7- استعرض المجتمعون الموضوعات المقترحة من قبل أمانة المجمع للبحث في الدورة الثالثة للمجلس وهي: -
في مجال البحوث والدراسات:
توحيد بدايات الشهور القمرية – الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة – أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة – سندات المقارضة وسندات التنمية والاستثمار – استفسارات البنك الإسلامي للتنمية.
في مجال الفتوى:
استفسارات المعهد العالي للفكر الإسلامي بواشنطن –أطفال الأنابيب – أجهزة الإنعاش – زكاة الأسهم في الشركات – توظيف الزكاة في مشاريع بلا تمليك فردي للمستحق.
وقد تم إقرارها كما وردت من الأمانة العامة مع إضافة موضوع واحد لموضوعات الفتاوى هو: (زواج المسلمة بغير المسلم، والمسلم بنساء الفرق الخارجة عن الإسلام) .
وهو من الموضوعات التي اقترحت من شعبة التخطيط في اجتماعها الأول بتاريخ 22- 25/8/1405 هـ الموافق 12- 15/ 5/1985 م.
9-أعلم معالي الأمين العام الاجتماع بأنه قد بدأ العمل بتحقيق كتاب (الجواهر الثمينة) لابن شاس وطلب الموافقة على أن يقوم بإجراء الاتصالات اللازمة للبدء بتحقيق بقية الكتب الداخلة في خطة المجمع وفق قوائم تعرض على الدورة الثالثة للمجمع. وقد وافق المجتمعون على ذلك ووافقوا على إضافة كتاب (معرفة السنة والآثار) للبيهقي إلى كتب التحقيق، وقد وعد الدكتور بكر أبو زيد بتقديم نسخة منه للمجمع بغرض التحقيق.(2/1115)
10-وقد وافق المجتمعون على اقتراح الأمين العام على أن يجري المجمع الاتصالات العلمية اللازمة مع المفتين في العالم الإسلامي ومجالس الإفتاء ولجانه فيه. كما وافقوا على أن يجري المجمع الاتصالات مع الجامعات الإسلامية والتنسيق معها للقيام بمشاريع محددة في مجال البحوث وتحقيق كتب التراث الإسلامي الداخلة في خطة المجمع وفي إعداد قوائم من الباحثين والمحققين من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات.
11-وقد أبدى المجتمعون كل الاهتمام بفكرة نشرة المجمع وطلبوا من الأمانة العامة إعطاءها الأولوية للتعريف بالمجمع في أوساط المسلمين الرسمية والشعبية.
12-وقد بحث المجتمعون في الاقتراح المقدم من معالي رئيس المجمع للقيم بعملين علميين كبيرين هما:
أولا: مدونة لأدلة الفقه الإسلامي من القرآن والسنة النبوية الشريفة وأقوال الصحابة.(2/1116)
ثانيا: معلمة للقواعد الفقهية.
وقد وافق المجتمعون على التوصية بإدخال مشروع معلمة القواعد الفقهية ضمن المشاريع العلمية الي يتبناها المجمع.
وأما بخصوص مدونة الأدلة فقد وافق المجتمعون على التوصية بهذا المشروع من ناحية المبدأ على أن يقدم معالي رئيس المجلس: الدكتور بكر أبو زيد ما يقترحه بخصوص المنهج الخاص بإعدادها وخطة عملها ويرسل بذلك إلى الأمانة العامة لموافاة الأعضاء بها ثم تعرض على المجمع في دورته القادمة.
13-ثم بحث المجتمعون في مشروع المنهج المقترح لسير عمل المجلس ومناقشات وإدارة جلساته المقدم من اللجنة التي شكلها المجلس في دورته الثانية والمكونة من:
- الدكتور عبد السلام داود العبادي.
- الدكتور طه جابر العلواني.
- الدكتور عمر جاه
- الدكتور عبد الستار أبو غدة
- الدكتور عبد الله إبراهيم
- الشيخ محمد هشام البرهاني.
وبعد مناقشات موسعة واستعراض المشروع مادة مادة تمت الموافقة على التوصية به وفق الصيغة المرفقة ليعرض على اجتماع المجلس في دورته القادمة.
14-عرض معالي الأمين العام، ما تم بخصوص مشروع الموسوعة الفقهية، وقدم الدكتور عبد الستار أبو غدة التصور الذي أعده بخصوص الموسوعة الفقهية وقد جرت مناقشة ذلك بتوسع وتمخض النقاش عن الحاجة بتشكيل لجنة علمية لوضع تصور تفصيلي واضح بخطة الموسوعة ليعرض على المجمع في دورته القادمة.(2/1117)
العدد الثالث(3/1)
تقديم بقلم معالي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزاده
الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.
فبين يدي القارئ عدد من المجلة العلمية الفقهية التي يصدرها مجمع الفقه الإسلامي بجدة مرة كل سنة والتي يضمنها جملة من الأبحاث العلمية المتناولة لمجالات متعددة، شرعية واقتصادية واجتماعية ونحوها، يكتبها نخبة من العلماء الأجلاء.
وإنني حريص وأنا أقدم هذا العدد أن أتجنب عن قصد الإشارة إلى محتواه الزاخر بالدراسات القيمة والهامة، وذلك كي أفسح المجال للتذكير بالدور الذي يضطلع به المجمع من خلال ما يضطلع بإنجازه بكل كفاية من أعمال تدل ولا ريب على أن هذا الجهاز لم يقم بصفة اعتباطية ولكنه جاء نتيجة تفكير معمق وشعور ملح بضرورة إيجاد مؤسسة إسلامية تضطلع بدور خطير يتمثل أساسيا في توحيد كلمة المسلمين وإنارة سبيلهم وتبصيرهم بأمور دينهم حتى يكونوا بحق خير أمة أخرجت للناس.
ومن منطلق المسؤولية التي أشرف بها وأنا على رأس الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، أرى لزاما علي أن أنوِّه بالإنجازات الطيبة التي حققها المجمع، وهو ما يزال في عامه الثالث. ذلك أنه عقد ثلاث دورات شارك فيه خيرة علماء العالم الإسلامي ورددت وسائل الإعلام الإسلامية صدى نجاحها بما تطارحه أولئك العلماء خلالها من موضوعات مهمة، تعكس بصورة جلية قدرة شريعتنا المطهرة على تقديم الحلول المناسبة والمعالجات الجديدة للمشكلات المعاصرة بما يحقق خير المجتمع الإسلامي ومصلحته.
ولقد عقد المجمع إلى جانب ذلك (بالاشتراك مع بعض المؤسسات الإسلامية) ندوات تمهيدية تناولت قضايا اقتصادية ومصرفية معاصرة بالغة الأهمية كان لزاما أن يبحها مجلس المجمع بصورة معمقة ودقيقة قبل درسها والبت فيها على نطاق أوسع.(3/2)
ووضع المجمع أيضا ضمن خطة عمله جملة من المشروعات العلمية سيكون لها بإذن الله الأثر في تقريب المسائل الفقهية من المسلمين، خاصتهم وعامتهم:
- فهناك الموسوعة الفقهية التي خصصت في مرحلتها الحاضرة للمعاملات الاقتصادية القديمة والحديثة، وقد شرع عدد من العلماء في إعداد البحوث التي حددت موضوعاتها لجنة علمية عينها المجمع لهذا الغرض.
- وهناك معلمة القواعد الفقهية ويمكن أن تعد من أبرز الإنجازات التي ستكون للباحثين والدارسين والمفتين والمجتهدين منارات هدي وإرشاد للكليات والقواعد والمبادئ والضوابط المعتمدة في استنباط الأحكام من أقوم السبل وأدقها.
- وهناك طائفة من كتب التراث النفيسة التي سترى النور بإذن الله قريبا بعد الفراغ من تحقيقها الذي يضطلع به حاليا نخبة من المختصين الأكفياء.
- وهناك مشروع تيسير الفقه الإسلامي الذي بإنجازه مؤتمر القمة الإسلامي الخامس، وهو مشروع يتطلع إليه المسلمون من غير المتخصصين في الفقه لإرواء تعطشهم إلى التفقه في الدين بطريقة تناسب إمكاناتهم وظروفهم، وتساعدهم على التكوين الملتزم بشرع الله سبحانه وتعالى في شؤون حياتهم، وتحميهم من مخاطر الأفكار والتصورات الهدامة المناقضة لعقيدتهم وأحكام دينهم.
إن هذه الحركة العلمية النشيطة التي يقف وراءها مجمع الفقه الإسلامي الذي يجمع في رحابه أهل الحل والعقد من علماء أمتنا المجيدة، لجديرة بكل عناية ودعم، لما ستسهم به بإذن الله، من تكثيف الوعي لدى المسلمين في البلاد الإسلامية وفي أطراف العالم بأن الدين الذي اختاره الله عز وجل لهم صالح لكل زمان ومكان، إذ يتحقق به صالح معاشهم وخير معادهم.
والله سبحانه المسؤول أن يرعى هذه الحركة المجمعية المباركة ويسدد خطاها، وهو عزت حكمته من وراء القصد ولي التوفيق.
الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي
سيد شريف الدين بيرزاده(3/3)
كلمة معالي د/ بكر بن عبد الله أبو زيد
رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فطوع يد القارئ اليوم، العدد الثالث من (مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة) بأجزائه الثلاثة بعد أن آنسنا من أقلام العلماء رشدا وأثرا لهذه المجلة (تخللت مسلك الروح) في أبحاث وخطابات تعني الشكر والثناء، وهذا من فضل الله علينا وعلى الناس أجمعين. وذلك لما فيها – والحمد لله – من بحوث أمينة بأقلام بارعة، تطارح القارئ بأسلوب رصين لا يُتعصب لقديم لقدمه، ولا يُفتتن بجديد لجدته، لكنه الفقه في الدين، بإقامة التدليل من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس… مطاردة لأبحاث ناشزة تجلل باسم الشرع وهي تمكر بالحق، وتنابذ هداية الله وحكمته وتشريقه. وهذه المنابذة مصدر خطر عظيم على الأمة في دينها ووحدتها، وتطلعها، وطموحها لحياة راشدة آمنة تسري على الأرض مسار الشمس.
فعسى أن يكون في هذا (المجمع) ما يكف هذا البأس.
وهذا العدد كشقيقيه السابقين بين خاصرتيه، وقائع الدورة الثالثة، المنعقدة في (عمان) عاصمة المملكة العربية الأردنية الهاشمية، التي استضافتها حكومة جلالة الملك الحسين بن طلال حفظه الله في رحاب (المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية) من 8 / 2 / 1407 هـ إلى 13 / 2 / 1407 هـ.
وهي أمامك بمقدماتها وخاتمتها، وأبحاثها، ومداولاتها، وقراراتها، وأستغني عن ذكرها بفهرسها، وفي مقدمة محتوياتها خطاب صاحب السمو الملكي ولي عهد المملكة العربية الأردنية الهاشمية الأمير الحسن بن طلال، والذي حوى الشد على معالم الحضارة الإسلامية …. وما أن اقترحت على المجمع أن يكون خطاب سموه من وثائق المجمع إلا وتلقاه رجاله بالقبول.(3/4)
وكان لمعالي الأستاذ ناصر الدين الأسد (رئيس المجمع الملكي) فضل كبير بعد الله تعالى في نجاح هذه الدورة، فلمعاليه ورجال أمانة المجمع وافر الشكر والتقدير.
ومن أبرز المشاريع المستقبلية التي تبناها المجمع بموافقته على اقتراح منا ما يلي:
1- مدونة الأدلة للأحكام الشرعية، من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم.
2- معلمة القواعد الفقهية.
3- تحقيق وطبع كتاب (معرفة السنن والآثار) للبيهقي رحمه الله تعالى.
وقد قامت أمانة المجمع بإجراء الخطوات التنفيذية لها، فالخطة المنهجية لمعلمة القواعد الفقهية على وشك الانتهاء بالتعاون مع بعض الأساتذة المختصين. وتحقيق كتاب (معرفة السنن والآثار) قد عهد بقسم منه إلى الشيخين الفاضلين، الشيخ بدر البدر، والشيخ محمد بن ناصر العجمي، وقد استلما نسخه الخطية لبدء العمل فيه.
فأرجو أن يكون في إنجازات المجمع، ومشاريعه المستقبلية، ما يجسد أمام أهل الإسلام – عظمة دور المجمع في الأمة، وتكوينها فكريا، وثقافيا، وتخليصها من شوائب طالما كدرت عليها حياتها. وهذا تذكير لإخواني رجال هذا المجمع بأن مهمتهم عظيمة وكبيرة، ونشكر لهم جهودهم ومثابرتهم، وفق الله الجميع لصالح القول والعمل والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
بكر بن عبد الله أبو زيد(3/5)
كلمة العدد
لمعالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي
الحمد لله الذي لا يؤدي أحد من خلقه شكر نعمة من نعمه إلا بفضل ونعمة منه توجب على مؤدي الشكر بأدائها على ماضي النعم من لدنه عز وجل نعمة حادثة جديدة يجب عليه شكره بها.
نحمده حق حمده ونثني عليه كما هو أهله ثناء يكافئ نعمة وآلاءه، ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يبلغ مدحته المادحون ولا يقدر على وصف عظمته الواصفون، فهو جل ثناؤه كما وصف نفسه وفوق ما يصفه به خلقه، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، خيرته من خلقه، وصفيه لوحيه، المبلغ لرسالته، المرفوع ذكره، والذي ورد في محكم التنزيل قول ربه في حقه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقوله عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد فإن الله العلي القدير قد يسر لنا مواصلة الجهد وبذل الوسع لتحقيق الغايات والأهداف التي من أجلها أسس هذا المجمع "مجمع الفقه الإسلامي" والتي نبه إليها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد أعزه الله بقوله: "إن هذا العصر يشهد الكثير من التناقضات والاجتهادات وإن على علماء المسلمين الأفاضل المشاركين في هذا المجمع أن يقدموا الحلول الإسلامية وأن يوضحوا الطريق الصحيح وأن يساعدوا الأجيال على تفادي البلبلة والارتباك، وأشار من جهة أخرى حفظه الله ونصره إلى: "أن من الخير للأمة الإسلامية أن تجمع أمرها وتوحد صفوفها في إطار عقيدتها السمحة لأن فيها خيرها وعزها وهي مصدر قوتها الحقيقية"، ولا بدع إذا ألفيناه بعد ذلك يقول أيده الله وسدد خطاه: "إننا ندعم هذا المجمع لأننا نعتقد بأن مهمته كبيرة ومسئولياته عظيمة، وأن أمة الإسلام تنتظر من ورائه الخير والفلاح إن شاء الله".
وقد سار على هذا النسق الشريف في تقديره جهود المجمع وتعزيزه مع بيان المسالك العملية التي عليه أن يسعى إلى تحقيقها بجانب المشروعات العلمية التي يعدها والمؤتمرات والندوات التي يعقدها حضرة صاحب السمو الملكي الأمير حسن بن طلال حين قال: إن من ذلك: بيان تعاليم الإسلام السمحة التي يتقوم بها السلوك وبث القيم والمبادئ التي يعتمدها الإسلام منهجا للحياة، وعرض المتغيرات والقضايا المستجدة على أصول الشريعة الإسلامية التي تدرأ ما خبث وتقبل ما حسن وتوجد لكل أمر فيه رضا الله وصلاح الأمة طريقا عمليا ووجها شرعيا يرتفع به الحرج عن الناس، وبيان الأوجه العملية والطرق القريبة لمحاربة أسباب التخلف والضعف والوهن في المجتمعات الإسلامية وتجميع أسباب العزة والقوة والمنعة".(3/6)
وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق إلا باجتماع علماء الأمة وأهل الحل والعقد فيها من أصحاب النظر العلمي والشرعي الدقيق القادرين على تعمق النصوص نظرا وتدبرا واستنباط الأحكام على هدى من أسرار الشريعة ومقاصدها في ما يعرض للناس من حاجات في هذا العصر.
ولقد أشاد معالي الدكتور ناصر الدين الأسد وزير التعليم بالمملكة الهاشمية الأردنية ورئيس مجمع بحوث الحضارة الإسلامية برجال المجمع حين قال – حفظه الله –: "إن هذا الموكب من مواكب العلم والنور والهداية – الذي نستقبل الساعة مفتتحه - ليسير في حناياه وعلى جنباته رجال نذروا أنفسهم لدين الله الحق الذي رضيه الله تعالى لهم، لا يألونه بحثا ودرسا وتنقيبا وتفهما واستخراجا للأحكام على قواعد وأصول ومناهج تضبط الاستنباط وتحكم الاستقراء وتوجه القياس ".
كما أعلن عن دور المجمع في بحث القضايا المعروضة عليه معالي الدكتور أحمد محمد علي رئيس البنك الإسلامي للتنمية وهو يتابع بنفسه في المؤتمر الثالث للمجمع المنعقد بعمان تداول العلماء النظر بشأن الاستفسارات المقدمة من طرفه ليصدروا بشأنها الفتاوى الشرعية والقرارات الحكيمة المناسبة حين قال – حفظه الله -: "إن عملكم الرائد في مواجهة التطور في الحياة المعاصرة ومشكلاتها بالاجتهاد المتبصر والاسترشاد بمبادئ الشرع الحنيف هو قبلة اهتمام هذه الأمة التي تتطلع إلى ثمرة اجتهادكم الأصيل الفاعل بهدف إيجاد الحلول الناجعة النابعة من التراث الإسلامي والواعية لمتطلبات الأمة المتغيرة".
وفعلا وبعون الله التأمت بعمان وباستضافة من الدولة الهاشمية الأردنية الكريمة الدورة الثالثة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة بين 8 - 13 صفر 1479هـ 11 - 16 أكتوبر 1986 م. وتقدم أعضاء المجمع المحترمون والخبراء الموقرون الذين وفدوا على عمان بهذه المناسبة من أطراف العالم ومن الدول الإسلامية المختلفة بدراسات وبحوث جد مفيدة تم - بعد عرضها في الجلسات المتوالية لهذه الدورة مناقشة محتوياتها مناقشة جادة - اتخاذ القرارات الصادرة عن المجلس في دورته هذه.
وأنه ليسرنا اليوم أن نقدم في هذا العدد الثالث للقراء الأكارم والباحثين والدارسين في أطراف العالم الإسلامي أعمال هذه الدورة وما تناولته بالدرس من قضايا هامة تشغل أفكار مختلف الجهات في المجتمع الإسلامي المعاصر.
وهكذا فإن العدد الثالث من مجلتنا يقدم من نتائج اجتماع مجلس المجمع في هذه الدورة البحوث المعروضة فيها والقرارات المتخذة بشأن القضايا المطروحة على النظر والمشاريع والتوصيات التي أقرتها.(3/7)
وقد اشتملت البحوث على قضايا شرعية واجتماعية واقتصادية ومصرفية: أما البحوث الشرعية فقد تناولت: توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق، وتوحيد بدايات الشهور القمرية، وتحرير الإجابة عن الاستفسارات المقدمة للمجمع من المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن والإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة.
وأما البحوث الاجتماعية فقد كانت هي أيضا متنوعة منها التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب وأجهزة الإنعاش.
وتناولت البحوث الاقتصادية أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة.
واشتملت القضايا المصرفية المعروضة على المجمع في استفسارات البنك الإسلامي للتنمية والتي بحثت في هذه الدورة على رسوم الخدمة على القروض، وعملية الإيجار، وعمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن، وعمليات تمويل التجارة الخارجية، والتصرف في فوائد الودائع.
وبالرغم عما أثارته هذه الدراسات وموضوعاتها من نقاش طويل وتبادل للأنظار والآراء المتباعدة والمختلفة غير أنها بعد الجدال والتدبر والتمحيص والجهد والاجتهاد المتأني انتهت إلى قرارات حظيت بإجماع أعضاء المجلس.
ونحن في نهاية هذه الكلمة نحمد الله على ما يسر، ونشكر للقادة دعمهم ورعايتهم، وللعلماء والباحثين دراساتهم وجهودهم، ولا ننسى في النهاية أن ننوه بالأيادي البيضاء التي قدمها لنا معالي الشيخ حسن عباس شربتلي إذ تفضل مشكورا – رعاه الله وحفظه – بالإذن بطبع هذا العدد الثالث بأجزائه في مطبعته وعلى نفقته، وقد قام القيمون والمشرفون على المطبعة بجهود جيدة وموفقة يستحقون عليها كل الثناء والتقدير.
والله المسئول أن يجزل ثواب العاملين المخلصين والموجهين والمتبرعين وأن يسدد خطانا وخطاهم لإعلاء الحق وخدمة الشرع ونصرة الدين والنصح لهذه الأمة إنه سميع مجيب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد الحبيب ابن الخوجة(3/8)
كلمة افتتاح الدورة
ألقاها
معالي الدكتور ناصر الدين الأسد
وزير التعليم العالي ورئيس مؤسسة آل البيت
بالمملكة الأردنية الهاشمية
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي صاحب السمو الملكي، نائب جلالة الملك، ولي العهد المعظم.
سلام عليكم… وتحية إليك … يعطرهما شذى العرف من الحب الذي يملأ قلوبنا، ونفح الطيب من التقدير الذي يعمر عقولنا. كيف لا، وأنت منا في الذؤابة: نسبا زكيا، وفؤادا ذكيا، وخلقا رضيا، وهي صفات وخصائص عرفها فيك كل من اتصل بك من قريب أو بعيد، وهي وحدها التي تثني عليك، وتستغني بنفسها عن كل ثناء.
وهذا اللقاء الكريم الذي تستضيفه وتفتتحه اليوم هو من بعض ما طمحت إليه همتك، وتوجه إليك عزمك، حين دعوت صاحب السماحة الأخ الجليل، العلامة الفقيه، الدكتور الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي في جدة ليعقد الدورة الثالثة للمجمع في عمان في رحاب آل البيت ومجمعهم الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، امتدادا لجهدك الموصول في تشجيع العلم والعلماء والفكر والمفكرين، والحفاوة بهم، واستضافة مؤتمراتهم ونداوتهم، في ظل وارف من رعاية سيدنا، الملك الهاشمي، الحسين بن طلال، واتساقا مع توجيهاته، وإنفاذا لرغباته السامية.
سيدي صاحب السمو الملكي
سادتي العلماء الأجلاء
إن هذا الموكب من مواكب العلم والنور والهداية – الذي نستقبل الساعة مفتتحه – ليسير في حناياه وعلى جنباته، رجال نذروا أنفسهم لدين الله الحق الذي رضيه تعالى لهم، لا يألونه، بحثا ودرسا وتنقيبا، وتفهما، واستخراجا للأحكام، على قواعد وأصول ومناهج: تضبط الاستنباط، وتحكم الاستقراء، وتوجه القياس.
وقبل هذا الموكب كانت مواكب، توالت على مدى العصور: موكبا إثر موكب، ولكل موكب في كل عصر أئمته: يهدون الطريق، ويسددون الخطى، ويصوبون المسيرة، حتى لا تضل الأفهام، ولا تضطرب المعايير، ولا تتفرق السبل، وحتى لا ينفصل الحاضر – بما يجد فيه – عن الأصول والجذور، ولا ينطلق المستقل منفلتا في متاهات الضياع.(3/9)
ويناظر مجمع الفقه الإسلامي، ويرفده: المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية: مؤسسة آل البيت، الذي يجمع في عضويته العاملة والمراسلة، وفي نشاط لجانه وكتابة بحوثه، نحو مئتي عالم من جلة علماء المسلمين في مختلف بقاع الأرض، وهو يوجه عنايته إلى البحث العلمي في مختلف ميادين الحضارة الإسلامية وخاصة ما يتصل بأصول هذا البحث ومصادره بتوفير ما يسمى ببنوك المعلومات، وقد أصدر منها حتى الآن عشرة مجلدات من فهارس المخطوطات العربية في العالم، وفي خطته لهذا العام إصدار عشرة مجلدات أخرى، وأصدر أيضا سبعة مجلدات تتضمن كشافات تحليلية للمواضع التي ورد فيها ذكر للاقتصاد وللتربة في الإسلام، في أمهات كتب التراث، وكدنا نستوفي هذه الأمهات وننتقل إلى الكتب الحديثة، فالدوريات، ثم ما صدر باللغات الأجنبية، بحيث تصبح هذه السلاسل من الكشافات والفهارس وبنوك المعلومات، المنهل الذي لا غنى عنه لكل باحث في هذه الميادين. ذلك بالإضافة إلى إصدار ثلاثة مجلدات تتضمن ما يزيد قليلا عن اثني عشر ألفا من رؤوس المواد أو عناوين الموضوعات، أو المداخل، تمهيدا للعمل في موسوعة الحضارة الإسلامية، وقد بدأنا بتنظيم العمل في مجالين من مجالات هذه الموسوعة، ونأمل أن نتمهما خلال العام القادم، ثم نبدأ بنشر الموسوعة وإصدارها، على صورة فصول متفرقة، إن شاء الله تعالى. وقد بدأ المجمع الملكي طباعة البحوث التي أنجزت من موضوعات الخطة المتوسطة المدى، وهي: الشورى، والتربية، والإدارة المالية، ومعاملة غير المسلمين، وسيصدر خلال الشهر القادم مجلدان من مجلدات هذه البحوث. وما هذا كله إلا نماذج وأمثلة، قد يغني ما ذكرت منها عما لم أذكر.
سيدي صاحب السمو الملكي
سادتي العلماء الأجلاء:
إن مجمع الفقه الإسلامي في جدة يمثل ظاهرة إسلامية فريدة، إذ أنه يلبي – بطبيعة تكوينه – حاجة المسلمين في هذا العصر إلى الاجتهاد الجماعي – في أوسع نطاق – فيلتقي أهل الحل والعقد من علماء المسلمين من مختلف البلاد والبيئات والمذاهب، لمواجهة القضايا المستجدة على المجتمع الإسلامي في هذا العصر في المجالات المتعددة، وخاصة المجال الاقتصادي والاجتماعي، ثم إن هذا المجمع يسعى بعلمائه الأجلاء إلى تحقيق هدف أساسي آخر، وهو: التيسير على المسلمين بتبسيط معرفة دينهم، وتقريب هذه المعرفة إليهم، من أجل تمكينهم من الالتزام بأحكام هذا الدين التزاما يوحد بين المسلمين عامة، فبارك الله في علمائه، وجزاهم عن الإسلام خير الجزاء كفاء ما يبذلون من جهد.
سيدي صاحب السمو الملكي
الموقف موقفك، والكلمة كلمتك، وهذا الجمع الكريم متشوق إلى سماعك، فلتتفضل مشكورا بافتتاح هذه الدورة الثالثة لمجمع الفقه الإسلامي باسم الله وعلى بركته.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(3/10)
خطاب (1)
صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال
ولي عهد المملكة الأردنية الهاشمية
الحمد لله
والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه.
أصحاب السماحة والفضيلة
أيها السادة الأماثل، أود بادئ ذي بدء أن أرحب بكم وأن أنقل إليكم تحيات جلالة أخي الملك الحسين.
إنها لمناسبة سعيدة حقا تتاح لنا اليوم، لاستقبال أعلام الفقه ورجالات الفكر الإسلامي من أنحاء العالم، ممثلين في أسرة مجمع الفقه الإسلامي، هذا الصرح الفقهي الدولي الإسلامي، الذي نغتبط باستضافة الدورة الثالثة لمؤتمره السنوي في عمان عاصمة الأردن العربي الهاشمي الذي لا يفتأ يناضل من أجل العروبة، وحماية المقدسات وعزة الإسلام، وتجديد مقومات سيادته وبعث حضارته.
وإننا لنرحب أجمل ترحيب بأهل الحل والعقد، وأصحاب النظر والفتوى الوافدين علينا من الأقطار الإسلامية كلها، وبممثلي المؤسسات العديدة العاملة في مجال البحوث الفقهية والدراسات الشرعية بتداخل نظمها ووحدة أهدافها الذين تنتظمهم جميعا عضوية مجمع الفقه الإسلامي، كما نرحب أيضا بأصحاب الفضيلة الأساتذة الخبراء، ذوي الشهرة في ميادين البحث والدراسة للقضايا الاجتماعية، والصحية، والاقتصادية، والشؤون المالية، في العالم الإسلامي.
__________
(1) قرر المجمع اعتبار خطاب سمو الأمير الحسن بن طلال وثيقة أساسية ضمن وثائق المؤتمر، يرجع إليها وتعتمد في سيره مستقبلا(3/11)
أيها السادة الأفاضل
إن الفقهاء والعلماء في المملكة الأردنية الهاشمية، ليبتهجون بمقدمكم، متخذين من دورتكم هذه – التي تعقدونها بين ظهرانينا – موسما علميا مشهودا، يتطلعون فيه كما نتطلع جميعا في أسرتكم الأردنية إلى الوقوف على ما سيقدم من بحوث ودراسات عن القضايا المعروضة على المجمع في مؤتمره السنوى الثالث وإلى ما سيفضي إليه النقاش والنظر، من مواقف وفتاوى وقرارات علمية ومجمعية لها شأنها في حياة المسلم في كل زمان ومكان، وإن المسلمين كافة ينتظرون الكثير من هذا المجمع الزاهر الذي يعمل جادا لربط ماضي الأمة المجيد بحاضرها المتطور فيرسخ في نفسها الثوابت التي هي مقومات ذاتها وأساس وجودها ويواجه فيها المتغيرات بما تهدي إليه أصول النظر الشرعي ومناهج الفكر الإسلامي في مختلف مجالات الحياة المعاصرة.
وهذا القصد المزدوج السوي أيها الأخوة السادة الأفاضل الذي كان وما يزال بحمد الله شعار أمتنا، هو الذي ينطق به قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} فقد وصفها سبحانه بالعدالة والعزة والخيار، وبتأكد هذه المعاني لديها وصدق هذه النعوت فيها وانطباقها عليها يتم تفضيلها الذي يؤذن به قوله عز وجل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وهو يرفعها إلى المرتبة السامية.
ولا شك أيها السادة الأفاضل أن للآية الكريمة التي صارت لهذه الأمة شعارا، دلالة على أن الله تعالى أكمل عقول هذه الأمة بما تنشأ عليه من اتباع العقائد السليمة ومجانبة الأوهام الضالة، ومن وجوب تلقي الشريعة من طرق العدول وإثبات أحكامها بالاستدلال استنباطا يقوم به العلماء ليتلقاه العامة فهما وممارسة.
وفي هذا يكمن سر التجدد والخلود لهذه الأمة لأن علماءها والمجتهدين فيها لا تحكمهم الأهواء ولا تلوي أعناقهم الشهوات، ولكنهم – في كل ما يصدر عنهم من اجتهادات وأحكام – آخذون بالقول الفصل والهدي المبين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومما تلقاه الصحابة رضوان الله عليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيان وحكمة، فذلك هو الأصل والمرجع الذي امتن الله به على عباده في قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} .(3/12)
ولا بدع – بعد ذلك – أن كان علماء هذه الأمة وفقهاؤها يعكفون على الكتاب والسنة في كل عصر، يدرسون ويتدربون ويفكرون ويبينون حتى نشأت من ذلك علوم القرآن وعلوم السنة، وأحكمت أصول الرواية وقواعد الدراية، ووضعت التفاسير والشروح، وجمعت الأحكام وأصولها من الأدلة التفصيلية في الكتاب والسنة، وأصبح جماع ذلك دليل الإيقان ومبلغ الاطمئنان، لقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها وعفا عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها)) .
وقد نبعت من أصول الشريعة أفهام ومدارك، وتبينت أيضا أسرار ومقاصد، واتبعت مناهج وطرائق، وضبطت أصول وقواعد، كانت جميعا مرآة ظهرت عليها أقوال الصحابة والتابعين، وآراء الأئمة والمفتين، وأنظار الفقهاء والمجتهدين، وكان ذلك سببا لغنى الفقه واتساع دائرته وتأصيل نظرياته وتجديد اتجاهاته، في كل المجالات وجميع الشؤون، ولا يمكن لأي عالم أو أي فقيه أن يتنكر لهذا التراث العظيم ولتلك الثروة المميزة من الفقه الإسلامي، لما يقتضيه النظر الدقيق والبحث العلمي من الاستقراء التام للمذاهب والأقوال والاتجاهات والآراء ولما يتطلبه الاجتهاد في كل عصر من عميق التصور لغايات الشارع ومقاصده، ومن كمال الوقوف على الأحوال والملابسات للقضايا والنوازل، عند تطبيق الشريعة عليها وتنزيل الأحكام بها، وهكذا يتوصل إلى الحق ويقام العدل ويعتمد من الأدلة والأحكام ما يكون الأثبت والأقوى حجة وبرهانا والأيسر والأوفق لمصالح الناس، وإن في استيفاء النظر وفي المقارنة بين مذاهب الأئمة وآراء الفقهاء، وفي القيام بعد ذلك بالترجيح والاختيار للنصوص التي ينبغي اعتمادها في القضايا المتداولة - لجهدا تنوء به طاقات الأفراد، ولا يستطيعه إلا مجمع يكون لأعضائه من الإحاطة بمصادر الشريعة والعلم بالفقه الإسلامي، ومن الخبرة بالأصول والأسس والنظريات والقواعد، ومن القدرة على التمييز والتفريق بين الحالات المتشابهة، وعلى البت في القضايا المشكلة ما يعينه على تخريج المناط وتنقيحه وتحقيقه.(3/13)
وإذا كانت القضايا العادية معروفة أحكامها للناس، في العبادات والأحوال الشخصية والمعاملات والحدود وكل فروع الفقه ومسائله بما يشمل اليوم كل القوانين العامة والخاصة الدولية وغيرها، فإن التطور المادي الحضاري من جهة وما نجم عنه في أطراف العالم الإسلامي من تيارات فكرية جديدة، واكتشافات واختراعات وتقدم علمي وتكنولوجي وتنظيمات وتراتيب وشركات ومؤسسات وأعراف وعادات، يواجه الإسلام والمسلمين بتحدياته ويهدد بتقويض القواعد العظيمة التي قامت عليها معالم الفكر والحضارة الإسلامية، وليس أمام المجمع الذي ينتظم صفوة العلماء في هذا العصر ويستضيف كما ذكرت قبل قليل أصحاب اختصاص في مجالات مختلفة والذي أقيم باتفاق الدول الإسلامية عامة، إلا أن يجتهد ويبذل الوسع من أجل إنارة سبيل المؤمنين ورفع حواجز الغموض والضلال والجهل والضعف من طريقهم ومدهم من جديد بما صلح لآبائهم عند تشييدهم أكمل نظام وتأسيسهم أعظم حضارة، ويصلح لهم اليوم من التعاليم والحكمة التي تأخذ بأيديهم إلى طريق المجد، يستعيدون بها سيادتهم وإدارتهم ويتبوأون بها من جديد مقام الريادة {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
فعلى أساس هذا الهدي، وما تنبثق منه من أحكام وقواعد وأصول ونظريات يستطيع المجمع أن يحقق حماية المسلمين والحفاظ على توازن المجتمع الإسلامي. ودعم الوحدة الإسلامية بعناصر القوة والمنعة مع التأكيد على الأصول والتشاور المشروع والمحبب بكل موضوعية وعمق، ويتولى دراسة المشكلات التي تعترض سبيل النمو والتقدم في العالم الإسلامي دون تمييز ومواجهة التحديات التي تقهر الإنسان العربي والمسلم وإيقاظ الروح والمنظور الإسلامي في النفوس بعثا لنهضة جديدة.
وهذا الشرف التالد الذي تميزت به الأمة الإسلامية يجعل الله إياها مرجعا لغيرها، ودليلا لسواها على الخير والحق تتمسك به وتلتزمه وتبينه وتدعو إليه، هو الذي يدفع اليوم مجمع الفقه الإسلامي لاستجابة الأمر الإلهي في قوله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وفي قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} .(3/14)
ولا يقتصر هذا الواجب الجماعي على المشروعات العلمية المختلفة التي تعدونها، ولا على المؤتمرات واللقاءات التي تقومون بها بل يتجاوز ذلك إلى جملة وظائف، منها:
بيان تعاليم الإسلام السمحة التي يتقوم بها السلوك، وينضبط بها السير وتشد الفرد والجماعة إليها بما فيها من سهولة ويسر.
ومنها: بث القيم والمبادئ التي يعتمدها الإسلام منهجا للحياة وذلك بوسطيته التي تجمع بين جانبي الروح والمادة، وطلب الدنيا والآخرة والقيام بالعبادة مع تحقيق معاني الاستخلاف في الأرض.
ومنها: عرض المتغيرات والقضايا المستجدة على أصول الشريعة الإسلامية التي تدرأ ما خبث وتقبل ما حسن وتوجد لكل أمر فيه رضا الله وصلاح الأمة طريقا عملية ووجهاً شرعيا يرتفع به الحرج عن الناس، وإن في القياس والاستحسان والاستصلاح وتحكيم الأعراف المعتبرة شرعا ما يواجه التحديات وييسر على العباد معاشهم ويحقق لهم مصالحهم، فإن من مقاصد الشارع تحقيق مصالح الخلق، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما وميسرا)) . ومن حكمته عليه السلام قوله: ((إن الدين يسر، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا)) ، وقوله: ((إن الله شرع الدين فجعله سهلا سمحا واسعا ولم يجعله ضيقا)) .
ومنها: بيان الأوجه العملية والطرق القريبة لمحاربة أسباب التخلف والضعف والوهن في المجتمعات الإسلامية وتجميع أسباب العزة والقوة والمنعة التي بفضلها تعود هذه الأمة من الافتراق إلى الاتفاق، ومن الاختلاف إلى الوحدة، وفي هذا المسمى تكمن أسرار العبادة الخالصة لله التي يجزي سبحانه عنها عباده.
تلك هي الأهداف التي يعمل المجمع من أجل تحقيقها وتلك هي الرسالة التي يجب أن يضطلع العلماء في هذا العصر بها على الوجه الأكمل، وهم قادرون على ذلك، ماضون للوصول إلى ما يؤملون، والله من وراء القصد، وهو ولي التوفيق.
أشكركم مرة ثانية وأذكر بأن حسن الأداء والخروج بقرارات واضحة في هذا اللقاء المبارك لدلالة أخرى على وجود الإرادة الإسلامية في هذا الزمن، وفي كل زمان إن شاء الله مواجهة للتحدي والتحديات.
أرجو المعذرة أن أطلت وإن أفضت ببعض العاطفة التي أشعر بها في مثل هذا الموقف، وأسلم عليكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(3/15)
خطاب (1)
معالي السيد سيد شريف الدين بيرزاده
الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين
صاحب السمو الملكي
أصحاب المعالي
الإخوة الأعزاء
يشرفني أن أتوجه بخطابي هذا إلى الجلسة الافتتاحية للدورة الثالثة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي، وأود أن أعرب عن تقديري وامتناني لجلالة الملك الحسين بن طلال ولحكومة المملكة الأردنية الهاشمية لاستضافة هذا الاجتماع ولصاحب السمو الملكي الأمير حسن لتفضله بافتتاحه.
وإني أرحب بالحقوقيين والعلماء البارزين وممثلي الدول الأعضاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي المشاركين في هذه الدورة، وأرجو لهم جميعا طيب الإقامة في هذه المدينة الجميلة، وأتمني لهذه الدورة النجاح.
صاحب السمو
الإخوة الأعزاء
لقد صدر قرار إنشاء مجمع الفقه الإسلامي عن مؤتمر القمة الإسلامي الثالث التاريخي الذي انعقد في مكة المكرمة، وسوف يتابع المجمع السعي لتحقيق الأهداف الحيوية للوحدة الإسلامية وتقريب المجتمع الإسلامي من الإيمان بالعمل على إيجاد حلول لمشاكل الحياة العصرية والجيل المعاصر وفقا لأحكام الشريعة.
ويشكل قرار القمة الإسلامية الثالثة تطورا مهما في تاريخ جهودنا الرامية إلى تحقيق أهدافنا المشتركة، وباتخاذها هذا القرار صممت الدول الإسلامية الواقعة في مختلف بقاع الأرض وذات الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتباينة، على إنشاء مؤسسة تعمل على إبراز وحدة العالم الإسلامي وتقويته في ميدان الفقه والتشريع.
وأكد إنشاء مجمع الفقه إجماع الأمة الإسلامية على الحاجة إلى جهود نظامية يقوم بها أفراد أكفاء ومؤسسات مؤهلة للنظر في مختلف جوانب هذا العصر وتهدف إلى تمكين المسلمين من تكييف حياتهم مع القواعد والتعاليم الأساسية لديننا الحنيف، وليس هذا أمرا سهلا أية حال من الأحوال، ولكنه شرط مسبق لازم للجهود الإسلامية المقررة لضمان مطابقة عملهم الفردي والجماعي لتعاليم الإسلام.
__________
(1) ألقي الخطاب نيابة عن معالي الأمين العام، سعادة الأستاذ فؤاد الخطيب الأمين العام المساعد بمنظمة المؤتمر الإسلامي(3/16)
صاحب السمو
الإخوة الأعزاء
إن من دواعي سرورنا أن نلاحظ ما وصل إليه مجمع الفقه الإسلامي برئاسة فضيلة الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة أمينه العام الفذ، من تقدم كبير خلال فترة وجيزة من الزمن، والمجمع يتلقى دعما فعالا لنشاطاته من عدد كبير من العلماء المسلمين البارزين، والواقع أن المجمع أصبح مركزا لالتقاء علمائنا الأفاضل ومنبرا لهم، وقد بادر المجمع إلى النظر بتعمق في عدد من المسائل التي شغلت بال الحقوقيين منذ عشرات السنين، وتشمل هذه المسائل مختلف جوانب الاقتصاد الحديث مثل الصناعة المصرفية والفوائد المصرفية والتأمين وإعادة التأمين وجمع الزكاة وتوزيعها الخ…
ونحن نتطلع إلى اليوم الذي يتطور فيه هذا المجمع الإسلامي ليصبح مركزا رئيسيا تلتف حوله الهيئات الفقهية الحالية المتعددة، وأنا واثق من أن المجمع سوف يعمل على تشجيع التعاون والتنسيق بصورة أفضل بين هذه الهيئات على أسس خطط مدروسة وعملية.
الإخوة المحترمون:
إن أهمية الفقه الإسلامي تتمثل في حقيقة أنه يرشد أفراد المجتمع إلى كل ما يهمهم في أمور حياتهم، كما أنه يشمل العلاقة بين المسلمين والدولة الإسلامية وكذلك أبناء الأقليات المسلمة في المجتمعات غير الإسلامية.
وقد استجابت الشريعة للحاجات التشريعية للدولة الإسلامية على مر العصور وأمدتها بالمبادئ والقواعد المتعلقة بأعمالها ومسؤولياتها والتزاماتها.
منذ البداية قام أفراد مستنيرون كرسوا حياتهم لدراسة القرآن الكريم وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام بتفسير الشريعة، وذلك عمل جليل، وحاول الفقهاء والعلماء المسلمون تحديد قواعد الفقه بدقة وتجميعها وتصنيفها ونقلها إلى الأجيال القادمة. نتيجة لذلك تجمعت لدينا ثروة فقهية عظيمة من المؤلفات والدراسات والبحوث، كما أن عددا من معاهد الفقه في العديد من الدول الإسلامية نشرت كتبا في الفقه.
