل إن هذه الجهة قد منحت هذه الأوراق من الثقة ما هو فوق ثقة الأثمان الأخرى، فإنها تهلك وتضيع بلا بدل، وهذه يمكن إبدالها من الحكومة. (1) .
رأينا في المسألة:
ولو أردنا أن نحاكم بين هذين الرأيين، فإنى أرى أن كلا الرأيين مصيب بالنسبة إلى أزمنة مختلفة، فقد شرحنا عند بيان تاريخ النقود ما مر على هذه الأوراق من تطورات.
__________
(1) راجع "عطر الهداية" للشيخ اللكنوي 218-227 طبع ديو بند الهند.(3/778)
فلا شك أنها كانت في بداية أمرها سندات لديوان، فقد جاء في دائرة المعارف البريطانية:
"أن البنكنوت ظهر في العالم قبل الشيكات المصرفية، ويمكن اعتباره كسند عند الدائن لدين له على البنك، وأن حقوق هذا الورق تنتقل إلى رجل آخر بتسليمه إليه، فيصير حامله دائنًا للبنك بطريقة تلقائية، ولهذا صار أداء الحقوق المالية بهذه الأوراق كأداءها بالنقود، وإن أداء المبالغ الكثيرة بالنقود المسكوكة عسيرة جدًا، فإنها تحتاج إلى عد ونقد، وربما يحتاج نقلها وحملها إلى تكاليف معتدة بها، باستعمال هذه الأوراق قد قلل من مشقة العد، وأذهب المشاق الأخرى رأسا" (1) .
ولكننا رأينا في تطورات هذه النقود أنها لم تبق على هذه الحالة في الأزمان الآتية، إنها كانت في بداية أمرها إيصالات مكتوبة شخصيًا من قبل بعض الصاغة والصيارفة، دون أن تكون لها صورة رسمية، ولا جهة واحدة تصدرها، ولم يكن أحد يجبر على قبولها عند اقتضاء حقه. ثم لما ازداد شيوعها جعلتها الحكومات عملة قانونية Legal Tender ومنعت البنوك الشخصية في إصدارها. وحينئذ اختلفت حقيقتها عن الوثائق المالية الأخرى في جهات تالية:
__________
(1) Encyclopadia Britannica 1950, V. 3p. 44 Banking And Credit(3/779)
1- أنها صارت عملة قانونية، وجبر الناس بقبولها كالأثمان العرفية الأخرى، في حين أن الوثائق المالية الأخرى لا يجبر أحد على قبولها في اقتضاء دينه، كالشيكات المصرفية مع أنها قد عم التعامل بها أيضًا.
2- أنها صارت عملية قانونية غير محدودة (Unlimited Legal Tender) في حين أن النقود المعدنية الرمزية عملة قانونية محدودة (Limited Legal Tender) .
فيمكن قضاء الدين بالأوراق النقدية، مهما عظم مقدار الدين، ولا يستطيع الدائن أن يرفض قبول شيء منها، بخلاف النقود المعدنية الرمزية، فإن الدائن يستطيع أن يرفضها في اقتضاء مبلغ كبير، فهذا يدل على أن أوراق العملة هذه قد فاقت العملة المعدنية الرمزية بكثير، في شيوع التعامل بها، واعتماد الناس عليها، وصفتها القانونية.
3- أن سند الدين يستطيع أن يصدره كل أحد، وليس هناك أي مانع قانوني ولا شرعي، أن يكتب مديون وثيقة لدائنه، ولا مانع من أن يستعملها ذلك الدائن في أداء دينه إلى دائن آخر، وهكذا، ولكن الأوراق النقدية لا تصدر إلا من جهة واحدة فقط، وهي الجهة الرسمية، كما هو شأن النقود المعدنية.
4- أن هذه الأوراق يطلق عليها كلمة "النقود"، "والأثمان"، "والعملة" في كل من العرف والقانون في جميع البلاد والأقطار، في حين أن هذه الكلمات لا تطلق على شيء من الوثائق الأخرى.(3/780)
5- أنها يتعامل بها الناس بنفس الاعتماد الذي يتعاملون به في النقود المعدنية الرمزية، ولا يخطر ببال أحد عند التعامل بها أنه يتعامل بدين، ولا يوجد اليوم أحد يطمع فيما وراءها من ذهب أو فضة أو عملة مسكوكة أخرى.
6- قد سبق في بيان تطورات هذه الأوراق أنها لم يبق اليوم وراءها شيء من الذهب والفضة فعلاً، ولا يمكن تحويلها إلى الذهب، حتى في المداولات الدولية. يقول جيوفر كزاؤتهر:
The Promise to Pay Which appears on their face is now utterly meaningless. Not even in amounts of 1.700 can notes now be converted into gold. The note is no more than a piece of paper, of no intrinisie value whatever and if it were presented for redemption, the Bank of England could honour its Promise to pay one Pound only by giving Silver coins or another note but it is money throughtout the British Isles (1) .
" إن وعد الأداء الذي يرى مكتوبًا على وجه الأوراق النقدية صار الآن لا معنى له إطلاقًا. لا ورق يمكن تحويله إلى الذهب الآن، حتى بمقدار ألف وسبعمائة جنيه. الورق النقدي الآن ليست إلا قطعة من الكاغد، ليس لها قيمة ذاتية، وأنها لو قدمت إلى البنك الرئيسي البريطاني لافتكاكها، فإن البنك لا يستطيع الوفاء بوعده إلا بإعطاء عملة رمزية، أو ورق نقدي آخر. ولكنه يعتبر في سائر الجزر البريطانية.
__________
(1) Geoffrey Grpwther: An Outline of money p16(3/781)
وحاصل ذلك أن هذا الوعد المكتوب لا يعبر اليوم إلا عن ضمان الحكومة لحامله بالحفاظ على قيمة الورق الاسمية (Face Value) وإن قيمته الاسمية عبارة عن عيار مخصوص لقوة الشراء، ولذلك لا يلتزم البنك بأداء الذهب أو الفضة أو العملة المعدنية الأخرى، بل ربما يفي بوعده بإبدال ذلك الورق بورق آخر يساويه في قيمته الاسمية، فليس ذلك أداء الدين، وإنما هو إبدال الثمن بثمن آخر، قد التزم به البنك الرئيسي، لا لأن الورق ليس ثمنًا رمزيًا، بل للحفاظ على ثقة الناس بهذا الثمن الرمزي.
فاتضح بما ذكرنا أن النقود الورقية لم تبق الآن سندات لديون في تخريجها الفقهي، وإنما صارت أثمانًا رمزية يعبر عنها الفقهاء بكلمة " الفلوس النافقة " فإن الفلوس النافقة تكون قيمتها الاسمية أكثر بكثير من قيمتها الذاتية، فكذلك الأوراق النقدية تكون قيمتها الاسمية أضعاف قيمتها الذاتية، وجرى بها التعامل العام فيما بين الناس، دون أيما فرق بينهما وبين الفلوس النافقة، حتى لا توجد العملة المعدنية اليوم – ولو رمزية – إلا نزرًا قليلاً، فالحكم بعدم أداء الزكاة بهذه الأوراق، ومنع مبادلة بعضها ببعض على أساس كونه بيع بالكالئ، ومنع اشتراء الذهب والفضة بها لفقدان التقابض، فيه حرج عظيم لا يتحمل، والمعهود من الشريعة السمحة في مثله السعة والسهولة، والعمل بالعرف العام المتفاهم بين الناس، دون التدقيق في أبحاث قد أصبحت اليوم فلسفة نظرية ليس لها في الحياة لعملية أثر، ولا يسمع لها خبر، والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/782)
وبعدما ثبت كون هذه الأوراق في حكم الفلوس، ننتقل إلى الأحكام المتعلقة بها، والله سبحانه المستعان.
1- الزكاة والأوراق المالية:
تجب الزكاة على الأوراق النقدية بالإجماع، وليس على قول من يقول بوجوب الزكاة على الدين فقط؛ لأنها ليست سندات دين، وإنما هي في حكم الفلوس النافقة، والفلوس النافقة في حق الزكاة كعروض التجارة، تجب عليها الزكاة إذا بلغت قيمتها نصاب الفضة.
وكذلك يجوز أداء الأوراق النقدية إلى الفقير زكاة، وتتأدي بها الزكاة فور ما يستلمها الفقر، دون انتظار أن يصرفها، أو يحولها إلى عملة معدنية، كما تتأدي الزكاة بأداء الفلوس إلى الفقير، ولا يشترط لأداء الزكاة بها أن يصرفها الفقير، أو يأخذ بدلها شيئًا من الذهب أو الفضة.
2- أحكام مبادلة الأوراق بالأوراق:
إن مبادلة الأوراق بالأوراق تمكن على وجهين:
الأول: المبادلة بين الأوراق الأهلية، وذلك أن تكون الأوراق في كلا الجانبين أوراق دولة واحدة.(3/783)
والثاني: المبادلة بين الأوراق الأجنبية، وذلك أن يكون التبادل بين عملات دول مختلفة. فلنتكلم على كلتا الجهتين على حدة:
المبادلة بين الأوراق الأهلية:
قدمنا أن النقود الورقية في حكم الفلوس سواء بسواء، فتجري على مبادلتها أحكام بيع الفلوس بعضها ببعض. فلو بيعت هذه الأوراق على التساوي، بأن تكون قيمة البدلين متساوية، فهذا جائز بالإجماع، بشرط أن يتحقق قبض أحد البدلين في المجلس قبل أن يتفرق المتبايعان، فإن تفرقا ولم يقبض أحد شيئًا، فسد العقد عند الحنفية وبعض المالكية؛ لأن الفلوس لا تتعين بالتعيين عندهم، وإنما تتعين بالقبض، فصارت دينا على كل أحد، والافتراق عن دين بدين لا يجوز (1) .
وأما بيعها على التفاضل بأن تكون قيمة أحد البدلين أكثر من الآخر، كبيع الربية بالربيتين، والريال بالريالين، والدولار بالدولارين، فتجري فيه أحكام الفلوس بالتفاضل، وفيه خلاف مشهور للفقهاء.
وذلك أن بيع الفلس بالفلسين حرام مطلقًا، وهو من الربا المحرم شرعًا عند الإمام مالك بن أنس، ومحمد بن الحسن الشيباني من الحنفية، وهو أشهر الوجهين عند الحنابلة، وبه يقول الإمام أبو حنيفة وأبو يوسف، إذا كان البدلان غير متعينين.
__________
(1) راجع له الدر المختار، وحاشيته لابن عابدين رحمه الله: 4/184.(3/784)
فأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فلأنه يعتبر الثمنية علة لتحريم التفاضل والنسيئة، سواء كانت الثمنية جوهرية، كما في الذهب والفضة، أو عرفية مصطلحة، كما في الفلوس، فلا يجوز التفاضل والنسيئة في مبادلتها بجنسها. وجاء في المدونة الكبرى للإمام مالك:
"ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود، حتى يكون لها سكة وعين، لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة؛ لأن مالكًا قال: لا يجوز فلس بفلسين، ولا تجوز الفلوس بالذهب والفضة ولا بالدنانير نظرة" (1) .
وأما الحنفية فإن العلة عندهم، وإن كانت الوزن، ولا يوجد ذلك في الفلوس ولكنهم يقولون: إنها أمثال متساوية قطعًا، لاصطلاح الناس بإهدار الجودة منها، فلو بيع فلس واحد بفلسين كان أحد الفلسين خاليًا عن العوض مشروطًا في العقد، وهو الربا، وهذا مادامت ثمنيتها باقية بأن لا تتعين بالتعيين، ثم يقول محمد بن الحسن رحمه الله: إنه لا سبيل إلى إسقاط ثمنيتها ما دامت رائجة؛ لأنها صارت ثمنًا بالاصطلاح، فلا تبطل إلا باصطلاح الجميع، فليس للمتعاقدين إبطالها وتعيينها، فلا يجوز الفلس بالفلسين بحال. ويقول أبو حنيفة وأبو يوسف: إن للمتعاقدين إبطال ثمنيتها بتعينها، وحينئذ تصير عروضًا متعينة، ويجوز فيها التفاضل (2) .
__________
(1) المدونة الكبرى، للإمام مالك: 7/104.
(2) راجع لتفصيله العناية على هامش فتح القدير: 5/287.(3/785)
وأما الإمام أحمد، فعنه في هذه المسألة روايتان: الأولى: أنه يجوز الفلس بالفلسين؛ لأن علة الربا عنده الوزن، ولا يوجد في الفلوس لكونها عددية. والثانية: لا يجوز، ويجري فيها الربا؛ لأن أصله الوزن، فلا يخرج بالصناعة عنه كالخبز، وذكر ابن قدامة أن اختيار القاضي أن ما كان يقصد وزنه بعد عمله كالإِسطال ففيه الربا، وما لا فلا (1) .
وقياس هذا التعليل أن يجوز عنده بيع الأوراق النقدية متفاضلة؛ لأن الورق ليس موزونًا من أصله، بخلاف الفلوس المعدنية، والله سبحانه أعلم.
والمذهب الثاني للفقهاء في هذا الباب: أنه يجوز بيع الفلس بالفلسين، ويجوز التفاضل في مبادلة الفلوس بالغًا ما بلغ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله؛ وذلك لأن علة الربا عنده جوهرية الثمن، فتختص بالذهب والفضة، وليست الفلوس في حكمها، فلا ربا عنده في الفلوس وإن راجت، فيجوز عنده بيع بعضها ببعض متفاضلاً (2) .
وكذلك أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يجوزان الفلس بالفلسين، إذا كانا بأعيانهما، وعينهما العاقدان، لفوات ثمنيتهما حينئذ، وكونهما عروضًا محضة، كما قدمنا.
__________
(1) المغني لابن قدامة، مع الشرح الكبير: 4/128و 129، وفتاوى ابن تيمية: 29/460.
(2) راجع نهاية المحتاج، للرملي: 3/418، وتحفة المحتاج، لابن حجر، مع حاشية الشرواني: 4/279.(3/786)
الرأي الراجح في هذا الباب:
كان اختلاف الفقهاء هذا في زمن يسود فيه الذهب والفضة كعيار للأثمان، وتتداول فيه النقود الذهبية والفضية بكل حرية، ولا تستعمل الفلوس إلا في مبادلات بسيطة. وأما الآن فقد فقدت النقود المعدنية من الذهب والفضة، ولا يوجد اليوم منها شيء في العالم كله، واحتلت النقود الرمزية محلها في سائر المعاملات كما بينا في بداية هذه المقالة.
فيجب الآن – فيما أرى – أن يختار قول الإمام مالك أو الإمام محمد رحمهما الله تعالى في مسألة بيع النقود الرمزية بعضها ببعض؛ وذلك لأنه لو وقع الحكم اليوم بمذهب الإمام الشافعي، أو الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله، لانفتح باب الربا على مصراعيه، وصارت كل معاملة ربوية حلالا تحت هذا الستار، فإن المقرض أن أراد الربا باع نقوده الرمزية من الآخر بنقود رمزية أكثر من قيمة ما دفعه.
والذي يغلب على الظن أن هؤلاء الفقهاء لو كانوا أحياء في هذا الزمان، وشاهدوا من تغير أحوال النقود ما نشاهده، لأفتوا بحرمة الفلس بالفلسين، وقد رأينا ذلك فعلاً من بعض الفقهاء المتقدمين، إذ حرم مشايخ ما وراء النهر التفاضل في العدالي والغطارفة، وهي النقود التي كان يغلب عليها الغش، ولم تكن فيها الفضة إلا بنسبة ضئيلة، وكان أصل مذهب الحنفية في مثل هذه النقود جواز التفاضل، صرفا للجنس إلى خلاف الجنس، ولكن مشايخ ما وراء النهر أفتوا بحرمة التفاضل فيها، وعللوا ذلك بقولهم: أنها أعز الأموال في ديارنا، فلو أبيح التفاضل فيها ينفتح باب الربا (1) .
ثم إن قول الإمام محمد رحمة الله تعالى يبدو راجحًا من حيث الدليل أيضًا، إذا قورن بمذهب شيخيه الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى؛ لأن إبطال ثمنية الفلوس لا يتصور صحيح، فقلما يوجد من يطمع في خصوص مادة الفلوس من حيث كونها قطعات صفرا أو حديدا، وإنما يرغب فيها من حيث ثمنيتها، فلو تصالحها على إبطال ثمنيتها، لا يكون ذلك إلا حيلة مصطنعة لتحليل التفاضل، ومثل ذلك لا يقبله الشرع، ولا سيما في زماننا، حيث لا يتصور الربا إلا في النقود الرمزية، لنفاد النقود الخلقية وفقدانها من العالم كله.
نعم، يمكن أن يتصور قول الشيخين في الفلوس التي يقصد اقتناؤها من حيث موادها وصنعتها، ولا يقصد التبادل بها، كما هو معتاد عند بعض الناس في عصرنا من اقتناء عملات شتى البلاد وشتى الأنواع؛ لتكون ذكرى تاريخية. ففي مثل هذه الفلوس يمكن أن يتصور ما قاله الشيخان رحمهما الله، ويبدو أن في التفاضل في مثل هذه الفلوس سعة على قولهما، وأما الفلوس التي يقصد بها التبادل دون خصوص المادة، فلا ينبغي المساهلة في أمرها، فإنها من أقوى الذرائع إلى الربا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) راجع الهداية مع فتح القدير باب الصرف: 5/382(3/787)
فالصحيح الراجح في زماننا أن مبادلة الأوراق النقدية إنما تجوز بشرط تماثلها، ولا يجوز التفاضل فيها.
ثم التماثل ههنا لا يكون بعدد الأوراق، وإنما يكون بقيمة الأوراق الاسمية، فيجوز بيع ورق واحد قيمته الاسمية خمسون ربية بخمسة أوراق قيمة كل واحد منها عشر ربيات؛ لأن مجموع قيمة هذه الخمسة تساوي خمسين ربية، وذلك لأن المقصود من بيع هذه الأوراق ليس ذات الورق ولا وزنه أو عدده، وإنما المقصود هو القيمة التي يمثلها، فيجب التساوي في تلك القيمة، وهذا كما جعل الفقهاء الفلوس عددية، مع أن أصلها من معدن موزون، وما ذلك إلا لأن المقصود منها ليس ذواتها، وإنما المقصود هو القيمة التي تمثلها هذه الفلوس، فلو كانت قطعة منها تساوى عشرة فلوس، فإنه يباح بيعها بعشر قطعات قيمة كل منها فلس واحد، حتى عند من يحرم بيع الفلس بالفلسين؛ لأنها مساوية في القيمة، أو لأن قطعة العشرة وإن كانت واحدة في العدد، ولكنها في حكم عشر قطع، فتساوي عشر قطعات، فكذلك الأوراق النقدية لا يعتبر فيها عددها الظاهر، بل عددها الحكمي الذي يظهر من قيمتها الاسمية. والله سبحانه أعلم.(3/788)
مبادلة عملات الدول المختلفة:
ثم الذي يظهر أن عملة الدولة الواحدة الرمزية كلها جنس واحد، وعملات الدول المختلفة أجناس مختلفة؛ وذلك لأن العملة اليوم لا يقصد بها مادتها، وإنما هي عبارة عن عيار مخصوص لقوة الشراء، وأن ذلك العيار يختلف باختلاف البلاد، كالربية في باكستان والريال في المملكة السعودية والدولار في أمريكا، وما إلى ذلك، وأن عيار كل دولة ينبني على قائمة أسعارها، وقدر إيرادها وإصدارها، وليس هناك شيء مادي ينبئ عن نسبة ثابتة بين هذه العيارات، وإنما تختلف هذه النسبة كل يوم، بل كل ساعة، بناء على تغير الظروف الاقتصادية في شتى البلاد، ولذلك لا يوجد بين عملات البلاد المختلفة علاقة ثابتة تجعل هذه العملات جنسًا واحدًا، بخلاف عملة الدولة الواحدة، فإن أنواعها المختلفة مرتبطة بينها بنسبة ثابتة لا تتغير، كالربية والبيسة في باكستان، بينهما نسبة الواحد والمائة، وأنها نسبة ثابتة لا تتأثر بتغير أسعار الربية. وأما الربية الباكستانية والريال السعودي، فليس بينهما نسبة ثابتة، بل إنها تتغير كل حين بتغير أسعار هذا أو ذاك.
فتبين أن عملات الدول المختلفة أجناس مختلفة، ولذلك تختلف أسماؤها وموازينها ووحداتها المنشعبة منها.
ولما كانت عملات الدول أجناسًا مختلفة جاز بيعها بالتفاضل بالإجماع، أما عند الشافعي رحمه الله فلأنه يجوز بيع الفلس بالفلسين في عملة واحدة، ففي العملات المختلفة أولى، وهو رأي في مذهب الحنابلة كما قدمنا، وأما عند مالك رحمه الله فلأنه يجعل هذه العملات من الأموال الربوية فإذا اختلفت أجناسها جاز التفاضل، وأما عند أبي حنيفة وأصحابه فلأن تحريم بيع الفلس بالفلسين مبني عندهم على كون الفلوس أمثالاً متساوية قطعًا، فيبقى عند التفاضل فضل خال عن العوض، ولكن عملات البلاد المختلفة لما كانت أجناسًا مختلفة، لم تكن أمثالاً متساوية، فلا يتصور الفضل الخالي عن العوض.(3/789)
فيجوز إذن أن يباع الريال السعودي مثلاً بعدد أكثر من الربيات الباكستانية.
ثم إن أسعار هذه العملات بالنسبة إلى العملات الأخرى، ربما تعين من قبل الحكومات، فهل يجوز بيعها بأقل أو أكثر من ذلك السعر المحدد؟ والجواب عندي أن البيع بخلاف هذا السعر الرسمي لا يعتبر ربا؛ لما قدمنا من أنها أجناس مختلفة، ولكن تجري عليه أحكام التسعير، فمن جوز التسعير في العروض، جاز عنده هذا التعسير أيضًا، ولا ينبغي مخالفة هذا السعر، إما لأن طاعة الإمام فيما ليس بمعصية واجب (1) ، وإما لأن كل من يسكن دولة فإنه يلتزم قولاً أو عملاً بأنه يتبع قوانينها، وحينئذ يجب عليه اتباع أحكامها، مادامت تلك القوانين لا تجبر على معصبة دينية (2) .
بيع العملات بدون التقابض:
ثم إن هذه الأوراق النقدية، وإن كان لا يجوز فيها التفاضل، ولكن بيعها ليس بصرف، فلا يشترط فيه التقابض في مجلس العقد، نعم يشترط قبض أحد البدلين عند الإمام أبي حنيفة وأصحابه؛ لأن الفلوس عندهم لا تتعين بالتعيين، فلو افترقا دون أن يقبض أحد البدلين، لزم الافتراق عن دين بدين (3) . وأما عند الأئمة الثلاثة فينبغي أن لا يشترط ذلك إن كان أحد البدلين متعينًا؛ لأن الأثمان تتعين بالتعيين عندهم (4) .
__________
(1) هذه القاعدة صرح بها الفقهاء، راجع مثلاً "شرح السير الكبير للسرخسي: 1/96 ورد المحتار، باب العيدين: 1/780 وباب الاستسقاء 1/792، وكتاب الحظر والإباحة: 5/407.
(2) راجع أحكام القرآن للشيخ المفتي محمد شفيع رحمة الله: 5/43.
(3) راجع الدر المختار مع رد المحتار: 4/183 و 184.
(4) راجع المغني لابن قدامة، باب الصرف: 4/169.(3/790)
وهل يجوز هذا البيع نسيئة؟ كما هو معمول به اليوم عند كثير من التجار وعامة الناس، أنهم يعطون عملة بلدهم، بشرط أن يؤدي الآخذ بدلها في شكل عملة بلد آخر بعد مدة، مثل أن يعطي زيد عمرا ألف ريال سعودي في المملكة السعودية، بشرط أن يؤدي عمرو بدلها أربعة آلاف ربية باكستانية في باكستان.
فأما عند الحنفية فيجوز هذا البيع؛ لأن الأثمان لا يشترط فيها كونها مملوكة للعاقد عند البيع عندهم، فيصح فيها التأجيل عند اختلاف الجنس، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وإذا اشترى الرجل فلوسًا بدراهم ونقد الثمن، ولم تكن الفلوس عند البائع، فالبيع جائز؛ لأن الفلوس الرائجة ثمن كالنقود. وقد بينا أن حكم العقد في الثمن وجوبها ووجودها معًا، ولا يشترط قيامها في ملك بائعها لصحة العقد، كما لا يشترط ذلك في الدراهم والدنانير" (1) .
فصار البيع حينئذ بيعًا بثمن مؤجل، وذلك جائز في الأجناس المختلفة، ثم يمكن تخريجه على قاعدة السلم أيضًا؛ لأن السلم في الفلوس جائز عند أكثر الفقهاء؛ لأنها عددية غير متفاوتة تنضبط بالضبط، حتى عند محمد رحمه الله أيضًا، الذي يقول بحرمة الفلس بالفلسين (2) . وكذلك يجوز السلم في كل ما لا يتفاوت من العدديات عند أحمد رحمه الله (3) .
وحينئذ يجب أن تراعي في هذا العقد شرائط السلم، على اختلاف أقوال الفقهاء فيها، وهي معروفة. والله سبحانه وتعالى أعلم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) مبسوط السرخسي: 14/24.
(2) راجع فتح القدير: 5/327.
(3) المغني لابن قدامة: 4/327.(3/791)
أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة
لفضيلة الشيخ محمد علي عبد الله
بسم الله الرحمن الرحيم
أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة
قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)) . ويقصد بكلمة (تشفوا) هذا تزيدوا.
وقد ورد هذا الحديث للنهي عن ربا الفضل الذي يقصد به بيع أحد الجنسين بمثله بدون تأخير في القبض.
وقد وقع النهي عن ذلك لما عساه أن يوجد من التحايل والتلبيس على بعض ضعاف العقول. فيقدم لهم القطعة المنقوشة نقشًا بديعًا من الذهب تساوي زنتها مرتين، وبالتالي يقع الغبن.
والحديث الشريف ينهي عن بيع الذهب بالذهب والأصناف المتجانسة بمثلها مع زيادة كان يتم بيع قطعة من الذهب زنتها عشرة مثاقيل بقطعة من الذهب زنتها اثنا عشر مثقالاً، وكذلك في الصرف الورق بالورق. فإذا ما اختلف الجنسان فإنه يصح البيع والشراء بالزيادة على قيمته وبنقصها، فيصح أن يشترى الجنيه الذي قيمته مائة وعشرة، كما يصح أن يصرفه بتسعين قرشًا، إلا أنه يشترط هنا فيه التقابض، فلا يصح صرف جنيه بفضة إلا إذا كان كل واحد يأخذ ماله في المجلس. وبالتالى يجب أن يكون المبيع والثمن موجودين في ملك البائع والمشتري، فإذا ما وقع دفع سبعين قرشًا وأجل عشر قروش مثله، فإن ذلك يدخل ضمن ربا الفضل وهو حرام.(3/792)
وللقروش أو الفلوس أحكامها في المذاهب.
فحسب الشافعية الأوراق النقدية أو الفلوس لا يدخلها الربا، سواء كانت رائجة يتعامل بها أو لا، وبالتالي يجوز بيع بعضها ببعض متفاضلاً إلى أجل، فإذا باع عشرين قرشًا صاغًا من العملة المحلية بخمسين قرشًا من القروش التعريفة يدفعها بعد شهر فإن ذلك يصح رغم وجود زيادة خمسة قروش.
أما الحنيفة: قد ورد لديهم الفلوس المأخوذة من غير الذهب والفضة، إلا أنه يصح بيع بعضها ببعض مفاضلة، ولا يشترط فيها التقابض من الجانبين، فإذا اشترى قرشًا من الصاغ، بقرش من التعريفة أكثر منها لأجل فإنه يصح إذا قبض القروش الصاغ، وأما إذا افترقا قبل أن يقبض أحدهما فإنه لا يصح.
الحنابلة من ناحيتهم إذا ما اشترى فلوسًا يتعامل بها مأخوذة من غير الذهب والفضة فإن يجوز شراؤها بالنقد متفاضلة إلى أجل، فيصح أن يشتري ثلاثين قرشًا صاغًا من العملة المصرية مثلاً بريالين يدفعهما بعد شهر، إلا أن البعض اشترط هنا التقابض في المجلس.
وأخيرًا المالكية قالوا بأن الفلوس على ما اتخذت من نحاس ونحوه وهي كعروض التجارة، فيجوز شراؤها بالذهب والفضة، كما يجوز أن يشتري بها حليًا فيه ذهب وفضة، أما شراؤه بالذهب فقط أو الفضة فإنه لا يجوز نقدًا، سواء كانت الفضة أقل من الذهب أو العكس.
وملخص القول إباحة تغير القيمة، أو بالأحرى التعامل بالنقود الورقية وتغير قيمة العملة غير مخالف للشرع.(3/793)
أحكام النقود الورقية
لفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الرسالة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه أرسله رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد …
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ألا وأن الله عز وجل أناط تمام الإيمان بالتحاكم إلى شرعه العظيم ونبيه الكريم، فقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .(3/794)
هذا، وأنه قد جد في هذا العصر نوازل ووقائع تتطلب تحاكمًا إلى الشريعة المطهرة، وذلك لا يكون إلا عن طريق علماء الشرع وفقهاء العصر الذين هم أهل الذكر في هذا الأمر {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء: 83] كما قال ربنا في كتابه المجيد.
وقد جدت في هذه النوازل واقعة النقود الورقية، وعم بها التعامل، وصارت من عموم البلوي، واختلف الناس في كونها نقودًا كالذهب والفضة تجب فيها الزكاة ويحرم بها الربا أم لا؟ وذهب الجمهور إلى الأول، وذهب البعض إلى الثاني، وإني مع قوة أدلتهم ووضوحها، ومع هذا فقد تعرضت لقول البعض وشبه أدلتهم، وذكرت ما عليه الجمهور من الأدلة والبراهين الدافعة.
قسمت البحث إلى بابين بعد مدخل للبحث لابد منه في شروح لغوية واصطلاحية ولمحة تاريخية. كان الباب الأول في أحكام الأوراق المالية العرفية وفيه فصلان: الأول في الأحكام الفقهية، والثاني في نقول من أقوال الفقهاء المعاصرين.
وأما الباب الثاني فاشتمل على أحكام تغير قيمة العملة في الفقه الإسلامي، وخلاصة لما قاله العلامة ابن عابدين في أحكام تغير قيمة العملة غلاء ورخصًا وكسادًا في المذهب الحنفي، مع تعرضي للمذاهب الأخرى من المذاهب الثلاثة، وهو لدي الراجح المعمول عليه.
هذا ما توصلت إليه في بحثي المتواضع، أقدمه لا أدعى فيه الإحاطة والشمول والتمام، بل هو جهد فتحت به للباحثين بابًا يلجونه. ولعل الله يجعلني في عملي هذا من أصحاب الأجر الواحد إن لم أكن من أصحاب الأجرين. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(3/795)
مدخل إلى البحث
1- معنى النقد.
2- شرح كلمة بنك نوت.
3- النقود المتعامل بها قديمًا وحديثًا.
(1) معنى النقد لغة واصطلاحًا
النقد في اللغة خلاف النسيئة يقال: نقد الشيء قبضه، والنقد الجيد الوازن من الدراهم، ودرهم نقد ونقود جياد. وفي حديث جابر رضي الله عنه قال: فنقدني ثمنه، أي أعطانيه نقدًا معجلاً، فالنقد يطلق مصدرًا واسمًا بمعنى المنقود، وهو الثمن الحال، والفقهاء خصوه بالمضروب من الذهب والفضة معجلاً أو مؤجلاً جيدًا أو غير جيد، فلا يطلقون اسم النقد على الأثمان الأخرى سواء كانت متخذة من المعادن أو غيرها إلا على ضرب من التشبيه. وعلماء الاقتصاد توسعوا في ذلك فأطلقوا اسم النقد على كل ما كان واسطة في المبادلات وعاملاً في الحصول على مقابل مرغوب فيه لسد حاجة أو دفع ضرورة أو غير ذلك، مع اتفاق الفريقين على أن ما اتخذ أثمانًا رائجة واتفقت الملة على اعتباره يؤدي وظيفة النقد المعد للماء وهو الذهب والفضة، إذ ليس في الشريعة ما يمنع اتخاذ أي نوع من أنواع العروض ثمنًا يتعامل به مع الذهب والفضة أو بدلاً عنهما، سواء كان متفقًا عليه بين الكل أو لا. ولهم أن يسموه نقدًا أو عملة أو ثمنًا أو بدلاً، إلى غير ذلك من الأسماء، إذ لا نزاع في التسمية.(3/796)
نعم يشترط في صحة الثمن كالثمن شروط تكفلت ببيانها كتب الفروع، والاقتصاديون لا يلتفتون إليها في معاملاتهم لعدم تقيدهم في ذلك بأحكام الدين، فإذا اتفقت الملة على أن يأخذوا أي شيء كان صنفه ويعتبرونه ثمنًا يبيعون به ويشترون، أو رأت الحكومة ضرب أي عملة وقدرت لها قيمة للتعامل بها، فذلك سائغ عندهم، وأما عند الشرعيين فلا بد لها من شروط، منها أن يكون طاهرًا منتفعًا به شرعًا فلا يجوز اتخاذ من جلود الميتة، ولا من الخمور والزيوت النجسة، ولا من آلات اللهو والطرب كالأعواد والمزامير ونحوها. وعلى كل حال فلا بد لكل أمة من الاتفاق على نقد واحد يجري به التعامل بينهم، ويحفظ التوازن في المبادلة بحيث يعطي به الفرد كما يأخذ،، فإن تبادل المنافع ضروري في المجتمع الإنساني، إذ ليس كل إنسان لديه جميع ما يحتاج إليه ولا في استطاعته الحصول عليه بدون الاستعانة بغيره، ولا يمكن أن يستأثر بحاجيات نفسه ومنافع غيره بدون عوض يبذله وبدل يدفعه.
والأصل في العوض المماثلة ولو التقريبية، وتحقيقها من العسر بمكان في المبادلة بالسلع، فلا بد من الاتفاق على بدل مقارب تتفاوت أصنافه في القيم إما بالخلقة والذات أو بالوضع والتقدير، وأجوده وأقومه نقد الذهب والفضة لقلة وجودهما ووفرة نفقات استخراجهما، وأسهله وأيسره اتخاذًا ومعاملة نقد الأوراق والكواغد وقطع الجلود ونحوها (1) .
__________
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ حسنين مخلوف: 34.(3/797)
(2) شرح معنى كلمة بنك نوت
جاء في كتاب بهجة المشتاق لمؤلفه العلامة فضيلة الشيخ الشريف أحمد الحسيني الشافعي رحمه الله تعالى في ص 68.
بنك نوت: هو لفظ إفرنسي، وقد نص قاموس (لاروس) وهو أكبر وأشهر قاموس للغة الفرنساوية الآن في تعريف أوراق البنك حيث قال: ورقة البنك هي ورقة قابلة لدفع قيمتها عينًا لدى الاطلاع لحاملها، وهي يتعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية.
وجاء في ص 71 قوله: (إن المعاملة بهذه الأوراق، إنما تخرج على قاعدة الحوالة، لمن يجيز المعاملة بالمعاطاة من غير اشتراط صيغة، والحوالة كالبيع فمن يقول بصحة البيع بالمعاطاة يقول بصحة الحوالة بالمعاطاة من غير اشتراط صيغة، وهناك قول وجيه في مذهب السادة الشافعية يجيز المعاملة بالمعاطاة) .اهـ.
هذه البنوك وكذا الصيارفة مستعدون لدفع قيمة ما معك من الأوراق بأي عملة كانت، لأي دولة اتبعت؛ لأن منع التعامل بالذهب والفضة أقرته جميع الحكومات للمحافظة على ما عندها من الذهب والفضة؛ خوفًا من تسربهما للخارج كما مر آنفًا.
لذلك كان الورق النقدي حالاً محلهما، بل هو الذهب والفضة بعينه (1) .
__________
(1) ينظر رسالة (زكاة الأوراق) للأستاذ محمد نبهان الخباز: 44.(3/798)
(3) النقود المتعامل بها قديمًا وحديثًا
وقد اختلفت الأمم قديمًا وحديثًا في الاصطلاح على النقود ولا تزال مختلفة فيه حتى الآن، فقد اتخذ الأحباش قديمًا نقودًا من الملح زمنًا مديدًا، واتخذ الأقدمون من سكان جمهورية المكسيك بأمريكا الشمالية نقودًا من صنف الكاكاو، واتخذ الأقدمون من سكان إنجلترا نقودًا من الودع والشاي، وكان لأهالي الروسيا نقود من قوالب الشاي المضغوط، ولبعض سكان الأقاليم الشمالية بأفريقيا نقود من جلود السنجاب والحيتان، ولأهالي الصين نقود من قشر شجر التوت، واتخذ اليونان في عهد أرسطو نقودًا من الحديد، واليابان والصين نقودًا من النحاس، والعبريون نقودًا من الرصاص، واتخذ الكثير من الأمم نقودًا من القصدير والزنك والصفيح.
إلا أن النقود النحاسية كانت أكثر استعمالاً لعلو قيمة النحاس بالنسبة لغيره بسب كثرة نفقات استخراجه، فحلت محل النقود الحديدية، وأصبحت أكثر النقود تداولاً وذيوعًا في أوروبا في القرون الوسطى، إلى أن استكشفت بيرو في أميركا الجنوبية وجمهورية المكسيك الغنيتين بمعدن الفضة، فكثر التعامل بالنقود الفضية وصارت نقدًا رئيسيًا في الممالك الغنية، ولا تزال من النقود المهمة حتى الآن. ويقال: إن أول استعمال للفضة نقدًا برومة كان سنة 269 قبل الميلاد. واتخذ الذهب نقدًا نفيسًا في عدة بلاد، وأقدم بلاد اتخذته مصر. وهو الفضة من أجود المعادن وأليقهما في صناعة النقود، ولذلك حظرت الشريعة استعمالهما في غير ما أُعِدَّا له إلا في أحوال خاصة.(3/799)
أما تاريخ اتخاذ النقود من الورق فيرجع عهده إلى القرن الثالث عشر من الميلاد، حيث اتخذ الصينيون إذ ذاك نقودًا من قشر شجر التوت، ثم تبعهم الفرس فاليابان فأهل أوربا بعد قرون عديدة، إلى أن فشا استعماله نقدًا في أكثر بلاد العالم الآن.
ولا يكون له في الحقيقة ذلك الأثر الذي للنقود الأصلية إلا باعتبار ما يعادله من النقد الخلقي.
ولكثرة التعامل به وحلوله محل المعادن في المبادلة واتخاذه مالاً وثروة، حتى لا يعد فقيرًا من عنده منه كمية وافرة أو ورقة واحدة ذات قيمة كبيرة، كان من الحكمة الاعتداد به كالنقد وإخراج زكاته حتى لا يحرم الفقير من الجزء الذي يستحقه من مال الغني، ولا يفتح للأغنياء باب التخلص من الزكاة الواجبة في أموالهم بتحويلها إلى أوراق مالية، فإنهم أشحة بالمال، والفقراء من أجل ذلك سيئو الحال، ولا بد من تفريج كربهم وسد عوزهم بدفع ما أوجب الله على الأغنياء في أموالهم، حتى لا يقعوا من جرائهم في شر عظيم وشقاء دائم (1) .
__________
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ حسنين مخلوف: 45.(3/800)
الباب الأول
أحكام الأوراق المالية العرفية
الفصل الأول: الأحكام الفقهية عند البعض والجمهور.
الفصل الثاني: نقول من أقوال الفقهاء المعاصرين.
الفصل الأول
الأحكام الفقهية للأوراق المالية العرفية
المبحث الأول: شبه حكم الورق عند من لا يعده نقدًا.
المبحث الثاني: حكم هذه الأوراق عند الجمهور.
المبحث الثالث: مسالك تخريج قول الجمهور.(3/801)
المبحث الأول
شبهة حكم الورق المعروف بالنوط
عند من لا يعده نقدًا من الفقهاء القدامى والمعاصرين
ذكر الأستاذ رشيد الراشد في كتابه الدرر النقية في المطالب الفقهية ص 93 قوله: "قال محمد محفوظ الترمسي في حاشيته على شرح ابن حجر على المقدمة الحضرمية على مذهب السادة الشافعية: اختلف المتأخرون في الورق المعروف بالنوط، فعند الشيخ سالم بن سمير والحبيب عبد الله بن سميط: أنها من قبيل الديون نظرًا إلى ما تضمنته الورقة المذكورة من النقود والتعامل بها.
وعند الشيخ محمد الإنبابي والحبيب عبد الله بن أبي بكر، أنها كالفلوس المضروبة والتعامل بها صحيح عند الكل، وتجب زكاة ما تضمنته الأوراق من النقود.
وإذا علمت ذلك تعلم أن ما كتبه العلامة عبد الحميد الشرواني محشي التحفة في أوائل كتاب البيع من جزمه بعدم صحة التعامل بها مطلقًا، وجزمه بعدم وجوب الزكاة، معللاً عدم الصحة بأن الأوراق المذكورة لا منفعة منها وأنها كحبتي بر، هذا غير صحيح؛ لأنها ذات قيمة ومنفعة منتفع بها غاية الانتفاع، على أنك قد علمت أن القصد ما دلت عليه من النقود المقدرة، فلا يتم التعليل، فتنبه لهذه المسألة، فإن التجار ذوي الأموال يتشبثون بما صدر من المحشي المذكور رحمه الله تعالى، ويمتنعون من إخراج الزكاة، وهذا جهل منهم وغرور، والمحشي قال فيها بحسب ما بدا له من غير نص، فلا يؤخذ بقوله، وللاحتياط في أمثال هذه المسألة مما هو متعين؛ لأنه ينشأ منه فساد كبير، وغرور عظيم للجهال ومن تمكن حب الدنيا بقلبه.) اهـ (1) .
__________
(1) وقد رد الأستاذ محمد نبهان الخباز على هذه الشبهة بقوله: أليست هذه الأوراق النقدية في العالم نقدًا حل محل الذهب والفضة وضع للتعامل بين الناس؟ أجل إنه مال به نبيع وبه نشتري، وبه نتزوج، ونزوج به بناتنا، والله تعالىيقول: {فِي أَمْوَالهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ} ، أليست فتوى المحشي تنسخ ركنا من أركان الإسلام وهو (الزكاة) باعتبار قوله: لا منفعة منها، وأنها كحبتي بر وليست بمال، نجرئ الناس على بيعها المائة بمائة وخمسين، نكون بذلك قد فتحنا باب الربا على مصراعيه، ونستحق الحرب من الله ورسوله كما جاء في الآيات القرآنية.(3/802)
المبحث الثاني
زكاة النقود العرفية عند الجمهور من الفقهاء
(1) زكاة الكواغد وقطع الجلود ونحوهما
هذه الأشياء قد جرى التعامل بها في بعض الجهات إتمامًا للمقومات، كما يتعامل بالدينار والدرهم بدون أن يكون لها من النقود ما يعادلها في المصارف الرسمية، فهل حكمها حكم الفلوس النحاس بتنزيل قيمتها الوضعية منزلة القيمة الخلقية، فيجري فيها ما جرى في زكاة الفلوس الجدد من الخلاف، بناء على أن زكاة النقدين معلومة أو غير معلومة، أو بناء على إلحاقها بسلع التجارة، نظرًا إلى أنها أثمان رائجة، أو عدم إلحاقها بها، أو ليس حكمها حكم الفلوس فلا زكاة فيها اتفاقًا، ويفرق بينها وبين الفلوس بأن الفلوس لم تلحق بالنقدين - على القول - زكاتها إلا باعتبار كونها من معادن ذات قيمة أصلية؛ لأن الوجوب في الزكاة العين على القول بتعليله منوط بالثمنية المالية، أي القيمة الذاتية الخلقية، فإنها من أجود المعادن ذات القيم المعتد بها، ولذا جعلت أثمانًا مطلقة للحاجيات المعاشية بجميع أنواعها. فالعلة في الحقيقة لزكاتها ليست مجرد الثمنية الوضعية، بل الثمنية مع المالية الذاتية، وحينئذ فلا يلحق بها في وجوب الزكاة إلا ما له شبه بها من هذه الجهة.(3/803)
والكواغد وقطع الجلود ونحوهما ليست كذلك، بخلاف الفلوس، فإنها وإن كانت من معادن أقل من معدن الذهب والفضة، إلا أنها ذات قيمة أصلية يعتد بها ولا يخفى أن هذا الفرق إنما يظهر في كواغد وقطع جلود قيمتها تافهة، أقل من قيمة قطع النحاس والرصاص، أما إذا كانت مصنوعة من كنود وجلود جيدة بصفة تجعلها في درجة الفلوس وترفعها إلى قيمتها أو أعلى فلا يظهر الفرق المذكور، إذ أصل كل منهما عروض جعلت أثمانًا ورؤوس أموال كغيرها من المقومات، وحيث تكون الكواغد وقطع الجلود كالفلوس يجري فيها الخلاف المذكور، ومثل ما إذا اتخذت نقود من جواهر نفيسة غير الذهب والفضة وتعومل بها بين الناس، فحكمها كالفلوس مع أنها ذات قيمة عالية، فيجري فيها الخلاف المذكور، وإن كان المعتمد عند المالكية تخصيص الزكاة في الأثمان بالنقدين وأنها للثمنية الخلقية التي لا يشترك فيها مع النقدين غيرهما من المعدن والنبات، سواء كان جواهر أو فلوسًا أو كواغد أو قطع جلود أو غيرها، والكلام في زكاتها زكاة النقدين الواجبة على المالك مطلقًا تاجرًا أو غيره، وأما إذا اتخذت التجارة فلا نزاع في زكاتها زكاة للعروض باعتبار قيمتها، كما تقدم في زكاة الفلوس النحاس سواء، والظاهر أن القيمة تعتبر حسب التعامل بها لأن الانتفاع منوط بها دون قيمتها الذاتية قلت أو كثرت، ولأن الوجوب في أموال التجارة معلق بالمعنى وهو المالية والقيمة، والأموال كلها في هذا المعنى جنس واحد، ولذا لا تختلف أصنافها فيما يزكي ولا فيما يخرج من قيمتها حبوبًا وحيوانًا ومعدنًا ونباتًا، وعلى ذلك فمجرد اتخاذ الكواغد وقطع الجلود أثمانًا رائجة يصيرها كالنوقد أو كسلع التجارة، كما تقدم في الفلوس عند الحنفية. وفي حواشي الرهوني قال مالك في الفلوس: لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق، ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين، لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة، ولا يجوز فلس بفلسين. وفي موضع آخر: ولو جرت الجلود بين الناس مجرى العين المسكوك لكرهنا بيعها بذهب وورق نظرة.اهـ. وجرت عادة الإمام رضي الله عنه أن يعبر بالكراهة عما يشمل الحرمة، وهو ظاهر في أن الكواغد وقطع الجلود ونحوها متى جرى التعامل بها كانت كالفلوس سواء.(3/804)
فتوى مفتي المالكية في زكاة الكاغد وفي فتاوى أبي عبد الله محمد عليش مفتي المالكية ما نصه: "ما قولكم في الكاغد الذي فيه ختم السلطان ويتعامل به كالدراهم والدنانير، هل يزكي زكاة العين أو العرض أولا زكاة فيه؟ " فأجبته بما نصه: "الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله: لا زكاة فيه؛ لانحصارها في النعم وأصناف مخصوصة من الحبوب والثمار والذهب والفضة، ومنها قيمة عرض المدير، وثمن عرض المحتكر والمذكور، وليس داخلاً في شيء منها، ويقوي ذلك أن الفلوس النحاس المختومة بختم السلطان المتعامل بها لا زكاة في عينها لخروجها عن ذلك، قال في المدونة: ومن حال الحول على فلوس عنده قيمتها مائتا درهم فلا زكاة عليه إلا أن يكون مديرًا فيقومها كالعروض. انتهى. وظاهر قوله في المدونة: "إلا أن يكون مديرًا فيقومها كالعروض" أي كعروض التجارة أنها تقوم مطلقًا، سواء كانت سلع تجارة أو أثمانًا فيها، وحينئذ فيقومها كالعروض وتزكي زكاتها، أي باعتبار قيمتها لا باعتبار عينها. وأما إذا كانت مدخرة عنده أو مستعملة في قضاء حوائجه المستهلكة أو المقتناة، فلا زكاة فيها لا باعتبار عينها ولا باعتبار قيمتها على المشهور.
والحاصل أن الكواغد التي يتعامل بها في بعض البلاد كالدراهم والدنانير إن استعملت في التجارة ثمنًا أو مثمنًا زكيت زكاة عروضها؛ بشرط أن يتوفر فيها شروط زكاة العرض، وإن لم تستعمل كذلك فلا زكاة فيها، وذلك ما يقتضيه تسويتها بالفلوس النحاس، فإن أصلها عروض كالكواغد جرى التعامل بها أثمانًا للأشياء كما يتعامل بالدينار والدرهم، وغايته أن الفلوس قد قيل بزكاتها كالنقدين باعتبار قيمتها وقد علمت مبناه، وأنه إلحاقها بالنقدين أو عروض التجارة فيجري مثله في الكواغد وقطع الجلود؛ لأنها أثمان تعومل بها وأصلها من العروض كالنحاس والرصاص سواء. وقد علمت قول الحنفية في ذلك، وأن جعلها أثمانًا رائجة بمنزلة كونها سلعًا للتجارة، وظاهره سواء استعملها المالك في حوائجه أو التاجر في سلعته فتزكى باعتبار قيمتها الوضعية، أي إن تحقق النصاب فيها لا يكون إلا باعتبار قيمتها ذهبًا أو فضة، مهما بلغ عددها أو وزنها فهي شبيهة بالعروض والنقدين، وظاهر أن السؤال والجواب مفروضان في الكاغد الذي يتعامل به في غير التجارة كالمدخر أو المستعمل في حوائجه المستهلكة أو المقتناة فإنه لا زكاة فيه على المشهور مطلقًا، لا زكاة عين ولا زكاة عرض، أما إذا تعومل به في التجارة فيزكي زكاة العرض بشرطه كالفلوس الجدد كما تقدم".(3/805)
هذا، والقيمة فيما أصله العرض ونقل إلى التعامل به معاملة النقدين منظور فيها لحالته التي هو عليها، كقيمة العروض الأصلية من جودة أو رداءة أو سكة أو صياغة أو نحو ذلك، فما أعد للماء والتجارة إما بجعله ثمنًا كالفلوس والكواغد، أو مثمنًا كما في غيرها من عروض التجارة تعتبر قيمته بالحالة التي هو عليها. ويلحق بالأثمان المطلقة لما طرأ عليه من الإعداد للنمو ويزكى زكاة العروض أو الأثمان الأصلية باعتبار قيمته لا باعتبار عينه، إذ لا تتصور الزكاة فيه باعتبار العين وزنًا أو عددًا كما في زكاة النقدين، إذ العروض الأصلية لا تتعلق الزكاة بها من حيث ذاتها، فإن الأصل فيها القنية والانتفاع بعينها كالثياب والرقيق وآلات الحرث والدرس، وما وجبت الزكاة فيها إلا لما طرأ عليها من الإعداد للماء والتجارة، فألحقت بالأثمان وتعلقت الزكاة بها من هذه الجهة التي يجب مراعاتها في تقدير نصابها والمزكي في الحقيقة عوض قيمتها الذي هو الثمن، فالزكاة فيما يتعامل به ثمنًا أو مثمنًا إنما تتعلق بالأثمان مطلقة أو مقيدة، ولا فرق في ذلك بين العروض الأصلية وبين ما نقل منها إلى التعامل فلوسًا أو غيرها.
والحاصل أن الكواغد وقطع الجلود ونحوها إن قلنا إن ثمنيتها كثمنية الفلوس الجدد، فمجرد اتخاذها أثمانًا يحلقها بعروض التجارة، فتجب الزكاة فيها عند الحنفية، سواء كان التعامل بها في تجارة أو غيرها. وعند المالكية لا زكاة فيها إلا إذا نوى بها التجارة كالعروض، فيزكيها التاجر دون غيره على المشهور، وقيل: إنها تزكي كالفلوس النحاس إلحاقًا لها بالنقدين (1) .
__________
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ حسنين مخلوف: ص 31 – 35.(3/806)
(2) زكاة الفلوس الجدد
وهي المتخذة من غير الذهب والفضة كالنحاس والرصاص والحديد ونحو ذلك، فهذه وإن لم يرد نص بوجوب زكاتها، بل الظواهر والورادة في زكاة الأثمان المطلقة دالة على عدم وجوب الزكاة فيها، ولكن وقع للعلماء في زكاتها خلاف بعد ضربها واتخاذها للتعامل، مبناه كما هو ظاهر على الخلاف في تعلق الوجوب بالنقدين، هل هو معلوم فيدخله القياس؟ أو ليس بمعلول فلا يدخله؟ وتقدمت الإشارة إليه في المطلب الأول، وفي الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني ما نصه: أفهم اقتصاره، أي للصنف كغيره من الصنفين على الذهب والفضة أن الفلوس الجدد لا زكاة فيها، وهو كذلك، قال في الطراز المذهب: لا زكاة في أعيانها، وظاهره ولو تعومل بها عددا خلافًا لبعض الشيوخ. اهـ. وفي حواشي ابن تركي على العشماوية ما نصه: لا زكاة في الفلوس النحاس المسماة بالجدد على المعتمد. اهـ.
ونقل خاتمة أبو عبد الله محمد عليش في فتاويه عن صاحب الطراز أن المذهب عدم وجوب الزكاة في عينها؛ إذ لا خلاف أنه لا يعتبر وزنها ولا عددها، وإنما المعتبر قيمتها فلو وجبت في عينها لاعتبر النصاب من عينها ومبلغها لا من قيمتها كما اعتبر في الورق والذهب والحبوب والثمار، فمتى انقطع تعلقها بعينها جرت على حكم جنسها من النحاس والحديد وشبهه. اهـ. فقوله: جرت على حكم جنسها، أي فتزكى زكاة العروض باعتبار قيمتها من الدنانير والدارهم كما يزكى النحاس والحديد.
وفي حواشي ابن عابدين من كتب الحنفية ما نصه: "فرع في الشرنبلالية": "الفلوس إن كانت أثمانًا رائجة أو سلعًا للتجارة تجب الزكاة في قيمتها، وإلا فلا".اهـ.
وفي فتاوي قاري الهداية: الفتوى على وجوب الزكاة في الفلوس إذا تعومل بها، وبلغت ما يساوي مئتي درهم أو عشرين مثقالاً من الذهب. اهـ. فأفاد أن كونها أثمانًا رائجة بمنزلة كونها سلعًا للتجارة، فتجب فيها الزكاة، وبالضرورة لا تجب في عينها وزنًا أو عددًا، بل في قيمتها كما سيأتي، ولا شك أن خلاف العلماء في زكاتها على هذا الوجه مع عدم وجود نص من الكتاب أو السنة بزكاتها أو بعدم زكاتها؛ يدل على وجود خلاف في تعليل زكاة النقدين، فإن كانت معلولة قيس عليها زكاة الفلوس وإلا فلا، ولكن لا على اعتبار النصاب من عينها، بل على اعتباره من قيمتها ذهبًا أو فضة، وذكر صاحب الطراز عن أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما وجوب الزكاة في عينها مع تعلقها بقيمها، وهو يؤيد قول بعض المالكية بوجوب زكاتها.
وفي حواشي الرهوني علي عبد الباقي قال عياض في تنبيهاته: اختلف لفظه (أي الامام) في الفلوس بحسب اختلاف رأيه في أصلها، أهي كالعرض أو كالعين؟ فله هنا، أي في باب الصرف والتشديد، وأنه لا يصلح فيها النظرة، أي التأخير، ولا تجوز، فشبهها بالعين، وظاهره المنع جملة كالفضة والذهب، ثم قال: وليست كالدنانير والدراهم في جميع الأشياء.(3/807)
وقال ابن عرفة: وفي كون الفلوس ربوية كالعين ثالثُ الروايات يكره فيها، وفي السلم الأول والصفر النحاس عرض ما لم تضرب فلوسًا، فإذا ضربت فلوسًا جرت مجرى الذهب والورق فيما يحل ويحرم، وفي الإرشاد ما نصه: والنصوص كراهة التفاضل والنساء في الفلوس. وقال في باب الزكاة: لا تزكى إلا في الإدارة كالعرض.اهـ. فالخلاف فيها قوي جدًا. اهـ.
وبالجملة فنصوص المالكية ظاهرة في أن التماثل بوجوب الزكاة في الفلوس إنما يقول به تشبيهًا لها بالعين، وأن التعامل بها ناقل لها عن أصلها، ويرى أن تشبيهها بالعين في باب الزكاة التي هي من قبيل المواساة والبر بالفقراء، بل هي أدخل منها في باب المعروف، أولى من تشبيهها بها في باب آخر ومالك رضي الله عنه شبهها فيما يشدد فيه كالصرف والبيع بالعين، وفيما يحل كالزكاة بالعرض، فلا تزكى لأنها ليست من أحد النقدين، ولا من أحد الأصناف الداخلة في عموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] . ونحو "أدوا زكاة أموالكم"، فإنه مخصص في الأثمان عنده بالذهب والفضة، كما يؤخذ من الأحاديث الواردة في ذلك، واسم المال قد يختلف معناه باختلاف موارده.
قال ابن الأثير: المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم، فاسم المال ليس نصًا في الشمول، والسنة مبينة للتنزيل، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم مجمل القرآن في الزكاة وغيرها، وحصر عمومه المراد به الخصوص، كما أمر الله تعالى به قولاً وعملاً، فبين ما تؤخذ الزكاة من الأموال، وممن تؤخذ من الناس، وكم يؤخذ منها، ومتى تؤخذ من الناس، وكم يؤخذ ومتى تؤخذ. كما ذكره ابن رشد في مقدماته.
وبعد أن ساق أحاديث البيان في ذلك قال: فالزكاة لا تجب إلا في ثلاثة أشياء: في الحرث، والعين، والماشية. والعين هي الذهب والفضة. والماشية الابل والبقر والغنم. والحرث ما يخرج من الأرض من الحبوب والثمار والكروم؛ لأن السنة قد خصصت ماعدا هذه الثلاثة أشياء من عموم قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] . وخصص من هذه الثلاثة الأشياء بعضها على ما تقدم.اهـ.(3/808)
والمراد بعدم زكاة الفلوس على مشهور مذهب مالك أنها لا تزكي زكاة النقود، أي لا يزكيها المالك باعتبار ذاتها، ولا باعتبار قيمتها، وهذا لا ينافي أنها إذا اتخذت للتجارة والنماء فإنها تزكي زكاة العروض كما تقدم؛ لأنها عروض تجارة مسكوكة، وسيأتي أن عرض التجارة عند المالكية إذا كان فلوسًا يزكى مطلقًا، سك أو لم يسك، متى توفرت شروطه، وليس ضربها والتعامل بها واتخاذها أثمانًا رائجة بمنزلة نية التجارة في السلع؛ لأنها لما لم تكن عندهم للتجارة والنماء خلقة فلا تصير بها إلا بقصد التجارة فعلاً؛ إلحاقًا لها بأصلها وهو العروض التي ليست أثمانًا.
وظاهر فرع الشرنبلالية وغيرها من كتب الحنفية، حيث سووا في الحكم بين كونها أثمانًا رائجة وبين كونها سلعًا للتجارة، أن ضربها والتعامل بها بمنزلة نية التجارة، وقد نص الحنفية على وجوب ضم قيمة العروض إلى الذهب والفضة حتى يتم النصاب. ووجهوه بأن الوجوب في الكل باعتبار التجارة وإن افترقت جهة الإعداد، ففي العروض من جهة العباد بالصنع الذي هو بمنزلة الخلقة لها. وفي النقدين من جهة الله تعالى بخلق الذهب والفضة للتجارة، والافتراق في الجهة لا يكون مانعًا من الضم بعد حصول ما هو الأصل وهو للنماء، وقد علمت مشهور مذهب مالك وأنها لا تصير للتجارة، بحيث تزكى زكاة عروضها إلا بنية التجارة وقصدها فعلاً، والإعداد بغير نية التجارة لا يعتبر في وجوب الزكاة، إلا إذا كان خلقيًا بإعداد الله تعالى كما في الذهب والفضة. قال في المدونة: ومن حال الحول على فلوس عنده قيمتها مائتا درهم فلا زكاة.(3/809)
المبحث الثاني
مسالك تخريج زكاة الأوراق المالية العرفية عند الجمهور
المسلك الأول
تخريج زكاة الأوراق المالية على زكاة الدين: المعروف عند الفقهاء المنظور إليه في زكاة هذه الأوراق هو قيمة الديون المشغولة بها ذمة البنك المتوثق منها بالمال المخزون الذي به تتحقق ملاءة البنك، فإذا اعتبرت قيمة الأموال الواصلة إلى البنك وإلى من عليه ديون من المتعاملين بهذه الأوراق، كدين واحد في ذمة شخص معين، فتخرج زكاتها على زكاة الدين، وحكم زكاة الدين في مشهور مذهب مالك رضي الله عنه أنه إذا كان لأحد على آخر دين لا يزكيه مادام غائبًا عنه تحت يد الغريم وفي ذمته، فإن قبضه منه زكاه لسنة فقط، وإن أقام عند المدين أعوامًا، بشروط ثلاثة:
الأول: أن يكون الدين عينًا ذهبًا أو فضة من قرض أو ثمن عروض بغير مدير.
الثاني: أن يقبضه عينًا ذهبًا أو فضة، فإن قبضه عرضًا فلا زكاة عليه حتى يبيعه (1) .
الثالث: أن يقبض نصابًا كاملاً ولو في مرات، أو يقبض بعض نصاب وعنده ما يكمل النصاب.
أما التاجر المدير وهو الذي يبيع بالسعر الواقع كيف كان ويخلف ما باعه بغيره، فإذا نض له من سلعة ولو درهمًا واحدًا، فإنه يقوم كل عام السلعة التي للتجارة ويضم لها ما عنده من العين وما له من عدد الدين المعد للنماء، إذا كان نقدًا حالاً مرجو الخلاص، ومنه مبلغ ما عنده من الأوراق المالية، ويزكي الجميع دفعة واحدة كل سنة، ويعتبر هذا الدين كأنه نقد محصل بخزانته، أما إذا كان الدين الذي له ليس معدًا للنماء كدين القرض، فلا يضم في التقويم لسلعة، بل يزكيه لسنة واحدة بعد قبضه، وإن كان عرضًا أو مؤجلاً مرجوًا فيها فلا يزكي عدده، بل يقومه على نفسه قيمة عدل، ويزكي القيمة مع ما عنده كل سنة؛ لأن المرجو في قوة المقبوض بالنسبة للمدير.
أما غير المرجو فلا يقومه بل يزكيه إن قبضه لعام واحد كالعين الضائعة والمغصوبة. وفي بداية المجتهد لابن رشد: واختلفوا في زكاة الدين، هل يزكيه كل عام أو لعام أو يستقبل به سنة من يوم قبضه؟ فمن قال: يستقبل بالدين حولا، لم يوجب فيه الزكاة، ومن قال الزكاة بعدد الأحوال، شبهه بالمال الحاضر.
__________
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 21-25.(3/810)
وأما من قال: الزكاة فيه لحول واحد وإن أقام أحوالاً، فلا أعرف له مستندًا في وقتي هذا؛ لأنه لا يخلو مادام دينًا أن يقول: فيه زكاة، أو لا يقول ذلك. ولعله يقول: فيه الزكاة مع اشتراط الحول، إلا أنه يقول كلما انقضى حول فلم يتمكن من أدائه سقط عنه ذلك الحق اللازم في دبر الحول، فإن الزكاة وجبت بشرطين: حضور عين المال، وحلول الحلول، فلم يبق إلا حق العام الأخير. وهذا شبهه مالك بالعروض التي للتجارة، لا زكاة فيها إلا إذا باعها، وإن أقامت عنده أعوامًا. اهـ.
إذا علمت هذا فحكم الورقة المسئول عنها على مشهور مذهب مالك في زكاة الدين، إذا كان صاحبها ليس بتاجر مدير كأن كان غير تاجر أو تاجرًا محتكرًا، أنه لا يزكيها ولو أقامت عنده أعوامًا عديدة، إلا إذا استبدل بها عينًا ذهبًا أو فضة، وحينئذ يزكي ما قبضه لسنة واحدة، كما يزكي الدين لو قبض من الغريم عينًا، وإن كان مديرًا زكى عددها، أي قيمتها المضمونة بها متى نض له من سلمه، أي باع منها ولو بدرهم واحد، ولو لم يستبدل بها نقودًا ذهبًا أو فضة. هذا ما يقتضيه حكم زكاة الدين عند المالكية، وإن كانت حالة الدين المضمون بهذه الأوراق لا تتفق تمامًا مع الاعتبارات الفقهية التي تراعي في باب الدين؛ لأن الدين المذكور ليس في ذمة معينة حقيقة، ولا روعي في تحرير سنده أن يكون لشخص معين، ولكن مسألة الزكاة شيء وتحرير سند الدين وتقريره في ذمة معينة شيء آخر؛ إذ لا نزاع في أن صاحب الورقة المذكورة مالك لنصاب حال عليه حول يمكنه أن يقبضه نقدا ذهبًا أو فضة في أي وقت شاء، ومن أي شخص كان، وأن يستبدل به مقومًا أو يهبه أو يتصدق به على شخص آخر بواسطة هذه الورقة التي يعتبر وصولها إلى يد أخرى حوالة على الصرف الذي أصدرها أصالة، بحيث إذا قدمت إليه أو إلى من أنابه عنه لزمه قبولها ودفع قيمتها كمبادلة النقدين سواء.(3/811)
وليس مجرد وضع اليد على ورق البنك نوت واستلامه من الدين يعد قبضًا للدين، فمن له على آخر عشرة جنيهات من ثمن مبيع مثلاً فأعطاه ورقة بهذه القيمة بعد حول أو أكثر، لا يعد بذلك قابضًا للدين حتى تجب عليه زكاته الآن، بل يعد محالاً به على خزانة البنك، فلا يزكي هذه الورقة حتى يقبض قيمتها نقدًا، ولو بقيت عنده أعوامًا فيزكيها لسنة واحدة كما مضى. هذا ما يؤخذ من مشهور مذهب مالك في تخريجها على زكاة الدين. ولا يخفى أن ذلك التخريج مجحف بالفقراء غير واف بمقصود الشارع من شرع الزكاة، وهو سد خلة الفقير، ولا سيما في البلاد التي يكون غالب أموالها الزكاة من قبيل الأثمان كمصر، فإن ما يزكى من الماشية والحرث فيها قليل جدًا بالنسبة لما يقصد منه ثمنه من المحصولات الأخرى كالقطن ونحوه، ومذهب الحنابلة أن من له دين على مليء باذل من قرض أو دين عروض تجارة أو ثمن مبيع وحال عليه الحول، كلما قبض شيئًا أخرج زكاته لما مضى، وهو قريب من مذهب مالك، فتخريجه تخريجه. والمأخوذ من مذهب الحنفية أن هذه الأوراق إذا اعتبرت كمستندات ديون لا تؤدى زكاتها إلا بعد القبض، أي استبدالها بنقود على تفصيل عندهم في أنواع الدين. ومذهب السادة الشافعية أن الدين في بعض أحواله يزكى كل عام، حيث قالوا: إن من له دينًا على آخر وكان حالاً، والمدين موسرًا غير جاحد ولا مماطل فيه، فعليه تعجيل زكاته كالوديعة قبضه أو لم يقبضه إذا حال عليه الحول، وعلى هذه فالزكاة واجبة في هذه الأوراق إذا حال عليها الحول، وإن لم تستبدل النقود بها. ولما كانت زكاة الأموال من أفضل أعمال البر بالإنسان، وقد شرعت لسد خلة المحتاجين، وتفريج كرب البائسين، ومنع صولة الفقراء على الأغنياء، وانتهاب أموالهم، ويخشى أن يحتال أرباب الأموال على إسقاط زكاتها باستيفاء هذه الأوراق في أيديهم بدون استبدالها بأحد النقدين؛ كان الأرفق بالفقراء والأحوط في الدين الأخذ بمذهب السادة الشافعية في زكاة هذه الأوراق، وإفتاء العامة به، وإن كانوا متعبدين على مذهب آخر؛ لأن العامي مذهبه في النازلة مذهب مفتيه (1) .
__________
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 37-41.(3/812)
(2) المسلك الثاني
تخريج زكاة الأوراق المالية على زكاة الدين العرفي
ولا يخفى أن تخريج زكاة الأوراق المالية على زكاة الدين مع كونه مجحفًا بحق الفقراء - على غير ما ذهب إليه الشافعية - مبني على اعتبار القيمة المضمونة بهذه الأوراق كدين حقيقي في ذمة شخص مدين، وأن هذه الأوراق كمستندات ديون حقيقية، مع أن هناك فرقًا بين هذه الأوراق وما هو مضمون بها، وبين المدين الحقيقي وسنده المعروف عند الفقهاء، فإن الدين ما دام في ذمة المدين ولا ينتفع به ربه ولا يجري التعامل بسنده رسمًا، ولذلك قيل بعدم وجوب زكاته؛ لأنه ليس مالاً حاضرًا معدًا للنماء، بحيث ينتفع به ربه، بخلاف قيمة هذه الأوراق فإنها نامية منتفع بها كمًا ينتفع بالأموال الحاضرة. وكيف يقال: إن هذه الأوراق من قبيل مستندات الديون، ومستند الدين ما أُخذ على الدين للتوثق وخشية الضياع، لا لتنمية الدين في ذمة المدين ولا للتعامل به، أو يقال: لا تجب الزكاة فيها حتى يقبض بدلها نقدًا ذهبًا أو فضة، مع أن عدم الزكاة في الدين - كما علمنا - إنما هو بكونه ليس معدًا للنماء، ولا محفوظًا بعينه في خزانة المدين، والفقهاء إنما حكموا بعدم زكاة الدين مادام في ذمة المدين حتى يقبضه المالك؛ نظرًا لهذه العلة.
واستثنى الشافعية دين الموسر إذا كان حالاًّ فإنه يزكى قبل قبضه كالوديعة؛ نظرًا إلى أنه في حكم الحاضر المعد للنماء، فلو فرض نماؤه كما في بدل الأوراق المالية، لما كان هناك وجه لتوقف الزكاة على الفقير، ولما خالف في ذلك أحد من العلماء فالحل أن هذا النوع من الدين نوع آخر مستحدث لا ينطبق عليه حقيقة الدين وشروطه المعروفة عن الفقهاء، ولا يجري فيه الخلاف الذي جرى في زكاة الدين، بل ينبغي أن يتفق على وجوب الزكاة فيه؛ لما علمت أنه كالمال الحاضر، وغايته أن نموه والانتفاع به بواسطة هذه الأوراق المعتمد في إصدارها والتعامل بها على وجود ما يعادل قيمتها في المصارف المالية، فكأنه بهذا مال حاضر بين المتعاملين يتحرك وينمو بحركة هذا الرسم المضروب، فالنصاب المملوك هو ذلك النوع من البدل، والرسم المضروب إنما هو لحفظه والتعامل به فزكاته زكاته وقبضه قبضه، وذلك بخلاف الدين، فإن ما نسميه دينًا ونشترط في زكاته شروطًا، يجب أن يكون مضمونًا في الذمة، وليس معدًّا للنماء والحركة، وإلا وجبت فيه الزكاة كالمال الحاضر (1)
__________
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 40.(3/813)
(3) المسلك الثالث
تخريج زكاة الأوراق باعتبار المال المحفوظ بخزانة البنك
ولو قيل: إن حق المتعاملين بهذه الأوراق متعلق بعين النقود المحفوظة بالبنك، كما قد يفهم مما جاء في نظامها السابق حيث قيل فيه (وعند التصفية يكون هذا المال مخصصًا لدفع قيمة الأوراق واستعادتها) ؛ لكان له وجه، وحينئذ يكون المال المحفوظ بالبنك بدلاً عن رؤوس الأموال والمقومات الواصلة إليه من المتعاملين بتلك الأوراق، وكأن الحكومة بالنيابة عنهم تعاقدت مع البنك على هذه الصورة، وعلى ذلك فلا تخرج زكاة هذه الأوراق على زكاة الدين مطلقًا، بل تجب الزكاة فيها اتفقًا باعتبار ما يعادلها من النقود المحفوظة، لا باعتبار ذاتها ولا باعتبار شيء مضمون في الذمة، وتكون هذه الأوراق كمستندات ودائع محفوظة في خزائن الأمناء، جعل التعامل بها طريقًا للتعامل بالبدل المحفوظ بالمصارف، ينمو بنمائها، ويتحرك بحركتها، ويربح ويخسر بربحها وخسارتها. وإذا بطلت المعاملة بها كان للمالك الحق في الرجوع بقيمتها ذهبًا أو فضة على خزانة البنك بمقتضى التعهد السابق التعامل، وإن لم يجر به مباشرة، إلا أنه جار فيه بصورته ورسمه، وثمنية الأوراق إنما هي باعتبار هذا المال المخزون، بحيث لو عدم عدمت ثمنيتها وبطل التعامل بها، وحينئذ فالزكاة في الحقيقة واجبة فيه لا في الأوراق، وانتفاع الفقير بجزئه المعتبر شرعًا كانتفاع المالك بسائر أجزائه، وعلى ذلك فلا خلاف في زكاتها بلا توقف على قض، ولكن يبعد هذا القول أن التعهد السابق يقيد أن ما في البنك نصفه نقود ونصفه قراطيس مالية، بل يصبح في ظروف خاصة أن يكون أقل من ذلك (1)
__________
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 41.(3/814)
(4) المسلك الرابع
تخريج زكاة الأوراق باعتبار قيمتها الوضعية
ولو فرض أنه ليس في البنك شيء من العقود، ونظرًا إلى تلك الأوراق في ذاتها بقطع النظر عما يعادلها وعن التزام التعهد المرقوم بها، واعتبر جهة إصدار الحكومة لها واعتبار الملة أثمانًا رائجة؛ لكانت كالنقدين تجب زكاتها على القول بأن الزكاة في النقدين معلولة بمجرد الثمنية، ولو لم تكن خلقية، كما تقدم في زكاة الفلوس وقطع الجلود والكواغد، فتحصل أن الأوراق المالية يصح أن تزكى باعتبارات أربعة:
الأول: باعتبار المال المضمون بها في ذمة البنك وأنه كمال حاضر مقبوض، وإن لم يكن كالدين المعروف عند الفقهاء من كل وجه.
الثاني: زكاتها باعتبار الأموال المحفوظة بخزانة البنك، وعلى هذين الاعتبارين فالزكاة واجبة فيها اتفاقًا.
الثالث: زكاتها باعتبار قيمتها دينًا في ذمة البنك، فتزكى زكاة الدين الحال على مليء، كما ذهب إليه السادة الشافعية.
الرابع: زكاتها باعتبار قيمتها الوضعية عند جريان الرسم بها في المعاملات واتفاق الملة على اتخاذها أثمانًا للمقومات، وعلى ذلك فوجوب الزكاة فيها ثابت بالقياس، كزكاة الفلوس النحاس وقطع الجلود ونحوهما، ولكن هذا لا يتم إلا إذا تحقق الغرض المذكور في الأوراق المالية، وحينئذ يكون التعامل بها كالتعامل بالفلوس وقطع الجلود سواء، وإلا فالتعامل بها الآن منظور فيه إلى قيمتها المضمونة بذمة البنك والمودعة في خزانته، وأنه حتم عليه أن يدفع تلك القيمة متى طلب منه ذلك، فهي كالعقود بخلاف العملة المعدنية غير الذهب والفضة (1) .
__________
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 42.(3/815)
الفصل الثاني
نقول من أقوال الفقهاء المعاصرين تؤيد مذهب الجمهور
(1) فتوى للشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي
في شأن زكاة الأوراق المالية
زكاة الأوراق المالية الجاري بها التعامل الآن
اعلم أنه قد ورد إلينا بتاريخ 11 أحد عشر ربيع الأول سنة 1324 ألف وثلثماية وأربعة وعشرين هجرية؛ خطابٌ من أحد أهالي الفيوم، يتضمن السؤال عن حكم زكاتها شرعًا؛ وصورته: إذا وجد عند شخص ورقة (بنك نوت) قيمتها مائة جنيه مثلاً، وحال عليها الحول، هل تجب فيها الزكاة أو لا؟ فأجبناه إذ ذاك بوجوب الزكاة فيها تخريجًا على زكاة الدين عند السادة الشافعية؛ لأن المزكى في الحقيقة هو المال المضمون بها، وتفصيل الجواب: أن الأوراق المالية الجاري بها التعامل الآن في القطر المصري معتبرة كسندات ديون على شخص معنوي، كما هو الظاهر في التعهد المرقوم عليها وصورته:
" أتعهد بأن أدفع لدى الطلب مبلغ كذا لحامله. تحرر هذا السند بمقتضى الدكريتو المؤرخ في 25 يونيو سنة 1898.
عن البنك الأهلي المصري
الإمضاء(3/816)
ونص المادة الثانية من الدكريتو المذكور للبنك الأهلي المصري: الامتياز بإصدار أوراق مالية تدفع قيمتها لحاملها عند تقديمها، وذلك حسب القيود والشروط المدونة في النظامات المذكورة، ولا يمنح هذا الامتياز لبنك آخر طول مدة بقاء هذه الشركة، ومما جاء في النظامات المشار إليها أن من أعمال البنك إنشاء أوراق مالية تدفع قيمتها لحاملها أو إلى المحول إليه، وأنه يجب أن يكون مخزونًا في البنك ذهب يعادل نصف قيمتها، والنصف الثاني يكون ملكه من القراطيس المالية التي تعينها الحكومة بدون أن يكون هذا الحق المحول للحكومة المصرية مترتبًا على أقل مسئولية، وإذا لم يكن في البنك من القراطيس المالية ما يوازي قيمة نصف ثمن أوراقه، فيجب أن يخزن البنك ذهبًا عينًا يوازي كمية الناقص، حتى تكون الأوراق التي يضعها هذا البنك وتتداول بين الناس مخزونًا ما يساوي قيمتها تمامًا في البنك، أما كمية الأوراق التي توضع للمداولة والتعامل، فالحكومة تتفق مع إدارة البنك على مقدارها والمال المخزون في البنك من ذهب وقراطيس يكون ضمانة لأوراق البنك المتداولة، وعند التصفية يكون هذا المال مخصصًا لدفع قيمة الأوراق واستعادتها. اهـ (1) .
(2) مقولة الأستاذ خلاف
قال العلامة الشيخ عبد الوهاب خلاف: إن الأوراق النقدية، أي أوراق البنكنوت هي عملة نقدية، وليست سندات ديون، وإن كانت في الصورة سندات ديون، فالورقة هي جنيه أو خمسة أو عشرة أو خمسون أو مائة تجب فيها الزكاة شرعًا، على أنها نقود؛ لأن الناس يتبادلون التعامل بها على هذا.
ولا فرق في وجوب الزكاة بين أن تكون الأموال النقدية في يد مالكها، أو بحفظها رصيدًا في مصرف من المصارف، أو يدخرها في صندوق ادخار (2)
وقال مؤلف كتاب التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "بقي الكلام على الأوراق المالية (البنكنوت) فعليها الزكاة؛ لأنها يتعامل بها كالنقدين (الذهب والفضة) ، وتقوم مقامها، وتصرف بها" (3) .
__________
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 35.
(2) انظر لواء الإسلام، العدد الخامس لسنتها الرابعة، لغرة المحرم عام 1370 هـ ص 339.
(3) انظر كتاب التاج الثاني: 22 لمؤلفه الشيخ منصور ناصيف الشافعي المصري.(3/817)
وجاء في كتاب الدين الخاص للعلامة الشيخ محمود خطاب السبكي أنه قال: قال الشافعية: الورق النقدي وهو المسمى (بالبنكنوت) التعامل به من قبيل الحوالة على البنك بقيمته، فيملك قيمته دينًا على البنك، والبنك مدين مليء، مقر مستعد للدفع حاضر، ومتى كان المدين بهذه الأوصاف وجبت زكاة الدين في الحال، وعدم الإيجاب والقبول اللفظيين في الحوالة لا يبطلها، حيث جرى العرف بذلك، على أن بعض أئمة الشافعية قال: المراد بالإيجاب والقبول كل ما يشعر بالرضا من قبول أو فعل، والرضا هنا متحقق (1) .
وقال أستاذنا العلامة الشيخ محمد أبو زهرة رحمة الله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم قدر النصاب بمائتي درهم على أساس قيمتها، أي عشرون دينارًا في عصره عليه الصلاة والسلام، وقد بين الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم هذه القيمة بعشرين دينارًا أو مثقالاً من الذهب، فتجعل هذه القيمة أساس التقدير في كل العصور، وبذلك يتوحد النصاب في كل الأقطار الإسلامية، والآن نجد أكثر التعامل بالأوراق النقدية، فهل تكون هي وعاء الزكاة؟ لقد أخذ بعض الناس من ظاهر ما يكتب عليها، من أنها سند يجب الوفاء به، باعتبارها دينًا، وأجروا عليها أحكام الدين، ولكن الحقيقة أن الأوراق النقدية تعد الآن نقودًا حالة محل الذهب، وقيمتها فيما تدل عليه من قيمة ذهبية في الأسواق - أسواق الذهب العامة- ولو لم تجب فيها الزكاة لكان ذلك إلغاء لزكاة النقد، وإهمالاً لأمر الشارع الإٍسلامي في الزكاة.
__________
(1) انظر كتاب الدين الخالص: 8/148.(3/818)
وإذا كانت وعاء للزكاة كما هو المنطق والأمر الذي يتفق مع مقاصد الشارع الإسلامي، والغاية من فرضية الزكاة، فإننا نقدر النصاب فيها على أساس القيمة الذهبية، وما يتحقق فيه نصاب الزكاة على أساس أن يكون مجموع الأوراق مشتملاً على ما قيمته عشرون دينارًا ذهبيًا (1) .
وقال كذلك أستاذنا العلامة الجليل الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى ما نصه: "وأما الأوراق النقدية، والعملة التي تكون من غير الذهب والفضة، كالعملة المتخذة من النيكل وغيره، فإننا نرى أن الزكاة تجب فيها، وإن لم يرد نص عليها، ولأنها لم تكن معروفة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن القياس الفقهي يجري فيها بشروط إنتاجه كاملة، فإن هذه النقود يجري التعامل بها في داخل الدولة، فهي تعد مقياسًا دقيقًا لقيم الأشياء في الدولة، وتكون في الدولة كالذهب، وإن كان هو أدق قياسًا، وأوسع شمولاً، إذ يسير حكمه في الميزان في كل الأقطار والأمصار.
وفوق ذلك فإن هذه النقود تعد نامية بالقوة؛ لأنها تتخذ طريقًا للاتجار والتبادل في داخل المملكة الواحدة، فكانت بهذا الاعتبار نامية بالقوة، ولا فرق بينها وبين القضية في ذلك، بل هما في هذا سواء، وإذا تحقق فيها الوصف المؤثر المنتج وهو النماء، فقد تحقق موجب الزكاة، فتجب.
ثم قال حفظه الله تعالى: هذه أحكام النقود بكل ألوانها وأنواعها ما دامت في حوزة صاحبها، ويستوي في ذلك أن تكون في خزائن بيته، أو أن تكون في المصارف المالية مودعة فيها أمانة؛ لأن يد المصارف عليها يد نائبة عن يده فهما سواء، وكذلك إذا كانت رصيدًا تجاريًا؛ لأنها تكون دينًا، واجب الوفاء، ممكن الأداء في أي وقت شاء، بل إن شئت فقل: إنها ودائع وإن كانت غير معينة بالتعيين؛ لأنها تحت تصرف صاحبها في أي وقت يطلبها، ولا مظنة مطلقًا للإرجاء." (2) اهـ.
__________
(1) انظر كتاب (في المجتمع الإسلامي) : 92.
(2) انظر مجلة لواء الإسلام للسنة الرابعة والعدد الثامن لشهر ربيع الثاني عام 1370 – ص 600.(3/819)
(5) فتوى العالم المفتي الشيخ محمد سعيد العرفي
مفتي محافظة الفرات، رحمه الله تعالى
"أما ما ذكرتم عن الورق السوري، فقد أصبح بعد منع التعامل بالذهب هو العملة المرعية، وبعبارة أصرح هو الذهب والفضة، فلا يجوز بيعه نسيئة إلا هكذا بهكذا – أي بغير أجل – وإلا كان ربا، وإذا كان المتقدمون لم يبحثوا هذه الجهة فلم يذكر التاريخ أن التعامل بالذهب ممنوع إلا في عصرنا هذا، إذن أصبح هذا – أي الورق السوري – هو الذهب بعينه، فيجب أن يأخذ حكمه قطعًا، وما حصول الاختلاف إلا ترويجًا للربا بإيجاد وسيلة، كما كانوا يحتالون عليه، وسموها حيلة شرعية، بلا خجل ممن يعلم السر وأخفى.
وأما بيع الليرة الذهبية بالورق إلى أجل فإنه لا يجوز لأسباب كثيرة، منها: أنه عرض نفسه لخطر التبعة؛ لأنه مسئول أمام القانون، فالاختلاف في الجواز إباحة لتعريض الضعيف إلى الوقوع بالتهلكة يستفيد منها أرباب الثروة، أكابر مجرميها ليمكروا فيها، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون.
إن الوقوف على إيجاد نص موهوم لزمن غير هذا الزمن لم يحصل فيه هذا المنع بالتعامل، ما هو إلا استحلال للربا عن طريق الشرع، ظنًا منه أن هذا يحل له ونسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم ربما يكون ألحن من أحيه بحجته، فأقضي له، فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه، فإنما يأخذ قطعة من نار)) رواه البخاري.
ولذلك فإنك إذا فحصت المجوز تجده إما من أرباب الثروة أو من أذنابهم، ممن يرجو صدقاتهم التي هي أوساخ الناس، يبيع دينه بدين غيره؛ أملاً في استفادة موهومة.
إلى أن قال رحمه الله تعالى: "وقانا الله شر الربا والذي ابتليت به البلاد الإسلامية، فلا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأنهم نسوا اتفاق الأمة: على أن كل قرض جر نفعًا فهو ربا، ونسوا قول الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] .
وبالختام أرجو أن لا تنسوني من دعواتكم الصالحة، جعل الله تجارة الجميع رابحة، وزودكم بالتقوى، فإنها خير زاد وأفضله، وأخذ بيدكم إلى سواء السبيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".(3/820)
دير الزور في 11/ربيع الأول سنة 1365 (1) .
مفتي محافظة الفرات
الإمضاء
(6) مقولة الأستاذ السعدي
قد بحث هذا الموضوع فضيلة الأستاذ العلامة الكبير الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في رسالته المسماة "الأوراق البنكية" المطبوعة في مكة المكرمة عام 1378 هـ. وتعرض فضيلته فيها لآراء بعض العلماء في الأوراق المذكورة، فقال في الصفحة الرابعة من الرسالة:
"إن الأنواط (2) حكمها حكم فلوس المعدن تجب فيها الزكاة وغيرها من العبادات المالية، وتتمول في جميع المعاملات، فلا يجري فيها ربا الفضل، فيجوز بيع بعضها ببعض (3) بالنقد متماثلاً (4) ومتفاضلاً، إذا لم يكن في ذلك أجل، وهذا حاصل حكمها على وجه الإيجاز".اهـ.
ثم قال فضيلة الشيخ عبد الرحمن السعدي: "وأما منعي لبيع بعضها ببعض (5) أو مع أحد النقدين مؤجلاً، فهو لسد باب الربا النسيئة، ومن أصول الشريعة سد أبواب الربا الصريح بكل طريق". اهـ (6) .
(7) شهادة عالم كبير في تقريظه
"بهجة المشتاق"
للسيد أحمد الحسيني
جاء في تفريظ العلامة الكبير صاحب الفضيلة الشيخ سعيد بن على الموجي أحد كبار علماء الشافعية بالأزهر الشريف، على كتاب بهجة المشتاق في بيان حكم زكاة الأوراق في ص 211 قوله:
__________
(1) هذه الفتوى خطية بخط صاحبها وخاتمه موجودة في خزانة الأستاذ محمد نبهان الخباز أدرجها في رسالته القيمة.
(2) أي ورق البنكنوت.
(3) يعني بيع الأوراق النقدية إذا اختلف مصدرها.
(4) إذا كان المصدر أو السند لها واحدا في قطر واحد، وبالسعر الذي أخذته بين باقي العملات المختلفة في المصدر أو القطر.
(5) يعني الأنواط أو الأوراق النقدية (بنكنوت) .
(6) ينظر رسالة (زكاة الأوراق) للأستاذ محمد نبهان الخباز: 40.(3/821)
" وبعد فإن لله العزيز سلطانه، العزيز بيانه، الحكيم برهانه، في كل حادثة حكمًا محكمًا، وفي كل نازلة قضاء مبرمًا، إما ظاهرًا جليًا، وإما مشكلاً خفيًا، تبعًا لمحله ظهورًا وبطونًا، وجلاء وكمونًا، وأن الفقهاء من العلماء الأعلام، أنصار ملة الإسلام، الذين هم هم، وقليل ما هم، رضي الله عنهم قد عنوا بأحكام قواعد الدين ومعاقده، وهدوا إلى استنباط أحكام جزئيات موضوعاتها مفترضين بأنوار أذنه وشواهده، ولم يفرطوا في شيء من ذلك حتى جمعوا بين نوافره وشوارده، وإن مما خفي حكمه حادثة أوراق البنك نوت، التي راجت رواج النقدين في أنحاء المعمورة وأطرافها، فضلاً عن أواسطها وعواصمها، حتى لم يبق سوقة ولا ملك، إلا وقعت في يده، وحلت محل نقده، بل استأثر بها أكثر الموسرين الماليين لخفتهما، وقلة مؤنتها، ولقد ولع الناس بالسؤال عنها، والبحث عن حكم الله فيها، هل تزكى زكاة النقد الذهب والفضة؟ ونزع من سئلوا عنها في الجواب عنه، فكانوا ما بين غريب غير نسيب، يرجم بالغيب ولا يصيب، وبين غريب نسيب، حقيق التحقيق أصيل، غير دخيل، غير أنه أضل السبيل، ولم يوفق لجواب يحل المسألة المشكلة كفيل.
وبالجملة قد وقعوا في بيداء تيها، وخبطوا خبط عشواء، إلى أن قيض الله عز وجل شأنه، وعلا سلطانه، وتمت كلمته، وبلغت حجته، من عترة نبيه الكريم، وأسرة رسوله العظيم، وذلك الموفق وهو الذي جنب الكسل وحبب إليه العمل:(3/822)
السيد السند الهمام الأمجد
العالم الحبر الإمام الأوحد
ومن الذي لو قلت فيه: مجدد
ما كان بدعًا والعيان الشاهد
إن المجدد في الكثير من اسمه
في القائمين محمد أو أحمد
هو أبو الحسين أحمد بن أحمد بن يوسف بن أحمد الحسيني، أدام الله بهجته، وحفظ مهجته، فصرف في ذلك الشأن طرفًا من عنايته، وجانبًا من رعايته وكان مطمح نظره، ومطرح فكره، انبعاث همته إلى مراجعة القوانين الموضوعة في ذلك الشأن، والبحث عن جميع أوراق ممالك المعمورة وولاياتها في عواصمها (1) ومستتباتها والمسماة (بالبنك نوت) وجمع أصنافها، حتى اجتمع له منها ما لم يظفر به غيره، ممن عني بهذا الشأن، وإلى ترجمة ما كتب في وجوهها بلغاتها الكثيرة كلها، وتوصل بذلك كله إلى أن تبين أنها صكاك ديون، ومستندات لذويها وأصحابها ومن هي في يده، يرجعون بها إلى (البنك نوت) ما تضمنته من الديون المضمونة، وإلى تبين أن الزكاة واجبة فيما تضمنته من تلك الديون بشرطه المتعارف بين علماء المذاهب، ولقد أودع ذلك كله كتابًا أبدع فيه كل الإبداع، ووضع الغرض الذي رمي إليه فيه على طرف التمام وجعل الذراع، وسماه "بهجة المشتاق في بيان حكم زكاة أموال الأوراق"، وما أحراه أن يسمى: أنوار الآفاق ليطابق الاسم مسماه، فقد انكشف بهذا المسعى حكم المسألة المعني وقد أسمعني حفظه الله بعضه فأحطت بمعناه، ووقفت على مغزاه، فإذا هو كتاب في بابه جليل، وبحل المسألة المشكلة كفيل، أقوم قيلاً، وأقوى دليلاً، وأكثر تحصيلاً، وأحسن تفصيلاً، وأكثر تفضيلاً، انحلت به العقدة، وصار في ذلك وحده، وهو العمدة، والناس عالة عليه بعده، يقتفون هديه، ويشكرون له سعيه …) . اهـ.
__________
(1) ينظر رسالة (زكاة الأوراق) للأستاذ محمد نبهان الخباز: 45.(3/823)
(8) مقولة الأستاذ محمد بنهان الخباز
في رسالة في حكم الأوراق
"بحث أكابر العلماء الأعلام في قضية الورق النقدي واعتباره نقدًا كالذهب والفضة؛ لأن اعتباره عروض تجارة تباع وتشترى كما يزعم البعض، يعطل فرضًا من فروض الإسلام وهو الزكاة، وقد منعت أكثر دول العالم التعامل بالذهب، واستعاضت عنه بالورق البنكنوت؛ حرصًا على أمنها وسلامتها، وصونًا له من التهريب، فينتفع به الأعداء بإضعاف قوة النقد المتداول، كما يعرض الحياة الاقتصادية والاجتماعية لمضاعفات خطيرة، وهزات عنيفة في الحياة المعاشية.
وعليه فالورق النقدي قد أصبح هو العملة المرعية بعد منع التعامل بالذهب والفضة، وأنه قد أخذ حكم الذهب والفضة تمامًا، فلا يجوز بيعه ولا شراؤه نسيئة- أي إلى أجل إلا يدًا بيد- كعقد الصرف مثلاً؛ الصرافة، روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد)) رواه الإمام مسلم في صحيحه (1) .
__________
(1) رسالة (زكاة الأوراق) للأستاذ محمد نبهان الخباز: 25.(3/824)
(9) خلاصة
لما ذهب إليه الأخ الأستاذ محمد نبهان الخباز السوري حفظه الله في رسالته القيمة.
"يتضح لنا مما جاء في بيان هذه الرسالة الأحكام التالية:
(أ) أن النقد الورقي السوري هو العملة المرعية.
(ب) وأنه هو الذهب والفضة وأحكامه تجري كأحكامها.
(جـ) وأنه لا يجوز اعتباره عروض تجارة تباع وتشترى نسيئة إلا هاء بهاء كالصرافة مثلاً، وإلا انقلب إلى ربا إن كان لأجل.
(د) وأن كل قرض جر نفعًا فهو ربا.
(هـ) وأن كل حيلة تحلل حرامًا فهي باطلة، وخاصة الحيلة التي تهدم أصلاً شرعيًا، أو تتناقض مع مصلحة دينية، أو تؤدي إلى التلاعب بدين الله والاستهزاء بشرعه الحنيف هي محرمة باتفاق جمهور العلماء. " (1) .
__________
(1) المرجع السابق 39.(3/825)
الباب الثاني
أحكام تغير العملة بإطلاق
في الفقه الإسلامي
السيد محمد أمين عابدين
تقرير العلامة ابن عابدين الكبير صاحب حاشية رد المحتار على الدر المتوفي 1252 هـ. في أحكام تغير قيمة العملة في المذهب الحنفي.
قال رحمه الله في رسالته "تنبيه الرقود على مسائل النقود" في مجموع رسائله:
"قال في الولوالجية في الفصل الخامس من كتاب البيوع: رجل اشترى ثوبًا بدراهم نقد البلدة، فانتقدها حتى تغيرت، فهذا على وجهين: إن كانت تلك الدارهم لا تروج اليوم في السوق أصلاً فسد البيع لأنه هلك الثمن، وإن كانت تروج لكن انتقص قيمتها لا يفسد لأنه لم يهلك وليس له إلا ذلك، وإن انقطع بحيث لا يقدرعليها، فعليه قيمتها في آخر يوم انقطع من الذهب والفضة هو المختار، ونظير هذا ما نص في كتاب الصرف: إذا اشترى شيئًا بالفلوس ثم كسدت قبل القبض بطل الشراء؛ يعني فسد ولو رجعت (1) لا يفسد".اهـ.
وفي جواهر الفتاوى قال القاضي الإمام الزاهدي أبو نصر الحسين بن علي: إذا باع شيئًا بنقد معلوم ثم كسد النقد قبل قبض الثمن فإنه يفسد البيع، ثم ينتظر إن كان المبيع قائمًا في يد المشتري يجب رده عليه، وإن كان خرج من ملكه بوجه من الوجوه، أو اتصل بزيادة بصنع من المشتري، أو أحدث فيه صنعة منقوصة مثل أن كان ثوبًا فخاطه، أو دخل في حيز الاستهلاك وتبدل الجنس، مثل أن كان حنطة فطحنها، أو سمسمًا فعصره، أو وسمة فضربها نيلاً؛ فإنه يجب عليه رد مثله إن كان من ذوات القيم كالثوب والحيوان، فإنه يجب قيمة المبيع يوم القبض من نقد كان موجودًا وقت البيع لم يكسد، ولو كان مكان البيع إجارة فإنه تبطل الإجارة، ويجب على المستأجر أجر المثل، وإن كان قرضًا أو مهرًا يجب رد مثله. هذا كله قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل. وقال محمد: يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس. قال القاضي: الفتوى في المهر والقرض على قول أبي يوسف، وفيما سوى ذلك على قول أبي حنيفة. انتهى. وفي الفصل الخامس من التتارخانية: إذا اشترى شيئًا بدراهم من نقد البلد، ولم ينقد الدراهم حتى تغيرت، فإن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق فسد البيع، وإن كانت تروج لكن انتقصت قيمتها لا يفسد البيع. وقال في الخانية: لم يكن له إلا ذلك. وعن أبي يوسف: أن له أن يفسخ البيع في نقصان القيمة أيضًا، وإن انقطعت تلك الدراهم اليوم كان عليه قيمة الدراهم قبل الانقطاع عند محمد، وعليه الفتوى.
__________
(1) قوله: ولو رجعت أي نقص ثمنها.(3/826)
وفي عيون المسائل: عدم الرواج إنما يوجب الفساد إذا كان لا يروج في جميع البلدان؛ لأنه حينئذ يصير هالكًا، ويبقى المبيع بلا ثمن، فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة فقط فلا يفسد البيع؛ لأنه لا يملك ولكنه تعيب، وكان للبائع الخيار إن شاء قال: أعطني مثل الذي وقع عليه البيع، وإن شاء أخذ قيمة ذلك دنانير. انتهى. وتمامه فيها، وكذا في الفصل الرابع من الذخيرة البرهانية، والحاصل: أنها إما أن لا تروج، وإما أن تزيد قيمتها أو تنقص، فإن كانت كاسدة لا تروج يفسد البيع، وإن انقطعت فعليه قيمتها قبل الانقطاع، وإن زادت فالبيع على حاله ولا يتحيز المشتري كما سيأتي، وكذا إن انتقصت لا يفسد البيع، وللبائع غيرها. وما ذكرناه من التفرقة بين الكساد والانقطاع هو المفهوم مما قدمناه.
وذكر العلامة شيخ الإسلام محمد بن عبد الله الغزي التمرتاشي في رسالة سماها "بذل المجهود في مسألة تغير النقود: " اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها أو بالفلوس، وكان كل منهما نافقًا حتى جاز البيع لقيام الاصطلاح على الثمنية، ولعدم الحاجة إلى الإشارة لالتحاقها بالثمن، ولم يسلمها المشترى للبائع، ثم كسدت؛ بطل البيع (و) الانقطاع عن أيدى الناس كالكساد، (و) حكم الدراهم كذلك، فإذا اشترى بالدراهم ثم كسدت أو انقطعت؛ بطل البيع، ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائمًا، ومثله إن كان مالكًا، وكان مثليًا، وإلا بقيمته، وإن لم يكن مقبوضًا فلا حكم لهذا البيع أصلاً، وهذا عند الإمام الأعظم وقال: لا يبطل البيع لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد، وذلك لا يوجب الفساد لاحتمال الزوال بالرواج، كما لو اشترى شيئًا بالرطبة ثم انقطع، وإذا لم يبطل وتعذر تسليمه وجبت قيمته، لكن عند أبي يوسف يوم البيع، وعند محمد يوم الكساد، وهو آخر ما تعامل الناس بها.(3/827)
وفي الذخيرة: الفتوى على قول أبي يوسف. وفي المحيط والتتمة والحقائق: بقول محمد يفتى رفقًا بالناس. ولأبي حنيفة أن الثمنية بالاصطلاح، فيبطل الزوال الموجب، فيبقى البيع بلا ثمن، والعقد إنما يتناول عينها بصفة الثمنية، وقد انعدمت بخلاف انقطاع الرطب، فإنه يعود غالبًا في العام القابل، بخلاف النحاس فإنه بالكساد رجع إلى أصله. والكساد لغة - كما في المصباح - من كسد الشيء يكسد، من باب قتل: لم ينفق لقلة الرغبات، فهو كاسد وكسيد، يتعدى بالهمزة فيقال: أكسده الله، وكسدت السوق فهي كاسدة بغيرها في الصحاح، وبالهاء في التهذيب.
ويقال: أصل الكساد والفساد. وعند الفقهاء أن نترك المعاملة بها في جميع البلاد، وإن كانت تروج في بعض البلاد لا يبطل، لكنه يتعيب إذا لم يرج في بلدهم، فيتخير البائع إن شاء أخذه وإن شاء أخذ قيمته. وحد الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت، هكذا. والانقطاع كالكساد كما في كثير من الكتب، لكن قال في المضمرات: فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع هو المختار. ثم قال في الذخيرة: الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت. وقيل: إذا كان يوجد في أيدي الصيارفة فليس بمنقطع، والأول أصح. انتهى. هذه عبارة الغزي في رسالته.
وفي الذخيرة البرهانية بعد كلام طويل: هذا إذا كسدت الدراهم أو الفلوس قبل القبض، فأما إذا غلت فإن ازدادت قيمتها فالبيع على حاله ولا يتخير المشترى، وإذا انتقصت قيمتها ورخصت فالبيع على حاله ويطالبه بالدراهم بذلك العيار الذي كان وقت البيع. وفي المنتقى: إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت قال أبو يوسف: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء، وليس له غيرها. ثم رجع أبو يوسف وقال عليه: قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض، والذي ذكرناه من الجواب في الكساد فهو الجواب في الانقطاع. انتهى.
و (قوله) : يوم وقع البيع،، أي في صورة البيع. (وقوله) : ويوم وقع القبض، أي في صورة القبض، كما نبه عليه في النهر، وبه علم أن في الانقطاع قولين:
الأول: فساد البيع كما في صورة الكساد.
والثاني: أنه يجب قيمة المنقطع في آخر يوم انقطع، وهو المختار كما مر عن المضمرات.(3/828)
وكذا في الرخص والغلا قولان أيضًا:
الأول: ليس له غيرها.
والثاني: له قيمتها يوم البيع وعليه الفتوى كما يأتي.
وقال العلامة الغزي عقب ما قدمناه عنه: هذا إذا كسدت أو انقطعت، أما إذا غلت قيمتها أو انقطعت، فالبيع على حاله، ولا يتخير المشتري، ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع، كذا في فتح القدير، وفي البزازية معزيًا إلى المنتقى: غلت الفلوس أو رخصت، فعند الإمام الأول والثاني - أولاً -: ليس عليه غيرها، وقال الثاني - ثانيًا -: عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض. وعليه الفتوى، وهكذا في الذخيرة. والخلاصة بالعزو إلى المنتقى، وقد نقله شيخنا في بحره وأقره، فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء؛ لأن المفتي والقاضي واجب عليهما الميل إلى الراجح من مذهب إمامهما ومقلدهما، ولا يجوز لهما الأخذ بمقابلة؛ لأنه مرجوح بالنسبة إليه. وفي فتاوى قاضي خان: يلزمه المثل، وهكذا ذكر الإسبجابي قال: ولا ينظر إلى القيمة. وفي البزازية: والإجارة كالبيع والدين على هذا، وفي النكاح يلزمه قيمة تلك الدراهم. وفي مجمع الفتاوى معزيًا إلى المحيط: رخص العد إلى قال الشيخ الإمام الأجل الأستاذ: لا يعتبر هذا ويطالبه بما وقع عليه العقد والدين على هذا، ولو كان يروج لكن انتقص قيمته لا يفسد، وليس له إلا ذلك، وبه كان يفتي الإمام، وفتوى الإمام ظهير الدين على أنه يطالب بالدراهم التي يوم البيع يعني بذلك العيار، ولا يرجع عليه بالتفاوت والدين على هذا والانقطاع والكساد سواء.(3/829)
فإن قلت: يشكل على هذا ما ذكر في مجمع الفتاوى من قوله: ولو غلت أو رخصت فعليه رد المثل بالاتفاق. انتهى.
قلت: لا يشكل؛ لأن أبا يوسف كان يقول أولاً بمقالة الإمام ثم رجع عنها، وقال ثانيًا: الواجب عليه قيمتها كما نقلناه فيما سبق عن البزازية وصاحب الخلاصة والذخيرة، فحكاية الاتفاق بناء على موافقته للإمام أولاً، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم. وقد تتبعت كثيرًا من المعتبرات من كتب مشايخنا المعتمدة فلم أر من جعل الفتوى على قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، بل قالوا: به كان يفتي القاضي الإمام. وأما قول أبي يوسف فقد جعلوا الفتوى عليه في كثير من المعتبرات فليكن المعول عليه. انتهى كلام الغزي رحمه الله تعالى. ثم أطال بعده في كيفية الإفتاء والحكم حيث كان للإمام قول وخالفه صاحباه أو وافقه أحدهما إلى آخر الزمان وأيد قول أبي يوسف الثاني كما ذكره هنا. ومشى العلامة الغزي في متنه تنوير الأبصار في مسألة الكساد على قول الإمام في القرض والبيع، فقال في فصل القرض: استقرض من الفلوس الرائجة والعدالي فكسدت، فعليه مثلها كاسدة لا قيمتها. انتهى.
وقال في الصرف هو وشارحه الشيخ علاء الدين: اشترى شيئًا به أي بغالب الغش وهو نافق أو بفلوس نافقة، فكسد ذلك قبل التسليم للبائع؛ بطل البيع، كما لو انقطعت عن أيدي الناس فإنه كالكساد، وكذا حكم الدراهم لو كسدت أو انقطعت بطل. وصححاه بقيمة البيع وبه يفتى؛ رفقًا بالناس. بحر وحقائق. انتهى.
وقوله: بقيمة المبيع صوابه بقيمة الكاسد، كما نبه عليه بعضهم ويعلم مما مر، ولم يتعرض لمسألة الغلاء والرخص.
ثم اعلم أن الظاهر من كلامهم أن جميع ما مر إنما هو في الفلوس والدراهم التي غلب غشها، كما يظهر بالتأمل، ويدل عليه اقتصارهم في بعض المواضع على الفلوس، وفي بعضها ذكر العدالي معها، فإن العدالي كما في البحر عن البناية بفتح العين المهملة وتخفيف الدال وكسر اللام: الدارهم المنسوبة إلى العدل، وكأنه اسم ملك ينسب إليه ضربهم، فيه غش. وكذا رأيت التقييد بالغالبة الغش في غاية البيان، وتقدم مثله في شرح التنوير.اهـ. ويدل عليه تعليلهم لقول أبي حنيفة بعد حكايتهم الخلاف بأن الثمنية بطلت بالكاسد؛ لأن الدراهم التي غلب غشها إنما جعلت ثمنًا بالاصطلاح، فإذا ترك الناس المعاملة بها بطل الاصطلاح، فلم تبق ثمنًا، فبقي البيع بلا ثمن فبطل، ويدل عليه أيضًا تعبيرهم بالغلاء والرخص، فإنه إنما يظهر إذا كانت غالبة الغش تعوم بغيرها، وكذا اختلافهم في أن الواجب رد المثل أو القيمة، فإنه حيث كانت لا غش فيها لم يظهر للاختلاف معنى، بل كان الواجب رد المثل بلا نزاع أصلاً.(3/830)
وهذا كالصريح فيما قلنا، وفي الهداية عند الكلام على الدراهم التي غلب غشا: وإذا اشترى بها سلعة ثم كسدت وترك الناس المعاملة بها؛ بطل البيع عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: عليه قيمتها يوم البيع، وقال محمد: قيمتها آخر ما يتعامل الناس. ثم قال في الهداية: وإذا باع بالفلوس النافقة ثم كسدت بطل البيع عن أبي حنيفة خلافًا لهما، وهو نظير الاختلاف الذي بيناه، ولو استقرض فلوسًا فكسدت؛ عليه مثلها. اهـ.
قال في غاية البيان: قيد بالكساد احترازًا عن الرخص والغلاء؛ لأن الإمام الإسبجابي في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت، فعليه مثل ما قبض من العدد. وقال أبو الحسن: لم تختلف الرواية عن أبي حنيفة في قرض الفلوس إذا كسدت أن عليه مثلها. قال أبو يوسف: عليه قيمتها من الذهب يوم وقع القرض في الدراهم التي ذكرت لك أصنافها، يعني التجارية والطبرية واليزيدية. وقال محمد: قيمتها في آخر نفاقها. قال القدوري: وإذا ثبت من قول أبي حنيفة في قرض الفلوس ما ذكرنا، فالدراهم التجارية فلوس على صفة مخصوصة، والطبرية واليزيدية هي التي غلب الغش عليها، فتجري مجرى الفلوس، فلذلك قاسها أبو يوسف على الفلوس. انتهى ما في غاية البيان مخلصًا.(3/831)
وما ذكره في القرض جار في البيع أيضًا كما قدمناه عن الذخيرة من قوله: يوم وقع البيع. فهذا الذي ذكرنا صريح فيما قلنا من أن الكلام في الدراهم الغالبة الغش والفلوس. وعليه يحمل ما قدمناه من إطلاق الولوالجية وجواهر الفتاوى. وما نقلنا عن الإسبجابي من دعوى الإجماع مخالف لما قدمناه عن الذخيرة عن المنتقى. وعلمت الفرق بينها في كلام الغزي، وسيأتي توفيق آخر. ولم يظهر حكم النقود الخالصة أو المغلوبة الغش، وكأنهم لم يتعرضوا لها لندوة انقطاعها أو كسادها، لكن يكثر في زماننا غلاؤها ورخصها فيحتاج إلى بيان الحكم فيها، ولم أر من نبه عليها من الشراح والله تعالى أعلم. نعم يفهم من التقييد أن الخالصة أو المغلوبة الغش ليس حكمها كذلك. ورأيت في حاشية الشيخ خير الدين الرملي على البحر عند قوله: وحكم الدراهم كذلك، أقول: يريد به الدراهم التي لم يغلب عليها الغش كما هو ظاهر، فعلى هذا لا يختص هذا الحكم بغالب الغش ولا بالفلوس في التنصيص عليها دون الدراهم الجيدة لغلبة الكساد. فيهما دونهما، تأمل. ثم نقل التعليل في المسألة لقول الإمام عن فتح القدير بنحو ما قدمناه. ثم قال: أقول وربما يفهم من هذا أن حكمها خلاف حكم الفلوس والدراهم المغلوبة بالغش، ولا يبطل البيع بعدم رواجها لأنها أثمان بأصل خلقتها، وليس كذلك. بقي الكلام فيما إذا نقصت قيمتها فهل للمستقرض رد مثلها وكذا المشترى أو قيمتها؟ لا شك أن عند أبي حنيفة يجب رد مثلها، وأما على قولهما فقياس ما ذكروا في الفلوس أنه يجب قيمتها من الذهب يوم القبض عند أبي يوسف ويوم الكساد عند محمد. والمحل محتاج إلى التحرير.اهـ.(3/832)
وفي حملة الدراهم في كلام البحر على التي لم يغلب غشها نظر ظاهر؛ إذ ليس المراد إلا الغالبة الغش، كما قدمناه، وصرح به شراح الهداية وغيرهم.
والذي يغلب على الظن ويميل إليه القلب أن الدراهم المغلوبة الغش أو الخالصة إذا غلت أو رخصت لا يفسد البيع قطعًا، ولا يجب إلا ما وقع عليه العقد من النوع المذكور فيه، فإنها أثمان عرفًا وخلقة، والغش المغلوب كالعدم، ولا يجري في ذلك خلاف أبي يوسف، على أنه ذكر بعض الفضلاء أن خلاف أبي يوسف في مسألة ما إذا غلت أو رخصت إنما هو في الفلوس فقط، وأما الدراهم التي غلب غشها فلا خلاف له فيها.
وبهذا يحصل التوفيق بين حكاية الخلاف تارة والإجماع تارة أخرى. وهذا أحسن مما قدمناه عن الغزي، ويدل عليه عباراتهم، فحيث كان الواجب ما وقع عليه العقد في الدراهم التي غلب غشها إجماعهًا، فما في الخلاصة ونحوها أولى. وهذا ما نقله السيد محمد أبو السعود في حاشية منلاً مسكين عن شيخه ونص عبارته: قيّد بالكساد؛ لأنها لو نقصت قيمتها قبل القبض فالبيع على حالة بالإجماع ولا يتخير البائع، وكذا لو غلت وازدادت ولا يتخير المشري. وفي الخلاصة والبزازية: غلبت الفلوس أو رخصت، فعند الإمام الأول والثاني - أولاً -: ليس عليه غيرها، وقال الثاني - ثانيًا -: عليه قيمتها يوم البيع والقبض، وعليه الفتوى. انتهى. أي يوم البيع في البيع ويوم القبض في القرض. كذا في النهر.(3/833)
واعلم أن الضمير في قوله: قيد بالكساد؛ لأنها ... إلخ، للدراهم التي غلب غشها، وحينئذ فما ذكره مما يقتضي لزوم المثل بالإجماع بعد الغلاء والرخص حيث قال: فالبيع على حالة بالإجماع، ولا يتخير البائع ... إلخ. لا ينافي حكاية الخلاف عن الخلاصة والبزازية فيما إذا غلت الفلوس أو رخصت هل يلزمه القيمة أو ليس عليه غيرها. هذا حاصل ما أشار إليه شيخنا من التوفيق. قال شيخنا: وإذا علم الحكم في الثمن الذي غلب غشه إذا نقصت قيمته قبل القبض، كان الحكم معلومًا بالأولى في الثمن الذي غلب جيده على غشه، إذا نقصت قيمته لا يتخير البائع بالإجماع فلا يكون له سواء، وكذا لو غلت قيمته لا يتخير المشتري بالإجماع، قال: وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جارٍ حتى في الذهب والفضة، كالشريفي البندقي والمحمدي والكلب والريال، فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع، فإن ذلك الفهم خطأ صريح ناشئ عن عدم التفرقة بين الفلوس والنقود. انتهى ما في الحاشية، وهو كلام حسن وجيه لا يخفى على فقيه نبيه، وبه ظهر أن ما ذكره الشيخ خير الدين غير محرر، فتدبر. وهذا كالريال الفرنجي والذهب العتيق في زماننا، فإذا تبايعا بنوع منهما ثم غلا أو رخص بأن باع ثوبًا بعشرين ريالاً مثلاً واستقرض ذلك يجب رده بعينه غلا أو رخص، وأما الكساد والانقطاع فالذي يظهر أن البيع لا يفسد إجماعًا إذا سميا نوعًا منه؛ وذلك لأنهم ذكروا في الدراهم التي غلب غشها ثلاثة أقوال:(3/834)
الأول: قول أبي حنيفة بالبطلان.
والثاني: قول الصاحبين بعدمه هو وقول الشافعي واحد. لكن قال أبو يوسف: عليه قيمتها يوم البيع. وقال محمد: يوم الانقطاع. وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف، وفي التتمة والمختار والحقائق بقول محمد يفتى رفقًا بالناس. كذا في فتح القدير. وعلل لأبي حنيفة بأن الثمن يهلك بالكساد؛ لأن الفلوس والدراهم الغالبة الغش أثمان بالاصطلاح لا بالخلقة، وإذا انتفى الاصطلاح انتفت المالية، وعلل للصاحبين بأن الكساد لا يوجب الفاسد، كما إذا اشترى بالرطب شيئًا فانقطع في أوانه لا يبطل اتفاقًا، وتجب القيمة أو ينتظر زمان الرطب في السنة الثانية، فكذا هنا. اهـ. ففي مسألتنا الكساد لا يوجد الفساد اتفاقًا، أما على قول الصاحبين فظاهر، وأما على قول الإمام فلأنه قال بالفساد لبطلان الثمنية بانتفاء الاصطلاح عليهما، فعاد الثمن إلى أصل خلقته من عدم الثمنية، ولم توجد العلة هنا لأنها أثمان خلقة واصطلاحًا. هذا ما ظهر لي ولم أره منقولاً، فتأمله.
تنبيه: إذا اشترى بنوع مسمى من الأثمان فالأمر ظاهر. وأما إذا أطلق كأن قال: بمئة ريال أو مئة ذهب، فإن لم يكن الأنواع واحد من هذا الجنس ينصرف إليه، وصار المسمى، فإن كان منه الوماع، فإن كان أحدهما أروج من الآخر وغلب تعاملاً ينصرف إليه لأنه المتعارف، فينصرف المطلق إليه وصار كالمسمى أيضًا، وإن اتفقت رواجًا فإن اختلف مالية فسد البيع ما لم يبين في المجلس ويرضى الآخر.(3/835)
قال في البحر: فالحاصل أن المسألة رباعية لأنها: إما أن تستوى في الرواج والمالية معًا، أو تختلف فيهما، أو تسوى في أحدهما دون الآخر، والفساد في صورة واحدة وهو الاستواء في الرواج والاختلاف في المالية، والصحة في ثلاث صور: فيما إذا كان مختلفة في الرواج والمالية، فينصرف إلى الأروج. وفيما إذا كانت مختلفة في الرواج مستوية في المائة، فينصرف إلى الأروج أيضًا. وفيما إذا استوت فيهما، وإنما الاختلاف في الاسم كالمصري فيتخير في دفع أيهما شاء، فلو طلب البائع أحدهما للمشتري أن يدفع غيره لأن امتناع البائع من قبول ما دفعه المشتري ولا فضل تعنت. ولذا قلنا: إن النقد لا يتعين في المعاوضات. اهـ.
بقي هنا شيء ينبغي التنبيه عليه، وهو أنهم اعتبروا العرف هنا حيث أطلقت الدراهم وبعضها أروج، فصرفوه إلى المتعارف ولم يفسدوا البيع، وهو تخصيص بالعرف القولي، وهو من أفراد ترك الحقيقة.
قال المحقق ابن الهمام في تحرير الأصول: العرف العملي مخصص عند الحنفية خلافًا للشافعية، كحرمة الطعام وعادتهم أكل البر انصرف إليه، وهو - أي قول الحنفية - أوجه. أما التخصيص بالعرف القولي فاتفقا كالدابة عل الحمار، والدراهم على النقد الغالب. انتهى.
قال شارحه ابن أمير حاج: العرف القولي هو أن يتعارف قوم إطلاق لفظ لمعنى بحيث لا يتبادر عند سماعه إلا ذلك المعنى. اهـ.
وقد شاع في عرف أهل زماننا أنهم يتبايعون بالقرون، وهي عبارة عن قطع معلومة من الفضة، ومنها كبار كل واحد باثنين، ومنها أنصاف وأرباع، والقرش الواحد عبارة عن أربعين مصرية، ولكن الآن غلبت تلك القطع وزادت قيمتها، فصار القرش الواحد بخمسين مصرية، والكبير بمائة مصرية، وبقي عرفهم على إطلاق القرش ويريدون به أربعين مصرية، كما كان في الأصل، ولكن لا يردون عين المصاري، بل يطلقون القروش وقت العقد ويدفعون بمقدار ما سموه في العقد تارة من المصاري، وتارة من غيرها ذهبًا أو فضة، فصار القرش عندهم بيانًا لمقدار الثمن من النقود الرائجة المختلفة المالية، لا لبيان نوعه ولا لبيان جنسه، فيشتري أحدهم بمائة قرش ثوبًا مثلاً، فيدفع مصارى كل قرش بأربعين، أو يدفع من القروش الصحاح أو من الريال أو من الذهب على اختلاف أنواعه بقيمته المعلومة من المصاري. هكذا شاع عرفهم، ولا يفهم أحد منهم أنه إذا اشترى بالقروش أن الواجب عليه دفع عينها، فقد صار ذلك عندهم عرفًا قوليًا فيخصص كما نقلناه عن التحرير.(3/836)
وقد رأيت بفضل الله تعالى في القنية نظير هذا، حيث قال في باب المتعارف بين البحر كالشروط برمز علاء الدين الترجماني باع شيئًا بعشرة دنانير، وجرت العادة في ذلك البلد أنهم يعطون كل خمسة أسداس مكان الدينار، فاشتهرت بينهم، فالعقد ينصرف إلى ما يتعارف الناس فيما بينهم في تلك التجارة. ثم رمز لفتاوى أبي الفضل الكرماني جرت العادة فيما بين أهل خوارزم أنهم يشترون سلعة بدينار، ثم ينقدون ثلثي دينار محمودية، أو ثلثي دينار وطسوج نيابورية، قال: يجري على المواضعة ولا تبقى الزيادة دينًا عليهم له.
وهذا نص فقهي في مسألتنا، ولله الحمد والمنة، وحينئذ فقد صار ما تعورف في زماننا نظير مسألة ما إذا تساوت النقود في الرواج والمالية، فيتخير المشتري في ما شاء من النقود الرائجة، وإن امتنع البائع لأنه يكون متعنتا كما مر.
ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقض، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد أو كان معينًا، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال أفرنجي أو مائة ذهب عتيق، أو دفع نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد، إذا لم يعين المتبائعان نوعًا، والخيار فيه للدافع، كما كان الخيار له وقت العقد، ولكن الأول ظاهر سواء كان بيعًا أو قرضًا بناء على ما قدمناه.(3/837)
وأما الثاني فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين، فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت، فبعض الأنواع جعله أرخص من بعض، فيختار المشتري ما هو أكثر رخصًا وأضر للبائع فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصًا على حساب ما هو أكثر رخصًا، فقد ينقص نوع من النقود قرشًا ونوع آخر قرشين، فلا يدفع إلا ما نقص قرشين وإذا دفع ما نقص قرشًا للبائع يحسب عليه قرشًا آخر نظرًا إلى نقص النوع الآخر. وهذا مما لا شك في عدم جوازه.
وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأورعهم، فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من لضرر، وأنه يفتي بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما، بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد، فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد وإن امتنع البائع، لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته. أما في هذه الصورة فلا؛ لأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد اضراره، ولا سيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف، فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به اختيار الأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط، خصوصًا والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فإن المنصوص عليها إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش، كما علمته مما قدمناه، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصًا، لا الأقل ولا الأكثر؛ كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري.
وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطي بالسعر الدارج وقت الدفع، ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلاً، ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري، لا يقال ما ذكرته من أن الأولى للصلح في مثل هذه الحالة مخالف لما قدمته عن حاشية أبي السعود، من لزوم ما كان وقت العقد بدون تخيير بالإجماع إذا كانت فضة خالصة أو غالبة لا، فالقول ذاك فيما إذا وقع العقد على نوع مخصوص كالريال مثلاً. وهذا ظاهر كما قدمناه ولا كلام لنا فيه، وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة، فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص.
ووجه ما أفتى به بعض المفتين كما قدمناه آنفًا، أن القروش في زماننا بيان لمقدار الثمن لا لبيان نوعه ولا جنسه، فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلاً، ودفع له المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشًا من الريال أو الذهب مثلاً، لم يحصل للبائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمنًا لسلعته، لكن قد يقال: لما كان راضيًا وقت العقد يأخذ غير القروش بالقيمة من أي نوع كان صار كأن العقد وقع على الأنواع كلها، فإذا رخصت كان عليه أن يأخذ بذلك العيار الذي كان راضيًا به.(3/838)
وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الأضرار، كما قلنا، وفي الحديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) ولو تساوى رخصها لما قلنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد، كأن صار مثلاً ما كان قيمته مائة قرش من الريال يساوي تسعين، وكذا سائر الأنواع، أما إذا صار ما كان قيمته مائة من نوع يساوي تسعين ومن نوع آخر خمسة وتسعين ومن آخر ثمانية وتسعين، فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به، وأن ألزمنا المشتري بدفعه بتسعين اختص الضرر به، فينبغي وقوع الصلح على الأوسط. والله تعالى أعلم". (1) .
مصادر البحث ومراجعة
1- حاشية رد المحتار على الدر العلامة ابن عابدين.
2- مجموع رسائل العابدينية العلامة ابن عابدين.
3- ابن عابدين وأثره في الفقه (دراسة مقارنة بالقانون) الدكتور الفرفور.
4- تنقيح الفتاوى الحامدية العلامة ابن عابدين.
5- التبيان في زكاة الأثمان الشيخ محمد حسنين مخلوف.
6- رسالة في زكاة الأوراق الأستاذ محمد نبهان الخباز.
7- بهجة المشتاق في زكاة الأوراق السيد أحمد الحسيني.
8- في المجتمع الإسلامي أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة.
9- الدين الخالص الشيخ محمود السبكي.
10- المجموع شرح المهذب الإمام النووي
__________
(1) انظر مجموع الرسائل العابدينية: 2/56 إلى 67.(3/839)
وأما الثاني فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين، فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت، فبعض الأنواع جعله أرخص من بعض، فيختار المشتري ما هو أكثر رخصًا وأضر للبائع فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصًا على حساب ما هو أكثر رخصًا، فقد ينقص نوع من النقود قرشًا ونوع آخر قرشين، فلا يدفع إلا ما نقص قرشين وإذا دفع ما نقص قرشًا للبائع يحسب عليه قرشًا آخر نظرًا إلى نقص النوع الآخر. وهذا مما لا شك في عدم جوازه.
وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأورعهم، فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من لضرر، وأنه يفتي بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما، بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد، فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد وإن امتنع البائع، لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته. أما في هذه الصورة فلا؛ لأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد اضراره، ولا سيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف، فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به اختيار الأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط، خصوصًا والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فإن المنصوص عليها إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش، كما علمته مما قدمناه، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصًا، لا الأقل ولا الأكثر؛ كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري.
وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطي بالسعر الدارج وقت الدفع، ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلاً، ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري، لا يقال ما ذكرته من أن الأولى للصلح في مثل هذه الحالة مخالف لما قدمته عن حاشية أبي السعود، من لزوم ما كان وقت العقد بدون تخيير بالإجماع إذا كانت فضة خالصة أو غالبة لا، فالقول ذاك فيما إذا وقع العقد على نوع مخصوص كالريال مثلاً. وهذا ظاهر كما قدمناه ولا كلام لنا فيه، وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة، فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص.
ووجه ما أفتى به بعض المفتين كما قدمناه آنفًا، أن القروش في زماننا بيان لمقدار الثمن لا لبيان نوعه ولا جنسه، فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلاً، ودفع له المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشًا من الريال أو الذهب مثلاً، لم يحصل للبائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمنًا لسلعته، لكن قد يقال: لما كان راضيًا وقت العقد يأخذ غير القروش بالقيمة من أي نوع كان صار كأن العقد وقع على الأنواع كلها، فإذا رخصت كان عليه أن يأخذ بذلك العيار الذي كان راضيًا به.(3/840)
وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الأضرار، كما قلنا، وفي الحديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) ولو تساوى رخصها لما قلنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد، كأن صار مثلاً ما كان قيمته مائة قرش من الريال يساوي تسعين، وكذا سائر الأنواع، أما إذا صار ما كان قيمته مائة من نوع يساوي تسعين ومن نوع آخر خمسة وتسعين ومن آخر ثمانية وتسعين، فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به، وأن ألزمنا المشتري بدفعه بتسعين اختص الضرر به، فينبغي وقوع الصلح على الأوسط. والله تعالى أعلم". (1) .
مصادر البحث ومراجعة
1- حاشية رد المحتار على الدر العلامة ابن عابدين.
2- مجموع رسائل العابدينية العلامة ابن عابدين.
3- ابن عابدين وأثره في الفقه (دراسة مقارنة بالقانون) الدكتور الفرفور.
4- تنقيح الفتاوى الحامدية العلامة ابن عابدين.
5- التبيان في زكاة الأثمان الشيخ محمد حسنين مخلوف.
6- رسالة في زكاة الأوراق الأستاذ محمد نبهان الخباز.
7- بهجة المشتاق في زكاة الأوراق السيد أحمد الحسيني.
8- في المجتمع الإسلامي أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة.
9- الدين الخالص الشيخ محمود السبكي.
10- المجموع شرح المهذب الإمام النووي
__________
(1) انظر مجموع الرسائل العابدينية: 2/56 إلى 67.(3/841)
أحكام النقود الورقية
لفضيلة الدكتور أبو بكر دوكوري
بسم الله الرحمن الرحيم
أحكام النقود الورقية
النقود الورقية عبارة عن قطع من أوراق خاصة مزينة بنقوش خاصة تحمل أعدادًا صحيحة يقابلها في العادة رصيد معدني بنسبة خاصة يحددها القانون، وتكون صادرة من حكومة ما أو من هيئة رسمية ليتداولها الناس عملة.
وهذه الأموال المالية هي المستعملة حاليًا في كافة أرجاء العالم نتيجة لاتساع نطاق المعاملات التجارية بين الأفراد والمؤسسات والدول، مما جعل استعمال النقود المعدنية متعذرًا أو عسيرًا باعتبار ندرتها من جهة، فلا تكفي وحدها لتلبية ما تتطلبه الحركة الاقتصادية العالمية المتطورة، وباعتبار ثقلها من جهة أخرى، فيصعب تداولها بين الأفراد وبين المؤسسات المالية المختلفة.
ومع أن النقود الورقية ليست في الأصل إلا تعهدًا بالدفع، إلا أنها يعتمد عليها في كل المعاملات المالية والمبادلات التجارية أكثر مما يعتمد على العملة المعدنية، فصارت هي كالأصل.(3/842)
قلنا: إن الحاجة الملحة هي التي دفعت جميع الدول في العصر الحاضر إلى الاعتماد على النقود الورقية، ولا نجد رأيًا لفقهاء السلف حول هذه النقود الورقية لعدم وجودها في عصرهم، غير أن علماء العصر وجدوا أنفسهم أمام الأمر الواقع هو كون العملة الورقية قد حلت محل الذهب والفضة في استعمالها مقياسًا للتقييم وواسطة للتبادل وأداة للادخار، فغدت بذلك نقدًا قائمًا بذاته يجب أن يعرف حكم الله فيها، لذلك اجتهدوا وكان طبيعيًا أن يختلفوا في أول الأمر؛ شأن كل مسألة اجتهادية جديدة، فقد رأى بعض العلماء عدم وجوب الزكاة في هذه النقود الورقية؛ لكون النقود الشرعية هي فقط الذهب والفضة، وأما هذه النقود الورقية فقيمتها ليست في ذاتها، بل هي مجرد سندات وتعهد بالدفع، وتفقد قيمتها بمجرد إلغاء التبادل بها، وينسب هذا المذهب إلى بعض المالكية كالشيخ محمد عليش مفتي المالكية في مصر في عصره، فقد سئل عن حكم "الكاغد" وهو ورق فيه ختم السلطان كانوا يتعاملون به كالدراهم والدنانير، فأفتى بعدم وجوب الزكاة فيها (1) .
وأفتى بعض الشافعية كذلك بعدم وجوب الزكاة فيها، أي الأوراق المالية ما لم تقبض قيمتها ذهبًا أو فضة ويمضي على ذلك حول، معللين ذلك بأن التعامل بها حوالة غير صحيحة شرعًا لعدم الإيجاب والقبول اللفظيين، غير أن الغالبية العظمى من الشافعية يرون أن عدم الإيجاب والقبول اللفظيين في الحوالة لا يبطلها إذا جرى العرف بذلك، وقال بعض أئمتهم: المراد بالإيجاب والقبول كل ما يشعر بالرضا قولاً كان أو فعلاً، فيكون الرضا هنا محقق (2) .
__________
(1) راجع فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي: 1/271.
(2) راجع فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي: 1/271.(3/843)
فعلى هذا فالورق النقدي وإن كان التعامل به من قبيل الحوالة على البنك، إلا أن مالكه يملك دينًا على البنك، والبنك مليء مقر مستعد للدفع حاضر، ومتى كان المدين بهذه الحالة فإن الزكاة تجب على الدين في الحال. وبهذا التوجيه أوجب جمهور الشافعية الزكاة على النقود الورقية.
أما الأحناف فقالوا: إن الأوراق المالية من قبيل الدين القوى، لكن لما أمكن صرفها فضة على الفور وجب فيها الزكاة على الفور.
وذهبت المالكية إلى أن هذه الأوراق المالية وأن كانت سندات دين إلا أنها يمكن صرفها فضة على الفور، كما أنها تقوم مقام الذهب في التعامل، فيجب فيها الزكاة بشروطها.
وذهب الحنابلة إلى أنها لا زكاة فيها إلا إذا صرفت ذهبًا أو فضة بالفعل ووجدت فيها شروط الزكاة. ومن هنا ندرك أن العمدة في جميع المذاهب الأربعة وجوب الزكاة في الأوراق المالية باعتبارها سندات دين على بنك الإصدار، وأنها يمكن صرف قيمتها فضة على الفور، وإذا أمعنا النظر في مستندهم هذا نجد أنه ليس بقوي؛ لأن البنوك أصبحت غير ملزمة قانونًا بصرف هذه الأوراق المالية بالذهب أو الفضة.
أضف إلى ذلك أن هناك فروقًا جوهرية بين هذه الأوراق المالية وما هو مضمون بها، وبين الدين الحقيقي وسنده المعروف عند الفقهاء، إذ لا ينطبق عليها لا حقيقة الدين ولا شروطه المعروفة عندهم، فلا يصح اعتبار هذه الأوراق المالية دينًا على بنك الإصدار فتوجب الزكاة فيها بناء على ذلك.
ومن أوجه الفرق: أن الدين إذا كان في ذمة المدين فإنه لا ينمو ولا ينفع به ربه، ولا يجري التعامل بسنده رسميًا؛ لأنه ليس مالاً حاضرًا معدًّا للنماء يحذف هذه النقود الورقية.
إذن فخير ما نعلل به وجوب الزكاة فيها هو أن نقول: إن هذه الأوراق المالية أصبحت هي أساس التعامل بين الناس بعد اعتمادها لدى جميع السلطات الشرعية في العالم، في أثمان الأشياء وبها وبواسطتها تتم عمليات البيع والشراء ويرضي بها الجميع في جميع الاستحقاقات المالية في الأجور والمهور والديات وغيرها، فهي بذلك لها قوة الذهب والفضة في قضاء الحاجات وتحقيق المكاسب والأرباح، بل وأكثر؛ لأن العملة الذهبية أو الفضية أصبحت نادرة لا تكاد ترى. ولا يشك أحد في أن هذه الأوراق المالية بسبب جميع الصلاحيات التي ذكرناها هي أموال نامية أو قابلة للنماء، كما هو الحال في الذهب والفضة، فنوجب فيها الزكاة قياسًا عليهما؛ لأنه قد تقرر بعد التحقيق أن علة وجوب الزكاة في الذهب والفضة هي النماء وقد وجد في الأوراق المالية فنعطيها حكمها.(3/844)
أما فيما يتعلق بتغير قيمة العملة، فإنه لا تأثير بعد أن عرفنا أن نصاب الذهب عشرون دينارًا، أي 85 جرامًا، وأن نصاب الفضة مائتا درهم أي 595 جرامًا، فمن ملك من العملة الورقية ما يساوي قيمة 85 جرامًا من الذهب أو 595 جرامًا من الفضة، فعليه أن يزكيها ربع العشر أي 2.5 بالمائة.