ولذلك توفر لمجمع الفقه الإسلامي مصدر ضخم مما خلفه العلماء والفقهاء المسلمون، ومن واجبنا أن ننتفع من تراث أسلافنا وأن نبدأ من حيث انتهوا لنزيد في إثرائه. والمجمع مدعو إلى المحافظة على هذا التراث وإلى العمل على تطوير الفقه الإسلامي.(3/17)
كلمة معالي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
رئيس مجلس المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم … الحمد لله نستلهمه التوفيق والرشد، وألجأ إليه سبحانه وتعالى من مواطن العثار والزلل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لله في الغدو والأصل، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه خاتم الأنبياء والرسل اللهم صل وسلم عليه كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون ما اتصلت عين بنظر وأذن بخير، ورضي الله عن الصحابة الكرام وآل نبيه الطيبين الأطهار والتابعين لهم بإحسان…
أما بعد:
فإن هذا المجمع المبارك قد أتم دورتين في حولين كاملين على أرض المملكة العربية السعودية واليوم نعود والعود إن شاء الله تعالى أحمد مستقبلين له في دورته الثالثة لعامه الثالث دون النمو والارتقاء على أرض المملكة الأردنية الهاشمية مفتتحا برعاية صاحب الجلالة الملك الحسين بن طلال ورعاية صاحب السمو الملكي ولي العهد نائب جلالته الأمير الحسن بن طلال فأبدي جزيل الشكر ومحمود الثناء على هذه المكرمة الملكية الكريمة في سبيل العلم وحملته خدمة للإسلام والمسلمين، وأثني بذلك لكل من له قدم صدق من رجال هذه الحكومة الهاشمية الكريمة وأخص بالذكر مؤسسة آل البيت وفي مقدمتهم العلامة ذو اللغون والأدب والفنون الأستاذ ناصر الدين الأسد، وانطلاقا من شخصية هذا المجمع التي لا تعيش بين جذور محلية وإنما تمتد إلى أقصى حدود العالم الإسلامي فأينما حل ذلكم المجمع فهو يحل في دياره ومنازله، أقول بكل فخر واعتزاز: حياكم الله وأهلا وسهلا ودمتم في صحة وهناءة عيش وفوقة في سبيل العلم وحمل رايته.(3/18)
صاحب السمو الملكي … أيها الحفل الكريم.
لقد دأبت الحياة المجمعية كشأن أي كائن حي لا بد أن يمر بمراحل التكوين وإن تكلأه عين التعاهد وقد سار ذلكم المجمع كذلك يتعاهده رجاله ببليغ العناية لأن حياته تهم كل مسلم ناصح على وجه الأرض وفي كريم معارفكم العلم عسير المطلب بطئ الخطى يحتاج إلى الصبر ومطاولة السنين، والعمل المجمعي بوجه خاص يحتاج إلى ذلك وإلى جد وإلى عمل جاد لا يعرف الغلبة ولا الجلبة متأنيا لا يعرف التسرع ولا جني الثمار قبل نضوجها وأنه قد سار هذا المجمع على هذه الخطوط العريضة يتفيأ في ظلال الشرع المطهر ومن خلال ذلك وفي هذا المسار الكريم أصدر ذلكم المجمع عدة قرارات شرعية في قضايا ونوازل عصرية لجت فيها الأقلام والأفهام وفي أمور فقهية كانت تستدعي بحثا معمقا ورأيا جماعيا، وإن المجمع من خلال قراراته هذه يؤدي وظيفة مهمة في الإسلام، إذ يشد آصرة إخوانه علماء الإسلام في الصد والإيصاد لتلكم الأبواب التي يفتحها الأكالون البطالون على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مقدمة تلك الأبواب باب الملاينة وخفض الجناح على حساب الشرع المطهر، وقد توعد الله الفعلة لذلك من طراز آخر فقال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} وإذا كان هذا في حال من أطاع في بعض الأمر فكيف بحال من رضي وتابع وولج في الأمر جملة واحدة نسأل الله الصون والعافية، وتجسيدا لأهداف هذا المجمع التي من أبرزها شد الأمة إلى وحدتها وصفاء عقيدتها فإنه على لسان رجال هذا المجمع وأمانة هذه المجمع ورئاسة هذا المجمع أبعث رسالة حق من مقامي هذا إلى قادة العالم الإسلامي من مجمعهم هذا قائلا: إنه لا سبيل إلى حياة آمنة مطمئنة يحق فيها الحق ويبطل فيها الباطل ويدفع العدو الصائل إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة والأخذ بالدليل من التنزيل ومن أقوال النبي الكريم عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم.(3/19)
ولن يتجلى ذلك إلا بمسلكين بارزين:
أحدهما: مسلك تحكيم شريعة الله بين عباده في بلاده فوق أرضه وتحت سمائه إذ الكل ملك لله فيتعين على مملوكيه أن يدينوا لمالكهم بأمره ونهيه وتشريعه.
والمسلك الثاني: تنقية التعليم وتصفيته وتخليصه، من كل شائبة يزنها الإسلام، والعمل على إمداده في ضوء الشارع المطهر، وقد رأينا بوادر ذلك ولله الحمد في ديار الإسلام من الصحوة الإسلامية التي تعيشها ديار الإسلام، وفي عدد من القرارات القيادية التي ترشد هذه المسالك وتجعلها في ساحة العمل، فلله الحمد على ما أنعم وتفضل وأسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعا إلى طريق الحق والصواب.
صاحب السمو الملكي… أيها الحفل الكريم:
لا بد لي أن أبدي شكرا وتقديرا وأرفع ذكرا لأمانة هذا المجمع التي عملت جادة في طوال العام على بذل الجهود في عقد هذه الدورة.. وشكر لجلالة الملك الحسين بن طلال، ولسموكم على هذه الاستضافة الكريمة وعلى هذا اللقاء العظيم، وإنني أستأذن سموكم بأن تكون كلمتكم هذه ميثاقا من مواثيق مجمع الفقه الإسلامي سيطبع منفردا نظرا لما تتمتع به من روح التشريع ومن الأمور المهمة ورسم الخطوط العريضة وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعا لما فيه صلاح العباد والبلاد وأن يأخذ بأيدينا جميعا إلى كل عمل صالح مبرور والله يحفظنا وإياكم بالإسلام، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.(3/20)
كلمة
معالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
الأمين العام للمجمع
الحمد لله الذي ميزنا على سائر الأمم برابطة ثابتة دائمة هي العروة الوثقى التي لا انفصام لها، وقد جعلها الله لنا ذكرا وشريعة ومنهاجا، ووصف الذكر فقال عز وجل: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
وفصل الشريعة التي ختم بها الشرائع كلها وقابل بها بين الحق والباطل فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} ووضع لنا منهاج حياتنا، يجمع شملنا، ويسدد سلوكنا، ويدعم صفنا ويوحد كلمتنا، وذلك هو الدين الخالص الذي ارتضاه الله لنا: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
وصلى الله على إمام الأئمة ونبي الرحمة سيد المرسلين وقائد الغر المحجلين سيدنا ومولانا محمد الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فأدى الرسالة، وبلغ الأمانة وعبد الله حتى أتاه اليقين وعلى آله وصحبه وسلم.
حضرة نائب جلالة الملك صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال المعظم.
صاحب المعالي الدكتور ناصر الدين الأسد رئيس مجمع الحاضرة الإسلامية، مؤسسة آل البيت الموقر.
حضرة صاحب المعالي الأمين العام المساعد لمنظمة المؤتمر الإسلامي المبجل.
حضرات أصحاب السماحة والفضيلة والسعادة أعضاء المجمع الأكارم.
حضرات الأساتذة.. أيها السادة.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
ههنا بعاصمة البلقاء عمان قاعدة المملكة الأردنية الهامشية أرض البطولات والأمجاد، حيث يستبسل المناضلون ويرابط المجاهدون، وتزخر الحياة اليومية بألوان الكفاح من أجل تحرير الأوطان، ورفع التحديات وتحقيق عزة العروبة والإسلام وحيث تقوم الجامعات العلمية والمجامع الحضارية واللغوية والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية بجلائل الأعمال وشتى الخدمات في مختلف مجالات الحياة، وحيث تنعقد باستمرار وطوال الفصول والشهور المؤتمرات والندوات والأيام الدراسية واللقاءات، يأتلف جمعهم الكريم هذا في المؤتمر الثالث لمجمع الفقه الإسلامي بالأردن الحبيب، في ظل رعاية برة كريمة من المقام العالي صاحب الجلالة الملك المعظم الحسين بن طلال أعزه الله ونصره، بدعوة سنية من قواعد الفكر الأمير العالم أمير البيان حضرة صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير الحسن حرس الله كماله وزان بالتأييد علاءه، ولقد وجدنا من صاحب المعالي وزير التعليم العالي ورئيس مجمع الحضارة الإسلامية مؤسسة آل البيت العلامة الجليل والناقد الأديب الدكتور ناصر الدين الأسد عناية فائقة ومساعدة قيمة أسهمتا بفضل الله في توفير الأسباب الكافية لإنجاح دورة مؤتمرنا هذا، أسبغ الله على معاليه نعمه وأمده بروح منه.(3/21)
وإن مجمعكم الفتي الذي يشعر بدون شك يوما بعد يوم بالرعاية تحوطه، ومظاهر التقدير تسنده وتعزز جانبه، لتحفزه هذه المواقف الكريمة منه، وهو في بداية الطريق، فيمضي قدما بإذن الله في أداء رسالته والاضطلاع بالأمانة الثقيلة التي حملها من العالم الإسلامي كله، مستعينا بالله مستمدا منه الآد والتوفيق والهداية إلى أقوم السبيل {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
وهنا نحن بمناسبة عقد هذه الدورة الجديدة لمؤتمركم السنوي نضع بين أيدي حضراتكم العددين الأول والثاني من مجلة مجمع الفقه الإسلامي يكتسي الأول منهما صبغة تاريخية وثائقية فيعرض أولا القرارات التأسيسية للمجمع ويصور وقائع المؤتمر التأسيسي الذي انعقد بمكة المكرمة، وحظي بالرئاسة الفعلية لخادم الحرمين الشريفين صاحب الجلالة الملك المعظم فهد بن عبد العزيز عاهل المملكة العربية السعودية الذي أشرف عليه وتكرم فيه بإلقاء خطابه السامي المنهجي الذي يعتز المجمع به ويعتمده دستورا وخطة عمل لبلوغ العالم الإسلامي أهدافه المنتظر تحقيقها عن طريقه، ثم وقائع المؤتمر الأول لمجلس المجمع الذي انعقد بمكة المكرمة وشهده أعضاء المجمع المنتدبون فيه من طرف دول العالم الإسلامي، كما يتضمن في نهايته صورة دقيقة لأعمال شعبة التخطيط التي اجتمعت بمقر المجمع بجدة إثر انعقاد الدورة الأولي لمؤتمر مجلس المجمع.
ويمثل العدد الثاني من المجلة سجلا علميا حافلا يجمع كل ما قدم من بحوث وعرض من دراسات على الدورة الثانية لمؤتمر مجلس المجمع الذي انعقد بمقره بمدينة جدة في العام الماضي، كما يتناول المناقشات الفقهية العميقة التي دارت به والقرارات المجمعية التي صدرت عنه بعد طول مداولة وإنعام النظر.(3/22)
وقد كان إنجازنا لهذا العمل المادي المعتبر من أعمال المجمع بمطابع رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وإنا لنشكر جزيل الشكر الآذن بطبعه معالي الأمين العام للرابطة الدكتور عبد الله عمر نصيف جازاه الله خير الجزاء عن حسن تعاونه وكريم مساعدته.
وفي الفترة ما بين المؤتمرين الماضي والحاضر قام المجمع بنشاطات عدة تجدونها حضراتكم مثبتة بالتقرير العام الذي يوزع عليكم، ومن جملة تلك النشاطات اجتماع ممثلي شعب المجلس الذي تم انعقاده بجدة أوائل شهر رجب الفرد.
وإن المعروض على أصحاب السماحة والفضيلة والمعالي والسعادة أعضاء المجمع وخبرائه في هذه الدورة المباركة أحد عشر موضوعا، وصلتنا بشأنها تقارير وبحوث نرجو من الله أن نوفق لدراستها دراسة موضوعية، ونتخذ بشأنها القرارات المجمعية الدقيقة، وهذه الموضوعات والقضايا المطروحة علينا اليوم قسمان:
الأول منها فيه مواصلة نظر واستكمال بحث لمسائل وقع عرضها في الدورة الثانية للمجلس، وقد قرر تأجيل البت فيها لهذه الدورة، ومن بين هذه القضايا والموضوعات:
استفسارات البنك الإسلامي للتنمية التي احتاجت بعد المؤتمر الماضي إلى عقد اجتماع تمهيدي بمقر المجمع لتفصيلها وضبطها، ثم إلى اجتماع علمي بمقر بنك التنمية الإسلامي بجدة دعا إليه معالي الدكتور أحمد محمد علي، وتفضل رئيس البنك مشكورا بحضور جلساته والإجابة على كل الملاحظات التي تقدم بها الأعضاء ابتغاء تصحيح المسار الشرعي وتعديل بعض مشاريع العقود حرصا من بنك التنمية الإسلامي على الالتزام بقواعد الشريعة الإسلامية وأحكامها في معاملاته مع الأطراف المتعاونة معه.
والقسم الثاني من المسائل المطروحة لأول مرة على المجمع في دورته هذه يتناول كما هو مثبت بجدول الأعمال جوانب جديدة من أحكام الزكاة ومصارفها، وقضية تعبدية تتصل بالمناسك، وموضوعين اقتصاديين ماليين جدا في عصرنا الحاضر يقتضيان الدرس والنظر وتحديد الأحكام الشرعية فيهما.(3/23)
وبعد هذا ينكب المجلس بإذن الله على دراسة المشاريع المعروضة عليه من طرف اللجان أو الأعضاء والتي تتعلق بالموسوعة الفقهية في قضايا المعاملات القديمة والجديدة، ومعجم المصطلحات الفقهية، وكتب إحياء التراث، والطرق الكفيلة بتيسير الفقه وتقريبه مثل معلمة القواعد الفقهية ومدونة الأدلة للأحكام الفقهية الشرعية وغيرها.
وإن صفوة زكية ونخبة مختارة من فقهاء الإسلام من أطراف العالم تمثل الدول الإسلامية كلها، والمذاهب الفقهية المعتمدة جميعها، تجتمع دوريا وفي كل سنة لدراسة المشاريع العلمية، والعمل على إنجازها، ولاستعراض القضايا المستجدة للإصداع بحكم الله فيها، وتحديد المنهج الشرعي لها، لخير هيئة دولية إسلامية لتجديد الذات على أساس من صحة العقيدة، وللهيمنة على المشاكل بالتزام شريعة الله السمحة، ولتوحيد الصف بين أفراد المجتمع الإسلامي استجابة لمدلول الأمة الواحدة وتحقيقا له، وإنها لثلاثة من ثلاث تكسب العزة وتوجب السيادة وتبرئ مقام الريادة يلهم الله عباده المؤمنين طرق اكتسابها وسبل الحصول عليها في قوله عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} .
ولا يستولين اليأس على قلوبنا في زمننا هذا لما نرى عليه المجتمع الإسلامي من انحراف عن الدين، أو ضلال عن الحق، وتقاطع وتدابر بين شعوبه، أو تخلف أو تأخر في مجالات الحياة العلمية الجديدة، فإن للدين ربا يحميه، وللإسلام الخالد مناهج تجديدة تعتمل وسط المجتمع الإسلامي في كل صقع من أصقاعه تبعثه وتحييه وتجدد أسباب السؤدد والعزة فيه، أكد ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبوهريرة من قوله: فيما أعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)) ، وقد تنبه إلى هذا أيضا المجاهدون والمصلحون والمجددون حتى قال الأستاذ الإمام محمد عبده:
إن هذه العوارض التي غشيت الدين وصرفت قلوب المسلمين عن رعايته، وإن كان حجابها كثيفا لكن بينها وبين الاعتقادات الصحيحة التي لم يحرموها بالمرة تدافع دائم وتغالب لا ينقطع، والمنازعة بين الحق والباطل كالمدافعة بين المرض وقوة المزاج، وحيث إن الدين الحق هو أول صبغة صبغ الله بها نفوسهم، ولا يزال وميض برقه يلوح في أفئدتهم بين تلك الغيوم العارضة، فلا بد يوما أن يسطع ضياؤه ويقشع سحاب الأغيان، وما دام القرآن يتلى بين المسليمن، وهو كتابهم المنزل وإمامهم الحق، وهو القائم عليهم يأمرهم بحماية حوزتهم والدفاع عن ولايتهم ومغالبة المعتدين وطلب المنعة من كل سبيل، لا يعين لها وجها ولا يخطط لها طريقا، فإننا لا نرتاب في عودتهم إلى مثل نشأتهم ونهوضهم إلى مقاضاة الزمان ما سلب منهم".(3/24)
ولقد كانت الجماعة الإسلامية التي أنشأها الرسول صلى الله عليه وسلم فئة قليلة من المؤمنين والمستضعفين، تحولت بعد قليل إلى قوم أولى قوة وبأس، وما فتئت بعد ذلك يزداد عدد أفرادها ويتسع جمهورها حتى أصبحت أمة واحدة تشد أواصر الأخوة بين جماعاتها وفئاتها في أطراف المعمورة رابطة العقيدة التي تذوب أمامها كل العلاقات وتنحل عراها، فإذا هي الآصرة الخالدة التي تتميز بها الجماعة الإسلامية، وتتجاوز بها وعن طريقها حدود الأوطان والأقاليم، وتتلاقي وتتمازج في إطارها الأعراق والأجناس، لتقوم بعد ذلك بالوظيفة السامية التي هيئت لها وأقامها على أساسها نبي الرحمة.
ولقد صور هذا المعنى الدقيق ونفذ فيه إلى غايته محمد فريد وجدي حين قال: "بعث الله خاتم رسله محمدا لإحداث هذا الحدث العالمي الفذ فأنزل عليه الدين في لقائه الأول خالصا من جميع الشوائب البشرية، وأتم على يديه تأليف أمة مثالية في عشر سنين، وهي الأمة التي أعدها الحق لنشر الدين الحق وإيقاظ العقول في سباتها التقليدي إلى النظر في الوجود، والاستفادة من خصائصها الفطرية للوصول إلى الحقائق الإلهية نقية من كل ما يلابسها من وساوس الظنون وأوهام النفوس. لتحدث في العالم ما أراده الخالق له من نقاء العقيدة وصحة الإيمان، وسلامة الصدور".
وقد تولدت عن هذه الرابطة العقدية التي انتظمت في سلكها عناصر أمة التوحيد جملة مقومات، منها العادات والتقاليد المشتركة، والثقافة المميزة الجامعة، والأحوال الاجتماعية المتماثلة، والتاريخ الواحد المتجانس، ووحدة القيم والأسس الأخلاقية والفكرية، ذلك أن المجتمع الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه لم يقم إلا على أساس الاستجابة للرسول الداعي، بالإيمان بالله وحده، وتنزيهه عن الشبيه والنظير وإعلان كلمة الشهادة، والانتظام في سلك الموحدين المؤمنين الذي يشرفهم الله بالحديث عنهم في قوله: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} .
وقد جاءت هذه العقيدة المتجسمة في الإيمان بالله وحده وإفراده سبحانه وتعالى بالعبادة الخالصة، آمرة وناهية، بل مقتضية من المسلم جانبا سلوكيا يتعانق مع الإيمان ويجد ما صدقه في العمل الصالح والاستقامة، يدل على ذلك ما رواه مسلم من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: ((قل: آمنت بالله أو ربي الله ثم استقم)) .(3/25)
والاستقامة التزام النظم التي شرعها الله في تحديد علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بأخيه المسلم وبالناس جميعا، وعلاقته بالكون وبالحياة، وقد جاء القرآن ضابطا لأصول الاستقامة، مبينا لطرق العدل، مقابلا بين العمل الصالح والعمل السيء داعيا إلى الأخذ بما شرعه الله وأمر به ونبذ ما سواه، قال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} . وقد رتبت أحكام الشريعة التي تضمنها الكتاب الكريم وفصلتها السنة النبوية الشريفة على مقاصد وغايات كانت أساس التحليل والتحريم ومدار الأمر والنهي، وهي صلاح كلها ورحمة كلها، لا يقدر المؤمن على مخالفتها وإن أباح له ذلك ما تواضع الناس عليه من القوانين، ففي الأخذ بالشريعة أخذ بالعدل والحق، وإرضاء لله ولرسوله، وبين الإيمان الصحيح والتزام شرع الله تمام التماسك والترابط في ذهن المسلم، لأن في ذلك طاعة الله الذي آمن به، وامتثالا لحكمه، ورفض الانقياد والاستسلام منه لما شرعه الله وقدره بحكمته يحتاج إلى معالجة العقيدة وإصلاحها، ويقتضي الأوبة إلى الله وتجديد الإيمان.
وقد قامت الدراسات والبحوث على بيان حقيقة الشريعة وأحكامها ومقاصدها وأهدافها فلمسنا ما بينها وبين غيرها من الشرائع والقوانين من تفاوت يدل عليه أنها الدين وقد كمل، وأنها النعمة وقد أتمها الله على عباده المؤمنين، وأنها الإسلام وقد ارتضاه رب العزة دينا للعالمين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} .
وهكذا امتزجت الشريعة بالعقيدة وارتبطت بها، وكانت هذه أصلا والشريعة لها فرعا، وأدرك المؤمنون أن القطعي فيها الذي لا اجتهاد فيه معدودة مسائله، محدودة قضاياه، وأنها فيما سوى ذلك تخاطب العقل والوجدان والضمير والأخلاق، وتضع الأحكام على النحو الذي يخدم الجماعة ويحقق المصلحة العامة، وكان وما زال من المسلم عند كل مسلم أن الشريعة من الله، وأنها لا تزيغ ولا تحيف، وأنها صالحة لكل زمان ومكان. وقد اهتدى بها المسلمون وجربوها في علاج أوضاعهم الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، فوجودها الأصح والأنجح والأكمل بما فيها من قواعد كلية، وأصول عامة، ونظريات تشريعية، تواكب تطورات الزمان، وتراعي الملابسات والظروف، وتبني أحكامها على العلل والأسباب، وتعتمد القياس والاستحسان والاستصلاح.
وتجري في كل الأحوال بما يناسبها من الأخذ بالعزائم مرة، وبالرخص أخرى بحسب طاقات المكلفين وأنواع الضرورات والأعذار، وهي في كل ذلك متسمة باليسر لتحقيق الوسطية، وبلوغ قمة العدالة، مع حفظ كرامة الإنسان والبعد به دائما عن مساوئ الإفراط والتفريط في أداء الواجب واقتضاء الحق.(3/26)
وإذا كان المجمع الفقهي بأعضائه وخبرائه ومجلسه وهيآته قد هيأه الله لتأصيل العقيدة وتصحيحها، وحماية الشريعة وتفصيلها، فإن الدول الإسلامية والمجتمع الإسلامي من ورائها لينتظران منكم أصحاب السماحة والفضيلة في ظل العدالة الإلهية ووفق أصول الشريعة الإسلامية السمحة، ومبادئها الثابتة، وقواعدها المرنة، أن تقربوا الفقه الإسلامي من المجتمعات الإسلامية لتعي أحكامه، وتعرف مسائله وفروعه، وتكون على بصيرة من أمر دينها في كل تصرفاتهم وجميع أحوالها، وإن تحددوا مجمعيا أحكام الشريعة في القضايا المستجدة على وجه يعين الناس على تحقيق معاشهم وطلب مصالحهم من غير أن تتعارض تلك الأحكام مع الأصول الثابتة والدلائل القطعية للشريعة الحكيمة الفاصلة بين الحق والباطل، ولتحرصوا بارك الله جهودكم وأمدكم بعون منه على وضع ما يمكن ويتأكد من التنظيمات والتراتيب والطرق الإجرائية لضمان قيام متطلبات العصر الراهن ومقتضيات الزمن المعاصر مثل المؤسسات الجديدة والشركات المستحدثة وما يجري بها من التصرفات والأعمال وفق أصول الشريعة الإسلامية.
وإن تطبيق الشريعة لمطلب شريف وضروري وأمر حتمي تصان به الحقوق، ويستتب به الأمن، ويتحقق به العدل، وهو ممكن ويسير على المؤمنين كافة متى تبين لهم الحلال والحرام، وضبطت لهم الأحكام، وأدركت مقاصد الشارع.
وقوي الوازع الديني في النفوس يجنبها الوقوع في محارم الله.
وهذا كتاب الله الكريم وهذه سنة نبيه الشريفة معالم على الطريق ينيران لكم السبيل في مهامكم الشاقة وأعمالكم الجليلة.
فمرحبا بكم أئمة هداة مهديين، ومرحبا بكم فقهاء مجتهدين، في هذا المؤتمر الفخور باجتماعكم فيه وفي غيره من المؤتمرات واللقاءات: تقربون ما شرد من الأنظار الصحيحة والآراء الصائبة السديدة، وتضعون الحلول للمشاكل المستعصية، وتسلكون بالناس منهجا يقيهم على الصراط المستقيم ويزيدهم تمكنا من الدين القيم الذي انتسبوا إليه مختارين، فيتحد طريق المؤمنين كما عهدنا ذلك في صدر الإسلام، وتجتمع كلمتهم، وتلتقي الأمة الواحدة أمة التوحيد أمة محمد صلى الله عليه وسلم على منهج الله وسبيل المؤمنين متآخية متضامنة متناصرة متعاونة ومستجيبة دعوة الحق سبحانه {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(3/27)
2 - وقال الله تعالى {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . جعل الله أخص صفات الأبرار الإحسان، وأن مظهر إحسانهم يتجلى في القيام من الليل، والاستغفار في السحر تعبدًا لله وتقربًا إليه، كما يتجلى في إعطاء الفقير حقه، رحمة وحنوا عليه.
3 – وقال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} . أي أن الجماعة التي يباركها الله ويشملها برحمته، هي الجماعة التي تؤمن بالله، ويتولى بعضها بعضا بالنصر والحب، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتصل ما بينها وبين الله بالصلاة، وتقوي صلاتها ببعضها بإيتاء الزكاة
4 - وقال الله تعالى {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}
جعل الله إيتاء الزكاة غاية من غايات التمكين في الأرض.
1- وروى الترمذي عن أبي كبشة الأنماري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه: ما نقص مال من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر))
2- وروى أحمد والترمذي وصححه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يقبل الصدقات ويأحذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه أو فصيله حتى إن اللقمة لتصير مثل جبل أحد)) ، قال وكيع: وتصديق ذلك في كتاب الله قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}
3- وروى أحمد بسند صحيح – عن أنس رضي الله عنه قال: أتى رجل من تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إني ذو مال كثير، وذو أهل ومال وحاضرة فأخبرني كيف أصنع وكيف أنفق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تخرج الزكاة من مالك فإنها طهرة تطهرك، وتصل أقرباءك وتعرف حق المسكين والجار والسائل))(3/28)
4- وروي أيضًا عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث أحلف عليهن، لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، وأسهم الإسلام ثلاثة الصلاة، والصوم، والزكاة، ولا يتولى الله عبدًا في الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة، ولا يحب رجل قوما إلا جعله الله معهم. والرابعة لو حلفت عليها رجوت أن لا آثم لا يستر الله عبدًا في الدنيا إلا ستره يوم القيامة)) .
5- وروى الطبراني في الأوسط، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله: أرأيت إن أدى الرجل زكاة ماله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدى زكاة ماله ذهب عنه شره))
5- وروى البخاري، ومسلم، عن جابر بن عبد الله قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.
3- الترهيب من منعها:
1- قال الله تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} .
2- وقال {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
1 - وروى أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم فيجعل صفائح فتكوى بها جنباه وجبهته حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار. وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت تستن عليه كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله أما إلى الجنة وإما إلى النار وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها ليس فيها عقصاء ولا جلحاء كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار قالوا: فالخيل يا رسول الله؟ قال:والخيل في نواصيها)) ، أو قال: ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة)) ، الخيل ثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأما التي هي له أجر فالرجل يتخذها في سبيل الله ويعدها له فلا تغيب شيئا في بطونها إلا كتب الله له أجرا، ولو رعاها في مرج فما أكلت من شي إلا كتب الله له بها أجرا، ولو سقاها من نهر كان له بكل قطرة تغيبها في بطونها أجر حتى ذكر الأجر في أبوالها وأوراثها ولو استنت شرفا أو شرفين كتب له بكل خطوة يخطوها أجر، وأما التي هي له ستر، فالرجل يتخذها تكرما وتجملًا، لا ينسى حق بطونها وظهورها في عسرها ويسرها، وأما التي هي عليه وزر، فالذي يتخذها أشرا وبطرا وبذخا، ورياء الناس فذلك الذي عليه الوزر. قالوا: فالحمر يا رسول الله؟ قال: ما أنزل الله علي فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} .(3/29)
2- وروى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه – يعني شدقيه – ثم يقول: أنا كنزك، أنا مالك)) ثم تلا هذه الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية
3- وروى ابن ماجه، والبزار، والبيهقي – واللفظ له – عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا معشر المهاجرين خصال خمس، إن ابتليتم بهن ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم. ولو ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان. ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدو من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، إلا جعل بأسهم بينهم))
4- وروى الشيخان عن الأحنف بن قيس قال: جلست إلى ملأ من قريش فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة حتى قام عليهم فسلم ثم قال: بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه فيتزلزل ثم ولى فجلس إلى سارية، وتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو – فقلت: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت. قال: إنهم لا يعقلون شيء قال لي خليلي، قلت: من خليلك؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتبصر أحدا؟)) قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار، وأنا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسلني في حاجة له. فقلت: نعم: قال: ((ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير. وإن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون الدنيا، لا والله لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله عز وجل)) .
حكم مانعها:
الزكاة من الفرائض التي أجمعت عليها الأمة واشتهرت شهرة جعلتها من ضروريات الدين بحيث لو أنكر وجوبها أحد خرج عن الإسلام، وقتل كفرا، إلا إذا كان حديث عهد بإسلام فإنه يعذر لجهله بأحكامه.(3/30)
على من تجب الزكاة؟
تجب الزكاة على المسلم الحر المالك للنصاب، ومن أي نوع من أنواع المال الذي تجب فيه الزكاة.
ويشترط في النصاب:
1- أن يكون فاضلا عن الحاجات الضرورية التي لا غنى للمرء عنها، كالمطعم والملبس والمسكن والمركب وآلات الحرفة.
2- وأن يحول عليه الحول الهجري، ويعتبر ابتداؤه من يوم ملك النصاب، ولا بد من كماله في الحول كله، فلو نقص أثناء الحول ثم كمل اعتبر ابتداء الحول من يوم كماله.
قال النووي: مذهبنا ومذهب مالك وأحمد والجمهور: أنه يشترط في المال الذي تجب الزكاة في عينه – ويعتبر فيه الحول، كالذهب والفضة والماشية – وجود النصاب في جميع الحول فإن نقص النصاب في لحظة من الحول انقطع الحول. فإن كمل بعد ذلك استؤنف الحول من حين يكمل النصاب.
أداؤها وقت الوجوب:
يجب إخراج الزكاة فورًا عند وجوبها، ويحرم تأخير أدائها عن وقت الوجوب، إلا إذا لم يتمكن من أدائها فيجوز له التأخير حتى يتمكن.
لما رواه أحمد والبخاري عن عقبه بن الحارث قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر. فلما سلم، قام سريعًا فدخل على بعض نسائه. ثم خرج ورأى ما في وجوه القوم من تعاجبهم لسرعته، قال ((ذكرت وأنا في الصلاة تبرا عندنا، فكرهت أن يمسي أو يبيت عندنا فأمرت بقسمته)) .
وروى الشافعي، والبخاري في التاريخ عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته)) رواه الحميدي وزاد، قال: ((يكون قد وجب عليك في مالك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال))
الأموال التي تجب فيها الزكاة:
أوجب الإسلام الزكاة في الذهب والفضة، والزرع، والثمار وعروض التجارة، والسوائم والمعدن، والركاز.
زكاة النقدين: الذهب والفضة
وجوبها:
جاء في زكاة الذهب والفضة قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} .
والزكاة واجبة فيهما سواء أكان نقودا أم سبائك أم تبرا متى بلغ مقدار المملوك من كل منهما نصابا وحال عليه الحول وكان فارغا عن الدين والحاجات الأصلية.(3/31)
نصاب الذهب ومقدار الواجب:
لا شيء في الذهب حتى يبلغ عشرين دينارا فإذا بلغ عشرين دينارا وحال عليه الحول ففيها ربع العشر أي نصف دينار وما زاد على العشرين دينار يأخذ ربع عشره كذلك فعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس عليك شيء في الذهب – حتى يكون لك عشرون دينارا فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليه الحول ففيها نصف دينار فما زاد فبحساب ذلك وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول)) . رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وصححه البخاري وحسنه الحافظ وعن زريق مولى بني فزارة: أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه – حين استخلف: - خذ ممن مر بك من تجار المسلمين فيما يديرون من أموالهم من كل أربعين دينارا: دينارا واحدا فيما نقص فبحساب ما نقص حتى يبلغ عشرين فإن نقصت ثلث دينار فدعها لا تأخذ منها شيء واكتب لهم براءة بما تأخذ منهم إلى مثلها من الحول. رواه ابن أبي شيبة.
قال مالك في الموطأ: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أن الزكاة تجب في عشرين دينارا كما تجب في مائتي درهم.
نصاب الفضة ومقدار الواجب:
وأما الفضة فلا شيء فيها حتى تبلغ مائتي درهم فإذا بلغت مائتي درهم ففيها ربع العشر وما زاد فبحسابه قل أم كثر فإنه لا عفو في زكاة النقد بعد بلوغ النصاب.
فعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قد عفوت لكم عن الخيل والرقيق فآتوا صدقة الرقة الفضة من كل أربعين درهما: درهم وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم)) رواه أصحاب السنن
زكاة الزروع والثمار:
وجوبها:
أوجب الله تعالى زكاة الزروع والثمار فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} والزكاة تسمى نفقة قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال ابن عباس: حقه الزكاة المفروضة.
فقد أورد الإمام مالك في موطئه الحديث التالي فيه تحديد لمقادير الزكاة في الثمار فقال: حدثني يحيى عن مالك عن الثقة عنده عن سليمان بن يسار وعن بسر بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر)) .(3/32)
الأصناف التي كانت تؤخذ منها الزكاة على عهد الرسول:
وقد كانت الزكاة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تؤخذ من الحنطة والشعير والتمر والزبيب فعن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن يعلمون الناس أمر دينهم فأمرهم أن لا يأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب.
رواه الدارقطني والحاكم والطبراني والبيهقي وقال: رواته ثقات وهو متصل قال ابن المنذر وابن عبد البر: وأجمع العلماء على أن الصدقة واجبة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب.
وجاء في رواية ابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سن الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والذرة. وفي إسناد هذه الرواية محمد بن عبيد الله العرزمي وهو متروك.
الأصناف التي لم تكن تؤخذ منها:
ولم تكن تؤخذ الزكاة من الخضروات ولا من غيرها من الفواكه إلا العنب والرطب.
نصاب زكاة الزروع والثمار: ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الزكاة لا تجب في شيء من الزروع والثمار حتى تبلغ خمسة أوسق.
فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)) رواه أحمد والبيهقي بسند جيد.
زكاة الحيوان:
جاءت الأحاديث الصحيحة مصرحة بإيجاب الزكاة في الإبل والبقر والغنم واجتمعت الأمة على العمل.
ويشترط لإيجاب الزكاة فيها:
1- أن تبلغ نصابا.
2- وأن يحول عليه الحول.
3- وأن تكون سائمة أي راعية من الكلأ المباح أكثر العام.
والجمهور على اعتبار هذا الشرط ولم يخالف فيه غير مالك والليث فإنهما أوجبا الزكاة في المواشي مطلقًا سواء أكانت سائمة أو معلوفة عاملة أو غير عاملة.(3/33)
زكاة الإبل:
لا شيء في الإبل حتى تبلغ خمسا فإذا بلغت خمسا، وحال عليها الحول ففيها شاة فإذا بلغت عشرا ففيها شاتان وهكذا كلما زادت خمسا زادت شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض (وهي التي لها سنة ودخلت في الثانية) أو ابن لبون (وهو الذي له سنتان ودخل في الثالثة) فإذا بلغت ستة وثلاثين ففيها ابنة لبون وفي ست وأربعين حقة (وهي التي لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة) وفي إحدى وستين حقتان إلى مائة وعشرين فإذا زادت ففي كل أربعين ابنة لبون وفي كل خمسين حقة.
زكاة البقرة:
وأما البقرة فلا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين فإذا بلغت ثلاثين سائمة وحال عليها الحول ففيها تبيع أو تبيعة (وهو ما له سنة) ولا شيء فيها غير ذلك حتى تبلغ أربعين فإذا بلغت ففيها مسنة (وهي ما لها سنتان) ولا شيء فيها حتى تبلغ ستين فإذا بلغت ستين ففيها تبعان وفي السبعين مسنة وتبيع وفي الثمانين مسنتان وفي التسعين ثلاثة أتباع وفي المائة مسنة وتبيعان وفي العشرة والمائة مسنتان وتبيع وفي العشرين والمائة ثلاثة مسنات أو أربعة أتباع وهكذا ما زاد ففي كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة.
زكاة الغنم:
لا زكاة في الغنم حتى تبلغ أربعين فإذا بلغت أربعين وحال عليها الحول ففيها شاة إلى مائة وعشرين فإذا بلغت مائة وإحدى وعشرين ففيها شاتان إلى مائتين فإذا بلغت مائتين وواحدة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة.
ويؤخذ الجذع من الضمأن والثني من المعز.
هذا ويجوز إخراج الذكور في الزكاة اتفاقًا إذا كان نصاب الغنم كله ذكورا فإن كان إناثا أو ذكورا وإناث جاز إخراج الذكور عند الأحناف وتعينت الأنثى عند غيرهم.
مصارف الزكاة
تصرف الزكاة للأصناف الثمانية المذكورة في قوله تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وفي تعريف كل واحد من هؤلاء الأصناف وما يتعلق ذلك من الأحكام تفصيل في المذهب
1- الحنفية قالوا:
) الفقير) هو الذي يملك أقل من النصاب أو يملك نصابا غير تام يستغرق حاجته أو يملك نصبا كثيرة غير تامة تستغرق الحاجة فإن ملكها لا يخرجه عن كونه فقيرا يجوز صرف الزكاة له وصرفها للفقير العالم أفضل.(3/34)
(المسكين) هو الذي لا يملك شيء أصلا فيحتاج إلى المسألة لقوته أو لتحصيل ما يواري به بدنه ويحل له أن يسأل لذلك بخلاف الفقير فإنه لا تحل له المسألة ما دام يملك قوت يومه بعد سترة بدنه.
(العامل) هو الذي نصبه الإمام لأخذ الصدقات والعشور فيأخذ بقدر ما عمل.
(والرقاب) هم الأرقاء المكاتبون.
(والغارم) هو الذي عليه دين ولا يملك نصابا كاملًا بعد دينه والدفع إليه لسداد دينه أفضل من الدفع للفقير.
(وفي سبيل الله) هم الفقراء المنقطعون للغزو في سبيل الله على الأصح.
(وابن السبيل) هو الغريب المنقطع عن ماله فيجوز صرف الزكاة له بقدر الحاجة فقط والأفضل له أن يستدين.
أما (المؤلفة قلوبهم) فإنهم منعوا من الزكاة في خلافة الصديق.
ويشترط لصحة أداء الزكاة النية المقارنة لإخراجها أو وجب إخراجه.
هذا وللمالك أن يصرف الزكاة لجميع الأصناف المذكورة في الآيات الكريمة أو لبعضهم ولو واحد من أي صنف كان والأفضل أن يقتصر على واحد إلا إذا كان المدفوع أقل من نصاب فإن دفع نصابا كاملا فأكثر أجزأه مع الكراهة.
إلا إذا كان استحق الزكاة مدينا فإنه يجوز للمالك أن يسدد له دينه بالزكاة ولو كانت أكثر من نصاب وكذا لو كان ذا عيال فإنه يجوز أن يصرف له من الزكاة أكثر من نصاب لكن بحيث لو وزع على عياله يصيب كل واحد منهم أقل من نصاب.(3/35)
ولا يجوز أن يصرف الزكاة في بناء مسجد أو مدرسة أو في حج أو جهاد أو في إصلاح طرق أو سقاية أو قنطرة أو نحو ذلك أو تكفين ميت وكل ما ليس فيه تمليك لمستحق الزكاة وقد تقدم أن التمليك ركن للزكاة ويجوز صرف الزكاة لمن يملك أقل من النصاب وإن كان صحيحا ذا كسب أما من يملك نصابا من أي مال كان فاضلا عن حاجته الأصلية وهي مسكنه وثيابه وخادمه ومركبه وسلاحه فلا يجوز صرف الزكاة له.
ويجوز دفع الزكاة إلى ولد الغني الكبير إذا كان فقيرا أما ولده الصغير فلا يجوز دفع الزكاة له وكذا يجوز دفعها إلى امرأة الغني وهي فقيرة وإلي الأب المعسر إن كان ابنه موسرا ويكره نقل الزكاة من بلد إلى بلد إلا أن ينقلها إلى قرابته أو إلى قوم هم أحوج إليها من أهل بلده ولو نقل إلى غيرهم أجزأه مع الكراهة وإنما يكره النقل إذا أخرجها في حينها أما إذا أعجلها قبل حينها فلا بأس بالنقل.
المعتبر في الزكاة مكان المال حتى لو كان المالك في بلد وماله في بلد أخرى تفرق الزكاة في مكان المال وإذا نوى الزكاة بما يعطيه لصبيان أقاربه أو لمن يأتيه ببشارة ونحوها أجزأه وكذا ما يدفعه للفقراء من الرجال والنساء في المواسم والأعياد. ويجوز التصدق على الذمي بغير مال الزكاة ولا تحل لبني هاشم بخلاف صدقات التطوع والوقف.
2 – الحنابلة قالوا:
(الفقير) هو من لم يجد شيئا أو لم يجد نصف كفايته.
(والمسكين) هو من يجد نصفه أو أكثر فيعطى كل واحد منهما من الزكاة تمام كفايته مع عائلته سنة.
(والعامل عليها) هو كل من يحتاج إليه في تحصيل الزكاة فيعطى منها بقدر أجرته ولو غنيا.
(والمؤلف) هو السيد المطاع في عشيرته ممن يرجى إسلامه أو يخشى شره أو يرجى قوة إيمانه أو إسلام نظيره من الكفار أو يحتاج إليه في جبايتها ممن لا يعطيها فيعطى منها ما يحصل التأليف.
و (الرقاب) هو المكاتب ولو قبل حلول شيء من دين الكتابة ويعطى ما يقضي به دين الكتابة.
و (الغارم) قسمان: أحدهما: من استدان للإصلاح بين الناس ثانيهما: من استدان لإصلاح نفسه في أمر مباح أو محرم وتاب ويعطى ما يفي به دينه.
و (في سبيل الله) هو الغازي إن لم يكن هناك ديوان ينفق منه عليه ويعطى ما يحتاج إليه من سلاح أو فرس أو طعام أو شراب وما يفي بعودته.(3/36)
و (ابن السبيل) هو الغريب الذي فرغت منه النفقة في غير بلده في سفر مباح أو محرم وتاب ويعطى ما يبلغه لبلده ولو وجد مقرضا سواء كان غنيا أو فقيرا.
ويكفي الدفع لواحد من هذه الأصناف الثمانية، ويجوز أن يدفع الجماعة زكاتهم لواحد كما يجوز للواحد أن يدفع زكاته لجماعة، ولا يجوز إخراج الزكاة بقيمة الواجب، وإنما الواجب إخراج عين ما وجب، ولا يجوز دفع الزكاة للكافر، ولا لرقيق، ولا لغني بمال أو كسب، ولا لمن تلزمه نفقته ما لم يكن عاملا، أو غازيا، أو مكاتبا، أو ابن سبيل، أو غارما لإصلاح ذات بين، ولا يجوز أيضًا أن تدفع الزوجة زكاتها لزوجها، وكذلك العكس، ولا يجوز دفعها لهاشمي فإن دفعها لغير مستحقها جهلا ثم علم عدم استحقاقه لم تجزئه، ويستردها ممن أخذها وإن دفعها لمن يظنه فقيرا أجزأه كما يجزئه تفرقتها للأقارب إن لم تلزمه نفقتهم والأفضل تفرقتها لفقراء بلده ويجوز نقلها لأقل من مسافة القصر من البلد الذي فيه المال. والأفضل تفرقتها جميعا لفقراء بلده ويجوز نقلها لأقل من مسافة القصر من البلد الذي فيه المال. ويحرم نقلها إلى مسافة القصر وتجزئه.
3 – الشافعية قالوا:
(الفقير) هو من لا مال له أصلا ولا كسب من حلال أو من له مال أو كسب من حلال يكفيه بأن كان أقل من النصف الكافي ولم يكن له منفق يعطيه ما يكفيه كالزوج بالنسبة لزوجته. والكفاية تعتبر بالنسبة لعمره الغالب وهو اثنان وستون سنة. إلا إذا كان له مال يتجر فيه فيعتبر ربحه في كل يوم على حده فإن كان ربحه في كل يوم أقل من نصف الكفاية في ذلك اليوم فهو فقير وكذا إذا جاوز العمر الغالب فالعبرة بكل يوم على حده فإن كان عنده من المال أو الكسب ما يكفيه في نصف اليوم فهو فقير.
و (المسكين) من قدر على مال أو كسب حلال يساوي نصف ما يكفيه في العمر الغالب المتقدم أو أكثر من النصف فلا يمنع من الفقر والمسكنة وجود مسكين لائق به أو وجود ثياب كذلك ولو كانت للتجمل وكذا لا يمنع من وصف المرأة بالفقر والمسكنة وجود حلي لها تحتاج للتزين به عادة وكذا وجود كتب العلم الذي يحتاج لها للمذاكرة أو المراجعة كما أنه إذا كان له كسب من حرام أو مال غائب عنه بمرحلتين أو أكثر أو دين له مؤجل فإن ذلك كله لا يمنعه من الأخذ من الزكاة بوصف الفقر أو المسكنة.(3/37)
و (العامل على الزكاة) هو من له دخل في جمع الزكاة: كالساعي والحافظ والكاتب وإنما يأخذ العامل منه إذا فرقها الإمام ولم يكن له أجرة مقدرة من قبله فيعطى بقدر أجر مثله.
و (المؤلفة قلوبهم) هم أربعة أنواع الأول: ضعيف الإيمان الذي أسلم حديثا فيعطى منها ليقوم إسلامه. الثاني: من أسلم وله شرف في قومه ويتوقع بعطائه من الزكاة إسلام غيره من الكفار. الثالث: مسلم قوي الإيمان: يتوقع بعطائه أن يكفينا شر من وراءه من الكفار. الرابع: من يكفينا شر مانع الزكاة.
(والرقاب) هو المكاتب يعطى من الزكاة ما يستعين به على أداء نجوم الكتابة ليخلص من الرق وإنما يعطى بشروط: أن تكون كتابته صحيحة وأن يكون مسلما وأن لا يكون عنده وفاء بما عليه من دين الكتابة وأن لا يكون مكتوب لنفس المزكي.
(والغارم) هو المدين وأقسامه ثلاثة: الأول: مدين للإصلاح بين المتخاصمين فيعطى منها ولو غني. الثاني: من استدان في مصلحة نفسه ليصرف في مباح أو غير مباح بشرط أن يتوب. والثالث: من عليه دين بسبب ضمان لغيره وكان معسرا هو والمضمون إذا كان الضامن بأذنه فإن تبرع هو بالضمان بدون أذن المضمون يعطى متى أعسر هو ولو أيسر المضمون ويعطى الغارم في القسمين الآخرين ما عجز عنه من الدين بخلاف القسم الأول فيعطى منها ولو غنيا.
(وفي سبيل الله) هو المجاهد المتطوع للغزو وليس له نصيب من المخصصات للغزاة في الديوان ويعطى منها ما يحتاج إليه ذهابا وإيابا وإقامة ولو غنيا كما تعطى له نفقة من يمونه وكسوته وقيمة سلاح وفرس ويهيأ له ما يحمل متاعه وزاده إن لم يعتد حملها.
(وابن السبيل) هو المسافر من بلد الزكاة أو المار بها فيعطى منها ما يوصله لمقصده أو لماله إن كان له مال بشرط أن يكون محتاجا حين السفر أو المرور وأن لا يكون عاصيا بسفره وأن يكون سفره لغرض صحيح شرعا.(3/38)
ويشترط في أخذ الزكاة من هذه الأصناف الثمانية زيادة على الشروط الخاصة لكل صنف شروط خمسة. الأول: الإسلام. الثاني: كمال الحرية إلا إذا كان مكاتبا. الثالث: أن لا يكون من بني هاشم ولا بني المطلب ولا عتيق لواحد منهم ولو منع حقه من بيت المال ويستثنى من ذلك الحمال والكيال والحافظ للزكاة فيأخذون منها ولو كفارا أو عبيدا أو من آل البيت لأن ذلك أجره على العمل. الرابع: أن لا تكون نفقته واجبة على المزكي. الخامس: أن يكون القابض للزكاة وهو البالغ العاقل حسن التصرف.
ويجب في الزكاة تعميم الأصناف الثمانية إن وجدوا سواء فرقها الإمام أو المالك إلا أن المالك لا يجب عليه التعميم إلا إذا كانت الأصناف محصورة بالبلد ووفى بهم المال وإلا وجب إعطاء ثلاثة أشخاص من كل صنف وإن فقد بعض الأصناف أعطيت للموجود واختار جماعة جواز دفع الزكاة ولو كانت زكاة مال لواحد وتشترط نية الزكاة عند دفعها للإمام أو المستحقين أو عند عزلها ولا يجوز للمالك نقل الزكاة من بلد إلى آخر ولو كان قريب متى وُجد مستحق له في بلدها أما الإمام فيجوز له نقلها.
وبلد الزكاة هو المحل الذي تم الحول والمال موجود فيه. وهذا فيما يشترط فيه الحول كالذهب وأما غيره كالزروع فبلد زكاته المحل الذي تعلقت الزكاة به وهو موجود فيه.
4 – المالكيه قالوا:
(الفقير) هو من يملك من المال أقل من كفاية العام فيعطى منها ولو ملك نصابا وتجب عليه زكاة هذا النصاب. وليس الفقير من وجبت نفقته على غيره متى كان ذلك الغير غنيا قادرا على دفع النفقة. فلا يجوز أن يعطي الزكاة لوالده الفقير ولو لم ينفق عليه بالفعل لأنه قادر على أخذ نفقته منه برفع الأمر فإنه يجوز أن يصرف الزكاة له. ومتى كانت له حرفه يتحصل منها على ما يكفيه أو له مرتب كذلك فلا يجوز أعطاءه من الزكاة فإن كان المرتب لا يكفيه أعطي من الزكاة بقدر كفايته.
(والمسكين) من لا يملك شيئا أصلا فهو أحوج من الفقير.
ويشترط في الفقير والمسكين ثلاثة شروط: الحرية والإسلام وأن لا يكون كل منهما من نسل هاشم بن عبد مناف إذا أعطوا ما يكفيهم من بيت المال والأصح إعطاؤهم حتى لا يضر بهم الفقر. وأما بنو المطلب أخي هاشم فليسوا من آل النبي صلى الله عليه وسلم فتحل لهم الزكاة وأما صدقة التطوع فتحل لبني هاشم وغيرهم.
(والمؤلفة قلوبهم) هم كفار يعطون منها ترغيبا في الإسلام ولو كانوا من بني هاشم وقيل هم المسلمون حديثو عهد بالإسلام فيعطون منها ليتمكن الإيمان من قلوبهم، وعلى القول الثاني فحكمهم باق لم ينسخ، فيعطون من الزكاة الآن وأما على التفسير الأول ففي بقاء حكمهم وعدمه خلاف. والتحقيق أنه إذا دعت حاجة الإسلام إلى استئلاف الكفار أعطوا من الزكاة وإلا فلا.(3/39)
(والعامل على الزكاة) كالساعي والكاتب، والمفرق والذي يجمع أرباب المواشي لتحصيل الزكاة منهم، ويعطى العامل منها ولو غنيا. لا يستحقها بوصف العمل. لا الفقر، فإن كان فقيرا استحق بالوصفين. ويشترط في أخذه منها أن يكون حرا مسلما غير هاشمي. ويشترط في صحة توليته عليها أن يكون عدلا عارفا بأحكامها فلا يولى كافر، ولا فاسق ولا جاهل بأحكامها وإذا ولَّى السلطان عاملا عبدا، أو هاشميا، نفذت توليته ويعطى الأجرة من بيت المال لا من الزكاة.
(وفي الرقاب) الرقبة رقيق مسلم يشترى من الزكاة ويعتق ويكون ولاؤه للمسلمين، فإذا مات ولا وارث له وله مال فهو في بيت مال المسلمين.
و (الغارم) هو المدين الذي لا يملك ما يوفي به دينه من الزكاة، ولو بعد موته، وشرطه الحرية والإسلام وكونه غير هاشمي وأن يكون تداينه لغير فساد: كشرب خمر وإلا فلا يعطى منها إلا أن يتوب ويشترط أن يكون الدين لآدمي فإن كان لله: كدين الكفارات فلا يعطى من الزكاة لسداده والمجاهد يعطى من الزكاة إن كان حرا مسلما غير هاشمي ولو غنيا ويلحق به الجاسوس ولو كافرا فشرطه الحرية فقط ويصح أن يُشترى من الزكاة سلاح وخيل للجهاد ولتكن نفقة الخيل من بيت المال.
(وابن السبيل) هو الغريب المحتاج لمن يوصله لوطنه فيعطى من الزكاة إن كان حرا مسلما غير هاشمي ولا عاصيا بسفره كقطاع الطريق ومتى استوفى الشروط أخذ ولو غنيا ببلده إن لم يجد من يسلفه ما يوصله إليه وإلا فلا يعطى كمن فقد أحد الشروط.
ويجب في الزكاة أن ينوي مخرجها أن هذا القدر المعطى زكاة وتكون النية عند تفريقها إن لم ينو عند العزل، فإن نوى عند عزل مقدار الزكاة أنه زكاة، كفاه ذلك، فإن تركت النية أصلا فلا يعتد بما أخرجه من الزكاة ولا يلزم إعلان الآخذ بأن ما أخذه هو من الزكاة، بل يكره لما فيه من كسر قلب الفقير.
ويعين تفرقة الزكاة بموضع الوجوب أو قربه، ولا يجوز نقله إلى مسافة قصر فأكثر، إلا أن يكون أهل ذلك الموضع أشد حوجة أو حاجة من أهل محل الوجوب، فيجب نقل الأكثر لهم، وتفرقه الأقل على أهله، وأجرة نقلها من بيت مال المسلمين، فإن لم يوجد بيت مال بيعت واشترى مثلها بالمحل الذي يراد النقل إليه، أو فرق ثمنها بذلك المحل على حسب المصلحة، وموضع الوجوب هو مكان الزروع والثمار، ولو لم تكن في بلد المالك ومحل المالك.(3/40)
هذا في العين، وأما الماشية فموضع وجوبها محل وجودها إن كان هناك ساع وإلا فمحل المالك.
ولا يجب تعميم الأصناف الثمانية في الإعطاء، بل يجوز دفعها ولو لواحد من صنف واحد، إلا العامل فلا يجوز دفعها كلها إليه إذا كانت زائدة على أجرة عمله.
هل يجوز توزيع الزكاة في مشاريع ذات ريع دون تمليك فردي للمستحق؟
يتضح لنا من خلال هذا البحث ومن خلال مختلف آراء الأئمة الأربعة بأن الزكاة لا تصرف إلا إلى الجهات الثمانية التي حددها الكتاب والسنة، وأنه متى ما تم وقت الزكاة فلا بد من أدائها فورا إلى مستحقيها لأن التأخير عن أداء الزكاة يعد مخالفة للشرع حتى إن بعض السادة المالكية أعلنوا بأن تأخير الزكاة عن موعدها كتأخير الصلاة عن وقتها، وأن ذلك يترتب عليه الإثم، لأنه لا مصلحة لتأخير الزكاة والفقراء والمساكين يعانون مآسي الجوع والفاقة، فكيف ترضى نفس مؤمنة بتأخير الزكاة أو التهاون عن أدائها وإخوانهم الفقراء والمساكين بحاجة إليها وعليه فإن توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق لا يمكن أن يتم إلا إذا وجد مستحقو الزكاة حقوقهم وبقدر الكفاية المحددة لهم لأنه لابد أن يعطى الفقير القدر الذي يخرجه من الفقر إلى الغنى ومن الحاجة إلى الكفاية على الدوام، فقد قال: عمر رضي الله عنه: إذا أعطيتم فأغنوا يعني الصدقة.
وقال القاضي عبد الوهاب: لم يحد مالك لذلك حدا، فإنه قال: يعطى من له المسكن، والخادم، والدابة الذي لا غنى له عنه، وقد جاء في الحديث ما يدل على أن المسألة تحل للفقير حتى يأخذ ما يقوم بعيشه ويستغني به مدى الحياة.
فإذا ما وجد كل ذي حق حقه من أموال الصدقة وفاضت فيمكن بعد ذلك توجيهها إلى مثل هذا المشروع كما حدث في عهد عمر بن عبد العزيز أنه لما أبلغ بفيض أموال الصدقة بعد توزيعها إلى المستحقين أمر بتزويج العزاب من أموال الصدقة.
كما أن الإمام مالك أورد في موطأه في باب القراض الحديث التالي: "حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهل، ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى ههنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكما، فتبيعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون الربح لكما، فقالا: وددنا ذلك، ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا فأربحا فلما دفعا ذلك إلى عمر قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه، فأما عبد الله سكت وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي ذلك يا أمير المؤمنين، هذا لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه، فقال عمر: أدياه، فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا، قال عمر: قد جعلته قراضا، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال.
إن ذلك يدل على جواز استعمال أموال الله في مشاريع ذات ريع.
والله أعلم.(3/41)
توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق
لفضيلة الشيخ آدم شيخ عبد الله علي
بسم الله الرحمن الرحيم
توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق
الله سبحانه وتعالى وزع الصدقات المفروضة فجعلها مصروفة إلى ثمانية أصناف المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} .
بيان هذه الأصناف ومذاهب الفقهاء فيها:
الصنف الأول والثاني هم الفقراء والمساكين، ولا شك أنهم المحتاجون الذين لا يفي خرجهم بدخلهم، ثم اختلفوا في الفرق بينهما، فقال بعضهم الذي يكون أشد حاجة هو الفقير، وهذا قول الشافعي رحمه الله وأصحابه، وقال آخرون: الذي أشد حاجة هو المسكين، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم، ومن الناس من قال: أنه لا فرق بين الفقراء والمساكين والله وصفهم بهذين الوصفين والمقصود شيء واحد وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
مقدار سهمهما:
اختلف الفقهاء في مقدار ما يعطى الفقير والمسكين من الزكاة، ويمكن حصر خلافهم في اتجاهين كما قاله الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه فقه الزكاة.
الاتجاه الأول: إعطاؤهما ما يكفيهما تمام الكفاية بالمعروف دون تحديد مقدار معين من المال.
الاتجاه الثاني: إعطاؤهما مقدارًا محددا من المال.
وقد انقسم أصحاب الاتجاه الأول إلى مذهبين:
1- مذهب يقول بإعطاء كفاية العمر الغالبة.
2- مذهب يقتصر على إعطاء كفاية السنة.
والمذهب الأول: يتجه إلى أن يعطى الفقير ما يكفيه بصفة دائمة، ولا يحوجه إلى الزكاة مرة أخرى، وقال الإمام النووي في المجموع: (المسألة الثانية) في قدر المصروف إلى الفقير والمسكين، وقال أصحابنا العراقيون، وكثير من الخراسانيين: يعطيان ما يخرجهما من الحاجة إلى الغنى، وهو ما تحصل به الكفاية على الدوام، وهذا هو نص الشافعي رحمه الله واستدل له الأصحاب بحديث قبيصة بن المخارق الهلالي رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوى الحجا من قومه: قد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا)) ، رواه مسلم في صحيحه.(3/42)
قال أصحابنا: فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة حتى ما يسد حاجته فدل على ما ذكرناه ... قالوا فإن كان عادته الاحتراف أعطي ما يشتري به حرفته أو آلات حرفته قلت قيمة ذلك أم كثرت ويكون قدره بحيث يحصل له من ربحه ما يفي بكفايته غالبا تقريبا ويختلف باختلاف الحرف والبلاد والأزمان والأشخاص فإن لم يكون محترفا ولا يحسن صنعة أصلا ولا تجارة ولا شيئا من أنواع المكاسب أعطي كفاية العمر الغالب لأمثاله في بلاده ولا يتقدر بكفاية سنة.
ووضح ذلك الشمس الرملي في شرح المنهاج للنووي فذكر أن الفقير والمسكين إن لم يحسن كل منهما كسبا بحرفة ولا تجارة يعطى كفاية ما بقي من عمر الغالب لأمثاله في بلده لأن القصد اغناؤه ولا يحصل إلا بذلك فإن زاد عمره عليه أعطي سنة بسنة وليس المراد بإعطائة من لا يحسن الكسب إعطاءه نقدا يكفية تلك المدة بل ما يكفيه دخله منه فيشترى له به عقارا يستغله ويغتني به عن الزكاة فيملكه ويورث عنه.
قال: والأقرب كما بحثه الزركشي أن للإمام دون المالك شراءه له وله إلزامه بالشراء وعدم إخراجه عن ملكه وحينئذ ليس له إخراجه فلا يحل ولا يصح فيما يظهر ولو ملك هذا دون كفاية العمر الغالب كمل له من الزكاة كفايته كما بحثه السبكي قال الماوردي: لو كان معه تسعون ولا يكفيه إلا مائة أعطي العشرة الأخرى وهذا كله فيمن لا يحسن الكسب أما من يحسن حرفة لائقة تكفية فيعطى ثمن آلة حرفته وإن كثرت ومن يحسن تجارة يعطى رأس مال يكفيه ربحه غالبا باعتبار عادة بلده ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والنواحي " أهـ نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لشمس الدين الرملي م6 ص 159 وهذا ما نصه الشافعي في الأم وما رجحه وأخذ به أصحابه.
وفي مذهب الإمام أحمد رواية تماثل ما نص عليه الشافعي فأجاز للفقير أن يأخذ تمام كفايته دائما بمتجر أو آلة صنعة أو نحو ذلك وقد اختار هذه الرواية بعض الحنابلة ورجحوا العمل بها وهذا يوافق ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه" إذا أعطيتم فاغنوا " وقال للموظفين الذين كانوا يعملون في توزيع الصدقات على المستحقين " كرروا عليهم الصدقة وإن راح أحدهم على مائة من الإبل ".
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه فقه الزكاة وتستطيع الدولة المسلمة بناء على هذا الرأي أن تنشئ من أموال الزكاة مصانع وعقارات ومؤسسات تجارية ونحوها وتملكها للفقراء كلها أو بعضها لتدر عليهم دخلا يقوم بكفايتهم ولا تجعل لهم الحق في بيعها ونقل ملكيتها لتظل شبه موقوفه عليهم. وهذا استنتاج قوي واضح وأما إنشاء الدولة المسلمة من أموال الزكاة ذلك المذكور من المصانع والعقارات ونحوها ثم تجعل الفقراء موظفين في تلك المشاريع وإعطائهم أجرة عملهم كراتب شهري من غلات هذه المشاريع من أموال الزكاة بدون تمليكهم فهذا بعيد عما فهمه الفقهاء من نظام توزيع الزكاة وخاصة سهم الفقراء والمساكين الذي يجب تمليكه لهم.(3/43)
المذهب الثاني: يعطي كفاية سنة وقال المالكية وجمهور الحنابلة وآخرون من الفقهاء: فيعطى الفقير والمسكين من الزكاة ما تتم به الكفاية لنفسه ولمن يعوله سنة كاملة ولم ير أصحاب هذا المذهب ضرورة لإعطائه كفاية العمر الغالب كما لم يروا أن يعطى أقل من كفاية سنة وإنما حددوا الكفاية بسنة لأنها في العادة أوسط ما يطلبه الفرد من ضمان العيش له ولأهله قوت سنة ولأن أموال الزكاة في غالبها حولية وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر لأهله قوت سنة فلا داعي لإعطاء كفاية العمر وفي كل عام تأتي حصيلة جديدة من موارد الزكاة ينفق منها على المستحقين.
ويري القائلون بهذا المذهب أن كفاية السنة ليس لها حد معلوم لا تتعداه من الدراهم أو الدنانير بل يصرف للمستحق كفاية سنة بالغة ما بلغت فإذا كانت كفاية السنة لاتتم إلا بإعطاء الفقير الواحد أكثر من نصاب من نقد أو حرث أو ماشية أعطي من الزكاة ذلك القدر وإن صار به غنيا لأنه كان فقيرا مستحقا حين الدفع إليه.
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي في ترجيح أحد المذهبين: والذي اختاره أن لكل من المذهبين مجاله الذي يعمل به فيه ذلك أن الفقراء والمساكين نوعان:
نوع يستطيع أن يعمل ويكسب ويكفي نفسه بنفسه كالصانع والتاجر والزارع ولكن ينقصه أدوات الصنعة أو رأس مال التجارة أو الضيعة وآلات الحرث والسقي فالواجب في مثل هذا أن يعطى من الزكاة ما يمكنه من اكتساب كفاية العمر وعدم الاحتياج إلى الزكاة مرة أخرى بشراء ما يلزمه لمزاولة حرفته وتملكه إياه استقلالا أو اشتراكا على قدر ما تسمح حصيلة الزكاة والنوع الآخر عاجز عن الكسب كالزمن والأعمى والشيخ الهرم والأرملة والطفل ونحوهم فهؤلاء لا بأس أن يعطى الواحد منهم كفاية سنة أو يعطى راتبا دوريا يتقاضاه كل عام بل ينبغي أن يوزع على أشهر العام إن خيف من المستحق الإسراف وبعثرة المال في غير حاجة ماسة وهذا هو المتبع في عصرنا فالرواتب تعطى شهرا بشهر وكذلك المساعدات الدورية. اهـ من فقه الزكاة.(3/44)
الصنف الثالث: العاملون عليها:
وهم السعاة لجباية الصدقة ويدخل فيهم الحاشر والعريف والحاسب والكاتب والقاسم وحافظ المال ويقصد بهم كل من يعمل في الجهاز الإداري لشؤون الزكاة من تحصيلها وحفظها وتوزيعها على المستحقين لها ويعطى العامل عند أبي حنيفه ومالك ما يكفية ويكفي معاونيه بالوسط مدة ذهابهم وإيابهم ما دام المال باقيا.
وعند الشافعية يعطون من سهم العاملين وهو الثمن قدر أجرة عملهم فإن زادت أجرتهم على سهمهم تمم لهم وقيل من سائر السهام وقيل من بيت المال وهذا أيضا قول عبد الله بن عمر وابن زيد وقال مجاهد وإسحاق يعطون ثمن الصدقات وقال الأكثرون حق العامل بقدر مؤنته عند الجباية والجمع ويسقط سهم العامل إذا أدى الزكاة صاحب المال إلى الإمام أو إلى الفقراء مباشرة ويشترط في العامل الإسلام والتكليف والعلم بأحكام الزكاة والقدرة على العمل.
الصنف الرابع" وفي الرقاب " فيه حذف كما قاله الزجاج وتقديره وفي فك الرقاب واختلف العلماء في تفسير الرقاب على ثلاثة مذاهب وهي كالآتي: -
1 - مذهب الشافعي والليث بن سعد أن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين ليعتقوا به.
2 - مذهب الإمام مالك وأحمد وأصحابه أنه موضوع لتعتيق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون.
3 - مذهب أبي حنيفة وأصحابه وسعيد بن جبير والنخعي أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب.
ويقول الزهري: سهم الرقاب نصفان، نصف للمكاتبين من المسلمين ونصف يشترى به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون من الزكاة.
أدلة المذاهب.
وحجة الشافعي وموافقوه: أن قوله تعالى " وفي الرقاب" " وفي سبيل الله " وهناك يجب الدفع إلى المجاهدين فكذا هنا يجب الدفع إلى الرقاب ولا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يراد فك رقبته إلا إذا كان مكاتبا ولو اشترى سهم الرقاب عبيد لم يكن الدفع إليهم وإنما هو دفع إلى سادتهم وانتفاعهم بالعتق ليس تمليكا لأن العتق إسقاط واحتجوا أيضا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "وفي الرقاب" يريد المكاتبين وتأكد هذا بقوله تعالى " وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ" وحجة المالكية وموافقوهم أن الرقاب جمع رقبة وكل موضع ذكرت فيه الرقبة فالمراد عتقها والعتق لا يكون إلا في القن كما في المكفارات فلا بد من عتق رقبة كاملة ولأنه لو اختصت بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين لظنه غارم ولأنه شراء الرقبة لتعتق أولى من إعانة المكاتب لأنه قد يعان ولا يعتق لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ولأن شراء العبيد متيسر في كل وقت بخلاف الكتابة.(3/45)
وحديث البراء يدل على أن فك الرقاب غير عتقها ونص هذا الحديث عن البراء بن عازب قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يقربني إلى الجنة ويبعدني عن النار فقال: ((اعتق النسمة وفك الرقبة)) قال: يا رسول الله، أوليسا واحدا؟ قال: ((لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها)) ورواه أحمد والدارقطني وقال في مجمع الزوائد رجاله ثقات وروي عن ابن عباس أنه قال: لا بأس أن يعتق من زكاة ماله ذكره عنه أحمد والبخاري.
وحجة الحنفية: أن قوله تعالى " وفي الرقاب يقتضي أن يكون للمزكي مدخل في عتق الرقبة وذلك ينافي كونه تاما فيه والقول المختارالجمع بينهما كما قال الزهري.
ومن العلماء من قال: يفك الأسارى من سهم الرقاب بحجة أن فداء المسلم تخليصه من أيدي الكفار أولي من عتق مسلم تملكه يد مسلمة.
وقال الشافعي وأصحابه: يجوز صرف الزكاة إلى المكاتب بغير إذن سيده ويجوز صرفها إلى سيده بإذن المكاتب ولا يجوز الصرف إلى السيد بغير إذن المكاتب والأولى صرفها للسيد بإذن المكاتب لأن الله تعالى أضاف الصدقات للأصناف الأربعة الأولى باللام ولما ذكر الرقاب أبدل حرف اللام بحرف " في فقال " وفي الرقاب " فلا بد لهذا العدول من فائدة وهي أن الأصناف الأربعة الأولي يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات على أنه ملك لهم يتصرفون فيه كما شاءوا وأما المكاتبون فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم من الرق فكان الدفع إلى السداد محققا للغرض فصرف إلى الجهة التي من أجلها استحق المكاتبون سهم الزكاة وكذلك القول في الغارمين يصرف سهمهم إلى قضاء ديونهم وفي الغزاة يصرف سهمهم إلى إعداد ما يحتاجون إليه في الغزو وابن سبيل الله كذلك يدفع سهمهم إلى إعداد ما يعينهم في بلوغ مقصدهم فيصرف المال إلى الأصناف الأربعة الأولى حتى يتصرفوا فيه كيف يشاءون وفي الأربعة الأخيرة إلى جهات الحاجات المعتبرة والصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة.
والصنف الخامس هو (والمؤلفة قلوبهم) :
وهذا الصنف من مصاريف الزكاة ليس من شأن الأفراد في العادة الغالبة وإنما هو من شأن الدولة أو أهل الحل والعقد في الأمة فهم الذين يستطيعون إثبات الحاجة إلى تأليف القلوب أو نفيها.
وقال الإمام الشافعي: المؤلفة قلوبهم من دخل في الإسلام ولا يعطى من الصدقة مشرك ليتألف على الإسلام وإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم بعض المشركين من المؤلفة يوم حنين كان ذلك العطاء من الفيء ومن مال النبي صلى الله عليه وسلم خاصة واستدل الشافعي على ذلك بأن الله جعل الصدقات من المسلمين مردودة فيهم لا على من خالف دينهم ويشير إلى حديث معاذ وما في معناه ((تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم)) ونقل الرازي في تفسيره جـ16 ص 111 عن الواحدي قال: إن الله أغنى المسلمين عن تأليف قلوب المشركين فإذا رأى الإمام أن يؤلف قلوب قوم لبعض المصالح التي يعود نفعها إلى المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز ذلك إذ لا يجوز صرف شيء من زكوات الأموال إلى المشركين فإنما يعطون من مال الفيء لا من الصدقات.(3/46)
وذكر النووي عن الشافعي: أن الكفار إن جاز تأليفهم فإنما يعطون من المصالح من الفيء ونحوه لا من الزكاة لأن الزكاة لا حق فيها للكفار عنده.
واختلف في سقوط سهم المؤلفة قلوبهم بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أحمد وأصحابه إلى أن حكم المؤلفة قلوبهم باق لم يلحقه نسخ ولا تبديل وبهذا قال الزهري وأبو جعفر الباقر.
وعند الشافعية قولان في إعطائهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم:
الأول: لا يعطون لأن الله أعز الإسلام فأغنى عن التأليف بالمال.
والثاني: يعطون لأن المعني الذي أعطوه به قد يوجد بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي مذهب المالكية قولان:
الأول: بانقطاع سهم المؤلفة قلوبهم بعز الإسلام وظهوره.
والثاني: ببقائه.
وقال جمهور الحنفية: انتسخ سهم المؤلفة قلوبهم وذهب ولم يعطوا شيئا بعد النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعطى الآن.
الصنف السادس (والغارمين)
والمراد بالغارمين المدينون فإن حصل الدين بمعصية لا يدخل في الآية لأن المقصود من صرف مال الزكاة الإعانة ولا إعانة في المعصية أما إذا حصل الدين بدون معصية فهو قسمان: دين حصل بسبب نفقات ضرورية ودين حصل بسبب حمالات وإصلاح ذات البين والكل داخل في الآية وروى الأصم في تفسيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى بالغرة في الجنين قالت العاقلة لا نملك الغرة يا رسول الله فقال لحمد بن مالك النابغة أعنهم بغرة من صدقاتهم وكان محمد على الصدقة يومئذ.
الصنف السابع (وفي سبيل الله) :
والسبيل هو الطريق وسبيل الله هو الطريق الاعتقادي والعملي الموصل إلى مرضاة الله ومثوبته وقد جاء في القرآن ذكر الهجرة في سبيل الله والضرب في الأرض من سبيل الله والإنفاق في سبيل الله هو طريق البر عامة ولكن اختلف الفقهاء في معنى المراد من قوله تعالى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}
فعند الحنفية قولان في معنى المراد من ذلك وهما:
1 - الغزاة الفقراء.
2 - الحجاج الفقراء.(3/47)
وفي كتاب تبيين الحقائق للزيلعي الحنفي شرح كتاب الدقاق مع حاشية الإمام الشلبي على هذا الشرح م1 ص 298 ما نصه: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} منقطع الغزاة عند أبي يوسف أي الفقراء منهم وعند محمد منقطع الحجاج وهم الفقراء لما روي أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل عليه الحجاج قلنا: الطاعات كلها سبيل الله ولكن عند الإطلاق يفهم منه الغزاة ولا يصرف إلى غيرهم وإنما إفراده بالذكر مع دخوله في الفقراء والمساكين لزيادة حاجته وهو الفقر والانقطاع وفي الوبري هم الحجاج والغزاة المنقطعون عن أموالهم وليس معهم شيء وقال ابن المنذر في الإشراف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: {سَبِيلِ اللَّهِ} هو الغازي دون الحجاج وفي الغزنوي وفي سبيل الله منقطع الغزاة وعن محمد منقطع الحاج فهذا يدل على أن ذلك رواية محمد خلاف ما ذكر الجماعة ولهذا فالأصح عند الحنفية هو القول الأول.
وقال الشافعي والمالكية والحنفية في الرواية الأولي يصرف سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة إلى الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان وهم الغزاة إذا نشطوا غزوا وانفرد أبو حنيفة باشتراط الفقر في المجاهد.
وقال أحمد رحمه الله في أصح الروايتين عنه يجوز صرفه إلى مريد الحج وروي مثله عن ابن عمر وفي كتاب المقنع من أشهر كتب الحنابلة في عد الأصناف ما نصه: السابع {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم ولا يعطى منها في الحج وعنه أن الإمام أحمد يعطى الفقير قدر ما يحج به الفرض.
وحجة الجمهور (الشافعية والمالكية والحنفية على أصح القولين عندهم) أن المفهوم المتبادر في معنى (سبيل الله) في الآية هو الغزو وكثيرا ما جاء في القرآن كذلك وأن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يدل على ذلك وهو ما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تحل الصدقة لغني إلا خمسة: لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل جار مسكين فأهدى المسكين إليه فإنه ذكر في الحديث ممن تحل الصدقة الغازي وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة إلا الذين نعطيهم في سبيل الله.(3/48)
وحجة الإمام أحمد ما روي عنه بحديث أبي داود عن ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، وأنها سألتني الحج معك فقالت: احججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما عندي ما أحملك عليه قالت: احججني على جملك فلان فقلت ذلك حبيس في سبيل الله فقال أما إنك لو حججتها عليه كان في سبيل الله.
وأجاب الجمهور بأن الحج يسمى سبيل الله ولكن الآية محمولة على الغزو لما ذكرناه.
وفسر بعض الحنيفة سبيل الله بطلب العلم كما فسره في البدائع بجميع القرب فيدخل فيه جميع وجوه الخير مثل تكفين الموتى وبناء القناطر والحصون وعمارة المساجد.
وفي تفسير المنار يجوز الصرف من هذا السهم على تأمين طرق الحج وتوفير المياه والغذاء وأسباب الصحة للحجاج إن لم يوجد له صرف آخر وترى أنه قيد بهذا القيد " إن لم يوجد له صرف آخر ولم يجوز مطلقا بل للضرورة فقط وكذلك يصرف من هذا السهم على الاستعداد للحرب بشراء السلاح وأغذية الجند وأدوات النقل وتجهيز الغزاة ولكن الذي يجهز به الغازي يعود بعد الحرب إلى بيت المال إن كان مما يبقى كالسلاح والخيل وغير ذلك لأنه لا يملكه دائما بصفة الغزو التي قامت به بل يستعمله في سبيل الله ويبقى بعد زوال تلك الصفة منه في سبيل الله بخلاف الفقير والعامل والغارم والمؤلفة قلوبهم وابن السبيل فإنهم لا يردون ما أخذوا ويدخل عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية لا التجارية والبواخر المدرعة والمناطد والطائرات الحربية والحصون والخنادق وإعداد الدعاة إلى الإسلام وإرسالهم في بلاد الكفر من قبل جمعيات منظمة تمدهم بالمال كما يفعله الكفار في نشر دينهم والمدارس الشرعية ومعلميها.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في أحكام القرآن قوله {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال مالك سبيل الله كثير ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو من جملة سبيل الله ... إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا: إنه الحج. والذي يصح عندي من قولهما أن الحج من جملة السبيل مع الغزو لأنه طريق بر فأعطي منه باسم السبيل وما جاء قط بإعطاء الزكاة في الحج أثر فقد قال علماؤنا: ويعطى منها الفقير بغير خلاف لأنه قد سمي في الآية ويعطى الغني عند مالك بوصف سبيل الله وإن كان غنيا في بلده أو في موضعه الذي يأخذ به.(3/49)
وفي كتاب مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج شرح للشيخ محمد الخطيب الشربيني على متن منهاج الطالبين للنووي م3 ص 111 ما نصه وسبيل الله غزاة ذكور لا فيء لهم أي لا سهم في ديوان المرتزقة بل يتطوعون بالغزو حيث نشطوا له وهم مشتغلون بالحرف والصنائع فيعطون من الزكاة مع الغنى لعموم الآية وإعانة لهم على الغزو بخلاف من لهم الفيء وهم المرتزقة الثابت أسماؤهم في الديوان فلا يعطون من الزكاة ولو عدم الفيء في الأظهر قال ابن عباس رضي الله عنهما " كان أهل الفيء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعزل عن أهل الصدقات وأهل الصدقات بمعزل عن أهل الفيء" ولأنهم أخذوا بدل جهادهم من الفيء فلو أخذوا من الزكاة أخذوا بدلين عن بدل واحد وذلك ممتنع ولكل ضرب منهما أن ينتقل إلى الضرب الآخر وأنا أفسر سبيل الله بالغزاة لأن استعماله في الجهاد أغلب عرفا وشرعا بدليل قوله تعالى في غير موضع {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فحمل الإطلاق عليه وإن كان سبيل الله بالوضع هو الطريق الموصلة إليه هو أعلم ولعله اختص بالجهاد لأنه طريق إلى الشهادة الموصلة إلى الله تعالى فهو أحق بإطلاق سبيل الله عليه.
وفي كتاب المجموع للنووي م6 ص103 ما نصه " فلو أراد الإمام أن يشتري ذلك بمال الزكاة ويسلمه إلى الغازي بغير إذنه هل يجوز؟ فيه وجهان أحدهما: لا يجوز بل يتعين تسليم مال الزكاة إلى الغازي أو إذنه وبه قطع جماعة من العراقيين وهو ظاهر عبارة آخرين منهما وأصحهما يجوز وهو الذي صححه الخراسانيون وتابعهم الرافعي على تصحيحه وقطع به جماعة منهم قال الخراسانيون: الإمام بالخيار إن شاء سلم الفرس والسلاح والآلات إلى الغازي أو ثمن ذلك تمليكا له فيملكه وإن شاء استأجر ذلك له وإن شاء اشترى من سهم سبيل الله سبحانه وتعالى أفراسا وآلات الحرب وجعلها وقفا في سبيل الله ويعطيهم عند الحاجة ما يحتاجون إليه ثم يردونه إذا انقضت حاجتهم وتختلف المصلحة في ذلك بحسب قلة المال وكثرته.(3/50)
وفي نفس المجلد من المجموع ص188 ما نصه " وينبغي للإمام وللساعي إذا فوض إليه تفريق الزكوات أن يعتني بقسط المستحقين ومعرفة أعدادهم وقدر حاجاتهم واستحقاقاهم بحيث يقع الفراغ من جميع الزكوات بعد معرفة ذلك معه ليتعجل وصول حقوقهم إليهم وليأمن من هلاك المال عنده".
وندرك مما ذكر أن المذاهب الأربعة قد اتفقت على دخول الجهاد في سبيل الله ومشروعية الصرف من الزكاة لأشخاص المجاهدين وعدم جواز صرف الزكاة في جهات الإصلاح العام من بناء السدود والقناطر وإنشاء المساجد والمدارس وإصلاح الطريق وتكفين الموتى ونحو ذلك وإنما عبء ذلك على موارد بيت المال الأخرى وذلك لعدم التمليك فيها أو لخروجها عن المصارف الثمانية.
وفي كتاب التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي م15 في شرح {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} {إنما} تفيد الحصر ومما يدل على أن الصدقات لا تصرف إلا لهذه الأصناف الثمانية أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل: ((إن كنت من الأصناف الثمانية فلك فيها حق وإلا فهو صداع في الرأس وداء في البطن قال)) في آخر الآية {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} منصوب على التأكد لأن قوله تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} لهؤلاء جار مجري قوله فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة وذلك كالزجر عن مخالفة هذا الظاهر وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله تعالى لم يرض بقسمة الزكاة أن يتولاها ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه " والمقصود من هذا التأكيدات تحريم الزكاة عن هذه الأصناف. أهـ.
الصنف الثامن (وابن السبيل)
والمراد من ابن السبيل المسافر المنقطع عن بلده وماله فيعطى من الزكاة ما يعينه إلى بلوغ غرض وإن كان غنيا في بلده نظرا لما يلحقه في سفره وانقطاعه من الحاجة والعوز.
وفي فتح الباري م3 ص 366 في باب استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل بعد ذكر إيراد حديث ": أن ناسا من عرينة اجتووا المدينة فرخص لهم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها" فغاية ما يفهم من حديث الباب أن للإمام أن يخص بمنفعة مال الزكاة دون الرقبة صنفا دون صنف بحسب الاحتياج.(3/51)
الخلاصة.
اتفق الفقهاء على أنه لايجوز صرف الصدقات المفروضة إلا على الأصناف الثمانية المذكورة في الآية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} إلخ من سورة التوبة وقد اختلفوا في المقدار المصروف على الفقراء والمساكين على ثلاثة أقوال:
1 - قدر كفايتهم لعمر الغالب.
2 - قدر كفايتهم في السنة
3 - أقل من قدر كفايتهم.
وللدولة المسلمة أن تنشئ من سهم الفقراء والمساكين مشاريع ومصانع وعقارات ونحوها من المشاريع الإنمائية ثم تمليك تلك المشاريع للفقراء والمساكين لتدر لهم دخلا يقوم بكفايتهم كاملة وأما إنشاء تلك المشاريع من أموال الزكاة ثم جعل الفقراء والمساكين كموظفين فيها وإعطاء أجرة عملهم أو كفايتهم إن كانوا قادرين على العمل وإعطاءهم راتبا شهريا من غلات هذه المشاريع إن كانوا عاجزين عن العمل بدون تمليك تلك المشاريع لهم، فهذا بعيد عما فهمه الفقهاء من نظام توزيع سهم الفقراء والمساكين عليهم تمليكا لهم.
2 - حق العامل عند الأكثرين يقدر بمؤنته ويسقط إذا كان صاحب المال يؤدي الزكاة من ماله إلى الإمام أو إلى المستحقين مباشرة.
3 - وصف المؤلفة قلوبهم ليس من شأن الأفراد، وإنما هو من شأن الدولة الإسلامية أو أهل الحل والعقل وهم الذين يستطيعون إثبات الحاجة إلى تأليف القلوب أو نفيها.
4 - والمراد من المدينون المديونون بشرط عدم حصولها بالمعصية.
5 - وأما سبيل الله فقد اتفق الجمهور بأنه يصرف سهمه على الغزاة المتطوعين ومصالح الجهاد من آلات الحرب وغيره. والدولة هي التي ينبغي أن تنظر فيما يحتاجه من آلات الحرب وفيما تسترده منه بعد انقضاء الحاجة.
وقال بعض الفقهاء: يصرف سهم سبيل الله إلى الحجاج والمعتمرين من الفقراء وقد توسع بعضهم في سهم سبيل الله حتى أجاز صرفه في كل قربة من إنشاء المساجد، وإصلاح الطرق وتكفين الموتى وغير ذلك.(3/52)
الاستنتاج
ومما ذكر يتضح لنا بأن توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع دون تمليك فردي للمستحق بمعنى استرباح أموال الزكاة عن طريق إقامة مشاريع استنمائها غير جائز للأسباب التالية:
1 - أن هذه الأعمال تعرض المال للفائدة والخسارة فربما يترتب عليها ضياع أموال الزكاة.
2 - أن توظيف أموال الزكاة في أي من المشاريع الإنمائية يؤدي إلى انتظار الفائدة المترتبه عليها وهذا قد يأخذ وقتا طويلا فيكون سبب لتأخير تسليم أموال الزكاة لمستحقيها بدون دليل شرعي مع أن المطلوب التعجل في أداء حقوقهم كما قاله النووي في الروضة.
3 - أن أموال الزكاة أمانة في أيدي المسئولين عنها حتى يسلموها إلى أهلها وشأن الأمانة الحفظ فقط، إن تصرف الإمام أو الساعي في أموال الزكاة بدون تمليك المستحقين لها أو صرفها عليهم فغير جائز إلا في المنافع التي لا تزول أعيانها كالركوب مثلا وشرب ألبانها وما شاكل ذلك.
4 - فإذا اقتضت الحاجة من إنشاء المشاريع حربية وتصنيع الطائرات والدبابات والمدافع والصواريخ ونحوها من سهم سبيل الله فإنه يجوز للإمام أو من يقوم مقامه أن يجعل هذه المشاريع كالوقف على مصالح الجهاد وله الخيار فيما يسترده من الغازي بعد انقضاء الحاجة منه وما لا يسترده منه ويعطيه تمليكا به باعتبار المصلحة العامة كما نفهم من عبارة النووي في المجموع التي ذكرتها في معرض هذا البحث.
هذا وبالله التوفيق.(3/53)
توظيف الزكاة
في مشاريع ذات ريع دون تمليك فردي للمستحق
لفضيلة الشيخ حسن عبد الله الأمين
بسم الله الرحمن الرحيم
توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع دون تمليك فردي للمستحق
1- من مباحث الزكاة التي تشغل بال المشتغلين ببحث ودراسة الجوانب المختلفة لهذه الشعيرة والفريضة العظيمة من فرائض الإسلام التوزيع أو التصرف فيها في وجوه الاستحقاق، ولقد حدد القرآن الكريم بصورة قاطعة هذه الوجوه والجهات التي تستحق الزكاة في قوله تعالى في سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} ، ولم يعد هنالك إمكانية لزيادة بند آخر أو مجال للاجتهاد في هذا الصدد.