ولا أعتقد أنه يوجد في عالمنا اليوم عالم إسلامي معتبر يقول بعدم وجوب الزكاة في هذه الأوراق المالية؛ لما في ذلك من ظلم الفقراء وتضييع حقوق المساكين وتعطيل مصالح الإسلامي والمسلمين، فمن عنده أدنى إلمام بمقاصد الشريعة وأهدافها السامية فإنه لا يتردد في إيجاب الزكاة في هذه الأوراق المالية بالقياس الأولى؛ لأن علة وجوب الزكاة في النقدين متحققة فيها بشكل أجلى وأوضح، سواء قلنا بأن علة وجوب الزكاة فيها الثمنية أو النماء. هذا فيما يتعلق ببقية الأحكام كجريان الربا – بنوعيه – عليها فضلاً ونسيئة، وكجواز جعلها رأس مال في بيع السلم والشركات ونحوها، والله أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل.(3/845)
أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة
في نظر الشريعة الإسلامية
لفضيلة الشيخ محمد عبده عمر
بسم الله الرحمن الرحيم
أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة في نظر الشريعة الإسلامية
المقدمة
قال تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19] .
1- لقد عبرت آيات كثيرة في القرآن الكريم عن البشرية جمعاء بأنها أمة واحدة في نشأتها الأولى وفي حقيقتها الذاتية، انبثقت إلى الوجود من أصل واحد، وأنها في حقيقة مصيرها تنتهي إلى نهاية واحدة وهي لقاء الله جل جلاله الذي خلقها من العدم المحض بفيض فضل رحمته. وإن اختلفت موازين الجزاء خيرًا أو شرًا، ومهما تنوعت أشكالها أو تعددت أجناسها أو اختلفت ألسنتها أو توزعت شعوبها وتباعدت أقطارها؛ فإنهم جميعًا ينتهون إلى نهاية واحدة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] .(3/846)
وقال تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] .
وقد صرح نبي الإسلام بهذه الوحدة الإنسانية الشاملة في سنته البيانية لما أنزل عليه بقوله: ((كلكم لآدم وآدم خلق من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى)) . وقد ألقى كافة المقاسات والموازين البشرية التي قد يستغلها بعضها ضد بعضها الآخر فردًا كان أو جماعة، شعبًا أو سلطة، من فقر أو غنى، أوجاه أو سلطان، أو حسب أو نسب، أو بياض البشرة أو سوادها، أو عربية اللسان أو عجمتها، الكل سواء في ميزان الحق الإلهي الذي خلق الكل من تراب مجسدًا في أصلها آدم، الذي خلقه الله بيده، واصطفاه نبيًا إلى ذريته، وخاطبه بكلامه، وأسجد له ملائكته، وجعله خليفته في أرضه، وأتمنه بالأمانة التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال، وجعل خلق السموات والأرض واختلاف الألسن والألوان وتعاقب الليالي والأيام، آيات بالغات للتفكر والاعتبار. وأوضح القرآن الكريم بأن اختلاف الألوان والأجناس والألسن من آيات عظمة الحكمة الإلهية وبديع صنعها، ولا يصح أن تكون معارضًا لأصل الوحدة الإنسانية، كما لا يصح بأي حال من الأحوال أن تكون سببًا للنزاع أو الخصام، أو للتعالي بالحسب والنسب، أو التباهي بالجاه والمال وعزة السلطان، أو للقهر والتسلط والاستغلال، بل يجب أن نكون سببًا لإرساء دعائم التعارف والتواد وغاية لترسيخ موازين العدل والمساواة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .(3/847)
هذا صريح القرآن بأن حكمة الاختلاف للتعارف لا للتناكر ولا للاستغلال والتظالم. والتعارف المقصود من الآية الكريمة وغيرها من الآيات القرآنية ونصوص السنة النبوية البيانية، ليس فقط المعرفة المجردة التي لا تحقق الحكمة الإلهية من التعارف، بل المقصود بالتعارف الذي يحقق الحكمة الإلهية هي المعرفة المثمرة التي تتعاون وتتلاقى فيها كل القوى الإنسانية الخيرية لخير الإنسان، ويتحقق خير الأرض لابن الأرض، وبذلك تتبادل المنافع، وينتفع ابن الأرض بخير الأرض كلها. وذلك هو التعارف الذي أشارت إليه النصوص القرآنية والنبوية، ويدخل في هذه النصوص أسس العلاقات الدولية التي مازالت تحكمها قوانين التمييز العنصري، وطغيان جبروت القوة الظالمة وتحكم الشعوب القوية بالشعوب الضعيفة، والتي تتعارض صراحة مع مبادئ العلاقات الاجتماعية الدولية في نصوص الإسلام الصريحة وسنة بيانه الواضحة.
لقد وضع نبي الإسلام الإطار الإلهي الصحيح لحرية الإنسان وحقوقه في إطار الأسرة الإنسانية الشاملة وليس بمعزل عنها، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أحب لأخيك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لنفسك)) وتخرج مبادئ الحرية الإنسانية وكرامة الإنسان من فؤاده وفمه تشع نورًا من سناها الغامر، فيقول لبعض من وقف أمام عظمة شخصه النبوية، التي تهبط عليها ملائكة السماء صباحًا ومساء، خاشعًا واجفًا لجلال المهابة: ((هون على نفسك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة)) .(3/848)
هكذا كان محمد صلوات الله وسلامه يقدر الحرية الحقيقية في غيره، كما يقدرها في نفسه، فالحرية الحقيقية في تعاليم الإسلام وفي منهج محمد صلوات الله وسلامه عليه؛ هي أن تقدر الحرية في غيرك كما تقدرها في نفسك، وأول مظاهرها سيادة الإنسان على نفسه، والتي تقتضي كبح النفس عن أهوائها وشهواتها؛ لأن الحرية معنى اجتماعي ليست بمعزل عن بني البشر تظهر علاقة الإنسان بغيره، ومراعاة حقوق غيره كما يراعي حقوق نفسه. ومن هنا شددت نصوص الإسلام من الكتاب والسنة على محاربة الهوى والأنانية والأثرة، والحرية الحقيقية في نظر الإسلام لا تجتمع مع الأنانية والأثرة والهوىن وأوضحت بأن الحرية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا بين متماثلين في الحقوق والواجبات ولا يمكن أن تكون بين أدنى وأعلى، ولا بين سيد وعبد، ولا بين مسيطر ومقهور. وأن التعارف الذي دعا إليه الإسلام بين أبناء الأسرة الإنسانية جمعًا لا يمكن أن يتحقق إلا يتحقق الحرية التي دعا إليها الإسلام، والتي بها يحل التعارف والتعاون بدل التناكر، والانسجام والتآلف بدل النزاع والتناحر، والعدل والمساواة بدل الاستغلال والتظالم. وبالتالي عدم قيام الحروب والمنازعات على ما رزق الله الناس وإخراج لهم من معادن الأرض.
لقد أثبت الإسلام الوحدة الإنسانية في عالم القرن العشرين، والبشرية كلها في أشد الحاجة إلحاحًا إلى هذه الوحدة التي نادى بها الإسلام منذ أربعة عشر قرنًا خلت ونيفا، وكأنه يعبر عن مشاعر الإنسانية وأحاسيسها التي دمرتها الحروب وطحنتها مبادئ الأثرة والإنانية والتظالم، ومزقتها العنصرية وتمايز الأجناس والألوان والألسن، بالإضافة إلى سلاح إبادة البشرية الذي يهدد حياتها في كل لحظة. وهكذا يثبت الإسلام معجزته الخالدة وخلودها الأبدي: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] .
إنها الوحدة الإنسانية الشاملة التي تنطلق من وحدة الأصل، ووحدة التكوين، ووحدة الغرائز، ووحدة الاستعداد للخير والشر، فالغرائز كلها واحدة، فغرائز الإنسان في أقصى الشرق هي غرائزه في أقصى الغرب. وكل نفس من نفوس بني آدم فيها نزوع إلى الخير وإلى الشر، كما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] أي نجد الخير والشر، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8] .(3/849)
ومن هنا كان التعارف في الإسلام غاية مقدسة في ذاته لتحقيق الحكمة الآلهية في اختلاف الأمم والشعوب في الألوان والألسن وتوزيعهم في الأرض. وكان هذا التعارف كافيًا لحل كل نزاع، أو محو كل أثرة من استغلال أو ظلم في جماعاتهم وأفرادهم في ظل هداية الإسلام وتشريعه العادل وتنظيمه الشامل للعلاقات الفردية والاجتماعية والدولة؛ ذلك أن مبادئ الإسلام العامة وقواعده الكلية تنطبق على الدول والشعوب، كما تنطبق على الأفراد والجماعات سواء بسواء، فلا فرق ولا استثناء ولا تمايز في قانون العدل والميزان الإلهي، فما يطالب به الفرد يطالب به المجتمع، وإن اختلفت وسائل تحقيق المطلوب فالغاية واحدة، وهي جعل الإنسانية أمة واحدة متساوية في الحقوق والواجبات، لا فضل لفرد على آخر إلا بالتقوى، والتي لا تتحقق إلا بتقوى الله في حقوق النفس الواحدة، والتي لا ينالها أي فرد إلا بالقدر الذي يضحي فيه في سبيل إسعاد الآخرين.
ويترجم مضامين الإسلام في سبيل إسعاد أمته ومجتمعه. فميزان التفاضل في الإسلام لا يقبل في كفته العادلة لونًا ولا جنسًا، ولا لغة ولا سلطانًا، ولا ثروة مالية، ولا سلالة حسبية أو نسبية، ولا جبروت قوة عاتية، وإنما يقبل في ميزانية كرامة التقوى المكتسبة من صلاح العمل وزكي النفس وصفاء لفائف إشراق حناياها الذي يفيض بكل الخير على كل موجود في عالم الوجود، كرامة التقوى المكتسبة من إيثار النفس غيرها عليها من الأفراد والجماعات وحبها الخير والهداية إليه لكل نفس خلقت أو تخلق من أفراد النفس الواحدة التي هي في حقيقتها الذاتية جزء من فصيلتها.(3/850)
هذه هي ترجمة الإسلام العملية لميزان التفاضل، فليس هناك فضل لبعض الأفراد أو الجماعات أو الدول والشعوب على بعض الآخر في ميزان التقوى، وفي ترجمة مفاهيم الإسلام غير العمل الصالح التي تكسبه تلك النفس الفاضلة، وليس هناك نموذجًا يقتدى به في ميزان تفاضل التقوى وترجمة الإسلام الصحيحة غير النموذج الأوحد في عالم الكمالات الإنسانية وسمو معارج التقوى الإلهية محمد صلوات الله وسلامه عليه، الذي دخلت أعواد الحصير وتركت انطباعاتها الضاغطة في جسده، وكنوز الذهب والفضة يوزعها أكوامًا بين الناس ويحثيها حثى الحصاة بين يديه، ويصعد المنبر وراياته تملأ الأفق عزيزة ظافرة، فيقول: ((أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت أخذت منه مالاً فهذا مالي فليأخذ منه)) . ويسأله عمه العباس أن يوليه عملاً من الأعمال التي كان يعين عليها بعض المسلمين فيصرفه برفق ويقول له: ((والله يا عم إنا لا نولي هذا الأمر أحدًا طلبه أو يحرص عليه)) ، ويضع لنفسه ولأهل بيته مبدأ من مبادئ التفضيل في الإسلام لا يحيدون عنه، هو أن يكونوا أول من يجوع إذا جاع الناس وآخر من يشبع إذا شبع الناس. ودانت الدنيا ووقف أكثر ملوك الأرض أمام رسالته واجفين، فما استطاعت ذرة من لهو أو كبر أن تمر بخاطره. وألقى كل أعداء رسالته السلاح ومدوا إليه أعناقهم ليحكم فيها بما يشاء ومعه عشرة آلاف سيف تتوهج بأيدي المسلمين يوم فتح مكة.(3/851)
فلم يزد على أن قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) . ووقف وحيدًا يدعو إلى توحيد الله وإلى تحرير العبيد والمستضعفين. وجعل الدين المعاملة والنصيحة. وأعلن تحريم الربا والمفاضلة التي تؤدي إلى الظلم والاستغلال. وجاء برسالته الإنسانية العالمية الخالدة التي تتصدع من عظمتها القدسية الجبال الراسية قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] .
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بمبادئها وتوجيهاتها وأحكامها تحمل الصبغة الإنسانية العالمية؛ هداية للناس ورحمة وداعية إلى صراط الحق المستقيم. ولم تكن تشريعًا لجنس دون جنس ولا لاقليم معين من الأرض، بل جاءت تشريعًا عامًا للإنسان من حيث هو إنسان أبيض أسود، عربي أو عجمي، في الشرق أو في الغرب، فلا عنصرية ولا عصبية في شريعة من خلق الإنسانية جمعاء من نفس واحدة. ولو كان واضعها فردا أو فئة من الناس لتعصبت بوعي أو بلا وعي لجنسها أو وطنها أو طبقتها أو مصالحها، ولكن الشارع هو رب الناس ملك الناس آله الناس وهم جميعًا عباده فليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، ولا فضل لفرد منهم على آخر، ولا لقوة على أخرى بحكم الخلق والنشأة الأولى، والمصير إلى حساب الخالق جل جلاله.(3/852)
ولقد ثبت في ماضي الإنسانية وحاضرها بأنها لم تثبت أقدامها على مبادئ العدل الإلهي المطلق بين أبناء النفس الواحدة، بل سادها الظلم والاستعباد والقهر وحب الامتلاك والغلبة، وحل التناكر محل التعارف والاستعباد محل الحرية، والظلم والتعسف والاستغلال محل العدل والمساواة، والأثرة والأنانية محل الإيثار والجشع، والظلم والعدوان محل البر والتقوى، وتخلى المسلمون عن مضامين الإسلام وتحلوا بأضدادها واحتفظوا بأسمائهم وانتسابهم إليه وأوهموا من لا يفهم الإسلام بأن ما هم عليه هو الإسلام، فكانت الكارثة الكبرى، وكان الخروج من دين الله أفواجًا، وساد العلاقات الدولية الظلم والاستبعاد إذ اشتغلت هي بتنظيم العلاقات. فلا بد إذن من هداية السماء لتنظيم التعارف الحقيقي والعلاقات العادلة بين البشر، وتهدي للتي هي أقوم، وخاتمة رسالات السماء، وآخر لبنة في صرح الرسالات الإلهية بأصولها الخالدة التي تنظم قواعد العلاقات الإنسانية بين الآحاد والجماعات والدول، بأصولها العامة النظرية التي تستطيع - والإعجاز يتوجها - علاج الوقائع والمشكلات المتطورة طوال مراحل عصور البشرية، وعلى اختلاف بيئاتها الاجتماعية والحضارية وخصائصها الذاتية، وتقيم العدل المطلق بين الناس جميعًا، وتحقق الإلخاء بينهم وتصون وتحمي دماءهم وأعراضهم وأموالهم وعقولهم. ومن هنا يتعاظم الواجب على علماء الإسلام، الذين يجب أن يكون لهم حظ وافر وإدراك واسع وفكر حر في علوم الشريعة الإسلامية. وخاصة ما تشير إليه نصوص آيات وأحاديث العلاقات الإنسانية والدولية، حتى تتحقق حكمة الوجود ويسود العدل، ويظهر إعجاز الشريعة الخالدة بيقين، ويدخل الناس في دين الله أفواجًا.(3/853)
لمحة تاريخية
1- لقد كانت العملة النقدية في التاريخ قوامها النقود الذهبية والفضية، وكان الأغنياء يحرصون على صيانة ذهبهم وفضتهم من السرقة والضياع، فكانوا يعهدون بحفظه إلى محترفي صياغة الذهب والفضة ليودعوه في خزائنهم ويسترد المودعون منه بقدر ما يحتاجون إليه في معاملاتهم، وكانوا يدفعون إلى الصيرفي أجرًا على حفظ هذه الودائع، وإذا أراد أحدهم الانتقال من بلد إلى آخر أو إلى دولة غير دولته كان لا ينوء بحمل الذهب والفضة وتعريضها للضياع أو السرقة، بل كان يأخذ من الصيرفي أمرًا إلى زميل له في البلد الآخر بتسليمه المبلغ المطلوب. وكانت الفئة الغالبة من محترفي صياغة الذهب والفضة وصيارفة الذهب وتجار النقود من اليهود الذين جبلت نفوسهم على حب المادة إلى الحد الذي قصه الله عنهم في كتابه
من انحدار بشريتهم إلى عبادة العجل الذي صنعوه بأيديهم من الذهب، وعبدوه من دون الله، كما جبلت نفوسهم على الزنا وأكل أموال الناس بالباطل والسحت إلى الحد الذي قالوا فيه {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 76] .
فكانوا يعطون كل من أودع عندهم ذهبًا أو فضة سندات لها قيمة وديعته من الذهب أو الفضة، ثم أخذ المودعون يتعاملون فيما بينهم بهذه السندات؛ لأن تداولها أخف من تداول الذهب والفضة، فإذا كنت قد أودعت مائة دينار ذهبًا عند الصيرفي وأردت أن أدفع لدائني هذا المبلغ فإنني أسلمه السند الممثل لهذه القيمة ليسترد هو المبلغ من الصيرفي، وهو بدوره قد يعطيه لدائنه سداد الدين عليه وهلم جرا. كل هذه العمليات أراحت المودعين في معاملاتهم من نقل الذهب أو الفضة من يد إلى أخرى.
ثم وجدت هذه الفئة من الصيارفة والتي أغلبها من إليهود، بأن هذه السندات الممثلة لقيمة ذهبية أو فضية، قلما يأتي حامل السند ليطلب قيمته النقدية، وبالتالي يبقى الذهب أو الفضة المودع في خزائنهم جاثمًا فيها مددًا طويلة، واتضح بالتجربة والممارسة بأن حامل السند لا يأتي ليستلم قيمته النقدية التي تسحب، إلا إذا كان محتاجًا إليه بصفة استثنائية، ومع ذلك فإن قيمة السندات النقدية التي تسحب لا يتجاوز عشر الذهب والفضة المودعين في خزائنهم، ومن هنا واتتهم الفكرة لماذا لا يستغلون هذه الكميات الهائلة من الذهب والفضة بالإقراض وبالفائدة التي يحددونها، بناء على ما يلمسون من حاجة المجتمع إليهم بغير حدود أو قيود تقدر الفائدة الربوية التي يفرضونها وبعد أخذ الضمانات الوثيقة منهم كفالة لسداد القروض عند حلول الأجل، وعند سداد هذه القروض وفائدتها المرتفعة يستغلونها مرة أخرى في الإقراض الربوي، وهكذا دواليك.(3/854)
وعلى هذا النحو تضخمت ثرواتهم التي لم تكن في أصلها إلا مال المودعين. وكلما تضخمت ثرواتهم الخاصة من هذه المصادر استخدموها بالمثل في الإقراض بالربا بالإضافة إلى أموال الودائع، وكانت هذه الفئة طوال تاريخها موضع إزدراء الكافة، وكان تواجدها في الأحياء اليهودية المنعزلة عن المجتمع. ثم تطورت الصناعات بتطور المجتمع البشري واحتاج الناس إلى توسيع صناعاتهم وإنشاء صناعات جديدة، واتسع نطاق التبادل التجاري بين الدول والشعوب. وتطور بالمقابل نشاط هؤلاء الصيارفة وتجار النقود، فبعد أن كان النشاط المصرفي يقتصر على القروض الاستهلاكية تطور إلى القروض الإنتاجية، وبعد أن كان الربا محاربًا من الديانات السماوية أحلته الشرائع الوضعية. وتطور مركز الصيرفي فأصبح صاحب بنك له احترامه عند الكافة، ونشأت البنوك الحديثة في صورة شركات مساهمة رأس مالها يقدمه المؤسسون والمساهمون، ولكنه يكون رأس مال ضئيل، فليكن مثلاً عشرة ملايين.
إلا أن الودائع تنهال على البنك فيصبح رأس ماله مئات الملايين، وبالتالي تصبح مكانة كل بنك في العالم مقياسها هذه الودائع، وصارت البنوك تقدم لأصحاب هذه الودائع فوائد ضئيلة لإغرائهم بالإيداع، مصورين لهم أن الربح الضئيل الثابت خير لهم من المجازفة بتوظيف أموالهم في مشروعات قد تفشل وتهلك فيها أموالهم ويبؤون بالخسران، ثم يقرضون هذه الودائع بفوائد مرتفعة ويستغلون الفرق بين الفائدتين. هذا كان المصدر الأكبر للقوة المالية التي أحرزتها البنوك الحديثة، هذه القوة المالية التي انتزعت السيطرة الكاملة على اقتصاديات عالمنا المعاصر.(3/855)
هذا الأخطبوط الذي يتألف أغلبه من إليهود، أنشب مخالبه في لحوم البشر ودمائهم ومصائرهم، وأشعل العديد من الحروب المدمرة، وأخذ بيد الاستعمار في انتهابه لخيرات الأرض، وأخذ يوجه تمويله إلى مشاريع تهدف أكثر ما تهدف إلى هدم أخلاق الشعوب ونشر الفساد في كل مجتمع، مادامت أرباحها أكبر من مشروعات تلبي للناس مطالبهم من ضروريات الحياة. ولم يقف هذا الأخطبوط عند هذه المآسي، بل امتدت سيطرته إلى تشويه أسلوب التفكير لدى الشعوب وحجب الحقائق عنها، بما أتيح له من سيطرة على أجهزة النشر ووسائل الإعلام.
ومن هنا كانت هذه الفئة محاربة لله ورسوله في شريعة الإسلام لامتصاصها الشريان الحيوي لدماء المجتمع ونشر الفساد والرذيلة فيه، ولم تأتي آية في كتاب الله تعلن الحرب على أي فرد أو فئة من فئات المجتمع البشري - مهما كانت ذنوبها ومعاصيها، ومهما كان عنادها لله ورسول - غير فئة المرائيين، وجرثومة المجتمع القاتلة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 278 -280] .(3/856)
لقد نشط إليهود في هذا المجال نشاطًا يعجز عنه الوصف، وتضخمت ثرواتهم في العالم من هذا المصدر الخبيث الذي استغلوا فيه التحكم في العملة النقدية من الذهب والفضة، وعملوا على اكتنازهما للتحكم العالمي في العملات الورقية التي تصدرها دول العالم.
ومن هنا نفهم المدلول الفقهي العام الأوسع لقول الحق تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34-35] .
هكذا يخاطب الله جل جلاله الماليين المتحكمين بمصير الأمم والشعوب ويقودونها إلى الهاوية. وهكذا يظهر الإعجاز القرآني في عالم القرن العشرين بتهديده لفئة قليلة تكدست في يدها الثروات الذهبية بأساليب فاجرة وتستغلها في سيطرة اقتصادية لا ضابط لها من دين ولا وازع من خلق، سيطرة فئة قليلة تصول وتجول في ابتلاع سبائك الذهب وخزنه؛ ليجعلوا منه ميزانًا لحماية استغلالهم والتحكم في العملات الورقية للدول والشعوب التي لا تمتلك تلك الخزائن المكنوزة من الذهب والفضة والتي هي في حقيقتها ليست أموالهم، ولكنها أموال المودعين والفوائد الربوية التي يفرضونها عليها ويديرونها ويتصرفون بها كما لو كانوا هم ملاكها بالفعل.(3/857)
إنها لقوة هائلة تلك القوة التي يصل بها هؤلاء في سيطرتهم المطلقة على المال وعلى القروض التي يوزعونها بمحض مشيئتهم المطلقة، فكأنهم بذلك يوزعون الدم اللازم لحيوية الجهاز الاقتصادي بكل أوضاعه، فإذا شاءوا حرموه دم الحياة فلا يستطيع أن يتنفس، وإذا شاءوا قدروا مدى انسيابه في جسم هذا الجهاز التقدير الذي يتفق مع مصالحهم الذاتية.
وبالتالي فإن تجمع هذه الثروات المالية الهائلة في أيديهم يؤدي في الأخير إلى الاستيلاء على السلطة السياسية في النهاية، ويتحقق لهم ذلك على خطوات ثلاث متدرجة متساندة: الأولى: الكفاح في سبيل إحراز السيادة الاقتصادية، ثم الكفاح في جمع مقاليد السيادة السياسية في أيديهم، ومتى تحققت لهم بادروا إلى استغلال طاقاتها وسلطانها في تدعيم سيادتهم الاقتصادية، وفي النهاية ينقلون المعركة إلى المجال الدولي العالمي. وبالتالي فإن ولي الأمر الذي كان المفروض فيه أن يمثل مصالح المجتمع، وأن يحكم من مكانه الرفيع في نزاهة وحياد وعدل وإيثار لصالح المجتمع، قد سقط إلى درك الرقيق لهذه القوى الرأسمالية وأصبح أداة طيعة لتنفيذ أهوائها وشهواتها. وأن الواجب المقدس على المسلمين إعادة سلطان الدولة الذي انتزعته القوى المرابية والرأسمالية. وعندما يعود ولي الأمر إلى كامل اختصاصه الذي ناطه به الإسلام، عندئذ تتحول ثروة نقود الذهب الهائلة من مارد شرير إلى خادم طيب يبني المجتمع ويصون الحرمان ويسعد الإنسان، كما كان في عهد سلفنا الصالح وطليعة الإسلام الأولى.(3/858)
وقبل الدخول في لب الموضوع. فإنه يجدر بنا – في هذا الموضوع الهام الذي يمثل جانبًا هامًا من الدراسات الفقهية العملية التي تعني بمعالجة أحكام الوقائع والنوازل والحوادث المستجدة في ضوء مقررات الفقه وقواعده، وما اشتملت عليه أصوله النظرية من السعة والمرونة والخصوبة – أن نتعرض بالإشارة إلى بعض أبعاد الموضوع المطروح للبحث والدراسة، وبالتالي بناء الحكم الشرعي عليه من قبل مجمعنا الموقر وسادته العلماء الأفاضل لربما تلك الأبعاد أو بعضها قد تخفى على البعض. والقاعدة المشهورة عند فقهائنا تقول: الحكم على الشيء فرع عن تصوره. وفي كثير من المسائل الفقهية أومن أحكام القضايا المستجدة يظهر الخلاف في استنباط الحكم الشرعي بين الفقهاء، ويكون مرجع خلافهم في الغالب إلى عدم الوضوح عند بعضهم، وليس إلى حقيقة الحكم الشرعي. ومن هنا كان التصور الصحيح والإلمام الشامل لكل جوانب القضية المطروحة هو الأصل في النظر الصحيح إلى النص الشرعي من الكتاب أو السنة وإلى علة الحكم التي تكون صريحة أو إيماء، وإلى النظر إلى مسالك العلة ومناط الحكم كما هو معروف لدى السادة العلماء في مظانه، ثم يأتي الحكم الشرعي بعد ذلك كفرع لذلك التصور.
1- أن أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة في نظر الشريعة الإسلامية، وهو نص الموضوع المطروح للدراسة والبحث والإفتاء أمام مجمعنا الموقر، ليس هو غاية في ذاته؛ لأن النقود وتغير العملة ليست غاية في ذاتها بقدر ما هي أداة لتأدية وظائف معينة، وهذه الوظائف هي الأخرى تختلف من حيث المصدر وأولوية الهدف ونطاق التطبيق، فهناك الوظائف التقليدية ذات الطابع النقدي البحت والمرتبطة أصلاً بالنشاط التاريخي للنقود، وهناك الوظائف الأكثر عمومية والمرتبطة بالنشاط الاقتصادي وتطور الاقتصاد المعاصرة.(3/859)
إن النقود كمقياس للقيمة، وهنا تثار مشكلة تقييم الكميات الاقتصادية بصفة عامة، والسلع والخدمات بصفة خاصة، فهل ينظر إلى النقود كمقياس طبيعي مجرد؟ أو عن طريق محاولة تقييم السلع والخدمات بأوزنانها المادية؟ كأن تستخدم ساعات العمل لقياس الخدمات، والمتر أو الطن لتقدير كميات المواد الأولية، وهو في الغالب قياس مطلق لأنه عند تقويمه للسلعة ينظر إلى خصائصها المادية دون مراعاة لعلاقاتها التبادلية مع السلع الأخرى. ومن الصعب وجود وحدات قياس طبيعية مشتركة لجميع السلع نظرًا لاختلاف الأخيرة في أوصافها الطبيعية قياس سلعي تبادلي، أي محاولة قياس قيمة كل سلعة بالنسبة للسلع الأخرى وبطريقة مباشرة، كأن يقال للعامل أو الموظف: إن عشر ساعات عمل تساوي قيمة رطلين لحم من لحم الضأن البلدي أو قميص قطن، وهذه الطريقة من الناحية العملية صعبة جدًا وخاصة في العصر الحديث؛ نظرًا لتعدد السلع واختلاف قيمتها تبعًا لظروف الزمان والمكان.
أما عند النظر إلى النقود كمقياس حقيقي للقيمة مجردًا عن تقييم السلع أو الخدمات أي استخدام النقود كمقياس للقيمة النقدية ووحدة المحاسبة، فإن عدد الوحدات النقدية اللازمة للحصول على السلعة أو التي تستبدل بها السلعة تعتبر ثمنًا أو قيمة لهذه السلعة، وحيث إن النقود تعتبر وحدات قياس مشتركة لقياس قيم جميع السلع، نستطيع إذن بالمقارنة بين القيم النسبية المختلفة للسلع عن طريق تقدير عدد الوحدات النقدية اللازمة للحصول على كل سلعة.(3/860)
ومن هنا فإن النقود تسمح بترجمة التغيرات في قيمة السلع، كما أنها تخضع لتقلبات ذاتية، أي تصبح لها قوة شرائية مرتفعة أو منخفضة، تبعًا لتغير الظروف الاقتصادية بالسلع. ويتمثل أيضًا في أن القياس النقدي يجنبنا المشاكل التي تعترض التحليل الاقتصادي الكلي نتيجة لعناصر الإنتاج: العمل، المواد الأولية، الآلات ... إلخ غير متماثلة الخصائص، ومن هنا اقتضت الضرورة تحقيق نوع التماثل الذي يستدعى إيجاد عنصر مشترك يتمثل في الأثمان النقدية لهذه العناصر، وبذلك تتحول العملية الإنتاجية في صورتها الحقيقية من صورتها الفنية إلى صورتها الاقتصادية، وبالتالي تكون العلاقة تكاملية بين نوعي القياس.
أما العلاقة بين القياس السلعي والقياس النقدي أو القيمي، فهي التفرقة بين الأسعار النسبية والأسعار المطلقة، فالقياس السلعي نسبي، أي أنه يرتبط بالمقارنة الحقيقة بين كميات السلع المتبادلة، وهو يعكس بذلك الثمن الحقيقي أو معدل المبادلة لسلعة معينة بالنسبة لسلعة أو السلع أخرى.
ولما كان من الصعب تحديد وتقدير قيمة كل سلعة بالنسبة للسلع الأخرى بعلاقات كمية، مثلاً كمية القمح بكمية القطن. فنحن نلجأ إلى استخدام وحدات مشتركة لها نفس القيمة في ذات اللحظة بالنسبة للسلعتين المتبادلين يقيم من دور هذه المحلات في التأثير في نسب المبادلة، وتعرف هذه النسب بالأسعار النسبية أو الحقيقية للمبادلة بين السلع. وعلى العكس من ذلك الأسعار المطلقة فهي أسعار نقدية بحتة تعكس مدى تطور قيمة النقود ويمثلها المستوى العام للأسعار أو النظرة الشاملة لمجموع الأسعار معبرًا عنها بالنقود، وتصبح المشكلة الحقيقية أو الأساسية هي كيفية تحقيق التوازن بين الأسعار الحقيقية والنسبية والأسعار المطلقة أو النقدية.(3/861)
ولقد كانت العملة النقدية هي السائدة حتى القرن التاسع عشرة، حيث كانت أغلب النقود المستخدمة في التعامل تتكون من نقود معدنية وبصفة خاصة من النقود الذهبية، ولم تكن تعرف العملة الورقية أو الأثمانية. وكانت قيمة وحدة النقود المعدنية تستمد قيمتها من قيمة المعدن المتكونة منه أو الذي تصنع منه، أو بمعنى آخر فإن قيمة النقود المعدنية تعتمد على الأسعار النسبية أي قيمة مبادلة المعدن بالسلع الأخرى. وفي فترات أخرى من القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ساعد هذا المعيار على تمتع النقود بثبات في القيمة، ولكن هذا الثبات في القيمة لم يستمر طويلاً بفعل قانون الندرة فقد زادت كميات الذهب والفضة المكتشفة في أستراليا وأجزاء أخرى من العالم، وأدت وفرة هذه المعادن إلى انخفاض قيمتها بالنسبة للسلع الأخرى، وبالتالي إلى انخفاض قيم النقود المصنوعة من تلك المعادن في فترة تاريخية معينة، اعتبر هذا المعيار صالحًا لتحديد قيمة النقود.
أما في عصرنا الحاضر فلم يعد الأمر كذلك، فقد هجرت قاعدة المعدن: الذهب والفضة، وفقدت النقود محتوياتها من المعادن، وحلت محلها قاعدة النقد الورقية، وأصبح دور الذهب قاصرًا على اعتباره من ضمن مكونات غطاء الإصدار وعملة احتياطية دولية، كما أصبحت كافة النقود المستخدمة في التداول أما ورقية أو ائتمانية وتمتعت النقود الورقية التي يصدرها البنك المركزي بخاصتي القبول الإجباري في المعاملات والنهاية في التحويل. ثانيًا القيمة الخارجية للنقود، أي نسبة مبادلة وحدات النقد الوطنية بوحدات النقد الأجنبية عند تسوية المعاملات الخارجية: سعر الصرف.(3/862)
وهذه القيمة الخارجية تحدد مقدرة النقود الوطنية على شراء السلع الأجنبية وأسعار الصرف، سواء كانت ثابتة أو متغيرة، تعتبر مؤشرات للقوة الشرائية للنقود الوطنية في الاقتصاد العالمي، كما يؤثر التغيير في القيمة الخارجية للنقود الوطنية على القوة الشرائية الداخلية لها. فعندما ترفع دولة ما من قيمة عملتها بالنسبة للعملات الأجنبية، فإنها تعمل في نفس الوقت على زيادة القوة الشرائية للعملة الوطنية بالنسبة للسلع الأجنبية المعروضة في السوق الداخلية، أو القيمة الخارجية للعملة الوطنية تتوقف على القرار السياسي الذي تتخذه السلطات العامة تحت تأثير الكثير من العوامل الاقتصادية، وخاصة ما يتعلق منها بالعجز أو الفائض في ميزان المدفوعات أو بهدف مكافحة التضخم المستورد، أو لتشجيع الصادرات أو الواردات. وعلى أي حال فإن علاقة وثيقة بين قيمة العملة الداخلية وقيمتها الخارجية فعالية الاقتصاديات الوطنية، والتي أصبح اليوم كثير منها مذبذبًا في أسواق الاقتصاد العالمي من خلال التجارة الخارجية - حركة رؤوس الأموال - لأن المقايضة بين السلع والخدمات لا تناسب عصرنا الحديث، وإنما تناسب مجتمعًا بدائيًا محددًا، ومن هنا كان ابتكار وحدة عملة النقود التي حلت محلها الآن العملة الورقية، ولكن على الرغم من ابتكار هذه العملة الورقية، وما تحققه من إراحة للمجتمع البشري من سرعة تبادل العملة النقدية أو المقايضة بين السلع الذي لا يساير تطور المجتمع البشري، فقد اعترض العملة الورقية صعوبات يرجع بعضها إلى وزن العملة الورقية المادي أو احتمال الضياع أو السرقة، فكان النظام الائتماني المصرفي هو الكفيل بتيسير الصعوبات المشار إليها عن طريق مجرد وعد بدفع ثمن السلعة أو الخدمة.(3/863)
هذه الوعود بالدفع مكنت الناس من التأمل بينهم بدون حاجة إلى تداول النقود من يد إلى أخرى، بالإضافة إلى بعض المعاملات التي تعارف عليها الناس، فصارت أشبه بعملة غير رسمية يجري سداد قيمتها في البنوك عن طريق المقايضة. فمثلاً إذا أعطيتك وعدًا بدفع مبلغ من النقود ثمنًا لسلعة أو أجرًا عن خدمة، وأنت أعطيت ثالثًا وعدًا بدفع مبلغ من النقود ثمنًا لسلعة أو أجرًا عن خدمة، وهذا الثالث أعطاني وعدًا بالدفع عن سلعة أو خدمة أديتها إليه. هذه الوعود الثلاثة كلها تلتقي في البنك، ويجري سدادها جميعها بالقيد في دفاتر البنك لحساب كل من الثلاثة بغير انتقال مادي للنقود من يد إلى أخرى. والوعد بهذا الدفع قد يتخذ صورًا عدة: منها الشيك الذي يصدره العميل إلى مصرفه، يأمره فيه بدفع مبلغ معين إلى شخص أو لحامل الشيك، والبنك من جانبه يدفع قيمة الشيك إلى الشخص المسمى فيه أو لحامله من حساب ما أودعه العميل في خزائنه من قبل. وقد يتخذ الوعد بدفع صورة فتح اعتماد من البنك إلى أحد عملائه، فيتعهد البنك يجعل مبلغ معين تحت تصرف عميل لمدة معينة يسحب منه تباعًا، فإنه يذهب إلى مصرفه وعلى أساس حساب ودائعه فيه يأخذ منه خطاب اعتماد، يوجهه مصرفه إلى فرعه في الدولة الأخرى أو إلى مصرف آخر يأمره بدفع المبلغ المطلوب إلى العميل، والمصرف في هذه الحالة لا يأخذ من عميله فائدة ربوية على هذه الخدمة، بل يكتفي بعملة بسيطة لا تتجاوز في كثير من الأحوال 4/1 أو واحد في المائة.(3/864)
ومن صور هذا الوعد أيضًا أو التعهد بالدفع صورة السند الإذني وهو التزام مكتوب يتعهد فيه شخص معين يسمى المحرر بدفع مبلغ معين في تاريخ معين لشخص معين آخر، أو لإذنه يسمى المستفيد، ويصبح السند الإذني أداة وفاء يستطيع المستفيد أن يصرف قيمة السند من البنك فورًا قبل حلول تاريخ السداد، مقابل فائدة ربوية يخصمها البنك من المستفيد مقابل الأجل.
وهناك أيضًا صور الكمبيالات وهي أمر مكتوب يتوجه به شخص يسمى الساحب إلى شخص آخر يسمى المسحوب عليه، طالبًا منه دفع مبلغ معين لإذن شخص ثالث يسمى المستفيد، فإذا قدم المستفيد الكمبيالة إلى مصرفه بعد أن أظهرها المسحوب عليه، دفع البنك قيمة الكمبيالة بعد خصم الفائدة الربوية على المدة التي سوف تمضي قبل حلول أجل الوفاء المقدر في الكمبيالة. هذه طائفة من صورة العملة المصرفية التي تخضع اليوم للأحكام القانونية الدولية في عالمنا المعاصر، والتي تهدف إلى تحقيق تيسير التبادل بين الناس. أما الشيك فصورته معروفة، وهو أمر من العميل إلى البنك ليدفع إلى شخص ثالث المبلغ المدون في الشيك من حسابه الجاري في البنك. وتصويره الشرعي أيضًا واضح، فالعميل مودع لمال مثلي في البنك المودع لديه.
والشيك: أمر بدفع جزء من المال إلى شخص ثالث، هو في الحقيقة تنفيذ لعقد الوديعة بين البنك والعميل، وهو في نظري تصرف شرعي لا إثم فيه ولا ربا، بل إنه يؤدي خدمات جليلة وإنسانية للمجتمع الإنساني بتيسير التعامل بين الناس. فهذا الجانب من النشاط المصرفي والعملة الورقية أو الشيك في نظري لا شبهة فيه على الإطلاق؛ لأنه ليس فيه فائدة يؤديها البنك إلى المودعين في الحسابات الجارية، ولكن النظر الشرعي في هذا الجانب قد يدقق في المعاملات الأخرى، والذي قد يكون اطراد التعامل بالشيكات بين الناس وعلى أساس ودائعهم الجارية قد أدى بقوة مالية جديدة على خلق النقود. أما أوامر الدفع الموجهة إلى البنك من عملائه، إنما هو في حقيقته تصرف من الودائع الجارية أي الودائع التي هي تحت الطلب، وهو ما يسمى في الاصطلاح المصرفي بالحساب الجاري، وهو يختلف عن الودائع الثابتة في أنه جائز السحب في أي وقت.
وهناك صور أخرى كثيرة تدخل تحت عنوان البحث: "أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة "، وإن بحث هذه المسألة العالمية والمتشعبة الجوانب يفترض في نظرنا وضعها على بساط البحث في صورتها الواضحة والمتكاملة، والإلمام الدقيق بكل فروعها المختلفة وجزئياتها المتنوعة، وبالتالي التأصيل في التحليل والتعمق في البحث.(3/865)
وإذا كانت العملة النقدية أو الورقية ليست غاية في ذاتها بقدر ما هي أداة لتأدية وظائف معينة للمجتمع البشري، فإن العدالة بالمقابل هي الغاية المنشودة لذاتها في الشريعة الإسلامية. وفي هذا المجال تعصر عقول المجتهدين من علماء الأمة الإسلامية، وينصب إنتاجها على بيان أحكام الشريعة الإسلامية من نصوصها الشرعية، أو من قواعد أصولها الاجتهادية. ومن المعلوم أن الشريعة الإسلامية قد كفلت في مصادرها العامة وقواعدها الكلية النصوص الصريحة على منع مجموعة من النشاطات الاقتصادية المعيقة في نظر الإسلام عن تحقيق العدل الاجتماعي للبشرية الذي ينشده الإسلام.
كما كفلت الشريعة الإسلامية حق مبدأ الإشراف العام الممثل بالدولة، الأمر بالصلاحيات العامة على كافة المجالات الاقتصادية ذات النشاط الاجتماعي العام. وبالتالي ضمنت حق تدخل الدولة؛ لحماية مصالح المجتمع العامة ورعايتها، وحراستها بالحد الشرعي من حريات المصالح الفردية، ومن حريات الأفراد فيما يمارسونه من أعمال تتنافى ومصالح الأفراد العامة في ذاتها وفي مجموعها. ومن هنا كان وضع هذا المبدأ العام في الشريعة الإسلامية ضروريًا لكي تضمن الشريعة الإسلامية ذاتها تحقيق مثلها العليا ومفاهيمها السامية في العدالة الاجتماعية على مر الزمن، وتعاقب الأجيال، ومستجدات التطور، انطلاقًا من مبدأ خلود الشريعة المشتملة في مضامينها على متطلبات العدالة الاجتماعية التي يدعو إليها الإسلام في مبادئه العامة وكلياته الشمولية ومنطلقاته الأصولية الكفيلة باستيعاب مضامين العدالة في كل زمان ومكان لكافة أبناء البشرية جمعاء.(3/866)
وإن قضية الآثار والأحكام المترتبة على النقود الورقية وتغير قيمة العملة تدخل في صميم العدالة العالمية التي تسود فيها هذه المعاملات، والتي تشتمل على صور شتى يعرفها رجال الاقتصاد، واكتفيت بذكر بعضها لكوني لا أستطيع حصر الصور ولا الجواب عليها، ولكن نوضح حكم الشرع في نظرنا عن بعض صورها، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن باطلاً فمني، والله ورسوله بريئان منه.
1- الشطر الأول من الموضوع: أحكام النقود الورقية، أي إحلال العملة الورقية محل العملة النقدية في التعامل وتقييم السلع والخدمات بها ... إلخ.
لقد مرت البشرية خلال تاريخها الطويل بمراحل في ميدان ابتكار تبادل المنافع والخدمات، ولقد أشرت في مقدمة الموضوع إلى أن القرآن العظيم قد أشار إلى ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . فكانت المرحلة الأولى من مراحل التعارف تبادل السلع والمنافع والخدمات بين أبناء البشرية على نطاق جماعاتها ومجتمعاتها المحدودة. ولم يكن التعامل بالنقد من الذهب والفضة أو أي معدن آخر معروفًا، وإنما كانت المعاملة تتم بواسطة المقايضة بين السلع وتقييم أجرة المنافع والخدمات بقيمة السلعة، وكان هذا الوضع هو الوضع المناسب للمجتمع البدائي.
ثم تطور المجتمع البشري واتسع نطاق التعاون، وزاد من حجم الخيرات والمنتجات وحاجة الناس إلى الحصول على تلك الخيرات المتنوعة، فكان ابتكار العملة النقد، وعلى وجه الخصوص الذهب والفضة، فسهلت على مجتمعات تلك المراحل التاريخية التعامل فيما بينها بواسطة قطع العملة النقدية من الذهب والفضة، وبدلاً من تقييم قيمة سلعة بسلعة أخرى، والتي كانت تحتاج إلى وقت، أو تقييم خدمة أو أجرة عمل بثمن تلك السلعة؛ أصبح المجتمع البشري يقيم كافة قيمة السلع والخدمات وأجرة العمل بقيمة تلك العملة النقدية المتفق على قيمتها.
إلا أن تلك العملة كانت تكتنفها المخاطر وخاصة عند نقلها من بلد إلى بلد، والتي تتمثل بالسرقة أو الضياع، بالإضافة إلى صعوبة نقلها بسبب وزنها المادي، إضافة أيضًا إلى بطء التعامل الذي لا يناسب مجتمع تطور الإنسانية، وبناء الحضارة التي ينشدونها في شتى مجالات الحياة. وبالتالي فإن التعامل بالعملة النقدية لم يعد يناسب عصر السرعة ولا يلبي حاجة الإنسان، فكان ابتكار العملة الورقية وإحلالها محل العملة النقدية في القيمة المالية مساهمة كبرى في تطور الحضارة الإنسانية وتقدم الإنسان ومازالت كذلك، ولا نعلم ماذا يكون عليه الحال، ولكن الذي يهمنا أن نعلمه هو حكم الله في هذا التعامل.(3/867)
ولا شك في أن من أصول التشريع في الشريعة الخالدة التي أصلها القرآن الكريم والسنة المطهرة، كالتيسير ودفع الحرج عن الناس، وهذا الأصل مقصود به دوام الشريعة واستمرار إقامة أحكامها؛ لأن الشريعة الحاكمة على أفعال المكلفين، والمشتملة على السعادة الحقة في العاجلة والآجلة، وضعت أصولها على أساس العدل الوسط: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] . وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] . وقد وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم. بما أتى به من أحكام لأمته {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] . وبذلك سمى محمد صلى الله عليه وسلم الشريعةَ التي أُرسل بها بالشريعة السمحة. ويجدر بنا في هذا المقام أن نشير إلى ما أورده الإمام ابن القيم رحمة الله عليه في كتاب أعلام الموقعين: 3/3 وما بعدها، إذ يقول تحت عنوان "بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد" " هذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلطٌ عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم ... إلخ.(3/868)
بهذا الاستعراض أردنا أن نبين بأن قصد الشريعة الإسلامية اليسر والسهولة ورفع الحرج والمشقة عن الناس، فرفع الحرج والمشقة من شريعة الله يعتبر أصلاً من أصولها ويكشف سر الإعجاز في خلودها.
ولما كان القصد من إحلال العملة الورقية محل العملة النقدية هو اليسر والسهولة، ورفع الحرج والمشقة عن الناس، وتلبية لقضاء حاجاتهم، وتحقيقًا لضمان مصالحهم بأيسر السبل وأخفها مشقة، وعملاً بأصل رفع الحرج والمشقة في شريعة الله؛ فإنني - وحسب علمي - لا أجد مانعًا شرعيًا من إحلال العملة الورقية محل العملة النقدية، طالما كانت تلك العملة الورقية تخضع في أحكامها لأحكام الشريعة النافذة على العملة النقدية، والتي أوضحَتْها سنةُ البيان النبوي على قواعد ضمان ميزان العدل بين الناس، وتحديد قيمتها المالية على أصول التعامل الشرعي، بقوله عليه الصلاة والسلام: ((الذهب بالذهب رباء إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة رباء إلا هاء وهاء)) إلى آخر الحديث. رواه مسلم.
ومن خلال نص الحديث المشار إليه وغيره من الأحاديث الخاصة بالنقدين الذهب والفضة؛ فإننا نرى جواز التعامل بالعملة الورقية، وإحلالها في الأحكام الشرعية محل أحكام النقدين، وأن حكمها حكم النقدين، يجري عليها ما يجري على النقدين، ولأن البدل له حكم المبدل في عرف الفقهاء. وبالله التوفيق والله أعلم.(3/869)
أما الشطر الآخر من الموضوع: تغير قيمة العملة، فإن أساس بحث هذه المسألة العالمية ومناط الأشكال فيها يفترض في نظرنا وضعها في صورتها المتكاملة والواضحة، والإلمام الدقيق بكل أبعادها، وأسباب مسبباتها كقضية عالمية عميقة الجذور متشعبة الجوانب، لا يقتصر تأثيرها على شعب أو مجتمع بمعزل عما يدور بين الأمم والشعوب في عالمنا المعاصر، نظرًا لترابط المجتمعات والشعوب في عالم اليوم الذي لم يَسُدْ فيه ميزان العدالة الدولية، حيث عمل الاستعمار مباشرة - وما زال يعمل - على نهب خيرات الشعوب، وعلى زرع الفتن بينها، حتى لا تتفرغ لاستثمار ما أودعه الله في خزائن الأرض وأعماق البحار، كما جند في جانب آخر شركاته العالمية الاحتكارية، التي تتحكم بمصير اقتصادية أكثر الشعوب في ميادين الاقتصاد العالمي اليوم، حيث منعت هذه الشركات نقل التقنية الصناعية إلى الشعوب النامية والفقيرة وغيرها، مما يعتبر في عالم اليوم من الأسس الضرورية لرفع مستوى حياة هذه الشعوب، كما عملت من جانب آخر على رفع ثمن السلع الاستهلاكية وطلب قيمتها بالعملات الصعبة التي من خلالها يتم تحكمها على القيمة المالية للاقتصاد العالمي من خلال بنوكها ومصارفها العالمية، والذي يديرها اليوم كثير من يهود العالم بعد أن تمكنوا منذ قرون من جمع العملة النقدية من الذهب والفضة، وبالتالي جعلها مقياسًا لقوة الشعوب الاقتصادية، والتي تملك منها الشعوب الفقيرة والنامية نسبة ضئيلة لا تفي بجعل عملتها الورقية، ولا حتى بقوة اقتصادها، بأن تقف على قدم المساواة - فضلاً عن ميزان العدالة - في تقييم السلع المصدرة والمستوردة في القيمة المالية الحقيقية لما تصدره هذه الشعوب، حتى لا تملك مستودعات الذهب، ولما تستورد أيضًا تبعًا لميزان العدالة الدولية المختل.(3/870)
أضف إلى ذا وذاك امتصاص العملة الصعبة إذا ما قدر لها الدخول بكميات ضئيلة إلى الشعوب النامية والفقيرة بأساليب رهيبة، منها بخس أثمان منتوجات هذه الشعوب، والتحيل عليها من عدم الحصول على العملة الصعبة بخلق الفتن بين شعوبها وزعزعة الأمن في شئونها الداخلية، وبالتالي تصدير الأسلحة إلى هذه الشعوب التي لم تكن بحاجتها، وبالتالي تتم المقايضة غير المتكافئة.
وهناك أساليب تكبل اليوم الكثير من شعوب العالم الثالث لا يجيدها إلا أقطاب الاقتصاد العالمي ومصاصو دماء الشعوب ... إلخ. ولقد أطلت نفس القلم في صلب هذا البحث، ونوهت في مقدمته إلى تحكيم العلاقات الإنسانية بين الأمم والشعوب إن لم تحكم شريعة السماء الخالدة.
هذه المسألة بحاجة ماسة إلى التأصيل والتحليل والتعمق في البحث، لقناعتنا في أن موضوع تغير العملة وبيان حكم الشريعة الإسلامية لا يمكن أن يكون بمعزل عما يؤثر في انخفاض سعر العملات، وأن آثار الأحكام المترتبة على تغيير العملة بالكامل وإحلال عملة أخرى محلها، أو تغير سعرها زيادة أو نقصانًا، وإن لم تغير عين العملة ذاتها إلى عملة أخرى.
إنما يعبر في حقيقة الأمر على عظمة قدرة الشريعة الإسلامية على مواجهة كل جديد، واتساعها لمقتضيات كل عصر، وتلبيتها لحاجاته على الوجه الأرشد والأكمل، والذي يكمن في تبصر توجيهاتها، وتدبر حكمها وأسرارها، وفهم دقيق لمقاصدها وأهدافها. ولا عجب في ذلك إذ أن الشريعة الإسلامية هي خاتمة الشرائع الإلهية التي أنعم الله بها على الإنسان. ولا يتصور مؤمن بكمال علم الله وحكمته ورحمته وبره بخلقه، أن الله تعالى يغلق باب النبوة دونهم ويقطع وحيه عنهم، ثم يتعبدهم بشريعة قاصرة تصلح لقوم ولا تصلح لآخرين، وتصلح لزمان ولا تصلح لآخر، بل كانت أحكامها الكلية وقواعدها الأصولية تستطيع بكل يسر وسهولة وقوة أن تشيد للإنسانية بنيانًا يقوم على أساس ثابت من العدل الشامل، ومن الحق المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد.
وإن تدبر توجيهاتها، وسبر أغوارها، وفهم أسرارها ومقاصدها، والغوص في أعماق لججها لاستخراج لآلئها وأصدافها النورانية البهية من شأنه أن يصقل مواهب وعقول المجتهدين من جهابذة العلماء العاملين، وينور بصائرهم بأشعة جلال أنوارها، ويلاقي بين ينابيع خواطرهم ومعين أفكارهم، ويعبر عنهم بعقل مجمعهم، ويبلور بين المفاهيم والأسرار التي تجيش بها نفحات خواطرهم ذات المعين الإلهي الفياض، والرحمة الإلهية الخاتمة التي لا تنضب. وإن الفهم الدقيق والصحيح لمبادئ الإسلام العامة وقواعده الكلية، هو الأساس الفكري والدعامة الأساسية لفكرة الاجتهاد والتجديد والعودة بأمتنا الإسلامية إلى حقائق الشريعة الإسلامية المقدمة.(3/871)
كما أنه الطريق الصحيح الذي يرسم لنا بيقين كيف نعالج الأوضاع الاقتصادية في ضوء الشريعة الخالدة، والتي أنزلها الله بعلمه على محمد صلى الله عليه وسلم ليقيم بها عدله في الأرض، ويحقق بها مصالح العباد في المعاش والمعاد. كما دلت على ذلك استقراء نصوص الأحكام الشرعية وقواعدها الكلية، وأسس مبادئها الأصولية العامة، وتعليلات جزئياتها من الكتاب والسنة وأنه سبحانه خص هذه الشريعة بالعموم والاستمرار والخلود دون سائر الشرائع الأخرى، وأن أصولها النظرية قد استوعبت علاج الوقائع والمشكلات بشهادة التاريخ لها، وما زالت قادرة - وبطريقة يتوجها الإعجاز - على علاج الوقائع والمشكلات المتجددة والمتطورة. ولا شك بأن من أهداف مقاصد الشريعة إقامة العدل المطلق بين الناس جميعًا، وتحقيق الإخاء بينهم، وحماية وصيانة دمائهم وأموالهم وعقولهم وأخلاقهم، وأنها لا تحقق مصلحة طبقة دون أخرى، ولا مصلحة فرد خاصة دون آخر، ولا شعب دون شعب، ولا مصلحة دنيوية دون النظر إلى المصالح الأخروية، كما هو الحال في التشريعات الوضعية. وأن السبيل الأقوى والأقوم لاستيضاح حكم وأسرار الشريعة ميسر بإذن الله لترجمة الحكم الشرعي من دليله المعتبر، وبالتالي إظهار الحق وإثباته من مصدره الشرعي الذي يعطي المجتهد الوضوح والجلاء الذي يعتبر الأساس الصحيح للنهوض العلمي برسالة المجمع. وبالتالي أيضًا يستوعب اجتهاد المجتهد منطلقات الأدلة الشرعية ومفاهيم النصوص المتعارضة أو المتداخلة بالعموم والخصوص، أو بتهذيب العلة وتحقيق المناط ... إلخ.(3/872)
وإن الهدف من هذا البحث المتواضع هو إيضاح حكم الشريعة الإسلامية في العملة الورقية والنقدية في هذا العصر الذي سيطرت فيه على جميع مجالات نشاطها، وبالتالي تغلغل الربا بكل أنواعه وبكل شروره وآثامه في كل مجال منها، وكيف تظهر هذه العملية، وتطورها تطورًا ينأى بها عن كل الانحرافات، وبالمقابل فإن النهوض برسالة المجمع لا يتم إلا بالتعبير عن المشاكل التي تحس بها أمتنا الإسلامية، والتي تراها أيضًا بالنسبة لأي قضية إسلامية، وخاصة في مجال العدالة العالمية والاجتماعية التي لا تحمل جنسية غير جنسية الإنسانية، ولا حدود على الأرض التي يعيش فيها الإنسان، والتي هي الغاية من اجتهاد العلماء في بيان حكم الله الذي هو عين العدل؛ لأننا نعلم بأن العملة ليست غاية في حد ذاتها لبيان حكم الشرع، بل هي وسيلة لقضاء حاجات الإنسان، أما الغاية من بيان حكم الله فيها من حرمة وحلال وصحة وبطلان، إنما هو تحقيق العدل بين الناس في هذه العملة والتعامل بها بين الناس، والعدل الحقيقي إنما يعرف من أحكام الله العادلة بين العباد. وهذه القاعدة من أجل القواعد التي تعطي الصورة العالمية للمجمع والشمولية لشريعة الإسلام والخلود لمبادئه العادلة التي يحلم بها عالم البشرية اليوم، والتي تجنى منها ثمار العقول اليانعة والأفهام المستنيرة بنور الكتاب والسنة.
وأن أساس القضية ومناط الإشكال في الشق الآخر من الموضوع المطروح: تغير قيمة العملة، والذي تدخل تحته من الصور والمستجدات مالا يمكن حصره. ولكن تصويرنا وحكمنا على بعضها حكم منا على بعضها الآخر، إلحاقًا لها في تحقيق المناط، فنقول وبالله نستعين:
1- من المعلوم بأن الثمن في البيع ركن، ومعرفة قدره وصفته شرط لصحة البيع، أما إذا ذكر في عقد البيع قدر الثمن دون صفته، فإنه ينصرف في عرف الفقهاء إلى الغالب من نقد البلد الذي تم فيها العقد؛ لأنه المتعارف عليه عند الإطلاق، ويكون في عرف الفقهاء من أفراد ترك الحقيقة بدلالة العرف القولي، فإن كان في البلد الذي تم فيه العقد نقود غيرها من جنسها واستوت في المالية، لكن بعضها يتداوله الناس في معاملاتهم بصورة أكثر من البعض الآخر، فينصرف إلى النقد الذي يكون أكثر انتشارًا في معاملات الناس. أما إن استوت في تداول الناس وفي معاملاتهم واتفقت في المالية، فإن المشتري يخير؛ لأن الجنس والقيمة متحدان، وإن استوت في التداول واختلفت في المالية، كما إذا باع شيئًا بثلاثة دنانير دون أن يوضح نوعها يمني أو كويتي، فإن البيع يفسد للاختلاف في المالية، ولكن إذا كان التعاقد بالدينار في الكويت مثلاً، فإن العرف ينطلق على الدينار الكويتي، وإن كان التعاقد بالدينار باليمن فإن العرف ينطلق على الدينار اليمني.(3/873)
ومن الصورة فيما لو أخذت من شخص مائة دينار يمني قرضًا حسنا إلى أجل معلوم لدفع ذلك المبلغ، وكان سعر الدينار ثلاثة دولارات أمريكي وقت استلام القرض، وبعد أن حان أجل إعادة ذلك القرض نزل سعر الدولار، فكان الدينار ثلاثة دولار ونصف، أو العكس، طلع سعر الدولار وانخفضت قيمة الدينار، بأن كانت قيمة الدينار ثلاثة دولارات إلا ربع، وقس على ذلك بقية الحالات والصور التي تساويها في تحقيق المناط، سواء أكانت تلك الصور والحالات من عقود المعاملات بعوض، أم كانت من العقود التي ليس فيها معاوضة كالقروض والمداينة، وسواء كان انخفاضًا أو زيادة ما تضمنته تلك العقود من ناحية انخفاض أو زيادة قيمة العملة المتفق عليها في صيغة العقد، أو من ناحية تغير قيمتها بالكامل بأن حلت محلها عملة أخرى مثلاً بدل الدينار اليمني جنيه يمني أو أي اسم آخر للعملة الجديدة، فإن الحكم الاجتهادي الشرعي في نظري - حيث لا نص ولا إجماع - الذي ينطبق على الحالات المشار إليها أو ما يشابها، أن للبائع أو لصاحب الدين أو القرض المسمى في العقد من أنواع العملة؛ لأنه الأصل الذي تم التعاقد عليه لا على غيره، ولأنه هو الذي شغلت به ذمة المشتري أو المدين لا غيره، ومن هنا قال الفقهاء: إذا جهل الثمن محل العقد فسد البيع أو العقد.(3/874)
وكذا إذا كسدت العملة المتفق عليها نهائيًا بدون بديل لها فسد البيع، أما إذا تغيرت العملة المتفق عليها إلى عملة أخرى، فإن الحكم ينصب على ما يعدل قيمة تلك العملة من العملة التي حلت بديلها بسعرها وقت القبض وليس وقت العقد أو البيع، دون تفرقة بين ما إذا كانت تلك العملة متساوية في السعر أو متفاوتة في قيمتها المالية؛ ذلك بأن الواجب شرعًا في ذمة المشتري أو المدين، والذي ينصب عليه الحكم الشرعي إنما هو المسمى والمتفق عليه في صيغة العقد لا غيره، وليس للمشتري أو المدين بحساب الصرف من أي نوع كان بالسعر السائد، إذا كان عين العملة المذكورة في العقد قائمة وسائدة إلا برضى البائع أو الدائن، وأنه لو أراد المشتري دفعها بالدولار بدلاً من الدينار، وبالسعر القائم والسائد وقت الأداء ورفض البائع أو الدائن أو من له الحق في تلك العملة المنصوص عليها في العقد، فإنه لا يجبر على قبضها لاختلاف المالية وإن تساوت القيمة؛ لأن الأحكام الفقهية إنما تنظر إلى ما اشتملت عليه صيغة العقد لا إلى شيء آخر لم يذكر في العقد، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يجبر من له الحق على أخذ حقه بالسعر القديم؟ علمًا بأن سعر العملات في عصرنا الحاضر ليست مستقرة في قيمتها المالية على حالة ثابتة، فإذا لم نلزم من عليه الحق بما يثبت في ذمته وقت التعاقد وبالسعر الذي تصل إليه تلك العملة وقت الأداء سواء طلعت تلك العملة أو انخفضت، لاضطربت معاملات الناس، وبالتالي عُدم الثبات القانوني، وعدم ثابت الحكم الشرعي، وبالتالي أيضًا عدمت الضوابط القانونية والشرعية لتكييف هذه المعاملة بين الناس، وبنفس الوقت تجاهل صيغة العقد وعدم احترام صيغ العقد الشرعية، وهذا باطل لا يجوز باتفاق الفقهاء. وهذا في نظري يشمل كل صور التعامل التي تشابه هذه المسائل في تحقيق المناط وتشتمل عليها نظرية العقد في هذا الباب.(3/875)
ومن ناحية أخرى فإننا بحاجة إلى بحوث مستفيضة حول نظرية العقود، وتصنيف الصور والمسائل التي تدخل تحت كل عقد على حدة، مثلاً نظرية عقد البيع وما يلحق به من العقود، نظرية عقد العملة وما يلحق بها من العقود، حتى إننا في باب نظرية الوكالة نستطيع تكييف خطاب الضمان الذي نظر فيه المجمع في دورته الثانية تحت نظرية عقد ثابتة. وبالتالي نستطيع أن نضمن الصور والمسائل التي قد تتفرع عنه، ونضمن في الأخير الثبات القانوني لأحكامه الشرعية الاجتهادية، وهكذا عقد الرهن والحوالة ... إلخ.
إن المجتهد أول ما ينظر في معاملات الناس وفي تصرفاتهم إلى صيغة تلك العقود من ناحية الصحة أو البطلان، انطلاقًا من أن العقد ملزم للطرفين المتعاقدين عند توفر شروط العقد الصحيحة وانتفاء موانعه. وعندما ينظر المجتهد إلى النزاع بين طرفي العقد لا ينظر إلى زيادة سعر العملة في السوق أو نقصانها، إنما ينظر أولاً إلى صيغة العقد وإلى ما اشتمل عليه ذلك العقد، فإذا وجد صيغة العقد سليمة من العيوب المبطلة أو المفسدة للعقد فإنه يحكم على الطرفين الوفاء بما التزم به، حيث كان التزامهما صحيحًا شرعيًا، فإذا كان العقد ينص على مبلغ مائة دينار يمني على فلان من الناس لآخر، وكان الدينار قائم الاعتبار القانوني في التعامل به بين الناس، فإن من عليه المبلغ المذكور عليه رد ذلك المبلغ المعين في العقد وقت حلول أجل الأداء، سواء طلع ذلك المبلغ بعملة أخرى أو نزل؛ ذلك لأن تحديده وتعينه في صيغة العقد قطع كل ما يؤدي إلى التنازع بين الطرفين المتعاقدين.(3/876)
والقول هنا بدفع ما يعدل ذلك بالسعر الذي كان يوم البيع أو العقد - أي وقت الثبوت في الذمة - قول مخالف لما تم عليه التعاقد صراحة، وكل ما أدى إلى إبطال العقد الشرعي الصحيح فهو باطل، ولا يقف الحد عند بطلان ذلك العقد من حيث عدم احترام صيغة العقد ذاته، بل لأنه يؤدي إلى جهالة الثمن؛ لأن ذلك الثمن الذي قد يحسب بحسب صرف قيمة العملة التي اشتمل عليها العقد وقت الأداء لم يكن مذكورًا في العقد. وبالتالي يؤدي ذلك إلى النزاع المستمر، والشريعة الإسلامية يلاحظ في أحكامها قطع النزاع وسد أي ذريعة تؤدي إلى إثارة النزاع في معاملاتهم، وترك من عليه التعاقد وجهل الثمن وعدم ثبات العملة في عالم اليوم كفيلٌ بما يؤدي إلى النزاع والخلاف، ومن هنا شدد الفقهاء عند وضعهم شروط معرفة قدره وصفته كل ذلك؛ مخافة النزاع، فكيف يتجاهل المجتهد كل تلك الأركان والشروط التي يجب توافرها لصحة العقد، ويجتهد في معرفة حكم سعر تلك العملة في السوق، والتي هي خارجة عن نطاق العقد وأركانه وشروطه.
نعم نقول: إن رضي عن الحق فيما اشتمل عليه العقد صراحة فلا مانع، كما لو انقطع التعامل بالدينار بأن حلت محله عملة أخرى، مثلاً بدل الدينار جنيه يمني، فإن الحكم في هذه الحالة يختلف، إذ ليس لصاحب الحق إلا بما يعدل القيمة المالية للدينار بحسب الصرف من أي من العملة بين الناس، وبالسعر السائد بالسوق وقت الأداء، إذ ليس لصاحب الحق إلا أخذ المسمى في العقد أو مثله برضاه، ولكن إذا لم يوجد المسمى في العقد بسبب فساد العملة وانقطاعها، فليس لصاحب الحق إلا المثيل.(3/877)
ومن الصور في ذلك: قيمة الدينار اليمني إلى عشرين قطعة نقدية تسمى كل قطعة درهمًا، فلو صدر قرار من الجهة المختصة بعدم التعامل بالدينار وإحلال عملة أخرى بدل الدينار تحمل نفس القيمة المالية للدينار، وإنما زادت وحدات القطع النقدية لهذه العملة الجديدة بأن كانت خمسة وعشرين درهمًا بدلاً من عشرين درهمًا بالعملة الملغاة، أو كان العكس، بأن نقصت وحدات العملة الجديدة، فكانت قطع الوحدات النقدية خمسة عشر قطعة نقدية، أي خمسة عشر درهمًا مع تساوي قيمة العملة المالية الجديدة بقيمة العملة المالية الملغاة، والتي تم التعاقد بها،
فإن الأداء يجب أن يكون بتلك العملة التي حلت محل الدينار في قيمته المالية، سواء زادت قطعها النقدية بأن كانت خمسة وعشرين درهمًا، أو نقصت بأن كانت خمسة عشر ردهمًا، طالما كانت القيمة المالية للعملة الجديدة تحمل نفس القيمة المالية للعملة الملغاة. قس على ذلك كل عملة ألغيت وحلت محلها عملة أخرى تحمل نفس قيمتها المالية، فإن لم توجد عملة أخرى تحمل قيمتها المالية وتحل محل العملة الملغاة، فليس لصاحب الحق إلا ما يعادل قيمة العملة الملغاة قبل إلغائها من أنواع العملات السائدة في معاملات الناس وقت ثبوت هذا الحق في الذمة، وبسعره وقت الأداء من الغلاء يرخص، وليس من حق من وجب الحق بذمته أن يدفع وقت الأداء السعر الذي كان يوم العقد أو يوم ثبوته في ذمته، ولا نعتقد قائلاً به من الفقهاء؛ لأن الدينار اليمني الذي ضربنا به المثل إذا كانت وحداته النقدية عشرين درهمًا، ثم زادت تلك القطع النقدية إلى خمسة وعشرين درهمًا، أو نقصت إلى خمسة عشر درهمًا، وصار ذلك هو حقيقة قيمة الدينار المالية في البلد يتعامل به الناس كذلك، فكيف يحسب بصرف يوم التعاقد؟ أي بعشرين درهمًا، ولو كان الدينار موجودًا والتعامل به قائمًا بين الناس.(3/878)
فلو قائل قال بأن سعر الدينار كان يوم العقد أي يوم ثبوته في ذمة المشتري أو المدين عشرين درهمًا، نقول: لقد قوي عليه الالتباس، وزاد حدا في القياس، إنما المعتبر شرعًا قيمة المسمى في العقد وليس غيره. ولم يقل أحد من الفقهاء - حسب علمي - باعتبار غير المسمى، ولو قلنا بذلك للزمت الجهالة في الثمن وحصل النزاع الذي كان العلماء دائمًا يراعونه في أحكامهم وفتاويهم، بل وفي استنباطاتهم الفقهية، جاعلين نصب أعينهم قاعدة الفقهاء المشهورة: " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح "، وليس من حق المشتري أو المدين أن يكون مخيرًا في أداء ما وجب عليه من أي نوع شاء من العملة، بل الواجب عليه التقيد بنوع العملة الواردة في العقد إن كانت قائمة، أو ما يعادل قيمتها وقت العقد أو وقت ثبوتها في الذمة، وبسعرها وقت الأداء طلوعًا كان سعرها أو نزولاً، إلا إذا رضي من له الحق، وكانت العملة البديلة مستوية في قيمتها المالية مع قيمة العملة المبدل منها وفي انتشارها في التعامل بين الناس، إلا برضى من له الحق.
فإن أراد المشتري أو المدين دفع الدينار الكويتي بدلاً من الدينار اليمني بالسعر السائد بين وقت الأداء وأبى من له الحق، لا يجبر على القبض لاختلاف العملة والجنس، فكيف يجبر على قبضه بالسعر القديم؟ كما أنه ليس للمشتري جبر البائع على أخذ الذهب بدلاً من الفضة أو الدينار بدلاً من الدولار، فلو باع بالدينار وكتب المشتري الثمن بالريالات بدون إذن البائع، فإن من حق البائع أن يطالب المشتري بدفع الثمن بالعملة التي تم عليها التعاقد، فإن لم يستجب المشتري فمن حق البائع أيضًا أن يرفع القضية إلى القضاء، فإذا لم يستطع البائع إقناع القضاء بالأدلة المتوفرة لديه، فليس للقاضي إلا تحليف البائع على صحة دعواه، ويحكم له بدفع الثمن بالدينار الذي عليه التعاقد.(3/879)
ومن هنا يتضح بأن البائع إذا كان لا يجبر على قبض الريال بالدينار، ولا الذهب بالفضة، ولا قبض غير المسمى في العقد مما اختلفت ماليته وإن انتفت قيمته، فكيف ينبغي القول بوجوب إعطاء البائع النقود المتفق عليها بالسعر القديم؟ وهل عند القائل بهذا نقل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح؟
فإذا احتج بمسألة رخص العملة المتقدمة التي تم عليها التعاقد، فجوابه بأن مسألة الغلاء والرخص في المسمى في العقد لا في غيره من النقود،، وإذا باع في حالة غلاء الذهب أو غلاء الريال، فهل يتناوله لفظ الدينار ويكون من باب فرد من أفراده مع اختلاف حقيقته؟ كمن باع بالدينار ثم رخص الذهب أو الريال، ومن هنا نرى الواجب شرعًا والأسلم لذمة المشتري أو المدين أو من ثبت في ذمته الحق في نظر الشرع الذي شدد في نصوص لا تحصى كثرة على تحقيق العدالة بين الناس في معاملاتهم، وبوجه أخص فيما تعود قيمته المالية من العملات إلى ميزان النقد - الذهب والفضة - الذي حرم الشارع التفاضل والنسيئة فيه، إلا أن الواجب الشرعي الذي تطمئن إليه نفس المجتهد إنما هو عين المسمى في العقد أو مثله أو قيمته كما تقدم ولا رابع لها، وبالتالي فلا أجد أي تخريج لحكم شرعي اجتهادي لدفع غير المسمى في العقد من النقود بأي وجه من وجوه تخريج الأحكام الاجتهادية من ضوابط قواعد الفقه وأصوله حسب علمي.(3/880)
ومثل عقد الإجارة، كما إذا أجد شيئًا بمائة دينار، فإن الناس قد تعارفوا على تأجيل دفع الأجرة المستحقة المنصوص عليها في عقد الإيجار إلى نهاية مدة التأجير، فإن المؤجر يقبضها بالسعر السائد وقت الأداء لا وقت العقد، سواء طلعت قيمة العملة المنصوص عليها في عقد الإجارة أو هبطت عن سعرها وقت العقد، فليس للمؤجر إلا العملة المنصوص عليها في العقد بسعرها وقت حلول الأجل، سواء أكان السعر لصالحه أم لصالح المستأجر؛ لأن زيادة سعر العملة أو نقصانها منصب على العملة المسماة المتفق عليها في العقد لا في غيرها. ولو قلنا: يأخذها المستأجر بسعرها يوم الإجارة، فقد يكون سعرها طلع ثم انخفض عند الأداء، وبالإضافة إلى المحاذير التي سبقت الإشارة إليها، فإننا لو سمحنا لأحد طرفي العقد بأن يعطيها حسب تقلبات سعر تلك العملة في الأسواق، فإنه يلزمنًا التناقض في الأحكام الشرعية وعدم ثباتها في القضية الواحدة؛ فتارة نحكم للمستأجر إذا انخفض سعر العملة وقت العقد، وتارة نحكم عليه إذا كان سعر العملة وقت العقد مرتفعًا ثم انخفض سعرها وقت الأداء. وهذا باب واسع للحيل وفتح الفتن والنزاع، فإن الناس عامة يحرصون على مصالحهم، والتي قد لا تكون هذه المصالح مشروعة في كثير الأحيان من الأوقات. فقد يرفض المؤجر عن استلام أجرته إذا لم يكن لسدادها وقت محدد؛ طمعًا في طلوع سعر تلك العملة، وقد يؤخرها المستأجر إذا لم يكن دفعها مجددًا بوقت معين طمعا في انخفاض سعر العملة التي اشتمل عليها عقد الإيجار، وقس على ذلك البيوع والديون ... إلخ.
والذي جرى عليه عرف المسلمين بأن المائة الدينار المنصوص عليها في عقد الإيجار يدفع المستأجر وقت الأداء بسعرها السائد في السوق، وبقيمتها المالية مائة دينار المنصوص عليها في العقد، فيدفعها بسعرها وقت الأداء، سواء زاد سعرها عن يوم العقد أو نقص؛ لأن زيادة السعر أو نقصانه واردة على المسمى في العقد لا على غيره، والمحذور شرعًا هو أن يزاد عن القيمة المالية الحقيقية لتلك العملة التي اشتمل عليها العقد، وبأن يزيد مثلاً المؤجر على المائة الدينار خمسة دنانير، فتصبح مائة وخمسة، وهي التي نهى عنها الشرع، أما زيادة أو نقصان العملة ذاتها المتفق عليها فإنها لا تدخل تحت أي باب من أبواب الربا على الإطلاق.
وهذا ما عليه التعامل في البلاد الإسلامية، فكان ذلك إجماعًا منهم على صحته، وإن كان إجماعًا سكوتيا إلا أنه في ميدان المعاملة من الضروريات التي لا يخفى على المسلمين حكمها، فكان إجماعهم السكوتي في قوة الإجماع الصريح، ونحن خلف لخير السلف لا نقول بغير هذا. وبالله التوفيق والله أعلم.(3/881)
مراجع البحث
1- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
2- الجامع لأحكام القرآن محمد بن محمد الأنصاري
3- الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم
4- تفسير ابن كثير إسماعيل ابن كثير
5- ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض
6- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة
7- فتح العلام لشرح بلوغ المرام أنور الحسين
8- مختصر نيل الأوطار د. نقوي مبارك
9- الفكر الإسلامي الحديث محمد البهي
10- الإسلام والرأسمالية مكسيم رودنسون
11- كتاب المعاملات السيد فكري
12- فلسفة الفكر الديني لويس غريب
13- المدونة الكبرى الإمام مالك بن أنس.
14- الفتاوى الكبرى لابن تيمية
15- أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية
16- فقه القرآن والسنة على قراعة
17- الاقتصاد النقدي والمصرفي د. مصطفى رشيدي.
18- اقتصاديات النقود د. عبد الرحمن يسري أحمد
19- النظرية والسياسات النقدية د. مصطفى رشيد.(3/882)
النقود الورقية
لفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس
بسم الله الرحمن الرحيم
(إياك نعبد وإياك نستعين)
الحمد لله حمدًا طيبًا طاهرًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين. أما بعد؛
فمما يعد أصلاً في موضوعنا ما رواه الخمسة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالنقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخد الدنانير؟ فقال: ((لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) .
وفي لفظ بعضهم: ((أبيع بالدنانير وآخد مكانها الورق، وأبيع بالورق وأخد مكانها الدناير)) .
فابن عمر كان يبيع الإبل بالدنانير أو بالدراهم، وقد يقبض الثمن في الحال، وقد يبيع بيعًا آجلاً، وعند قبض الثمن ربما لا يجد مع المشتري بالدنانير إلا دراهم، وقد يجد من اشترى بدراهم ليس معه إلا دنانير، أفياخذ قيمة الثمن يوم ثبوت الدين أم يوم الأداء؟
مثلاً إذا باع بمائة دينار، وكان سعر الصرف: الدينار بعشرة دراهم، أي أن له ما قيمته ألف درهم، وتغير سعر الصرف يوم الأداء، فأصبح الدينار مثلاً بأحد عشر درهمًا، أفيأخذ الألف أم ألفا ومائة؟ وإذا أصبح بتسعة دراهم فقط، أفيأخذ تسعمائة درهم يمكن صرفها بمائة دينار يوم الأداء، أم يأخذ ألف درهم قيمة مائة الدينار يوم البيع؟
بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبرة بسعر الصرف يوم الأداء، وابن عمر الذي عرف الحكم من الرسول الكريم سأله بكر بن عبد الله المزني ومسروق العجلي عن كريّ لهما، له عليهما دراهم وليس معهما إلا دنانير، فقال ابن عمر: أعطوه بسعر السوق.
فهذا الحديث الشريف يعتبر أصلاً في أن الدين يؤدى بمثله لا بقيمته، حيث يؤدى عند تعذر المثلية إلى ما يقوم مقامها، وهو سعر الصرف يوم الأداء، لا يوم ثبوت الدين. وهذا الحكم الشرعي من الأحكام التي استقرت في الفقه الإسلامي، ولم يختلف حولها الأئمة الأعلام.(3/883)
ومما ساعد على استقرار الحكم، إلى جانب وجود النص، أن النقود كانت سلعية، وكانت من الذهب أو الفضة قبل التعامل بالفلس. وبعد انتشار الفلس كان له دور محدود للغاية كنقد مساعد، وظهر الخلاف في إلحاقه بالنقدين، وتحدثت عن النقود وأحكامها في كتاب "النقود واستبدال العملات دراسة وحوار"، فأرجو التكرم بالرجوع إليه.
في عصر التشريع كان سعر الصرف غالبًا الدينار بعشرة دراهم، ولذا كان نصاب الزكاة عشرين دينارًا أو مائتي درهم، وبالبحث في النصاب، ووزن كل من الدينار والدرهم، نجد أن قيمة الذهب كانت سبعة أضعاف الفضة.
ومع أن الذهب والفضة يتميزان بالاستقرار النسبي، غير أن العلاقة بينهما لم تظل ثابتة، فتغير سعر الصرف من وقت لآخر حتى وجدنا الفضة تهبط إلى ما يقرب من واحد في المائة (1 %) من قيمة الذهب.
كما أن العلاقة بينهما وبين باقي الأشياء لم تظل ثابتة، مثال هذا عندما غلت الإبل في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فزاد مقدار الدية من النقدين.
إن هذه الزيادة تعني أن النقود انخفضت قيمتها بالنسبة للإبل، ولكن الأمر لم يكن قاصرًا على الإبل، فغيرها قد يرتفع ثمنه وقد ينخفض، وارتفاع الثمن يعني انخفاض قيمة النقود، وانخفاض ثمن السلع يعني ارتفاع النقود.
ومع احتمال زيادة قيمة السلع أو النقود ما وجدنا إمامًا من أئمتنا يفتي بأن القرض يرد بقيمته لا بمثله.
غير أن الزيادة والنقصان لم تكن بالصورة التي شهدها عصرنا، عصر النقود الورقية، وعلى الأخص بعد التخلي عن الغطاء الذهبي، ولجوء بعض الدول أو اضطرارها إلى خفض قيمة ورقها النقدي.
ومن هنا وجدنا من يدعو إلى رد القرض بقيمته يوم الإقراض لا بمثله، ومن يقول: إن المثلية ذاتها غير متحققة في الورق النقدي الذي انخفضت قيمته.
والواقع أن هذه مشكلة تحتاج إلى دراسة واجتهاد عصري، ولقد أحسن المجمع صنعًا إذ جعل هذا الموضوع من أبحاث مؤتمره الثالث.(3/884)
وأحب أن أضع أمام مؤتمركم الموقر ما يلي:
أولاً: الموضوع فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وإجماع لم يرد ما يخالفه من الصحابة أو التابعين أو الأئمة المجتهدين، والاجتهاد يجب أن يكون في ضوء النص والإجماع.
ثانيًا: العقود المشروعة لا تشتمل على جهالة تفضي إلى الخلاف والنزاع. ورد النقود الورقية بقيمتها تجعل المقرض لا يدري ماذا سيأخذ، والمقترض بماذا سيطالب؟ ولا يدري الاثنان المقياس الذي يلجئان إليه عند الخلاف في القول بالزيادة أو النقصان أو الثبات، وتحديد مقدار الزيادة أو النقصان.
ولهذا وجدنا القوانين الوضعية، مع سوئها وإباحتها الربا المحرم، تنص على أن القرض يرد بمثله عددًا دون نظر إلى القيمة.
ثالثًا: ما استقر في الفقه الإسلامي من رد القرض بمثله لا بقيمته، وهو ما تسير عليه القوانين الوضعية في البلاد الإسلامية وغيرها من بلدان العالم، هو أيضًا ما أخذت به القوانين الدولية، فالقروض الدولية ترد بمثلها عددًا.
فكيف نطالب دولنا الإسلامية بترك هذه القوانين التي تتفق ولا تتعارض مع الفقه الإسلامي؟
رابعًا: الذين دعوا إلى رد القرض بقيمته نظروا إلى الانخفاض فقط، ولو أخذ بالقيمة لوجب النظر إلى الزيادة والنقصان معًا.
وعلى سبيل المثال:
إذا اقترض أحد من أخيه في الدول النفطية التي تعد نقودها أساسًا ثمنًا للنفط، ثم انخفض النفط إلى الربع، فما حق المقرض؟ أهو الربع فقط؟
فإذا اقرضه أربعة آلاف، وهي ثمن قدر معين من النفط، فبعد الانخفاض يكون ثمن هذا ألفا فقط، فهل من حق المقترض أن يقول للمقرض: ليس لك عندي إلا ألف، أو مقدار كذا من النفط قيمة الألف بسعر اليوم، وقيمة أربعة الآلاف وقت الإقراض؟
وإذا تركنا النفط وجئنا لغيره.
مثلاً كيس الذرة وصل إلى مائتي جنيه، ثم انخفض إلى خمسة وعشرين، فإذا اقترض مائتين ليشتري كيس الذرة، فهل بعد الانخفاض يرد كيس ذرة أو خمسة وعشرين جنيها فقط؟(3/885)
خامسًا: الذين دعوا إلى رد القرض بقيمته نظروا أيضًا إلى الأفراد فقط ولم ينظروا إلى الدول والهيئات والشركات، فمثلاً الحساب الجاري في المصارف يعتبر عقد قرض؛ لأن المصرف يمتلك المال، وينتفع به ويتصرف فيه كيف يشاء، الربح له والخسارة عليه، وهو ضمان لرد المثل.
وما قال أحد بأن المصرف مطالب برد القيمة، وإن كانت المصارف ملكًا لدولة هي نفسها خفضت قيمة نقدها.
(ملحظ: أثبت أن ودائع البنوك عقد قرض شرعًا وقانونًا في بحث قدمته للمؤتمر الثاني للمجمع، كما بينت هذا في أكثر من كتاب) .
سادسًا: زيادة التضخم تعني انخفاض قيمة النقود، ويلاحظ أن هذه الزيادة تفوق ما تحققه المصارف الإسلامية من أرباح، وما تحدده البنوك الربوية من ربا.
فلو أن القرض يرد بقيمته فلا حاجة للاستثمار وللتعامل مع البنوك، ويكفي أن تعطي الأموال مقترضًا يحتفظ لنا بقيمة القرض، ويتحمل زيادة التضخم التي تصل أحيانًا إلى مئات في المائة.
سابعًا: التضخم يعد من مساوئ النظام النقدي المعاصر، فهل المقترض هو الذي يتحمل هذه المساوئ؟
أفلا يجب البحث عن أسباب التضخم وعلاجه، وعن عيوب النظام النقدي، ووسائل تجنبها؟
أفلا نبحث عن نظام نقدي إسلامي نقدمه للعالم كما قدمنا له مثلاً البديل الإسلامي للبنوك الربوية؟
ثامنًا: القرض عقد إرفاق له ثوابه وجزاؤه من الله عز وجل، وقد ينتهي بالتصدق {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280] فكيف اتجهت الأنظار إلى المقترض بالذات ليتحمل فروق التضخم ومساوئ النظام؟!
والقروض الإنتاجية الاستثمارية من النادر أن نجدها في عصرنا من باب البر والإحسان، وإنما هي في الغالب الأعم تعود إلى ما كانت عليه في الجاهلية، فهي قروض ربوية. وهنا نجد الحل الإسلامي عن طريق الشركات وغيرها مما لا ينظر فيه إلى تغير قيمة النقود.(3/886)
تاسعًا: من حق المقرض أن يمنح ما يرى أنه أكثر ثباتًا وأقل عرضة للانخفاض، من حقه أن يقرض ذهبًا أو فضة أو عملة يرى أنها أكثر نفعًا له، ولعل هذا يساعد على وجود مخرج لمن يحجم عن الإقراض خوفًا من انخفاض قيمة النقود الورقية، فكأنه يدخر ما يرى أنه أنفع له، ولكن ليس من حقه بعد هذا أن يطالب بغير المثل إذا جاء الأمر على خلاف ما توقع، فماذا يفعل من انخفاض قيمة مدخراته في غير حالة الإقراض؟
عاشرًا: عندما ننتهي من خير القرون، وعصر الأئمة المجتهدين، ونأتي إلى متأخري الفقهاء، فلا أعلم أحدًا قال: إن القرض يرد بقيمته لا بمثله إلا إذا تعذرت المثلية، كأن يكون القرض فلوسًا أبطلها السلطان.
أما الدين إذا كان ثمنًا لبيع آجل، وانخفضت القيمة انخفاضًا يتضرر منه البائع، فقد ذهب بعض المتأخرين هؤلاء، إلى القول باللجوء إلى الصلح لمنع الخلاف.
وفي عصرنا ظهرت الدعوة إلى رد القيمة في القرض، ولم نكد نسمع من يقول بالالتزام بالقيمة في البيع الآجل الذي قد يمتد أكثر من عشرين سنة، تنخفض النقود خلالها إلى ما لا يمكن تصوره وقت البيع. والمشتري يلتزم بالثمن المحدد عددًا لا قيمة، والبائع لا يطالب بأكثر من هذا، وليس من حقه إلا ما حدد عند عقد البيع.(3/887)
فلو جاز النظر إلى القيمة لكان في مثل هذا البيع لا في القرض الذي يجب ألا يكون إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى.
حادي عشر: تغير قيمة النقود لا يظهر في القروض والديون فقط، وإنما يظهر أيضًا في عقود أخرى، فمؤجر العقار مثلاً في معظم البلاد الإسلامية ليس من حقه إنهاء العقد واسترداد ما يملك إلا بموافقة المستأجر، ولهذا يمتد العقد إلى عشرات السنين، وقد تصبح قيمة الإيجار لا تزيد عن واحد أو اثنين في المائة من قيمة النقود عند بدء العقد.
فالنظرة إلى تغير قيمة النقود لا بد أن تكون شاملة عامة.
ثاني عشر: ومن الشمول والعموم أيضًا - وهو ضروري وهام جدًا - أن ننظر إلى من يلتزم بالقيمة أو بالمثل.
فمثلاً الأجير الخاص الذي يأخذ راتبًا شهريًا محددًا، عندما تنخفض قيمة النقود فهذا يعني أن راتبه قد انخفض في الواقع العملي، فإذا كان مقترضًا ومدينًا بثمن شراء ومستأجرًا، فكيف نطالبه بالزيادة العددية التي تعوض نقص القيمة قبل أن نعوضه هو شخصيًا عما أصابه من نقص في قيمة راتبه؟
وبعد:
فلم أعلم بأن الموضوع سيناقش في هذا المؤتمر إلا في وقت متأخر، وكنت غير مهيأ للبحث مكانًا وزمانًا، فرأيت أن أكتب هذه الكلمة الموجزة علها تسهم في توضيح الفكرة، وتساعد على الوصول إلى الصواب إن شاء الله تعالى. والله من وراء القصد، وهو يهدي إلى سواء السبيل، وهو المستعان.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
كتبه
د. على أحمد السالوس
كلية الشريعة جامعة قطر(3/888)
الربا
فضيلة الأستاذ أحمد بازيع الياسين
بسم الله الرحمن الرحيم
الربا
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وهو المستعان سبحانه وتعالى، الحمد لله رب العالمين، خلقنا ورزقنا، ويميتنا ثم يحيينا، لا إله إلا هو الحي القيوم، بديع السموات والأرض، والصلاة والسلام الأكملان على من اختاره ربه رحمة للعالمين نبينا محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الكرام الغر الميامين، أهل التقى والرشاد، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد؛ فإن الربا في وقتنا هذا انتشر في المعمورة انتشارًا عامًّا، حتى لا تكاد تسلم منه قرية من القرى، أو مغارة من المغارات، وهو متمثل بالنظام المصرفي العالمي الذي يقنن له من قبل دول العالم كافة، وكأنه ضرورة من ضروريات الحياة، بينما هو شر مستطير، وربما يكون انتشاره بهذه الطريقة سببًا في دمار العالم وفنائه وهلاكه، استنادًا إلى قوله تعالى: {بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35] ، وأي فسق أعظم من أكل أموال الناس بالباطل؟ وأي خطر أعظم من إعلان جبار السموات والأرض الحرب على آكله؟ ربَّاه لطفك ورحمتك وسترك الجميل. وبعد هذه المقدمة أقول: ما هو الربا؟(3/889)
الربا: المعنى اللغوي: هو الزيادة والمرتفع من الأرض، يقال له رابية أو ربوة وأصل الكلمة المجردة ربا: زاد، ربت الأرض بعد نزول المطر: ارتفعت وتشققت وأنبتت، وفي قوله تعالى: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] الآية دليل على ذلك.
المعنى الفقهي:
كل زيادة بدون عوض بعقد، معنى ذلك كل زيادة بدون مقابل في أي عقد من عقود المعاملات بين صنفين من نفس النوع فهو من الربا المحرم شرعًا، وهو الكبائر ومن السبع الموبقات، جاء تحريمه نصًا صريحًا بالكتاب والسنة، ويقينًا قطعيًا لا لبس فيه ولا شك في ذلك.
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 275-276] .
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278-279] .
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] .
وقال: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] .
وقال: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] .
ومن أحاديث الرسول الكريم في الربا قوله: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)) رواه البخاري.
قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أين هذا؟)) . قال بلال: كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أوه عين الربا عين الربا، لا تفعل, لكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتره)) . أخرجه البخاري.(3/890)
وروي أبو سعيد الخدري وأبو هريرة رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكل تمر خيبر هكذا؟)) . قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا)) . أخرجه البخاري.
ما حكم الفائدة المصرفية؟ :
الجواب: انشغل علماء الفقه الإسلامي أهل الاختصاص بعد أن تصوروا تصورًا تامًّا ما هي الفائدة البنكية وكيفيتها وقواعدها وأصلها وفروعها وأسبابها ومسبباتها وآثارها بالبحث المتواصل الدؤوب، بدون ملل، وبتجرد من المؤثرات، وبحرية تامة؛ لما لهذا الموضوع من حساسية وخطورة تؤثر على الأمة الإسلامية جميعها، وحصيلة البحوث المتكررة، قرر الفقهاء المسلمون المعاصرون الباحثون: أن الفائدة البنكية هي من الربا المحرم شرعًا وإليك قراراتهم:
قرار مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية القاهرة نقلاً عن مقال الدكتور أحمد النجار لسنة 1975م:
المعاملات المصرفية في إطار التشريع الإسلامي في البلاغ الكويتية (بتاريخ 6 جمادى الثانية سنة 1395 هـ الموافق 15 يونيو 1975م العدد 209) نذكر ما اتفق عليه علماء مؤتمر البحوث الإسلامية الثاني في شأن المعاملات المصرية حيث قرروا ما يلي:
(أ) الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي؛ لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين.
(ب) كثير الربا وقليله حرام كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في تحريم النوعين.
(جـ) الإقراض بالربا محرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك، ولا يرتفع إثمه عن المقترض إلا إذا دعت الضرورة.(3/891)
(د) أعمال البنوك من الحسابات الجارية وصرف الشيكات وخطابات الاعتماد والكمبيالات التداخلية، التي يقوم عليها العمل بين المتاجر والبنوك في الداخل، كل هذا من المعاملات المصرفية الجائزة، وما يؤخذ في نظير هذه الأعمال ليس من باب الربا.
(هـ) الحسابات ذات الأجل وفتح الاعتماد بفائدة وسائر أنواع الإقراض نظير فائدة، كلها من المعاملات الربوية، وهي محرمة.
(و) أما المعاملات المصرفية المتعلقة بالكمبيالات الخارجية فقد أُجِّلَ النظر فيها إلى أن يتم بحثها.
المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي:
إن مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي، المنعقد بمقر بنك دبي الإسلامي بإمارة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، خلال المدة من 23 جمادى الثانية إلى 25 جمادى الثانية عام 1399 هـ (الموافق من 20 إلى 22 مايو 1979م) .
قد تناول بالبحث والدراسة المواضيع الفقهية الشرعية والاقتصادية المتعلقة بأعمال المصارف الإسلامية وفحص هذه الأعمال وبحثها بحثًا مستفيضًا بما ارتاحت إليه قلوب المؤتمرين من فقهاء الشريعة الإسلامية والمفكرين والاقتصاديين، ورجال الاقتصاد ورجال القانون من حيث سلامة تلك الأعمال، والتحقق من نفعها الأكيد، ومطابقتها لأحكام الشريعة الإسلامية الغراء.
لذلك يؤكد المؤتمر أن ثقتهم في أن السلوك الذي تنتهجه المصارف الإسلامية، وكذلك التطبيق الذي تلتزم به خليقان بأن يصححا المسار الاقتصادي للأمة الإسلامية، وما تفرضه عليهم تعاليم دينهم الحنيف، وما ترتاح إليه ضمائرهم وقلوبهم.
ولذلك يناشد المؤتمر دول العالم الإسلامي أجمع أن تبادر إلى إقامة مصارفها على أسس وقواعد المصارف الإسلامية، وأن تقدم لهذه المصارف كافة المساعدات التي تمكنها من تسيير أعمالها بيسر، وأن تباشر نشاطها بما يدعم اقتصاديات العالم الإسلامي وتحقيق تكاملها، وبما يمكن من إتمام المبادلات التجارية الخارجية فيما بين تلك الدول بطريقة مباشرة وبدون وساطة، وبما يطابق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء.(3/892)
كما يهيب المؤتمر بالمسلمين جميعًا في أرجاء العالم أن يساندوا هذه المصارف؛ لتمكينها من تحقيق رسالتها الاقتصادية الإسلامية.
المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي:
(6 – 8 جمادى الثانية 1403 هـ 21 – 23/3/1983م) .
جاء في التوصيات والفتاوى الثلاث الأولى للجنة العلماء ما يلي:
1- يؤكد المؤتمر أن ما يسمى بالفائدة في اصطلاح الاقتصاديين الغربيين ومن تابعهم هو من الربا المحرم شرعًا.
2- يوصي المؤتمر أصحاب الأموال من المسلمين بتوجيه أموالهم أولاً إلى المصارف والمؤسسات والشركات الإسلامية داخل البلاد العربية والبلاد الإسلامية ثم إلى خارجها، وإلى أن يتم ذلك تكون الفائدة التي يحصلون عليها كسبًا خبيثًا، وعليهم استيفاؤها والتخلص منها بصرفها في مصالح المسلمين العامة. ويعتبر الاستمرار في إيداع الأموال في البنوك والمؤسسات الربوية مع إمكان تفادي ذلك؛ عملاً محرمًا شرعًا.
3- يوصي المؤتمر بتشجيع المصارف الإسلامية القائمة ودعم إنشاء المزيد من هذه المصارف لتعم منافعها على جميع المستويات.(3/893)
المؤتمر الثالث للمصرف الإسلامي:
(9-11 صفر 1406 – 25/10/1985) :
جاء في فتاوى لجنة العلماء بالمؤتمر في البندين (1 – 2) ما يلي:
أولاً – إقامة المصارف الإسلامية على أسس شرع الله ودينه من تحريم الربا والغرر والجهلة وغيرها؛ ضرورة شرعية، ومصلحة من مصالح الأمة الجوهرية.
ثانيًا – نظرًا للخدمات التي تؤديها المصارف الإسلامية من تيسير التجارة الدولية والمحلية، وتسهيل استبدال العملات، وجمع فائض الأموال من المسلمين واستثمارها على الوجه المشروع، وتوجيهها إلى مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي لا غنى للمجتمع المسلم عنها، تقرر أن:
إقامة المصارف الإسلامية – حيث يوجد تجمع للمسلمين – فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم به أحد فالكل آثمون.
ويحرم التعامل مع البنوك الربوية في جميع المعاملات المحظورة شرعًا.
ويتعين على المسلم التعامل مع المصارف الإسلامية إن أمكن ذلك؛ توقيًا من الوقوع في الحرام أو الإعانة عليه.
ثالثًا – يحرم على كل مسلم يتيسر له التعامل مع مصرف إسلامي أن يتعامل مع المصارف الربوية في الداخل والخارج، إذ لا عذر له في التعامل معها بعد وجود البديل الإسلامي، ويجب عليه أن يستعيض عن الخبيث بالطيب، ويستغني بالحلال عن الحرام.
رابعًا- يدعو المجلس المسؤولين في البلاد الإسلامية والقائمين على المصارف الربوية فيها إلى المبادرة الجادة لتطهيرها من رجس الربا؛ استجابة لنداء ربهم في قوله سبحانه: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] وبذلك يسهمون في تحرير مجتمعاتهم من آثار الاستعمار القانونية والاقتصادية.
خامسًا – كل ما جاء عن طريق الفوائد الربوية هو مال حرام شرعًا، لا يجوز أن ينتفع به المسلم – مودع المال – لنفسه أو لأحد ممن يعوله في أي شأن شؤونه، ويجب أن يصرف في المصالح العامة للمسلمين، من مدارس ومستشفيات وغيرها، وليس هذا من باب الصدقة، وإنما هو من باب التطهير من الحرام.(3/894)
توصيات ندوة البركة في المدينة المنورة:
جاء في إحدى فتاوى الندوة جوابًا على سؤال: هل يجوز أن يقوم البنك بالتعامل بالطريقتين الربوية واللاربوية – إذا كانت السلطات الحكومية في ذلك البلد اشترطت ذلك حتى تقتنع السلطات بالطريقة اللاربوية ومدى تطبيقها وفاعليتها؟
جاء في الفتوى ما يلي:
"التعامل الربوي غير جائز شرعًا، ويوصي فقهاء الندوة بأن تتعاون البنوك الإسلامية في إنشاء بنك أو أكثر خارج البلاد الإسلامية، وأن تتعاون وتتعامل مع أي بنك إسلامي قائم فعلاً أو يقوم في المستقبل:.
ويؤكد فقهاء الندوة أيضًا الجهود التي قام بها الشيخ صالح عبد الله كامل في إنشاء البنك الإسلامي في أوربا وتحرجه من أي تعامل ربوي) .
وكانت الهيئة التي صدرت عنها تلك الفتاوى مكونة من:
1- فضيلة الشيخ عبد الحميد السائح.
2- فضيلة الشيخ صديق الضرير.
3- الأستاذ الدكتور زكريا البري.
4- فضيلة الشيخ حسن عبد الله الأمين.
5- فضيلة الشيخ عبد الله ناصح علوان.
فتاوى المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية:
جاء في الفتوى رقم 413 من الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية المجلد الثالث حول دراهم البنك، هل هي حرام أم لا؟ وفيما يؤخذ منها على سبيل التجارة، هل يعد ربا أم لا؟ جاء ما يلي:
"أما الجواب عن حرمة دراهم البنك أو حلها فيؤخذ من حاشية الحموي على الأشباه، ونص عبارتها في التمر تأتي في باب مسائل متفرقة من كتاب الكراهة مانصه: "للرجل مال حلال اختلطه مال من الربا أو الرشا أو الغلول أو السحت أو مال الغصب أو السرقة أو الخيانة أو مال يتيم، فصار ماله كله شبهة، ليس لأحد أن يشاركه أو يبايعه أو يستقرض منه أو يقبل هدية أو يأكل في بيته. وكذا إذا منع صدقاته وزكاته وعشره، صار ماله شبهة لما فيه أخذه من مال الفقير.(3/895)
وينبغي أن ترى الأشياء حلالاً في أيدي الناس في ظاهر الحكم، ما لم يتبين لك شيء مما وصفناه". انتهى.
وأما الأخذ من دراهم البنك على سبيل التجارة بالفائض كما هو المعتاد الآن، فلا شك أنه من باب الربا المحرم إجماعًا.
تقرير اللجنة الباكستانية:
وجاء في الفصل الأول من تقرير اللجنة الباكستانية تحت عنوان "القضايا والمشاكل الإستراتيجية" (المسلم المعاصر ع 28) :
لقد حرم القرآن الكريم الربا بشكل واضح ومؤكد، وثمة إجماع تام بين جميع المدارس الفكرية في الإسلامي على أن الربا يعني الفائدة بجميع أنواعها وأشكالها، وأن لغة الآيات التي يطالب فيها الناس باجتناب الفائدة وقوة التحذير الذي يوجه لهؤلاء الذين لا يلتزمون بالتعليم الإلهي في هذا الصدد، لا تترك أي شك في الذهن أن نظام الربا يعد بغيضًا تمامًا لروح الإسلام، يقول تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 275-276] . ويستمر الموضوع نفسه من الآيات 278- 279 من السورة نفسها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278-279] .
إن التحذير السابق ذكره {بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] يوضح لنا تمامًا أن نظام الفائدة يتعارض مع الشريعة الإسلامية، ولا بد من إيجاد نظام اقتصادي واجتماعي خال من الربا والاستغلال والتسلط.
وبعد هذه القرارات هل يأتي أحد يقول: أعيدوا النظر، وجاروا العصر، وكونوا معتدلين، وعدلوا القرارات، وقولوا مجاراة للعصر الحديث: إن الفائدة البنكية ليست من الربا المحرم شرعًا؟ الله أكبر، إذا كانت الفائدة البنكية ليست من الربا المحرم شرعًا، فما هو الربا المحرم شرعًا إذًا؟
أليس بيع نقد بنقد بزيادة، سواء أكان آجلاً أم عاجلاً ربا فالأمة الإسلامية مدعوة الآن - وبأكثر من أي وقت آخر - لتصحيح المسار من منهج ربوي إلى منهج مشروع.(3/896)
بيوع النقود بالأجل محرمة
حيث لا يجوز بيع النقود بأجل حتى ولو اختلفت أجناسها، ولا يجوز بزيادة إذا كانت من نفس النوع، والربا قاعدة فيها جور وظلم على الإنسان تخدش كرامته وتذل الناس بعضهم لبعض، وإليك بعض مضارها التي ظهرت لي:
1- الوقوع فيما حرم الله تعالى، والتعرض لمحاربة الله القوي العزيز.
2- أكل أموال الناس بالباطل.
3- زيادة التكلفة على الحاجيات التي يحتاجها الناس بمقدار ما تحمل من فوائد بسيطة أو مركبة.
4- تركيز الثروة عند فئة قليلة من الناس غير منتجة تعيش على كدح الآخرين.
5- عند عجز المدين عن الوفاء يتراكم عليه الدين بزيادة الفائدة، مما يزيد من عجزه حتى يثقل كاهله، فإما يعلن إفلاسه أو تستمر الفائدة بالزيادة حتى يركع ويبيع كل ما عنده ليسدد دينه وفوائده.
6- الحقد والكراهية والحسد بين طبقات الناس، مما يؤدي إلى الفتن والحروب.
7- تسلط الفئة الدائنة على المدينين، وتسيير السياسة التي يفرضونها على مجتمعاتهم بما يتمشى مع مصالحهم حتى ولو تضرر المجتمع.
8- عند عجز المدينين عن الوفاء للفئة الدائنة تعجز هذه الفئة عن تسليم الودائع لأصحابها عند حلولها، وبالتالي يعتبر الجميع في حالة إفلاس.
9- النقود وحدة قياسية للأثمان بها قوة اعتبارية وقوة ثمنية، والوحدة القياسية ثابتة عندما تقاس مع ذاتها تساوي ذاتها تمامًا، كالوحدة القياسية الطولية المتر، وكالوحدة القياسية للأوزان، فالمتر يساوي مترًا، والكيلو يساوي كيلو، وكذلك الدينار يساوي دينارًا، وإذا قلنا غير ذلك اختلت القواعد للوحدات، القياسية ويحصل الارتباك العظيم.
على أن الله سبحانه وتعالى عندما حرم الربا أحل البيع وأبوابًا أخرى كثيرة، منها القراض والشراكة والإجارة والوكالة، فانظر إلى الفرق بين عملية الربا وعملية البيع.(3/897)
فتمامًا كما حرم الله الزنا أحل الزواج، فالربا ظلم اقتصادي وفوضى اقتصادية، والزنا ظلم اجتماعي وفوضى في الأنساب والأعراض.
فعلمية الربا: طرفان يتعاقدان على تبادل صنف مماثل لنفس الصنف بزيادة، مثل ذهب بذهب بزيادة، أو فضة بفضة بزيادة، أو عملة بعملة من جنسها بزيادة، سواء كان هذا التبادل عاجلاً بعاجل أو عاجلا بآجل أو آجلا بآجل فما الذي فعله الطرفان؟
الجواب: عمل الطرفان تضخمًا في الأثمان للصنف المتعاقد عليه بدون مبرر، فكلما تكررت العملية تكرر التضخم لذات الصنف، وهو لم يطرأ عليه تغيير.
وهذا التضخم بالتالي من يعاني منه؟
الجواب: المستهلك هو الذي يعاني من هذا التضخم، والمستهلك غالبًا من أصحاب الدخل المتوسط أو المحدود.
وحرم الله سبحانه وتعالى هذا التعامل بين الناس حتى لا تكون الأموال دولة بين الأغنياء بدون وجه حق وبدون مسوغ أو أي مبرر، هذا فهم متواضع حسبما ظهر لي في الربا، ناهيك عن بقية المحذورات المترتبة على استمرار التعامل بالربا من أمراض اجتماعية وأخلاقية وسياسية حتى الأمراض البدانية، وما الفتن والحروب بين الناس والتباغض والتطاحن إلا نتيجة للربا.
والعالم الآن يعاني من هذا، والعجيب العجيب انهم يعانون من الربا ولا يريدون الخلاص منه، كالمخمور الذي قضت عليه الخمر ولا يريد الفكاك منها، إنا لله وإنا إليه راجعون. خبروني: متى تسدد البلاد النامية الديون التي عليها بعد أن تراكمت عليها الفوائد؟ ثم خبروني: هل تستطيع المصارف العالمية أن تقف على أرجلها إذا سحب أصحاب الودائع ودائعهم منها، أم أنها الحرب المنتظرة ويكون سببها الربا؟
المعاملات البديلة:
عندما أغلق الإسلام أبواب الربا أتى بالبدائل المشروعة ومنها:
البيع:
أما البيع فهو معاملة بين طرفين على صنفين مختلفين، إما نقد مقابل عين، أو عين مقابل صنف آخر.(3/898)
فالعين المباعة مقابل النقد، تمت هذه المعاملة بين طرفين، طرف محتاج للعين المباعة وطرف محتاج للنقد، هذا أخذ العين وانتفع بها انتفاعًا مباشرًا، والآخر أخذ النقد وراجت سلعته وتحركت ونمت تجارته أو صناعته أو أي نوع من أنواع الاستثمار، وبذلك حصل المستهلك على بضاعته بسعرها المجرد من التضخم، وصاحب السلعة المباعة أو المستثمر استطاع أن ينمي عمله. ومعنى هذا تشغيل اليد العاملة، والقضاء البطالة قضاء على الأمراض سالفة الذكر.
ثم انظر عندما تنمو التجارة، أوجب الله تعالى فيها الزكاة، كما أوجب الزكاة على النقود وعلى ريع المستغلات؛ لأن عروض التجارة تعتبر بحكم النقود السائلة، فيزكى (رأس المال والربح) ، أما المستغلات فلكونها استثمارًا طويل الأجل استفادت وتستفيد منه اليد العاملة، فإن الزكاة فيها قاصرة على الريع دون أصولها.
نظام القراض (المضاربة) :
أحله الإسلام وهو اشتراك المال مع العمل حسب شروط معينة مقبولة لدى المتعاقدين: صاحب المال يأخذ نصيبه من الربح، وصاحب العمل يأخذ نصيبه من الربح حسب الاتفاق، إذا – لا سمح الله – حصلت خسارة لا يتحمل العامل أي خسارة، ويرجع ما بقي من المال لصاحبه، إلا إذا قصّر العامل أو أهمل أو تسبب للخسارة، فهذه لها حكمها.(3/899)
نظام الشراكة:
بين طرفي المال والإدارة أو في المال فقط، ويدار العمل حسب مقتضى الشريعة، وتقسيم الأرباح والخسائر بينهما حسب الاتفاق.
الإجارة:
العين المؤجرة ينتفع بها المستأجر مقابل مبلغ من المال يدفعه حسب الاتفاق، كإيجار العمارات والآلات والسيارات والبواخر والطائرات، فالمنافع متبادلة بين المتعاقدين، والمدرس والطبيب والمهندس والموظف يجوز أن يعمل هؤلاء بأجر متفق عليه، وكلها خدمات ملموسة.
الوكالة:
عمل يقوم به أحد الأطراف للآخر مقابل مبلغ من المال متفق عليه، وهذا جائز كالمحامي والمهندس المشرف. وتجوز الوكالة في كثير من الأعمال كالمتاجرة ووكيل العقارات ووكيل في الصناعة والزراعة، أو أي عمل مشروع استثماري يجوز التوكيل فيه.
انظر أيها المسلم في هذه الأعمال المشروعة تجدها ذات فائدة للجميع، دون أن تطغى فائدة فئة معينة على فئة أخرى، وفيها العدل وفي ذلك المحافظة على كرامة الإنسان التي يعتبرها الإسلام في المرتبة الأولى في المنهج الإسلامي {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء: 70] وكتب الفقه الإسلامي تزهو بالتفصيلات الكافية لما تقدم، وما عليك إلا أن تطالعها وتفقهها.(3/900)
ثم بغض النظر عن معرفة هذه الحقائق أو جهلها، أو معرفة غيرها من الحقائق، فنحن كأمة إسلامية مطالبون بتطبيق منهج الله تعالى الذي فرضه وأرسل به نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم تطبيقًا كاملاً في العبادات والمعاملات والسلوك والأخلاقيات، فمتى يتحقق ذلك؟ ونقلع عن اتباع منهج الهوى والشيطان، فإما الرجوع إلى الله تعالى وإلا فالاستعداد لتلقي الكوارث، كارثة تلو الأخرى.
فالأمة الإسلامية مدعوة في هذه الأيام وبسرعة لإعادة النظر في المنهج المستورد وتغييره بالالتزام بمنهج الله تعالى، ولو عزمت على ذلك فليس هناك قوة على وجه الأرض تجبرها على غير ذلك، والله ناصرها ومؤيدها، وبذلك يكون فتح باب خير للأمم الأخرى المحتارة لاتباع منهج الله تعالى، ويكون بذلك خلاصها من شرور الدنيا والحصول على الحياة السعيدة في آخرتها، أما إذا عزفت الأمة الإسلامية عن تطبيق منهج الله تعالى في جميع أمورها، فبذلك تكون انتفت الحكمة من وجودها في هذا الكون، حيث قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، ومفهوم العبادة شامل لكل ما يحبه الله ويرضاه. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] .
والله المستعان وهو ولي التوفيق.(3/901)
أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة
فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الحى القيوم، العزيز الحكيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وصحبه أهل العلم الصحيح والمنهج القويم والذوق السليم. وبعد؛ فهذا بحث في نقود الكاغد محذوف الشواهد، مطروح الزوائد، يحتوي - إن شاء الله - على بعض الفوائد، لا يدعي اقتناص الشوارد، ولا تقيد الأوابد، في مجال لم يترك الرواد فيه وشلا لوارد، صغته في شكل مسائل، وسلكت فيه سبيل أهل الفتوى في النوازل، لا أقول فيه كما قال الشاعر:
كَمْ تَرَكَ الْأَوْلُ لِلْآخِر
بل اكتفى على قدر الجهد بالاتباع، واغتني بنصيف المد عن تطفيف الصاع.
فضيلة الشيخ عبد الله ولد بيه
أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز
كلية الآداب
جدة في 20/1/1407هـ(3/902)
التعريف:
النقود جمع نقد، وهو في الأصل مصدر لنقد إذا ميز الدراهم الجياد من الزايفة، أو إذا أعطاها معجلة، إلا أنه مصدر وُصف به، فقيل: درهم نقد: أي جيد، وأصبح فيما بعد اسما لواسطة التبادل، وتنوسي أصل المصدرية كما تنوسي أصل الوصفية، فأصبح مرادفًا للدرهم والدينار وما في معناهما، وذلك ليس بمستبعد من الناحية اللغوية.
فالوصف إذا كثر استعماله يقوم مقام الموصوف، فلا يحتاج إلى تقدير موصوف، كقولهم: هبت الجنوب والشمال، بدون حاجة إلى ذكر الريح، وكالهجان أصلها صفة للأبل البيض الكرام، يستوي فيها الفرد والجمع، والمذكر والمؤنث، يقال: جمل هجان وإبل هجان قال جرير:
سيكفيك العواذل أرحبي
هجان اللون كالفرد اللياح
ويجمع على الهجن والهجائن، وأصبحت الهجن وصفًا قائما ًمقام الإبل مهما كان لونها، فيقولون: سباق الهجن، وله أصل في اللغة العربية قال الشماخ:
أعائش ما لقومك لا أراهم
يضيعون الهجان مع المضيع
يريد به الإبل، وكانت زوجته عائشة تلومه على عدم إتلاف ماله فردّ عليها بأن قومها لا يتلفون مالهم، (ذلك رأى سيبويه الذي حكم بأصالة (لا) في البيت) .(3/903)
ونعتقد أن هذا التفسير سائغ لدى النقاد، فلا نحتاج إلى ذكر النقاد، وتتبع مادة نقد كما فعل القس الكرملي الذي جعله من النقاد لجنس من الغنم وهو بعيد، بل أصله وصف أخذ محل الموصوف بسبب كثرة الاستعمال، فأصبح يوصف كما قال مرتضى في التاج: ونقود جياد. وكذلك الزمخشري في أساس البلاغة فوصف النقود بأنها جياد، يعنى أنها أصبحت اسما يوصف بدلاً من أن تكون وصفًا يصف.
التعريف الاصطلاحى:
كلمة (النقود) قد مرت بمراحل وتطورات فقهية جعلت من الصعب تعريفها تعريفًا ثابتًا لا علاقة له بالزمن، ولا يعرف المخاطبين. إذن فالتعريف يمكن أن يكون عرفيا، ومن المعلوم أن الحقيقة العرفية لا يُلجأ إليها إلا بعد عزل الحقيقة اللغوية؛ لعدم أدائها للمعنى المطلوب وانعدام الحقيقة الشرعية، فهذه الكلمة بعد أن رأينا أنها كانت يعنى بها الدرهم الجيد الكامل - لغةً - نجدها تطلق على النقود: الذهب والفضية، ونجدها بعد ذلك تختص بالمضروب منها دنانير ودراهم.
قوله: " نقد " يوهم قصر الربا على المسكوك؛ لأن النقد خاص به، فتكون مرادفة للعين. قال الخطابي: التبر قطع الذهب والفضة قبل أن تضرب وتطبع، والعين المضروب دنانير ودراهم. القرطبي.
وانتشر التعبير بالنقد في كل ما استعمل ثمنًا للأشياء وغيرها مما يكون واسطة للتبادل، ويشعر إمام الحرمين بالحرج لذلك فيقول: "قال قائلون ممن يصحح العلة القاصرة: فائدة تعليل تحريم التفاضل في النقدين تحريم التفاضل في الفلوس إذا جرت نقود" إلى آخر كلامه الذي قد نتعرض له في مناقشة الربوية (1) .
__________
(1) البرهان: 2/1082-1083.(3/904)
فإمام الحرمين لا ينفي إطلاقا إطلاق الاسم على الفلوس؛ لأنه مرادف للوساطة في التبادل أي الثمنية، وإنما ينفي النتائج المترتبة على ذلك.
وقد انتشر هذا التعريف للنقد في أوساط الفقهاء، وهنا يلتقي الفقهاء مع تعريف الاقتصاديين الذي يتمثل باختصار في كون النقد كل شيء يلقى قبولاً ورواجًا كوسيط للتبادل، مهما كان ذلك الشيء، وعلى أي حال يكون. ولا نطيل عليكم بذكر التعريفات المختلفة.
وهذا التعريف للنقد لا نجد حرجًا من قبوله كمصطلح اقتصادي، فقد رأينا أن الفقهاء وصلوا إليه في النهاية، وخصوصًا المدرسة المعللة بالثمنية المتعدية، فقد بالغت في ذلك حتى إن ابن العربي ضرب مثلاً بالخبز في بغداد، وقد شاهده كوسيلة تبادل حتى إن الحمام يُدخل به.
فهذا هو غاية تطور كلمة النقد عند الفقهاء، ولا نطيل عليكم بتطور النقود في أوربا من سندات إلى أوراق معتمدة لها غطاء وبدون غطاء، فهذه أمور معروفة لديكم.(3/905)
أحكام النقود الورقية في مسائل
المسألة الأولى
حكم طبع النقود الورقية هو الجواز إذا خضع لضوابط تمنع إنزال الضرر بالناس لحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) . أخرجه مالك في الموطأ مرسلاً وأحمد وأبو داود، وقال السيوطي: إنه صحيح.
ولهذا فيمنع إحداث نقود تؤدي إلى الفوضى والتضخم، فلا يجوز للأفراد ولا للسلطة أن تحدث ذلك للقاعدة الشرعية.
فالعفو هو الأصل، وإن كانت السكة في ذلك الوقت تعني الدنانير الهرقلية والدراهم البغلية الفارسية التي كانت ترد على العرب، وأقرب في زمنه صلى الله عليه وسلم وفي زمن الخلفاء الراشدين، حتى زمن دولة بنى أمية، حيث ضرب عبد الملك بن مروان سنة خمس وسبعين السكة (1) .
وقد ظهرت الفلوس في صدر الإسلام بجانب الدناير والدراهم، كما تدل عليه فتاوى الأئمة الكبار في ذلك الوقت؛ قال السيوطي في الحاوي: التعامل بالفلوس قديم. وبعد ذكره التعريف اللغوي قال: "قال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا محمد بن أبان عن حماد عن إبراهيم قال: لا بأس بالسلف في الفلوس". أخرجه الشافعي في الأم، والبيهقي في سننه دليلاً على أنه لا ربا في الفلوس. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن مجاهد "لا بأس بالفلس بالفلسين يدا بيد".
وأخرج عن حماد مثله، وأخرج عن الزهري أنه سئل عن الرجل يشتري الفلوس بالدراهم، قال: "هو صرف فلا تفارق حتى تستوفيه".
وذكر الصولي في كتاب الأوراق أنه سنة إحدى وسبعين ومائتين ولي هارون بن إبراهيم الهاشمي حسبة بغداد في زمن الخليفة المعتمد، فأمر أهل بغداد أن يتعاملوا بالفلوس، فتعاملوا بها على كره ثم تركوها".
__________
(1) البلاذري في فتوح البلدان.(3/906)
وكانت خاصة باشتراء المحقرات كما يقول المقريزي في كتابه: "إغاثة الأمة بكشف الغمة": "إن سبب ضرب الفلوس أيام الكامل من الدولة الايوبية، هو شكوى امرأة إلى خطيب الجامع بمصر أبي الطاهر المحلي مسألة من مسائل الصرف الربوي تصعب السلامة منها؛ لأنها تشتري الماء من السقاء بنصف درهم، فتعطي درهما ويرد السقاء نصف درهم ورقا، فكأنها اشترت الماء ونصف درهم، فأنكر أبو الطاهر ذلك وكلم السلطان، فضرب الفلوس، واستمر الناس في ذلك حتى أصبحت هي الرائجة في مصر، وحلت محل الذهب والفضة، وخصوصًا أيام السلطان برقوق إلى أيام المقريزي في القرن التاسع.
ولعله يشير بهذه الحكاية إلى المسألة المشهورة عند الشافعية بمد عجوة ودرهم؛ وهي: أن يبيع أحد ربويين بمثله ومع أحد العوضين جنس آخر، فالبيع باطل عند الشافعية والمالكية، إلا أن هؤلاء يتسامحون في المحقرات.
أما النقود الورقية فإنها ظهرت في الصين لأول مرة كما يذكر ابن بطوطة: ثم ظهرت في الغرب فكان بنك استكهولم بالسويد أول حلقة سنة 1608م في سلسلة تطور النقود الورقية الذي استمر إلى عصرنا الحالى من سندات إلى أوراق مغطاة بالذهب، إلى أوراق غير مغطاة.
ولا أرى ضرورة للتوقف عند ذلك، المهم أنه لا اعتراض للفقهاء على توسيط أي شيء في التبادل ما لم يكن محرم العين أو مغشوشًا بشكل لا يمكن تحديد نسبته ولم يتواضع عليه، علمًا بأن بعض العلماء كالمقريزي في كتابه "إغاثة الأمة" أنكر إنكارًا شديدًا التعامل بالفلوس واستبعاد الذهب والفضة من دورة التعامل قائلاً بعد أن ذكر أن الفلوس أصبحت عوضًا عن المبيعات كلها، من أصناف المأكولات والمشروبات، وسائر أنواع المبيعات: ويأخذونها في خراج الأرضيين، وعشور أموال التجارة، وعامة مجابي السلطان، ويصيرونها فيها في الأعمال جليلها وحقيرها، ولا نقد لهم سواها، ولا مال إلا إياها، بدعة أحدثوها، وبلية ابتدأوها، لا أصل لها في سنة نبوية، ولا مستند لفعلها من طريقة شرعية، ولا شبهة لمبتدعها في الاقتداء بفعل أحد ممن غبر. إلى آخر كلامه، حيث أبرز ما حل بالبلاد من الدمار والاضمحلال بسبب التعامل بالفلوس.
وقال: إن النقود المعتبرة شرعًا وعقلاً وعادة، إنما هي الذهب والفضة فقط، وما عداهما لا يصح أن يكون نقدًا.(3/907)
إلا أن ضابط الجواز هو ما ذكرناه سابقا من عدم إلحاق الضرب الناس في ممتلكاتهم، ومعاملاتهم وعدم بخس أشيائهم وتعريض اقتصادهم للفوضى والاضمحلال، فالأصل الجواز فيما سلم من ذلك، خصوصًا إذا عري عن سبب يجعل شبهة التحريم قائمة، كنيابة النقود الورقية عن العين الغائبة، مما يؤدي إلى الصرف المؤجل، ومع ذلك فنحن نشاهد فوضى نقدية تتلاعب بأموال الناس، وتحيل أرصدتهم إلى أوراق من الكاغد لا قيمة لها، مما يجعل جوازها خاضعًا للقاعدة الشرعية المتمثلة في أن الحاجي ينزل منزلة الضروري كالإجارة، حيث خالفت القياس لورود العقد على منافع معدومة. فالحاصل أنها إذا لم تترتب عليها أضرار اقتصادية فهي جائزة.
المسألة الثانية
هل بيع هذه النقود بعضها ببعض يدخله الربا؟
إذا كان بيع هذه النقود بعضها ببعض أو بالذهب والفضة يدخلهما الربا كما يدخل في الذهب والفضة، أولا يدخل فيها الربا إلا ما يدخل في العروض، فما هو الحكم في هذه المسألة؟(3/908)
إن هذه المسألة مطروحة منذ ظهرت الفلوس، وأفتى فيها الأئمة، ولم يخل مذهب من خلاف في داخله حول هذه القضية، حتى وصلت إلى عصرنا هذا.
ولا يزال النقاش مفتوحًا لصعوبة إقناع أيٍّ من الفريقين الآخرَ في غيبة نص صريح أو أثر للخلاف رافع، أو إجماع قاطع، أو قياس جلي ناصع.
ويمكن أن نقسم اختلاف الفقهاء إلى موقفين: موقف يعتمد النص الحرفي أو دلالته القريبة، ويتمثل في مذهب أهل الظاهر، وهو رأي كثير من علماء المذاهب الأخرى. وموقف يبتعد عن النص إلى حد ما عن طريق التعليل واستكناه مغزى النصوص ومراميها، ويجد سندا في بعض المذاهب الأخرى.
ولكثرة ما كتب في الموضوع فسأتحدث بإيجاز عن كلا الموقفين، ثم أذكر مختاري في المسألة.
الموقف الأول: يتمثل في انتفاء الربوية، وقد يختلف معتنقوه في التعبير عنه بسبب اختلاف مشاربهم ومذاهبهم بين مانع القياس مكتفيا بالنص كأساس في سائر الأصناف، وبين من لا يتخذ هذا الموقف المبدئي فهو يجيز القياس، إلا أنه ينفي وجود علة في هذا المكان بالذات، أو يعترف بوجود علة فيه، غير أنه يدعي فيها القصور.
واقتصارا للبحث فإننا نجعل تحت هذا الموقف من يعتبرها كالفلوس وهو ينفي الربوية عن الفلوس، ومن يجعلها كالعروض لأنه يثبت للفلوس نوعًا من الربوية لا يخضع لعلة الثمنية.
أما الظاهرية فإن موقفهم ينسجم مع مذهبهم الذي يرفض القياس ويرى من النصوص كفاية للقضايا المتجددة، وقد دافع ابن حزم عن موقفهم، ورد عليه ابن القيم وغيره بضراوة لا تقل قوة. فموقف الظاهرية معروف له ما له وعليه ما عليه. وقد نحى منحى الظاهرية في هذه المسألة جملة من العلماء، فمن السلف طاوس وقتادة وعثمان البتي وأبو سليمان.(3/909)
كما حذا حذوهم ابن عقيل من الحنابلة، وأبو بكر الباقلاني من المالكية، والأخير عن ابن رشد في البداية، واللخمي أيضًا من المالكية عن أحمد بن علي المنجور، في شرحه القواعد في مخطوطة ابن التلاميذ الشنقيطي ص60.
ونصف في نفس الاتجاه من يعلل علة لا تتناول النقود الورقية، كالوزن عند أبي حنيفة وأحمد في أحد قوليه، ولا داعي لنقل كلام هؤلاء لوضوح كلامهم واشتهاره، كما نصف في نفس الاتجاه أيضًا من يعلل بالثمنية أو الثمنية الغالبة، وهو يصرح بأن هذه العلة قاصرة وليست صالحة للتعدية إلى غير محلها، وهؤلاء يجدر بنا أن نتعرض لبعض أقوالهم وآرائهم نظرًا للالتباس الذي يوحي به التعليل بالثمنية.
ونقف وقفة قبل أن نسترسل معهم لنشير إلى أن بعض العلماء ممن يعترف بمبدأ القياس يقترب في تحليل فقهه من الظاهرية، وكمثال على ذلك نذكر ما نقله إمام الحرمين عن القاضي أبي بكر الباقلاني المالكي – وقد رأينا أنه غير معلل في هذه المسألة – حيث قال القاضي: الكتاب والسنة متلقيان بالقبول والإجماع ملحق بهما، والقياس المستند إلى الإجماع هو الذي يعتمد حكما وأصله متفق عليه.(3/910)
أما الاستدلال فقسم لا يشهد له أصل من الأصول الثلاثة، وليس يدل لعينه دلالة أدلة العقول على مدلولاتها، فانتقاء الدليل على العمل بالاستدلال دليل انتفاء العمل به، وقال أيضًا: المعاني إذا حصرتها الأصول ضبطتها النصوص، كانت منحصرة في ضبط الشارع.
وإذا لم يكن يشترط استنادها إلى الأصول لم ينضبط واتسع الأمر ورجع الشرع إلى اتباع وجوه الرأي واقتنفاء حكمة الحكماء. فيصير ذوو الأحلام بمنزلة الأنبياء، إلى أن قال: ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان وأصناف الخلق، وهو في الحقيقة خروج عما درج عليه الأولون (1) .
ولعل كلام القاضي، وإن كان إمام الحرمين اعترضه، إلا أنه ليس بعيدًا من تفكير الشافعية، فهم وإن كانوا يقولون بالثمنية أو غلبة الثمنية لعلة، إلا أنهم يقولون بأنها علة قاصرة، والعلة القاصرة عند من يقول بها هي التي لا تتعدى معلولها؛ لكونها محل الحكم أو جزء علة أو وصفًا لازمًا.
وقد ناقش علماء الأصول العلة القاصرة لإثبات وجودها، ثم بعد ذلك لتحديد وظيفتها وعلاقتها بهذه المسألة، ومن هؤلاء إمام الحرمين في البرهان (2) .
مسألة: إذا استنبط القائس علة في محل النص، وكانت مقتصرة عليه منحصرة فيه لا تتعداه، فالعلة صحيحة عند الامام الشافعي رضي الله عنه.
ونفرض المسألة في تعليل الشافعي تحريم ربا الفضل في النقدين بالنقدية، وهي خاصة بالنقدين لا تتعداهما، وقد أطال النفس وناقش نفاة العلة القاصرة كالأحناف. وفي هذه المناقشة عرج على مسألة الفلوس أكثر من مرة، فقال: ولقد اضطرب أرباب الأصول عند هذا المنتهى، ونحن نذكر المختار من طرفهم، ونعترض على ما يتطرق الاعتراض إليه، ثم نص على ما نراه.
قال قائلون ممن لا يصحح العلة القاصرة: فائدة تعليل تحريم التفاضل في النقدين تحريم التفاضل في الفلوس إذا جرت نقودا، وهو خرق من قائله، وضبط على الفرع والأصل، فإن المذهب أن الربا لا يجري في الفلوس إن استعملت نقودا، فإن النقدية الشرعية مختصة بالمصنوعات من التبرين، والفلوس في حكم العروض، وإن غلب استعمالها، ثم إن صح المذهب قيل لصاحبه: إن كانت الفلوس داخلة تحت اسم الدراهم فالنص متناول لها، والطلبة بالفائدة قائمة، وإن لم يتناولها النص فالعلة متعدية إذًا، والمسألة مفروضة في العلة القاصرة.
__________
(1) البرهان: 1115 قطر.
(2) البرهان: 1080.(3/911)
كلام إمام الحرمين واضح في أن النقدية قاصرة على النقدين، وافتراضه الجدلي ظاهر في صعوبة منحاه، حيث يجعل النقدية وهي الثمنية علة، ثم يمنع طردها.
ثم قال بعد ذلك: فإن قيل: ما ذكرتموه تصريح باطل إلى التعليل بالنقدية قلنا: لم نر أحدًا ممن خاض في مسائل الربا على تحصيل فيما نورده. والصحيح عندنا أن مسائل الربا شبهية، ومن طلب فيها إخالة اجترأ على العرب، كما قررناه في مجموعاتنا.
ثم الشُّبَهُ على وجوه، فمنها التعلق بالمقصود، وقد بينا أن المقصود من الأشياء الأربعة الطعم، ومن النقدين النقدية، وهي مقتصرة لا محالة وليست علة، إذ لا شبهة فيها ولا إخالة فيها. . . إلى آخر كلامه.
وقال بعد ذلك في التعارض بين العلة القاصرة والمتعدية وما قررناه لا يجري في النقدين، فإن العلة التي عداها الخصم فيهما باطلة من وجوه سوى المعارضة.
وقال أيضًا فإن قيل: قد علل أبو حنيفة رحمه الله في باب النقدين بالوزن وهو متعد إلى كل موزون، وعلل الشافعي رحمه الله بكونهما جوهري النقدين. وهذا مقتصر على محل النص فما قولكم في ذلك؟
قلنا: الوزن علة باطلة عند الشافعية، والقول في التقديم والترجيح يتفرع على اتصاف كل واحدة من العلتين بما يقتضي صحتها لو انفردت (1) .
وقد أوضح النووي في المجموع مذهب الشافعي فقال: وأما الذهب والفضة فالعلة عند الشافعية فيهما كونهما جنس الأثمان غالبًا، وهذه عنده علة قاصرة عليهما؛ إذ لا توجد في غيرهما. وبعد ذلك يوضح المسألة فيقول: إذا راجت الفلوس رواج النقود لم يحرم الربا فيها، هذا هو الصحيح المنصوص وبه قطع المصنف والجمهور (2) .
وقد أطال جلال الدين المحلي في شرحه لجمع الجوامع للسبكي حيث قال ممزوجا بالنص " والعلة القاصرة وهي التي لا تتعدى محل النص منعها قوم أن يعلل بها مطلقًا"، والحنفية منعوها إن لم تكن ثابتة بنص أو اجماع، قالوا جميعا: لعدم فائدتها، وحكاية القاضي أبي بكر الباقلاني الاتفاق على جواز الثابتة بالنص معترضة بحكاية القاضي عبد الوهاب.