2- ولكن كيفية التوزيع أو التصرف في الزكاة على هذه الوجوه المحددة للمستحقين كانت مجال نظر واجتهاد للفقهاء، فذهب بعضهم إلى لزوم توزيعها على الأصناف الثمانية، ولا يصح صرفها عندهم على بعض المستحقين دون البعض الآخر. وذهب جمهور الفقهاء إلى صحة صرفها على بعض هذه الأصناف من المستحقين لأهميتهم حسب تقدير ولي الأمر.
على المستوى الفردي
3- وفي ترتيب أولويات التوزيع جميعهم متفقون على البدء برفع حاجة الفقير والمسكين ولكنهم اختلفوا في المدى الذي ترفع به هذه الحاجة هل هو ما يكفي لمدة يوم واحد أو أسبوع، أو شهر أو سنة أو ماذا؟ أغلبهم ذهب إلى إعطاء الفقير أو المسكين ما يكفيه لمدة عام، سواء أكانت الزكاة نقدا أو عينا.
بل ذهب بعضهم إلى إعطائه ما يغنيه العمر كله، ورأى آخرون أن يعطى ما يشتري به الآلة أو أداة عمله، أو صنعته بحيث يستغني بذلك مستقبلا عن الحاجة للزكاة، مهما بلغ ثمن ذلك الشيء، ولكن هذا كله على مستوى الفرد الفقير والمسكين أو على مستوى الأسرة الواحدة، ممثلة في شخص عائلها الذي توفر له هذه الإمكانيات من أموال الزكاة، وهذا كله في إطار الأصناف الثمانية الذين نصت عليهم آيات القرآن الكريم.(3/54)
على المستوى الجماعي
أما استغلال أموال الزكاة وتوظيفها في أدوات إنتاج أو مشاريع ذات ريع لمصلحة مجموع الفقراء والمساكين دون تملك فردي للمستحق فلم يسبق أن طرح على بساط البحث الفقهي – فيما نعلم – لدى الفقهاء القدامي، وإنما طرق هذا الموضوع فكريا في عصرنا الحاضر في عهد المؤسسات والشركات والمشاريع الجماعية فقيل: لماذا لا تنشأ بأموال الزكاة مشاريع إنتاجية للفقراء عموما ينتفعون بريع عائداتها دون أن يكون هنالك تملك فردي لأعيانها؟ حيث يمثل ذلك تأمينا دائما للفقير والمسكين بدلا من أن تعطى لهم أموال الزكاة نقدا أو عينا فينفقونها ويستهلكونها أولا بأول؟ وتظل حالهم على ما هي عليه من الفقر والحاجة، وربما لا توجد أموال زكوية تلبي حاجة الفقير والمسكين في وقتها على الدوام.
وهذه المنشآت والمشاريع المقترحة قد يكون فيها من المنافع ما يشمل ويعم مع الفقراء والمساكين بعض الأغنياء أو أعداداً كثيرة منهم، كما إذا كانت هذه المنشآت مستشفيات أو مدارس أو غيرها مما يعم نفعه، فكيف يكون ذلك، وأصل هذه المنشآت من أموال الزكاة وهؤلاء الأغنياء ليسوا من أصحابها أو مصارفها الشرعية؟
والإجابة على ذلك أن الغني حينما ينتفع بهذه المنشآت والمشاريع الزكوية لا بد أن يكون ذلك بمقابل مالي يدفع لصندوق هذه المنشآت ليعودوا إلى جميع الفقراء والمساكين.
الأساس الشرعي لفكرة توظيف أموال الزكاة
فكرة توظيف أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع قلنا لم تطرق في الفقه القديم، أي أنها لم تدرس ولم يجر بحث حولها لدى الفقهاء القدامي، ولم يرد لها ذكر في كتبهم، ذلك أن هذه الفكرة إنما طرأت حديثا نتيجة لتطور الحياة الاجتماعية وتعقيداتها وتنوع أساليب العمل والإنتاج، وظهور الأشكال الجماعية وبروزها في مجال الإنتاج والاستثمار مما جعل التفكير في استثمار أموال الزكاة بالأشكال والأساليب الحديثة لمصلحة مستحقي الزكاة عموما دون ملكية فردية لكل مستحق – أمرا لا بد من طرحه، بل لا بد من ولوجه وممارسته، ومن هنا كان طرحه على بساط البحث لمعرفة ما إذا كان هذا الاتجاه نحو التصرف في أموال الزكاة وتوزيعها مقبولا شرعا فيشرع في محاولة تطبيقه أم ممنوع فيترك ويصرف النظر عنه؟
والموضوع كما يظهر من عدم التعرض له من رجال الفقه قديما أنه لا نص عليه، لعدم بروزه إلى الوجود، ولذلك حينما ظهر في العصر الحاضر واحتاج إلى رأي فقهي كان مجالا للاجتهاد بالرأي والاسئناس بالقياس ما أمكن ذلك، وبناءاً على ذلك فقد يكون من المناسب أن ينظر في هذا الموضوع على ضوء معطيات السنة الشريفة في تشجيع العمل وتهيئة الأوضاع المناسبة للقيام به كأسلوب تربوي في الاعتماد على النفس وإغنائها عن الحاجة للغير وطلب العون منهم أو مساعدتهم وذلك كما في قصة ذلك الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى عن أنس بن مالك: ((أن رجلا من الأنصار أتي النبي صلى الله عليه وسلم يسأله: فقال: أما في بيتك شيء؟)) قال: بلى يا رسول الله، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه الماء، فقال: ((ائتني بهما)) ، فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((من يشتري هذين؟)) قال رجل: أنا أخذهما بدرهم، قال: ((من يزيد على درهم؟)) مرتين أو ثلاثا، فقال رجل: أنا أخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال: ((اشتر بأحدهما طعاما وأنبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوما فأتني به)) ، فشد رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده ثم قال له: ((اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما)) ، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها طعاما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مقطع، أو لذي دم موجع)) .(3/55)
وفي ضوء هذا التوجيه والإرشاد النبوي للفقير من ماله القليل يمكن من باب أولى الاستئناس بهذا التوجيه النبوى الشريف بترشيد مال الزكاة لمصلحة الفقير والمسكين فيما يعود عليهم بالنفع المستمر في شكل منشآت أو مشاريع تنشأ من مال الزكاة ويوزع ريعها على المستحقين، ولعل هذه القصة الواقعة وموحياتها التوجهيهة كانت في الماضي هي المستند والمؤشر للفقهاء القدامي في توظيف أموال الزكاة للفقراء والمساكين على المستوي الفردي فيما يعود عليه بالنفع.
وهذا ما يجعل قياس توظيف الأموال الزكوية في منشآت مشاريع تدر ريعا على المستحقين للزكاة في شكل جماعي أمرا موجها ومقبولا بإذن الله تعالى، من الوجهه الشرعية (1)
بعض الاعتراضات على الموضوع
هناك اعتراضات تثار حول توظيف أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع لدى بعض الباحثين: منها أن في هذا الأمر خروجا على أصناف توزيع الزكاة المحصورة في ثمانية بنص القرآن.
والإجابة عن ذلك أن هذا التدبير لأموال الزكاة واضح النفع للمستحقين وهو تطبيق للزكاة داخل الأصناف المحددة، إنه لمصلحة الفقير والمسكين وليس خروجاً عليها.
ومنها أنه حينما توظف أموال الزكاة في مشاريع ثابتة لا تملك هذه المشاريع تملكا فرديا على الفقراء والمساكين وإنما تصبح ملكيتها لشخصية اعتبارية عامة، هم مجموع الفقراء والمساكين، وهذا أمر شبيه بالوقف، ومن أركان الوقف أن يكون هناك واقف، وهنا لا يوجد واقف لأن أموال الزكاة ليست ملكا للمزكين حتى يقفوها.
وأجيب على ذلك بأن هذه الحالة ذات شبه بالوقف من بعض الوجوه وليست مطابقة، ومعني ذلك أنها خارجة عن الوقف، وما دام الأمر كذلك فليست بحاجة لتوفر أركان الوقف أو شروطه وهو المطلوب.
بعض المحاولات التطبيقية
من الناحية الواقعية فقد بدأت بعض الجهات أو الحكومات تنفيذ فكرة توظيف الزكاة في مشاريع ذات عائد على المستحقين دون تمليك فردي لها، وكانت النتائج باهرة في تحقيق مصالح المستحقين، كما هو الحال في دولة باكستان، والدولة الأردنية وبيت الزكاة الكويتي، مما هو مفصل في أصل هذا البحث.
__________
(1) لا بد من رفع حاجة الفقير والمسكين من مال الزكاة إلى الحد المعقول أولا وقبل توظيف الأموال في المشاريع المذكورة، فرفع حاجة الفقير ابتداء شرطة لصحة الصيرورة إلى التوظيف الآخر(3/56)
المناقشة
توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع
بلا تمليك فردي للمستحق
الجلسة الصباحية: صفر 1407هـ /13 أكتوبر 1986 م
الرئيس:
العرض في توظيف الزكاة فضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف فرفور فنرجو أن يتفضل بإعطاء عرض عن مسألة توظيف الزكاة.
الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور:
شكرا أيها السيد الرئيس ...
بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله والسلام على عباده الذين اصطفى.
توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي المستحق هو عنوان البحث. يعتمد هذا المبحث على مبحث آخر لابد من التعرض له، وهو: هل تغني الإباحة عن التمليك في إخراج الواجبة؟ نص الحنفية والجمهور من الفقهاء على أنه لا تجزئ عن الزكاة الإباحة ولا الإطعام، لأنه لا بد من تمليك لقوله تعالى {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فكل ما جاء في القرآن المجيد بلفظ الإيتاء يشترط فيه التمليك لأن الإيتاء خاص معناه التمليك، والاختصاص دون الإباحة والإطعام، لكن قالوا: إذا دفع الغني للفقير المطعوم ناويا الزكاة يجزئه وذلك كما إذا وضعه في سفط ووضعه في يده بنية الزكاة، وكما لو كساه، لأنه بالدفع إلى الفقير بنية الزكاة يملكه، فيصير الفقير آكلا من ملكه، بخلاف ما لو أطعمه معه.
وأجاز بعض الزيدية احتساب ما يقدمه لضيوفه الفقراء من الزكاة بشروط:
أولها: أن ينوى الزكاة، وثانيها: أن تكون عين الطعام باقية كالتمر والزبيب، وثالثهما: أن يصير إلى كل واحد ما له قيمة ولا يتسامح بمثله. ورابعها: أن يقبضه الفقير أو يخلي بينه وبينه مع علمه بذلك. وخامسها: أن يعلم الفقير أنه زكاة لئلا يعتقد مجازاته ورد الجميل بمثله.
المقصد من المبحث: هل يصح توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق؟ أي بلا تمليك مباشر. لم يتعرض الفقهاء القدامى ولا المعاصرون فيما أعلم إلى هذا الأمر الجديد الذي يصح أن يسمى نازلة أو واقعة. وهي مما عمت به البلوى واحتاج الناس إليه في هذا العصر، فوجب النظر من جديد على ضوء القواعد الفقهية الكبرى في مذاهب فقهاء الأمصار. أما أنظار زملائى أعضاء المجمع وخبرائه الكرام فتتلخص فيما يلى حسبما جاء في كتابتهم المشكورة.
أولا: ذهب فضيلة الأخ تيجاني صابون محمد حفظه الله، وهو مالكي المذهب في مقولته هذه فيما أحسب، ذهب إلى أن توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق لا يمكن أن يتم إلا إذا وجد مستحقو الزكاة حقوقهم، وبقدر الكفاية المحددة لهم بأنه لا بد أن يعطى الفقير القدر الذي يخرجه من الفقر إلى الغنى. فإذا ما حصل ذلك ووجد كل ذي حقه من أموال الصدقة أي الزكاة وفاضت، فيمكن بعد توجيها إلى مثل هذا المشروع كما حدث في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما أبلغ بفيض أموال الصدقة بعد توزيعها إلى المستحقين أمر بتزويج العزاب منها. كما أخرجه الإمام في موطئه في باب القراض حسب عزم الشيخ والعهدة على الناقل. وقد جعله عمر قراضا فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ ابنه ربح المال.(3/57)
وذهب فضيلة الأخ الدكتور حسن الأمين إلى جواز ترشيد مال الزكاة لمصلحة الفقراء فيما يعود عليهم بالنفع المستمر في شكل منشآت ومشاريع تنشأ من مال الزكاة ويوزع ريعها على المستحقين وشرط لذلك أنه لابد من رفع حاجة الفقير والمسكين من مال الزكاة إلى الحد المعقول أولا قبل توظيف المال في المشاريع المذكورة فرفع حاجة الفقير ابتداء شرط لصحة الصيرورة إلى التوظيف الآخر، واستشهد لقوله هذا بحديث أنس رضي الله عنه في قصة منع السائل عن السؤال والكدية في ضوء تشجيع العمل وإغناء النفس عن الحاجة للغير. والحديث معروف لديكم واستأنس حفظه الله بما فعلته الحكومات المعاصرة من ذلك كدولتي باكستان والأردن الشقيق وبيت الزكاة الكويتي مما حقق نتائج جيدة.
وذهب فضيلة الأخ الشيخ آدم شيخ عبد الله علي حفظه الله إلى أن الفقهاء اتفقوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلا على الأصناف الثمانية القرآنية. وقد اختلفوا على ثلاثة أقوال بعد أولها قدر كفايتهم للعمر الغالب. ثانيا قدر كفايتهم في السنة. ثالثا: أقل من قدر كفايتهم. وشرح ذلك بما لا مزيد عليه ثم قال: وتوظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع دون تمليك فردي للمستحق بمعنى استرجاح أموال الزكاة عن طريق توظيفها لاستنمائها غير جائز لأسباب أربعة ذكرها في مقولته أذكرها بالنص:
أولا: أن هذه الأعمال تعرض المال للفائدة والخسارة فربما يترتب عليها ضياع أموال الزكاة.
ثانيا: أن توظيف أموال الزكاة في أى من المشاريع الإنمائية يؤدي إلى انتظام الفائدة المترتبة عليها. وهذا قد يأخذ وقتا طويلا فيكون سببا في تأخير تسليم أموال الزكاة لمستحقيها بدون دليل شرعي مع أن المطلوب التعجيل في أداء حقوق المستحقين للزكاة....
الشيخ عبد العزيز الخياط:
... {الْغَارِمِينَ} وقد يعطى أموالا طائلة في ذلك من مردود وكذلك أن يعطى صاحب الصنعة ما تلف من الصنعة أو من أدوات صنعته فقد نصوا كذلك على أنه يمكنه أن يعطى مزرعة أو ضيعة يستغلها. واذا كان بعض الفقراء كما ورد في الأبحاث الكريمة، وكما ورد في الفقه أنه يعطى كفايته للعمر كله وبعضهم حدده بسنة. إذن يمكن أن نتولى استثمارها في الأموال لضمان عمل ومورد لذوي البطالة غير الإجبارية للقادرين على العمل بما حصل للنبي عليه الصلاة والسلام وإن كان في غير مال الصدقة من ماله في أنه منع المتسول أن يعطى من مال الصدقة. ودفعه إلى العمل بأن باع له إناءه بدرهمين ثم كلفه بالعمل وقال له: لا أرين وجهك خمسة عشر يوما وذهب وعمل. فيستهدي بذلك في ضرورة توفير العمل لهؤلاء وإذا كنا نحن أخذنا جزءا من هذه الأموال واستثمارناها فنحن في هذا الموضوع نعطيه تمليكا لمجموع الفقراء. وهذا يقتضي أن نلجأ إلى ما أشار إليه الأستاذ الدكتور الفرفور في موضوع أن يكون القائم على ذلك هيئة أو مؤسسة.(3/58)
أنا اقترحت أن تكون هناك مؤسسة للزكاة سموها ما شئتم: مؤسسة الزكاة، صندوق الزكاة، أو أي تسمية أخرى هذه المؤسسة يقوم فيها المزكون باستثمار أموال الزكاة مع الهيئة الإدارية فيها. وهذا الاستثمار كما قلنا جزء كبير من الأموال وتستغل فيه أصحاب البطالة الاختيارية وينتفي عنهم العمل هذا ما أرى أن تذهب إليه مستهديا بما قرأنا من النصوص ومستهديا ببعض آراء الفقهاء، وأقول في هذا الأمر كلمة أخيرة: نحن درسنا على مذاهب مختلفة وقد يكون لكل منا رأى مختلف ولكن ما دام هناك تيسير للمسلمين في تحقيق مصالح الفقراء في رأي من هذه الآراء فأرى ألا نتمسك برأي فقيه آخر في هذا الأمر. ولهذا أجنح وأميل إلى الأخذ بتوظيف واستثمار بعض أموال الزكاة لصالح الفقراء وشكرًا للأخوة الكرام.
الرئيس:
شكرا وأحب أن أسأل معالي الشيخ عبد العزيز سؤالا نظرا لأنكم أفضتم في الموضوع أنه نظرا لإلغاء الأوقاف فإذا كانت هناك في بلاد ألغيت فيها الأوقاف فكيف يقال ينشأ فيها صندوق للزكاة وتوظف فيه.
الشيخ عبد العزيز الخياط:
عفوا ... الأوقاف لم تلغ في كل البلاد.
الرئيس:
أنا أريد أن أسأل لأن السؤال في هذه النقطة خاصة بغض النظر عن أية دولة من الدول أو حكومة من الحكومات. إذا كانت حكومة بلاد تعايش أن بابا من أبواب الفقه نسف وهو تقريبا قد يكون في ثلاث حكومات أو أربع حكومات.(3/59)
الشيخ عبد العزيز الخياط:
إن هناك مؤسسات شرعية مازالت قائمة في كل البلاد الإسلامية وما زال العمل بقوانين تتعلق بالأحكام الشرعية في كثير من البلاد الإسلامية، فقوانين الأحوال الشخصية معمول به في جميع البلاد الإسلامية عربية أو غير عربية بالرغم من محاولات إدخال ما ليس من الأحكام الشرعية عليها في بعض البلدان، هناك القضاء الإسلامي وما يسمى بالقضاء الشرعي قائما في كثير من البلدان الإسلامية. وفي بعض البلدان الإسلامية ومنها العربية هناك قضاء واحد يحكم بالشريعة الإسلامية. من هنا أقول ما زال المسلمون بخير ونحن لا نقول بإلغاء الأوقاف، الأوقاف قائمة في كل البلاد. وإذا كانت قد ألغيت في بعض البلدان الإسلامية فلا يعني هذا عدم وجود القضاء الشرعي وعدم سيطرة المسلمين على ذلك. هذه نقطة.
النقطة الثانية: أقول اشتراك المزكين أنفسهم في استثمار هذه الأموال مما يؤدي إلى ضمان وجود ثقة بين المزكي وبين المؤسسة مما يدفعها إلى تنمية هذه الأموال أما إذا كانت هناك أمور فوق قدرتنا وفوق طاقاتنا فهذا مالا نستطيع دفعه، وهو بلاء. نسأل الله أن يحمينا منه ومع ذلك علينا نحن أن نعمل بما نقتنع أنه حكم شرعي توصلنا إليه بغض النظر عما هو قائم بالبلاد العربية أو الإسلامية. وشكرًا.(3/60)
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الموضوع طرح في مؤسسة بيت الزكاة بالكويت حيث تقدم بعض المزكيين أو بعض المتصدقين برغبتهم في أن توضع أموالهم في مشاريع ثابتة. ولما عرض هذا الأمر على الهيئة الشرعية لبيت الزكاة أبدت رأيها فيه. وملخص هذا الرأي في صورة موجزة جدًا: الهيئة رأت أن هذا يدخل في الصدقة الجارية استئناسا وليس صراحة ووضعت عدة ضوابط لكي لا تزول صفة الزكاة من هذه المشاريع التي وضعت من أموال مأخوذة من الزكاة، كما أن الهيئة لاحظت فرقا كبيرا بين استثمار الزكاة وبين توظيف الزكاة في مشاريع فاستثمار الزكاة معنى ذلك أن تبقى الأموال المأخوذة زكاة نقود سائلة يمكن صرفها في أى وقت وإنما بدل أن تصرف فورا تستثمر في مثل البنوك الإسلامية والشركات الإسلامية التي يسهل فيها استرجاع هذه الأموال في أي حين فيدفع من هذه الثمرة وهذا الريع ويظل المبلغ الأصلي قابلا للصرف عند الحاجة بدون صعوبات. أما الغرض من هذا الموضوع فهو أن تتحول هذه الأموال المأخوذة من الزكاة إلى مشاريع قد يكون مصنعا من المصانع لتأهيل المحتاجين قد يكون مدرسة ليتعلم فيها الطلبة الفقراء. قد يكون مستشفى يعالج فيه المرضى المحتاجون والمستحقون للزكاة.
إذا الأموال ذابت وخرجت من طوق التصرف وأصبحت هي نفسها ذات ريع وهذا الريع ثمرة هذه الزكاة. وأيضا لاحظت الهيئة الشرعية في بيت الزكاة تفرقة هذا الموضوع عن الوقف لأن الوقف فيه تثبيت العين والتصدق بالثمرة وله أحكام خاصة من حيث امتناع بيعه واستبداله إلا في ظروف خاصة أو التصدق بعينه لأن عين الوقف أصبحت على ملك الله عز وجل ولا يجوز التصرف فيها. هذا التوظيف للزكاة في مشاريع كما قلت يجري مجرى الصدقة الجارية ويشمله الحديث الشريف: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية)) ، ولفظ الصدقة هنا مطلق ولكن الهيئة الشرعية لاحظت وأصرت على ثلاثة أمور لعدم الخلط بين الزكاة وبين الصدقة المطلقة. وهذه الأمور الثلاثة هي:
أولا: الانتفاع بتلك الأصول وريعها يقصر على مستحقي الزكاة من الأصناف الثمانية.(3/61)
الأمر الثاني: إذا اقتضى الأمر صرف أعيان تلك الأصول لقيام الحاجة إلى ذلك لوجود وجوه صرف عاجلة ولا يوجد ما يسدها من أموال أخرى فانه يجب بيعها وصرف أثمانها في مصارف الزكاة إذ لا يجوز تأخير صرف الزكاة سواء ظهرت في صورة مبالغ أو أصول مادامت الحاجة قائمة ولا يغير هذا الحكم اشتراط المزكي خلافه.
الأمر الثالث: إذا بيعت تلك الأصول لأي سبب فيجب أن ترد أثمانها إلى أموال الزكاة للصرف على المستحقين أو لشراء بديل يخصص لمثل ما كانت له. والحمد لله رب العالمين.
الدكتور محمد عطا السيد:
هل تستخدم أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع بعد أن تفيض هذه الأموال على المصارف التي حددها الله سبحانه وتعالى في كتابه فقط أم أيضا تستعمل قبل أن تستوفى هذه المصارف؟ في رأيي أنه إذا كان يقصد أن استخدام أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع مع عدم فيضها على هذه المصارف التي حددها الله تعالى لا أوافق على ذلك وأرى أن هذا فيه مخالفة للنص ومخالفة لروح التشريع أما إن كان يرون أن استخدامه بعد أن تفيض هذه الأموال على المصارف التي حددها الله تعالى فأنا لا أوافق الشيخ في أن هذه المسألة مما عمت به البلوى وصار نازلة تستدعي حكما عاجلا لأننا نحن نعلم اليوم حالة المسلمين وحالة الفقر التي تكلمنا عنها البارحة فبالتالي يكون هذا الموضوع ليس من المسائل التي تستأهل البت السريع في هذه المسألة. وأرى أن توضيح هذه المسالة برأي فقهي واضح مهم للغاية.
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم.... وبه أستعين....
عندي إيضاح وسؤال ودعاء ودعوة: أما الإيضاح فهو عن بيت الزكاة: بيت الزكاة أنا عضو فيه وعلى تنمية الموارد، ولكن الموارد التي تنمى في بيت الزكاة هي المنحة وليست الزكاة، أموال الزكاة التي تأتي إلى بيت الزكاة من الناس ومن المزكيين تصرف تباعا، أما المنحة التي تعطيها الدولة إلى بيت الزكاة سنويا تعطى منحة أحيانا مبالغ هذه المبالغ تنمى لأنها ليست من الزكاة والصدقة الجارية التي قال عنها أستأذنا الدكتور عبد الستار هذه أيضا ليست من باب الزكاة هي صدقة جارية ليست زكوات.
السؤال: إذا كانت أبواب الزكاة ثمانية، عندنا الفقراء والمساكين هذان بابان لا نستطيع أن نهملهما يجب أن نأخذ الزكاة وننفق عليهم لأنهم في حاجة فورية لمعيشتهم اليومية.(3/62)
ثم أن هناك أبواب ستة هذه الأبواب الستة فيها تراخ عند الصرف. السؤال هنا هل يمكن استثمار هذا الأموال؟ وأنا لم أفهم كلمة صرف الزكاة يعني كلمة الصرف في مشاريع ذات ريع هي ليست صرف هي توظيف واستثمار الصرف في الحقيقة هو ما يصرف وينفق إنما لو أخذنا ستة أثمان، أنفقنا ثمنين في باب الفقير والمسكين وستة أثمان هي التي تصرف على التراخي لو استثمرت بأيد أمينة على شرط بأيد أمينة وهذه الأيدي تستثمر هذه الأموال وهذه الأيدي تصرف في الزكاة وتستثمرها في استثمارات قليلة المخاطر ليس هناك استثمار ليس به مخاطر إنما قليل المخاطر وقد تكون المخاطر فيها متلاشية هذا السؤال.
أما الدعاء والدعوة {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} يعني نحن ندعو الله سبحانه وتعالى بأن يلهمنا سبل الرشاد وندعو الأمة الإسلامية بأن تلتزم بدينها لأنه هو منجاتها وحبلها المتين {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} كما قال سبحانه وتعالى بهذا الدعاء والدعوة، وشكرًا.
الشيخ يوسف القرضاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} .
وبعد، فموضوع توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق هذا هو العنوان المطروح علينا. البعض من الأخوة الذين قدموا البحوث ذكروا أن هذا الموضوع ليس له أصل في فقهنا الإسلامي والأخ الدكتور الفرفور. حينما لخص البحوث أيضا ذكر هذا مع أن الأخ الشيخ آدم. الشيخ عبد الله نقل ما ذكرته في كتاب فقه الزكاة في مصرف الفقراء والمساكين وهو ما قاله الشافعية في هذا الأمر، الشافعية ذهبوا إلى أن، الواجب بالنسبة للفقير والمسكين أن يعطى كفاية العمر الغالب لأمثاله ما يغنيه أخذا من حديث " سدادا من عيش أو قواما من عيش، كما قاله الإمام النووي في المجموع وأخذوا من السياسة العمرية الراشدة حيث كان عمر يقول: إذا أعطيتم فأغنوا، وكان يقول " والله لأكررن عليهم الصدقة وإن راح على أحدهم مائة من الإبل ". مائة من الإبل ما يساوي عشرين نصابا من أنصبة الزكاة. فأخذ الشافعية وهو ما نص عليه الإمام الشافعي في الأم أن الفقير يعطى ما يغنيه طول عمره.
وقالوا: إذا كان زارعا تشترى له ضيعة أو حصة في ضيعة تغنيه طول العمر وإذا لم يكن يحسن تجارة أو حرفة قالوا: ليس المقصود أن يعطى مالا سائلا أو نقودا ... أي يشترى به مثل عقار يكفيه دخله منه طول عمره والأخ الشيخ آدم ذكر هذا الكلام، وليس المراد بإعطاء من لا يحسن الكسب إعطاءه نقدا يكفيه تلك المدة بل ما يكفيه دخله منه فيشترى له به عقار يستغله ويعيش به ثم يملكه ويورث عنه، قال: والأقرب كما بحثه الزركشي أن للأمام دون المالك شراءه له وله إلزامه بالشراء وعدم إخراجه عن ملكه يعني كأنه شبه وقف عليه. حينئذ ليس له إخراجه فلا يحل ولا يصح فيما يظهر ببيعه.(3/63)
هذا كلام الشافعية في هذا الأمر وأنا قلت بناء على هذا وتستطيع الدولة المسلمة بناء على هذا الرأي أن تنشيء من أموال الزكاة مصانع وعقارات ومؤسسات صناعية أو تجارية ونحوها وتملكها للفقراء كلها أو بعضها لتدر عليهم دخلا يقوم بكفايتهم ولا تجعل لهم الحق في بيعها بناء على ما قاله الزركشي وغيره في بيعها ونقل ملكيتها لتكون شبه موقوفة عليهم.
والأخ الشيخ أدم قال: هذا استنتاج قوي واضح إلا أن الذي ذهب إليه هنا هو تمليك الفقراء هذه الأشياء استقلالا أو اشتراكا. نحن نعلم أنه لم يعد الآن من السهل أن يعطى الفقير ليعمل مصنعا بمفرده أو معملا بمفرده إنما فقراء بلد معين في إفريقيا، وكذا أن نعمل لهم مشغلا يشتغلون به أو مصنعا معينا ويملك هؤلاء الجميع المصنع ويعملون فيه ولهم أرباحه ولا نمكنهم من بيعه لأنه قد يرتكبون سفاهة ويبيعونه. هذا ممكن أن يكون في توظيف أموال الزكاة في مثل هذا الأمر لا تمليكا فرديا ولكن تمليكا للمجموع كما قالوا حصة في شيء آخر فهذا النوع لا أرى به بأسا. هناك أيضا قضية أخرى أرى أنه ينبغي أن لا يكون هناك خلاف عليها وهو مسألة الاستثمار المؤقت الاستثمار المؤقت لأموال الزكاة. وهذا أمر سألت فيه الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية لأنها تأتيها أموال الزكاة ولا تستطيع أن تصرفها في الحال لأن هناك أناسا يتقدمون بطلبات وهذه الطلبات تحتاج إلى وقت حتى تدرس وتعرف جديتها ويوثق الطالبون ويقدم الأحق فالأحق. هذه تأخذ وقتا هذا الوقت ليس من المصلحة أنك تعطل عدة ملايين من الفقراء ويمكن لهذه الملايين أنها تعمل وتستثمر وتزيد خاصة ونحن نعلم أن القوة الشرائية للنقود تتدهور. فحتى نعوض هذا من ناحية ونستثمرها من ناحية أخرى لمصلحة مجموع الفقراء من المستحقين، هذا الاستثمار المؤقت أرى أنه ليس فيه ما يمنع وخاصة ما أشار إليه الأخ الفرفور أن مذهب الحنفية يجيز التأجيل وغيرهم أيضا يجيز تأجيل الصرف لحاجة، وهذه حاجة جيدة وهي ضرورية سواء أردناها أو لم نردها لا بد أن يتأجل الصرف فاستثمار الأموال وخاصة أن هناك أموالا تأتي باستمرار.
فهناك أموال أخرى بالاستثمار المؤقت لأموال الزكاة لحساب مجموع الفقراء أرى أن هذا لا مانع فيه كذلك إذا أخذنا على رأي من يتوسع في سبيل الله وهو أيضا موجود في الفقه الإسلامي ما نقله الرازي عن القفال وما مال إليه الكثيرون وهو أمر مذكور عن عدد من الفقهاء السلف أنه يجوز التوسع في سبيل الله فإذا توسعنا في سبيل الله.(3/64)
فهذا يمكننا أن نقول: إن في سبيل الله أن كل مصلحة أو قربه فيها خير أو نفع للمسلمين تصبح في سبيل الله. وهذا أولى من القول بأنه بالنسبة " للام " وإن سبيل الله ليس فيها تمليك والغارمين ليس فيها تمليك ولكن الآية فرقت في الحقيقة بين نوعين من المصارف ما عبر عنه بـ " اللام " وما عبر عنه بـ " في " ما عبر عنه بـ " اللام " الظاهر أنه يفيد التمليك للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم هذه هي الأربعة الأولى والأربعة الأخيرة وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فالتعبير له دلالته كما أشار الزمخشرى والمفسرون عامة أن " اللام " تفيد التمليك و " في" تفيد الظرفية أي إعطاءها في هذه المصارف وإن لم يملك أصحابها. فلو فسرنا {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهو قول وارد على كل ولو توسعنا في هذا فيمكن أن يقول هذا أننا أخذنا من الفقه الإسلامي ولا ينبغي لنا أن نقول إن هذا أمر ليس له سابقة في الفكر الإسلامي وليس له أصل بل له أصل من أكثر من وجه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
الرئيس:
شكرا لفضيلة الشيخ. وسؤال بسيط يا فضيلة الشيخ يوسف.
فيه قضية يعني أحب إذا تكرمتم نتيجة ما توصلتم إليه في كتاب فقه الزكاة من فورية الزكاة وجوبها على الفور أو التراخي بس يعني إشارة بسيطة.
الشيخ يوسف القرضاوى:
الزكاة واجبة على الفور من غير كلام وحتى الفقهاء أو الأوصوليون الذين اختلفوا في مسألة الأمر، هل الأمر يفيد الوجوب على الفور أو على التراخي؟ قالوا: بالنسبة للزكاة هناك قرائن كثيرة وأدلة كثيرة تدل على الفورية لأن المستحقين وحاجات الفقراء والمساكين والأصناف المستحقة لها لا تتحمل التأخير فالأصل في الزكاة الفورية ولكن القضية هنا يا سيادة الرئيس الفورية حدثت وهو أن الممول أو المكلف الذ0ي وجبت عليه الزكاة دفع الزكاة فورا فعلا ووصلت إلى محلها بالنسبة للمؤسسة المسئولة أو الدولة أو الهيئة أو بيت الزكاة أو تسميه ما تسميه هي الفورية حدثت.
المسألة مسألة بيت المال أو بيت الزكاة والمؤسسة المسئولة هي الآن بعد أن حصلت الفورية تفكر في ما هو أنفع لمجموع المستحقين هل تدفعه في الحال؟ هل تؤخره؟ هذا أمر آخر غير الفورية.(3/65)
الشيخ تقي عثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين.
شكرًا سيدي الرئيس ... الموضوع المطروح أمامنا هو توظيف أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق. والذي ينبغي أن نبت فيه أولا هو أن التمليك هل هو شرط واجب لأداء الزكاة أم لا؟ والذي أرى أن مسألة التمليك في الزكاة قد جرى فيها النقاش ولا يزال منذ سنين ولكن الرأى السائد عند الفقهاء في السلف والخلف هو أن التمليك شرط لأداء الزكاة وأن الأئمة الأربعة فيما أعتقد كلهم يشترطون التمليك الفردي لأداء الزكاة ومادامت الزكاة عبادة يجب علينا أن نحتاط فيه.
وأن توظيف الأموال في مشاريع ذات ريع ليس في رأيي نازلة من النوازل لم تكن معهودة عند السلف الصالح وإنما كانت هناك أموال توظف في مشاريع ذات ريع ولكن ما رأيت بعد في أحد من البحوث المقدمة الينا أنهم ذكروا سابقة من الفقهاء أو من التاريخ الإسلامي أن أموال الزكاة وظفت في مثل هذه المشاريع، مع أن مثل هذه المشاريع كانت موجودة عندهم أيضا والأمثلة التي جاء بها الباحثون فيها نظر كما تفضل به فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله مع تقديرى له واحترامي لعلمه وفضله من أن الشافعية ذكروا أن الفقير يعطى كفاية العيش كفاية العمر، ولكن المراد من ذلك أن يملك الفقير أدوات التجارة وأدوات الصناعة لا أن تصرف الأموال إلى مشاريع ذات ريع إنما تملك للفقير تمليكا فرديا يملك أدوات التجارة وأدوات الصناعة التي تكفيه لجميع عمره. فهذا شيء لم يختلف فيه أحد فالتمليك الفردي متحقق في ذلك المثال.
وأما ما ذكره بعض الباحثين أن التمليك كما يمكن أن يكون فرديا يمكن أن يكون جماعيا ولكن الذي أراه أن التمليك المشترط في الزكاة هو ليس تمليكا جماعيا يكون في بيت المال أيضا ولو كان يجوز مثل هذا التمليك في الزكاة لما كان هناك معنى لتحديد مصارف الزكاة الثمانية وإنما قيل أدوا الزكاة إلى بيت المال ثم يصرفه بيت المال إلى جميع المسلمين لأن بيت المال فيه تمليك جماعي ولم يقل به أحد.
وكذلك ذكر بعض الباحثين حديث القراض الذي أخرجه الإمام مالك رحمه الله في الموطأ وأظن أنه لا علاقة له بالزكاة أصلا، وإنما كان مال بيت المال قد صرفه عبيد الله بن عمر في التجارة فرده سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بيت المال وليس فيه ذكر للزكاة أصلا. ثم الذي ينبغي أن نتنبه له هو أن الإسلام لم يقصر جميع أعمال الخير على الزكاة وإنما نريد أن نقصر جميع أعمال الخير على الزكاة وكلما دعت داعية للتبرع على الفقراء نريد أن نصرف من الزكاة ما عدا الحديث واضح أن في المال حقا سوى الزكاة {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} فباب التبرع واسع جدًا فالزكاة جزء يسير من الذي يفترض على المسلمين بما يتطلبه الإسلام للمؤمنين وليس كثير أعمال الخير مختصرة على الزكاة. فلذلك أرى أنه دعت الحاجات إلى توظيف أموال لصالح الفقراء في مشاريع ذات ريع فليفعل ذلك من التبرعات العامة وليفعل ذلك من الصندوق المختص لهذا الغرض، وأريد أن أوضح في هذا الصدد أنه قد ذكر بعض الباحثين أن في باكستان توظيف أموال الزكاة في مشاريع ذات ريع هذا خلاف الواقع.(3/66)
الحقيقة أننا في باكستان الزكاة تصرف إلى الفقراء تمليكا فرديا ولكن جعلوا هناك صندوقا خاصا للتبرعات وبهذا الصندوق توظف الأموال في مشاريع ذات ريع، ولا علاقة له بالزكاة أصلا. فهذا ما أراه وإني أخشى أنه لو فعل ذلك تضيع أموال الزكاة في الأعمال الإدارية ويضيع حق الفقراء. وشكرًا والسلام عليكم ورحمة الله.
الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور:
شكرًا سيدي الرئيس ... أشكر للسادة المعلقين الأفاضل تعليقاتهم القيمة المفيدة لافتا النظر إلى نقاط:
أولا: أن فضيلة الأخ الدكتور القرضاوي عتب علي أني ذكرت أنني لم أر في المعاصرين ولا في القدامى من تحدث في ذلك وله العتبى ولكن قلت: فيما أعلم فيما أعلم أي من المعاصرين أما السادة العلماء الأفاضل الكرام من السلف الصالح فليس في كل ما قاله السادة العلماء الذين تكلموا في هذا الموضوع غنية في هذه المسألة حصرًا، يعني ما أحد أفتى أبدا في موضوع تطبيق الزكاة حصرا في هذه المسألة، ومع ذلك قلت فيما أعلم. هذه ناحية.
الناحية الثانية: هي أن الإسلام وسط بين الإفراط والتفريط، ولا سيما في الأمور الخلافية، هذا منهج تعلمون أيها السادة العلماء أن الإمام الشاطبي الغرناطي اللخمي في الموافقات قال: الوسط أم الكتاب ولا يجنح عنه إلى غيره إلا لضرورة قصوى داعية إلى ذلك.
وهذه المسألة مما مست إليها الحاجة في زماننا، وهي من الأمور التي لم نبحث فيها إلا لاضطرارانا إليها، ولو لم يضطر إليها المجتمع لما بحثناها، ففي اختلاف البلاد واختلاف العباد واختلاف الدول وأنظمة العيش وأنماط الحياة ما يضطرنا إلى مثل هذه الحلول في بلاد ربما لم يضطر إليها المسلمون في بلد آخر، ربما لا تمس هذه الحاجة أو الضرورة في بلد من بلاد المسلمين أو قطر من أقطارهم وتمس هذه الحاجة في قطر آخر لظروف معينة.
وقد لفت نظر السيد الرئيس إلى هذا البارحة في جلسة خاصة ولا أستطيع أن أتكلم بكثير في هذا الموضوع كي لا يفهم كلامي على غير معناه الحقيقي فالتوسع في هذا الأمر خلال الحاجة والضرورة قلت: إن هذا حاجة عامة وضرورة والضرورة تقدر بقدرها والتضييق في هذا الأمر أيضا خلاف ليسر الإسلام وسعته ومرونته وصلوحيته لكل زمان ومكان. فالأفضل فيما أرى وترون حفظكم الله وأنتم العلماء المنصفون أن نبتغي بين ذلك سيرا وسطا لا هو إلى الإفراط ولا هو إلى التفريط كما ذكر المنصور للإمام مالك حين قال له: اكتب كتابا تبتعد فيه عن رخص ابن عباس وعن شدائد ابن عمر، وعن شواذ ابن مسعود ووطئه للناس توطئا وفيما ذكرت لعله يكون الوسط، لعله، أما فيما ذكره أخي وجاري جار الرضى الأستاذ الدكتور محمد عطا السيد في قضية أنه يا هل ترى؟ هل هذا فيما يفيض عن الحاجة أم لا يفيض؟ أقول: هذا السؤال ربما يكون في غير محله لأسباب.(3/67)
منها أن الأغنياء شحوا عن دفع الزكاة فكيف يفيض المال؟ نحن في واقع اجتماعي أليم، إن الذي يدفع الزكاة في البلاد الإسلامية عامة مع اختلاف الأقطار فيما بينها اختلافا طفيفا لا يتجاوز بحد غير مبالغ فيه 40 أو 50 % إن يكن أقل فكيف نتصور في هذا العصر أن يفيض المال عن حاجة الفقراء. نحن اليوم في عصر شحت الأغنياء فيه في واقع نريد أن نعالجه كما هو عليه لا حينما تقوم الدولة الإسلامية في العالم الإسلامي ويصير للناس إمام واحد وخليفة واحد وتوزع أموال الزكاة كما وزعت في عهد عمر بن عبد العزيز. لا. في ذلك الوقت له وضع آخر وحل آخر. نريد أن نعالج مرضًا خطيرا وهو أن الفقراء إذا لم نتبين هذه الحلول الواقعية اليوم أنهم سيدخلون زمرا زمرا في أفكار إلحادية مناقضة للإسلام تحت اسم حل مشكلة الفقر وما إلى ذلك مما تعلمونه بالإشارة فضلا عن العبارة. أستغفر الله وأقول قولى هذا والحمد لله رب العالمين.
الشيخ خليل محيي الدين الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد ...
نعرف من تعريفات الفقهاء للزكاة قالوا: هي تمليك جزء معين من المال من فقير مسلم غير هاشمي ولا مولاه بشرط قطع المنفعة عن الملك من كل وجه لله تعالى. إذن هنالك توجه أول إلى التمليك، وتوجه آخر إلى قطع المنفعة عن الملك من كل وجه، ولذلك توجه الفقهاء إلى أنها لا يجوز صرفها إلى الأصل وإلى الفرع، هذا أمر ملاحظ.