__________
(1) البرهان: 1269.
(2) المجموع مطبعة العاصمة: 9/444-447.(3/912)
كما أشار إلى ذلك المصنف بحكاية الخلاف.
والصحيح جوازها مطلقًا، وفائدتها معرفة المناسبة بين الحكم ومحله، فيكون أدعى للقبول ومنع الإلحاق بمحل معلولها، حيث يشتمل على وصف متعد لمعارضتها له ما لم يثبت استغلالها بالعلة، إلى أن قال: ومن صورها ما ضبطه بقوله: "ولا تعدي لها" أي العلة عند كونها محل الحكم، أو جزءه الخاص بأن لا يوجد في غيره، أو وصفه اللازم بأن لا يتصف به غيره لاستحالة التعدي حينئذ.
مثال الأول: تعليل حرمة الربا في الذهب بكونه ذهبًا، وفي الفضة كذلك.
ومثال الثاني: تعليل نقض الوضوء في الخارج من السبيلين بالخروج.
ومثال الثالث: تعليل حرمة الربا في النقدين بكونهما قيم الأشياء.
وبمراجعة كلام السبكي وشارحه جلال الدين يتضح أن الثمنية لا تعني التعدي، وأنها ثمنية تختص بمحل الحكم لكونها وصفه اللازم.
وقد نظم سيدي عبد الله الشنقيطي المالكي في "مراقي السعود" كلام السبكي فقال:
وَعَلَّلُوا بِمَا خَلَتْ مِنْ تَعْدِيَهْ
لِيُعْلَمَ امْتِنَاعُهُ وَالتَّقْوِيَهْ
مِنْهَا مَحَلُّ الْحُكْمِ أَوْ جُزْء وَزَدْ
وَصْفًا إِذَا كُلٌّ لُزُومِيًّا يَرِدْ
قال في شرحه "نشر البنود": يعنى أن المالكية والشافعية والحنابلة جوزوا التعليل بالعلة القاصرة، إلى أن قال: فتعدية العلة شرط في صحة القياس ااتفاقًا، والجمهور على أنها ليست شرطا في صحة التعليل بالوصف كتعليل طهورية الماء بالرقة والنظافة دون الإزالة. وتعليل الربا في النقدين بالنقدية أو بالثمنية أو بغلية الثمنية. . . إلى أن قال: يعني أن من صور العلل القاصرة أن تكون العلة محل الحكم أو جزءه الخاص به أو وصفه اللازم له، والمحل ما وضع اللفظ له كالخمرية، إلى أن قال: والمراد بالوصف اللازم هنا هو ما لا يتصف غير المحل به، كالنقدية في الذهب والفضة، أي كونهما أثمان الأشياء، فإنهما وصف لازم لهما في أكثر البلاد (1) .
ونلاحظ حرصهم على التمثيل للعلة القاصرة بالنقدية أو الثمنية أو غلبة الثمنية، أو كونهما قيمة للأشياء، كل هذا يدل على أن المعللين بالثمنية أو غلبتها ويقولون بقصور العلة، يرون أنها ثمنية من نوع خاص، وهذا كقول البهوتي الحنبلي في زكاة الذهب والفضة في كتابه"كشاف القناع": وهما الأثمان فلا تدخل فيها الفلوس ولو كانت رائجة.
إن النقدية الشرعية - كما سماها إمام الحرمين - تعني فيما يبدو كون النقدين أثمانًا بالخلقة، حين تعتبر ثمنية غيرها ثمنية عارضة.
ونرى أن علماء الفروع بنى كثير منهم على هذه النظرية فقال الشيخ زكريا الشافعي: إنما يحرم الربا في نقدين ذهب وفضة، ولو غير مضروبين كحلي تبر، بخلاف العروض، كفلوس وإن راجت.
وفي الدر المختار للشيخ محمد علاء الدين قوله: يحل بيع فلس بفلسين أو أكثر. وفي حاشية ابن عابدين جوازه عند أبي حنيفة، وأبي يوسف: ليست أثمان خلقة فهي كالعروض.
__________
(1) المنجور: 60.(3/913)
وقد أسقط جل المالكية الزكاة في الفلوس، إلا أن موقفهم ظل من الربوية مترجحًا بين الحكم بها وعدمه، فهي إذًا ثمنية من نوع خاص؛ لأنها وحدها الغالبة، ولأنها: "أصل الأثمان عند الشافعي " (1) ، ولأنها النقد الشرعي، كل هذه العبارات تدل على تهرب المعللين بالعلة القاصرة من شمولها للفلوس وما جرى مجراها.
أما وجهة النظر الأخرى التي تقول بالثمنية المتعدية - سواء عبر عنها بغلبة الثمنية، أي غلبة الاستعمال في التبادل، أو مطلق الثمنية - ويمثلها المالكية؛ لأن مالكًا رحمه الله كره ذلك.
قال ابن القاسم: سألت مالكًا عن الفلوس تباع بالدنانير والدراهم نظرة - أي تأخيرا - ويباع الفلس بالفلسين؟ قال مالك: إني أكره ذلك، وما أراه مثل الذهب والورق في الكراهة.
وفي المدونة نصوص تدل على كراهة مالك لبيع الفلوس بالذهب والفضة نظرة، ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود، وكانت لها عين وسكة فإن مالكًا يكره بيعها بالذهب والفضة نظرة.
وانطلاقا من نص الامام فإن علماء المالكية وضعوا قاعدة الثمنية أوغلبيتها، أي هل تعتبر مطلق الثمنية كافيا لتلحق الفلوس بالنقدين، أو لا بد من أن يكون استعمالها غالبا؟ وكلا العلتين متعدية عند أكثر المتأخرين من أصحاب مالك، إلا أنهم بسبب الترجح بين العلتين، أي بين علة واقعة وهي الثمنية القائمة في الفلوس فعلا، وبين علة لم تقع زمانهم وهي غلبة الثمنية، وعلى أصل مالك في التوسط بين الدليلين وهو ما يسمى بالبينية، أي وجود حكم بين دليلين، وهو إعمال كل من الدليلين من وجه يناسب أعماله.
__________
(1) المنجور: 60.(3/914)
قال الزقاق في المنهج المنتخب:
وَبَيْع ذِمِّيٍّ وَعِتْق هَلْ وَرَدْ
الْحُكْم بَيْنَ كَوْنِهِ اعْتَقدْ
كَالْبَيْعِ منْ شَرط يَصِحّ وَبَطلْ
وَحُكْمُ زِنْدِيقٍ وَشُبهة نقلْ
قال المنجور في شرحه (مخطوطة) ابن التلاميذ الشنقيطي ص57: اختلف هل ورد الحكم بين بين، أي حكم بين حكمين، فأثبته المالكية وهو من أصولهم، ونفاه الشافعية، ويعمل به عند من أثبته في بعض صور تعارض الأدلة ولا ترجيح، كما أذا اشبه الفرع أصلين ولم يترجح أحد الشبهين، ونقل أمثلة منها البيع بشرط عدم القيام بالجائحة، فإن البيع يصح والشرط يبطل، وساق الأدلة المتعلقة بالشروط، إلى أن قال: قال أبو عبد الله المقري: قاعدة: قال ابن العربي: القضاء بالترجيح لا يقطع حكم المرجوح بالكلية، بل يجب العطل عليه بحسب مرتبته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام ((الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة)) .
وهذا مستند مالك فيما كره أكله، فإنه حكم بالتحليل لظهور الدليل وأعطى المعارض أثره، فتبين مسائله تجدها على ما رسمت لك.
وقد نقل قبل ذلك انتقاد تقي الدين ابن دقيق العيد حيث قال عنه: "جعل بعض المالكية الحديث دليلا لقاعدة من قواعد مذهبهم، هي أن الفرع إذا أشبه أصلين ودار بينهما يعطى حكمًا بين حكمين؛ لأنه لو أعطى حكم أحدهما فقط لزم إلغاء شبهة بالآخر، والفرض أنه أشبه" إلى آخر كلامه (1) . انتهى محل الاستشهاد منه.
ولهذا فإن كثير من علماء المذهب المالكي جزموا بالكراهة وقالوا: إن " أَكْرَهُ " على بابها ولا تعنى الحرمة، وبنوا هذه المسألة أيضًا على قاعدة أخرى هي قولهم: هل يعطى النادر حكم نفسه، أو يلحق بالغالب في حكمه؟ قال أبو عبد الله المقري في قواعده:
قاعدة: اختلف المالكية في مراعاة حكم النادر، في نفسه أو إجراء حكم الغالب عليه، وقد نظم ذلك أبو الحسن على بن القاسم الفاسي الشهير بالزقاق في المنهج المنتخب فقال:
وَهَلْ لِمَا نَدُرْ حُكْمُ مَا غَلَبْ
أَوْ حُكْمُ نَفْس كَالْفُلُوسِ وَالرُّطَبْ
وَكَسُلَحْفَاةٍ وَقُوتٍ نَدُرَا
كَذَا مُخُالِطٌ وَعَكْسٌ ذُكٍرَا.
__________
(1) المنجور (مخطوط) : 57.(3/915)
قال أحمد بن علي الشهير بالمنجور في شرحه لهذه الأبيات: أي نوادر الصور هل تعطى حكم نفسها أو حكم غالبها؟ وعليه إجراء ابن بشير الربا في الفلوس، ثالثها يكره، ورد إجراء اللخمي على أنه في العين غير معلل، والعلة الثمنية والقيمة. يقول أشهب: إن القائسين مُجمعون على التعليل، وإن اختلفوا في عين العلة، اللخمي: من رأى أن علة الربا في النقدين كونهما أثمان المبيعات وقيمة المتلفات، ألحق بهما الفلوس. ومن رأى أنه شرع غير معلل منع لحوق الفلوس بهما، ابن بشير: وهذا غير صحيح للإجماع أنه معلل، وإنما اختلفوا في عين العلة، وإنما سبب الخلاف في الفلوس الصور النادرة هل تراعى؟ فمن رعاها ألحق الفلوس بالعين، ومن لا فلا. ويمكن أن يتخرج الخلاف فيها على اختلاف العوائد، فيحمل على الجواز حيث لا يعمل بها والمنع على العكس. ثم قال بعد ذكر بعض الأمثلة وذكر نص المقري في القاعدة السابقة: هو عندي على أن العلة في العين كونها ثمنًا أو قيمة أو كونها أصلاً في ذلك الشافعى.
وقال النعمان بالوزن وأجرى الربا في كل موزون، وقال ابن العربي: ليست العلة القاصرة في الأصول إلا في هذه المسألة (1) .
__________
(1) المنجور (مخطوط) : 60.(3/916)
يلاحظ عزو المنجور الإجماع على التعليل لابن بشير، وقد علمت مما مر أن الإجماع غير وارد، والصواب مع أشهب أن الإجماع إجماع القائسين، ثم أن اللخمي من علماء مذهب الإمام مالك يعتبر خلافه مؤثرا داخل المذهب، حتى إن خليلاً في مختصره التزم ذكر اختياراته.
وقد أوجز ميارة الفاسي موقف المالكية بقوله في التكميل:
الثَّمَنِيَّة وَقِيلَ الْغَلَبَهْ
فِي الثَّمَنِيَّة فَحَقِّقْ مَذْهَبَهْ.
عِلَّة ذَا الرِّبَا عَلَيْهِمَا الْفلُوس
نُقُودًا أَوْ عَرَضًا فَحقِّقِ الْأُسس
وَجُلُّ قَوْلِهِ الْكَرَاهِيَةَ بِذَا
تَوَسُّطًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ خُذَا
قال الرهوني في حاشيته على الزرقاني: إن مالكا رحمه الله تردد في علة الربا في النقدين، هل هي الثمنية المطلقة فتكون الفلوس ربوية؟ أو الثمنية المقيدة بالغالبية فلا تكون الفلوس ربوية؟ ففى بعض أبواب الفقه جعل العلة هي الثمنية المطلقة كالسلم؛ لأنه جعل الفلوس فيه كالعين، وكذلك في باب الرهن وغيرهما، وفي بعض الأبواب جعلها الثمنية المقيدة بالغالبية كالقراض؛ لأنه قال: لا يقارض بالفلوس؛ لأنها تؤول إلى الفساد والكساد، فجعلها كالعرض، ولم يجعلها كالعين في كل شيء، وقد اختصر مذهبه ابن عرفة بقوله: وفي كون الفلوس ربوية ثالث الروايات يكره فيها. . . إلى آخره.
ومع أن جميع شروح خليل ذكروا القول بالحرمة في باب السلم، فإنهم ذكروا الكراهة، وقال الرهوني: إنها الراجحة، ولكنهم تركوا الباب مفتوحًا لتحقيق المناط، أي للحكم بالربوية عندما تتحقق غلبية الثمنية؛ لأنهم لا يفسرون الغلبية كما يفسرها غيرهم بأنها صفة لازمة للنقدين لتكون العلة قاصرة.
وإنما اعتبروها حالة واقعة بحيث إذا تحققت تلك الحال فلا مناص من تحقق الحكم طبقا لتعريف جمهور الأصوليين، فإن تحقيق المناط إثبات الصلة المتفق عليها أصلا في الفرع.
قال سيدي عبد الله الشنقيطي ناظما كلام السبكي في جمع الجوامع:
تَحْقِيق عِلّة عَلَيْهَا ائْتَلَفَا
فِي الْفَرْعِ تَحْقِيقُ مَنَاط ألفَا
قال في نشر البنود: يعنى أن تحقيق المناط، أي العلة هو إثبات العلة المتفق عليها في الفرع كتحقيق أن النباش الذي ينبش القبور ويأخذ الأكفان سارق، فإنه وجدت فيه العلة وهي أخذ المال خفية من حرز مثله، فيقطع خلافا لأبي حنيفة.(3/917)
وتجدر الإشارة هنا إلى أن: تحقيق المناط ليس من المسالك، بل هو دليل تثبت به الأحكام، فلا خلاف في وجوب العمل به بين الأمة، وإليه يحتاج في كل شريعة. قال أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: "لابد من الاجتهاد فيه في كل زمن، ولا ينقطع؛ إذ لا يمكن التكليف إلا به ومنه".
وقال القرافي في شرح التنقيح في تعريفه ما نصه: "وأما تحقيق المناط فهو تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع".
مثاله: أن يتفق على أن العلة في الربا (يعنى في البر والشعير) هي القوت الغالب ويختلف في الربا في التين، بناء على أنه يقتات به غالبا في الأندلس أو لا، نظرا إلى الحجاز وغيره، فهذا هو تحقيق المناط، ينظر هل هو محقق أم لا بعد الاتفاق عليه. ومثله في البيضاوي.
وعرفه الآمدي في الإحكام بأنه النظر في معرفة وجود علة الحكم ومناطه في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها. ومثل له بالنظر في وجود علة تحريم الخمر، وهي الشدة المطربة في النبيذ.
وسلك الإمام الغزالي في تعريفه طريقا آخر ترجع إلى الاجتهاد في تطبيق حكم كلي منصوص عليه في بعض جزئياته، فقال في كتابه المستصفى ما نصه: "أما الاجتهادي في تحقيق مناط الحكم فلا نعرف خلافا بين الأمة في جوازه، مثاله: الاجتهاد في تعيين الإمام بالاجتهاد مع قدرة الشارع على تعيين الإمام الأول بالنص، وكذا تعيين الولاة والقضاة، وكذلك في تقدير المقدرات وتقدير الكفايات في نفقة القرابات وإيجاد المثل في قيم المتلفات، وأروش الجنايات وطلب المثل في جزاء الصيد، فإن مناط الحكم في نفقة القريب الكفاية، وذلك معلوم بالنص، أما أن الرطل كفاية لهذا الشخص أم لا فيدرك بالاجتهاد والتخمين.
فتحصل من مراجعة كتب المالكية والعلل التي أشاروا إليها والقواعد التي قعدوها في المسألة قيام ثلاثة أقول:
1- قول بالتحريم.
2- وقول بالجواز.
وقول بالكراهة.(3/918)
ومن المعلوم أن بعض العلماء الأعلام خارج المذهب المالكي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى يتخذان موقفا متميزًا يجعل الثمنية المطلقة علة صالحة وكافية للحكم بربوية النقود، وقد أكدوا ذلك تأكيدا لا يضاهيه إلا موقف القاضي أبو بكر بن العربي رحمهم الله جميعًا حيث قال في " العارضة" عند كلامه على حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ما نصه: "نبه بالبر على ما يقتات في حال الاختيار، وبالشعير على ما يقتات في حال الاضطرار، وبالتمر على القوت الذي يتحلى به كالزبيب والعسل، ونبه بالملح على ما يصلح الأقوات من توابل الطعام. ونبه بالذهب والفضة على ما يتخذ أثمانًا للأشياء وقيما للمتلفات كالفلوس ونحوها. وهذه حكم ما غاص على جوهرها إلا مالك، وقد بيناها في مسائل الخلاف للنظر هنالك، وذكر علماؤنا عن مالك أن علة الربا في النقدين كونهما أثمانًا للأشياء، وقيما للمتلفات، وأنهما علة قاصرة لا تتعدى، وقال مالك: إنها تتعدى إلى ما يتخذه الناس أثمانًا للأشياء، حتى لو اتخذ الناس الجلود بينهم أثمانًا لجرى فيها الربا، وقد رأيت أهل بغداد يتجرون بالخبز، حتى إن الحمام يُدخل به، وبه يبتاع كل إدام، فإذا اجتمع عندهم أوردوه على الخباز باردًا، وباعه بسعر آخر حتى يفنى بالأكل، إذ لا يعاد ثانية إلى الشراء به، فصارت العلة عند مالك معنوية، وهو الصحيح".(3/919)
وتكلم أبو عبد الله محمد بن خليفة الوشتاتي المالكي الشهير بالأبي في شرح صحيح مسلم عند كلامه على حديث أبي سعيد الخدري ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)) .
فذكر قولين في الفلوس واستشهد لربويتها بقول المدونة في آخر السلم " الثالث: لا يصح فلس بفلسين لا نقدا ولا مؤجلاً".
ثم قال في تعريف الصرف: الصرف بيع الذهب بالفضة أو أحدهما بفلوس لقوله في المدونة " ومن صرف دراهم بفلوس، فأطلق على ذلك اسم الصرف. والأصل في الإطلاق الحقيقة".
وذكر كل شراح خليل الخلاف في المسألة مفرعين على الحرمة غالبًا في الصرف وعلى الكراهة أيضًا، ويجري مثل ذلك في السلم، وكلامهم معروف لا نطيل عليكم بنقله.
المناقشة
فتلخص مما مر قيام مذهبين أو موقفين من النقود الورقية:
أولهما: موقف من يقول بعدم ربوية النقود، أو على الأصح يذهب إلى عدمها؛ لأنه لا نص من الأقدمين في النقود الورقية، ولكنها مشمولة بالعموم، وبالنص على المثيل، وهذا الموقف هو رأي أكثر العلماء كما أسلفنا.
ويمكن إرجاع بواعثهم حسب رأينا إذا قرأنا كلامهم قراءة متأنية إلى ما يلي:
1- أن تحريم الربا أمر تعبدي لا تظهر له علة واضحة معقولة، فهو من قبيل الابتلاء والاختبار، وما كان من هذا القبيل يقتصر فيه على محل الورود.
2- أن الذهب والفضة لهما مزايا وخصائص لا توجد في غيرهما، فهما معدنان نفيسان قابلان للكنز واختزان الثروة، ويبقيان على الزمن، هذا من ناحية الخلقة، أما من الناحية الشرعية فيحرم اقتناء آنيتهما، ولا يجوز التحلي بهما للرجال غير ما استثنى الشارع. فهما أثمان بالخلقة، وهما أصل الثمنية، وهما النقدان الشرعيان.
3- صعوبة إبراز علة مقنعة سالمة من القوادح مطردة منعكسة، وقد قدمنا قول إمام الحرمين أنه لا شبهة فيها ولا إخالة.(3/920)
4- نوع من الخوف من التجاوز والافتيات على النصوص، نجد مثالاً له في ترجيح العلة القاصرة على المتعدية على رأي الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني إذا صح التعليل بهما "ومن رجح العلة القاصرة احتج بأنها متأيدة بالنص، وصاحبها آمن من الزلل في حكم العلة، فكان التمسك بها أولى" (1) .
5- أن ثمنية غير النقدين ثمنية مستعارة ومعرضة الزوال في أي لحظة، ومن شأن هذا أن يجعل الثمنية فيه صفة عارضة.
6- أن التحريم تكليف والتكليف يحتاج إلى ورود النص كحديث ((الطعام بالطعام)) الذي جعل الشافعي رحمه الله يرجع عله الطعمية، ويسهل ذلك على أصحابه المترددين في قبول العلة، وقبول تعديها، ولأن جهة التحريم محصورة، وجهة الإباحة لا حصر لها، فالواقعة إذا ترددت بين الطرفين ووجدت في شق الحصر فذلك، وإلا حكم فيها بحكم الآخر الذي أعفي من الحصر.
7- في الربا من الخطورة والتحريم ما لو كان قائمًا في هذه المسألة ما ترك بيانها، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] .
أما الفريق الآخر فيعتضد بما يلي:
1- الشريعة جاءت لمصالح العباد ويستحيل أن تحرم شيئًا لمفسدة، وتترك شيئا فيه نفس المفسدة فنظير الحرام حرام (2) .
2- التعليل أولى لأنه أكثر فائدة، وترك التعليل خشية، وما في ترجيح العلة القاصرة من الأمن لا وقع له، فإنه راجع إلى استشعار خيفة، لا إلى تغليب ظن وتلويح متلقى من مسالك الاجتهاد (3) .
3- إعمال التعليل في أربعة من الستة وتركه في اثنين تحكم، أي ترجيح بلا مرجح.
4- أن الغلبة الثمنية أصبحت واقعًا للنقود الورقية، فالاعتراف لها بأحكام النقدين إنما هو من تحقيق المناط وليس إحداثًا لاجتهاد جديد إلا بقدر ما يقتضيه تحقيق المناط؛ لأن الحكم كان موجودا معلقًا، وقد تحقق شرطه في جزئيته، فيجب إثبات الحكم.
__________
(1) البرهان: 1266.
(2) ابن القيم. إعلام الموقعين.
(3) البرهان: 1267.(3/921)
5- أن عدم إجراء الربا فيها تعطيل لحكم يتعلق بمسألة خطيرة من مسائل المعاملات.
وبعد، فإن تصفح كلام العلماء لا شك يساعد على تكوين رأي وإعطاء صورة مميزة لأي موضوع، ذلك هو الهدف وراء مراجعة كلام الأقدمين والمتأخرين، ومقارنة أقوال المحللين والمحرمين.
إلا أن النتيجة الأولى التي يمكن أن يخرج بها المرء بعد أن طالع أقوال الفقهاء، هي ملاحظة الاضطراب الواضح عند أكثرهم في هذه المسألة، فلا يكاد أحدهم يبرم رأيا إلا كر عليه بالنقض، ولا يبسط وجها إلا عاد عليه بالقبض، وهكذا دواليك، حتى يقول القارئ: حنانيك بعض القول أهون من بعض، والفلوس إلا تكن عينًا فإنها ليست غير عرض ((ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)) .
والشبهة بدون شك قائمة إذ حدها: ما تجاذبته الأدلة، أو أشبه أصلين دون قياس علة مستقل، وهنا تجاذب هذه القضية العفو، وهو أصل يرجع إليه عند سكوت الشارع، وعدم ثبوت سبب أو قيام مانع لحديث: ((وما سكت عنه فهو عفو فاقبلو من الله عافيته، فإن الله لم يكن ينسى شيئًا. ثم تلا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] )) (1) .
__________
(1) أخرجه البزار في مسنده، والحاكم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال البزار: إسناده صالح.(3/922)
والأصل الثاني: هو شبه النقود الورقية بالعين لوجود علة مظنونة وحكمة مقدرة، وقد أجمل الفخر الرازي حكمة الربا في أربعة أسباب:
1- أولهما أنه أخذ مال الغير بغير عوض.
2- ثانيهما: أن في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاق الاشتغال في الاكتساب؛ لأنه إذا تعود صاحب المال أخذ الربا؛ خف عليه اكتساب المعيشة، فإذا فشى في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق؛ لأن مصلحة العالم لا تنتظم إلا بالتجارة والصناعة والعمارة.
3- الثالث: أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض.
4- الرابع: أن الغالب في المقرض أن يكون غنيًا، وفي المستقرض أن يكون فقيرًا، فلو أبيح الربا لتمكن الغني من أخذ مال الضعيف (1) .
وعلله الشيخ ابن عاشور بأنه حكم معلل بالمظنة.
أن كثرة العلل قد يدل على صعوبة التعليل، وفي التعليل بالمظنة خروج من المأزق، وكل ذلك يدل على صعوبة مركب القائسين وتوجه وجه حكم بين حكمين، لاشتباه الشبه في أوجه السالكين، فالشبهة تنشأ عن أسباب منها كون النص خفيا وورود نصين متعارضين، ومنها ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيرا" (2) .
ومعلوم أن موضوعنا لا يوجد فيه نص خفي أو ظاهر، فضلا عن وجود نصين متعارضين، فهو بالطبع من النوع الثالث الذي يؤخذ من القياس، وقد اختلف فيه العلماء، فهو إذًا شبهة، فما هو حكم الشبهة؟
وقد فسر الإمام أحمد رحمه الله الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام (3) .
وقال الماوردي "هي المكروه؛ لأنه عقبة بين الحلال والحرام" (4) .
__________
(1) التحرير والتنوير للشيخ ابن عاشور: 3/85-86.
(2) جامع العلوم والحكم. ابن رجب: 60.
(3) نفس المصدر 61.
(4) الشبرخيتي على الأربعين النووية: 113.(3/923)
فإذا كان الأمر على ما ذكرت، والإمام مالك يصرح بالكراهة، ومن أصول مذهبه قيام حكم بين حكمين، والأئمة الآخرون لا يكرهون، فأنا أكره ما كرهه مالك رحمه الله، والكراهة حكم من الأحكام الخمسة يجب أن يعاد إلى حياة المسلمين العملية في بيوعهم وأنكحتهم، فيمتاز أهل الورع عن غيرهم، ويترك لذي الحاجة مندوحة عن ارتكاب الأثم السافر، إلا أنها كراهة تحريم شديدة، والله أعلم.
وكأني بقائل يقول: أحللت الربا، وأنا أقول ما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أفتى في الخمر بأنها إذا طبخت وتخللت حتى ذهبت شدتها يجوز شربها، فقال له قائل: احللتها ياعمر. فقال: والله لا أحل إلا ما أحل الله ولا أحرم إلا ما حرم الله، والحق أحق أن يتبع".(3/924)
المسألة الثالثة
التغيرات التي تطرأ على العملات من غير الذهب والفضة من بطلان ونقصان أو رجحان، وأثرها في المعاملات:
1- إذا بطل التداول بعملة كانت رائجة في جميع البلدان، فهل لذلك تأثير على العقود التي وقعت بها؟
ومن كانت مترتبة في ذمته، فهل له أن يدفعها بعينها وإن كانت باطلة، أو عليه أن يدفع قيمتها؟
في ذلك مذاهب، ومذهب أبي حنيفة أن العقد يفسد ببطلان رواج الثمن، ويفسخ البيع ما دام ذلك ممكنا بوجود المبيع بحاله قبل قبضه، فيرده المشتري، وإن تلف رد مثله أو قيمته، وإن كانت قرضا أو مهرا مؤجلاً رد مثلها وإن كانت كاسدة؛ لأنها هي الثابتة في ذمته.
والمشهور عند الشافعية والمالكية أن ذلك لا يفسد العقد، وأن الذي ترتب في ذمة المدين وليس عليه الدائن سواه، ويعتبر ذلك كجائحة نزلت به، سواء كان الدين قرضا أو ثمن مبيع أوغير ذلك، وذهب بعض المالكية إلى أن الواجب على المدين السلعة يوم قبضها من العملة الرائجة.
ومن الجدير بالملاحظة أن الخلاف في المذهب المالكي، وإن كان الراجح فيه أن يدفع مثل الفلوس الباطلة، كما قال خليل في مختصره: "وإن بطلت فلوس فالمثل، أو عدمت فالقيمة"، فإنهم مع ذلك بنوا هذه المسألة على قاعدة يفهم منها اعتبار القول المقابل؛ لأنهم بنوا عليه لزوم القيمة إذا مطل المدين، وبناء القول الراجح على قول مرجوح يدل على أن له حظا من النظر، تلك القاعدة هي: إذا فقد المعنى المقصود مع وجود العين المحسوسة، هل يجعل الحكم تابعًا للمعنى فيقرر بعدمه عدم العين، أو لا يقدر كالعدم لوجود عينه؟
قال ميارة الفاسي في تكميل المنهج:
إِن فقدَ الْمعنَى الذي قَد قَصَدَا
مع بقاءِ العينِ فِي حسٍّ بَدَا
هلْ يجعلُ الحكمَ لمعنًى تَبعا
أو يتبعُ العين خلافٌ سُمِعَا
كَسِكةٍ فِي ذمةٍ ثم انقطعْ
بِهَا التعاملُ فَحقّقْ تتبعْ
لِلأولِ القيمةُ والثاني المثل
وشهرَ الثاني نعم به العمل
لكنه مقيدٌ بما إِذا
لم يحصلِ المطلُ فقلْ ياحبَّذَا
وإن يكن فأوجبنْ عليهِ ما
آلَ لهُ الأمرُ لظلمٍ قد سَمَا
قلتُ وهذا ظاهرٌ إِن كان ما
آلَ له الأمرُ رفيعًا فَاعْلَمَا
(1) .
__________
(1) تكميل المنهج شرح الفقيه محمد الأمين بن أحمد زيدان الشنقيطي دار الكتاب المصري: 53.(3/925)
2- بطلان رواجها في بعض البلاد دون بعض، فالمشهور عند الأحناف أن ذلك لا يوجب فساد العقد، وأن البائع بالخيار بين أن يدفع له المشتري العملة التي وقع العقد عليها، أو التي تروج في بعض البلدان، وإن كانت لا تروج في بلد البيع، وبين أخذ قيمتها من عملة رائجة فيه، وحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن الحكم في ذلك مثل الحكم في بطلان العملة في جميع البلدان.
3- انعدام العملة المترتبة في الذمة بفقدانها وعدم توفرها في الأسواق، والجمهور على أنه تجب قيمتها، إلا أنهم اختلفوا في الوقت الذي تجب فيه، فعند الحنابلة أنه آخر وقت قبل الانقطاع، وهو مذهب الحنفية المفتى به عندهم وهو، قول محمد بن الحسن، وقال أبو يوسف: إنه يوم التعامل.
وأما أبو حنيفة فقال: إن ذلك يوجب فسادا لبيع كبطلان العملة، وعند الشافعية أن القيمة تجب في وقت المطالبة.
والمشهور عند المالكية أنها تجب في أبعد الأجلين من الاستحقاق والانعدام، على ما اختاره خليل بن إسحاق في مختصره تبعًا لابن الحاجب، والقول الثاني أنها تعتبر يوم الحكم، قال أبو الحسن: وهو الصواب. البرزلي: وهو ظاهر المدونة.(3/926)
فكان على المصنف أن يذكر القولين أو يقتصر على الثاني.
4- طرق النقصان والرجحان، أي أن العملة بعد تقررها في ذمة المدين تغيرت قيمتها بالزيادة أو بالنقص، فماذا عليه أن يؤديه للداين في هذه الحال؟
فيه ثلاث أقوال:
الأول: وهو المشهور عند المالكية والشافعية والحنابلة وقولٌ لأبي حنيفة: أن الواجب على المدين أداؤه نفس العملة التي وقع التعاقد عليها وإن نقصت أو زادت.
الثانى: قول أبي يوسف وهو: أن على المدين أن يؤدي قيمة العملة التي تغيرت بالنقصان أو بالزيادة، ولا يلزم الدائن أن يقبل ما وقع عليه التعاقد إذا نقص.
الثالث: ما استظهره الرهوني من التفصيل مقيدا به القول المشهور في مذهب المالكية من كون اللازم في بطلان الفلوس وأولى تغيرها بالزيادة والنقصان؛ هو المثل. قال: وينبغى أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه؛ لوجود العلة التي علل بها المخالف (1) .
__________
(1) الزرقاني على مختصر خليل: 5/60.(3/927)
وبعد، فإن تفصيل الرهوني جيد، إلا أنه لم يحدد النسبة التي إذا وصل إليها الرخص رجع بها الدائن على المدين، سواء كان دين قرض يقصد به المعروف والإحسان أو دين بيع تتوخى فيه المكايسة والربح، ونحن نقترح للبحث نسبة الثلث قياسا له على الجائحة في الثمار؛ لأن الجائحة أمر خارج عن إرادة المتعاقدين، وليست من فعل أحد حتى يرجع عليه البائع أن شاء. أما ما كان بفعل آدمي فقال القاضي: المشتري بالخيار بين فسخ العقد ومطالبة البائع بالثمن، وبين البقاء عليه ومطالبة الجاني بالقيمة، وهنا لا يوجد شخص معين مسئول حتى يقيم عليه المتضرر دعوى، فالحكمة في الجائحة أنه لما كان الناس لابد لهم من بيع ثمارهم أَمَرَ الشارع برد الجائحة.
ففى الحديث ((إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، لم تأخذ مال أخيك بغير حق؟)) ، رواه مسلم في صحيحه وابن ماجه وأحمد، يدل على أن العلة في وضع الجائحة هو أخذ المال بغير حق، وهو إيماء إلى العلة، وذهب إلى اعتبار الجائحة في الجملة أحمد ومالك وأكثر أهل المدينة، وبه قال الشافعي في القديم،، وقد رد الاستشهاد بالحديث الذي تمسك به الشافعي في الجديد وأبو حنيفة.
وقال مالك: إن الجائحة تكون في ضمان البائع إذا وصلت إلى الثلث فما فوق، وهي رواية عن أحمد.(3/928)
كما أن الثلث يعتبر في الغبن الذي يقع على أحد المتعاقدين قبل الاكتفاء بالثلث، لتحقيق الغبن عند ابن عاصم، وقيل: لا بد من الزيادة على الثلث عند ابن القصار، ونفى خليل اعتباره مطلقًا فقال: "لا بغبن، ولو خالف العادة".
وقال ابن عاصم الغرناطي:
وَمَنْ بِغَبْنٍ فِي مَبِيعٍ قَامَا
فَشَرْطُهُ أَنْ لاَ يَجُوزَ الْعَامَا
وَأَنْ يكونَ جَاهِلاً بِمَا صَنَعْ
وَالْغَبْنُ بِالثُّلُثِ فَمَا زَادَ وَقَعْ.
والحاصل أن الغرر اليسير مغتفر، والغرر الكثير معتبر، والثلث مرة كثير ومرة يسير عند الفقهاء. قال الزقاق في المنهج المنتخب:
وكثرةُ الثلثِ فِي الْمعَاقلهْ
جَائِحَة خَفَّ وحملُ العاقلهْ
وَذَنب الأضْحَاةِ وَالَّذي اسْتحَقّ
مِن فندقٍ وشبهه قاضٍ يحقّ
أَن ْيَنْقَسمَ كَدَارِ سُكْنَى رَدفْ
لاَ ضرَّ لا نَقْصَ وفِي الْعَيْبْ اخْتلفْ
فِي الدَّارِ كالمِثلي مُطلقًا كَما
فِي ذنب وَنَزر نصفٌ عُلِمَا
إلى أن قال في المسائل التي يعتبر الثلث فيها نزرًا، إذ لابد من الزيادة عليه لإحداث حكم مؤثر:(3/929)
أمَّا مسائل الوصايا وَالْغَلثْ
تَبرعُ العرسِ فَمن نزرَ الثلثْ
فِي قصدِهَا لا ذِي خلافٍ وَثمرْ
كصُبْرةٍ دَانيةٍ وَمن ذكرْ
غَبنًا فَمنْهُ وبياض قَد ألفْ
فِي أُذنِ أصخاةٍ تَرددٌ عُرفْ
كَحليةٍ وَالحوزِ والأباري
مَسَائل الزَّكاةِ غرس جَارِي
تَبرعُ المريضِ أو حَابى وما
ضُمِن كالعرسِ وَشبه عُلِمَا
أجمل المنجور في شرحه هذه الأبيات عند كلامه على الغبن أقوال المالكية.
فقال ابن عبد السلام: مشهور المذهب عدم القيام بالغبن، وعن ابن الحاجب قيل: الثلث غبن، وقيل: ما خرج عن المعتاد. ابن القصار: يقام بالغبن إذا زاد على الثلث.
ولعل هذه المسألة يرجع فيها إلى قاعدة أخرى، وهي: هل يتعين ما في الذمة أو لا يتعين، فإذا قلنا بتعيينه لزمه ما تقرر في الذمة يوم التعاقد قدرًا وصفة، وإذا قلنا بعدم تعينه لم يلزمه إلا ما آل إليه الأمل، وهذه القاعدة ذكرها صاحب المنهج المنتخب فقال:
وَهل تعين لِمَا فِي الذمةِ
هل ينقل الحكم بعَيدِ نيتى
تبدلت ... إلخ. يراجع في هذه المسألة المنجور، والفرق السابع والثمانون من فروق شهاب الدين الفراقي.
والله ولي التوفيق والهادي إلى سواء الطريق.(3/930)
الخلاصة
الحاصل أن هذه المسألة وإن كانت أكثر نصوص الفقهاء فيها على عدم إلزام المدين بجبر الضرر الذي نزل بالدائن؛ فإن وجه المصلحة بيّن، واندراج هذه الجزئية تحت عمومات كثيرة ترقى بها عن المصالح المرسلة لتجعلها في نطاق المصالح المعتبرة للشارع؛ لعموم قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وخبر ((لا ضرر ولا ضرار)) ، ((ولم تأخذ مال أخيك بغير حق؟)) .
وهي جديرة بالاجتهاد؛ لأن تغير العملة يقترب من الجوائح كالثمار في مهب الرياح الغوادي والروائح مما يستدعي الاستنجاد بمقيدات ومرسلات المصالح.
وبهذا يقيد استرسال الأقلام، ونكتفى من طرق الموضوع بالإلمام، وإن لا نكن قد وفقنا في فتق رتقه وفتحه، فعسى أن نكون قد ساهمنا في إثارة بحثه وطرحه.
ونستغفر الله العظيم ونتوب إليه مما بدر منا فيه من هفوة أو زلل، أو تقصير في حق أو تجاوز في نطق أو علم.
اللهم صل على عبدك ونبيك سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلم تسليمًا.(3/931)
الوثائق
أحكام النقود واستبدال العملات في الفقه الإسلامي
فضيلة الدكتور علي أحمد السالوس
بسم الله الرحمن الرحيم
أحكام النقود واستبدال العملات في الفقه الإسلامي
الحمد لله، نحمده سبحانه وتعالى، ونستعينه ونستهديه، ونسأله عز وجل أن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل، ونصلي ونسلم على سيدنا رسول الله وعلى آله وصبحه ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أيها الأخوة. . .
الذين يدرسون تاريخ النقود، وتاريخ التعامل البشري، يعرفون أن الإنسان، مر بمراحل تسبق النقود، عندما كان هناك نظام المقايضة، وأن نظام المقايضة كانت له عيوبه الكثيرة، ولذلك اهتدى الإنسان بفضل الله تعالى، إلى اختراع وسيلة للتبادل، تكون مقياسًا للقيمة، وتكون معيارًا متعارفًا عليه، لتقييم السلع والخدمات، ووسيلة للتعامل، يقبلها الناس، عامة الناس.(3/932)
اتخذ الإنسان أشياء معينة أو أنواعًا معينة من السلع، إلى أن هداه الله تعالى إلى الذهب والفضة. فأخذ الإنسان يتعامل بهذين المعدنين كالنقود؛ لما للذهب والفضة من خصائص تميز كلا منهما، من حيث البقاء دون تلف، والتقسيم إلى قطع، وعدم التغير بالاستعمال، وعدم التغير بالتخزين. . . إلى آخره.
لا نريد أن نخوض كثيرًا في هذه النواحى الاقتصادية، ولكن الذي أريد أن أقوله بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بعث كان العالم آنذاك يتعامل بنوعين من النقود، هما: الدينار الذهبي، والدرهم الفضى.
وقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم أحكامًا عامة لتعامل الناس، من هذه الأحكام ما يتصل بالنقود، ولذلك نجد في أبواب الفقه بابًا يسمى "باب الصرف"، وهذا خلاف النحو والصرف.
ونجد عنوان "الربا في الصرف"، فما الصرف؟
تعريف الفقهاء للصرف هو: بيع الأثمان بعضها ببعض: فإذا بعنا ثمنًا بثمن فهو صرف. والأثمان آنذاك كانت من الدنانير الذهبية والدراهم الفضية، هذا الباب" - باب الصرف - له أحكام خاصة.
حتى نعرف هذه الأحكام، ننظر إلى ما روي من أحاديث شريفة تبين هذه الأحكام.
من هذه الأحاديث الشريفة ما رواه الإمام مسلم فى صحيحه، من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد)) . ومن الأحاديث الشريفة الأخرى: ((الذهب بالورق ربا، إلا هاء وهاء)) (والورق: العملة الفضية) .
وفي رواية أخرى: ((فمن زاد أو استزدا فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء)) .
إذا تتبعنا أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد أن هذه الأحكام التي ذكرت اتصلت بستة أصناف هي: القمح، والشعير، والتمر، والملح، والذهب أو الدينار، والفضة أو الدرهم.
وهذه الأصناف الستة هي المسماة بالأصناف الربوية، أي الأصناف التي لها تعامل خاص، فإذا خالفنا هذا التعامل وقعنا في الربا.(3/933)
ما هذا التعامل؟
ننظر مرة أخرى: بعد ذكر الأصناف ((مثلاً بمثل، سواء بسواء)) ، ثم ((يدًا بيد)) وفي حديث آخر ((هاء وهاء)) وكلمة هاء معناها: خذ، ومعنى ذلك أن كل واحد من المتبايعين يقول للآخر: خذ وفي رواية ((هاء وهات)) أي خذ وهات.
من هذه الأحاديث الشريفة استنبط الفقهاء شرطين واضحين، ولا خلاف حول هذين الشرطين.
ما هذان الشرطان؟
الأصناف الستة التي ذكرت، عند تبادل صنف بصنف من نفس الجنس، وإن اختلفا في الجودة أو الرداءة، لا بد أن يكون بنفس الكيل أو الوزن؛ ((مثلاً بمثل، سواء بسواء)) هذا شرط.
والشرط الثاني هو ((يدًا بيد)) ((هاء وهاء)) خذ وهات، أي القبض في المجلس. إذن معنى هذا أيها الأخوة، أننا عندما نتعامل في هذه الأصناف الستة – حتى لا نقع في الربا، ولسنا في حاجة إلى أن نتحدث عن الربا وما ذكره القرآن الكريم عن هذا الموضوع وكذلك السنة النبوية الشريفة، لعل القرآن الكريم لم يتحدث عن شيء بالصورة التي تحدث بها عن الربا بالنسبة للمعاملات، حتى ذكر الخلود في النار بقوله: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] لسنا في حاجة إلى أن نتحدث في هذا، حتى لا يطول الحديث، وإنما تقول هنا: هذه الأصناف الستة، إذا أردنا أن نبادل جنسًا بجنسه فلا بد من أمرين:
1- التساوي في الكيل أو الوزن.
2- القبض في المجلس.
يعنى مثلاً: عندي نوع من التمر، وأنت عندك نوع آخر من التمر، وأنا أريد ما عندك، وأنت تريد ما عندى.
يشترط هنا أن يكون نفس الكيل، وأن يتم القبض في المجلس، ربما قال بعضهم: إنه مختلف هذا، جيد وهذا ردئ، فكيف يكون نفس الكيل؟
التمر الجيد هذا مثل التمر الرديء!(3/934)
حدث هذا في عهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءه نوع من التمر جيد، يسمى "جنيب" ليس فيه صفة رديئة يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام: أكل تمر خيبر هكذا؟ قالوا: لا يا رسول الله، إنا نبتاع الصاع من هذا بالصاعين، (نبتاع أي نشتري) والصاعين بالثلاثة. فقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تفعل)) . وفي رواية أخرى ((إنه عين الربا)) .
ماذا يفعل إذن؟ تمر جيد وتمر ردئ، قال له: ((بع الجمع (أى الرديء) بالدراهم، وابتع بالدراهم جنيبًا))
ومعنى هذا أننا إذا أردنا أن نتبادل نوعًا بنوع آخر من الجنس نفسه، فلا بد من التساوي في الكيل أو الوزن، فإذا كان الفرق بين النوعين كبيرًا من حيث الجودة، ولا نرضى بالتساوي مع هذا الفرق، ولا يجوز التفاضل مع اتحاد الجنس، فمن الممكن أن نبيع هذا بالنقود ونشتري ذاك، فعندئذ نعود إلى المقياس، مقياس القيمة، الوسيلة التي نتبادل بها، كمقياس للقيمة، للسلع والخدمات، الوسيلة المتعارف عليها " بع الجمع بالدراهم - بالنقود - ثم ابتع بالدراهم جنيبًا".
إذن هنا الأصناف الستة هذه عند تبادل الصنف بالصنف، لا بد من أن يكون التماثل تامًا في الوزن أو الكيل، وأن يكون القبض في المجلس.(3/935)
"فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم - لا مساواة ولا تماثل - إذا كان يدًا بيد ".
ومعنى هذا أن الشرطين ذهب منهما شرط، وبقي شرط آخر دنانير بدراهم: لا مانع، ولكن إذا كان يدًا بيد ((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ... )) (في المجلس) ولذلك أيها الإخوة، من الأخطاء الشائعة في عصرنا تبادل بعض هذه الأصناف وعدم القبض في المجلس، أو تبادل جنس بجنسه والاختلاف في الوزن، مثل: ذهب قديم وذهب جديد.
هذه المسألة شائعة، الفرق الذي يدفع في مثل هذه المسألة ربا، مثل التمر الجنيب والجمع.
فإذا أردت أن ابتعد عن الربا هنا إما أن يكون نفس الوزن، أو أبيع هذا الذهب وأشتري غيره، أما في حالة التبادل، فلا بد أن يكون بنفس الكيل أو نفس الوزن، بالنسبة لهذه الأصناف الستة.
الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر أصنافًا ستة، فهل معنى ذلك أن التعامل بهذين الشرطين، يقتصر على الأصناف الستة؟ أم أن هذا ذكر كأمثلة، وما يشترك مع هذه الأصناف في العلة، يأخذ نفس الحكم؟(3/936)
أهل الظاهر، قالوا: لا، الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر ستة أصناف، فالحكم لا يتعداها، لا يشمل شيئًا غيرها. الصحابة الكرام والفقهاء قالوا غير هذا.
إن هناك قاعدة أصولية أبسطها: البر والشعير هذا يسمى (لقب) ، فإذا ذكر شيء مع التحديد باللقب فهنا ننظر: ما يخالف هذا اللقب، وإن اشتراك معه في العلة، أيدخل أم لا يدخل؟
جمهور الأصوليين يقول: بأن اللقب لا يؤخذ به في مفهوم المخالفة؛ لأننا إذا قلنا بأن في البر زكاة أو في الماشية زكاة، فهذا لا يعني ألَّا زكاة في غير البر ولا زكاة في غير الماشية.
ولذلك جمهور الفقهاء قالوا: هنا توجد علة. لنبحث عن هذه العلة،
بدأوا يبحثون عن هذه العلة، فقسموا الأصناف الستة إلى قسمين:
الأول: الذهب والفضة (الدنانير والدراهم) ، هذا قسم.
الثاني: البر والشعير والتمر والملح، قسم آخر.
وجعلوا للأصناف الأربعة علة، وللصنفين علة. فما علة الأصناف الأربعة؟ قال بعضهم: الطعام. وقال آخرون: طعام يدخر، وقال آخرون: شيء يكال.
أى أن من قال بالطعام فقد أدخل كل الطعام، وهذا هو الرأي الراجح.(3/937)
ويؤيده ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الطعام بالطعام)) وهنا ذكرت كلمة ((طعام)) .
أما بالنسبة للذهب والفضة - الدنانير والدراهم - فوجدنا الفقهاء هنا يختلفون أيضًا في العلة.
الإمام أبو حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد أن العلة هنا هي الوزن، أي أن هذه الأشياء توزن، فكل ما يوزن ينطبق عليه نفس الحكم. (النحاس، الرصاص، الحديد ... إلخ) .
الإمام مالك والإمام الشافعي ورواية ثانية عن الإمام أحمد: أن العلة هنا هي الثمنية، أى أن هذه الأشياء أثمان.
ونلاحظ هنا أيها الأخوة دقة هؤلاء الفقهاء، وكيف أن الله عز وجل قد وهبهم الفقه ودقة الفهم، بالنسبة للأثمان لم توجد أثمان أخرى غير هذا، ولكنهم لحظوا هنا أن العلة الثمنية.(3/938)
ولذلك نجد في تعريف الصرف: بيع الأثمان بعضها ببعض، إذن هنا أثمان وطعام.
طعام من نفس الجنس، أو ثمن من نفس الجنس. الشرطان لا بد منهما: التماثل، والقبض في المجلس.
والطعام إن كان من جنس آخر من الطعام، والذهب بالفضة، في هذه الحالة يسقط شرط التماثل، ويبقى شرط القبض في المجلس، الطعام بثمن، أو الثمن بطعام، في هذه الحالة يسقط الشرطان، ولعلكم تذكرون هنا الأحكام الخاصة بالبيع الآجل والسلم.
البيع الآجل هو أن تكون السلعة حاضرة والثمن مؤجلاً.
والسلم هو أن يكون الثمن حاضرًا والسلعة مؤجلة.
إذن معنى هذا: لا يشترط التماثل في الكيل ولا في الوزن، ولا يشترط قبض في المجلس إلا للسلعة في البيع الآجل، ورأس مال السلم. .
نترك ما يتصل بالطعام ونأتي إلى موضوعنا وهو: أحكام النقود.
في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام وجدنا هنا أن الحكم الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتصل بالذهب أو الدينار، والفضة أو الدرهم، ونلاحظ أنه لم يكن هناك دينار إسلامى؛ لأن الدينار الإسلامي لم يظهر إلا في عهد الوليد بن عبد الملك، الخليفة الأموي، فكان المنتشر هناك الدنانير الرومية.(3/939)
فإذا أريد استبدالها بغيرها من الدنانير أو من الذهب، فلا بد عندئذ من التماثل في الوزن، والعدد عند التساوى في الوزن، وكذلك الدراهم إن كانت يمانية بشامية أو غير ذلك، فلا بد من نفس الوزن أو نفس العدد ما دام التبادل دراهم بدراهم أو دينار بدينار، أما دراهم بدنانير، فالتبادل بحسب السعر السائد، ولكن يشترط القبض في المجلس.
هذا الحكم يسمى حكم الصرف، لكن وجدنا أحكامًا أخرى متصلة بالنقود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وجدنا السلم فرأس مال السلم يكون من النقود، عندما ندفع، ندفع نقودًا، شركة المضاربة - الشركة التي تقوم عليها البنوك الإسلامية الآن - رأس مالها كان من الذهب أو الفضة، الدنانير أو الدراهم.
حد السرقة، ربع دينار، نقطة أهم من هذا بكثير، الزكاة، عندنا زكاة الزروع، زكاة الحيوان، زكاة التجارة، ولكن النقود أخذت حكما خاصًا، فجعل في النقود زكاة، سواء استخدمناها في التجارة أم لم نستخدمها، عندنا سلع نتاجر فيها، نأتي في نهاية العام ونقوم القيمة ونخرج الزكاة، هذه السلع إذا لم نستخدمها في التجارة، لا شيء عليها مهما بلغت قيمتها، ولكن إذا كان لدينا نقود من الذهب أو الفضة ننظر: هل تصل النصاب أم لا تصل؟ إذا وصلت النصاب لابد من الزكاة، حتى لو كانت مدخرة في البيت غير موظفة في عمل ما، والرسول صلى الله عليه وسلم حدد نصاب الزكاة، زكاة النقود والتجارة 2. 5 %، ولكن النصاب حدده المصطفى صلى الله عليه وسلم بـ 20 دينارًا من الذهب أو 200 درهم من الفضة، إذن من وجد عنده عشرين دينارًا أو أكثر - وهذا المبلغ زائد عن حاجاته الفعلية - هنا يخرج الزكان بنسبة 2. 5 % من مجموع المبلغ.(3/940)
عنده 200 درهم، هنا يخرج أيضًا 2. 5 %، إذن تحدد النصاب بالدنانير الذهبية والدراهم الفضية، وجاء القرآن محذرًا: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 35]
الذهب والفضة يشملان كما ذكرنا من قبل الدنانير الذهبية والدراهم الفضية، وأي كنز لا بد من الإنفاق منه، وكل مال أخرجت زكاته فليس بكنز، هذه ناحية.
وناحية أخرى أنه مادام مالاً، فيجب أن يكون في صالح الجماعة؛ لأن المال مال الله، ومال الله معناه أن يكون في صالح الجماعة، ولذلك حتى مع إخراج الزكاة، على المسلم إلا يكنزه، إلا إذا كان مضطرًا، ولكن إذا استطاع أن يستثمره لصالحه وصالح الجماعة، فلا بد أن يفعل هذا، والأحكام هنا جاءت هكذا، بلا مشكلات، ثم بدأت تظهر مشكلة. بعد مدة ظهرت الفلوس، والفلس عملة نحاسية، الدينار يمكن أن يؤخذ من عدد أكبر من الدراهم. ولكن الدرهم إذا أردنا أقل منه فما كنا نجد عملة أقل إلا أجزاءه كالنصف والربع. فبدأت تظهر الفلوس، وهنا بدأ الخلاف يظهر في التطبيق العملي.
الفلوس: أتأخذ حكم الذهب والفضة، أم لا تأخذ؟ ما دامت أثمانًا فهل ينفذ عليها حكم الذهب والفضة؟ سئل الإمام مالك عن ذلك.(3/941)
وأرجو أن نلاحظ هنا كيف كان فقهاؤنا؟ انظروا إلى ما قاله إمام دار الهجرة بعد أن بين أن الفلوس تأخذ نفس الحكم ما دامت أثمانًا.
قال: لو أن الناس اتخذوا الجلود حتى يكون لها سكة وعين (فتكون مثل الدنانير والدراهم) لكرهتها أن تباع نظرة (أى نسيئة وتأجيلاً) ، أي لا بد أن يكون القبض في المجلس. ننظر إلى هذا القول من الإمام مالك.
الفلوس تأخذ حكم الدنانير والدراهم، ليس هذا فقط بل إذا وجدنا الناس يتعاملون بالجلود، فأصبحت الجلود مقياسًا للقيمة ووسيلة للتبادل، وتحظى بالقبول العام، هنا تأخذ نفس الحكم؛ لأنها أصبحت نقودًا، فتأخذ نفس الحكم.
الذين قالوا بأن العلة هي الوزن، قالوا هنا: مع أن هذه من النحاس، والنحاس يوزن، إلا أن هذا خرج عن الوزن، فأصبح بالعد، فلا يأخذ الحكم، ولكن إذا كان النحاس عملة رائجة، فلا يجوز أن نتبادل مع الزيادة.
الشافعية مع أنهم قالوا بأن العلة هي الثمن، قالوا: هذا لا ينطبق على الفلوس؛ لأنها عروض وليست أثمانًا.
علماء خراسان من الشافعية رأوا الفلوس تروج هناك، فقالوا: تأخذ نفس الحكم، وجمهور الشافعية اعتبر هذا رأيا شاذًا، فلم يوافقوا علماء خراسان.
وتأتي هنا مناقشة لطيفة بين فقهاء الحنفية وفقهاء الشافعية، قال الحنفية للشافعية: أنتم قلتم بأن العلة هي الثمنية، وأن هذه العلة قاصرة، لا تتعدى الذهب والفضة، فما قيمة هذه العلة؟ ما دمنا قد أخذنا الحكم من النص، بالنسبة للذهب والفضة، فالعلة إنما هي للتطبيق؛ لإلحاق شيء بشيء، أما أنتم فلم تلحقوا.
فرد الشافعية هنا بقولهم: إن العلة القاصرة لها فائدتان:
الأولى: حتى نعلم أن هذه الأشياء لا يقاس عليها، فلا نطمع أن نقيس عليها شيئًا آخر.
والثانية: أنه قد يجدّ شيء يشترك مع هذه الأشياء في العلة، فيلحق بها.
معنى هذا أنهم رأوا في وقتهم، ما جاء شيء يلحق بالذهب والفضة.
واعتبروا أن النحاس ليس من الأثمان، والعملة النحاسية عملة صغيرة، ولذلك كلمة المفلس تطلق على من لا يملك إلا الفلوس.(3/942)
أنهم اعتبروا أن هذه لا تبلغ أن تكون قيمة للأشياء وأثمانًا؛ لأن هناك الذهب والفضة.
إذن بدأ الخلاف هنا بالنسبة للفلوس، وقد كان للفلوس دور قليل جدًا، فالخلاف لم يبد له أثر، هذا الخلاف على أشياء لا قيمة لها، أشياء ثانوية، ولكن نجد بعد هذا تطور النقود، حتى وجدنا العملة الذهبية تختفي، والعملة الفضية كذلك، وهنا تأتي المشكلة الحقيقية.
الأحكام تعلقت بالعملة الذهبية والعملة الفضية، وفي عصرنا لا توجد عملة ذهبية ولا فضية، وإنما يتعامل الناس بالعملة الورقية، أوراق بنكنوت شيكات ... إلخ.
فهنا أصبحت مشكلة بالنسبة لأحكام الصرف، هل تطبق أم لا تطبق؟ الربا: هل يطبق على هذه النقود أم لا يطبق؟ الزكاة: هل تخرج من هذه النقود، أم هي ليست نقودًا فلا نخرج زكاة؟
السارق إذا سرق بعض هذه الأوراق؟ هل تقطع يده أم لا تقطع؟ أتعتبر هذه الأوراق نقودًا أم لا نعتبرها؟
شركة المضاربة الآن، لا يوجد نقود من ذهب ولا فضة، إذن لا توجد شركة مضاربة الآن، لا يحل أن تكون هذه شركة موجودة الآن، لذلك كان الأمر محتاجًا إلى اجتهاد من فقهاء العصر.(3/943)
مجمع البحوث الإسلامية نظر في هذا الموضوع من ناحية الزكاة، هل هذه الأوراق نقود أم ليست كذلك؟ لا شك أنها نقود؛ لأنها تقوم بنفس الدور الذي كان يقوم به الدينار الذهبي والدرهم الفضي، نفس الشيء، مقياس للقيمة قيمة السلع والخدمات ووسيلة للتبادل يحظى بالقبول العام، بل الآن أصبح القبول العام إجباريًا.
هنا ننظر باعتبار أنها نقود أمر مفروغ منه، وإنما النظر بالنسبة للزكاة.
هذه الأوراق نخرج زكاتها أم لا زكاة فيها؟ وإذا كنا نخرج عنها زكاة فما نصابها؟
بحث المؤتمر هذا الموضوع المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية وقرر الآتي:
إن هذه الأوراق تقدر بقيمتها ذهبًا، فإذا بلغت نصابًا وجبت فيها الزكاة.
وما النصاب؟ عشرون دينارًا، وأين الدنانير هذه؟ بالبحث وجد أن العشرين دينارًا تزن خمسة وثمانين جرامًا من الذهب، إذن معنى هذا مثلاً إذا كان معي ريالات قطرية، فلكي أعرف أوصلت نصابًا أم لا؟ فعلي أن أبحث عن سعر الذهب، فإذا وجدت هذه الريالات تساوي ما قيمته 85 جرامًا من الذهب أو أكثر ففي هذه الحالة تجب الزكاة، فأخرج ريالاً عن كل أربعين ريالاً.(3/944)
بعض الناس عندما ظهرت العملة الورقية لأول مرة شككوا فيها، وما عرفوا تكييفها، بعضهم يقول: هذه ليست نقودًا، وآخرون يقولون: هذه نقود، ثم بحث هذا الأمر هيئة كبار العلماء بالسعودية، فماذا قالوا؟ فتوى هذه الهيئة بعد البحث والتعاون مع خبراء من الاقتصاد، رأي هؤلاء العلماء أن النقود لها وظيفة، وليس لها حد شرعي، كما ذكر ذلك من قبل ابن تميمة، فما قام بنفس الوظيفة التي كان يقوم بها الدينار والدرهم أخذ نفس الأحكام.
إذن هذه نقود، مثل الدنانير الذهبية والدراهم الفضية، ولكن إذا كان ريال قطري بريال قطري، نعرف أن هذا مثل هذا، فإن اختلف الأمر بين الدنانير والدراهم، فكيف نحدد الاختلاف؟ قالوا هنا بأن عملة كل دولة تعتبر جنسًا، فالريالات السعودية جنس، والقطرية جنس، والدولار الأمريكى جنس، والجنيه الاسترلينى جنس، وهكذا…
فإذا أردت أن أبادل ريالات قطرية، بأخرى سعودية فلا مانع مع الزيادة أو النقصان، " إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد "، وإن سمي هذا ريالا وذاك ريالاً، فدرهم قطر مثلاً غير درهم الإمارات، والجنيه المصري غير الجنيه الإسترليني، والدينار الكويتي غير الدينار العراقي، وهكذا ...
إذن هنا أصبح عندنا نقود لكل دولة، وكل نقد يعتبر جنسًا، فلا يحل أن أعطي ريالات قطرية بريالات قطرية أكثر، لا يحل هذا لأنه ربا، ولا يحل أن أبادل ريالات قطرية بأخرى سعودية ما لم يتم القبض في المجلس، إذن عند اتحاد العملة يشترط هنا التساوي تمامًا، فإذا اختلفت العملة جاز التبادل، مع اشتراط القبض في المجلس، فإن العملة الورقية الحالية تقوم، لا بدور الفلوس، وإنما بدور الذهب والفضة تمامًا. فلان غني، ليس معناه أن عنده مبلغًا كبيرًا من الذهب والفضة، فقد لا يملك إلا ثروة ضخمة من العملة الورقية.
السارق إن سرق، فإنه يسرق ورقًا. مهر الزوجة مجموعة ورق، وتُستحل الفروج بهذه الأوراق، ما لم تكن نقودًا فكيف تستحل؟
البنوك الإسلامية عندما قامت وأرادت أن تطبق نظام شركة المضاربة اعتمدت على العملة الورقية الحالية.
عندما نشتري بطريق السلم الآن، فرأس مال السلم الآن عملة ورقية.(3/945)
إذن العملة الورقية تقوم بنفس الدور تمامًا،
وإذا لم نكنز ذهبًا ولا فضة، ولكن كنزنا مليارًا من العملة الورقية، ألا يعتبر ذلك كنزًا وإن لم يكن ذهبًا ولا فضة؟
إننا لا نتعامل بنقود ذهبية ولا فضية، والآن يعرف فلان بأنه غنى؛ لأن عنده مبلغ كذا من الريالات الورقية مثلاً، أو غير الريالات،
إذن لابد أن نتقيد بهذا القيد، وهو القبض في المجلس عند التبادل، ما دامت نقود اليوم تأخذ أحكام نقود الأمس.
تذهب إلى البنك، إلى محل الصرافة، إلى أي مكان؛ لتغيير عملة واستبدالها بعملة أخرى، لا بد من القبض الفوري في نفس المجلس.
إذا تأخرت أو أجلت، ولو لوقت قصير، وقعت في الربا.
ولكن أيها الأخوة، جدت في عصرنا مشكلات، فمثلاً: معي ريالات قطرية أريد أن أستبدلها بجنيهات مصرية، لو ذهبت إلى البنك لأخذ جنيهات مصرية، فلا يمكن أن أقبضها؛ لأن الدولة تمنع هذا، وكثير من الدول تمنع هذا فعلاً، نسمع هذه عملة حرة، وهذه عليها قيود معينة في الدخول والخروج، فلا يسمح بذلك إلا بشروط معينة.
إذن هنا: سأدفع هنا وأتسلم في مصر.
واحد هنا يريد أن يرسل مالا لابنه في أمريكا، يدفع هنا ويتسلم ابنه في أمريكا، أين القبض في المجلس؟ مشكلة.
واحد عليه دين بالجنيهات المصرية، ويريد أن يدفعها هنا بالريالات القطرية، مشكلات كثيرة جدت.
ننظر أيها الأخوة إلى شيء حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وشيء آخر حدث بعد عهده.
الذي حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، هو: أن عبد الله بن عمر كان يبيع الأبل بالنقيع، فكان يبيع أحيانًا بالعاجل وأحيانًا بالآجل، فيبيع لهذا بالدنانير، ثم يأتي عند الاستلام، فيقول له صاحب الدنانير: ليس معي إلا دراهم. ويبيع لهذا بدراهم، وعند الدفع يقول له المشتري: ليس معي إلا دنانير، فذهب إلى الرسول فقال: جئت أسألك أني أبيع الأبل بالنقيع، أبيع بالدنانير، وآخذ مكانها الورق، وأبيع بالدراهم وآخذ مكانها الدنانير.
قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لا بأس إن كان بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء.(3/946)
ما معنى هذا؟
باع هذا بعشرة دنانير، وجاء يوم السداد فقال له: ليس معي إلا دراهم. ننظر إلى السعر في هذا اليوم، يوم السداد، عشرة دنانير تساوي كم درهمًا؟
فهو يأخذ عند السداد من الدراهم ما يساوي تمامًا الدنانير العشرة، أي كأنه يأخذ عشرة دنانير غير منقوصة.
وهذا " ما لم تفترقا وبينكما شيء "، أي لا بد من السعر الآن، ولا بد من القبض في المجلس.
يعني لا نأتي ونحول في الذمة ثم ننصرف، وبعد ذلك نأخذ الدراهم، فلا بد إذن من أن نتسلم بسعر اليوم عند السداد، وفي الحال.
شيء آخر، نحن عرفنا من قبل ما كان من شأن الزبير بن العوام رضي الله عنه، وكيف أن الله عز وجل بارك في ماله.
عبد الله بن الزبير كان في مكة، وأخوه مصعب كان في العراق، فكان بعضهم يأتي إلى عبد الله أحيانًا ويقول له: أنا ذاهب إلى العراق، ومعي نقود من الذهب أو الفضة، وأخشى عليها أن تضيع مني في الطريق، ثم يعرض عليه أن يأخذ منه نقوده في مكة، ليتسلم بدلا منها في العراق من أخيه مصعب، فيقبلها ابن الزبير، ويكتب له ورقة، فإذا وصل المسافر إلى العراق، ذهب إلى مصعب، وأبرز الورقة، ثم يأخذ المبلغ المكتوب فيها، والذي سلمه إلى ابن الزبير في مكة.
الورقة هذه التي أعطاها عبد الله بن الزبير لذلك الرجل في مثل هذه الحالة، تسمى في الفقه الإسلامي "السَُفْتَجة"، وهذا نظير ما يحدث الآن؛
أذهب إلى البنك وأقول له: أريد جنيهات مصرية، أعطني شيكًا بتاريخ اليوم أو حوالة، فكأن القبض في المجلس قد تم.
فكما تم مع عبد الله بن الزبير، (النقود من جانب، والسفتجة من جانب آخر) والآن أيضًا، النقود من جانب، والشيك أو الحوالة من جانب آخر، بشرط تاريخ اليوم وسعر اليوم.
ولذلك مجمع البحوث بحث مسألة الحوالة هذه، وأفتى بأنها حلال.
تأتي النقطة الأخرى، وهي: ما واجهنا بكثير من الأسئلة، مسألة الديون، أنا حولت كذا منذ كذا عام لفلان، وأريد أن آخذ منه الآن، نقول له: ماذا طلب منك؟ هل طلب منك ريالات، أم جنيهات مصرية؟ يقول: جنيهات مصرية.
إذن هو مدين لك بكم؟ ألف جنيه مصري.
إذن لك عنده ألف جنيه مصري.(3/947)
يقول هذا ألف جنيه مصري الآن، أحول كذا (ريال) ، ولكن وقتها كذا (ريال) ، لا شأن لنا بهذا، هو مدين بكذا، إذن يعطيك ألف جنيه مصري، وإذا أخذت جنيهًا واحدًا زيادة، فهو ربا. فإذا أردت أن تأخذ بالريالات يعطيك بسعر اليوم، وليس بسعر عام أو عامين. يقول المقرض: أنا دفعت وقتها 400 ريال مثلاً، فآخذ الآن 400 ريال. نقول له: انظر إلى القرض، أنت ماذا اقرضت؟ أقرضت ريالات؟ أم جنيهات؟
إذا كان ريالات تأخذ ريالات، وإن كان جنيهات تأخذ جنيهات.
ولذلك نذكر هنا من عمل البنوك الإسلامية ما يتصل بموضوعنا، أشرنا من قبل إلى الاعتمادات المستندية.
وقلنا بأنه أحيانًا، بعد النظر في المستندات، البنك عندما يدفع النقود للمصدر، قد يجد النقود لا تكفي، فيدفع مما معه جزءا من النقود، البنك الإسلامي يذكر صراحة أن هذا القرض حسن، والبنك الربوي يحسب هذا بفائدة، من يوم الدفع إلى يوم وصول المستندات، فإذا وصلت المستندات ولم يدفع يعتبر لهذا دينا بفائدة أعلى. أما البنك الإسلامي فيذكر صراحة أن هذا قرض حسن. البنك هنا عندما يدفع النقود للمصدر في دولة أخرى، قد يدفع عملة مختلفة عن التي يتعامل بها مع عميله.
مثلا: بيت التمويل الكويتي يستورد أشياء من إنجلترا، المصدر هنا يريد الإسترليني، والبنك يتعامل بالدينار، ولا شأن له بالجنيه الإسترليني، ماذا يعمل؟ هناك وكيل على العميل، يدفع بالدينار الكويتي، ويقوم بعملية الصرف بالإسترليني، ويقيد الآن في الحال ما دفعه بالدينار الكويتي، بعد هذا إذا ارتفع الدينار أو انخفض، لا شأن له.
يقول له: أنا دفعت لك مبلغ كذا بالدينار الكويتي، والمصدر طلب الثمن بالجنيه الإسترليني، فحولنا فالتحويل كان كذا، الآن لو أنني أريد أن أقرض أحدًا، وأخشى مثلاً من العملة هذه. أقرض بعملة أخرى، ولكن العملة التي أقرض بها هي التي آخذها عند السداد، لا أقرض بعملة وآخذ بأخرى، فإذا أخذت بأخرى، آخذ بسعر يوم السداد، وليس بسعر يوم الدفع.
فلا بد أولاً أن أحدد القرض الآن بأي عملة؟
اختر العملة التي تشاء، ولكن المهم أنني ما دامت أقرضت، فلا أنظر إلى اختلاف سعر العملة بين يوم القرض وبين هذا اليوم، وإنما آخذ نفس العدد الذي أقرضته بسعر يوم السداد.(3/948)
عقدت عدة مؤتمرات، وبحث موضوع النقود وأحكام النقود، وأقرت الكثرة الكاثرة التي حضرت هذه المؤتمرات بأن العملة الورقية الحالية ينطبق عليها أحكام الصرف.
ولذلك نجد بعض البنوك الربوية تتعامل بسعرين: بالسعر العاجل كذا، والسعر الآجل كذا، البنوك الإسلامية، إذا أردت أن تستبدل عملة منها، لا بد أن يكون في الحال، سعر الصرف، سعر اليوم كذا، لا تسمح بالتأجيل.
ولهذا أيها الإخوة ما نسمع عنه من أعمال البورصة، وأن هناك شراء أو بيع عملة بالآجل، هذا نوع من الربا، لكي نتبادل عملة لا بد أن يكون الآن القبض في المجلس، فإذا لم يتم ذلك لسبب من الأسباب، أو ضرورة من الضرورات، أو ظرف من الظروف القاهرة، فهناك شيء يقوم مقامه، كما قامت السفتجة، بغير هذا نقع في الربا، والعياذ بالله.
إذن مجمع البحوث الإسلامية، هيئة كبار علماء السعودية، مؤتمرات مختلفة. كل هؤلاء قالوا بأن هذه نقود؛ لأنها هي كذلك فعلاً، تقوم بدور النقود، وأن الاقتصاديين يعرفون النقود بالوظيفة بأنها هي كل ما يقوم بدور النقود.
إذا وجدنا رأيا يعارض هذا، فإننا نقول: ما وجدنا رأيًا جماعيًا قط، وإنما وجدنا رأي فَردٍ، نتج عنه أشياء خطيرة للغاية، كيف هذا؟(3/949)
يأتي أحدهم لتحويل عملة - وهذا كان شائعًا لدرجة غير عادية في الكويت نتيجة فتوى معينة - يقول: أنا أريد أن أحول دنانير إلى جنيهات مصرية، فيسألونه: أتريد الآن؟ الدينار مثلاً بثلاثة جنيهات، أو بعد شهر: بزيادة عشرين قرشًا، أو بعد عام: أربعة جنيهات، وهكذا … يزيد الثمن كلما زاد الأجل، معنى هذا أيها الإخوة أنها حيلة للوصول إلى الربا. يعني: هو أخذ بثلاثة جنيهات، مائة دينار بثلاثمائة جنيه، ثم قال له: بعد شهر مثلاً كم تبلغ فائدتها؟ ويرفع الفائدة، بعد عام، الفائدة كم؟ فيرفع الفائدة …
لا يقول له: فائدة، وإنما ما دام مؤجلاً فهو بسعر كذا، فجاءت فتوى بأن هذا حلال. فقلنا: إذا كان هذا حلالا، فما الربا إذن؟ أي حالة ربوية يمكن أن نحولها إلى بيع بهذه الطريقة، والفتوى قاست هذه المعاملة على السلم.
ولكن معنى السلم: سعلة ونقود، النقود أولا والسلعة مؤجلة، وإنما هذه المعاملة: نقود بنقود، والنقود لا يكون فيها سلم، وإنما فيها قبض في المجلس، ولذلك السلم فيما يقوم به السعر ربا، والشبهة آتية من أن النقود مثل السلعة في نظر الذي أفتى بالحل، نقول له حينئذ: لا، السلعة نريدها ذاتها، نستعملها، نستفيد منها، أما الورقة هذه فلا قيمة لها إلا أنها مقياس لقيمة، ووسيلة للتبادل، أما في ذاتها فقد نجد ورقة مثل هذه نافعة أكثر منها (وأشار المحاضر إلى منديل من الورق) .
إذن، هذه الفتوى كان لها أضرار خطيرة للغاية. والحمد لله تعالى أن الفتاوى الجماعية ظهرت، فأوقفتها عند حدها، وأبطلت ما جاءت به، وإلا لكانت كارثة. لذلك عندما رد على هذا رد ببيان الفتاوى الجماعية، وبالطبع مشكلات العصر لا تحل باجتهاد فردي، وإنما تحل باجتهاد جماعي.
هذا والحمد لله تعالى، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.(3/950)
قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة
المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة:
بـ. د/7/2- 1406/3
القرار السادس
حول العملة الورقية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطلع على البحث المقدم إليه في موضوع العملة الورقية وأحكامها من الناحية الشرعية، وبعد المناقشة والمداولة بين أعضائه، قرر ما يلي:
أولاً: أنه بناء على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة، وبناء على أن علة جريان الربا فيهما هي مطلق الثمنية في أصح الأقوال عند فقهاء الشريعة.
وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة، وإن كان معدنهما هو الأصل.
وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمنًا، وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها، وبها تقوم الأشياء في هذا العصر؛ لاختفاء التعامل بالذهب والفضة، وتطمئن النفوس بتمولها وادخارها، ويحصل الوفاء والإبراء العام بها، رغم أن قيمتها ليست في ذاتها، وإنما في أمر خارج عنها، وهو حصول الثقة بها، كوسيط في التداول والتبادل، وذلك هو سر مناطها بالثمنية.
وحيث إن التحقيق في علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية، وهي متحققة في العملة الورقية، لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، يقرر أن العملة الورقية نقد قائم بذاته، له حكم النقدين من الذهب والفضة، فتجب الزكاة فيها، ويجري الربا عليها بنوعيه، فضلاً ونسيًا، كما يجرى ذلك في النقدين من الذهب والفضة تمامًا؛ باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياسا عليهما. وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها.
ثانيا: يعتبر الورق النقدي نقدًا قائمًا بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان، كما يعتبر الورق النقدي أجناسًا مختلفة، تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة، بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس. وأن الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وبذلك يجري فيها الربا بنوعيه فضلاً ونسيًا، كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرها من الأثمان.(3/951)
وهذا كله يقتضي بما يلي:
(أ) لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما، نسيئة مطلقًا، فلا يجوز مثلاً بيع ريال سعودي بعملة أخرى متفاضلاً نسيئة بدون تقابض.
(ب) لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقية بعضه ببعض متفاضلا، سواء كان ذلك نسيئة أو يدًا بيد، فلا يجوز مثلا بيع عشرة ريالات سعودية ورقًا بأحد عشر ريالا سعوديا ورقًا، نسيئة أو يدا بيد.
(جـ) يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقًا، إذا كان ذلك يدًا بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي، ورقًا كان أو فضة، أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاث ريالات سعودية أو أقل من ذلك أو أكثر، إذا كان ذلك يدا بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاث ريالات سعودية ورق، أو أقل من ذلك أو أكثر، يدا بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة.
ثالثًا: وجوب زكاة الأوراق النقدية إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة، أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة.
رابعًا: جواز جعل الأوراق النقدية رأس مال في بيع السلم والشركات، والله أعلم، وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(3/952)
المناقشة
أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة
13 صفر 1407/16 أكتوبر 1986م
الجلسة الصباحية الأولى
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نفتتح الجلسة الصباحية مستعينين بالله سبحانه وتعالى، ونسألة التوفيق، وأن يلهمنا الصواب.
وفي هذه الجلسة موضوعان: أحدهما: أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة. والثاني: سندات المقارضة، وقبل الشروع في أحكام النقود الورقية فإن معالي الشيخ عبد العزيز يحب أن يلقي على مسامعكم كلمة قصيرة فليتفضل.(3/953)
الشيخ عبد العزيز الخياط:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوتي العلماء الأفاضل والأساتذة الكرام، أحببت أن أتحدث في أمرين حديثًا قصيرًا.
الأمر الأول: أن هناك توجهًا وطلبًا وأملاً من هذا المجمع الكريم مجمع الفقه الإسلامي، وقد خاض في أبحاث قيمة عرضت عليه، واتخذ في بعضها قرارات مهمة، وقام بأصالة العلماء وتقواهم وعمق النظرة الاجتهادية في اتخاذ بعض القرارات التي ستتخذ، أو ستعلن في التوصيات الأخيرة، وهي قرارات مهمة.
هناك توجه من أخوتى العلماء الأفاضل ومن بعض الكتاب في الأردن، أن يتوجه هذا المجمع الكريم في المستقبل في جلساته القادمة إلى العناية بالأبحاث في أمور تتعلق بحياتنا كما عرضت هذه الأمور. أن يهتم بأمور العقيدة، وأن يهتم بالأمور المتعلقة بالجهاد والأحكام الشرعية فيها. والأمور الاقتصادية والقضايا والمشكلات المهمة التي نحياها ونعيشها.(3/954)
ولذلك أرجو أن تقوم شعبة التخطيط بالتوجه والتوجيه إلى هذه النواحى لتقديم الأبحاث والدراسات في هذه الأمور، ولا سيما ونحن نواجه أيضًا بعض المشكلات الشرعية، المشكلات التي تحتاج إلى بيان حكم شرعي في جهادنا مع الأعداء، بالنسبة إلى أعدائنا في فلسطين، أعدائنا في أفغانستان، أعدائنا في لبنان، وفي بعض القضايا، مما يترتب عليه بعض المشكلات لا بد من بيانها، وأرجو أن نتقدم إلى لجنة التخطيط ببعض هذه الأمور لبحثها والتخطيط لها في المستقبل، هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: وقد اجتمع في هذا المجلس الكريم جلة العلماء الأفاضل ممن لهم باع طويل في الاجتهاد والفقه والعمل، وقاموا بجهود مشكورة في الدعوى إلى الله وبيان الأحكام الشرعية في هذا الزمن العصيب الذي بعد فيه كثير من الناس عن الدين، والذين خشوا تنبه المسلمين وصحوتهم، فبدأوا بالعمل في أسلوب جديد للقضاء على العلماء، ومازلنا نذكر كيف استشهد عالم فاضل كبير من علمائنا هو وزوجته، ممن خدم الإسلام والمسلمين في أمريكا المرحوم إسماعيل الفاروقي، وكيف اعتدي عليها. وبالأمس القريب اعتدي أيضًا على عالم فاضل من زملائنا وأحبائنا كذلك الأستاذ الدكتور صبحي الصالح من علماء لبنان رحمة الله عليه.(3/955)
وفي هذا الصباح حقيقة تذكرت أخي الدكتور صبحي الصالح، كما ذكرت من قبل أخانا المرحوم إسماعيل الفاروقي، فأحببت فقط أن أنقل بعض مشاعري لأخوتي في هذا الصباح أقرع بها أذهانكم وقلوبكم، وفاضت أريحتي بأبيات أحببت أن أسمعكم إياها. كنت أذكر بعض أبيات لشاعر لبنان، فعلى نمطها خرجت معي هذه الأبيات. لا أريد توصية لكن لأذكركم بأن كل عالم منا يحمل الدعوة إلى الله معرض أن يكرمه الله بالشهادة في حمله لهذه الدعوة، وقد كرم الله إخواننا بالشهادة، وهي أمنية قد لا يستطيع كل إنسان أن ينالها. وأذكر بهذه المناسبة أن الشيخ عز الدين شيخ العلماء وسلطان العلماء في مصر، لما أراد نائب السلطنة أن يقتله جاء إلى بيته وطرق الباب وهو حامل للسيف، فرآه ابنه، فهرول إلى أبيه مذعورًا يقول له: يا أبتى، إن نائب السلطنة جاء ليقتلك، فكان جواب الشيخ عز الدين رحمة الله عليه أن قال: هون عليك يا بني، فإن أباك لم يبلغ بعد درجة الشهداء حتى يقتله نائب السلطان. فتلك كرامة نالها هؤلاء الإخوان قلت:
ذكرتك يا صبحي ففاضت مدامعي
وزادت هموم القلب تعسا على تعس
وعادت بي الذكرى لعهد محب
جديد الليالي كان أصفى من الورس
ودهر قضيناه على الحب والرضى
نفيق الجهاد المر في غمرة البؤس
ذكرتك والسحر الخلوب بيانه
وصوت الدعاة الحر في قوة الجرس
فيا ويح نفسي كيف يقضى صديقنا
على يد نذل مجرم القلب جبس
لقولة حق في مجال تباعض
وصيحة إيمان الخلي من الوكس
أليس ضياع العلم إذا مات أهله
وفقدان أهل الدين أنكى على النفس
فيا أخوة الفقه والدين والهدى أذكركم
صبحي وما كان في لوح الهدى منسي
وعذرا إذا قصرت في الحزن والبكا
فقد جفت دموع الحزن من سكتة الخرس
وشكرا لكم وبارك الله فيكم.(3/956)
الرئيس:
شكرًا لا فض فوك، نرجو من فضيلة الشيخ نزيه حماد أن يتفضل بالعرض لموضوع النقود الورقية وتغير قيمة العملة.
الشيخ نزيه حماد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
إن من أبرز المشكلات الاقتصادية المعاصرة التي تمس الفرد والجماعة في أغلب دون العالم اليوم مشكلة التضخم، وما يرافقه من تأثير كبير وخطير على القوة الشرائية للنقد، حيث تضعف هذه القوة وتقل، مما يؤدي إلى رخص النقود تجاه السلع والمنافع والخدمات التي تبذل عوضًا عنها. كما أن السياسة الاقتصادية لكثير من الدول الحاضرة قد تدعوها إلى تخفيض قيمة عملتها بالنسبة إلى بعض العملات الأخرى، أو بالنسبة إلى الذهب، فتخفضها بالقدر المناسب، وقد تدعوها على عكس ذلك إلى رفع قيمة عملتها فترفعها بالنسبة الملائمة.(3/957)
وهناك العديد من الدول المعاصرة تحظر التعامل بنقدها خارج حدود أراضيها وفق سياسة اقتصادية معينة، وتمنع بالتالي إخراجه منها إلى أية دولة أخرى، ولو حدث أن أخرج منها بصورة ما، فإنها تمنع إدخاله إليها ثانية. وقد تمنع بعض الدول التعامل بالذهب أو بأية عملة غير عملتها في داخل أراضيها، وتعتبر ذلك من قبيل النظام العام الذي لا تجوز مخالفته، وتجعل كل اتفاق على خلافه باطلا، وقد تلغي بعض الدول شيئا من عملاتها الرائجة تستبدلها بنقد آخر تصطلح على التعامل به ... إلى آخر ذلك من حالات وصور.
هذا في نطاق السياسة الاقتصادية للدول، أما في مجالات المعاملات الفردية فكثيرًا ما يقرض المرء لغيره مبلغًا من المال إلى أجل معين؛ رفقا به، ومعونة له، ودفعا لحاجته، وتفريجا لكربته، فإذا ما حل أجل الوفاء وجد المقرض أن هذا المبلغ الذي عاد إليه أقل أو أكثر بقليل أو كثير من المبلغ الذي دفعه له قرضا، من حيث قوته الشرائية، أو من حيث قيمته بالنسبة إلى الذهب، أو بالنسبة إلى العملات الأخرى يوم أقرضه، وإن كان مماثلاً له في الكم والعدد.(3/958)
وكثيرًا ما يشتري التاجر بضاعة بنقد محدد مؤجل الوفاء إلى أمد متفق عليه، وعندما يحل الأجل ويحين وقت الأداء يجد كل واحد من المتبايعين أن المبلغ المتفق عليه قد اختلف حاله، من حيث القوة الشرائية، أو من حيث القيمة بالنسبة إلى الذهب، أو بالنسبة إلى العملات الأخرى عن الوضع الذي كان عليه وقت وجوبه في الذمة بالعقد. وفي كثير من البلدان الإسلامية جرى العرف بين الناس على جعل بعض مهر الزوجة أو أكثره أو كله دينًا مؤجلا في ذمة الزوج، لا يحل إلا بالموت أو الفرقة ويسمونه المهر المؤجل. وواقع الأمر في غالب حالات المهر المؤجل طرو التغير الفاحش على قيمة النقد الذي جُعل مهرًا، وصار دينا في ذمة الزوج عند حلوله، بالنظر إلى يوم ثبوته في الذمة.
هذه بعض صور القضية، وللقضية تعلقات شائكة، وآثار خطيرة، وأبعاد كثيرة لا تكاد تحصى، وإنها لتمس الفرد والمجتمع والدولة في مجالات مختلفة وجوانب شتى، غير أن الذي يعنينا بحثه في هذا المقام ما يتصل بالمعاملات المالية عند تغير أحوال النقد، وأثر ذلك على الديون في الذمم أيا كان سببها ومنشؤها. وهذا الجانب في الحقيقة ونفس الأمر، وإن كان عظيم الأهمية وبالغ الخطورة في هذا العصر على الخصوص، فإن مبادئه وأسسه موجودة ومعروفة في تعامل المسلمين وفقههم، ولفقائهم في ذلك آراء ونظرات هامة جديرة بالعناية بها والإفادة منها، وبيان ذلك:(3/959)
أولاً: تغيرات النقود الذهبية والفضية: إن الدين الثابت في الذمة إذا كان عملة ذهبية أو فضية محدودة مسماة، فغلت أو رخصت عند حلول وقت الأداء، فلا يلزم المدين أن يؤدي غيرها؛ لأنها نقد بالخلقة، كما يعبر الفقهاء. وهذا التغير في قيمتها لا تأثير له على الدين البتة. وحتى لو زادت الجهة المصدرة لهذه العملة سعرها أو أنقصته، فلا يلزم المدين إلا ما جرى عليه العقد. ولو أبطلت السلطة المصدرة لهذه العملة التعامل بها، فإنه لا يلزم المدين سواها وفاء بالعقد؛ إذ هي المعقود عليها دون غيرها. وعلى ذلك نص الإمام الشافعي والمالكية في المشهور عندهم. وقال بعض المالكية: إذا أبطلت تلك العملة واستبدلت بغيرها فيرجع إلى قيمة العملة الملغاة من الذهب، ويأخذ صاحب الدين القيمة ذهبًا.
ثانيًا: تغيرات النقود الاصطلاحية: إذا كان الدين الثابت في الذمة نقدا بالاصطلاح لا بالخلقة، كسائر العملات الأخرى غير الذهبية والفضية، فطرأ عليه تغير عند حلوله، فعندئذ يفرق بين خمس حالات:(3/960)
الحالة الأولى الكساد العام للنقد: وذلك بأن توقف الجهة المصدرة للنقد التعامل به، فتترك المعاملة به في جميع البلاد، وهو ما يسميه الفقهاء بكساد النقد. ففي هذه الحالة لو اشترى شخص سلعة ما بنقد محدد معلوم، ثم كسد ذلك النقد قبل الوفاء، أو استدان نقدًا معلومًا ثم كسد قبل الأداء، أو وجب في ذمته المهر المؤجل من نقد محدد ثم كسد قبل حلوله، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال:
القول الأول لأبي حنيفة: وهو أن النقد الذي كسد إذا كان ثمنًا في بيع، فإنه يفسد العقد ويجب الفسخ ما دام ممكنا؛ لأنه بالكساد خرج عن كونه ثمنًا؛ لأن ثمنيته ثبتت بالاصطلاح، فإذا ترك الناس التعامل به فإنها تزول عنه صفة الثمنية، فيبقى المبيع بلا ثمن، فيفسد البيع , أما إذا كان دينا في قرض، أو مهرا مؤجلاً، فيجب رد مثله ولو كان كاسدًا؛ لأنه هو الثابت في الذمة لا غيره.
القول الثاني لأبي يوسف، والحنابلة على الراجح عندهم، والمالكية في غير المشهور: وهو أنه لا يجزئ رد المثل بعد ما كسد، ويجب على المدين رد قيمة النقد الذي وقع عليه العقد يوم التعامل من نقد آخر. وإنما اعتبرت القيمة يوم التعامل؛ لأنه وقت الوجوب في الذمة.
والقول الثالث لمحمد بن الحسن الشيباني وبعض الحنابلة: وهو أنه يجب على المدين رد قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر وقت الكساد، أي في آخر نفاقها، وهو آخر ما تعامل الناس بها؛ لأنه وقت الانتقال إلى القيمة، إذ كان يلزمه برد مثلها مادامت نافقة، فإذا كسدت انتقل إلى قيمتها وقتئذ.
الشيخ عبد الله البسام:
هذا هو المشهور لمن؟
الشيخ نزيه حماد:
مشهور المذهب.
والقول الرابع للشافعية والمالكية على المشهور عندهم: وهو أن النقد إذا كسد بعد ثبوته في الذمة وقبل أدائه، فليس للدائن سواه، ويعتبر هذا الكساد كجائحة نزلت بالدائن، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدين قرضا أو ثمن مبيع أو غير ذلك.(3/961)
الحالة الثانية الكساد المحلي للنقد: وذلك بأن يكسد النقد في بعض البلاد لا في جميعها، ومثله في عصرنا الحاضر العملات التي تصدرها بعض الدول وتمنع تداولها في خارج حدود أراضيها. وفي هذه الحالة إذا اشترى شخص بنقد نافق، ثم كسد في البلد الذي وقع فيه البيع قبل الأداء، فإن البيع لا يفسد، ويكون البائع بالخيار بين أن يطالبه بالنقد الذي وقع به البيع، وبين أخذ قيمة ذلك النقد من عملة رائجة، وهذا هو القول المعتمد عند الحنفية. وحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إذا كسد النقد في بلدة واحدة فيجرى عليه فيها حكم الكساد العام في سائر البلاد، اعتبارًا لاصطلاح أهل تلك البلدة.
الحالة الثالثة انقطاع النقد: وذلك بأن يفقد النقد من أيدي الناس ولا يتوفر في الأسواق لمن يريده. وفي هذه الحالة لو اشترى شخص سلعة بنقد معين ثم انقطع قبل أن يؤدي الثمن، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال:
القول الأول للحنابلة ومحمد بن الحسن الشيباني وهو المفتى به في مذهب الحنفية: وهو أن على المشتري أداء ما يساويه في القيمة في آخر يوم قبل الانقطاع، لتعذر تسليم مثل النقد بعد انقطاعه، فيصار إلى بدله وهو القيمة. ومثل ذلك يقال في دين القرض وغيره. وإنما اعتبرت القيمة قبيل الانقطاع لأنه الوقت الذي ينتقل الوجوب فيه من المثل إلى القيمة.(3/962)
والقول الثاني لأبي يوسف: وهو أنه يجب على المدين أداء ما يساويه في القيمة يوم التعامل؛ لأنه وقت الوجوب في الذمة.
والقول الثالث لأبي حنيفة: وهو أن الانقطاع كالكساد يوجب فساد البيع.
والقول الرابع للشافعية والمالكية: وهو أنه إن أمكن الحصول على ذلك النقد مع فقده وانقطاعه فيجب الوفاء به، وإلا فتجب قيمته، سواء أكان دين قرض أو ثمن مبيع أو غير ذلك.
الحالة الرابعة غلاء النقد ورخصه: وذلك بأن تزيد قيمة النقد أو تنقص بالنسبة إلى الذهب والفضة. ويعبر الفقهاء عن ذلك بالغلاء والرخص. وفي هذه الحالة إذا تغيرت قيمة النقد غلاء أو رخصًا بعد ما ثبت في ذمة المدين بدلا في قرض أو دين مهر أو ثمن مبيع أو غيره، وقبل أن يؤديه، فقد اختلف الفقهاء في ما يلزم المدين أداؤه على ثلاثة أقوال:
القول الأول لأبي حنيفة والمالكية في المشهور عندهم والشافعية والحنابلة: وهو أن الواجب على المدين أداؤه هو نفس النقد المحدد في العقد والثابت دينا في الذمة، دون زيادة أو نقصان، وليس للدائن سواه. وقد كان القاضي أبو يوسف ذهب إلى هذا الرأي أولا ثم رجع عنه.(3/963)
والقول الثاني لأبي يوسف أخيرا وعليه الفتوى عند الحنفية: وهو أنه يجب على المدين أن يؤدي قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة من نقد رائج، ففي البيع تجب القيمة يوم العقد، وفي القرض يوم القبض.
والقول الثالث وجه عند المالكية: وهو أن التغير إذا كان فاحشًا فيجب أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص. أما إذا لم يكن فاحشًا فالمثل. يقول الرهوني، معلنًا على قول المالكية المشهور بلزوم المثل ولو تغير النقد بزيادة أو نقص. يقول الرهوني: قلت: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدًا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه لوجود العلة التي علل بها المخالف. وبالنظر في هذه الأقوال الثلاثة وتعليلاتها يلوح لي:
(أ) أن الاتجاه الفقهي لإيجاب أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة، هو الأول بالاعتبار من رأي الجمهور الذاهبين إلى أن الواجب على المدين أداؤه إنما هو نفس النقد المحدد في العقد والثابت في الذمة، دون زيادة أو نقصان، وذلك لاعتبارين:
أحدهما: أن هذا الرأي هو الأقرب للعدالة والإنصاف، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، والله يأمر بالقسط.
والثاني: أن فيه رفعا للضرر عن كل من الدائن والمدين، فلو أقرضه مالا فنقصت قيمته، وأوجبنا عليه قبول أداء المثل عددًا تضرر الدائن؛ لأن المال الذي تقرر له ليس هو المستحق، إذ أصبح بعد نقصان القيمة معيبا بعيب النوع المشابه لعيب العين المعينة، حيث إن عيب العين المعينة هو خروجها عن الكمال بالنقص، وعيب الأنواع نقصان قيمتها. ولو أقرضه مالا فزادت قيمته وأوجبنا عليه أداء المثل عددًا تضرر المدين لإلزامه بأداء زيادة عما أخذ، والقاعدة الشرعية الكلية أنه لا ضرر ولا ضرار.
(ب) أن الرأي الذي استظهره الرهوني من المالكية بلزوم المثل عند تغير النقد بزيادة أو نقص إذا كان ذلك التغير يسيرا، ووجوب القيمة إذا كان التغير فاحشا أولى في نظري من رأي أبي يوسف المفتى به عند الحنفية بوجوب القيمة مطلقا، وذلك لاعتبارين:(3/964)
أحدهما: أن التغير اليسير مغتفر قياسا على الغبن اليسير والغرر اليسير المغتفرين شرعًا في عقود المعاوضات المالية؛ من أجل رفع الحرج عن الناس، نظرًا لعسر نفيهما في المعاملات بالكلية، ولغرض تحقيق أصل تشريعي مهم؛ وهو استقرار التعامل بين الناس، بخلاف الغبن الفاحش والغرر الفاحش، فإنهما ممنوعان في أبواب البيوع والمعاملات.
والاعتبار الثاني: أن التغير اليسير مغتفر تفريعا على القاعدة الفقهية الكلية: أن ما قارب الشيء يعطى حكمه، بخلاف التغير الفاحش، فإن الضرر فيه بين والجور فيه محقق.
الحالة الخامسة التضخم والانكماش: وهذه الحالة لم يذكرها الفقهاء في كتبهم، ولم يتعرضوا لها في مدوناتهم؛ إذ لم يكن لها من الخطر في زمانهم مثل مالها في عصرنا الحاضر. وحقيقة هذه الحالة أن يطرأ التضخم أو الانكماش بعد الوجوب في الذمة وقبل الوفاء، بحيث تنخفض أو ترتفع القوة الشرائية للنقد الثابت دينا في الذمة تجاه السلع والمنافع والخدمات التي تبذل عوضًا عنه. والذي يستنتج من كلام الفقهاء في مسألة تغير النقود، أن التضخم أو الانكماش وحدهما لا تأثير لهما على الديون البتة، ولو حدث أن قارن التضخم أو الانكماش إحدى الحالات الآنفة الذكر، فإن الحكم يناط بتلك الحالة بغض النظر عن التضخم والانكماش الملازم أو العارض. هذا هو الحكم في الديون التي لا ارتباط لها عند وجوبها بالقوة الشرائية للنقد.(3/965)
أما الديون التي روعي في تحديدها قوة النقد الشرائية وقت الوجوب، ثم طرأ التضخم المالي وانخفضت تلك القوة الشرائية، فإنها تتغير بحسب نسبة التضخم الحادث، كما في دين النفقة إذا قدره القاضي وفرضه على من تجب عليه بالنظر إلى أسعار الأشياء التي يحتاجها مستحق النفقة وقت التقرير، ثم ارتفعت أسعار هذه الحاجيات في السوق، ففي هذه الحالة يحكم بتغير الدين تبعًا لتغير الوضع المالي للنقد؛ لأن القاعدة التي بني عليها تقدير النفقة إنما هي تحقيق الكفاية للمنفق عليه. وهذا المبلغ المقرر بعد طروء التضخم أصبح غير كاف للوفاء بالغرض المناط به، فلهذا يتغير الدين تبعًا لتغير مناطه، ويزاد مقداره وفقًا لنسبة التضخم الحادث. وعكس ذلك يقال في حالة طروء الانكماش في مثل هذه الواقعة، ومثل ذلك مرتبات الموظفين والجند والعمال إذا كان تقديرها لهم معتبرا بالكفاية، فإنها تتغير ارتفاعًا وانخفاضا بحسب الغلاء والرخص، وتبعا للتضخم والانكماش. نص على ذلك الماوردي في الأحكام السلطانية، وأبو يعلى في الأحكام السلطانية، وبدر الدين ابن جماعة في تحرير الكلام وغيرهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
هذه هي القضية الأولى المطروحة في الموضوع، وهناك عدة قضايا أخرى. هل يرى الرئيس أن أعرضها الآن أم بالتسلسل؟(3/966)
الرئيس:
الذي نعرفه أن الذي لدينا قضيتان: إحداهما قضية تغير قيمة العملة وتفضلتم بها، والثاني أحكام النقود الورقية من حيث العلة، ومن حيث نظرية تكييفها الفقهي.
الشيخ نزيه حماد:
تحب نعاود الثانية؟
الرئيس:
تفضل المفروض أن تكون هي الأولى.
الشيخ نزيه حماد:
هذه هي القضية الأولى التي طرحتها في الموضوع، أما الثانية فهي قضية اعتبار العملة الورقية نقدا قائما بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة؛ نظرًا لتحقق الثمنية فيه. وهذا ما اتجه إليه مجمع الفقه الإسلامي بمكة والأبحاث المقدمة في الموضوع، باستثناء بحث فضيلة الشيخ العثماني، فقد جعل العملة الورقية في حكم الفلوس الرائجة، وأثر ذلك الاختلاف يتضح فيما يلي:(3/967)
أولاً: في الجزم بعدم صحة بيع الجنس الواحد من العملة الورقية ببعض متفاضلا بإطلاق، فلا يجوز بيع عشرة ريالات سعودية ورقا بأحد عشر ريالاً ورقًا، ولو مع تعجيل البدلين، وهذا ما اتجه إليه مجمع الفقه الإسلامي بمكة وآراء الباحثين الكاتبين في الموضوع جميعهم.
ثانيًا: يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقا إذا كان يدا بيد، كبيع الدينار الأردني بالدولار الأمريكي مع التفاضل، إذا كان ذلك يدا بيد، ولا يجوز ذلك من غير تقابض. وهذا ما اتجهت إليه آراء الكاتبين في الموضوع باستثناء بحث فضيلة القاضي الشيخ العثماني الذي مال إلى رأي الحنفية في الفلوس الرائجة، فلم يشترط التقابض في المجلس من الطرفين، واكتفى بإيجاب تسليم أحد العاقدين بدله؛ لئلا تؤول المعاملة إلى بيع الكالئ بالكالئ.
ثالثا: وجوب زكاة الأوراق النقدية إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة، أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة. وبهذا أخذ مجمع الفقه الإسلامي بمكة، واتجهت إلى ذلك آراء الباحثين في الموضوع، وهذه خلاصة الكلام في أحكام العملة الورقية وفي تغير النقود. وشكرًا.
الرئيس:
شكرًا، بسم الله الرحمن الرحيم ...
الواقع أن الذي أمامنا هو بحثان: أحدهما الموضوع الأصل وهو أحكام النقود الورقية، والثاني: تغير قيمة العملة. أما الموضوع الأول وهو الثاني عرضا عند فضيلة الشيخ نزيه، فهو أحكام النقود الورقية، وركيزة البحث في هذا الموضوع تنطلق من أمرين:
أما الأمر الأول فهو التصحيح لعليتها، وتعلمون أن لأهل العلم في هذا أقوالاً ثلاثة:
القول الأول: أن العلية أو العلة هي الوزن، وهذه العلة منقوضة بالإجماع على إسلامها في الموزونات.
والعلة الثانية: هي غلبة الثمنية، وغلبة الثمنية في الموضوع الواقع هي علة قاصرة لا تتجاوز النقدين الذهب والفضة.
القول الثالث: هو مطلق الثمنية، ومطلق الثمنية عليه جماعة من أهل العلم ومن المحققين وهو الذي ذهب إليه عدد من المجامع العلمية والدراسات المعاصرة، وهو تعليل في الواقع بوصف مناسب؛ لأن النقدين كما تعلمون ليس لهما حد موضوع من الشارع، وإنما يحصلان بالقوة الاقتصادية والقوة السلطانية، وإنما من حيث تكييفها الفقهي فقد حصل في ذلك عدة نظريات لدى أهل العلم المتأخرين والمتقدمين، فالنظرية أو الاعتبار الأول: اعتبارها إسنادًا، وهذا أمر فيه من الضيق والحرج ما لا يخفى. والنظرية أو الاعتبار الثاني: اعتبارها عروض تجارة، وهذا فيه من التوسع وإفقادها لقيمتها الثمينة ما لا يخفى، إضافة إلى أنه يترتب على هذا إذا اعتبرناها عروض تجارة، فإنه لا تجب فيها الزكاة إلا إذا نوى صاحبها أو مالكها فيها التجارة.(3/968)
والنظرية الثالثة أو الاعتبار الثالث: إلحاقها بالفلوس. والرابعة: هو اعتبار هذه الأوراق النقدية ثمنا قائمًا بنفسه، وللعلامة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى بحث مستفيض بهذا. وقد ذهبت إليه لجنة الفتيا في الأزهر في ذلك الوقت. هذه الأشياء التي يمكن أن ينطلق منها البحث في موضوع أحكام النقود الورقية. وكان مجمع الفقه الإسلامي بمكة - كما تفضل الشيخ نزيه - قد أصدروا قرارهم في هذه الناحية فقط، إذ اعتبروا هذه الأوراق ثمنا قائما بذاتها، واعتبروا العلة هي مطلق الثمنية. والأمر على كلٍّ عُرضَ هنا الآن، وهو مطروح لمداولاتكم وآرائكم، وما يفتح الله به سبحانه وتعالى عليكم.
أما تغير قيمة العملة فمع جلالة البحث الذي تفضل به الشيخ نزيه وعرضه للخلاف وحصره لمواطن الخلاف في هذه المسألة على اختلاف فروعها، إلا أنكم تلحظون أن المسألة من الأهمية بمكان، فإنها تنتظم عددا من أبواب الفقه فهي تنتظم باب النكاح وتنتظم كتاب المعاملات في عدد من أبوابه، كالبيع والقرض ونحوهما. وعلى كلٍّ الأمرُ في هاتين القضيتين مطروح على نظركم، وقد ترون مناسبًا أن نبدأ البحث في المسألة الأولى، وهي أحكام النقود الورقية، وشكرًا.(3/969)
الشيخ عبد الله بن بيه:
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
وبعد، فقد أعددت في هذه القضية بحثًا هو بين أيديكم بدأته بمقدمة قصيرة. الحمد لله الحي القيوم، العزيز الحكيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وصحبه أهل العلم الصحيح والمنهج القويم، والذوق السليم.
وبعد، فهذا بحث في نقود الكاغد، محذوف الشواهد، مطروح الزوائد، يحتوي إن شاء الله على بعض الفوائد، لا يدعي اقتناص الشوارد، ولا تقيد الأوابد، في مجال لم يترك الرواد فيه وشلا لوارد، صغته في شكل مسائل، وسلكت فيه سبيل أهل الفتوى في النوازل، لا أقول فيه كما قال الشاعر: كم ترك الأول للآخر
بل أكتفى ...
الرئيس:
يا شيخ عبد الله هل ستقرءون البحث؟(3/970)
الشيخ عبد الله بن بيه:
والله إذا اتسع الوقت أفضل أقرأه أو أختصره.
الرئيس:
نحن كما تعلمون حددنا منهجا معينا، وهو أن يكون العرض لواحد من الباحثين، ثم بعد ذلك أصحاب البحوث في المداولة والمناقشة. وفضيلتكم في رأس الذين كتبوا بحثا مستفيضًا في هذا الموضوع. فإذا كان لكم مناقشة في موضوع أحكام النقود الورقية وليس في تغير قيمة العملة لأن هذا موضوع ثان، نريد أن نخلص من هذا وندخل في الموضوع الثاني.
الشيخ عبد الله بن بيه:
نعم إذن سأحاول أن شاء الله إن أقدم جوابًا على المسألة مختصر:
في مسألة النقود قمت أولاً بتعريف لغوي وتعريف اصطلاحي للنقود، التعريف اللغوي أعفيكم منه وكذلك التعريف الاصطلاحي فهو معروف. وقد قدم هذا التعريف جملة من الفقهاء الذين قدموا البحوث. ثم بعد ذلك قسمت مسألة النقود إلى مسائل.(3/971)
المسألة الأولى: تتعلق بحكم طبع النقود الورقية، وقلت: إن الجواز يخضع لضوابط تمنع إنزال الضرر بالناس لحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) ، وسقت على ذلك جملة من الأدلة. ختمت هذه المسألة الأولى بقولي: إلا أن ضابط الجواز هو ما ذكرناه سابقًا من عدم إلحاق الضرر بالناس في ممتلكاتهم ومعاملاتهم وعدم بخس أشيائهم، وتعريض اقتصادهم للفوضى والاضمحلال. فالأصل الجواز فيما سلم من ذلك، خصوصًا إذا عري عن سبب يجعل شبهة التحريم قائمة كنيابة النقود الورقية عن العين الغائبة، مما يؤدي إلى الصرف المؤجل، ومع ذلك فنحن نشاهد فوضى نقدية تتلاعب بأموال الناس، وتحيل أرصدتهم إلى أوراق من الكاغد لا قيمة لها، مما يجعل جوازها خاضعًا للقاعدة الشرعية المتمثلة في أن الحاجي ينزل منزلة الضروري كالإجارة، حيث خالفت القياس لورود العقد على منافع معدومة. فالحاصل أنها إذا لم تترتب عليها أضرار اقتصادية فهي جائزة.
هذا أولاً في مسألة جواز طبع النقود الورقية.
المسألة الثانية: تتعلق ببيع هذه النقود بعضها ببعض، هل يدخله الربا؟(3/972)
إذا كان بيع هذه النقود بعضها ببعض أو بالذهب والفضة يدخلهما الربا، كما يدخل في الذهب والفضة، أو لا يدخل فيهما الربا إلا ما يدخل في العروض، فما هو الحكم في هذه المسألة؟ هذه المسألة رأيت أن للعلماء فيها موقفين، قسمت مواقف العلماء إلى موقفين:
الموقف الأول: يتمثل في انتفاء الربوية، وقد يختلف معتنقوه في التعبير عنه بسبب اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، بين مانع للقياس مكتفيًا بالنص، وهذا ما لم تشيروا إليه يا سيادة الرئيس، وهو موقف موجود كأساس في سائر الأصناف، وبين من لا يتخذ هذا الموقف المبدئي فهو يجيز القياس، إلا أنه ينفي وجود علة في هذا المكان بالذات، أو يعترف بوجود علة فيه غير أنه يدعي فيها القصور. واختصارا للبحث فإننا نجعل تحت هذا الموقف من يعتبرها كالفلوس، وهو ينفي الربوية عن الفلوس، ومن يجعلها كالعروض لأنه يثبت للفلوس نوعًا من الربوية لا يخضع لعلة الثمنية. أما الظاهرية فإن موقفهم ينسجم مع مذهبهم الذي يرفض القياس، ويرى في النصوص كفاية للقضايا المتجددة، ولهم ما لهم وعليهم ما عليهم. وقد نحا منحى الظاهرية في هذه المسألة جملة من العلماء، فمن السلف طاوس وقتادة وعثمان البتي وأبو سليمان. كما حذا حذوهم ابن عقيل من الحنابلة وأبو بكر الباقلاني من المالكية والأخير عن ابن رشد في البداية واللخمي أيضًا من المالكية عن أحمد بن علي المنجور في شرحه القواعد.(3/973)
ونصنف في نفس الاتجاه من يعلل علة لا تتناول النقود الورقية، كالوزن عند أبي حنيفة وأحمد في أحد قوليه، ولا داعي لنقل كلام هؤلاء لوضوح كلامهم واشتهاره. كما نصف في نفس الاتجاه أيضًا من يعلل بالثمنية أو الثمنية الغالبية، وهو يصرح بأن هذه العلة قاصرة وليست صالحة للتعدية إلى غير محلها.
وهؤلاء يجدر بنا أن نتعرض لبعض أقوالهم وآرائهم؛ نظرًا للالتباس الذي يوحي به التعليل بالثمنية. ونقف وقفة قبل أن نسترسل معهم لنشير إلى أني ذكرت هنا كلامًا لأبي بكر الباقلاني وهو قوله: أما الاستدلال فقسم لا يشهد له أصل من الأصول الثلاثية، وهو كلام في موضوع آخر، إلا أنه له علاقة حميمة بهذا الموضوع يقول:
وإذا لم يكن يشترط استناد الأمور إلى الأصول لم ينضبط الشرع، واتسع الأمر، ورجع الشرع إلى اتباع وجوه الرأي واقتضاء حكمة الحكماء، فيصير ذوو الأحلام بمنزلة الأنبياء، إلى أن قال: ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان وأصناف الخلق، وهو في الحقيقة خروج عما درج عليه الأولون. ولعل الشافعية يفكرون مثل تفكير القاضي أبي بكر الباقلاني وإن كان إمام الحرمين قد اعترض عليه في موضوع لا يتعلق بهذا الموضوع، فنجد أن إمام الحرمين ناقش هذه المسألة بالعلة القاصرة، ورددها مرارا فقال: إذا استنبط القائس علة في محل النص وكانت مقتصرة عليه منحصرة فيه لا تتعداه، فالعلة صحيحة عند الإمام الشافعي رضي الله عنه.
ونفرض المسألة في تعليل الشافعي: تحريم ربا الفضل في النقدين بالنقدية، وهي خاصة بالنقدين لا تتعداهما، وقد أطال النفس، وناقش نفاة العلة القاصرة كالأحناف في هذه المسألة، وعرج على مسألة الفلوس أكثر من مرة قائلاً: ولقد اضطرب أرباب الأصول عند هذا المنتهى، ونحن نذكر المختار من طرقهم.. إلى آخر ما ذكره إمام الحرمين، وما ذكره السبكي في ذلك، وما ذكره النووي من اعتبارهما العلة قاصرة على النقدين.
وتعرضت هنا للعلة القاصرة وعرفتها بما ذكره الآمدي وماذكره السبكي وما ذكره سيدي عبد الله في نشرالبنود، وما ذكره أبو حامد الغزالي حول العلة القاصرة، وبينت هنا ما هي هذه الثمنية. منحاهم صعب هم يقولون بالثمنية ويقولون: هي قاصرة، ونلاحظ حرصهم على التمثيل للعلة القاصرة بالنقدية أو الثمنية أو غلبة الثمنية أو كونها قيمة للأشياء، كل هذا يدل على أن المعللين بالثمنية أو غلبتها ويقولون بقصور العلة، يرون أنها ثمنية من نوع خاص. وهذا كقول البهوتي الحنبلي في زكاة الذهب والفضة في كتابه كشاف القناع: وهما الأثمان.(3/974)
ثانيًا: إن النقدية الشرعية كما سماها إمام الحرمين تعني فيما يبدو كون النقدين أثمانا بالخلقة، حيث تعتبر ثمنية غيرها ثمنية عارضة. ونرى أن علماء الفروع بنى كثير منهم على هذه النظرية، وذكرت كلامهم في النقدين.
أما وجهة النظر الأخرى القائلة بالثمنية المتعدية، وجهة النظر الأخرى الفريق الآخر الذي يقول بالربوية، فهو الفريق الذي يقول بالثمنية المتعدية. وقد عبر عنها الغلبية الثمنية أي غلبة الاستعمال في التبادل أو مطلق الثمنية، ويمثلها المالكية لأن مالكًا ... وذكرت كلام مالك في ذلك، وهو كلام معروف عندكم، وذكرت أقوال المالكية.
وقد بينت هنا طريقًا خاصًا وهو أن هذه المسألة مبنية على القاعدة المعروفة عند المالكية بقاعدة البينة. وهي إيجاد حكم بين حكمين، أو إيجاد حكم يستند إلى دليلين، قاعدة البينة إذا وجد دليلان راجحان يشبه حكم كل واحد منهما، ولم يتمحض شبهه لواحد منهما، فإن المالكية يبنون على ذلك قاعدة يسمونها بقاعدة البينية ذكرها الزقاق فقال:
وبيع ذمي وعتق هل ورد
الحكم بين بين كونه اعتقد
كالبيع مع شرط يصح وبطل
وحكم زنديق وشبهه نقل
وذكرت كلام المنجور في شرحه للزقاق في مخطوطة لأحد تلاميذه التي هي عندي. وبنوها أيضًا على قاعدة حكم النادر: هل النادر يعتبر حكمه في نفسه أو يعتبر له حكم الغالب؟
وهل لم ندر حكم ما غلب
وحكم نفس كالفلوس والرطب
وكسلحفاة وقت ندرًا
كذا مخالط وعكس ذكرًا
ذكرت هنا كلام المنجور وهو كلام غير معروف لأنه مازال مخطوطًا عندما ذكر أن اللخمي يقول: هذا شرح غير معلل، وأن بعض العلماء "ابن بشير " ادعى الإجماع على التعليل، وأشهب قال: إن القائسين مجموعون على التعليل، ثم ذكر قول أبي بكر بن العربي رحمه الله تعالى أن العلة قاصرة في هذا الموضوع لا يعرف موضع توجد فيه العلة قاصرة في الأصول إلا في هذا الموضع بالذات.
ثم بعد ذلك تعرضنا لكلام ميارة الذي أوجز فيه أقوال علماء المالكية الثمنية قبل الغلبة، وهو معروف عندكم. في النهاية أشرت إلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وكلام أبي بكر بن العربي. كلام أبي بكر بن العربي الذي اعتبر أقوى كلام على الإطلاق عند المالكية. كلام أبي بكر ابن العربي يقول: إن الناس لو تعاملوا بالجلود، وذكر كلام مالك ثم قال: إنه رأى الناس يتعاملون في بغداد بالخبز، وجعل التعامل بالخبز كافيا لجعله ثمنا للأشياء، وهو من أقوى كلام ذكره علماء المالكية وقال: إن مالكا اعتبر المعنى، وأن هذا المعنى لم يتفطن له غير مالك، وتبعه جماعة من المالكية.
فالمسألة يمكن أن تعامل بتحقيق المناط، وقد ذكرت تعريف القرافي لتحقيق المناط، بمعنى أن الثمنية لم تكن موجودة في ذلك الوقت ولم تكن غالبة، وحينما وجدت أو غلبت فيحقق المناط، ويقال بأنها أصبحت ربوية؛ لأن الثمنية أصبحت غالبة. وغلبة الثمنية عند المالكية ليست كغلبة الثمنية عند الشافعية، غلبة الثمنية عند الشافعية تعني أنها أصل الأثمان، كما عبر به المنجور قائلاً عن الشافعي: إنها أصل الإثمان، أصل الإثمان هو الذهب والفضة أو أنها ثمنية من نوع خاص؛ لأنها النقود الشرعية كما قال إمام الحرمين. هنا عبارات يجب التنبيه إليها في كلام الشافعية عند هذه القضية. في النهاية ذكرت بواعث الطرفين، وهذا فقد ساقه هذا.(3/975)
فتلخص مما مر قيام مذهبين أو موقفين من النقود الورقية:
أولهما: موقف من يقول بعدم ربوية النقود أو على الأصح يذهب إلى عدمها؛ لأنه لا نص من الأقدمين في النقود الورقية، ولكنها مشمولة بالعموم وبالنص على المثيل، وهذا الموقف هو رأي أكثر العلماء كما أسلفنا. ويمكن إرجاع بواعثهم حسب رأينا إذا قرأنا كلامهم قراءه متأنية إلى ما يلي:
أولاً: أن تحريم الربا أمر تعبدي لا تظهر له علة واضحة معقولة، فهو من قبيل الابتلاء والاختيار، وما كان من هذا القبيل يقتصر على محل الورود، والقرآن يشهد؛ لأن بعض التكاليف تأتي للابتلاء، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] فالتكاليف اختلف العلماء هي للامتثال أو الابتلاء. هذا معروف لديكم من كلام الأصولين. الباعث الأول هو الابتلاء.
ثانيًا: إن الذهب والفضة لهما مزايا وخصائص لا توجد في غيرهما، فهما معدنان نفيسان قابلان للكنز واختزان الثروة ويبقيان على الزمن، هذا من ناحية الخلقة.
أما من ناحية الشرعية فيحرم اقتناء آنيتهما، ولا يجوز التحلي بهما للرجال غير ما استثنى الشارع، فهما أثمان بالخلقة، وهما أصل الثمنية، وهما النقدان الشرعيان.
ثالثًا: صعوبة إبراز علة مقنعة سالمة من القوادح مطردة منعكسة. وقد قدمنا قول إمام الحرمين أنه لا شبهة فيها ولا إخالة.
رابعًا: نوع من الخوف من التجاوز والافتيات على النصوص. نجد مثالاً له في ترجيح العلة القاصرة على المتعدية على رأي الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني إذا صح التعليل بهما. ومن رجح العلة القاصرة احتج بأنها متأيدة بالنص، وصاحبها آمن من الزلل في حكم العلة فكان، التمسك بها أولى. (البرهان إمام الحرمين)
خامسًا: أن ثمنية غير النقدين ثمنية مستعارة ومعرضة للزوال في أي لحظة، ومن شأن هذا أن يجعل الثمنية فيهما صفة عارضة.
سادسًا: إن التحريم تكليف، والتكليف يحتاج إلى ورود النص كحديث ((الطعام بالطعام)) الذي جعل الشافعي رحمه الله يرجح علة الطعمية، ويسهل ذلك على أصحابه المترددين – هنا إمام الحرمين يتردد كثيرًا في وجود العلة وقد قبلها بسبب هذا الحديث – مترددين في قبول تعديها؛ ولأن جهة التحريم محصورة، وجهة الإباحة لا حصر لها، فالواقعة إذا ترددت بين الطرفين ووجدت في شق الحصر فذلك، وإلا حكم فيها بحكم الآخر الذي أعفي من الحصر (إمام الحرمين أيضًا) .(3/976)
سابعًا: في الربا من الخطورة والتحريم ما لو كان قائمًا في هذه المسألة ما ترك بيانها، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] ، والفلوس كانت موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الفريق الآخر فيعتضد بما يلي:
أولاً: الشريعة جاءت لمصالح العباد ويستحيل أن تحرم شيئًا لمفسدة، وتترك شيئًا فيه نفس المفسدة، فنظير الحرام حرام. (ابن القيم) .
ثانيًا: التعليل أولى؛ لأنه أكثر فائدة وترك التعليل خشية، وما في ترجيح العلة القاصرة من الأمن ولا وقع له، فإنه راجح إلى استشعار خيفة لا إلى تغليب ظن وتلويح ملتقى من مسالك الاجتهاد. (إمام الحرمين) .
ثالثًا: إعمال التعليل في أربعة من الستة وتركه في اثنين تحكم، أي ترجيح بلا مرجح.
رابعًا: أن الغلبة الثمنية أصبحت واقعًا للنقود الورقية، فالاعتراف لها بأحكام النقدين إنما هو من تحقيق المناط، وليس إحداثًا لاجتهاد جديد، إلا بقدر ما يقتضيه تحقيق المناط؛ لأن الحكم كان موجود معلقًا، وقد تحقق شرطه في جزئية، فيجب إثبات الحكم.
خامسًا: إن عدم إجراء الربا فيها تعطيل لحكم يتعلق بمسألة خطيرة من مسائل المعاملات.
هذه والله سبحانه وتعالى أعلم هي بواعث الطرفين، ذكرتها كما هي، وذكرت أقوالهم كما هي، أمانة لا تبرأ من أمانة نقلي، حتى أكون أمينًا فيما نقلته عن الطرفين. وبعد هذا رأيي وهو رأي توقف في الحقيقة، أنا متوقف، رأيي هو التوقف.
وبعد فإن تصفح كلام العلماء لا شك يساعد على تكوين رأي، وإعطاء صورة مميزة لأي موضوع، ذلك هو الهدف وراء مراجعة كلام الأقدمين والمتأخرين، ومقارنة أقوال المحلين والمحرمين. إلا أن النتيجة الأولى التي يمكن أن يخرج بها المرء بعد أن طالع أقوال الفقهاء هي ملاحظة الاضطراب الواضح عند أكثرهم في هذه المسألة. فلا يكاد أحدهم يبرم رأيا إلا كر عليه بالنقض، ولا يبسط وجها إلا عاد بالقبض. وهكذا دواليك حتى يقول القارئ: حنانيك بعض القول أهون من بعض. والفلوس إلا تكن عينا فإنها ليست غير عرض ((ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)) ، والشبهة بدون شك قائمة؛ إذ حدها ما تجاذبته الأدلة، أو أشبه أصلين دون قياس علة مستقل. وهنا تجاذب هذه القضية العفو، وهو أصل يرجع إليه عند سكوت الشارع، وعدم ثبوت سبب أو قيام مانع لحديث: " وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن ينسى شيئًا "، ثم تلا هذه الآية:(3/977)
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] أخرجة البراز في مسنده والحاكم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال: إسناده صالح.
والأصل الثاني: هو شبه النقود الورقية بالعين لوجود علة مظنونة وحكمة مقدرة، وقد أجمل الفخر الرازي حكمة الربا في أربعة أسباب:
أولها: أنه أخذُ مال الغير بدون عوض.
ثانيهما: إن في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاق الإشغال في الاكتساب؛ لأنه إذا تعود صاحب المال أخذ الربا خف عليه اكتساب المعيشة، فإذا فشى في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق؛ لأن مصلحة العالم لا تنتظم إلا بالتجارة والصناعة والعمارة.
الثالث: أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض.
الرابع: أن الغالب في المقرض أن يكون غنيًا وفي المستقرض أن يكون فقيرًا، فلو أبيح الربا لتمكن الغني من أخذ مال الضعيف. وعلله الشيخ ابن عاشور بأنه حكم معلل بالمظنة.
إن كثرة العلل قد تدل على صعوبة التعليل، وفي التعليل بالمظنة خروج من المأزق، وكل ذلك يدل على صعوبة مركب القائسين وتوجه وجه حكم بين حكمين؛ لاشتباه الشبه في أوجه السالكين. فالشبهة تنشأ عن أسباب، منها: كون النص خفيًا، وورود نصين متعارضين، ومنها: ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيرًا. هذا كلام ابن رجب الحنبلي.
ومعلوم إن موضوعنا لا يوجد فيه نص خفي أو ظاهر، فضلاً عن وجود نصين متعارضين، فهو بالطبع من النوع الثالث الذي يؤخذ من القياس، وقد اختلف فيه العلماء، فهو إذن شبهة، فما هو حكم الشبهة؟ وقد فسر الإمام أحمد رحمه الله تعالى في أحد قوليه الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام. وقال الماوردي: هي المكروه بين الحلال والحرام، والقول لابن رجب في جامع علوم الحكم، الماوردي لأنه عقبة بين الحلال والحرام، ذكر ذلك الشبراخيتي في شرحه على الأربعين النووية.(3/978)
فإذا كان الأمر على ما ذكرت، والإمام مالك يصرح بالكراهة، ومن أصول مذهبه هي قيام حكم بين حكمين، والأئمة الآخرون لا يكرهون، فإن المسألة فيما يبدو مسألة كراهة، والكراهة حكم من الأحكام الشرعية يجب أن يعاد إلى حياة المسلمين العملية في بيوعهم وأنكحتهم، فيمتاز أهل الورع عن غيرهم، ويترك لدى الحاجة مندوحة عن ارتكاب الإثم السافر، إلا أنها كراهة شديدة؛ كراهة تحريم، والله سبحانه وتعالى أعلم. ومذهبي في الحقيقة هو التوقف؛ لأننا لا يمكن أن نلغي مرة واحدة أقوال الأئمة بسبب علة مظنونة. هذه العلة قد تكر على أصلها بالإبطال، بحيث لو قلنا: إن الثمنية هي العلة، وإن الذهب والفضة لم يعودا الآن أثمانا للأشياء، معنى ذلك: إن الربا يبطل فيهما، والربا لن يبطل فيهما إلى قيام الساعة؛ لأنه هو موضوع النص، ولأن الإجماع وقع على ذلك، فكيف نقول بعلة تكر على أصلها بالبطلان، هذا لا يمكن مطلقًا. الله سبحانه وتعالى أعلم.
الرئيس:
شكرًا، في الواقع أن الذي يقرأ كلامكم يا شيخ أو يسمعه، فيكاد يقطع عن رأيكم أن العلة هي مطلق الثمنية، والتوقف سمعناه سماعًا فقط، هذا الذي يظهر؛ لأنه واضح الاتجاه في البحث هذا.(3/979)
الشيخ عبد الله بن بيه:
سيدي الرئيس: لأنك لم تسمع بواعث الآخرين ذكرت بواعث الطرفين.
الرئيس:
لا؛ لأني قرأته، قرأت بحثكم ليس جديدًا عليّ أنا قرأته.
الشيخ إبراهيم الغويل:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
بعد أن استمعنا إلى تحرير موضوع المناقشة من السيد رئيس المجمع، ثم استمعنا لتصفح آراء الأقدمين في هذا البحث القيم من الشيخ ابن بيه، أعتقد أنه قد يكون من المناسب أن نلم ولو إلمامًا بالتصور العصري لقضية النقود الورقية بالذات تعرض في مجالين: تعرض في مجال تاريخ النقود، وتعرض في مجال وظائف النقود.
في تاريخ النقود بدأت النقود أصلا بالذهب والفضة، ثم انتقلت إلى معادن أقل من ذلك، ثم إلى الورق، وهذا ينتظمه قانون يعرف بقانون " جريشم " الذي يقول الانتقال من الجيد إلى الرديء.
وظائف النقود حينما كانت النقود تقوم على الذهب والفضة، وهما كما استمعنا في الأصل هنا العلة أو المحددون للثمينة في العالم، وفي تاريخ الإنسانية لم تكن أمامنا هذه المشاكل التي استمعنا إليها هذا الصباح حول قضية التضخم والانكماش؛ لأن النقود كانت في ذلك الوقت عبارة عن مقياس للسلع ووسيلة تبادل، حينما أضيفت قضية الاختزان، وهي التي حاربها الإسلام في منع اكتناز الذهب والفضة، بدأت البشرية تنظر إلى مرحلة جديدة غريبة، وهي التي يبدو لي أنها كانت مطروحة في الورقة الأساسية، قضية الاختزان مكنت للنقود مكانًا خاصًا، بحيث أصبحت لها وظيفة جديدة لم تعرفها البشرية قبل ذلك. فهي في الأصل مقياس للسلع، وأداة للتبادل، ومنع أن تكون وسيلة للاختزان، على التطور المعاصر والحديث أصبحت وسيلة اختزان، وأصبحت هذه هي العامل المهم، ولذلك لجأوا إلى قضية السبائك الذهبية بداية، ثم لجأوا إلى قضية الغطاء الذهبي الذي يوجد في المصارف، ثم أخيرًا هذا في السبعينات الآن أو أواخر الستينات، تمكنت أمريكا أن تلغي الغطاء الذهبي، وبالتالي لم يعد هناك مرجع ذهبي تقاس إليه النقود، فأصبحت الوسيلة التي كانت أساسا مقياسًا للسلع قابلة لأن تزيد وتنقص.(3/980)
المتر محدد بمائة سنتيمتر، ولا يقبل أحد أن أخرج على الناس غدًا لأقول لهم: اليوم المتر مائة وخمسة أو مائة وعشرة. ولا يقبلون أن أخرج عليهم بعد غد لأقول: لهم اليوم المتر خمسة وتسعون سنتيمترا، لا يقبل أحد، بل يضربون على يد من يخرج للناس يقول: الكيلو اليوم تسعمائة وخمسون جرامًا وغدًا ألف وخمسون جراما، ولكن أمكن للتلاعب في النقد أن يقبل الناس أن مقياس السلع يزيد وينقص، لذلك يظل الإسلام يقدم حلا للبشرية المعاصرة، كما قدم دوما حينما يقول: إن الأصل النقدان، هما النقدان الذهب والفضة، وإذا وجدت عملة ورقية فهي تسند أو تقاس إلى غطاء ذهبي في ذلك. هذه هي القضية التي سارت عليها أكبر معركة بين مدرستين كبيرتين في العالم المعاصر المدرسة الفرنسية والمدرسة الأمريكية، ودافع ديجول بشدة على قضية الغطاء الذهبي، ولكن أمريكا تمكنت أن تجر العالم إلى أن يكون غطاؤها هو الدولار وتلعب بالدولار كما تشاء، فتسقط مداخيل شعوب ودول وتزيد متى شاءت.
فإذا نحن نملك حلاً وفقًا لما استمعنا من عرض آراء السابقين، ووفقًا للعرض القيم في تحرير موضع النقاش الذي قدمه السيد رئيس المجمع، أن نعود إلى النظر في العلية، ونؤكد على فكرة غالبية الثمنية على التعبير الذي لم يرغبه أستاذنا ابن بيه، ولكن أيضًا نقول، إنها علة قاصرة على الذهب والفضة، ولابد أن تقاس إليها النقود من جديد. أما أن انجررنا وراء علمية الأوراق النقدية في تاريخ الفكر سننجر إلى قضية الاختزان، والاختزان هو الذي أسس عليه فكرة سعر الفائدة وإباحة الربا، هذه هي القضية من وجهة النظر الحديثة والمعاصرة، وما أعتقد أنه يمكن للإسلام أن يقدمه إلى العالم المعاصر، وشكرًا.(3/981)
الرئيس:
شكرًا، إضافة بسيطة لما تفضل به الشيخ إبراهيم من عدم وجود الغطاء لهذه الأوراق، وهو باب الإضافة، وإلا فالأمر فيه وضوح. هو أن هذه القضية لما درست في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية استحضروا محافظ مؤسسة النقد، فأخذوا منه تقريرًا يفيد على أنه ليس هناك غطاء، وأن هذه العبارة الموجودة تتعهد الحكومة الفلانية لإعطائها القوة السلطانية والقوة الاقتصادية فقط. وإلا فإنه في الحقيقة ليس لها غطاء من ذهب ولا فضة.
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه وحده أستعين،
الحقيقة، الإنسان عندما يريد أن يتكلم عن النقود الورقية وعن أحكامها وعن تغيرها، لابد أن يستشعر، وأن يضع أمامه موضوعًا متعلقًا بها، وهو موضوع الربا؛ لأنه لا ينفك عنها.
فكتبت في هذه كلمة، وبينت الربا، والآيات القرآنية والأحاديث لا تخفى على فضيلتكم. ثم الذي يعنينا هنا أيضًا أن نبين ما هو حكم الفائدة المصرفية، هل هي ربا أم لا؟ وهذا انتهى منه العلماء والمسلمون وفقهاؤهم، أتيت أيضًا بالكلمة بقرارات المؤتمرات ومجامع البحوث، بأن الفائدة البنكية هي الربا المحرم شرعًا، أو من الربا المحرم شرعًا. ثم أتيت كإنسان يعمل في هذا العمل، وفي هذا الميدان منذ أربعين سنة، أقول بعد هذه القرارات التي مرت في الورقة: هل يأتي أحد ويقول: أعيدوا النظر، وجاروا العصر، وكونوا معتدلين، وعدلوا القرارات؛ لأن كل شيء ... بحث فقهاء المسلمين خمسين عاما وهم يبحثون هذا الموضوع، قتلوه بحثًا، وانتهوا به إلى حكم فقهي. ويقولون مجاراة للعصر: إن الفائدة البنكية ليست من الربا. ثم عرجت على النقد، وقلت: أليس بيع نقد بنقد بزيادة، سواء أكان آجلاً أم عاجلا ربا، فالأمة الإسلامية في الحقيقة مدعوة الآن، وبأكثر من أي وقت آخر لتصحيح المسار من منهج ربوي إلى منهج مشروع. ثم بينت بيوع النقد بالأجل وحرمته. وبينت ما ظهر لي في ست نقاط عن مضار التعامل بالربا وبالفائدة البنكية.(3/982)
أولاً: الوقوع فيما حرم الله، ثم أكل أموال الناس بالباطل. ثم بينت أن زيادة التكلفة على الحاجيات التي يحتاجها الناس بمقدار ما تحمل من فوائد بسيطة أو مركبة. ثم تركيز الثروة عند فئة قليلة من الناس غير منتجة تعيش على كدح الآخرين. وعند عجز المدين عن الوفاء يتراكن عليه الدين بزيادة الفائدة، مما يزيد من عجزه حتى يثقل كاهله، فإما يعلن إفلاسه، أو تستمر الفائدة بالزيادة حتى يركع ويبيع كل ما عنده ليسدد دينه وفوائده. الحقد والكراهية وما يؤدي إلى الفتن والحروب. تسلط الفئة الدائنة على المدينين وتسيير السياسة التي يفرضها الدائنون على مجتمعاتهم بما يتمشى مع مصالحهم، حتى ولو تضرر المجتمع. عند عجز المدينين عن الوفاء للفئة الدائنة تعجز الفئة عن تسليم الودائع لأصحابها عند حلولها، وبالتالي يعتبر الجميع في حالة إفلاس ثم النقود مثل ما قال أخي إبراهيم: النقود في الحقيقة - حسب ما ظهر لي كإنسان يعمل في هذا الميدان - وحدة قياسية للأثمان، بها قوتان: قوة اصطلاحية واعتبارية وسلطانية – كما قال فضيلة الأخ الرئيس – وقوة ثمنية. والوحدة القياسية ثابتة عندما تقاس مع ذاتها تساوي ذاتها تمامًا، كالوحدة القياسية الطويلة التي أشار لها الأستاذ ووحدة الأوزان، وإذا قلنا غير ذلك اختلت القواعد للوحدات القياسية، ويحصل الارتباك العظيم.
ثم في موضوع الأحكام، يعني في أحكام الورق، لما قلنا: إنه يعني فيه قوتان ثمنية واعتبارية، إذن حل محل النقدين الذهب والفضة، فيأخذ حكمهما شرعًا تباعًا.
وهذا في الحقيقة ما اتفق عليه علماء المسلمين، فيه الزكاة وفيه الحد، وفيه ما يصير على الذهب والفضة ينطبق على النقود الورقية، وهذا ما ذهب إليه جمهور فقهاء المسلمين في جميع مؤتمراتهم.
لو أردنا أن نأخذ بموضوع القوة الشرائية؛ لأنه في الحقيقة الموضوعان متشابكان لا يمكن فكهما، هو موضوع واحد: الربا والنقود الورقية وتغيرها، إذا أخذنا وقلنا: القوة الشرائية بالنسبة للنقد إيجابا أو سلبا، هذه الحقيقة سنة كونية منذ أن خلق الله الخليقة، القياس ثابت، والمتغير هو المقيس. فلو أردنا أن نقول: واحد داين واحد بمبلغ من المال، ثم بعد سنة عندما أراد أن يستوفي هذا المال لا يأتي بالقوة الشرائية، طيب، أي قوة شرائية؟ لشراء الأراضي، يعني نقيسه بأي عين من الأعيان؛ لأن الأعيان تختلف منسوبة إلى النقد ضعفها من قوتها فيه مثلا بعض المواد الغذائية تختلف عن مواد البناء، تختلف عن العقارات، تختلف عن كثير، يعني ليس هناك نسبة محددة يمكن قياسها، وتنضبط بالنسبة إلى القوة الشرائية من ضعفها أو قوتها. ثم إذا قلنا: أحد داين أحد الإخوان ألف دينار مثلاً، ثم جئت في آخر السنة.(3/983)
فالعملية في الحقيقة كيف أعطيه ألفا وخمسة دنانير، هذا أوقعنا في الربا، أو أعطيه خمسة وتسعين. كيف أقيس هذه القوة، ليس هناك وحدة قياسية منتظمة لهذا الموضوع. وهذا أيضًا بحث في ليبيا من قبل فقهاء المسلمين، وأنا حضرته والقانونيون موجودون والفقهاء والمحاسبون والبنك المركزي، وانتهينا إلى قرار بأن ما ينطبق على الذهب والفضة من أحكام ينطبق على الأوراق النقدية.
وهذا ما أدين الله سبحانه وتعالى عليه، وأشكركم، والسلام عليكم.
الشيخ إبراهيم الغويل:
شاء ربي أن يقدم الدليل الواقعي دائما أمام البشرية. حينما قدرت الدية في الإسلام قدرت بمائة رأس من الابل، ثم جاء الأحناف وقدروها بألف دينار ذهبية، قاسوا الألف دينار ذهبية كما كانت في ذلك العصر. واليوم مائة رأس من الابل ستجدونها سويًا هذا السر في وحدة القياس الثابتة في الذهب والفضة، إن اعتمدنا الغطاء الذهبي، وأمكننا أن نُذهب عن البشرية الخطر الذي دخلت فيه؛ لحفظنا لها وحدة قياس ثابتة. وشكرًا.(3/984)
الشيخ عبد العزيز الخياط:
بسم الله الرحمن الرحيم، وأصلى وأسلم على نبيه الكريم.
شكرًا فضيلة الرئيس.. الحقيقة استمعتم إلى بحث الأستاذ نزيه حماد، وإلى بحث الأستاذ عبد الله، ثم إلى مداخلات الأستاذ إبراهيم والأستاذ بازيع، وكل أبدى وجهة نظر جيدة، والبحوث مستفيضة، لكني قبل أن أبين رأيي في بعض النقاط، حقيقة أؤيد ما ذهب إليه الدكتور إبراهيم حينما تحدث عن وظائف النقود، وأن المشكلات العالمية التي نعانيها الآن هي بسبب فقدان التعامل بالذهب والفضة. ومن المعلوم أن الفرس كانوا يتعاملون بالدرهم بالفضة، والرومان كانوا يتعاملون بالذهب، وأن الإسلام اعتبر الذهب والفضة أساسين في التعامل. هذا أمر أرجو الله سبحانه وتعالى أن تتمكن الأمة الإسلامية في دولها المتعددة، حين يشاء الله أن تصبح دولة واحدة ش، أو على الأقل شبه دولة واحدة في اتحادها وقوتها، فتعيد العمل بالذهب والفضة أساسًا، وننجو من جميع المشكلات التي نقع فيها الآن ويقع فيها العالم، إلا أنني بالرغم من هذا أحب أن أقول: هناك واقع نعانيه الآن، وإلى أن نتمكن من الخلوص من هذا الواقع السيئ الذي يحياه المسلمون، أقول: سواء كانت العلة هي القوت والطعام والقابلية للادخار، أو الثمنية، أو الوزن والكيل في الأشياء المحرمة في الحديث الشريف، سواء أكان ذلك هذا الرأي بالنسبة للعلة، أو في رأي بعض المحدثين العلماء أنه لا يعتبر أية علة لتحريم تعامل الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة والبر بالبر ... إلى آخر الحديث الشريف.(3/985)
فيعتبر التحريم بالنص أنه لا علة فيه، وأن الثمنية والوزن أو الادخار أو غيرها أنها أوصاف لذلك، بغض النظر عن هذا أرى أن هذه العلة على كل حال هي علة استنباطية، أي بالاجتهاد، فليس هناك نص على أن العلة الثمنية أو الادخار أو الوزن ... إلى غير ذلك. والاجتهاد معرض للخطأ وللصواب، ولسنا نحن ملزمين بأخذ رأي مجتهد بعينه، إلا من يشاء أن يأخذ رأي مجتهد. والرأي المجتهد ممكن أن يتغير طبعًا إذا تغير مناط الحكم، ولهذا إذا تغير وصف العلة وهي الثمنية للذهب والفضة الآن، وبإلغاء التعامل بالذهب والفضة أصبحتا سلعتين كأي سلعتين أخريين في التعامل القائم الآن، وزال عنهما وصف الثمنية، وإذا كنا كذلك فانتقل التعامل بالذهب والفضة إلى التعامل بالأوراق، وحلت الأوراق النقدية محلها في التعامل، فينطبق حينئذ عليهما ما ينطبق على الذهب والفضة، وهو ما أشار إليه الأستاذ البازيع حفظه الله، وما أشار إليه من القرارات التي اتخذت بهذا الشأن. وإذا جاز التفاضل في بيع الذهب والفضة جاز التفاضل في بيع الأوراق النقدية المختلفة، أما الأوراق من جنس واحد كالدينار الأردني بدينار أردني، كالدولار بالدولار، فلا يجوز التفاضل فيه كبيع الذهب بالذهب، وما اشترطه الفقهاء في ذلك فمعروف. أما الأوراق المالية النقود ممكن أن نتناول بعض أنواعها مع بعض الحكم إذا سمح لي بدقيقتين فضيلة الرئيس، فأنا لا أحب الإطالة.(3/986)
أولاً: النقود الورقية النائبة عن الذهب والفضة فحكمها حكم الذهب والفضة، نقود ورقية تمثل تعهدًا من الجهة المصدرة بصرف قيمتها ذهبًا عند الطلب، هذا نوع من أنواع النقود. هذا مجرد التزام من تلك الجهة من تلك الدولة التي تصدرها، فالتعامل فيها أيضًا في رأيي أنه تعامل على أساس الذهب. أما إذا كانت الورقة تعهدا من الجهة المصدرة لتلك الأوراق لدفع قيمتها ذهبًا فهي سند ووثيقة، أي دين على تلك الجهة، فلا يسري عليها حكم الذهب، وليس لها قيمته الأصلية. وأما إذا كانت الأوراق التي تعطي بقانون خاص من صرف قيمته ذهبًا، هذه الأوراق حقيقة ليس هذا تعهد لا نستطيع أن نسميها لها غطاء ذهبيًا أو من ذلك وهذه من ناحية قانونية لذلك بعضهم طبيعي يضع لها إذا كانت ديونًا أن يكون لها أي غطاء، كما تفعل بعض الدول، ففي رأيي أن هذه لا تعامل على أساس الذهب والفضة. هناك أنواع من النقود، هذه النقود وكما هو معروف أن البنك المركزي الدولي أجبر جميع الدول ماعدا الولايات المتحدة ألا يزيد غطاؤها النقدي الذهبي لأي نقد عن 25 %، وبعضها لا غطاء له، فلجأت بعض الدول إلى أن تجعل الغطاء النقدي في بلادها، إما من الدولار وإما من الين، وإما من المارك، على اعتبار أنه إذا ارتفع الدولار هبط الفرنك مثلاً أو هبط الين. وهكذا للمحافظة على عملتها، بعضهم لجأ إلى أن تكون غطاء النقد من غير الذهب والفضة من سندات تجارية أو عقارات أو أملاك هذا يختلف بحسب النقد بحسب الغطاء، ولذلك ترتفع قيمتها وتهبط. ومن هنا أقول: إنه إذا كان لها غطاء فتعتبر في التعامل كأساس الذهب والفضة، أما إذا لم يكن لها غطاء فإنها تسقط بطبيعتها ولا قيمة لها، كما نجد في بعض النقود، وشكرًا.(3/987)
الشيخ تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد؛ فإن أحكام النقود الورقية تنبني على تكييفها الفقهي، وما تفضل به أخونا الدكتور إبراهيم هو جيد جدًا، من حيث أنه ينبغي أن نعود إلى قاعدة الغطاء الذهبي، ولكنني كما تفضل به الدكتور عبد العزيز حفظه الله نواجه واقعًا عمليًا، فهناك في مسألة تكييف النقود الورقية آراء للعلماء تتلخص في ثلاثة أراء:
الرأي الأول: إن هذه النقود ليست أموالاً، وإنما هي وثائق مالية لا سندات دين.
والرأي الثاني: أنها أثمان عرفية، أثمان رمزية واصطلاحية.
والرأي الثالث: أنها أثمان كالذهب والفضة، أثمان حقيقية كالذهب والفضة.
فأما الرأي الأول وهو أنها وثائق مالية وليست سندات دين، فإن هذا الرأي يتفرع منه أن لا يجوز مبادلة بعض الأوراق ببعضها ولو متماثلة؛ لأنها تكون حينئذ بيع الكالئ بالكالئ، أو بيع الدين بالدين، والحقيقة أن الأوراق النقدية وإن كانت في بداية أمرها وثائق وسندات لديون، ولكن ذكرت في بحثي عن تاريخ تطوير هذه النقود أنها لم تعد اليوم سندات لدين؛ لأنها ليس وراءها أي غطاء اليوم، غطاء من الذهب أو الفضة، وإنما صارت أثمانا اصطلاحيًا وعملة قانونية، حتى إن الفلوس هي عملة قانونية محدودة، والأوراق النقدية هي عملة قانونية غير محدودة. بمعنى أن المدين يجبر على قبولها، بغض النظر عن مقدار الدين، فحينئذ صارت هذه النقود لم تعد اليوم وثائق مالية أو سندات دين. فبقي عندنا رأيان:
الرأي الأول: هو أن تكون هذه الأوراق أثمانا حقيقية كالذهب والفضة.
فهذا فيما أظن مخالف للبداهة؛ لأن الآثمان الحقيقية هي التي تعتبر أثمانا لقيمتها الذاتية، والنقود الورقية ليس فيها قيمة ذاتية، إنما هي قيمة اعتبارية، وهي التي يسميها علماء الاقتصاد الثمن الرمزي. فالحقيقة أن هذه النقود إنما صارت أثمانا باصطلاح الناس، وما صار ثمنا باصطلاح الناس فهو ثمن رمزي، ثمن اصطلاحي، ثمن عرفي، ولا يقال: إنه ثمن حقيقي. ولكن حينما نقول: إنها أثمان عرفية ليس معنى ذلك أنها لا يجري فيها الربا؛ لأنها إذا اعتبرت أثمانا عرفية صارت في حكم الفلوس، والرأي الراجح عند جمهور الفقهاء هو أن بيع الفلوس بالفلوس لا يجوز بالتفاضل، ويجري فيها الربا إذا بيعت متفاضلة.(3/988)
نعم هناك رأي للشافعية ورأي لأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله في جواز التفاضل في بيع الفلوس بالفلوس في أحوال مخصوصة، ولكن بعض العلماء قد رجحوا أن التفاضل في بيع الفلوس بالفلوس لا يجوز.
فحينئذ الذي يبدو لي أن هذه الأوراق النقدية صارت أثمانا عرفية، ولكن لا يجوز مبادلة بعضها ببعض بالتفاضل، ويجري فيها الربا، وكذلك حينما صارت أثمانا عرفية تجب فيها الزكاة، وتتأدى بها الزكاة، وأخذت في جميع الأحكام حكم الآثمان. والله سبحانه وتعالى أعلم.
الرئيس:
في الواقع يعني إضافة إلى الذين يلحقونها بالفلوس، تعرفون أن الذين يلحقونها بالفلوس هم ينقسمون على أنفسهم إلى فريقين: فريق يلحقها بعروض التجارة، وفريق يجعل حقيقة العلة فيها هي الثمنية، فلذلك يلحقها بالنقدين الذهب والفضة.
الشيخ تقي العثماني:
لا، هناك مسألة العلية مسألة مستقلة، يعني مسألة تكييف هذه النقود مسألة أخرى ليس هناك تناقض بين هذا وذاك.(3/989)
الشيخ على السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أحكام النقود بينتها بالتفصيل في كتاب النقود واستبدال العملات، وبالطبع لا أريد أن ألخص الكتاب، وهو موزع على حضراتكم، ولكن أريد أن أقف عند بعض النقاط فقط:
النقود كانت قبل اكتشاف الذهب والفضة، وكان الناس يتعاملون بعد عصر المقايضة بنقود ليست من الذهب والفضة كالجلود، وأحيانًا البر، إلى غير ذلك، ثم اكتشف الإنسان الذهب والفضة بفضل الله تعالى، فظل هذا إلى أن بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت النقود آنذاك من الذهب والفضة.
إذن التشريع عندما جاء بالنسبة للدينار والدرهم إنما كان تشريعًا لنقود عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم وجدنا أن النقود تطورت بعد ذلك ولها وظيفة معينة، ولذلك عندما نأتي إلى تعريف النقود فإنا نراها تعرف تعريفًا وظيفيًا لا وصفيا، لا يقال بأن النقود ما شكله كذا، أو ما يتكون من كذا، وإنما تعريف النقود: أي شيء يكون وسيلة للقيمة، وسيلة للتبادل، ومقياس للقيمة يحظي بالقبول العام. ولذلك وجدنا في عصر التشريع أن النقود كانت تأتي من خارج البلاد الإسلامية، وكان فيها أشياء تتنافى مع العقيدة الإسلامية، فغيرت تغييرًا طفيفًا، يعني مثلاً النقود في عصر التشريع كانت ولاية الصليب على النقود، فبدأ بكسر جزء من الصليب النار بالنسبة للفرس وراعي النار، هنا أيضًا تغيرات طفيفة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لو أمر بترك هذه النقود وهذه المسألة ثابتة ومصورة، يعني وجدت نقود من عصور سابقة وعليها هذه الرسوم.(3/990)
ومن يدرس تاريخ النقود يعرف هذا تمامًا، لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بترك هذه النقود، واستخدام نقود إسلامية، لما حظيت بالقبول العام، يعني من يذهب إلى الشام من يذهب إلى اليمن، لا يستطيع أن يصرف هذه النقود. إذن النقود لها وظيفة وتعريفها وظيفي. فإذا قلنا بأن النقود في عصر التشريع لها أحكام كذا، والنقود قابلة للتطور والتغير، إذا لم تكن هذه الأحكام ثابتة للنقود في أي عصر من العصور فمعنى ذلك أنه إذا انتهى عصر الذهب والفضة انتهى عصر النقود، وانتهت الأحكام المتصلة بالنقود.
وأضرب هنا مثلاً، عندما كثر تزييف الدراهم في عهد سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، فكر في أن يصنع نقودًا من الجلود ويترك الفضة ما دامت الدراهم كثر فيها التزييف، يترك هذا ويتخذ من جلود الإبل نقودًا، وكان له مجلس شورى كما تعرفون، فاستشار، فقالوا: إذن لا بعير؛ لأن الكل سيذبح ليأخذ الجلود ليتخذوا نقودًا، فأمسك، يعني توقف، لم يقولوا له بأن هذا لا يجوز؛ لأن النقود شرعًا من الفضة، وهو نفسه لو كانت النقود شرعًا لا بد أن تكون من الفضة لما فكر في هذا. إذن أحكام النقود ما لم تكن باقية إلى يوم القياة فإن الإسلام بأحكامه في النقود يكون لفترة زمنية ضيقة محدودة، وينتهي الربا، وتنتهي الزكاة، والسلم، رأس مال المضاربة، كلها أحكام النقود. أمر آخر هنا الإمام مالك عندما قال: لو أن الناس اتخذوا الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهت (معناها التحريم) لكرهت أن تباع بالذهب والورق نظرة. هنا لو أن الناس معنى ذلك أن النقود مردها إلى الاصطلاح. وأثبتوا هذا في فصل كبير في الكتاب بأن النقود مردها إلى الاصطلاح، بأن النقود مردها إلى الاصطلاح، ما اصطلح الناس عليه أنه نقود فهو نقود. إذن هنا اتخذوا الجلود، الآن اتخذوا الأوراق.(3/991)
النقطة الأخرى التي أريد أن أقف عندها أيضًا، مسألة من يأتي ويقول النقوة الذهب والفضة فقط؛ لأن الحديث قال: الذهب والفضة فقط، ويستدل بالنص ويقول: الدليل هو النص، هذا ليس دليلا، النص دليل على الأصناف الستة لكنه ليس دليلاً على نفي ماعدا الأصناف الستة، وأن غير الأصناف الستة يأخذ حكمًا مخالفًا، ليس دليلاً لأن هنا غير الأصناف الستة يكون مفهوم المخالفة، وهنا اللقب: الذهب، الفضة، البر، هذه ألقاب، ومعروف عند جمهور الأصوليين أنه لا يؤخذ بمفهوم المخالفة في اللقب، يعني في غير اللقب كالعدد والغاية، فيه خلاف بين الأصوليين من يأخذ ومن لا يأخذ. ولكن كل الأصوليين أجمعوا في اللقب لا يؤخذ بمفهوم المخالفة، بل قال الشوكاني: لا يؤخذ به عقلا ولا شرعًا؛ لأنه إن قلنا: في البر زكاة، فليس معنى ذلك أنه لا يوجد زكاة في غير البر، إذن هنا من استدل بالحديث الشريف على نفي انطباق الربا أو الزكاة أو غير ذلك على غير الأصناف الستة، فإن هذا لا يكون دليلاً، وإنما هو دليل على الأصناف الستة، النقود الورقية إذا قلنا العلة الثمنية، وأن العلة تتعدى النقود الذهبية والفضية إلى نقود ورقية، هذا أمر قد يكون واضحًا، ولكن أقول أيضًا يمكن بغير قياس أن تأخذ النقود الورقية حكم الدينار والدرهم بدلالة النص عندما يقول الدينار والدرهم، الدينار بالدينار، الدرهم بالدرهم؛ لأنه قال: الذهب بالذهب والدينار بالدينار، في أحاديث: الدينار بالدينار والفضة بالفضة، وأحاديث أخرى: الذهب بالذهب والفضة بالفضة، ففيه الدينار وفيه الفضة. وفيه كذلك الذهب والورق، فهذا مأخوذ وهذا معمول، إذن دلالة الخطاب هنا كل ما يكون دينارًا، وكل ما يكون درهمًا، وكل ما يكون بهذه الوظيفة يأخذ نفس الحكم بغير حاجة إلى القياس، دون أن نأخذ حاجة إلى القياس.(3/992)
أمر ثالث أريد أن أقف عنده أيضًا وهو مسألة العلة القاصرة. ما معنى العلة القاصرة؟ لأن الشافعية يقولون بالعلة القاصرة، فالحنفية قالوا لهم: علتكم قاصرة ونحن عرفنا الحكم من النص، فما فائدتها؟ ما فائدة العلة القاصرة؟ فأجاب الشافعية: العلة قد تكون متعدية وقد تكون قاصرة، والقاصرة لها فائدتان:
الفائدة الأولى: أن تعلم أن الحكم لا يتعداهما، فلا تطمع في القياس، في الوقت الذي قيل فيه بأن العلة قاصرة.
والآخر: قد يجدّ ما يشترك مع الأصل في العلة فيأخذ الحكم، قد يجد ما تصور الشافعي آنذاك أن الناس سيتركون النقود السلعية ويأتون إلى النقود الائتمانية الورقية.
ثم إن الإمام مالكًا والمالكية الذين قالوا بالعلة القاصرة ألحقوا الفلوس بالذهب والفضة، وتعبير الإمام مالك نفسه، الإمام مالك عندما يقول: لو أن الناس اتخذوا الجلود، مع القول بالعلة القاصرة ماذا يعني؟ هنا كما حاولت أن أفهم هذ وبينته والله أعلم بالصواب، فهمت هنا أن العلة القاصرة بمعنى أنها علة قاصرة على الذهب والفضة. فلا يشترك مع الذهب والفضة أي معدن آخر.(3/993)
أما الدينار والدرهم وأي نقد آخر فلا تكون هنا علة قاصرة.
إذن العلة القاصرة على الذهب والفضة في حالة النقود وفي حالة غير النقود، ثم الدينار والدرهم هذا يمكن أن يشمل أي دينار وأي درهم، ولذلك كما قال شيخ الإسلام: بأن الدينار والدرهم ليس للدينار حد طبيعي ولا شرعي؛ لأن الشرع لم يحدد بالضبط ما هو الدينار وما هو الدرهم، وإنما موجود، وكان الدينار له أوزان مختلفة، والدرهم كان له أوزان مختلفة. إذن هنا القول بالعلة القاصرة لا يعني أن النقود الورقية لا تأخذ حكم الذهب والفضة، وإنما تأخذ حكم الدينار والدرهم، فإذا انتفت الثمنية عن الأوراق النقدية فلا تلحق بالذهب والفضة، يعني إذن عندنا الدينار الذهبي إذا انتفت الثمنية ولم يتعامل به بقي ثمنًا في ذاته وأخذ الحكم، الأوراق النقدية والجلود، لو أن الناس تعاملو وأتخذوا الجلود، الجلود إذًا لم تكن نقودًا، انتفت الثمنية، فلا يشترك هذا مع الذهب والفضة، ولذلك الفلوس عندما ألحقت بالنقود، بالذهب والفضة، وعندما لم تلحق عند آخريين، الحنفية على سبيل المثال، الذين لم يلحقوا الفلوس بالنقود الذهبية والفضية؛ لأنهم قالوا: هذه نقود بالخلقة، قالوا هنا عند تبادل الفلس بالفلسين: تبادل مع الزيادة، قالوا هنا: أن يكون تبادل فلس بعينه بفلسين بعينيهما، ومعنى بعينه يعني هذا الفلس كقطعة نحاس، أما إذا كان الفلس غير معين، فلسا بغير عين بفلسين بغير عينهما، فإن فلسًا يقوم مقام فلس، ويكون الفلس الآخر ربا، هكذا نص الحنفية، مع قولهم بأن الفلوس لا تلحق بالذهب والفضة، ولكن عندما راجت قالوا: هنا الزيادة تكون ربا.(3/994)
إذن القول بالعلة القاصرة أو عدم القول بعلة الثمنية لا يمنع أن النقود الورقية تأخذ نفس الحكم، وإلا أوقفنا الزكاة في عصرنا انتهى الربا في عصرنا؛ لأن مشكلة الربا الآن ليست في البر والشعير والتمر والملح، مشكلة الربا الآن ليست في هذا، وليست في الذهب والفضة أيضا، وإنما مشكلة الربا الآن في النقود الورقية.
أمر آخر أريد أيضًا أن أقف عنده هو أننا الآن مطالبون بأن نقول حكمًا في النقود التي نتعامل بها الآن، وليس قبل الآن؛ لأنه بعد عام 1393، بعد أن تخلى الدولار عن القاعدة الذهبية، هنا أصبحت هذه النقود لا تمثل شيئًا معينا من الذهب، ليست مرتبطة بالذهب ولا بالفضة، وإنما نقود كل دولة ترتبط باقتصادها. إذن هنا مسألة أن هذه إذا كان لها رصيد أو ليس لها رصيد، لا الآن ليس لها رصيد ليس لها رصيد ذهبي حقيقة، بعض الدول تجعل شيئًا من الرصيد من باب أنها تكون في شيء من الأمان، والبنك الدولي يشترط رصيدًا في النقود التي أخذها من الدول حتى يقرض، إنما النقود بصفة عامة تخلت عن القاعدة الذهبية والقاعدة الفضية. إذن الآن هذه أثمان في ذاتها وأثمان بالإلزام، يعني لا يملك أحد أن يقول: لا أنا لاآخذ هذا، لو أن أحدا عليه مائة دينار أردني، وجاء الآخر وقال له: خذ مائة دينار أردني، وقال: لا، لا آخذ هذا، أنا أريد ذهبًا أو فضة، الدولة تلزمه أن يأخذ هذه، فهذا إلزامية.
إذن ما أريد أن أخرج منه بسرعة هو أن النقود الورقية التي نتعامل بها اليوم، ما لم تكن مثل النقود في عصر التشريع، أو النقود السلعية من قبل؛ لأن النقود كانت سلعية ثم أصبحت ائتمانية، ما لم تكن كذلك فإنها لا يمكن الآن أن تستحل بها الفروج في الزواج، ولا أن تكون ثمنًا للمبيعات، ولا أن يكون فيها ربا، ولا أن تكون فيها زكاة.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وهو يهدينا إلى سواء السبيل، والسلام عليكم ورحمة الله.
الرئيس:
شكرًا، يعني الخلاصة أنكم ترون أن تكييفها الفقهي أنها ثمن قائم بذاته، وأن العلة هي مطلق الثمنية.
الشيخ على السالوس:
أو بغير علة من دلالة النص، مفهوم الموافقة، بدون علة. يعني ممكن علة، وممكن أن تكون بدون علة أيضًا.(3/995)
الرئيس:
طالما أنه ثمن قائم بذاته ... الشيخ محمد عبده عمر.
الشيخ محمد عبده عمر:
الحمد لله، والصلا والسلام على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أما بعد؛ سيادة الرئيس، فإني أثني على ما تفضل به فضيلة الشيخ الدكتور على السالوس، فقد أعفاني عن الحديث في هذا الموضوع، وقد أتى عن كل ما كان يختلج في نفسي، إلا أنني أحب أن أضيف بأن القول بأن تقيم كافة العملات بالذهب والفضة، أضيف إلى هذا بأن القول بأن تقييم كافة العملات بالذهب والفضة، أضيف إلى هذا بأن الذهب والفضة هي مكدسة في خزائن اليهود الذين حاولوا الاستيلاء على الذهب والفضة من قديم الزمن، فإذا ما حاولنا أن نخضع عملات الشعوب لغطاء الذهب والفضة التي تتحكم به اليوم الصهيونية العالمية، فإن هذا يجعلنا ويجعل شعوبنا الإسلامية تخضع في أموالها وفي معاملاتها وفي قوة اقتصادها إلى الصهيونية العالمية، وعلى هذا فإنني لا أميل إلى أن تكون عملاتنا أو أوراقنا، أن يكون لها غطاء ذهبي، أو تقيم بالنقد الذهبي.(3/996)
مناقش:
يكون غطاؤها دولار؟
الشيخ محمد عبده عمر:
لا، هو الدولار الآن يتحكم في العالم لأنه يستند إلى قوة الذهب، الدولار الأمريكي الآن يتحكم في العالم لأنه يستند إلى قوة الذهب. الصهيونية العالمية الآن تتحكم في الذهب والفضة، وتخزنه وتتحكم في عملات العالم. فأنا مع رأي شيخنا علي السالوس بالنسبة لجعل العملة لا تغطى بالذهب والفضة، وإنما على شعوبنا الإسلامية أن تختار سلعة من السلع التي هي في أشد الحاجة إليها، ونقيم كل ما نملكه من اقتصاد بهذه السلعة التي مجتمعاتنا الاسمية بحاجة ماسة لها. وشكرًا.
الشيخ عبد العزيز الخياط:
بسم الله الرحمن الرحيم ...
عفوًا إذا تدخلت بالكلام، ولكني أريد أن أوضح بعض النقاط. فورد في كلام بعض الإخوة أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ الذهب والفضة نقدين، إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الذهب والفضة لا على أساس أنهما نقدان، وإنهما الوصف القائم في ذلك الوقت. الواقع في رأيي أن ذكر النبي عليه الصلاة والسلام للذهب والفضة، واعتمادهما في التعامل، هو تثبيت شرعي لهما نقدًا، ولذلك ما زلت مع الرأي الذي قال به الأستاذ إبراهيم وأيده بعض الإخوة في أن العودة إلى التعامل بالذهب والفضة هو الذي ينجينا من كثير المشكلات.(3/997)
وتوزع الثروة النقدية لدى المسلمين في بلاد المسلمين، ولا تكون بيد فرد معين، وإنما تكون عند كل أفراد المسلمين، ولا يمكن لأي إنسان أن ينتزع ثروة البلد عن طريق الدولة وحدها، بل تكون موزعة. هذه نقطة.
النقطة الثانية: ولذلك لابد أن يكون الذهب والفضة غطاء لكل عملة.
ما ذهب إليه الأستاذ السالوس أرى أن فيه خطرًا كبيرًا إذا جعلنا كل نقد ورقي عملة قائمة بذاتها، مع تعدد العملات في العالم كله. معنى هذا أننا أسقطنا حتى العملات التي نتعامل بها في البلاد الإسلامية ومنها البلاد العربية، وبالتالي أضعنا اقتصادنا وأضعنا ما بين أيدينا من عملات، هذا في رأيي. الدولار الأمريكي مغطى بأكثر من دولار ذهبي أمريكى، وأمريكا استطاعت أن تأخذ معظم ذهب العالم، ولعله وليس بخاف على الإخوة أن ذهب البرازيل وذهب أفريقيا وذهب بعض البلدان كله تأخذه أمريكا وتضعه عندها، إلى درجة أن الدولة الكبرى الثانية الاتحاد السوفيتي اضطرت إلى أن تجعل التعامل بالروبل على أساس الدولار الأمريكي.(3/998)
وكنت قبل مدة، وكان معنا بعض الإخوان هناك، لجأوا إلى تعويم الروبل باعتبار أنه في السوق السوداء لا قيمة له، أو قيمته منخفضة جدًا،، حتى لا يتعامل في السوق السوداء، لجأوا إلى إصدار روبل سموه روبل ذهبي، قيمته دولار ونصف أمريكي، فاعتمدوا الدولار الأمريكي أساسًا باعتبار أن الدولار الأمريكي مغطى بالذهب كله، وطبيعي ليس بحث هذا الأمر. أعود فأقول هذا من ناحية.
النقطة الأخيرة التي أريد أن أقولها في تعليقي، إذا جعلنا الدينار الورقي القائم الآن بتسميته دينارًا أو الدرهم الورقي القائم الآن بتسميته درهما بالتسمية، إذا جعلناه موازيا للدينار الذهبي فهذه مغالطة، كيف يكون الدينار الورقي بعملة قائمة بذاتها، والدرهم الورقي بعملة قائمة بذاتها، موازيًا للدينار الذهبي أو للدرهم الورقي؟ فأتصور أن هذه نقطة تحتاج إلى توضيح وبحث في هذا الأمر. أما إذا كنا، وهو ما قاله الأستاذ البازيع، وعقبت عليه فيه، أننا، وقاله الأستاذ أيضًا تقي، بأننا نعتبر نظرًا لعدم التعامل بالذهب والفضة، نعتبر الدينار القائم موازيًا بغطاء ذهبي للدينار الذهبي، هذا اعتبار قائم، نقوم به ونعامله على أساس التعامل بالذهب والفضة. فهذا الاعتبار هو للخروج للنتيجة التي أردت ألا نقع فيما يمنع، عندئذ لا يكون ربا، لا يكون زكاة، لا يكون كذا، بعودتنا إلى التعامل على أساس اعتبار التعامل الورقي المغطى بذهب، أو مغطى بعملات أخرى، كما يوزن البنك الدولي في هذا تغطية لحد معين، فنعتبره معاملة بالدينار الذهبي والدرهم الفضي، وشكرًا.(3/999)
الشيخ يوسف القرضاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم..
في الحقيقة أعفاني أخي الدكتور على السالوس في بيانه الجامع عن كثير مما كنت أريد أن أقوله، ولكن أريد أن أفرق بين أمرين:
الأمر الأول: هو ما نتمناه جميعًا أن يعود للذهب والفضة منزلتهما في اعتبارهما النقود الأساسية والشرعية، والتي تبعد الناس عن كثير مما يشكون منه الآن من تغير قيمة العملات وتدهورها أحيانًا، إلى أن تصبح اقل من 1 % مما كانت عليه منذ سنوات، كما نرى في الليرة التركية مثلاً، وهذه أمنية. لكن هناك شيء آخر وهو ما أشار إليه الكثير من الإخوة، وهو الأمر الواقع الآن، الأمر الواقع الآن أن هناك نقودًا ورقية إلزامية أصبحت هي السائدة، والتي يتعامل الناس بها، وما عدنا نرى الذهب ولا الفضة في شيء من معاملاتنا. هذه النقود ما موقفنا منها؟ وما الحكم فيها؟ لأن هناك للأسف بعض الذين ينتسبون إلى الشرع وإلى العمل بالنصوص، أو ما أسميهم الظاهرية الجدد حالا يقولون: هذه ليست نقود شرعية، النقود الشرعية الذهب والفضة، وعلى هذا الأساس لا يريدون أن يجروا فيها ربا، ولا أن يوجبوا فيها زكاة. كيف يجوز هذا مع أن بقية أحكام النقود نجريها عليها كما أشار الأخ الدكتور السالوس، وأنا سجلت هذا في كتابي "فقه الزكاة " للذين قالوا: لا زكاة فيها، أو الذين اعتبروها سندا وحوالة وأجازوها على بعض المذاهب دون بعض، وهذا كله نوع من التشكيك لا يجوز أن يقال أبدًا.(3/1000)
هذه باعتمادات السلطات الشرعية إياها أصبحت نقودًا، ولا شك ندفعها مهرًا فتستحل بها الفروج، ندفعها ثمنا فيستحل بها المشتري المبيع، ندفعها أجرًا فنستحل بها عرق الأجير، ندفعها في الدية، نقبض بها رواتبنا، من سرق هذه النقود يعاقب من غير شك، من ملك منها الكثير اعتبر غنيًا، من لم يملك منها شيئًا أو ملك منها القليل اعتبر فقيرًا. كيف نتجرأ نقول: إن هذه لا تجب فيها الزكاة، أو لا يجري فيها الربا، أو نشكك في هذا؟ أمر خطير. الحقيقة فمادمنا نعاملها على أنها نقود في سائر المعاملات، فينبغي أن يجري فيها الربا تمامًا كما يجري في الذهب والفضة، وأن تجب فيها الزكاة قولاً واحدًا. ولا ندع مجالاً للاشتباه في هذا، وأنا هذا ما أردت أن أؤكد عليه.
الرئيس:
يعني تكون ثمنًا قائما بذاته؟
الشيخ يوسف القرضاوي:
أنا في الحقيقة تحديد العبارة.(3/1001)
الرئيس:
لأجل – طال عمرك – قضية التكييف الفقهي؛ لأن ما حضرت، وأمور لا تخافكم وهو موجود كتابكم فيه كونها إسنادية أو إلحاقها بالفلوس، أو إلحاقها بدلاً للذهب والفضة، أو كونها ثمنًا قائمًا بذاته، يعني قضية التكييف الفقهي، المنزع الفقهي لهذه القضية، لابد، يعني أعد كلامكم على أنها ثمن قائم بذاته.
الشيخ يوسف القرضاوي:
نعم.. نعم.. ثمن.
الرئيس:
أحب أن أسأل فضيلة الشيخ في قضية يعني المناشدة بأن تكون العملة بالذهب والفضة أنا لا يعني في الحقيقة قد يخفى علي بعض الأمور في هذا الجانب، لكن هل هي مناشدة ممكنة ولو إلى عشرين في المائة؟
الشيخ يوسف القرضاوي:
والله هذا لا أستطيع أن أجيب عليه، يحتاج إلى إخوة من الاقتصاديين.
وأنا أقول: أمنية، ما أدري هل هي ممكنة أم لا؟ لأنه أنا أرى أنه فيها صعوبة في عصرنا حقيقة.(3/1002)
الشيخ عبد الله إبراهيم:
شكرًا فضيلة الرئيس، في الواقع أن ما أوضحه الأستاذان الفاضلان السالوس والقرضاوي قد أصبح واضحًا لدينا جميعًا، بحيث إنه لا نحتاج إلى خلاف أو اختلاف بعده، ومع ذلك أضيف هنا أن هذه النقود الورقية فإن كلا منا يتعامل بها ونرغب فيها، كل النفوس ترغب فيها، وإن الناس أو أي واحد منا إذا امتلك مقدارًا كبيرًا من هذه النقود يعد من الأغنياء، أصبح غنيًا من الأغنياء، وإن كان لم يملك جرامًا واحدًا من الذهب أو الفضة، وإذا امتلك مقدارًا كبيرًا من هذه النقود الورقية فإنه سيصبح في عداد الأغنياء. ومن ناحية أخرى فإن مسألة الغطاء بالنسبة لرأيي فإنه ليس بأمر هام، فإنه سواء كان لهذه النقود غطاء أو لا يوجد لها غطاء، فإن هذه النقود مقبولة عند الناس جميعًا. وأن الناس لا يرون هذا الغطاء فإنهم يقبلون التعامل بها ولا يرفضها أحد. فهي إذن تأخذ مقام الذهب والفضة تمامًا، وتجري فيها جميع أحكام الذهب والفضة من حيث الربا والزكاة وما إلى ذلك، والله أعلم.(3/1003)
الشيخ عبد الله بن بيه:
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
في الحقيقة أن ما أردت أن أقوله في تدخلي وهو ما بررت به توقفي. ولكن بعد تدخل الدكتور علي السالوس أردت أن أتدخل لأني استغربت بعض العبارات التي قالها، هي عبارة أولاً: دينار ودرهم هذه دنانير ودراهم، إذن معنى ذلك أن الدولار لا ربا فيه، الدينار أعتقد في بعض الدول عندها الدينار هنا، أعتقد في الأردن دينار في تونس دينار، فبعض الدول لها دينار، إذن هذه الألفاظ الأصل معاني، والألفاظ إذا لم تقم على المعنى الحقيقي لا تعتبر؛ لأن هذا جميع العملات لا تسمى الآن دنانير ودراهم.
السؤال الذي كنت أريد أن أسألة هل يجوز بيع الذهب بالفضة نسيئة الآن إذا صارتا سلعتين؟(3/1004)
الفلوس إطلاق أن مالكا قال بالحرمة هو إطلاق فيه مجازفة، أعتقد أن من واجبنا أن ننصف العلم والعلماء، أن نذكر كل أقوال العلماء، وأن نختار ونرجح على قواعد شرعية سليمة، وأن لا نغمط أحدا حقه، ألا نغمط قولاً حقه معناه ألا نتجاز على قول، ألا نحاول أن نقول على إمام لم يقله، مالك اختلفت أصحابه عنه، بعضهم قال: إن الحرمة هي كراهة وأكثرهم قالوا: إنها الكراهة، قالوا: إن الكراهة في قول مالك هي الكراهة على بابها، وشروح خليل يقولون: الكراهة في قول مالك على بابها، واضطرب مالك رحمه الله تعالى في القرض قال: لا أكره ذلك وفي القراض قال: لا أقول: لا يقارض بها؛ لأنها تؤدي إلى الفساد والكساد. إذن الإمام مالك قال كلمة الكراهة، والقول بأن هذه الكراهة تعني الحرمة هو مجرد قول من أقوال أتباع مالك، بعضهم قال: إن الكراهة تعني الكراهة على بابها؛ لأن مالكًا رحمه الله تعالى يقول بوجود حكم بين دليلين، هذه قاعدة عن مالك معروفة.
مسألة أخرى يقول الدكتور السالوس: الشافعية لا يتصورون في ذلك الزمان أن الفلوس ستكون رائجة وتقوم مقام النقود، الشافعية فعلاً.(3/1005)
الشيخ علي السالوس:
إن النقود ستأتي.
الشيخ عبد الله بن بيه:
إن النقود ستأتي، أنا أسميها فلوسًا وأعتبرها كالفلوس تمامًا، الشافعية تصوروا ذلك، الشافعي رحمه الله تعالى يقول في الأم: لا ربا في الفلوس، وذكرت ما ذكره الشافعي، وما ذكره عن مصنف ابن أبي شيبة عن مجاهد وغير ذلك. نعم الشافعية كانوا يتصورون ذلك. فقد قاله إمام الحرمين وكرره مرات كثيرة، فقال: لو راجت الفلوس رواج النقود ما كان فيها من الربا ما يكون في النقود؛ لأن نقديتها ليست نقدية شرعية. إمام الحرمين كرر هذ وأكده، كذلك ذكره النووي وقال: لو راجت رواج النقود ما كان فيها ربا؛ لأن العلة قاصرة عند الإمام، وقصور العلة قد حاولت هنا تفسيره بأنها أصل الآثمان أو أن غلبية الثمنية غلبية خاصة، وأنها ثمنية من نوع خاص. أعتقد أنه لا يجوز لنا أن نتجاوز على أقوال العلماء: العلة قاصرة لا يمكن أن تتعدى، وقال العلماء: فائدتها هي تقوية الحكم، بمعنى أن المكلف يتلقى الحكم بالقبول، وهذا ما لم تذكروه، وقد ذكروه من الفوائد لأنها العلة، وعللوا بما خلت من تعدية ليعلم امتناعه، يعني امتناع القياس والتقوية، ولأنها تقوي الحكم في نفس المكلف، انتهاء الربا في عصرنا، الربا لا ينتهي.(3/1006)
الرئيس:
يا شيخ عبد الله، طالما أنكم متوقفون فيظهر لي أن امتداد البحث ما أدري..
الشيخ عبد الله بن بيه:
يا سيدي الرئيس، أريد إنصاف أقوال العلماء، أريد أن نتصف بإنصاف أقوال العلماء، أن نذكر جميع أقوالهم، أن لا نغمط قولاً أو مذهبًا، حقًا أن نذكر جميع أقوالهم، وأن نحاول التأصيل الفقهي كما أشرتم إليه، يعني طلبتم من الأخوان أن يؤصلوا ذلك تأصيلاً فقهيًا، فهذا الذي أحاوله بتجرد إن شاء الله سبحانه وتعالى، ولا أنتصر حقيقة لقول؛ لأن المسألة ملتبسة، قلت: هي شبهة، والشبهة قد تكون حرامًا إذا قلنا ما في حديث مسلم رحمه الله تعالى ((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) زيادة مسلم على البخاري، البخاري ليس فيه ((وقع في الحرام)) ، الشبهة قد تكون حرامًا وقد تكون مكروهة.
الرئيس:
طيب استمر يا شيخ.(3/1007)
الشيخ عبد الله بن بيه:
إذن الحقيقة أنا أعرف أن المسألة بالنسبة لكم هي مسألة الوقت. لا يمكن أن تستحل بها الفروج، هذا أيضًا كلام أعتقد أنه ليس في موضوعنا حتى ولو لم تكن ربوية. الفروج تستحل بكثير من العروض التي ليست ربوية. فهذا كلام في الحقيقة فيه زيادة، وهو من نوع الخطاب.
هناك بعض المسائل التي كنت أريد أن أذكرها، أنبه عليها: الفلوس استعملت مرتين في التاريخ من أجل نفي الربا، فذكروا أن في سنة بالذات ذكرت هذه المسألة، استعملت في زمن الأيوبيين لما اشتكت امرأة إلى الخطيب أنها تشتري ماء بدرهم فيرد لها نصف درهم ورقا وماء، فكأنها المسألة المعروفة عند الشافعية بمد عجوة وسلعة أخرى، فهذه المسألة أنكرها أبو الطاهر المحلي، وضربت الفلوس من أجل تجنب هذه المسألة، ثم ضربت في وقت آخر في زمن الدولة العباسية في بغداد وتعامل الناس بها زمنًا ثم تركوها. إذن لا يمكن أبدًا أن نقفز على التاريخ قفزًا، وأن نفترض ثمنية هذه الثمنية هل تنفونها؟ أرجع إلى سؤالي، معنى ذلك أن الذهب والفضة لم يعد فيهما ربا، وعلى جوابكم أريد أن أتكلم.(3/1008)
الشيخ عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم..
الواقع أنني أستمع إلى هذا النقاش الذي يدور بملاحظة أننا ما بلورنا بالضبط نقطة النزاع على ماذا نحن نختلف؟ أو هل هنالك اختلاف؟ هل من بيننا من يرى أن النقد الورقي ليس فيه مجال لوقوع الربا أو استخدامه في مجالات الذهب والفضة السابقة، عندما كانت الذهب والفضة هي أساس النقدية؟ فتحرير محل النزاع قد يخفف في الواقع كثيرًا من النقاش، تحديد النقطة بالضبط التي يختلف عليها؛ لأني لاحظت بقدر قليل البحث نحا منحى اقتصادي، أنه بماذا ننصح دولنا؟ هل ننصح دولنا بأن يكون النقد مغطى تغطية كاملة بالذهب والفضة، أو ليس مغطى تغطية كاملة بالذهب والفضة.
وهذا ليس لنا. هذا الواقع يمكن أن يبحث في مجال آخر. نحن ننظر لما هو واقع بيننا كما تفضل أستاذنا الشيخ يوسف القرضاوي؛ لنرى ما الحكم الشرعي فيما يتعلق به. فلذلك أقترح أن يتحدد محل البحث، وأن يركز عليه، وأن نترك قضية: هل الأفضل أن يكون هناك غطاء ذهبي أو لا يكون؟ لأن هذا أمر جهة أخرى ولا، يمكن أن يكون في مجال هذا المجمع، إلا إذا كان عدم وجود لتغطية الذهبية، مما يترتب عليه حكم شرعي، يعني يكون حرامًا أو يكون مكروهًا، فعند ذلك يمكن أن نتصدى إليه.(3/1009)
أما في إطار ما هو كائن، كثير من العملات الآن باتت بغير تغطية ذهبية ونتعامل بها، ما الحكم الشرعي فيما يتعلق باعتبارها مالا؟ ما الحكم الشرعي فيما يتعلق بالتفاضل بينها؟ إلى غير ذلك من القضايا. فهذا هو صلب الموضوع، وشكرًا.
الرئيس:
شكرًا.. أظن أن الإشارة حصلت في أول البحث في هذا الموضوع، وأنه لابد من التكييف الفقهي لهذه الأوراق، وكان الشيخ عبد السلام موجودًا، وأكثر بحوث الأخوان هي على قضية التكييف الفقهي.
الشيخ عبد السلام العبادي:
النقاش يا سيدي.
الشيخ علي السالوس:
فقط للتوضيح.. السيد الوزير مسألة الغطاء الذهبي أنا لا أتحدث عن رأي، وإنما أتحدث عن واقع، يعني الدولار كان مغطى غطاء ذهبيًا إلى عام 1973، وبعد هذا تخلى عن العطاء الذهبي. وأشرت أيضًا إلى أن البنك الدولي يشترط جزءًا من الذهب بالنسبة للمال الذي يودع عنده هو، وليس لمال لدولة، أشرت أنا أيضًا إلى هذا.(3/1010)
مسألة أننا نصل إلى الغطاء الذهبي أو إلى الدينار الذهبي والدرهم الفضي، هذا ما قلت شيئًا فيه، يعني لو عدنا لهذا لكان أفضل من الأوراق النقدية الآن التي لا قيمة لها. وبالنسبة لفضيلة الشيخ ابن بيه أقول: هنا دينار ودرهم، ليس معناه الاسم وإنما الدلالة، دينار كنقد، درهم كنقد، دولار، جنيه كنقد، فكل ما قام بدور الدينار والدرهم فهو نقد. ويبقى بعد ذلك بالنسبة للذهب والفضة الثمنية لازمة للذهب والفضة في حالة كونهما نقدا أو غير نقد لأن هذه ثمنية طبيعية بالنسبة للذهب والفضة، ولذلك كما حدث في المؤتمر الثاني للمصارف الإسلامية أن اتخذ قرارًا بأن عندنا الآن الذهب والفضة والعملات الورقية، يعني الذهب جنس، الفضة جنس، عملة كل دولة جنس، فلا يجوز التبايع مع زيادة في الجنس، ولا يجوز إلا مع التقابض في المجلس. إذن شراء الذهب لا بد فيه من التقابض بعملة ورقية، شراء الفضة وهكذا.
بالنسبة لو راجت فلوس أنا ذكرت هذا أيضًا في الكتاب، وأن الشافعية من أهل خراسان قالوا بأن هذه تلحق بالدينار والدرهم، وأن باقي الشافعية اعتبروا هذا الرأي شاذا ورفضوا، وذكر النووي في المجموع بأن الفلوس لو راجت رواج النقدين لما ألحقت بالذهب والفضة، هذا ذكرته، وإنما قلت كلام الشافعية الذي ذكرته موجود، مناقشة الحنفية للشافعية بالنسبة للعلة القاصرة، قالوا: للعلة القاصرة فائدتان، وأنا ذكرت هذا وهذا موجود في كتبهم وليس افتراء عليهم.(3/1011)
الكراهة أقول هنا بالنسبة للكراهة والتحريم، الأصل بالنسبة للأقدمين أكثر قولهم كراهة يراد به التحريم، بعض آرائهم وآراء أخرى بأنها لا تقصد التحريم.
أحسنت وجزاك الله خيرًا، والحمد لله، وشكرًا لكم.
الشيخ خليل الميس:
من الملاحظ في الحقيقة أننا نعالج أمرا واقعًا. وهذا أمر طيب ومطلوب أيضًا، ولكن عندي اقتراح قد يكون غريبًا بعض الشيء، هل يمكن لمجتمعنا ولملتقانا هذا، مجمعنا الكريم من خلال الخبراء بالاقتصاد أن يوجهوا عالمنا الإسلامي إلى نظام في العملة أقرب إلى الواقع والشرعية، ما دمنا لنا ملاحظات ولنا إشارات على هذا النظام وعلى ذاك النظام؟ هل يمكن أن نقترح البديل الذي يجعلنا نقترب من واقعية العملة هذه؟ نرجو أن يكون ذلك ممكنًا. وشكرًا.
الشيخ أحمد محمد جمال:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم باحسان إلى يوم الدين.(3/1012)
وبعد؛ فأرى أننا نجادل في أمر واضح وفي واقع ملموس لا يمكن تغييره بأي حال من الأحوال. العملة الورقية قائمة وواقعة، ولا تستطيع دولة واحدة في العالم أن تغير هذا الأمر، وأرى أن الاصطلاح السلطاني، بالتعبير القديم، أو الاصطلاح الدولي، على ثمنية هذه العملة الورقية هو العلة القائمة الواقعة، وما يسري أو ما سرى على الذهب والفضة قديمًا يسري على العملة الورقية حديثًا، بدون أي جدال ولا خلاف في الرأي، والاصطلاح على الثمنية، الدول كلها مصطلحة على هذه الثمنية في العملة الورقية تمامًا، كما كانت الثمنية في الذهب والفضة، ولا يمكن تغيير هذا الوضع بحال من الأحوال، وينبغي أن تسري الأحكام الشرعية على العملة الورقية كما سرت على الذهب والفضة في كل المعاملات بلا اختلاف. هذا شيء واضح وواقع يجب ألا نختلف عليه كثيرًا.
الأمر الثاني: أحب أن أعلق على فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه فيما عقب به على فضيلة الشيخ علي السالوس، من أن الدرهم والدينار لا يعتبران عملة، أو أن الإسلام لم يعتبرهما عملة فيما سبق، فهمت هذا من تعقيب الشيح عبد الله.(3/1013)
الشيخ عبد الله بن بيه:
هو قال: إن النص يتناولهما، فقلت: إن النص لا يتناولها قال: الدرهم والدينار.
الشيخ أحمد محمد جمال:
على أي حال إن الإسلام، أو إن التشريع الإسلامي اعتبر الدرهم والدينار عملة في رأيي أنا في نظري؛ لأن القرآن ذكر الدينار في آية {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] والحديث النبوي حديث المفلس ((قالوا المفلس فينا أو عندنا من لا درهم له ولا دينار)) فأحببت أن أعلق بهذا التعليق البسيط، وشكرًا لكم.(3/1014)
الشيخ محمد علي عبد الله.
شكرًا حضرة الرئيس.. لكي لا أكرر ما قاله الإخوان قبلي أريد أن أقول شيئًا، فيما يخص تغيير العملة وأحكام النقود الورقية. أرى من الواجب العودة إلى الشريعة وللدين، وهذا ما قررته في بحثي المعتمد على أقوال الصحابة وأقوال الفقهاء، ولكن من الواقع أيضًا أن لا يخفى عنا الوضع الحاضر، الوضع الاقتصادي الحاضر، الوضع الذي فرضه الاستعمار، فرضه علينا كل من يحارب الدين، وذلك أقصد بهذا أمريكا؛ لأن أمريكا كانت قبل السنوات السبعين ترى أن الدول الإسلامية كقوة لا بد من وضع حد لها، وكان الحل الوحيد الذي وجدته هو وضع هذا الحد من القوة الإسلامية، هو استعمال ما تسميه بالدولار أو الغطاء الدولاري. وأخشى أن الزميل الذي قال: إن لا نعود إلى هذه الفكرة، أن يكون قد نسي أن الموضوع هو وجود وهو إيجاد حل لتوحيد الكيان الإسلامي، إيجاد حل لإخراج المسلمين من كل ما يؤدي إلى وجود أي مسلم، أي قطر إسلامي تحت سلطة غير مسلمة، وبالتالي أن لا بد من العودة إلى الغطاء الذهبي؛ لأن الغطاء الذهبي هو حماية كل اقتصاد إسلامي. أقصد ما زال لحماية كل اقتصاد إسلامي هو أنه إذا اعتمدنا على الدولار الذي هو قوة عميلة قوة كالسيف ضد الإسلام، يعني هذا تبعية، والتبعية نقصد بهذه التبعية أن وجود مناطق اقتصادية، وبالتالي الدول الإسلامية الصغيرة لا تستطيع أن تتقاضى أو تقوم بأي عملية اقتصادية دون إذن أو إشارة من الدول الاستعمارية، الدول غير الإسلامية.(3/1015)
وثانيًا: إذا قلنا: إن عدم العودة إلى الغطاء الذهبي أو الفضة، يعني إذا قلنا بالعمل بالنقود الورقية فقط، هذا يعني أن كان شخص غنيًا قد يصبح فقيرًا فقط؛ لأن الحكومة قررت في يوم ما عدم اعتبار الورقة القديمة كعملة، وتغيير ورقة جديدة يعني أن الشخص الذي كانت له أوراق مالية في بنوك أخرى قد لا يجد الوقت الكافي لتعويض تلك النقود واستعمالها، وهذا يؤدي لإفلاسه، أما إذا كانت العملة معتمدة على الذهب والفضة فمهما كان القرار الاستعماري، فهذا الشخص أو هذه الدولة يكون له قوة كما كانت. وشكرًا.
الشيخ تقي العثماني:
شكرًا سيدي الرئيس.. إنما أريد أن أشير إلى نقطة واحدة فقط، وهي أن الاتجاه السائد الذي أرى من الإخوة هو أن تعامل النقود الورقية في معاملة الربا بمثل أحكام الذهب والفضة. ولكن هناك فرق بين أن تجري على النقود الورقية أحكام الربا، وبين أن نجري عليها أحكام الصرف. فقد تكلمنا عن أحكام الربا، ولكن هل نجري عليها أحكام الصرف، يعني هل يشترط التقابض في مجلس العقد عند المعاملة بين العملات المختلفة؟ مثلاً إذا عاملت أحدًا أديتها – الدنانير الأردنية هنا – وعاملته أن آخذ بدلها الروبية الباكستانية في باكستان.(3/1016)
فإذا جعلنا النقود الورقية أجرينا عليها أحكام الصرف، ينبغي ألا يجوز هذا العقد، وأما إذا جعلناها أثمانًا عرفية إثمانًا اصطلاحية، فيجوز أن لا يشترط له التقابض، فينبغي أن نبحث في هذا الموضوع أيضًا، هل يجري على النقود الورقية أحكام الصرف ويشترط لها التقابض، سواء أن كانت المعاملة جنس بجنس أو بجنس آخر أو لا؟
الرئيس:
في الواقع الذي تفضلتم به صحيح، لكن إذا عللت؛ لأنه لا ينبغي أن يفك بين التكييف الفقهي وبين التعليل. إذا عللت بمطلق الثمنية مع كونها أثمانًا قائمة بذاتها، فمعنى هذا أنه تجب فيها الزكاة، يجوز فيها السلم، يمتنع فيها النسيء، يجوز التفاضل بين أجناس الأوراق، عملة سعودية وعملة أردنية إذا كان يدًا بيد، فتجري فيها هذه الأحكام، وفعلاً يظهر أن الرأي – كما تفضل الشيخ تقي – أن الرأي السائد يتجه إلى هذا. فهل ترون أن تنتهي المداولة بهذا حتى ننتقل؛ لأن أمامنا في هذه الجلسة الصباحية موضوعين؟
الشيخ تقي العثماني:
ولكن لابد من البت في أمر الصرف، هل يشترط التقابض؟
الرئيس:
هو يكون لها حكم الذهب والفضة. هذا لا إشكال فيه.(3/1017)
الشيخ تقي العثماني:
يعني لو جعلناها أثمانًا عرفية كما رأيت معظم الإخوان يقولون: إنها أثمان باصطلاح الناس.
الرئيس:
أصلاً العملة كلها يا شيخ، كلها من أصلها ليس لها حد شرعي ولا طبيعي، وإنما هي بالاصطلاح والمواطأة.
الشيخ تقي العثماني:
لا، الذهب والفضة لها قيمة ذاتية، وإنها أثمان خلقية.
الرئيس:
لكن هي جعلت أثمانا هي أثمان بذاتها مع القوة السلطانية لها. هذا لا إشكال، ولذلك السبائك الذهبية هل تعد إثمانًا؟ هذا سؤال يا شيخ، السبائك الذهبية هل تعد ثمنًا؟ هل تعد عملة؟ فعلى كل إذن نسجل الأسماء.(3/1018)
الشيخ رجب التميمي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن الأوراق المالية التي هي عملات في العالم على اختلاف أسمائها أساسًا هي كانت قبل الورق عملات ذهبية، لكن لما تطور الاقتصاد وأخذ بالعملات الورقية، وصارت هذه العملات تقل قيمتها تبعًا لتطور الاقتصاد، كان في أول الأمر الدينار أو الجنية يساوي الجنية الذهبي، ثم لما تطور الاقتصاد صار الاختلاف في القيمة بين الذهب والورق، وذلك أننا حينما نرجع إلى تقدير النصاب، نصاب الزكاة أساسًا موجود تقديره في الفقه بالذهب والفضة، فحينما تقدرها بالعملات الورقية هي ثمن وتقدر، هل عندما نقدر نصاب الزكاة بالأوراق المالية الموجودة الآن في العالم الإسلامي لا بد أن نقيسها على القيمة الذهبية حتى يمكن أن نقدر النصاب، كذلك الدية الشرعية عندما جاءت بالذهب والفضة، وحينما نقدرها بالأوراق المالية نرجع إلى الذهب والفضة، فالعملات الورقية، فحينما نقدر قيمتها الآن نرجع إلى القيمة الأصلية وهي الذهب والفضة.(3/1019)
هذا هو الموضوع الذي يمكن أن نبحث الأمر على أساسه. عندنا أحكام شرعية بالذهب والفضة، والذهب والفضة هي العملة السائدة قبل وجود الأوراق المالية، فسنرجع في الثمنية إلى الذهب والفضة، ولذلك تجب فيها الزكاة، ولذلك هي لا ترقى، بينها وبين الذهب والفضة، إلا من ناحية القيمة، قيمتها تتضاءل يومًا بعد يوم. وهذا الأمر يجب أن نقدر القيمة في كل بلد حسب وضعه، ثم نرجعه إلى الذهب والفضة، حتى يمكن للمسلم وللمكلف شرعًا أن يعلم القيمة، النصاب، نصاب الزكاة، حتى يمكن للمسلم أو لأولى الأمر حينما يقدرون الدية بالعملة الورقية يرجعون فيها إلى الذهب والفضة.
هذه هي ثمرة الخلاف والبحث.
فعندنا أحكام شرعية مقدرة بالذهب والفضة، هذه القيمة الورقية هي بديل عنها في الأول. ولذلك مثلاً قبل أربعين أو خمسين سنة كان الجنيه المصري بدله الجنيه الذهب تمامًا قيمة الجنيه الذهب قيمة الورق في ذلك الوقت، كان الدينار الأردني الذي هو بدله الجنيه الفلسطيني كان الذهب تمامًا مثل الورق، لكن تطور الاقتصاد والتضخم المالي والتلاعب الاقتصادي العالمي وسيطرة العملات للدول الكبرى مثل الدولار وغيره هو الذي بدل قيمة الأوراق المالية.(3/1020)
نحن حينما نرجع ونبحث موضوع الأوراق المالية يجب أن نردها لأصولها في التقدير والقيمة؛ حتى نستطيع أن نقدر نصاب الزكاة حتى نستطيع أن نقدر الديات، حتى نستطيع أن نقدر بقية الأحكام الشرعية؛ ليعلم الناس كيف يقدرون ما وجب عليهم بهذه الأوراق المالية التي تتناقص يومًا بعد يوم. والله أعلم.
الشيخ عمر جاه:
بسم الله الرحمن الرحيم..
شكرًا سيدي الرئيس.. في الحقيقة بعد الاستماع إلى كثير من المعلقين، والذين تفضلوا بتوضيح البحوث التي قدموها لهذا المجمع، أرجع وأتساءل، وهذا السؤال أعتقد أنه إذا أجيب عليه قد يكون لنا مخرج، ذلك ما هو المطلوب من هذا المجمع حينما طرحت هذه الموضوعات، موضوع النقود الورقية ما هو المطلوب منا؟ يبدو أننا تطرقنا إلى موضوعات كثيرة ومتشعبة، قد لا تكون في الحقيقة في اختصاص هذا المجمع. ومما لا شك فيه أن النقود الورقية في الوقت الحاضر هي أثمان قائمة بذاتها، ونشتري بها كل شيء، ونتعامل بها في كل معاملاتنا، من غير تطوير. أنا أريد من يتطوع سواء كان الرئيس أو من المختصين الذين قدموا بحوثًا جيدة، وأنا أشير إلى بعض التعليقات التي عبرت عما كان يدور في خلدي، تعليق الدكتور عبد السلام العبادي، وتعليق الأستاذ أحمد جمال، وتعليق الأخ السالوس، وأتساءل: ما هو الهدف الأساسي من مناقشة هذا الموضوع؟ وما هي الغاية التي نريد أن نحققها بهذه المناقشة؟ وشكرًا.(3/1021)
الرئيس:
شكرًا.. أظن أن الغاية والأساس والهدف الذي من أجل هذا الموضوع هو ما أشير إليه في افتتاحية الجلسة، وما اتجهت إليه أكثر الأنظار، أحكام النقود الورقية، بمعنى: هل هي ملحقة تقوم مقام الذهب والفضة في جميع أحكامها، من جريان الربا، من وجوب الزكاة، من جميع الأحكام المتعلقة بالذهب والفضة أم لا؟ هل هي إسناد؟ هل هي عروض تجارة؟ هل هي ملحقة بالفلوس؟ هذا هو التكييف الفقهي. وأنا أظن أشرت إلى ملخص لهذا في أول هذه الجلسة إضافة إلى أنه من المتعين تحديد الاجتهاد في تحديد العلة الشرعية في هذه النقود؛ لأنه بهذا نستطيع أن نلحق مدى لحوقها بالذهب والفضة من عدمه. وشكرًا.
الشيخ عمر جاه:
إذن أرجو أن ينحصر الكلام في هذا، ونبت في هذا القرار.
الرئيس:
هو منحصر يا شيخ.. شكرًا.. هو بقي عندنا ثلاثة من المشايخ.(3/1022)
الشيخ مصطفى الزرقا:
بسم الله الرحمن الرحيم، إخواني فضيلة الرئيس، إخواني الأساتذة الكرام.
أنا لم أكن حاضرًا في بداية البحث؛ لأنا كنا في لجنة تعمل الأعمال الفرعية، ولكن ما حضرته عندما جئت الآن وسمعته تبين لي فيه الآراء التي تدور فيه، فأنا لا أريد أن أطيل الكلام، ولكني أريد أن أقول: إن ما سمعته في هذه الفترة يمكن أن أصنفه إلى صنفين:
الصنف الأول من الكلام أعتقد أنه لا علاقة لهذا المجمع به، وهو الرأي الذي يقول: إنه يجب أن يكون لهذه الأوراق النقدية غطاء من الذهب وما إلى ذلك، هذا أمر إذا تدخلنا نحن فيه نكون في بحر ظلمات، وانحرافنا إلى ما لا نملك فيه مجالاً، ولا أقوالاً ولا ... قضية وجوب أن يكون للورق النقدي في أي دولة من الدول غطاء ذهبي، هذا أمر دولي لا يخضع لفتوانا، وإن أفتينا بذلك لا يوجد من يسمع كلامنا.(3/1023)
هذه قضية اقتصادية سياسية دولية تتعلق بالسياسة المالية للدول، وفقدان الغطاء الذهبي له عوامله الكثيرة المشتركة، أولاً بين جميع الدول المتخلفة - بالتعبير الصحيح - أو النامية - بالتعبير الملطف - إلى آخره، فهذا الغطاء الذهبي هو مشكلة المشكلات، ولا يمكن بشكل من الأشكال في وقتنا الحاضر، بل حتى الدول الغنية والتي كانت هي في أوج سلطانها، مثل إنجلترا وفرنسا وغيرها، وحتى أمريكا نفسها أصبحت عاجزة عن أن توفر الغطاء الذهبي لعملتها الورقية، لعوامل كثيرة لا أريد ذكرها؛ لأن ضغط النفقات، وتزايد الميزانيات، ومحدودية إنتاج الذهب؛ لأن هذا شيء في جوف الأرض، ولا يملك أحد أن يزيد فيه أو ينقص. هذه المشكلة مع تزايد النفقات والحاجة إلى العملات هي التي أحلت – في ما كنت عبرت به في مثل هذا الموضوع – هي التي أحلت المطابع مكان المناجم، كانت العملات هي الذهب والفضة، وهي تستخرج من المناجم، ولا يستطيع الإنسان أن يزيد فيها في ما في المنجم أو ينقص، ولكن لما حصل الضغط على البلاد ولاسيما النامية، وعلى غيرها بتزايد النفقات العظيمة مع الزمن، ولاسيما نفقات التسلح، وما إلى ذلك مما أصبح يضر بآلاف الملايين، يعني مضاعفات، فكل هذا جعل هذه الدول تقلب الموضوع من أمر الغطاء الذهبي الكامل إلى غطاء ذهبي ناقص، إلى غطاء ذهبي أنقص، إلى.. إلى حتى إلى صفر من الغطاء الذهبي. معروف الموضوع. وهنا منشأ التضخم الذي نسمع عنه، فالتضخم نشأ، أي التضخم هبوط القوة الشرائية للعملة، هبوط هذه القوة الشرائية، هذا نشأ من إحلال المطابع محل المناجم، وأصبح كل دولة لما تعضها الأزمات المالية وتريد أن تحل مشكلة، تشغل المطبعة، وتخرج من الأوراق ما تشاء، وتوزع على مواطنيها، وهذا يؤدي إلى هبوط القيمة إلى آخره، وهو التضخم.(3/1024)
فنحن تجاه وضع عالمي إذا أردنا أن نبحث في وجوب غطاء ذهبي فهذا معناه أن الناس يستخفون بأبحاثنا كلها، ونخرج عن حدودنا، وعن إمكانياتنا، وعن ... وعن ... إلى آخره. هذا أمر يجب أن يستبعد موضوع أن نفتي بوجوب الغطاء الذهبي أو غيره. هذا كلام لا يمكن أن يجري.
الأمر الثاني: والذي يدخل في اختصاص هذا المجمع الكريم، هو حكم هذه الأوراق كأمر واقع. اليوم هي العملة الدولية، وأقول لأنكم كلكم تعلمون أن البلاد التي كانت تحت الاستعمار، ثم انقضى الاستعمار وأصبحت مستقلة، لا تزال تطبق القوانين التي أصدرها الاستعمار في هذا الموضوع، وهو منع التعامل بالذهب والفضة، منع، تحت طائلة القانون، واعتبار كل عقد يعقد بالذهب يعتبر باطلاً بالنص الصريح، كما هو معروف في سوريا وغيرها، يعتبر العقد باطلاً، ويستبدل رغمًا عن عاقديه، يستبدل بالذهب، العملة الورقية بالتسعيرة الرسمية. هذا أمر نحن لا نملك فيه تقديمًا ولا تأخيرًا، وله أسباب وعوامل كما قلت راسخة فيما يتعلق بالسياسة المالية للدول.(3/1025)
لذلك مهمتنا هذه العملة الورقية كأمر واقع في ظل أنه ممنوع علينا التعامل بالذهب، وأن التعاقد به باطل ... إلى آخره، بل في بعض البلاد يعتبر جريمة ويعاقب عليها، نحن في ظل هذا الوضع، هذه الأوراق التي لم يعد في العالم أجمع عملة سواها، الآن حتى إن الجنيه الإنجليزي، الذهب الذي كان يعتبر عملة ذهبية تخص إنجلترا، وكان التزييف فيه، إذا زيف الجنيه الإنجليزي الذهب أو سواه يعتبر جرمًا، تزييف ويعاقب عليه بالعقوبات الشديدة، كما تعلمون عن المزيفين. بعدما اعتبر في المحاكم الدولية في سويسرا في قضايا معروفة رفعها رجال القانون، وصدر القرار في المحكمة الدولية بأن العملة الذهبية أو الدنانير الذهبية أصبحت سلعة، أي ذهبًا مسبوكًا. ولم يبق لها القيمة الرسمية التي يعتبر تقليدها تزييفًا، وبرأوا المدعى عليه بالتزييف براءة كاملة إلى آخره، واعتبروا أن هذا التزييف مباح لكل من أراد؛ لأن الذهب أصبح يعتبر بالوزن، لا أكثر ولا أقل، نحن في ظل هذا الوضع، فهذه الأوراق، والتي لم يبق هناك في التعامل العالمي أبدًا سواها، والذهب أصبح معدنًا بالوزن يباع ويشترى، فنحن في ظل هذا ماذا نحكم على هذه الأوراق؟ لا أريد أن أطيل الكلام، ولكن أريد أن أتكلم كلمتين مختصرتين بعد هذا التمهيد.(3/1026)
إن كل تفكير بأن تكون الأوراق النقدية لا تأخذ حكم الذهب والفضة من كل الوجوه، كل تفكير يخالف هذا، ويعتبرها أنها ليست كالذهب والفضة هو تفكير قاصر ويؤدي إلى إباحة الربا على مصراعيه. هذه كلمة مختصرة مفيدة، وأظن لا نحتاج لها إذا أردتم الأدلة حتى أوضح، ولكن أعتقد أن ذلك كاف، كل تفكير هي يجب أن تعتبر كالذهب والفضة بلا تردد أبدًا، وما يقال في الربا بين المبادلة بين الذهب، نعم يعتبر كل نوع ورق الدولة، مثلاً الدينار الأردني الدولار الأمريكي إلى آخره الريال السعودي، هذا يعتبر التبادل بينه كالتبادل بين الذهب والفضة، يعني بين النقدين من جنس مختلف، فيجوز التفاضل؛ لأنه كما يجوز بين الذهب والفضة، ولكن النساء ممنوع، وكل غير ذلك هو قاصر.
الرئيس:
المهم تلحق بالذهب والفضة.
الشيخ مصطفى الزرقا:
تلحق بالذهب والفضة تمامًا من كل الوجوه إلى أخره، والسلام.(3/1027)
الرئيس:
شكرًا.. الشيخ أحمد مع الاختصار إذا تفضلتم لكم وللإخوان؛ لأنه بقي ثلاثة لدينا، ثم ننهي إن شاء الله تعالى.
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
أقول وبالله التوفيق في الحقيقة النقود الذهبية - وليس الذهب - النقود الذهبية بها صفتان: بها الثمنية وبها قوة الاصطلاح والاعتبار. النقود الورقية فيها نفس الصفتين: فيها ثمن مهما قل أو كثر، وفيه قوة الاعتبارية، ثم أحب أن أبين نقطة هنا هامة أنه ليس بالضرورة أن النقود الورقية تغطى بالذهب، إنما كل النقود الورقية مغطى بالأصناف الستة الربوية، هل فيه بلد من البلدان ليس فيه قمح أو شعير أو تمر أو ملح؟ والورق مغطى باقتصاد البلد. هذا أحببت أن أوضحه، وخاصة لأستاذنا ابن بيه. وشكرًا.(3/1028)
الشيخ عبد الله البسام:
الذي أريد أن أقوله أنا لا أشك إن شاء الله أن النقود أصبحت الآن عملة قائمة بذاتها، وأنها آخذة جميع أحكام الذهب والفضة من حيث المعاملات ومن حيث الربا والزكوات وغير ذلك، لكن لا أحب مثلاً أن نربطها ونقول: إنها بدل من الذهب والفضة.
الرئيس:
لا لم يقل الإخوان يا شيخ أنها بدل الذهب، قالوا: إنها ثمن قائم بنفسه، يعني بذاته، لكن تنسحب عليه أحكام الذهب والفضة.
الشيخ عبد الله البسام:
يعني لو قلنا: إنها بدل عنه.
الرئيس:
لا ما قلنا: بدلاً.
الشيخ مصطفى الزرقا:
لها حكم الذهب والفضة.
الشيخ عبد الله البسام:
يعني كيف أخذت حكمها: من الثمنية، أو من قوة اعتبارية؟
الشيخ مصطفى الزرقا:
تعتبر أثمانًا.
الشيخ عبد الله البسام:
ما هو الذي جعلنا نربطها بالذهب والفضة، يعني لم قلنا: إنها قائمة مقام الذهب والفضة؟(3/1029)
الرئيس:
العلة الثمنية، لكن كون أنها بدل عن الذهب والفضة ما أحد أبدى في مناقشته أنها بدل. وإنما قالوا: إنها ثمن قائم بذاته، وهذا ما عليه جمهور المشايخ، والعلة فيها هي الثمنية اجتهادًا طبعًا، ولهذا تنسحب عليها أحكام الذهب والفضة.
الشيخ عبد الله البسام:
ما الذي يجعلنا أن نسحب عليها أحكام الذهب والفضة، هي أن نقول أنها بدل عنه؟ ما هي العلاقة بين هذه النقود الورقية وبين الذهب؟
الرئيس:
لأن أشار إليه الشيخ لعله البازيع على أن العملة أو النقد ليس له حد طبيعي ولا شرعي، وإنما هو حد سلطاني اقتصادي.
الشيخ عبد الله البسام.
هذا يجب علينا أننا نبعد مسألة الذهب والفضة.(3/1030)
الرئيس:
هو الحقيقة نستطيع أن نبعدها، لكن ما نأتي بها إلا على وجه التقريب، يعني على وجه التحديد؛ لأن الناس المرتسم في أذهانهم الربا في الذهب والفضة، أو وجوب الزكاة، السلم، جريان الربا ... إلى آخره، فيؤتي بها لأجل بيان انسحاب الأحكام على هذه الأوراق الجديدة، لا لأنها بديلة عنها. هذا الذي ظهر لي أنا تصورًا من مداولات المشايخ.
الشيخ المختار السلامي:
شيء جديد يربط بالذهب والفضة ربطًا كاملاً.
الرئيس:
أي نعم هو هذا، أنا أقول الشيء هذا، أقول: لأن مثلاً الناس مرتسم في أذهانهم الذهب والفضة. فلجدة هذا يربطونه ويقول: إنها تجري فيها الأمور هذه من الزكاة، وجريان الربا، وجواز السلم، وربا الفضل، وربا النسيئة، كما تنسحب على أحكام النقدين من الذهب والفضة.(3/1031)
الشيخ عبد الله البسام:
والله ما اتضح لي الحقيقة، مثلاً أن ندندن على الذهب والفضة ونجعل بينهما علاقة.
الرئيس:
طيب ماذا نقول؟ ماذا نحرر؟
الشيخ عبد الله البسام:
نقول: إنها علة قائمة بذاتها لا علاقة لها بالنقدين القديمين الذهب والفضة.
الرئيس:
أصلاً الإخوان ما قالوا: لها علاقة بالنقدين. لكن سؤال هل يجري فيها الربا؟
الشيخ عبد الله البسام:
يجري فيها الربا.
الرئيس:
وتجب فيها الزكاة؟(3/1032)
الشيخ عبد الله البسام:
كل الأحكام تجري فيها.
الرئيس:
ما هي كل الأحكام التي تجري فيها؟
الشيخ عبد الله البسام:
مثلاً نجد أننا مثلاً عندنا عملات كثيرة تمثل أنواعًا من الذهب، وعملات كثيرة تمثل عملات من فضة، فإذا قلنا مثلاً فيه علاقة بين الذهب والفضة وبين هذه النقود أصبح أننا لا نستطيع أن نبيع دينارًا آخر من غير نوعه إذا كان كل منهما يمثل نوع الذهب.
الرئيس:
أما هذا أنا ذكرته للشيخ تقي في بحث بيننا وبينه وأنتم تسمعونه، فعلى كلٍّ المحذورُ الذي أنتم خفتم منه هو قضية البدلية، هي غير واردة في مداولات المشايخ على وجه العموم.
الشيخ تقي العثماني:
اقتصرتم على الأثمان يا شيخ. على أنها صارت أثمانًا؟(3/1033)
الرئيس:
إنها أثمان قائمة بنفسها، وإن العلة فيها هي مطلق الثمنية، وإنه يجري فيها ما يجري في النقدين الذهب والفضة: من وجوب الزكاة، وجريان الربا، وجواز السلم ... إلى آخر ذلك من الأحكام. وبهذا هو ما يتجه إليه الأكثر وبه ينتهي. وصلى الله على نبينا محمد وصحبه.
بقي لنا موضوعان.. الآن نقوم إن شاء الله تعالى لأداء الصلاة واستراحة نصف ساعة، ثم نعود في الساعة الثانية عشر إن شاء الله تعالى لاستكمال هذين الموضوعين. بعد أداء الصلاة
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمامنا المسألة الثانية من البحث في أوراق النقود وهو حكم تغير قيمة العملة، وقد سمعتم العرض من بعض أصحاب الفضيلة المشايخ، وهو على الرغم مما فيه من عرض للمذاهب وأقوال أهل العلم، ولأنه جمع ما تفرق في عدد من كتب أهل العلم، وكذلك البحوث الموجودة بحوث ماتعة، لكن الأمر متروك، لكن في أحد أمرين: إما طرحه للمداولة الآن وتقررون ما تنتهون إليه إن شاء الله تعالى، أو وهذا من خلال تصوري الشخصي، أنا في الواقع لم يحصل عندي الرصيد الكامل في الفقه ومناهجه، والتعليلات لهذه القضية أكثر مما أفهمه من مذهب الحنابلة. ولهذا قد ترون مناسبًا تأجيلها مع إعداد بحث شرعي دقيق شامل مستهديًا بهذه البحوث التي أعدها أصحاب الفضيلة؛ لأنه لا يخفى أن هناك أمرين:(3/1034)
الأمر الأول: أن هذه القضية تغير قيمة العملة ليست بحجم عنوانها، أنها أضعاف أضعافه من الأهمية؛ لأنها تتدخل في أمور كثيرة، في القرض، في المداينات، في البيوع، في الرواتب في النفقات، وما جرى مجرى ذلك.
الأمر الثاني: أننا إذا أصدرنا قرار ليس قرارا إداريًا، سنقول: إنه اتجه المجمع إلى أن هذا كذا وهذا كذا، لا بد له من تقعيدات شرعية وتعليلات، ونبنيه على أسس متينة. فعلى كل الأمر متروك لكم في هذا الموضوع.
الشيخ تقي العثماني:
أنا أوافق على التأجيل. تأجيل هذا الموضوع.
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
أثني على ذلك، ولكن مع تعيين وقت آخر.
الرئيس:
هو الوقت الآخر إن شاء الله تعالى في الدورة الآتية بإذن الله.(3/1035)
الشيخ محمد سالم عبد الودود:
هل نحيله على شعبة الفتوى لتضع فيه مشروع فتوى؟
الرئيس:
مهمة الأمانة بأن تكاتب اثنين أو ثلاثة من أصحاب الفضيلة المشايخ من أعضاء المجمع ومن خارجه؛ ليعدوا بحثًا فيه، وتجعل هناك عناصر حتى يكون البحث نستطيع أن ننطلق منه. إذن بهذا ننتهي من هذا الموضوع، ويكون مآله إلى التأجيل، مع إعداد بحوث مستوعبة فيه.(3/1036)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (9) د 3/ 07/ 86
بشأن " أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة"
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع " أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة ".
قرر:
أولاً: بخصوص أحكام العملات الورقية:
أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم، وسائر أحكامها.
ثانيًا: بخصوص قيمة العملة:
تأجيل النظر في هذه المسألة حتى تستوفي دراسة كل جوانبها لتنظر في الدورة الرابعة للمجلس.
والله أعلم(3/1037)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (1) / د / 3 / 07 / 86
بشأن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهامشية من 8 إلى ص13 صفر 1407 هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
- بعد دراسة مستفيضة ومناقشات واسعة لجميع الاستفسارات التي تقدم بها البنك إلى المجمع، انتهى إلى ما يلي:
(أ) بخصوص أجور خدمات القروض في البنك الإسلامي للتنمية:
قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية:
1- جواز أخذ أجور عن خدمات القروض.
2- أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية.
3- كل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعا.
(ب) بخصوص عمليات الإيجار:
قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها:
المبدأ الأول:
أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعا.
المبدأ الثاني:
أن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد حيازة الوكيل لها هو توكيل مقبول شرعا، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك.
المبدأ الثالث:
أن عقد الإيجار يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات وأن يبرم بعقد منفصل عن عقد الوكالة والوعد.(3/1038)
المبدأ الرابع:
أن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل.
المبدأ الخامس:
أن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك بصفته مالك للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد أو تقصير من المستأجر فتكون التبعة عندئذ عليه.
المبدأ السادس:
أن نفقات التأمين لدى الشركات الإسلامية كلما أمكن ذلك، يتحملها البنك.
(ج) بخصوص عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن:
قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها:
المبدأ الأول:
أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية ببيع المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعا.
المبدأ الثاني:
أن توكيل البنك أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك، بغية أن يبيعه البنك تلك الأشياء بعد وصولها وحصولها في يد الوكيل، هو توكيل مقبول شرعا، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك.
المبدأ الثالث:
أن عقد البيع يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات والقبض لها. وأن يبرم بعقد منفصل.
(د) بخصوص عمليات تمويل التجارة الخارجية:
قرر مجلس المجمع أنه ينطبق على هذه العمليات المبادئ المطبقة على عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن.
(هـ) بخصوص التصرف في فوائد الودائع التي يضطر البنك الإسلامي للتنمية لإيداعها في المصارف الأجنبية:
قرر مجلس المجمع بشأن ذلك ما يلي:
يحرم على البنك أن يحمي القيمة الحقيقية لأمواله من آثار تذبذب العملات بواسطة الفوائد المتجرة من إيداعاته، ولذا يجب أن تصرف تلك الفوائد في أغراض النفع العام كالتدريب والبحوث وتوفير وسائل الإغاثة، وتوفير المساعدات للدول الأعضاء وتقديم المساعدة الفنية لها، وكذلك للمؤسسات العلمية والمعاهد والمدارس وما يتصل بنشر المعرفة الإسلامية.
والله أعلم.(3/1039)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العاملين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (3) د (3/07/86
بشأن: توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك
فردي للمستحق
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407/ 11 إلى 16 أكتوبر 1986م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع " توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق " وبعد استماعه لآراء الأعضاء والخبراء فيه.
قرر:
يجوز من حيث المبدأ توظيف أموال الزكاة في مشاريع استثمارية تنتهي بتمليك أصحاب الاستحقاق للزكاة، أو تكون تابعة للجهة الشرعية المسؤولة عن جمع الزكاة وتوزيعها على أن تكون بعد تلبية الحاجة الماسة الفورية للمستحقين وتوافر الضمانات الكافية للبعد عن الخسائر.
والله أعلم(3/1040)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (4) د 3 / 07 / 86
بشأن أطفال الأنابيب
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهامشية من 8 إلى 13 صفر 1407 هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986.
بعد استعراضه لموضوع التلقيح الصناعي "أطفال الأنابيب" وذلك بالاطلاع على البحوث المقدمة والاستماع لشرح الخبراء والأطباء.
وبعد التداول:
تبين للمجلس:
أن طرق التلقيح الصناعي المعروفة في هذه الأيام هي سبع:
الأولى: أن يجرى تلقيح بين نطقة مأخوذة من زوج وبييضة مأخوذة من امرأة ليست زوجته ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته.
الثانية: أن يجرى التلقيح بين نطفة رجل غير الزوج وبييضة الزوجة ثم تزرع تلك اللقيحة في رحم الزوجة.
الثالثة: أن يجرى تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متطوعة بحملها.
الرابعة: أن يجرى تلقيح خارجي بين بذرتي رجل أجنبي وبييضة امرأة أجنبة وتزرع اللقيحة في رحم الزوجة.
الخامسة: أن يجرى تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى.
السادسة: أن تؤخذ نطفة من زوج وبييضة من زوجته ويتم التلقيح خارجيا ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة.
السابعة: أن تؤخذ بذرة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها تلقيحا داخليا.
وقرر:
أن الطرق الخمسة الأول كلها محرمة شرعا وممنوعة منعا باتا لذاتها أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة وغير ذلك من المحاذير الشرعية.
أما الطريقان السادس والسابع فقد رأى مجلس المجمع أنه لا حرج من اللجوء إليهما عند الحاجة مع التأكيد على ضرورة أخذ كل الاحتياطات اللازمة.
والله أعلم(3/1041)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
القرار رقم (5) د 3/ 07/ 86
بشأن " أجهزة الإنعاش "
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986م.
بعد التداول في سائر النواحي التي أثيرت حول موضوع " أجهزة الإنعاش " واستماعه إلى شرح مستفيض من الأطباء المختصين.
قرر ما يلي:
يعتبر شرعًا أن الشخص قد مات وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعًا للوفاة عند ذلك إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين:
1- إذا توقف قلبه وتنفسه توقفا تامًا وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه.
2- إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلًا نهائيًا، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه. وأخذ دماغه في التحلل،
وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلًا لا يزال يعمل آليًا بفعل الأجهزة المركبة.
والله أعلم(3/1042)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (6) د 3/ 07/ 86
بشأن "توحيد بدايات الشهور القمرية"
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407 هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
بعد استعراضه في قضية "توحيد بدايات الشهور القمرية" مسألتين:
الأولى: مدى تأثير اختلاف المطالع على توحيد بداية الشهور.
الثانية: حكم إثبات أوائل الشهور القمرية بالحساب الفلكي.
وبعد استماعه إلى الدراسات المقدمة من الأعضاء والخبراء حول هذه المسألة.
قرر:
1- في المسألة الأولى:
إذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار.
2- في المسألة الثانية:
وجوب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد ومراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية.
والله أعلم(3/1043)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (7) د 3/07/86
بشأن "الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة"
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمرة الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407 هـ/11-16 أكتوبر 1986م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة بخصوص موضوع "الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة".
قرر:
أن المواقيت المكانية التي حددتها السنة النبوية يجب الإحرام منها لمريد الحج أو العمرة، للمار عليها أو للمحاذي لها أرضًا أو جوًا أو بحرًا؛ لعموم الأمر بالإحرام منها في الأحاديث النبوية الشريفة. والله أعلم.(3/1044)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (9) د 3/ 07/ 86
بشأن " أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة"
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع " أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة ".
قرر:
أولاً: بخصوص أحكام العملات الورقية:
أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم، وسائر أحكامها.
ثانيًا: بخصوص قيمة العملة:
تأجيل النظر في هذه المسألة حتى تستوفي دراسة كل جوانبها لتنظر في الدورة الرابعة للمجلس.
والله أعلم(3/1045)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم (11) د 3/ 07/ 86
بشأن "استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن "
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407هـ / 11- 16 أكتوبر 1986م.
بعد اطلاعه على الاستفسارات التي عرضها "المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن" وما أعد من إجابات عليها من بعض الأعضاء والخبراء.
قرر
تكليف الأمانة العامة للمجمع بتبليغ المعهد المذكور بما أقره المجلس من إجابات.(3/1046)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (12) د 3/ 07/ 86
بشأن " المشاريع العلمية للمجمع "
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407 هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
بعد دراسة تقرير شعبة التخطيط عن اجتماعها يومي 8 و 9 صفر 1407 هـ /11 –12 أكتوبر 1986 م، والذي بحثت فيه عددًا من الأمور المدرجة على جدول أعمالها.
قرر:
أولاً: الموافقة على المشاريع التالية بعد أن أدخل عليها بعض التعديلات:(3/1047)
1- الموسوعة الفقهية.
2- معجم المصطلحات الفقهية.
3- معلمة القواعد الفقهية
4- مدونة أدلة الأحكام الفقهية
5- إحياء التراث الفقهي
6- اللائحة المالية للموسوعة الفقهية.
7- اللائحة المالية لمعجم المصطلحات الفقهية
8- اللائحة المالية لإحياء التراث الفقهي.
9- منهج سير عمل ومناقشات وإدارة جلسات المجلس.
ثانيًا:
تأليف لجنة علمية رباعية لوضع منهج لكل من مشروعي معلمة القواعد الفقهية ومدونة أدلة الأحكام الفقهية بالتشاور بين رئيس المجلس والأمين العام.(3/1048)
القسم الثاني
بحوث المؤتمر وفتاواه
استفسارات البنك الإسلامي للتنمية
- مذكرة من أمين عام المجمع لعرض الموضوع.
- محضر اجتماع أصحاب الفضيلة علماء الشريعة مع البنك الإسلامي للتنمية.
- المناقشة.
- تقرير لجنة الإجابة عن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية بعد مداولات المجلس حول محضر اجتماع أصحاب الفضيلة علماء الشريعة.
- مناقشة تقرير لجنة الإجابة عن الاستفسارات.
- القرار.(3/1049)
مذكرة
أمين عام المجمع لعرض الاستفسارات
بسم الله الرحمن الرحيم
مذكرة من الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي
إلى أصحاب السماحة والفضيلة أعضاء المجمع
الموضوع: استفسارات البنك الإسلامي للتنمية بشأن عملياته التمويلية.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تعلمون سماحتكم أن البنك الإسلامي للتنمية، مؤسسة دولية أنشأتها حكومات البلدان الإسلامية منذ عام 1395 هـ (1975 هـ) بهدف "دعم التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي لشعوب الدول الأعضاء والمجتمعات الإسلامية مجتمعة ومنفردة وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية".
وما فتئ البنك منذ بدء عملياته في أساليب التمويل التي يراها مطابقة للشرع، مستعينا بأعيان العلماء وذوي الدراية بفقه المعاملات الذين يلجأ إليهم من حين لآخر فرادى تارة ومجموعة تارة أخرى.
ولم يكد مجمعكم الموقر يبدأ نشاطه ويعقد اجتماعه التأسيسي، حتى وجد البنك الإسلامي للتنمية في المجمع جهازا مناسبا للإرشاد والتوجيه إلى أفضل السبل لتطبيق الأحكام الشرعية على معاملات البنك المالية.
وهكذا تقدم البنك إلى الدورة الثانية لمجمعكم الموقر بعدد من الاستفسارات تناولت العمليات التمويلية التي يمارسها البنك، وذلك بغرض الحصول على رأي فقهي حول مجرياتها والتثبت من مطابقتها للأحكام الشرعية.
وبعد أن نظرت لجنة متفرعة من المجمع لهذه الاستفسارات، رأت هذه اللجنة أن الموضوعات التي أثارها البنك تحتاج إلى دراسة موسعة، وتبادل النظر مع الجهات المعنية بالبنك حول جزئيات المسائل المثارة وجوانبها التطبيقية، على أن يتم النظر في هذا الموضوع ثانية خلال الدورة الثالثة للمجمع.
وفي الفترة من 14 إلى 17 شوال 1406 هـ، اجتمع بمقر البنك الإسلامي للتنمية فريق من أصحاب الفضيلة العلماء، وقاموا بمدارسة استفسارات البنك واصدروا بشأنها آراء، تجدونها في المحضر الموزع هنا على حضراتكم، والملحقة به نماذج من اتفاقيات التمويل بعد أن أجريت عليها التعديلات المقترحة من قبل أصحاب الفضيلة العلماء.
والغرض من هذه المذكرة هو عرض نتائج أعمال هذا الفريق على حضراتكم، واستطلاع رأي المجمع الموقر حول الاستفسارات التي طرحها البنك الإسلامي للتنمية.(3/1050)
بسم الله الرحمن الرحيم
استفسارات
من البنك الإسلامي للتنمية بجدة
يسر البنك الإسلامي للتنمية أن يضع أمام المجمع الفقهي الإسلامي الموقر بعض الاستفسارات برجاء أن تكون موضع عناية أصحاب السماحة والفضيلة أعضاء المجمع، وهي تتعلق بما يلي:
أولا: عمليات القروض التي يقدمها البنك الإسلامي للتنمية لمشروعات البنية الأساسية في الدول الأعضاء بالبنك وبدون فوائد، والمبلغ المقطوع الذي يتقاضاه البنك مقابل خدماته لتغطية مصاريفه الإدارية.
والقروض التي يقدمها البنك الإسلامي للتنمية للدول الأعضاء لتمويل مشروعات البنية الأساسية هي قروض طويلة الأجل إذ تتراوح مدة الوفاء بين خمسة عشر وثلاثين عاما. والتزاما بأحكام الشريعة الإسلامية فإن البنك لا يتقاضي فوائد على تلك القروض، غير أنه بناء على ما نصت عليه اتفاقية تأسيسه يتقاضى البنك رسم خدمة لتغطية نفقاته الإدارية.
وقد رأى البنك أن يتم تحديد رسم الخدمة في ضوء التكلفة الإدارية الفعلية التي سوف يتحملها البنك في تقويم المشروعات التي يمولها، وأيضا تكلفة متابعة تنفيذها، ولما كان من الصعوبة بمكان تحديد وضبط التكلفة الإدارية الفعلية التي يتحملها البنك في كل مشروع من المشروعات التي يمولها على حدة لذا فإن البنك لحد الآن وإلى أن يصبح من الممكن عمليا تحديد التكلفة الإدارية التي يتحملها كل مشروع على حدة على وجه الدقة يكتفي بإجراء تقدير تقريبي لتكاليف الخدمة الإدارية والتي رأي أنها تتراوح بين 2.5 و3 في المائة حسب حالة المشروع وظروفه، وبناء على ذلك فإن البنك – في حدود النسبة التقريبية المذكورة – يتقاضى مبلغا مقطوعا يلتزم المقترض بالوفاء به لتغطية هذه التكاليف الإدارية.
ثانيا: عمليات الإيجار التي يقوم بها البنك الإسلامي للتنمية لتمويل شراء ثم إيجار وسائط النقل مثل ناقلات البترول، والبواخر، أو لتمويل شراء ثم إيجار معدات وأجهزة لمشروعات صناعية لصالح الدول الأعضاء.
وطبقا للأسلوب المعمول به في البنك يتم الإيجار على الأسس التالية:
(أ) بعد التحقق من الجدوى الفنية والمالية للمشروع الذي ينظر البنك في المساهمة في تمويله عن طريق الإيجار يبرم البنك اتفاقية مع الجهة القائمة على المشروع (المستأجر) ويفوض البنك بموجبها إلى تلك الجهة التعاقد باسمه مع الموردين على شراء المعدات المطلوبة (والتي يتم تعيينها وتحديد تكلفتها التقديرية في الاتفاقية) ويقوم البنك وفقا لما يتم إبرامه من عقود مع الموردين بدفع قيمة المعدات مباشرة للموردين في الآجال التي تحددها تلك العقود.
(ب) تقوم الجهة المستفيدة (المستأجر) نيابة عن البنك باستلام المعدات وفحصها للتأكد من سلامتها ومطابقتها للمواصفات المتعاقد عليها ثم تقوم بالإشراف على تركيبها – متى كان التركيب لازما – للتأكد من أن ذلك يتم بطريقة سليمة حسبما تم التعاقد عليه مع الموردين.(3/1051)
(ج) بناء على المعلومات المتوافرة لدى الجهة القائمة على المشروع وتقديرات الفنيين بها وبالبنك تحدد الاتفاقية الفترة الزمنية اللازمة لتنفيذ عملية شراء المعدات وتركيبها حتى تصبح صالحة لاستيفاء المنفعة المقصودة منها. وبناء على ذلك تنص الاتفاقية على موعد بدء الإجارة بحيث يقع ذلك بعد انتهاء الفترة المقدرة لكي تصبح المعدات محل الإيجار صالحة لاستيفاء المنفعة المقصودة منها.
(د) أثناء مدة الإجارة يقوم المستأجر بدفع الأقساط المحددة في عقد الإجارة (أي الاتفاقية الخاصة بالإيجار) كما يلتزم بصيانة المعدات والحفاظ عليها والتأمين عليها لصالح البنك.
(هـ) يلتزم البنك بموجب هذه الاتفاقية بأن يبيع المعدات للمستأجر بثمن رمزي متى انتهت المدة ودفع المستأجر كل الأقساط المتفق عليها وتم وفاؤه بجميع التزاماته الأخرى بموجب الاتفاقية.
ثالثا: عمليات البيع لأجل التي يقوم بها البنك لشراء وبيع معدات وأجهزة لمشروعات صناعية لصالح الدول الأعضاء بالإضافة إلى عمليات الإيجار بدأ البنك مؤخرا في استعمال أسلوب البيع لأجل كوسيلة إضافية لتمويل شراء ثم بيع المعدات والأجهزة التي تحتاجها المشروعات الصناعية في الدول الأعضاء حيث يقوم البنك بتوكيل الجهة الراغبة في هذه المعدات والأجهزة بالتعاقد بشرائها باسمه ونيابة عنه ويقوم البنك بدفع ثمنها مباشرة للمورد، ويتم الاتفاق مع المورد بأن يتم شحنها مباشرة للجهة الراغبة في شرائها في الدولة العضو المعنية، وبعد أن تقوم تلك الجهة باستلامها بصفتها وكيلا عن البنك، يقوم البنك ببيع المعدات لها بثمن يزيد عن ثمن شرائها، على أن يتم دفع هذا الثمن على أقساط في مدة تتراوح بين ثلاث وعشر سنوات.
رابعا: عمليات تمويل التجارة الخارجية بين الدول الأعضاء التي يقوم بها البنك الإسلامي للتنمية مستخدما أسلوب بيع المرابحة – مع الأجل والتقسيط – وذلك لتوفير المواد الوسيطة لاحتياجات الدول الأعضاء.(3/1052)
والأصل في عمليات التجارة الخارجية أن تطلب إحدى الدول الأعضاء بالبنك شراء سلعة ذات صبغة تنموية فيقوم البنك الإسلامي للتنمية بشرائها بعد دراسة الطلب والموافقة عليه ثم يبيعها لها، ويقوم البنك لتحقيق ذلك بإبرام اتفاقية يكون أطرافها بالإضافة إلى البنك الجهة المستفيدة في الدولة المعنية وجهة أخرى في تلك الدولة يُعيِّنها البنك بموجب الاتفاقية وكيلا عنه في شراء السلعة المطلوبة ثم بيعها بعد استلامها للجهة المستفيدة بالثمن الذي حدده البنك وهو ثمن الشراء الذي دفعه البنك للموردين وفقا للعقود التي أبرمها الوكيل نيابة عنه مع زيادة ربح يقرره البنك، ويغلب في اتفاقيات التجارة الخارجية أن يكون الوكيل الذي يعينه البنك كفيلا أيضا بأداء ثمن إعادة البيع المستحق على المستفيد.
خامسا: النظر في تقرير اجتماع بعض علماء الشريعة والخبراء في المصارف، هذا الاجتماع الذي انعقد في مقر البنك الإسلامي للتنمية بجدة وبدعوة منه في العاشر من ربيع الأول عام 1399 هـ، وكان الغرض من الاجتماع النظر في حكم الشرعية في الفوائد المتجمعة من إيداع البنك الإسلامي للتنمية أمواله في المصارف العالمية بالدول الأجنبية (مرفق صورة من التقرير) .(3/1053)
وفي ضوء التوصيات الواردة في تقرير العلماء الأفاضل قرر مجلس محافظي البنك تخصيص خمسين في المائة 50 % للاحتياطي الخاص وذلك من مجموع المبالغ المتحصلة من ودائع البنك لدى المصارف العاملة في الأسواق الدولية والاحتياطي الخاص المشار إليه مخصص لمواجهة ما قد يطرأ على انخفاض قيمة أرصدة البنك نتيجة لتذبذب العملات المودعة بها تلك الأرصدة من العملات، كما قرر المجلس أن تخصص الخمسون في المائة الأخرى لأغراض المعونة الخاصة.
وبناء على قرار مجلس المحافظين صارت هذه المعونة تقدم لأغراض هي:
(أ) التدريب والبحوث التي تهدف إلى مساعدة وإرشاد الدول الأعضاء في تعديل مسار نشاطها الاقتصادي والمالي والمصرفي بما يتواءم وأحكام الشريعة الإسلامية، ولتحقيق ذلك تم إنشاء المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بجدة منذ عام 1401 هـ (1981 م) وهو الآن يقوم بأداء رسالته في مجالي البحوث والتدريب.
(ب) توفير وسائل الإغاثة في شكل السلع والخدمات المناسبة لتقدم للدول الأعضاء والمجتمعات الإسلامية في حالة التعرض للكوارث الطبيعية أو المحن.
(ج) توفير المساعدات المالية للدول الأعضاء من أجل دعم وتأييد القضايا الإسلامية.
(د) تقديم المساعدة الفنية للدول الأعضاء.(3/1054)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (1) / د / 3 / 07 / 86
بشأن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهامشية من 8 إلى ص13 صفر 1407 هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
- بعد دراسة مستفيضة ومناقشات واسعة لجميع الاستفسارات التي تقدم بها البنك إلى المجمع، انتهى إلى ما يلي:
(أ) بخصوص أجور خدمات القروض في البنك الإسلامي للتنمية:
قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية:
1- جواز أخذ أجور عن خدمات القروض.
2- أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية.
3- كل زيادة على الخدمات الفعلية محرمة لأنها من الربا المحرم شرعا.
(ب) بخصوص عمليات الإيجار:
قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها:
المبدأ الأول:
أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعا.
المبدأ الثاني:
أن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد حيازة الوكيل لها هو توكيل مقبول شرعا، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك.
المبدأ الثالث:
أن عقد الإيجار يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات وأن يبرم بعقد منفصل عن عقد الوكالة والوعد.(3/1055)
المبدأ الرابع:
أن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل.
المبدأ الخامس:
أن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك بصفته مالك للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد أو تقصير من المستأجر فتكون التبعة عندئذ عليه.
المبدأ السادس:
أن نفقات التأمين لدى الشركات الإسلامية كلما أمكن ذلك، يتحملها البنك.
(ج) بخصوص عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن:
قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها:
المبدأ الأول:
أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية ببيع المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعا.
المبدأ الثاني:
أن توكيل البنك أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك، بغية أن يبيعه البنك تلك الأشياء بعد وصولها وحصولها في يد الوكيل، هو توكيل مقبول شرعا، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك.
المبدأ الثالث:
أن عقد البيع يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات والقبض لها. وأن يبرم بعقد منفصل.
(د) بخصوص عمليات تمويل التجارة الخارجية:
قرر مجلس المجمع أنه ينطبق على هذه العمليات المبادئ المطبقة على عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن.
(هـ) بخصوص التصرف في فوائد الودائع التي يضطر البنك الإسلامي للتنمية لإيداعها في المصارف الأجنبية:
قرر مجلس المجمع بشأن ذلك ما يلي:
يحرم على البنك أن يحمي القيمة الحقيقية لأمواله من آثار تذبذب العملات بواسطة الفوائد المتجرة من إيداعاته، ولذا يجب أن تصرف تلك الفوائد في أغراض النفع العام كالتدريب والبحوث وتوفير وسائل الإغاثة، وتوفير المساعدات للدول الأعضاء وتقديم المساعدة الفنية لها، وكذلك للمؤسسات العلمية والمعاهد والمدارس وما يتصل بنشر المعرفة الإسلامية.
والله أعلم.(3/1056)
فتوى فقهية
في واقعة توظيف أموال الزكاة مع عدم التمليك للمستحق
لفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور
بسم الله الرحمن الرحيم
فتوى فقهية في واقعة توظيف أموال الزكاة مع عدم التمليك للمستحق
يعتمد هذا البحث على مبحث آخر لا بد من التعرض له، وهو (هل تغني الإباحة عن التمليك في إخراج الزكاة الواجبة؟) نص الحنفية والجمهور من الفقهاء على أنه لا تجزئ عن الزكاة الإباحة والإطعام، لأنه لا بد من تمليك لقوله تعالى {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فكل ما جاء في القرآن المجيد بلفظ الإيتاء يشترط فيه التمليك لأن الإيتاء خاص معناه التمليك والاختصاص دون الإباحة والإطعام، لكن قالوا: إذا دفع الغني للفقير المطعوم ناويا الزكاة يجزئه، وذلك كما إذا وضعه في سقط ووضعه في يده بنية الزكاة، وكما لو كساه، لأنه بالدفع إلى الفقير بنية الزكاة يملكه، فيصير الفقير من أكل من ملكه، بخلاف ما لو أطعمه معه (1) .
وأجاز بعض الزيدية احتساب ما يقدمه لضيوفه الفقراء من الزكاة بشروط أولها: أن ينوي الزكاة، وثانيها: ثم أن تكون عين الطعام باقية كالثمر والزبيب، وثالثها: أن يصير إلى كل واحد ما له قيمته ولا يتسامح بمثله، رابعها: أن يقبضه الفقير أو يخلي بينه وبينه مع علمه بذلك، وخامسها: أن يعلم الفقير أنه زكاة لئلا يعتقد مجاوزاته ورد الجميل بمثله (2) .
المقصد من المبحث
هل يصح توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق؟
لم يتعرض الفقهاء القدامى ولا المعاصرون فيما أعلم إلى هذا الأمر الجديد الذي يصح أن يسمى نازلة أو واقعة، وهي ما عمت به البلوى واحتاج الناس إليه في هذا العصر، فوجب النظر من جديد على ضوء القواعد الفقهية الكبرى في مذاهب فقهاء الأمصار.
والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أنه يجوز ذلك (بشكل مؤقت لا بصورة دائمة) بشروط:
1- أولها: أن يكون هذا العمل الذي أجزناه استحسانا خلافا للقياس للضرورة، أو الحاجة بإشراف ولي الأمر أو من يفوضه كالقاضي الشرعي. والنص في صك تشغيل هذه الأموال على أنها مال الفقراء وحقهم الخاص، وأن هذا التوظيف مؤقت دعت إليه الحاجة، وأنه عند انتهاء هذا التوقيت فسوف تملك هذه الأموال للفقراء، ويوقع على ذلك القائمون على التوظيف مع تعهد رسمي بكاتب العدل بذلك، وربما احتيج إلى كفالة أو رهن أو توثيق حفظا لحق الفقراء في نهاية المطاف كي لا يكون ذلك التوظيف مدعاة لاختلاس هذه الأموال واغتصابها مع مرور الزمن كما حصل للعقارات الوقفية المؤجرة بالإجارة الطويلة، حيث اختلست في نهاية الأمر من هؤلاء المستأجرين أو من ورثتهم.
__________
(1) رد المحتار: 2 / 3
(2) شرح الأزهار وحواشيه: 542، وفقه الزكاة: 2 / 850(3/1057)
2- والشرط الثاني: أن يكون في ذلك نفع بالربح للفقير ولو بأغلب الظن، أما إذا حصل الشك بالنفع أو بالخسارة أو استوى الأمران أو غلب الظن بالخسارة فلا يجوز.
3- والشرط الثالث: كون ذلك بإشراف أهل الحل والعقد وبيد أمناء موثوقين ومعروفين، وأفضل أن يكون ذلك أيضا برأي القاضي الشرعي الأول ورعايته.
كي لا تمتد إليها الأيادي الآثمة وأن يكون عمل القائمين على هذا التوظيف مأجورا بأجر يراه القاضي الشرعي، وعليه فإذا انتهى الأجل المضروب للتوظيف رفع كل من القائمين على التوظيف يده وأعاد القاضي أو ولي الأمر الأموال إلى الفقراء المستحقين بالتمليك الشرعي مع الريع الناتج عن ذلك طيلة هذه المدة بعد قطع أجور العاملين والمصارف المشروعة والمتعارف عليها والضرائب الأميرية.
أما إذا وقعت الخسارة فأرى أن بيت المال أو خزينة الدولة هي التي تتحمل هذه الخسارة المحتملة احتمالا ضعيفا كي لا يضيع حق الفقير، هذا ما ظهر لي والله أعلم.
أما دليل ذلك، فهو أن الأمر في نهايته راجع إلى ملكية الفقراء لهذا المال ولو بعد حين مع أرباحه وتثميره لهم، وكل ما فعله ولي الأمر وأهل الحل والعقد أو من فوضه كالقاضي الشرعي هو زيادة هذه الأموال بالتوظيف حتى تغطي حاجة الفقراء أو مصلحة الأمة، وليس هذا التوظيف إلا مرحلة قبل التمليك اقتضتها المصلحة العامة بموجب ولاية ولي الأمر العامة على الأمة، أو ولاية من يفوضه والحمد للذي بنعمته تتم الصالحات.(3/1058)
رأي في توظيف الزكاة واستثمارها
لمعالي الدكتور عبد العزيز الخياط
بسم الله الرحمن الرحيم
رأي في توظيف الزكاة واستثمارها
أؤيد استثمار الزكاة وتوظيفها في مشاريع ذات ريع يعود على المستحقين من الأصناف الثمانية على أن لا يستثمر كل مال الزكاة بل ينفق بعضه على المستحقين، ويستثمر الباقي وذلك من خلال هيئة رسمية (مؤسسة أو صندوق أو بيت الزكاة … الخ) تؤسسها الدولة ويشترك في الإدارة الحكومة وممثلون عن المزكين وذلك للأدلة التالية:
1- استثمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إبل الصدقات وغنمها وأنعامها وأنفق ذلك على الفقراء.
2- يجوز تأجيل دفع الزكاة على مذهب أبي حنيفة فيجوز استثمار أموال الزكاة بتأجيل دفعها إلى مستحقيها.
3- توسع العلماء في معني (سبيل الله) فشمل كل قربة إلى الله تعالى كبناء الملاجئ والمستشفيات وغيرها، فيجوز استثمار أموال الزكاة في مثل هذه المشروعات.
4- سواء أكانت اللام في الآية الكريمة للتمليك أو للاختصاص فإن تمليك الجماعة من الفقراء والمساكين جائز.
5- أن تغيير الأسلوب من اللام إلى استعمال (في) {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} لدلالة على أن جانب التمليك ليس وحده في الآية وإنما جانب الصرف فهو للأربعة الأخيرة في الآية وهو أيضا للأربعة الأولى فيها.
6- دلت الآية على وجوب إعطاء الغارمين وليس في الآية ما يمنع من أن يستثمروا أموال الزكاة، وقد أعطوها في استعادة تجارتهم أو صناعتهم أو في استغلالها زراعيا للإنفاق عليها.
7- المصانع أو المشاريع التي تنشأ بقصد الربح لصالح جهات استحقاق الزكاة هي ملك للمستحقين عامة ويجوز أن تكون ملكا لأصناف منهم تشرف عليه الدولة، وكما أن الدولة شخص اعتباري له أن يتملك كالمسجد والوقف، فالمؤسسة شخص اعتباري ينوب على المستحقين فلا مانع من أن يعتبر ملك هذه المصانع لجهات الاستحقاق تستثمرها وتديرها الدولة وبعض المزكين.(3/1059)
8- موضوع تعرض المؤسسة للربح والخسارة هو نفس موضوع تعرض المزرعة أو الضيعة التي تعطى للفقير ليستغلها ونفس موضوع تعرض مال الزكاة الذي أعطي للتاجر الغارم ليستعيد تجارته، فقد ينحرق الزرع أو يتلف وقد تخسر التجارة.
9- الزكاة مال نام، فيمكن تعويض خسارة المشروعات من أموال الزكوات التالية وسدادها من الربح القادم.
10- أن معني سداد العيش الوارد في الحديث الشريف يدل على أن سداد العيش المستمر بعمل الفقير القادر على العمل في أموال الزكاة المستثمرة أولى وأفضل من أن يعطى لفترة قصيرة فيصرفه ويعود مستحقا.
11- أن إنشاء المشروعات يفيد الأمة قطعا ويحيى اقتصادها ويدفع البطالة عن المحتاجين القادرين على العمل ونستهدي بذلك في دفع الرسول صلى الله عليه وسلم السائل إلى العمل بالاحتطاب وعدم السؤال.
12- أن معظم العلماء الباحثين والمفتين أجازوا استثمار بعض أموال الزكاة بعد إعطاء الفقراء والمساكين حاجتهم، ومن الفائض أو عند الضرورة، فأصبح مبدأ جواز الاستثمار قائما.
لذلك فإني أؤكد لهذه الأسباب وغيرها ضرورة توظيف واستثمار بعض أموال الزكوات في المشروعات الخيرية والصناعية والتجارية، لصالح جهات الاستحقاق في الآية الكريمة ولا سيما من جهات العاملين عليها والغارمين والرقاب وابن السبيل وفي سبيل الله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(3/1060)
استفسارات المعهد العالمي
للفكر الإسلامي بواشنطن
استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن
1- الاستفسارات المقدمة من المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن.
2- الأجوبة المقدمة:
- معالي الحاج عبد الرحمن باه.
- فضيلة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل سعد.
- فضيلة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي.
- حجة الإسلام محمد علي التسخيري.
- فضيلة القاضي محمد تقي العثماني.
- فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي.
- فضيلة الشيخ محيي الدين قادي.
3- المناقشة.
4- مناقشة أجوبة اللجنة المكونة للإجابة عن الاستفسارات.
5- الأجوبة التي أقرها المجمع.
6- القرار
الاستفسارات المقدمة من المعهد
العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن
بسم الله الرحمن الرحيم
صاحب السماحة:
الشيخ الجليل الأستاذ: محمد الحبيب ابن الخوجه حفظه الله، لا يخفى على سماحتكم أن أمريكا الشمالية يعيش اليوم فيها ما يربو على ثلاثة ملايين من المسلمين، كثيرون منهم قد استوطن أجدادهم وآباؤهم هذه البلاد منذ خمسين عامًا تزيد قليلًا أو تنقص، وبعضهم ممن هداهم الله إلى الإسلام حديثًا وكانوا قبل ذلك على النصرانية أو اليهودية أو الوثنية أو الإلحاد، كما أن هناك آلافًا من الطلاب المسلمين يفدون إلى هذه البلاد للدراسة في جامعاتها المختلفة، وفي أوربا وأمريكا الجنوبية أعداد أخرى من هؤلاء المسلمين إن لم تزد عن أعدادهم في أمريكا الشمالية فلا تقل كثيرًا عنها، ولهذا النوع من المجتمعات خصائص وتأثيرات على من يعيشون فيه وعلى أهليهم وأبنائهم.
ولهذه البلدان أنظمة حياة لا بد أن تنعكس على من يعيشون فيها بشكل أو بآخر سلبيًا أو إيجابيًا، وبالتالي فإن للأقليات المسلمة حاجات فقهية، وأسئلة قل أن يثار مثلها في بلاد المسلمين أو البلدان التي يشكل المسلمون فيها أغلبية كبيرة، ولندرة الفقهاء في هذه الأماكن وقصور الكثيرين منهم عن مستوى الفتوى، وتسرع البعض وقلة تثبته، أو ضعف فهمه لمدرك الفقهاء ومناحي مذاهبهم فقد تحول كثير من تلك المسائل إلى وسائل اختلاف، وإثارة منازعات بين المسلمين جعلتهم في وضع سيئ ينذر بعواقب وخيمة أقلها تفرق قد يؤدي إلى ذوبانهم في البيئات التي يعيشون فيها ثم نسيان انتمائهم إلى الإسلام والمسلمين، لا قدر الله ذلك.
وبما أن الفتاوى الفردية، أو الفتاوى التي لا تقترن بالاستدلال والتعليل قليلة الأثر في هذه البيئات ونحوها فقد حرصنا على أن نجمع أهم المسائل التي تكثر إثارتها، وتشتد حاجة المسلمين إلى الوصول إلى القول الفصل فيها لنضعها بين أيديكم، ونحصل على أجوبة شافية عنها لتقطع مادة الجدل والنقاش وتبصر المسلمين بأمور دينهم.
فنرجو التفضل بإيلاء هذه المسائل ما تستحقه من العناية وإجابتنا عنها لتوعية الدعاة وأئمة المساجد والمسلمين على أحكامها والإسهام في حل عوامل الفرقة والاختلاف بين المسلمين.
وتجدون سماحتكم شفع خطابنا هذا ثبتا بتلك المسائل وفقكم الله ورعاكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
د. طه جابر العلواني
مدير الأبحاث والدراسات
وعضو المجمع الفقهي بجدة(3/1061)
المسائل التي يكثر تساؤل المسلمين عنها
في أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا.
1- ما حكم التجنس بالجنسية الأجنبية الأمريكية كانت أو أوربية، علمًا بأن معظم الذين قبلوا التجنس بهذه الجنسيات أو يعتزمون الحصول عليها يؤكدون أنهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم قد أوذوا واضطهدوا في بلادهم الأصلية بالسجن أو التهديد ومصادرة الأموال وغيرها.
وبعضهم يرى أنه ما دامت الأحكام الشرعية والحدود معطلة في بلاده الأصلية فأي فرق بين أن يحمل جنسية ذلك البلد الذي اضطهده والبلد الذي اختار أن يستوطن فيه، وفي كليهما لا تطبق الأحكام التشريعية، ولا تقام الحدود، وهو في بلد مهجره مصانة حقوقه الشخصية دمه وماله وعرضه، ولا يمكن سجنه أو تهديده إلا إذا فعل ما يستوجب ذلك.
2- لولادة الأبناء وتنشئتهم في أمريكا وأوروبا ونحوها من بلاد غير المسلمين مساوئ ومخاطر، وبعض المحاسن، واحتمال اكتسابهم من عادات أبناء النصارى واليهود الكثير احتمال قائم – خاصة – في حالة انشغال الوالدين أو وفاة أحدهما أو كليهما، فما أثر هذا الضرر المظنون في حكم الهجرة إلى هذه البلدان والإقامة الدائمة فيها، مع ملاحظة أن كثيرًا من الناس هنا على الدوام يذكرون بأن أبناءهم في بعض البلدان الإسلامية التي كانوا يقيمون فيها يتعرضون لاحتمال الردة باعتناق الشيوعية واللادينية أو نحوها من الأفكار الإلحادية التي تروج لها حكومات بعض البلدان الإسلامية وتدخلها في برامج التعليم والتوجيه العام، وتضطهد من يرفضها؟
ويؤكد المستوطنون هنا من المسلمين أنه لم يطلب من أحدهم أن يغير دينه أو أنه وجه نحو دين آخر، وذلك لضعف الاهتمام بالناحية الدينية هنا.
3- ما حكم زواج المسلمة بغير المسلم خاصة إذا طمعت في إسلامه بعد الزواج حيث تدعي مسلمات كثيرات أنه لا يتوافر لهن الأكفاء من المسلمين في غالب الأحيان، وأنهن مهددات بالانحراف أو يعشن في وضع شديد الحرج؟
4- ما حكم استمرار الزوجية والمعاشرة بين زوجة دخلت الإسلام وبقي زوجها على الكفر، ولها منه أولاد تخشى عليهم الضياع والانحراف، ولها طمع في أن يهتدي زوجها إلى الإسلام لو استمرت العلاقة الزوجية بينها وبينه؟
وما الحكم فيما إذا لم يكن هناك طمع في إسلامه، ولكن يحسن معاشرتها وتخشى لو تركته ألا تعثر على زوج مسلم؟(3/1062)
5- ما حكم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين، حيث لا يسمح بالدفن خارج المقابر المعدة لذلك، ولا توجد مقابر خاصة بالمسلمين في معظم الولايات الأمريكية والأقطار الأوربية؟
6- ما حكم بيع المسجد (إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه) فكثيرًا ما يشتري المسلمون منزلًا ويحولونه مسجدًا، فإذا انتقلت غالبية المسلمين من المنطقة لظروف العلم هجر المسجد أو أهمل، وقد يستولي عليه آخرون، ومن الممكن بيعه واستبداله بمسجد يؤسس في مكان فيه مسلمون، فما حكم هذا البيع أو الاستبدال؟ وإذا لم تتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر، فما أقرب الوجوه التي يجوز صرف ثمن المسجد فيها؟
7- كثيرات من بنات المسلمين ونسائهم تدعوهن ظروف العمل أو الدراسة إلى السفر إلى ولايات أخرى (أبعد من مسافة القصر) بالطائرة أو غيرها من وسائل السفر، بدون محرم، ومن غير رفقة من نسوة تعرفهن أو يعرفنها غير رفقة المسافرين والمسافرات عادة، فما حكم هذا السفر؟
8- بعض النساء أو الفتيات تضطرهن ظروف العمل أو الدراسة إلى الإقامة بمفردهن، أو مع نسوة غير مسلمات، فما حكم هذه الإقامة؟
9- كثيرات من النساء هنا يذكرن أن أقصى ما بإمكانهن ستره من أجسادهن هو ما عدا الوجه والكفين، وبعضهن تمنعهن جهات العمل أو الدراسة من ستر رؤوسهن وأعناقهن، فما أقصى ما يمكن السماح بكشفه من أجزاء جسم المرأة بين الأجانب في محلات العمل أو الدراسة؟
10- يضطر كثير من الطلاب المسلمين إلى العمل في هذه البلاد لتغطية نفقات الدراسة والمعيشة، لأن كثيرًا منهم لا يكفيه ما يرده من ذويه مما يجعل العمل ضرورة له لا يمكن أن يعيش بدونه، وكثير منهم لا يجد عملًا إلا في المطاعم تبيع الخمور أو تقدم وجبات فيها لحم الخنزير وغيرها من المحرمات فما حكم عمله في هذه المحلات؟
11- ما حكم بيع المسلم للخمور والخنازير، أو صناعة الخمور وبيعها لغير المسلمين؟ علمًا بأن بعض المسلمين في هذه البلدان قد اتخذوا من ذلك حرفة لهم.
12- هناك كثير من الأدوية تحوي كميات مختلفة من الكحول تتراوح بين 1? و 25? ومعظم هذه الأدوية من أدوية الزكام واحتقان الأنف والحنجرة والسعال وغيرها من الأمراض السائدة، وتمثل هذه الأدوية الحاوية للكحول ما يقارب 95? من الأدوية في هذا المجال مما يجعل الحصول على الأدوية الخالية من الكحول عملية صعبة أو متعذرة، فما حكم تناول هذه الأدوية؟(3/1063)
13- هناك الخمائر والجلاتين يوجد فيها عناصر مستخلصة من الخنزير بنسب ضئيلة جدًا فهل يجوز استعمال هذه الخمائر والجلاتين؟
14- يضطر معظم المسلمين إلى إقامة حفلات الزفاف لبناتهم في مساجدهم وكثيرًا ما يتخلل هذه الحفلات رقص وإنشاد أو غناء، ولا تتوفر لهم أماكن تتسع لمثل هذه الحفلات فما حكم إقامة مثل هذه الحفلات في المساجد؟
15- بعض الحكومات النصرانية (خاصة في أمريكا الجنوبية) تفرض على رعاياها التسمي بالأسماء النصرانية، وتضع قوائم بأسماء اختارتها للأطفال ذكورًا كانوا أو إناثًا، ولا تسمح بتسجيل المواليد بأسماء تختار من غير هذه القوائم، فما حكم تسمي المسلمين بهذه الأسماء، وما الحلول التي تقترحونها في هذه الأحوال؟
16- ما حكم زواج الطالب أو الطالبة المسلمة زواجًا لا ينوى استدامته بل النية منعقدة عنده على إنهائه بمجرد انتهاء الدراسة، والعزم على العودة إلى مكان الإقامة الدائم، ولكن العقد يكون عادة عقدًا عاديًا وبنفس الصيغة التي يعقد بها الزواج المؤبد، فما حكم هذا الزواج؟
17- ما حكم ظهور المرأة في محلات العمل أو الدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبيها وتكحل؟
18- بعض المسلمات يجدن حرجًا في عدم مصافحتهن للأجانب الذين يرتادون الأماكن التي يعملن أو يدرسن فيها، فيصافحن الأجانب دفعًا للحرج، فما حكم هذه المصافحة؟
وكذلك الحال بالنسبة لكثير من المسلمين الذين تتقدم إليهم نساء أجنبيات مصافحات، وامتناعهم عن مصافحتهن يوقعهم في شيء من الحرج على حد ما يذكرون ويذكرن؟
19- ما حكم استئجار الكنائس أماكن لإقامة الصلوات الخمس أو صلاة الجمعة والعيدين، مع وجود التماثيل وما تحتويه الكنائس عادة، علمًا بأن الكناس في الغالب أرخص الأماكن التي يمكن استئجارها من النصارى وبعضها تقدمه الجامعات أو الهيئات الخيرية للاستفادة منه في هذه المناسبات بدون مقابل؟
20- ما حكم ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى وما يقدمونه من طعام في مطاعمهم مع عدم العلم بالتسمية عليها؟
21- كثير من المناسبات العامة التي يدعى المسلمون إلى حضورها تقدم فيها الخمور ويختلط فيها النساء والرجال، واعتزال المسلمين لبعض هذه المناسبات قد يؤدي إلى عزلهم عن بقية أبناء المجتمع، وفقدانهم لبعض الفوائد فما حكم حضور هذه الحفلات من غير مشاركة لهم في شرب الخمر أو الرقص أو تناول الخنزير؟(3/1064)
22- بعض الأقطار في شمال أوربا يقصر فيها الليل كثيرًا ويطول فيها النهار كثيرًا، حيث تصل ساعات الصيام في بعض هذه البلدان إلى عشرين ساعة أو تزيد، وكثير من المسلمين يجدون مشقة زائدة في الصيام، فهل يجوز اللجوء في هذه البلدان إلى التقدير، وما نوع التقدير الذي يمكن اعتماده إذا كان جائزًا، وهل يكون التقدير بساعات الصيام في مكة أو بساعات النهار في أقرب البلدان اعتدالًا، أو بماذا؟
وإذا لم يكن ذلك جائزًا فهل يعتبر هذا النوع من المشقة من المشاق التي يجب على المسلم احتمالها والصبر عليها مع احتمال الضرر، وهل يجب عليه أن يترك عمله في شهر الصيام إذا لم يكن بمقدوره الصيام إلا بترك العمل من قبيل ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب.
23- في كثير من الولايات الأمريكية وكذلك الأقطار الأوربية تصعب أو تتعذر رؤية هلال رمضان أو شوال، والتقدم العلمي الموجود في كثير من هذه البلدان يمكن من معرفة ولادة الهلال بشكل دقيق بطريق الحساب، فهل يجوز اعتماد الحساب في هذه البلدان؟
وهل تجوز الاستعانة بالمراصد وقبول قول الكفار المشرفين عليها علمًا بأن الغالب على الظن صدق قولهم في هذه الأمور؟
ومما يجدر بالملاحظة أن تباع المسلمين في أمريكا وأوروبا لبعض البلدان الإسلامية المشرقية في صيامها أو إفطارها قد أثار بينهم اختلافات كثيرة، غالبًا ما تذهب بأهم فوائد الأعياد، وتثير مشكلات شبه دائمة، وفي الأخذ بالحساب ما قد يقضي على هذا في نظر البعض أو يكاد؟
24- ما حكم عمل المسلمين في دوائر ووزارات الحكومة الأمريكية أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة، خاصة في مجالات هامة كالصناعات الذرية أو الدراسات الاستراتيجية ونحوها؟
25- ما حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها علمًا بأن هذا هو جزء من عمله في الشركة الموظفة له، وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل؟
26- كثير من العائلات المسلمة يعمل رجالها في بيع الخمور والخنزير وما شابه ذلك، وزوجاتهم وأولادهم كارهون لذلك علمًا بأنهم يعيشون بمال الرجل، فهل عليهم من حرج في ذلك؟
27- ما حكم تبرع المسلم فردًا كان أو هيئة لمؤسسات تعليمية أو تنصيرية أو كنسية؟
28- ما حكم شراء منزل السُكْنى، وسيارة الاستعمال الشخصي، وأثاث المنزل بواسطة البنوك والمؤسسات التي تفرض ربحًا محددًا على تلك القروض لقاء رهن تلك الأصول علمًا بأنه في حالة البيوت والسيارات والأثاث عمومًا، يعتبر البديل عن البيع هو الإيجار بقسط شهري يزيد في الغالب عن قسط الشراء الذي تستوفيه البنوك؟(3/1065)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم (11) د 3/ 07/ 86
بشأن "استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن "
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407هـ / 11- 16 أكتوبر 1986م.
بعد اطلاعه على الاستفسارات التي عرضها "المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن" وما أعد من إجابات عليها من بعض الأعضاء والخبراء.
قرر
تكليف الأمانة العامة للمجمع بتبليغ المعهد المذكور بما أقره المجلس من إجابات.(3/1066)
أجوبة
معالي الحاج عبد الرحمن باه
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
صاحب السماحة: الشيخ الجليل محمد الحبيب ابن خوجة حفظه الله.
يا صاحب السماحة.
إننا نرسل إلى سماحتكم هذه الوثيقة وفي ضمنها الأجوبة التي وردتكم أسئلتها من المؤسسة الإسلامية العالمية بأمريكا الشمالية أو الجنوبية، وقد راعينا وحرصنا على أن تكون الأجوبة على ضوء الكتاب والسنة، راجين من الله تعالى التوفيق والسداد.
الجواب الأول:
التجنس بالجنسيات غير المسلمة سواء كانت أمريكية أو أوربية أو غيرها قد تكون جائزة إذا دعت الضرورة إليه، لا حبًا للتشبه بأهل الكفر والتسمي بأسمائهم أو الاتصاف بصفاتهم، بشرط أن لا يؤدي هذا التجنس إلى تعطيل أو نقص شيء من أمور دينه، أو يجره إلى موالاة أعداء الله وإلا فلا، قال تعالى {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} إلخ الآية.
الجواب الثاني
لا تجوز الهجرة من بلد الإسلام إلى بلد الكفر إذا كانت الهجرة حبًا لأهل الكفر، أما إذا كان لمجرد طلب حاجة إنسانية مثل طلب العلوم التي يصعب الحصول على المستويات العالية منها في البلاد الإسلامية أو الكسب الحلال تجارة كانت أو صناعة فلا بأس بتلك الهجرة على الرجوع المعنوي أو المادي أو الشخصي بعد الحصول على الحاجة، قال تعالى {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} .
الجواب الثالث
لا يجوز زواج المسلمة بغير المسلم بأي حال من الأحوال لأنه يؤدي إلى تغيير المسلمة لضعفها بدليل قوله تعالى {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} الآية {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} .
الجواب الرابع
إذا أسلم أحد الزوجين انفسخ النكاح بطلاق وقيل بدون طلاق، ووجب التفريق بينهما، إن أسلم الثاني (الزوج) قبل انقضاء العدة بقيا على نكاحهما، فإن تأخر إسلامه إلى ما بعد العدة، فلا بد من عقد جيد على حد قول الجمهور.(3/1067)
الجواب الخامس
لا يحرم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين إذا لم تكن في البلدة مقبرة خاصة بالمسلمين ولم تكن طاقة لنقل جثمانه إلى البلاد الإسلامية.
الجواب السادس
لا يحرم بيع المسجد في البلد الغير الإسلامي لضرورة انتقال الأقلية المسلمة إلى مكان آخر، وصرف ثمنها في بناء مسجد جديد سواء كان في مكان الانتقال أو غيره، ويجوز كذلك صرف ثمنها لعمل خيري إسلامي عند الاستغناء عن المسجد مثل المدارس أو المستشفيات الإسلامية، ويحرم صرفه إلى عمل شخصي لا يرجع نفعه إلى المسلمين.
الجواب السابع
لا يجوز للمرأة المسلمة أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع زوجها أو واحد من ذوي محارمها، أو مع رفقة مأمونة إلى بلد مأمونة، أما سفر الآنسات المسلمات إلى مثل أوربا وأمريكا بحجة التعلم أو غيره فهذا هو البلاء العظيم.
الجواب الثامن
لا يجوز للمرأة المسلمة أن تسكن أو تعاشر غير المسلمات فإن الأخلاق غير متكافئة، اللهم إلا لضرورة قصوى مثل أن لا تجد مسكنًا خاصًا بها، كما لا يجوز لها أن تدخل معهن الحمام لعدم الاحتشام، والدين حياء.
الجواب التاسع
لا يجوز للمرأة المسلمة الحرة أن تكشف جسمها للأجانب ما عدا الوجه والكفين بدليل قوله تعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} وقوله تعالى {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ} أما إذا أحوجها عصرها إلى السعي فلتكن مستورة محتشمة بعيدة عن الذئاب.
الجواب العاشر
لا يجوز لأي مسلم طالبًا كان أو غيره أن يعمل أو يتعامل مع تجار الخمور والخنازير بدليل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} وقوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} وقوله صلى الله عليه وسلم ((من تشبه بقوم فهو منهم)) .(3/1068)
الجواب الحادي عشر
القاعدة العامة عند علماء المسلمين سلفًا وخلفًا أن كل ما حَرَّمَ الله حَرُمَ بيعه، والخمر والخنزير محرمان بنص الكتاب والسنة، فعلى هذا الأساس لا يجوز بيع شيء من تلك المحرمات، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله شارب الخمر وبائعها وعاصرها وحاملها والمحمول إليه)) .