أمر آخر الحقيقة الزكاة تتوجه إلى علاج أمر واقع لا أمر متوقع علاج الفقر الواقع لا الفقر المتوقع خاصة وأنها مستمرة دورة الفقر هنا ودورة الصدقة هنا، فالصدقة هنا للفقر هذا وإلا كان هنالك الوقف. فالوقف للموجود وللقادم أما الزكاة فهى للموجود فقط تقريبا. هذا الأمر عندنا ظاهرة أشار إليها حضرة الرئيس وهي تأكل الوقف في العالم الإسلامي. الوقف كما نعرفه من الصدقات الجارية وأنه يتآكل فإذا ما نملكه لا يجوز التفريط فيه مع العلم بأنه بناء لتجربة صندوق الزكاة في لبنان تبين أن ما ينفق هو ثلاثة أوجه: الزكاة، والصدقات، والتبرعات.(3/68)
ففي الحقيقة يحسن أن نقصر الزكاة في مصارفها وأن نأخذ لهذا العنوان المطروح من بابين وأظنهما أكثر من الزكاة هذا ما تحصل لنا في لبنان. أما الصدقات والتبرعات كانت أضعاف الزكاة. فإذا نجنب الزكاة ما أمكن من تجميدها ونتوجه إلى صندوق الصدقات والتبرعات ليجني منها هذا المشروع لأنه كما هو ملاحظ عند الجميع أن الفقر أمر حالي ينبغي أن يلبى وإن الفورية هو أول ما يتوجه إليه النظر في مشروعية الزكاة وكما أشار الدكتور القرضاوي أن حاجة الفقير جعلت الأمر الوارد في الآية هو للفور لا للتراخي ومعلوم أقول: معلوم أيضا أن الفقهاء قالوا: وإذا تغلب الظلمة أخذوا الزكاة ثم عاد الإمام وسيطرته بهذا المعنى فنفتي الناس بإعادة صرف الزكاة لأن الظلمة لا يوصلون هذا المال إلى مستحقيه. فما دمنا نملك هذا الأمر فالاحتياط أن تبقى الزكاة في مشاريعها المتوجهة وهي التمليك بشرط قطع المنفعة عن المملك والله أعلم.
الشيخ عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أبدأ في الواقع فيما توصل إليه النقاش وأعود لبعض النقاط التي عرضت في السابق بشيء من الإيجاز.
نعم تعريف الزكاة في عدد من المذاهب الفقهية يبدأ بالتمليك لكن كما هو واضح في مذاهب أخرى لم يرد في مطالع التعريف عنصر التمليك والزكاة نحن في إطار التوظيف نتحدث عن علاج أمر واقع لا متوقع. وأحب أن أشير في هذا المجال إلى أن القضية يجب أن ينظر إليها من أكثر من زاوية والمشكلة ليست مطروحة في مجال مشاريع توظيف ذات الريع إنما أيضا في مشاريع التوظيف غير ذات الريع.
هنالك مشاريع يفرض الأمر الواقع أن تتوجه مؤسسة الزكاة أو جهة الزكاة في المجتمع لإقامتها لمصلحة الفقراء الملحة العاجلة كمشاريع التأهيل الآن، كمشاريع إيواء المسنين الكبار الذين لا يجدون من يؤويهم كمشاريع المستوصفات الطبية والمستشفيات الخاصة لمعالجة الفقراء كل هذه مشاريع ليست ذات ريع ولكنها تلبي حاجة ملحة قائمة عند الفقراء الآن وليست متوقعة.
موضوع تمليكها قضية معضلة لأن عملية تمليك مقر أو منزل لإيواء المسنين يوقعنا في إشكالات كبيرة عند وفاة المسن أو غير ذلك فلم لا يوقف طويلا عند قضية أن تكون مؤسسة الزكاة نفسها مالكة لهذا المشروع باعتبارها جهة اعتبارية لها حق التملك مع وضع الضمانات التي أشار إليها سماحة الدكتور عبد العزيز التي تضمن ألا تستغل مثل هذه المشاريع وإن تكون الجهات الممثلة في هذه المؤسسة جهات تصون الحقوق وتحفظ مصالح الفقراء على أساس أننا ننظر إلى الحكم الشرعي أولا ونضع الاحتياطات والضمانات التي تضمن ألا يستغل، لأننا يجب أن نميز باستمرار بين الحكم الشرعي وإمكانية استغلاله حتى لو وقع هذا الاستغلال يعني بالنسبة لموضوع تآكل الوقت وإلغاء بعض الجهات في الدول الإسلامية للوقف هل نتوجه لمطالبة المسلمين الآن أن يمتنعوا عن الوقف لاحتمال أن يلغى الوقف كما وقع في بعض البلاد. نحن نقول هذا الحكم الشرعي للجهة التي تجمع الزكاة وليس للجهة التي ألغت الوقف لأننا كيف نبحث عن توظيف الزكاة في جهة ألغت الوقف لأنها قطعا لم تجمع الزكاة ما دام أنها توجهت لإلغاء الوقف.(3/69)
أعود لموضوع التمليك وأقول تعقيبا وتعليقا على الكلام الذي تفضل به أستاذنا الشيخ تقي. التمليك في الواقع الفردي نوعان، التمليك الفردي نوعان: تمليك متميز، وتمليك شائع، فيمكن أن نملك مجموعة من الفقراء مصنعا أقمناه لهم، وهذه قضية أعتبر أنها يجب أن تكون منتهية في النقاش عند من يصر على أن يكون التمليك عنصرا موجودا سواء أكان فورا أو على التراخي.عندما نأخذ بهذا المبدأ يجب أن لا نفرق بين التمليك الفردي المباشر أو التمليك الفردي الشائع، التمليك الفردي المتميز والتمليك الفردي الشائع، ونعتبر أن هذه القضية قد تم الاتفاق عليها وانتهت.
هناك تمليك المؤسسة وتمليك المؤسسة في الواقع يقودنا إلى فكرة وجدت في تاريخنا الإسلامي بيت مال المسلمين نص علماؤنا على أن له أقساما متعددة ولكن قسم شخصيته المتميزة من حيث التملك. وقالوا: إن بيت مال المسلمين فيه قسم خاص بأموال الزكاة. وهذا القسم في الواقع يملك أموال الزكاة كجهة قبل أن ينقلها إلى التوزيع في تلك اللحظة تعتبر المسئولية المالية ومسئولية المحاسبة والتسجيل في إطار هذا القسم بحيث نص العلماء بكل وضوح على ألا تختلط أموال هذا القسم من بيت المال بأموال بيت المال الأخرى، هذه الأموال في تلك اللحظة، لحظة وجودها في بيت المال الخاص بالزكاة، نعم هي مآلها للفقراء وهذه الجهة يجب أن توزعها للفقراء.
أذكر أنني قرأت في بعض المراجع ويمكن أن نستوثق من هذا النص طويلا لأنه يعطينا تنويرا كبيرا أن عمر بن عبد العزيز قد بنى استراحات على طرق المسافرين في ظل فهمه رضي الله عنه لسهم ابن السبيل. وأن هذه الاستراحات أرادها للمسافرين المنقطعين هذه الاستراحات عندما تبنى على قطعة من الأرض هي ملك من؟ هذا مسافر منقطع يقيم فترة ثم يذهب إلى بلده. في هذه اللحظة هي ملك من؟ هي ملك بيت مال المسلمين في قسم الزكاة فهو القسم الخاص بالزكاة تابع له كملكية اعتبارية، لكن بحيث تكون الجهة المنتفعة هي مصرف للزكاة المقرر. في موضوع المشاريع التأهيلية وموضوع إيواء المسلمين نحن أمام حاجة ملحة الآن يفرضها الواقع الاجتماعي، نحن لدينا الآن في الأردن مئات من المسلمين مضطرون في الواقع إلى بناء منزل لإيوائهم. من يملك هذا المنزل؟ الواقع الذي يملك هذا المنزل صندوق الزكاة، ولكن على أن يكون متمحصا لمصلحة المسلمين الفقراء. نريد أن نقيم مشروعا تأهيليا لتعليم المعاقين وأنتم تعلمون الآن باتت مجتمعاتنا تشكو من كثرة المعاقين سمعيا، وبصريا، وعقليا، وغير ذلك كيف ستعطى للمتخلف عقليا مبلغا من المال يعيش منه؟ نريد أن نؤهله أولا ليكون قادرا على الاحتراف ولو في حرفة بسيطة. ثم بعد ذلك نطلقه إلى المجتمع شخصا نافعا. لا بد أن تكون هنالك جهة مرتبطة بصندوق الزكاة تمكننا من تأهيل هذا المعاق، فلذلك أرجو أن نميز أولا بين حالات التمليك فننتهي من بعض القضايا ثم نسلط البحث على القضايا التي يمكن أن يكون فيها خلاف لنبلور موقفا شرعيا محددا منها. وشكرًا.(3/70)
الشيخ عمر جاه:
بسم الله الرحمن الرحيم ... شكرا يا فضيلة الرئيس.
أعتقد أننا ينبغي أن لا نضيق في أحد أمور التشريع في المسألة التي نعالجها في الوقت الحاضر ذلك لأننا ينبغي أن ننتبه دائما أن الهدف في تعيين وجوه صرف الزكاة هي لحل مشكلة فكلنا يعرف أن مشكلة الفقر تزداد يوما بعد يوم، الفقراء في العالم الإسلامي وبين المسلمين يزدادون يوما بعد يوم برغم وجود أموال طائلة بين المسلمين. فإخراج هذه الأموال زكاة لهذه الأوجه الثمانية التي ذكرت في القرآن، الهدف منها حل هذه المشكلة، بصرف النظر عن الفقراء والمساكين.
هناك أوجه ذكرها القرآن بنفس الأهمية وينبغي دائما أن نعرف أن المصلحة تقتضي أن المسلمين يفكرون على مستوى الوقت الحاضر فمثلا أضرب مثلا واحدا: لو قام المسلمون بواجبهم خصوصا المؤسسات المالية التي تملك بلايين، يعني: لو أخرج زكاة هذه البلايين يكون مبلغا محترما كبيرا، هل من المصلحة توزيع هذه الأموال مباشرة أو توظيف هذه الأموال في فترة زمنية قصيرة تدر علينا أموالا أكثر؟ وبهذا نستطيع أن نحل مشكلة الفقر والجهل والمرض التي يعاني منها المسلمون. فأعتقد أن توظيف أموال الزكاة في مشاريع تنمية تستطيع أن تزيد حجم هذه الأموال يستطيع المسلمون بها أن يحلوا مشكلة الفقر بكيفية أكثر فاعلية.
إذن فالمسألة ينبغي أن لا نضيقها ونحدها في دائرة ضيقة احتراما للنصوص، ذلك لأن واجب الفقيه أنه يفكر في حل المشاكل التي تواجهه.
فمسألة التمليك كما تفضل كثير من الذين ساهموا في التعليق وأذكر مثالا واحدا هو تعليق الدكتور عبد السلام العبادي، المسألة واسعة يعني لو وظفنا أموال الزكاة في مشاريع تنموية، وبنينا منها مستشفيات، أو مستوصفات، أو بنينا منها المدارس لتأهيل أبناء المسلمين الفقراء الذين لا يستطيعون أن يعلموا أولادهم من أجل الفقر. أليس هذا من مصلحة المسلمين؟ إذا ينبغي أن نتوسع في هذا المجال وندرك تماما أن روح الشريعة روح التشريع أو الهدف الأساسي في بيان هذه الأوجه الثمانية هي لحل مشكلة المسلمين، المشاكل التي تتجدد دائما وأبدا.(3/71)
فالوقت الحاضر الذي نعيش فيه الآن يختلف عن الأوقات السابقة. فنحن نرى أننا نعيش في نظام اقتصادي عالمي واقع، وأحيانا هذا النظام يؤثر في المسلمين تأثيرا كبيرا. ونرى أن عدد الفقراء يزداد يوما بعد يوم ولا حل لنا في هذا. فالذين يذهبون إلى أن مسألة الصدقة فأوجه الصدقة كثيرة، لكن هذه المسألة تطوعية فنرى أن كثيرا من المسلمين يقصرون في تأدية واجبهم في هذا، لكن الزكاة ضرورة فرضها الله على المسلمين ومن الذي لا يؤديها يكون قاصرا في عقيدته وفي عمله.
إذن ينبغي أن نوسع صدورنا ونتوسع في مسألة توظيف هذه الأموال حتى تستطيع أن تؤدي واجبها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس:
قبل أن أعطي الكلمة للشيخ آدم الشيخ عبد العزيز له كلمة قصيرة.
الشيخ عبد العزيز الخياط:
بسم الله الرحمن الرحيم ...
لقد أغناني الشيخ عمر والدكتور عبد السلام عن كثير من الكلام لكني أحب أن أذكر ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن تجربتنا في السودان التي أشار إليها سمو الأمير الحسن بالأمس ... أخذنا نحن من أموال الزكاة ومن التبرعات ومن الصدقات من الناس مبلغا يزيد عن ثلاث أو أربع ملايين دولار، وفكرنا فيما لو أعطيت إلى أهل السودان الفقراء ربما ضاعت أو راحت أو صرفت في بضعة أيام أو بضعه أسابيع وانتهى الأمر وبقيت المجاعة كما هي وبقي المرض كما هو. فرئي أن نقوم بتجربة، هذه التجربة أن ننشئ من هذه الأموال مستوصفات ومستشفى في منطقة الكأس وتستمر هذه وبقينا حوالى سنة أو ما يزيد عن السنة، ترسل كل شهرين طائرة كاملة بفريق من الأطباء والموظفين ومعهم الأدوية ومعهم الحاجات ومعهم بعض الأغذية توزع مباشرة من هؤلاء باستمرارية من خلال هذا المستوصف المستمر. فهذه الناحية أدت وأجدت في زمننا أكثر مما تجدي فيما لو ملكنا وأعطينا الأشخاص فهي تمليك لهم ولكن بصورة أخرى أكثر فائدة وأكثر تحقيقا للمصلحة ولمقاصد الشريعة الإسلامية، هذه نقطة.
النقطة الثانية: لي تعليق على الأستاذ الشيخ تقي الدين يقول: إن أموال الزكاة تضيع في الأمور الإدارية فيما لو أنشأنا مؤسسة أو بيت مال زكاة: أو صندوق. هذا مناقض لنص الآية الكريمة في قوله سبحانه وتعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} العاملين عليها هي جزء من الأصناف الثمانية الذين يعطون من الزكاة سواء كان من الجزاء أو المنفقين أو إلخ.
ولذلك في رأي أن هذه الأعمال الإدارية جزء ومعروف أن إجبارية جمع الزكاة من الدولة هو الأولى، وإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرسل السعاة والجباة ويعطون الصدقات. ولذلك من باب أولى أن نستمر وإن نحيى في هذا الظرف وفي هذا الزمن مثل هذه المؤسسة التي تقوم بمثل هذا العمل والتي ينبغي أن تكون موضع ثقة.
النقطة الثالثة: أنني أرى أن نحتاط للأمر وأن نتخذ من الناس الذين هم من ذوي الأمانة ومن ذوي الاخلاص ومن ذوي العمل سواء مشتركين من الدولة ومن المزكين أنفسهم.(3/72)
لكن في هذه الناحية تعليق بسيط أيضا على الأستاذ خليل الميس أنه هو يرى عدم إعطائها إذا كانوا ظلمة فماذا يفعل الأستاذ في هذه النصوص وأن نورد منها: عن أنس رضي الله عنه أن رجلا قال " يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله قال: نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها إلى الله ورسوله فلك أجرها وإثمها على من بدلها" هذا حديث. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها. قالوا: يارسول الله فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم ".
وقد روى البيهقي في الكبير أن المغيرة بن شعبة قال لمولى له وهو على أمواله بالطائف: كيف تصنع في صدقة مالي؟ قال: منها ما أتصدق به ومنها ما أدفع إلى السلطان. قال: وفيم أنت من ذلك؟ قال: إنهم يشترون بها الأرض ويتزوجون النساء قال: أدفعها إليهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ندفعها إليهم ". وروى مسلم في صحيحه عن جرير بن عبد الله قال: " جاء أناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن أناسا من المصدقين جباة الصدقة يأتوننا فيظلموننا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أرضوا مصدقيكم ". وشكرًا.
الشيخ آدم شيخ عبد الله:
شكرا سيدي الرئيس.... بسم الله الرحمن الرحيم.. وبه نستعين.
إن مسألة توظيف الزكاة في مشاريع ليست بمسألة جديدة طرأت في هذا العصر بل تكلم في شأنها الفقهاء القدامى لا بصيغتها الحالية بل بمعناها وقد نقلت من كتاب المجموع للنووي في جزئه السادس صفحة 103 ما نصه.
فلو أراد الإمام أن يشتري ذلك، يعني أدوات الحرب مثل الفرس والسلاح وغيرهما، بمال الزكاة ويسلمه إلى الغازي بغير إذنه، أهل يجوز ذلك؟ هل يجوز؟
فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، بل يتعين تسليم مال الزكاة إلى الغازي أو إذنه. وبه قطع جماعة من العراقيين، وأصحهما يجوز وهو الذي صححه الخراسانيون وتابعهم الرافعي على تصحيحه.
وقال الخراسانيون: الإمام بالخيار، إن شاء سلم الفرس والسلاح والآلات إلى الغازي أو ثمن ذلك تمليكا له فيملكه، وإن شاء أستأجر ذلك له وإن اشترى من سهم سبيل الله سبحانه وتعالى أفراسا وآلات الحرب وجعلها وقفا في سبيل الله ويعطيهم عند الحاجة ما يحتاجون إليه ثم يردونه إذا انقضت حاجاتهم وتختلف المصلحة في ذلك بحسب قلة المال. اهـ.(3/73)
وهذا ظاهر بأن الفقهاء تكلموا في هذه المسألة فنرى أنهم أجازوا للإمام من سهم سبيل الله أن يقيم مشاريع ذات ريع وأما من سهم الفقراء والمساكين فإنهم لم يجيزوا ذلك فيه. وقد ذكر شمس الدين الرملي في شرح المنهاج للنووي أن الفقير والمسكين إن لم يحسن كل منهما كسبا بحرفة ولا تجارة يعطى كفايته أو يعطى كفاية ما بقي من العمر الغالب لأمثاله في بلده، وليس المراد بإعطاء من لم يحسن الكسب إعطاؤه نقدا يكفيه تلك المدة بل ما يكفيه دخله منه ويُشترى له به عقار يستغله ويغتني به عن الزكاة فيملكه ويورث عنه.
وقالوا: إن الأصناف الأربعة في الآية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} يدفع لهم نصيبهم من الصدقات على أنه ملك لهم، وفي الأربعة الأخيرة يجوز صرف نصيبهم إلى جهات الحاجات المعتبرة والصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة ويصرف مثلا سهم الغزاة إلى إعداد ما يحتاجون إليه في الغزو وفي هذا أو بعد هذا فإننا نفهم، أنه يجوز توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع من سهم سبيل الله وأما من سهم الفقراء والمساكين وهم محتاجون حاجة ملحة، كما رأينا بالأمس عرض صور بعض الحاجات.
إنني أرى أنه لا يجوز بحال أن نجعل سهم الفقراء أو نقيم من سهم الفقراء مشاريع ذات ريع بل نقضيه حالا يعني نقضيه فوريا لأن بعض الفقهاء يبينون ويقولون كما في نفس المجلد من المجموع: وينبغي للإمام وللساعي إذا فوض إليه تفريق الزكوات أن يعتني بقسط المستحقين ومعرفة أعدادهم وقدر حاجاتهم واستحقاقهم بحيث يقع الفراغ من جميع الزكوات بعد معرفة ذلك معه ليتعجل وصول حقوقهم إليهم وليأمن من هلاك المال عنده ولهذا أرى أن لا ضرورة أن نقيم مشاريع ذات ريع من سهم الفقراء والمساكين ونجيز، وأرى أنه من الممكن أن نقيم من سهم في سبيل الله مشاريع ذات ريع. وشكرًا.
الشيخ مصطفى الزرقاء
بسم الله الرحمن الرحيم ...
إخواني الأساتذة الكرام ... أحببت أن أسمع كثيرا قبل أن أتكلم وقد رأيت أن في حصيلة ما سمعت أنه لا بد أن نعلن ونقول: إننا في معالجة قضايا الزكاة وهي من أهم القضايا التي ظهر شأنها مضاعفا أضعافا في هذا العصر كما تعلمون أننا إذا أردنا أن نعالج مشكلاتنا فيها الزمنية والعوائق التي تحول دون الاستفادة من الزكاة هذا النظام الإلهي العظيم الذي تبين أنه لا تنحل مشكلات البشرية إلا على أساسه إذا أردنا أن نعالجها في هذا العصر بالفكر السابق الفقهي الذي رآه فقهاؤنا الأولون مع مزيد احترامي وإجلالي، ورجائي أن يكونوا شفعائي عند الله.(3/74)
إذا أردنا أن نمشي في هذا الأسلوب فإننا لا يمكن أن نحل مشكلاتنا التي خلقت الزكاة بإرادة الله تعالى لحلها. مثلا أخونا حفظه الله الشيخ تقي يؤكد ويلح أنه لابد من التمليك الفردي وإن التمليك الجماعي غير مقبول ولا جائز، ويفسر التمليك الجماعي وهو أغرب ما سمعت في هذا، أنه يفسر كلمة التمليك الجماعي - وأين - في نطاق بحث الزكاة وتمليك الفقراء.
يفسر التمليك الجماعي بما يفيد أنه يفهم منه أنه التمليك للمسلمين جميعا فقراء وأغنياء ويضرب مثلا على نفي جواز التمليك الجماعي في طريق صرف الزكاة أن أموال بيت المال هي تمليك جماعي للمسلمين جميعا فأين هذا من أن نقول التمليك الجماعي في أموال الزكاة للفقراء الذين يرون أن التمليك الجماعي كثيرا ما يكون أصلح للفقير وأنفع لا يريدون أن يملكوا المسلمين جميعا أغنياء وفقراء كبيت المال الذي هو لمصالح الأمة وإنما يراد التمليك الجماعي للفقراء كبعض الأمثلة التي ضربها إخواننا الأساتذة الكرام مثل الشيخ القرضاوي وسواه فلذلك لا نستطيع أن ننفي جواز التمليك الجماعي بهذا المنطق أبدًا.
ثم أرى أنه في هذا المجال لا مناص لنا، إخواني الأساتذة الكرم، من أن نعالج قضايا الزكاة بشيء من حرية الفكر أو ما تريدون أن تسموه يعني بفكر اجتهادي حديث من أهله: ينظر في واقع حال المسلمين وظروف العصر وتطوراته العجيبة المذهلة والمشكلات التي نشأت في ظل هذه الحياة العصرية وما إلى ذلك مما تعلمون ولا حاجة للإفاضة في ذلك، أن نعالجها بفكر حر ينظر في الواقع وينظر في النصوص وقابلياتها. يعني مع احترامي لفقهائنا الأولين وللمذاهب ولكن ما عاشوا شيئا مما نعيش اليوم ولا صادفهم ما نصادفه من التيارات والمشكلات.
نحن اليوم نعيش ظرفا جديدا فلذلك إذا أردنا أن نتقيد بالآراء الفقهية التي مع احترامي لمن قالوا بها ولطرق استنباطها ولكننا إذا رجعنا إلى النصوص التي استقوا منها قد نجد مجالا بأفهام لم يذكروها هم ولعلهم لو كانوا عاشوا عصرنا لما فهموا سواها. يعني قضية " اللام " مثلا، قضية " اللام " والتمليك، إخواني الأساتذة الكرام يعني أنا لا أستطيع أن أفهم من " اللام " أننا نحن يجب أن نفهم القرآن الكريم والسنة النبوية كما يفهمها العربي الأصلي ابن اللسان، و " اللام " تكون للتمليك بالمعنى المعروف للتمليك وتكون للتخصيص.
وإذا أردنا أن نحصرها بأنه لابد من التمليك الفردي فقد عطلنا كثيرا من فوائض الزكاة ومن ما تحل من مشكلات وأين الدليل على التمليك الفردي من " اللام "؟ حتى أنني لا أرى فرقا بين " اللام " و " في ". النصوص عبرت بكليهما عن موضوع واحد وفي هدف واحد فدلت على أنهما مما يدلان على شيء واحد " فمثلا في القرآن العظيم جاء للفقراء بـ " اللام " في الحديث النبوي في صحيح الإمام البخاري جاء للنبي عليه الصلاة والسلام الأعرابي فقال له يا رسول الله: آراه أمرك أن تأخذ هذه الأموال من أغنيائنا فتمدها في فقرائنا قال: نعم أقره الرسول على هذا وقد عبر بـ " في "، وفي موضوع الفقراء أنفسهم القرآن عبر " اللام " والحديث النبوي أقر التعبير بـ " في " وكلمة " في " أي عربي من أولئك أبناء اللسان لما يقول أن ترد في فقراء الناس يفهم أن " في " يعني يجب أن نملكه فرديا ونسلمه بيده. التخصيص لو جمعت طائفة من أموال الزكاة وأنشئ بها مطعم للفقراء وأبناء الفقراء ينظم إطعامهم فيه بشكل أصولي يعتبر هذا وضعا بمال الزكاة في الفقراء؟ .(3/75)
لا أظن أن هذا يمكن أن يتردد به أحد إلا إذا تجرد اللهم من جميع الخلفيات المسبقة مذهبية أو آراء سابقة له يحرص عليها ويصعب عليه تغييرها أو تبديلها. هذا كله إذا أردنا أن نعالج مشكلات الزكاة ونستفيد منها لعصرنا هذا الذي نصادف فيه ما لم نكن نتوقع فإننا لا نستطيع بهذه التقيدات الحرفية لآراء الفقهاء السابقين رضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بهم وشفعهم فينا أن نتقيد لأن هناك مجالا لآراء أخرى والنصوص مزايا الشريعة الكريمة هذه النصوص التي فيها من القابليات ما لا ينتهي. فلذلك أرى أننا يجب أن نتجرد عند معالجة مشكلات الزكاة عن كثير من خلفياتنا لكي نستطيع الاستفادة منها. يعني يحضرني الآن مثال الإمام محمد بن الحسن الشيباني رضي الله تعالى عنه.
فى نفسي أمور أحب أن أبينها فإذا كنتم ترون الكلام طويلا فأنا أقصر ولكن أحب أن أتكلم كما تكلم غيري، على أني خاضع لكل إشارة يراد بها إنهاء الكلام الإمام محمد بن الحسن الشيباني رضي الله تعالى عنه كان في سفر وهذه مروية في سيرته كان في سفر ومعه تلاميذه، بعض منهم فتوفي أحدهم في الطريق فأمر الإمام محمد أن تجمع أمتعته وأشياؤه وإن تباع فجمعها وباعها وحفظ ثمنها له وأخذه معه إلى أهله فقالوا: به بقية تلاميذه كيف بعت أمواله ولم يوكلك ليس هناك منه وكل أجابهم بقوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} فنحن هذا المبدأ يجب أن نضعه. ماذا هو أصلح للفقراء أن كان تمليكا فرديا وإن كان تمليكا جماعيا، طبيعي هذا لا أقصده به أن يلغى التمليك الفردي أو لا يلغي ولكنه أساس.
لكن هل هذا يمنع من طرق يكون فيها الأمر أنفع للفقراء كفتح مدرسة تعلم أبناءهم الحرف، فتح مستشفى كما ذكر بعض الأساتذة تداوى به أبناؤهم أيضا أو هم أنفسهم، فهل هذه تعتبر منافية للتخصيص تخصيص الزكاة للفقراء. هذا لا أعتقد أنه ممكن أن يقال إذا تجردنا عن تلك الخلفيات التي نحن في حاجة إلى التجرد منها.
وأنا أرى أننا يجب أن نميز بين أمرين: الاستثمار، وأنا أكره التعبير بالتوظيف لأن التوظيف كلمة تحتمل عدة أوجه. الاستثمار الذي هو تنمية المال، الاستثمار لأموال الزكاة وصرف هذه الأموال وثمراتها، فأما الاستثمار فإني أرى أن كل طرق الاستثمار بمعنى أن يوضع في طريق ينمو به مال الزكاة فيصبح الواحد اثنين والاثنين ثلاثة مثلا هذا كل الطرق التي تؤدي إليه على شرط أن تكون تمارسها أيد أمينة وأساليب وتحفظات مأمونة. كل هذا جائز سواء أكان عن طريق تجارة أو عن طريق صناعة أو عن طريق أي شيء يمكن أن يستثمر وليس مال الزكاة بأشد حرمة من مال القاصر اليتيم ولا سيما اليتيم الفقير فإن الفقهاء متفقون على أن لوصي اليتيم أن يتاجر بأمواله ويستثمرها لتنميتها كي لا تأكلها النفقة ولا يبقى له فيها شيء.(3/76)
نعم هناك النظم بعد خيانات كثير من الأوصياء، قيدوا قيودا النظم والقوانين هذا شيء آخر نحن نقول: أن تكون بأيدي أمينة بالطرق التي يرتضيها المسلمون. فهذا طريق الاستثمار مفتوح لكل باب وفيه مصلحة لهم لأنه يضاعف حصيلة الزكاة لهم.
وأما الصرف فأنا أرى أن كل طريق يختص بالفقراء فهو مقبول سواء بالتمليك الفردي وهو أساس لأنه لا يمكن إلغاؤه لأن هناك حاجات فورية للفقراء، وأن يكون أيضا قسم منه يصرف على ما يعود عليهم بنفع دائم كالأمثلة التي ذكرها بعض الإخوان وإن نفتح لهم مدرسة لتعليم حرف تغنيهم وإن نفتح لهم مياتم لأبنائهم الأيتام، وإن نفتح لهم مطاعم. وكل هذا جائز في الصرف ولا ينافي تخصيص الزكاة للفقراء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ محمد سالم بن عبد الودود:
إن هناك فرقا بين إخراج الزكاة من طرف المالك وبين إيصالها إلى المستحق فالمالك مأمور بالإخراج على الفور لأن الله تعالى يقول {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وإذا كان المالك يصرف إلى الفقير مباشرة فالواجب الفورية في الإخراج والدفع، وإذا كان يصرف إلى الجابي أو إلى الإمام العدل فإنه تبرأ ذمته بمجرد إخراج الزكاة وعلى الجابي من ذلك ما تحمل.
وفى المذهب المالكي: يندب للمالك أن يصرف زكاته إلى الإمام العدل في صرفها. فإن كان الإمام غير عدل وأخذها جبرا من المالك برئت منها ذمته. وإن طاع بدفعها لجائر في صرفها لم تجز. أما عند الفقهاء المالكية فإنهم يتوسعون خصوصا المتأخرين منهم يتوسعون في مفهوم سبيل الله، ويجيزون توظيف الزكاة في بعض المرافق العمومية التي تعود بالخير على الفقراء أو حتى على المستضعفين وطلبة العلم في إنشاء المدارس وبناء المساجد إلى غير ذلك كما ذكره الشيخ الونشريسي في الجهاد وغيره من المفتين المتأخرين.
أما تعميم الظرف في الأصناف الثمانية فهذا لا يوجبه الإمام مالك ولكن المهم عنده إيثار المضطر والاجتهاد في التعميم. فإذا كانت الحاجة في الدفاع أشد في سنة الصرف صرفت إلى الغزاة وإذا كان انقطاع الرفاق في السبيل في سنة أكثر صرفت إلى أبناء السبيل وإذا كان الفقر مدقعا صرفت إلى الفقراء. وهكذا بحسب الحاجة والمصلحة وأخص إلى أنه لا ينبغي أن يحرم الفقراء من الصرف المباشر ولا ينبغي أن يسد باب اجتهاد الإمام العدل في توزيع الزكاة وفي توظيفها أو استثمارها فيما يعود بالخير الأنفع على المستحقين، وشكرًا.(3/77)
الشيخ وهبة الزحيلى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحقيقة أن سلفنا الصالح لم يكونوا أغبياء كما قد يثور في بعض الأذهان وإنما المشكلات الحديثة كانت تفرض وجودها على المجتمع الإسلامي في الماضي والفقهاء تصدوا لهذه المشكلات وتحدثوا عنها طويلا. فقضية إقامة المشافي والمدارس والمراكز الصحية وحماية المعوقين وغير ذلك.
كل هذا قد خصص الفقهاء لها جانبا كبيرا بأن ينفق عليه من سهم المصالح العامة وهناك بند خاص في بيت المال وموارد معروفة من الجزية والخراج والعشور وغير ذلك قالوا: مثل هذه الأمور سهم المصالح يغطي هذه القضايا جميعها. ولهذا فلم تكن تنشأ عندهم مثل هذه المشكلة إلا في وقت نضب فيه الإقدام على الخير في عصرنا الحاضر والتفريط في إخراج الزكاة وعدم القيام بهذه الفريضة التي لو أديت على الوجه الأكمل لما وجدنا فقيرًا في المجتمع الإسلامي كما تدل عليه الإحصائيات. هذا شيء.
الشىء الثاني فقهاؤنا أيضا فرضوا بالنسبة لتمليك الزكاة بين أغلب هؤلاء الأصناف وبين في سبيل الله وأيضا وفي الرقاب. الحقيقة المذاهب الأربعة على إيجاب التمليك، وأما ما يعرضه فضيلة أستاذنا الزرقاء فهو يجنح إلى أن يقيس هذا الأمر على قضية كفارة اليمين وهو ما قرره الحنفية في قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} أباح الحنفية ولم يشترطوا التمليك وقالوا: تجوز الإباحة. فإقامة المطاعم للفقراء يظهر أنه قاسها على هذا الأمر في قضية الكفارات ولكن لم أجد للفقهاء مثل هذا القياس وهذا اجتهاد هو الآن لأول مرة نسمعه ربما يكون محل نظر من قبلنا أما قضية الوقف التي تردد أنها ألغيت في بعض البلاد الإسلامية فالوقف الذي ألغي هو الوقف الأهلي أو الذري، أعني الوقف على الذرية في مصر وسوريا لما نشأ عنه من مشكلات كثيرة.
وأعتقد أن الأستاذ الزرقاء كان قد أفتى بجواز إيقاف هذا الجانب، أما الوقف الخيري فلم يلغ إطلاقا في مثل هذه البلاد لكن اشترطت هاتان الدولتان أن يسجل لم يلغ الوقف الخيري اشترطوا تسجيله إذا أراد الإنسان أن يقف وقفا خيريا اشترطوا التسجيل لكنهم لم يمنعوه ولم يستأصلوه، ألغوا الوقف الأهلي أو الذري.(3/78)
الحقيقة أنا مع قضية تمليك أو توظيف هذه الأمور التي تأتي من الزكاة من خلال فقط سهم سبيل الله، هذا من جانب فكلنا نفتي بأنه يجوز أن ندفع الزكاة لدور العلم وللمشافي والمؤسسات الصحية فهذا لا مانع منه إذا دفع جزء من الزكاة لهذه النواحي فلا مانع من أن تقوم الجهة التي تشرف عليها وتعمل بها ما هو فيه الخير، هذا جانب.
الجانب الآخر: أهملنا جانب التوكيل لماذا نهمل إرادة الفقراء من الممكن أن نأتي لكل أهل قرية أو أهل ناحية أو محلة ونقول لهم هناك مثلا عشرة آلاف دينار أردني مخصص لكم. أتوكلون واحدا منكم أو القاضي الشرعي أو المؤسسة الفلانية في أن تقيم لكم مصنعا أو متجرا أو مشغلا أو حرفة أو ما شاكل ذلك؟ فإذا قاموا بالتوكيل والإنابة والنيابة أيضا هناك نيابة شرعية للولى وللسلطان وللأب والجد كما أشار الأستاذ الزرقاء، وهناك نيابة اتفاقية، فإذن من الممكن أن تخرج عن كل هذه المشكلات من طريق....
أولا: احترمنا إرادة الفقراء ولمسنا مشاعرهم وتحسسنا آلامهم وأدركنا ما هي الحاجة الملحة أمامهم فهناك فقراء، فقر مدقع كما يموت الناس الآن في المجاعات هؤلاء لا بد من أن نغينهم فورا وهناك فقراء دخلهم لا يكفيهم وهم فقراء، يجوز إعطاء الزكاة لهم هؤلاء من الممكن أن يقوموا بتوكيل وبإنابة لبعض الجهات وحنيئذ نكون قد وفقنا بين هذه الاتجاهات التي عرضت في هذا الصباح المبارك. ونستطيع أن نصل إلى نتيجة وفي الحقيقة تكون قد وفقنا بين مختلف الآراء. وشكرًا.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
لما تفضل به الأخ الكريم الدكتور وهبه قال في معرض كلامه عن إلغاء الأوقاف الذرية أى الأهلية دون الخيرية قال: يظن أنني كنت موافقا على إلغاء هذه الأوقاف الواقع عكس ذلك فأنا كنت من أكبر مقاوميها عندما ألغيت، وكنت أيضا وأنا تلميذ سنة 1923 في المدرسة الشرعية في حلب وأنا تلميذ بعد كتبت رسالة لأن هذه النغمة خرجت من شخص أسمه رحيم من طرابلس في أيام الاحتلال الفرنسي ودعا فيها إلى إلغاء الأوقاف الذرية وأنا وضعت رسالة في الرد عليه وأنا دون العشرين من عمري سميتها " الشمس الجلية في الرد على من أفتى بإلغاء الأوقاف الذرية " وعندي منها بعض نسخ " والسلام عليكم " يعني آلت أموال الأوقاف لما حلت سنة 49 على أيدي حسني الزعيم صارت أملاكًا للنصاري واليهود واشتروها بأبخس الآثمان.(3/79)
الشيخ أحمد بن حمد الخليلى:
بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد فقد استفدت كثيرا من المداولات التي كانت بين أصحاب الفضيلة في هذه المسألة واذا كانت لي كلمة فأريد قبل كل شيء أن أقول بأن دلالة الآية الكريم {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} حسب نظري دلالة الآية الكريمة تقتضى التمليك وهناك فرق بين " لام " و " لام " فقد تكون " اللام " دالة على الاختصاص إذا كان مدخولها لا يصح أن يملك أو إذا كان ما ذكر قبلها لا يصح أن يملك والمال يجوز أن يملك ومدخول " اللام " فقراء وهم بشر عاقلون فعلى كل حال التمليك ظاهر من مدلول هذه الآية الكريمة حسب نظري. وأريد أن أقول بالتفرقة ين أمرين:
أولا: بين أن يكون الحاكم المسلم هو الذي يأخذ الزكاة بطرق العدل ومن الأغنياء يضعها في محلها، وبين أن يكون الأغنياء أنفسهم هم الذين يدفعونها. فالحاكم العدل هو وكيل المستحقين وهو مأمور بأن يتحرى المصلحة في ذلك، أن يتحرى مصلحة الفقراء والخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عندما فاضت الزكاة عن حاجة الفقراء عمل بها أعمالا برية متعددة، زوج منها العزاب، وبنى بها مساكن للذين لا يملكون مساكن، وأخيرا أعطى منها فقراء أهل الذمة.
أما إذا كان الأغنياء هم الذين يدفعونها مباشرة للفقراء فهذه حالة أخرى، لا يصح للأغنياء أن يتصرفوا فيها بدون إذن ملاكها وهم الفقراء ثم إن هناك ناحية أخرى يجب أن تراعى، هل هناك فائض من الزكاة عن حاجة الفقراء أو ليس هناك فائض؟ اليوم كثير من الناس شردوا من أوطانهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم، هناك اللاجئون الفلسطينيون، هناك اللاجئون الأفغانيون، هناك كثير من اللاجئين بسبب الفتن التي وقعت في بلاد الإسلام.
ثم هناك أيضا نفس الشئ مقاومة في سبيل الله مقاومة لليهود، مقاومة للروس في أفغانستان فالزكاة يجب أن تدفع إلى هؤلاء يستحقونها لأمرين: يستحوقنها لأجل فقرهم، ويستحقونها لأجل مقاومتهم للعدو الغاشم فما دامت الزكاة غير فائضة عن الحاجة الملحة في وقتنا هذا فلماذا نسخرها لحاجات متوقعة في المستقبل؟ الزكاة تختلف عن الفيء" الفيء حكم الله سبحانه وتعالى به للحاضرين وللذين يأتون من بعدهم كما هو واضح في سورة الحشر هذا حسب ما ظهر لى. وشكرًا.(3/80)
الشيخ أحمد محمد جمال:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين وصلى الله عليه وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان.
وبعد فإني لم أجد فيما أعلم على قلة علمي وفيما سمعت من حوار أصحاب الفضيلة العلماء لم أجد مانعا شرعيا قاطعا من اتخاذ وسيلة لتنظيم الزكاة أنا أسميه تنظيما، تنظيم الزكاة لم أجد مانعا شرعيا في القرآن والسنة يمنع من هذا التنظيم على طول الحوار بين أصحاب الفضيلة العلماء التنظيم مطلوب في أمر من أمور الدين والدنيا.
نحن نريد بهذا المشروع أن ننظم الزكاة أن نضمن استمرار ريعها للفقراء والمساكين وسواء أكان هذا الاستثمار لنصيبين أو لأربعة أو لثمانية من المصارف المعروفة القرآن الكريم يقول {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} إلخ. لم يحدد الكيفية ولم يمنع اتخاذ كيفية ما تضمن أداء هذه الأنصبة وهذه المصارف فلماذا نقف طويلا في موضوع التمليك؟ التنظيم للزكاة بطريق الاستثمار أو التوظيف أو أي أسلوب آخر يضمن الريع المستمر كما يضمن توفير المال للمصارف أو للأوجه. المصارف الآن تعددت الفقر ليس فقر الجوع والعطش أنما تعددت الآن صور الفقر، مرض، تعويق، لجوء، مهاجرة من البلاد كما رأينا في أفغانستان وفي فلسطين وفي لبنان وفي غيرها. إذن يجب أن لا نقف أن لا يقف المجمع أمام عقبة التمليك والخلاف على التمليك لا الخلاف على الأسلوب.
أنا أقول: إن هذا المشروع مجرد تنظيم لمصارف الزكاة والإسلام قرآن وسنة وفقه واختلاف واجتهاد لم أجد فيما أعلم وفيما سمعته الآن من حوار أصحاب الفضيلة مانعا شرعيا يمنع من التنظيم. فلنجد في وضع المشروع بحيث يكون شاملا عاما مع ضمان الأماني ممن يقوم بهذا المشروع وأرى أن ذلك ينبغي للمجمع وألا يطيل الجدال في خلافات فرعية لا تمس المشروع من قريب ولا من بعيد والسلام عليكم.
الشيخ أحمد يزيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله.. اللهم صل على سيدي رسول الله.
وبعد، الحقيقة يتبين من الآيتين، الآية {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} هذا أمر وهذا يجب أن يكون على الفور. ومن الآية الثانية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} إلخ الآية، هذا بيان. ثم كلمة " خذ " هذا أمر من الله للإمام العدل إذن هو وكيل عن الفقراء عليه أن يأخذ الأموال، وعليه أن يدفعها في أبوابها، وإن يعمل ما يراه صالحا لهم كوكيل عنهم وله أن يوكل من يراه من مؤسسات أو من أشخاص أمناء.(3/81)
ثم إني أود أن أبين حسب التجربة أن أموال الزكاة التي ننفقها بسرعة في بيت الزكاة الكويتي ينتفع منها الفقير انتفاعا آنيا. أما الأموال التي تعطى لنا من أموال أخرى مثل المنح أو التبرعات ونستثمرها في مشاريع يبقى نفعها دائما للفقراء ثم أود أن أبين أيضا هنا بأن أعداء الله المبشرين لهم في الحقيقة من المؤسسات التي تدر عليهم في طول سنين عديدة ما يمكنهم من أن يبشروا ضد الدين الإسلامي فما المانع في الحقيقة إذا رأى الإمام أو من يفوضه أو من يوكله لصالح المسلمين أن يستثمر أو يعمل على مشاريع المستشفيات والمدارس وما إلى ذلك؟ ومشاريع استثمارية لها ديمومة العمل والاستثمار وإن تدر على المسلمين.
أنا لا أرى لذلك مانعا حسب ما ظهر لى من الآية الكريمة وما سمعته من الفقهاء وأثني على رأي الأخ الذي تكلم قبلي الأخ أحمد جمال، وشكرًا.
الشيخ تيجاني صابون محمد
شكرًا فضيلة الرئيس ... في الحقيقة أول مرة آخذ الكلمة لأن الموضوع أهمني جدا حيث إن موضوع الزكاة بالذات موضوع هام ولابد من التداول في المناقشات.
في الحقيقة نحن عندما قلنا إنه قبل أن توظف الزكاة إلى مشاريع ذات ريع لا بد من أن يجد كل ذي حق كفايته أعني بذلك طبعا المصارف الثمانية وأرى أننا في الظروف الحالية بالذات أهم مصرف توجه فيه الزكاة في الظروف الحالية بالذات هو الفقراء قبل كل شيء، وأني أعتقد أن حالة الفقراء الآن في الدول الإسلامية لو وجهت إمكانيات الزكاة إلى هؤلاء الفقراء لما كفتهم.