الجواب الثاني عشر
أن من القواعد الأصولية أن "الضرورات تبيح المحظورات" على هذا الأساس أيضًا يجوز تناول هذه الأدوية على نية التداوي ما لم تسبب ذهاب العقل الذي يرتكز عليه الهيكل الإنساني وإلا فلا، قال تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
الجواب الثالث عشر
لحم الخنزير حرام قليله وكثيره، لأن الله لم يستثن شيئًا من أجزائه أما كونه مختلطًا بشيء جائز فحكمه كالماء القليل النجس يختلط بماء كثير طاهر فالحكم حكم التغيير للأوصاف الثلاثة وإلا فلا،إلا أن لا يجد غيره فيجوز تناوله إلى حين الاستغناء عنه وذلك على أساس القاعدة السابقة.
الجواب الرابع عشر
لا يجوز الرقص أو الغناء في المساجد إذا لم تبن لذلك، ومن الظلم أن يجعل الشيء في غير مكانه قال تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا ينشد ضالة في المسجد فنهاه عن ذلك، وأما رقص غلمان الحبشة فكان في فناء المسجد لا في داخله، وبدون موسيقى أو آلات طرب وغناء وما يقوم به بعض المسلمين من إحداث الضجات والوشوشات في المساجد فهذا جهل محض لا يجوز على أي حال.
الجواب الخامس عشر
يجوز التسمي بالأسماء غير العربية ما دمنا نعرف دلالة الاسم بحيث إنه لا يقوض العقيدة والإيمان ولا يدل على الشرك، أما إذا دل على شيء من ذلك فيحرم على المسلم التسمي به، وقد جاء الأثر: "خير الأسماء ما حُمِّدَ أو عُبِّدَ" وذلك متروك لبيئات الناس ومجتمعاتهم في البلدان الإسلامية.(3/1069)
الجواب السادس عشر
هذا النوع من النكاح يسمى عند الفقهاء بـ "نكاح المتعة أو النكاح إلى أجل" وقد حرمه النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حيث أمر الإمام عليًا بإعلان تحريمه مع لحوم الحمر الأهلية تحريمًا مؤبدًا فيحرم على كل مسلم عقد مثل ذلك النكاح.
الجواب السابع عشر
إذا كانت ظروف الحياة تجبر المرأة الحرة المسلمة على الخروج من بيتها للعمل أو الدراسة، فلتخرج مع مراعاة آداب الإسلام وقوانينه، غير متبرجة بزينة، ولا مظهرة لمفاتن جسمها مثل العنق والصدر والساقين، ولا لابسة ثيابًا تصفها وصفًا، ولا آخذة من شعر حاجبيها شيئًا، فقد قال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} .
الجواب الثامن عشر
لم يرد في الآثار النبوية والسير أنه صلى الله عليه وسلم صافح أجنبية في حياته لا هو ولا أصحابه، فما لم يكن بالأمس دينًا لا يكون اليوم دينًا ولنطرح عنا أقوال المتشدقين باسم المدنية والعصر والثقافة، فما هي إلا أحابيل لصيد الشباب المسلم وإبعادهم عن الحضارة الإسلامية الحقة وإيقاعهم في شرك الزنا الفاحش على أيدي المومسات الخليعات في البلدان التي لا تقيم للإسلام وزنًا ولا لمبادئه السامية قيمة، وقد قال تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ} .
الجواب التاسع عشر
المأثور عن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة أن الكنيسة إذا كانت خالية من جميع آثار الشرك جازت الصلاة فيها، أما إذا كانت فيها صور أو تماثيل لم تجز الصلاة فيها؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه تماثيل أو صور بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة يوم الفتح إلا بعد أن محي ما كان فيها من صور، وكسر ما فيها من تماثيل فهذا دليل قاطع لكل مسلم.(3/1070)
الجواب العشرون
ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى حل لكل مسلم وفي كل مكان ما دام تأكد ذبحه بيد أحدهم بدليل قول تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} اللهم إلا ما كان منها محرمًا علينا مثل الخمر والخنزير.
الجواب الحادي والعشرون
لا يجوز للمسلم حضور المراسم التي تمارس فيها الفجور والخلاعة مثل الاختلاط بالأجنبيات والرقص معهن، وكذلك غشيان مجالس شرب الخمور، ولو كان لخوف فوات بعض منافع دنيوية مثل الجاه أو المنصب وما شابه ذلك، فإنه لا يجوز طلب رضا المخلوقين بسخط الخالق {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} .
الجواب الثاني والعشرون
أن المسلم في تلك الحالة يقدر ساعات نهار أقرب البلدان اعتدالًا ويصوم على هذا التقدير ويفطر عليه ودين الله يسر.
الجواب الثالث والعشرون
قد تتعذر رؤية هلال رمضان في بعض البلدان، ولكن لا يتعذر إكمال شعبان أو رمضان ثلاثين يومًا فقد أعطانا الرسول الحكيم كلمة الفصل في ذلك بقوله: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يومًا)) وأما في هذا العصر الحديث عصر الأجهزة والأقمار الصناعية والمراكب الفضائية فيجوز أن يعتد بتلك الأجهزة الراصدة إذا كانت بأيد إسلامية أمينة غيورة على دينها غير منتهكة لحرمات هذا الدين الحنيف الذي يعلو ولا يعلى عليه.
الجواب الرابع والعشرون
يجوز للمسلم العمل في دوائر وزارات الحكومات غير المسلمة ما دام ذلك العمل لا يجبره على ترك دينه، وذلك للاستفادة من خبرات تلك الأعمال كالصناعات الذرية والتقنية أو الطب، وخصوصًا إذا كانت نية هذا المسلم الاستفادة من خبرات ذلك العمل أو المهنة ونقله إلى البلاد الإسلامية.(3/1071)
الجواب الخامس والعشرون
لا يجوز للمهندس المسلم أن يقوم بتصميم كنائس النصارى وهياكل اليهود، لأن في ذلك إعانة على الكفر والشرك وقد قال تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أما المباني الأخرى كدور السكن والمصانع وغيرها فلا مانع من ذلك إذا لم يجد عملًا أو أجرًا كافيًا في البلدان الإسلامية.
الجواب السادس والعشرون
لا يجوز للمسلم أن يتجر في الخمر والخنزير مع العلم بحرمتها، ويجب على أسرته أن ينهروه من ذلك ولا يشاركوه في شيء من ذلك، أما إذا كان هو المعيل الوحيد لهم ولم يبلغوا السعي لمعاشهم كالأبناء الصغار والزوجة أو فقراء كالوالدين، فيأكلون من ماله بقدر ما تحفظ لهم حياتهم إلى أن يهديه الله ويوفقه للصواب، وقال تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
الجواب السابع والعشرون
لا يجوز للمسلم فردًا كان أو هيئة أو شركة أو حكومة أن يتبرع لمؤسسات تنصرية أو بناء كنائس أو هياكل، لأن في ذلك تعاونًا على الشرك والكفر وتقويضًا للإسلام، وقد نهانا الله عن ذلك بقوله {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وهل ضاقت البلاد الإسلامية بالمساجد والمؤسسات الخيرية حتى يجعل المسلم ماله تحت يد الشيطان وأوليائه؟ {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
الجواب الثامن والعشرون والأخير
أنه لا يجوز للمسلم أن يتعامل بالربا على كل حال وقد نهانا الله عنه وحذرنا عاقبته الوخيمة بقوله عز من قائل {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} .
وقال صلوات الله عليه وسلامه: ((لعن الله آكل الربا وشاهديه وكاتبه وموكله ... )) الحديث.
سماحة الشيخ محمد الحبيب ابن خوجة، رئيس المجمع الفقهي المتشعب من المؤتمر الإسلامي، هذه هي الأجوبة التي حضرتنا لما سبق أن أرسلتموها لنا من أسئلة حول بعض المشاكل الفقهية التي وردتكم من أمريكا الشمالية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم وحبيبكم
الحاج جرن عبد الرحمن باه
وزير الشئون الدينية بغينيا كوناكرى(3/1072)
أجوبة
فضيلة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل سعد
1- لا مانع من التجنس خاصة إذا كان من يرغب في التجنس مضطهدًا في بلده الأصلي وهو في مهجره مصانة حقوقه الشخصية دمه وماله وعرضه.
2- خطورة تنشئة الأبناء المسلمين في البلاد الأجنبية قائمة، ولكن بإمكان الجاليات الإسلامية القيام بالمحافظة على تنشئة هؤلاء الأبناء في ظل تعاليم الإسلام السمحة وليكن الآباء والأمهات خير قدوة لهم في البيت وفي خارجه.
3- لا يجوز للمسلمة التزوج بغير المسلم مطلقًا، طمعت في إسلامه بعد الزواج أو لم تطمع مهما كانت الظروف التي تعاني منها.
4- لا يجوز لمن دخلت في الإسلام أن تبقى مع زوجها الذي لم يسلم ولو كان لها منه أولاد ولو طمعت في إسلامه أو في حسن معاشرته، ولها أن تنتظره حتى يسلم وتعود الحياة الزوجية بينهما.
5- يجوز دفن المسلم في مقابر غير المسلمين إذا لم تكن للمسلمين مقابر خاصة بهم خاصة وهم يعيشون في بلاد لا يسمح أهلها بدفن الموتى في غير مقابر خاصة المقابر المعدة للدفن إذا لم يمكن دفن الموتى في بلد إسلامي قريب من بلاد المهجر.
6- يجوز بيع المسجد إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف عليه التلف أو الاستيلاء عليه من الكفار وبالأولى إذا كان منزلًا حول إلى مسجد فهذا من الممكن بيعه ونصرف ثمنه في بناء مسجد آخر أو استبداله بمنزل آخر يخصص لأداء الصلاة فيها وإذا لم تتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر فإن ثمنه يصرف في كل ما يعتبر قربة إلى الله.
7- لا يجوز للمرأة المسلمة السفر أبعد من مسافة القصر بدون محرم، ولكن للظروف أحكامًا.(3/1073)
8- تجوز لهن الإقامة بمفردهن أو مع نسوة مسلمات إذا أمنت المسلمة على دينها وعرضها.
9- لا يجوز للمرأة المسلمة أن تكشف أكثر من وجهها وكفيها مع غير محارمها من الأجانب سواء في محلات العمل أو الدراسة.
10- إذا لم يجد المسلم ما يعيش به في هذه البلاد الأجنبية غير العمل في المطاعم التي يقدم لروادها لحم الخنزير والخمر فربما تشمله حالة الضرورة التي تبيح له المحظورات، وقد تساوت البلاد الإسلامية بالبلدان الأجنبية في ذلك مع الأسف.
11- لا يجوز للمسلم أن يحترف بيع الخنزير والخمر ولو لغير المسلمين وكذلك صنع الخمر.
12- يجوز تناول هذه الأدوية خصوصًا وأنه لا يوجد غيرها والناس في أمس الحاجة إليها.
13- لا يجوز استعمال هذه الخمائر والجلاتين المستخلصة من الخنزير لا سيما إذا لم تكن هناك ضرورة.
14- جعلت المساجد للصلاة والعبادة ولا يجوز إقامة حفلات الزواج بها وهناك أماكن أخرى معدة لمثل هذه الحفلات.(3/1074)
15- هناك أسماء يتسمى بها أبناء المسلمين وغير أبناء المسلمين وربما الممنوع ما عبد أو حمد من الأسماء ويمكن تسجيل اسم المولود في شهادة الميلاد باسم يشتمل عليه هذه القوائم وتسميته باسم آخر في محيط العائلة.
16- الأصل في الزواج التأبيد ولكن إذا جرى عقد الزواج بنفس الصيغة التي يقعد بها الزواج المؤبد واشتمل العقد على بقية الأركان والشروط المطلوبة في عقد الزواج وكان نيته إنهاء هذه الحياة الزوجية بمجرد انتهاء الدراسة والعزم على مكان إقامته الدائمة فحكم هذا الزواج الصحة.
17- لا بأس من ظهور المرأة في محلات العمل أو الدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبيها وتكتحل ما لم تخش الفتنة.
18- ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح المبايعات من المسلمات وقد اعتادت المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية في هذه العصور المتأخرة مصافحة الرجال للنساء والنساء للرجال وقد عمت البلوى.
19- إذا لم تكن هناك أماكن معدة لإقامة الصلوات الخمس وصلاة الجمعة وصلاة العيدين فلا بأس من الصلاة في الكنيسة؛ لأن الصلاة في الكنائس مكروهة وإقامة الشعائر الدينية خير من تركها، وإنما الأعمال بالنيات.(3/1075)
20- يجوز أكل ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى بنص القرآن {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} ولم تتعرض الآية لتسمية أو عدمها وهي مخصصة لقوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} .
21- لا يجوز للمسلمين حضور مثل هذه المناسبات العامة التي يقدم فيها الخنزير ويختلط فيها الرجال بالنساء وهم يتراقصون ولا بد من المحافظة على الشخصية الإسلامية وإلا ما الفرق بين المسلمين وغير المسلمين.
22- يجوز للمسلمين في هذه الحالة الأخذ بتقدير زمن من الصيام لأقرب بلد منهم وإذا صام المسلم واحتمل الصيام فثوابه عند الله مضاعف، وإذا أمكنه أخذ أجازته السنوية في شهر الصيام فذلك حسن، ولا داعي لترك العمل.
23- لا يجوز اعتماد الحساب من غير رؤية الهلال سواء كانت الرؤية في نفس بلد الصائم أو في أي بلد إسلامي آخر، ويجوز الاستعانة بالمراصد ولا تجوز شهادة غير المسلم في إثبات رؤية الأهلة، واتباع المسلمين في مثل هذه البلدان لإخوانهم المسلمين في البلاد العربية والإسلامية في الصيام والأعياد أولى من الأخذ بالحساب والخلاف موجود في العالم الإسلامي وسوف يبقى.
24- يجوز للمسلم العمل في الوزارات والدوائر الحكومية في أمريكا أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة في الصناعات أو الدراسات الاستراتيجية.
25- يجوز للمهندس المسلم تصميم المباني الخاصة بالكنائس لأنها محلات عبادة أقر أهلها على إقامة شعائرهم فيها.
26- عمل هؤلاء الرجال في بيع الخمور والخنزير إذا لم يوجد لهم عمل آخر لكسب رزقهم واضطروا لذلك فلا حرج عليهم وعلى من يعولون من النساء والأولاد من العيش بهذا المال العائد من مثل هذا العمل.
27- لا يجوز للمسلم أن يتبرع بإنشاء كنيسة أو مؤسسة تعليمية للتنصير وكذلك لا يجوز للهيئات الإسلامية التبرع لمثل ذلك.
28- القرض بفائدة لا يجوز لأنه ربا محرم، أما شراء البنك للبيت أو السيارة أو الأثاث وبيعه بالمرابحة أي بأكثر من سعر الشراء فهذا جائز، وإذا كان الإيجار بالقسط الشهري يزيد عن قسط الشراء ولا ربا فيه فهو أولى.(3/1076)
أجوبة
فضيلة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد فهذه إجابتنا على استفتاء المركز الإسلامي بواشنطن حول المسائل التي يكثر تساؤل المسلمين عنها في أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا.
1- التجنس بجنسية دولة غير مسلمة تتوقف الفتيا فيه على النظر في جوانب مختلفة منه، فالتجنس يعني الالتحاق التام بمواطني الدولة المانحة للجنسية في الحقوق والواجبات بحيث يكون للمتجنس وعليه ما للمواطنين الأصليين وعليهم من حقوق المواطنة وواجباتها، فلو اقتضى الأمر فرض ذلك الدولة على مواطنيها مقاومة دولة إسلامية لكان على هذا المسلم الحامل لجنسيتها، بموجب نظامها أن ينخرط في هذا السلك ويتحمل هذا الفرض، لذلك نرى أن التجنس بجنسية دولة غير مسلمة من الأمور التي يصار إليها مع الضرورة، كما إذا طورد المسلم ولم يأمن على حياته أو عرضه أو ولده أو ما ماثل ذلك، ولم يتمكن من اللجوء إلى بلد إسلامي لانسداد الأبواب بين يديه ومع ذلك فإن عليه أن ينوي في قرارة نفسه العودة إلى بلاد الإسلام متى وجد الباب مفتوحًا والمحذور مرتفعًا كما أن عليه أن يختار من بين الدول التي يلجا إليها حال الخوف، الدولة التي يتمكن فيها من ممارسة جميع واجباته الدينية بحرية كاملة سواء كانت هذه الواجبات شخصية أم اجتماعية.
2- من القواعد الشرعية المتفق عليها أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وعليه فإن الهجرة إلى بلاد الكفر إن كانت تفضي إلى تأثر أولاد المهاجر بالكفار في عقائدهم أو عاداتهم أو أخلاقهم أو نحو ذلك تعد محجورة شرعًا ولو كانت وراءها مصالح وكذا إن كانت وفاة الوالد الذي يمنحهم الرعاية الدينية تؤدي بهم عادة إلى الذوبان في ذلك المجتمع الغريب.
3- زواج المسلمة بغير المسلم حرام بالنص والإجماع قال تعالى {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وقال {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وهذا مما لم يخالف فيه أحد من الأمة، وادعاء أن هذا الزواج قد يكون وسيلة لإقناع الزوج بالإسلام ليست مبررة له، بل لا بد أن يكون إسلامه قبل عقد الزواج وبدون ذلك يعد سفاحًا ليس له شيء من أحكام النكاح الشرعي.(3/1077)
4- إذا أسلمت لامرأة وبقي الزوج على كفره انحلت عقدة الزواج بينهما إلا إن أسلم قبل انقضاء العدة فإن انقضت عدتها لم تحل إلا بعد إسلامه وعقد جديد.
5- إذا تعذر دفن المسلم في مقابر المسلمين في أي مكان وتعذر دفنه في غير مقابر الكفار فذلك من الضرورات إذ مواراة جثته واجب، وإنما ينبغي مراعاة درجات الكفر فمقابر النصارى –عند الضرورة- أولى من مقابر اليهود ومقابر اليهود أولى من مقابر الوثنيين والملاحدة.
6- المسجد بيت الله {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} فلا يجوز لأحد التصرف فيه بما لم يأذن به الله، وقد جعل الله للمساجد حرمات ليست لغيرها من المباني فلا يدخلها الجنب ولا الحائض حتى يطهرا ولا يحدث فيها ولا ينشد فيها ولا يجوز فيها البيع والشراء وإذا بيع المسجد تعذرت المحافظة على هذه المحرمات وهي ثابتة بيقين، واليقين لا يرفع إلا بيقين مثله، لذلك نرى عدم جواز بيع المسجد المؤسس على التقوى أول يوم ولو انتقل من حوله المسلمون فالله أولى بحفظ بيوته إن شاء، ولعل الله يهيئ له من عبادها الركع السجود من يعمره بالعبادة والقيام، أما ما كان من المباني التي اشتراها المسلمون لإقامة صلواتهم فيها ففي بيعها متسع إذا نأى عنها المصلون وخيف عليها عبث المفسدين ويشترى بثمنها ما يعوضها حيث انتقل القائمون فيها.
7- ثبت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن سفر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم، وكفى به زجرًا عن التعدي والمخالفة، نعم يجوز للمرأة أن تسافر ولو وحدها في حالات الضرورة القصوى كأن تخرج من موضع إقامتها –إن خافت مع البقاء على حياتها أو عرضها- إلى حيث تجد لها مأمنًا وليس من الضرورة سفرها للتعلم أو العلم فإن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.(3/1078)
8- لا حرج على المسلمات إن أقمن بأنفسهن في بيوت خاصة ولو في غير المجتمعات الإسلامية إن كن مطمئنات إلى سلامة دينهن ودنياهن، وأما اختلاطهن بالأجنبيات فهو مظنة الفساد والشر ومع الضرورة ليس عليهن في ذلك حرج إذا ما أحرزن لدينهن.
9- لا يجوز للمرأة المسلمة أن تبدي للأجانب شيئًا غير وجهها وكفيها، كان ذلك في مجال الدراسة أو العمل أو في أي مجال آخر، وإن فعلت ذلك باءت بالوزر لمخالفتها قول الله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} .
10- لا يجوز لمسلم أن يقوم بتقديم الخمور ولحم الخنزير إلى رواد المطاعم وإذا لم يجد عملًا آخر يسد به خلته لزمه أن يضرب في الأرض بحثًا عن العمل الحلال.
11- لا يجوز احتراف بيع المسكرات أو أي شيء من المحرمات.
13- العلاج من ضرورات الحياة اللازمة، ولذلك نرى عدم المانع من تناول الأدوية غير الخالية من المواد الكحولية إن لم تتوفر أدوية خالية منها ويدخل لك فيما استثناه الله بقوله {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} .
14- يجب تنزيه المساجد من حفلات الرقص والغناء فإنها بنيت لما بنيت له من ذكر الله {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} وقد نهى عن إنشاد الضالة فيها فكيف بالرقص والغناء.
15- الاسم سمة على المسمى فإن كان يوحي بأن مسماه غير مسلم وجب على المسلم أن يجنبه أولاده إلا مع الضرورة وهي تقدر بقدرها فإن لم يكن بد فليكن ذلك قاصرًا على الدوائر الرسمية مع وجود بديل له في المحيط الأسري والاجتماعي.(3/1079)
16- الزواج في الإسلام هو ربط مصير بمصير ونواة لتكوين الأسرة وليس هو مجرد إطفاء لسعار الشهوة لذلك كان حكمه التأييد ما لم يطرأ عليه ما يهدم بنيانه ويقطع حبله من طلاق أو خلع أو نحوهما، غير أن انطواء المتزوج على نية الطلاق من غير أن يفصح عنها في العقد أو الاتفاق لا يؤثر على صحة العقد، وإنما نختار له عدم التلبس بهذه النية فإن رأى ما يدعوه إلى الطلاق فهو الذي بيده عقدة النكاح فليس حلها بمشكل عليه وإن كان ذلك أبغض الحلال إلى الله.
17- أخذ المرأة من شعر حاجبيها نفسه منكر وإن كانت لا تخرج من قعر بيتها لثبوت لعن النامصة والمتنمصة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا اضطرت المرأة إلى العمل خارج بيتها فعليها أن تلتزم في خروجها إليه الستر الشرعي مع اجتناب جميع أسباب الإثارة؛ فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنات أن لا يخرجن من المسجد إلا وهن متلفعات وقال ((من أصابت بخورًا فلا تشهد معنا الصلاة)) .
18- التصافح بين الرجل والمرأة الأجنبيين غير جائز لحديث ((لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من يمس امرأة ليس له عليها سبيل)) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ولامتناعه صلى الله عليه وسلم عن مصافحة النساء المؤمنات حتى عند مبايعتهن له، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم لم يصافح امرأة أجنبية قط، ولنا فيه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
19- لا مانع من الصلاة في الكنائس إن لم تكن التماثيل في قبلة المصلي لعدم دخولها في الأماكن المنهي عن الصلاة فيها في الحديث.. وقد روى ذلك عمر رضي الله عنه واستدل به بعض العلماء بقوله تعالى {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} .(3/1080)
20- ذبائح أهل الكتاب داخلة في طعامهم الذي أحله الله بقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ولكن يجب ألا نغفل في عصرنا هذا عن أمرين:
أولهما: التأكد من كتابية الذابح لنشر الإلحاد وانتشار اللادينية في بلاد الغرب.
ثانيها: التأكد من سلامة الطريقة المتبعة في الذبح لما عرف عن العالم الغربي اليوم من قتل البهائم بطرائق ليس لها أصل في الدين كالخنق والوقذ وقد حرم الله المنخنقة والموقوذة بالنص القطعي.
21- الحضور في الحفلات الراقصة الماجنة التي تقدم فيها الخمور وتنتشر فيها الرذائل وتتقلص فيها الفضائل غير جائز لمسلم ولا مسلمة لما في ذلك من الاشتراك في المنكر، وكفى بنفس حضورها اشتراك في منكرات ولما في ذلك من التشجيع الضمني عليها.
22- الأصل في الصيام أن يكون جميع نهار رمضان لقول الله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وإنما يستثنى ذلك ما إذا بلغ قِصَر الليل وطول النهار إلى قدر ما لا يحتمل معه صوم جميع النهار عادة فيرجع في هذه الحالة إلى تقدير وقت الصوم بالساعات، والأولى اتباع أقرب بلد يتيسر فيه صوم النهار كله.
23- الأصل في الصوم والإفطار رؤية الهلال أو إتمام العدة ثلاثين يومًا، وقد استفاضت بذلك الروايات واعتمده السلف وعندما تكون الرؤية بالعين المجردة متعسرة حيث يندر الصحو لكثرة الضباب والغيوم ولا تمنع الاستعانة بالآلات والمراصد الموثوق بها شريطة أن تكون بأيدي المسلمين أمناء تقوم بهم الحجة في الصوم والفطر.(3/1081)
24- لا يمنع المسلم من العمل بدوائر حكومة غير مسلمة ومؤسساتها سواء أكان ذلك في الصناعات الذرية والدراسات الاستراتيجية أو غيرها على أن يكون ذلك العمل مفضيًا إلى الإضرار بالمسلمين كالتجسس على دولة مسلمة أو جماعة المسلمين.
25- من المعلوم أن الكنيسة لم تعد محلًا للعبادة فحسب بل أصبحت معلمًا للتفضيل ووكرًا للتآمر على المسلمين بل على الإنسانية كلها فضلًا عما في الطقوس الدينية التي تمارس فيها من البعد عن الهدى والرشاد لذلك نرى على المهندس المسلم أن يتجنب التخطيط للكنائس لئلا يكون عونًا على الإثم وقد نهى الله عنه {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
26- الاتجار في الخمر والخنزير وغيرهما من المحرمات حرام على المسلم حرمة تناول هذه المحرمات فكل ما حرم تناوله حرم بيعه كما يدل عليه "لعن بائع الخمر" في الحديث الصحيح، وإن كانت الأسرة ليس لها عائل إلا من يتجر في المحرمات لم يكن عليهم في ذلك حرج لأن عولهم واجب عليه وهو الذي يبوء، ويتأكد انتفاء الحرج عنهم إن كان له مصدر آخر للرزق لاحتمال أن يكون الإنفاق من ذلك المصدر.
27- لا يجوز التبرع للكنائس أو المؤسسات غير الإسلامية لما في ذلك من التقوية للكفر والنقض لعرى الإسلام وهذا لا يعني عدم جواز عون المنكوبين وإغاثة الملهوفين من غير المسلمين، فقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا إلى الجياع في مكة في عام المجاعة وهم لا يزالون على الكفر وإنما يحرم أن يكون هذا التبرع بواسطة هذه المؤسسات التي لا تفتأ تحارب الله ورسوله ودنيه ولو من خلال ما ظاهره أنه خدمة إنسانية.
28- الربا حرام أخذه وإعطاؤه لحديث ((لعن الله الربا وآكله ومؤكله وكاتبه وشاهده)) فلا يجوز الاقتراض بالربا من فرد ولا من مؤسسة لأجل شراء سيارة ولا غيرها وبذل ما هو أكثر من ثمن الشراء فالاستئجار أولى من الاقتراض الربوي لأجل الابتياع لما في ذلك من سلامة الدين.(3/1082)
أجوبة
فضيلة القاضي محمد تقي الدين العثماني
بسم الله الرحمن الرحيم
التجنس بالجنسيات الأجنبية:
1- إن التجنس بجنسيات البلاد غير المسلمة يختلف حكمه حسب الظروف، والأحوال، وأغراض هذا التجنس، على الشكل التالي:
إن اضطر إليه مسلم بسبب أنه أوذي في وطنه، أو اضطهد بالسجن، أو مصادرة أمواله لغير ما ذنب أو جريمة، ولم يجد لنفسه مأمنًا إلا في مثل هذه البلاد، فإنه يجوز له التجنس بهذه الجنسيات دون أي كراهة، بشرط أن يعزم على نفسه المحافظة على دينه في حياته العملية، والابتعاد عن المنكرات الشائعة هناك.
والدليل على ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم هاجروا إلى الحبشة بعد ما اضطهدوا من قبل أهل مكة، والحبشة يومئذ يسودها الكفار، وأقاموا بها حتى إن بعض الصحابة لم يزالوا مقيمين بها بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فإنما رجع أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عند غزوة خيبر، يعني في السنة السابعة من الهجرة.
ثم من حقوق النفس أن يصونها المرء من كل نوع من أنواع الظلم، فإذا لم يجد الإنسان مأمنًا لنفسه إلا في بلاد الكفار، فلا مانع من هجرته إليها، ما دام يحتفظ بفرائضه الدينية، والابتعاد عن المنكرات المحرمة.
وكذلك إن اضطر إليه مسلم بسب أنه لم تتيسر له في بلده وسائل المعاش الضرورية التي لا بد له منها، ولم يجدها إلا في مثل هذه البلاد، فإنه يجوز له ذلك أيضًا بالشرط المذكور، وذلك أن كسب المعاش فريضة بعد الفريضة، ولم يقيده الشرع بمكان دون مكان، فقال الله تعالى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} .(3/1083)
ولو تجنس مسلم بهذه الجنسية لدعوة أهلها إلى الإسلام، أو لتبليغ الأحكام الشرعية إلى المسلمين المقيمين بها، فإنه يثاب على ذلك، فضلًا عن كونه جائزًا، فكم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم توطنوا بلاد الكفار لهذا الغرض المحمود وعد ذلك من مناقبهم وفضائلهم.
أما إذا كان الرجل تتيسر له وسائل المعاش في بلده المسلم على مستوى أهل بلده، ولكنه هاجر إلى بلاد الكفار للاستزادة منها، والحصول على محض الترفه والتنعم، فإن ذلك لا يخلو من كراهة، لما فيه من عرض النفس على المنكرات الشائعة هناك، وتحمل خطر الانهيار الخلقي والديني من غير ضرورة داعية لذلك، والتجربة شاهدة على أن الذين يتجنسون بهذه الجنسيات الأجنبية لمجرد الترفه، ينتقص فيه من الوازع الديني، فيذوبون أمام الإغراءات الكافرة ذوبانًا ذريعًا، ومن هنا ورد في الحديث النهي عن مساكنة المشركين بدون حاجة ملحة.
أخرج أبو داود عن سمرة بن جندب، قال: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من جامع المشرك، وسكن معه فإنه مثله)) أخرجه أبو داود قبيل كتاب الضحايا، وعلقه الترمذي في السير.
أخرج أبو داود، والترمذي عن جرير بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله، لِمَ؟ قال: لا تراءى ناراهما)) .
قال الخطابي في شرحه: "فيه وجوه: أحدها معناه، لا يستوي حكماهما، قاله بعض أهل العلم، وقال بعضهم: معناه أن الله قد فرق بين داري الإسلام والكفر، فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم، حتى إذا أوقدوا نارًا كان منهم بحيث يراها، وفيه دلالة على كراهة دخول المسلم دار الحرب للتجارة والمقام فيها أكثر من مدة أربعة أيام" (معالم السنن للخطابي، كتاب الجهاد، باب على ما يقاتل المشركون، 3/ 437) .
وأخرج أبو داود في المراسيل عن مكحول، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتركوا الذرية إزاء العدو)) ذكره ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن 3: 437، في سياق كراهة مساكنة المشركين.
ومن هنا ذكر بعض الفقهاء أن سكنى دار الحرب وتكثير سوادهم لأجل المال مما يسقط العدالة (راجع تكملة رد المحتار: 1/ 101) .
أما إذا كان التجنس بالجنسيات الأجنبية اعتزازًا بها، وافتخارًا، أو لتفضيلها على الجنسيات المسلمة، أو للتشبه بأهلها في الحياة العملية، فإن ذلك حرام مطلقًا، ولا حاجة إلى التدليل على ذلك.(3/1084)
2- أما خطورة تنشئة الأبناء المسلمين في البلاد الأجنبية:
فخطورة واقعة فيجتنب عنها في الظروف التي يكره أو يحرم فيها التجنس حسب ما ذكرنا في الجواب عن السؤال الأول.
وأما في الظروف التي يجوز فيها التجنس بدون كراهة، فإنها مواضع ضرورة، أو حاجة، فيجب على المبتلي به في مثل هذه المواضع، أن يعنى بتربية أولاده عناية خاصة، ويجب على المسلمين المقيمين في تلك البلاد أن يحدثوا من أجل ذلك جوًا تربويًا فيه الناشئة المسلمة محافظة على عقائدها، وأعمالها، وأخلاقها الدينية.
3 و 4 – زواج المسلمة بغير المسلم:
لا يجوز لمسلمة أن تنكح غير مسلم في حال من الأحوال، قال الله تعالى {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} وقال تعالى {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} .
وإن الطمع في الإسلام أحد لا يبرر لمسلمة أن تعقد معه الزواج، فإن مثل هذا الطمع الموهوم لا يحل حرامًا.
وكذلك لو أسلمت المرأة وزوجها كافر، فإن النكاح ينقطع بينها وبينه بمجرد إسلامها عند الجمهور، وبإنكار الزوج عن الإسلام بعد العرض عليه عند الحنفية، فلو أسلم الزوج وهي في عدته، رجع النكاح الأول، ولو لم يسلم إلا بعد العدة، لا ترجع إليه الزوجة المسلمة إلا بنكاح جديد بينهما، وهذا أمر فقد اتفق عليه الفقهاء قديمًا وحديثًا، وإن الطمع الموهوم في إسلام الزوج لا يغير حكم الشرع.
5- الدفن في مقابر غير المسلمين:
لا يجوز دفن موتى المسلمين في مقابر غير المسلمين إلا إذا لم يكن من ذلك بد، وذلك بأن لا يكون للمسلمين مقبرة، ولا يسمح لهم بالدفن خارج مقبرة الكفار، كما هو مذكور في السؤال، فحينئذ يجوز ذلك للضرورة.(3/1085)
6- حكم بيع المساجد:
إن المواضع التي يصلي فيها المسلمون في البلاد الغربية على قسمين:
الأول: ما يتخذونه موضع صلاة للمسلمين، ومحل اجتماعاتهم الدينية، دون أن يجعلوه مسجدًا فقهيًا، بأن يقفوا ذلك المحل والبناء كمسجد، ولذلك ربما يسمونها "المركز الإسلامي" أو "دار صلاة" أو "دار جماعة" ولا يسمونه مسجدًا.
وأن الأمر في مثل هذه المواضع سهل ميسور، لأنها وإن كانت تستعمل للصلاة فيها، ليست مساجد شرعية، لأن أهلها لم يجعلوها مسجدًا، فكلما أراد أهلها أن يبيعوا هذه المواضع لصالح المسلمين جاز لهم ذلك بالإجماع.
والثاني: ما اتخذوه مسجدًا شرعيًا، وجعلوا أرضه وقفًا كمسجد، فالحكم في مثل ذلك عند جمهور الفقهاء أن هذا المكان يبقى مسجدًا إلى قيام الساعة، ولا يجوز بيعه في حال من الأحوال، ولا يرجع إلى ملك واقفه أبدًا، وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهم الله تعالى.
يقول الخطيب الشربيني الشافعي رحمه الله: "ولو انهدم مسجد، وتعذرت إعادته أو تعطل بخراب البلد مثلًا، لم يعد ملكًا، ولم يبع بحال، كالعبد إذا عتق، ثم زمن، ولم ينقض إن لم يخف عليه لإمكان الصلاة فيه، ولإمكان عوده كما كان.. فإن خيف عليه نقض، وبنى الحاكم بنقضه مسجدًا آخر إن رأى ذلك وإلا حفظه، وبناؤه بقربه أولى، ولا يبنى به بئرًا".
ويقول المواق من فقهاء المالكية: "ابن عرفة من المدونة وغيرها: يمنع ما خرب من ربع الحبس مطلقًا،.. وعبارة الرسالة: ولا يباع الحبس وإن خرب.. وفي الطرر عن ابن عبد الغفور: لا يجوز بيع مواضع المسجد الخربة، لأنها وقف، ولا بأس ببيع نقضها".
وجاء في الهداية من كتب الفقه الحنفي: "ومن اتخذ أرضه مسجدًا لم يكن له أني رجع فيه، ولا يبيعه ولا يورث عنه، لأنه تجرد عن حق العباد، وصار خالصًا لله، وهذا لأن الأشياء كلها لله تعالى، وإذا أسقط العقد ما ثبت له من الحق رجع إلى أصله، فانقطع تصرفه عنه، كما في الإعتاق، ولو خرب ما حول المسجد واستغنى عنه يبقى مسجدًا عند أبي يوسف لأنه إسقاط منه، فلا يعود إلى ملكه" (المداية مع فتح القدير: 5/ 446) .(3/1086)
إلا أن مذهب الإمام أحمد رحمه الله في مثل هذا أن المسجد يجوز بيعه عندما وقع الاستغناء عنه بالكلية فقد جاء في المغني لابن قدامة: "أن الوقف إذا خرب، وتعطلت منافعه، كدار انهدمت أو أرض خربت، وعادت مواتًا، ولم تمكن عمارتها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه، وصار في موضع لا يصلى فيه، أو ضاق بأهله، ولم يمكن توسيعه في وضعه، أو تشعب جميعه، فلم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه، جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته، وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه، (المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير: 6/ 225) .
وهناك قول آخر: وهو قول الإمام محمد بن الحسن الشيباني، أن الوقت إذا استغني عنه تمامًا، فإنه يعود إلى ملك الواقف، أو إلى وراثه بعد موته، يقول صاحب الهداية: "وعند محمد يعود إلى ملك الباني، أو إلى وراثه بعد موته، لأنه عينه لنوع قربة، وقد انقطعت، فصار كحصير المسجد وحشيشه إذا استغني عنه" (5/ 446) .
فإذا عاد إلى ملك الواقف جاز له بيعه بعد ذلك.
وأن الجمهور استدلوا على قولهم بعدم جواز البيع، وعدم انتقاله إلى ملك الواقف، بقصة عمر رضي الله عنه بخيبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من شرائط الوقف: ((أنه لا يباع أصلها، ولا تابع، ولا تورث ولا توهب)) أخرجه الشيخان وهذا لفظ مسلم في باب الوقف.
واستدل الإمام أبو يوسف للجمهور بالكعبة أيضًا، فإن في زمن الفَتْرَة قد كان حول الكعبة عبدة أصنام، وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية، ثم لم يخرج موضع الكعبة به من أن يكون موضع طاعة وقربة خالصة لله تعالى فكذلك سائر المساجد، واعترض عليه ابن الهمام في فتح القدير: 5/ 446، بأن الطواف لم يزل باقيًا على عهد الفترة أيضًا، فلم تترك العبادة المقصودة بالكعبة رأسًا، وأجاب عنه الشيخ العثماني التهانوي رحمه الله بأن القربة التي عينت لها لكعبة هي الصلاة إليها، دون الطواف وحده، لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام بعد ذكر إسكانه ذريته عند البيت الحرام {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} ولم يذكر الطواف، وقوله {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} مفسر بالمسافرين والمقيمين كقوله {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (راجع إعلاء السنن: 13/ 212) ، وإن من أقوى أدلة الجمهور في هذا الباب قوله الله تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} .(3/1087)
قال ابن العربي: إذا تعينت لله أصلًا، وعينت له عقدًا، صارت عتيقة عن التملك، مشتركة بين الخليفة في العبادة " أ" (أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1869) وأخرج ابن جرير في تفسيره 29/ 73 عن عكرمة {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} قال: المساجد كلها.
وأما الإمام أحمد فاستدل له ابن قدامة في المغني: 6/ 226، بما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد لما بلغ أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة: انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصل.
وأجاب عنه ابن الهمام (في فتح القدير: 5/ 446) بأن يمكن أنه أمره باتخاذ بيت المال في المسجد.
ويبدو أن المذهب الراجح في هذا مذهب الجمهور، فلا ينبغي أن يباع مسجد بعد ما تقرر كونه مسجدًا، وإلا لصارت المساجد مثل كنائس النصارى، يبيعونها كلما شاءوا، ولكن المسألة لما كانت مجتهدًا فيها، وفي كلا الجانبين دلائل من الكتاب والسنة، فلو خيف الاستيلاء من قبل الكفار على مسجد ارتحل عن جواره أهله، ولم يرج عود المسلمين إلى ذلك المكان، ففي مثل هذه الضرورة الشديدة، يبدو أنه لا بأس بالأخذ بقول الإمام أحمد أو محمد بن الحسن رحمهما الله تعالى، ويباع بناء المسجد ويصرف ثمنه إلى بناء مسجد آخر، لا إلى مصرف سوى المسجد، قد نص عليه فقهاء الحنابلة حيث قالوا: "ولو جاز جعل أسفل المسجد سقاية وحوانيت لهذه الحاجة، لجاز تخريب المسجد، جعله سقاية وحوانيت، ويجعل بدله مسجدًا في موضع آخر" (راجع المغني لابن قدامة: 6/ 228) .
ثم إن جواز هذا البيع إنما يصار إليه أن تحقق انتقال جميع السكان هما حول المسجد، ولم يرجع عودهم إليه، فإن انتقل أكثر السكان، وبقي منهم بعض، فلا سبيل إليه، قد نص عليه الفقهاء الحنابلة أيضًا حيث قالوا: "وإن لم تتعطل مصلحة الوقف بالكلية لكن قلت: وكان غيره أنفع منه، وأكثر ردًا على أهل الوقف لم يجز بيعه، لأن الأصل تحريم البيع، وإنما أبيح للضرورة صيانة لمقصود الوقف عن الضياع مع إمكان تحصيله، ومع الانتفاع وإن قل ما يضيع المقصود (المغني لابن قدامة: 6/ 227) .(3/1088)
7- سفر المرأة بغير محرم:
أخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسافر المرأة فوق ثلاث إلا ومعها زوج أو ذو رحم محرم منها)) هذا الحكم الصريح قد أخذ به جمهور الفقهاء، حتى إنهم لم يجوزوا لها أن تسافر بدون محرم لضرورة الحج، وأن الدراسة والعمل في البلاد الأجنبية ليس من ضرورة النساء المسلمات في شيء، إن الشريعة لم تأذن للمرأة بالخروج من دارها إلا لحاجة ملحة، وقد ألزم أباها وزوجها بأن يكفل لها بجميع حاجاتها المالية، فليس لها أن تسافر بغير محرم لمثل هذه الحوائج.
أما إذا كانت المرأة ليس لها زوج أو أب، أو غيرهما من أقاربها الذين يتكفلون لها بالمعيشة، وليس عندها من المال ما يسد حاجتها، فحينئذ يجوز لها أن تخرج للاكتساب بقدر الضرورة، ملتزمة بأحكام الحجاب، فيكفي لها في مثل هذه الحال أن تكتسب في وطنها، ولا حاجة لها إلى السفر إلى البلاد الأجنبية، ولو لم تجد بدًا من السفر في وطنها من بلد إلى آخر، ولم تجد أحدًا من محارمها، ففي مثل هذه الحالة فقط يسع لها أن تأخذ بمذهب مالك، والشافعي، حيث جوزوا لها السفر مع النساء المسلمات الثقات، (راجع له المغني لابن قدامة: 3/ 170) .
8 - إقامة النساء بمفردهن:
قد ذكرنا في الجواب عن السؤال السابع أن النسوة المسلمات لا ينبغي لهن السفر إلى بلاد غير المسلمين للدراسة أو الاكتساب، وأما إذا كانت المرأة قد توطنت إحدى هذه البلاد مع محارمها، ثم بقيت مفردة لموت محارمها، أو انتقالهم من ذلك المكان لسبب ما، فإنه لا مانع لها من الإقامة بمفردها، ما دامت ملتزمة بأحكام الشرع في الحجاب.
9- حجاب الوجه والكفين:
إن جواب هذا السؤال موقوف على مسألة مستقلة وهي: هل الوجه داخل في أحكام الحجاب أو لا؟ وإن هذه المسألة تحتاج أن تكون موضوعًا مستقلًا من موضوعات الدراسة التي في المجمع، فإن البحث فيه يطول، فالمناسب أن تجعل هذه المسألة في جدول أعمال المجمع لدورة من الدورات القادمة.(3/1089)
10 و 11 – العمل في المطاعم التي تبيع الخمور والخنازير:
العمل في مطاعم الكفار إنما يجوز بشرط أن لا يباشر المسلم سقي الخمر أو تقديم الخنزير، أو المحرمات الأخرى، فإن سقي الخمر أو تقديمها إلى من يشربها حرام بنص صريح، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه)) .
(أخرجه أبو داود في الأشربة، باب العنب يعصر للخمر: 3/ 326 رقم الحديث: 3674) .
وأخرج الترمذي عن أنس بن مالك، قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له)) ، قال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أنس، وقد روى نحو هذا عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(جامع الترمذي: 2/ 280 كتاب البيوع باب ما جاء في بيع الخمر: رقم: 1313) .
وأخرج ابن ماجه حديث أنس بلفظ: ((عاصرها، ومعتصرها، والمعصورة له، وحاملها، والمحمولة له، وبائعها، والمبيوعة له، وساقيها، والمستقاة له))
(سنن ابن ماجه: 6/ 1122، كتاب الأشربة، رقم: 3381) .
وقد أخرج الشيخان عن عائشة قالت: ((لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقترأهن على الناس، ثم نهى عن التجارة في الخمر)) (أخرجه البخاري في المساجد، وفي البيوع، وفي تفسير سورة البقرة، ومسلم في البيوع، باب تحريم بيع الخمر) .
وأخرج مسلم عن ابن عباس مرفوعًا ((أن الذي حرم شربها حرم بيعها)) وأخرجه أحمد في مسنده: 1/ 244) عن عبد الرحمن بن وعلة أنه سأل ابن عباس، قال: إنا بأرض لنا بها الكروم، وإن أكثر غلاتها الخمر فذكر ابن عباس أن رجلًا أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم رواية خمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الذي حرَّم شربها حرَّم بيعها)) .
فتبين من هذه الأحاديث أن التجارة في الخمر أو حملها، أو سقيها بالأجرة حرام، وظهر من فتوى ابن عباس رضي الله عنه أن ذلك لا يحل لمسلم، ولو للاكتساب في أرض شاع فيها عصر الخمر من الكروم.
ولا أعلم أحدًا من الفقهاء أباح مثل هذا العمل.(3/1090)
12- حكم الأدوية المركبة من الكحول:
هذه المسألة لا تختص بالبلاد الأجنبية، وإنما عمت بها البلوى في سائر البلدان، بما فيه البلاد الإسلامية، والحكم فيها على طريق الحنفية سهل، لأن الأشربة المتخذة من غير العنب والتمر تحل عند أبي حنيفة وأبي يوسف بقصد التقوي أو التداوي، ما لم تبلغ حد الإسكار (كما في فتح القدير: 8/ 160) ، وإن معظم الكحول المستعملة في الأدوية اليوم لا تصنع من عنب ولا تمر، وإنما تصنع من السلفات والكبريتات، والعسل، والدبس، والحب، والشعير، والجودار، وغيرها.
(راجع دائرة المعارف البريطانية: 6/ 544، المطبوعة 1950 م) .
فإن كانت الكحول المستعملة في الأدوية متخذة من غير العنب والتمر فإن تناولها جائز في مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، ما لم تبلغ حد الإسكار، ويمكن أن يؤخذ بقولهما لحاجة التداوي، وأما إذا كانت الكحول متخذة من العنب أو التمر، فلا يجوز استعمالها إلا إذا أخبر طبيب عدل أنه ليس له دواء آخر، لأن التداوي بالمحرم يجوز عند الحنفية في هذه الحالة (كما في البحر الرائق 1/ 116) .
وأما الشافعية فلا يجوز عندهم استعمال الأشربة المحرمة للدواء صرفًا، ولكن إذا كانت مستهلكة مع دواء آخر، فيجوز التداوي بها عندهم إن عرف بنفعها وتعيينها، بأن لا يغني عنها طاهر، كما صرح به الرملي في نهاية المحتاج حيث قال: "أما مستهلكة مع دواء آخر، فيجوز التداوي بها، كصرف بقية النجاسات إن عرف، أو أخبره طبيب عدل بنفعها بأن لا يغني عنها طاهر".
(نهاية المحتاج للرملي: 8/ 12) .
والكحول لا تستعمل للدواء صرفًا، وإنما تكون مستهلكة في دواء آخر، فتناولها لحاجة الدواء جائز عند الشافعية أيضًا.
وأما المالكية والحنابلة فلا يجوز عندهم فيما أعلم التداوي بالمحرم في حال من الأحوال إلا عند الاضطرار.(3/1091)
وحيث عمت البلوى في هذه الأدوية، فينبغي أن يؤخذ في هذا الباب بمذهب الحنفية، أو الشافعية، والله أعلم.
ثم هناك جهة أخرى، ينبغي أن يسأل عنها خبراء الكيمياء وهو: أن هذه الكحول بعد تركيبها بأدوية أخرى، هل تبقى على حقيقتها أو تستحيل حقيقتها وماهيتها بعمليات كيمياوية؟ فإن كانت ماهيتها تستحيل بهذه العمليات بحيث لا تبقى "كحول" وإنما تصير شيئًا آخر، فيظهر أن عند ذلك يجوز تناولها باتفاق الأئمة، لأن الخمر إذا صارت خلًّا جاز تناولها في قولهم جميعًا لاستحالة الحقيقة.
13- الخمائر والجلاتين المتخذة عن الخنزير:
إن كان العنصر المستخلص من الخنزير تستحيل ماهيته بعملية كيمياوية، بحيث تنقلب حقيقته تمامًا، زالت حرمته ونجاسته، وإن لم تنقلب حقيقته بقي على حرمته ونجاسته، لأن انقلاب الحقيقة مؤثر في زوال الطهارة والحرمة عند الحنفية.
14- حفلات الزواج في المساجد:
أما عقد النكاح في المسجد فشيء مندوب، نطقت باستحبابه الأحاديث ولكن ما يصحبه من الرقص، والغناء فلا يجوز أصلًا، فإن كانت حفلات الزواج لا تخلو من هذه المنكرات، فلتجنب المساجد منها.
15- التسمي بالأسماء النصرانية:
إذ كان التسمي بالأسماء النصرانية لازمًا من قبل الحكومة، فيجوز أن يختار من الأسماء ما هو مشترك بين المسلمين، والنصارى، كإسحاق، وداود، وسليمان، ومريم، ولبنى، وراحيل، وصفوراء، وما إلى ذلك، ويمكن أيضًا أن يسجل المولود باسم من أسماء القائمة اللازمة في دوائر الحكومة، ويدعى في البيت باسم آخر إسلامي.(3/1092)
16- النكاح بإضمار نية الفرقة:
ما دامت صيغة النكاح لا تتقيد بوقت ولا زمان، وتستوفي الشروط انعقاد النكاح، فإن النكاح منعقد، والتمتع به جائز، وأما ما يضمره المتعاقدان أو أحدهما من نية الفرقة بعد اكتمال مدة ما، فلا أثر له في صحة النكاح غير أنه لما كان النكاح في الشريعة عقدًا مؤبدًا، فالمطلوب فيه أن يستدام من قبل الزوجين، ولا ينقص إلا عند حاجة شديدة تقتضي ذلك، وإن إضمار نية الفرقة منذ أول الأمر ينافي هذا المقصود، فلا يخلو من كراهية ديانة، فلا يصار إليه لا عند الضرورة من شدة الشبق فرارًا من الزنا الحرام.
17- التزين في محلات العمل:
قد أسلفنا في الجواب عن السؤال السابع حكم خروج المرأة للاكتساب، وبناء على ذلك، لو كان هنالك ما يبرر خروجها شرعًا، فمن اللازم عليها ألا تخرج متبرجة بزينة.
18- مصافحة المرأة للأجانب:
إن مصافحة المرأة للأجانب لا تجوز بحال، قد نطقت بذلك الأحاديث، واتفق عليها الفقهاء.
19- استئجار الكنائس لإقامة الصلاة:
لا بأس باستئجار الكنائس لتتخذ أماكن لإقامة الصلاة، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((جعلت لي الأرض كلها مسجدًا)) ولكن ينبغي أن تزاح منها التماثيل والأصنام، فإن الصلاة في بيت فيه تماثيل مكروهة، وقد امتنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من دخول الكنائس من أجل التماثيل، فيما علقه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في البيعة، وأسنده عبد الرزاق، وذكر البخاري أيضًا أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل وأسنده البغوي في الجعديات، وزاد فيه: "فإن كان فيها تماثيل خرج، فصلى في المطر" (راجع فتح الباري: 1/ 532 رقم 435) .(3/1093)
20- حكم ذبائح أهل الكتاب:
الذي أعتقده وأدين الله تعالى عليه أن مجرد كون الذابح من أهل الكتاب لا يجعل الذبيحة حلالًا، حتى يسمى الله تعالى عليه، ويفري الأوداج بطريق شرعي، كما أن مجرد كون الذابح مسلمًا، لا يذكي الذبيحة، حتى يستوفي جميع شرائط الزكاة الشرعية، وإنما أحل الإسلام ذبائح أهل الكتاب دون من سواهم من المشركين؛ لأن أهل الكتاب كانوا ملتزمين بشروط الزكاة الإسلامية.
وعلى هذا الأساس، لا تحل ذبائح أهل الكتاب إلا بهذه الشروط، وبما أن معظم النصارى قد تركوا اليوم الالتزام بشروط الزكاة التي هي واجبة في أصل دينهم فإن ذبائحهم لا تحل للمسلمين إلا إذا تحقق أنهم قد استوفوا هذه الشروط.
وهذا بخلاف ما يزعمه كثير من الناس اليوم أن ذبائحهم حلال، وإن لم يذكروا اسم الله عليها، وعندي في ذلك دلائل قوية من الكتاب والسنة، وأقوال الفقهاء، وعبارات كتب أهل الكتاب، ولكن هذا الموضوع يحتاج إلى تفصيل لا يسعه هذه الفتوى فالأحسن أن يدرج هذا الموضوع في قائمة أعمال المجمع، ويطلب من الأعضاء الكتابة عليه كموضوع مستقل، وحينئذ تعرض الدلائل ببسط وتفصيل إن شاء الله تعالى.
21- حضور المناسبات التي فيها منكرات شرعية:
لا يجوز للمسلمين أن يحضروا مثل هذه المناسبات التي تتعاطى فيها الخمور والخنازير، وتراقص فيها النساء الرجال، ولا ضرورة داعية لذلك، إلا الحصول على الجاه والسمعة، ولا ينبغي لمسلم أن يخضع لكل ما يعتريه من أسباب الفسق، وخوارم الديانة، وإنما ييجب عليه في مثل هذه المواضع أن يصمد على دينه ولو أجمع المسلمون- وعددهم في البلاد الأجنبية غير قليل- على تجنب مثل هذه المناسبات، للجأ الأجانب عند دعوتهم إلى إخلائها من هذه المنكرات.
22 و 23 –
إن هذين السؤالين يجب أن يكونا موضوعين مستقلين في قائمة أعمال الدراسات في المجمع، لأن الجواب عنهما يحتاج إلى دراسة أوسع وأعمق.(3/1094)
24- عمل المسلم في دوائر الحكومة:
لا باس بأن يتوظف الرجل عملًا في دوائر وزارات الحكومة الأمريكية، أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة، وكذلك لا بأس بقبول مثل هذه الأعمال في مجالات الصناعة الذرية، أو الدراسات الاستراتيجية، ولكن إن فرض إليه عمل يضر بعامة المسلمين في بلد من البلاد، فمن الواجب عليه أن يتجنبه، ولا يعنيهم لفي ذلك ولو على قيمة استقالته من ذلك العمل.
25- تصميم المهندس كنائس النصارى:
لا يجوز لمهندس مسلم أن يصمم معابد الكفار لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
26- عمل الأزواج والآباء في بيع الخمور:
يجب على الزوجات في مثل هذه الحال أن يبذلوا أقصى ما في وسعهم في تحذير أزواجهن عن العمل في بيع الخمور والخنازير ولكنهم إن أبوا إلا العمل فيه، فإن تيسر لهن تحمل نفقات أنفسهن بطرق مباحة، فلا يجوز لهن الأكل من أموال أزواجهن، وإن لم يتيسر لهن ذلك، فيسع لهم الأكل، والإثم على الأزواج والآباء، للأطفال الصغار حكم الزوجات، أما الأولاد الكبار فعليهم أن يكتسبوا لأنفسهم، ولا يأكلوا من هذا المال.
وجواز الأكل للزوجة في مثل هذه الحالة قد صرح به بعض الفقهاء، قال ابن عابدين رحمه الله: "امرأة زوجها في أرض الجور، إذا أكلت من طعامه ولم يكن عينه غصبًا أو اشترى طعامًا أو كسوة مال أصله ليس بطيب فهي في سعة من ذلك، والإثم على الزوج" (رد المحتار، كتاب الحظر والإباحة، فصل في البيع: 5/ 247 وكتاب البيوع، باب البيع الفاسد) .
27- التبرع للكنيسة:
لا يجوز لمسلم سواء كان فردًا أو هيئة، أن يتبرع لمؤسسات تنصيرية، أو كنيسة أما المؤسسات التعليمية الخالصة، فلا بأس بالتبرع لها.
28 - شراء المنزل بواسطة البنوك:
إن المعاملة المذكورة غير جائزة لاشتمالها على الربا الحرام شرعًا، وينبغي للمسلمين وعددهم غير قليل أن يجتهدوا لإيجاد بدائل هذه المعاملة الموافقة للشرعية الإسلامية، بأن يكون البنك نفسه هوا لبائع بتقسيط، ويزيد في ثمن البيوت وغيرها من الثمن المعروف، فيشتريها من الباعة، ويبيعها إلى زبائنها بربح مناسب، وينبغي أن تطرح هذه المسألة على لجنة مستقلة تكون لتخطيط نظام البنوك اللاربوي، لتنظر في تفاصيلها.
هذا ما تبين لي، الله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(3/1095)
أجوبة
فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
السؤال الأول: حكم التجنس بجنسية بلد غير إسلامي:
الجنسية أمر حادث نشأ في القرن الثامن عشر تبعًا لتطور المفهوم الوطني وقد قام أولًا على نظريتين متقابلتين:
النظرية الأولى: نظرية جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، "كل إنسان هو في ذاته ليس لأي كان مهما كانت الذريعة التي يتذرع بها أن يخضع غيره بدون موافقته، وانفتحت فكرة الإرادة العامة هذا أخيرًا على مبدأ السيادة القومية، فتبع الإعلان عن حقوق الإنسان الإعلان عن حقوق الأمم.
فإذا كانت السيادة تكمن في الشعب وإذا كان القانون من جهة ثانية تعبيرًا عن الإرادة الجماعية فإنه يتبع ذلك أن الإدارة العامة هي وحدها المؤهلة لأن تفرض أو تتنازل أو تحول السيادة فيستطيع المجلس التأسيسي أن يعلن مبكرًا حق الشعوب في قيادة نفسها بنفسها".
أما النظرية الثانية: فهي النظرية الألمانية التي تؤمن بأن الجنسية هي عبارة عن اتخاذ جماعة بشرية في التاريخ واللغة والجنس ويقول فيشت في حواره الخامس: الجنسية الألمانية: إن الذين يتكلمون لغة واحدة هم ينسبون قبل كل شيء إلى جنسية واحدة.
تصارعت النظريتان بين الثوريين الفرنسيين الذين يرون الجنسية عقد يقوم على حرية الإرادة والنظرية الألمانية التي تقوم على أن الجنسية كائن عضوي يقوم على حرية الإرادة والنظرية الألمانية التي تقوم على أن الجنسية كائن عضوي بصفة أصلية في اللغة الأولى للشعب.
وكان ميدان الصراع الذي طبقت فيه النظريتان الألراس واللوران.
وقد انتهى الصراع بفوز النظرية الفرنسية خاصة بعد إعلان ولسون في الحرب العالمية الأولى وإعلان ميثاق الأطلنطي أثناء الحرب العالمية الثانية فكلما تألفت مجموعة بعقد اجتماعي بينها نابع من الإرادة الحرة، تكونت الدولة والجنسية الخاصة، إلا أن هذه الجماعة لتحمي نفسها ووحدتها تعطي شروط الانتساب إليها، فثارت قضية التجنس ويسرت بعض الشعوب قيود الانتساب إليها، وضيقت أمم أخرى حسب المصالح الخاصة لكل دولة، وبما أن الدولة عقد اجتماعي فكل داخل في الجنسية الجديدة هو قطعًا ملزم باحترام الميثاق الاجتماعي في كل بنوده وفصوله، وينفذ عليه، رعاية لما اتفقت عليه كلمة الجماعة.(3/1096)
ولما كان كل إنسان منتسبًا إلى دولة من الدول فإن خروجه عن جنسيته وانتسابه إلى جنسية أخرى يتبعها حتمًا انتهاء سيادة الدولة الأولى عليه وقبوله بسيادة الدولة الجديدة دون تفصيل، فهو يعامل حتى في بلده الأصلي معاملة الأجنبي عنه.
إلا أنه حدث في النصف الثاني من هذا القرن إمكانية جديدة تجعل الفرد قادرًا على الانتساب إلى جنسيته الأصلية، وإلى جنسية البلد الذي يقيم فيه جنسية مزدوجة.
وبهذا أصبح البشر على ثلاثة أنواع:
- محتفظ بجنسيته الأصلية لم يتخل عنها.
- متخل عن جنسيته الأصلية منتسب بعد قبوله إلى الدولة الجديدة.
- جامع لجنسيتين يعتبر في كلا البلدين مواطنًا لذلك البلد.
التحصيل على الجنسية:
يتبع المولود جنسية أبويه، وفي بعض الدول يعتبر مواطنًا يحمل جنسية البلد كل من ولد بين حدود ذلك البلد كما نصت التشريعات على الشروط التي يخول بموجبها قبول انتساب أي شخص من جنسية أخرى في جنسية البلد الذي يرغب في الانتقال إليه، فإذا ما قبل طبقت عليه أحكام ذلك البلد في الحقوق والواجبات.
التجنيس في العهد الاستعماري:
عملت بعض الدول الاستعمارية على تيسير دخول المستعمرين في جنسيتها بل أغرتهم على ذلك بفوائد مادية، وهي تهدف من ذلك إلى كثير أفراد شعبنا من ناحية وإلى سلخ القوة العديدة للشعب المستعمرة وقام العلماء في أقطار العالم الإسلامي بفضح الكيد الاستعماري وتحذير المسلمين من ذلك اعتبروا ذلك خروجًا عن الملة.(3/1097)
فبينوا أولًا: أن المتجنس هو شخص قد اختار عن طواعية رفض أحكام الشريعة مفضلًا عليها أحكام القانون الوضعي، فيصبح ملزمًا في حياته الزوجية بتطبيق الأحكام الوضعية لا ينفذ له طلاق ويجبر على الإقامة معها والإنفاق عليها، وتقسيم تركته حسب القانون الوضعي المتغير، ولا يترافع في قضاياه إلى المحاكم الشرعية بل يرفعها إلى المحاكم القانونية الوضعية ويقبل أحكامها مطبقًا.
وحدوث الفتاوى بكفره اعتمادًا على ما جاء في الفتاوى الخيرية، سئل عن رجل قال: لا أعمل بالشرع، إنه إذا قال ذلك لاعتقاد عدم أحقية الشرع أو استخفافًا فلا ريب في كفره (ص 106) والمتجنس رافض لحكم الشرع.
وكذا على ما جاء في الفتاوى الهندية أنه لو طلب أحد الخصمين غريمه أن يذهب معه إلى الشرع فامتنع قائلًا: لا أذهب إلا جبرًا، يكون كافرًا (2 / 722) وفي نفس الصفحة لو قال الرجل لغيره: حكم الشرع في الحادثة كذا، فقال: أنا أعمل بالرسم لا بالشرع يكفر.
واستندت فتاواهم من كفر المتجنس إلى قوله تعالى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
وإلى قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} ثم قوله بعد ذلك {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .(3/1098)
والمتجنس في العهد الاستعماري هو رجل يقيم في دار الإسلام بعد أن تغلب عليها غير المسلمين فيكون اختباره لتغيير جنسيته رفضًا لأحكام الإسلام وتفضيلًا أن يطبق علي قانون الدولة الغازية، ولا شك أن ذلك موجبا للارتداد، يقول القرطبي: وكل من طعن في حكم الحاكم ورده فيه ردة، يستتاب، وأما إن طعن في الحاكم نفسه لا في الحكم فله تعزيره وله أن يصفح عنه (أحكام القرآن: 5/ 266) إذ الطعن في الحكم معناه رمي الشارع إما بالظلم أو القصور، وكلاهما موجب كفر.
ثم إنه بعد أن استقلت الأمم الإسلامية واجهت مشاكل متعددة بعضها اقتصادي إذ كانت سوق العمل لا تستطيع أن تستوعب الأيدي العاملة، فهاجر كثير من العمال بالفكر أو الساعد إلى الدول غير المسلمة، وهاجر البعض الآخر لأن ظروف العمل في الدول الصناعية أفضل منه في الدول الإسلامية، وهاجر فريق ثالث لأن نشاطه الإسلامي يعرضه للخطر في بلده: إما في ذاته بالسجن أو التصفية الجسدية وإما في ماله.
القسم الأول والثاني:
منها أن العامل الأجنبي لا يتمتع بنفس الامتيازات التي يتمتع بها العامل من أبناء البلد، خاصة في المنح الاجتماعية، كما أن حقه في البقاء في عمله أضعف من حق ابن البلد، فكان هذا التمييز في الحقوق دافعًا لكثير من المقيمين بأرض الكفر أن يطلبوا سحب جنسية البلدان الكافرة عليهم، وفعلًا تحصل بعضهم على الجنسية المطلوبة وبعضهم في طريق التحصيل. اندفعوا إلى هذا الاختيار دون أن يعودوا بالسؤال لمعرفة حكم الله في العمل الذي قاموا به وهذا تقصير منهم وتهاون بمقتضيات دينهم.
إن من يتجنس بجنسية بلد غير إسلامي معناه أنه أصبح مواطنًا يتمتع بكامل الحقوق التي لأبناء ذلك الوطن ويلزم بأن يقوم أيضًا بكل الواجبات ويترتب على ذلك أحكام يلزم بها رغب في ذلك أو لم يرغب.
أولًا: إن قضايا العلاقات في تكوين الأسرة وانحلالها وحقوقها ونقل الملكية بطريق الإرث تطبق فيها الأحكام التي تقرها الدولة التي انتسب إليها:
1- هو راض عن زواجه لا يكون زواجًا إلا إذا سجل مدنيًا وهذا لا ضير فيه.
2- هو راض أنه لا تطلق زوجته عليه بلفظ الطلاق ولا بغيره إلا إذا حكم الحاكم ولو حكم بالفراق البدني مع بقاء العصمة فهو ملزم بقبوله.
وأن ابنته إذا بلغت سن الرشد القانوني ارتفعت كل ولاية له عليها، وأنه لا يستطيع أن يمنع ولده من ارتكاب أي محرم في الإسلام إذا كان قانون الدولة التي انتسب إليها يبيحه.(3/1099)
3- هو راض بأن تقسم تركته بعد موته حسب القانون وأن يرث هو غيره حسب القانون.
هو راض بأن الزنا إذا كان برضا الطرفين الراشدين لا منكر فيه.
ثانيًا: أنه عضو من أعضاء الدولة التي انتسب إليها فإذا اشتعلت الحرب بينها وبين دولة إسلامية فهو مطالب قيامًا بواجبه أن يقاتل المسلمين وأن يصب على رؤوسهم القنابل ويعمل جهده ويبذل كل طاقته لهزمهم والتنكيل بهم.
وقد طالعت في هذه السنة بجريدة لوموند الفرنسية (1986) أن الولايات المتحدة الأمريكية أجرت بحثًا سريًا لمعرفة قيام الجنود الأمريكيين من أصل ألماني قيامهم بواجبهم الوطني في تهديم القوة الألمانية حربيًا واقتصاديًا، فكشف البحث أنه لم يسجل أن أي جندي أمريكي غلب أصل انتسابه على واجباته القتالية إذ كانوا جميعًا متحمسين لهزيمة ألمانيا بلد أجدادهم وأصولهم.
الخلاصة:
أن كل ما قدمناه من لوازم التجنس هو رفض قاطع لأحكام الإسلام، وعزم أكيد على التنكر لها وابتغاء حكم غير حكم الله، وإطراح اختياري لما ثبت من ضروريات الدين، ولذا رأى بعض العلماء أن هذا موجب للردة، يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} شرط وجوابه أي لأنه خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا ووجب معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم فصار منهم أي من أصحابهم (6/ 217) .(3/1100)
وذهب كثير من المفسرين إلى أنه من باب التغليط يقول الألوسي: "أي من جملتهم وحكمه حكمهم كالمستنتج من قبله وهو مخرج التشديد والمبالغة من الزجر لأنه لو كان المتولي منهم حقيقة لكان كافرًا وليس بمقصود، وقيل: المراد من {يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} فإنه كافر مثلهم حقيقة، وحكى عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولعل ذلك إذا كان توليهم من حيث كونهم يهودًا أو نصارى (6/ 140) .
فالألوسي يصرح بأن مجرد التحالف مع اليهود والنصارى والتناصر لا يخرج المؤمن من الإيمان وإنما الذي يوجب ارتداده واعتقاده أن دين اليهودية أو النصرانية أولى بالتزام وأن النصراني بالتحالف والتناصر لكونه نصرانيًّا، فهو إذن لا يعتبر مرتدًا إلا إذا فضَّل اليهودية أو النصرانية على الإسلام.
وهذا الحل هو الذي ارتضاه أبو حيان قال: ومن تولاهم بأفعاله دون معتقده ولا اختلاف بإيمان لهو منهم في المقت والمذمة، ومن تولاهم في المعتقد فهو منهم في الكفر (البحر: 3/ 506) .
وعلى هذا جاءت فتوى علماء الأندلس التي ذكرها الونشريسي في المعيار (12/ 148) وما بعدها فعلماء الأندلس لم يزيدوا على وصف الذين خرجوا عن جماعة المسلمين واستنصروا بصاحب قشتالة لم يعتبروهم مرتدين وإنما هو عصاة واحتجوا بالآية.(3/1101)
نص فتوى المعيار
حكم الشرع فيمن نبذ بيعة الإمام
وسئل فقهاء الأندلس بما نصه:
سيدي رضي الله عنكم وأدام النفع بكم، جوابكم في عصابة من قواد الأندلس وفرسانها نبذوا بيعة مولانا أبي الحسن نصره الله وخرجوا عن طاعته وقاموا بدعوة ابنه ودعوا الناس إلى بيعته، وطاوعهم على ذلك من شاء الله تعالى، إلى أن وقعت كائنة اللسان وفقد فيها جملة منهم وأُسِرَ الأمير وانجلى من سلم منهم عن الحضرة فلجأوا إلى صاحب قشتالة - دمره الله - مستنصرين به، ومعتصمين بحبل جواره، فواطؤوه على شروط التزموها، ووعدهم بتسريح الأمير المذكور للخروج به لأرض المسلمين وعقد له صلحًا ما طاع له من البلاد، ولا خفاء بما هو قصد الكافر قصمه الله في هذا الذي فعل فلكم الفضل في الجواب عن فعلهم، أولًا:هل كان له متمسك من الشرع أو إنما كل بمحض عصيان الله تعالى وخروج عن طاعة الله وطاعته رسوله؟ وإن قدرة الله بخروجهم من أرض النصارى مصرين على ما كانوا عليه من التعصب على الفتنة والخلاف، فهل يحل لأحد من المسلمين مساعدتهم على ذلك والأخذ معهم فيه؟ وهل يحل لأهل مدينة من المدن أو حصن من الحصون أن يأويهم؟ وما حكم الله فيمن آواهم وأعانهم وانتظم في سننهم أو مال بقلبه أو قوله أو فعله إليهم؟ بينوا لنا ذلك بيانًا شافيًا ليستضاء بنوره، ويهتدى بهديه، والله يبقي بركتكم، ويعطي أعلام العلماء درجتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجابوا بما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
صدرت الفيتا من السادات العلماء، الجلة الأعلام، هداة الأنام، ومصابيح الظلام، بالحضرة العلية غرناطة حرسها الله، على السؤال فوقه: وهم: السيد البركة المفتي أبو عبد الله المواق، والسيد قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن الأزرق، والسيد المفتي أبو الحسن علي بن داود، والسيد المفتي أبو عبد الله محمد الجعدالة، والسيد الخطيب أبو عبد الله محمد الفخار، والسيد الشيخ الحاج أبو الحسن علي القلصادي، والسيد الشيخ أبو حامد بن الحسن، والسيد القاضي أبو عبد الله محمد بن سرحونة، والسيد الخطيب أبو عبد الله محمد المشدالي، والسيد الخطيب أبو محمد عبد الله الزليجي، والسيد الخطيب أبو عبد الله محمد الحذام، والأستاذ الشيخ الحاج أبو جعفر أحمد بن عبد الجليل، والأستاذ أبو عبد الله محمد بن فتح، والقاضي أبو عبد الله محمد بن عبد البر، والأستاذ أبو جعفر محمد البقني، أبقى الله بركتهم، وحفظ في درجة العلام رتبتهم، بأن خلع القوم المسؤول عنهم، لبيعة مولانا أبي الحسن نصره الله، وقيامهم بدعوة ابنه، ليس له متمسك من دين الله.(3/1102)
وإنما هو محض عصيان، وخروج عن طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ارتكبوه بذلك من وجوه المفاسد التي لا يرضى الله بها من شق عصا الإسلام في هذا الوطن الغريب، وتفريق أمره بعد ما كان مجتمعًا، وإيقاد نار الفتنة، وإلقاء العداوة والبغضاء بسببها في قلوب المسلمين وإفساد ذات البين التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما هي الحالقة)) مع ما في ذلك من توهين المسلمين وإطماع العدو الكافر في استئصال بيضتهم، واستباحة حريمهم، وكل ذلك محرم بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع العلماء فإلى غير ذلك من وجوه المعاطب التي لا تخفر وأن ركونهم إلى الكفار واستنصارهم بهم، لا يخفى أنهم داخلون به في وعيد قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وقال سبحانه في الآية الأخرى {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} ، وأن تجديد بيعتهم للأمير المأسور، إصرارًا على ما ذكر من المعاصي والمحرمات، وتأكيدا لما ارتكبوه من الجرائم والسيئات، فمن آواهم أو أعانهم بقول أو فعل، فهو معين على معصية الله تعالى، ومخالف لسنة رسوله، ومن هوى فعلهم أو أحب ظهورهم، فقد أحب أن يُعصى الله في أرضه بأعظم العصيان، هذا ما داموا مصرين على فعلهم، فإن تابوا ورجعوا عما هم عليه من الشقاق والخلاف، فالواجب على المسلمين قبولهم، لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر نفوسنا، وأن يصلح ذات بيننا أنه ولي ذلك والقادر عليه، ومن أشهده السادات المذكورون فيه، بما سطر وكتب عنهم من الجواب على السؤال المنبه عليه، وأنهم قائلون به، وصادر عنهم ولا خفاء بمعرفتهم وهم بحال كما الإشهاد قيد بذلك شهادته في أواسط شهر رمضان المعظم، عام ثمانية وثمانين وثمانمائة عرفنا الله خيره، محمد بن شهد ومحمد بن علي بن شهد، أعلم بثبوته محمد بن علي الأصبحي، وفقه الله وكان له انتهى.(3/1103)
وإذ قد اختلف العلماء فيمن يوالي النصارى اليهود ويدخل في حلف معهم هل هو مرتد أو لا؟ وإذ قد تجاوزنا العهد الاستعماري الذي كان التجنس فيه مفضيًا لذوبان الأمة الإسلامية وفقد شخصيتها ونظرًا لما حققه الشاطبي من اختلاف الحكم يبن الجزئية المنفردة وبين الكلية العامة، وأن المباح بالجزء قد يصير واجبًا بالكل.
وانظر خاصة المسألة السادسة في الأوامر والنواهي في قوله: وأما المنهيات فإنك تجده قد جعل اتخاذ الكافرين أولياء والرضى بحكم الطاغوت والوهن بالأعداء والخيانة من النواهي التي لما بلغ بها نص الشارع الغاية من الترهيب فليس ذلك دليلًا على أن جزئياتها على وزان واحد بل هي محل اجتهاد (3/ 136 – 144) .
لذلك كله فالذي مرجح عندي أن التجنس بجنسية دولة غير إسلامية معصية لا تبلغ درجة الردة إذا كان إقدامه على ذلك تسوية لأوضاعه المادية مع اقتناعه وإيمانه أن الإسلام هو الدين الوحيد وأنه يغضب الله من كل من يحاول النيل من الإسلام أو التطاول عليه، أما إذا كان أمر الدين عنده لا يوازي مصالحه وأنه متهاون به لا يشعر برابطة بينه وبين دينه إلا رابطة تاريخية ضعيفة الأثر فلا شك عندي في ارتداده، وخروجه من الملة.
على أن القسم الأول مطالب بأن يحرص على تلقين أبنائه أصول الإسلام وأن يحرص على إقامة شعائرهم معهم وأن لا يتهاون في هذا الأمر، ليكون ما في يقوله بلسانه مصدقًا بأعماله مع دعوته إلى العمل على الإقلاع عن المعصية والتوبة والعزم على عدم العودة بالإسراع للانسلاخ من الجنسية التي اكتسبها إن كان يحمل جنسية واحدة أو بالرجوع إلى بلده الأصلي إن كان يحمل جنسيتين.(3/1104)
القسم الثالث
الذين يتعرضون إلى الفتنة في حياتهم سجنًا وقتلًا أو في عائلاتهم تشريدًا وتتبعًا أو في أموالهم استصفاء فهؤلاء يجوز لهم أن يتجنسوا بجنسية غير إسلامية إذ لم يجدوا بلدًا إسلاميًا يقبلهم ويحميهم {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} .
قال ابن العربي: قسم العلماء رضي الله عنهم الذهاب من الأرض قسمين: هربًا وطلبًا.
فالأول: ينقسم إلى ستة أقسام:
الأول: الهجرة وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وكان فرضًا من أيام النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان من أسلم في دار الحرب وجب عليه الخروج إلى دار الإسلام، فإن بقي في دار الحرب عصى ويختلف في حاله.
الثاني: الخروج من أرض البدعة، قال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف، قال ابن العربي: وهذا صحيح فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيره فزل عنه، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} قوله (الظالمين) .
الثالث: الخروج من أرض غلب عليها الحرام فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم.
الرابع: الفرار من الأذية في البدن وذلك فضل من الله رخص فيه، فإذا خشي على نفسه أذن الله في الخروج عنه والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور.
وأول من فعله إبراهيم عليه السلام فإنه لما خاف من قومه قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} وقال {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} وقال عن موسى {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} .
الخامس: خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النزهة وقد أذن الله للرعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصحوا وقد استثنى من ذلك الخروج من الطاعون فمنع الله منه بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بيد أن علماءنا قالوا: هو مكروه.(3/1105)
السادس: الفرار خوف الأذية في المال فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه.
والأهل مثله وأوكد – (القرطبي: 5/ 350) .
وذكر ابن قدامة: أن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أحدها: من تجب عليه وهو يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى قوله تعالى {مَصِيرًا} وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الثاني: من لا تجب عليه، وهو من يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف لقوله تعالى {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} .
الثالث: من تستحب له ولا تجب عليه وهو من يقدر عليها لكن يتمكن من إظهار دينه وإقامته في دار الكفر فتستحب له يتمكن من جهادهم وتكثير المسلمين وعمومتهم ويتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ورؤية المنكر بينهم ولا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة وقد كان العباس مقيمًا بمكة مع إسلامه (المغني: 2/ 457) .
إن ما ذكره ابن العربي في القسم الرابع والسادس يبين لنا أن الملتجيء إلى دولة غير إسلامية حفاظًا على نفسه أو ماله لا يعد عاصيًا فضلًا عن كونه كافرًا وإذا كان أمنه لا يتم إلا بتجنسه كان له أن يتجنس مع شد عزمه على تحين أول فرصة يستطيع فيها أن يعش آمنًا في ديار الإسلام ليغتنمها، ذلك أن هذا قد أبيح له كضرورة تقدر بقدرها وعلى المضطر أن يجتهد للخروج من حالة الاستثناء.
والمنطبق على المتجنس في دار الكفر من تقسيم صاحب المغني هو القسم الثاني وليس الثالث ذلك أن المتجنس في بلاد الكفر لا يتمكن من إقامة دينه في جميع أحكامه وإن كانت بعض الأحكام في بلاد الإسلام لا يقرها الإسلام إلا أن الشعائر الدينية معلنة والمجتمع إسلامي يؤثر في تربية الأطفال.(3/1106)
السؤال الثاني
حكم الهجرة باعتبار تأثيره على الذرية
يقول أبو بكر الرازي الجصاص في قوله تعالى {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} هذا يدل على الخروج من أرض الشرك إلى أي أرض كانت من أرض الإسلام (2/ 305) .
وقال مالك: هذه الآية دالة على أنه ليس لأحد المقام بأرض يسب فيها السلف ويعمل فيه بغير الحق (جامع لأحكام القرآن للقرطبي: 5/ 348) .
إن ما قدمناه في الجواب عن السؤال الأول يجري في الإجابة عن هذا السؤال على ما فصلنا له من الأقسام.
إن ما جاء في تبرير الهجرة وأن خطر الانحراف بذريتهم عن الإسلام وارد في بلاد الإسلام وروده من غيرها من بلاد الكفر بل أشد، ما جاء من التبرير هو مغالطة غير مقبولة فالدولة التي تجبر رعاياها على التنكر للإسلام هي دولة غير إسلامية، وما هو موجود في البرامج التعليمية من توضيح لبعض المذاهب المادية أو الفلسفات الإلحادية ليس دعوة إليها وإنما هو ثقافات عامة قد يسيء بعض الأساتذة عند السكوت عن تهافتها وسقطها، وليس معنى ذلك أن أية دولة إسلامية تدعو إلى الإلحاح، على أني أؤكد هنا ما ورد في الجواب السابق أن البيئة لها أثرها الكبير في تكوين الطفل، فسماعة للأذان، وابتهاج الأمة بشهر رمضان، وبعيد الفطر، ووفود الحجاج إلى بيت الله الحرام، وعيد الأضحى، وما يلقاه من عادات إسلامية في مباشرة الحياة، ومن حرص على الطهارة، وابتداء بالسلام، وذكر اسم الله على لسان كثير من أهل الفضل، كل ذلك يجعل البيئة الإسلامية بيئات تختلف أساسًا عن البيئة في بلاد الكفر.(3/1107)
السؤال الثالث
حكم زواج المسلمه بغير المسلم
يقول تعالى {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فزوج المسلمة لا بد أن يكون مسلمًا، وقد أكد القرآن هذا التأكيد ليركز في نفوس المؤمنات والمؤمنين أن زواج المسلمة بغير المسلم باطل ومنكر سواء نظرت إليه من جانب الزوج أو من جانب الزوجة {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} نظير قوله تعالى {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} إيماء إلى قوة الاتصال والتلبس.
أما الطمع في الإسلام فلا معنى للطمع في الأحكام إذ الأحكام تبنى على الواقع لا المتوقع إنما الحكمة التي يظهرها الفقهاء للأحكام تأليفًا للعقول بشرع الله هي التي يعتمد فيها الفقيه الواقع والمتوقع.
والكفاءة المتحدث عنها جماعها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة (فيض القدير: 1/ 243) .
ويقول الإمام الشافعي: إذا أسلمت لامرأة أو ولدت على الإسلام أو اسلم أحد أبويها وهي صبية لم تبلغ حرم على كل مشرك كتابي ووثني نكاحها بكل حال، ولو كان أبواها مشركين فوصفت الإسلام وهي تعقل صفته منعتها من أن ينكحها مشرك (الأم: 5/ 5) .
فيتبين مما قدمناه أنه يحرم زواج المسلمة بغير المسلم، ولا عذر يبرر ذلك، والنكاح لاغ غير معتبر شرعًا لو وقع فعلًا.(3/1108)
السؤال الرابع
حكم استمرار الزوجية إذا أسلمت الزوجة
إذا أسلمت المرأة وبقي الزوج كافرًا فإنه يفرق بينهما ويمكن أن تعود الزوجية بينهما بدون عقد جديد إذا أسلم زوجها السابق قبل أن تخرج من عدتها، أما إذا أسلم بعد العدة فلابد من عقد جديد وما ذكر في السؤال من ضياع الأولاد والانحراف احتمالات لاغية تؤثر في الحكم نظير احتمال موت الزوج المسلم.
السؤال الخامس
حكم دفن المسلم بمقابر غير المسلمين
الواجب الأول بعد تحقق الموت هو الغسل ثم الصلاة على الميت ثم دفنه فإذا مات بديار الإسلام دفن في مقابر المسلمين وإن كانت الهالكة حاملًا من زوج مسلم وهي غير مسلمة دفنت بين مقبرة المسلمين والنصارى ووجهها عكس القبلة ليكون جنينها متجهًا إلى القبلة، وإذا كانت الوفاة بأرض الكفر وتعذر نقله إلى بلاد الإسلام دفن حيثما تيسر وعلى المجموعات الإسلامية أن تتدارك هذه الناحية وتعمل على تخصيص جانب من المقبرة العامة لموتى المسلمين إذا لم يتيسر لها تخصيص المسلمين بمقبرة.(3/1109)
السؤال السادس
حكم بيع المسجد لانتقال الجالية الإسلامية
ذكر صاحب المعيار نازلتين:
الأولى: استفتي فيها الشيخ الحفار لما سئل عن رجل بنى مسجدًا لله في ملكه وحبس له أحباسًا من أرض وزيتون، ثم انتقل الناس عنها وبقي في ربضها القليل من الناس فهل لها أن تبدل إلى موقع آخر بالقرب من الديار الكثيرة؟
وكان جوابه: أن نقل المسجد المذكور عن محله لا يحل ولا يجوز لأن ذلك تغيير للحبس من غير موجب بل يصلي فيه من بقي منهم ولو رجل واحد والله حسيب من يسعى في تغييره (7/ 136) .
الثانية: استفتي فيها ابن سراج لما سئل عن مسجد قرية خلت من السكان ولم يبق فيها للسكنى إلا داران غير أن القرية والمسجد في وسط العمران وعلى طريق تسللك على الدوام فقلما يخلو المسجد ممن يصلي وله حبس أضيف إلى حبس مسجد القرية القريبة منه التي هي عامرة وأصبح ينتفع به ومسجد القرية هو جيد البناء إلا أن بعضه يحتاج إلى الإصلاح وفيه مدة جيدة فهل يجوز هدمه واستخلاص أنقاضه وآلته ويبنى بذلك مسجد القرية العامرة لكون بعض أهل الموضع يرون ذلك خوفًا أن يبقى المسجد الذي بالقرية الخالية على ما هو عليه فتهدم آلته أم يؤخذ من فائدة أحباسه التي أضيفت لمسجد القرية العامرة ما يصلح به بناؤه ويبقى مسجدًا كما كان؟ على أن القرية الخالية لم يبق فيها أحد يسكن وهي منذ عشرين عامًا خالية وإنما بقي من الدارين اللتين بقيتا فيها بعض بنائهما بغير سكنى فكان جوابه: أنه إن كان المسجد المشار إليه في السؤال أعلاه يخاف من اجتماع أهل الشر والفساد فيه فيهدم ويستعان بنقضه في مسجد آخر وإن كان لا يخاف من ذلك فيه فيبنى ما تهدم منه من أوقاف التي نقلت لغيره من المساجد (7/ 154) .
فالفتوى الأولى والثانية بينهما تكامل ذلك أن الفتوى الأولى عن مسجد في قرية لم تخل بتاتًا من السكان وإنما تحول معظم الناس عنها وبقي قليل فالباقي حقه ثابت في إقامة الصلاة بالمسجد ولا يحول المسجد عن مكانه، أما القضية الثانية فقد خلت القرية عن السكان تمامًا، وأن الدارين الباقيتين خاليتان من السكان ويخشى من بقائه في الخلاء وأن يتخذه أهل المنكر وكرًا للفساد فكان الجواب بهدمه ونقل نقضه.
وفي صورة السؤال الوارد إن انقطع السكان المسلمون تمامًا من ذلك ولم يبق أي واحد منهم فيجوز بيع المسجد وتحويل أمواله لشراء أو توسيع أو ترميم مسجد آخر يؤمه المسلمون لأداء الصلاة جماعة وإن لم ينقطع المسلمون من تلك البلدة بل قالوا فلا يحل نقل المسجد ولا التفويت فيه، إذ هو يقوم بوظيفته وأما في الصورة الأولى فقد انقطع عن القيام بوظيفته وسيحتله قطعًا غير المسلمين إما للسكنى أو لغير ذلك.
كما أني لا أجد وجهًا لصرف المال في أي وجه من وجوه الخير غير بناء أو ترميم مسجد آخر، لأن الذين ساهموا في تأسيس المسجد الأول إنما ساهموا في إقامة بيت من بيوت الله فلا يحول ما لهم إلى غير الجهة التي قصدوها.(3/1110)
السؤال السابع
سفر المرأة بدون محرم
من مقاصد الشريعة حفظ الأنساب وهو أصل من الأصول التي اتفقت عليها الشرائع ومما يكمل حفظ هذا الأصل ما جاء من الأمر بغض البصر وستر مواطن الفتنة، ومنع المرأة من السفر إلا مع ذي محرم يغار عليها ويحفظها، ولذا رأى مالك أن امرأة الأب لا تسافر مع ربيبها وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، فروى مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((لا تسافر المرأة ثلاثًا إلا ومعها ذو محرم)) وفي رواية ((مسيرة ثلاث ليال)) وفي رواية ((فوق ثلاث)) وفي رواية ((يومين)) وفي رواية ((يوم)) وفي أخرى ((ليلة)) وفي أخرى ((لا يخلو رجل بامرأة إلا معها ذو محرم)) .
يقول القرطبي: ليس هذا اختلافًا في الحديث ولكن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكرر سؤاله عن السفر كل مرة بظرف فكان يجيب السائل حسب سؤاله.
ويقول الأبي: الفقه جمع أحاديث الباب وحق الناظر أن يستحضر جميعها وينظر أخصها وينيط به الحكم وأخصها باعتبار ترتيب الحكم عليه يوم لأنه إذا امتنع فيه امتنع فيما هوأكثر ثم أخص من يوم وصف السفر المذكور في جميعها فيمتنع في أقل ما يصدق عليه اسم سفر، ثم أخص من السفر الخلوة.
هذا في السفر غير الواجب وأما في السفر الواجب فرأى مالك والشافعي أن لها أن تخرج مع رفقة مأمونة، يشترط الشافعي وجدود امرأة تقية مع الرجال، واختلف تأويل قول مالك واستند مالك والشافعي إلى الآية {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} واستأنسا بأن المرأة إذا أسلمت هاجرت من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام ولو بدون محرم ولا رفقة.
وقال الباجي: إن هذه الأحكام هي في الانفراد والعدد القليل، وأما القوافل العظيمة فهي عندنا كالبلاد تسافر فيها دون فساد ودون محرم.
وقال آخرون: هذا التفصيل يعني من اشتراط المحرمية أو الرفقة المأمونة هو في الشابة: أما العجوز التي لا أرب لرجل فيها فلها أن تسافر وحدها.
(الأبي: 3/ 436، الزرقاني على الموطأ: 4/ 213) .(3/1111)
ما نقلته عن العلماء يدل على أن الاختلاف بينهم في غير الحج هو على ثلاثة أنحاء:
1- لا تسافر إلا مع محرم.
2- تسافر مع القوافل العظيمة المأمونة.
3- الشابة لا تسافر إلا مع محرم والعجوز تسافر وحدها.
والذي أطمئن إليه حسبما ينشر في الصحف من انتشار حوادث الاغتصاب التي بلغت حدًا مفزعًا وتسلط الاغتصاب حتى على العجائز أنه لا تسافر المرأة إلا مع محرم يصونها ويحميها وأن التساهل في سفرها بدون رعاية محرمية قد تسببت عنه فضائح معلنة ومناكير وإن سترت على الأسماع وحفظت من القالة وإلا أنه دنس عنه الشرف واختلط النسب وقد يكون وضع المرأة في ظرف محدود ملجئًا لها إلى السفر فهي جزئية يعود فيها السائل أو السائلة بعينه ليعرضها على الفقيه الذي ينظر في كل الملابسات ويحدد الحكم حسب ظهور الضرورة وحدها ولا يصح إعطاء فتوى عامة.(3/1112)
السؤال الثامن
لا يجوز للمرأة المسلمة أن تقيم مع نسوة غير مسلمات بعيدة عن بلد الإسلام.
السؤال التاسع
لا خلاف بين العلماء أن عورة المرأة مع غير المحرم من الرجال جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها لما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((يا أسماء، إن المرأة إذا بلغة المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه)) (مختصر المنذري6/ 58) .
إلا أن ما ورد في السؤال من أن بعض الجهات تمنعهن من ستر ما أمر الله بستره، فالسؤال مجمل ولا تتسنى الإجابة عنه إلا إذا بين المواطن التي تؤمر بكشفها وما تتعرض له إذا لم تكشف وما هو موقف الجماعة الإسلامية من ذلك.
السؤال العاشر
يقول في البحر الرائق شارحًا لقول الكنز: وحمل خمر لذمي بأجرة يعني جاز ذلك، وهذا عند الإمام وقال يكره لأنه عليه الصلاة والسلام لعن في الخمرعشرة وعد منها حاملها وله الإدارة على الحمل وهو ليس معصية وإنما المعصية بفعل فاعل مختار فصار كمن استأجره لعصر خمر العنب وقطفه، والحديث يحمل على الحمل المقرون بقصد المعصية، وعلى هذا الخلاف إذا آجر دابته ليحمل عليها الخمر أو نفسه ليرعى الخنازير فإنه يطلب له الأجر عنده وعندهما يكره، وفي التتارخانية وإن آجر المسلم نفسه ليعمل في الكنيسة فلا بأس به (البحر: 8/ 231) ، قال في النهاية: وقول الإمام قياس وقولهما استحسان (ابن عابدين: 5/ 251) .
وبناء على أن فرص العمل المحدودة بالنسبة للمسلمين في بلاد الكفر ولما كان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه يبني على اصل القياس القول بجواز ذلك فإنه يفتى به ويعتمد، ولا أثم على العامل في مطعم يقدم فيه الخمر لغير المسلمين أما إذا كان أحد حرفاء المطعم مسلمًا وطلب أن يقدم له مع طعامه خمرًا أو لحم خنزير، فإنه يحرم على النادل أن يقوم بذلك.
وإذا جهل دين الحريف يحمل على أنه غير مسلم لأنه الغالب ومع الجهل يحمل على الغالب في كل شيء.(3/1113)
السؤال الحادي عشر
حكم التجارة في الخمر أو صناعته
حكم تجارة الخمر أو صناعتها لا شك في حرمتها وأن صاحبها ملعون ولو كان ذلك لغير المسلمين وما اتخذه بعض المسلمين حرفة لهم في بلاد الكفر لا يحل ما حرمه الله وفي الحلال سعة، مع أن علمي أنه حتى في بلاد الكفر تكونت جمعيات تحارب الخمور والتزم أصحابها أن لا يقدموا في مطاعمهم خمرًا وتحصلوا من الدولة على إعفاءات تعوض لهم بعض الخسارة وهم حماية للأخلاق تنازلوا عما يوفره لهم بيع الخمر من ربح مع أن دينهم لا يمنعهم من تناولها وترويجها، فكيف يليق بالمسلم الذي حرم الله عليه ملابسة الخمر أن يصبح مروجًا لها، وإن جرت له منفعة مالية {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} .
السؤال الثاني عشر
الأدوية المحتوية على نسبة من الكحول ينظر فيها من ناحيتين:
1- الإسكار.
2- النجاسة
أما القسم الأول: فإن هذه الأدوية المحتوية على نسب من الكحول هي أدوية تفاعل فيها عنصر الكحول مع بقية العناصر من العقاقير وذهبت كل خصائص الكحول ولا يتخذ أي دواء للسكر.
ومن ناحية أخرى، فإن المسكر هو المطرب الذي يندفع به شاربه إلى ارتكاب الفواحش ويتكون منه نوع من الإقدام وارتفاع الحياة ما لا يجده عندما يكون صاحيا وهذه الأدوية لا يتكون منها ذلك بل على العكس هي توجب أضعاف التهيج والتشنجات.
وقد ذكر القرافي في الفرق الأربعين ما ملخصه: فالمسكر هو المغيب للعقل مع نشوة وسرور ويدلك على ضابط المسكر قول الشاعر:
ونشربها فتتركنا ملوكًا وأسدًا ما ينهنهنا اللقاء
فالمسكر يزيد في الشجاعة والمسرة وقوة النفس والميل إلى البطش والانتقال من الأعداء والمناسبة في العطاء أخلاق الكرماء.
ثم عقد تنبيهًا قال فيه ما ملخصه: تنفرد المسكرات عن المرقدات بثلاثة أحكام الحد والتنجس وتحريم اليسير، والمرقدات والمفسدات لا حد فيها ولا نجاسة فمن صلى بالبنج معه أو الأفيون لم تبطل صلاته إجماعًا، ويجوز تناول اليسير منها لا لم يصل إلى حد التأثير في العقل أو الحواس.(3/1114)
وتناول الأدوية المختلطة بالكحول هو من النوع المرقد لا المسكر المحدث للنشوة ولا المفسد المثير للأخلاط الكامنة على أن الحنفية يرون عدم الحرمة أصلًا ولو خلط الخل بالخمر وصار حامضًا يحل وأن غلب الخمر وإذا دخل فيه بعض الحموضية لا يصير خلًا عنده حتى تذهب تمام المرارة وعندها يصير خلالً (5/ 295) .
أما القسم الثاني: وهو نجاسة الدواء بحلول الكحول فيه، فالمسألة مختلف فيها يقول ابن عباس، (5/ 291) : عبارة صاحب الهداية في باب الأنجاس: وفي باقي الأشربة روايات التغليظ والتخفيف والطهارة، اهـ، وذهب إلى طهارتها ربيعة والليث والمزني وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة وقصروا الحرمة على شربها (الجامع لأحكام القرآن: 6/ 299) .
السؤال الثالث عشر
الخمائر الجلاتين على نوعين حيوانية ونباتية، فالنباتية جائزة بلا خلاف، وأما الجلاتين الحيواني فبعضه مستخرج من تحت جلد الخنزير وهذا لا خلاف في نجاسته وحرمة أكله ولا ضرورة تدعو للانتفاع به لإمكان الاستغناء عنه بالجلاتين النباتي أو الجلاتين الحيواني المستخرج من البقر.
السؤال الرابع عشر
يقول الله تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} فهذا هو القصد من بناء المسجد واختلف في تدريس العربية والشعر بها وكذلك اتخاذ القاضي مجلسه بها، يقول ابن عاصم:
وحيث لاق للقضاء يقعد وفي البلاد يستحب المسجد
وعللوا ذلك بأن المسجد لا يعترض على داخله فيصل إليه كل الناس.
وذكر الشيخ المهدي في خاتمة بحثه لجلوس القاضي في المسجد نقلًا عن ميارة، واعتبار حال الوقت يرجح ترك جلوسه اليوم بالمسجد، وإذا قال ابن عبد السلام: والأقرب من زماننا اليوم الكراهة وسلمه المصنف في التوضيح فكيف بزماننا هذا؟ ولذا قال أبو علي بعد أن صرح بأن المشهور ما عند المصنف الجلوس به ما نصه: هذا تحرير الكلام من جهة النقل وأما من جهة المعنى فما قاله ابن عبد السلام والمصنف من أن الكراهة باعتبار وقت لا إشكال في أصله ولا يتوقف فيه إلا من لم ينصف أو من لم يطلع على ما يقع في المساجد في هذه الأزمنة التي هي بعد أزمنة ابن عبد السلام بكثير، وأما الكلام في تحريم القضاء في المسجد في هذه الأوقات والذي أتقلده وإن كنت لست أهلًا لأن أقلد هو التحريم لأن الأحكام تتغير بحسب ما يعرض لها وإن وردت عن الشارح وقد أشار علي الأجهوري لبعض هذا، وهذا الذي ذكرنا تلقيناه من أشياخنا غير ما مرة (ج أكراس 15 ص 3 و 4) .(3/1115)
وقد ختم الترمذي البيوع بباب النهي عن البيع في المسجد وروى فيه حديثًا حسنًا عن أبي هريرة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم من يبيع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيها الضالة فقولوا: لا رد الله عليه)) علق عليه ابن العربي: اختلف فيه العلماء فمنهم من كرهه، ومنهم من رخص فيه، وقوله تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} يعني عما لا يجوز فأما المباح فيجوز منه اليسير، أما النكاح فيه فجائز، وقد عقد صلى الله عليه وسلم في الموهوبة نصًا وذلك لأنه قربة ولأنه أيضًا نادر، والله أعلم (6/ 62) .
وقد ذكر القرطبي في تفسير سورة النور من الجامع أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع صوت رجل في المسجد فقال: ما هذا الصوت؟ أتدري أين أنت؟ ثم قال: وقد كره بعض أصحابنا تعليم الصبيان في المساجد، ورأى أنه من باب البيع، وهذا إذا كان بأجرة فلو كان بغير أجرة لمنع أيضًا من وجه آخر، وهو أن الصبيان لا يتحرزون من الأقذار والوسخ.
وبهذا يتضح أن إقامة الحفلات في المساجد مع الرقص والإنشاد حرام ولا ضرورة لإقامة مثل ذلك إذ إن أمره صلى الله عليه وسلم بإعلان الزواج وإطعام بعض الناس لا يبلغ درجة الرقص والغناء.(3/1116)
السؤال الخامس عشر
أمر صلى الله عليه وسلم الوالد بأن يحسن تسمية ابنه، والأسماء الممنوعة هي الأسماء الدالة على شرك، فلا يجوز أن يسمي ابنه الله أو الواحد القهار، ولذا فإن اضطر الأب لتسمية ابنه من قائمة لا شرك فيها جائز، ولكن الذي شاهدته في الصين أن المولود يحمل اسمين اسمًا إداريًا على الطريقة الصينية، واسمًا عائليًا إسلاميًا تناديه به عائلته: محمد، علي، صالح، إلخ.
السؤال السادس عشر
جاء في السؤال حكم زواج الطالب أو الطالبة، والحكم لا يختص بالطالب أو الطالبة، إذ الزواج ينعقد إذا ما توفرت أركانه من الزوج والزوجة والصيغة والمهر والولي، والشهود على خلاف بين العلماء في بعض هذه الأركان.
ونية الزوج عند العقد أنه سيطلق زوجته بعد مدة إذا قدرها في نفسه ولم يبح لها ولم يقع عليها العقد، إن هذه النية غير مؤثرة كنية الزوج طلاق زوجته ولم يصرح ذلك فالعصمة قائمة.
ثم إن هذه النية كثيرًا ما ينفيها الزوج ذاته إذ يجد من زوجته ما يغريه بالحياة معها وكثيرًا ما ينجبان فيكون الولد عامل استقرار.
ونكاح المتعة المنهي عنه هو نكاح ينفسخ عند حلول الأجل من ذاته فهو من تاريخ العقد مبني على الاستمتاع المحدود الأجل فإذا جاء الأجل ذهب كل في سبيل حاله ولا يحتاج إلى طلاق.(3/1117)
السؤال الثامن عشر
عجبت من هذا السؤال، الحرج من عدم مد الأنثى يدها لمصافحة الأجانب عنها، الحرج من امتناع الرجل من مصافحة المرأة التي تمد يدها إليه كان مصدر عجبي تعميم كلمة الحرج في كل مناسبة وفي كل أمر فيه تراخٍ خلقي الحرج له مفهوم في الإسلام وهو كل ما أوقع المسلم في ضيق حقيقي لا وهمي يجد صعوبة زائدة على المعتاد ومشقة من تحمله، وهذا قد نفاه الله عن المسلمين فقال تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .
أما مجرد الصعوبة والمشقة فهو أمر مقارن للتشريع، والتكليف ما أطلق حقيقة إلا على ما فيه كلفة، ولذلك وقع البحث في إدخال المباح في الأحكام التكليفية.
واتقاء الشبهات أصل من أصول تكوين الفرد المسلم ((فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) .
لقد اتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الشبهة وهي مصافحة النساء فروى في الصحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما مست يده يد امرأة قط)) وروي ((أنه بايعهن بين يديه وأيديهن في ثوب)) .
وقالت أم عطية ((: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب فقام على الباب فسلم فرددن عليه السلام فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن: ألا تشركن بالله شيئًا. فقلن: نعم، فمد يده من خارج البيت ومددن أيدينا من داخل البيت)) . (القرطبي: 6550) .
إن هذه الأحاديث لا خلاف بينها وإن لم يقبل منها ابن العربي إلا ما ورد في الصحيح لأنها تؤكد على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تمس يده يد امرأة ولم يباشر ذلك.
وأن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يمس هو يد امرأة معروفة بعينها وإنما كانت النساء خلف الستر والمبايعة مختلطة تنفي الريبة.
وما ورد من إطلاق في بيعة الصفا يحمل على المقيد الوارد فيه أن المبايعة كانت بحائل أو من وراء ستر.
وبناء على ما قدمناه فإن الذي نطمئن إليه أن المرأة لا تصافح أجنبيًا غير محرم ولا زوج، وأن الرجل لا يصافح امرأة أجنبية عنه، وقد رأيت في البلاد الشيوعية أن المرأة المسلمة لا تمد يدها لأي رجل أجنبي وتشير بابتسامة.(3/1118)
السؤال التاسع عشر
الصلاة في الكنائس إذا كانت على طاهر أو الأرض فالصلاة جائزة لقوله صلى الله عليه وسلم ((جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا)) فعم إذ لا دليل على التخصيص، والتماثيل لا تبطل الصلاة وإنما أمرها أنها ربما تشغل عن الصلاة فليصرف بصره عنها كما لا يتعمد التوجه إليها بل ينحرف قليلًا.
السؤال العشرون
طعام أهل الكتاب أنواع:
1- الطعام الذي لم يدخل اللحم في تركيبه، وهذا جائز أكله وهو الوجه الأول من الأوجه التي حملت عليها الآية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} .
يقول ابن العربي: في ذكر الطعام قولان:
أحدهما: أنه كل مطعوم على ما يقتضيه مطلق اللفظ وظاهر الاشتقاق، كان حالهم ألا يؤكل طعامهم لقلة احتراسهم عن النجاسات ولكن الشرع سمح بذلك لأنهم أيضًا يتوقون القاذورات ولهم في دينهم مروءة يوطونها، ألا ترى أن المجوس الذين لا تؤكل ذبائحهم لا يؤكل طعامهم ويستقدزرون ويستنجسون في أوانيهم.
2- الطعام الذي دخل اللحم في التركيبة، وهذا أيضًا على نوعين:
(أ) ما ذبح أو نحر على الطريقة الشرعية وسمي الله عليه فهذا يؤكل.
(ب) اللحم الذي لم يجمع شروط الذبح الشرعي كما لم يسم الذابح عليه اسم الله، يقول ابن العربي: قال جماعة من العلماء: تؤكل ذبائحهم وإن ذكروا عليها اسم غير المسيح، وهي مسألة حسنة نذكر لكم منها قولًا بديعًا، وذلك أن الله سبحانه حرم ما لم يسم الله عليه من الذبائح وأذن في طعام أهل الكتاب وهم يقولون: إن الله هو المسيح ابن مريم وأنه ثالث ثلاثة، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، فإن لم يذكروا اسم الله سبحانه أُكِلَ طعامهم، وإن ذكروا فقد علم ربك ما ذكروا وأنه غير الإله وقد سمح فيه فلا ينبغي أن يخالف أمر الله ولا يقبل عليه، ولا تضرب الأمثال له.(3/1119)
وقد قلت لشيخنا المقدسي: إنهم يذكرون غير الله قال لي: هم من آبائهم، وقد جعلهم الله تبعًا لمن قبلهم مع علمه بحالهم، وكالقتل لا على الطريقة الشرعية وقد رأى ابن العربي جوازه أيضًا، يقول الحطاب: واختلف المذهب إذا كان يسل عنق الدجاجة فالمشهور لا تؤكل وأجاز ابن العربي أكلها ولو رأيناه يسل عنقها لأنه من طعامهم، قال ابن عبد السلام: وهو يعمد ويحث معه (ابن عرفة: 3/ 213) .
ومثله لابن ناجي في شرح الرسالة وقد انتصر لابن العربي اعتمادًا على قوله لأن الله لما أباح أكل طعامهم فهو عالم بطريقة إزهاق روح ما يأكلونه من الحيوان (ابن ناجي 1/ 337) .
السؤال الواحد والعشرون
حكم حضور الحفلات التي تختلط فيها النساء بالرجال وتقدم الخمور حرام وإن كان في ذلك اعتزال المسلمين، والواجب أن يكونوا بعيدين عن هذه التجمعات وقد بين الفقهاء حكم إجابة الدعوة وأنها تكون حرامًا إذا كان مما يقع فيها حرامًا.(3/1120)
السؤال الثاني والعشرون
أوقات الصلاة في بعض البلدان التي لا تتبين فيها الأوقات ذكر ابن عابدين أن في ذلك ثلاثة أنظار:
1- أن الصلاة التي فقد وقتها تسقط عن المكلف باعتبار أن السبب ما يلزم من أجل وجوده الوجود ومن أجل عدمه العدم بالنظر لذاته وأوقات الصلوات أسباب الوجود فإذا لم يدخل الوقت يسقط الوجوب.
2- أن يقدر وقت دخول الصلاة على قرب البلدان إليهم ويكون أداء فينوي الأداء.
3- أن يقدر الوقت حسب أقرب البلاد إليهم وينوي القضاء لفوات الوقت بطلوع الفجر، (انظر رد المحتار: 1/ 242- 243) .
وما يرجع عدم سقوط الصلاة الحديث الذي أخرجه مسلم عن النواس بن سمعان والذي جاء فيه: ((قلنا يا رسول الله، وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يومًا يوم كسنة ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم، قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا اقدروا له قدرة)) (إكمال الإكمال: 7/ 269- 270) .
كما أنه لا يستبعد بناء على الحديث الذي رواه مالك في موطئه، عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بين هذين وقت)) أن يكون وقت المدينة مرجعًا لمن تداخل عندهم الوقت، والله أعلم.(3/1121)
السؤال الثالث والعشرون
الذي أعتقده حسبما هو مفصل في البحث الذي قدمته لمجمع الفقه الإسلامي أن دخول الشهور هو من الوقت الذي يمكن فيه رؤية الهلال وهذا الوقت قد يستند إلى الرؤية البصرية مع ما يصحب الرؤية البصرية من وهم وخداع نظر وإمكان كذب المخبر، وقد يستند إمكان رؤية الهلال إلى الحساب، وقد بلغ من الدقة في عصرنا هذا مبلغ اليقين وإذا كانت الرؤية البصرية ظنية والرؤية الحسابية يقينية فإن من القواعد تقديم اليقين على الظن إلا أن الحساب يجب أن يدقق لا على وقت ميلاد الهلال وإنما على وقت إمكان رؤيته.
السؤال الرابع والعشرون
حكم عمل المسلم في الدوائر الحكومية في البلدان المسلمة قد اختلفت فيه أقوال العلماء: فذهب ابن رشد إلى أن إجارة المسلم نفسه من الكافر على أربعة أنواع:
جائزة: أن يعمل المسلم عملًا في محله لا في محل الكافر كالصانع الذي يعمل للناس في مصنعه.
ومكروهة: أن يكون العمل كله للمؤجر، ولكنه ليس تحت يده كالمقارض والمساقي.
ومحظور: ما كان تحت يد الكافر كأجير في بيت وإجارة المرأة نفسها المرضع ولده.
والحرام: أن يؤاجر منه نفسه فما لا يحل من عمل الخمر ورعي الخنازير وهذا يفسخ فإن فات تصدق بالأجرة على المساكين (الحطاب: 3/ 419) .
وفي المهذب أن من الشافعية من قال: لو استأجر الكافر مسلمًا ففيه قولان: ومنهم من قال: يصح قولًا واحدا (التحفة بحاشية الشرواني: 6/ 122) .
وبهذا فإن عمل المسلم في الحقل الإداري غير الإسلامي قد تبين حكمه في أعلاه ونزيد هنا بيانًا لبعض الخصوصيات: أن العمل في الدوائر الاستراتيجية أو الذرية إن كان الغرض من ذلك مجرد التحصيل على القوت بواسطة الشغل فإن العمل في هذه الدوائر لا يجوز لأن فيه عونا على تخريب العالم وتهديد أمنه، وإن كان الغرض منه اكتساب الخبرات ليستفيد منها العالم الإسلامي في يوم من الأيام فهي جائزة بل مأجور صاحبها.(3/1122)
أجوبة
فضيلة الشيخ محيي الدين قادي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على أفضاله وأهل الصلاة والسلام سيدنا محمد وصحبه وآله.
السؤال الثالث
(1)
ما حكم زواج المسلمة بغير المسلم، خاصة إذا طمعت في إسلامه بعد الزواج حيث تدعي مسلمات كثيرات أنه لا يتوفر لهن الأكفاء من المسلمين في غالب الأحيان إذ إنهن مهددات بالانحراف، أو يعشن في وضع شديد الحرج؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد بأن زواج المسلمة بغير المسلم محظور لا يجوز بحال من الأحوال عند فقهاء الإسلام.
جاء في المذهب الحنفي أن زواج المسلمة بغير المسلم لا يجوز لقوله تعالى {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} لأن في إنكاح المؤمنة الكافر خوف وقوع في الكفر؛ لأن الزوج يدعوها إلى دينه، والنساء في العادات يتبعن الرجال فيما يؤثرون من الأفعال ويقلدنهم في الدين.
وقد أشار القرآن إلى ذلك في آخر الآية الكريمة السالفة الذكر بقوله تعالى {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} لأنهن يدعون المؤمنات إلى الكفر، والدعاء إلى الكفر دعاء إلى النار، لأن الكفر يوجب النار فكان نكاح الكافر المسلمة سببًا داعيًا إلى الحرام فكان حرامًا.
والنص وإن ورد في المشركين لكن العلة وهي الدعاء إلى النار تعم الكفرة أجمعين، فيعم الحكم بعموم العلة، فلا يجوز إنكاح المسلمة الكتابي كما لا يجوز إنكاحها الوثني والمجوسي، لأن الشرع قطع ولاية الكافرين عن المؤمنين بقوله تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} فلو جاز إنكاح الكافر المؤمنة لثبت له عليها سبيل وهذا لا يجوز (2)
وجاء في المذهب المالكي أن زواج المسلمة بغير المسلم لا يجوز البتة وقد أخذ ابن القاسم الحكم بعدم زواج المسلمة من غير المسلم من قول مالك في ذمي اشترى أمة مسلمة ووطئها: أن يقدم إلى أهل الذمة في ذلك أشد التقدم ويعاقبوا على ذلك ويضربوا بعد التقدم (3)
فإذا كان هذا في وطء الكافر الأمة المسلمة فمن باب أولى نكاحه الحرة المسلمة عند مالك.
__________
(1) اعتذر كاتب البحث عن الجواب على السؤالين الأول والثاني
(2) الكاساني، البدائع: 2/ 271 – 272 بتصرف
(3) سحنون، المدونة: 2/ 297(3/1123)
وقد أورد سحنون فيها عدة آثار مع الصحابة والتابعين تمنع زواج المسلمة بغير المسلم بكل وضوح، وها هي ذي تلكم الآثار:
1- روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه كتب يقول: إن المسلم ينكح النصرانية، ولا ينكح النصراني المسلمة.
2- وروي عن الإمام علي كرم الله وجهه أنه قال: لا ينكح اليهودي المسلمة ولا النصراني المسلمة.
3- وروي عن ربيعة شيخ مالك بن أنس وأحد فقهاء التابعين أنه قال: لا يجوز للنصراني أن ينكح الحرة المسلمة.
وعنه أيضًا أنه قال في نصراني أنكحه قوم، وهو يخبرهم أنه مسلم فلما خشي أن يطلع عليه أسلم وقد بنى بها. قال: يفرق بينهما وإن رضي أهل المرأة؛ لأن نكاحه كان لا يحل، وكان لها الصداق ثم إن رجع إلى الكفر بعد إسلامه ضربت عنقه.
4- روي عن مخرمة بن بكير عن أبيه قال: سمعت عبد الله بن أبي سلمة يسأل: هل يصح للمسلمة أن تنكح النصراني؟ قال: لا.
قال بكيري: وقال ذلك قسيط والقاسم بن محمد،قال: ولا يهودي، وسليمان بن يسار وأبو سلمة بن عبد الرحمن، قالوا: فإن فعل ذلك فرق بينهما السلطان (1)
وهكذا في المذهبين: الشافعي والحنبلي قال في المغني: والإجماع منعقد على تحريم تزوج المسلمات للكفار (2)
__________
(1) المدونة: 296- 298 بتصرف
(2) ابن قدامة: المغني: 6/ 617(3/1124)
والإجماع كما قال سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور –رحمه الله- إما مستند إلى دليل تلقاء الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر بينهم، وإما مستند إلى تضافر الأدلة الشرعية كقوله تعالى {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فعلق النهي عن الكفر وهو أعلم من الشرك وكقوله تعالى {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} في الآية الآنفة الذكر، والإشارة إلى المشركين والمشركات إلا لا وجه لتخصيصه بالمشركين خاصة لصلوحيته للعود إلى الجميع، وهي تعليل للنهي عن نكاح المشركات، وإنكاح المشركين، والدعاء إلى النار معناه الدعاء إلى أسباب الدخول إلى النار لأن ما هم عليه يجر إلى النار من غير علم.
ولما كانت رابطة الزواج رابطة اتصال ومعاشرة نهي عن وقوعها ممن يدعون إلى النار خشية أن تؤثر تلك الدعوة في النفس فإن بين الزوجين مودة وإلفا يبعثان على إرضاء أشدهما للآخر، ولما كانت هذه الدعوة من المشركين شديدة لأنهم لا يوحدون الله، ولا يؤمنون بالرسل كان البون بينهم وبين المسلمين في الدين بعيدًا جدًا، لا يجمعهم شيء يتفقون عليه فلم يبح الله مخالطتهم بالتزوج من كلا الجانبين.
أما أهل الكتاب فيجمع بينهم وبين المسلمين اعتقاد وجود الله، وانفراده بالخلق والإيمان بالأنبياء، ويفرق بيننا وبين النصارى الاعتقاد ببنوة عيسى من طرفهم وعدم اعتقادنا ذلك، وإيماننا برسالة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وعدم إيمانهم بذلك، ويفرق بيننا وبين اليهود عدم إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وعدم تصديقهم بنبوة عيسى عليه السلام فأباح الله للمسلم أن يتزوج الكتابية، ولم يبح تزويج المسلمة من الكتابي اعتدادًا بقوة تأثير الرجل على امرأته فالمسلم يؤمن بأنبياء الكتابية، وبصحة دينها قبل النسخ فيوشك أن يكون ذلك جالبًا إياه إلى الإسلام لأنها أضعف منه جانبًا.
وأما الكافر فهو لا يؤمن بدين المسلمة ولا برسولها فيوشك أن يجرها إلى دينه لذلك السبب، وهذا كان يجيب به شيخنا الأستاذ سالم أبو حاجب عن وجه إباحة تزوج المسلم الكتابية ومنع تزوج الكتابي المسلمة (1)
__________
(1) سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير: 2/ 342 – 343 بتصرف(3/1125)
وما سقناه من نصوص عن فقهاء المذاهب الإسلامية يتضح منع زواج المسلمة بغير المسلم دل على ذلك:
1- ظواهر القرآن الكريم كقوله تعالى {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية، وكقوله جل جلاله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} .
2- ظواهر من الآثار عن الصحابة والتابعين – رضوان الله عليهم أجمعين.
3- القياس كما جاء فيما نقلناه عن سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور – رحمه الله- ولعله يعني قياس الكتابي على المشرك في حرمة تزوج المسلمة به.
4- إجماع فقهاء الإسلام من لدن انتقاله صلوات الله وسلامه عليه إلى الرفيق الأعلى إلى يوم الناس هذا، وهو أظهر الأدلة وأقواها، إما الاستناد إلى تضافر الأدلة الشرعية، وإما إلى دليل تلقاه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر بينهم إذ الاجتماع لا يحصل إلا بذلك.
5- ما يمكن أن نسميه بالدليل العقلي، والذي نقله سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور عن شيخه الأستاذ سالم أبي حاجب رحمهما الله.
وانطلاقًا من كل ذلك نجيب بعدم حلية زواج المسلمة بغير المسلم ولو رجت إسلامه بعد الزواج.
وأما دعوى مسلمات كثيرات عدم توفر الأكفاء من المسلمين في غالب الأحيان وتوافر الأكفاء في غيرهم فمردودة إذ لا كفاءة بحال من الأحوال بين مسلمة وكافر ولو أعجبها لما سقناه من الأدلة السابقة، ولأن الكفاءة قائمة بالقرآن والسنة بين المسلمين والمسلمات، وليعلم هؤلاء النسبة أن مسلمًا ذا دين خير من كافر ولو أعجبهن قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} والأخوة تقتضي المساواة بين الإخوة ما لم يقم مانع شرعي يمنعها، وقال تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وقال تعالى {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} .(3/1126)
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، وإلا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) ، قالوا: وإن كان فيه؟ (أي فقر وقلة مثلًا) فقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاءكم من ترضون)) الحديث ثلاث مرات (1) وقال صلى الله عليه وسلم ((إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي إن أوليائي المتقون حيث كانوا وأين كانوا)) (2) وزوج النبي زينب بنت جحش من زيد بن حارثة مولاه (3) وقد قال تعالى {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} إذن فالكافر في الدين بهذا المفهوم أعني الطاعة والإدعاء لأوامر الله، واجتناب لنواهيه سرًا وعلانية مجمع عليها بين فقهاء الإسلام أيضًا.
وقول هؤلاء النسوة: إنهن إن لم يتزوجن بأكفاء غير مسلمين يتعرضن إلى الانحراف أو يعشن في وضع حرج هو من نزغ الشيطان ومن رواسب الجاهلية، فعليهن أن يبرأن إلى الله من خواطر ولَّدَهَا الهوى ورباها الكبرياء وأن يدرسنَّ بإمعان سيرة النساء الصحابيات، وأن يتزودن لحسن الأسوة بما ثبت عن الله ورسوله في النسوة حتى يكنَّ على بصيرة من الأمر والله الموفق للجميع.
__________
(1) ابن تيمية الجد، منتقى الأخبار مع نيل الأوطار، كتاب النكاح، باب ما جاء في الكفاءة في النكاح، 6/ 261
(2) ابن قيم الجوزية: زاد المعاد في هدي خير العباد، حكمه صلى الله عليه وسلم في الكفاءة في النكاح: 4/ 22
(3) زاد المعاد(3/1127)
السؤال الرابع
ما حكم استمرار الزوجية والمعاشرة بين زوجة دخلت الإسلام وبقي زوجها على الكفر، ولها منه أولاد تخشى عليهم الضياع والانحراف، ولها طمع في أن يهتدي زوجها إلى الإسلام لو استمرت العلاقة الزوجية بينها وبينه؟
وما الحكم فيما إذا لم يكن هناك طمع في إسلامه، ولكنه يحسن معاشرتها وتخشى لو تركته ألا تعثر على زوج مسلم؟
وفي الجواب على هذا السؤال، والله الموفق للصواب، أقول: إذا أسلمت الزوجة، وبقي زوجها على الكفر فلا يخلو الحال من أمرين:
1- أن تسلم قبل البناء فلم يقر على زوجيتها لبينونتها بمجرد إسلامها قال خليل بن إسحاق المالكي: "وقبل البناء بانت مكانها" (1)
2- وأما إن أسلمت الزوجة بعد البناء: فلا فرق بين أن تكون مجوسية أو كتابية (أي يهودية أو نصرانية) فقد قال إمام دار الهجرة رضي الله عنه "الزوج أملك بالمرأة إذا أسلم وهي في عدتها، فإن انقضت عدتها فلا سبيل له عليها" (2) .
ولا تقبل دعواه الإسلام قبل انقضاء العدة إلا ببينة (3) .
وإن بانت منه بانقضاء عدتها فهل بينونتها طلاق أو فسخ؟
سئل مالك رضي الله عنه عن ذلك فقال: "لا يكون إسلام أحد الزوجين طلاقًا إنما هو فسخ بلا طلاق" (4)
__________
(1) المختصر: 113
(2) سحنون، المدونة: 2/ 298
(3) النفراوي، الفواكه الدواني: 2/ 80: 3/ 156
(4) سحنون، المدونة: 2/ 298(3/1128)
والأدلة على ما ذكر معرفة في هدي خير العباد صلى الله عليه وسلم مستفيضة منها: ما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب أنه بلغه، أن نساء كن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرضهن وهن غير مهاجرات وأزواجهن حين أسلمن كفار، منهن بنت الوليد بن المغيرة، وكانت تحت صفوان بن أمية فأسلمت يوم الفتح وهرب زوجها صفوان بن أمية من الإسلام، إلى أن قال: فشهد حنينًا والطائف وهو كافر وامرأته مسلمة، ولم يفرق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بينه وبين امرأته حتى أسلم صفوان واستقرت عنه امرأته بذلك النكاح (1) والمدة التي كانت بين إسلام صفوان بن أمية وبين إسلام زوجته عاتكة نحوا من شهرين وروى مالك رحمه الله في الموطأ عن ابن شهاب أنه قال: "كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحوا من شهرين، قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله ورسوله وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجرًا قبل أن تنقضي عدتها" (2)
والمراد بعدم التفرقة بين صفوان بن أمية وزوجته أن نكاحهما لم يفسخ من لدنه صلى الله عليه وسلم وأما التفرقة بأن لا يجامعها فهي متيقنة وأن يذكر الراوي كما قال الباجي (3)
والمدة قدرت في هذا الحديث بنحو الشهرين وجاء في المدونة أن مالكًا قال: قال ابن شهاب: كان بين إسلام امرأة صفوان وبين إسلام صفوان نحوا من شهر (4)
ومنها ما رواه مالك أيضًا عن ابن شهاب: "أن أم حكيم بنت الحراث بن هشام وكانت تحت عكرمة بن أبي جهل فأسلمت يوم الفتح، وهرب زوجها عكرمة بن أبي جهل من الإسلام حتى قدم اليمن، فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن، فدعته إلى الإسلام فأسلم، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحًا، وما عليه رداء حتى بايعه فثبتا على نكاحهما ذلك" (5) والحديثان مرسلان.
__________
(1) كتاب النكاح: نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله
(2) كتاب النكاح: نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله: 3/ 157 مع شرح الزرقاني
(3) المنتقى: 3/ 343
(4) المنتقى: 2/ 299
(5) الموطأ، كتاب النكاح، نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله: 3/ 157 - 158(3/1129)
قال الباجي: "ومراسيل ابن شهاب لا يحتج بها غير أن هاتين القصتين: قصة صفوان بن أمية، وقصة عكرمة قد شهرتا وتواتر خبرهما فكان ذلك يقوم لهما مقام الإسناد المتصل" (1)
ومن الأدلة أيضًا ما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينت على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول لم يحدث شيئًا" رواه أحمد وأبو داود وفي لفظ: رد ابنته زينب على أبي العاص زوجها بنكاحها الأول بعد سنتين ولم يحدث صداقًا" وكان إسلامها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول، ولم يحدث شهادة ولا صداقًا" رواه أحمد وأبو داود، وكذلك الترمذي وقال فيه: ((لم يحدث نكاحًا)) وقال: هذا حديث ليس بإسناده بأس (2)
وقد روي بإسناد ضعيف عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده، ((أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رد ابنته على أبي العاص بمهر جديد ونكاح جديد)) قال الترمذي في إسناده قال: وقال أحمد: هذا حديث ضعيف، والحديث الصحيح الذي روي أنه أقرهما على النكاح الأول، وقال الدارقطني: هذا حديث لا يثبت والصواب حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ردها بالنكاح الأول (3)
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما يبدو معارضًا لما قلناه سالفًا من أنهما يقران على الزواج الأول ما لم تنقض عدة الزوجة، فإذا انقضت عدتها حصلت الفرقة بين الزوجين، وقد حوصل الباجي إجابات العلماء عن هذا الحديث فقال: ولو ثبت ما روي عن عكرمة عن ابن عباس أنه ردها عليه بالنكاح الأول لاحتمل أن يريد به على مثل الصداق الأول، وقال الزهري: كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض، وقال قتادة: كان ذلك قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهود بين المشركين والمسلمين، ويحتمل أنها لم تكن استكملت ثلاث حيض، ويحتمل أن يكون حكمها منسوخًا، وثبت النسخ بالإجماع على أنها إذا انقضت عدتها وقد بانت منه.. (4)
__________
(1) المنتقى: 3/ 343
(2) ابن تيمية الجد، منتقى الأخبار مع نيل الأوطار، كتاب النكاح، باب الزوجين الكافرين يسلم أحدهما قبل الآخر: 6/ 304
(3) ابن تيمية الجد، منتقى الأخبار، كتاب النكاح، باب الزوجين الكافرين يسلم أحدهما قبل الآخر: 6/ 304 - 305
(4) المنتقى: 3/ 345(3/1130)
وأما الحديث المروي بإسناد ضعيف عن عمرو بن شعيب عن جده فحسبنا ما قبل فيه وما نقلناه عن المذهب المالكي: فمن أسلمت بعد البناء بها هو ما ذهب جمهور الفقهاء والأمصار خلافًا لأهل الكوفة في قولهم: هذا حكم الحربيين دون الوثنين وأهل الذمة فإن أسلمت منهم المرأة قبل عرض عليه (أي الإسلام) فإن أسلم في الوقت فهو أحق بها، وإن لم يسلم عجل التفريق بينهما.
والدليل على ما نقوله: أن هذا كفر يمنع استدامة النكاح فكان حكمه موقوفًا على إسلام ككفر الكتابيين الحربيين" (1) وخلافًا للنخعي الذي شذ عن جمهور الفقهاء فلم يتبعه أحد زعم أنها ترد إلى زوجها وإن طالت المدة لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((رد زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بعد ست سنين بالنكاح الأول ولم يحدث نكاحًا)) أي يكون الزوج أملك لحق الزوجية وإن طالت المدة (2)
وقد ذهب ابن القيم مذهبًا آخر فقال ما ملخصه: إن اعتبار العدة مجال لإقرار الزوجية بين الزوجة التي أسلمت وتأخر إسلام زوجها عن إسلامها لا نعرفه في شيء من الأحاديث ولا نعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل امرأة أسلمت وتأخر إسلام زوجها عنها هل انقضت عدتك أم لا؟ ولو كان مجرد الإسلام فرقة لكان فرقة بائنة لا رجعة فيها فلا يكون للعدة أثر في بقاء النكاح الأول، وإنما أثرها في صنع نكاحا لغير زوجها الأول فلو كان الإسلام قد نجز الفرقة بينهما لم يكن أحق بها في العدة، ولكن الذي دل عليه حكمه صلى الله عليه وآله وسلم أن النكاح موقوف، فإن أسلم قبل انقضاء عدتها فهي زوجته، وإن انتهت العدة فهي بالخيار إن شاءت تزوجت غيره، وإن شاءت انتظرته، فإن أسلم لم يحتج إلى إحداث زواج جديد، وحسبه زواجه الأول ولا نعلم أحدًا ممن أسلم بعد إسلام زوجته جدد إسلامه البتة.
__________
(1) المنتقى: بتصرف
(2) الصنعاني، سبل السلام: 3/ 133(3/1131)
وبعد عرض ابن القيم وجهة نظره أعرب عن كونها منبثقة عن اختيار الخلال وأبي بكر صاحب الخلال وابن المنذر وابن حزم، وكونها مذهب الحسن وطاوس وعكرمة وقتادة والحكم (1)
ووصف الشوكاني وجهة نظر ابن القيم هذه معقبًا عليها بقوله: وهذا كلام في غاية الحسن والمتانة (2) ووصفها الصنعاني بقوله: هي الأقرب في المسالة (3) وأنا أقول: إنني منذ اهتممت بهذه المسألة في السنة النبوية نحيت هذا المنحى لموافقته لنصوص الحديث الشريف ومواردها، ولكن قلت لا بد من نص من إمام رواية ودراية فوجدت ضالتي في زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم، وناهيك به من إمام.
وبعد عرضي لمناحي الاجتهاد في هذه القضية، وتعلقي بالمنحنى الاجتهادي القيم لابن القيم أفتي السائلين بأن الزوجة التي أسلمت وطمعت في إسلام زوجها الذي ظل كافرًا بعدها بأن لا تمكنه من الوطء ولا تساكنه في خلوة سدا لذرائع الفساد، وهي زوجته ما دامت في العدة، وتدعوه إلى الإسلام، وتكون معه كأم حكيم مع عكرمة كلما دعاها إلى الفراش وهما باليمن تأبى وتقول أنت كافر وأنا مسلمة فقال: إن أمرًا منعك مني لأمر كبير، كما روى ذلك ابن مردويه والدارقطني والحاكم (4) وإن لم يسلم حتى خرجت من العدة فإن شاءت تزوجت، وإن أحبت انتظرته بشرط عدم ملامسته لها المجمع على تحريمه.
وأما ما جاء في السؤال من قول السائل: ما الحكم إذا لم تطمع في إسلامه ولكنه يحسن معاشرتها فمردود بأنه لا يتصور إسلاميًا حسن معاشرة مع زوج كافر يشرب الخمر، ويأكل الخنزير ويكفر برسولها وبكتابها ويلد أولادًا فيتبعونه في دينه، وتطعمه الحرام وتسقيه، ويقوم عليها والشرع قد قطع ولاية الكافرين على المؤمنين فقال تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} .
وأما إدعاء السائل من خوفها على ضياع الأولاد وانحرافهم فمردود أيضًا لأن مالكًا رضي الله عنه سئل عن زوجين نصرانيين أسلمت الزوجة ولها أولاد منه صغار لمن تكون الأولاد؟ وعلى دين من؟ فأجاب: هل على دين الأب.. وكذلك النصرانية إذا كانت حاملًا فأسلمت، ثم ولدت بعد ما أسلمت أن الولد للأب وهم على دين الأب (5)
فأي انحراف يزعمه هذا السائل بعد الكفر؟ بهذا أفتي وأسال الله التوفيق للصواب والله أعلم.
__________
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد: 2/ 14 – 15- 16 باختصار وتصرف.
(2) نيل الأوطار: 6/ 370
(3) سبل السلام: 3/ 134 بتصرف
(4) الزرقاني: شرحه على الموطأ: 3/ 185
(5) سحنون، المدونة: 2/ 307 - 308(3/1132)
السؤال الخامس
ما حكم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين حيث لا يسمح بالدفن خارج المقابر المعدة لذلك، ولا توجد مقابر خاصة بالمسلمين في معظم الولايات الأمريكية، والأقطار الأوربية؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد والله الملهم للصواب فأقول: إن الدفن للمسلم في مقابر الكفار في الظروف العادية، ومع الاختيار محرم، وإن حصل وجب التداول ما لم يخش التغير، جاء في العتبية أن ابن القاسم سئل عن امرأة نصرانية قال لها ختنها: أسلمي يا فلانة. فقالت: نعم، وأمرت بغسل ثيابها، وقالت كيف أقول؟ قال: قلت لها: قولي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته، فقالت كل هذا، ثم ماتت، فدفنت في قبور النصارى.