ولذلك إني أميل إلى الرأى الذي يقول إنه لا بد من تخصيص جزء هام من هذه الأموال إلى الفقراء في الدول الإسلامية، ويمكن أن يخصص الجزء الثاني لمثل هذه المشاريع لأننا نعتقد أن هذه المشاريع أيضا تعود بالنفع إلى الفقراء لأن هناك الجهل والجوع والمرض كل ذلك موجود في الدول الإسلامية الفقيرة ولذلك فإني أرى أنه لا مانع من توظيف هذه الزكاة في مشاريع ذات ريع لأنها تعود للفقراء ويدخل أيضا في باب {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} إذا دخلنا من الباب الواسع إذا توسعنا الموضوع، وشكرًا.
الشيخ محمد عبده عمر:
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أما بعد، فإنني من خلال ما سمعت من مداولات ومناقشات فإنه لا ينقص السادة الفقهاء والعلماء الأجلاء، لا ينقصهم الاطلاع على النصوص من الكتاب والسنة ولا ينقصهم أيضا الاطلاع على النصوص الفقهية على اختلاف المذاهب. ولكن فليسمحوا لي إذا قلت بأن النصوص التي هم على اطلاع عليها بحاجة إلى تحليل دقيق وإلى تلمس الحكمة من تلك النصوص كما تفضل شيخنا الزرقاء حيث قال: إن فقهاءنا رحمة الله عليهم لم يكونوا أو لم يعاصروا المشاكل التي نعاصرها حاليا ولو كانوا في وقتنا هذا لتلمسوا من تلك النصوص والأحكام التي فيها مخارج وفيها سعة للأمة الإسلامية.(3/82)
الناحية الأولى: ناحية تلمس المصلحة أو الغاية أو ما يسميها بعض الفقهاء مقاصد الشريعة الإسلامية وأنا في اعتقادي أنه لا بد من تلمس الحكمة من النصوص وتلمس أيضا الغاية من مقاصد الشريعة الإسلامية. فمقاصد الشريعة الإسلامية كما لا تخفى على السادة الفضلاء أنها تهدف إلى إسعاد الإنسان في العاجلة والآجلة. فكما يقول الإمام ابن تيمية رحمة الله عليه بأن الشريعة الإسلامية إنما هي رحمة للإنسان في كل نواحي حياته. فإذن لا يكفي أن يكون عندنا إلمام بالنصوص من الكتاب والسنة، كما لا يكفي أن يكون عندنا أيضا إلمام بنصوص المذاهب الفقهية ما لم يكن عندنا أيضا تحليل دقيق لتلك النصوص على ضوء ما يعتمل في واقعنا الإسلامي وأيضا تلمس مقاصد وأهداف الشريعة الإسلامية، هذه ناحية.
الناحية الثانية: أنا أثني شخصيا على رأي الشيخ عبد العزيز الخياط وعلى رأي الدكتور عبد السلام العبادي وعلى ما تفضل به السادة أو بعض أعضاء المجمع من أن الزكاة لابد أن تستغل وأن تستثمر لصالح الأمة الإسلامية خاصة في الوقت الذي نحن فيه والذي يحاول أعداء الإسلام أن يشوهوا الإسلام وأنه لا توجد فيه عدالة ولا توجد فيه حلول ناجحة للفقراء والمساكين. ولهذا فإن استثمار جزء من الزكاة استثمارا صحيحا على ضوء الشريعة الإسلامية أنا أعتقد أن هذا من أهم ما ينجزه المجمع في هذه الدورة، وشكرًا.
الشيح روحان إمباي:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهله وصحبه أجمعين.
أعتقد أن أسلوب العمل أو أسلوب النقاش ممكن أن نعيد النظر إليه لأن المناقشات التي تدور حول هذه المسألة بالذات دامت حوالي ثلاث ساعات وعلى أساس أننا كنا قد طلبنا من بعض الإخوان أن يعدوا بحوثا، وهذه البحوث وزعت علينا واطلعنا عليها وعرضت علينا باختصار من طرف دكتور فرفور، أظن أنه كان علينا أن نفرع ما جاء من المسائل أما أن تكون ننظر إلى هذه البحوث على هذه الزاوية. أما أن تعالج هذه البحوث كل المسائل كل جوانب المسألة وعليه فإما أن يكون هناك مسائل خلاف أم لا.(3/83)
فإذا كان هناك مسائل خلاف وكان هذا بالإمكان أظن أن المناقشات التي تدور حول هذه البحوث ينبغي أن نفرعها ونأخذ رأي الجماعة في كل مسألة بالذات فنكون نتدرج في المناقشات فنتوصل إلى حل في أقرب وقت ممكن وعدم اعتمادنا هذه البحوث حملنا على أن يقوم كل واحد منا بما يعرفه بدون اعتماد هذه البحوث بالذات. فأتساءل هل هذه البحوث التي قدمت لها أهمية كبرى أم لا؟ كأن المسألة قد أثيرت أمامنا صباح اليوم وحاول كل واحد منا أن يبدي فكرته حول المسألة بالذات.
الجانب الثاني من تدخلي يتصل بموضوع الزكاة بالذات لا أرى أننا مطالبون بالوصول إلى حل حاسم في هذا الصدد أعتقد أن الحل الوسط هو الأفضل بالنسبة لنا لا أن نهمل التوظيف ولكن ليس علينا أن نوظف كل أموال الزكاة. وعليه فإن الفكرة التي سمعتها من طرف السيد خليل أم من طرف السيد الزحيلي أظن أن هذه الفكرة ممكن أن نتوخاها وهي فكرة توظيف الزكاة في الأبواب الأربعة الأخيرة المبدوءة بـ " في " وترك الأبواب الأربعة الأولى التي بدأت بـ " لام " التمليك سواء أكانت اللام لام تمليك أم لام تخصيص. فهذا الحل الذي أراه أكثر مناسبة بالنسبة لنا لأن هذه النصوص أو هذه الأبواب الثمانية التي توجد في القرآن أعتقد أنها لا تترك لنا جانبا من الاجتهاد لأنها نص وعليه فحالة الفقر التي نعيشها في هذه العصور ربما تكون نسبيا نفس الشيء مما عيش في القرون الماضية. إذن أنا أميل إلى ألا نعتقد أننا مطالبون بالوصول إلى حل يوظف كل أموال الزكاة، وشكرًا.
الشيخ عبد العزيز عيسى:
أريد فيما يتعلق بتوظيف الأموال أو بعض الأموال لمصلحة الفقراء ألا يصدر القرار حتى يدرس تطبيقه في جميع البلاد، يعني طريقة التطبيق ألا نفوت على أحد مصلحة. وهذا يقتضي أولا أن تكون هناك مؤسسة كما جاء على ألسنة، بعض الإخوان تقوم بهذا العمل أو لابد أن تقوم به الدولة. إن كانت هناك مؤسسة فنخشى أن يكثر أفرادها وأن يدفع كثير من هذا المال لأننا توسعنا. جاء في أثناء الأحاديث ممكن أن نتوسع في كلمة {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} بحيث يشمل هؤلاء الأشخاص هذا لابد أن يضبط بضوابط حتى لا يضيع المال في هذا لابد أيضا من حصر المستحقين لهذه الزكوات. من الذي سنعطيه في ذلك العصر أو في هذا العام أو في العام القادم؟ هل يكون حصرا متجددا أو حصرا غير متجدد؟ وإذا اغتنى أحدهم عن أن يكون مستحقا بطل وصف الاستحقاق فيه. هل هو الذي سيبلغ عن نفسه أو ستكون هناك دراسة دائمة لنعرف بها المستحق من غير المستحق حتى لا يأكل حق غيره؟ المسائل عند التطبيق تكون عسيرة ولابد من وضع ضوابط وقيود لهذا.(3/84)
أنا أخشى أن يؤدي هذا الأمر إلى جنوح الفقراء للبطالة لأنه هو ما دام اطمأن إلى أنه سيرد له مرتب عشرة جنيه عشرين لا يسعى إلى أن يكون معطيا، يسعى دائما إلى أن يكون آخذا فهو مطمئن إلى أن اسمه مكتوب في كشف المستحقين لا بد من الاحتياط لمثل هذا أيضا.
فيما نعلم أنه يجوز لي أن أعطي الزكاة لبعض أقربائي أنا أخشى أن يكون بعض الأقرباء يستحقون أن يقيدوا أنفسهم كما أستحي أنا أن أبلغ عن أقربائي هؤلاء وفي هؤلاء المستحقين من يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف فما هي الضوابط التي سنضعها وليس غرضنا أننا نقول: أصدر المجمع قراره بأن توظف أموال الزكاة لمصلحة الفقراء، لا، لابد أن يكون هذا أمرا دائما نفاذا، وهناك شك من الذي سيدفع الزكاة؟ الأغنياء، الأغنياء هؤلاء يمكن الشارع فرض على الأغنياء وجعلها عبادة لتكون صلة دائمة بين الأغنياء والفقراء ويشعر بأن الغني عطوف عليه، لن يشعر الفقير بالعطف أبدا مني وهو يأخذ مرتبه من المؤسسة أو من التوظيف الذي عمل للمال، كل هذه محاذير. ونحن من حقنا أن ننبه الناس ونلاحظ الضوابط التي يمكن بها إذا صدر هذا المشروع أن يبلغ إلى المسلمين في دولهم وأن يقوم المسلمون على تنفيذه التنفيذ الدقيق الصحيح، وأشكركم.
الشيخ أحمد أزهر بشير:
بسم الله الرحمن الرحيم
تأييدا للرأي في جواز توظيف الزكاة في مشاريع استثمارية أذكر النقاط التالية:
أولا: ذكر القرآن مستحقي الزكاة بدون تعيين طريقة خاصة لإيصالهم أو لإيصالها إليهم، إذن فطريقة إيصالها إلى المستحقين مجال للاجتهاد.
ثانيا: ذكر القرآن الفقراء والمساكين كمجموعات لا كأفراد من بين المستحقين، فالغرض من مشروعية الزكاة حل مشكلات الفقر الذي عانى منه الفقراء والمساكين إذا اكتفينا بما يهمنا اليوم.
ثالثا: فالأمر الأساسي هو كيف أصبحت الزكاة طريقة فعالة لعلاج تلك المشكلة حتى تستطيع أن تستوفي حاجات المستحقين المتنوعة من الأغذية والصحة والمسكن والعلم وهكذا.
رابعا: وعلى هذا ففي رأيى ليس هناك أي مانع شرعي لتوظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع يقصد بها استثمار أموال الزكاة لصالح مستحقيها، وذلك من باب المصلحة المرسلة.
وخامسا: ذكر القرآن العاملين على الزكاة من بين المستحقين إشارة إلى إمكان الاجتهاد كيف تصرف الزكاة إلى مستحقيها حسب رأي ولي الأمر، ففي هذا تسري قاعدة. تصرف الإمام منوط بمصلحة الرعية. والله أعلم.(3/85)
الشيخ عبد الله بن بيه:
فيما يتعلق بكون " اللام " للملكية أو للاختصاص أقول فقط إنه تتبعا للقرآن الكريم إذا كانت اللام من الاختصاص فإنها غالبا إلى الله كما في قوله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} للاختصاص أما إذا كانت للملك فإن اللام تضاف إلى المستحق شرعا كما في قوله سبحانه وتعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} هذا العنصر الأول.
العنصر الثاني: أن شخصا مكلفا بدفع صدقة ماله لفقرائه واختلف العلماء في أن الفقير شريك في المال أو ليس شريكا في المال، وينبني على هذا الخلاف بعض المسائل والجزئيات التي تعلمونها. المهم أن المكلف لا يبرأ إلا بأحد أمرين: بدفع المال للفقير أو بدفع المال للإمام، لا نجد واسطة أخرى، لو دفعها إلى موكل والصندوق كموكل لو دفعها لشخص آخر فانه لا يبرأ ما دامت الزكاة لم تصل إلى يد الفقير.
هذا المسلك أعتقد أنه في غاية الأهمية وهذا الفرق علينا أن ننتبه له. فيما يخص المال أو البند المتعلق بالفقراء والمساكين. فيما يخص البند المتعلق {سَبِيلِ اللَّهِ} فيه كلام طويل في الحقيقة والعلماء اضطروا فيه في بداية الأمر، فبعضهم قال: إنهم الغزاة وبعضهم قال: السلاح والكري ومنهم مالك رحمه الله تعالى، وبعضهم كالقفال قال: أوجه البر موجهة في سبيل الله، وتبعه بعض المتأخرين وخصوصا رشيد رضا فقال: إن {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} تشمل كثيرا من المسائل، والعلامة الألوسي أيضا يجنح، أو ذكر هذه الأقوال. فهذا البند يمكن أن يخصص جزءا معينا لإقامة بعض المؤسسات الآمنة. هناك فقط اجتهاد أو استحسان، وهو أن هذا الصندوق الذي ينوب عن صاحب المال لأن الفقير لم يوكله، وما دام المال لم يصل إلى يد الفقير فإن صاحب المال لا يضع يمكن كما قال الشيخ القرضاوي في فترة قصيرة وهو يحصي المحتاجين ويحاول أن يستكشف المستحقين أن يتصرف في هذا المال لفائدة الفقراء حتى يوصله إلى أيديهم. والسلام.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فبعد أن استمعتم في وقت يزيد عن ثلاث ساعات من العرض والمناقشات التي أرجو من الله سبحانه وتعالى أن تكون نافعة وأن يصل المجتمعون إلى رأي يكون موافقا للوجه الشرعي الصحيح، فإنه تحصل أمامي من خلال المداولات أربعة آراء.(3/86)
الرأي الأول: الجواز، وهذا الجواز اختلف المجيزون بقيود فيما بينهم لا ندخل في تفاصيلها لوجهة نظر سأبديها إن شاء الله تعالى في أخر التلخيص، وبنوا هذا على أمور مصلحية معاصرة كما سمعتم.
والرأي الثاني: هو الجواز للفائض عن سهم الفقراء والمساكين.
والرأي الثالث: هو الجواز من سهم في سبيل الله.
والرأي الرابع: هو المنع بناء على الأصل ولأن مصارف الزكاة أتت بطريق الحصر وهذا من أبلغ صيغ الحصر وليس هناك مصرف تاسع من مصارف الزكاة، وأن " اللام " للتمليك وأن الزكاة أداؤها على الفور، وأنه لا ينبغي الإضرار بالفقراء الحاضرين على حساب فقراء مستقبلين لأن توظيف الزكاة يؤدي إلى حرمان الفقراء المشاهدين للأموال ولأن هناك بعض الملابسات العصرية من واقع العالم الإسلامي ولغير ذلك من الوجوه التي تسمعونها وقد تستنجونها.
ورأي المنع هو الذي أتجه إليه وأدين الله به لأن هذه شعيرة من شعائر الإسلام وركن من أركان الإسلام فإنه لا ينبغي أن يدخل الدخل على هذه الشريعة الإسلامية العظيمة.
ولهذا نظرا لتعدد الآراء فقد أجريت مشاورة مع معالي الأمين ومعالي الشيخ عبد العزيز وسعادة المقرر فاتفقنا على أن كل واحد من أصحاب الفضيلة الأعضاء العاملين يقدم رأيه فقط مختصرا بما لا يزيد عن سطر أو سطرين يقدم رأيه ويسلمه مشكورا للمقرر، ومنه هنا نستخلص ما اتجهت إليه الأكثرية وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وترفع الجلسة للاستراحة وأداء الصلاة ثم نعود إن شاء الله تعالى لموضوع طفل الأنابيب وأجهزة الإنعاش والسلام عليكم.(3/87)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العاملين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (3) د (3/07/86
بشأن: توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك
فردي للمستحق
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407/ 11 إلى 16 أكتوبر 1986م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع " توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق " وبعد استماعه لآراء الأعضاء والخبراء فيه.
قرر:
يجوز من حيث المبدأ توظيف أموال الزكاة في مشاريع استثمارية تنتهي بتمليك أصحاب الاستحقاق للزكاة، أو تكون تابعة للجهة الشرعية المسؤولة عن جمع الزكاة وتوزيعها على أن تكون بعد تلبية الحاجة الماسة الفورية للمستحقين وتوافر الضمانات الكافية للبعد عن الخسائر.
والله أعلم(3/88)
طرق الإنجاب
في الطب الحديث وحكمها الشرعي
لفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
بسم الله الرحمن الرحيم
طرق الإنجاب في الطب الحديث وحكمها الشرعي
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
أما بعد، فمن نوازل العصر وقضاياه المستجدة في أعقاب تطور الطب الحديث – أمور جدت في علمي الأجنة والوراثة. ومنها ما يتعلق بالإنجاب سلبا أو ايجابا نحو:
1- الإجهاض.
2- منع الحمل.
3- تحديد النسل.
4- الولادة مع العقم وفيه:
جدت طرق الإنجاب التي يجمعها حمل المرأة من غير طريق الوقاع بما اكتسب اللقب:
(أ) طفل الأنابيب.
(ب) التلقيح الصناعي. والأول واحد من أساليبه بل تطور " التلاعب العضوى " بالخلايا الإنسانية إلى طموحات أخرى تشتعل فى: الحيوان والنبات. وبدأت تطبيقها على الإنسان في عدة مظاهر (1)
(أ) بحث التحكم في جنس الجنين: ذكر أم أنثى؟
(ب) إشباع الرغبة بجهاز إلكتروني.
(ج) تكاثر الخلايا الجسدية بتحويلها إلى خلال جنينية.
(د) وجود إنسان مجتر بخلط خلاياه مع خلايا بهيمية.
ومحل البحث هنا هو " طرق " الإنجاب في الطب الحديث " وقد تكاثرت فيه الدراسات وعقدت له الندوات والمؤتمرات وبهر العالم وجود هذا النوع الجديد في الجنس البشري من حيث تغير طريق الحمل بغير طريق التواصل أو الالتقاء العضوى بين الزوجين، فثارت حوله أقاويل، وقامت أمامه شكوك وشبهات وصار الناس منه في أمر مريج قبولا وردا.
__________
(1) مستخلص من بحث الأستاذ أحمد شرف الدين فى: كتاب الإنجاب: 136 – 142.(3/89)
ففي الوقت الذي أبته مجموعة من الغرب، وعللوه بغيرتهم على الجنس البشري والحفاظ عليه وسلامته من مواليد يلحق بهم علامات استفهام في شرعية سبب الحمل؟
تقبل آخرون لهذا ورأوا أنه سبيل لإغاثة العقيم البائس من نعمة الأولاد.
وبعد أن دبت إلى المسلمين في ديار الغرب أو في ديارهم نازلهم علماء الشريعة بدارسة هذه النازلة وتنزيل الحكم التكليفي الشرعي عليها كل بما وصل إليه علمه ومارسه دارسة وبحثا فألفت في ذلك وسائل وأعدت بحوث ودراسات وصدرت فتاوى وقرارات مجمعية.
ونهض فريق من الأطباء المسلمين فأعطوا التصور الكامل عن هذه الواقعة والطبيعة الطبية لها من حين الشروع فيها وحتى المرحلة الأخيرة بشتى أساليبها وصورها بل منهم من جمع النظرة الشرعية الفقهية لدى العلماء ولجميع أولاء الأجلة: فضل السبق لفتق الرتق في هذه النازلة، وتجسيدها واقعا وشرعا لكن لما كانت هذه الأبحاث متناثرة والآراء فيها متباينة أضحى من الضرورة بمكان تصنيف القول فيها واقعا وحكما بتصوير الواقعة وأساليبها لما هو معلوم من مبادئ العلم الأولية " الحكم فرع التصور وهذا بحكم المفروغ منه.
وتكييفها فقها بترتيب النتيجة على البحث لا لنصرة رأى بعينه. ولهذا تصنيف البحث فيها على ما يلى:
المبحث الأول: في بيان ما كتب في هذه النازلة.
المبحث الثاني: قواعد شرعية أمام البحث.
المبحث الثالث: المصطلحات الطبية في هذه النازلة.
المبحث الرابع: تاريخها.
المبحث الخامس: ولائدها.
المبحث السادس: صورها.
المبحث السابع: حكمها شرعا.(3/90)
المبحث الأول:
بيان ما كتب في هذه النازلة تبعا أو استقلالا.
حصل بالتتبع ما يلى:
أولا: الفتاوى:
1- فتاوى شيخ الأزهر محمود شلتوت ص 326 – 329.
2- فتاوى حسنين مخلوف.
3- من حقيبة المفتي، لأحمد العسكري ص 211.
4- نماذج من الفتوى لعطية خميس 1/201.
5- فتاوى المنار.
6- فتاوى معاصرة، ليوسف القرضاوي ص / 490 – 495.
7- قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة وهي: القرار الرابع عام 1402 والقرار الخامس عام 1404 هـ والقرار الثاني عام 1405 هـ
8- فتوى شيخ الأزهر جاد الحق عام 1400 هـ باسم: التلقيح الصناعي في الإنسان " 9/3213 – 3228 رقم الفتوى / 1225 من كتاب " الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية ".
ثانيا: البحوث المستقلة أو في كتاب:
9 - الجنين في الإسلام، محمد سلام مدكور. ص /129 وما بعدها.
10 - الإسلام عقيدة وشريعة لمحمود شلتوت ص / 204، 208.
11 - البيان في تصحيح الإيمان لمحمد فؤاد عبد الباقي ص / 129.
12 - الحلال والحرام، ليوسف القرضاوي ص 162 – 163.
ثالثا: بحوث المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت، عام 1403 هـ، فيها مجموع في كتاب مع أبحاث أخرى باسم: " الإنجاب في ضوء الإسلام "
وفيها ما يلى مع ما لحقها من مناقشات:
13 - أطفال الأنابيب – الرحم الظئر. الطبيب: حسان حتحوت ص 188 - 236.
14 - الإنجاب في ضوء الإسلام للشيخ إبراهيم القطان ص / 365 – 374.
15 - أطفال بالكتالوج ... ص / 470 – 476.(3/91)
16 - أطفال الأنابيب مشكلة أخلاقيات – أمهات بالوكالة ... " ص /467 – 469.
17 - طفل الأنابيب للشيخ مصطفى الزرقاء ص / 477 - 482.
18 - آراء في التلقيح الصناعي. للشيخ بدر المتولى ص 483 – 487.
19 - آراء في التلقيح الصناعي. للشيخ على الطنطاوي ص /488 - 490.
20 - حكم الاستنجاب في الشريعة الإسلامية والقانون. لأحمد شرف الدين ص / 391 - 406 من مجموعة أبحاث المؤتمر العالمي الثالث عن الطب الإسلامي.
وهذا البحث دقيق وبالغ الأهمية.
رابعا: بحوث مجمع الفقه الإسلامي بجدة. وفيه:
21 - أطفال الأنابيب. للشيخ عبد الله البسام.
22 - التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب للطبيب: محمد علي البار.
23 - "أطفال الأنابيب" للشيخ رجب التميمي.
خامسا: المؤلفات المفردة:
24 – الحكم الإقناعي في إبطال التلقيح الصناعي، وما يسمى بشتل الجنين، للشيخ عبد الله بن زيد آل محمود.
هذا ما أمكن الوقوف عليه حين كتابة هذا الحبث وثمة أبحاث متناثرة في كتب: الإجهاض وتحديد النسل، وعلاج العقم، وكتب الطب المعاصرة.
والله الموفق.
المبحث الثاني:
قواعد شرعية أمام البحث:
التمهيد بين يدي البيان للحكم التكليفي والحكم الوضعي لهذه النازلة يعطي توطينا للنفس بالوقوف على الحكم الشرعي بأمان من إبعاد النجعة في الرأي.
ولهذا فهذه قواعد شرعية ومواصفات علمية تنير السبيل في هذا البحث المهم الخطير.(3/92)
القاعدة الأولى:
تواضع علم الناس وعملهم على أن عملية الإنجاب في سيرها الفطري والشرعي تبدأ من التقاء عضوي التناسل بين الزوجين فيعلق حيوان الزوج المنوي ببيضة زوجته أمشاجا في رحمها في ذلكم القرار المكين، لتنمو خلال عدة مراحل حيث تتكاثر الخلايا وينفخ فيها الروح حتى تنتهي عملية الحمل بولادة المولود (1) بإذن الله تعالى:
قال تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} .
وقال تعالى {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}
وقال تعالى {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} .
وقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق فقال:
((أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح)) متفق عليه.
القاعدة الثانية:
لكل مولود بأبيه صلة: تكوين ووراثة وأصل ذلك " الحيوان المنوي " فيه. وله بأمه صلتان:
الأول: صفة تكوين ووراثة، وأصلها " البيضة " منها.
الثانية: صلة حمل وولادة وحضانة وأصلها " الرحم " منها.
فهذا هو المولود المتصل بأبويه شرعا وطبعا وعلى هذه الوصلة تترتب جميع الأحكام الشرعية التي رتبها الله تعالى على ذلك.
فإذا كان " الحيوان المنوي " من رجل غريب متبرع لزوجة رجل ما فهذا أصبح مقطوع الصلة عقلا وواقعا وطبعا وشرعًا.
فالولد للفرش وللعاهر الحجر.
__________
(1) الطب الإسلامي. مقال أحمد شرف الدين: 391(3/93)
وإذا كانت البييضة " من امرأة غريبة متبرعة لزوجة رجل آخر لقحت فيها، فحينئذ انفصمت إحدى الصلتين قطعا وهي " البييضة " من الزوجة ذاتها وهذا معلوم الانقطاع عقلا وواقعا. وطبعا وشرعا.
وإذا كان مجموع الخلية الإنسانية " الحيوان المنوي " من الزوج و " البيضة " من الزوجة، لكن زرعا أو لقحا في رحم امرأة أجنبية متبرعة فالصلة الثانية للأم وهي " الحمل والولادة " منفصمة قطعا: عقلا وواقعا وشرعا.
وعليه:
فإذا انقطعت الصلتان من الزوجة فهى ليست أما بأي حال من الأحوال. ولا قائل بالأمومة من المسلمين ولا من سائر البشر أجمعين.
وإذا تحققت الصلتان كانت أما طبعا وواقعا وشرعا.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}
وبإجماع المسلمين الضروري من الدين أن القرار المكين رحم الأم الشرعية لا غير.
قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}
فالنطقة المحترمة من جميع الوجوه هي التي من الزوجين وهي محل الامتنان من الله على عباده.
ولهذا قال سبحانه ممتنا على مريم عليها السلام: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}
وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}
وقال تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ}
وقال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ}
وقال تعالى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}
وقال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ}
وقال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا}
فالأم في هذه الآيات هي الأم الشرعية والأب المذكور في آيات كريمة وكثيرة من التنزيل هو: الأب الشرعي.(3/94)
فالأبوة والأمومة الشرعية هي مجموع الهيئة الحاصلة لمولود وقع لقاحه وتكوينه بماء أبويه على فراش الزوجية فحملته به أمه في بطنها مستقرا في رحمها قراره المكين، فهذا هو المولود الذي يكتسب الأبوة والأمومة الشرعية ومتى اختلت واحدة من هذه الصلات الثلاث فالحال كما علمت قبل في صدر هذه القاعدة مفصلا.
والله أعلم.
القاعدة الثالثة:
التدافع بين المضار والمنافع، فحيث وقع التغلب فالحكم للغالب منهما حلا وحرمة، وحيث استويا صار مجال نظر الفقية.
وعليه: فصور من التلقيح الصناعي تخضع لهذه القاعدة فيخرج عليها بالمقابلة بين سوالبه ومنافعه.
وهذا ما ستراه بإذن الله تعالى في بعض صوره التي يمكن تخريجها على هذه القاعدة (1) .
القاعدة الرابعة:
تفيد النصوص أن جسد الإنسان ومنافعه مملوكة له لكن ليس له حق التصرف في هذا الملك إلا في حدود الشرع فتصرفه منوط بالمصلحة شرعا.
فكما أن نعمة النظر مملوكة له فليس له مد نظره إلى ما يحرم النظر إليه.
وكما أن الشهوة مركبة فيه وشرع له إطفاؤها بماء الزوجية حرم عليه إطفاؤها بماء الزنا واللواطة.
وكما ملكه الشرع أن يطأ لطلب الإنجاب من ماء الزوجية حرم عليه الإنجاب من غير ماء الزوجية ووعاء الحمل، فتدبر والله أعلم.
القاعدة الخامسة:
أن مواطن الحاجات والضرورات لا يفتى بها فتوى عامة وإنما إذا ابتلي المكلف استعلم أظنها ممن تسوغ فتياه لدينه وعلمه.
القاعدة السادسة:
المتعين إخضاع الواقع لشريعة الله وعليه فلا يجوز العكس إجماعا.
__________
(1) الطب الاسلامي: 3/ 398(3/95)
القاعدة السابعة:
حفظ النسب والعرض من مقاصد الشرع الأساسية وهما من الضروريات الخمس التي دارت عليها أحكام الشرع.
فهذه الخلية الإنسانية من حيث دفقها بل وقبل ذلك وفي جميع مراحل تكريمها ونموها إلى استهلالها يجب أن تكون بيضاء نقية خالية من أى شيء يخدشها أو شكوك تحيط بها أو مخاطر تحف بها فهى بالغة الحساسية في التأثر بما يخل بكرامتها وقيمتها الإنسانية ذات محل للعقل وتحمل للحنيفية السمحة.
ولهذا صار من قواطع الأحكام في الإسلام: تحريم الزنا والقذف وسد جميع الأبواب الموصلة إليهما.
فكم من إشارة ستكون حول هذا المواليد الصناعية وكم من تساؤل واستفهام؟
وقد هيأ الزوجات مجالا واسعا للخدش بالقذف والتجريح؟
فماذا سيكون وضع أمة مشكوك في أصل بنيتها وتكوينها؟
إن الشرع المطهر يوصد كل باب يوصل إلى ما هو أقل من هذا مما هو معلوم لكل من خبر الشريعة في مصادرها ومواردها. والله أعلم.
إن هذه القاعدة سد منيع للتلاعب بالخلية الإنسانية والبنية الآدمية.
فلنقل: ما هو حجم الاضطرابات والشكوك، وعوامل التجريح والخدش التي ستحدثها هذه النازلة في الآدميين. وما هي آثارها على النظام الاجتماعي وترابطه مكرما بأسباب هندسة الطب للبشر وجعله ساحة للتجارب كالأمصال للبقر؟
وما مدى صدمات المستقبل التي سيواجهها الإنسان؟
وما مدى اضطراباته العارمة الهادمة لبنيته؟
وما مدى سحق الطفل الأنبوبي والمولود الصناعي للمولود الطبيعي؟
وبالتالى ما مدى سحق هذا للأخلاق والفضائل والكرامة والتكريم من الرب الرحيم بعباده بمسار هذا الآدمي في جوهر نظيف يحمد الشرع الحنيف.
قال الله تعالى {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}
وعليه:
فإن كل ما يفضي أو يغالب حفظ الإنسان والأعراض محرم شرعا.
القاعدة الثامنة:
واجب حملة الشرع من أهل العلم تمحيص مكتسبات العلم الحديث على ضوء التنزيل منعا للمسلمين من التلبس بشطحات وهفوات العلم الحديث (1) .
وواجب أهل الإسلام عدم الإقدام إلا بعد الفتيا من علماء الشريعة المستضيئين بنورها.
والتولي عن هذين الواجبين سقوط في الحظر. قال الله تعالى {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} .
__________
(1) الإنجاب: 141 – 142(3/96)
المبحث الثالث:
فى تفسير مصطلحات طبية ونحوها يذكرها الباحثون في هذه النازلة.
الأمشاج:
هى الأخلاط قال الله تعالى {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} .
فيتكون من الماءين نطفة الأمشاج هذه " الزيجوت " المتكونة من التحام نواة البييضة من الأنثى بنواة الحيوان المنوي من الرجل فيتحدان وعندئذ يحصل التلاقي والتلاقح وتنتقل إلى ما حدده الله بقوله {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} .
وإذا ما تم هذا التلاقح بينهما بدأت هذه البييضة الملقحة تنقسم انقساماتها المعروفة المتتالية الخلية الأمشاج " الزيجوت " المكونة من التحام نواة البييضة بنواة الحيوان المنوي: تنقسم فتصبح الخلية خليتين.. والخليتان أربعا ... والأربع ثماني.
ثم تدخل فيما يعرف باسم مرحلة (التوتة) وذلك في اليوم الرابع منذ التلقيح، لأنها تشبه ثمرة التوتة المعروفة. ثم تتحول هذه التوتة إلى ما يعرف باسم " الكرة الجرثومية " في الرحم.
وفى هذه الأمشاج يقول الطبيب / حسان حتحوت كما في كتاب الإنجاب: 217:
الحيوان المنوي والبويضة كزراعي المقص كل منهما لا يقص فإذا اشتبكا كان المقص وكان مكونا منهما معا.... فإذا التحما كانت خلية واحدة هي بداية الحياة الإنسانية أول دور في تكوين الإنسان. وتنقسم بعد هذا إلى 2 – 4 – 8 – 16 – 32 – 64 – 128 وهكذا وتبتدئ بالتدرج تكوين خلايا منها كبيرة قليلا وصغيرة ومتوسطة وعلى مدى شهرين يتكون إنسان صغير ثم يأخذ في النمو ... " انتهى باختصار.
الاستدخال: (1) (1) مصطلح فقهى قديم يعني: حقن ماء الرجل في قبل المرأة وقد رتبوا عليه أبحاثا في حكمه، وحكم طلاق من استدخلت مني زوجها.
الأم المستعارة: وهي التي نقل إلى رحمها البييضة اللقيحة وتسمى أيضا " مؤجرة البطن ".
البييضة:
وهى المعبر عنها لدى الأطباء بلفظ " البويضة " وتصغير بيضة في اللغة: بييضة (2) وهي هنا: مني الزوجة أو يقال: خلية الأنثى ".
__________
(1) شرح المنهاج: 3/243، 3/291، 3/245، 3/347، 2/248. والطب الإسلامي: 3/393، 397. والبار: /16.
(2) الإنجاب: 488.(3/97)
الحاضنة:
والشيخ ابن محمود في رسالته " الحكم الإقناعي " ص / 13 يرفض هذه التسمية ويقول:
(إن هذا من باب الحقائق فإنه لا حضانة إلا للطفل الصغير متى خرج إلى الوجود حيا وما دام في بطن أمه فإنه يسمى حملا، وأمه حاملا. لا يقال حاضنة) .
وهذا تفريع منه على أن الولد لصاحبة الرحم التي ولدته لا لصاحبة البييضة وأن حكمه حكم ولد الزنا " الولد للفراش " والله أعلم.
وتسمى أيضا: " الأم المستعارة ":
الحوين:
هو ماء الرجل، أى " الحيوان المنوي. (1) .
وخلية المرأة " البييضة " قال الله تعالى {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (2)
فإذا التقيا واختلطا سيما بالأمشاج. ويقولون: الحيوان المنوي والبييضة كذراعي المقص كل منهما لا يقص فإذا اشتبكا كان المقص، وكان مكونا منهما معا، وحينئذ تكون الأمشاج.
الرحم:
هو القرار المكين المذكور في قوله تعالى {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} وهو " الحوض الحقيقي " الذي تلتقي فيه الخليتان من ماء الزوجين وحينئذ تعلق في جدار الرحم وتصبح علقة عالقة.
تم تنمو بعد ذلك نموا طبيعيا إلى مضغة، ومن مضغة إلى عظام يكسوها اللحم ثم ينشئها الله خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (3)
الرحم الظئر:
الظئر بكسر الظاء المشالة بعدها همز هي: العاطفة على ولد غيرها المرضعة له في الناس وغيرهم وجمعه " أظئر " و " آظار " كما فى: تاج العروس 12 / 460 مادة " ظئر "
ومن هنا قيل للبذرة الأنثوية " البيضة " من امرأة بعد تعرضها لمني الزوج مثلها حتى يلتحم بها ثم إيداع ذلك في رحم امرأة أخرى، قيل لذلك " الرحم الظئر ". (4) وهذا اكتسب بعد اسم: " شتل الجنين ".
شتل الجنين:
الشتل: القطع " شتل الجنين هو واحد من المصطلحات للرحم الظئر وحقيقته: أن يجامع رجل امرأته التي هي غير صالحة للحمل، ثم ينقل الماء منها إلى رحم امرأة ذات زوج بطريقة طبية فتحمله إلى نهاية وضعه (5) وطريقة النقل هذه هي " الشتل ".
ويعترض الشيخ ابن محمود فى: رسالته على تسمتيه " الجنين " وإنما يسمى " منيا " لقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} فلا يكون جنينا حتى تنفخ فيه الروح ... إلخ. وتسمى الحاملة به أيضا " المضيفة ".
قناة فالوب: القناة هنا هي الطريق الطبيعي التي تصل بين الرحم والمبيض. وسميت بذلك: نسبة إلى عالم التشريح الإيطالى الذي اكتشفها (6) .
__________
(1) الإنجاب: 448
(2) البسام: 7.
(3) البار.
(4) الإنجاب: 189.
(5) الحكم الإقناعي: 2، 6، 12، الطب الإسلامي: 3/392، 404، مجلة العربي مفاد: الطبيب حسان حتحوت، وعنه فتاوى معاصرة: 488
(6) الزرقا: 42.(3/98)
واذا اعترى القناة انسداد أو غياب صار سببا لعدم قابلية الحمل (1) .
ويحسن أن نسميها قناة الرحم " كما يفيد ذلك إطلاق الطبيب: محمد البار: 7. وتسمى " البوق " (2) .
اللقيحة:
هى البيضة الملقحة (3) .
المضيفة:
المرأة الأخرى التي ينقل إلى رحمها البييضة اللقيحة (4) . وهي أيضا " الحاضنة ".
مؤجرة البطن، وتسمى أيضا الأم بالوكالة، وتسمى أيضا أجنة بالوكالة (5) .
المتبرعة: وهي التي تتبرع ببيضتها لامرأة أخرى ذات زوج (6) .
المانحة: وتسمى المتبرعة بها: المانحة أيضا.
الميزان العصبي: هو البداية الأولى لتكوين الجهاز العصبي بعد اليوم الرابع عشر من التلقيح (7) .
المبحث الرابع:
تاريخ نشوء هذه النازلة زمانا ومكانا (8) :
أول مولود أنبوبي خرج إلى العالم هي: لويزا بروان، التي ولدتها ليزلي بروان " وذلك في 10 نوفمبر عام 1977 م. وذلك في بريطانيا على يد الطبيبين استبتوا، وأدواردر إذ قاما بتلقيح بويضتها بماء زوجها فاشتهرت هذه الطفلة باسم " طفلة الأنبوب " وتفجر بركان خبرها في العالم، وشغل وسائل الإعلام، فصار حديث الساعة، ثم توالت مواليد أطفال الأنابيب إلى المئات في أنحاء العالم منهم مجموعة من التوائم.
وفى أعقاب ذلك تولدت أيضا مجموعة من القضايا والمشاكل الأخلاقية، وأثارت الشكوك والاشتباه، وصار العالم الغربي بين القبول والرفض حتى قال رائد هذه النازلة الطبيب " أدواردر ": " إن هناك حاجة صارخة إلى وضع إطار آداب وأخلاقيات هذا الميدان".
ثم خرجت بعد أول طفلة من الرحم الظئر لكن في أعقاب ولادتها دخلت قضيتها المحاكم الإنجليزية ذلك لأن الأم بالوكالة أو الرحم الظئر رفضت تسليم الطفل لصاحبة البييضة بعد ولادتها على الرغم من أنها وقعت عقدا بتسليم الطفل بعد أن تلده لصاحبة البييضة.
__________
(1) الإنجاب: 189، والبار: 6.
(2) الإنجاب: 188
(3) الطب الإسلامي: 3 / 391 أحمد شرف الدين.
(4) الطب الإسلامي: 3/391 مقال لأحمد شرف الدين.
(5) انظر في هذه الأسماء الإنجاب 467
(6) البار: 15.
(7) البار: 5.
(8) انظر: البار: وكتاب الإنجاب الصفحات: 194، 197، 199، 200، 201، 215، 217، 218، 226، 228، 230، 231، 467، 469.(3/99)
ثم تنوعت أساليب وصور: طفل الأنابيب و: التلقيح الصناعي.
وجدت بعد هذا قضايا مهمة في هذا المضمار إذ الطب الغربي بمهارة يضرب السبل التي تجعل بني الإنسان " ساحة تجارب، ومعمل اختبار فما جد في ذلك.
1- بنك المني.
2- تجميد الأجنة.
3- زرع الخصية.
4- زرع الرحم.
5 - إجارة البطون، ويسمين، مؤجرات البطون، أو أمهات بالوكالة أو أجنة بالوكالة.
6 - الأم المتبرعة أى ببيضتها.
7 - الأب المتبرع أى " بمنيه " المعروف قديما في صعيد مصر باسم الصدفة.
8 - تلقيح الاستبضاع.
9 - زرع المبيض.
10 - مواليد الكاتلوج.
11 - الحمل بعد الوفاة لزوجها وهذا الواقعات مواليد.
12 - طفل الأنابيب.
13 - التلقيح الصناعي.
14 - الرحم الظئر " الحاضنة " والتي توسعت إلى مؤجرات البطون كما تقدم برقم (5)
المبحث الخامس:
فى ولائد هذه النازلة التي تستحق البحث والدرس من أهل الصنعة والعلم لبيان الحكم الشرعي فيها للناس تكليفا ووضعا:
وقد تقدم ذكر رؤوس المسائل لها فى: المبحث الرابع.(3/100)
المبحث السادس:
فى صور هذه النازلة:
ليعلم أن هذا الاصطلاح " طفل الأنابيب " أصبح لغة ميتة لإنه يمثل الآن واحدة من الصور وليس جميع الصور ولأن الأنبوب أصبح البديل المستعمل " الطبق " فكان الأولى أن يتحول إلى هذا اللقب " طفل الطبق " كما تقدم في المبحث.
فصار " طفل الأنبوب " واحدة من صور وأساليب ما اكتسب اسم " التلقيح الصناعي " والذي ذكرت في المبحث قيل أن الاسم الذي يحسن التسمية به هو:
وهذه الأساليب والصور آخذة في سبيل التكاثر والانقسام.
وقد نهج الباحثون في تقسيم هذه الصور والأساليب إلى قسمين بحكم السبب الجامع الذي تندرج تحته تلك الصور. لكن جرى الخلاف في التسمية على ما يلى (1)
القسم الأول: التلقيح الاصطناعي الداخلي، أو يقال الإخصاب الداخلى، أو يقال: التلقيح الإخصابي الذاتي: وهو ما أخذ فيه ماء الرجل وحقن في محله المناسب داخل مهبل المرأة زوجة أو غيرها. وفي هذا صورتان.
القسم الثاني: التلقيح الاصطناعي الخارجي أو يقال: الإخصاب المعملي، حيث يتم الإخصاب في وسط معملي: وهو ما أخذ فيه الماءان من رجل وامرأة زوجين أو غيرهما وجعلا في أنبوب أو طبق اختبار ثم تزرع في مكانها المناسب من رحم المرأة وفي هذا خمس صور.
وفى الواقع أن هذا التقسيم هو باعتبار واحد هو: مكان الإخصاب لكنه ينقسم أيضا باعتبار الماء إلى قسمين:
الأول: تلقيح ذاتي أى بماء الزوجين ذاتهما في ذات رحم الزوجة.
وهذا له صورتان: واحدة داخلية وأخرى معملية.
__________
(1) الطب الإسلامي: 3 / 393 – 394 مقال: أحمد شرف الدين. وهو مهم، وكتاب الانجاب: 350(3/101)
الثاني: التلقيح الأجنبي وهو الذي يكون فيه أحد الماءين أو كلاهما أجنبيا وينقسم باعتبار الرحم الذي تزرع أو تستنبت فيه اللقيحة إلى ثلاثة أقسام.
الأول: رحم الزوجة ذاتها.
الثاني: رحم ضرتها.
الثالث: رحم امرأة أجنبية.
وتنقسم باعتبار الزوجية إلى قسمين:
الأول: ما يتم بين زوجين زوج وزوجته منيا وبييضة ورحما.
الثاني: ما كان فيه طرف ثالث أجنبي أو كان أجنبيا متمحضا أو كان فيه طرفان أجنبيان.
ثم هذان القسمان باعتبار الطريق على نوعين.
1- نوع داخلى.
2- ونوع خارجي معملي.