وقال ابن القاسم: اذهب فانبشها، ثم غسلوها، وصلوا عليها، إلا أن تكون قد تغيرت (1)
قال ابن رشد في شرحه عليها المسمى بـ "البيان والتحصيل" وهذا كما قال لأن الكفار يعذبون في قبورهم وهي تتأذى من أجل ذلك لمجاورتهم، فواجب أن تنبش وتحول إلى مقابر المسلمين (2) وإلى هذه المسألة أشار خليل بن إسحاق في مختصره وقال عاطفًا على ما يتدارك بعد الدفن بالنبش، "ودفن من أسلم بمقبرة الكفار، إن لم يخف التغير" (3) وقد صرح سيدي عبد الباقي الزرقاني في شرحه عليه بأن التدارك هنا واجب ما لم يخش التغير (4)
وذكر الشيخ سليمان الجمل من فقهاء الشافعية أنه إذا مات مسلم بالبحر في سفينة والساحل بعيد، أو به مانع فيجب غسله، وتكفينه، والصلاة عليه، ثم يجعل ندبًا بين لوحين لئلا ينتفخ ثم يلقى لينبذه البحر إلى الساحل وإن كان أهله كفارًا، لاحتمال أن يجده مسلم فيدفنه، ويجوز أن يثقل لينزل إلى القرار وإن كان أهل البر مسلمين.
__________
(1) البيان والتحصيل: 2/ 255 - 256
(2) البيان والتحصيل: 2/ 255 – 256
(3) المختصر: 47
(4) شرح المختصر: 2/ 100(3/1133)
وذلك لأن القصد من دفن الميت في شرعنا العزيز صونه عن انتهاك جسمه، وانتشار ريحه، المستلزم للتأذي بها، واستقذار جيفته، ومنع أذاها عمن عند القبر بحيث لا يتأذى تأذيًا لا يحتمل عادة (1) كما ندبت إلى دفنه في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون والشهداء لتناله بركتهم، وكذلك في البقاع الشريفة، وقد روى البخاري ومسلم بإسنادهما أن موسى عليه السلام لما حضره الموت سأل الله تعالى أن يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية بحجر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر)) (2) ونهت نهي تحريم عن دفنه في مقابر الكفار لتأذيه بمجاورتهم، قال الخرقي من فقهاء الحنابلة: "وإن ماتت نصرانية، وهي حاملة من مسلم دفنت بين مقبرة المسلمين ومقبرة النصارى (3) قال شارحه ابن قدامة: اختار هذا أحمد لأنها كافرة لا تدفن في مقبرة المسلمين فيتأذوا بعذابها ولا في مقبرة الكفار لأن ولدها مسلم فيتأذى بعذابهم، وتدفن منفردة (4)
__________
(1) حاشيته على شرح شيخ الإسلام أبي زكريا الأنصاري على منهجه: 2/ 195
(2) ابن قدامة: المغني: 2/ 509
(3) متن الخرقي مع شرح ابن قدامة عليه: 2/ 563
(4) المغني: 2/ 563(3/1134)
إلى هذا الحد شدد فقهاء الإسلام النكير على دفن المسلم في مقابر الكفار، فإن توفي ببلاد الكفر وحيث لا توجد مقبرة خاصة بالمسلمين فكيف الصنيع في ميزان الشرع؟ إن أمكن نقله إلى بلدة بها مقبرة خاصة بالمسلمين، لا يخشى تغير الميت في أثنائه، وانتهاك حرمته، وثقل مؤنته، ونقل وجوبًا، وإن خيف تغيره أثناء النقل أو ثقلت مؤنة النقل بالوسائل السريعة لا ينقل، أما الأول فلانتهاك الحرمة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((كسر عظم الميت ككسره حيًّا)) قال السيوطي في بيان سبب هذا الحديث وسياقه ما يلي: عن جابر: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفير القبر وجلسنا معه، فأخرج الحفار عظمًا ساقًا أو عضدًا فذهب ليكسرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تكسرها فإن كسرك إياه ميتًا ككسرك إياه حيًا، ولكن درسه في جانب القبر)) (1) فالحديث دليل صريح على أن حرمة الإنسان ميتًا كحرمته حيًا.
وأما الثاني فلثقل المؤنة: فالنقل بالطائرة يستلزم أموالًا باهظة لا يستطيعها الكثير ويستطيعها النزر اليسر، والحي من المسلمين أولى بها، ولذلك أنكرت عائشة رضي الله عنها لما وقفت على قبر عبد الرحمن أخيها، وقد نقل من الحبشة إلى مكة حيث دفن والمسافة بعيدة، فقالت: والله لو حضرتك ما دُفِنْتَ إلا حيث مِتَّ، قال صاحب المغني: لأن ذلك أخف لمؤنته، وأسلم له من التغيير (2)
وترتيبًا على ما ذكر أفتي إخواني في بلاد الغربة لأن يدفنوا موتاهم متى بعدت المسافة عن مقابر إسلامية بمقابر الكفار، لأن ذلك أخف مؤنة على الأحياء وأبقى لحرمة الأموات وأسلم لهم من التغيير، والله أعلم.
__________
(1) دار الإفتاء المصرية، الفتاوى الإسلامية: 4/ 1332
(2) المغني: 2/ 510(3/1135)
السؤال السادس
ما حكم بيع المسجد إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها، وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه، فكثيرًا ما يشتري المسلمون منزلًا ويحولونه مسجدًا فإذا انتقلت غالبية المسلمين من المنطقة لظروف العمل هجر المسجد أو أهمل، وقد يستولي عليه آخرون، ومن الممكن بيعه واستبداله بمسجد مؤسس في مكان فيه مسلمون فما حكم هذا البيع أو الاستبدال؟ إذا لم تتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر فما أقرب الوجوه التي يجوز صرف ثمن المسجد فيها؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد –والله الموفق للصواب- سلف المالكية لا يرون بيع الأحباس الأصول والمسجد منها، قال خليل بن إسحاق في مختصره "لا عقار، وإن خرب، ونقض ولو بغير خرب" (1) عاطفا على ما لا يجوز.
وأدلتهم على ذلك ما يلي:
1- قوله عليه الصلاة والسلام حين قال له عمر: ((أصبحت أرضًا بخيبر لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه فما تأمرني؟ إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث)) (2) الحديث رواه الجماعة.
2- عمل السلف الصالح يدل على عدم جواز بيع الأحباس الأصول وإن خربت، جاء فيها: لو كان البيع يجوز فيها (أي الأصول) لما أغفله من مضي ولكن بقاؤه خربًا دليل على أن بيعه غير مستقيم، وبحسبك حجة قفي أمر قد كان متقادمًا بأن تأخذ منه ما جرى منه، فالأحباس قديمة ولم تزل وجل ما يوجد منها بالذي به، لم يزل يجري عليه فهو دليلها، فبقاء هذه خرابًا دليل على أن البيع فيها غير مستقيم، لأنه لو استقام لما أخطأ من مضى من صدر هذه الأمة، وما جهله من لم يعمل به حتى تركت خرابًا" (3)
3- إن ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع تعطلها كالمعتق.
__________
(1) المختصر: 249
(2) ابن تيمية الجد، منتفى الأخبار، كتاب الوقف: 6/ 127
(3) سحنون، المدونة: 6/ 100(3/1136)
4- سد ذريعة التطرق إلى بيع الأوقاف بدعوى الخراب.
ولا يمكن أن يتأول موقف السلف بحال، جاء عن مالك بكتاب ابن المواز: "وما خرب من الحبس فأراد صاحبه بيعه، والاتخاذ بثمنه ما هو أفضل منه، أو انتقل أهل تلك الناحية، وبطل الموضع فأراد صاحبه، أو من هو بيده بحبس، أو بحوزه أو ولاية بيعه، والاشتراء بثمنه في موضع ظاهر عامر يكون حبسًا لا يجوز له ذلك في الرباع بحال وإن ذهب به الزمان أو العدو (1)
بقي أن سلف المالكية استثنوا من الحكم السابق أرضًا بجوار المسجد يعني محبسة احتيج إليها لتوسعة المسجد أو الطريق، قال ابن جزي: العقار لا يجوز بيعه إلا أن يكون مسجدًا تحيط به دور محبسة، فلا بأس أن يشتري منها ليوسع به، والطريق كالمسجد في ذلك، وقيل: إن ذلك في مساجد الأمصار لا في مساجد القبائل (2)
ورأى المتأخرون من المالكية جواز بيع الأحباس الأصول إذا خربت وتعطلت منفعتها، وتعويضًا بأصل آخر وجعله حبسًا عوضًا عنها، وكثرت فتاواهم بذلك فقد أفتى أبو عبد الله محمد الحفار ببيع فدان محبس على مصرف من مصاريف البر لا منفعة فيه: أن يباع ويشترى بثمنه فدان آخر يحبس وتصرف غلته في المصرف الذي حبس عليه الأول على ما أفتى به كثير من العلماء في هذا النحو، وأفتى ابن رشد في أرض محبسة عدمت منفعتها بسبب جيران: أن تباع ويعوض بثمنها ما فيه منفعة على ما قاله جماعة من العلماء في الربع المحبس إذا خرب، ويكون ذلك بحكم القاضي بعد أن يثبت أن المنفعة فيه، قاله محمد الحفار.
__________
(1) يحيى الخطاب، رسالة في بيع الوقف إذا خرب: 8
(2) القوانين الفقهية: 356(3/1137)
وبمثل فتوى أبي يعبد الله الحفار أفتى الأستاذ سعيد بن لب (1)
وبمثل فتواهما أفتى ابن هلال في سدس جنان محبس بتازة لا تفي غلته بخدمته: بأن يباع، ويعوض بثمنه ما هو أغبط للحبس (2)
وفي النوازل البرزلي عن شيخه الإمام ابن عرفة ما نصه: "وقعت عندنا مسائل بتونس منها: فندق ابن معطاس تهدم، أفتى شيخنا أن تباع أنقاضه ويغير عن حاله دارًا ورجع هذا القول وحكم به قاضي الجماعة.
ومنها دار خربت من دور المدرسة بالقنطرة أفتى شيخنا ببيعها فبيعت واشترى بثمنها رسم في الغابة بتونس (3)
والقول الأول هو المشهور وعليه جرى العلامة خليل في مختصره، وإن كان العمل قد جرى بتونس وفاس على القول الثاني الذي هو قول المتأخرين والعبرة في جريان العمل العرف لا شهرة القول ورجحانه، قال الزقاق في لاميته:
فإن قيل إن البعض مما نقلته
ضعيف، نعم لكن العرف عولا
(4)
وكما أفتى المتأخرون من المالكية بجواز بيع الأحباس الأصول إذا خربت وتعطلت منفعتها أو قلت أفتوا بجواز الاستبدال والمناقلة والحالة ما ذكر. قال الشيخ ابن أبي زيد القيرواني خاتمة المتقدمين، وفاتحة المتأخرين الملقب بمالك الصغير: "واختلف في المعاوضة بالربع الخرب بربع غير خرب" (5) وعدم جواز المعاوضة فيما ذكر هو المشهور والذي عليه ابن القاسم، وجرى عليه العلامة خليل في قوله الذي نقلته سابقًا عاطفًا على ما لا يجوز: لا عقار وإن خرب ونقض ولو بغير خرب، أي لا يجوز بيع الربع الخرب ولا استبداله بغير خرب ولا بيع أنقاضه، ولكن جرى العمل في تونس وفاس بغير قول ابن القاسم وبغير ما نقله عن مالك وأفتى الكثير من علماء القطرين بجواز معاوضة الربع الحبس الخرب بغير خرب متى وجد الخراب وقَلَّتِ المنعفة، أو تعطلت من باب أولى، وكان الربع الجديد أكثر قيمة ونفعًا في العمليات الفاسية:
كذا معاوضة ربع الحبس
على شروط أسست للمؤتسي
__________
(1) ميارة، الإتقان والأحكام: 2/ 150
(2) الشيخ الشاذلي بن صالح باش مفتي المالكية بتونس، فتوى في حكم بيع الوقف إذا خرب، نشرت بمجموع طبع بتونس سنة 1316 ص 7
(3) الشيخ الشاذلي بن صالح باش مفتي المالكية بتونس، فتوى في حكم بيع الوقف إذا خرب، نشرت بمجموع طبع بتونس سنة 1316 ص 7
(4) متن اللامية مع متن العاصمية: 176
(5) الرسالة بهامش الفواكه الدواني: 3/ 45(3/1138)
وما قررته سابقًا من الخلاف بين المتقدمين والمتأخرين في حكم بيع الوقف الأصل إذا خرب وتعطلت منفعته أو قلت مقيدًا بما إذا لم يجعل الواقف للموقوف عليه بيعه، وإلا جاز بيعه بإطلاق، كما لو شرط الواقف بيعه لنفسه فيجوز له بيعه عملًا بالشرط قياسًا على شرط الرجوع في صدقته.
ومقيد أيضًا بغير المساجد عند المتأخرين منهم.
أما المساجد فلا يجوز بيعها بحال ولو خربت وتعطلت منفعتها، أو كان بجانبها جيران سوء، أو انتقلت العمارة عنها، قال ابن عسكر المالكي البغدادي في كتابه إرشاد السالك: "ولا يجوز بيع المسجد وإن انتقلت العمارة" (1) وقال القرطبي: ولا يجوز نقض المسجد ولا بيعه ولا تعطيله وإن خربت المحلة" (2) وحكى ابن جزي الإجماع على ذلك (3)
واختلفوا في بيع أنقاضها فعن ابن عبد الغفور: لا يجوز بيع مواضع المساجد الخربة، لأنها وقف، ولا بأس ببيع نقضها إذا أضيف عليه الفساد للضرورة إلى ذلك، وأفتى ابن عرفة في مساجد خربت وأيس من عمارتها بدفع أنقاضها إلى مساجد عامرة احتاجت إليها (4)
وقد أفاض أبو إسحاق الشاطبي في هذه المسألة بما فيه مزيد ضبط وتحقيق فليراجعه من شاء ذلك في الفتاوى له (5)
والخلاصة أن المتقدمين من فقهاء مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله لا يرون جواز بيع الأحباس الأصول ولو خربت، وتعطلت منفعتها، ولا معاوضتها بربع غير خرب إلا لتوسعة المسجد، والطريق، أو المقبرة، ولا سبيل إلى التوسعة إلا بها، ما لم يجعل الواقف عليه ذلك ولا جاز ما ذكر.
__________
(1) إرشاد السالك مع أسهل المدارك: 3/ 104
(2) الجامع لأحكام القرآن: 2/ 78
(3) القوانين الفقهية: 356
(4) ميارة، الإتقان والأحكام: 2/ 150
(5) جمع وتحقيق محمد أبي الأجفان: 168 وما بعدها(3/1139)
وإن المتأخرين منهم أجازوا ذلك بشرط خراب الوقف، وتعطل منفعته، وجعل ما اشتري أو استبدل من ربع غير خرب حبسًا في مصرف البر الذي كان فيه الأول لكنهم قيدوا ذلك بغير المساجد، أما المساجد فلا يجوز بيعها ولو خربت وتعطلت منفعتها، أو خربت العمارة حولها، ولا استبدالها بما هو أغبط بالإجماع، واختلفوا في جواز بيع أنقاضها، أو دفعها إلى عمارة مسجد آخر كما سبق.
وأما المذهب النعماني فقد جاء فيه: إذا خرب ما حول المسجد، واستغني عنه، قال أبو حنيفة وأبو يوسف يبقى مسجدًا، لأن المحبس أسقط ملكه بتحبيسه فلا يعود إلى ملكه كالإعتاق، ولأن المسجد الحرام استغنى عنه أهله في زمن الفترة، ولما جاء الله بالإسلام لم يعد إلى ورثة الباني له.
وقال محمد بن الحسن الشيباني: لا يبقى مسجدًا، ويعود إلى ملك المحبس، أو إلى ملك ورثته بعد موته، لأنه عينه لجهة وقد انقطعت بخرابه ففات غرضه منه، وهو القرابة إلى الله تعالى بمكان يصلي فيه الناس فيعود إلى ملكه، كما لو كفن ميتًا ثم أكله سبع وبقي الكفن يعود إلى ملكه كذا هذا، وقال أيضًا: إذا خرب المسجد حتى لا يصلى فيه، فالذي بناه إن شاء أدخله داره وإن شاء باعه، فإن لم يبق المسجد بان فخرب، وبنى أهل المسجد مسجدًا آخر، ثم أجمعوا على بيعه واستعانوا بثمنه، في بناء المسجد الآخر فلا بأس بذلك كما جاء عنه أيضًا: مسجد بادت القرية من حوله، خربت وجعلت مزارع، وخرب المسجد، ولا يصلي فيه أحد، ولا بأس أن يأخذه صاحبه ويبعه لمن يجعله مزرعة، ويأخذ ثمنه فيأكله، أو يجعله مزرعته (1)
وفي المذهب الشافعي: إذا تعطل المسجد بتفرق الناس عن البلد أو خرابها أو بخراب المسجد فلا يعود مملوكًا خلافًا لمحمد بن الحسن "ولا يجوز بيعه بحال ولا التصرف فيه كما لو أعتق عبدًا، ثم زمن لا يعود مملوكًا ثم إن خيف أن تنقضه الشياطين نقض وحفظ، وإن رأى القاضي أن يبنى بنقضه مسجدًا آخر، قال القاضي وابن الصباغ والمتولي: يجوز، وقال المتولي: الأولى من ينقل إلى أقرب الجهات إليه، فإن نقل إلى البعيد جاز، ولا يصرف النقض إلى غير المسجد كالرباطات والقناطر والآبار كما لا يجوز عكسه، لأن الوقت لازم، وقد دعت الضرورة إلى تبديل المحل دون الجهة، والحاصل من ريع وقف عمارة هذا المسجد يصرف إلى عمارة مسجد آخر.
__________
(1) راجع: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي مع حاشية الشهاب الشبي عليه: 3/ 330 - 331(3/1140)
وقال في الحاوي: ريع المسجد الذي خربت محلته يصرف إلى المساكين لأنه مصرف لا ينقطع لفافتهم على الأبد وقال الخوارزمي في الكافي: إذا خرب المسجد لا يجوز بيعه، ولا بيع شيء منه، ولا نقله إلى موضع آخر، ولا نقل شيء منه، هذا هو المنقول عن عامة الأصحاب، قال: وكذلك مسجد في محلة، أو قرية خربت المحلة واندرست القرية لا يجوز نقل ذلك المسجد إلى موضع آخر، قال: والأصلح عندي جواز نقله إلى موضع آخر وهو مذهب أحمد (1) (محرر مذهب الشافعي من إعلان الساجد للزركشي) .
وفي المذهب الحنبلي إذا خرب الوقف وتعطلت منافعه كدار انهدمت أو أرض خربت وعادت مواتًا ولم تمكن عمارتها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه، وصار في موضع لا يصلى فيه، أو ضاق بأهله، ولا يمكن توسعه في موضعه، أو تشعب جميعه فلم تمكن عمارته، ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه.
وجاء في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية إفاضة في هذا الموضوع وبيانًا للمفتى به في المذهب الحنبلي ومما جاء في فتاواه: إجازة نقل المسجد من مكان إلى آخر محتجًا بعمل عمر -رضي الله عنه – وذلك لما قدم عبد الله بن مسعود على بيت المال كان سعد بن مالك قد بنى القصر، واتخذ مسجدًا عند أصحاب التمر فنقب بيت المال فأخذ الرجل الذي نقبه فكتب إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر: أن لا تقطع الرجل وانقل المسجد، واجعل بيت المال في قبلته فإنه لن يزال في المسجد مصلى فنقله عبد الله، فخط له هذه الخطة.
وكذلك أفتى بنقله لضيق المسجد، أو لقذارة موضعه، أو لخوف اللصوص وبجواز بيعه ونقله إلى موضع آخر، فعمر بن الخطاب خرب المسجد الأول مسجد الجامع الذي كان لأهل الكوفة وجعل بدله مسجدًا في موضع آخر، وصار موضع المسجد الأول سوق التمارين.
__________
(1) الزركشي: إعلام الساجد بأحكام المساجد: 345(3/1141)
وذكر أن هذه الصورة هي التي احتج بها أحمد وأصحابه على من خالفهم، وقال أصحاب أحمد: هذا يقتضي إجماع الصحابة –رضي الله عنهم- عليها من غير نكير، مع كونهم لا يسكتون عن إنكار ما يعدون خطأ لأنهم أنكروا على عمر النهي عن المغالاة في الصدقات حتى ردت عليه امرأة، وردوه عن أن يحد الحامل فقالوا: إن جعل الله لك على ظهرها سبيلًا فما جعل لك على ما في بطنها سبيلًا، وأنكروا على عثمان في إتمام الصلاة في الحج حتى قال: إني دخلت بلدًا فيه أهلي، وعارضوا عليًا فحين رأى بيع أمهات الأولاد، فلو كان نقل المساجد منكرًا لكان أحق بالإنكار، لأنه أمر ظاهر ففيه شناعة ونقل عن أبي عبد الله ابن تيمية في "ترغيب القاصد" أن المسجد إذا ضاق بأهله أو تفرق الناس عنه، لخراب المحلة، فإنه يباع، ويصرف ثمنه في إنشاء مسجد آخر أو في شقص (مناب) في المسجد (1)
وبعد عرض نصوص المذاهب وأدلتها، وبعد يقيننا بأنه متى وجدت المصلحة فثم شرع الله، وأنه إذا لم يبع ما اتخذ مسجدًا، استولى عليه آخرون، ولم يبقوه مسجدًا، وإن عمر من أجل المصلحة نقل المسجد الجامع من مكانه، وصير المسجد العتيق سوقًا تجارية تعرف في ذلك العهد بسوق التمارين أفتي وأن فقير ربه محيي الدين قادي بجواز بيع المسجد الذي انتقلت بسوق التمارين أفتي وأنا فقير ربه محيي الدين قادي بجواز بيع المسجد الذي انتقلت غالبية المسلمين عنه لمنطقة أخرى وشراء محل صغير للأقلية الباقية لاتخاذه مسجدًا، والاشتراء بالباقي من ثمنه مسجدًا آخر أو منابًا في مسجد، وإن لم يفِ بذلك صرف في سبل الخير لأن ذلك أصلح المسلمين لما روي عن عائشة –رضي الله عنها- لما قيل لها: إن كسوة الكعبة قد يداول عليها؟ فقالت: تباع، ويجعل ثمنها في سبيل الخير (2) والله أعلم.
__________
(1) شيخ الإسلام ابن تيمية، الفتاوى: 31/ 227
(2) الفتاوى: 223(3/1142)
السؤال السابع
كثيرات من بنات المسلمين ونسائهم تدعوهن ظروف العمل أو الدراسة إلى السفر إلى ولايات أخرى (أبعد من مسافة القصر) بالطائرة أو غيرها من وسائل السفر بدون محرم، ومن غير رفقة من نسوة تعرفهن أو يعرفنها غير رفقة المسافرين والمسافرات عادة، فما حكم هذا السفر؟
فأقول في الجواب –والله الموفق للصواب-: ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مالك في الموطأ عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((: لا يحل لامرأة تؤمن باله وباليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها)) (1)
والحديث ناطق بحرمة سفر المرأة وحدها، ولا فرق في المرأة بين الشابة والمتجالة (التي ليس للرجل فيها مطمع) وفي نقل للقاضي عياض رحمه الله عن بعض الفقهاء: أن النهي منوط بالشابة، وأما المتجالة فتسافر كل الأسفار بلا محرم ولا زوج.
وتعقبه ابن دقيق العيد: بأنه تخصيص للعموم بالنظر إلى المعنى، وإن لم يرتضه القرطبي وقال: فيه بعد؛ لعدم جواز الخلوة بالمتجالة واعتبار ما لا يطلع لعيه غالبًا من حسدها عورة يحرم النظر إليه، فالظنة موجودة فيها، والعموم صالح فينبغي أن تخرج منه.
وأما ما ورد في السؤال من تقييد السفر بمسافة القصر فمرجعه أن الحديث روي بعديد من الروايات، فحديث أبي سعيد عند الشيخين وغيرهما: ((أن تسافر فوق ثلاثة أيام فصاعدًا)) وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين وسنن أبي داود: ((لا تسافر المرأة ثلاثًا إلا ومعها زوج أو محرم)) وفي رواية أحمد رضي الله عنه ((يوم)) وفي أبي داود: ((بريد)) عوض ((يوم)) وفي رواية ((بيومين)) وفي رواية إطلاق السفر من غير التقييد (2)
__________
(1) الموطأ مع شرح الزرقاني: 4/ 391 - 392
(2) محمد الزرقاني، شرحه على الموطأ: 4/ 392(3/1143)
والفقهاء قد اختلفوا في مسافة القصر على نحو عشرين قولًا، ومن بين أسباب الاختلاف بينهم اختلاف السنن والآثار ومن بينها هذا الحديث المروي بروايات متعددة.
والحق أنه لا تلازم بين مسافة القصر، ووجوب المحرم، لجواز التوسعة في إيجاب المحرم تخفيفًا على العباد (1) بالإضافة إلى ما أجاب به العلماء على اختلاف هذه الروايات وأنه لا تعارض بينها، وأن هذا الاختلاف بحسب السائلين، فسئل مرة عن سفر المرأة يومًا؛ فقال: "لا" وهلم جرا، وليس فيه تحديد، ولا مفهوم أحدها.
والخلاصة أن كل ما يطلق عليه اسم السفر لا يجوز للمرأة وإلا ومعها ذو محرم منها (2)
ولم يستثن الإمام الأعظم والإمام أحمد ومن وافقهما سفرًا من الأسفار لا سفر الحج ولا غيره عند انعدام الزوج أو المحرم منها، قالوا: إن الزوج أو المرحم شرط في استطاعة الحج للمرأة، فالسفر حرام عليها إلا مع أحدهما.
وذهب مالك والشافعي في المشهور عنهما ومن وافقهما إلى عدم اشتراط المحرم في سفر الحج، وجاء في المدونة: من لا ولي لها تخرج مع من تثق به من الرجال والنساء واختلف في تأويلها: هل مرادة مجموع الصنفين أو مع جماعة من صنف منهما؟ وأكثر ما نقل عن الإمام رضي الله عنه: اشتراط النساء (3) وقال الشافعي: تحج مع امرأة مسلمة حرة ثقة.
هذا والخلاف يجري في حج الفرض، أما حج التطوع فالاتفاق جار على اشتراط المحرم منها أو الزوج (4) وقيده لحطاب من المالكية بيوم وليلة فأكثر، شابة كانت أو متجالة.
__________
(1) الصنعاني، سبل السلام: 2/ 39
(2) النووي: شرحه على صحيح مسلم مع إرشاد الساري: 6/ 33
(3) محمد الزرقاني: شرحه على موطأ مالك: 4/ 392
(4) الحطاب، مواهب الجليل: 2/ 524(3/1144)
وسبب الخلاف في حج الفرض معارضة الأمر بالحج والسفر إليه للنهي عن سفر المرأة ثلاثًا إلا مع ذي محرم وذلك أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر أنه قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم)) فمن غلب عموم الأمر قال: تسافر للحج وإن لم يكن معها ذو محرم، ومن خصص العموم بهذا الحديث أو رأى أنه من باب تفسير الاستطاعة قال: لا تسافر للحج إلا مع ذي محرم (1)
وقد نقل الحطاب أن حكم سفرها الواجب جميعه حكم سفرها لحجة الفريضة في الخروج مع الرفقة المأمونة، وعزا هذا القول إلى القاضي عبد الوهاب وغيره، وذلك كسفرها لحجة النذر، والقضاء وجميع الأسفار الواجبة عليها.
كما نقل عن الباجي تقييد إطلاق الحديث بالانفراد والعدد اليسير، أما القوافل العظيمة فهي عند الباجي كالبلاد يصح سفر المرأة فيها بدون نساء وذوي محارم، وذكر هذا القيد الزناتي في شرحه على رسالة ابن أبي زيد رضي الله عنه على أساس أنه المذهب وقيد به قول ابن أبي زيد: والقوة على الوصول إلى مكة، إما راكبًا أو راجلًا مع صحة البدن، ونص كلام الزناتي على ما ذكر الحطاب ما يلي: "إذا كانت في رفقة مأمونة ذات عَدَدٍ وعُدَدٍ أو جيش مأمون من الغلبة والمحلة العظيمة فلا خلاف في جواز سفرها من غير ذي محرم في جميع الأسفار الواجب منها والمندوب والمباح من قول مالك وغيره إذ لا فرق بين ما تقدم ذكره وبين البلد، هكذا ذكره القابسي ونقله في الإكمال عن الباجي وقَبِلَه: ولم يذكر خلافه " (2) .
وبعد بسطنا للمسألة من خلال فقه أئمة المذاهب، واعتمادًا منا على ما قيد به الباجي الحديث، وعلى وصف الزناتي لذلك القيد بأنه المذهب (أي المعتمد في المذهب المالكي) وعزوه للقابسي وبعد نقل صاحب الإكمال له، دون ذكر خلافه، وبعد نظرنا في تطور وسائل النقل تطورًا سريعًا تكفي الدقائق لانتقال الإنسان من ولاية إلى ولاية أبعد من مسافة القصر وبعد نظرنا في تقييد الحطاب السفر بمسيرة ليوم وليلة فأكثر وبعد الاطلاع على أن للشافعي قولًا أنها تسافر وحدها إذا كان الطريق آمنًا (3) أفتى هؤلاء البنات المسلمات بجواز السفر بالحافلات والقطارات والطيارات وبغيرها من وسائل النقل التي تعظم فيها الجماعات ويكون لها شبه بالجيوش والبلدان والمحلات بغير زوج لهن ولا محرم منهم، والله أعلم. حرره فقير ربه محي الدين قادي.
__________
(1) ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 1/ 311 - 312
(2) مواهب الجليل: 2/ 524
(3) الصنعاني: 2/ 183(3/1145)
السؤال الثامن
بعض النساء أو الفتيات تضطرهن ظروف العمل، أو الدراسة إلى الإقامة بمفردهن، أو مع نسوة غير مسلمات، فما حكم هذه الإقامة؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد –والله ولي التسديد- فأقول: جاء الإسلام الحنيف معلنا مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في أصل الخلقة الإنسانية، فقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وقال صلى الله عليه وسلم: ((النساء شقائق الرجال)) ، رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي، ومبدأ المساواة بينهما في الانتساب إلى الجامعة الإسلامية، فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وصرح فقهاء الإسلام بأن خطاب الأمة الإسلامية في القرآن الكريم يشمل الجنسين: الذكر والأنثى ولو كان بصيغة التذكير.
وانطلاقًا من مساواة المرأة للرجل فيما ذكر، جاءت المساواة في التشريع بينهما أصلًا لا يتخلف، إلا عند وجود مانع: جبلي أو شرعي أو اجتماعي، أو سياسي، وفي كل إما أن تكون دائمًا أو مؤقتًا (1) ، ولم ينص على شيء من ذلك فيما أعلم.
واهتداء هذا الأصل من أصول التشريع الإسلامي للنظام الاجتماعي تقرر في الفقه الإسلامي جواز إقامة المرأة المسلمة في مسكن خاص بها له غلق ومرافق متى توفر لها الأمن ولا أعلم في ذلك خلافًا، فعن ابن مسعود رضي الله عنه في نساء نعي إليهن أزواجهن، وتشكين الوحشة يجتمعن بالنهار، ثم ترجع كل امرأة إلى بيتها بالليل، وأخرج الشافعي وعبد الرزاق عن مجاهد مرسلًا: ((أن رجالًا استشهدوا بأحد، فقال نساؤهم: يا رسول اله، أنا نستوحش في بيوتنا أفنبيت عند إحدانا؟ فأذن لهن أن يتحدثن عن إحداهن، فإذا كان وقت النوم تأوي كل واحدة إلى بيتها)) كما دل قوله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم في صحيحه: ((لا يبيتن رجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحًا أو ذا محرم)) بطريق دلالة الالتزام على أن المسلمة يجوز لها أن تقيم في مسكن بمفردها وإلا لما ورد النهي عن البيات معها إلا لناكح أو ذي محرم.
__________
(1) راجع كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية لسماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله: 100 وما بعدها، وكتاب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام له أيضًا: 147 وما بعدها، والأشباه والنظائر للسيوطي رحمه الله: 237 وما بعدها(3/1146)
هذا ما يتعلق بشطر السؤال الأول، وهو إقامتها بمفردها في منزل خاص بها. وأما ما يتعلق بشطر السؤال الثاني وهو: إقامتها مع نسوة غير مسلمات فلا يجوز لها ذلك، قال تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى أن قال جل جلاله {أَوْ نِسَائِهِنَّ} قال القرطبي في تفسير ذلك يعني المسلمات، وتدخل في هذا الإماء المؤمنات، ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة غيرهم فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئًا من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها، فذلك قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} وكان ابن جريح وعبادة بن نسي وهشام القارئ يكرهون أن تقبل النصرانية المسلمة، أو ترى عورتها، ويتأولون {أَوْ نِسَائِهِنَّ} وقال عبادة بن نسي: وكتب عمر صلى الله عليه وسلم إلى أبي عبيدة بن الجراح: "أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين، فامنع ذلك، وحُلْ دونه فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة، قال: فعند ذلك قام أبو عبيدة، وابتهل وقال: أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر، لا تريد إلا أن تبيض وجهها، فسود الله وجهها يوم تبيض الوجوه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية لئلا تصرفها لزوجها، وفي هذه المسألة خلاف للفقهاء" (1)
وهذا أولًا، وثانيًا عملًا بقاعدة سد الذرائع وذلك أن المرأة المسلمة موجودة بمجتمع الغرب الذي يعيش بلا قيم ولا أخلاق، لا سيما في مجال الجنس فقد أصبح طليقًا من كل اليوم، فلا يعقل أن نلقي بها في بؤرة فساد ونلزمها بعد ذلك أن تكون عفيفة طاهرة؛ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه:
ألقاه في اليم مكتوفًا، وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء
وثالثًا: أن الخلاف قد جرى بين السلف من الفقهاء في نظر غير المسلمة إلى المسلمة، لا في مساكنتها، وللمساكنة معنى زائد عن النظر.
رابعًا: أن الخلاف بين السلف من الفقهاء في نظر الذمية إلى المسلمة.
ونحن نعلم أن شيمة أهل الذمة الصغار بخلاف كفار اليوم فهم الأعزاء والمتسلطون على العالم.
وترتيبًا على ذلك أُفتي أخواتي في بلاد الغربة بأنه يجوز لهن الإقامة بمفردهن في مسكن خاص له غلق ومرافق متى توفر الآن، ولا يجوز لهن أن يساكن غير المسلمات كتابيات أو غير كتابيات لأنهن كالرجل الأجنبي بالنسبة لهن، والله أعلم.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن: 12/ 233(3/1147)
السؤال التاسع
كثيرات من النساء هنا (أمريكا الشمالية) يذكرن أن أقصى ما بإمكانهن سترة من أجسادهن هو ما عدا الوجه والكفين، وبعضهن تمنعهن جهات العمل، أو الدراسة، من ستر رؤوسهن وأعناقهن، فما أقصى ما يمكن السماح بكشفه من أجزاء جسم المرأة بين الأجانب في محلات العمل أو الدراسة؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد والله الموافق للصواب: أن ما قاله جل النسوة من أن أقصى ما يستطعن ستره من أجسادهن هو ما عدا الوجه والكفين هو شرع الله جلل جلاله، إذ عورة المرأة إذا حاضت جميع جسدها ما عدا الوجه والكفين عند مالك والشافعي وأحمد في إحدى روايتيه: أن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها، مع قول أبي حنيفة: أنها كلها عورة كذلك إلا وجهها وكفيها وقدميها ومع الرواية الأخرى عن أحمد: إلا وجهها خاصة (1)
ونسب ابن رشد الحفيد إلى الأمام أحمد قولًا ثالثًا وهو أن المرأة كلها عورة (2) ولم يعزه ابن قدامة في مغنيه إلى الإمام أحمد وإنما إلى بعض أهل المذهب الحنبلي، فقال: وقال بعض أصحابنا المرأة: كلها عورة لأنه قد روى في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((المرأة عورة)) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ولكن رخص لها في كشف وجهها وكفيها لما في تغطيته من المشقة، وأبيح النظر إليه لأجل الخطبة لأنه مجمع المحاسن، وهذا قول أبي بكر الحارث ابن هشام قال: المرأة كلها عورة حتى ظفرها (3)
وأرجع ابن رشد الحفيد الخلاف في هذه المسألة إلى الاحتمال القائم في قوله عز وجل {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} هل هذا المستثنى إلى أن المقصود أعضاء محدودة أم إنما المقصود ما لا يملك ظهوره؟ فمن ذهب إلى أن المقصود من ذلك ما لا يملك ظهوره عند الحركة، قال: بدنها كله عورة حتى ظهرها واحتج لذلك بعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} .
ومن رأى أن المقصود من ذلك ما جرت به العادة بأنه لا يستر وهو الوجه والكفان ذهب إلى أنهما ليسا بعورة، واحتج لذلك بأن المرأة ليست تستر وجهها في الحج" (4)
__________
(1) الشعراني، الميزان الكبرى: 1/ 170
(2) بداية المجتهد: 1/ 111
(3) بداية المجتهد: 1/ 601
(4) بداية المجتهد: 1/ 111(3/1148)
وسيأتي في الجواب عن السؤال السابع عشر مزيد إيضاح لهذه المسألة.
وأما منع بعض الجهات النسوة العاملات عندهن وبعض أماكن الدراسة التلميذات أو الطالبات أو المدرسات من ستر رؤوسهن وأعناقهن وسؤالهن عن أقصى ما يمكن السماح بكشفه من أجزاء جسم المرأة، فالجواب عنه على حسب مذهب الجمهور هو أن بدن المرأة كله عورة ما عدا وجها وكفيها إذا بلغت المحيض، ورخص ابن جرير الطبري لها في كشف يديها إلى نصف الذراع معتمدًا على حديث يرويه عن سيدتي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وهو: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى هاهنا وقبض على نصف الذراع)) (1) كما ذكر الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور أن بعض الفقهاء جعل الشعر من الزينة الظاهرة حاكيًا له بقيل المشعرة بتمريضه (2) ويدل على ضعفه وأيضًا أنه إذا كشف شعر الرأس بدا الجيد واللبة، ولا أحد من الفقهاء فيما أعلم قال بجواز كشفهما، بل جاء في حواشي يوسف الصفتي من المالكية على شرح ابن تركي على متن العشماوية أن الوجه في العورة غير الوجه في الوضوء، لأنه يجب ستر الشعر ولو كانت غماء (3) هذا أولًا، وثانيًا لما لهما من الأثر العجيب في تحريك الشهوة.
وترتيبًا على ذلك أقول: لا يجوز للمرأة إذا عركت- عاملة كانت أو تلميذة في ثانوية، أو طالبة في جامعة أو مدرسة- أن تبدي أكثر من وجهها وكفيها، والله أعلم.
__________
(1) القرطبي الجامع لأحكام القرآن: 12/ 222
(2) التحرير والتنوير: 18/ 207
(3) حواشي الصفتي: 83(3/1149)
السؤال العاشر
يضطر كثير من الطلاب المسلمين إلى العمل في هذه البلاد لتغطية نفقات الدراسة والمعيشة لأن كثيرًا منهم لا يكفيه ما يرده من ذويه مما يجعل العمل ضرورة له، لا يمكن أن يعيش بدونه، وكثير منهم لا يجد عملًا إلا في المطاعم تبيع الخمور وتقدم الوجبات فيها لحم الخنزير وغيره من المحرمات فما حكم عمله في هذه المحلات؟
وفي الجواب عن هذا السؤال والله الموفق للصواب، أقول: لم يضبط في السؤال دين صاحب المطعم أو نحلته، والذي يظهر أنه غير مسلم أصالة أو استحلالًا للمحرمات، أو فاسقا معايشا للمعاصي.
وعلى كل فالشريعة الإسلامية تحرم على السلم إجارة نفسه للمعاصي قال عبد الرحمن بن عسكر البغدادي المالكي: "لا تجوز إجارة نفسه أو عبده أو دابته أو داره في عمل معصية" (1) ، فإن فعل شيئًا من ذلك فقد تعدى حدود الله {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وللقاضي ردعه وتأديبه (2) ودليل ذلك قوله تعالى {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} والإجارة على المعصية إعانة عليها.
وتنوعت أمثلة ذلك، قال ابن عبد البر في كافيه: ولا يجوز لأحد أن يكري معصرته ولا دابته، ولا سفينته ممن يعمل الخمر ويحملها، وإن فعل ذلك أخذ منه ما قبض ذلك من النصراني لم يحكم له بشيء، وهكذا لو أكرى بيته، أو حانوته، أو قطعة من أرضه ممن يبيع فيها الخمر (3)
وكلام ابن عبد البر عام في المؤاجر نفسه لمعصية عند مسلم أو عند كافر، وأما قوله: "وإن لم يقبض من النصراني" فهو مخرج على الغالب، أن المعهود في عصره رحمه الله أنه لا يتاجر في الخمرة بيعًا إلى النصارى.
__________
(1) إرشاد السالك إلى أشرف المسالك مع شرحه أسهل المدارك: 2/ 342
(2) الكشناوي، أسهل المدارك: 2/ 342
(3) ابن عبد البر، الكافي: 2/ 756(3/1150)
وأما إن كان هؤلاء الطلبة يؤاجرون أنفسهم في بلاد الحرب لغير المسلمين في مطاعم تبيح الخمور ولحم الخنزير لحرفائها وغيرها من المحرمات فذلك أشد لأن فقهاء الإسلام كرهوا للمسلم مؤاجرة نفسه للنصراني واليهودي في الحلال له، قال ابن القاسم المالكي: وبلغني أن مالكًا كره أن يؤاجر المسلم نفسه من النصراني (1) وقال أيضًا: سئل مالك عن المسلم يأخذ من النصراني مالًا قرضًا، فكره ذلك له وغيره من أهل العلم قد كره ذلك، وقال: سئل مالك عن المسلم يؤاجر نفسه لنصراني ليحرس له زيتونه، أو يجره له أو يبني له بنيانًا؟ فأجاب: أكره أن يؤاجر نفسه في خدمة هذا النصراني" (2)
والكراهة هنا كراهة تنزيه، ويجوز للمسلم ذلك لأن الإجارة عقد معاوضة كالبيع وإجارة المسلم نفسه فيها مباح له لخدمة النصراني مشروطة بعدم إذلالها أو ليس للمسلم أن يذل نفسه عمومًا وخصوصًا للكافر والله جل جلاله يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وأما مع الإهانة فحرام ككونه خادمًا في بيته يقدم له الطعام ويغسل يديه منه ويجري خلفه ويفسخ وله أجر ما عمل (3)
وأما موقف فقهاء الإسلام من مؤاجرة المسلم نفسه في عمل معصيته هي محرمة عليه في شريعة الإسلام فالمنع البات جاء في المدونة: قلت: أرأيت مسلمًا آجر نفسه من نصراني يحمل له خمرًا على دابته أو على نفسه، أيكون له من الأجر شيء؟ أم تكون له إجارة مثله؟
__________
(1) سحنون، المدونة: 4/ 433
(2) سحنون المدونة: 4/ 433
(3) أحمد الدردير، الشرح الكبير: 4/ 19(3/1151)
قال: قال مالك: لا تصلح هذه الإجارة، ولا أرى أنا له من الإجارة التي سمى، ولا من إجارة مثله قليلًا ولا كثيرًا، لأن مالكًا قال في الرجل المسلم يبيع خمرًا، قال مالك: لا أرى أن يعطى من ثمنها قليلًا ولا كثيرًا، والكراء عندي بهذه المنزلة لا أرى أن يعطى من الإجارة قليلًا ولا كثيرًا، قلت: وكذلك أن آجر حانوته من نصراني يبيع فيه خمرًا قال ابن القاسم: وأرى كل مسلم آجر نفسه أو غلامه أو دابته أو داره أو بيته أو شيئًا مما يملكه في شيء من الخمر فلا أرى له من الإجارة قليلًا ولا كثيرًا، ولكن يفعل فيه إن كان قبض ما وصفت لك في ثمن الخمر" (1) قال خليل بن إسحاق المالكي رحمه الله في مختصره ذاكرًا مفهوم المنفعة المحظورة: "ولا تعليم غناء ودخول حائص لمسجد أو دار لتتخذ كنيسة كبيعها لذلك وتصدق بالكراء وبفضلة الثمن على الأرجح" (2) ومثل ذلك الإجارة على تقديم لحم الخنزير الذي هو حرام على المسلم في هذه المطاعم، ويؤدب فاعل ذلك، قال ابن القاسم في مسلم آجر نفسه لنصراني ليرعى له خنازيره: أنا أرى أن تؤخذ الإجارة من هذا النصراني ويتصدق بها على المساكين ولا يعطاها هذا المسلم أدبًا لهذا المسلم، ولأن الإجارة أيضًا لا تحل لهذا المسلم إذا كانت إجارته من رعيه الخنازير، ورأى أن يضرب هذا المسلم أدبًا، فيما صنع من رعيه الخنازير ورضاه من رعيه الخنازير إلا أن يكون ممن يعذر بالجهالة فيكف عنه في الضرب ولا يعطى من الإجارة شيء، ويتصدق بالأجرة على المسلمين ولا تترك الأجرة للنصراني" (3)
وجاء في المذهب الحنفي: "من استأجر حمالًا يحمل له الخمر فله الأجر في قول أبي حنيفة، عند أبي يوسف ومحمد لا أجر له، كذا ذكر في الأصل وذكر في الجامع الصغير أنه يطيب له الأجر في قول أبي حنيفة وعندهما يكره لهما لأن هذه إجارة على المعصية، لأن حمل الخمر معصية، لكونه إعانة على المعصية وقد قال الله عز وجل: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ولهذا لعن الله تعالى عشرة منهم: حاملها والمحمول إليه، ولأبي حنيفة أن نفس الحمل ليس بمعصية بدليل أن حملها للإراقة والتخليل مباح، وكذا ليس بسبب المعصية وهو الشرب لأن ذلك يحصل بفعل فاعل مختار وليس الحمل من ضرورات الشرب فكانت سببًا محضًا فلا حكم له كعصر العنب وقطفه، والحديث محمول على الحمل بنية الشرب، وبه نقول: إن ذلك معصية ويكره أكل أجرته (4)
__________
(1) المدونة: 4/ 424 – 425
(2) المختصر: 239
(3) سحنون، المدونة: 4/ 426
(4) الكاساني، البدائع: 4/ 190(3/1152)
السؤال العاشر
ما قررناه في المذهب المالكي قال به الإمام الشافعي واعتمد في المذهب الحنبلي حسبما ذكره ابن قدامة في مغنيه (1)
وأدلة تحريمه كثيرة مستفيضة في هدي خير العباد وفي آثار السلف الصالح.
أما هديه صلى الله عليه وسلم فمن جوامع كلمه قوله: ((إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)) ، وفي حديث الموطأ أن ابن وعلة المصري سأل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عما يعصر من العنب؟ فقال: ابن عباس: ((أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما علمت أن الله حرمها؟ قال: لا، فساره رجل إلى جنبه، فقال له صلى الله عليه وسلم: بم ساررته؟ قال: أمرته أن يبيعها: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها حرم بيعها)) (2) والإجارة بيع لمنفعة.
وأما أثار السلف الصالح فقد ساق منها سحنون في المدونة الكثير من ذلك:
1- ما روي عن عياض بن عبد الله السلامي أنه قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إن لي إبلًا تعمل في السوق ريعها صدقة تحمل الطعام فإذا لم تجحد فربما حملت خمرًا؟ فقال: لا يحل ثمنها، ولا كراؤها ولا شيء منه كان ثمنها فيه سببا" ففتوى عبدا لله بن عمر صريحة ناطقة بتحريم كل ثمن أنجز من حركة في الخمر.
__________
(1) المغني: 5/ 551
(2) ابن القيم: زاد المعاد، ذكر أحكامه صلى الله عليه وسلم في البيوع: 4/ 239(3/1153)
2- ما روي عن عميرة المعافري فقال: خرجت حاجًا أنا وصاحب لي حتى قدمنا المدينة فأكرى صاحبي راحلته من صاحب خمر فأخبرني فذهب إلى عبد الله بن عمر فسأله عن ذلك فنهاه عن ذلك وقال: لا خير فيه.
3- ما روي عن مالك بن كلثوم أنه سأل سعيد بن المسيب عن غلمان له يعملون في السوق على دواب له، فربما حملت خمرًا، قال: فنهاني سعيد عن ذلك أشد النهي، وقال: إن استطعت أن لا تدخل البيت الذي فيه الخمر فلا تدخله (1)
وبعد هذا العرض الواسع والمشتمل على تحريم الإجارة في كل منفعة محرمة وبعد إفرادنا للإجارة في الخمر عصرًا وحملًا، وللإجارة على رعي الخنازير وهو أقل جرمًا من تقديم لحومها إلى آكليها، وهو (أقل جرمًا) وبعد تيقنا من أن السنة النبوية الشريفة ما حرمت شيئًا إلا حرمت أكل ثمنه بيعًا، وأنها لعنت في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له، وبعد علمنا بكل ذلك أفتي هؤلاء الطلبة أن لا يؤاجروا أنفسهم في شيء من عمل الخمر، ولا من عمل الخنازير حملًا وتقديمًا وغير ذلك ولا في عمل محرم لأن الله ما حرم شيئًا إلا حرم أكل ثمنه، وما جعل كسب المسلم في ما حرم عليه وما أحل الله أوسع وأطيب، والله الموفق للصواب وهو حسبي ونعم الوكيل.
__________
(1) المدونة: 4/ 425(3/1154)
السؤال الحادي عشر
ما حكم بيع المسلم للخمور والخنازير، أو صناعة الخمور وبيعها لغير المسلمين، علمًا بأن بعض المسلمين في هذه البلدان قد اتخذوا من ذلك حرفة لهم؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد والله الموفق للصواب أقول: روى مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم وعن أبي وعلة المصري أنه سأل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عما يعصر من العنب؟ فقال ابن عباس: ((أهدى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما علمت أن الله حرمها؟ قال: لا، فساره رجل إلى جنبه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم ساررته؟ فقال: أمرته أن يبيعها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها حرم بيعها، ففتح الراجل المزادتين حتى ذهب ما فيهما)) (1)
وروى مالك في الموطأ أيضًا " عن نافع عن بن الله أن رجالًا من أهل العراق قالوا له: يا أبا عبد الرحمن، أنا نبتاع من ثمر النخل والعنب فعنصره خمرًا، فنبيعها؟ فقال عبد الله بن عمر: إني أشهد الله عليكم وملائكته، ومن سمع من الجن والإنس أني لا آمركم أن تبيعوها، ولا تباعوها ولا تعصروها، ولا تشربوها ولا تسقوها، فإنها رجس من علم الشيطان" (2)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ((قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه)) رواه الجماعة (3)
__________
(1) الموطأ، كتاب الأشربة: جامع تحريم الخمر: 4/ 172
(2) الموطأ: 4/ 174
(3) ابن تيمية الجد، منتقى الأخبار، كتاب البيوع: باب ما جاء في بيع النجاسة وآلة المعصية، وما لا نفع فيه: 5/ 235(3/1155)
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وأن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)) رواه أحمد وأبو داود.
وإذا تأملنا هذه الأحاديث الشريفة وجدنا أن حديث الموطأ الأول متضمن حرمة عصر الخمور وصناعتها، لأن ابن وعلة المصري سأل حبر الأمة عن حكم ذلك فروى له هذا الحديث الشريف جوابًا عن سؤاله، كما تضمن الحديث أن حرمة أكل الثمن، تابعة لحرمة الشرب.
وأما علة التحريم فالرجسية أي النجاسة، والنجس لا يصح بيعه بوجه عام إلا ما رخص فيه، فقال ابن عاصم في تحفة الأحكام:
ونجس صفقته محظورة
ورخصوا في الزبل للضرورة
هذا أولًا، وثانيًا: سد الذريعة، لأن إباحة بيعها تؤدي إلى شربها، ذلك ما قاله العلامة الزرقاني في شرحه على الموطأ (1)
هذا وإذا عصرها مسلم لتشرب خمرًا محظورًا وجب عليه أن يريقها، فإن اجترأ وخللها فعن مالك في ذلك روايتان: بالجواز والكراهة.
وأما حديث الموطأ الثاني فالعراقيون السائلون لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما صانعو خمور ولعلهم حديثو عهد بالإسلام (كما قال الزرقاني) وابن عمر منعهم من ذلك، ولا خلاف نعلمه في منعه، والأصل في ذلك الحديث الأول فقد قال صلوات الله وسلامه عليه، للذي أهدي إليه راوية خمر: ((إن الذي حرم شربها حرم بيعها)) .
__________
(1) شرح الموطأ: 4/ 172(3/1156)
والعصير المستخلص من التمر والعنب متفق على ما منبع بيعه وابتياعه وجمهور الفقهاء على إطلاق اسم الخمير على كل ما خامر العقل فأسكره، وأن ما أسكر كثيره قليله حرام شراب وبيعها، فقد صح عنه صلوات الله وسلامه عليه: ((كل مسكر خمر)) قال ابن القيم: وهذا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح الذي لا مطعن في سنده: ولا إجمالا في متنه.. وإخراج صنف من أصناف المسكر عن اسم الخمر يتضمن محذورين:
أحدهما: أن يخرج من كلامه ما قصد دخوله فيه.
والثاني: أن يشرع لذلك النوع الذي أخرج حكم غير حكمه، فيكون تغييرًا لألفاظ الشارع ومعانيه، فإنه إذا سمى ذلك النوع بغير الإسم الذي سماه به الشارع أزال عنه حكم ذلك المسمى وأعطاه حكمًا آخر.
ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن من أمته من يبتلى بهذا كما قال: ((ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)) قضى قضية كلية عامة، لا يتطرق إلها إجمالًا ولا احتمال، بل هي شافية كافية فقال صلى الله عليه وسلم ((كل مسكر خمر)) (1)
هذا والذي يظهر من قول ابن عمر رضي الله عنهما: "ولا تعصروها ولا تشربوها، ولا تسقوها فإنها رجس من عمل الشيطان" المنع من كل تصرف مقصود فيها، وعمل لها، معللًا ذلك بالرجسية، وكونها من عمل الشيطان ومريدًا والله أعلم قوله تعالى {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والاجتناب قاض بالكف عن كل تصرف مقصود ففها وعمل لها، وفي الحديث: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبايعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له)) هذا ما يتعلق ببيع الخمر وعصرها وصناعتها، وكل تصرف مقصود فيها، وعمل لها.
وأما ما يتعلق بيع الخنازير فقد ورد في هدى خير العباد في الحديث الثالث الذي رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما تحريم بيع الخمر الخنزير والانتفاع به مع ترخيص المالكية في الانتفاع بشعره للخرز بعد جزه لطهارته، فقال خليل بن إسحاق بالعطف على الطاهر وشعر ولو من خنزير إن جزت (2) وعلى هذا أبو يوسف والأوزاعي.
والجمهور على أن علة تحريم بيع الخنزير نجاسته، وعند المالكية ومن وافقهم تحريمه (3)
وأما ما ورد في السؤال ممن تقيد بيعها بغير المسلمين فهو قيد لاغ، لأن اختلاف الدارين لتباين الأحكام إذ دعوة الإسلام نور وهدى، ورحمة وشفاء لا يختلف باختلاف الرباع والأماكن، فإن باع مسلم نصرانيًا خمرًا تراق عليه بحكم أن كان ثم حاكم يرى تخليلها، وإلا أراقها من غير رفع، لأن المسلم لا يصح له تملك الخمر بحال.
وترتيبًا على كل ما سبق أفتي وأنا فقير ربه محيي الدين قادي أنه لا يجوز لمسلم أن يبيع الخمور والخنازير، ولا أن يصنع الخمر وأن ليؤدي على ذلك، والله أعلم.
__________
(1) زاد المعاد في هدى خير العباد: 2/ 240
(2) المختصر: 5
(3) راجع فتح الباري لابن حجر: 4/ 425 - 426(3/1157)
السؤال الثاني عشر
هناك كثير من الأدوية تحوي كميات مختلفة من الكحول تتراوح بين 01? و 25? ومعظم هذه الأدوية من أدوية الزكام واحتقان الأنف والحنجرة والسعال وغيرها من الأمراض السائدة، وتمثل هذه الأدوية الحاوية للكحول ما يقرب من 95? من الأدوية في هذا المجال مما يجعل الحصول على الأدوية الخالية من الكحول عملية صعبة أو متعذرة فما حكم تناول هذه الأدوية؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أقول والله الموفق للصواب: التداوي بالخمر مسألة جرى فيها الخلاف بين علماء الإسلام ففي المذهب الحنفي أثيرت هذه المسألة فقال الزيلعي في شرحه على الكنز في كتاب الكراهية: كل تداو لا يجوز إلا بالأشياء الطاهرة ولا يجوز بالنجس كالخمر، لما روى ابن مسعود أنه عليه السلام قال: ((أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)) ذكره البخاري.
وقال: وقال في النهاية: يجوز التداوي بالمحرم كالخمر والبول، إذا أخبره طبيب مسلم أن فيه شفاء، ولم يجد غيره من المباح ما يقوم مقامه، والحرمة ترتفع للضرورة فلم يكن متداويًا بالمحرم، فلم يتناوله حديث مسعود.
ويتحمل أنه قال في داء عرف له دواء غير المحرم (1) كلام الزيلعي.
وقال العلامة ابن نجيم في البحر من كتاب الشهادات: إن الإنسان لو شرب الخمر للتداوي لم تسقط عدالته، لأن الاجتهاد فيه مساغًا، ونسبه لابن الكمال (2)
وجاء في المذهب المالكي في هاته المسألة الإشارة أيضًا إلى الخلاف داخل المذهب فيما قال المواق في التاج والإكليل في باب: المباح طعام طاهر، بعد أن تكلم عن جواز إزالة الغصة بالخمر وعدم الجواز: وأما التداوي بها فمشهور المذهب أنه لا يحل، وإذا قلنا: إنه لا يجوز التداوي بها ويجوز استعماله للضرورة، فالفرق أن التداوي لا يتيقن البرء بها" (3)
__________
(1) بيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 6/ 23
(2) البحر: 7/ 26
(3) التاج والإكليل مع مواهب الجليل بالهامش: 3/ 233(3/1158)
وقال العتبي: وسئل (أي مالك) عن الذي تكون له القرحة أيغسلها بالبول والخمر؟ فقال: إذا أنقى ذلك بالماء بعد فنعم له ذلك، وأني لأكره الخمر في كل شيء الدواء وغيره يعمد إلى ما حرم الله في كتابه، وذكر نجاسته يتداوى به، ولقد بلغني أنها أشياء يدخلها من يريد الطعن في الدين والغض عليه، فقيل له: فالبول عندك أخف؟ فقال: نعم.
قال ابن رشد الجد في شرحه على العتبية: "إنما رأى غسل الجرح بالبول أخف من غسله بالخمر، لأن لله تبارك وتعالى قال في الخمر: أنها رجس، وأمر باجتنابها حيث يقول: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فاقتضى ظاهر الأمر باجتنابها بحمله على مقتضاه من العموم الشرب وغيره، والبول لم يأت فيه ذلك إلا أنه نجس بالإجماع، فحرم التداوي بشربه، وجاز الانتفاع به في غسل الجرح وشبهه، قياسًا على ما أجازته السنة من الانتفاع بجلد الميتة النجس" (1)
إذن مذهب إمام دار الهجرة يحرم التداوي بالخمر شربًا وغسلًا ودهنًا على المعتمد، وأما المذهب الشافعي فقد قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "كتاب الأشربة والتعازير" من شرحه على منهجه: "كل شراب أسكر كثيره من خمر أو غيره حرم تناوله وإن قل ولم يسكر لآية {إِنَّمَا الْخَمْرُ} ولخبر الصحيحين: ((كل شراب أسكره فهو حرام)) وخبر مسلم: ((كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)) ولو كان تناوله للتداول أو عطش لو لم يجد غيره لعموم النهي عنه (2)
__________
(1) ابن رشد: البيان والتحصيل: 188/ 428 - 429
(2) شرح المنهج: 5/ 158(3/1159)
وقيد سلمان الجمل في حاشيته على شرح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري على منهجه كلامه بقيدين:
1- ما لم تستهلك الخمر في غيرها.
2- أن لا يوجد دواء طاهر يقوم مقامها.
وإلا جاز التداوي بها.
ثم قال: والأصح تحريمها صرفًا لخبر: ((إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها)) .
وأما مستهلكة مع دواء آخر فيجوز التداوي بها كصرف بقية النجاسات، إن عرف، أو أخبر طبيب عدل بنفعها وتعينها بأن لا يغني عنها طاهر.
ولو احتيج في قطع يد متآكلة إلى زوال عقل صاحبها نحو ساعة ببنج جاز لا بمسكر مائع (1)
وجاء في آخر كتاب الأشربة لابن عابدين في حاشية رد المحتار على الدر المختار ما نصه: سئل ابن حجر المكي عمن ابتلي بأكل نحو الأفيون وصار إن لم يأكل منه هلك؟
فأجاب: إن علم ذلك قطعًا حل له بل وجب لاضطراره إلى إبقاء روحه كالميتة للمضطر، ويجب عليه التدريج في تنقيصه شيئًا فشيئًا حتى يزول تولع المعدة به من غير أن تشعر فإن ترك ذلك فهو آثم فاسق.
قال الرملي: وقواعدنا لا تخالفه (2)
وفي المذهب الحنبلي لا يجوز شربها للتداوي فإن شربها لذلك لم يبح له. وعليه الحد.
ودليلهم ما رواه الإمام أحمد بإسناد عن طارق بن سويد أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أصنعه للدواء، فقال: ((إنه ليس بدواء ولكنه داء)) .
وبإسناده عن مخارق ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة، وقد نبذت في جرة، فخرج والنبيذ يهدر، فقال: ما هذا؟ فقالت: فلانة اشتكت بطنها فنقعت لها، فدافعه برجله فكسره، وقال: إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء)) ولأنه محرم لعينه، فلم يبح للتداوي كلحم الخنزير، ولأن الضرورة لا تندفع به فلم يبح كالتداوي بها فيما لا تصلح له (3)
__________
(1) حاشية الجمل على شرح المنهج: 5/ 158
(2) نهاية المحتاج: 5/ 297
(3) ابن قدامة، المغني: 8/ 308(3/1160)
وبعد عرض نصوص المذاهب الأربعة من أمهاتها المعتمدة في الفتوى وبعد استخلاص أن ثلاثة منها جري فيها الخلاف في جواز التداوي بالخمر وعدم الجواز وهي الحنفي والمالكي والشافعي وأن المذهب الحنبلي فقط لا يجيز شربها للتداوي فيما علمت، وبعد وضعنا نصب أعيننا ما رواه وائل بن حجر أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه عنها: فقال: ((إنما أصنعها للدواء؟ فال: إنه ليس بدواء ولكنه داء)) وقول ابن مسعود في المسكر الذي ذكره البخاري: أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم، وما رواه الإمام أحمد عن مخارق: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة وقد نبذت نبذًا في جرة، فخرج ولا نبيذ يهدر فقال: ((ما هذا؟)) فقالت: فلانة اشتكت بطنها، فنقعت لها، فدفعه برجله فكسره، وقال: ((إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء)) ، وبعد العلم أنه لا منازع في عموم قوله تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} وأنهم اختلفوا في تخصيص القرآن العام بالسنة واتفقوا على عدم تخصيص عموم القرآن بالحديث الضعيف، وبعد العلم بما أولت به هذه الأحاديث وما شابهها من قبل القائلين بجواز التداوي بالمحرمات وبالمسكر منه فقالوا: إن الأحاديث المانعة من التعالج بالخمر محمولة بالمحرمات وبالمسكر منها فقالوا: إن الأحاديث المانعة من التعالج بالخمر محمولة على أن الحرمة ارتفعت بالضرورة، أو الحاجة منزلتها لما يلحق تارك التعالج بها من انخرام في صحته، أو لحاق شديد الحرج به إن لم يتداو بها، فلم تتناول الأحاديث المذكورة، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك في أمراض عرف لها دواء طاهر ميسور غيرا لخمر أو أنها محمولة على الخمر صرفًا.(3/1161)
فإذا وعينا كل هذا وأضفنا إليه أن مادة الكحول في عالمنا المعاصر لها الأثر الفعال في ميدان التطبيب وقاية وعلاجًا، وأن كثيرًا من الأدوية كما جاء بالسؤال تحوي على كميات منها تتراوح بين 01? و 25? وأن معظم هذه الأدوية من أدوية الزكام واحتقان الأنف والحنجرة والسعال وغيرها من الأمراض المنتشرة لا سيما في البلاد البردة، وأن هذه الأدوية تمثل ما يقارب 95? من لأدوية، وأن الحصول على أدوية غير كحولية عملية صعبة وشاقة، وأن علما لطب أثبت لبعض الأدوية التي يتوقف علاج بعض الأمراض عليها كالبنيسلين ضررًا، ولكنه أخف من المرض المعالج به، وأن من قواعد فقهاء الإسلام المتعارفة بينهم: أن الضرر الأشد يزال بالأخف (1) وأنه من القدر الدواء، وأن التداوي إن لم يكن ضروريًا فهو حاجي، وأن الحاجة عامة كانت أو خاصة تتنزل منزلة الضرورة (2) وأن الضرورة أو الحاجة تقدر بقدرها (3)
وانطلاقًا من كل ما سلف، وترتيبًا عليه أفتي وأنا فقير ربه محي الدين قادي وإني بدار الغربة بجواز التداوي بالأدوية الكحولية متى أخبر بنفع ذلك طبيب عارف بمهنته، ثقة فيها، ولم يوجد دواء غير كحولي ميسور، أو كان دون الكحولي في النفع فدين الله يسر، وليس بعسر، والله أعلم.
__________
(1) ابن نجيم: الأشباه والنظائر: 96
(2) السيوطي، الأشباه والنظائر: 88
(3) السيوطي، الأشباه والنظائر: 88(3/1162)
السؤال الثالث عشر
هناك الخمائر والجلاتين توجد فيها عناصر مستخلصة من الخنزير بنسب ضئيلة جدًا، فهل يجوز استعمال الخمائر والجلاتين؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد والله ولي التوفيق فأقول: هناك قاعدة مشهورة: " الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومعرفة حكم استعمال هذه الخمائر والجلاتين يتوقف على تصورنا لحقيقتها".
جاء في دائرة المعارف لمحمد فريد وجدي: يسمى بالخميرة أجسام متعضونة لا ترى إلا بالميكروسكوب، وهي قد تكون نباتية أو حيوانية تحيا وتنمو في بعض الأجسام العضوية، فتحيلها إلى متحصلات أخرى، العمل الكيماوي الذي تحدثه الخميرة يسمى " تخميرًا " (1) كما ورد في نفس الموضوع ذكر الجلوتين باعتباره مادة تخمر الأشياء (2)
وبهذا التصور الإجمالي لكلمتي خمائر وجلاتين، وبعد معرفتنا أن السؤال وارد عن بعض هذه الخمائر والجلاتين المحتوي على نسب ضئيلة من أكياس توجد في معدة الخنزير بالنسبة إلى الخماير أو من عظمه بالنسبة إلى الجلاتين، وأن هذه النسبة الضئيلة جدًا أقول: إن الخلاف جار بين الفقهاء في كون النجاسة تطهر بالاستحالة أو لا؟
قال ميارة عن كلامه على ما يظهر بالاستحالة: "ومنه القمح النجس يزرع، فينبت هو طاهر.. ومنه الخمر إذا تحجر، أي جمد، وصار طرطارًا على المشهور وكذلك إن صارت خلًا، وفي ذلك طريقتان:
طريقة ابن رشد: إن تخللت بنفسها فلا خلاف في طهارتها، ومحل القولين إذا خللها صاحبها بالمعاناة والمعالجة.
والطريقة الثانية: أن القولين في المخللة بذاتها، والمخللة بالصنعة حكاها عياض عن وضاح.
ولأبي محمد عبد الواحد الونشريسي في نظم إيضاح المسالك لوالده:
ولابن رشد حل ما تخللا
بنفسه، والخلف فيما خللا
(3)
وجاء في البيان والتحصيل لابن رشد: "قال ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب الضحايا: في الجدي يرضع الخنزيرة، أحب إلى أن لا يذبح حتى يذهب ما فيه بطنه ولو ذبح مكانه لم ير به بأسًا" (4)
__________
(1) دائرة المعارف: 3/ 795
(2) دائرة المعارف: 3/ 795
(3) الشرح الكبير على المرشد المعين: 88 - 89
(4) البيان والتحصيل: 1/ 155(3/1163)
ولعل النظير والشبيه لهذه القضية المطروحة ما جرى بالمغرب الأقصى في القرن الثالث عشر الهجري حين أخبر بعض الثقات ممن له مزيد فطنة، ويتيقظ أن سكر القالب الذي جلب من بلاد الروم، ويجعلون فيه الدم المسفوح عند طبخه للتصفية، ثم يبالغون فيه بالعمل طبخًا وتصفية إلى أن يصير في النهاية من البياض والصلابة مفرغًا في القوالب على الشكل المواصل إلينا، وكثر التساؤل نظمًا ونثرًا عن حكم ما استعمل فيه من المشروبات والمأكولات أهو الجواز أو الحرمة؟ وتعددت الإجابات، واختلفت.
وممن أجاب عن السؤال وأجاب أبو الربيع سليمان الحوات في نحو كراسة، ومما جاء في إجابته، "وهب أن تنجيس النصارى للسكر بما ذكر، قد ثبت الثبوت المعتبر، بل تواتر فيما مضى وغبر، لا يحرم أكله، ولا يمنع بيعه لطهارته بعد الاستحالة إلى صلاح، وعدم استقذاره فإنه دم منعقد طاهر لاستحالته إلى صلاح، وإن كان جزء حيوان، لاتصافه بنقيض علة النجاسة، وهي علة الاستقذار وقد قال الحطاب: إن جواز أكله كالمعلوم من الدين بالضرورة، وكلام الفقهاء في أكل المحرم الطعم الممسك دليل على ذلك.
وقد صحح البرزلي جواز استعمال ما يصبغ بالدم، أو بالبول، وأجراهما على النجاسة تنقلب أعيانها إلى صلاح، وأما طهارته لكثرة الأعمال فيه، من تكرار طبخه مرارًا، والسكر في أوان تختلف بحسب كل طور من أطوار طبخه، إلى غير ذلك مما في التذكرة للشيخ داود فكأنه به أحمر قان مائع، فإذا هو أبيض جامد كالحجارة أو أشد لا أكثر لعين الدم النجس فيه بحال طعمًا ولا لونًا، لا ريحًا، وإذا تحقق ذهاب عين النجاسة فلا معنى لمنع ما سواه نحو ما في الرحلة العياشية عن سيدي أحمد بن عمران في الملف الذي يصنع ببلاد الروم من الصوف لمنتوف من الغنم الحية، إن الجزء النجس منها لا يبقى مع الأعمال الكثيرة التي يصير بعدها ملفًا بالغ الصنعة من دق وغسل وقصر وغزل، ونسيج وغير ذلك، بل يضمحل بالكلية، فلا يمنع حينئذ من لبسه لتحقق ذهاب عين النجاسة منه، ودون هذه الأعمال المتداولة على السكر والملف بكثير عمل الزيت المتنجس، وقد أفتى المازري بجواز استعماله إن لم يتغير أحد أوصافه، وقال: إنه الصحيح عندي على أصل المحققين ثم التطهير بكثرة الأعمال في المتنجس كالسكر والزيت أظهر منه في نفس النجس الذي هو الصوف المنتوف كما أنه أظهر فيهما معا من الطعام الذي طبخ فيه روث الفرس وهو غالب على الطعام وقد أفتى ابن عرفة بأكله.(3/1164)
لا يقال: إن هذا السكر يحتمل عقلًا أن يبقى فيه شيء من أثر الدم النجس ولو بولغ في أعماله؛ لأنا نقول: هذا الاحتمال إنما هو من جملة التجويزات العقلية وهي لا تعتبر في الأحكام الفقهية التي هي على غلبة الظن مبنية على أنه احتمال جار عقلًا في أكثر الأشياء دائمًا، إذ ما من طعام، أو شراب أو ثياب أو غيرها إلا وهو محتمل عقلًا لتعلق شيء من النجاسة به، ولا ينتفي الاحتمال عنه بتكرر الأعمال فيه أبدًا، فالاستثناء إذن في ذلك إنما هو إلى حكم العادة ولا إلى مجرد التجويز العقلي (1)
وقال ابن تيمية من فقهاء الحنابلة: الاستقراء دلنا أن كل ما بدأ الله بتحليله وتبديله من جنس إلى جنس مثل جعل الخمر خلا، والدم منيا، والعلقة مضغة، ولحم الجلالة الخبيث طيبا، وكذلك بيضها ولبنها والزرع المسقى بالنجس إذا سقي بالماء الطاهر وغير ذلك، وأنه يزول حكم التنجيس، ويزول حقيقة النجس، واسمه التابع للحقيقة، وهذا ضروري لا يمكن المنازعة فيه فإن جميع الأجسام المخلوقة في الأرض فإن الله يحولها من حال إلى حال ويبدلها خلقًا بعد خلق، ولا التفات إلى موادها وعناصرها.
وأما ما استحال بسب كسب الإنسان كإحراق الروث حتى يصير رمادًا ووضع الخنزير في الملاحة حتى يصير ملحًا ففيه خلاف مشهور، والقول بالتطهير اتجاه وظهور (2)
وانطلاقًا من كل النصوص الفقهية التي نقلت والمقتضية أن النجاسة تطهر بالاستحالة أفتي إخواني المسلمين في بلاد الغربة وغيرها من بلاد الإسلام بحلية ما تستعمل فيه الخمائر والجلاتين المذكورة، واستعمال غيره من الخمائر النباتية، أو الجلاتين التي تحتوي على نسب من عظم حيوانات مذكاة ويحل لنا أكلها كالبقر أولى وأدخل في باب اتقاء ما يريب، والله أعلم.
__________
(1) محمد الطالب بن حمدون بن الحاج السلمي، حاشية على الشرح الصغير لميارة علي المرشد: 146 - 147
(2) ابن تيمية، الفتاوى: 21/ 600 - 601(3/1165)
السؤال الرابع عشر
يضطر معظم المسلمين إلى إقامة حفلات الزفاف لبناتهم في مساجدهم، وكثيرًا ما يتخلل هذه الحفلات رقص وإنشاد، أو غناء، ولا تتوفر لهم أماكن تتسع لمثل هذه الحفلات، فما حكم الإقامة هذه الحفلات في المساجد؟
في الجواب عن هذا السؤال أفيد والله ولي الهداية والتسديد فأقول: لقد ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بإعلان النكاح، والضرب بالدفوف، ورفع الأصوات بالغناء فعن محمد بن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت والنكاح)) رواه الخمسة إلا أبا داود، وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالغربال)) 9.
وعن ابن عباس قال: أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أهديتكم الفتلة؟ قالوا: نعم، قال: أرسلتم معها من يغني؟ قالت: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأنصار قوم فيها غزل، فلو جمعتم معها من يقول: أتيناكم، أتيناكم ... فحيانا، وحياكم)) رواهما ابن ماجه (1)
وفي هذه الأحاديث التي سقتها دليل على جواز ضرب الأدفاف، ورفع الأصوات بشيء من الكلام نحو: أتيناكم الخ.. وما يشاكله، لا بالأغاني المهيجة للشرور، المشتملة على وصف الجمال والفجور، ومعاقرة الخمور فإن ذلك يحرم في النكاح كما يحرم في غيره، وكذلك سائر الملاهي الملهية (2)
وقلت في صدر الكلام: ورد الأمر في السنة وظاهر الأمر الوجوب ولعله لا قائل به فيكون مسنونًا (3) وذلك بالشرط السالف الذكر.
__________
(1) ابن تيمية الجد، منتقى الأخبار، كتاب النكاح، باب الدف واللهو في النكاح: 6/ 336
(2) الشوكاني، نيل الأوطار: 6/ 337
(3) الصنعاني، سبل السلام: 3/ 117(3/1166)
إذن حفلات الزفاف إذا روعيت فيها الآداب الإسلامية مندوب غليها مرغب فيها لكن إقامتها في المساجد هي مركز الاهتمام، قال محمد بن رشد: المساجد إنما اتخذت لعبادة الله عز وجل بالصلاة والذكر والدعاء فينبغي أن تنزه عما سوى ذلك، قال الله عز وجل {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أي أمر بذلك، ومن ترفيعها ألا ينشد فيها الشعر (1)
وقال خاتمة المحققين ابن عابدين الحنفي: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنشد الأشعار في المسجد.. ووفق بينه وبين ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم وضع لحسان منبرًا ينشد عليه الشعر، يحمل الأول على ما كانت قريش تهجو به ونحوه مما فيه ضرر، أو على ما يغلب على المسجد حتى يكون أكثر من فيه مشتغلًا به (2)
وقيد رحمه الله الإنشاء بنشيد الأعراب وهو إنشاد الشعر من غير لحن (3)
والقضية التي وقعت الإشارة إليها في كلام ابن رشد الجد عجوز المذهب كما يلقب عند المالكية، وعند العلامة ابن عابدين الذي أدركنا شيوخنا بجامع الزيتونة يلقبونه بخاتمة المحققين، في المذهب النعماني هي جواز إنشاد الشعر بالمساجد أو منعه، واختلاف الفقه في ذلك لورود أحاديث متعارضة في ظاهرها، فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن عمر رضي الله عنه مر بحسان بن ثابت رضي الله عنه ينشد في المسجد فلحظ إليه –أي نظر إليه وكان حسان فهم من نظرة عمر إنكاره لصنيعه) فقال: قد كنت أنشد فيه، وفيه خير منك –يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم- متفق عليه.
وفي هذا الحديث الشريف جواز إنشاد الشعر في المسجد، وقد عارضته أحاديث أخر، منها ما أخرجه ابن خزيمة وصححه الترمذي من حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تناشد الأشعار في المسجد.
وقد وقع الجمع بين هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض بما ذكره العلامة ابن عابدين وبغيره لكن الوجه الأخير من وجه التوفيق بين هذه الأحاديث المتعارضة هو الصواب، والوجه الأول مردود بحديث جابر بن سمرة الذي رواه الإمام أحمد عنه قال: ((شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة في المسجد وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت، فربما تبسم معهم)) أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح.
__________
(1) البيان والتحصيل: 1/ 237
(2) رد المحتار على الدر المختار: 1/ 444
(3) رد المحتار على الدر المحتار: 1/ 443(3/1167)
وفي هذا الحديث التصريح بأنهم يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية، فيكون المنهي عنه ما إذا كان التناشد غالبًا على المسجد حتى يتشاغل به من فيه، وقد قيد ابن العربي إنشاد الشعر في المسجد بعدم رفع الصوت بالإنشاد بحيث يشوش بذلك على مصل أو قارئ أو منتظر الصلاة، فإن أدى إلى ذلك كره، ولو قيل بتحريمه لم يكن بعيدًا (1) وقال الونشريسي من فقهاء المالكية: أجاز الشيوخ قراءة الحساب في المسجد وإعراب الأشعار الستة بخلاف قراءة المقامات لما فيها من الكذب والفحش، وكان ابن البراء بالجامع الأعظم بتونس لا يقرؤها فيه إلا بالدويرة منه، إذ ليس للدويرة حكم الجامع.
قال ابن عرفة: وفي فتوى ابن رشد بإدخال من لا غنى له عن مبيته بالمسجد من سدنته لحراسته، ومن اضطر لمبيت به من شيخ ضعيف أو زمنٍ أو مريض، أو رجل لا يستطيع الخروج ليلًا للمطر والريح والظلمة ظروفًا لها للبول نظر، لأن ما يجوز له اتخاذه بها غير واجب، وصونها عن ظروف البول واجب، ولا يخل في نفل بمعصية، ولا تسل به سيوف، ولا يحدث به حدث الريح، وعمل الحبشة به منسوخ، قال عياض: ولأنه من أعمال البر.
وأفتى ابن لبابة أيضًا وأصحابه بعدم منع المستحلقين في المسجد للخوض في العلم وضروبه لفعل الأئمة ومالك، قال سهل: إطلاقه غير صحيح إنما ذلك لمن يوثق بعلمه ودينه، وقصر كلامه على ما يعلمه في غير أوقات الصلوات حتى لا يضر بالمصلي، أهـ.
__________
(1) الشوكاني، نيل الأوطار: 2/ 168(3/1168)
قال ابن عرفة: وهذا التقييد صحيح لانعقاد الإجماع على عدم قبول الفتيا من مجهول الحال حتى يشتهر بالعلم والدين (1)
فإذا كانت المقامات لا تقرأ بجامع الزيتونة من طرف لإمامة ابن البراء فيه وإنما تقرأ في الدويرة: بالرغم على أنها تقرأ للتعلم أو التعليم.
وإذا منع من اضطر لمبيت بالمسجد من مريض وزمن، وعاجز عن الخروج بالليل لمطر لاحتياجه إلى ظروف البول، والواجب تنزيه المسجد عنها، جريًا على القاعدة التي رواها أشهب عن مالك: لا يدخل في نفل بمعصية، وإذا كان رقص الحبشة في المسجد النبوي الشريف بالدف والحراب بحضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو مدرسة لتعلم فنون الحرب في ذلك الزمن قد اختلف العلماء فيه، فمن قائل بالنسخ ومن قائل: إنه عمل من أعمال البر.
وإذ كانت حِلَقِ العلم تقيد العلوم والمعارف التي تلقى فيها بعلم الحق، حتى لا يقال في بيت من بيوت الله أن ترفع باطل، وبصحة الدين حتى تراعى آداب المسجد، ويقيد وجودها في غير أوقات الصلوات حتى لا يشغل ذلك مصلٍّ وإلا كان المنع منها.
وإذا كان هذا التقييد من طرف بن سهل بما ذكر لكلام ابن لبابة يكفي التأييد من الإمام ابن عرفة رحمه الله مدعمًا له بأن الإجماع على عدم قبول الفتيا من مجهول الحال حتى يشتهر بالعلم والدين.
وإذا كان كل ذلك فكيف تنتهك حرمة المسجد الذي هو بيت الله، ومكان العبادة والذكر والتسبيح، بالغناء المثير للشهوة الجنسية، وبالرقص الذي هو من أعظم المهيجات لها في شتى أنماطه وأشكاله في التي تشتمل على تثن وانعطاف لا سيما النمط الغربي فهو مغرق في التهييج لها، وصورة مصفرة من الزنا، هذا أولًا، وثانيًا: سئل إمام دار الهجرة عن الغناء الذي يفعل بالمدينة فقال: إنما يفعله عندنا الفساق.
__________
(1) المعيار: 11/ 13(3/1169)
وهذا محمول على غناء النساء، وأما الرجال فغناؤهم مذموم أيضًا، بحيث إذا داوم أحد على فعله أو سماعه سقطت عدالته، لما فيه من إسقاط المروءة ومخالفة السلف، حكى عياض عن التميمي أنه قال: كنا عند مالك وأصحابه حوله فقال رجل من أهل نصيبين: يا أبا عبد الله، عندنا قوم يقال لهم الصوفية، يأكلون كثيرًا، ثم يأخذون في القصائد ثم يقومون فيرقصون؟ فقال مالك: أصبيان هم؟ قال: لا، قال: أمجانين هم؟ قال: لا، قوم مشائخ وغير ذلك عقلاء، فقال مالك: ما سمعت أحدًا من أهل الإسلام يفعل هذا.
انظر كيف أنكر مالك وهو إمام السنة أن يكون في أهل الإسلام من يفعل هذا إلا أن يكون مجنونًا أو صبيًا، فهذا بين أنه ليس من شأن الإسلام، ثم يقال: ولو جعلوه على جهة اللعب كما يفعله الصبي، لكان أخف عليهم مع ما فيه من إسقاط الحشمة وإذهاب المروءة، وترك هدي أهل الإسلام وأرباب العقول (1)
ولنتأمل في نص هذه الفتوى من إمام دار الهجرة ومن التعليق عليها الوارد في معيار الونشريسي في الغناء والرقص، ولنقف عند الغناء في أي مكان من الغناء المحتوي على الغزل والفجور صناعة الفساق وعد الرقص ولو من طرف من يفعلونه تقربًا إلى الله كالصوفية من البدع المنكرة، لنعرف على أي خطر سيقدم من يقيم حفلة فيها رقص وغناء في بيت من بيوت الله التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه، لأنه يمارس في المسجد الغناء وهو فعل الفساق، والرقص ذا التثني والانعطاف والمثير للشهوة وهو صورة مصغرة من الزنا إذا كان في شكله الغربي، ولا ضرورة تدعو لذلك حتى في غير المساجد، إذ الضرورة هي التي إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة يدل على فساد وفوت حياة وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم. (2)
وانطلاقًا من كل ذلك أُفتي بحرمة التجمعات المختلطة من الجنسين في المساجد إذا لم تراع فيها الآداب المطلوبة في الفقه الإسلامي من جلوس المرأة في قاع المسجد، وبحرمة ممارسة الرقص والغناء في المساجد وعد ذلك من أشد المنكرات المسقطة للعدالة والمذهبة للمروءة. والله أعلم.
__________
(1) المعيار: 11/ 41
(2) الشاطبي: الموافقات 2/ 4(3/1170)
السؤال الخامس عشر
ما حكم زواج الطالب والطالبة المسلمة زواجًا لا ينوي استدامته، بل النية منعقدة عنده على إنهائه بمجرد انتهاء الدراسة والعزم على العودة إلى مكان الإقامة الدائم ولكن العقد يكون –عادة- عقدًا عاديًا وبنفس الصيغة التي يعقد بها الزواج المؤبد فما حكم هذا الزواج؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أقول –ومنه جل جلاله بلوغا المأمول-: إن حكم زواج الطالب المسلم بدار الغربة زواجًا لا ينوي استدامته، بل نيته منعقدة على إنهاءه بمجرد انتهاء الدراسة، والعزم على العودة إلى دار الإسلام الجواز.
جاء في الشرح الكبير لأبي البركات سيدي أحمد الدردير: وحقيقة نكاح المتعة الذي يفسخ أبدًا أن يقع العقد مع ذكر الأجل للمرأة أو وليتها، وأما إذا لم يقع ذلك في العقد، لم يعلمها الزوج بذلك، وإنما قصده في نفسه، وفهمت المرأة أو وليها المفارقة بعد مدة فإنه لا يضر.
وهي فائدة تنفع المتغرب (1) لكن قال مالك –رحمه الله- ليس من أخلاق الناس (2) المعنى أن النكاح كما ذكر في قول أبي البركات صحيح في قول عامة أهل العلم إلا الأوزاعي قال: هو نكاح المتعة.
ثم قال: إنه لا بأس به، ولا تضر نيته، وليس على الرجل أن ينوي حبس امرأته وحبسه إن وافقته وإلا طلقها. (3)
وأما المطالبة الواردة في السؤال فهي مقحمة لا معنى لإقحامها في السؤال، إذ المرأة لا تملك فك العصمة، وإنما ذلك ملك للزوج قال عليه الصلاة والسلام "إنما الطلاق لمن أخذ بالساق" رواه الدارقطني وابن ماجة، وأخرجه الطبراني وابن عدي. ولكن قال شيخنا محمد الحطاب بوشناق المفتي الحنفي بمحروسة تونس سابقًا: وإنما للمرأة أن تشترط وقت النكاح أن تكون عصمتها بيدها فيصير الطلاق حينئذ من حقوقها توقعه في أي وقت. (4)
وترتيبًا على ما ذكر أفتي - وأنا الفقير إلى ربه الغني محيي الدين قادي - إخواني بدار الغربة بذلك. والله أعلم.
__________
(1) الشرح الكبير: 2/ 239
(2) د. محمد سويسي، الفتاوى التونسية في القرن الرابع عشر الهجري: 2/ 812 مرقونة.
(3) ابن قدامة. المغني: 6/ 665
(4) د. محمد سويسي، الفتاوى التونسية في القرن الرابع عشر الهجري: 2/ 810 مرقونة.(3/1171)
السؤال السادس عشر
بعض الحكومات النصرانية (خاصة في أمريكا الجنوبية) تفرض على رعاياها التسمي بالأسماء النصرانية، وتضع قوائم بأسماء اختارتها للأطفال ذكورًا كانوا أو إناثًا، ولا تسمح بتسجيل المواليد بأسماء تختار من غير هذه القوائم، فما حكم تسمي المسلمين بهذه الأسماء؟ وما الحلول التي تقترحونها في هذه الأحوال؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد –والله ولي الفتح والتسديد-: التسمي بالأسماء النصرانية جائز للمسلم ما لم يكن فيه انتماء لصنم، أو وثن، أو عبودية لغير الله كعبد المسيح، أو تبرك بمتعبداتهم كابن كنيسة القيامة، أو نصراني أو نصرانية يزعمون أنهما من الصالحين، ولم يثبت ذلك عندنا، أما إذا جاء في شرعنا الإسلامي نسبته إلى الصلاح كمتى ويهوذا، أو برنبا من حواري السيد المسيح عليه السلام فيجوز للمسلم أن يسمي ابنه بذلك الاسم، بل يندب إليه لأنه اسم لولي من أولياء الله، ولأنه قصد به التفاؤل، أو إشعار بتزكية كصلاح الدين ومحيي الدين ذكر ذلك العلامة ابن عابدين وذكر أن بعض المالكية ألف في منع الأسماء المشعرة بتزكية مؤلفًا خاصًا، ونقل عن القرطبي المالكي التصريح بذلك في شرح أسماء الله الحسنى، كما نقل عن الإمام النووي أنه كان يكره من يلقبه بمحيي الدين، يقول: لا أجعل من دعاني به في حل. (1)
فإذا خلا الاسم النصراني أو غيره عما ذكرته جاز بصورة عامة، وندب إذا قصد به صاحبه التفاؤل لمن سماه به كما ذكرت.
__________
(1) يراجع رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين: 5/ 268 - 269(3/1172)
ويندب لإخواننا المسلمين في بلاد الغربة أن يراعوا الآداب التي نص عليها فقهاء الإسلام في تسمية البنين والبنات ما استطاعوا لذلك سبيلًا، فيختارون من ضمن هذه القوائم ما تعريبه عبد الله، أو عبد الرحمن، إن وجد هذان الاسمان في القوائم المعدة المفروضة على المتواجدين ببعض الحكومات النصرانية، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم من طريق نافع عن ابن عمر رفعه: ((إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن)) واختار له اسمًا من أسمائه عليه الصلاة والسلام غير المشهور به كمحمد وأحمد فمثلًا يسميه "الطيب" أو من أسماء إخوانه الرسل على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام كإلياس واليسع ودنيال، لما روى عن سعيد بن المسيب أنه قال: ((أحب الأسماء إلى الله تعالى أسماء الأنبياء)) ولا تعارض بين الحديث الأول وبين هذا الحديث، إذ الأول محمول على من أراد التسمي بالعبودية، لأن أهل الجاهلية كانوا يسمون عبد شمس عبد الدار وإلا فمحمد وأحمد ومحمود أحب إلى الله تعالى من جميع الأسماء، فإنه لم يختر لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أحب الأسماء إليه، هذا هو الصواب، ولا يجوز حمل الحديث الأول على الإطلاق. (1)
وأنا أقول: إن باقي الخمس والعشرين من الرسل المذكورين في القرآن الكريم ليس فيهم واحد مدعو بعبد الله، أو عبد الرحمن، وقد سمى رسول الله أبناءه الذكور –خلا عبد الله- بغير العبودية فسمى مثلًا ابنه من مارية القبطية إبراهيم" عليه السلام باسم أبينا إبراهيم عليه السلام.
وكذلك هم مطلوبون على وجه الندب بتحسين أسماء أولادهم من ضمن تلك القوائم "كوروجو" أي الشجاع اسم حسن، و"شربوني" أي الفحام اسم خلاف ذلك.
__________
(1) يراجع رد المحتار لابن عابدين: 5/ 268(3/1173)
((فعن ابن المسيب عن أبيه أن أباه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما اسمك؟ قال: حزن، قال: أنت سهل، قال: لا أغير اسمًا سمانيه أبي، قال ابن المسيب: ما زالت الحزونة فينا بعد)) ومقياس الاسم الحسن هو: أن لا تستكَّ من سماعه المسامع، وأن يصل إلى النفس من أقرب سبيل، ويؤخذ منه فأل حسن، وقد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما رواه أبو داود ((العاصي وعتلة، وشيطانًا، وغربا، وحبابا، وشهابا، وحربا)) وكان لعمر بنت تسمى عاصية فسماها جميلة، روى مالك في الموطأ في كتاب الجامع فيما يكره من الأسماء ((عن يحيى بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: للقحة تحلب: من يحلب هذه؟ فقام رجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما اسمك؟ فقال له الرجل: مرة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس، ثم قال: من يحلب هذه؟ فقام رجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ فقال: حرب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس، ثم قال: من يحلب هذه؟ فقام رجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ فقال يعيش، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: احلب)) وروي عنه أيضًا في نفس الكتاب والباب: أن عمر بن الخطاب قال لرجل: ما اسمك؟ فقال: جرمة. فقال: ابن من؟ فقال: ابن شهاب، قال: ممن؟ قال: من الحرقة، قال: أين مسكنك؟ قال: بحرة النار، قال: بأيها؟ قال: بذات لظى، قال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا، قال: فكان كما قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه.
والحديث الأول ما تضمنته ليس طيرة لأنه من المحال أن ينهى عليه الصلاة والسلام عن الطيرة ويتطير، وإنما هو من باب الفأل الحسن وقد كان أخبرهم عن سيئ الأسماء: حرب ومرة، وأكد ذلك حتى لا يتسمى بهما أحد.(3/1174)
والحديث الثاني كذلك يأمر بتحسين الاسم واحتوائه على فأل حسن، والأمر بتحسين الأسماء، وبتغيير الاسم إلى ما أحسن منه ليس على سبيل الوجوب كما ذكر ذلك ابن بطال في شرحه لحديث سعيد بن المسيب، وقد ورد ذلك صريحًا فيما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان من حديث أبي الدرداء رفعه: ((إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم..)) ورجاله ثقات، قال الطبري، لا تنبغي التسمية باسم قبيح المعنى، ولا باسم يقتضي التزكية له، ولا باسم معناه السب. (1) وليلاحظ أن ابن جرير لا يرى في الاسم المُشْعِر بتزكية أكثر من ترك مندوب بينما يراه ابن عابدين كما أسلفت من الحرام التسمية به، وهو مذهب المالكية للنهي عن تزكية النفس قرآنًا وسنة، أما القرآن فقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} والآية تقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل، فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له.
وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: ((سميت ابنتي برة فقالت لي زينت بنت أم مسلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت بَرَّةَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البر منكم، فقالوا: بم نسميها؟ فقال: سموها زينب)) فقد دل الكتاب والسنة على حرمة أن يزكي الإنسان نفسه، قال القرطبي وعقب عليه بقوله: ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية كزكي الدين ومحيي الدين وما أشبه ذلك، ولكن لما كثرت قبائح المسلمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئًا. (2)
__________
(1) ابن حجر: الفتح: 10/ 755 و 757
(2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 5/ 246(3/1175)
وإن لم يتسن لإخواننا المسلمين في بلاد الغربة مراعاة الآداب المطلوبة في تسمية الولد فالتسمية باسم لم يذكر الله تعالى في عباده، ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا استعمله المسلمون فالأولى أن لا يفعل كما تكلموا، هذا ما قاله ابن عابدين، والمسلم مختار في تسمية ولده تمام الاختيار وليس مجبورًا على قوائم بعينها لا يتجاوزها، والظاهر أنه في الأسماء البديعة لا ما عرف من أسماء المسلمين من فرس كقاشاني، أو روم كمارية أو غيرها بعد الفتوح الإسلامية ودخول أمم عديدة في الإسلام وبقائها على أسمائها، لأن الأحكام الشرعية لا تناط بالأسماء، وقد أخطأ بعض الفقهاء في صنف من الحيتان يسميه البعض خنزير البحر، فقالوا: يحرم أكله لأنه خنزير، ومن أجل ألا يقع خطأ في إناطة الحكم بالاسم كره مالك –رضي الله عنه- أن يسمى هذا النوع من الحيتان بخنزير الماء، ومن أجل أن المراعى في التسمية اقتران الاسم بصفته وحقيقته، وأن لا يفتى بحلية التسمية به أو حرمة ذلك إلا بعد معرفة ما ذكر أنذر رسول الله طائفة من أمته يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها منكرًا ذلك عليهم فقال: ((ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)) رواه أحمد وابن أبي شيبة، فتغيير الاسم لا يؤثر بمنطوق الحديث الشريف في تحليل الحرام، كذلك لا يكون مؤثرًا في تحريم الحلال، وبعبارة أحوط واشمل لا تكون الأسماء مناط الأحكام، ولكنها تدل على مسمى ذي أوصاف تلك الأوصاف هي مناط الأحكام فالمنظور إليه هو الأوصاف خاصة (1) فالاسم النصراني ما خلا عما اشترطناه في صدر هذه الفتوى وقعت التسمية به على ما وصفت في الحكم، وليس ذلك من الركون إلى الكفار المنهي عنه بقوله تعالى {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} لأن المسلم لا يميل كما هو إطار السؤال إلى الأسماء الموجودة بهذه القوائم، ولكن لا مندوحة له عنها.
وانطلاقًا من كل ذلك وترتيبًا على ما ذكر أفتي وأنا الفقير إلى مولاه الغني محيي الدين قادي إخواني في بلاد الغربة أن يسموا أبناءهم بالأسماء النصرانية ما خلت عن شرك أو تبرك بمن يزعمه النصارى من الصالحين أو تزكية، أو تحريف لاسم مقدس في الإسلام وله حرمة، والله أعلم، وهو ولي التوفيق.
__________
(1) سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور –رحمه الله- المقاصد: 0/ 155 – 111- 112 بتصرف واختصار.(3/1176)
السؤال السابع عشر
ما حكم ظهور المرأة في محلات العمل، أو الدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبيها وتكتحل؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد –والله الموفق للصواب-: أن أخذ المرأة من حاجبيها جرى فيه الخلاف بين فقهاء الإسلام فقد جاء في أحكام القرآن لابن العربي أن ذلك من تغيير خلق الله حيث يقول وهو يفسر ما اشتمل عليه قوله تعالى: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} الآية.
المسألة السادسة: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والواشرة والمؤتشرة، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)) .
وذكر أن النامصة ناتفة الشعر تتحسن. (1)
قال القرطبي: واختلف في المعنى الذي نهى لأجلها، فقيل: لأنها من باب التدليس، وقيل: من باب تغيير خلق الله. كما قال ابن مسعود وهو أصح، وهو يتضمن المعنى الأول.
ثم قيل: هذا المنهي عنه إنما هو فيما يكون باقيًا، لأنه من باب تغيير خلق الله تعالى، فأما ما لايكون باقيًا كالكحل والتزين به للنساء فقد أجاز العلماء ذلك: مالك وغيره، وكرهه مالك للرجال
قال الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور –رحمه الله-: وليس من تغيير خلق الله التصرف في المخلوقات بما أذن الله فيه، ولا ما يدخل في معنى الحسن فإن الختان من تغيير خلق الله، ولكنه لفوائد صحية، وكذلك حلق الشعر لفائدة د\فع الأضرار، وتقليم الأظافر لفائدة تيسير العمل بالأيدي. وكذلك ثقب الآذان للنساء لوضع الأقراط والتزين.
وأما ما ورد في السنة من لعن الواصلات، والمتنمصات والمتفلجات للحسن، فمما أشكل تأويله، وأحسب تأويله أن الغرض منه النهي عن سمات كانت تعد من سمات العواهر في ذلك العهد، أو من سمات المشركات، وإلا فلو فرضنا هذه منهيًا عنها لما بلغ النهي إلى حد لعن فاعلات ذلك.
وملاك الأمر أن تغيير خلق الله إنما يكون إثمًا إذا كان فيه حظ من طاعة الشيطان، بأن يجعل علامة لنحلة شيطانية كما هو سياق الآية واتصال الحديث بها" (2)
__________
(1) القرطبي: 1/ 501
(2) التحرير والتنوير: 5/ 205 - 206(3/1177)
وقد زاد هذا المعنى إيضاحًا في كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية في المبحث الذي خصصه لبيان أن قصد الشريعة الإسلامية من أحكامها نوطها بمعان وأوصاف، لا بأسماء وأشكال وبرهن على ذلك بأدلة من السنة واجتهادات الفقه الإسلامي ومن بين ذلك ما علق به على حديث: ((لعن الواصلة والمستوصلة)) (1) الخ.. فقال: وكذلك قد أخطأ بعض المتقدمين في حكم وصل الشعر للمرأة ذات الزوج، وتفليج أسنانها، وتنميص حاجبيها، فجعل لذلك من التغليط في الإثم ما ينافي سماحة الإسلام تمسكًا بظواهر أثر يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن فيه الواصلة، والواشمة والمتفلجة والمتنمصة)) ، وأنا أجزم بأن ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذا كان كذلك ورد عنه: إنما أراد به ما كان من ذلك شعارًا لرقة عفاف نساء معلومات، كما إذا قلنا بتونس: بئست المرأة التي تخرج لافة على يدها منديلًا".
وقد قصد سماحة الأستاذ الإمام رحمه الله: أن هذه الأوصاف المذكورة في هذا الأثر ليست أوصافًا مقصودة للتشريع وإنما أوصاف مقارنة له لا تعلق لغرض الشارع بها.
وقد ذكر في موضع آخر من كتابه السالف الذكر أن الفهم يكاد يضل في فهم المراد من حديث ابن مسعود إذ يرى ذلك صنفًا من أصناف التزين المأذون في جنسه. للمرأة كالتحمير والحلوق والسواك يتعجب من النهي الغليظ عنه، ثم وجهه رحمه الله – بما وجهه به من قبل من أن تلك الأحوال أمارات رقة حصانة المرأة، فالنهي عنها نهي عن الباعث عليها، أو عن التعرض لهتك العرض بسببها.
وحيث اتضح لنا أن تلك الأوصاف ليست مقصودة للتشريع وإنما أوصاف مقارنة لا تعلق لغرض الشارع بها، وأن النهي عنها عن الباعث.
__________
(1) مقاصد الشريعة: 111(3/1178)
وحيث روي عن أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- جواز الوصل للشعر لقصة الزينة للنساء بشعر أو غيره من صوف وخرق ولو أن رواية هذا القول عنها وصفها الإمام النووي –رضي الله عنه- بأنها لم تصح عنها، وأن الصحيح عنها كقول الجمهور وترتيبًا على هذه الرواية عن أم المؤمنين عائشة، والتي يدعمها ذلك التخريج القائم على سبر خلجات أغوار الشريعة الإسلامية أقول –والله الموفق للصواب-:
إن أخذ المرأة شيئًا من شعر حاجبيها بالنماص ونحوه جائز في حاضرنا لفقدان علة النهي وهي أنه أمارة على رقة العفاف وإنما هو نمط من أنماط التزين للنساء الذي ليس فيه اتباع لنحلة شيطانية.
وحيث ثبت ذلك أقول: إن ظهور المرأة في محلات العمل أو الدراسة بعد أخذها من شعر حاجبيها، واكتحالها جائز، لأنه من الزينة الظاهرة التي في سترها حرج عليها من طرف زوجها أو من جانب صورتها، أو من ناحية أترابها، وليس من اليسير إزالتها عند بدوها أمام الرجال وإرجاعها عند الخلو في البيت وكذلك ما كان محل وضعه غير مأمور بستره كالخواتيم، ذلك ما قاله العلامة أبو بكر بن العربي في بيان معنى الزينة الظاهرة ونقله عنه الأستاذ الإمام في التحرير والتنوير، (1) ولم أقف عليه في مظنته وهي قوله تعالى {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} في أحكام القرآن.
ويعرض القرطبي إلى تفسير الزينة الظاهرة في قوله تعالى {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فيقول: قال ابن مسعود: ظاهر الزينة هو الثياب، وزاد ابن جبير: الوجه. وقال سعيد بن جبير أيضًا وعطاء والأوزاعي: الوجه والكفان ولثياب، وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة: ظاهر الزينة، هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع، والقرطة والفتخ ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس.
وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آخر عن عائشة –رضي الله عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى هنا)) وقبض على نصف الذراع (2)
وقال ابن العربي: قال ابن القاسم عن مالك: الخضاب ليس من الزينة الظاهرة، وقيده ابن العربي بما إذا كان في القدمين. (3)
وترتيبًا على كل ما سبق نقله من نصوص أفتي وأنا فقير ربه محيي قادي بجواز ظهور المرأة في محلات العمل أو الدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبيها وتكتحل والله أعلم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 18/ 206
(2) الجامع لأحكام القرآن: 12/ 228 - 229
(3) الجامع لأحكام القرآن: 3/ 1369(3/1179)
السؤال الثامن عشر
بعض المسلمات يجدن حرجًا في عدم مصافحتهن للأجانب الذين يرتادون الأماكن التي يعملن، أو يدرسن فيها، فيصافحن الأجانب دفعًا للحرج، فما حكم هذه المصافحة؟ وكذلك الحال بالنسبة لكثير من المسلمين الذين تتقدم إليهم نساء أجنبيات مصافحات وامتناعهم عن مصافحتهن يوقعهم في شيء من الحرج على حد ما يذكرون ويذكرن؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد –والله ولي الفتح-: لم أر في أمهات المذهب المالكي إثارة هذه القضية، ولكنها في القرون الأخيرة أثيرت حين أصبح بعض طلاب الفقه يقولون: تحرم مصافحة الأجنبية مع قصد اللذة أو وجدانها وإلا فلا حرمة فجاء الجواب الصحيح من طرف بعض شيوخ المذهب عن حكم مصافحة المرأة الأجنبية، فقال الشيخ يوسف الصفتي في حواشيه على شرح ابن تركي على متن العشماوية، تحرم مصافحة المرأة لغير المحرم سواء حصلت لذة أم لا بغير حائل، وعزا نقله هذا إلى الشيخ على الصعيدي في حاشيته على شرح الخرشي على مختصر خليل، ثم حذر –رحمه الله – من خطأ بعض الطلاب في هذه المسألة فقال: فتنبه له، وقد أخطأ في كثير من الطلبة، وزعموا أنه إن حصل قصد اللذة أو وجودها فهو حرام، وإلا فلا، قياسًا على نقض الوضوء. وليس كذلك بل حرام مطلقًا. (1)
ويقول الشيخ عبد الباقي الزرقاني في شرحه على مقدمة له "والمصافحة حسنة" أي مستحبة لرجل مع مثله، أو لامرأة مع مثلها، لا رجل ولو لمتجالة (المرأة التي لا أرب للرجال فيها) لأنها من المباشرة، إن لم يكن محرمها (2)
وقول الصفتي: بلا حائل" مفهومه أنها مع وجود الحائل غير محرمة ولم أعثر على من صرح بحكم هذا المفهوم من فقهاء مذهبنا المالكي، وقواعده تأبى على الأخذ بمفهومات الكتب وأقوال المشائخ، واعتبارها حجة، قال القاضي أبو عبد الله المقري –رحمه الله- في قواعده الفقهية: لا يجوز نسبة التخريج والإلزام بطريق المفهوم أو غيره، إلى غير المعصوم عند المحققين لإمكان الغفلة أو الفارق، أو الرجوع عن الأصل عند الإلزام والتقييد بما ينفيه، أو إبداء معارض في المسكوت أقوى، أو عدم اعتقاد العكس إلى غير ذلك، فلا يعتمد في التقييد ولا يعد في الخلاف. (3)
__________
(1) حواشي الصفتي: 31
(2) شرح الزرقاني: 337 - 338
(3) الونشريسي. المعيار: 6/ 376 - 377(3/1180)
لكن ورد جواز المصافحة للأجنبية بحائل صريحًا في فقه الشافعية حيث يقول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري –رحمه الله- في شرحه على منهجه ما نصه: "وحيث حرم نظر حرم مس"، لأنه أبلغ منه في اللذة بدليل أنه لو مس فأنزل بطل صومه ولو نظر فأنزل لم يبطل، فيحرم على الرجل دلك فخذ رجل بلا حائل" وتعقب محشية الشيخ سليمان الجمل قوله: "ويحرم على الرجل دلك فخد رجل بلا حائل" بأنه يجوز للرجل دلك فخذ الرجل بشرط حائل، وأمن فتنة، وأخذ منه حل مصافحته الأجنبية مع ذينك أي الحائل أمن الفتنة وأفهم تخصيصه الحل معهما بالمصافحة حرمة مس غير وجهها وكفيها من وراء حائل ولو مع أمن الفتنة، وعدم الشهوة، ووجهه أنها مظنة لأحدهما كالنظر. (1)
وقد عرض لها العلامة الحصكفي في الدر المختار في كتاب الحظر والإباحة في الفصل الذي خصصه للنظر والمس فقال: "وما حل نظره حل لمسه إلا من أجنبية فلا يحل مس وجهها وكفها، وإن أمن من الشهوة، لأنه أغلظ، ولذا يثبت به حرمة المصاهرة.
وهذا في الشابة، أما العجوز التي لا تشتهى فلا بأس بمصافحتها ومس يدها إذا أمن الفتنة. (2)
وكره الإمام أحمد –رضي الله عنه- مصافحة النساء، وشدد أيضًا حتى لمحرم وجوزه لوالد ويتوجه، ولمحرم، وجوز أخذ يد عجوز شوهاء. (3)
وبعد عرض نصوص فقه المذاهب الأربعة يبدو أنها مجمعة على حرمة مصافحة الأجنبية الشابة بدون حائل، لكن الذي يؤخذ أنها لم تعرض إلى الاستدلال على ذلك، والأدلة عليه قائمة، وأهمها ما يلي:
1- المصافحة مباشرة، وهي اتصال البشرة بالبشرة، وهو محرم في غير الزوجة، وما ملكت اليمين، وملامسة أيضًا من اللمس وهو إلصاق الجارحة بالشيء وهو عرف في اليد لأنها آلته الغالبة، وهو أيضًا محرم في غير ما ذكر أولًا.
__________
(1) شرح المنهج: 4/ 125 - 126
(2) الدر المختار: 5/ 235
(3) ابن مفلح. كتاب الفروع: 5/ 158(3/1181)
2- السنة: روى مالك في الموطأ في كتاب الجامع فيما جاء في البيعة عن أميمة بنت رقية أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة بايعنه على الإسلام، فقلنا: يا رسول الله نبايعك على أن لا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فيما استطعتن وأطقتن)) قال: فقلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لا أصافح النساء)) الحديث قال الباجي قوله صلى الله عليه وسلم ((إني لا أصافح النساء)) يريد لا أباشر أيديهن بيدي، يريد –والله أعلم- الاجتناب، وذلك من حكم مبايعة الرجال المصافحة، فمنع من ذلك في مبايعة النساء لما فيه من مباشرتهن. (1) وروى البخاري في كتاب التفسير في باب {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} عن عائشة أنها قالت: "والله ما مست يده امرأة في المبايعة" قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد جاء في أخبار أخرى أنهن كن يأخذن بيده عند المبايعة من فوق ثوب، أخرجه يحيى بن سلام في تفسيره عن الشعبي. (2) قال الزرقاني: معقبًا على كلام الحافظ ابن حجر وأخرجه ابن عبدا لبر عن عطاء وعن قيس ابن أبي حازم أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: إذا بايع لم يصافح إلا وعلى يده ثوب. (3)
__________
(1) المنتقى: 7/ 308
(2) الجامع الصحيح: 8/ 627
(3) الزرقاني: شرحه على الموطأ: 4/ 399(3/1182)
وكون النسوة يصافحن النبي صلى الله عليه وسلم عند المبايعة من فوق ثوب تفسر اشتراط الفقهاء الذين نقلت عنهم نصوصهم عدم الحائل في حرمة مصافحة الأجنبية.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له أن يمس امرأة لا تحل له)) ، رواه الطبراني والبيهقي، ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح. (1)
والمس على ما جاء في لسان العرب له معنيان: حقيقي، وهو مسك الشيء بيدك.. ويقال: مسست الشيء أمسه مسًا: إذا لمسته بيدك، وله معنى مجازي وهو الجماع، مس المرأة وماسها: أتاها، وهو عرف في اليد لأنها آلته الغالبة، (2) ومن أجل ذلك سقت الحديث دليلًا على حرمة المصافحة.
3- المصافحة باليد ذريعة إلى الزنا، وأصل من أصول التشريع الإسلامي سد ذرائع الفساد، حدث عبد الله بن المبارك عن أشياخ الشام: من أعطى أسباب الفتنة من نفسه أولًا، لم ينج منها آخرًا، وإن كان جاهدًا". (3)
قال هذا في السلف الصالح لهذه الأمة فما بالك بهذا الخلف الموجود في بلاد الغربة التي لا قيد فيها يقيد العلاقات الجنسية، واليد هي المفتاح السحري في هذا المجال، فمن أعطت يدها لا تستطيع أن تمنع ما وراء ذلك من كبيرة الزنا، والوسيلة تأخذ حكم المقصد كما هي القاعدة.
وبناء على ذلك، وانطلاقًا منه أفتي أخواتي بحرمة مصافحة الرجل للأجنبية ولو متجالة.
حرره محيي الدين قادي الفقير إلى مولاه الغني. والله أعلم.
__________
(1) محمد صديق حسن خان القنوجي البخاري. حسن الأسوة فيما ثبت عن الله ورسوله في النسوة: 522
(2) اللسان: 26/ 218 - 219
(3) ابن مفلح. كتاب الفروع: 5/ 158(3/1183)
السؤال التاسع عشر
ما حكم استئجار الكنائس أماكن لإقامة الصلوات الخمس، أو صلاة الجمعة والعيدين مع وجود التماثيل، وما تحتويه الكنائس عادة علمًا بأن الكنائس في الغالب أرخص الأماكن التي استئجرها من النصارى وبعضها تقدمه الجامعات والهيئات الخيرية للاستفادة منه في المناسبات هذه بدون مقابل؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد –والله الموفق للصواب- فأقول: قال العتبي: وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عن نافع أن عمر بن الخطاب كان يكره الصلاة في الكنائس التي فيها الصور، قال مالك: وأنا أكره الصلاة في الكنائس لأن موضعها نجس، ووطئهم بأقدامهم فيها. (1)
هذا ما قاله صاحب العتبية، وقال شارحها ابن رشد: وفي قوله: "التي فيها الصور" دليل على أنه إنما كرهت الصلاة فيها إذا كانت عامرة، لأن العامرة هي التي تكون فيها الصور.
وقد اختلف في علة الكراهة على ثلاثة أقوال:
الأول: قال مالك: هي النجاسة الآتية من وطء أقدامهم يدخلونه فيها من النجاسات.
الثاني: قال ابن حبيب: لأنها بيوت متخذة للكفر.
الثالث: قيل: مجموعة الأمرين.
فمن صلى فيها فهل يعيد في الوقت، أو يعيد أبدًا، أو لا يعيد أصلًا؟
فعلى القول بأن علة الكراهة نجاستها، لم تجب عليه إعادة أن صلى على ثوب بسطه، وأن صلى دون أن يبسط فالإعادة أبدًا، على قول ابن حبيب، لأن الأصل عنده أن من صلى على ثوب نجس عامدًا يعيد أبدًا، وقيل يعيد في الوقت، وقيد ذلك بغير المضطر إلى النزول أما المضطر فلا يعيد أبدًا، ولا وقتًا من أجل أن نجاستها متيقنة، وهو قول سحنون. (2)
وقد حرر النفراوي المالكي هذه المسألة تحريرًا دقيقًا، تعلق فيه بأمور ثلاثة:
1- أن كراهة الصلاة في الكنائس كراهة تنزيه.
__________
(1) العتبية مع البيان والتحصيل: 17/ 305
(2) البيان والتحصيل: 16/ 305(3/1184)
2- أن الكراهة في العامرة والخاربة، صلى على فرشها، أو غير فرشها، حيث صلى فيها اختيارًا.
3- أن الإعادة في الوقت مشروطة بشرط هي:
1- أن يصلي فيها اختيارًا.
2- أن تكون عامرة.
3- أن يصلي على فرشها.
ونظير ذلك من صلى على نجاسة ناسيًا.
وأما لو صلى فيها مكرهًا، أو كانت خارجة، ولو صلى على فرشها، أو عامرة وصلى على شيء طاهر فلا إعادة.
والخلاصة: أن الكراهية معلقة بالصلاة فيها على وجه الاختيار، ولو صلى على فرش طاهر والإعادة مقيدة بالقيود الثلاثة.
ويلزم من الإعادة الكراهة، ولا يلزم من الكراهة الإعادة.
وجاء عنه أيضًا أن الصلاة تكره في الأماكن التي فيها صور وتماثيل. (1) هذا ما يتعلق بالصلاة في البيع والكنائس.
وأما اتخاذ الكنائس مساجد فجائز لحديث عثمان بن أبي العاصي: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد أهل الطائف حيث كانت طواغيتهم)) . (2)
وقال الزركشي من فقهاء الشافعية: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لنصراني: إنا لا ندخل عليكم بيعكم من أجل الصور التي فيها. (3) وعن أبي موسى الأشعري أنه صلى في كنسية، وعن الحسن والشعبي الترخيص في الصلاة في البيع والكنائس. (4)
هذا ما دامت الكنائس مرخصًا في الصلاة فيها فهل يجوز استئجارها لاتخاذها مسجدًا؟ نعم، يجوز ذلك، لأن التجارة مع الكافر في أرض الحرب جائزة على الجملة بقيودها واستئجار مكان ما ليجعل مسجدًا جائز أيضًا جاء في المدونة: أرأيت إن أكريت دارًا على أن يتخذوها مسجدًا عشر سنين؟ قال: ذلك جائز، قلت: فإن مضت العشر سنين؟ قال: إذا انقضت الإجارة رجعت الدار إلى ربها، قلت: أتحفظه عن مالك؟ قال: لا. (5)
وانطلاقًا من كل ذلك وترتيبًا عليه أفتي بالترخيص في صلاة الجمعة وغيرها من الصلوات بالكنائس والبيع بعد أن تطهر بالماء احتياطًا، وتغطى الصور والتماثيل فيها بستائر تحجبها عن أعين المصلين، لأن الأرض كلها مسجد للمسلم. والله أعلم.
__________
(1) الفواكه الدواني: 1/ 150
(2) ابن تيميمة الجد، منتقى الأخبار، كتاب الصلاة، باب اتخاذ متعبدات الكفار ومواضع القبور إذا نبشت مساجد: 2/ 150
(3) أخرجه البخاري تعليقًا بلفظ: أنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها، عمدة القارئ: 4/ 122
(4) الزركشي، أعلام المساجد: 384
(5) المدونة: 4/ 423(3/1185)
السؤال العشرون
ما حكم ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وما يقدمونه من طعام في مطاعمهم مع عدم العلم بالتسمية عليها؟
وعن هذا السؤال أفيد والله ولي الفتح فأقول: لا بد من محاولة تحديد أهل الكتاب وهم: على ما قال حافظ المذهب في عصره الشيخ سيدي محمد المهدي الوزاني: اليهود والنصارى.
وأما الصائبة فهم: طائفة من اليهود والنصارى يعبدون الكواكب السبعة أو الملائكة، وليسوا من أهل الكتاب، وكذلك المجوس وهم قوم يعبدون النار.
وقيل: الشمس، وقيل اعتزلوا النصارى ولبسوا المسوح، وقيل: اخذوا من دين النصارى شيئًا ومن دين اليهود شيئًا، وهم القائلون بأن للعالم إلهين: النور، والظلمة، وقيل: هم قوم يستعملون النجاسات، والأصل نجوس بالنون فأبدلتم ميمًا، وعزا كل هذه المعاني إلى بعض المفسرين (1)
ولم يتعرض -رحمه الله- للسامرة، وهم على ما قال الخشري: طائفة من اليهود من بني يعقوب عليه السلام تنكر ما عدا نبوة موسى وهارون ويوشع ابن نون من أنبياء بني إسرائيل، تنكر المعاد الجسماني كالنصارى، ولا يرون لبيت المقدس حركة كاليهود، ويحرمون من جبال نابلس ويزعمون أن بأيديهم توراة بدلها لهم أحبار اليهود (2) وقد عدهم خليل بن إسحاق من أهل الكتاب الحلال طعامهم وقال وإن سامريا (3) أي وإن كان فاعل الذبح والنحر سامريا ومبالغته مشعرة بأن الصابئ ليس كذلك، بينما السامري قد أخذ ببعض اليهود، والصابئ قد أخذ ببعض النصرانية، فما وجه الفرق الخرشي بينهما فقال: لعل أخذ الصابئ بالنصرانية دون أخذ السامري باليهودية" (4)
__________
(1) المعيار الجديد: 1/ 257
(2) الشرح الصغير له: 3/ 4 - 5
(3) المختصر: 83
(4) المختصر: 5(3/1186)
وقول الشيخ المهدي: اليهود والنصارى وكذلك من تهود أو تنصر، فالعبرة أنهم أتباع للديانة الموسوية أو العيساوية سواء كانوا ممن دعاهم موسى وعيسى عليهما السلام إلى اتباع الدين، أو ممن دخلوا في الدينين اختيارًا فإن موسى وعيسى دعوا بني إسرائيل خاصة، وقد تهود من العرب أهل اليمن، وتنصر من العرب تغلب، وبهراء، وكلب، ولخم، نجران وبعض ربيعة، وغسان فهؤلاء أيضًا من أهل الكتاب عند الجمهور عدا علي بن أبي طالب فإنه قال: لا تحل ذبائح نصارى تغلب، وقال: أنهم لم يتمسكوا من النصرانية بشيء سوى شرب الخمر، وعزاه القرطبي إلى الشافعي، وروى الربيع عن الشافعي: لا خير في ذبائح نصارى العرب من تغلب، وعن الشافعيين: من كان من أهل الكتاب قبل البعثة المحمدية فهو من أهل الكتاب، ومن دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن فلا يقبل منه إلا الإسلام، ولا تقبل منه الجزية أي كالمشركين.
وأما المجوس فليسوا أهل الكتاب بالإجماع، فلا تؤكل ذبائحهم، وشذ من جعلهم أهل كتاب، وإن كان لهم كتاب ولكنه ليس بسماوي فللأتباع زرادشت كتاب: "الزندفستا" وهؤلاء هم محل الخلاف.
وأما أتباع ماني، والمعروفون بالمانوية، فليس لهم كتاب، وهم أباحيون (1) مع العلم أن اتباع الكتب السماوية غير التوراة والإنجيل من أهل الكتاب الذين أبيح لنا طعامهم، وكذلك المسلم المتهود أو المتنصر ليس من أهل الكتاب، وأما المشركون وعبدة الأوثان، ومن بقيت عندهم أثارة من ملة إبراهيم مع عبادتهم للأوثان والأصنام فليسوا من أهل الكتاب بلا خلاف.
والخلاصة: أن الكتابي هو الذي يدين باليهودية، ولو سامريًا، أو النصرانية، ممن دعاهم موسى وعيسى عليهما السلام أو دخلوا في الديانتين بعد ذلك، قبل الإسلام أو بعده، خلافًا للشافعي رضي الله عنه فيمن دخل فيهما بعد الإسلام.
__________
(1) الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير: 6/ 120 – 121 بتصرف(3/1187)
وبعد هذه المحاولة لضبط مدلول أهل الكتاب، والتي لها أهمية كبرى بالنسبة للسؤال الذي يهم الإخوة المغتربين، ويهم المسلمين عامة، والمسلمين العرب خاصة في مصر وسورية ولبنان وفلسطين.. نأتي إلى الجواب عن حكم ذبائح أهل الكتاب فنقول: قال فقهاء المالكية: يشترط لحل ذبيحة الكتابي يهوديًا أو نصرانيًا:
1- أن لا يذبح الكتابي ذبيحته لصنم، وهي الأنصاب المذكورة في القرآن الكريم، والمراد بما يذبح للصنم، أي ما يكون مستحقًا له دون غيره في زعم الكتابي، لأنه مما أهل به لغير الله، أي بأن قال: باسم الصنم بدل باسم الله، فإن ذكر اسم الله مع اسم الصنم، أكل تغليبا ًلاسم الله، مع أنه يبعد ذكر اسمه تعالى مع قصده اختصاص الصنم بما ذبح إذ لا يصدق عليه مع ذكر اسم الله جل جلاله لأنه يذبح لصنم ما يستحقه دون غيره في زعمه، وكذلك ما ذبحوه لعيسى أو لمريم أو لكنيسة، وذكروا اسم الله عليه أكل ولو قدموا غيره لأنه يعلو ولا يعلى عليه، قاله الأمير في المجموع (1)
2- وهو متعلق بمن يستحل منهم أكل الميتة المحرمة علينا بالخصوص في القرآن الكريم وهو أن لا يغيب الكتابي حال ذبحها عنا، بل لابد من حضور مسلم عارف بالذكاة الشرعية، خوفًا من كونه قتلها أو نخعها، فإن غاب لم تؤكل، وهذا التفصيل هوا لمشهور من المذهب، قال ابن رشد الجد، القياس أنه إذا كان يستحل الميتة، لم تؤكل ذبيحته، ولو لم يغب عليها، لأن الذكاة لابد فيها من النية وإذا استحل الميتة فكيف ينوي الذكاة؟ وإن ادعى أنه نواها فكيف يصدق؟ وقبله ابن ناجي وابن عرفة.
3- وهو خاص باليهود، أن يكون ما ذبحوه مما يحل لهم في شريعة الإسلام فإن ذبح اليهودي ما لا يحل له في شرعنا من ذي الظفر أو المخلب أو الحافر كالإبل وحمر الوحش والنعام، والأوز، وكل ما ليس مشقوق الظلف، ولا منفرج القوائم، فلا يحل لنا أكله أن ذبحه اليهودي، وليس من ذي الظفر الدجاج والحمام لأنهما ليسا من ذي الظفر، إذ هما مشقوقًا الأصابع وليس بينهما اتصال، فإن ذبح اليهودي الدجاج والحمام حل لنا أكله.
__________
(1) راجع الشرح الصغير للدردير مع حاشية الصاوي عليه: 1/ 314(3/1188)
وأما ما هو مشقوف الظلف كالبقرة والغنم إذا ذبحه اليهودي حل لنا أكله ودليل حرمة ذي الظفر على اليهود في شرعنا قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} .
وأما النصارى فلم يحرم عليهم شيء في شرعنا الإسلامي الحنيف، بقيت مسألة شحوم البقر والغنم فهي حرام على اليهود بنص القرآن الكريم إلا ما استثنى منها، قال الله تعالى {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} فإذا ذبح اليهودي البقر والغنم كره للمسلم أكل الشحوم، وهذا أحد الأقوال الثلاثة وقيل يجوز أكلها بلا كراهة، وقيل يمنع، ذكرها المحقق البناني ونسبها إلى ابن رشد الجد.. ثم قال: والأصل في هذا اختلافهم في تأويل قول الله سبحانه وتعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} هل المراد بذلك ما يأكلون لم يجز أكل شحومهم؟ لأن الله سبحانه وتعالى حرمها عليهم في التوراة على ما أخبر به القرآن الكريم، فليس مما يأكلون.
وأما ما حرم على اليهود في الديانة اليهودية كالطريفة، وهي أن توجد الذبيحة فاسدة الرئة، أي ملتصقة بظهر الحيوان كره لنا أكله من غير تحريم على المشهور، وإنما كانت الطريفة محرمة عند اليهود لأن ذلك علامة على أنها لا تعيش من ذلك فلا تعمل فيها الذكاة عندهم، كالحيوان المنفوذ المقاتل عندنا، وأما شراء الطريفة فلا يجوز ويفسخ إذا وقع، وقيل يكره، فيكون القول بفسخ بيعها محمولًا على الندب، قاله علي الأجهوري ويكره للإمام أن يبقى اليهود جزارين، وفي المدونة: كره مالك الشراء من مجازر اليهود وقال: نهى عمر أن يكونوا في أسواقنا جزارين أو صيارفة وأمر أن يقاموا من الأسواق، وقال ابن حبيب عن مطرف وعبد الملك ينهى عن الشراء منهم ولا يشتري منهم إلا رجل سوء ولا يفسخ شراؤه، وقد ظلم نفسه ويكره للإمام أيضًا أن يبقيه جزارًا في البيوت على القول بصحة استنابته، وإنما كره من اليهود ما كره لعدم نصحهم للمسلمين.(3/1189)
4- أن يكون ما ذبحه الكتابي ملكًا له، فإن كان ما ذبحه ملكًا للمسلمين أو مشتركًا بينه وبينه، فيكره لنا أكله على أرجح الأقوال، وقيل يجوز بلا كراهة وقيل: يمنع (1)
وقد جاءت خلاصة ما بينته في قول خليل بن إسحاق المالكي: وأن سامريًّا أو مجوسيًّا تنصر وذبح لنفسه مستحلة وأن أكل الميتة إن لم يغب، إلى أن قال: "وذبح لصنم وذبح غير حل إذا ثبت بشرعنا، وإلا كره كجزارته" (2)
5- أن لا يكون ما ذبح الكتابي مما حرمها لله علينا بعينه كالخنزير والدم، أو مما حرمه علينا بوصفه كالميتة، إذا كانوا يستحلون ذلك، فلا يباح لنا أكله بذكاتهم (3)
بقيت مسألة هامة وهي: إذا خالفت ذكاته ذكاتنا مخالفة تقصير لا زيادة كالذكية بالضرب على الرأس فتموت أو فتل العنق فتمزق العروق، قال جمهور الفقهاء: لا تؤكل، وقال أبو بكر بن العربي من المالكية: تؤكل لأنها طعامهم وطعام أحبارهم ورهبانهم، وإليكم فتواه بنصها قال: ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة، ثم يطبخها: هل يؤكل معه، أو تؤخذ طعامًا منه؟ فقلت: تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانهم وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا، ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقًا، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا في ديننا إلا ما كذبهم الله سبحانه فيه، ولقد قال علماؤنا: إنهم يعطوننا أولادهم ونسائهم ملكًا في الصلح، فيحل لنا وطؤهن فكيف لا تحل ذبائحهم، والأكل دون الوطء في الحل والحرمة؟ " (4)
__________
(1) الدردير، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه: 2/ 130
(2) المختصر: 33
(3) الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير: 6/ 122 بتصرف
(4) أحكام القرآن: 2/ 556(3/1190)
ومنذ أفتى القاضي أبو بكر بن العربي بما أفتي والفقهاء مهتمون بفتواه في كتبهم وفتاويهم ومجالس دروسهم، على اختلاف مواقفهم من الفتوى، فاستبعدها خليل في توضيح قائلًا: لأن معنى طعامهم الحلال لهم، وأهل شرعهم مطبقون على منع ذلك وتحريمه (1) ، وقال المواق: انظروا ما عقروه من الإنسي، وقالوا: إنه ذكي عندهم، كان سيدي ابن سراج رحمه الله يقول: أما على مذهب المدونة إنا لا نستبيح الوحشي بعقرهم، فمن باب أولى الإنسي وعلى القول بالاستباحة علله اللخمي بأنه ذكاة عندنا وعقرهم الإنسي ليس بذكاة عندنا فلا نسستبيحه بذلك فما وقع لابن العربي فهو هفوة، وقد اتبع الفقهاء في أحكام القرآن وفي غيره من كتبه (2) وقد وصفها بالمرجوحية والضعف باش مفتي تونس العارف بالله سيدي إبراهيم الرياحي رحمه الله في جواب له عن سؤال وجهه إليه الشيخ أحمد بن أبي الضياف، ووصفاه الأستاذ الإمام سيدي محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير بأنها "شذوذ" (3)
ولكن إلى جانب المستبعدين فتوى ابن العربي كثير من المؤيدين لها من أثبات الفقهاء قديمًا وحديثًا، فهذا أبو عبد الله الحفار إمام غرناطة، ومحدثها ومفتيها يقول: لا إشكال فيها عند التأمل؛ لأن الله تعالى أباح لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم على الوجه الذي أبيح لهم من ذكاة فيما شرعت لهم فيه الذكاة على الوجه الذي شرعت.
ولا يشترط أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا في ذلك الحيوان الذكي، ولا يستثنى من ذلك إلا ما حرمه الله سبحانه علينا على الخصوص كالخنزير وإن كان من طعامهم، ويستحلونه بالذكاة التي يستحلون بها بهيمة الأنعام وكالميتة، وأما ما لم يحرم علينا على الخصوص فهو مباح لنا كسائر أطعمتهم، وكل ما يفتقر إلى الذكاة من الحيوانات فإذا ذكوا على مقتضى دينهم حل لنا أكله ولا يشترط في ذلك موافقة ذكاتهم لذكاتنا، وذلك رخصة من الله وتيسير علينا (4)
__________
(1) محمد المهدي الوزاني، المعيار الجديد: 1/ 258
(2) التاج والإكليل: 3/ 214
(3) التحرير والتنوير: 6/ 122
(4) الونشريسي، المعيار: 2/ 9(3/1191)
وكذلك ابن ناصر حين سئل عن طعام اليهود والنصارى الصابئين والمجوس أيحل أكله أم لا؟ وهل هؤلاء كلهم أهل كتاب أم لا؟ بعض الطلبة أفتى بأكله مستدلًا بقوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وكيف يأكل المسلم ما مسته أيدي اليهود وهو نجس بين لنا؟
فأجاب: أما طعام اليهود والنصارى، وهم أهل الكتاب، يجوز أكله مطلقًا، وأما غيرهم إن كان طعامهم مما ليس فيه ذكاة فلا بأس بأكله وإلا فلا، ومن عفاف ذلك تركه (1)
ومن المعاصرين الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في الفتوى الترنسفالية الشهيرة، والتي أخذ فيها وهو المالكي مذهبًا باجتهاد ابن العربي وقد نشرت الفتوى في المجلد السادس في الجزء عشرين بتاريخ 16 من شوال سنة 1321 والوقوف عليها ميسور (2)
وكذلك العلامة البحر المفتي المالكي بالديار التونسية شيخي وسيدي محمد الفاضل ابن عاشور رحمه الله الذي سئل: ما هو حكم الله في أكل اللحم المعروض للبيع عند جزارين أوربيين في أوربا؟
فأجاب: إن هذه المسألة مختلف فيها بين العلماء وأن الإمام القاضي أبا بكر بن العربي من فقهاء المالكية أفتى أن ما يقتله النصراني على أن من دينه ويأكل منه رهبانه، ولم يرد في ديننا ما يقتضي تكذيبهم في ذلك فإنه حلال لنا في ديننا والسلام (3)
__________
(1) محمد المهدي الوزاني، المعيار الجديد: 1/ 257
(2) وقد نشر ما يتعلق بالفتوى المذكورة معارضة وتأييدًا مع ترجيح جانب التأييد بتاريخ الأستاذ الإمام للشيخ رشيد رضا: 1/ 675 – 778
(3) د. محمد السويسي، الفتاوى التونسية في ق 14 هـ: 2/ 738 مرقون بالكلية الزيتونية(3/1192)
ويدل على تأييده لابن العربي أمور:
أ- تلك التحلية له بالإمام القاضي.
ب- أن القاعدة في الفتوى أنها لا تكون إلا بالراجح أو المشهور أو مما جرى به العمل من أقوال ضعيفة أيدها العرف، وإلى هذا الأخير أشار الزقاق في اللامية في الفصل الذي خصصه لما جرى به العمل في فاس بقوله:
فإن قيل إن البعض مما نقلته
ضعفت؟ نعم لكن العرف عولا
(1)
ج – لم يذكر أي وصف من مرجوحية، أو شذوذ لقول ابن العربي، والذي يبدو لي والله أعلم بالصواب، أن قول ابن العربي راجح لا مرجوح للأدلة التالية:
1- أن الآية القرآنية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} مطلقة.