ومن هذه الصور ما يجمع هذه التقاسم أو بعضها فمثلا.
ماء رجل وزوجة يلقح ماؤه ببويضة امراة أجنبية ثم تنقل من وسطها المعلمي إلى رحم زوجته أو أجنبية أخرى سوى البييضة. فهذا تلقيح معملي أجنبي باعتبار البييضة أجنبي باعتبار الرحم.
هذا ما يمكن فيه تقسيم صور هذه النازلة التي حدثت حتى تاريخه ووصل إلينا علمها وأصبحت حقيقة تنتظر الفتيا بشأنها.
وبعد هذا فإلى بيان هذه الصور والأساليب على ما يلي كما وردت محررة مبنية في قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة رقم 2 في عام 1404هـ:
للتلقيح الداخلى فيه أسلوبان وللخارجي خمسة من الناحية الواقعية بقطع النظر عن حلها أو حرمتها شرعا، وهي الأساليب التالية:
فى التلقيح الاصطناعي الداخلى
الأسلوب الأول:
أن تؤخذ النطفة الذكرية من رجل متزوج وتحقن في الموقع المناسب داخل مهبل زوجته أو رحمها حتى تلتقي النطفة التقاء طبيعيا بالبويضة التي يفرزها مبيض زوجته، ويقع التلقيح بينهما ثم العلوق في جدار الرحم بإذن الله كما في حالة الجماع، وهذا الأسلوب يلجأ إليه إذا كان في الزوج قصور لسبب ما عن إيصال مائه في المواقعة إلى الموضع المناسب.(3/102)
الأسلوب الثاني:
أن تؤخذ نطفة من رجل وتحقن في الموقع المناسب من زوجة رجل آخر حتى يقع التلقيح داخيا، ثم العلوق في الرحم كما في الأسلوب الأول. ويلجأ إلى هذا الاسلوب حين يكون الزوج عقيما لا بذرة في مائه فيأخذون النطفة الذكرية من غيره.
فى طريق التلقيح الخارجي
الأسلوب الثالث:
أن تؤخذ نطفة من زوج وبويضة من مبيض زوجته فتوضعا في أنبوبة اختبار طبي بشروط فيزيائية معينة حتى تلقح نطفة الزوج بويضة زوجته في وعاء الاختبار، ثم بعد أن تأخذ اللقيحة بالانقسام والتكاثر تنقل في الوقت المناسب من أنبوب الاختبار إلى رحم الزوجة نفسها صاحبة البويضة لتعلق في جداره وتنمو وتتخلق ككل جنين. ثم في نهاية مدة الحمل الطبيعية هذه تلده طفلا أو طفلة وهذا طفل الأنبوب الذي حققه الإنجاز العلمي الذي يسره الله وولد به إلى اليوم عدد من الأولاد ذكورا وأناثا وتوائم تناقلت أخبارها الصحف العالمية ووسائل الإعلام المختلفة ويلجأ إلى هذا الأسلوب الثالث عندما تكون الزوجة عقيما بسبب انسداد القناة التي تصل بين مبيضها ورحمها (قناة فالوب) .
الأسلوب الرابع:
أن يجرى تلقيح خارجي في أنبوب الاختبار بين نطفة مأخوذة من زوج، وبويضة مأخذوة من مبيض امرأة ليست زوجته (يسمونها متبرعة) ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته.
ويلجأون إلى هذا الأسلوب عندما يكون مبيض الزوجة مستأصلا أو معطلا ولكن رحمها سليم قابل لعلوق اللقيحة فيه.
الأسلوب الخامس:
أن يجرى تلقيح خارجي في أنبوب اختبار بين نطفة رجل وبويضة من امرأة ليست زوجة له (يسمونهما متبرعين) ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة أخرى متزوجة.
ويلجأون إلى ذلك حينما تكون المرأة المتزوجة التي زرعت اللقيحة فيها عقيما بسبب تعطل مبيضها لكن رحمها سليم وزوجها أيضا عقيم ويريدان ولدا.(3/103)
الأسلوب السادس:
أن يجرى تلقيح خارجي في وعاء الاختبار بين بذرتى زوجين، ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة تتطوع بحملها.
ويلجأون إلى ذلك حين تكون الزوجة غير قادرة على الحمل لسبب في رحمها، ولكن مبيضها سليم منتج، أو تكون غير راغبة في الحمل ترفها، فتتطوع امرأة أخرى بالحمل عنها.
الأسلوب السابع:
هو السادس نفسه إذا كانت المتطوعة بالحمل هي زوجة ثانية للزوج صاحب النطفة فتتطوع لها ضرتها لحمل اللقيحة عنها.
وهذا الأسلوب لا يجري في البلاد الأجنبية التي يمنع نظامها تعدد الزوجات بل في البلاد التي تبيح هذا التعدد.
هذه هي أساليب التلقيح الاصطناعي الذي حققه العلم لمعالجة أسباب عدم الحمل.
المبحث السابع:
فى تنزيل الحكم الشرعي على هذه النازلة:
بعد استيعاب التصور لما وصل إليه الطب من طرائق للإنجاب، وبيان تقاسيمها باعتبارات مختلفة فإن النظر الشرعي للفقيه يختبر أوصاف المحل بمنظار الشرع المطهر حتى ينزل هذه الدخولات منزلتها.
لمعرفة المحرم لذاته فهو تحريم غاية لا مجال لإباحته في أى حال.
أو المحرم لما يحف به فهو تحريم وسيلة، وهل يباح بحال؟
أو المباح؟
والانفصال عن هذا في الفروع الآتية:
الفرع الأول:
ماءان أجنبيان في رحم امرأة متزوجة أو أحد الماءين أجنبي.(3/104)
الفرع الثاني:
الماء من الزوجين في رحم الزوجة ذات البييضة بعد وفاة زوجها.
الفرع الثالث:
الماء من الزوجين والرحم أجنبي من الزوجية.
الفرع الرابع:
الماء من الزوجين في رحم زوجة له أخرى بتلقيح داخلى أو خارجي.
الفرع الخامس:
الماء من الزوجين في رحم الزوجة ذات البييضة بتلقيح داخلى أو خارجي. وتأسيسا على هذا التفريع فإلى بيان ما يظهر فيها شرعا.
حكم الفرع الأول:
وهو ما كان فيه الماءان أجنبيين سواء في أجنبية الحيوان المنوي والبييضة أو أحدهما.
فإذا حملت الزوجة من أجنبيين أو من بييضتها وماء أجنبي فهو حمل سفاح محرم لذاته في الشرع تحريم غاية لا وسيلة قولا واحدا.
والإنجاب منه شر الثلاثة هو " ولد زنا " وهذا ما لا نعلم خلافا بين من بحثوا هذه النازلة.
وهذا ما توجبه الفطرة السليمة وتشهد به العقول القويمة وقامت عليه دلائل الشريعة. وقد أبان الشيخ محمود شلتوت عن مجامع الاستدلال في هذا، في فتاويه ص 328 – 329 بما يشفي ويكفي فيحسن الرجوع إليه فإنه مهم.
حكم الفرع الثاني:
تلقيح ماء الزوج بعد انفصام عقد الزوجية بوفاءة أو طلاق.
حكم الفرع الثالث:
الرحم أجنبي مستعار:
فهذان الفرعان يشملها حكم الفرع الأول وهو التحريم لعدم قيام الزوجية في الفرع الثاني ولاختلاف رحم الزوجية في الفرع الثالث الذي هو من دعائم الهيئة الشرعية المحصلة للأبوة والأمومة.
وقد أثبتت الإحصائيات والأخبار العالمية الموثقة وجود أعداد غير قليلة من القضايا والمنازعات على المواليد من هذه الطرق بين ذات الرحم وذات الماء وبين ذات الرحم وصاحب الماء وهكذا في سلسلة مشاكل طويلة الحلقات في ذات البنية الآدمية.
كما أثبتت وجود ربع مليون طفل لا يعرف لهم أب نتيجة التلقيح الصناعي.(3/105)
حكم الفرع الخامس:
ما كان فيه الماء من الزوجين في رحم الزوجية ذاتها ذات البويضة حال قيام الزوجية بتلقيح داخلي أو خارجي:
وهذا الفرع محل خلاف كبير بين علماء العصر على أقوال:
الأول: التحريم فيهما.
الثاني: الجواز فيهما بشروط.
الثالث: الجواز في الداخلي دون الخارجي بشروط.
الرابع: التوقف.
الخامس: أنه من مواطن الضرورات فلا يفتى فيه بفتوى عامة وعلى المكلف المبتلى سؤال من يثق بدينه وعلمه.
هذا مع اتفاق الجميع على أن هذا الطريق يحف به عدد من المخاطر والمحاذير وبيانها على ما يلى:
المخاطر والمحاذير:
إن هذه المخاطر والمحاذير الشرعية هي واردة على جميع أنواع طرق الإنجاب لكن لما كانت الأربعة الأولى منها محرمة لذاتها فهو من باب حرمة الغايات لا الوسائل أكتفي بذلك عن ذكرها معه أما في هذا الفرع الخامس فإن هذه المحاذير اعتبارا وعدما يتأسس عليها القول بالحكم التكليفى جوازا أو منعا.
ويمكن تكييف هذه المحاذير من خلال الأبحاث الصادرة في ذلك على ما يلى: (1) :
1 - ففى النسب: الاحتمال الكبير الخطأ بأن تؤخذ عينة من شخص وتنسب لشخص آخر، فإذا استبدل عمدا أو خطأ ماء رجل أو بويضة امرأة بآخر تحقق هدم المحافظة على النسب وحفظه من ضروريات الشرع.
2 - وفي العرض: فإن هذا المولود الذي حصل بطريقة يكتنفها الإخلال سيعرض هذه البنية الإنسانية إلى توجيه الشكوك حولها. وتوسيع دائرة الكلام في الوسط الاجتماعي تصريحا أو تعريضا، والمحافظة على العرض من ضروريات الشرع.
__________
(1) بحث خاص الطبيب / محمد علي البار. قرار المجمع الفقهى بمكة المكرمة كتاب: الإنجاب في ضوء الإسلام(3/106)
وليست هذه قضايا أعيان لا يحتمل وقوعها في المدينة الواحدة إلا لفرد أو فردين بل لها صفة التكاثر والانتشار ولتسبيبات يبديها المتاجرون لتحسين النسل وأمن التشويه، ونحو ذلك وحنيئذ على الصعيد بقوة الوضع: جنس موهوم النسب مقذوف العرض. وهذا ما يأباه دين الله وشرعه.
(أ) في مجموعة الضروريات الست التي جاء بها الشرع وهي:
1- حفظ الدين.
2-حفظ النفس.
3-حفظ العقل.
4-حفظ النسب.
5-حفظ العرض.
6-حفظ المال.
شرَّع الله أحكاما للمحافظة عليها فللمحافظة على النسب شرع الله حد الزنا وحرم كل وسيلة تؤدي إليه.
وللمحافظة على العرض: شرع الله حد القذف، وحرم كل وسيلة تؤدي إليه.
كل هذا محافظة على كيان المسلم وسلامة بنيته ومعنويته وخلوصها من أى مؤثر على قوتها وشرفها حسا ومعنى.
وعليه فإن طريق الإنجاب هذه فيها محاذير على النسب وأخرى على العرض، بل موجبات للشك في شرعتيه أصلا.
(ب) وقد أثبت الواقع الأثيم المطالبة بوجود بنوك المني، مراكز لحفظ المني ".
وهذه سوق جديدة للمتاجرة بالنطف ووجود طراز جديد لاسترقاق بني الإنسان فأين هذا من تحططهم على الإسلام ببيع الرقيق.
وعند قيام تلك فإن عامل الحصول على المال ونحن في عصر المادة والاستمتاع بالخلاق – سيدفع من لا خلاق له بالتغرير بالرجل العقيم بأن ماءه يصلح للإنجاب فيأتي محله بماء رجل آخر سليم من العقم ... وهذا ليس ببعيد أبدا فهو امتداد لإفساد قديم عرف بمصر باسم " الصوفة " وهي طريقة بدائية تقوم على أساس من التضليل ذلك أن المرأة التي تشتكي عدم الإنجاب تذهب إلى من نصبت نفسها للعلاج، فتمدها المتطببة بصوفة فيها " ماء رجل أجنبي لتضعها في قبلها فتحمل على أساس أنه دواء وترتب لها أن يواقعها زوجها بعد فستحملين بإذن الله تعالى. فحملت المرأة ففوجئ زوجها بهذا لأنه يعلم أنه عقيم لا يولد له، فرفعت القضية للمحكمة وانكشف القصة " قصة الصوفة " واتضح أن الولد من ماء أجنبي فهو منفي النسب من زوجها.(3/107)
فهذه القصة عملت عملها تحت ستار العلاج على شكل شعبي، واليوم تأتي نفس النتيجة على مستوى الطب الحديث بالتلاعب العضوي في الخلايا الإنسانية بل في هذا تجسيد لطموحات أخرى أخذت تستغل في: الحيوان والنبات، وبدأ تطبيقها على الإنسان في عدة مظاهر منها:
1- بحث التحكم في جنس الجنين يكون ذكرا أو أنثى.
2- إشباع الرغبة بجهاز إلكتروني.
وفى مسائل الإمام أحمد بحث في حكم الأكرميح وهو القضيب المصنوع كما في بدائع الفوائد لابن القيم رحمه الله تعالى.
3- تكاثر الخلايا الجسدية بتحويلها إلى خلايا جنينية.
4- وجود إنسان مجتر بخلط خلاياه مع خلايا بهيمة.
والنتيجة: أن هذه نتائج وخلفيات تالية لا يسوغ التمهيد لفتحها ودخولها على النوع الإنساني بصفة عامة ولا على المسلمين بصفة خاصة.
وعليه: يتعين سد أى وسيلة إلى هذا وأن هذا الطريق من طرق الإنجاب هو عتبه الدخول للخوض في هذه البلايا؟
(ج) أن هذه الطرق موصلة إلى المواليد التوائم ومعلوم ما في هذا من مضاعفة الخطر على المرأة في حملها ووضعها ... وذلك أن الطبيب عندما يشفط من مبيض المرأة مجموعة من البويضات قد تصل إلى اثنتي عشرة بييضة يضعها في طبق اختباره " أنبوبة الاختبار " لتلقيحهن والطبيب إذا أدخل بوضية واحدة فإن نسبة النجاح ضئيلة جدا لا تتجاوز 10 % ولهذا ولتطلعه لنجاح اللقاح فإنه يدخل بويضتين فأكثر وقد يحصل بإذن الله تعالى نجاحها فتعيش الأم تحت الخوف والخطر.
ومعلوم أن الإنسان لا يسوغ له التصرف في بدنه بما يلحقه الضرر والهلاك.
(د) ومن وراء هذه المخاطر مشكلة أثارت ضجة كبرى في الغرب وهي: أنه من مزاولة العملية المذكورة يبقى لدى الطبيب في المختبر مجموعة من البويضات الملحقة مجمدة " الأجنة المجمدة " تحسبا لفشل العملية ليقوم بإعادتها مرة ثانية وهكذا؟ لكن في حال نجاحها ما هو مصير هذه الأجنة المجمدة ".(3/108)
فهو سبيل لنقلها إلى أجنبي عنها وهذا ينسحب عليه الحرمة القطعية كما فى: النوع الأول من طرق الإنجاب، فقد وجد مجموعة من النساء يلقحن من ماء رجل واحد فكأنهن أبقار يلقحن من ثور واحد؟ وهو سبيل لتنميتها في المختبر وإجراء تجارب طبية عليها وفي هذا اعتداء على الحرمة الإنسانية.
وهذا السبيل محل جدل عنيف بين الكفرة منعا وجوازا!! .
وهو سبيل إلى إتلافها حال نجاح العملية وهذا أمر مستبعد في عرف الأطباء لأنها عملية صعبة يتعسر الحصول عليها وتوفيرها يدر أرباحا كبيرة وخاصة في المستشفيات التجارية.
(هـ) أثبت الطب ازدياد نسبة تشوهات الأجنة بطرقه الحديثة هذه وذلك أن الطب الحديث اكتشف فى: الطريق الطبيعي الشرعي للإنجاب وجود مقاومة للحيوانات المريضة والمصابة في صبغتها، وهذا ما يفتقده التلقيح الصناعي.
(و) بل ثبت في الواقع الأثيم الظالم، وجود شركات لبيع الأرحام وتأجيرها، وشركات لبنوك المني وبيع مني العباقرة والفنانين ... وشركات لبيع الحيوانات المنوية والبويضات.
وقد ثارت قضايا أمام القضاء بأنها مثلا رغبت ماء رجل أبيض فولدت أسود أو بالعكس أو أنها حصلت على ماء رجل مصاب بمرض جنسي، وهكذا ما يثبت أن الطب الغربي أخذ بتقدمه الجنوني إلى إعمال: الانهيار الأخلاقي والكيان الإنساني من أساس بنيته.
والله سبحانه لم يمنن على خلقه بخلقه لهم إلا بطريق الإنجاب الشرعي السليم من الشوائب في النسب والعرض.
(ز) أن في طريق الإنجاب هذه أبشع صورة للتعري وفحص السوءة أو السوئتين من رجل أجنبي عنها بل وربما فريق عمل لها وعدم الإنجاب لا يحتسب ضرورة يباح في سبيلها هذا التبذل والهبوط.
هذه مجموعة من المخاطر والمحاذير التي تحصل فعلا في هذه الطريق، ويرتقب حصولها فيكون سببا ووسيلة إليها.
وعليه: فيظهر أن من نزع إلى المنع من باب تحريم الوسائل وما تفضى إليه من هتك المحارم فإنه قد نزع بحجج وافرة. وما لبس المسلم في حياته ولآخرته أحسن من لباس التقوى والعزة، وعيشة في محيط الكرامة الإنسانية وسلامة بنيتها ومقوماتها لتعيش في جو سليم من الوخز والهمس محافظا على دينه وعلى نفسه، وكما يحافظ على ماله من الربا وغباره يحافظ على نسبه وعرضه من إثارة الغبار عليهما بالشكوك والأوهام التي تصرع شرفه وعزته وبالتالى تخل بتماسك أمته وحفظها وصيانتها.
وقد علم من مدارك الشرع أن جملة من المحرمات تحريم وسائل قد تباح في مواطن الاضطرار والضرورة تقدر بقدرها وعليه:
فإن المكلف إذا ابتلى بهذا فعلية أن يسأل من يثق بدينه وعلمه، والله تعال أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(3/109)
القضايا الأخلاقية
الناجمة عن التحكم في تقنيات الإنجاب
التلقيح الاصطناعي
لسعادة الدكتور محمد علي البار
بسم الله الرحمن الرحيم
القضايا الأخلاقية الناجمة عن التحكم في تقنيات الإنجاب
(التلقيح الاصطناعي)
إن عدم الخصوبة والعقم يشكلان مشكلة طبية في مختلف مناطق العالم، فقد قدرت منظمة الصحة العالمية أن ما بين خمسة وعشرة بالمائة من الأزواج في سن الخصوبة يعانون من عدم الخصوبة infertility والعقم sterility " وفي الولايات المتحدة كان واحد من كل عشرة في سن الخصوبة يعاني من عدم الخصوبة والعقم عام 1976 وفي عام 1984 كان واحد من كل ستة يعاني من عدم الخصوبة والعقم. وفي خلال العشرين عاما الماضية بلغت الزيادة في عدم الخصوبة والعقم في الولايات المتحدة نسبة 300 بالمئة.
ويرجع الباحثون هذه الزيادة إلى انتشار الأمراض الجنسية بسبب انتشار الإباحية والممارسات الجنسية الشاذة 250 مليون حالة سيلان (جونوريا) سنويا في العالم، وحوالي ضعف ذلك من الكلاميديا ... وخمسين مليون حالة زهري أولي وثانوي في كل عام) . وبسبب انتشار الإجهاض المحدث induced Abortion الذي كان يسمى الإجهاض الجنائي Crininal abortion حيث بلغ عدد حالات الإجهاض المحدث عام 1984 خمسين مليون حالة أكثر من نصفها فيما يسمى العالم الثالث وبسبب انتشار اللولب I.U.D لمنع الحمل حيث تستعمله مئات الملايين من النساء في العالم.
لهذا كله فإن أي وسيلة لعلاج عدم الخصوبة والعقم تلقى ترحيبا لدى الدوائر الطبية والجمهور.
ومنذ عام 1978 عندما تمت ولادة لويزا براون أول طفلة أنبوب في العالم وحتى عام 1984 تم ميلاد ألف طفل بهذه الطريقة منهم 56 توائم ثنائية وثمانية ثلاثية واثنان رباعية. وفي عام 1986 كان عدد أطفال الأنابيب قد تجاوز ثلاثة آلاف طفل، وانتشرت مراكز التلقيح الاصطناعي الخارجي I V F في مختلف أرجاء العالم منها 125 مركزًا في الولايات، ومركزين في مدينة جدة، وآخر في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية.. وقد تم بالفعل ولادة امرأتين سعوديتين بهذه الطريقة (إحداهما لقحت في بريطانيا والأخرى في جدة) وهناك أكثر من عشرين امرأة في المملكة العربية حامل حاليا كلهن تم تلقيحهن بهذه الطريقة.
ومنذ فترة الستينات من القرن العشرين انتشر استخدام التلقيح الاصطناعي (الداخلي) A. I. ومنذ السبعينات انتشرت بنوك المني في كثير من مناطق العالم وخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا ومنذ ذلك الحين ظهرت طرق جديدة للتناسل غير الطريقة الطبيعية التي جعلها الله من اتصال الذكر بالأنثى، وقد بلغت هذه الطرق أكثر من 16 طريقة كلها مغايرة للفطرة.
وبما أن الإسلام لا يقبل طريقا للتناسل سوى طريق الزواج، فقد أفتى علماء الإسلام الأجلاء بأن أي وسيلة للتناسل يستخدم فيها طرف ثالث هي لاغية وباطلة ومحرمة شرعا وموجبة للتعزير لكل من يشترك فيها.(3/110)
ونقصد باستخدام طرف ثالث استخدام مني رجل آخر أو بويضة امرأة أخرى أو أن تحمل اللقيحة امرأة أخرى (رحم مستأجر) (Surrogate Mother) أو أن تزرع خصية في رجل أو مبيض في امرأة.
ولابد لحصول التناسل أن يتم في إطار الزوجية أثناء قيام عقد الزوجية فإذا انتهى هذا العقد بموت أو طلاق انتهت عدته، أو طلاق بائن، فلا يجوز أن يتم التناسل بين هذين الشخصين مهما كانت الأعذار والدوافع.
لهذا فإن معظم المشاكل الأخلاقية الناتجة عن استخدام التلقيح الصناعي بنوعيه الداخلي والخارجي، والتي شغلت الأطباء والقانونيين ورجال اللاهوت ورجال الإعلام في الغرب لا ينبغي أن تقوم في البلاد التي تلتزم بالشريعة الإسلامية.
ذلك لأن استخدام التلقيح الاصطناعي الخارجي والداخلي بكافة طرقهما المتعددة مرفوضة في الإسلام ما عدا حالة واحدة فقط هي أن يتم التلقيح بين ماء الزوج وبويضة زوجته في حال قيام عقد الزوجية.
ومع هذا فهناك مشاكل أخرى قامت وستقوم رغم هذا التحديد الصارم للحالات المسموح بها وهي كالتالي:
1 - التلقيح الاصطناعي الخارجي باهظ التكاليف (ما بين أربعة إلى ستة آلاف دولار) وبما أن معظم دول العالم تعاني من أزمات اقتصادية بما في ذلك الدول المتقدمة فإن هذه التكاليف الباهظة لا تستطيع أن تقوم بها الحكومات وخاصة في العالم الثالث حيث المشاكل الصحية الضخمة والخطيرة توجب تحويل المبالغ القليلة إلى ما هو أهم وأجدى وأنفع.
2 - نسبة نجاح التلقيح الاصطناعي لا تزال منخفضة (30 بالمئة في أحسن المراكز العالمية بينما لم تحقق بعض المراكز سوى نسبة ضئيلة من النجاح) .
3 - احتمال حدوث خطأ في المختبر بحيث يوضع مني فلان مع غير زوجته.
4 - مع عدم وجود الرقابة الصارمة وخاصة في البلاد النامية هناك احتمال كبير بأن عامل الربح سيدفع من لا خلاق له باستخدام المني الجاهز من البنك أو من شخص آخر لتلقيح امرأة عقيم، وزوجها يعاني من ندرة الحيوانات المنوية أو حتى غيابها الكلي Azospermia.(3/111)
5 - يقوم الأطباء بتنبيه المبيض لإفراز عدد من البويضات قد تصل إلى 12 بويضة أو أكثر، فإذا قام الطبيب بتلقيحها أدى ذلك إلى وجود فائض من البويضات الملقحة، وهذا الفائض من البويضات الملقحة إما أن يعاد إلى رحم المرأة وهذا يؤدي إلى الإجهاض المبكر وإذا نجح يؤدي إلى الحمل المتعدد ... وكلما زاد عدد الأجنة في رحم المرأة كلما زادت الخطورة على حياة المرأة وحياة الأجنة، أو أن تجمد هذه الأجنة وهذا يؤدي إلى مشاكل عديدة وهي:
6 - إذا حملت المرأة ماذا يصنع بالأجنة الفائضة المجمدة؟
هل تستخدم لامرأة أخرى تعاني من العقم؟ وذلك مرفوض إسلاميا لأنه يؤدي إلى اختلاط الأنساب ... بل إن هذا الجنين ليس جنينها ولم تشارك فيه ولا هي ولا زوجها سوى حمله وتغذيته وولادته وقد قرر الفقهاء حرمة ذلك ووجوب تعزير من يقوم به ويشارك فيه.
إذن هل تستخدم هذه الأجنة من أجل البحث العلمى؟ وذلك قد يقيد في معرفة كثير من الأمراض الوراثية والصبغية. إلى أى يوم يجوز استخدام هذه الأجنة؟
أليس الجنين ولو كان عمره بضعة أيام له كرامة باعتبار ما سيؤول إليه؟ ورغم أن معظم الدول الغربية والاشتراكية تبيح الإجهاض إلا أنها حتى الآن لم تبح استخدام الأجنة ... وقد أباحت بعض اللجان المختصة استخدامها إلى اليوم الرابع عشر من عمر الجنين وذلك قبل تكون الشريط الأولي الذي منه يتكون الجهاز العصبي.
هل ترمى الأجنة الفائضة قبل تجميدها؟ أليس الاحتمال قويا بأن تفشل محاولة الحمل الأولي فتعود المرأة ويوضع في رحمها الجنين المجمد بعد إعادته للحرارة الطبيعية وذلك يعتبر خسارة وتعبا ومشقة على المرأة والأطباء على السواء؟
إذن هلى ترمى الأجنة المجمدة إذا حملت المرأة؟ أليس في ذلك تبديد وإسراف لمادة يمكن الاستفادة منها في معالجة عقيم أو في إجراء أبحاث؟
7 - ظهر استخدام جديد للأجنة المجمدة وهو استخدامها للعلاج في نقل الأعضاء، وبما أن الأنسجة الجنينية قابلة للنمو وفي نفس الوقت لا يرفضها الجسم بنفس السرعة التي يرفض بها الأنسجة البالغة والنامية فإن استخدام هذه الأجنة في زراعة الأعضاء يشكل فتحا جديدًا في عالم الطب، ولكنه يشكل أيضا قضية أخلاقية ودينية شائكة.
8 - اختبار الأجنة: يقوم الطبيب بفحص الجنين المجمد فإن وجد فيه عيبا ومرضا استخدمه لأغراض أخرى وإن لم يجد به عيبا أعاده إلى رحم أمه.(3/112)
9 - أن نكاح الاستبضاع الجاهلي قد عاد مرة أخرى حيث تشتري المرأة من بنك المني ما يناسبها من مني رجل اشتهر بالعلم أو اشتهر بالذكاء أو اشتهر بالقوة ... إلخ، وهذه الصورة واقعة في الغرب ومرفوضة تماما في الإسلام.
10 - نفس الصورة السابقة بما هو أشد وأنكى، حيث تؤخذ الحيوانات المنوية من رجل اشتهر بالذكاء والقوة وبويضات امرأة اشتهرت بالجمال والذكاء ويتم تلقيح هذه البويضات لإنتاج سلالة بشرية ممتازة (نظرية النازية) ، ويمكن أن تباع هذه الأجنة الفاخرة إلى من يريد ويدفع الثمن.. وتتعدد الصور التي يمكن أن يتم بها ذلك حيث يمكن أن تحمل المرأة هذا الجنين الممتاز أو ربما تستأجر له رحما أيضا، ثم تأخذ الجنين بعد ولادته جاهزا.
كل هذه الطرق المختلفة ستؤدي إلى تجارة الأجنة وليس ذلك مستغربا فتجارة بنوك المني والأرحام المستأجرة قائمة على قدم وساق في معظم دول الغرب، وقد وافقت المجتمعات الغربية والقوانين والهيئات الدينية هناك على استخدامات بنوك المني، ولا تزال في جدل حام حول الأرحام المستأجرة والأجنة المجمدة.
11 - احتمال زيادة الأمراض التي تنتقل عبر المني حيث يحمل المني جميع الأمراض الجنسية: السيلان، الكلاميديا، الهربس، الإيدز، الزهري. . إلخ.
12 - احتمال زيادة التشوهات الخلقية حيث تتعرض الحيوانات المنوية والبويضات والأجنة المجمدة لتغييرات كثيرة حيث إنها تبقى فترة خارج بيئتها الطبيعية الفسيولوجية.
13 - المشاكل الاجتماعية والقانونية العديدة الناتجة عن التلقيح الاصطناعي بنوعيه الداخلي والخارجي: فمثلا هناك ربع مليون طفل لا يعرف لهم أب أصلا نتيجة التلقيح بواسطة بنوك المني A I D وكذلك مشكلات الأمهات المستعارات Surrogate mother ومن تكون الأم؟ أهي التي حملت وولدت أم صاحبة البويضة؟ ومن يكون الأب؟ أهو صاحب المني أم زوج المرأة صاحبة البويضة؟ أم زوج التي حملت وولدت؟
14 - أن التلقيح الاصطناعي لا يحل سوى جزء ضئيل ونسبة محدودة من الحالات التي تعاني من عدم الخصوبة والعقم وبثمن فادح ماليا واجتماعيا وأخلاقيا وقانونيا.
15 - تؤدي التقنيات الجديدة في الإنجاب إلى إلغاء نظام الزواج وخاصة لدى الشاذات جنسيا اللائي يمارسن السحاق، وقد ظهرت موجة في الغرب من السحاق موازية للواط، وأدى ذلك، حين ترغب الشاذة في النسل، إلى أن تذهب إلى بنك المني ويلقحها الطبيب بالمني الذي تختاره من الكتالوج دون أن يمسها رجل.(3/113)
16 - تؤدي التقنيات الجديدة إلى ما يسمى باختيار السلالة البشرية وتتفرغ مجموعة من النساء فقط للحمل وذلك بأخذ الأجنة جاهزة من البنك بحيث يمكن أن تحمل عشرات أو مئات النساء من هذه السلالة المرغوب فيها، كما يصنع حاليا في الأبقار والأغنام والخيول والكلاب.
17 - في الحالات التي تستخدم فيها زراعة الخصية بالنسبة للذكر وزراعة المبيض بالنسبة للأنثى، فإن الحيوانات المنوية في صفاتها الموراثية ستعود إلى صاحب الخصية وكذلك البويضات ستعود إلى صاحبة المبيض – وبذلك تعود مشكلة اختلاط الأنساب والإسلام يرفض ذلك رفضا باتا.
18 - لا يبدو أن زرع الرحم سيشكل عقبة أمام الفقهاء وخاصة إذا كان من امرأة توفيت وأوصت بالتبرع برحمها، أو أنها قد جاوزت سن الحمل أو أن لديها عددا كافية من الأطفال ... إلخ، أو أن مبيضها قد أزيل ولم يبق لها إلا الرحم ولا تستطيع أن تحمل إلا باستعارة بويضة من مانحة، وهو أمر محرم في الإسلام فتتبرع آنذاك برحمها لمن تملك المبايض ولكن رحمها قد أزيل بعملية جراحية.
وهكذا يبدو أن المشاكل الأخلاقية والدينية والقانونية الناتجة عن تقنيات الإنجاب عديدة ومتنوعة.
وهذه التقنيات الحديثة رغم براعتها لن تحل مشكلة عدم الخصوبة والعقم ذلك لأن أسباب المشكلة لم تحل بل إن الأسباب المؤدية إلى انتشار العقم وعدم الخصوبة تزداد يوما بعد يوم.
لهذا فإن الحل الحقيقي يكمن في علاج أسباب العقم وعدم الخصوبة والوقاية منها.
وبما أن أهم أسباب عدم الخصوبة والعقم تتمثل في الأمراض الجنسية، الإجهاض، استخدام اللولب، فإن الإسلام بتعاليمه التي تمنع الزنا والشذوذ الجنسي وتمنع الإجهاض، وتمنع استخدام اللولب باعتباره نوعا من الإجهاض المبكر يقدم وسيلة فعالة في إنقاذ ملايين البشر من عواقب الأمراض الجنسية والإجهاض واستخدام اللولب ومن بينها عدم الخصوبة والعقم.
ولا مانع من استخدام الوسائل الطبية المتاحة في علاج حالات عدم الخصوبة والعقم بشروط:
أولها: أن لا تسبب هذه الوسائل اختلاطا في الأنساب.
ثانيا: أن لا تلغي نظام الزواج والأسرة.
ثالثا: أن تعالج الأسباب الحقيقية، وبما أن معظم أسباب عدم الخصوبة يمكن الوقاية منها بتجنب الزنا والعلاقات الجنسية غير السليمة مثل الوطء في المحيض وإتيان محاشي النساء واللواط، وتجنب إجراء الإجهاض دونما سبب طبي قوي، وتجنب استخدام اللولب.. إلخ فإن اتخاذ أسباب الوقاية هذه (وهي من تعاليم الإسلام الأساسية) يؤدي إلى خفض نسبة المصابين بعدم الخصوبة وبالتالي خفض تكاليف علاجها.(3/114)
المناقشة
أطفال الأنابيب
10 صفر 1407 هـ / 13 أكتوبر 1986 م
الساعة الرابعة عصرا
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لدينا في هذه الجلسة الاستئنافية للجلسة الصباحية موضوع " أطفال الأنابيب " أو " طرق الإنجاب في الطب الحديث " ونرجو من الطبيب الأستاذ محمد علي البار أن يعطينا عرضا عن هذا الموضوع من الإيجاز، وشكرًا.
الشيخ محمد عطا السيد:
في الحقيقة أنا أذكر سيدي الرئيس أنه في المرة الماضية ناقشنا هذا الموضوع نقاشا مستفيضا وأذكر حتى أننا اتخذنا فيه قرارا، لعله نرجع إلى وقائع الجلسة للدورة الماضية ثم طلب الرئيس في نهاية الدورة أن يعطى فرصة حتى يأتي بورقة شاملة تجمع كل الآراء في هذا الموضوع ووافقنا على ذلك، فما أدري أسأل سماحة الرئيس هل يعرض كل الموضوع ليطرح مرة ثانية للنقاش.
الرئيس:
في الواقع ما ذكره الشيخ عطا هو صحيح، وأن هذا الموضوع تعلمون أنه في الدورة الثانية استغرق وقتا ليس بالقصير من المداولات والمناقشات وكانت الآراء تقريبا متفقة على عدد من أنواع التلقيح أو طرق الإنجاب، لكنه بقي عندنا طريق واحد فإذا رأيتم هل تحبون أن نجري تلخيصا لما سبق ومن البحث الذي أعددته وقدمته أو أن الطبيب البار بصفته حضر الدورة الماضية يلخص لنا هذا الشيء مع الاختصار، حتى يكون جامعا لنا، وسيجمع بين الوجهتين الطبية والفقهية نظرًا لأنه حضر المداولات.
الشيخ محمد عطا السيد:
أستأذن ثانيا وأقول إن بعد النقاش كانوا اتخذوا قرارا في هذه المسألة.
الرئيس:
اتخذ قرار بتأجيله إلى الدورة هذه بعد إعطاء دراسة شاملة والدراسة الشاملة تعرفون أنه فيه عدة دراسات من بينهما الدراسة التي كتبتها ووزعت عليكم من قبلي التي عنوانها " طرق الإنجاب في الطب الحديث ".
الدكتور محمد علي البار:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على أفضل المرسلين وأهله الطيبين المباركين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
سماحة الرئيس.. أصحاب السماحة، وأصحاب الفضيلة، الإخوة المشاركون..
كما تعلمون قد تمت مناقشة هذا الموضوع مناقشة مستفضية في العام الماضي ولم يتم بشأنها قرار معين وإنما أجلت لاتخاذ القرار في هذه الدورة بإذن الله تعالى.(3/115)
خلاصة مشكلة الإنجاب أن عدم الخصوبة والعقم أصبحا يشكلان مشكلة طبية في مختلف مناطق العالم، وقد قدرت منظمة الصحة العالمية أن ما بين 5 و 10 % من الأزواج في سن الخصوبة يعانون من عدم الخصوبة والعقم.
التفريق بينهم في الحقيقة العقم الذي لا يمكن علاجه وعدم الخصوبة التي يمكن علاجها في الولايات المتحدة كان واحدا من كل عشرة في سن الخصوبة يعاني من عدم الخصوبة عام 76 ميلادية، وفي عام 84 كان واحدا من كل ستة يعاني من عدم الخصوبة والعقم وفي خلال العشرين عاما الماضية بلغت الزيادة في عدم الخصوبة والعقم في الولايات المتحدة نسبة 30 % يرجع الباحثون أسباب هذه – اسمحوا لي أن استعرض الأسباب الحقيقية حتى تكون الصورة واضحة لهذا الموضوع – أسباب هذه الزيادة كثيرة لكن أهمها ثلاثة أسباب:
انتشار الأمراض الجنسية بسبب الإباحية، والإجهاض الذي كان يعتبر جنائيا ولكن لم يعتبر جنائيا لأن معظم الدول وافقت عليه حسب الطلب تذهب المرأة حسب الطلب ويجهض حوالي 50 مليون طفل كل عام بدون سبب طبي وبدون إجهاض جنائي كان يسمى في الماضي ويسمى الآن إجهاضا محدثا.
وأيضا بسبب استخدام اللولب أو الشريط للأبعاد كوسيلة من وسائل منع الحمل وهذا اللولب يستخدم على نطاق واسع في العالم حوالي يمكن مائة مليون امرأة تستخدم هذا اللولب ينتج عن هذه الاستخدامات وأشياء أخرى إتيان المرأة في المحيض وغيرها ينتج عنها عقم تأخير سن الزواج أشياء كثيرة جدًا التهابات درن ينتج عنها عقم هذه الأسباب كلها تؤدي إلى أن الأطباء يرحبون بأية وسيلة من الوسائل التي يمكن أن تقضي على هذه المشكلة.
منذ عام 1978 تمت ولادة أول طفلة أنبوب في العالم ومنذ ذلك الحين حتى هذا العام في سبتمبر 86 تمت ولادة حوالى 3000 طفل أنبوب في العالم منهم مجموعة توائم ثنائية ومجموعة توائم رباعية ومجموعة توائم حتى خماسية هذا الإنجاز من الناحية الفنية التقنية يعتبر إنجازًا جيدًا، لكنه له عواقب وله مشكلات كثيرة.
لم يقتصر ولادة أطفال الأنابيب على العالم الغربي وإنما دخل أيضا إلى العالم الإسلامي وتمت ولادة امرأتين في المملكة العربية السعودية والآن هناك ثلاثة مراكز في المملكة العربية السعودية، مركزان في جدة، ومركز في الرياض، لإجراء التلقيح الاصطناعي الخارجي المعروف باسم أطفال الأنابيب يعني المشكلة هذه ليست مشكلة نظرية لكنها مشكلة قد وفدت إلينا بالفعل وتم إيجاد مراكز في البلاد العربية، وحتما ستنتشر هذه المراكز يوما بعد يوم ربما يكون وجود هذه المراكز أفضل عند بعض الناس من أن تذهب المرأة إلى الخارج وتلقح بأيدي ناس كفره وليس مضمونا الطرق والوسائل التي يستخدمونها ربما يكون هذا عند بعض الناس أن له وجهة نظر أنه عندما يكون في البلاد العربية أو في البلاد الإسلامية تكون عليه رقابة وربما يكون تحت أوفق آراء الفقهاء هذه من بعض الحجج التي يقول بها بعض المناصرين لهذه الفكرة وتطبيقها في البلاد العربية الإسلامية.(3/116)
لكن الواقع منذ فترة الستينات في القرن العشرين انتشر اتسخدام التلقيح الاصطناعي الداخلي والخارجي، الخارجي هو طفل الأنبوب والداخلي هو أخذ ماء الرجل وحقنه في رحم المرأة مباشرة.
منذ السبعينات انتشرت بنوك المني في كثير من مناطق العالم وخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا ومنذ ذلك الحين ظهرت طرق جديدة للتناسل غير الطريقة الطبيعية التي جعلها الله من اتصال الذكر بالأنثى وقد بلغت هذه الطرق أكثر من ست عشرة طريقة كلها مغايرة للفطرة.
وبما أن الإسلام لا يتقبل طريقا للتناسل سوى طريق الزواج فقد أفتى علماء الإسلام الأجلاء بأن أية وسيلة للتناسل يستخدم فيها طرف ثالث هي لاغية وباطلة ومحرمة شرعا وموجبة للتعزير ونقصد باستخدام طرف ثالث استخدام مني رجل آخر أو بويضة امرأة أخرى، أو أن تحمل اللقيحة امرأة أخرى تسمى رحما مستأجرًا أو أن تزرع خصية رجل في رجل آخر، أو مبيض امرأة في امرأة أخرى ولابد لحصول التناسل أن يتم في إطار الزوجية أثناء قيام عقد الزوجية كما قال الفقهاء الأجلاء فإذا انتهى هذا العقد بموت أو طلاق انتهت عدته أو طلاق بائن فلا يجوز أن يتم التناسل بين هذين الشخصين مهما كانت الأعذار والدوافع.
لهذا فإن معظم المشاكل الأخلاقية الناتجة عن استخدام التلقيح الصناعي بنوعيه الداخلي والخارجي، والتي شغلت الأطباء والقانونيين ورجال اللاهوت ورجال الإعلام في الغرب لا ينبغي أن تقوم في البلاد التي تلتزم بالشريعة الإسلامية ذلك لأن استخدام التلقيح الاصطناعي والداخلي بكافة طرقه المتعددة مرفوضة في الإسلام ما عدا حالة واحدة فقط هي أن يتم التلقيح بين ماء الزوج وبييضة زوجته في حالة قيام عقد الزوجية سواء أكان تلقيحا داخليا أو خارجيا.
ومع هذا فهناك مشاكل أخرى قامت وستقوم رغم هذا التحديد الصارم للحالات المسموح بها وهي كالتالي:
انكشاف عورة المرأة، وهذه قد حلها الفقهاء بتحديد الذي ينبغي أن يقوم بالكشف أو بالعمل هذا طبيبة مسلمة، فإن لن يتيسر فطبيبة غير مسلمة، أن لم يتيسر فطبيب مسلم، فإن لم يتيسر فطبيب غير مسلم ثقة.(3/117)
النقطة الأخرى: التلقيح الصناعي الخارجي باهظ التكاليف تكلف المحاولة الواحدة ما بين أربعة آلاف إلى ستة آلاف دولار، المرأة التي لقحت من المملكة العربية السعودية في بريطانيا، وولدت طفلا كلفها ذلك أكثر من مائة ألف ريال حوالي عشرة آلاف دينار أردني بما أن معظم دول العالم الثالث بالذات والبلاد النامية تعاني من الفقر والأزمات الاقتصادية فإن هذه التكاليف الباهظة لا تستطيع أن تقوم بها الحكومات وخاصة في بلادنا حيث المشاكل الصحية الضخمة والخطيرة توجب تحويل المبالغ القليلة إلى ما هو أهم وأجدى وأنفع.