2- روى الإمام أحمد والإمام البخاري والإمام مسلم من حديث عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا أرسلت كلبك وسميت فكل، قلت: فإن أكل؟ قال: فلا تأكل، فإنه لم يمسك عليك وإنما أمسك على نفسه، قلت: أرسل كلبي فأجد معه كلبًا آخر؟ قال: لا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على الآخر)) واللفظ للبخاري وجاء في البخاري أيضًا في كتاب الذبائح والصيد في باب ما أصاب المعراض بعرضه عن عدي بن حاتم من حديث له أنه سأل النبي فقال: ((إنا نرمي بالمعراض، قال: كل ما خرق، وما أصابه بعرضه فلا تأكل)) وفي نفس الكتاب من صحيح البخاري في باب صيد القوس روى الإمام البخاري قال: فقال: وقال الحسن وإبراهيم: إذا ضرب صيد فبان منه يد أو رجل، لا تأكل الذي بان وكل سائره، وقال إبراهيم: إذا ضربت عنقه أو وسطه فكله، وقال الأعمش عن زيد: استعصى على رجل من آل عبد الله حمار فأمرهم أن يضربوه حيث تيسر، دعوا ما سقط منه وكلوه".
وروى البخاري أيضًا أن جارية لكعب بن مالك ترعى غنمًا له بالجبيل الذي بالسوق وهو بسلع فأصيبت بشاة، فكسرت حجرًا فذبحتها به فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بأكلها.
وروى البخاري أيضًا عن رافع بن خديج قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل – يعني ما أنهر الدم- إلا السن والظفر)) .
__________
(1) متن لامية الزقاق مع متن العاصمية: 176(3/1193)
وروى أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: ((إذا رميت سهمك فغاب ثلاثة أيام، فأدركته فكله ما لم ينتن)) .
فهذه الأحاديث وغيرها مما أذكر تدل على مدى التيسير في صيد المسلم بكلبه المعلم وبمعراضه، وهو سهم لا نصل له ولا ريش، وقيل: هو خشبة ثقيلة في آخرها عصا محدد رأسها، وقيل هو عصا في طرفها حديدة، وكأنه كان يطلق على هذه الأشياء وكانوا يرمون الصيد بها (1) وبقوسه على مدى التيسير في ذبحه بكل ما أنهر الدم من حجر أو غيره خلا السن والظفر رفقًا بالحيوان، أفلا يقاس عليها التيسير على المسلم الذي أباح له الله جل جلاله الارتباط بأهل الكتاب وأباح لهم طعامهم بإطلاق، أي ذبائحهم على قول جمهور المفسرين بأية وسيلة أنهرت الدم خلال السن والظفر؟
3- قال أبو عبد الله الحفار مدعمًا وجهة نظر ابن العربي: إذ كانت الذكاة تختلف في شريعتنا فيكون ذبحًا في بعض الحيوانات، ونحرًا في بعض، وعقرا في بعض، وقطع عضو كرأس وشبهه كما هي ذكاة الجراد، أو وضع في ماء حار كذكاة الحلزون، فإذا كان هذا الاختلاف موجودًا بالنسبة إلى الحيوانات، فكذلك قد يكون شرع في غير ملتنا سل عنق الحيوان على وجه الذكاة، فإذا اجتزأ الكتابي بذلك أكلنا طعامه كما أذن لنا ربنا سبحانه، ولا يلزمنا أن نبحث على شريعتهم في ذلك إذ رأينا ذوي دينهم يستحلون ذلك، أكلنا كما قال القاضي: لأنها طعام أحبارهم ورهبانهم (2)
ولا يفوتني وأنا بصدد الحديث على من استبعدوا فتوى أبي بكر بن العربي أن أشير إلى ما أوهمه قول بعض الفقهاء المعاصرين من المالكية أن ابن عرفة لم يسلم استبعاد شيخه ابن عبد السلام الهواري ورده اعتمادًا على ما قاله الحطاب وهذا نصه: قال ابن ناجي في شرح الرسالة: واختلف المذهب إذا كان يسل عنق الدجاجة فالمشهور لا تؤكل، وأجاز ابن العربي أكلها، ولو رأيناه يسل عنقها لأنه من طعامهم، قال ابن عبد السلام: وهو بعيد، وبحث ابن عرفة مع ابن عبد السلام في ذلك (3)
__________
(1) رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام: 1/ 679 - 680
(2) الونشريسي، المعيار: 2/ 9
(3) الحطاب، مواهب الجليل: 3/ 212 - 213(3/1194)
ونص المسألة كما في المختصر الفقهي لابن عرفة من باب الذكاة، وقول ابن عبد السلام وأجاز ابن العربي أكل ما قتله الكتابي، ولو رآه يقتل الشاة لأنه من طعامهم، يرد بأن ظاهره نوى بذلك الذكاة أم لا؟ وليس كذلك، بل نصه وأورد ابن عرفة نص فتوى الإمام ابن العربي السالف الذكر، وقال: فحاصله أن ما يرونه مذكى عندهم حلال لنا أكله، وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة (1)
فكلام ابن عرفة ليس ردًا على ابن العربي، ولا تأييدًا، وإنما هو تصويب لما وقع فيه شيخه من خطأ في أن ابن العربي يحل ما قتله الكتابي نوى بذلك الذكاة أو لم ينو بينما ابن العربي لا يحل إلا ما كان قتله عندنا ذكاة عند الكتابي لكن لابن عرفة رد على ابن العربي في تقييدات بعض الطلبة لما يلقيه في دروس تفسيره عند تفسيره لقوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قال: أخذ من هذا ابن العربي جواز أكل المسلم من الدجاجة التي فك النصراني عنقها إذا طبخها لنفسه وأطعمه منها، لأنها من طعامه، ثم رده بأنه ليس من طعامهم الفعلي الوجودي الذي أباحه شرعهم لهم، وهو إذا في شرعهم محرم عليهم، قال باش مفتي تونس الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي: وهو قريب من كلام شيخه ابن عبد السلام (2)
وبعد كل ما سبق يتضح أن فتوى ابن العربي ليست مرجوحة لقوة الدليل ولا شاذة لتبني أثبات لها، وإصدار فتاويهم على مقتضاه، ولا بعيدة كما وصفها ابن عبد السلام وخليل لأن ما أيد به ابن عبد السلام استبعاده قد رده نقادة المذهب ابن عرفة، وما أيد به خليل استبعاده من أن فتل عنق الدجاجة ليس ذكاة عندهم بإطباق أهل شرعهم على منع أكل ذلك وتحريمه لا يخالف القاضي فيه، لأنه حين أفتى اشترط أن يكون ذلك طعامًا للنصراني وطعامًا لرهبانه ومراده واضح، ويزيده وضوحًا أنه قبل الفتوى وفي نفس تفسيره للآية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} قال فإن قيل: فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس؟ فالجواب: أن هذه ميتة، وهي حرام بالنص، وإن أكلوها فلا نأكلها نحن كالخنزير فإنه حلال لهم، ومن طعامهم وهو علينا.
__________
(1) عمر الرياحي، تعطير النواحي بترجمة الشيخ إبراهيم الرياحي: 2/ 32 بتصرف
(2) عمر الرياحي، تعطير النواحي بترجمة الشيخ إبراهيم الرياحي: 3/ 33 بتصرف(3/1195)
فالمدار في حيلة أكلها، وحرمته على أن فتل العنق ذكاة عند الكتابي فيحل الأكل، أو ليس بذكاة فلا يحل –والله أعلم- وقد جاءت الإشارة إلى ما ذكرت في كلام المحقق الرهوني في رده على ابن سراج السالف الذكر.
وأما ما جاء في تقييدات بعض طلبة ابن عرفة من دروسه في التفسير فالرد عليه واضح وجلي، وذلك لأن ابن عرفة –رحمه الله- رد قول ابن العربي بأن أكل المسلم من الدجاجة التي فك النصراني عنقها إذا طبخها لنفسه وأطعمه منها حلال له أكلها لأنها طعامه وطعام أحباره بقوله: إنه ليس من طعامهم الفعلي الذي أباحه شرعهم لهم، وهو إذا في شرعهم محرم، وكان هذا من الإمام ابن عرفة خلاف الصواب على كلا احتمالين لكلامه وهما:
1- أن فتل عنق الدجاجة ليس ذكاة للكتابي، والجواب ما أجبت به عن استبعاد العلامة خليل قول ابن العربي سابقًا.
2- وإن أراد أن ذلك ليس ذكاة في شرعهم قبل التبديل والتحريف (1) فالجواب أن الآية نزلت مبيحة طعام أهل الكتاب رخصة للمسلمين وتيسيرًا عليهم، وأهل الكتاب هم الذين كفروا لاعتقادهم التثليث وبنسبة عيسى إلى ربه وبقولهم هو الله وهم يفرقون بين الله ورسله ويحرفون التوراة والإنجيل ويغلون في دينهم وقد لعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم وكانوا يعتدون ولا يتناهون عن منكر فعلوه ويلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون ويخونون في الدينار إذا أؤتمن أحدهم به فلا يؤديه إلى من ائتمنه إلا ما دام عليه قائمًا، ويقتلون النبيين ويكذبونهم، ويستهزئون بالمسلمين، وكان منهم القردة والخنازير وعبدة الطاغوت ... " (2) أي شيء أحدثه أهل الكتاب في فترة التنزيل من القبائح لم يكن في أوائلهم؟ وأي شيء أحدثوه من القبائح في فترة صدور الفتوى عن ابن العربي زائدًا على ما كان عليه الأولون منهم؟ فالقول بأنهم حرفوا شرعهم وبدلوه مردود كما ترى –والله أعلم- فأهل الكتاب هم قبل الإسلام وبعده.
__________
(1) وإن كنت إلى هذا الرأي أميل
(2) أبو بكر محمود عمر قاضي قضاة نيجيريا الشمالية. فتوى في ذبائح أهل الكتاب "المسلمون" ربيع الأول 1384 هـ ع 1/ 52(3/1196)
ومما ينبغي الحذر منه قول بعض المفتين بحتمية التأكد من كتابية الذابح لفشو الإلحاد واللائكية في بلاد الغرب، فهو خطأ لما قلته سلفًا، ولما رواه مالك في الموطأ في كتاب الذبائح فيما يجوز من الذكاة حال الضرورة عن عبد الله بن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا بأس بها، وتلا هذه الآية {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ولأن ذلك من المشادة في الدين ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، ومذهب ابن عباس هو مذهب جمهور الصحابة، وكان علي رضي الله عنه ينهى عن ذبائح بني تغلب لأنهم عرب، ويقول: إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر، وهو قول الشافعي، وعلى هذا فليس ينهي عن ذبائح النصارى المحققين منهم وكذلك اليهود (1)
وأما ما جاء في السؤال من عدم التسمية على الذبيحة فالتسمية في حق الكتابي لدى فقهاء المالكية ليست بواجبة في حقه. قال سيدي عبد الباقي الزرقاني في شرحه على مختصر خليل في باب الذكاة: تؤكل ذبيحة الكافر ... ولو لم ينو أو يسم لأنهما خاصان بالمسلم. (2)
قال الأجهوري: محل وجوب التسمية إذا كان المذكي مسلمًا، وأما إن كان كافرًا فلا يعتبر في أكل ذكاته نية ولا تسمية، وقال الشيخ إبراهيم اللقاني: إن نية الذكاة لا بد منها حتى في حق الكافر، وأما النية تقربًا فتطلب من المسلم دون الكافر، ولكن نية الفعل كافية على الصواب، ولو لم يلاحظ التقريب. (3)
هذا وما ذكرته هنا لا ينافي ما ذكرته سابقًا من أن ذبحه لصنم لا يؤكل لأن عدم أكله لكونه ذبح لصنم، ولم يذكر اسم الله عليه، وأما ذبحه لا لصنم ولا لوثن، ولم يذكر اسم الله عليه فيؤكل.
__________
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 6/ 78
(2) الزرقاني: 3/ 6
(3) النفراوي، الفواكه الدواني: 2/ 99(3/1197)
بقي أن صيد البر بالنسبة لأهل الكتاب من اليهود والنصارى هل يأخذ حكم الذبائح فيحل أكله في الإطار المذكور آنفًا، أو لا يحل لقوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} ؟ قال مالك رحمه الله: تؤكل ذبيحتهما فأما صيدهما فلا يؤكل، وتلا هذه الآية {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} فلم يذكر الله بهذا النصارى ولا اليهود، ولا يؤكل صيدهما. قال ابن القاسم: ورأيي أن لا يأكله (1) قال الحطاب: وفي التوضيح لخليل: المشهور منع الصيد البري للكتابي. وقال ابن هارون وأشهب بإباحته واختاره ابن يونس والباجي واللخمي لأنه من طعامهم، ولمالك في الموازية كراهته. قال ابن بشير: ويمكن حمل المدونة عليه (2) أي على الكراهة للإطلاق في الآية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} .
وأما صيد البحر فيحل أكله ولو من مجوسي، روى ابن القاسم عن مالك رحمه الله أنه سئل: أرأيت ما صاده المجوسي من البحر أيؤكل؟ فقال: نعم. (3)
ولا بد من ملاحظة أن ما ذكرته من عدم افتقار ذكاة الكتابي إلى تسمية أو نية، إنما هو فيما ذكاه لنفسه ويباح أكله، وأما ما ذكاه لمسلم فقيل: بإباحة أكله، وقيل بعدم ذلك، وذلك مقيد بغير الأضحية، أما الأضحية فلا تصح أضحيته، قال خليل بن إسحاق رحمه الله: وفي ذبح كتابي لمسلم قولان (4) : قال النفراوي معقبًا على قول خليل هذا في جواز الأكل وعدمه، في غير الضحية، وأما الضحية فلا تصح ضحيته إذ ذكاها الكتابي اتفاقًا، ويجري في أكلها القولان (5) وبهذا تنتهي الإجابة عن الجزء الأول من السؤال.
وأما الجزء الثاني من السؤال وهو حكم ما يقدمونه في مطاعمهم:
فالجواب عنه أنه لا خلاف بين الفقهاء في أن الطعام الذي لا علاقة له بالذكاة كالفاكهة والبر جائز أكله، وما فيه محاولة منعه لا تعلق للدين بها كخبز الدقيق وعصر الزيت فيباح أكله أيضًا، وإن تجنب من الذمي فعلى وجه التقزز (6)
__________
(1) سحنون، المدونة: 2/ 56
(2) مواهب الجليل: 3/ 214
(3) سحنون، المدونة: 2/ 56
(4) المختصر: 83
(5) النفراوي، الفواكه الدواني: 2/ 99
(6) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 6/ 77(3/1198)
وأما ما له علاقة بالذكاة كجبن الروم الوارد علينا من النصارى من سائر أصقاع العالم فإن شاهده يجبن بأنفحة الميتة أو الخنزير أو يجعل بعد تجبينه في بطون الخنازير ليحل ما فيها من الودك إليه، أو كتب عليه من طرف المصنع إعلان بذلك أو تواتر ذلك حتى حد القطع فلا يحل لنا أكله؛ لأن الله حرم علينا بالخصوص الميتة والخنزير.
وأما إذا لم يحصل لنا علم بالطرق السالفة جاز لنا الأكل من غير بحث عن ذلك، وكذلك الشأن في الأطعمة المحتوية على شيء من عين الخمر بشتى أصنافه، جاء في العتبية أن مالكًا رحمه الله سئل عن جبن الروم، فقال: ما أحب أن أحرم حلالًا، وأما أن يكرهه رجل في خاصة نفسه فلا أرى بذلك بأسًا، وأما أن أحرمه على الناس فلا أدري ما حقيقته، قد قيل: إنهم يجعلون فيه أنفحة الخنزير وهم نصارى، وما أحب أن أحرم حلالًا، وأما أن يتقيه رجل في خاصة نفسه فلا أرى بذلك بأسًا (1)
قال ابن رشد في شرحه عليها الموسوم بالبيان والتحصيل: كره للرجل في خاصة نفسه من أجل ما قيل له: إنهم يجعلون فيه أنفحة الخنزير ولو لم يسمع ذلك لم يكن عليه أن يبحث عن ذلك، لأن الله قد أباح لنا أكل طعامهم بقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فأكل طعامهم جائز ما لم يوقن فيه بنجاسة، فإن خشي الرجل لشيء سمعه استحب له أن يتركه (2) وحل الطعام الذي لا علاقة له بالذكاة لا يقتصر على الكتابيين فحسب، قال القرطبي: ولا بأس بأكل طعام من لا كتاب له كالمشركين وعبدة الأوثان ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة" (3) أو له كتاب وليس بسماوي كالمجوس.
__________
(1) العتبي، العتبية مع البيان والتحصيل: 3/ 272 - 273
(2) البيان والتحصيل: 3/ 273
(3) القرطبي: 6/ 77- 78(3/1199)
وجاء في العتبية عن ابن القاسم أنه قال: " وسمعت مالكًا يقول: أكره جبن المجوس لما يجعل فيه من أنافح الميتة، وأما السمن والزيت فلا أرى به بأسًا إذا كانت آنيتهم لا بأس بها، فإن كان في آنيتهم بعض ذلك فلا أرى أن يؤكل، وإن شككت في آنيتهم، وكانوا يأكلون الميتة فلا أحب ذلك (1)
قال ابن رشد في شرحه المذكور سابقًا: أما المجوس فبين أنه لا خير فيه لأنه إنما يجعلون فيه من أنافيح ذبائحهم التي لا تحل لنا، فقوله: أكره ذلك لفظ فيه تجاوز، وقد روي أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذكر أن المجوس لما رأوا المسلمين لا يشترون جبنهم وإنما يشترون جبن أهل الكتاب عمدوا فصلبوا (أي جعلوا عليه صورة صليب) على الجبن كما يصلب أهل الكتاب ليشترى من جبنهم فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " ما تبين لكم أنه من صنعتهم فلا تأكلوه، وما لم يتبين لكم فكلوه ولا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم" (2)
والخلاصة أن طعام أهل الكتاب وغير أهل الكتاب لا علاقة له بالذكاة ولا يحتوي على شيء من النجاسات المحرمة علينا حلال أكله، وإن ترك أكله خشية نجاسة محرمة من المسلم تورعًا فحسن، وقد تورع عمر بن الخطاب وابن عباس وابن مسعود في خاصة أنفسهم رضي الله عنهم عن أكل الجبن مخافة أن يكون من جبن المجوس (3)
هذا وقد اقتصرت في هذه الفتوى على مذهب الإمام رحمه الله غالبًا (4)
وبناء على كل ما سبق واعتمادًا على ما نقلته عن فقهاء مذهب إمام دار الهجرة، أفتي المسلمين في أي صقع من أصقاع الأرض كانوا بإباحة ذبائح أهل الكتاب ولو كانوا يذكونها بحطم الرأس وفتل العنق من غير ذكر اسم الله عليها، إذا أكل منها أحبارهم ورهبانهم ما لم تكن محرمة علينا بالخصوص، كالميتة إن كانوا يستحلونها وكالخنزير الذي هو حلال عندهم، أو محرمة عليهم في كتابنا فلا تعمل فيها ذكاتهم كالإبل والأوز وكل ذي ظفر المحرم عند اليهود، وبكل الأطعمة التي طهيت بها، وبالشراء من جزاريهم رخصة من الله لنا وتيسيرًا علينا، وبإباحة أكل ما يقدمونه في مطاعمهم من شتى صنوف الأطعمة والفواكه ما لم نقطع باحتواء بعضها على نجاسة فلا يحل لنا أكلها من غير بحث منا عن ذلك، ومن تورع من المسلمين عن أكل بعض الأطعمة خشية احتوائها على نجاسة فحسن لتورع ثلة من السلف الصالح من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم عن أكل الجبن خشية أن يكون جبن المجوس.
هذا ما ظهر لي في هذه المسألة والله أعلم.
__________
(1) محمد العتبي، العتبية مع البيان والتحصيل: 3/ 271
(2) ابن رشد: البيان والتحصيل: 3/ 261 - 272
(3) ابن رشد: البيان والتحصيل: 7/ 272
(4) هناك فتوى للشيخ محمد بيرم الرابع على مقتضى المذهب الحنفي أجاب بها أحمد باشا باي الأول عن حكم الله في طعام أهل الكتاب عن طريق الشيخ ابن أبي الضياف هي غاية في الدقة والضبط نشرت بالمجلة الزيتونية مج: 2 ج 4 سنة 1356: 18 - 20(3/1200)
السؤال الواحد والعشرون
كثير من المناسبات العامة التي يدعى المسلمون لحضورها تقدم فيها الخمور، ويختلط فيها النساء والرجال، واعتزال المسلمين لبعض هذه المناسبات قد يؤدي إلى عزلهم عن بقية أبناء المجتمع، وفقدانهم لبعض الفوائد.
فما حكم حضور هذه الحفلات من غير مشاركة لهم في شرب الخمر والرقص أو تناول الخنزير؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد والله ولي الإرشاد والتسديد قال أشهب عن مالك: لا يدخل في طاعة الله بمعصية الله، وأنا أقول: لا نظفر ببعض الفوائد، ونجترح كبائر الذنوب فقد جاء من الدردري في الوليمة وأحكامها بيان ما يمنع من حضورها، وإن كان المدعو صائمًا فيجب الأكل، وإن المفطر فلا يجب، إن لم يكن في المجلس من يتأذى منه لأمر ديني كمن شأنه الخوض في أعراض الناس، أو من يؤذيه، أو منكر كفرش حرير يجلس عليه هو أو غيره بحضرته، وآنية نقد من ذهب أو فضة لأكل أو شرب أو تبخير أو نحو ذلك، ولو كان المستعمل غيره بحضرته كسماع غانية ورقص نساء، وآلة لهو غير دف وزمارة وبوق، وصور حيوان كاملة لها ظل لا منقوشة بحائط، أو فرش إذا كانت تدوم كخشب وطين.. والنظر إلى الحرام حرام، أو كثرة زحام فإنها مسقطة لوجوب الدعوة.
وقد تعقب محشية الصاوي قوله: أو كثرة زحام فقال: مثله إذا كان الداعي امرأة غير محرم، أو كانت الوليمة لغير مسلم، ولو كان الداعي مسلمًا، أو كان في الطعام شبهة كطعام مكاس.. أو كانت الطريق فيها نساء واقفات يتعرضن للداخل (1) ففي هذه الحالات كلها يسقط وجوب تلبية الدعوة ويحرم الذهاب؛ لأن الذهاب وسيلة والغاية الوليمة وقد اختلط فيها الحلال بالحرام والقاعدة الفقهية المتعارفة تقول: "ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال" قال الحافظ أبو الفضل العراقي: ولا أصل له، رادًا على من أورده حديثًا، وقال السبكي في الأشباه والنظائر نقلًا عن البيهقي: هو حديث رواه جابر الجعفي رجل ضعيف عن الشعبي عن ابن مسعود وهو منقطع، وأخرجه عبد الرزاق من هذا الطريق في مصنفه، وهو موقوف على ابن مسعود لا مرفوع.
ثم قال السبكي: غير أن القاعدة في نفسها صحيحة، قال الجويني: لم يخرج عنها إلا ما ندر.
__________
(1) الشرح الصغير على أقرب المسالك مع حاشية الصاوي عليه: 1/ 435 - 436(3/1201)
قال الأئمة: وإنما كان التحريم أحب لأن فيه ترك مباح لاجتناب محرم (1) وأما كون الأصل في الدعوة إلى الوليمة وجوب التلبية والحرمة عرضت نقول: مقصد من مقاصد شريعة الإسلام، أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فاتوا به ما استطعتم)) وجاء عن ابن جزي: المجالسة والمواكلة لا تجوز مع من يمنع النظر إليه إلا لضرورة (2) وجاء عن الونشريسي: يجب نهي النساء عن اجتماعهن مع الرجال اجتماع ملاصقة، لأن ذلك كله حرام، ومن غلب على ظنك أنه يعلم ذلك ويستبيحه فهذا كافر يجب جهاده بيدك أو بلسانك، فإن لم تقدر فبقبلك (3) وجاء عن الونشريسي أيضًا: وسئلت عمن له زوجة تخرج بادية الوجه وترعى وتحضر الأعراس والولائم مع الرجال والنساء يرقصن، والرجال يكفون: هل يجرح من له زوجة تفعل ذلك؟
فأجاب بما نصه: الحمد لله وحده: الجواب والله سبحانه ولي التوفيق بفضله: أن الشيخ أبا علي منصور بن أحمد المشذالي أفتى فيمن كانت له زوجة تخرج وتتصرف في حوائجها بادية الوجه والأطراف كما جرت به عوائد البوادي انه لا تجوز إمامته، ولا تقبل شهادته، ولا يحل أن تعطى له الزكاة إن احتاج إليها، وأنه لا يزال في غضب الله ما دام مصرًا على ذلك.
وقال أبو عبد الله الزواوي: إن كان قادرًا على منعها ولم يفعل فما ذكر أبو علي صحيح، وقال سيدي أبو عبد الله محمد بن مرزوق: إن قدر على حجبها ممن يرى منها ما لا يحل ولم يفعل فهي جرحة في حقه، وإن لم يقدر على ذلك بوجه فلا.
ومسألة هؤلاء القوم أخفض رتبة مما سألتم عنه، فإنه ليس فيها أزيد من خروجها وتصرفها بادية الوجه والأطراف، فإذا أفتوا فيها بجرحة الزوج فجرحته في هذه المسؤول عنها أولى وأحرى لضميمه ما ذكر في السؤال من الشطح والرقص بين يدي الرجال والأجانب ولا يخفى ما ينتج الاختلاط في هذه المواطن الرذلة من المفاسد وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((باعدوا بين أنفاس الرجال وأنفاس النساء، حتى لو كان عظم هذه بالمشرق وعظم هذا بالمغرب لحن هذا إلى هذا حتى يلتقيان)) عصمنا الله وإياكم من الضلالة والفتن ما ظهر منها وما بطن وهو سبحانه ولي التوفيق بفضله (4)
__________
(1) السيوطي، الأشباه والنظائر: 105 - 106
(2) القوانين الفقهية: 429
(3) المعيار: 11/ 228
(4) المعيار: 11/ 193(3/1202)
وجاء عن الغزالي في إحياء علوم الدين في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منكرات الضيافة أن منها: فرش الحرير للرجال فهو حرام، وكذلك تبخير البخور في مجمرة فضة أو ذهب، أو الشراب أو الأكل في أواني الذهب والفضة أو استعمال ماء الورد في مرشات الذهب والفضة، وسماع الأوتار، وسماع القينات، واجتماع النساء على السطوح للنظر إلى الرجال مهما كان في الرجال شباب يخاف الفتنة منهم فكل ذلك محظور ومنكر يجب تغييره، وقد خرج الإمام أحمد رضي الله عنه من ضيافة من أجل وجود مكحلة فضة في مجلس الضيافة ومن عجز عن التغيير لزمه الخروج، ولم يجز له الجلوس فلا رخصة له في الجلوس في مشاهدة المنكرات.
وإن كان فيها من يتعاطى شرب الخمر وحده فلا يجوز الحضور، إذ لا يحل حضور مجالس الشراب، وإن كان مع ترك الشراب، ولا يجوز مجالسة الفاسق في حالة مباشرته لفسقه، وكذلك إن كان في مجلس الضيافة من يلبس الحرير وخاتم الذهب من الرجال فهو فاسق لا يجوز الجلوس معه من غير ضرورة، وكذلك المبتدع يتكلم ببدعته لا يجوز حضور الضيافة معه لغير القادر على الرد عليه وإفهامه، كما لا يجوز حضور ضيافة فيها مضحك بالفحش والكذب.
وعند الحضور يجب الإنكار.
وهكذا مهما كان الطعام حرامًا، أو كان الموضع مغصوبًا، أو كانت الثياب المفروشة حرامًا فالحضور في مجلس الضيافة من أشد المنكرات (1)
هذا وقد أكثرت من جلب النصوص حتى نرى رأي العين ونلمس لمس اليد أن فقهاء الإسلام حرموا حضور مجالس اللهو والشراب والقيان والرقص والحرام بصورة عامة، وعدوا حضورها وحضور موائدها من أشد المنكرات، وجرحوا في عدالة من يسمح لزوجته في حضور هذه المجالس لحديث: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) ولحديث ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري، والمشتراة له)) رواه الترمذي وابن ماجه ولما روي عن ابن مسعود: ((الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل)) رواه أبو داود ورواه البيهقي.
وانطلاقًا من كل ذلك، وترتيبًا على ما ذكرت لا يجوز لإخواني في بلاد الغربة حضور حفلات من النوع الموصوف في السؤال ولو مع عدم المشاركة، والله أعلم.
__________
(1) الإحياء: 2/ 298(3/1203)
السؤال الثاني والعشرون
بعض الأقطار في شمال أوربا يقصر فيها الليل كثيرًا، ويطول فيها النهار، حيث تصل ساعات الصيام في بعض هذه البلدان إلى عشرين ساعة أو تزيد، وكثير من المسلمين يجدون مشقة زائدة في الصيام، هل يجوز اللجوء في هذه البلدان إلى التقدير؟ وما نوع التقدير الذي يمكن اعتماده إذا كان جائزًا؟ وهل يكون التقدير بساعات الصيام في مكة؟ أو بساعات النهار في أقرب البلدان اعتدالًا، أو بماذا؟
وإذا لم يكن ذلك جائزًا، فهل يعتبر هذا النوع من المشقة من المشاق التي يجب على المسلم احتمالها، والصبر عليها مع احتمال الضرر؟ وهل يجب عليه أن يترك عمله في شهر الصيام، إذا لم يكن بمقدوره الصيام إلا بترك العمل من قبيل ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد والله ولي الفتح والتسديد في السؤال المطروح ليل قصير، ونهار طويل، ليل طوله ثلاث ساعات ونهار طوله إحدى وعشرون ساعة، ومجموع الليل والنهار أربع وعشرون ساعة، فالحكم يكون منوطًا بطلوع الفجر الصادق وغروب الشمس فيجب على المسلم المكلف صوم نهاره، وإفطار ليله، قال تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فجعل تبارك وتعالى الليل ظرفًا للأكل والشرب والجماع والنهار ظرفًا للصيام، فبين أحكام الزمانين، وغاير بينهما، فلا يجوز في النهار شيء مما أباحه في الليل إلا لمريض أو مسافر، شرعًا عامًا خالدًا لسائر أصقاع الدنيا لا فارق بين قطر وقطر، قال العلامة شهاب الدين القرافي من المالكية في كتابه "اليواقيت في أحكام المواقيت": "مسألة من نوادر أحكام المواقيت، فتيا جاءت من بلاد البرغال (هكذا) من الإقليم السابع إلى بخاري يقولون فيها: " إنه جاءنا رمضان وطول الليل نحو ثلث ساعة إن اشتغلنا بالفطر طلع علينا الفجر قبل أن نصلي المغرب والعشاء، وإن اشتغلنا بالصلاة فاتنا الفطر لضيق الزمان بأيهما نبدأ؟ وأيهما يفوت؟ فأفتاهم فقهاء بخارى بالاشتغال بالفطر، وتفويت الصلاة لأن مصلحة الأجساد مقدمة على العبادات، بدليل المريض يسقط الطهارات، وإن كان الصلوات والصوم وغير ذلك.
وهذا الفرض ممكن قطعًا، وواقع فيما إذا كان عرض البلاد نيفا وستين درجة.. فهذه الفتيا صحيحة، وواقعة غير أن هذه الحالة لا تدوم في جميع الأعوام، بل تصادف رمضان في بعض السنين، وفي بعضها لا تصادفه بحسب اختلاف الشمس مع حركة القمر والهلال.(3/1204)
ولا بد من وقفة تأمل في هذه الفتيا الصادرة عن فقهاء بخارى، ومراكز الاهتمام فيها ثلاثة:
1- لم يطرح السائلون قضية التقدير بأقرب البلاد إليهم، وإنما سألوا هل تقدم صلاة المغرب والعشاء؟ أو يقدم الفطر؟
2- لم يطرح فقهاء بخارى قضية التقدير لأن هنالك ليلا ونهارًا وفجرًا وغروبًا وإن كان الليل يساوي عشرين دقيقة، ولو كان التقدير شرع الله فكيف يكتمونه؟ والفتوى إعلام الموقعين عن رب العالمين.
3- أن العلامة شهاب الدين القرافي وصف الفتيا بالصحة وهو العالم بعلم الهيئة والمواقيت وقد عقب على فتوى فقهاء بخارى بقوله: "وقد بينت في الجهاد الموضوع، والسقف المرفوع، وهو جغرافيًا وضعتها وصورت فيها، أحكام الأرض وأصقاعها وبحارها وأوضاعها، وأحوال السموات وأسرارها، وأن النهار والليل يكون كل واحد منهما من عشر عشر ساعة إلى نصف السنة، وأكثر من ستة أشهر لا يكون، وذلك مما قام عليه البرهان القطعي في علم الهيئة.
وقبل القرافي بقرون نجد أمام الحرمين يقول: "ولا خلاف في أن الشمس تغرب عند قوم، وتطلع عند آخرين، والليل يطول عند قوم ويقصر عند آخرين، وبين الليل والنهار اختلاف ما في الطول والقصر عند خط الاستواء، وفي بعض البلاد قد يطلع الفجر قبل أن يغيب شفق الغروب، وفي عرض تسعين لا تزال ما دامت في البروج الشمالية، وغاربة ما دامت في البروج الجنوبية فالسنة نصفها ليل، ونصفها نهار، (1) ونجد الكرخي الحنفي يقول: "إن الليل والنهار كما يختلفان بالطول والقصر في الأزمنة فهما مختلفان في الأمكنة، فكل ساعة عينتها، فتلك الساعة في موضع من الأرض صبح، وفي موضع آخر ظهر، وفي آخر عصر، وفي آخر مغرب، وفي آخر عشاء، وهلم جرا.
__________
(1) ابن عبد الوهاب المراكشي، العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال: 1/ 233(3/1205)
هذا إذا اعتبرنا البلاد المختلفة في الطول، أما البلاد المختلفة في العرض فكل بلد يكون عرضه للشمال أكثر، كانت أيامه الصيفية أطول، وأيامه الشتوية بالضد من ذلك.
فهذه الأحوال المختلفة في الأيام والليالي بحسب اختلاف أطوال البلاد وعروضها أمر عجيب (1)
وغير هؤلاء كثير، فالفقهاء في شتى المذاهب كانوا على علم بما يحتاجون إليه من علم الهيئة فأمر التقدير الذي يذهب إليه فقهاؤنا المعارضون في مثل السؤال المطروح، أو أضيق منه مثل السؤال الوارد على فقهاء بخارى السالف الذكر، لا أدري ما هو دليلهم في قولهم بالتقدير والليل ليل، والنهار نهار، وإن اختلفا طولًا وقصرًا، حتى أوقعوا المسلمين في حيرة من الأمر وتساءلوا مشرقًا ومغربًا كيف تكون الشمس في السماء والمسلم مفطر نظرًا لكون النهار طويلًا، والليل قصيرًا؟
وحديث الدجال الذي اعتمده من قال بالتقدير من المعاصرين لا ينطبق على الصورة التي تضمنها السؤال المطروح وأمثاله من الأسئلة، ونص الحديث كما رواه مسلم في صحيحه عن النواس بن سمعان الطويل وما به الحاجة منه هو: ((قلنا: يا رسول الله، وما لبثته في الأرض؟ قال أربعون يومًا، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، قلنا: يا رسول الله، بذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره)) . الحديث.
وذلك لأن الصورة المطروحة في السؤال الزمان فيها يحتوي على ليل ونهار، وفجر وغروب، غاية ما في الأمر أن الليل قصير، والنهار طويل، وطوله مع قصر الليل لم يزد عن الأربع والعشرين ساعة، ويوم الدجال طوله سنة، هذا أولًا.
وثانيًا: قال القاضي عياض من المالكية: هذا حكم مخصوص بذلك الزمان شرعه لنا صاحب الشرع، ولو وكلنا فيه لاجتهادنا لكانت الصلاة فيه عند الأوقات المعروفة، واكتفينا بالصلوات الخمس، ونقله عنه النووي وقبله (2)
__________
(1) ابن عبد الوهاب المراكشي، العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال: 1/ 234
(2) الحطاب، مواهب الجليل: 1/ 388(3/1206)
هذا، وحيث لا تتحدد الأوقات في اليوم والليلة بأربع وعشرين ساعة وهو الناموس الذي أقام عليه أغلب أصقاع الأرض، يخرق هذا النظام حيث تكون السنة فيها يومًا وليلة، نصفها نهار، ونصفها ليل، فإن الفقهاء قالوا بالتقدير على اختلافهم في كيفيته والمراد به، صلاة وصومًا، وكذلك الشأن إذا كان الليل والنهار أربعًا وعشرين ساعة ولكن لا يتميز أحدهما عن الآخر.
قال العلامة شهاب الدين القرافي رحمه الله ناقلًا مسألة وقعت في مذهب الشافعي وهي: قطر يطلع فيه الفجر قبل غروب الشفق لصغر القوس الكائنة تحت الأرض من دائرة الشمس فكيف يصنع بالصلاتين الفجر والعشاء؟ هل يصير الصبح قبل مغيب الشفق أم لا يجوز ذلك؟ وهي يقضى على العشاء بالقضاء لأجل طلوع الفجر؟ أم يقضى عليها ببقاء الشفق؟ قال الشيخ أبو محمد والد إمام الحرمين: لا يصلى العشاء حتى يغيب الشفق ولا يكون قضاء لبقاء وقتها، ويتحرى بصلاة الصبح فجر من يليهم من البلاد ولا يعتبر فجرًا هذا الفجر الذي هم فيه (1)
ونقل الحطاب هذه المسألة، وعقب عليها بقوله: وكأنه ارتضاه، ولم يسلم نقله للمسألة من تحريف حيث نسب القول إلى إمام الحرمين (2) وليس بقوله، وإنما هو قول والده كما نقلته سالفًا فراجعه مقارنًا إياه بما ورد في كتاب المواقيت، وقد ذكرها الحصكفي من الحنفية في الدر المختار وقال: إن ذلك يحصل في أربعينية الشتاء، وصوبه محشيه خاتمة المحققين في المذهب النعماني العلامة ابن عابدين رحمه الله بقوله: صوابه في أربعينية الصيف كما في الباقالي وعبارة البحر وغيره: في أقصر ليالي السنة (3) وأفاض في المراد بالتقدير بين علماء الأحناف ودليل كل واحد منهم، فليراجعه من شاء.
__________
(1) اليواقيت في أحكام المواقيت: 61 ظهرًا
(2) الحطاب: 1/ 388
(3) رد المحتار: 1/ 242(3/1207)
والعجيب أن العلامة شلتوت في فتاواه قال بالتقدير في مسلم يوجد بجهة يطول نهارها حتى لا يكون ليلها إلا جزءًا يسيرًا، ومجموع الليل والنهار فيها يساوي أربعًا وعشرين ساعة (1)
ولعل فتواه رحمه الله سببت ما لاحظه قراء جريدة "المسلمون" من اضطراب في فتاوى مجلة الأزهر في هذا الموضوع ففي عدد شوال سنة أربع وتسعين وثلاثمائة وألف لهجرة خير الأنام صلى الله عليه وسلم جاء في باب الفتوى الذي يعده محمد أبو شادي بعد الديباجة ما يلي: متى كان هناك شروق وغروب مجموع الليل والنهار معهما أربع وعشرون ساعة فإن الحكم يكون منوطًا بالشروق والغروب فيجب صوم نهاره من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وإفطار ليله الخ.. وجاء في عدد رمضان سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وألف في باب الفتوى الذي يعده محمود رسلان نقل فتوى سماحة الشيخ محمود شلتوت رحمه الله واعتمادها جوابًا (2) (3)
بقي ما يتعلق بشطر السؤال الثاني وهو قول السائل، وإذا لم يكن ذلك جائزًا فهل يعتبر هذا النوع من المشقة من المشاق التي يجب على المسلم احتمالها والصبر عليها مع احتمال الضرر؟ وهل يجب عليه أن يترك عمله في شهر الصيام، إذا لم يكن بمقدوره الصيام إلا بترك العمل من قبيل ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب؟
وعند التأمل فيه نجده يتفرع إلى فرعين:
1- بيان المشقة المعتبرة في العبادة والتي يجب على المسلم تحملها مع احتمال الضرر.
2- هل يجب عليه أن يفوت عمله، إذا لم يستطع الجمع بينه وبين الصيام؟
__________
(1) راجع فتاوى الشيخ شلتوت: 144 - 146
(2) الأزهر من عدد 846 شوال 1394 هـ 1974/ 895 – 896
(3) الأزهر من ع 749 رمضان 1397 هـ – 1977 م 1419 وما بعدها(3/1208)
أما الفرع الأول فقد تقرر أن قصد الشارع من وضع الشرائع إخراج النفوس عن أهوائها، وعوائدها، فلا تعتبر في شرعية الرخصة بالنسبة إلى أكل من هويت نفسه أمرًا، ألا ترى كيف ذم الله تعالى من اعتذر بما يتعلق بأهواء النفوس ليترخص كقوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} الآية، لأن الجد بن قيس قال: إيذن لي في التخلف عن الغزو ولا تفتني ببنات الأصفر فإني لا أقدر على الصبر عنهن، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} الآية، ثم بين القدر الصحيح في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} الآيات، فبين أهل الأعذار وهم الذين لا يطيقون الجهاد وهم الزَّمْنَى والصبيان والشيوخ والمجانين والعميان ونحوهم، وكذلك من لم يجد نفقة أصلًا ولا وجد من يحمله، وقال فيه {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} ومن جملة النصيحة لله ورسوله أن لا يبقوا من أنفسهم بقية في طاعة الله ألا ترى إلى قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} وقال {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} الآية، فما ظنك فيمن كان عذره هوى نفسه؟ نعم وضع الشريعة على أن تكون أهواء النفوس تابعة لمقصود الشارع فيها.
وقد وسع الله تعالى على العباد في شهواتهم وأحوالهم وتنعماتهم على وجه لا يفضي إلى مفسدة، ولا يحصل بها المكلف على مشقة، ولا ينقطع بها عنه التمتع إذا أخذه على الوجه المحدود له فلذلك شرع له ابتداء رخصة السلم، والقراض، والمساقاة وغير ذلك مما هو توسعة عليه، وإن كان فيه مانع في قاعدة أخرى، وأحل له من متاع الدنيا أشياء كثيرة، فمتى جمحت نفسه إلى هوى قد جعل الشرع له منه مخرجًا وإليه سبيلًا، فإن لم يأته من بابه كان هوى شيطانيًا واجبًا عليه الانفكاك عنه كالمولع بمعصية من المعاصي فلا رخصة له البتة، لأن الرخصة هنا هي عين مخالفة الشرع بخلاف الرخص المتقدمة فإن لها في الشرع موافقة إذا وزنت بميزانها" (1)
__________
(1) الشاطبي، الموافقات: 1/ 201 - 202(3/1209)
وأما الفرع الثاني وهو إذا لم يستطع الجمع بين عمله وبين الصيام فيجب أن يكون السبب وهو حصول مشقة يتعذر معها الصوم عادة مطردة في أنه يوجد ووجد بالفعل، أي صام هؤلاء الإخوة في بلاد الغربة من شمال أوربا وأجهدهم الصوم إلى حد لم يستطيعوا معه القيام بأعمالهم، ولو قرنوا بين الصوم والعمل لأضر بهم في أبدانهم، وأموالهم، فهؤلاء يرخص لهم في الفطر عند حصول ذلك بالفعل لا أنهم منذ الليل يظنون أن ذلك سيحصل فينوون الفطر ويصبحون مفطرين فيلزمهم القضاء والكفارة، لأن أهواء النفوس الأمارة بالسوء تقدر أشياء لا حقيقة لها وإنما هي من إملاء الشيطان فليحذر إخوتي في بلاد الغربة أن يقولوا مقالة الجد بن قيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم السالفة الذكر، وفي نوازل البرزلي الفتوى عندنا: أن الحصاد المحتاج يجوز له الحصاد وإن أدى إلى الفطر، وإلا كره له، بخلاف رب الزرع فلا حرج عليه مطلقًا لحراسة ماله وقد نهي عن إضاعة المال.
قال ميارة معقبًا على كلام البرزلي بعد نقله: وإنما يجوز الفطر للحصاد بعد أن تناله الضرورة لا قبل ذلك فلا يجوز أن يصبح مفطرًا، إذ من الجائز أن يصده أمر عن الحصاد رأسًا في ذلك اليوم فيكون كمن أفطر قبل أن يسافر أو في يوم الحيض قبل مجيئه.
قال شيخنا الإمام العالم أبو زيد عبد الرحمن الفاسي رحمه الله في بعض فتاويه ما نصه: ينبغي تقييد مسألة رب الزرع بعدم إمكان استئجاره لمن ينوب عنه في ذلك ممن يكون محتاجًا ومضطرًا للأجرة على ذلك، إما بأن لا يكون له مال يستأجر به على زرعه، أو يكون ولكن لا يجد من يستأجره على ذلك كما تقرر في مسألة الحامل والمرضع، وإما إن وجد ما يستأجر به، ومن يستأجر فلا يتعاطى ذلك ويدخل نفسه فيما يضطره إلى الفطر لعدم الضرورة حينئذ، ووجود المندوحة عن إضاعة المال.. ومثل مسألة الحصاد ما أفتى به الإمام ابن عرفة من أن المرأة المحتاجة يجوز لها غزل الكتان في رمضان دون غيرها (1)
وعلى ضوء فتاوى الأسلاف من فقهاء بخارى والبرزلي وشيخه الإمام ابن عرفة أفتي إخواني في بلاد الغربة من شمال أوربا أنهم يصومون رمضان كسائر إخوانهم المسلمين نهارهم، ويفطرون ليلهم لوجود ليل ونهار متمايزين، ويقومون بأعمالهم المحتاجين إليها في معاشهم، أو التي يلزم من عدم القيام بها إضاعة أموالهم فإن أجهدتهم مشقة الصوم إجهادًا يعود عليهم بالضرر ورخص لهم في الفطر كما رخص للحصادين المحتاجين للأجرة بدون كراهة إن كانوا محتاجين إليها، وإن كانوا غير محتاجين لحراسة ماله، وقد نهي عن إضاعته إن كانوا من أصحاب المصانع أو الورشات أو غير ذلك والله أعلم.
حرره الفقير إلى مولاه الغني محيي الدين قادي.
__________
(1) محمد ميارة: الدر الثمين والمورد المعين شرح المرشد المعين: 329(3/1210)
السؤال الثالث والعشرون
في كثير من الولايات الأمريكية وكذلك الأقطار الأوربية تصعب أو تتعذر رؤية هلال رمضان أو شوال، والتقدم العلمي الموجود في كثير من هذه البلدان يمكِّن من معرفة ولادة الهلال بشك دقيق بطريق الحساب، فهل يجوز اعتماد الحساب في هذه البلدان؟
وهل تجوز الاستعانة بالمراصد وقبول قول الكفار المشرفين عليها؟ علمًا أن الغالب على الظن صدق قولهم في هذه الأمور.
وما يجدر بالملاحظة أن اتباع المسلمين في أمريكا وأوربا لبعض البلدان الإسلامية المشرقية في صيامها أو إفطارها قد أثار بينهم اختلافات كثيرة، غالبًا ما تذهب بأهم فوائد الأعياد، وتثير مشكلات شبه دائمة، وفي الأخذ بالحساب ما قد يقضي على هذا في نظر البعض أو يكاد.
وفي الجواب عن هذا أفيد والله ولي التوفيق فأقول: هذه المسألة من مداحض الأنظار فعلى المفتي فيها بالتدبر والاعتبار، وقد كتبت فيها الرسائل والكتب قديمًا وحديثًا، فقد كتب فيها ابن البناء رسالة عام سبعمائة، وكتب فيه السبكي رسالة عام ثمان وأربعين وسبعمائة، وكتب فيها العلامة بخيت رسالة عام تسع وعشرين وثلاثمائة، وكتب فيها الشيخ طنطاوي جوهري رسالة سنة اثنتين وثلاثمائة، وكتب فيه الشيخ أحمد بن محمد السلاوي التطاوني سنة إحدى وتسعين ومائتين، وكتب فيها الشيخ محمد بن عوض رسالته "منحة العلي المتعال" سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وكتب فيها الشيخ عبد الرحمن بن زيدان كتابه "تبيين وجوه الاختلال في مستند إعلان العدلية لثبوت رؤية الهلال" وذلك عام خمس وستين وثلاثمائة وألف.
وتناولتها المجلات الإسلامية القيمة كالمنار ونور الإسلام والأزهر والمجلة الزيتونية باعتبارها مشكلة من مشاغل المسلمين.
وعقدت من أجلها المؤتمرات العديدة في أصقاع عالمنا الإسلامي ومع هذه الجهود كلها فالقضية ما زالت تثير جدلًا حادًا، وما انفكت مناخ نظر إثبات الفقهاء بمجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة أو مجمع الفقه الإسلامي بجدة.
ولعل من الأعمال العلمية الجادة في هذه القضية، لدراستها للمشكلة دراسة معمقة من ناحيتي الفقه والفلك ذلكم المجلد الضخم ذا الجزأين المرسوم بـ "العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال" للعلامة محمد بن عبد الوهاب المراكشي، والذي فرغ من تأليفه في 18 محرم الحرام 1367 هـ وطبع لأول مرة بتحقيق الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري مدير الشؤون الدينية بدولة قطر.(3/1211)
هذا وقصدت من هذا التقديم الذي ليس من طبيعة الفتاوى إلى مزيد الاهتمام من المجامع الفقهية، ومجمع البحوث الإسلامية، والجامعات الإسلامية، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن والمراكز الإسلامية ببلاد الغرب، وجمع الشمل في أيام دراسية لهذه القضية، والوصول إلى اجتهاد جماعي في حلها، ونشر هذا الاجتهاد في عالمنا الإسلامي بشتى لغاته في شكل رسالة، وتتولى كل جهة مختصة في كل قطر إسلامي الإعلان عن ذلك بوسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، ويومها فقط يتحقق لأمتنا الإسلامية ما يصير اختلافها اتفاقًا واضطرابها طمأنينة في مسألة من أهم مسائل دينها لكثرة ما ينبني عليها من الأحكام الدينية والدنيوية، قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره لقوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} إن تقدير الزمن بالشهور فيه منافع بعضها متصل بالدين، وبعضها بالدنيا، أما ما يتصل منها بالدين فكثيرة، منها: الصوم، قال تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ} وثانيها: الحج قال الله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ثالثها: عدة المتوفى عنها زوجها: قال الله تعالى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ورابعها: النذر التي تتعلق بالأوقات، ولفضائل الصوم أيام لا تعلم إلا بالأهلة.
وأما ما يتصل منها بالدنيا فهو كالمداينات، والإجارات، والمواعد، ومدة الحمل والرضاع، كما قال {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وغيرها، فكل ذلك ما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الاختلاف في شكل القمر (1)
والسؤال المعروض على المجمع الموقر يتعلق بالصوم والإفطار، وهل يمكن اعتماد المسلمين المغتربين بأميركا وأوربا وغيرهما من بلاد الكفر، أو الذين أسلموا من هذه البلاد على الحساب في إثبات دخول شهر رمضان وشوال لتعذر رؤية الهلال في هذه الأصقاع من الدنيا، ووجود تقدم علمي دقيق وأمين بها؟
وهو جانب من هذه المشكلة.
والجواب والله الملهم للصواب: لا يجوز لهؤلاء الإخوة المغتربين أو أبناء هذه البلدان الذين أسلموا التعويل على الحساب في الصوم والفطر، والاستغناء عن الرؤية، قال ابن رشد الجد من المالكية: لا يجوز لأحد أن يعول في صومه، وفطره على ذلك فيستغني عن النظر إلى الأهلة بإجماع من العلماء.
__________
(1) الحطاب، مواهب الجليل: 2/ 388(3/1212)
وإنما اختلف أهل العلم فيمن كان من أهل هذا الشأن إذا أغمي الهلال هل له أن يعمل على معرفته بذلك أم لا؟ فقال مطرف بن الشخير: إنه يعمل في خاصته على ذلك، وقاله الشافعي أيضًا في رواية، والمعلوم من مذهبه ما عليه الجمهور من أنه لا يعمل على ذلك (1)
وقال الباجي في المنتقى: وقد روى ابن نافع عن مالك في المدنية في الإمام: لا يصوم لرؤية الهلال، ولا يفطر لرؤيته، وإنما يصوم ويفطر على الحساب: إنه لا يقتدى به (2)
وقال العلامة ابن عابدين من الحنفية: لا عبرة بقول المنجمين ولو كانوا عدولًا بالإجماع (3)
وقال الجمل من الشافعية: لا يجب رمضان بقول المنجم، ولا يجوز صومه به، نعم له أن يعمل بحسابه، ويجزئه عن فرضه على المعتمد وإن وقع في المجموع عدم إجزائه عنه.
والحاسب وهو من يعتمد منازل القمر، وتقدير سيره في معنى المنجم وهو من يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني (4)
وأدلة الجمهور قائمة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع السلف الصالح.
أما السنة فحديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له)) وروى ابن عمر أيضًا: ((الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) رواهما الإمام البخاري في الجامع الصحيح، وروى مالك عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) وفي رواية للبخاري ((فإن غمي عليكم فاكملوا عدة شعبان ثلاثين)) وهناك روايات أخرى.
__________
(1) الحطاب، مواهب الجليل: 2/ 388
(2) المنتقى: 2/ 38
(3) رد المحتار على الدر المختار: 2/ 92
(4) حاشية الجمل على شرح المنهج: 2/ 304(3/1213)
وجمهور السلف والخلف إلى أن معناه: قدروا له تمام العدة ثلاثين يومًا، قال أهل اللغة: قدرت الشيء أَقْدُرُهُ وأُقَدِّرُهُ، وقَدَرْتُه وأَقْدَرْتُه بمعنى واحد، وهو من التقدير، قال الخطابي ومنه قوله تعالى {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} واحتج الجمهور بالروايات المذكورة فأكملوا العدة ثلاثين، وهو تفسير ((فاقدروا له)) ، ولهذا لم يجتمعا في رواية واحدة، بل تارة يذكر هذا، وتارة يذكر هذا، ويؤكده رواية، ((فاقدروا له ثلاثين)) قال الباجي في قوله: ((فاقدروا له)) يريد: قدروا الشهر وتقديره إتمام الشهر الذي أنت فيه ثلاثين، لأن الشهر إنما يكون تسعة وعشرين يومًا بالرؤية، فأما بالتقدير فلا يكون إلا ثلاثين، وقد فسر ذلك في حديث أبي هريرة فقال صلى الله عليه وسلم: ((فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) ، وفي حديث ربعي بن خراش: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة)) (1)
وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن معنى ((اقدروا له)) : ضيقوا له وقدروه تحت السحاب: قال ابن قدامة: اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فروى عنه "وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه وقد أجزأ إذا كان من شهر رمضان" واختارها أكثر شيوخ أصحابنا وهو مذهب عمر وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة وأنس ومعاوية وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر، وبه قال بكر بن عبد الله وأبو عثمان النهدي وابن أبي مريم ومطرف وميمون بن مهران وطاوس ومجاهد.
وروي عنه: أن الناس تبع للإمام، فإن صام صاموا، وإن أفطر أفطروا، وهذا قول الحسن وابن سيرين لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون)) قيل معناه: الصوم والفطر مع الجماعة ومعظم الناس، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
__________
(1) المنتقى: 2/ 38(3/1214)
وحكى ابن قدامة رواية ثالثة عن الإمام أحمد كالجمهور والأئمة الثلاثة (1) وقال ابن سريج وجماعة منهم: مطرف بن الشخير من كبار التابعين وابن قتيبة: معناه قدروه بحساب المنازل، وحكى ابن سريج عن الشافعي أنه قال: من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر، ثم تبين له من جهة الاستدلال أن الهلال مرئي قد غم فإن له أن يعتقد الصوم ويجزئه.
ومذهب الجمهور حجته لا تدحض بحال، لأن روايات ((اقدروا له)) مجملة، وروايات إتمام العدة مفسرة، والقاعدة الأصولية المتفق عليها بينهم أن المجمل يحمل على المفسر، ولا تعارض عند الأصوليين بنيهما (2) أصلًا، هذا أولًا.
وثانيًا: ما قاله القرافي ملخصًا في الفرق الثاني والمائة بين قاعدة أوقات الصلاة يجوز إثباتها بالحساب والآلات وكل ما دل عليها، وبين قاعدة الأهلة في الرمضانات لا يجوز إثباتها بالحساب، المذهب عدم اعتبار الحساب، قال سند: إن كان الإمام يرى الحساب، فأثبت الهلال به، لم يتبع لإجماع السلف على خلافه، مع أن حساب الأهلة والخسوف والكسوف قطعي فإن الله سبحانه أجرى عادته بأن حركات الأفلاك وانتقالات الكواكب السبعة السيارة على نظام واحد طول الدهر بتقدير العزيز العليم، قال الله تعالى {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} وقال تعالى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي هما ذوا حساب فلا ينخرم ذلك أبدًا، وكذلك الفصول الأربعة لا ينخرم حسابها، والعوائد إذا استمرت أفادت القطع، كما إذا رأينا شيخا نجزم بأنه لم يولد كذلك، بل طفلًا لأجل عادة الله تعالى بذلك، وإلا فالعقل يجوِّز ولادته كذلك، والقطع الحاصل فيه إنما هو لأجل العادة وإذا حصل القطع بالحساب ينبغي أن يعتمد عليه كأوقات الصلوات فإنه لا غاية بعد حصول القطع.
__________
(1) المغني: 3/ 89 - 90
(2) ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد: 1/ 275(3/1215)
والفرق - وهو المطلوب ههنا وهو عمدة السلف والخلف - أن الله تعالى نصب زوال الشمس سبب وجوب الظهر، وكذلك بقية الأوقات بالأوامر الواردة في الكتاب والسنة الدالة على أن نفس الوقت السبب، فمن علم السبب بأي طريق كان، لزمه حكمه، فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع في أوقات الصلوات.
وأما الأهلة فلم ينصب صاحب الشرع خروجها من الشعاع سببًا للصوم بل رؤية الهلال خارجًا من شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي، فلا يثبت الحكم.
ويدل على أن صاحب الشرع لم ينصب نفس خروج الهلال عن شعاع الشمس سببًا للصوم قوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) ولم يقل لخروجه عن شعاع الشمس، كما قال تعالى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ثم قال: فإن غم عليكم، أي خفيت عليكم رؤيته ((فاقدروا له)) وفي رواية ((فأكملوا العدة ثلاثين)) فنصب ((رؤية الهلال)) أو إكمال العدة ثلاثين، ولم يتعرض لخروج الهلال عن الشعاع (1)
وهذه التفرقة حسنة من العلامة شهاب الدين القرافي الفقيه الفلكي والذي اهتم بأثر علم الهيئة في الأحكام الشرعية في كتابه اليواقيت في أحكام المواقيت (2) واهتم بأحكام الأرض وأصقاعها وبحارها وأوضاعها وأحوال السموات وأسرارها في كتاب الجغرافيا الذي وضعه وهو: المهاد الموضوع والسقف المرفوع (3) وتقوم حجة قاطعة على أن مذهب الجمهور هو الحق خصوصًا أن ابن الشاط قد قبلها، وأن الحطاب وصفها بالحسن (4)
وثالثًا: قال المازري رضي الله عنه: حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم ((فاقدروا له)) على أن المراد إكمال العدة ثلاثين، كما فسر في حديث آخر، قالوا: ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين، لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم، لأنه لا يعرفه إلا أفراد، والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم، والله أعلم (5)
__________
(1) الفروق: 2/ 199 وما بعدها
(2) مخطوط بدار الكتب الوطنية التونسية تحت 8688
(3) ذكره في اليواقيت في أحكام المواقيت: 61 وجهًا
(4) مواهب الجليل: 2/ 388
(5) النووي: شرحه على صحيح مسلم: 5/ 56 بهامش إرشاد الساري(3/1216)
هذا والذي يبدو لي من خلال ما نقلته من نصوص أن عدم الاعتماد على الحساب ليس راجعًا إلى بطلانه، وعدم الوثوق بصحة نتائجه في الواقع إذ لا أحد من الفقهاء يقول بتزييفها بعد التفريق بين التنجيم الذي هو استدلال بحركة الأفلاك على الحوادث، والذي فيه ادعاء علم الغيب، وبين الحساب الذي هو علم صحيح، بل رأينا حذاق الفقهاء يصرحون بإفادته القطع، إذ لم يقع خطأ من الحاسبين كالعلامة شهاب الدين القرافي، وإنما كل ما في الأمر أن الشارع ألغى ربط الصوم بخروج الهلال من شعاع الشمس دفعًا للعسر؛ إذ لا يتسنى ذلك إلا ليسير الأفراد وربطه برؤية خروج الهلال من شعاع الشمس، أو بإكمال العدة ثلاثين، رحمة بالمكلفين وتيسيرًا عليهم، إذ هو متآت لجماهيرهم والإلغاء شيء والبطلان شيء آخر كما يعرف ذلك من علم أصول الفقه.
وأما استفسار الإخوة المغتربين في الولايات المتحدة الأمريكية والأقطار الأوربية عن قبول حساب الكفار المشرفين على المراصد في هذه الأصقاع فمردود من وجهتين:
1- أن العمل بالحساب في الصوم والفطر والاستغناء عن الرؤية لا يجوز كما أسلفت.
2- أن الكفار لا تقبل شهادتهم ولا روايتهم في أمور الديانة، قال سعد الدين التفتزاني في التلويح عند اشتراط صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود في قبول خبر الواحد في الديانات ورد حبر الكافر فيها مع أن الكذب حرام في كل دين.
وتوجيه ذلك: وربما كان الكافر مستقيمًا في دينه، فيغلب على الظن صدقه، ومع ذلك يرد قوله في الديانات لأن شأن الكافر التعصب على دين الإسلام وهدم أركانه بقدر الطاقة، وعدم المبالاة فيه، فيرد قوله فيه، فظهر أن رد قول الكافر لا لأنه يصدق أو يكذب بل لأن صاحب الشرع من أصوله المؤسسة في هذا الدين أن أقوال المعتوه والكافر كلها ساقطة عن الاعتبار في الديانات، والقول الفصل أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي فقال: إني رأيت الهلال، فقال له صلى الله عليه وسلم: ((أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال، أذن في الناس أن يصوموا غدًا)) .(3/1217)
هذا بعض ما جاء في فتوى سماحة الشيخ سيدي أحمد بن الخوجة المفتي الحنفي بتونس رحمه الله للوزير خير الدين في برقية تضمنت الإعلام بثبوت رؤية هلال شهر رمضان زمن الحماية الفرنسية من مشرف كافر على مصلحة البرق (1)
وفي المذهب المالكي كذلك إذ من أوصاف الشاهد الإسلام قال ابن رشد القفصي: لا تجوز شهادة الكافر أصلًا، أو ارتدادًا سواء شهد لمسلم أو كافر، لأن الشهادة من شرطها العدالة، ولا عدالة لكافر وقد تقدم الخلاف في قبول شهادته في الوصية في السفر (2)
ويقول المالكية: قال الشافعية جاء في شرح المنهج لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري: فلا تقبل (أي الشهادة) ممن به رق أو صبا أو جنون، ولا من عادم مروءة أو مغفل لا يضبط، وأخرس ومحجور عليه بسفه ومتهم وغير عدل من كافر الخ.. وتعقبه محشيه سليمان الجمل بقوله: ولو على مثله لأنه أخس الفساق (3)
وذكر الخرقي الحنبلي أن شهادتهم لا تجوز في غير الوصية فقال ما نصه: "وتجوز شهادة الكفار من أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم ولا تجوز شهادتهم في غير ذلك" (4)
فالأخبار بثبوت هلال رمضان أو شوال من أمور الديانة التي لا تقبل فيها شهادة أو رواية من كافر بالإجماع بين فقهاء المذاهب.
وأما قول السائل: إن اتباع المسلمين المغتربين في أمريكا وأوروبا أو غيرهما من بلاد الكفر لرؤية مشرقية إلخ ما جاء في السؤال؟ فالجواب عنه: أن هؤلاء الإخوة إذا تعذرت عليهم رؤية هلال رمضان وشوال لغيم، أو قتر أو أي مانع آخر أتموا شعبان ثلاثين كما جاء ذلك في الحديث الشريف برواياته السالفة.
__________
(1) د. محمد سويسي، الفتاوى التونسية في ق 14: 2/ 653 مرقون بمكتبة الكلية الزيتونية
(2) الفائق في معرفة الأحكام والوثائق: 4/ 161 مخطوط بمكتبتي
(3) شرح المنهج مع حاشية الجمل: 5/ 378
(4) الخرقي، مختصره مع شرح المغني: 9/ 182 و184(3/1218)
وإذا اتصل غم الهلال أشهرًا فقد روى ابن نافع عن مالك في المدنية في القوم يكونون في مركب فلا يرون هلال رجب ولا شعبان، ولا رمضان، فقال: ينظرون أي هلال رأوه رمضان أو غيره فيعدونه ثلاثين، ثم رجب بثلاثين، ثم شعبان بثلاثين، ثم رمضان بثلاثين، فإن تبين لهم هلال شوال قبل الثلاثين أفطروا وقضوا ما أفطروا، وروى عيسى عن ابن القاسم مثله (1)
وذكر ابن الأثير، وكذلك الزمخشري أن ناسًا كانوا يسكنون بين الجبال فأتوا عمر رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنا ناس بين الجبال، لا نهل الهلال إذا أهلته الناس فيم أمرنا؟ فقال: صوموا من الوضع إلى الوضع (2) فإن خفي عليكم فأتموا العدة ثلاثين يومًا ثم انسكوه، وفي رواية أن عمر كتب إلى امرأة الأجناد المفندة، صوموا لرؤية الهلال، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يومًا، ثم صوموا وأفطروا (3) وهذا إذ لم ير في بلد غير متباعد.
وأما تخصيص السائل الرؤية بالمشرقية فليس بصواب لأن العبرة في رؤية بلد غير البلد الموجود فيه الشخص إنما هي بأن لا يكون متباعدًا لا بمشرقيته، ولا بمغربيته، قال الباجي: وإذا رأى أهل البصرة هلال رمضان، ثم بلغ ذلك إلى أهل الكوفة، والمدينة واليمن فالذي رواه ابن القاسم وابن وهب عن مالك في المجموعة، لزمهم الصيام، أو القضاء إن فات الأداء.
وروى القاضي أبو إسحاق عن ابن الماجشون أنه إن كان ثبت بالبصرة بأمر شائع ذائع يستغنى عن الشهادة والتعديل فإنه يلزم غيرهم من أهل البلاد القضاء، وإن كان إنما ثبت عندهم بشهادة شاهدين عدلين لم يلزم ذلك من البلاد إلا من كان يلزمه حكم ذلك الحاكم ممن هو في ولايته، أو يكون ذلك ثبت عند أمير المؤمنين فيلزم القضاء جماعة المسلمين، قال: وهذا قول مالك (4)
ونقل القرطبي هذا النص في تفسيره لقوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ} في آخر المسألة السادسة قبله في نفس المسألة السادسة عن ابن عمر الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كالأندلس من خراسان، قال: ولكل بلد رؤيتهم إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين.
__________
(1) الباجي، المنتقى: 2/ 38
(2) المنتقى: 2/ 38
(3) محمد عبد الوهاب المراكشي، العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال: 1/ 34
(4) المنتقى: 2/ 37(3/1219)
كما نقل عن ابن العربي الاختلاف في تأويل قول ابن عباس رضي الله عنهما، في حديث كريب المشهور: "هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل رده لأنه خبر واحد، وقيل رده لأن الأقطار مختلفة في المطالع وهو الصحيح لأن كريبًا لم يشهد وإنما أخبر عن حكم ثابت بالشهادة، ولا خلاف في الحكم الثابت أنه يجري فيه خبر الواحد، ونظيره ما لو ثبت أنه أهل ليلة الجمعة بأغمات وأهل بإشبيلية ليلة السبت، فيكون لأهل كل بلد رؤيتهم، لأن سهيلًا يكشف من أغمات ولا يكشف من إشبيلية، وهذا يدل على اختلاف المطالع (1)
وممن نقل الإجماع من فقهاء المالكية على أنه لا نقل مع البعد جدًا ابن رشد الحفيد حيث قال بعد أن نقل الخلاف إلى تعدي الرؤية من بلد إلى بلد: وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية كالأندلس والحجاز (2) ونقله أيضًا ابن جزي حيث قال: إذا رأوه (هكذا بلهجة أسد شنوءة) أهل بلد لزم الحكم غيرهم من أهل البلدان إلى أن قال: ولا يلزم في البلاد البعيدة كالأندلس والحجاز إجماعًا، (3) وقال الحطاب عند قول خليل: وعم أن نقل بهما عنهما، تنبيه: قال ابن عرفة: قال ابن عمر: وأجمعوا على عدم لحوق رؤية ما بعد كالأندلس من خراسان، (4) وكأنه ارتضاه واستحسنه.
وقال أبو الحسن القابسي رحمه الله في كتاب الأسئلة: جملة المتفقهين يطلقون لزوم حكم الرؤية عن موضعها من غير تقييد، ولا فرق بين بعيد فقط وبين بعيد أبعد بما تختلف به أحوال الأقاليم، وتتباعد فيه الأراضي بانخفاض وارتفاع، وبحسب ذلك تختلف المطالع والمغارب والاستواءات وغير ذلك مما لا خفاء به عند أهل المعرفة بوضع الأرض، وتسيير الأفلاك، وإطلاق ذلك مع الافتقار إلى البيان، ومسيس الحاجة إليه من الخطأ البين الذي لا يشك فيه أحد (5) ونقله غيرهم كالبناني وجنون وابن البناء.
ومن العلماء الأثبات الذين حرروا القول في هذه المسألة تحريرًا شافيًا كافيًا لجمعه بين العمق في الفقه وبين المعرفة بعلم الهيئة الفقيه الأصولي الفلكي الحنفي محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية سابقًا رحمه الله، في كتابه "إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة" فقال: وبالجملة فالقول بعدم اعتبار اختلاف المطالع مخالف للمعقول والمنقول.
__________
(1) القرطبي: 2/ 295 - 296
(2) بداية المجتهد: 1/ 278
(3) القوانين الفقهية: 119
(4) مواهب الجليل: 2/ 384
(5) محمد بن عبد الوهاب المراكشي، العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال: 1/ 39(3/1220)
أما مخالفته للمعقول فلما علمته من مخالفته لما هو ثابت بالضرورة من اختلاف الأوقات، وأن النهار عند قوم قد يكون ليلًا عند آخرين.
وأما مخالفته للمنقول فلأنه مخالف لما تقدم عن كريب، وذلك لأن المتبادر من قول كريب لابن عباس: نعم رأيته ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية، وقول ابن عباس: لكنا رأيناه.. إلخ وقول كريب بعد ذلك: أولا تكتفي برؤية معاوية؟ وقول ابن عباس في جوابه: لا، أي لا نكتفي برؤية معاوية، أن قوله: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجع إلى عدم الاكتفاء برؤية معاوية ورؤية كريب، والناس وصومهم، وصوم معاوية، وهذا ظاهر في أن كل قوم مكلفون برؤيتهم، ولا شك أن مورد هذا النص في الشام والحجاز، وقد وجد بينهما مسافة القصر، واختلاف الإقليم، واختلاف المطالع، واحتمال عدم الرؤية، فاستند كل طائفة إلى واحد منها وأيد به قوله: كذا قال الإمام الأسنوي، لكن احتمال عدم الرؤية بعد أن قال ابن عباس لكريب: أنت رأيته؟ فقال له: نعم، ورواه الناس وصاموا، وصام معاوية، ومعاوية كان الخليفة بعيدًا جدًا، لا يلتفت إليه فلم يبق إلا احتمال مسافة القصر، واختلاف الأقاليم واختلاف المطالع، فإذا رجعنا إلى الواقع نجد أنه لا دخل في اختلاف الناس في رؤية الهلال بعد الغروب لمسافة القصر، ولا لاختلاف الأقاليم، وأن المدار في ذلك على اختلاف المطالع.
وبعد تحرير العلامة محمد بخيت المطيعي رحمه الله لمدار المسافة قال في موضع آخر من الكتاب السالف الذكر: فالواجب التوفيق بما وفقت به المالكية، فيحمل على قول من قال بعدم اعتبار اختلاف المطالع على ما إذا كان اختلافها لا يؤدي إلى تفاوت في رؤية الهلال بعد الغروب وقول من قال باعتباره على ما إذا كان اختلافها يؤدي إلى ذلك فإن اختلاف مطالع البلاد كما علمت مبني على اختلاف عروضها، وأن عرض كل بلد هو بعده عن خط الاستواء، وهذا الاختلاف قد يكون يسيرًا جدًا لا يترتب عليه اختلاف في رؤية الهلال بين البلدين بعد الغروب، وقد يكون فاحشًا يترتب عليه ذلك، وهذا الذي يتعين المصير إليه حملًا لكلامهم على السداد، لأن الشرع لا يأتي بالمستحيلات، والله الموفق لما فيه الصواب.(3/1221)
ولا عبرة بغير ما قررت من القول بتعدي رؤية بلد إلى سائر البلدان الإسلامية، لأن ذلك مداره على القول بعدم اختلاف المطالع، وهو قول قال به كثير من الفقهاء بمعطيات عصورهم، ولكن لا ينبغي أن يقرر اختلافًا فقهيًا في عصرنا الحاضر لانبنائه على خطأ قديم وقع فيه جمع من المفسرين، وشايعهم عليه كثير من الفقهاء، وهو القول بأن الأرض مسطحة، لأخبار كثير من الآيات بأن الأرض فراش، وبساط ومهاد، وقرار، ومد، ودحي، ووضع، وبسط، وطحي، وكلها ألفاظ متقاربة تفيد التسطيح، وقد تأولها الإثبات من المفسرين والفقهاء قديمًا وحديثًا بما يطول جلبه هنا.
ولا مجال في عصرنا الحاضر إلى الخلاف في كروية الأرض إذ هذا قد أصبح من يقيني العلم الموجب لتأويل ظواهر النصوص الشرعية بما يتفق معه، تأويلًا غير متعسف كقول الفخر الرازي: إن الكرة إذا كانت في غاية الكبر كانت كل قطعة منها تشاهد كالسطح، إلى غير ذلك من وجوه التأويل وهي كثيرة.
وبعد كل ما ذكرت، وانطلاقًا منه، وترتيبًا عليه أخلص إلى أن الاتحاد بين المسلمين في وقت الصوم والفطر ليس مقصدًا للشارع، وأنه لا يجوز للمسلمين في أي صقع من أصقاع الأرض كانوا، التعويل على الحساب في صومهم وفطرهم، وإنما يصومون لرؤية الهلال، ويفطرون لرؤيته في بلدهم الذي هم فيه، أو في بلد متحد معه في خطوط العرض، أو مختلف اختلافًا يسيرًا لا يؤدي إلى تفاوت في رؤية الهلال بعد الغروب، وإن تعذر ذلك أكملوا عدة شعبان، أو رمضان ثلاثين، وإذا اتصل غم الهلال في بلدهم الذي هم فيه، أو البلد المتحد معه في خطوط العرض أو المختلف اختلافًا يسيرًا أشهرًا متوالية نظروا إلى هلال رأوه، هلال رمضان أو غيره فيعدونه بثلاثين ثم رجب بثلاثين ثم شعبان بثلاثين ثم رمضان بثلاثين، فإن تبين لهم هلال شوال قبل الثلاثين أفطروا وقضوا ما أفطروا، أفتي بذلك وأنا الفقير إلى رحمة مولاه الغني محيي الدين قادي فإن كان صوابًا فمن فضل الله علي، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله الموفق للصواب.(3/1222)
السؤال الرابع والعشرون
ما حكم عمل المسلم في دوائر الوزارات الحكومة الأمريكية أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة، وخاصة في مجالات هامة كالصناعات الذرية، أو الدراسات الاستراتيجية ونحوها؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد والله ولي التوفيق: يجوز للمسلم أن يعمل في دوائر الوزارات الحكومات الكافرة رغبة منه في العدل وإقامة الحق والإحسان إذا علم أنه يصلح بعض الأحوال، ويستطيع المحافظة على عزة المسلم وكرامته وإبائه، بل يطلب ذلك ويسعى إليه إذا تعين فيه إقامة الحق وبسط العدل دون سواه، وقد طلب رسول الله يوسف عليه السلام حين علم أن المكين الأمين عند فرعون مصر الولاية على خزائن أقوات أرض مصر وأموالها ليتوصل، كما قال الزمخشري إلى إبقاء أحكام الله تعالى وإقامة الحق وبسط العدل والتمكن مما من أجله تبعث الأنبياء إلى العباد (1) ومن فرعون مصر ذكر ذلك القرآن الكريم في سورة يوسف حيث يقول تعالى {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} .
وهذه الآية الكريمة كما يقول سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله: أصل وجوب عرض المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علم أنه لا يصلح له غيره لأن ذلك من النصح للأمة وخاصة إذا لم يكن ممن يتهم على إيثار منفعة نفسه على مصلحة الأمة، وقد علم يوسف عليه السلام أنه أفضل الناس هنالك لأنه كان المؤمن الوحيد في ذلك القطر فهو لإيمانه بالله يبث أصول الفضائل التي تقتضيها شريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، فلا يعارض هذا ما جاء في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الرحمن، لا تسال الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها)) لأن عبد الرحمن بن سمرة لم يكن منفردًا بالفضل من بين أمثاله ولا راجحًا على جميعهم.
ومن هذه الآية أخذ ففقهاء المذاهب جواز طلب القضاء لمن يعلم أنه أهل، وإن لم يول ضاعت الحقوق، قال المازري: يجب على من هو أهل الاجتهاد والعدالة السعي في طلب القضاء إن علم أنه لم يله ضاعت الحقوق، أو وليه من لا يحل أن يولى وكذلك إن كان وليه من لا تحل توليته ولا سبيل لعزله إلا بطلب أهله.
__________
(1) الكشاف: 1/ 639(3/1223)
وقال ابن مرزوق: لم أقف على هذا لأحد من قدماء أهل المذهب غير المارزي.
وقال عياض في كتاب الإمارة من شرحه على صحيح مسلم: ما ظاهره، الاتفاق على جواز الطلب في هذه الحالة (1)
وما خصه السائل بمزيد الاهتمام ففي السؤال الملقى على المجمع الموقر بالذكر من الصناعات الذرية، والدراسات الاستراتيجية فجوازه للمسلم أحرى لأنه إن وجه إلى الشر حاول المسلم بكياسة منعه كلية أو التخفيف منه في حدود ما تسمح به إمكانياته وإن وجه إلى الخير دفعه بكل ما أوتي من مكانة وظيفية، وخبرة علمية، وإخلاص في البر بالناس، قال ابن جزي من المالكية: ويستدل بطلب يوسف الولاية، رغبة منه في العدل، وإقامة الحق الإحسان، على أنه يجوز للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر: إذا علم أنه يصلح بعض الأحوال (2) ولنقف عند قوله: "بعض الأحوال" ولنتأمل مدى واقعيته، فلم يقل: كل الأحوال وذلك هو المشروع والمعقول، وفعل رسول الله يوسف عليه السلام في قطر لا يوجد فيه مؤمن سواه يثبت أصول الفضائل التي اقتضتها شريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام فهؤلاء المغتربون من المؤمنين شموع تضيء وسط حالك ظلام الكفر، إن أخلصوا لرب العالمين، هذا أولًا.
وثانيًا: هنالك ضرورة إسلامية إلى معرفة التخطيط العلمي للأشياء، والصناعات الذرية المندرجة ضمن الواجبات الكفائية، في حق الأمة الإسلامية كما تنطق بذلك النصوص الفقهية، قال حجة الإسلام الغزالي رحمه الله وهو يتحدث عن العلوم الواجبة كفائيًا: "أما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب، إذ هو ضروري في بقاء حاجة الأبدان، وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها.
وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها، حرج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين.
فلا يتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة (3)
وقال العلامة ابن عابدين رحمه الله وهو يقرر ما يجب وجوبًا كفائيًا على المسلمين من العلوم والصناعات: "وأما فرض الكفاية من العلم فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب والحساب واللغة.. وأصول الصناعات كالفلاحة والحياكة والنسيج والسياسة والحجامة" (4)
وفي حاضرنا الإسلامي إذا لم تعلم أمة الإسلام بعمق علم التخطيط والصناعات والذرية حرجت وإذا تعلم عدد من المسلمين ذلك بمقدار ما فيه الكفاية ارتفع الإثم عن الجميع.
والعلم بالنسبة إلى الإسلام لا يعرف حدود المكان ولا حدود الزمن ولا يتقيد بدين الشخص ليقع التعلم عليه، بل هو مطلق من كل ذلك، فقد روى العسكري من حديث عنبسة بن عبد الرحمن عن شبيب بن بشير عن أنس رفعه: ((العلم ضالة المؤمن حيث وجده أخذه)) (5) بالمفهوم الذي تضمنه السياق كله هذا ما فتح الله به على في الإجابة عن هذا السؤال ولا أراه مندرجًا في باب الإجارة، وإنما هو من صميم الأحكام السلطانية والله أعلم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 13/ 9 - 10
(2) كتاب التسهيل لعلوم التنزيل: 2/ 122
(3) الإحياء: 1/ 15
(4) رد المحتار على الدر المختار: 1/ 29 – 30 بتصرف
(5) السخاوي: المقاصد الحسنة: 192(3/1224)
السؤال الخامس والعشرون
ما حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها علمًا بأن هذا هو جزء من عمله في الشركة الموظفة له، وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل؟
وفي الجواب عن هذا السؤال المفيد والله ولي التسديد:
العمل في شركة من أعمالها الأساسية ما هو حرام على الإسلام لا يجوز من البداية قال ابن رشد في البيان والتحصيل: إن إجارة المسلم نفسه من النصراني واليهودي على أربعة أقسام جائزة، ومكروهة، ومحظورة وحرام.
فالجائز: أن يعلم له المسلم عملًا في بيت نفسه كالصانع الذي يعمل للناس.
والمكروهة: أن يشيد بجميع عمله من غير أن يكون تحت يده، مثل أن يكون مقارضًا أو مساقيًا.
والمحظورة: أن يؤاجر نفسه في علم يكون فيه تحت يده كأجير الخدمة في بيته، وإجارة المرأة لترضع له ابنته في بيته وما أشبه ذلك، فهذه تفسخ أن عثر عليها، فإن فاتت مضت، وكانت لها الأجرة.
والحرام: أن يؤاجر نفسه منه فيما لا يحل: من عمل الخمر أو رعي الخنازير، فهذا يفسخ قبل العمل، فإن فات تصدق بالأجرة على المساكين (1)
وتصميم المهندس المسلم لمباني ذات صبغة دينية كالكنائس والبيع والمراكز التنصير هي من القسم الرابع وهو مؤاجرة المسلم نفسه من الكتابي فيما لا يحل له من عمل الخمر، ورعي الخنازير. جاء في المدونة: قلت: أرأيت لو أن مسلمًا آجر نفسه من نصراني يرعى له الخنازير فرعاها، فأراد إجارته، قال: قال مالك في النصراني يبيع من المسلم خمرًا: أن النصراني يضرب على بيعه الخمر من المسلم إذا كان النصراني يعرف أنه مسلم فباعه، وهو يعرف أنه مسلم أدبًا للنصراني، ويكسر الخمر في يد المسلم،
__________
(1) الحطاب، مواهب الجليل: 5/ 419(3/1225)
قال ابن القاسم: وأنا أرى أن تؤخذ الإجارة من هذا النصراني ويتصدق بها على المساكين ولا يعطاها هذا المسلم أبدًا لهذا المسلم، ولأن الإجارة أيضًا لا تحل لهذا إذا كانت إجارته من رعي الخنازير، وأرى أن يضرب هذا المسلم أدبًا له فيما صنع من رعيه الخنازير ورضاه بالأجر من رعيه الخنازير إلا أن يكون ممن يعذر بالجهالة فيكف عنه في الضرب، ولا يعطى من الإجارة شيئاَ ويتصدق بالأجرة على المساكين ولا تترك الأجرة للنصراني مثل قول مالك في الخمر (1)
ونص المدونة ألقى الأضواء على الإجراءات الواجب اتخاذه مع المسلم المؤاجر نفسه من كتابي فيما فلا يحل له، وأبان أن الإجارة باطلة من هذا النوع، فقول السائل: وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل ولا يكون مبررًا، إذ العمل من أصله لا يجيزون فلا يرخص له من أجل تعرضه للفصل في الاستمرار في العمل ولو مع فعل المحرم.
قال السيوطي: إن فعل الرخصة متى توقف على وجود شيء نظر في ذلك الشيء فإن كان تعاطيه في نفسه حرامًا امتنع معه فعل الرخصة وإلا فلا (2) والعمل بالشركة التي من بين أعمالها ما هو محرم على المسلم عمل حرام لا يجوز بحال، لأن المسلم مهان فيه، في أقدس الأشياء لديه وهو دينه، وفاقد لعزته والله جل جلاله يقول {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} هذا ما ظهر للعبد الفقير إلى مولاه الغني محيي الدين وبه أفتي إخواني في بلاد الغربة، والله أعلم.
__________
(1) سحنون، المدونة: 4/ 426
(2) الأشباه والنظائر: 140(3/1226)
السؤال السادس والعشرون
كثير من العائلات المسلمة يعمل رجالها في بيع الخمور والخنزير، وما شاب ذلك، وزوجاتهم وأولادهم كارهون لذلك، علمًا بأنهم يعيشون بمال الرجل فهل عليهم من حرج في ذلك؟
وفي الجواب عن هذا السؤال أفيد والله الملهم بالصواب، فأقول:
قد جاء الأمر الملزم بأكل الحلال، وجاء النهي عن أكل الحرام في فيض آي القرآن وسنة رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام وآثار السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضوان الله عليهم أجمعين.
أما الآي الكريمة فمنها قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} قال ابن عباس رضي الله عنهما: وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين، وقد قدم تعالى أكل الحلال على صالح الأعمال، تبينها على أن الانتفاع بالأعمال لا يتوصل إليه إلا إصلاح الرزق واكتسابه من حله.
وأما السنة الشريفة فمنها قوله عليه الصلاة والسلام الذي رواه الترمذي من حديث كعب بن عجرة وحسنه: ((كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به)) ، وقوله عليه الصلاة والسلام الذي رواه مسلم: ((إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا وأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، فأنى يستجاب له؟))
وأما آثار السلف الصالح فمنها: أن الصديق رضي الله عنه شرب لبنًا من كسب عبده ثم سأله، فقال: تكهنت لقوم فأعطوني، فأدخل يده في فيه، وجعل يقيء، وقال سفيان الثوري رضي الله عنه: من أنفق من الحرام في طاعة كان كمن طهر الثوب النجس بالبول، والثوري النجس لا يطهره إلا الماء، والذنب لا يكفره إلا الحلال، وقال الإمام علي كرم الله وجهه: إن الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب وشبهتها عتاب (1) وقال عمر: كنا ندع أربعين بابًا من الحلال مخافة الوقوع في الشبهة من الحرام، وإنما الورع في الحلال، وأما الحرام فتركه واجب (2)
__________
(1) راجع إحياء علوم الدين مع المغني عن حمل الأسفار: 2/ 80 – 82
(2) ميارة، الشرح الكبير: 321(3/1227)
وقال مالك في رواية ابن وهب عنه: إذا كان المسلم معروفًا بأكل الربا والعمل به وبيع الخمر لم أر لأحد أن يستلف منه، ولا يقتضي دينه منه، ولا يخالطه، ولا يؤكله (1) لأن الله ما حرم شيئًا إلا حرم أكل ثمنه، فقولة مالك صريحة في حرمة اقتضاء الحقوق من المال الحرام.
وقال أصبغ من المالكية في مال المرابي وعاصر الخمر والغاصب، والظالم وتارك الزكاة: إنه فاسد كله، لا يجوز أن يؤكل منه شيء دون شيء، ولا يشرب (2)
وترتيبًا على هذه النصوص القرآنية، والسنية من أحاديث وآثار، وفقهية أقول: لا يجوز للمسلم المكلف أكل المال الحرام، ولا لبس اللباس الحرام، ولا سكنى المسكن الحرام، ولا استعمال أي شيء مما ينتفع به من الحرام.
وجاء في السؤال كراهية الزوجات والأولاد لا كلهم من كسب عائلهم، وليس الأمر كراهة فحسب بل حرام، ويجب امتناعهم عن الأكل من كسبه لأن أكلهم لو كان الكسب حلالًا حق والحقوق لا تقتضي من الحرام كما جاء ذلك عن إمام دار الهجرة في النص السالف، وعن أصبغ.
ومحل حرمة ذلك بالنسبة للأولاد إذا كانوا مكلفين وشأن الزوجات التكليف، هذا كله إذا كان كسب عائلهم من الحرام المحض.
__________
(1) العتبي، العتبية مع البيان والتحصيل: 18/ 514
(2) ابن رشد، المقدمات: 2/ 617(3/1228)
وأما إذا كان مختلطًا لأنه يبيع في مغازته مثلًا المحرمات كالخمر ولحم الخنزير والنتن (السجاير) ويبيع المبارحات كالمواد الغذائية، ولم يتعين الحلال من الحرام ولم يمتز هذا عن ذاك فيجوز لمن ذكر الأكل من ماله وكسبه في طعامهم وشرابهم وملبسهم ومسكنهم وما ينتفعون به، قال حجة الإسلام الغزالي رحمة الله عليه في كتاب الحلال والحرام من إحياء علوم الدين: في اختلاط الحلال بالحرام غير المحصورين: والذي نختاره أنه لا يحرم بهذا الاختلاط أن يتناول شيئًا بعينه احتمل أنه حرام، وأنه حلال إلا أن يقترن بتلك العين علامة تدل على أنه من الحرام، فإن لم يكن هناك علامة تدل على أنه من الحرام فتركه ورع، وأخذه حلال، ولا يفسق به آكله (1)
وعدم جواز الأكل بالنسبة للزوجات والأولاد المكلفين مقيد بما إذا كانوا قادرين على العمل بالحلال، وواجدين له في حدود الكفاية.
وأما إذا كانوا عاجزين عن العمل حقيقة أو حكمًا، وسدت في وجوههم الأبواب كل الأبواب من العمل الحلال واضطروا إلى الأكل من كسبه الحرام، أكلوا منه ما يسد رمقهم، ويحفظ حياتهم إذ الضرورة تقدر بقدرها، قال تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
ويجب عليهم السعي ما استطاعوا إليه سبيلًا لإيجاد عمل حلال، مهما كانت نوعية العمل المقدور عليه، ومتى وجدوه حرم عليهم الأكل من كسب عائلهم المتمحض للحرام كما ذكر، لأن ما جاز للضرورة أو الحاجة المنزلة منزلها بطل بزوالها.
هذا ما ظهر في الإجابة عن هذا السؤال، وهذا ما أفتي به إخواني السائلين والله أعلم.
__________
(1) الأحياء: 2/ 93(3/1229)
السؤال السابع والعشرون
ما حكم تبرع المسلم فردًا كان أو هيئة لمؤسسات تعليمية أو تنصيرية، أو كنسية؟
وفي الجواب عن هذا أفيد والله ولي التوفيق فأقول:
إن كلمة تبرع في السؤال غير دقيقة إذ التبرعات أنماط في الفقه الإسلامي عديدة، ولكن سنحاول الإجابة عن السؤال عارضين لأهمها من صدقة، وهبة، ووقف، ووصية.
وقبل الشروع في الإجابة حتم علي تفكيك السؤال إلى قسمين:
أ- تبرع مسلم فرد أو هيئة إسلامية لمؤسسات تعليمية.
ب- تبرع مسلم فرد أو هيئة إسلامية لمؤسسات تنصيرية أو كنسية.
أما الفرع الأول فالجواب أن العلم سلاح ذو حدين فما يفيد البشرية فائدة حقيقية، تقرها الشريعة الإسلامية، من عمل دنيوي سياسي أو اقتصادي أو زراعي أو تجاري هو من البر الذي يحبه الله لعباده ويأمرهم بالتعاون عليه قال صلى الله عليه وسلم ((الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله)) ، رواه البزار والبيهقي وأبو نعيم وأبو يعلى والطبراني والحارث بن أبي أسامة وابن أبي الدنيا والعسكري وآخرون من جهة يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس مرفوعًا، وعن ابن أن عمر مرفوعًا، قال: قيل يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ قال: ((أنفع الناس للناس)) وروى الطبراني من حديث زيد بن خالد مرفوعًا: ((خير العلم ما نفع وخير الهدى ما اتبع، وخير الناس أنفعهم للناس)) وبعضها يؤكد بعضًا، قاله السخاوي (1)
والعلم المختص في السياسة، أو الاقتصاد أو الزراعة والتجارة أو غير ذلك مما ينفع الناس هو السبيل إلى ذلك، فإعانة هذه المؤسسات التعليمية في بلاد الغربة في الإطار الذي حددت بما ندبت الشريعة إليه ورغبت فيه، لأن العلم المحاط بسياج من الخلق العظيم إنساني النفع، سواء تصدق عليها، ووهب لها، أو وقف عليها أوقافًا، أو أوصى لها أو بعبارة أشمل تبرع عليها بوجه من وجه التبرع المشروع، وأما العلوم التي لا فائدة فيها بل تحمل الضرر والدمار كمصانع الأسلحة المدمرة والمؤسسات التي تؤهل المختصين في صناعتها وكعلم الشعوذة، وقراءة الكف، والفلسفة الملحدة، ومعاهد الاقتصاد الشيوعي أو نحو ذلك فهذه لا يجوز التبرع لها بوجه من وجوه التبرع، والتبرع عليها حرام؛ لأنها تمرد على شريعة الإسلام، وعصيان الديانة، وتعاون على الإثم والعدوان.
__________
(1) المقاصد الحسنة: 201(3/1230)
وأما الفرع الثاني فلا يجوز له وهبة ولا صدقة، ولا وقف ولا وصية ولا غيرها من التبرعات التي ندب الإسلام إليها، قال ابن قدامة: لا يصح الوقف على معصية كبيت النار والبيع والكنائس وكتب التوراة والإنجيل لأن ذلك معصية، فإن هذه المواضع بنيت للكفر وهذه الكتب مبدلة منسوخة، ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة وقال: ((أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان موسى أخي حيًا ما وسعه ألا اتباعي)) ولولا أن ذلك معصية ما غضب منه، والوقف على قناديل البيعة وفرشها ومن يخدمها ويعمرها كالوقف عليها لأنه يراد تعظيمها.
وسوءا كان الواقف مسلمًا أو ذميًا، قال أحمد في نصارى وقفوا على البيعة ضياعًا كثيرة وماتوا ولهم أبناء نصارى فأسلموا والضياع بيد النصارى فلهم أخذها وللمسلمين عونهم حتى يستخرجوها من أيديهم.
وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافًا (1)
وقال في المغني أيضًا: ولا تصح الوصية بمعصية وفعل محرم مسلمًا كان الموصي أو ذميًا، فلو وصى ببناء كنسية، أو بيت نار أو عمارتهما، أو الإنفاق عليهما كان باطلًا، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه وأبو ثور، وقال أصحاب الرأي: يصح، فأجاز أبو حنيفة بأرض تبنى كنيسة وخالفه صاحباه، وأجاز أصحاب الرأي أن يوصى بشراء خمر أو خنازير ويتصدق بها على أهل الذمة.
وهذه وصايا باطلة، وأفعال محرمة لأنها معصية فلم تصح الوصية بها كما لو وصى بعبده أو أمته للفجور.
وإن وصى لكتب التوراة والإنجيل لم تصح لأنها كتب منسوخة إلخ ما ذكره سابقًا في عدم صحة الوقف عليها (2) وجاء عن القرافي في الفرق الثامن والخمسين بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل أن وسيلة المحرم محرمة (3)
وانطلاقًا من كل ما سلف وترتيبًا عليه أفتي وأنا الفقير إلى مولاه الغني محيي الدين قادي بعدم جواز تبرع المسلم فردًا كان أو هيئة لمؤسسة تنصيرية أو كنيسة، ومن فعل ذلك من المسلمين فقد نزع ربقة الإسلام من عنقه كما جاء في الفروق للقرافي "إن إرادة الكفر كفر، وبناء كنيسة يكفر فيها بالله كفر، لأنه إرادة الكفر" (4) وجواز التبرع بكل وجوهه لمؤسسة التعليم النافع. والله أعلم.
__________
(1) المغني: 5/ 645
(2) المغني: 6/ 105
(3) الفروق: 2/ 40
(4) الفروق: 1/ 160(3/1231)
السؤال الثامن والعشرون
ما حكم شراء منزل السكنى، وسيارة الاستعمال الشخصي، وأثاث المنزل بواسطة البنوك والمؤسسات التي تفرض ربحًا محددًا على تلك القروض، لقاء رهن تلك الأصول، علمًا بأنه في حالة البيوت والسيارات والأثاث عمومًا يعتبر البديل عن البيع هو الإيجار بقسط شهري يزيد في الغالب عن قسط الشراء الذي تستوفيه البنوك؟
وفي الجواب عن السؤال أفيد والله ولي الإرشاد والتسديد:
مهما كان القرض محتويًا على فائض ولو يسيرًا، ومعلومًا في عقد القرض فالقرض قرض ربوي لا يجوز شرعًا بحال، والتعامل به من أشد المنكرات، قال الله تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 275، 276، 277، 278]
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله)) رواه مسلم زاد الترمذي وغيره: ((وشاهديه وكاتبه)) ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الربا بضع وسبعون بابًا والشرك مثل ذلك)) ، رواه البزار ورواته رواة الصحيح وهو عند ابن ماجة بإسناد صحيح باختصار، والشرك مثل ذلك، وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه)) رواه البخاري هكذا في البيوع مختصرًا (1) إلى غير ذلك مما ورد في الترهيب من الربا وهو كثير، فليحذر الإخوة المسلمون حيثما كانوا من التعامل بالربا لغير ضرورة فجماع الخير كله تقوى الله، ورأس الحكمة مخالفته والله أعلم.
__________
(1) المنذري، الترغيب والترهيب، الترهيب من الربا: 2/ 246 - 248(3/1232)
المناقشة
استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن
11 صفر 1407 هـ / 14 أكتوبر 1986م
الجلسة المسائية الأولى (الرابعة بعد العصر)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الموضوع الذي بين أيدينا اليوم هو استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، وهي ثمانية وعشرون سؤالا، وعلى سبيل الاختصار سبعة وعشرون، لأن أحد الأسئلة انتهى بقراركم اليوم في مسألة إثبات الهلال بالرؤية وبحث الحساب. وهذه الأسئلة أجاب عليها عدد من المشايخ كما هي بين أيدكم ونرجو من الشيخ محيي الدين قادي أن يتفضل بالعرض باختصار عن الأجوبة وشكرًا.
الشيخ محيي الدين قادي:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله عم نواله والسلام على سيدنا محمد وصحبه وآله، وبعد. فيا سيادة الرئيس. فيا سماحة الأمين العام. حضرات أصحاب الفضيلة.
الموضوع الذي بين أيدينا هو عبارة عن ثمانية وعشرين بحثا، وقد حاولت في ستة وعشرين سؤالا من هذه الأسئلة وتوقفت في الإجابة عن سؤالين هما التجنس بجنسية بلاد الكفر والانتقال إلى بلاد الكفر، أما بقية الأسئلة فقد حاولت جهدي أن أجيب عنها فإن كان صوابا فمن فضل الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان. وسأقرأ الأجوبة مختصرة وإن احتجنا إلى شيء من التفصيل رجعنا إلى الأصل.
بالنسبة إلى السؤال الأول: ما حكم زواج المسلمة بغير المسلم خاصة إذ طمعت في إسلامه بعد الزواج حيث تدعي مسلمات كثيرات أنه لا يتوفر لهن الأكفاء من المسلمين في غالب الأحيان وأنهن مهددات بالانحراف ويعشن في وضع شديد الحرج؟
هذا الجواب وقع عليه الاتفاق. وهو لا يجوز زواج المسلمة من غير المسلم ولو رجت إسلامه بعد الزواج.(3/1233)
السؤال الرابع: ما حكم استمرار الزوجية والمعاشرة بين زوجة دخلت الإسلام وبقي زوجها على الكفر ولها منه أولاد تخشى عليهم الضياع والانحراف ولها طمع في أن يهتدي زوجها إلى الإسلام لو استمرت العلاقة الزوجية بينها وبينه؟
وما الحكم فيما إذا لم يكن هناك طمع في إسلامه ولكنه يحسن معاشرتها وتخشى لو تركته ألا تعثر على زوج مسلم؟
الجواب: أن الزوجة التي أسلمت وطمعت في إسلام زوجها الذي ظل كافرا بعدها بأن لا تمكنه من الوطء ولا تساكنه في خلوة سدا لذرائع الفساد وهو أملك لها ما دامت في العدة وتدعوه إلى الإسلام. وإن لم يسلم حتى خرجت من العدة فإن شاءت تزوجت وإن أحبت انتظرت إسلامه بشرط عدم ملامسته لها المجمع على تحريمه. أما حكم التي لم تطمع في إسلام زوجها غير المسلم لكنه يحسن معاشرتها فالقول بحسن المعاشرة مردود لأنه لا يتصور إسلاما حسن معاشرة مع زوج كافر يشرب الخمر ويأكل الخنزير ويكفر بمحمد ورسالة محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبالكتاب الذي أنزل عليه ويلد أولادا فيتبعونه في دينه.
السؤال الخامس: ما حكم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين حيث لا يسمح بالدفن خارج المقابر المعدة لذلك ولا توجد مقابر خاصة بالمسلمين في معظم الولايات الأمريكية والأقطار الأوربية؟
الجواب: إذا بعدت المسافة عن مقابر إسلامة ولم توجد مقابر مخصصة يجوز دفن موتى المسلمين أو المغتربين في غير دار السلام بمقابر الكفار لأن ذلك أخف مؤونة على الأحياء وأبقى لحرمة الأموات وأسلم لهم من التغيير.
السؤال السادس: ما حكم بيع المسجد إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه. فكثيرا ما يشترى المسلمون منزلًا ويحولونه مسجدًا فإذا انتقلت غالبية المسلمين من المنطقة لظروف العمل هجر المسجد أو أهمل، وقد يستولي عليه آخرون ومن الممكن بيعه واستبداله بمسجد يؤسس في مكان فيه مسلمون، فما حكم هذا البيع أو الاستبدال؟
وإذا لم تتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر فما أقرب الوجوه التي يجوز صرف ثمن المسجد فيها؟(3/1234)
الجواب بالنسبة إلى المذهب المالكي المسجد لا يباع مهما كانت الصور ولكن رخص المتأخرون من فقهاء المذهب كابن عرفة والبرزلي في بيع أنقاضه. وأما الأصل والعين فلا يباع وبالنسبة إلى المذهب الشافعي هو كالمذهب المالكي. وبالنسبة إلى المذهب الحنفي، أبو حنيفة وأبو يوسف على هذا الرأي أنه لا يباع وأما محمد بن الحسن الشيباني فقد أجاز بيع المسجد واعتبره إذا أهمل ولم يؤد وظيفة الصلاة فهو ممكن لبانيه حتى أنه جوز له أن يجعله مزرعة.. الخ، والرأي الذي اعتمدته هو رأي ابن تيمية في فتاويه الذي يقول بأنه يجوز بيع المسجد إذا انتقل المسلمون عنه وهجروه واستدل بما وقع في خلافة عمر رضي الله عنه من أن سيدنا عمر لما نقب بيت المال الذي كان مجاورًا للمسجد وسرق وأخبره بذلك الوالي بعث إليه أن أنقل المسجد من ذلك المكان وابنه في مكان آخر فنقل المسجد من ذلك المكان وبُني في مكان آخر، وجعل المسجد القديم سوقا للتمارين في عهد عمر، فعلوا هذا عندما لم يؤدِ المسجد وظيفته وإذا بيع هنا السؤال. والجواب للأخوة المغتربين قلت: إذا بيع المسجد هذا الذي أهمل يبني للأقلية مسجد صغير أو يكتري الأقلية بيتًا صغيرًا ويجعل مسجدًا والباقي من ثمنه نستطيع أن نبني به مسجدًا آخر في مكان آخر، ونستطيع إذا لم يعط بذلك أن نصرفه في وجوه البر اعتمادًا على ما أفتت أم المؤمنين عائشة في كسوة الكعبة حينما سئلت عن أن الكعبة جددت لها الكسوة والكسوة القديمة قالت: تباع وتصرف في وجوه البر، فهذا هو ملخص الجواب عن هذا السؤال.
السابع: كثيرات من بنات المسلمين ونسائهم تدعوهن ظروف العمل أو الدراسة إلى السفر إلى ولايات أخرى أبعد من مسافة القصر بالطائرة أو غيرها من وسائل السفر بدون محرم ومن غير رفقة من نسوة تعرفهن أو يعرفنها غير رفقة المسافرين والمسافرات عادة فما حكم هذا السفر؟
الجواب: يجوز للمسلمات بنات ونساء السفر بالحافلات والقطارات والطائرات وبغيرها من وسائل النقل التي تعظم فيها الجماعات ويكون لها شبه بالجيوش والبلدان والمحلات بغير وزج لهم ولا محرم منهن.(3/1235)
هذا التقييد الذي قيدت به روايات الحديث المتعددة لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها ذو محرم إلى غير ذلك من الروايات التي روي بها الحديث، هذا التقييد وجدته في كلام الباجي في المنتقى في شرحه على الموطأ قيد به هذا الحديث. ونقل الحطاب في مواهب الجليل في شرحه على مختصر خليل أن الزناتي في شرحه على الرسالة جعله تقييدًا للحديث عند كل الناس. معناه قيد به الحديث وجعله يجوز للمرأة أن تسافر في شبه المحلات والعدد الكثير بدون محرم. هذا رأي الزناتي وقال هو: وللمذهب يعني المذهب المالكي هو قول المذهب والمشهود به في الحطاب في قضية سفر المرأة بدون محرم في الحج، وعلى ضوء هذا أنا طرحت هذا الرأي ما دام هذا هو المذهب يعني هو القول المشهور بمذهب مالك طرحته للسؤال وإن اختلفت مع الإخوة. اللهم نسألك أن توفقنا لما هو صواب لا لما هو خطأ.
السؤال الثامن: بعض النساء أو الفتيات تضطرهن ظروف العمل أو الدراسة إلى الإقامة بمفردهن أو مع نسوة غير مسلمات فما حكم هذه الإقامة؟
هذا السؤال يعني فيه جزءان: الجزء الأول: إقامة المرأة بمفردها وهذا قلت بجوازه إذا كانت تقيم في بيت في محلة آمنة فيه غلق وله مرافق.
والجزء الثاني منه وهو أن تقيم مع المرأة أجنبية، فلا، لأن المرأة الأجنبية منزلة منزلة الرجل الأجنبي هذا ما قاله القرطبي في تفسير قوله تعالى {أَوْ نِسَائِهِنَّ} .
السؤال التاسع: كثيرات من النساء هن يذكرن أن أقصى ما بإمكانهن ستره من أجسادهن هو ما عدا الوجه والكفين، وبعضهن تمنعهن جهات العمل أو الدراسة من ستر رؤوسهن وأعناقهن، فما أقصى ما يمكن السماح بكشفه من أجزاء جسم المرأة بين الأجانب في محلات العمل أو الدراسة؟
هذا الموضوع هو مطروح في فقه الصحابة ومطروح في فقه التابعين ومطروح في فقه الأئمة، والخلافات تجري، لكن حوصلة هذه الخلافات إنما هي في الزينة الظاهرة لا الزينة الباطنة، أي ما المقدار الذي لم يقع فيه الخلاف إلا من شذ، لم يخالف فيه إلا من شذ وأنه لا يجوز للمرأة أن تظهر أمام الأجانب مكشوفة الوجه والكفين يعني كل بدنها يجب ستره ما عدا وجهها وكفيها. وهناك رأي ذكره ابن قدامة في مغنيه وقال: إنه مذهب لكثير من فقهاء المذهب الحنبلي وهو أنه لا يجوز أن تكشف شيئًا من بدنها لا وجهها ولا كفيها، والمتأخرون أيضًا من المالكية قالوا: إذا خشيت الفتنة، وهذا لعله قول غير المالكية إذا خشيت الفتنة لا يجوز أن تكشف شيئًا من بدنها لكن الذي هو مشهور في المذهب المالكي وفي غيره أنه يجوز لها أن تكشف من بدنها وجهها وكفيها. هذه هي المسألة والقول مبسوط فيها في تفسير قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} .(3/1236)
السؤال العاشر: يضطر كثير من الطلاب المسلمين إلى العمل في خارج بلاده في الغرب لتغطية نفقات الدراسة والمعيشة، لأن كثيرًا منهم لا يكفيه ما يرده من ذويه مما يجعل العمل ضرورة له لا يمكن أن يعيش بدونه، وكثيرًا منهم لا يجد عملًا إلا في مطاعم تبيع الخمور أو تقدم وجبات فيها لحم الخنزير وغيرها من المحرمات فما حكم عمله في هذه المحلات؟
الجواب: لا يجوز لهؤلاء الطلبة المسلمين أن يؤجروا أنفسهم في شيء من عمل الخمر ولا من عمل الخنازير حملًا وتقديمًا ومناولة وغير ذلك، ولا في عمل محرم لأن ما حرم شيء إلا حرم أكل ثمنه وما جعل كسب المسلم فيما حرم عليه. وما أحل الله أوسع وأطيب.
السؤال الحادي عشر: ما حكم بيع المسلم للخمور والخنازير أو صناعة الخمور وبيعها لغير المسلمين، علمًا بأن بعض المسلمين في هذه البلدان قد اختلفوا من ذلك حرفة لهم؟
الجواب: لا يجوز لمسلم بيع الخمور والخنازير، ولا أن يصنع الخمر، وأن صنعه أدب على ذلك.
السؤال الثاني عشر: هناك كثير من الأدوية تحوي كميات مختلفة من الكحول تتراوح بين 01 و 25 % ومعظم هذه الأدوية من أدوية الزكام واحتقان الأنف والحنجرة والسعال وغيرها من الأمراض السائدة. وتمثل هذه الأدوية الحاوية للكحول على ما يقارب 25 من الأدوية في هذا المجال مما يجعل الحصول على الأدوية الخالية من الكحول عملية صعبة أو متعذرة، فما حكم تناول هذه الأدوية؟
الجواب: يجوز للمسلمين بدار الغرب التداوي بالأدوية الكحولية متى أخبر بنفع ذلك طبيب عارف بمهنته ثقة فيها، وقع في التحرير: كثير ممن اشترط الإسلام، نحن لا نشترط في الطبيب الإسلام وإنما نشترط المعرفة بالمهنة والثقة به ولم يوجد دواء غير كحولي ميسور أو كان دون الكحولي في النفع فدين الله يسر وليس بعسر.(3/1237)
الثالث عشر: هناك الخمائر والجلاتين توجد فيها عناصر مستخلصة من الخنزير بنسب ضئيلة جدًا فهل يجوز استعمال هذه الخمائر والجلاتين؟
هذا السؤال ربما وقع فيه الخلاف بيني وبين الموجبين. وأنا قد اعتمدت فيه على أقوال لابن رشد في البيان والتحصيل في أن النجاسة تطهر بالاستحالة، وعلى أقوال أوردها ميارة في شرحه الكبير على متن ابن عاشر لأن النجاسة تطهر بالاستحالة وعلى فتوى ذات قيمة من الناحية الفقهية وأن تجاوزها التاريخ، وقد صدرت في المغرب الأقصى في قضية سكر طوابع عندما قيل إنه يحتوي على بعض الأنفحة على عصير من بعض الأنفحة غير المزكاة، وأجاب بجواب طويل أحد علماء المالكية ناقلًا أقوال المالكية أن النجاسة تطهر بالاستحالة وبين أن هذا ولو على فرض أنه يحتوي على هذه المادة فقد طهرت بالتغذية والتبخر.
السؤال الرابع عشر: يضطر معظم المسلمين إلى إقامة حفلات الزفاف لبناتهم في مساجدهم، وكثيرًا مال يتخلل هذه الحفلات رقص وإنشاد أو غناء ولا تتوفر لهم أماكن تتسع لهذه الحفلات، فما حكم مثل هذه الحفلات في المساجد؟
والجواب على هذا السؤال: لا تجوز التجمعات المختلطة من الجنسين في المساجد إذا لم تراعَ فيها الآداب المطلوبة في الفقه الإسلامي من جلوس المرأة في قاع المسجد كما لا تجوز ممارسة الرقص والغناء في المساجد. وعد ذلك من أشد المنكرات المسقطة للعدالة والمذهبة للمروءة. وذلك لأن المسجد كما جاء في القرآن الكريم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} .
السؤال الخامس عشر: بعض الحكومات النصرانية خاصة في أمريكا الجنوبية تفرض على رعاياها التسمي بالأسماء النصرانية وتضع قوائم بأسماء اختارتها للأطفال ذكورًا كانوا أو إناثًا ولا تسمح بتسجيل المواليد بأسماء تختار من غير هذه القوائم. فما حكم تسمي المسلمين بهذه الأسماء؟ وما الحلول التي تقترحونها في هذه الأحوال؟
الجواب: يجوز للمسلمين في البلاد التي تفرض حكوماتها النصرانية على رعاياها التسمي بالأسماء النصرانية أن يسموا أبنائهم بالأسماء النصرانية ما خلت من شرك أو تبرك بمن يزعمه النصارى من الصالحين أو تزكية أو تحريف لاسم مقدس في الإسلامي وله حرمة. واعتمدت كثيرًا من الأدلة ومن بينها الاعتماد على أن من مقاصد الشريعة نوط الأحكام بالمعاني لا بالأسماء ويؤيد هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((تشرب أمتي الخمر وتسميها بأسماء أخرى)) ، فالاسم لا قيمة له كما يبدو من هذا الحديث وإنما العبرة بالجوهر، وقد أطال الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله رحمة واسعة في كتابة مقاصد الشريعة في هذه النقطة وبين أن كثيرًا من أخطاء الفقهاء نتجت عن نوط الأحكام بالأسماء.(3/1238)
الرئيس:
يا شيخ نقطة هنا إيضاحية بسيطة وإن كان ينبغي أن تستمر. هو أن قضية: أن العبرة بالمعاني لا بالمباني وأن إناطة الأحكام بالحقائق لا بالأسماء هذا فيما يقصد ذات الحقائق لكن عندما قضية الألفاظ لها قيمتها العظيمة ومنزلتها العظيمة في الإسلام في صدر سورة البقرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} فلهذا بعض الألفاظ منهي عنها عن اللفظ لذاته وبعض الألفاظ منهي عنه بمتعلقاته. قصدي لما ذكرتم أن العبرة بالحقائق لا بالأسماء يعني الاستدلال في هذا الموضوع بالذات يظهر لي فيه شيء.
الشيخ محيي الدين قادي:
حتى في هذه الآية التي ذكرتم وهي آية سورة البقرة لم ينه عن راعنا لمجرد أنها اسم وإنما نهى عنها لأن اليهود يستخدمونها على حسب لغتهم.
الرئيس:
وأحيانا لذات اللفظ كما في حديث السند.
الشيخ محيي الدين قادي:
وهي تفيد دعاء بالشر على رسول الله.
الرئيس:
لا يقول أحدكم: خبثت نفسي ولكن ليقل نقصت نفسي، أحيانًا يكون النهي لذات اللفظ.
الشيخ محيي الدين قادي:
... أن الرسول صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام لما أسلم الكفار هل غير أسماء الكفار كلها وأبدلها لم يغير إلا ما كان منافيًا، غير عبد اللات لأنه فيه انتماء لصنم، غير أسماء تصطك فيها المسامع، يعني غير أسماء لا تبعث على فأل حسن، وإن كان لا طيرة في الإسلام، كما قال ذلك الزرقاني في شرحه على موطأ مالك لكن معناه غير أسماء لهذه المعاني معناه تغير. ومعناه القوائم أمامنا والمسلم عندما يختار وأنا اقترحت اقتراحات طويلة أن يتأدب بآداب الإسلام ويختار. يختار اسم محمد، ولو مترجم، أو أحمد ولو مترجم إلى الفرنسية أو الإنجليزية لأن الفائدة أن مؤداه محمود أو أحمد أو حامدًا أو كذا مثل ما جاء في التوراة والإنجيل.(3/1239)
السؤال الذي بعد السابع عشر: ما حكم ظهور المرأة في محلات لعمل أو الدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبيها وتكتحل؟
الجواب: يجوز ظهور المرأة في محلات العمل والدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبتها وتكتحل لماذا؟ لأن الكحل ليس مختلفًا فيه فقد ذكر في تفسير القرطبي، وعند ابن العربي: أن الكحل من الزينة الظاهرة. وأما قضية أخذ الشعر من الحاجبين، فالحرمة لا تتعلق بأخذ الشعر من الحاجبين بحد ذاتها لأنه معناه بل هي زينة ظاهرة لكن تتعلق بقضية، وهو أن حديث سيدنا عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه ((لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة المتفلجات لحسن المغيرات خلق الله)) هذا الحديث وقف منه سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير موقفًا وقال: ليس هذا من تغيير خلق الله وإنما هو من التزين المباح في شرع الله وضرب على ذلك نظائر كالختان أظهر فيه تغييرًا للخلقة ولكنه فيه تحسين. وكذا قص الأظافر ففيه تغيير للخلقة ولكن فيه تزيين إلى غير ذلك من النظائر التي ساقها في كتابه التحرير والتنوير كما قال إن المنهي عنه هو التغيير الذي من إملاء الشيطان والذي هو محرم في الإسلام {وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} على تغيير خلق الله هذا بالنسبة ثم قال ما كان فقال: إنما الحديث وارد في سياق معين وهو أن نساء الجاهلية البغايا كن يتزين بذلك، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء المسلمات عن ذلك حتى لا يتشبهن بالبغايا في العصر الجاهلي.
هذا رأي الشيخ في مقاصد الشريعة ومما يدعمه أن ما ذكره الأبي في شرحه على مسلم أنه رواية عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وإن كان الإمام النووي قد ضعف هذه الرواية فالأبي لم يضعفها وعلوان كذلك لم يضعفها. هذا رأي مطروح لأنه ليس قضية الظهور به وإنما هل هذا يجوز أو لا يجوز؟ فقط هذه القضية.
السؤال الذي بعد: ما حكم زواج الطالب أو الطالبة المسلمة زواجًا لا ينوي استدامته بل النية منعقدة عنده على إنهائه بمجرد انتهاء الدراسة والعزم على العودة إلى مكان الإقامة الدائم. ولكن العقد يكون عادة عقدًا عاديًا وبنفس الصيغة التي يعقد بها الزواج المؤبد فما حكم هذا الزواج؟(3/1240)
القضية هذه مطروحة في كتب المالكية وفي غير كتب المالكية والشيخ الدردير نبه في شرحه على خليل أنه إذا لم يقع التصريح لولي وللزوجة بهذه النية وإنما أسرها في نفسه ولم يبدها لهما جاز ذلك ثم عقب على ذلك فقال: وهو تيسير على المغتربين، هذا يغني ولا أرى غير الدردير من الفقهاء المالكية أن هذا هو الحد الفاصل بين نكاح المتعة وبين النكاح الجائز، قالوا: إذا وقع التصريح بذلك والتحديد باللفظ لولي الزوجة والزوجة فذلك هو نكاح المتعة الممنوع، إذن معناه اتفاق المذاهب ما عدا مذهب الإمامية تقريبًا يعني إذا لم يقع التصريح فهذا جائز ولا شيء يحرمه وكذلك نقلت عن صاحب المغني أن هذا أيضًا جائز.
السؤال الثامن عشر: بعض المسلمات يجدن حرجًا في عدم مصافحتهن للأجانب الذين يرتادون الأماكن التي يعملن أو يدرسن فيها فيصافحهن الأجانب دفعًا للحرج فما حكم هذه المصافحة؟
هذا السؤال لم يقع فيه خلاف فالقضية طرحت عند المتأخرين في المذهب المالكي كالخرشي والصفتي وغيرهم، وبت فيها بأنه لا يجوز للمرأة المسلمة ولا للرجل المسلم أن يصافح أجنبية عنه أو تصافح أجنبيًا عنها وأنه ليس هذا وليس هذا من الباب المتعلق بقضية قصد اللذة أو عدم قصدها بل شدد بعضهم حتى في المتجالة قال: لا يجوز أن تصافح الرجال ولا يجوز للأجنبي أن يصافحها لأن اليد هي المفتاح السحري للشهوة. هذا من جهة ولأن حتى المعروف في الغرب أنه إذا ضغط على يدها فقد راودها عن نفسها. وأما قضية الحرج على المسلمين أن لا يروا حرجًا في أي شيء جاء به إسلامهم إلا إذا كان هذا الشيء محرمًا أو مكروها في الإسلام، أما كونه قد أملاه الهوى أو لبسته النزوات والشهوات فهذا لا يقال فيه بالحرج.
قضية ما حكم استئجار الكنائس أماكن لإقامة الصلوات؟ الإجابة تقريبًا تكاد تكون متفقة.
الجواب: يجوز أداء صلاة الجمعة وغيرها من الصلوات بالكنائس والبيع بعد أن تطهر بالماء احتياطًا وتغطى الصور والتماثيل فيها بساتر تحجبها عن أعين المجلس لأن الأرض كلها مسجد كما جاء في الحديث. يزال منها ما هو حرام.(3/1241)
السؤال العشرون: ما حكم ذبائح أهل الكتاب؟ أنا أستسمح، أنا كتبت ما هو بحث لكن أستسمح بالإطالة نسبيًا في هذه القضية، لابن العربي في كتاب الأحكام فتوى جيدة هذه الفتوى هو أن ابن العربي في كتاب الأحكام فرق بين أمرين: إذا كان الكافر من أهل الكتاب لا يعتبر حطم الرأس ولا قتل العنق زكاة وفعل ذلك بحيوان من الحيوان قال: لا يجوز لنا أكله لأنه محرم عليه في دينه، إذا كان هو ليس ذلك عليه وإنما حطم رأسها أو فتل عنقها بدون أن يكون ذلك من باب التذكية لا يجوز لنا أكله لأنه محرم علينا بذاته وهو ميتة.
وأما إذا كان الكتابي نصرانيًا أو يهوديًا التذكية عنده بحطم الرأي أو فتل العنق، وإذا ذبح بتلك الكيفية أكل منها أحبارهم ورهبانهم قال: فيجوز لنا أكل ذلك لأن ربي قال {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} وهذا من طعامهم. ومنذ أن أفتى ابن العربي وفقهاء المالكية بين مؤيد ومعترض، وفي الواقع المعترض كلهم عندما حوصلت هذا كخليل والمواق، وكذا كلهم قد تكلفت بالرد على خليل وعلى المواق وعلى الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي وعلى كثير من الفقهاء المالكية القدامى والجدد، واستغربت أن الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله في كتاب التحرير والتنوير وصف فتوى ابن العربي بأنها شذوذ، لكن للشيخ رحمه الله فتوى في المنار في مجلة المنار أفتى فيها مؤيدًا لفتوى الترنسفال يعني المشهورة بالفتوى الترنسفالية للشيخ محمد عبده، ولكن لا يدري. نحن عندنا قاعدة ذكرت في كتبنا أنه لا يدري إذا كان وردت الأقوال المختلفة كالعمل بالسابق إذا علم تاريخه لكن عندنا ما لم يعلم يعتبر اجتهادان، ويجوز العمل بهما معًا. هذه قضية على كل ولا أريد أن أطيل أكثر من ذلك لأن الوقت لا يسمح. ومن بين من أفتى بها من المحدثين شيخنا العلامة البحر محمد الفاضل ابن عاشور رحمه الله، وقد صدرت له الفتوى في مجلة جوهر الإسلام.(3/1242)
السؤال الواحد والعشرون: كثير من المناسبات العامة التي يدعى المسلمون لحضورها تقدم فيه الخمور ويختلط فيها النساء والرجال، واعتزال المسلمين لبعض هذه المناسبات قد يؤدي إلى عزلهم عن بقية أبناء المجتمع وفقدانهم لبعض الفوائد. فما حكم حضور هذه الحفلات من غير مشاركة لهم في شرب الخمر أو الرقص أو تناول الخنزير؟
الجواب على هذا: لا يجوز للمسلمين نساء أو رجالًا حضور مثل هذه الحفلات ولا يمكن الترخيص في ذلك لأن الرخص لا تناط بالمحرمات، ونحن نعلم أن الخمر قد لعن فيها عشرة ومن بين ذلك الجليس. واللعن معناه الطرد من رحمة الله.
السؤال الثاني والعشرون: بعض الأقطار في شمال أوربا يقصر فيها الليل كثيرًا ويطول فيها النهار كثيرًا حيث تصل ساعات الصيام في بعض هذه البلدان إلى عشرين ساعة أو تزيد، وكثير من المسلمين يجدون مشقة زائدة في الصيام، فهل يجوز اللجوء في هذه البلدان إلى التقدير؟ وما نوع التقدير الذي يمكن اعتماده إذا كان جائزًا؟ وهل يكون التقدير بساعات الصيام في مكة أو بساعات النهار في أقرب البلدان اعتدالًا أو بماذا؟
هذه مسألة في الواقع احتياطًا –سيادة الرئيس- احتياطيًا لدين الله أنا أريد التبسط في هذه الحالة، قضية التقدير هذه لا أساس لها في مثل السؤال المعروض لأن السؤال المعروض النهار يساوي فيه ثلاثة ساعات والليل يساوي فيه واحدًا وعشرين ساعة وهنالك ليل وهنالك نهار. والقرآن صريح في تحديد الصيام والإفطار {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وأستغرب أن من هذا نص، أستغرب كيف يقول بعض الناس بالتقدير بل البعض رأيته يستدل بحديث الدجال على هذه القضية. حديث الدجال هذا وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الدجال عندما يأتي الدجال سيكون له ليل يساوي –نص الحديث- يساوي نحو جمعة وليل كيوم ويوم كسنة ويم كشهر، سأله الصحابة على هذا اليوم سألوه قالوا: كيف نصنع أنصلي في هذا اليوم خمس صلوات أم نصلي فيه مقدار الأيام كلها؟ فقال: ((اقدروا لصلاتكم)) قدروا لصلاة الوقت التقدير.(3/1243)
القاضي عياض يقف من هذا الحديث موقفًا يقول بالنسخ في حديث الدجال. وهذا جواب بالمنع، والجواب بالتسليم عرى فرض هذا أن حديث الدجال حديث غير منسوخ. القضية مربوطة بشيء آخر وهو أن الدجال لا يتميز الليل من النهار في هذه المدة يوم كسنة ويوم كشهر، لا يتميز الليل من النهار، فلهذا جاءت قضية التقدير.
أما هؤلاء فعندهم ليل وعندهم نهار فمن أين يأتي التقدير؟ وبقيت في حيرة من هذه الفتاوى التي تنشر وقد اضطربت لجنة الفتوى بالأزهر فمرة اعتمدت على أن الليل ليل وأن النهار نهار وأنه لا يجوز التقدير وأخرى اعتمد على فتوى للمرحوم شيخ الأزهر محمود شلتوت أنه يقول بالتقدير، لكن بقيت غير مقتن بقضية التقدير إلى أن ظفرت في كتاب اليواقيت في أحكام المواقيت لشهاب الدين القرافي وهو كتاب مخطوط أنا نظرت فيه بنفس القضية، قال علماء: جاءت فتوى إلى علماء بخارى قالوا لهم: النهار ثلاث وعشرون ساعة وأربعون دقيقة وليل يساوي عشرين دقيقة وهذا موجود قال من إقليم بلغارًا، قالوا لهم: إذا كان قدمنا الإفطار فاتتنا صلاة المغرب وصلاتة العشاء وإذا كان قدمنا صلاة العشاء وصلاة المغرب فاتنا الإفطار فأي الأمرين نقدم أو نؤخر؟ فأفتاهم علماء بخارى بتقديم الإفطار لأن مصلحة الأجساد مقدمة، لا هؤلاء المسلمون في بلغارا افترضوا قضية التقدير ولا علماء بخارى وهم فقهاء موقعون على رب العالمين افترضوا هذا التقدير ولا الشهاب القرافي ووزنه ثقيل في المذهب المالكي علق على هذا التقدير أو عقب على هذا التقدير فلا أدري كيف يقول من قال بالتقدير؟ وما هو دليله؟ لكننا في الواقع أصبنا بفقه أصبح يقال بمقتضى العقل يعني بمقتضى العقل كذا وكذا، يعني ونحن نريد أن الفقه يكون بالدليل وهذه القضية إذا كان هذا الشق الأول أنه لا يجوز للإخوة المغتربين ولا لمسلم في أي مكان ما دام عنده ليل وعنده نهار أن يفطر.
بقيت قضية المشقة، المشقة إذا كانت خفيفة فالعبادات ما هو التكليف إلزام ما فيه كلفة وأما إذا بلغ إلى درجة لا يستطيع معها الصوم وقد جلبت نصًا من الموافقات للشاطبي وهو طويل في هذه القضية، إذا كان وصل إلى درجة لا يستطيع معها الصوم فدين الله يسر وليس بعسر {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} يفطر وقد قال الفقهاء بذلك في الناس في زمن الحصاد سواء أكانوا ملاكًا أو عمالًا على تفصيل في كل منهما. ذكره ميارة في شرحه على متن ابن عاشر وذكره غيره من فقهاء المالكية. ولهذا لا يجوز لهؤلاء الإخوة التقدير، فقضية التقدير غير مطروحة ومن طرحها وأفتى بها فليمدنا بالدليل.(3/1244)
السؤال الثالث والعشرون: هذا بت فيه من طرف المجمع فلا فائدة فيه وإن كان فيه نص من القرافي يقضي على نزاع دار في الصباح لكن لا فائدة فيه بعد البت يعني سيكون ما بت فيه واتخذ فيه قرار هو الساري.
الرابع والعشرون: ما حكم عمل المسلم في دوائر وزارات الحكومة الأمريكية أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة خاصة في مجالات هامة كالصناعات الذرية أو الدراسات الاستراتيجية ونحوها؟
العلم بالنسبة إلى الإسلام لا يعرف حدود المكان ولا حدود الزمن ولا يتقيد بدين الشخص الذي يقع التعليم عليه بل هو مطلق من كل ذلك. هذا التلخيص في الواقع علقت بأنه غير كاف ليس هذا جوابًا الجواب عن السؤال هو التالي:
إذا كان في الدوائر الحكومية هذه مسلم يعمل بصفته مديرًا أو نائب مدير، يعني كذلك من العمل المرغب فيه لماذا؟ لأن المسلم إذا كان في أمريكا أو في أي بلد من بلاد الكفر إذا رأى شرًا في استعمال الذرة حاول بمقتضى وظيفته أن يخفف منه وأن ينقص من هذا الشر بما تمكنه منه إمكانياته الوظيفية، وإذا كان خيرًا استزاد منه لأنه لفائدة البشرية، ونحن نعرف أن الذرة سلاح ذو حدين فيمكن أن تسخر لفائدة البشرية ولو مسخرة ويمكن أن تسخر لتدمير العالم وهي أيضًا مسخرة وقانا الله شرها. فلهذا المسلم وجوده هنا هو وجود يوسف عليه السلام مع فرعون مصر وهو المؤمن الوحيد في ذلك الزمن معناه قال {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} بينما اقتصاديات مصر وشئون مصر كلها على مقتضى أعراف وعلى مقتضى قوانين غير شرعية ولا يستطيع يوسف عليه السلام أن يفرض على المجتمع المصري الفرعوني إذ ذاك قوانين شريعة سيدنا إبراهيم أو شريعة سيدنا إسحاق أو شريعة سيدنا يعقوب، وإنما كما قال ابن جزي في كتابه التسهيل في تفسيره التسهيل: ليصلح بعض الأحوال. ومن هنا أخذ فقهاء المالكية وغيرهم أن المسلم إذا استطاع في بلاد الكفر أن يتولى شأنًا من الشئون الهامة ليصلح بعض الأحوال الفاسدة لا كلها، لأن هذا غير ممكن فله ذلك، وأفتوه بالجواز واعتمادًا على ما قالوه في قضية يوسف وعلى ما استنتجوه من المسائل الفقهية أفتيت إخوتي الموجودين في أمريكا بجواز أن يتسلموا هذه الوظائف ليخففوا من شرها أو يستزيد البشرية من خيرها.(3/1245)
السؤال الخامس والعشرون: ما حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها علمًا بأن هذا هو جزء من عمله في الشركة الموظفة له، وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل؟
الذي هو موجود في كتب الفقه وبخاصة المسألة فصلت في مغنى ابن قدامة: أنه لا يجوز للمسلم أن يدخل بادئ ذي بدء في عمل فيه جانب من جوانب الحرام يعني يعمله هو ويفرض عليه. ربما يختلف الأول والثاني، الأول سيصلح ويعمل أما هذا سيعمل وسيقوم بعمل حرام ولهذا لا يجوز، هذا وقد أتيت بنصوص فقهية وبعدة آثار تدل على حرمة ذلك.
السؤال السادس والعشرون: كثير من العائلات المسلمة يعمل من يعولها في بيع الخمور والخنزير وما شابه ذلك وزوجاتهم وأولادهم كارهون لذلك علمًا بأن يعيشون بمال الرجل. فهل عليهم من حرج في ذلك؟
الجواب: لا يجوز للمسلم المكلف أكل المال الحرام ولا لبس اللبس الحرام ولا سكنى المسكن الحرام ولا استعمال أي شيء حرام مما ينتفع به. وعلى أفراد الأسرة المكتسب عائلها بالحرام الامتناع من أكل ما كسبه عائلهم لأن أكلهم لو كان الكسب حلالًا حقًا والحقوق لا تقضي من الحرام. ومحل حرمة ذلك بالنسبة للأولاد إذا كانوا مكلفين وشأن الزوجات التكليف، أما إذا كان أفراد الأسرة المكتسب عائلها بطريق الحرام عاجزين عن العمل حقيقة أو حكمًا وسدت في وجوههم كل الأبواب من العمل الحلال واضطروا إلى الأكل من كسب عائلهم أكلوا منه ما يسد رمقهم ويحفظ حياتهم إذ الضرورة تقدر بقدرها، ويجب عليهم السعي ما استطاعوا إليه سبيلًا لإيجاد عمل حلال مهما كانت نوعية العمل المقدور عليه، ومتى وجدوه حرم عليهم الأكل من تكسب عائلهم المتمحض للحرام لأن ما جاز للضرورة أو الحاجة المنزلة منزلتها يقدر بقدرها ولا يزاد عليها هذا هو الجواب.
السؤال السابع والعشرون: ما حكم تبرع المسلم فردًا كان أو هيئة لمؤسسات تعليمية أو تنصيرية أو كنسية؟
الجواب: عدم جواز تبرع المسلم فردًا كان أو هيئة لمؤسسة تنصيرية أو كنسية ومن فعل ذلك من المسلمين فقد نزع ربقة الإسلام من عنقه، وجواز التبرع بكل وجوهه لمؤسسات التعليم النافع.(3/1246)
الثامن والعشرون: ما حكم شراء منزل السكنى وسيارة الاستعمال الشخصي وأثاث المنزل بواسطة البنوك والمؤسسات التي تفرض ربحًا محددًا على تلك القروض لقاء رهن تلك الأصول علمًا بأنه في حالة البيوت والسيارة والأثاث عمومًا يعتبر البديل عن البيع هو الإيجار بقسط شهري يزيد في الغالب عن قسط الشراء الذي تستوفيه البنوك؟
الجواب: مهما كان القرض محتويًا على ربا ولو يسيرًا ومعلومًا في عقد القرض فالقرض قرض ربوي، ولا يجوز شرعًا بحال والتعامل به من أشد المنكرات حسب نصوص القرآن والسنة. وبذلك انتهى.
الرئيس:
شكرًا.. بسم الله الرحمن الرحيم ... وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فإن استفسارات المركز الإسلامي بواشنطن قد جرى عليها عدد من الأجوبة من عدد من أصحاب الفضيلة من أعضاء هذا المجمع وقد حصلت مقارنة بين أجوبة المشايخ فوجد أنه حصل اتفاق منهم على كثير من هذه الأجوبة، وكما تعلمون أن كثيرًا من هذه الأجوبة هي ولله الحمد مما علم جوابها بوضوح من نصوص الشريعة.
ونظرًا لضيق الوقت ولأنه سيحصل هناك حصيلة من إجابة البنك الإسلامي لبعض أسئلته فمن المستحسن أن يؤلف لجنة من أعضاء هذا المجمع ليستعرضوا هذه الأسئلة ويحرروا الجواب عليها فيما يمكن الجواب عليه مما يكون محل اتفاق بإذن الله تعالى، وما يرون إرجاءه فإنه يرجأ إلى الجلسة القادمة، وليس في هذا ما يمنع، وتحرر البحوث لما يكون في حاجة إلى مزيد من البحث والدراسة واللجنة هي: الشيخ أحمد الخليلي، الشيخ عبد الله البسام، الشيخ تقي عثماني، الشيخ محيي الدين قادي، الشيخ طه جابر العلواني.
شكرًا، وبهذا وترفع الجلسة لنؤدي صلاة المغرب ونعود بعد الصلاة مباشرة وصلى الله على نبينا محمد.(3/1247)
مناقشة أجوبة اللجنة المكونة للإجابة
عن الاستفسارات
مناقشة اللجنة
12 صفر 1407هـ/ 15 أكتوبر 1986م
الجلسة المسائية
وقبل أن ندخل في أجوبة اللجنة على استفسارات المركز العالمي الإسلامي بواشنطن فإنه قد وزع عليكم مشروع معجم المصطلحات الفقهية، ومشروع الموسوعة الفقهية وتقرير على اجتماع شعبة التخطيط وهذه المشاريع الثلاثة هي بين أيديكم وإن أمانة المجمع هي بانتظار ملاحظاتكم ووجهات نظركم على هذه المذكرات الثلاث التي وزعت عليكم، وأنه إذا لم يرد شيء أي ملحوظة على أي من هذه المشاريع الثلاثة من أي أصحاب الفضيلة الأعضاء فإنه يعتبر إقرارًا لهذا المشروع. ملحوظة مكتوبة وتوجه بعد أن تنصرفوا لأن الموضوع سيعرض على لجنة في الأمانة على التراخي لكن بصفته لن يعرض إلا في الدورة القادمة بإذن الله تعالى. والآن نستمع إلى الشيخ طه.
الشيخ طه جابر العلواني:
بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه ومن اتبعه واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
وبعد، فقد كان المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن قد لاحظ انتشار الخلافات الفقهية بين المسلمين وتفشي المنازعات في ديار الاغتراب بينهم حول كثير من المسائل الشرعية الأمر الذي أصبح يهدد الكثير من المساجد والمراكز الإسلامية بالتعطل والإغلاق لما يحدث بينها من منازعات تبدأ بالجدل حول تلك المسائل وتنتهي في بعض الأحيان المحاكم الكافرة يلجأ إليها المتخاصمون لتحكم بالمسجد أو المركز لفريق منهم دون فريق، وكثيرًا ما يغلق المسجد أو المركز ويعطل أشهرًا وسنين في بعض الأحيان إلى أن تبت المحاكم في النزاع، وقد كان الناس كثيرًا ما يلجأون إلى أولئك الأساتذة أو الدعاة الزائرين يستفتونهم في تلك المسائل، فما تزيدهم الفتاوى الفردية مهما بلغت من القوة الفقهية إلا خلافًا وشقاقًا. فرأينا أن نلجأ إلى نوع من الفتاوى الجماعية، فشكلت لجنة فقهية تضم جملة من الأساتذة المسلمين الذي تخرجوا من جامعات إسلامية مختلفة وذهبوا إلى الغرب لمواصلة الدراسة أو العمل أو الإقامة.(3/1248)
وبدأت هذه اللجنة تعالج بعض القضايا وكان لذلك أثر طيب والحمد لله. وكثيرًا ما تعقد هذه اللجنة مؤتمرًا للمذاكرة في مسألة من مسائل الفقه وتبلغ للناس ما تتوصل إليه كما تعقد لقاءات دورية بحسب الحاجة، ولكننا رأينا أن نحسم مادة النزاع أو نقلل من فرص الخلاف ما وجدنا إلى ذلك سبيلًا. فكان أن جمعنا كثيرًا من تلك القضايا وتوجهنا بها إلى مجمعكم الموقر أملًا بالحصول على فتاوى مجمعية مستندة إلى الدليل، غير مغفلة للتعليل، قادرة على الإقناع، باعثة على الطمأنينة إن شاء الله.
وإننا لنشكر الأمانة العام للمجلس على ما أولت هذا الأمر من عناية فائقة ورعاية تامة حيث ندبت الأعضاء الكرام لدراسة هذه القضايا قبل موعد انعقاد الدورة الثانية فجاءت بعد الدراسات والفتاوى الجادة ولكنها آثرت إعطاء كل موضوع منها ما يستحق من العناية والبحث، فأجلت إصدار هذه الفتاوى إلى هذه الدورة الثالثة. وها هي الآن موضع بحثكم ونظركم.
هذا وقد كانت الأمانة العامة قد شكلت في الدورة الثانية لجنة ضمت الأساتذة الشيخ أحمد الخليلي. والشيخ المختار السلامي، والشيخ قادي، والشيخ محمد تقي العثماني، وطه جابر، فدرست من تلك القضايا ما تيسر لها، ثم استقر الرأي على تأجيلها إلى هذه الدورة كاملة وندب الأعضاء للكتابة فيها والإجابة عنها فأعد كل من الأساتذة التالية أسماؤهم بحثًا فيها وهم: الشيخ المختار السلامي، والشيخ أحمد الخليلي، والشيخ تقي العثماني، والشيخ قادي، وقد استمع مجلسكم الموقر أمس إلى العرض المستفيض الذي قدمه الأستاذ الشيخ قادي للأسئلة وما توصل إليه من الأجوبة.
الرئيس:
الشيخ البسام ما كان معكم؟(3/1249)
الشيخ طه جابر العلواني:
ليس هذه اللجنة المقصود هذه لجنة سابقة. وقد استمع مجلسكم الموقر إلى العرض المستفيض الذي قدمه الأستاذ الشيخ قادي للأسئلة وما توصل إليه من إجابات عنها، ثم رأت الرئاسة والأمانة العامة تشكيل لجنة لدراسة تلك الإجابات والخروج بإجابات محددة موجزة يمكن إعلانها واتخاذ قرار من مجلسكم الموقر بها لتقوم الأمانة العام بعد ذلك بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي بكتابتها بشكل مناسب مع إلحاق الأدلة والعلل وما يكفي لهذه الفتاوى إن شاء الله تعالى لتحقيق الغرض منها وانتفاع المسلمين بها وطباعتها بالعربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية.
وقد ضمت اللجنة المشكلة لغرض تحرير موجز الفتاوى السادة: الشيخ عبد الله البسام والشيخ أحمد الخليلي والشيخ قادي والشيخ تقي الدين العثماني والدكتور وهبة الزحيلي وطه جابر العلواني، وقد اجتمعت اللجنة الليلة البارحة وحررت الإجابات بالشكل التالي الذي صادق عليه المجمع.
الرئيس:
يا شيخ طه، مر في الجواب يعني التجنس بجنسية البلاد الأجنبية أو غير المسلمة ما هو معنى الأجنبية هنا؟
الشيخ طه جابر العلواني:
فسرنا الأجنبية بغير المسلمة.
الرئيس:
لماذا لا تقول الأجنبية غير المسلمة؟
الشيخ طه جابر العلواني:
التجنس بجنسية البلاد غير المسلمة.
الرئيس:
تحذف أو. هذا واحد.
الشيخ طه جابر العلواني:
بلاد غير مسلمة..(3/1250)
الرئيس:
إذن تحذف أجنبية كلها. هذه واحدة.
ثانيًا: تقول ليس محرمًا لذاته شرعا، إذا رأيتم أخف من باب التوقي ليس محرمًا لذاته ونحذف كلمة شرعًا.
مناقش:
الحلال والحرام لا يكون إلا شرعًا.
الرئيس:
هو شرعًا، لكن هذه لست من ذات الأدلة.
الشيخ طه جابر العلواني:
طيب، لا حرمة فيه لذاته.
الشيخ سالم بن عبد الودود:
هو في الحقيقة الإقامة في هذه البلاد أصلها حرام يقول الونشريسي في رسالة، هذه الرسالة ذكرها الونشريسي.
الرئيس:
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أنا برئ)) دعنا من الونشريسي.
الشيخ سالم بن عبد الودود:
لا تتراءى مسلم وكافر إذا كنت.
الرئيس:
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم الحديث الصحاح: ((أنا برئ من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين)) .
الشيخ سالم بن عبد الودود:
لا يتراءى نارهما.
الشيخ عبد الرحمن باه:
وهل يجوز للمسلم الذي يعيش في بلاد الإسلام أن يتجنس بجنسية غير مسلمة وربما يجر ذلك إلى أن يحكم بغير أحكام الإسلام؟ هذا مسلم يعيش في بلاد الإسلام.(3/1251)
الأمين العام:
موجود في النص هذا. النص الذي أجاب به الآن الذي تلاه علينا يتضمن الجواب عن هذه النقطة. دكتور جابر لو تكرمت تعيد قراءة النص.
الشيخ طه جابر العلواني:
التجنس بجنسية البلاد غير المسلمة لا حرمة فيه لذاته إذا لم يجد المسلم في بلاد المسلمين أمنًا على نفسه أو عرضه أو ماله أو افتقد سبيل الكسب الضروري الحلال لمعيشته في بلاده. ويشترط أيضًا أمن الفتنة في البلاد التي يريد حمل جنسيتها على دينه ودين أولاده، ومع ذلك فلا يخلو أمر التجنس بجنسية غير المسلمين من محاذير ومخاطر وكراهة شرعية إذا لم يكن ذلك لتحقيق هدف مرعي شرعًا كالأهداف التي أشرنا إليها أو للدعوة إلى الله تعالى.
الشيخ عبد الرحمن باه:
هذا رجل مسلم يعيش في بلدة إسلامية.
الأمين العام:
هذا السؤال الذي ورد علينا ليس من موضوعنا لأن الأسئلة عندنا محددة نجيب عنها. وهذه قضية أخرى.
الشيخ عبد السلام العبَّادي:
الواقع كأن مطلع الجواب يتعارض مع نهايته أولًا: شيء نريد نحسم قضية التجنس بجنسية غير المسلمين ما حكمها الشرعي في الأمور العادية، هو حرام تجوز بعد ذلك للضرورات التي ذكرتموها فالأصل أن يقال كيف أنها ليست حرامًا لذاتها.
الرئيس:
لأنه إذا كانت لمجرد الإقامة محرمة يعني نهت عنها السنة فكيف بالتجنس الذي هو أعظم من الإقامة؟(3/1252)
الأمين العام:
يعني الأصل فيها الحرمة.
الشيخ طه جابر العلواني:
لأنكم اضطررتم في الأخير أن تقولوا كراهة شرعية.
الشيخ طه جابر العلواني:
يقال: إذن التجنس بجنسية البلاد غير المسلمة.
الرئيس:
لا يجوز شرعًا
الشيخ طه جابر العلواني:
أو الأصل فيه الحرمة.
الرئيس:
أبدًا لا يجوز شرعًا للأحاديث المصرحة بالنهي عن إقامة المسلمين بين ظهراني المشركين ثم بعد ذلك يأتي الاستثناء هذا. يا شيخ طه لو تكرمتم الأجوبة ستصور وتوزع على المشايخ هذا أحسن لأن المسألة يعني ليست بالسهولة بمكان وإن شاء الله تعالى سييسر أمرها، والآن ما بقي على الصلاة إلا خمس دقائق.
الشيخ محمد عبده عمر:
يا سيدي أنا عندي سؤال بالنسبة لإجابة السؤال الأول إذا لم يجد الأمن في أي بلد أو في أي دولة يجد الأمن في الدولة الأخرى. أما أنه لا يجد أي أمن في الدول الإسلامية كلها هذا صعب جدًا. السؤال يقول: إذا لم يجد الأمن في البلاد الإسلامية وهذه حاجة مستحيلة أنه لا يجد فيها الأمن.(3/1253)
الرئيس:
هي، ما هي مسألة الأمن وحدها، يعني إذا ما وجد أمن أو ما وجد مثلًا أنت تعرف الآن أعدادًا من المسلمين لا سيما من المفكرين الإسلاميين يلاحقون في عدد من الديار الإسلامية، هذا واضح ما فيه إشكال.
الشيخ محمد عبده عمر:
يعني بشكل شمولي؟
الرئيس:
أنا ما أدري بشكل شمولي، أنا أعرف أعدادًا وأنت تعرف، وكلنا يعرف، هذا لا إشكال فيه.
الشيخ محمد عبده عمر:
لا، أنا أقول بشكل شمولي، هذا حاجة مستحيلة.
الرئيس:
يلاحق من بلد إسلامي إلى بلد إسلامي
الشيخ محمد عبده عمر:
هذا صحيح لكن بشكل شمولي في الدول الإسلامية كلها هذه حاجة مستحيلة أو أن لقمة العيش تنعدم من الدول الإسلامية حتى يضطر الإنسان إلى الذهاب إلى هذه الديار الكافرة.
الرئيس:
والله، أنا كنت لما تأملت الأسئلة، كنت رأيت أن السؤال هذا سبق إن صدر فيه قرار مجمعي من مكة، فقلت: إنه لو يترك هذا، والشيخ طه طبعا يأخذ القرار المجمعي من مكة.
الشيخ محمد عبده عمر:
أنا كذلك يا سيدي: لكن اتضح لي أن من نفس الشروط أن هذه الشخص الذي أبحنا له التجنس بجنسية الدولة غير المسلمة الذي يجد الآن في البلاد الإسلامية أو لا يجد لقمة من البلد الإسلامية، وهذه مسألة بصراحة صعبة جدًا.(3/1254)
الرئيس:
وقد يكون افتراضا متعذرا في الواقع، يعين بالنسبة لعموم البلدان الإسلامية 45 دولة إسلامية.
الشيخ محمد سالم عبد الودود:
لماذا لا تقولون فيه 45 دولة إسلامية تستطيع أن تستوعب المسلمين.
الأمين العام:
يا سيدي القضية ليست نظرية، يعني ممكن أن يكون، ننظر إلى الواقع هناك مجتمع كبير من المسلمين على أجيال متوالية متعاقبة في البلاد النصرانية يعيشون فيها ويقيمون بها.
الرئيس:
أما أنا فأعرف عدة أشخاص قد يبلغون الخمسة من الجزيرة سكنوا في أمريكا وفي أوربا وتجنسوا وأولادهم الآن لا يعرفون العربية وبناتهم تزوجن من الديار. هذا شيء مثل الشمس واضح، فالمسألة الواقع هي خطيرة ليست من السهولة يعني فيها شيء من الارتباط.
الشيخ طه جابر العلواني:
نسمع فتوى مجمع مكة إذا تكرمت.
الرئيس:
عندك هي موجودة.
الشيخ طه جابر العلواني:
لا ليست عندي.
الأمين العام:
يا أخي نحن صغنا النص لا داعي إلى الرجوع، نحن انتهينا من القضية.
الرئيس:
على كل حال قرار مكة يفيدنا كثيرًا لأنه قرار بني على دراسات وتداوله المشايخ والشيخ محمد سالم موجود كان حاضرًا فيعني ما يمنع أن نستفيد من آراء الآخرين إطلاقًا.(3/1255)
الأمين العام:
لا أنا أقول: لا يمنع إذا كان موجودا الآن هذا القرار، أما إذا كان غير موجود فكيف لنا به، نجتهد ونعدل الصيغة.
الرئيس:
ولهذا أنا رأيت أن السؤال هذا هو والثاني الذي بعده وسؤالين آخرين أربعة وخمسة أنها تؤجل هذا الذي كنت رأيت، لأن الحقيقة، البقية لو مرينا عليها مشت، أما الشيء الذي نشك فيه أو الذي صدر فيه قرار مجمعي ونحن لا نعرف هذا القرار المجمعي، وهم علماء لهم وزنهم ولهم ثقلهم ما نعرف ماذا قرروا ونجيء، نحن من المسألة ما تصلح الأمور هذه. أمور هامة " نتعجل فيها ما هو المانع هي ثمانية وعشرون سؤالا إذا أجلنا منها خمسا أو ستا أو سبعا فيه شيء"؟
ما فيها شيء المسألة أمر سهل إذا كان قصدكم قرار مجمعي، فعندكم قرار مكة أقصد الشيخ طه أنا أرسله له أبعثه إليه.
الشيخ طه جابر العلواني:
أنا كما ذكرت في مقدمتي أن هناك خلافا شديدا يصل إلى درجة العراك والتضارب في المساجد ويؤدي إلى التقاضي أمام المحاكم الأمريكية، وتغلق تلك المساجد والمراكز نتيجة جدل حول قضايا من هذا النوع، فاللجوء إليكم إنما هو من أجل صدور قرار ذي قيمة من شأنه أن يحسم مادة النزاع هذا هو المهم لكن أنا طالب علم، والحمد لله، وبإمكاني أن أفتي في كثير من هذه القضايا. فيه طلبة علم آخرون أيضا يستطيعون أن ينظروا في هذا الأمر فنحن لم نحلها من أجل العجز أو الجهل بأحكامها الشرعية أو عدم القدرة على الرجوع لمذاهب الفقهاء في هذا الأمر، ولكن إحالتها إنما هو لصدور فتوى مجمعية تكون مقنعة ملزمة تحسم مادة النزاع في هذا لا أكثر. فإن رأيتم أن تحسموا في هذا الأمر جزاكم الله خير.
الرئيس:
على كل مجموعة قرارات مجمع مكة عندي في الغرفة، فلعله يكون في المجموعة التي لدي فأنا إن شاء الله تعالى بعد الصلاة أقدمها.
الشيخ طه جابر العلواني:
اللجنة أيضا الشيخ عبد الله كان من أعضاء مجمع مكة وكان معنا في اللجنة وهو رئيس لجنتنا هذه الأخيرة في ليلة أمس.(3/1256)
الشيخ عبد العزيز عيسى
هل هذا القرار سيقطع الخلاف بين المسلمين في أمريكا؟ والواقع سبب الخلاف جاءت لهم بأحكام الدين عن جهل عمد ولا يمكن أن القرار سواء إن كان من مجمع الفقه الإسلامي أو مجمع مكة أو أي مجمع أخر أن يقطع الخلاف أبدا بين هؤلاء الناس. وهذه مسألة من بلايا العصر الحاضر، وفي كل بلد نازحون من أبنائها إلى البلاد الأوربية أو الأمريكية. وهم وجدوا هناك سبيل العيش لهم ميسرة وأيسر مما في بلدهم فماذا نفعل؟ أنا لا أريد أن نقول هذا يجوز أو لا يجوز لا بد أن ننظر في حل لهم بالطريقة هذه يعني لو نزح من السعودية مائة شخص نقول لهم حرام عليكم أنتم في الحرمة أو قربتم من الكفر وهم يمكن يجدون حالهم هناك. وما طريقة العيشة وليس دائما في خلاف.
يا أستاذ طه هم في خلاف دائما ولا الخلاف بين واحد أو اثنين؟ المفروض أنكم تفصلوا بينهم من غير حكم شرعي لأن الحكم الشرعي هم يجهلونه ولا يقدرونه ولا يعرفون مجمع الفقه الإسلامي ولا مجمع مكة ولا مجمع مصر لا يعرفون هذا الكلام وليسوا موقرين لهؤلاء. أنا أرى العملية عصرية نريد أن نرى ما هي الفتوى التي تصدر في ذلك الوقت وبخاصة من مجمع الفقه الإسلامي متعلقة بهذا الموضوع.(3/1257)
الشيخ خليل الميس:
نرجو أن نلفت الانتباه إلى أن هذا السؤال سيجرنا إلى قضية خطيرة هذه القضية لا بأس بذكرها.
الأمين العام:
إذا سمحت بعد الصلاة نرجع إلى الحديث في الموضوع وفضيلة الشيخ سيأتينا بالقرار قرار مكة ونستأنس به وانتهت القضية.
الشيخ خليل الميس:
القضية التي تحصل عندنا في لبنان وهو فتح أبواب الهجرة لشبابنا وتشجيع كل الجنسيات قيد الدرس وبالأخص الفلسطينيين على الهجرة والتجنس. نرجو أن نلحظ هذا من خلال هذه الفتوى ويكاد البلد يفرغ من شبابه، يكاد يفرغ إلى هذا الحد فتحت أبواب الهجرة إلى أستراليا ودول أوروبا كلها وأمريكا والشباب بالآلاف يذهبون وتهيأ لهم أسباب الهجرة والتجنس ولا يخفى ما وراء ذلك ليس فقط القيام بدار الشرك ولكن إسقاط قضية معروفة على الأرض. نرجو أن نلحظ هذا عند الإجابة على التجنس بجنسية أجنبية وشكرًا.
الأمين العام:
ذهب فضيلة الشيخ لإحضار قرار مكة ونستأنس به وانتهت القضية ونمر إلى غيره من الأسئلة، وإلا ستطول بنا الجلسة من غير أن نصل إلى نتيجة. نحن كونا لجنة للنظر في هذه الصيغة حتى لا نتداول البحث فيها من جديد.(3/1258)
بعد الصلاة
الرئيس:
نحن نستمر يظهر لي أن الحكم والأجوبة عن الأسئلة تقريبا متفق عليها حتى تقطع مرحلة.
الشيخ طه جابر العلواني:
بسم الله الرحمن الرحيم.
السؤال الثالث: في زواج المسلمة بغير المسلم: زواج المسلمة بغير المسلم ممنوع شرعا بالكتاب والسنة والإجماع، وإذا وقع فهو باطل، ولا تترتب عليه الآثار الشرعية المترتبة على النكاح والأولاد المتولدون عن هذا الزواج أولاد غير شرعيين ورجاء إسلام الرجل لا يغير من هذا الحكم شيئا.
السؤال الرابع: استمرار الزوجية بين من أسلمت وبقى زوجها على دينه. بمجرد إسلام المرأة ينفسخ نكاحهما، فلا تحل معاشرته لها، ولكنها تنتظر مدة العدة فإن أسلم خلالها عادت إليه بعقدهما السابق. أما إذا انقضت عدتها ولم يسلم فقد انقطع ما بينهما. فإن أسلم بعد ذلك ورغب في العودة إلى زواجهما عادا بعقد جديد ولا تأثير لما يسمى بحسن المعاشرة في إباحة استمرار الزوجية.
الشيخ محمد عبده عمر:
مسألة إذا أسلم كافر يعود إلى زوجته السابقة بعقد جديد يعني، إذا رغب العودة لها يكون بعقد جديد.
الرئيس:
فإن أسلم بعد ذلك بعد خروج العدة ورغب في العودة إلى زواجها عاد بعقد جديد.
الشيخ محمد عبده عمر:
قصة السيدة زينب بنت النبي عليه الصلاة والسلام مع زوجها واضحة. لما أسلم عاد إليها دون عقد جديد وهذا حديث صحيح ثابت.
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم..
بمجرد إسلام المرأة ينفسخ نكاحها. أرى هنا أن نأخذ بقول آخر، بمجرد إسلام المرأة وإباء الزوج الإسلام ينفسخ نكاحهما ليترتب الفسخ على إباء الإسلام وليس على الإسلام وإن كانت المسألة فيها رأيان.
الشيخ خليل الميس:
القول بالانفساخ ما هو صحيح. إنه يتوقف العقد.
الرئيس:
على كل حال تشمي يا شيخ ... نعم الخامس.
الشيخ طه جابر العلواني:
السؤال الخامس: هو الدفن في مقابر غير المسلمين: إن دفن المسلم في مقابر غير المسلمين في بلاد غير إسلامية جائز للضرورة إذا بعدت المسافة عن مقابر المسلمين. والدفن في مقابر أهل الكتاب أولى من الدفن في مقابر غيرهم.(3/1259)
الرئيس:
والله، أن في نظري أنها تحذف إذا بعدت المسافة ويكون جائزا للضرورة حتى يشمل قضية المسافة وغيرها، هذا الذي يظهر، ثم أحيانا بعد المسافة لا يسبب ضرورة يظهر هكذا. هكذا يا شيخ وهبة؟
الشيخ وهبة الزحيلي:
إذا كانت المسافة قريبة ينقل.
الرئيس:
لأن هذا معناه جائز للضرورة إذا بعدت المسافة تيسيرا للضرورة فالمدار على الضرورة.
الشيخ محمد عبده عمر:
ملاحظة على السؤال. والدفن في مقابر أهل الكتاب أولى من الدفن في مقابر غيرهم. يعني ما هو المستند لهذا التفضيل؟
الرئيس:
والله، الذي ترون فيه الخير، ولكن أنا في نظري أنه لو قيل: إن دفن المسلم في مقابر غير المسلمين في بلاد غير إسلامية جائز للضرورة. وفقط.
الشيخ طه جابر العلواني:
يحذف الباقي؟
الرئيس:
والله إذا يرى المشايخ هذا. الكفر ملة واحدة ولا سيما بعد الموت، هذا يظهر كذا والله أعلم. أنتم أدرى لأنكم عرفتم الديار واختلطتم، أنتم نزلتم في الساحة أكثر منا لكن أنا يظهر لي أن زيادة القيود إذا كان يدعمها وجه شرعي فحياه الله.
الشيخ خليس الميس:
هل من الممكن أن يقال: إن يكون في جانب من المقبرة؟(3/1260)
الرئيس:
يا شيخ هم ما يتصرفون، الناس هم الذين يصرفونهم، أنا أذكر أحد علماء القصيم من الزهاد الورعين العلماء ذهب به إلى العلاج فقال لأولاده وهم معه في لندن، قال: إن كتب الله وتوفيت فلا تنقولني عن هذه البلد لأن إن كان لي عمل صالح سيؤنسني في أي مكان كنت، وإلا إذا لم يكن لدى الإنسان عمل صالح فلن يفيدني نقلي إلى أي بلد كان. رحمه الله فدفن في لندن هناك على كل حال واقعة عين ليست من باب الحجج.
الأمين العام:
أنا يظهر لي سيدي بالنسبة للندن وغيرها أن فيها مقابر وبها أجنحة خاصة أو أماكن خاصة للمسلمين، ولهذا يكون الدفن في الجناح الخاص بالمسلمين. نظم موجود في أمريكا وفي فرنسا.
الرئيس:
على كل أنا في نظري أن الكفر ملة واحدة، هذا الذي يظهر لا سيما كما قال الشيخ ابن عبد الودود لا سيما بعد الموت. للضرورة فقط يكفي.
الشيخ طه جابر العلواني:
السؤال السادس: بيع المساجد المعطلة: يجوز بيع المسجد الذي تعطل الانتفاع به، أو هجر المسلمون المكان الذي هو فيه، وخيف استيلاء الكفار عليه على أن يشترى بثمنه مكان آخر ويتخذ مسجدا.
الرئيس:
أنا في نظري إن خيف استيلاء الكفار عليه لا محل له لأن المقرر فقها أنه إذا تعطل الانتفاع به وهجر المسلمون المكان ما هو الذي يجلس ينقل إلى مكان آخر إلى مسجد آخر أو إلى مصلحة مسجد آخر.
الشيخ طه جابر العلواني:
يعني نحذف: وخيف؟
الرئيس:
إلا إذا قيل: أو خيف، ما فيه إشكال يا شيخ يصير (أو) إذا جعلت (أو) ممكن تمشي.
الشيخ طه جابر العلواني:
يعني نعملها (أو) ؟
الرئيس:
نعم
الشيخ طه جابر العلواني:
السؤال السابع: سفر المرأة بغير محرم: الأصل فيه المنع لدى الأكثرين.(3/1261)
الرئيس:
الأصل فيه المنع شرعا.
الشيخ طه جابر العلواني:
الأصل فيه المنع شرعا لدى الأكثرين.
الرئيس:
على كل أو الأصل فيه المنع للأحاديث المستفيضة لأن فيه جملة كبيرة من الأحاديث الصحاح والسنن وغيرها. أما (لدى الأكثرين) تحذف. الأصل فيه المنع للأحاديث الصحيحة.
الشيخ خليل الميس:
عفوا نقول: هو حرام بصريح النص، بدل ما نقول: الأصل.
الشيخ طه جابر العلواني:
المنع، لأن فيه اختلافا في قضية الحرمة.
الرئيس:
على كل حال الممنوع في الأصول يتنزل منزلة الحرام. الأصل فيه المنع للأحاديث الصحيحة فتجتنبه المسلمة ما استطاعت.
الشيخ طه جابر العلواني:
(ما استطاعت) ولكن أخذا ببعض المذاهب الإسلامية وتيسيرا على ما تحملها ظروفها على السفر بغير محرم، فإن المجمع لا يرى مانعا من سفر المرأة بغير محرم في الجماعات الغفيرة ووسائط النقل العامة الكبيرة كالطائرات والقطارات والحافلات الكبيرة التي يؤمن في مثلها على دين المرأة وعرضها كما لو كانت سائرة في المدينة العامرة.
الرئيس:
أما أنا لأنه سبق لي دراسة مستفيضة في هذا الموضوع وعلى إثر كتابات حصلت فيه فأنا أرى أن هذا الموضوع إذا رأيتم هذا السؤال أنه يرجأ من الأسئلة التي تؤجل.
الشيخ محمد عبده عمر:
موافق على أرجائه. موافقون على تأخيره.
الشيخ وهبة الزحيلي:
أنا لي في المذهب المالكي ما دام هناك حجة.(3/1262)
الرئيس:
ما علينا من المذاهب، علينا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة على أي مذهب طالما أنه في أحاديث صحيحة صريحة بالمنع. حتى في مذهب الحنابلة قالوا: إذا كانت تحج مع رفقة من النساء أو شيء من هذا القبيل وكانت مرأة كبيرة أو شيء من هذا. لكن أنا أقول نحن عندنا أصل، وعندنا ضرورة فنحن نقرر الأصل والضرورة إذا جاء اصحب الضرورة تقدر له بقدرها.
الشيخ مصطفى الزرقا:
بسم الله الرحمن الرحيم ...
أنا لا أرى بأسا في بقاء العبارة كما هي إلى آخرها لأن الحالة الاستثنائية هذه أصبحت اليوم يمكن أن يقال عنها: إنها ضرورة لما نشاهد من كثير من الحالات يضطر فيه الإنسان أن يرسل أحيانا زوجته أو ابنته أو أخته إلى جهة فيها محارمها أيضا ويستقبلونها في المطار وهو يوصلها إلى الطائرة ويوصي بها من يلزم.
يعني هذه حالة أصبحت اليوم في عصرنا هذا في مختلف الحالات التي توجب بعض الأسفار لا يمكن اجتنابها، واليوم السفر بالطائرة أنا أعتقد أن السفر بالطائرة من قارة إلى قارة أهون وآمن على المرأة من أن تسافر إلى قرية أقل من ثلاثة أيام كما أباحه الفقهاء أن تسافر وحدها. لذلك هذه لا نستطيع، أعتقد الفقرة مليحة جدا وإني أسأل فضيلة الرئيس الكريم أنه إذا قلنا: إنه ما لنا وللمذاهب نحن أمامنا أصل، فأنا أسأل، هل المذاهب جهلت ذلك الأصل؟ كل هذه المذاهب لم تعرف هذه الأحاديث التي هي الأصل ونحن الآن عرفناها. إنهم أيضا عرفوا هذه الأصول وتدبروا فيها وهم أهل دين وورع وعلم وتقى.
الرئيس:
في الواقع يا شيخ مصطفى مع تقديري البالغ: إن التساؤل في غير محله لأن أنا قصدي لما هو معروف عند أهل العلم أنه إذا جاء الحديث جاء النص بطل الخلاف ولا إشكال. وليس معنى هذا أن الأئمة خالفوا النصوص لا لكن ربما أن هذا الإمام لم يبلغه نص ربما أنه ثبت عنده ضعفه أو ربما كذا لكن أنا أرى يؤجل ونمشي للسؤالات وبعدين نعود على الأسئلة.(3/1263)
الشيخ مصطفى الزرقا:
كل حديث قابل أحيانا لعدة أفهام وإذا نحن رأينا الحديث واضحا هل الأئمة السابقون هؤلاء لم يكن لديهم النص موجودا نفسه وفهموا فهما آخر أو رأوا أنه محمول على حالات دون أخرى؟ يعني لا نستطيع أن تقول: متى وجدنا الحديث نتجاهل الأئمة كلهم، هذا غير ممكن.
الشيخ محمد عبده عمر:
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أنا عندي ملاحظتان: الملاحظة الأولى هو أن الاجتهاد الفقهي يجب أن يكون ضمن نصوص شرعية من الكتاب والسنة وألا يتجاوزها. في هذه المسألة أعتقد أن فيها حديثا صحيحا عن النبي عليه الصلاة والسلام ما معناه: لا يجوز لامرأة تؤمن بالله والله الآخر أن تسافر يوما وليلة بدون محرم. فالحديث قاطع في محل الخلاف ولا اجتهاد مع نص. هذه ملاحظة.
الملاحظة الثانية: حسبما أعلمه في المذهب الشافعي أن منع الإمام نفسه رحمة الله عليه منع أن تسافر عجوز ولو مع جمع غفير فلما سئل عن عجوز لا تشتهي عجوز ليس فيها جمال وعجوز طاعنة في السن لماذا لا يسمح لها بالسفر؟ قال رضي الله تعالى عنه: إن لكل ساقطة لاقطة، إن كانت هناك عجوز فقد يكون هناك عجوز أيضا يهواها فبلغ المنع في المذهب الشافعي إلى هذا الحد. وعلى هذا يجب أن نلاحظ أول الحديث الصحيح ولا اجتهاد مع النص ثم أيضا نلاحظ أقوال بعض الأئمة الكبار مثل الإمام الشافعي رحمة الله عليه.
الشيخ محمد سالم بن عبد الودود:
سيدي الرئيس. أنا بعد العبارة التي توصف نقول مع التيسير يقال: الأصل فيه المنع شرعا للأحاديث وللضرورة أحكامها.(3/1264)
الشيخ أحمد محمد جمال:
بسم الله الرحمن الرحيم ...
إذا يسمح حضرات أصحاب الفضيلة جميعا أذكرهم بقوله صلى الله عليه وسلم ((يسروا ولا تعسروا)) . هذا الحديث يعطينا وسيلة أو سبيلا إلى أن نيسر ولا نعسر. ثم الإمام مالك رحمه الله أجاز سفر المرأة بدون محرم مع نساء ثقات. وأصبح هذا الأمر واقعًا في الحج والعمرة وفي سفر الطالبات لتلقي العلم، وفي سفر الزوجات فينبغي ألا ننكر هذا الواقع، الضرورة أصبحت، واقعًا متسعًا، ليس واقعًا نادرًا، واقعًا متسعًا فلماذا لا نيسر على النساء للحج وللعمرة ولسفر الضرورة إلى المستشفى للعلاج إذا كان مع نسوة ثقات؟ كما قال الإمام مالك، أجاز سفر المرأة الأجنبية مع نساء ثقات، فأنا أرى ألا نعسر وأن نيسر.
الرئيس:
إذا رأيتم يا مشايخ أن يكون النص: الأصل فيه المنع للأحاديث الصحيحة فتجتنبه المسلمة وللضرورة أحكام تقدر بقدرها. هل ترون هذا لأننا إذا قلنا: للضرورة أحكام تقدر بقدرها معناه: أن المسألة فيها ضيق يعني ليست المسألة مفتوحة، الأصل المنع، لكن إذا حصلت ضرورة تقدر بقدرها.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
القيود التي وضعت هنا وضعت على أساس الوضع الزمني، وهذا الوضع الزمني اليوم قضية الوسائط العامة التي عرفت اليوم ولم تكن معروفة من قبل، قبل لم يكن إلا الدواب هو في هذه البراري، فهذه قيود جيدة جدًا إذا سافرت في سيارة خاصة مثلًا هذا لا يجوز أو صغيرة، ولكن بهذه الوسائط العامة التي تداركها هنا الجواب، هذه جدًا مهمة لأن الأمان حتى لو بعدت المسافات بين قارات فإن هذه الوسائط فيها أمان أكثر من يومين على ظهور الدواب.
الرئيس:
إذن تكون العبارة إذا رأيتم: الأصل فيه المنع للأحاديث الصحيحة فتجتنبه المسلمة، وللضرورة أحكام تقدر بقدرها إذا كان سفر المرأة بغير محرم في الجماعات الغفيرة إلى آخره.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
مع نساء ثقات.(3/1265)
الرئيس:
وللضرورة أحكام تقدر بقدرها إذا كان سفر المرأة بغير محرم إلى آخره، يا شيخ أظن لعلها على هذا ماشي.
الشيخ طه جابر العلواني:
أعد على العبارة، طال عمرك.
الرئيس:
الأصل فيه المنع للأحاديث الصحيحة فتجتنبه المسلمة، وللضرورة أحكام تقدر بقدرها وفي حال الضرورة فإن المجمع لا يرى مانعًا من سفر المرأة بغير محرم في الجماعات الغفيرة.
الشيخ رجب التميمي:
مع النساء الثقات وليس الجماعات لأن الجماعات تختلف، والله هذه فتوى تتعلق بنا صعب مع جماعات غفيرة في الطائرة فيه مائة طائرة.
الرئيس:
إذا كان جماعات غفيرة كلهم رجال يعني لا بد التحديد.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
فضيلة الرئيس، ظاهر من اتجاهه وهذا كل ما نتمناه نحن أيضًا هو يريد التشديد في الترخيص، وهذا حق ولكن في الوقت نفسه أنا أستغرب أن النص هنا الذي بين أيدينا تضمن قيودًا ممتازة جدًا بالنسبة لوضعنا الزمني الحالي. وقضية الطائرات والقطارات والحافلات هذه فيها أمان أكثر من كل شيء آخر، ففي الوقت الذي يميل فيه فضيلة الرئيس إلى تضييق الترخيص يميل إلى حذف هذه القيود، فلا أدري كيف ذلك؟ ولعله لو بقي كما هو فهو أفضل حل، والطائرات والقطارات هذه حتى لو كان كل المسافرين فيها رجال فهي آمن على المرأة اليوم في وضعنا الحاضر أن تسافر مع جماعة غفيرة من النساء في غير هذه الوسائط.
الرئيس:
يكون بجانبها رجل؟
الشيخ مصطفى الزرقاء:
لو بقي الأمر كما هو..
الرئيس:
قصدي نحن نأتي باحتمال الوارد إذا كانت الحافلة كلها رجال فالكراسي الذي بجانبها رجل، عن يمينها رجل، وعن شمالها رجل.(3/1266)
الشيخ مصطفى الزرقاء:
ممكن أن نقول على ألا تكون بين الرجال فقط. أما موضوع القطارات والطائرات وكذا وكذا هذا لا يجوز حذفه.
الرئيس:
أحب أقول يا شيخ أنا لهذا سبق أني ذكرت أنني لما قرأته عرفت أن هناك حوالي سبعة أسئلة يقين أنها ستكون محلًا للأخذ والرد فأنا أرى أن هذه الأسئلة التي تدور بيننا الآن نؤجلها وفي آخر الجلسة ممكن نعود إليها. دعونا نمشي في الأسئلة التي هي تقريبًا متفق عليها. نعم الثامن.
الشيخ طه جابر العلواني:
الثامن في إقامة المرأة وحدها: للمرأة المسلمة أن تقيم وحدها شرعًا في بلاد الغربة إذا كان المسكن مستقلًا آمنا.
الشيخ رجب التميمي:
ما معنى مستقلًا آمنًا؟ ومن أين الاستقلال مع الأمان؟ مسكن مستقل وحدها لا تكون آمنة، أين الأماكن؟
الشيخ طه جابر العلواني:
هذا ما رأيكم فيه؟
الشيخ رجب التميمي:
في بلاد الغربة ليست بين المسلمين وليست بين أحياء الإسلام.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
هذا الثامن أنا لا أرى أن يباح إقامتها وحدها في بلاد الغربة ولو كان المسكن مستقلًا أبدًا.
إخواني الكرام. أرى أن هذا البند الثامن بصورته الحاضرة خطير جدًا. إقامة المرأة وحدها في بلاد الغربة ولو كان في مسكن مستقل، هذا فيه منتهى الخطورة، يعني لو قطعنا النظر عن موضوع احتمالات الفساد الممكنة بمختلف الطوارئ والصور والتقلبات التي لا نعرف ماذا تصادف المرأة في غربتها. هناك أيضًا قضية السطو، يعني مثلًا اليوم في بلاد الغربة امرأة وحدها في بيت مستقل للصوص. ولهذا هي مطمع بهذا الشكل للصوص الأموال والأعراض.(3/1267)
الرئيس:
على كل، هل ترى إرجاءه أو تعديله؟
الشيخ مصطفى الزرقاء:
إقامتها وحدها لا نجوزها أبدًا.
الرئيس:
إذن يرجأ يا شيخ طه.
الشيخ تجاني صابون:
أنا أرى لا داعي للإرجاء، الموضوع واضح كيف يمكننا أن نبيح لامرأة أن تسكن أو أن تقيم وحدها في دولة أجنبية في بيت وحدها لماذا نرجئ هذا الأمر الواضح؟ نقول: لا، وخلاص.
الرئيس:
إذا اتفقتم على: لا، أو اتفقتم على: نعم، الرأي رأيكم.
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
نحن في الحقيقة في الكويت عندنا ممنوع قانونا، هذا قانونا.
الشيخ رجب التميمي:
يمنع.
الرئيس:
حتى في المملكة ممنوع أن المرأة وحدها تقيم.
الشيخ رجب التميمي:
أرى أن الحكم هو المنع وليس كل سؤال يأتينا سنجاوب عليه ونتحايل على الإجازة، فيه أسئلة الجواب عليها هو المنع.
الشيخ محمد عبده عمر:
أنا مع رأي الشيخ مصطفى هو المنع.(3/1268)
الشيخ مصطفى الزرقاء:
أقترح أن يحذف.
الشيخ رجب التميمي:
بالتصريح بالمنع، ولا يوجد ضرورة هنا.
الشيخ تقي الدين عثمان:
سدا للذريعة.
الرئيس:
طالما أن الاتجاه للمنع إذن لا يجوز للمرأة المسلمة أن تقيم وحدها شرعًا في بلاد الغربة.
الشيخ رجب التميمي:
هذا هو الجواب.
الشيخ طه جابر العلواني:
إلا للضرورة أو بدون؟
الرئيس:
يا شيخ مصطفى التدليل المجمل على المنع لما يحف به من المخاطر.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
ولا شك سد الذرائع.
الرئيس:
لما يحف به من المخاطر. التاسع.
الشيخ طه جابر العلواني:
إلا للضرورة؟
الرئيس:
لا. دع الضرورة، هو فيه نية الضرورة إذا حصلت تقدر يا شيخ. لا نريد قراراتنا كلها ضرورة، ضرورة، أن الضرورات تقدر بقدرها يا شيخ.(3/1269)
الشيخ مصطفى الزرقاء:
الضرورات مدلولها النصوص العامة.
الرئيس:
التاسع.
الشيخ طه جابر العلواني:
إن حجاب المرأة المسلمة عند جمهور العلماء هو ستر جميع بدنها عدا الوجه والكفين إذا لم تخش فتنة فإن خيفت فتنة وجب سترهما أيضًا.
الرئيس:
هذا طيب فيه توسط بين الخلاف.
الشيخ طه جابر العلواني:
السؤالان العاشر والحادي عشر: العمل في المطاعم التي تقدم فيها المحرمات: للمسلم العمل في مطاعم الكفار بشرط أن لا يباشر بنفسه سقي الخمر أو حملها أو صناعتها أو الاتجار بها، وكذلك الحكم بالنسبة لتقديم لحوم الخنزير وغيرها من المحرمات.
الشيخ رجب التميمي:
هنا إذا أبحنا الجواب بحالته الواضحة يبقى أن المسلم إذا لم يباشر ذلك ينظر إلى الخمر وينظر إلى المحرمات لأنه يشتغل في نفس المطعم، ولا شك أن الأحاديث لا تبيح النظر للخمر، ولذلك بشرط أن لا يباشر بنفسه المنع إذا كان في المطعم خمر أو خنزير والرزق على الله.
الشيخ وهبة الزحيلي:
لا يوجد حديث يحرم النظر إلى الخمر.(3/1270)
الشيخ محمد سالم بن عبد الودود:
دائمًا في حدود المدرسة نحن عندنا عمل المسلم للكفار إذا كان المسلم في عمل حرام هو حرام ويفسخ العقد إذا عمل لم يستحق الأجر بل يتصدق به لا يبقى للكافر ولا يملكه المسلم، إذا عمل عملًا مباحًا ولكن كانت يد الكفار جارية عليه ومختصًا به يعمل في محل الكافر والكافر يختص بهؤلاء ويعمل الكافر ويد الكفار جارية عليه، فهذا قريب من الحرام ويعبرون عنه بالمحظور. وإذا عمل عملًا مباحًا والعمل فيه للكافر والمسلم وليست عليه يد للكافر ولكن يعمل في محله فهذا مكروه. الشيء الوحيد الذي يجوز من عمل المسلم للكافر على وجه الإيجار أن يعمل عملًا مباحًا في مكانه من غير أن يختص به الكافر ولا أن تجري عليه يده.
الرئيس:
الذي يظهر والله أعلم، أن الجواب مقبول لأنه إذا عمل لدى الكافر لم يخدمه في دينه. وهنا السؤال في المطاعم فقط، وهو في هذا المطعم لم يقدم خمرًا ولم يقدم له خنزيرًا ولم يقدم له محرمًا.
الشيخ طه جابر العلواني:
سيدي في هذه الحالة، أمنع الزراعة لأن الحنطة بتاعتك تصير خبزًا ويأكلها الكافر والخروف الذي تربيه ممكن أن يذبح ويأكله الكافر.
الرئيس:
على كل الذي ترون فيه الخير، لكن أنا والله أعلم، طالما أنه لا يقدم محرمًا في الشريعة وهو تسليم منكم بجواز إقامته لدى الكفار، فما دام وجوده بين الكفار وبين ظهرانيهم جائزًا، فمن باب أولى أن يجوز أن يشتغل في عمل ليس فيه محرم شرعًا والمحرمات لا يصير موظفًا فيها ولا يؤيد فيها خدمة.(3/1271)
الشيخ محمد عطا السيد:
سيدي الرئيس، أنا أرى بأنه حتى لو رأينا أنه فيه ضرورة اقتضت وجوده بين الكفار لا أوافق أن يعمل في مطعم فيه الخمور وهو يرى ذلك وأنا أرى أن الأرض لم تضق بالمسلم للدرجة التي لا يجد فيها رزقًا إلا في مثل هذه الأعمال.
الشيخ وهبة الزحيلي:
الملاحظ في أغلب هذه الأسئلة أنها في ديار الكفار ونحن نعيش الآن في رفاه يمر طلاب كثيرون من الجاليات الإسلامية في تلك البلاد تنقطع عنهم المرتبات ويكادون أن يبقوا في الشوارع فلا يلجأون لمثل هذه الأمور غالبا كل هذا الأسئلة ملحوظ فيها الضرورة القصوى عموما هذه في بلاد الطلاب أحيانًا، ماذا يفعل هل يرتكب الحرام الصريح أم نجد له مساغًا فيه شيء من الإباحة وقد أباحه بعض الفقهاء؟
الرئيس:
يا شيخ وهبة، لو لم تكن هذه الأسئلة والأجوبة في هذا المحيط الذي هو في محيط بلاد الكفر، في الواقع بالنسبة لي وعد ذلك الرأي رأيكم ما تسامحنا في كثير مما مر ومما سيأتي، هذا الواقع، أنا أقول لكم بصراحة إن حجاب المرأة المسلمة الذي أدين الله به أنه يشمل الوجه والكفين، وأن النصوص صريحة صحيحة في هذا. وأن جماعة المحققين من أهل العلم على هذا. لكن في جنس هذا المحيط وفي جنس هذه البلاد التي العري هو سنتها وطريقتها وجادتها يعني إذا وجد امرأة ساترة لجميع بدنها ما عدا الوجه والكفين هذه تعد ...
الشيخ رجب التميمي:
مظهر طيب.
الرئيس:
فعلى كل هل ترون يرجأ حتى نعود إليه في آخر الجلسة، هذا السؤال أو يلغى أو يرجأ مرة واحدة، أو يترك؟
الشيخ عبد الله بن بيه:
هذا. أعتقد يترك هذا السؤال صحيح بحاله هذا نظر كما تفضلتم للمحيط، ولا ينبغي أن نتوقف فيه مطلقًا، هو يعيش في هذه الظروف، يعيش مع الكفار، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش في مكة يدخل عند الكعبة وفيها الأصنام وأنه لا يستطيع تغييرًا لذلك. هذه المسألة لا ينبغي أن نتوقف فيها مطلقًا.
الشيخ عبد الله بن بيه:
كل هذا عند الحاجة. كل هذا بسبب الحاجة.
الرئيس:
والله إن رأيتم يمكن هذا القيد يخلص المسألة.
للمسلم عند الضرورة، هو ما أحد يشتغل إلا وهو محتاج، أقول: ما أحد يشتغل إلا وهو محتاج مهما كان.(3/1272)
الشيخ الصديق الضرير:
يعمل بمطاعم الكفار إذا لم يجد عملًا في غيرها.
الرئيس:
إذن ضرورة.
الشيخ رجب التميمي:
إذا لم يجد عملًا في غيرها، إذا لم يجد عملًا آخر.
الرئيس:
هو طيب يا شيخ، يا شيخ طه، للمسلم إذا لم يجد عملًا آخر مباحًا شرعًا العمل في مطاعم الكفار إلى آخره.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
بدون كلمة "آخر" إذا بدئي بها ذكر الكلام، إن المسلم إذا لم يجد عملًا آخر ما تقدم شيء نقول "آخر" إذا لم يجد عملًا مباحًا.
الرئيس:
اسمع يا شيخ، للمسلم إذا لم يجد عملًا مباحًا شرعًا العمل.. إلى آخره الثاني عشر.
الشيخ طه جابر العلواني:
الثاني عشر: في الأدوية المشتملة على الكحول: للمريض المسلم عند الحاجة تناول الأدوية المشتملة على نسبة من الكحول إذا لم يتيسر دواء خال منها ووصف ذلك الدواء طبيب ثقة أمين في مهنته.
الشيخ رجب التميمي:
أنا أرى أنه لا يجوز لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا شفاء في النجس)) والأدوية التي تختلط بالكحول أصبحت نجسة.
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم..
مسألة الخمور ينبغي أن تقيد بالضرورة القصوى لما تعلمون أن كثيرًا من الفقهاء قالوا: لا يجوز التداوي بها مطلقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((إنها داء وليست دواء)) ولأجل ذلك قال بعض العلماء: لا يجوز التداوي بها مطلقًا. وقال بعضهم: يجوز التداوي لغصة. فهو لا بد أن تكون الضرورة شديدة يخاف على نفسه منها.(3/1273)
الرئيس:
ولهذا الخمر لغصة مقررة في مذهب الحنابلة كذلك، فإذا رأيتم يقال: للمريض المسلم عند الضرورة.
الشيخ عبد الله بن بيه:
للضرورة الشديدة ليست للضرورة فقط.
الشيخ طه جابر العلواني:
يبدو أن المشايخ لم ينتبهوا للسؤال جيدًا. السؤال ليس في الخمر إطلاقًا السؤال في الأدوية التي تشتمل على شيء من كحول والأدوية المشتملة على شيء من كحول معظم الأدوية 95 % من الأدوية التي نتناولها للسعال وللكحة وللإنفلونزا وللصداع.
الرئيس:
الحقيقة، طالما أنا في نظري أنه مقيد بالأدوية ما هو شراب، قال: الأدوية المشتملة على الكحول فأنا أرى أن الجواب كاف حتى في نظري أنا أرى أنها لو حذفت عند الحاجة لو حذفت لا أرى بها بأسًا.
الشيخ عبد الله بن بيه:
لا يمكن أن تحذف لأن ما أسكر كثيره فقليله حرام.
الرئيس:
إذا صار دواء، الكحول نسبي، الكحول في هذا الدواء نسبي هذه العمليات الآن ما تعمل إلا بالبنج، تبنيج، تخدير، تسكير للبدن كامل خمسة ساعات وهو سكران.
الشيخ رجب التميمي:
ما أسكر كثيره فقليله حرام.(3/1274)
الرئيس:
ما تستطيعون أن تطبقوه يا شيخ، النزول في ساحة العمل شيء والتقدير على الكراسي شيء آخر، نحن نعاصر هذا الشيء ونعرفه يقينًا، أنا لما لفت نظرنا الشيخ طه أن السؤال أن الأدوية المشتملة على الكحول فأنا أرى الذي ترون فيه الخير لكن أنا أرى أن الجواب ماشي.
الشيخ محمد عبده عمر:
بسم الله.. هو السؤال واضح عند الحاجة تناول الأدوية المشتملة على نسبة من الكحول وليس على كل كحول، على نسبة من الكحول.
الرئيس:
لا، المشتملة على كحول، وتحذف الألف واللام.
الشيخ محمد عبده عمر:
بمعنى أنها على نسبة من الكحول. يعني نسبة صغيرة.
الرئيس:
خلاص هذا الجواب طالما أنه في الجواب يكفي.
الشيخ عبد الله بن بيه:
يبدو سيدي الرئيس أنكم اطلعتم على شيء يرخص إن شاء الله أحسن مما اطلعنا عليه والله أعلم لأننا نحن نعرف العلماء شددوا كثيرًا بسبب هذا الحديث ولعلكم اطلعتم على مواقف، والله أعلم.
الشيخ خليل الميس:
حضرة الرئيس أظن إجابات في مثل هذه البساطة من مجمع كهذا غير مناسبة.
الرئيس:
لا أصلًا يا شيخ قد يظهر، هو سيعرض عليكم رأي في آخر الجلسة، وهو أن هذه الاستفسارات توجه بخطاب من أمين المجمع إلى مدير المركز لأنها عرضت على المجمع وقرر فيها ما يلي أو رأى فيها ما يلي. فهذا ليس قرارًا بمعنى القرار الذي يرفق مع القرارات لكنه يكتسب صفة الشرعية. ما فيها شيء ماذا فيه؟ نحن نجتهد بقدر ما يسعنا وهؤلاء في حاجة، والحمد لله أنه يوجد في هذه البلدان من يلجأون إلى علماء المسلمين ويتلهفون إلى معرفة الوجه الشرعي، فإذا أخطأنا في سؤال أو سؤالين فيه شيء ما زال العلماء سلفًا وخلفًا يخطئون إذا تبين رجعنا فيما بعد.(3/1275)
الشيخ خليل الميس:
ألا ترون أن لكل إجابة من هنا أن يكون لها ملف أيضًا عندنا لأنه فعلًا، أنا في الإجابة الأول كاتب 22 صفحة موجودة لكن ما لحقنا نطبعه، والذي هي زواج المسلمة من غير المسلم أو إسلام الزوجة الكتابية تحت الكفر 22 صفحة ولم أخلص منها لأنه لا بد، عفوًا، إنما مجمع في مثل هذا المستوى العلمي لا بد أن يكون له مذكرة تفسيرية لكل سؤال.
الأمين العام:
سيدي إذا سمحت. كل الموضوعات المطروحة عليكم في هذه الجلسة وبخاصة بالنسبة للموضوعات التي ترجع إلى استفسارات الإخوان في المركز الإسلامي بواشنطن لها ملفاتها، وهذه الملفات محتفظ بها في المجمع وكل ملف يحتوي على دراسات لا على دراسة واحدة وهذا الذي قدم إلينا من طرف الشيخ محيي قادي ومن طرف بقية الإخوان في السنة الماضية وفي هذه السنة دليل على ذلك، والقضية ترتيبية، هذا راجع لنظام المجمع أما الذي نحن فيه فهو صدور فتوى في هذه المسائل المعروضة عليكم والتي بحثناها بحثًا مستفيضًا.
الرئيس:
المهم هذا السؤال: هل ترون أنه يرجأ أو يبت فيه؟
خلاص يبت فيه على ما هو محرر، نعم، الثالث عشر، أنا أرى هذا التحرير في الجواب بناء كلام الشيخ طه أنه بوجود هذه النسبة في الأدوية منتشرًا في دواء الكحة في دواء الزكام في دواء كذا.
الشيخ طه جابر العلواني:
السؤال الثالث عشر: مواد الكيك ونحوه: يحل للمسلم استعمال الخمائر والجلاتين المأخوذة من الخنازير في الأغذية إذا تحققت الاستحالة. التحول من عين إلى عين أخرى قادرة والخمائر والجلاتين المتخذة من النباتات أو الحيوانات المذكاة شرعًا أولى وأبعث عن الريب والشبه.
الرئيس:
والله، أما في الخمائر والجلاتين المأخوذة من الخنازير فهذه أنا عندي توقف فيها على طول الخط.(3/1276)
الشيخ رجب التميمي:
هذا شيء محرم
الشيخ محمد عبده عمر:
في الواقع يا شيخ لو سمحت في الصياغة يقول: إذا تحققت الاستحالة التحول من عين إلى عين آخر، إذا تحققت الاستحالة لا ينسجم.
الرئيس:
وهذا ينبغي يراقبها حتى تستحيل.
الشيخ محمد عبده عمر:
لا، كلمة الاستحالة هذه لأنها صارت العكس.
الرئيس:
إذا رأيتم أنه يؤثر على النباتي.
الشيخ عمر جاه:
أنا معك يا فضيلة الرئيس.
الشيخ محمد عطا السيد:
سيدي الرئيس في الحقيقة أحب أذكر: أنا من الناس الذين مكثوا في الولايات المتحدة لعدة سنوات، وأذكر أن الطلاب المسلمين وكثيرًا جدًا من المسلمين في الولايات المتحدة متمسكون بدينهم أشد تمسك وصدق بأن أعدادًا كبيرة منهم أحيانًا يحرصون على دينهم والتمسك بدينهم حتى المسلمين من الأمريكان إخواننا الأمريكان السود متمسكون بدينهم أشد تمسك، ولذلك فرضوا الآن على الشركات التجارية في الولايات المتحدة أن تنتج منتوجات تكتب عليها خالية من منتجات الخنزير وغيره من هذه الأشياء، أنا أثرت هذه النقطة يا سيدي الرئيس بالذات لكي أثنى على نقطة الأخ ممثل الجمهورية اللبنانية بأنه لا زلت أذكر بأنه لا بد من التمسك الشديد بالأحكام الشرعية في هذه المسألة، ولا يلبس علينا أننا نعالج قضية طلاب في أمريكا، ولذلك يجب أن نتساهل معهم غير هذا التساهل.(3/1277)
الرئيس:
أظن أنه ما فيه شك أن دين الله للجميع لا يختص به ناس دون ناس لكن فيه بعض الأشياء ربما يحصل الإنسان شيء من التجوز طالما أن فيها خلافًا مشهورًا أو خلافًا مشهورًا قويًا أو ضرورة قائمة لكن في مثل هذه الأشياء مواد الكيك الحقيقة يعني أن أعرف.
الشيخ رجب التميمي:
ليست فيها ضرورة.
الرئيس:
أنا لا أستطيع أن أقرر فيها شيئًا لا أعرف حقائق هذه الأشياء.
الأمين العام:
القضية هذه عرضت في كثير من البلاد الإسلامية وفي البلاد الأمريكية والأوربية، والمسلمون أجمعوا في هذا العصر، وصدرت في ذلك فتاوى عديدة بأن الأشياء التي لها بديل مثل النباتات أو الحيوانات المذكاة يمكن أن يصنع منها الجلاتين وما إلى ذلك. فإذا وجدت فنحن نأخذ بهذا فإن لم توجد فالقضية ليست ضرورية. لنا أن نترك الكيك ونأخذ غيره فهو ليس أمرًا ضروريًا، ولهذا نعود إلى صياغة هذا الجواب بالنسبة للسؤال الثالث عشر ونتركه إلى آخر الجلسة.
الرئيس:
يوضع في أوله: لا يحل.
الشيخ عمر جاه:
تحذف كلمة الجلاتين المأخوذة من الخنازير ونبقي الباقي.
الرئيس:
نحن نكتب: لا يحل للمسلم استعمال الخمائر والجلاتين المأخوذة من الخنازير في الأغذية إذا تحققت، تحذف، يا شيخ طه العبارة: لا يحل للمسلم استعمال الخمائر والجلاتين المأخوذة من الخنازير في الأغذية، أحذف الذي بعدها ثم تقول: وفي الخمائر والجلاتين المتخذة من النباتات أو الحيوانات المذكاة شرعًا غنية، هذا ما فيه نجوزها يا شيخ هل في هذا حرمة؟ أنا أسألكم الخمائر المتخذة من النباتات هل يعتريها شيء من الحرمة؟(3/1278)
الشيخ رجب التميمي:
لا.. لا.
الرئيس:
خلاص لماذا نقول يجوز؟ نقول: وفي الخمائر والجلاتين المتخذة من النباتات أو الحيوانات المذكاة شرعًا غنية عن ذلك.
الشيخ محمد عطا السيد:
سيدي الرئيس ما عدا نقطة واحدة. العنوان واضح كيف مواد الكيك وغيره الوارد في رأس الموضوع يمكن حذف هذه المسألة مواد الكيك وغيره، يمكن حذف هذه الكلمة حتى يكون الحكم شاملًا لكل الأشياء.
الرئيس:
كيف تصير صيغة السؤال؟
الشيخ محمد عطا السيد:
لا مواد الكيك الموضوعة في بداية الإجابة مواد الكيك كان هذه المسألة قاصرة على الكيك.
الرئيس:
كيف ترى صيغة السؤال؟
الشيخ محمد عطا السيد:
أنا أوافق على الصيغة يا سيدي.
الرئيس:
هذا في السؤال الكيك في السؤال ليست في الجواب.
الشيخ محمد عطا السيد:
لكن سؤالي يا سيدي الرئيس: هل هذه الإجابة مقتصرة على الكيك فقط؟
الرئيس:
وغيره، ونحوه، عندك ونحوه.(3/1279)
الشيخ محمد عطا السيد:
لكن أنا فضلت لو حذفت كلها ويصير الحكم كما هو.
الرئيس:
ماذا يقال في السؤال سلمك الله؟ ماذا يقال في السؤال؟ أعطنا صياغة السؤال.
الشيخ محمد عطا السيد:
أنا في رأيي فقط أن الإجابة تكون كما هي، لا يحل للمسلم استعمال الخمائر والجلاتين إلى آخره، ما حببت أن الموضوع يكون فيه ذكر نوع معين من الأغذية.
الرئيس:
نحن ما وضعنا نوعًا معينًا لكن هذه في السؤال، العنوان الرابع عشر.
الشيخ طه جابر العلواني:
الرابع عشر: عقد النكاح والاحتفالات في المساجد: يندب عقد النكاح في المساجد ولا تجوز إقامة الحفلات فيها إذا اقترنت بمحظور شرعي كاختلاط الرجال بالنساء وتبرجهن أو الرقص والغناء.
الشيخ محمد عبده عمر:
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
الاحتفالات في المسجد، العقد نعم يندب العقد، لأن العقد مقدس يندب العقد أنه يكون في مكان مقدس مثل المسجد، هذا نعم، مسألة الاحتفالات في المسجد سواء إن كانت بمحظور أو ليست بمحظور لا تجوز قطعًا. لأنه فيه استخفاف بقدسية المكان.
الرئيس:
أليس الحبشة كانوا يلعبون يوم العيد في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، يلعبون بحرابهم؟
الشيخ محمد عبده عمر:
هذا كان من الجهاد. أين هذا من هذا؟ لا وجه للقياس.
الرئيس:
ثم أنا الذي فهمت من الشيخ طه على أن المسجد بالنسبة للبلدان هذه أنهم لا يجدون متسعًا. كذا يا شيخ وإلا لا.
الشيخ طه جابر العلواني:
نعم المسجد هناك كل شيء بالنسبة لهؤلاء.(3/1280)
الرئيس:
إذن ينبغي لك في السؤال نفسه، في السؤال تصوغ السؤال بما يفيد الظرف الذي يعاش فيه.
الشيخ طه جابر العلواني:
واضح طال عمرك أني جايب أسئلة من أمريكا.
الرئيس:
لا ما علينا نقول عقد النكاح والاحتفالات في المساجد حيث إنهم لا يجدون مكانًا يتسع.
الشيخ محمد عبده عمر:
يا سيدي إذا فتحنا هذا بفتوى مجمعية باكر تنتشر في جميع العالم الإسلامي بفتح مجال ليس فيه مصلحة للمساجد في جميع العالم الإسلامي.
الشيخ محمد عبده عمر:
الشيخ طه جابر العلواني:
يا شيخ عبده، أعتقد أنه ليس في اليمن وإنما في أمريكا، أعتقد..
الشيخ محمد عبده عمر:
ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
الشيخ وهبة الزحيلي:
وقف المسلمين بالمسجد فيه مصالح كثيرة عندهم، يعني إلى ماذا يعمر المسجد ويشاهدون المصلين جماعات وما إلى ذلك.
الرئيس:
ما دخلوا لأجل أن يشاهدوا المصلين يا شيخ هم قالوا لنا: ما وجدوا مكانًا يحتفلون فيه لكن الحقيقة نحن إذا نظرنا إلى أمور نظرنا إلى قضية الجلوس المجرد عن العبادة في المسجد فهو جائز، وإذا نظرنا إلى الأكل والشرب في المسجد فهو جائز، هذا لا إشكال في الأمور هذه، وإذا نظرنا إلى دخول الرجال والنساء متحجبات وغير مختلطين، وليس هنا يحف به رقص ولا غناء. وفي أمريكا وفي مثل هذه الظروف والله الذي ترون فيه الخير لكن الذي لا يظهر لي مشكل.(3/1281)
الشيخ محمد عبده عمر:
يا سيدي اسمح لي. المسألة فيها كلمة: احتفال، والاحتفالات ما معناه اختلاط الرجال والنساء، ومعناه الزغاريد ومعناه فوضى في المسجد.
الرئيس:
يا شيخ طه كلمة: احتفال تغير، لكن الحقيقة أن العرف قيدها، حفلة الزواج أو شيء من هذا القبيل.
الشيخ عبد الله بيه:
يعني أقول: ولا تجوز الاجتماعات في المساجد.
الرئيس:
هذا معنى كلامه.
الشيخ محمد عبده عمر:
لا ممكن نقول: إذا كان في المسجد زاوية معينة لا يصلى فيها، يعني حاجة مرفقة في المسجد.
الأمين العام:
قضية الجواب اتفقنا عليه من زمان. الجواب اتفق عليه، الذي اختلف فيه هو تحديد الظرف والشكل الذي يقع في أمريكا وعندئذ لو أضفنا قلنا: عقد النكاح والاحتفالات في المسجد كما يقع في أمريكا، هذا هو السؤال. والجواب قد حرر بعد لم يبق فيه أي تغيير. إذا قلنا يندب عقد النكاح في المسجد ولا تجوز إقامة الحفلات فيها إذا اقترنت بمحظور شرعي كاختلاط إلى آخره. عقد النكاح في المساجد كما هو في أمريكا.(3/1282)
الشيخ محمد عبده عمر:
يا شيخ، هذه فتوى مجمعية تنتشر في جميع أنحاء العالم الإسلامي ولا يقيد في بلد معين.
الأمين العام:
يا سيدي الأسئلة جاءت من جهة معينة ونحن سنجيب هذه الجهة.
الشيخ محمد عبده عمر:
لكن الفتيا ملك الجميع.
الأمين العام:
عندما نكتب الفتوى الطويلة العريضة التي تشتمل على الأدلة لتكون مودعة في أطراف الدنيا نكتبها بالشكل الذي أردتم.
الشيخ محمد عطا السيد:
سيدي الرئيس، أنا أحب أن أذكر أعضاء المجمع بنقطة واحدة، وجائز الدكتور طه يوافقني فيها، ليس في أمريكا مشكلة بالنسبة للمسلمين أن يقيموا احتفالاتهم في أي مكان والدكتور طه يعلم أن المسلمين كانوا يقيمون اجتماعاتهم وتلاوة القرآن والمحاضرات الدينية كلها في بقاع كبيرة جدا بالجامعة في أماكن مختلفة. المسلمون لا يتصور حاليا في أمريكا كأنهم محصورون في المسجد ولا يستطيعون إقامة اجتماع في غير المسجد. هذا غير صحيح.
الشيخ طه جابر العلواني:
أنت تعرف وكل من هناك يعرف أن المسجد بالنسبة لأية جالية مقيمة هناك يعتبر مكان دراستهم وتجمعهم ولقائهم وأنشطتهم. نعم يوجد " كومنتن سنتر " مثلا يكون فيه مراكز وفيه حدائق كل شيء لكن من أجل أن تربط أبناء المسلمين في المسجد ولأجل أن تجعل.
الرئيس:
لا، يا شيخ طه. كلمة: من أجل أن تربط أبناء المسلمين في المسجد، أرجو إذا كانت هذه هي التعليل القائم فنحن نقول: لا، لا حاجة إلى السؤال.
الشيخ طه جابر العلواني:
اسمح لي أكمل فقط، والصورة المتفق عليها بيني وبين الدكتور عطا نعم موجودة، هناك أماكن كثيرة جدا لكن المسجد يعتبر المكان الأهم بالنسبة للمسلمين خاصة في هذه المناسبات. نعم هناك جاليات كبيرة أمامها متسع لكن هناك جاليات لا تملك إلا المسجد يعني 10، 15 بيت مسلمين لا يملكون إلا المسجد يقيمون فيه كل شيء ونحن في مقام فتوى لمثل هذه الحالات الخاصة التي تحدث فيها هذه الأمور.(3/1283)
الشيخ محمد عطا السيد:
أنا ما مانعت أن المسلمين يقيمون نشاطاتهم المختلفة في المسجد وحتى يعقد عقد النكاح في المسجد لا أمانع في ذلك ولكن في موضوع الحفلات إذا اقتصر ذلك على توزيع المرطبات أو الكيك أو بعض الأشياء فلا بأس من ذلك، هذا هو، أنا أقبل بذلك ولكن أي تجاوز قد يؤدي إلى أن يكون فيه أي نوع من الأشياء الأخرى.
الشيخ طه جابر العلواني:
يا أخي الفتوى مقيدة تماما اقرأها يا دكتور عطا.
الرئيس:
في الواقع، يا شيخ طه، أنا بدا لي سؤال بسيط. الآن إقامة مثلا على سبيل المثال، إقامة المسلمين لأمثال هذه الحفلات في المساجد في أمريكا ألا تكون محل تندر من أهل الكتاب هناك، أو من الكفار هناك، بأن هذا فيه نوع امتهان لشعائر المسلمين ويقولون انظروا إلى المسلمين كيف يمتهنون أماكن شعيرتهم.
الشيخ طه جابر العلواني:
أبدأ نحمد الله ونشكره أن أهل الكتاب يحترمون المسلمين وأماكنهم بالنسبة لهذه الأمور لأنه فعلا تعتبر أماكن نموذجية بالنسبة لما يجري حولهم ولما يدور في الكنائس على أن المسلمين في الغالب هذه الاحتفالات كانت في بعض المساجد في بعض الأماكن يخالفه الكثير من الريب إلى أن طهرت لكن الآن يقتصر الأمر على حفل نكاح يجري عادة في الحفل ضرب دفوف وشيء من اختلاط أو الزغاريد، ونحو هذا بعض الناس يتحرجون منه، بعض الناس يقولون: لا لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وأنه كان يأمر بأن يغنى في النكاح للبنات الصغيرات أو الأولاد أو شيء من هذا، فهذا الأمر مثار خلاف، أنتم ماذا تقولون فيه لحسم هذا الخلاف؟(3/1284)
الرئيس:
يعني يجري غناء وزغاريد في المسجد؟
الشيخ طه جابر العلواني:
ممكن.
الرئيس:
لا، لا، إذا كان شيء من هذا فنحن، لكن لماذا لم تعطنا الصورة واضحة في السؤال هذا؟
الشيخ طه جابر العلواني:
أنا أعطيتك الصورة الواضحة ولذلك تحوطت وقلنا: ولا تجوز إقامة الحفلات فيها إذا اقترنت بمحظور شرعي كاختلاط الرجال والنساء وتبرجهن والرقص والغناء فماذا يراد أكثر من هذا التحوط؟
الشيخ عمر جاه:
أعتقد أنني أتكلم عن تجربة شخصية، أنا عشت في أمريكا الشمالية لفترة زمنية طويلة وأعرف أن مفهوم الاحتفال الذي يشير إليه السؤال هو احتفال قد يكون احتفالا بصيغة دينية أكثر مما هو بترفهٍ، فكما أشار الأخ عطا السيد أن هناك أماكن متوفرة لإقامة الحفلات، صحيح، لكن عقد الزواج في المسجد ومفهوم المسجد عندهم قد لا يكون نفس البناء الذي نفهم في خارج هذه المنطقة. إذن بعد هذه التحذيرات وهذه الاستثناءات القوية في هذه الإجابة أعتقد أننا يجب أن نتبناها ونستمر في عملنا.
الشيخ أحمد بزيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم..
في الحقيقة عقد النكاح مثل ما تفضلتم يندب في المساجد، إنما الحفلات أخشى أن يتوسع فيها إلى ما لا يليق. هذا في الحقيقة هو ما أخشاه.(3/1285)
الرئيس:
والله هذا الذي نخشاه.
الشيخ أحمد محمد جمال:
يا سيادة الرئيس.. ويا حضرات الأعضاء.. والحكم هنا مقيد قال: ولا يجوز إقامة الحفلات إذا اقترنت برقص وغناء وتبرج واختلاط. يعني ما هناك أي حرج ما أبغي أي محظور. لا ينبغي التوقف بهذه الصورة عند هذا الحكم.
الشيخ طه جابر العلواني:
التسمي بأسماء غير إسلامية: يجوز للمسلمين في البلاد التي تفرض حكوماتها على المسلمين التسمي بأسماء تختارها إذا خلت من شرك أو تبرك بما ينافي العقيدة الإسلامية أو تحريف لاسم معظم في الإسلام له حرمة. فإن لم يكن إلا ذلك، حمل الاسم المفروض عليه رسميا على أن يتخذ اسما آخر غيره ينادى به في بيته وبين خاصته.
الشيخ محمد عبده عمر:
يا سيدي لو سمحت في السؤال الذي قبل هذا أسجل تحفظي أنا متحفظ على هذه الإجابة.
الشيخ يوسف جيري:
بسم الله الرحمن الرحيم..
سيدي الرئيس بالنسبة لهذا السؤال الخامس عشر التسمي بأسماء غير إسلامية، الحقيقة أن مسألة الأسماء الإسلامية تحتاج إلى تعريف محدد وخاصة بالنسبة للبلاد التي الأسماء فيها غير عربية في الأصل، لأننا في الحقيقة في بلادنا نجابه بنوع من الوضع المؤسف حيث إننا نلاحظ من بعض الناس يدخلون الإسلام، نلاحظ أن اسمهم مثلا وعلى لغة من لغاتنا. وهذا يعني الشبل فنحن نطلب من هذا الشخص لحرمة الإسلام أن يرضى بأن يغير اسمه إلى اسم إسلامي. وهذا في أغلب الأحيان ما نلاقي فيها أية صعوبة. لكن إذا رجعنا إلى بلاد إخواننا العرب المسلمين نلاحظ أسماء ربما تكون مترجمة حرفية لهذه الأسماء مثل شبل مثل نمر وما شابه هذا، فلهذا لا أقول: إن هذه الأسماء العربية محرمة لم أقلها إنما أقول: إننا نحتاج إلى تعريف دقيق لما يسمى بالأسماء الإسلامية. شكرا سيدي الرئيس.
الرئيس:
هذا موجود عندكم في أمريكا يا شيخ طه؟(3/1286)
الشيخ طه جابر العلواني:
هذا في البرازيل ويوغوسلافيا موجود.
الرئيس:
يعني للمواطنين المسلمين الذين في تلك البلاد؟
الشيخ طه جابر العلواني:
نعم، وفي بلغاريا أيضا نجد فيها هذا.
الرئيس:
والله، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ماذا يعمل الناس طالما أنه هذا هو بلده زيادة على هذا مثلا في البرازيل في بلغاريا بلده وفرض عليه الشيء هذا فرضا وطالما أنكم جعلتم بديلا لاستعماله مع أي مسلم من أهل بيته وغيرهم. الذين ترون فيه الخير إن شاء الله.
الشيخ محمد عطا السيد:
أنا لا اعترض عليه.
الشيخ رجب التميمي:
الجواب صحيح.
الرئيس:
المهم سؤال: هل ترونه يمشي أو لا؟
مناقشون:
يمشي.... يمشي.
الشيخ إبراهيم بشير الغويل:
هل من المناسب مثل هذه الإجابة الآن والمسلمون في بلغاريا يواجهون ما يواجهون؟ هل من المناسب الآن أن يصدر عن المجمع مثل هذا الرأي؟
الرئيس:
لكم علاقة في بلغاريا يا شيخ طه؟
الشيخ طه جابر العلواني:
لا، لكن هذا ورد لنا وعرضناه عليكم.
الشيخ إبراهيم بشير الغويل:
أنا بأحكي على موضوع آخر، المؤتمر الإسلامي، وجهات عديدة تضغط الآن على بلغاريا لكي توقف عملية تغيير الأسماء، هناك ضغط من كافة الحكومات الإسلامية على بلغاريا.(3/1287)
الرئيس:
والله، أنا أقو لو يترك هذا السؤال كلية لأن الحقيقة هو أن المسألة لو صارت اختيارا لا شك أننا نؤكد أن الاسم يصير متمحضا في الإسلام متمحضا في العروبة متمحضا في حسن الاسم هذا لا إشكال، لكن في جنس هذا الظرف الحرج مسلمون يضطهدون في بلادهم ونروح نفتيهم في اسمهم. أنا إذا رأيتم تركه فهو أولى.
الشيخ رجب التميمي:
الأفضل تركه.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم ...
فضيلة الرئيس ... ومعالي الأمين العام. إنا لا أرى مسوغا لأن يصدر رأي إيجابي ولا سلبي في هذا الموضوع. أرى يترك، وأقول في هذه المناسبة: لا شك أنكم تعرفون أن من الفقهاء في المذاهب، المذهب الحنفي كثيرا ما يطرحون مسائل ويقولون هذه يمكن أن يفتى بها بكذا بالجواز، ولكن يفتى بصورة خاصة ولا يعلن.
الشيخ أحمد بازيع ياسين:
بهذه المناسبة أحب أبين معلومة لمجمعكم الموقر بأن في بعض البلاد الإسلامية المبشرون إذا تنصر المسلم يقولون له: لا تغير اسمك ابق على اسمك الإسلامي، محمد، أحمد، عبد الله، عبد الرحمن، ولكن على عقيدة النصارى وهذا من المكائد فيجب علينا أن ننتبه لهذا.
الرئيس:
عندكم شيء من هذا يا شيخ طه ... إذن الخامس عشر يحذف.(3/1288)
الشيخ محمد عطا السيد:
ملحوظة أيضا بسيطة جدا لذكر الدكتور طه. أنا فقط أذكر ملحوظة لأنه توجد أسماء حتى في البلاد الغربية مشتركة بين الإسلام وبين المسيحية.
الرئيس:
لكن نحن حذفناها. رجائي يا شيخ نحن حذفناها.
الشيخ محمد عطا السيد:
أذكر طه فقط يا سيدي الرئيس إنما أذكره لعله إذا ما سئل في هذه المسألة أن يفتي بها، إنه فيه أسماء مثل زكريا مثلا، مثل مريم، مثل موسى مثلا، مثل هارون مثلا، فهذه الأسماء إذا سئل عنها ممكن يفتي بأنها تصير.
الشيخ طه جابر العلواني:
السادس عشر: النكاح بنية الطلاق: الأصل في الزواج الاستمرار والتأبيد وإقامة أسرة مستقرة ما لم يطرأ عليه ما ينهيه غير أن مجرد نية الفراق لا تؤثر في صحة انعقاد الزواج وترتيب آثاره الشرعية.
الرئيس:
هذا موصوف متعة. السؤال هذا فيه كلمة واحدة طبعا غير أن مجرد نية الفراق هل يكون التي أسرها الزوج في نفسه أو التي علمت الزوجة ولو لم تشترط في العقد، كأنه حديث سابق أو شيء من هذا القبيل.
الشيخ أحمد محمد جمال:
بسم الله الرحمن الرحيم..
أنا لي ملاحظة على هذه المسألة قدمتها لفضيلة الشيخ الحبيب ابن الخوجة ليعرضها على اللجنة قبل أن تبت. قلت: إن هذا سبق أن أفتى بها بعض العلماء عندنا في المملكة العربية السعودية، وكتبت فيها بحثا ودراسة مطولة وقلت: إنها نكاح متعة وإلى جانب أنها نكاح متعة هي نكاح خدعة لأن الزوج يكتم عن الزوجة أنه سيطلقها هكذا قالوا بشرط إخفاء النية عن الزوجة عن ولي أمرها، فهو نكاح متعة ونكاح خدعة أيضا واستدلت بما جاء في كتاب الحيل وفي كتاب الإيمان ((إنما الأعمال بالنيات)) وقلت: إن الله يؤاخذنا على النية حسابا وعقابا، فهذا نكاح متعة. طبعا البحث طويل فأرى أن ذلك نكاح متعة، ثم بعد ذلك وجدت أن الإمام الأوزاعي أمام أهل الشام يقول: إنه نكاح متعة بلا جدال، والفرق بين نكاح المتعة أن الزوج يجهر بنيته يتفق مع الزوجة على التأجيل وهذا يكتم النية فهذا أشد إثما لأن الذي يبين للزوجة أنه سيطلقها بعد فترة قد أوضح أمره لكن الذي يكتم نيته عنها وعن ولي أمرها فهو أشد إثما.(3/1289)
الرئيس:
يعني تبييتا للخداع.
الشيخ أحمد محمد جمال:
المهم أنا أقول: إن هذا نكاح متعة. على مذهب الإمام الأوزاعي من ناحية وأقول: إنه نكاح خدعة والبحث طويل عندي.
الرئيس:
على كل، الفتوى التي أشار إليها الشيخ أحمد، أنا أذكر أنه صار لها أعاصير شديدة والحقيقة أنه لا ينبغي أن يهول أمامنا وضع المسلمين في أمريكا. الذي يظهر أن هناك ثلة عظيمة فيهم خير وفيهم صلاح وفيهم تحمس وأنه يوجد لديهم من التقوى الشيء الكثير، ولهذا أذكر أنه من خلال تلك الفتوى التي أشار إليها الشيخ أحمد أتت رسائل لا عد لها ولا حصر وهي تلتهب باستنكار. وهم مجرد مسلمين ليسوا طلبة علم، وإنما استنكروا الفتوى ورأوا أن فيها فتحا للباب على مصرعيه. ولهذا فأنني لما تتبعت الأسئلة وعلمت مقارنة وإلا فإن في مذهب الحنابلة مقرر على أن تبييت النية إذا انتشرت في العقد لا شيء فيه لكن هذا بالنسبة للعبد الفقير، أنا لا أدين الله به ولا أعتقده ولا أقوله ولا أعرفه إنني أجبت عليه سائلًا فأنا أرى أن هذا السؤال يحذف بالكلية.
الشيخ طه جابر العلواني:
نحن هناك نفتي بل نحذر من مثل هذا النوع من الخدعة كما سماها الأستاذ جمال لكن حينما صدرت الفتوى هناك أثيرت القضية على نطاق واسع جدًّا وأصبحت حديث الطلبة والمشايخ والمساجد والصراع والتنديد إلى آخره. فهي في الحقيقة أعطت المسلمين سبيلًا كبيرًا، وفتحت عليهم باب فتنة، وأصبح ينظر إليهم وكأنهم اليهود الذين قالوا {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} فما دامت هذه أجنبية وما دمنا في بلاد الكفار فلنعمل ما نشتهي، أما بالنسبة لبلادنا فتكون لنا أخلاق أخرى فكانت حجة ضدنا من أفظع ما يمكن، لكننا في الوقت نفسه حينما نعرضها عليكم إنما كما قلت: نحن نريد الرأي الذي تتفقون عليه لنسكت هؤلاء المساكين الذين تثور الأعاصير عندهم في الفتاوى الفردية والجزئية التي لا يُعنى بدراستها ولا يؤخذ فيها لا ظرف الزمان والمكان ولا قضية الإنسان ولا المجتمعات ولا كيف تبني ولا غير هذا فالمرجو ملاحظة الأمور هذه كلها مجتمعة عندما نقول شيئًا لهؤلاء الناس.(3/1290)
الرئيس:
على كل يظهر من كلام الشيخ طه أنه لا يجوز ما أقول: لا يسوغ لكن لا يجوز لنا أن نعيد الفتوى مرة ثانية وإذا رأيتم أحد أمرين: إما أن نحذفه بالكلية أو نقول: الأصل في الزواج الاستمرار والتأبيد وإقامة أسرة مستقرة ما لم يطرأ عليها ما ينهيه ونقف عند ههنا. هل ترون هذا يحذف؟
الشيخ طه جابر العلواني:
نعم، نعم – السؤال السابع عشر: الاكتحال للمرأة، الاكتحال للرجال والنساء جائز شرعًا، أما نتف الحاجبين فيجوز إذا كان الشعر مشوهًا لخلقة المرأة.
الرئيس:
أولًا السؤال ليس شرعيًا لأنه لا أحد من المسلمين يشك في الاكتحال، في مشروعيته إلا إذا قلتم الاكتحال كونها تكتحل وتطلع للأجانب تراها ويرونها، شيء آخر.
الشيخ طه جابر العلواني:
تمام، هذا هو السؤال.
الرئيس:
لماذا لا توضحوا السؤال يا أخي؟
الشيخ طه جابر العلواني:
السؤال واضح، طال عمركم، السؤال من الجواب، قلنا اختصارا للأسئلة وللأجوبة فأنا ما أعطيت من أعطيت من السؤال إلا عنوانًا اخترناه بعبارة واحدة بناء على طلبكم وأوامركم، وما اخترنا من الجواب الأجوبة التي أعدها الشيخ قادي مجلد.
الرئيس:
لا. لا. قصدي السؤال فقط.(3/1291)
الشيخ طه جابر العلواني:
سيدي كل سؤال بخمسة أو ستة أسطر تقريبًا من هذه مشروح ومبين ولكن أنا لم آت إلا العنوانين كما طلبتم قلتم لي: اختصر وأتنا بالعنوان وبالحكم فقط.
الرئيس:
لكن في الصياغة الأخيرة هل ستعيدون صياغة السؤال أو هي كذا؟
الشيخ طه جابر العلواني:
طبيعي ما أعلنا من البداية سنعيد العلة والدليل.
الرئيس:
خلاص، الثامن عشر.
الشيخ طه جابر العلواني:
ماشي هذا؟
الرئيس:
ماشي والله أنا أرى ما هو فيه شيء.. ترون فيه شيئًا يا مشايخ؟
الشيخ طه جابر العلواني:
السؤال الثامن عشر: المصافحة بين الرجال والنساء: مصافحة الرجل المرأة.
الرئيس:
أريد أن أسأل سؤالا يا شيخ. لما سألتم عن الاكتحال فيه أحد أثار الاكتحال يقول: ما هو حكمه؟
الشيخ محمد سالم بن عبد الودود:
هم يقولون هذه المرأة إذا اكتحلت وزججت حاجبها أو زادت بعض التصليحات هل تدخل الجامعة أو لا؟
الشيخ مصطفى الزرقاء:
لو سمحت سيدي الرئيس بالنسبة لصيغة الجواب يعني أنا لا أرى أن يقال بهذا الشكل بل ينبغي أن يقال في صلب الجواب: نتف شيء منه، لأن هناك عادة.(3/1292)
الرئيس:
هذا طيب جزيت خيرا يا شيخ.
الشيخ رجب التميمي:
سيدي الرئيس أنا لي كلمة في هذا الموضوع. هذا السؤال مجمل الاكتحال للمرأة جائز في بيتها. أما أن تخرج إلى الشارع وتبدي الزينة وتبدي الاكتحال فهذا أمر ممنوع. أما الاكتحال في البيت لا شيء فيه، أما أن تتكحل والكحل الآن يا فضيلة الأستاذ ليس كحلا مثل الكحل العادي تضع عدة أصناف على العيون مع الكحل وتخرج إلى الشارع.
الشيخ طه جابر العلواني:
الشيخ تميمي لو لم يدخل في الموضوع سنثير موضوع اللحية، حلق اللحية بالنسبة للرجل.
الأمين العام:
السؤال على غير الكحل غير وارد.
الرئيس:
ماذا تقول يا شيخ طه؟
الشيخ طه جابر العلواني:
بعد ذلك سيجيء سؤال حول حلق اللحية بالنسبة للرجل فأرجو الشيخ تميمي أن يفتي في هذا.
الرئيس:
والله، العهدة عليك، أنت المفروض أنك سألت عنه. وفي الواقع بهذه المناسبة أرجو من أصحاب الفضيلة أن تتسع صدورهم شيئا، ولو أن الشيخ طه لم يثر هذا الموضوع ما أثرته. الحقيقة أنا أحب أن أقول كلمة مع اعتذاري البالغ من أصحاب الفضيلة. الحقيقة أن الإنسان العاقل لا يعمل شيئا إلا أنه يعرف أن فيه مصلحة، هذا على طول الخط شيء معروف، المسلم لا يقدم قدما ويؤخر إلا إذا عرف هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ففي الحقيقة حلق اللحية عقلا ماذا المعنى منه؟ واحد يسلمها كل صباح ما هو المعني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أعفوا اللحى، وفروا اللحى، أرخوا اللحى)) ، الأحاديث متكاثرة في هذا عن خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذي عليه المحققون هو وجوب توفير اللحية، وأقل الأقوال فيها هو السنية والاستحباب، والذي عليه جماهير أهل العلم والمحققين هو وجوب إعفائها لأن الأوامر صحيحة صريحة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل صحابته رضي الله تعالى عنهم.(3/1293)
ففي الحقيقة أنه بالنسبة لمجمعنا هذا ونحن الرجال نفتي ونوقع عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه أنا أهيب بإخوتي لأن كل واحد منا مكمل للآخر والنصيحة متعينة فيما بيننا، فإنه ينبغي أن نظهر بالمظهر الذي نأمل فيه رضوان الله سبحانه وتعالى علينا وأن يكون لنا صفة. لا قصدي أننا نحن نظهر بها أمام الناس، ولكن أن ندل على الله بهدينا قبل أن ندل عليه بأقوالنا وفتاوينا. وشكرا. السؤال الثامن عشر يا شيخ.
الشيخ محمد عطا السيد:
سيدي الرئيس. أنا في نفسي شيء في الجزء الثاني أخذ شيء من الحاجبين فيجوز. أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما نهى عن هذه المسألة قال: ماذا يلفت النظر؟ هل هي تفعل ذلك عبثا؟ إن كانت تفعل ذلك لا تفعلن ذلك بغية التجمل.
الرئيس:
أحسنت إذن الجواب واضح من كلامك يا شيخ. هن يفعلن هذا بغية التجمل على ما يردنه من التجمل لكن لم يزلنه لأنه مشوه فهنا قيل لأنه مشوه.
أريد أسألك سؤالا يا شيخ، الآن الإنسان إذا صار له سن زائدة، الإنسان فوق 16 وأسفل وصار فيه 17 يغير خلق الله، إذا صار للمرأة يعني في وجهها شعر لها لحية شيء من هذا القبيل يعني أظن الموضوع ما فيه شيء.
الشيخ محمد عطا السيد:
حتى يفتح المجال لكل امرأة أنها تظن بأن وضع حاجبيها وضع غير جميل ولذلك إذا أفتينا بهذه الفتيا.
الرئيس:
مشوه إذا كان مشوها لخلقه المرأة.
الشيخ محمد عطا السيد:
إذا كان مشوها لخلقة المرأة هذا من باب الضرورة لا شك. لكن أنا ما زلت أعتقد أن هذه الصياغة نفسها، أنا ضد. أما نتف شيء من الحاجبين فيجوز.(3/1294)
الشيخ على السالوس:
نأتي بالتحريم أولا ثم بعد ذلك الاستثناء، يعني المنع أولا ثم نقول الاستثناء.
الرئيس:
هذا طيب، يقال: أما نتف شيء من الحاجبين فلا يجوز إلا إذا كان الشعر مشوها لخلقه المرأة.
الشيخ محمد عطا السيد:
ممكن نقول: إلا للضرورة.
الشيخ أحمد محمد جمال:
أقول هذا الموجود في النص: أما نتف شعر الحاجبين فيجوز إذا كان الشعر مشوها لخلقة المرأة.
الرئيس:
نقول: فلا يجوز إلا إذا كان.. هذا طيب. جزاك الله خير يا شيخ عطا.
الشيخ طه جابر العلواني:
بارك الله فيك. السؤال الثامن عشر: المصافحة بين الرجال والنساء:
مصافحة الرجل المرأة الأجنبية البالغة بغير حائل ممنوعة شرعا.
الرئيس:
هذا الجواب ماشي لكن من أين أتيتم من غير حائل؟
الشيخ محيي الدين قادي:
قال بهذا من فقهاء المالكية وهو الشيخ يوسف الصفتي والخرشي أيضا، كل واحد منهما نقل، قال بغير حائل، لكن لم ينص على أنها بالحائل جائزة. في المذهب الشافعي وفي حاشية الشيخ سليمان الجمل على شرح المنهج قال: إن المصافحة.. بعد كلام طويل خلص إلى أن مصافحة الرجل للمرأة بحائل جائزة. الأصل في ذلك أنا بقيت متوقفا، الأصل في ذلك أن الحديث الذي رواه الإمام البخاري فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لا أصافح النساء)) وفيها أنه صافح النساء ويده في ثوبه، الروايات في البخاري كلها الذين قالوا هذا من الشافعية اعتمدوا على هذه الرواية. والأمر مطروح.(3/1295)
الرئيس:
قصدك الحديث الذي في البخاري في حديث البيعة، لا أبدأ. هذا ليس هو، الذي في حديث البيعة أنه كان يمد يده بدون مصافحة، هذا واضح لكن أنت غاب عنك النص.
الشيخ محيي الدين قادي:
وهناك رواية أخرى لابن حجر.
الرئيس:
لا، لا، ليس فيه روايات.
الشيخ وهبة الزحيلي:
موجودة يا سيدي هذا دليل الشافعية.
الرئيس:
نص الرواية ما هو؟
الشيخ محيي الدين قادي:
على أنه كان يصافح النساء وفي يده ثوبه.
الرئيس:
الآن حديث البيعة الصحيح ((أنا لا أصافح النساء ما قولي لامرأة ألا كقولي لمائة امرأة)) تقول: إنه يصافحها.
الشيخ محمد سالم عبد الودود:
طرح التدريب قول لابن ولي الدين العراقي ابن شرعة نص على بطلان تلك الروايات التي تذكر أن عمر كان يصافحهن وأنهن يغمسن أيدهن في ماء ويغمس الرسول يده فيها وكذا هذا من عندي أن الحديث نص هذا الحديث ((أنا لا أصافح النساء وإنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة)) .
الرئيس:
الشيخ محمد حامد رحمه الله تعالى له رسالة منشورة لا بد أنكم اطلعتم عليها ورأيتموها، الحقيقة حرر فيها الروايات وجمع فيها ألفاظ السنن ويتأكد الموضوع في حرمة مصافحة المرأة الأجنبية فأنا أرى أنه يقال: مصافحة الرجل المرأة الأجنبية البالغة ممنوع شرعا فقط ويترك الباقي، المهم: بغير حائل، تحذف يا شيخ طه إذا وضعت حائل تسأل في ذلك الوقت. السؤال التاسع عشر.(3/1296)
الشيخ طه جابر العلواني:
السؤال التاسع عشر: الصلاة في الكنائس، استئجار الكنائس للصلاة لا مانع عند الحاجة وتجنب الصلاة إلى التماثيل والصور وتستر بحائل إذا كانت باتجاه القبلة.
السؤال العشرون: ذبائح الكتابيين جائزة شرعًا إذا ذكيت بالطريقة المقبولة شرعًا ولم يذكر غير اسم الله عليها، ويوصي المجمع بدارسة متعمقة للموضوع في دورة قادمة.
الشيخ محمد عبده عمر:
السؤال الأول: لو سمحت يا سيادة الرئيس، هذا السؤال التاسع عشر ما الداعي إلى استئجار الكنائس للصالة، ممكن نستأجر إن كان ولا بد مكانًا ليس كنيسة، بيتًا أو مصلى، لكن ما الحاجة إلى أن نستأجر أيضًا مكان كنيسة، إذا كان لا بد من الاستئجار نستأجر مكانًا آخر أنزه وأبعد من الشبهة من الكنيسة.
الرئيس:
ما هو الذي يدعو يا شيخ إلى استئجار الكنيسة، الشيخ طه؟
الشيخ طه جابر العلواني:
الذي يدعو عدم وجود أماكن أن الكنائس، غالبًا تتبرع الكنيسة لأداء الصلاة، فيها قاعات مناسبة لأداء الصلاة فإن وجدوا أماكن في الجامعات استأجروا تلك الأماكن أو استأذنوا الكلية أو الجامعة فيها المكان المخصص وإلا إذا كان يوجد مكان في الكنيسة صلوا فيه.
الرئيس:
طالما أنه قيل عند الحاجة فعلى كل الذي ترون فيه الخير، هل ترون يمشي الجواب لا؟
السيخ محمد عبده عمر:
أنا متحفظ.
الشيخ رجب التميمي:
أرى أن تشطب كلمة استئجار الصلاة في كذا، يعني نعطي المسلمين الحق أو الجواز أن يستأجروا وهذا لا يجوز.(3/1297)
الرئيس:
فيه سؤال يا شيخ طه أنا بدا لي شيء آخر، ما هو الداعي للاستئجار، لأجل ماذا؟
الشيخ طه جابر العلواني:
صلاة الجمعة.
الرئيس:
لا يصلون الجمعة يا أخي.
الشيخ طه جابر العلواني:
لا يصلون الجمعة!! هو هذه الرابطة الوحيدة بينهم التي نستطيع أن نجمعهم فيها ونجعلهم يلتقون مع بعض ويتذكرون بأنهم مسلمون والحمد لله ويخطب لهم ويوعظون وينصحون إلى آخره فلو فرطنا هذا العقد يصبح من المتعذر.
الرئيس:
يعني لا لأجل إقامة صلاة الجمعة؟
الشيخ طه جابر العلواني:
يعني هي الجمعة حقيقة وسيلة باعتبار ذهن المسلم.
الرئيس:
شوف يا شيخ، إذا كانت لأجل إقامة صلاة الجمعة أو لأجل إقامة صلاة جماعة أو لأجل إقامة صلاة جمعة فأنا لا أشك أنه لا يكلف الله عباده إذا لم يجدوا مكانًا أن يستأجروا مكانًا يصلون فيه لكن إذا كان فيه مصالح بالنسبة لهذه البلدان مثل ما تفضلت لربط المسلمين لربط الشباب، لجمعهم، لتذكيرهم، لتحقيق لقاء بينهم، هذا لا شك يعطي..
الشيخ طه جابر العلواني:
شيخنا ابن باز حفظه الله ورعاه أرسل لنا فتوى مكتوبة موقعة من عنده بأن لا شيء في هذا لو عرض فيها لأدلة كثيرة من آثار ومن بعض الأحاديث الموقوفة.(3/1298)
الرئيس:
الآثار كثيرة يا شيخ في عمل الصحابة رضي الله تعالى عنهم في صلاة الكنيسة، لكن المسألة مسألة استئجار، أنا أقول إذا كان الاستئجار لأجل الصلاة فقط، فهذا يعني لنا جواب وتعرض المسألة من هذه الناحية أما إذا كان الاستئجار هو بالنسبة لهذه البلاد ليس هناك ملتقى يلتقي فيه المسلمون ويجتمعون ويجري وعظهم وتذكيرهم وتبصيرهم في دينهم فعلى كل يظهر لي أن الجواب ماشي.
الشيخ محمد عطا السيد:
أوافق على النقطة الثانية التي ذكرتها أنه إذا كان للصلاة لا داعي واجب أن أؤكد مرة ثانية أنه ليست هنالك الآن في الولايات المتحدة أية حاجة تدعو إلى هذه المسائل إطلاقًا، وكيف يا سيدي الرئيس، نحن إذا مررنا بكنيسة للنصارى وخاصة أن فيها تماثيل نتعوذ ونحمد الله سبحانه وتعالى الذي هدانا وهدى أبناءنا فكيف نصل إلى الدرجة التي نسمح فيها لأبناءنا أن يدخلوا كنيسة ويغطوا التماثيل لكي يصلوا وليس هنالك حاجة ولذلك أرى يا سيدي الرئيس أبدًا ليس هنالك داع.
الشيخ طه جابر العلواني:
يبدو لي سيادة الرئيس أن الدكتور عطا لطول إقامته في السودان نسي أمريكا ونسي طول الفترة التي قضاها هناك وأصبح يعتقد أن أمريكا هي السودان وبلد مسلمين وأتمنى من الله لو حدث هذا.
الشيخ محمد عطا السيد:
ما أتذكر مرة واحدة أننا اضطررنا إلى استئجار كنيسة قط وصلينا العيد خمسمائة نسمة.
الشيخ طه جابر العلواني:
هذه يا سيد عطا لا افترضناها افتراضًا ولا جئنا لنزعج الأدمغة المباركة فيها وإنما أتينا بها لأنها تعرض علينا ويطلب منا جواب.
الشيخ عبد الله إبراهيم:
شكرًا فضيلة الرئيس.. مع الأخذ في الاعتبار الضرورة فإني أرى أن استئجار الكنيسة للصلاة أو مثلها أرى أن فيه مكسبًا للإسلام، فإننا يمكن أن نقيم شعائرنا ثم نرفع صوت الإسلام صوت الأذان من على الكنيسة بدل أن نترك لهم يدقون الأجراس. والله أعلم.(3/1299)
الرئيس:
شكرًا. لكن لاحظ يا شيخ طه أن الجواب قال: استئجار الكنائس للصلاة فيظهر أن السؤال إنما ورد عن الصلاة ذاتها، لكن هل في السؤال التبريرات التي ذكرت؟
الشيخ طه جابر العلواني:
قلنا: إنه لا يجد المسلمون سواها وتؤجر لهم بمبالغ زهيدة جدًا وأحيانًا تقدم تبرعًا تقدمها الكنيسة.
الرئيس:
لا. لا. قصدي ما هو أنه لا يجد المسلمون سواها وأنهم يتبرعون لكن أنا قصدي الأغراض التي أشرت إليها.
الشيخ طه جابر العلواني:
أنا أحب أن أقول لأخ الشيخ عطا إنه للآن في واشنطن العاصمة وحتى معظم السفارات العربية والإسلامية تحيط بها يؤدي المسلمون صلاة الجمعة في دور أرضي في كنيسة، وفي كنيسة جورج واشنطن في الجامعة واشنطن ديسي.
الشيخ رجب التميمي:
الواقع أنه للمسلمين مساجدهم، وللنصارى كنائسهم يقيمون صلاتهم وشعائرهم، نحن نستطيع في أمريكا أن نأخذ قاعة أو ناديًا نصلي فيه. أما في الكنيسة هذا أمر يكون له سابقة خطيرة، لأننا نعظم الكنيسة بصلاتنا فيها، وهذا أمر محظور، صلاة المسلم في الكنيسة لا شيء فيه أما أن نستأجرها لنقيم صلاة جماعة أو صلاة جمعة هذا أمر محظور شرعًا أما واشنطن ففيها مسجد وأنا صليت فيه جماعة وخطبت في المسجد وصليت الجمعة فيه في واشنطن بالذات، أما أن نتخذ الوسيلة مكانًا لأن الصلاة عبادة نتخذها للعبادة لا يجوز أن يتخذ مكان العبادة مكانًا للازدواج بين عبادتين، ولا بين دينين، نحن مسلمون ومكان عبادتنا المسجد، الكنيسة للنصارى والكنس لليهود غدًا تقول: أود أستأجر كنيسًا يهوديًا تعطي الوسيلة لليهود لتخلص عيشتنا، الآن المسجد الإبراهيمي في الخليل ثلاثة أرباعه اتخذه اليهود كنيسًا وقمنا وقاومنا وقلنا: لا يجوز ازدواج العبادة في المساجد وللمسيحيون كنائسهم ولليهود كنسهم وللمسلمين مساجدهم.(3/1300)
الشيخ طه جابر العلواني:
إذا تسمح لي أن أحببتم تسحب السؤال وتكفينا فتوى الشيخ عبد العزيز ابن باز حفظه الله والإمام الخوري.
الرئيس:
يا شيخ طه نرجيه وأعطونا السؤال العشرون.
الشيخ طه جابر العلواني:
العشرون: ذبائح الكتابيين جائزة شرعًا إذا ذكيت بالطريقة المقبولة شرعًا لم يذكر غير اسم الله عليها ويوصي المجمع بدراسة متعمقة للموضوع في دورة قادمة.
الشيخ خليل الميس:
إعادة صياغة فقط يعني ذبائح الكتابيين جائزة شرعًا إذا استوفيت الشرائط.
الشيخ طه جابر العلواني:
نحن قلنا: إذا ذكيت يا شيخ خليل، الله يحفظك.
الأمين العام:
نقطة فنية فقط. السؤال العشرون ذبائح الكتابيين جائزة شرعًا إذا ذكيت بالطريقة المقبولة شرعًا لديهم، ولكن قولكم: ويوصي المجمع بدارسة معمقة، ليس هذا مكانه لأن قضية التوصيات سوف تكون وحدها وقضية القرارات تكون وحدها فأنا أفضل أن نترك قضية التوصيات، وشكرًا.
الشيخ طه جابر العلواني:
أصر إخواني في اللجنة على وضع هذا.
الأمين العام:
خلاص أنا فقط بينت الوجه التنظيمي.(3/1301)
الرئيس:
هو يعني لا يخفاكم أن المسألة حاصل بها بحوث ولا يخفاكم خلافات وفيها أخذ وفيها رد وفيها الشيء الكثير.
الشيخ طه جابر العلواني:
السؤال الحادي والعشرون: في حضور حفلات تقدم فيها الخمور لا ينبغي للمسلم أو المسلمة حضور مجالس المعاصي والمنكرات.
الرئيس:
فقط لا ينبغي!! لا يجوز، لا يجوز للمسلم أوالمسلمة حضور مجالس المعاصي والمنكرات {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
الشيخ طه جابر العلواني:
تفضلون: يحرم مثلًا؟
الرئيس:
لا يجوز.
الشيخ طه جابر العلواني:
سيادة الرئيس، أنا لا يهمني شيء من هذه الأسئلة الحمد لله لا أقارف شيئًا من هذه الأمور، هذه أمور تهم غيري.
السؤال الثاني والعشرون: في تقدير الوقت للصوم والإفطار: إن الإفطار التي فيها نهار متميز ولو طويلًا وليل متميز ولو قصيرًا فلكل منهما حكمه في العبادات ومنها الصلاة والصيام، وعلى كل مسلم أن يعقد نية الصيام ليلًا فإن تعرض لخطر على حياته أو صحته جاز له الفطر ووجب عليه القضاء.
الرئيس:
والله يا مشايخ أنا أحب أن أقول لكم إن السؤال هذا سبق أن درس في مجمع الفقه الإسلامي مرتين في مكة. وصدر قرار ينقض قرارًا. وأذكر أن أحد القرارين لا أدري الأول أو الأخير لأني كنت متوقفًا في القرار، أحد القرارين الأول أو الأخير، على ما بلغنا وإلا أنا لم أر شيئًا جاءت استفساراته يقارن هذا يتعذر تنفيذه وهذا يتعذر تطبيقه وشيء من هذا القبيل فالمهم أنهم وصل لهم القرار الأخير بعد القرار الأخير ما أدري ماذا تم. فأنا هل ترون قرار مجمع مكة هل وصلكم أم لا؟(3/1302)
الشيخ طه جابر العلواني:
لا!
الرئيس:
لأن نفس اللجنة التي جاءتنا هي من أمريكا من عندكم، أليس من عندكم؟
الشيخ طه جابر العلواني:
لا!
الأمين العام:
فيه فتاوى كثيرة بعكس هذا، واعتمد الفقهاء أوجهًا أخرى وقالوا: يقاس على المحل الأقرب اعتدالًا، ومنهم من قال بأنه يفتى بالصوم والفطر على مكة أو على المدينة وهناك من قال يعتمد الخط العرض 45 أو 48، بحيث القضية وقع فيها تداول النظر بين جمهور من الفقهاء قديمًا وحديثًا، حتى في بعض الفتاوى التي صدرت، في الفتاوى الهندية أشير إلى شيء من ذلك. فأنا أتوقف لا بأس بإعادة النظر في هذا الموضوع فيه تنفير للناس.
الرئيس:
على كل قرار مجمع مكة موجود هل تحبون نقرأه؟ أو أنا في الحقيقة، أنا بدون مؤاخذة أعرف أن الموضوع ما رايح ينتهي بهذه البساطة أمامنا هذا الرأي، وأمامنا قرار مجمع مكة، يعني المسألة تتطلب شيئًا من التروي فأنا أقول: طالما فيه قرار من مجمع مكة وأذكر للشيخ طه أن القرار الثاني هو بعد هذا، فطالما أن فيه قرارًا فهو الآن يعالج الوضع بصفة حاضرة، ويكفي لما نكاثر القرارات على جهة يتضاربون ونبلبل أفكارهم.
الشيخ أحمد محمد جمال:
إذا سمحت ما هو قرار مجمع مكة؟
الرئيس:
والله يا شيخ القرار الأول هنا والقرار الثاني صدر في الدورة الماضية هذه.
الشيخ أحمد محمد جمال:
نريد أن نسمعه.(3/1303)
الرئيس:
ليس موجودًا عندنا القرار الأول موجود هنا.
الأمين العام:
أنا أقرأ عليكم ملخص القرار الأول: تنقسم الجهات التي تقع على خطوط العرض ذات الدرجات العالية إلى ثلاث:
الأولى: تلك التي يستمر فيها الليل أو النهار أربعًا وعشرين ساعة فأكثر بحسب اختلاف فصول السنة، ففي هذه الحال تقدر مواقيت الصلاة والصيام وغيرهما في تلك الجهات على حسب أقرب الجهات إليها مما يكون فيها ليل ونهار متمايزان في ظرف أربع وعشرين ساعة.
الثانية: البلاد التي لا يغيب فيها شفق الغروب حتى يقع الفجر بحيث لا يتميز شفق الشروق من شفق الغروب، ففي هذه الجهات يقدر وقت العشاء الآخرة والإمساك في الصوم وقت صلاة الفجر بحسب آخر فترة يتمايز فيها الشفقان.
الثالثة: تلك التي يظهر فيها الليل والنهار خلال أربع وعشرين ساعة وتتمايز فيها الأوقات إلا أن الليل يطول فيها فترة من السنة طولًا مفرطًا ويطول النهار في فترة أخرى طولًا مفرطًا. ومن كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع الفجر وغروب الشمس إلا أن نهارها يطول جدًا في الصيف ويقصر في الشتاء وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعًا لعموم قوله تعالى {أَقِمِ الصَّلَاةَ} وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ولما ثبت عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلًا سأله عن وقت الصلاة ثم إلى غير ذلك من الأحاديث، هذا بالنسبة لتحديد أوقات صلاتهم، وأما بالنسبة لتحديد أوقات صيامهم شهر رمضان، فعلى المكلفين أن يمسكوا كل يوم منه عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في بلادهم ما دام النهار يتمايز في بلادهم من الليل وكان مجموع زمانهما أربعًا وعشرين ساعة ويحل لهم الطعام والشراب والجماع ونحوه في ليلهم فقط وإن كان قصيرًا؛ فإن شريعة الإسلام عامة للناس في جميع البلاد قال تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} .(3/1304)
ومن عجز عن إتمام صوم يوم لطوله أو علم بالأمارات أو التجربة أو إخبار طبيب أمين حاذق أو غلب على ظنه أن الصوم يفضي إلى مرضه مرضًا شديدًا أو يفضي إلى زيادة مرضه إلى آخره، تمكن فيه القضاء قال تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} هذا خلاصة ما جاء في القرار الأول.
الرئيس:
ثم جاء بعده قرار فيه نوع اختلاف مع هذا.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
أقترح تأجيل هذا البحث لأن هذه الفتوى تحتاج إلى كتابة أبحاث فيها.
الرئيس:
على كل أنا أقول تؤجل فهل ترون تأجيلها؟ الثالث والعشرون.
الشيخ طه جابر العلواني:
في توحيد الشهور القمرية: قال فيه يؤخذ فيه بقرار المجمع.
الرابع والعشرون: يجوز للمسلم العمل المباح شرعًا في دوائر ومؤسسات حكومات غير إسلامية إذا لم يؤد عمله ذلك إلى إلحاق ضرر بالمسلمين أو كان فيما ينفعهم.
الرئيس:
يا شيخ طه إذا رأيتم أنه: يقول ومؤسسات حكومية غير إسلامية.
إذا لم يؤد عمله ذلك إلى إلحاق ضرر بالمسلمين، يعني معناه من باب أولى إذا كان فيه ما ينفعهم، فتحذف هذه.
الشيخ طه جابر العلواني:
الخامس والعشرون والسابع والعشرون: لا يجوز للمسلم تصميم أو بناء معابد الكفار أو الإسهام في ذلك ماليًا أو فعليًا.
السؤال السادس والعشرون: للزوجة والأولاد غير القادرين على الكسب أن يأكلوا للضرورة من كسب الزوج المحرم شرعًا كبيع الخمر والخنزير وغيرهما.(3/1305)
الشيخ محمد عبده عمر:
بسم الله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
سيدي الرئيس بالنسبة للسؤال السابق المتعلق بصلاة المسلمين بالكنائس أو استئجار المسلمين للصلاة في هذه الكنائس إذا كان مجمعكم الموقر يجيز هذه المسألة فإني متحفظ وعللت بالنسبة لاستئجار الكنائس والصلاة فيها، لأنه طالما المسلمون يملكون إيجارًا ويملكون نقودًا ممكن يستأجرون مكانًا آخر ناديًا كما قال الشيخ التميمي، ناديًا أو بيتًا أو أي مكان آخر لا شبهة فيه فيصلون فيه لكن دفع إيجار.
الرئيس:
أصلًا هذه يا شيخ، أوقفت، وطالما أنها أوقفت انتهينا منها.
الشيخ محمد عبده عمر:
أوقفت. شكرًا.
الشيخ طه جابر العلواني:
عفوًا باقي الثامن والعشرون كأن الورقة لم تصور لأصحاب الفضيلة.
الرئيس:
فعلًا هي ثمانية وعشرون سؤالًا باقي سؤالان.
الشيخ طه جابر العلواني:
لا باقي سؤال واحد عفوًا لأنه أخذنا الخامس والعشرين والسابع والعشرين معًا ثم أتينا بالسادس والعشرين بقي الثامن والعشرون والسؤال: ما حكم شراء منزل السكنى وسيارة الاستعمال الشخصي وأثاث المنزل بواسطة البنوك، والمؤسسات التي تفرض ربحًا محددًا على تلك القروض لقاء رهن تلك الأصول، علمًا بأنه في حالة البيوت والسيارات والأثاث عمومًا يعتبر البديل عن البيع هو الإيجار بقسط شهري يزيد عن قسط الشراء في بعض الأحيان الذي يستوفيه البنك وقد أجابت اللجنة أعدت اللجنة على هذا السؤال جوابًا بعدم الجواز.(3/1306)
الرئيس:
هذا صحيح، جزاكم الله خيرًا وهو الذي اتفق عليه الباحثون كلهم، الباحثون الأربعة وبهذا تنتهي الجلسة وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الشيخ وهبة الزحيلي:
ألا يجب أن نعود إلى الأسئلة الأولى التي أرجئت؟
الرئيس:
لا! ما عندنا استعداد، الأول والثاني والتي كتبنا عليها ترجى، ترجى لأنه والحمد لله حصل الذي فيه الخير إن شاء الله.
الأمين العام:
أصحاب الفضيلة بعد شكركم على تجشمكم الأتعاب الكثيرة في دراسة هذه القضايا التي عرضت عليكم فإني أريد أن أذكركم بأن الجلسة الصباحية غدًا هي جلسة مغلقة لا يشهدها إلا الأعضاء العاملون، وشكرًا. الساعة الثامنة والنصف كالعادة.(3/1307)
الأجوبة التي صادق عليها المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ما أقره المجمع من أجوبة على الاستفسارات (1)
السؤال الثالث:
ما حكم زواج المسلمة بغير المسلم خاصة إذا طمعت في إسلامه بعد الزواج حيث تدَّعي مسلمات كثيرات أنه لا يتوفر لهن الأكفاء من المسلمين في غالب الأحيان، وأنهن مهددات بالانحراف أو يعشن في وضع شديد الحرج؟
الجواب:
زواج المسلمة بغير المسلم ممنوع شرعًا بالكتاب والسنة والإجماع، وإذا وقع فهو باطل، ولا تتربت عليه الآثار الشرعية المترتبة على النكاح، والأولاد المولودون عن هذا الزواج أولاد غير شرعيين، ورجاء إسلام الرجال لا يغير من هذا الحكم شيئًا.
السؤال الرابع:
ما حكم استمرار الزوجية والمعاشرة بين زوجة دخلت الإسلام وبقي زوجها على الكفر ولها منه أولاد تخشى عليهم الضياع والانحراف، ولها طمع في أن يهتدي زوجها إلى الإسلام لو استمرت العلاقة الزوجية بينها وبينه؟
وما الحكم فيما إذا لم يكن هناك طمع في إسلامه، ولكنه يحسن معاشرتها وتخشى لو تركته ألا تعثر على زوج مسلم؟
الجواب:
بمجرد إسلام المرأة وأبى الزوج الإسلام ينفسخ نكاحهما، فلا تحل معاشرته لها، ولكنها تنتظر مدة العدة فإن أسلم خلالها عادت إليه بعقدها السابق.
أما إذا انقضت عدتها ولم يسلم فقد انقطع ما بينهما فإن أسلم –بعد ذلك- ورغب العودة إلى زواجهما عاد بعقد جديد. ولا تأثير لما يسمى بحسن المعاشرة في إباحة استمرار الزوجية.
__________
(1) أرجئ اتخاذ القرار بالنسبة للأسئلة 1، 2، 7، 15، 22(3/1308)
السؤال الخامس:
ما حكم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين، حيث لا يسمح للدفن خارج المقابر المعدة لذلك ولا توجد مقابر خاصة بالمسلمين في معظم الولايات الأمريكية والأقطار الأوروبية؟
الجواب:
أن دفن المسلم في مقابر غير المسلمين في بلاد غير إسلامية جائز للضرورة.
السؤال السادس:
ما حكم بيع المسجد "إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه" فكثيرًا ما يشتري المسلمون منزلًا ويحولونه مسجدًا فإذا انتقلت غالبية المسلمين من المنطقة لظروف العمل هجر المسجد أو أهمل، وقد يستولي عليه آخرون، ومن الممكن بيعه واستبداله بمسجد يؤسس في مكان فيه مسلمون، فما حكم هذا البيع أو الاستبدال؟ وإذا لم تتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر فما أقرب الوجوه التي يجوز صرف ثمن المسجد فيها؟
الجواب:
يجوز بيع المسجد الذي تعطل الانتفاع به، أو هجر المسلمون المكان الذي هو فيه أو خيف استيلاء الكفار عليه، على أن يُشترى بثمنه مكان آخر يتخذ مسجدًا.
السؤال الثامن:
بعض النساء أو الفتيات تضطر من ظروف العمل أو الدراسة إلى الإقامة بمفردهن، أو مع نسوة غير مسلمات، فما حكم هذه الإقامة؟(3/1309)
الجواب:
لا يجوز للمرأة المسلمة أن تقيم وحدها شرعًا في بلاد الغربة.
السؤال التاسع:
كثيرات من النساء هنا، يذكرن أن أقصى ما بإمكانهن ستره من أجسادهن هو ما عدا الوجه والكفين، وبعضهن تمنعهن جهات العمل من ستر رؤوسهن فما أقصى ما يمكن السماح بكشفه من أجزاء جسم المرأة بين الأجانب في محلات العمل أو الدراسة؟
الجواب:
أن حجاب المرأة المسلمة –عند جمهور العلماء- ستر جميع بدنها عدا الوجه والكفين إذا لم تخش فتنة، فإن خيفت فتنة يجب سترهما أيضًا.
السؤال العاشر والحادي عشر:
يضطر الكثير من الطلاب المسلمين إلى العمل في هذه البلاد لتغطية نفقات الدراسة والمعيشة لأن كثيرًا منهم لا يكفيه ما يرده من ذويه مما يجعل العمل ضرورة له لا يمكن أن يعيش بدونه، وكثيرًا من لا يجد عملًا إلا في مطاعم تبيع الخمور أو تقدم وجبات فيها لحم خنزير وغيره من المحرمات بحكم عمله في هذه المحلات؟
وما حكم بيع المسلم للخمور والخنازير، أو صناعة الخمور وبيعها لغير المسلمين؟ علمًا بأن بعض المسلمين في هذه البلدان قد اتخذوا من ذلك حرفة لهم.
الجواب:
للمسلم إذا لم يجد عملًا مباحًا شرعًا العمل في مطاعم الكفار بشرط أن لا يباشر بنفسه سقي الخمر أو حملها أو صناعتها أو الاتجار بها، وكذلك الحال بالنسبة لتقديم لحوم الخنازير ونحوها من المحرمات.
السؤال الثاني عشر:
هناك كثير من الأدوية تحوي كميات مختلفة من الكحول تتراوح بين 1 % و25 % ومعظم هذه الأدوية من أدوية الزكام واحتقان الحنجرة والسعال وغيرها من الأمراض السائدة، وتمثل هذه الأدوية الحاوية للكحول ما يقارب 95 % من الأدوية في هذا المجال مما يجعل الحصول على الأدوية الخالية من الكحول عملية صعبة أو متعذرة، فما حكم تناول هذه الأدوية؟(3/1310)
الجواب:
للمريض المسلم تناول الأدوية المشتملة على نسبة من الكحول إذا لم يتيسر دواء خالٍ منها، ووصف ذلك الدواء طبيب ثقة أمين في مهنته.
السؤال الثالث عشر:
هناك الخمائر والجلاتين توجد فيها عناصر مستخلصة من الخنزير بنسب ضئيلة جدًا فهل يجوز استعمال هذه الخمائر والجلاتين؟
الجواب:
لا يحل للمسلم استعمال الخمائر والجلاتين المأخوذة من الخنازير في الأغذية. وفي الخمائر والجلاتين المتخذة من النباتات أو الحيوانات المذكاة شرعًا غنية عن ذلك.
السؤال الرابع عشر:
اضطر معظم المسلمين إلى إقامة حفلات الزفاف لبناتهم في مساجد، وكثيرًا ما يتخلل هذه الحفلات رقص وإنشاد أو غناء، ولا تتوفر لهم أماكن تتسع لمثل هذه الحفلات فما حكم إقامة هذه الحفلات في المساجد؟
الجواب:
يندب عقد النكاح في المساجد، ولا تجوز إقامة الحفلات فيها إذا اقترنت بمحظور شرعي كاختلاط الرجال بالنساء وتبرجهن والرقص والغناء.
السؤال السادس عشر:
ما حكم زواج الطالب أو الطالبة المسلمة زواجًا لا ينوي استدامته بل النية منعقدة عنده على إنهائه بمجرد انتهاء الدراسة والعزم على العودة إلى مكان الإقامة الدائم، ولكن العقد يكون –عادة- عقدًا عاديًا وبنفس الصيغة التي يعقد بها الزواج المؤبد، فما حكم هذا الزواج؟
الجواب:
الأصل في الزواج الاستمرار والتأبيد وإقامة أسرة مستقرة ما لم يطرأ عليه ما ينهيه.
السؤال السابع عشر:
ما حكم ظهور المرأة في محلات العمل أو الدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبيها وتكتحل؟(3/1311)
الجواب:
الاكتحال للرجال والنساء جائز شرعًا. أما نتف بعض الحاجبين فلا يجوز إلا إذا كان الشعر مشوهًا لخلقة المرأة.
السؤال الثامن عشر:
بعض المسلمات يجدن حرجًا في عدم مصافحتهن للأجانب الذين يرتادون الأماكن التي يعملن أو يدرسن فيها، فيصافحن الأجانب دفعًا للحرج، فما حكم هذه المصافحة؟
وكذلك الحال بالنسبة لكثير من المسلمين الذين تتقدم إليها نساء أجنبيات مصافحات، وامتناعهم عن مصافحتهن يوقعهم في شيء من الحرج على حد ما يذكرون ويذكرن؟
الجواب:
مصافحة الرجل المرأة الأجنبية البالغة ممنوعة شرعًا وكذلك العكس.
السؤال التاسع عشر:
ما حكم استئجار الكنائس أماكن لإقامة الصلوات الخمس أو صلاة الجمعة والعيدين، مع وجود التماثيل وما تحتويه الكنائس عادة.. علمًا بأن الكنائس – في الغالب- أرخص الأماكن التي يمكن استئجارها من النصارى وبعضها تقدمه الجامعات أو الهيئات الخيرية للاستفادة منه في المناسبات هذه دون مقابل؟
الجواب:
استئجار الكنائس للصلاة لا مانع منه شرعًا عند الحاجة، وتجتنب الصلاة إلى التماثيل والصور وتستر بحائل إذا كانت باتجاه القبلة.
السؤال العشرون:
ما حكم ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى وما يقدمونه من طعام في مطاعمهم مع عدم العلم بالتسمية عليها؟
الجواب:
ذبائح الكتابيين جائزة شرعًا إذا ذكيت بالطريقة المقبولة شرعًا، ولم يذكر اسم الله عليها ويوصي المجمع بدراسة متعمقة للموضوع في دورته القادمة.(3/1312)
السؤال الحادي والعشرون:
كثير من المناسبات العامة التي يدعى المسلمون لحضورها تقدم فيها الخمور ويختلط فيها النساء والرجال، واعتزال المسلمين لبعض هذه المناسبات قد يؤدي إلى عزلهم عن بقية أبناء المجتمع، وفقدانهم لبعض الفوائد؟
فما حكم حضور هذه الحفلات من غير مشاركة في شرب الخمر أو الرقص أو تناول الخنزير؟
الجواب:
في حضور حفلات تقدم فيها الخمور لا يجوز للمسلم أو المسلمة حضور مجالس المعاصي والمنكرات.
السؤال الثالث والعشرون:
في كثير من الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك الأقطار الأوربية تصعب أو تتعذر رؤية هلال رمضان أو شوال، والتقدم العلمي الموجود في كثير من هذه البلدان يمكِّن من معرفة ولادة الهلال بشكل دقيق بطريق الحساب، فهل يجوز اعتماد الحساب في هذه البلدان؟؟
وهل تجوز الاستعانة بالمراصد وقبول قول الكفار المشرفين عليها علمًا أن الغالب على الظن صدق قولهم في هذه الأمور؟؟
ومما يجدر بالملاحظة أن اتباع المسلمين في أمريكا وأوربا لبعض البلدان الإسلامية المشرقية في صيامها أو إفطارها قد أثار بينهم اختلافات كثيرة، غالبًا ما تذهب بأهم فوائد الأعياد، وتثير مشكلات شبه دائمة، وفي الأخذ بالحساب ما قد يقضي على هذا في نظر البعض أو يكاد.
الجواب:
يجب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد مراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية.(3/1313)
وإذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار.
السؤال الرابع والعشرون:
ما حكم عمل المسلم في دوائر ووزارات الحكومة الأمريكية أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة، خاصة في مجالات هامة كالصناعات الذرية أو الدراسات الاستراتيجية ونحوها؟؟
الجواب:
يجوز للمسلم العمل المباح شرعًا في دوائر ومؤسسات حكومات غير إسلامية إذا لم يؤد عمله ذلك إلى إلحاق ضرر بالمسلمين.
السؤال الخامس والعشرون:
ما حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها علمًا بأن هذا هو جزء من عمله في الشركة الموظفة له، وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل؟؟
السؤال السابع والعشرون:
ما حكم تبرع المسلم فردًا كان أو هيئة لمؤسسات تعليمية أو تنصيرية أو كنسية؟
الجواب:
لا يجوز للمسلم تصميم أو بناء معابد الكفار أو الإسهام في ذلك ماليًا أو فعليًا.
السؤال السادس والعشرون:
كثير من العائلات المسلمة يعمل رجالها في بيع الخمور والخنزير وما شابه ذلك، وزوجاتهم وأولادهم كارهون لذلك علمًا بأنهم يعيشون بمال الرجل، فهل عليهم من حرج في ذلك؟
الجواب:
للزوجة والأولاد غير القادرين على الكسب الحلال أن يأكلوا للضرورة من كسب الزوج المحرم شرعًا. كبيع الخمر والخنزير وغيرهما من المكاسب الحرام بعد بذل الجهد في إقناعه بالكسب الحلال والبحث عن عمل.
السؤال الثامن والعشرون:
ما حكم شراء منزل السكنى وسيارة الاستعمال الشخصي وأثاث المنزل بواسطة البنوك والمؤسسات التي تفرض ربحًا محددًا على تلك القروض لقاء رهن تلك الأصول، علمًا بأنه في حالة البيوت والسيارات والأثاث عمومًا، يعتبر البديل عن البيع هو الإيجار لقسط شهري يزيد في الغالب عن قسط الشراء الذي تستوفيه البنوك؟
الجواب:
لا يجوز شرعًا.(3/1314)
الموسوعة الفقهية
العناصر المميزة
لخطة كتابة موسوعة المجمع لفقه المعاملات
أولاً: الالتزام بالترتيب الموضوعي وفق منهج مختار يلحظ فيه الطرائق المختلفة للمذاهب، والكتب في المذهب الواحد. وأي تطوير يلحظ فيه المعمول به في العصر الحاضر في مجال الموسوعات الموضوعية الحقوقية ومناهج التدريس في الجامعات، وهذا المنهج يمكن من عرض الموضوعات دون تشتيت، كما أنه يتيح الفرصة للبدء بما هو أشد حاجة للعمل فيها.
(ملحوظة: يستعان بكشاف لجميع العناوين لبيان موطن بحثها) .
ثانيًا: يتصل بذلك الترتيب الموضوعي: اختيار تقسيمات مفصلة لزمر الأبواب بطريقة محكمة، مستأنسا فيها بما وصل إليه الكتاب المعاصرون بأوسع نظرة. وهذه من الأعمال التي تحتاج إلى إعداد متأن بعد استحضار المراجع القديمة والحديثة.
وقد تضمن " الهيكل الموضوعي " نموذجا للترتيب المختار مستمدا من المتبع في كتب الفقه الإسلامي باعتبار (التصرف، والواقعة، والنظريات الأساسية) من خلال زمر تجمع الأبواب المتشابهة في الغرض، وليس من خلال نظرية الالتزام المعروفة في القانون المدني.
وفيما يلي توضيح لخصائص الترتيب العام للمعاملات (الزمر) ، والترتيب الخاص للتصرفات والواقعات (الأبواب) :(3/1315)
(أ) الترتيب العام للمعاملات:
لا يخفى على المشتغلين بالفقه غلبة التقسيم الرباعي على جميع المؤلفات الفقهية، والمشتمل على قسم المعاملات، لكن لا يمكن القول بأن هناك طريقة موحدة أو متقاربة في تتابع المعاملات ضمن القسم المخصص لها، فهناك فروق شديدة، ويلتمس لها الشراح وأصحاب الحواشي اعتبارات لا يخلو أكثرها من التكلف.
ولكن هذا لا يؤدي بنا إلى إهمال هذا الترتيب المتداول في الجملة بين الفقهاء، والأخذ بالترتيب القانوني المحض، والذي تمثله نظرية الالتزامات، وما يتصل بها من الكلام عن الحق والملكية أو الأموال. فإن هذه الطريقة ليست هي الوحيدة في مجال القوانين الوضعية، ولم تسلم هي ولا غيرها من النقد الشديد. فهناك اتجاهات قانونية حديثة تأخذ في ترتيب النظرية العامة للتعامل المالي بأساس له جذور فقهية أصيلة، وهو " التصرف الشرعي والواقعة الشرعية". وبهذا يتم تجنب البون الشاسع بين المتبع في كتب الفقه وبين التقسيم الذي سلكته نظرية الالتزام العامة. كما يؤمن من العيوب الملحوظة فيها.
والبديل هو اعتبار التصرف (وهو أعم من العقد) والواقعة، وهي تشمل الفعل الإرادي وغير الإرادي كالولادة والموت.. وإضافة جملة من النظريات الأساسية كالحق، والمال، والملكية، والعقد، والشرط ... إلخ، تكتب لإعطاء التصور التام للعلاقة العامة بينها وبين التصرفات، ولا تتخللها تلك التصرفات إلا للربط والتعريف.
وإذا كان لابد من مقاسم كبرى تنتظم التصرفات والواقعات، وهو مفيد لاختصار ما هو مشترك بينها من خصائص وأحكام عامة، فإن البديل هو أسلوب جمعها في زمر، وهو صنيع فقهي له بدائل قانونية أيضًا. وهذه الزمر متداولة على ألسنة الفقهاء وهي: التمليكات، التبرعات، الإسقاطات، الضمانات، الأمانات، التوثيقات ... إلخ، ومن السهل جمعها واستيعابها لجميع التصرفات.(3/1316)
(ب) الترتيب الخاص للتصرفات (التخطيط) :
إذا تحللنا من الالتزام بنظرية الالتزام في تشجيرها الشامل للمعاملات، فإن ما وراء ذلك من التقسيمات الداخلية أمر مدروس ومحكم لدى الفقهاء، وهو أسلوب من الترتيب المنطقي لا يوصف بالقدم أو المعاصرة، ويمكن التصرف فيه عند الحاجة، والخطب فيه يسير.
وللفقهاء في ترتيب المحتوى ضمن كل تصرف مناهج شتى أيضًا، لكن في كل مذهب كتاب أو كتب حظيت بالاهتمام حتى أصبح ما عداها محاذيا لها. وعلى سبيل المثال: للحنفية كتاب " بدائع الصنائع " للكاساني، لا يخفى ولعه برسم التصور الشامل للبحث قبل معالجته، وللشافعية كتاب " الوجيز " للغزالي، وللمالكية كتاب " لباب اللباب " لابن راشد القفصي، وكذلك " بداية المجتهد " لابن رشد ومنهجه التبويبي فريد. وللحنابلة كتاب " دليل الطالب"، ثم لغير هؤلاء كتب يمكن تلمسها منها: الأزهار، والنيل، والمختصر النافع ... ويستعان بقوائم بيبليوغرافية، وبخبرة أهل كل مذهب لترشيح الكتاب الأمثل من حيث التبويب.
وهذا يتيح انتقاء تسلسل مناسب لأجزاء البحث، تحصل به خطة تفصيلية له، مع استيعاب المسائل التي لا يخلو منها أي تصرف أو واقعة بوضع (استمارة) فيها أشمل صورة لهذه المقاسم الداخلية، ومن ثم يتحرى الكاتب تغطية جميعها أو أكثرها حسب المقام.
ثالثًا: شمول المذاهب الفقهية كلها (وكذلك مذاهب الصحابة والتابعين والمذاهب غير المتبوعة) ، وسلوك طريقة الاتجاهات الفقهية، بأن تعرض صورة المسألة، ثم يتم تشعيب الخلاف بإدراج المذاهب المتماثلة في رأي ثم الرأي الآخر،وهكذا.
وذلك لتفادي تكررا العرض، ولتقديم تصور واضح لمنحى الخلاف، ولاختصار حجم الموسوعة.(3/1317)