بعد ذلك رقم ثلاثة، نسبة نجاح التلقيح الاصطناعي لا تزال منخفضة حتى في أحسن المراكز العالمية عندما تؤخذ الحيوانات المنوية والبويضة وتلقح في الأنبوبة أو في الطبق نسبة النجاح قد تصل إلى 80 % في الطبق، ثم بعد ذلك تنمى لمدة يومين أو ثلاثة ونسبة النجاح في التنمية تصل أيضا إلى 80 % مما هو حاصل في أحسن المراكز العالمية طبعا فيه مراكز أقل من هذا بكثير ثم بعد ذلك تؤخذ هذه اللقيحة أو الجنين إذا اصطلح على هذا لأنه ليس جنينا بعد، لم يستجن في الرحم ولم يختف إنما هو ظاهر للعيان وتحت الميكروسكوب هذه اللقيحة المكونة من مجموعة من الخلايا تبلغ ثماني خلايا يأخذها الطبيب ويحقنها في رحم المرأة فتعلق بإذن الله سبحانه وتعالى في الرحم نسبة العلوق تصل إلى 30 % من الجملة الأخيرة، من هذا الـ 30 % أيضا أكثر من 35 % تجهض لأسباب كثيرة.
منها أن هناك تغييرات في الصبغيات وفي الكروموزومات وتؤدي إلى قتل هذا الجنين وإنزاله ميتا ثلث الحالات تقريبا، يبقى منها في النهاية المحصلة النهائية من بداية العملية إلى نهايتها في المحاولة الواحدة سوى 10 % إلى 15 % نجاح في أحسن المراكز العالمية نسبة النجاح النهائي في المحصلة النهائية تصل حوالي 15 % في أحسن المراكز العالمية، بعض المراكز لم تحقق نسبة نجاح سوى 1 إلى 2 % هذا طبعا يوضح أن هذا لن يحل مشكلة العقم.
هناك أيضا احتمال حدوث خطأ في المختبر عندما تؤخذ الحيوانات المنوية وتنتشر هذه كما هو معروف في المختبرات، ويحصل أحيانا خطأ في نسبة تحليل دم هذا إلى شخص آخر هذا الاحتمال وارد وإن كان نادرًا، ما هو شيء كثير مع اتخاذ الاحتياطات في المستشفيات الخاصة وغير الخاصة.(3/118)
هناك احتمال كبير بأن عامل الربح سيدفع من لا خلاق له باستخدام المني الجاهز من البنك أو من شخص آخر لتلقيح امرأة عقيم وزوجها يعاني من ندرة الحيوانات المنوية أو حتى من غيابها كليا وقد حصل هذا في أرياف مصر، وفي مصر في القاهرة قبل فترة طويلة من الزمن قبل أن تأتي التقنيات الحديثة، وكانت امرأة تعاني من العقم فكانت ذهبت إلى جارتها وجارتها أحضرت لها صوفة أو قطنة مبللة بمني أخيها، وهي تزعم لها أن فيها دواء فوضعتها في فرجها وقالت لها: اذهبي إلى زوجك، فأتاها زوجها، فحملت، ثم ذهب الزوج وتحقق أنه ليس لديه حيوانات منوية على الإطلاق ورفعت القضية واعترفت المرأة بما فعلته وطبعا حكم عليها بالسجن.
فهذه القضية إذا كانت في مستوى الطرق البدائية البسيطة تؤدي إلى الحمل، بالطرق الحديثة طبعا مع عدم وجود الرقابة في المستشفيات الموجودة، الآن فيه كثير غير مسلمين وهمهم الربح فيعملون إذا كان الرجل ليس عنده حيوانات منوية وعنده حيوانات ضعيفة قليلة يأخذ منيا من أي مكان آخر أو من البنك.
إذا حملت المرأة ماذا يصنع بالأجنة الفائضة؟
الطريقة هي أن يقوم الطبيب عادة بتنبيه مبيض المرأة لتغرز مجموعة كبيرة من البويضات فيأخذ هذه البييضات، قد تصل إلى 12 أو 14 بييضة يلقحها بماء زوجها إذا فرضنا ذلك، لا يستطيع أن يعيد كل البييضات الملقحة إلى الزوجة لأن ذلك يعني حملا متعددا كثيرا فيؤدي إلى الإجهاض وإلى ضرر على الأم وعلى الأجنة نفسها يعيد اثنين أو ثلاثة لأن إعادة اثنين أو ثلاثة يزيد من احتمال النجاح بنسبة بسيطة بقية الأجنة يضعها في الثلاجة ويحتفظ بها بحيث أنه إذا فشلت المحاولة الأولى أو حصل سقط " إجهاض " تعود المرأة فيكون الجنين جاهزا، بدلا من أن يقوم بعملية جديدة لإخراج البويضات وتنميتها وإدخالها المستشفى، وكل هذا فيه مشقة على المرأة وعلى الأطباء وفيها تكلفة باهظة على الأسرة، كل هذا يتجنب بإيجاد حفظ هذه الأجنة الفائضة عندما تعود مرة أخرى تلقح بهذه الأجنة الفائضة.
طيب، إذا حصل حمل ماذا يصنع بهذه الأجنة الفائضة؟ بالتسامح بتعبير كلمة أجنة ماذا يصنع بهذه البويضات الملقحة التي نمت إلى ثمان خلايا أو عشر خلايا أو اثنتي عشرة خلية؟ هل ترمى؟ الأطباء يعتبرون هذه ثروة لا يمكن أن يرموا بها فماذا يطلبون؟(3/119)
فى الغرب قامت بنوك للأجنة الآن ويطلبون من المرأة أو من الزوج أن تتبرع، أو تبيع هذه الأجنة الفائضة لتستخدم لمعالجة عاقر أخرى بدون تكلفة كبيرة لأن هذا يخفض التكلفة والتعب فيعطيها جنينا جاهزا من أبوين غيرهما لم تشارك فيهما بغير الحمل فهذه نقطة طبعا هذا أمر مرفوض إسلاميا لأنه يؤدي إلى اختلاط الأنساب فيأتي سؤال آخر إذن هل تستخدم هذه الأجنة من أجل البحث العلمي؟ لأن استخدام هذه الأجنة يؤدي إلى معرفة الأمراض الوراثية، أمراض الكروموزومات " الصبغيات " يؤدي إلى معرفة كثير من الأمراض والأسرار الوراثية لكن إلى أي يوم يجوز استخدام هذه الأجنة؟ الأطباء ينمون هذه الأجنة يجعلونها تنمو الخلايا ويمكن أن تنمو لأيام أو لأشهر الآن بالنسبة للحيوانات تم تنميتها لفترة طويلة أليس الجنين ولو كان عمره بضعة أيام له كرامة باعتبار ما سيؤول إليه؟ ورغم أن معظم الدول الغربية والاشتراكية تبيح الإجهاض إلا أنها حتى الآن لم تبح استخدام الأجنة.
وقد أباحت بعض اللجان المختصة استخدامها إلى اليوم الرابع عشر من عمر الجنين، وذلك قبل تكوين الشريط الأول الذي يتكون منه الجهاز العصبي، يعتبر تكوين الجهاز العصبي هو بداية للإحساس، وهو بداية لتكوين الإنسان كإنسان فسمحت هذه اللجان، لم تسمح به البرلمانات إلى الآن، لكن سمحت به هذه اللجان، وقدمت تقارير بالسماح به في بريطانيا وفي فرنسا وفي ألمانيا وفي الولايات المتحدة بالسماح به إلى اليوم الرابع عشر، باعتبار أنه من بعد ذلك يتكون الجهاز العصبي، وبما أن الجهاز العصبي هو الذي يشكل الإنسان عندهم وتكوين الإنسان، فمنع ذلك حتى هذه اللجان منعت استخدام الأجنة بعد اليوم الرابع عشر. هل ترمى الأجنة الفائضة قبل تجميدها؟ إذا رميت تبقى هناك خسارة من ناحيتين، ربما تفشل المحاولة أو ربما يحصل إجهاض للمرأة وتأتي تطالب بأجنتها الموجودة فلا تجدها.
ظهر استخدام جديد للأجنة المجمدة وهو استخدامها للعلاج في نقل الأعضاء وبمعالجة بعض الأمراض الأخرى وبما أن الأنسجة الجنينية قابلة للنمو وفي نفس الوقت لا يرفضها الجسم بنفس السرعة التي يرفض بها الأنسجة البالغة والنامية فإن استخدام هذه الأجنة في زراعة الأعضاء، أو معالجة بعض الأمراض يشكل بالنسبة للأطباء فتحا جديدًا في عالم الطب ولكنه أيضا يشكل قضية أخلاقية ودينية شائكة.
اختيار الأجنة: يقوم الطبيب بفحص الجنين المجمد، فإن وجد فيه عيبا أو مرضا استخدمه لأغراض أخرى، وإن لم يجد به عيبا إعاده إلى رحم أمه ربما يخبر الأبوين أن جنس الجنين هذا ذكر أو أنثى فإذا كانا يرغبان في الأنثى يقولان من الأول قبل اجهاضه لا نستعمله فهناك باب لاختيار الجنين المناسب غير الحالات المرضية أيضا ما هو ليس فقط في الحالات المرضية، هناك حالات الزوج والزوجة يرغبان في ذكر فيأتي الجنين أنثى فيقول: لا، لا نريد هذه الأنثى.
أيضا نكاح الاستبضاع الجاهلي قد عاد مرة أخرى حيث تشتري المرأة من بنك المني ما يناسبها من مني رجل اشتهر بالعلم أو غيره، وهذه الصورة واقعة في الغرب ومرفوضة تماما في الإسلام، ونفس الصورة السابقة حيث تؤخذ الحيوانات المنوية من رجل اشتهر بالذكاء والقوة وبويضات امرأة اشتهرت بالجمال والذكاء، ويتم تلقيح هذه البويضات لإنتاج سلالة بشرية ممتازة، وهي نظرية النازية ويمكن أن تباع هذه الأجنة الفاخرة إلى من يريد ويدفع الثمن، وتتعدد الصور التي يمكن أن يتم بها ذلك حيث يمكن أن تحمل هذه المرأة هذا الجنين الممتاز أو ربما تستأجر له رحما أيضا.(3/120)
كل هذه الطرق المختلفة ستؤدي إلى تجارة الأجنة وليس ذلك مستغربا فتجارة بنوك المني والأرحام المستأجرة قائمة على قدم وساق في معظم دول أوروبا والولايات المتحدة وقد وافقت المجتمعات الغربية والقوانين والهيئات الدينية هناك على استخدامات بنوك المني، ولا تزال في جدل حول الأرحام المستأجرة والأجنة المجمدة، يعني استخدام بنوك المني لغير الزوج أو لغير الزوجة مباح هناك في الغرب، وحتى إباحته بالنسبة للمساحقات ويباح هناك في الغرب قانونيا ودينيا أصحاب اللاهوت لا يعترضون على ذلك، تأتي المرأة وتكتفي النساء بالنساء وتذهب وتأخذ إذا رغبت في الولد تأخذ منيا جاهزا من بنوك المني وتحمل وهذا حصل بالفعل في الولايات المتحدة، الآن حوالي ربع مليون طفل لا يعرف لهم أب أصلا، لأنهم أخذوا من بنوك المني هناك أيضا احتمال زيادة الأمراض التي تنتقل عبر المني إذا انتشرت هذه البنوك بأي شكل من الأشكال واحتمال زيادة التشوهات الخلقية حيث تتعرض الحيوانات المنوية والبويضات والأجنة المجمدة لتغيرات كثيرة حيث إنها تبقى فترة خارج بيئتها الطبيعية الفسيولوجية.
المشاكل الاجتماعية والقانونية العديدة الناتجة عن التلقيح الاصطناعي بنوعية الداخلي والخارجي كثيرة هناك مشكلة الأمهات المستعارات، أو الرحم المستعار، ومن تكون الأم أهي التي حملت وولدت أم صاحبة البويضة؟ ومن يكون الأب أهو صاحب المني أو زوج المرأة صاحبة البويضة أم زوج التي حملت وولدت؟ إن التلقيح الاصطناعي لا يحل في الواقع سوى جزء ضئيل ونسبة محدودة من الحالات التي تعاني من عدم الخصوبة والعقم وبثمن فادح ماليا واجتماعيا وأخلاقيا وقانونيا وتؤدي التقنيات الجديدة في الإنجاب إلى إلغاء نظام الزواج بالنسبة لبعض الناس وخاصة لدى الشاذات جنسيا كما أشرت إلى ذلك، كما تؤدي التقنيات الجديدة إلى ما يسمى باختيار السلالة البشرية وقد أشرت إلى ذلك، وفي الحالات التي تستخدم فيها زراعة الخصية بالنسبة للذكر، وزراعة المبيض بالنسبة للأنثى، فإن الحيوانات المنوية في صفتها الوراثية ستعاد إلى صاحب الخصية، وكذلك البويضات ستعود لصاحبة المبيض وبذلك تعود مشكلة اختلاط الأنساب.
مشكلة زرع الأرحام، لا يبدو في نظري أنه سيشكل عقبة أمام الفقهاء إذا كانت من امرأة قد توفيت أو أوصت بالتبرع برحمها، أو أن مبيضها قد أزيل ولم يبق لها إلا الرحم ولا تستطيع أن تحمل إلا باستعارة بويضة من الخارج وهو أمر محرم فتتبرع حين ذاك برحمها لمن تملك المبايض.(3/121)
وهكذا يبدو أن المشاكل الأخلاقية والدينية والقانونية الناتجة من تقنيات الإنجاب عديدة ومتنوعة، وهذه التقنيات الحديثة رغم براعتها لن تحل مشكلة عدم الخصوبة والعقم ذلك لأن أسباب المشكلة لم تحل بل أن الأسباب المؤدية إلى انتشار العقم وعدم الخصوبة تزداد يوما بعد يوم في المجتمعات التي تعتبر متقدمة من الناحية التقنية والطبية.
لهذا فإن الحل الحقيقي يكمن في علاج أسباب العقم وعدم الخصوبة التي تتمثل في الأمراض الجنسية، الإجهاض، استخدام اللولب فإن الإسلام بتعاليمه التي تمنع الزنا والشذوذ، وتمنع الإجهاض، وتمنع استخدام اللولب باعتباره نوعا من الإجهاض المبكر عند المالكية والظاهرية وهم يمنعون الإجهاض المبكر يقدم وسيلة فعالة في إنقاذ ملايين البشر من عواقب الأمراض الجنسية والإجهاض واستخدام اللولب ومن بينها عدم الخصوبة والعقم ولا مانع من استخدام الوسائل الطبية المتاحة في علاج حالات عدم الخصوبة والعقم بشرط ألا تسبب هذه الوسائل اختلاطًا في الأنساب، وألا تلغي بأي حال نظام الزواج والأسرة، وإن تعالج الأسباب الحقيقية.
وبما أن معظم أسباب عدم الخصوبة يمكن الوقاية منها بتجنب الزنا والعلاقات الجنسية مثل: الوطء في المحيض، وإتيان محاشي النساء، وغير ذلك، وتجنب إجراء الإجهاض دون ما سبب طبي قوي، وتجنب استخدام اللولب، إلى آخر ذلك فإن اتخاذ أسباب الوقاية وهي من تعاليم الإسلام الأساسية يؤدي دون شك إلى خفض نسبة المصابين بعدم الخصوبة وبالتالي خفض تكاليف علاجها والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس:
في الواقع إن موضوع طفل الأنابيب أو التلقيح الصناعي، أو إن رأيتم ما يسمى بطرق الإنجاب في الطب الحديث وبمفرداتها التلقيح الصناعي ببعض أساليبه وطفل الأنابيب، وهذا سبق طرحه في مجمع الفقه الإسلامي بمكة وقد استغرق دراسة مستفيضة وكان المجمع توصل إلى تصوير أساليبه وأحواله في سبع حالات، فقرروا بالإجماع تحريم أربع منها ثم حصل خلاف في صور ثلاث وفي دورة ثانية، وكنت فيها عضوا في المجمع رجعوا عن صورة الرحم الأجنبية، أي الرحم الظئر التي هي رحم الزوجة الثانية: أن يؤخذ الماء من ماء الزوج ويجعل في رحم زوجة أخرى، فرجعوا عن القول بالإباحة في هذا وألحقوا بالأساليب التي قرروا القطعية في تحريمها.(3/122)
ومن خلال دراستي لهذا الموضوع فإنه تبين لي يمكن تكييف هذه الأساليب من طريق آخر وهو أننا إذا عرفنا حقيقة الأبوة والأمومة الشرعية، وهي مجموعة الهيئة المتحصلة من ماء الزوجين على فراش الزوجية في رحم الزوجة ذاتها، هذه هي التي بها يحصل المولود الشرعي كما تدل عليه مجموع النصوص وتوالد الجنس البشري، فإنه يظهر في هذا أنه يمكن حصر طرق الإنجاب....
الشيخ مصطفى الزرقاء:
... إن الحالات التي سبق تحريمها فلا مجال للبحث فيها لأنها محرمة وهي جميع الحالات الأخرى بلا استثناء من مختلف الصور التي تفضل الآن الدكتور البار ببيانها والتي تضمنها أيضا وأشار إليها قرار المجمع الفقهي في مكة.
في ضوء ذلك أعتقد أن قرار المجمع الفقهي في مكة لا سبيل إلى الشك في قبوله لأنه لا يتضمن فقط جواز هاتين الحالتين مقيدا ذلك بالضرورة، وقد بينت حالات الضرورة، وفي طليعتها أن تكون المرأة ليس لها أولاد، وبين أن عدم إنجاب المرأة قد يؤدي إلى حالات مرضية فيها نفسية، لأن المرأة: الحمل والولادة والإرضاع قد ثبت طبيبا أنه بالنسبة إليها مثل الزيت للماكينة فبدونه تسوء صحة المرأة من بعض النواحي وتعتريها عوارض، نفسية إلى آخره.
فقرار المجمع الفقهي في مكة تضمن إيضاحات وتضمن تعليلات تضمن قيودا وشروطا، وتضمن مبادئ عامة، أنا أشرت إليها في دورة المجمع الثانية في جدة والتي أجل فيها البحث إلى هذه الدورة، فقد تضمن مبادئ عامة يجب أن تراعى وتطبق، ومن جملتها قضية أن يكون الطبيب امرأة مسلمة فإن لم يوجد فرجل مسلم إلى آخره، فتضمن مبادئ عامة وتضمن شروطا وقيودا، واشترط الضرورة، وبين حالة الضرورة، وحصر الجواز في هاتين الحالتين هي حالة واحدة في الحقيقة لكن لها صورتان، وهذه الحالة الواحدة: أن تكون البذرتان الذكرية والأنثوية من زوجين في زواج قائم، إما أن تلقح تلقيحا داخليا بأن يؤخذ ماء الرجل فيحقن في رحم المرأة كما أشار الدكتور البار، أو أن يجرى: بأن تأخذ البويضة من المرأة الزوجة والحيوان المنوي من زوجها ويجرى التلقيح في الوعاء الاختباري خارجيا ثم في المرحلة المناسبة للرزع في رحم المرأة ويعلق بها فهاتان الحالتان الجواز مطلقا، مع سائر الملاحظات للمبادئ العامة التي فصلت في قرار المجمع في مكة ومع ملاحظات الشروط والضرورات المبين فيه أيضا.(3/123)
أنا أعتقد أنه في هذا الإطار لا مناص من أن نخرج عن الجواز والحل وأن نعود فنقول: لا يجوز لأن هذا أصبح له مشكلاته في الوقت الحاضر كما تعلمون ولا سيما أن الحالات الغير جائزة تمارس في العالم الخارجي على نطاق واسع فيبقى الحرمان المطلق للنساء المحتاجات إلى الإنجاب هذا يبقى مشكلة بعد إجازته في مجمع مكة فأنا أقترح اختصارًا للكلام ودون دخول في تفاصيل، أنا أقترح أن الرأي الذي انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي في مكة أن يتبنى أو أن يقرر جواز تلك الحالتين بنفس الشرائط والقيود والمبادئ العامة التي وضعت فيه والسلام.
الرئيس:
فى الواقع أحب أن أشير إلى أن قرار مكة هو صدر بالأكثرية وإلا فإن هناك عددا من أصحاب السماحة والفضيلة وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز كان من المتوقفين حتى في هذين الأسلوبين الداخلي والخارجي لهذا القسم الأخير، الماء إن كان من الزوجين على فراش الزوجية في رحم الزوجة ذاتها سواء كان داخليا أو خارجيا.
وأحب أن أعيد لفت النظر، إلى أن التلقيح في رحم زوجة أخرى من ماء الزوجين كان مقررا جوازه ثم رجع المجمع عنه في دورته الأخيرة فالذي أرجوه من أصحاب الفضيلة أن يعطوا هذا الموضوع حقه في هذين الأسلوبين الداخلي والخارجي في الصورة الأخيرة، حتى نكون قرارا حكيما ويحصل التحفظ على هذه البنية الإنسانية من أي تلاعب يصل إليها وأما بالنسبة لصوتي في مجمع مكة فإنني رأيت أنه لا يفتى فيه بفتوى عامة على الرغم من أنهم قيدوه بحال الضرورة وقرروا أنه يحف به كثير من المخاطر والمحاذير وأنا قلت: إنه أي المكلف نفسه المبتلى يسأل من يثق بدينه وعلمه، فعلى كل الموضوع مطروح أمامكم والكلمة للشيخ السلامي.
الشيخ المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
ليس تأثرا بالتوجيهات التي وردت من سيادة الرئيس مع احترامنا له ولكن في الواقع عن اقتناع فأنا مقتنع اقتناعا كاملا بأنه لا ينظر إلا فيما وصل إليه مجمع مكة اقتنعت بهذا اقتناعا كاملا ويبقى عندي إثارة ثلاث نواحي:
الناحية الأولى: هو أنه للوصول إلى هذا، أي إلى التلقيح الصناعي سواء كان داخليا أو خارجيا لابد من تلقيح بييضات أكثر من اللازم، وهذه البويضات، وقد أكون متأثرا بالمذهب المالكي، أعتقد أنه في إزهاقها وقتلها أمر مشكل.
ثانيا: استخدام البييضة الملقحة في التطعيم اعتبره كجزء، لأن الحياة أو التطور لم يصل بعد إلى التمام فلم أجد مشكلا فيها بل أعتقد أن البييضة الملقحة ولا بد من زيادة بحث وتعمق، ولكن رأي أولي في التطعيم أو في زراعته عند شخص آخر في بعض أعضائه قد يكون لا مانع من ذلك.(3/124)
القضية الثالثة: وهي أن هذه القضية خاصة يسأل عنها هذا ما لا يقبل بحل لأن اليوم وقد استمعنا أن في المملكة العربية السعودية أصبحت ثلاثة مراكز فالقضية خرجت من الخاصة ومن الخاصيات ومن الأمور المحدودة إلى نطاق واسع ولابد من أن يكون لنا من الشجاعة ما نعطي به حلا لهذه المشكلة.
فما تفضل به فضيلة الشيخ الرئيس من أن التأثير النفسي على هذا الولد الذي هو نتاج التلقيح الصناعي وماذا سيقول له الأطفال.. إلخ، أظن أن هذا كله لا يمكن أن يبنى عليه حكم شرعي، لأنه أمر موهوم، ليست أمورًا حقيقية ولذلك فألخص رأيي أو مقترحاتي:
أولا: أن تكون البييضات الملحقة بمقدار ما يكفي للزرع ولا يزاد عليها، وإن فشل الطبيب فعليه أن يعيد عمله ما ترتب على ذلك حتى لا نقتل هذه البييضات بعد تجميدها.
الأمر الثاني: التعمق أكثر في استخدام الملقحة في التطعيم وفي الزراعة.
الأمر الثالث: عدم اعتبار هذه القضية قضية خاصة وإنما هي قضية عامة باعتبار أن الدول حسب إمكاناتها المادية سائرة في هذا، وشكرًا.
الشيخ رجب التميمى:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى أصحابه أجمعين.
هذه القضية المطروحة علينا الآن هي من أخطر القضايا التي تطرح في المجتمع الإسلامي كرم الله بني آدم، وكرم الإنسان، جعل طريق النسل ونظمها وجعله بين زوجين على فراش الزوجية بالطريق الطبيعي بقيام الرجل لامرأته بدون أن يكون هناك طرف آخر وأن التلقيح بقسميه الداخلي والخارجي بين الزوجين في رحم الزوجة هو صورة من الصور التي أتى بها إلينا الغرب في شططه وفي سيره بالإنسان نحو الحيوانية إنني أرى أن الطريق الطبيعي للولد للنسل هو إتيان الرجل زوجته على فراش الزوجية فإن كان أحدهما عقيما أو الزوجة عقيمة فهذه أراده الله سبحانه وتعالى وليس العقم ضرورة حتى نلجأ إلى صورة وإلى طريق يؤدي بالمجتمع إلى الفساد.
إن من القواعد الشرعية " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح " وإننا نسمع كما أشار الدكتور إلى كثير من المفاسد التي حصلت في المجتمع نتيجة إباحة، أي هذه الصورة الأخرى اتفقنا على أنها حرام، لا أريد أن أتكلم عنها، إن هذه الصورة، إباحتها يفتح شراء مستطيرا في المجتمع الإسلامي والمحافظة على هذا المجتمع تقتضي إغلاق الباب ولا ضرورة ولا غير ذلك من الأشياء التي تؤدي إلى الفساد إن الشخص الذي سيقوم بالتلقيح الداخلي أو الخارجي قد يخرج عن الطريق المستقيم، وقد يغش، وقد يؤتى بفساد نحن في الأرض لسنا ملائكة ولكننا بشر وفينا من يخطئ، وفينا من يخرج عن الطريق، وفينا من يصيب، فالشأن هو أن نمنع حصول أي شيء من الفساد بإغلاق الباب كليا.(3/125)
ولذلك فإنني قد تكلمت وأبديت رأيي في الدورة الثانية وهو مسجل ولي بحث في ذلك وأعود وأقول إن هذه الطريقة أيضا محرمة يجب أن نمنعها كغيرها سدا لباب الفساد ودرءا للمفاسد حتى نخرج بحكم شرعي للعالم الإسلامي نبين لهم فيه أن هذا الباب باب للفساد والإسلام يمنع الفساد ولو بجزئية صغيرة، لأن الفساد إذا أحل اتسع واتسع واتسع، وحينئذ لا يستطيع أحد أن يغلق هذا الباب بعد فتحه واتساعه. وإني أرى أن أطلب من إخواني العلماء وهم القادة وهم أصحاب الحل والعقد بالنسبة للأحكام الشرعية أن يعمقوا نظرتهم إلى ما سيؤول إليه فتح هذا الباب ولو بجزئية صغيرة خاصة وليست عامة والله من وراء القصد والسلام عليكم.
الشيخ عبد السلام العبَّادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
كنت فقط أرغب في التعقيب أو بالإشارة إلى نقطة لكن بعد سماعي إلى كلام فضيلة الأستاذ الشيخ رجب أحب أن أشير إلى الأمور التالية:
الواقع نحن لسنا الذين سنفتح الباب، الباب مفتوح على مصرعيه إن كان في داخل العالم الإسلامي الآن أو في خارجه، وكما أشار فضيلة الأستاذ السلامي هنالك مراكز إنجاب في كثير من بلاد المسلمين فالباب مفتوح وعلينا أن نسارع لوضع الضوابط والاحتياطات الشرعية اللازمة حتى لا تقع المحاذير الشرعية المعروفة والتي لا بد من الحذر منها كيف لا يكون معالجة العقم ضرورة؟ لا أدري كيف يكون ذلك؟
لعل الشخص الذي لم ير الأسر التي تعاني من حالات عقم هو الذي يقول مثل هذا الكلام، إن أسرا كثيرة تنهار بسبب حالات العقم والحاجة للولد {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وعلى المرء زيادة النسل التي حثت عليها الشريعة ودعت إليها بكل الأساليب والصور، الأمور النفسية إلى غير ذلك يعني أنا أستغرب في الواقع الكلام الذي يجعل العقم أمرًا يجب أن لا يتوجه لمعالجته.
النقطة التي أحببت أن أنبه إليها وقد سبقني إليها فضيلة الأستاذ السلامي الذي هو موضوع قتل الأجنة في الواقع يجب أن يكون الحكم الشرعي باستمرار يغطي الواقعة المعروضة بكل أبعادها ولا يصح أن ينظر إلى بعض تفصيلاتها أو نتائجها أو يغفل عن كامل تفصيلاتها.
عملية أطفال الأنابيب كما شرح الأطباء وكما يمكن أن يوضح لنا السادة الأطباء الموجودون تعتمد على تحضير ما يسمى بالأجنة المرشحة تعتمد على الملقحة عند زرعها في رحم المرأة، وهذا قد يخفف قليلا من تحفظ أستاذنا الشيخ رجب، العملية تتم بالطرق الطبيعية يعني لا تتم عملية استنبات الولد خارج رحم المرأة، هي تتم في داخل رحم المرأة، إنما عملية تيسير الزرع في رحم المرأة هي التي يعاجلها طفل الأنبوب " يتبادر إلى الذهن استخدام أطفال الأنابيب كأنما نضع الطفل في أنبوب ثم ننميه وحتى يكبر ثم يخرج وهذا يخفف من قضية الألم النفسي في المستقبل هو لم ينمُ في أنبوب، كل العملية أنه تمت عملية التلقيح خارج الرحم ثم نقلت البويضة الملحقة إلى داخل الرحم، لأن احتمالات النجاح ليست عالية، اضطر الأطباء إلى ترشيح أكثر من جنين فإذا نجحت العملية ما حكم بقية الأجنة؟ قطعا تقتل أو قد تستغل خاصة في الدول التي ليس هنالك ضوابط على هذا الأمر.(3/126)
أذكر زوجين أستراليين قد كانت لهما مجموعة من الأجنة في أحد المختبرات الطبية وماتا، فجاء أقرباء الزوج وطالبا بأخذ أحد الأجنة المزروعة هذه، ووضع في رحم المرأة بعد وفاة الزوجين وجود هذه الأجنة يمكن أن تستغل ويمكن أن تقتل لذلك لا بد أن يضاف قيد جديد على قرار مجمع الفقه التابع للرابطة بأن يحذر من هذه النقطة، وألا يكون هنالك ترشيح لأكثر من جنين، فالقضية تكفي بويضة واحدة ملقحة فإن نجحت العملية كان به، وإلا يمكن أن تعاد العملية حتى لا تقع في محذور قتل الأجنة وخاصة أن لدينا آراء فقهية تقول: إن من لحظة التلقيح تعتبر الحياة موجودة وبالتالي لا يجوز الاعتداء عليها بالقتل فاحتياطا لهذا الأمر لا بد من أن يضاف هذا القيد على ما انتهى إليه مجمع رابطة العالم الإسلامي ولي أيضا تحفظ على قيد " ليس لها أولاد " بل لها ولد واحد، هل يمنع عليها أن تأتي بولد آخر على هذه الطريقة؟ لا أدري لم يمنع عليها هذا خاصة إذا عشنا في ظلال حث الشريعة المستمر على زيادة النسل وتحقيق معنى الإنجاب وخاصة أن الولد له قيمة في إطار الأسرة ليس ولدا واحدا، مجموعة الأولاد، وزيادة النسل أمر مطلوب شرعا فلذلك لا أرى ضرورة لقيد " ليس لها ولد " إنما يجب أن يكون احتياطنا مركزًا على منع اختلاط الأنساب وموضوع قتل الأجنة الذي أضيف من النقاش الذي تم في هذه الفترة، وشكرًا.
الشيخ محمد عطا السيد:
الحمد لله رب العالمين. . اللهم صلى على محمد عبدك ورسولك.
لا شك، نعلم أن العقم من المصائب الكبيرة والأشياء المحزنة جدًا التي تلم بالإنسان سواء أكان رجلا أو امرأة وكما ذكر المتحدث، كثير من الأسر تكون عائشة في حالة حزن وحالة ألم بالنسبة للزوجين وأحيانا الوالدين وكل من يتعاطف معهم من الأقرباء فلذلك أرى أنه نحن في هذا المجمع قطعًا من أهم مهماتنا هنا في المجمع أننا إذا وجدنا طريقة نيسر بها على الناس ونخرجهم من دائرة الهم والحزن والكرب الذي يعيشونه بالذات بمثل هذه الحالات الحساسة هذا يكون من أهم واجباتنا بل نستبشر خيرا إذا وجدنا طريقا ومخرجا في هذه المسائل.
ولذلك أنا أرى أنه بالذات في الحالة التي ذكرها السيد الرئيس بوضوح وهي أن يكون الماء ماء الزوجية والرحم رحم المرأة الزوجة ذاتها فنرى أن هذه الحالة لا شك أننا نقبل تحليل هذه المسألة للتغلب على هذه المأساة الكبيرة التي قد يعيشها الزوج والزوجة، وأرى أن هذا الدين، من مميزات هذا الدين هو احترامه للعلم ودعوته للناس لفتح وسبر غور العلم في جميع المجالات حتى ييسر على الناس جميع أوجه الحياة، ولذلك أرى أنه أبدا ما فيه تعارض بين هذا الدين وبين هذه الاكتشافات العلمية طالما أننا تحرزنا كثيرًا من ألا نمس حرمة فيها لله تعالى.
فلذلك يا سيدي الرئيس أنا أضم صوتي بوضوح لتحليل هذه الحالة الأخيرة التي ذكرناها وهي أن يكون الماء ماء الزوجية والرحم رحم الزوجة نفسها أرى تحليل هذه المسألة، ثم بعد ذلك المسائل التي ذكرها الدكتور في التحفظات التي قد تلي في مثل هذه الحالة، وهي: كشف العورة، التكاليف الباهظة، ونسبة عدم النجاح، إن الحالتين الإثنتين هذه هي حاجة متروكة للناس إذا كانت تكلفتها باهظة يترك للإنسان إذا كان يستطيع أن يقوم بهذه المسألة فبها، وإلا فتترك لحالته أو مساعدة الناس له في هذا المجال نسبة عدم النجاح هذه المسألة قد يتغلب عليها بمرور الزمان وتصبح نسبة عالية وحتى لو كان نسبة منخفضة هذا أيضا لا يدعونا ليكون سببا من الأسباب التي نحرم بها هذه الحالة ولذلك مع تحليلنا لهذه الحالة، السيد الرئيس، أرى أن نذكر أيضا في صياغة هذا الموضوع بموضوع الضرورة القصوى في هذه الحالة ثم أيضا التذكير بوضوح جدا تلافي كل الوسائل الممكنة لعدم كشف العورة وأيضا إذا كان ممكن أن تجرى هذه العملية كما ذكر عن طريق الدكتورة المسلمة ثم بعد ذلك الدكتور المسلم بهذا الترتيب الذي ذكره الدكتور وحتى يحضرني في هذه المسألة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي عملنا إياه " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن " الفقرة التي تليها مباشرة " وأعوذ بك من العجز والكسل" إذا كان في هذه المسألة كما ذكرت هي أكثر المسائل التي تهم الناس وتحزنهم وجدنا مخرجا وتكافينا وتلافينا هذا العجز فلا بأس من ذلك ونحمد الله على ذلك.(3/127)
النقطة الثانية: أرى أنه في رأيي أن نحرم بقية الصور جميعها حتى الصورة الثانية التي ورد فيها التحفظ التي أفتى فيها مجمع الفقه الإسلامي في مكة، ثم رجع عنها أنا كذلك أرى أن هذه المسألة لها خطورة كبيرة وهي أنه قد تؤدي إلى أن المرأة نفسها إذا حملت بهذا الطفل امرأة أخرى ثم وضعت هذا الطفل قد يحصل تنازع عاطفي كبير جدًا بين هذه المرأة التي حملت الطفل وبين المرأة التي زودت هذه المرأة بهذه البويضة، ولذا أرى أنه فيه مسألة حساسة جدًا قد تقود إلى مشاكل علمنا الشرع دائما أن نقفل باب هذه المعضلات وباب هذه المشاكل بالذات في هذه المسائل الحساسة ولذلك أرى تحريم جميع بقية الصور لما فيها من محرمات كاختلاط الأنساب وأيضا تبلور هذه المشاكل كالمشكلة التي ذكرت وأرى تحليل الحالة الأخرى مستبشرين بذلك مساعدين للناس في دينهم ودنياهم، إن شاء الله.
الشيخ عمر جاه:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا فضيلة الرئيس
ومما لا شك فيه أن العقم مرض وأن كل مرض يحتاج للعلاج، ولكني مع ذلك أميل إلى رأي الشيخ رجب التميمي في أننا يجب أن نحتاط وأن لا نتحمس دائما للأفكار التي تردنا من الغرب، ويبدو لي من البداية أن عملية طفل الأنابيب فكرة غريبة على العالم الإسلامي، لا شك في هذا، وإذا رجعنا إلى قرار مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، القرار الذي أجاز حالة واحدة.
وأنا أذهب أبعد من هذا، وأقول: إن هذه الحالة ينبغي أن نقسمها إلى قسمين، فالتلقيح الصناعي الداخلي لا غبار عليه، جيد جائز وجيد، وليس هناك خطر الخطر الوحيد هو في حالة التلقيح الخارجي الذي يتطلب تلقيح ماء الرجل في بويضة من المرأة ما هو الضمان؟ هل عندنا ضمان أن الطبيب الذي يقوم بهذا لا يقوم بأكثر من هذا؟ والبويضات المتبقية هل هناك ضمان أنها لا تلقح بكيفية تجارية أو كيفية تخالف الشريعة الإسلامية وأنا أرى شخصيا أنه حينما استمعنا إلى الدكتور البار في ذكر أسباب العقم، ذكر ثلاثة أسباب، وقد يكون هناك أسباب أكثر، لكن ذكر الإباحية زنا، وذكر استعمال اللولب، وذكر أيضا الإجهاض، فهذه الأسباب كلها يستطيع المسلم المؤمن حقا أن يتجنبها وبقي لنا إذن حالات قليلة لأنه لسبب من الأسباب المرأة تصاب بهذا الداء أو الرجل يصاب بهذا الداء.(3/128)
فهذه الحالة الضيقة في نطاق العالم الإسلامي يمكن معالجتها باستعمال الأسلوب الأول، التلقيح مع رجل مباشرة في رحم امرأته، ونتجنب كل الأشكال المتبقية وإذا وجدنا أننا لا نستطيع لأن الحالة موجودة كما ذهب إليه كل من فضيلة الشيخ السلامي ودكتور عبد السلام العبادي، أن هناك مراكز قائمة في الدول الإسلامية ينبغي لهذا المجمع الموقر أن يصدر قرارا بعدم جواز تلقيح أكثر من بويضة واحدة في الحالة الواحدة، داخلي وخارجي، إذا اضطررنا إلى تبنيه ورأينا جوازه ينبغي أن يصدر عن هذا المجلس أنه في حالة الضرورة وفي حالة الاضطرار إلى استعمال الأسلوب الخارجي ينبغي أن لا يكون هناك تلقيح أكثر من بييضة واحدة في الحالة الواحدة حتى إذا فشلت هذه التجربة كررناها مرة ثانية، وشكرًا سيدي الرئيس.
الدكتور زيد الكيلاني:
أنا رئيس قسم العقم، في الأردن مركز العقم، وعندنا الواقع مركز للتلقيح خارج الجسد وأنا مبسوط كثيرا، وفي هذا المركز للنقاط إلى سأحيكها الآن في ورقتي هذه، وممكن أن تسمعوني في حوالي عشر دقائق.
حضرة رئيس المجلس الموقر.. حضرات العلماء الأجلاء ... بادئ ذي بدء أقدر اهتمامكم بهذا الموضوع الحساس موضوع التلقيح الذي هو من أشد الخطورة والأهمية في وقتنا الحاضر إن من واجبكم التدقيق فيه والتأني في أخذ قراراتكم إن أي قرار خاطئ سواء أكان بالإيجابية أو بالسلبية سوف يكون له أسوأ الأثر وسوف لا يرحمكم التاريخ من إعطاء أكثر مما يلزم أو حرمان البعض مما أحله لهم الله إني وأعضاء فريق في مشروع التلقيح خارج الجسد على اطلاع على قراراتكم التي صدرت في اجتماعكم الأول والثاني بهذا الصدد، وإني وزملائى نحيي مساندتكم لهذا المشروع من حيث المبدأ.
إن من أهم الأسباب التي دفعتني إلى أن أخاطبكم هذا اليوم هو ما لاحظته من عدم تفهم واستيعاب لهذا الموضوع من بعض علمائنا لقد ساءني جدًا أن أقرأ في بعض الصحف وحتى في إحدى الكتيبات تعليقات وشرحًا عن موضوع التلقيح خارج الجسد هي أبعد ما تكون عن الصحة لقد استغربت فعلا من بعض التعليقات والتي كتب معظمها عن سوء فهم ولكن وأؤكد بكل حسن نية لقد تعرض العاملون في هذا التخصص إلى الكثير من الإساءة والانتقادات اللاذعة المؤلمة إلا أنه لم نفضل لغة التراشقات كما حدث في الصحف لأهداف سامية تخدم مصلحة الوطنين العربي والإسلامي.(3/129)
ها أنا ذا اليوم أقف أمامكم وبين أيديكم وتحت تصرفكم مستعدا لتوضيح أية استفسارات في خدمة هذه الأمة.
أود في مطلع حديثي أن أبرز أن اصطلاح " طفل أنابيب " اصطلاح غير علمي ولائق بل ومرفوض ومنتقد من الأوساط العلمية وأرجو أن تستعملوا في كتاباتكم وخطاباتكم الرسمية اصطلاح " التلقيح خارج الجسد "، يتلخص هذا المشروع في أخذ بويضة، وعلى الأغلب من عدة بويضات من الزوجة وتلقيحها خارج جسد الأم، أي في المختبر من الحيوانات المنوية للزوج، تحتضن البويضات المأخوذة مع الحيوانات المنوية في حاضنة خاصة لمدة تتراوح من 40 إلى 72 ساعة فقط فإذا تم تلقيح هذه البويضات عندما تنقل الأجنة إلى رحم الزوجة أما عن الأمصال والمواد والسوائل المستعملة في هذا المجال فكلها معروفة الأصل ولا تتنافى قطعيا مع تعاليم الدين الإسلامي الحنيف دين العلم والمنطق دين الرحمة والإنسانية هذا ولا أريد أن أطيل عليكم الحديث في هذا المجال بتفاصيل تركيباتها إلا أنه لا مانع لدى الفريق من أن يطلعكم على أدق التفاصيل بل ويرحب بزيارتكم للمركز إن كان لأحدكم اهتمام بالموضوع، أما الحالات التي تدعو للعلاج بهذه الطريقة فتتلخص فيما يلي:
حالة الزوجة عندما تكون قناة فالوب عندها مغلقة أو مصابة بعطب.
حالة الزوج عندما تكون الحيوانات المنوية ضعيفة.
أما موضوع الضرة فإني أعتقد أن لا مجال لخلط الأنساب فيه، ويمكن الاستفادة كثيرا من هذا المشروع في دعم روابط الأسرة الإسلامية في حالة وجود ضرة عاقر أما أبعاد المشروع الأردني فهي:
أولا: إنسانية لا يعلم إلا الله مدى العذاب الذي يتعذبه زوج حرم من الإنجاب، أو زوجة مهددة بتهمة عدم المقدرة على أن تكون أما، إن الضغط النفسي الذي ترزح تحته هذه العائلة الخالي بيتها من الأطفال فوق أي وصف وإني كطبيب مهتم بهذا الموضوع أستطيع أن أكتب المجلدات عن مآسي هذه الحالة.
نستطيع أن نحكي عن الموضوع ساعات لكن هذا ملخص انطباعي عن حالات العقم.(3/130)
الحالة الثانية التي تهمنا الحالة الاقتصادية: إن جولاتي التدريبية في الخارج أعطتني فكرة واضحة عن ما تتكبده العائلة المحرومة من الإنجاب من تكاليف السفر والإقامة والعلاج بالإضافة إلى عذابهم النفسي وهو أن تكلفة أي محاولة لأي زوجين لا تنقص عن ألفي دينار أردني بل وقد تزيد عن ذلك بكثير خاصة السفر إلى الولايات المتحدة وإذا لزمتهم عدة مرات وأخذ معه مرافقا واحدا أو أكثر.
نفسية: رغم نفسية المواطن العربي والإسلامي وخاصة أننا نواجه جارا قريبا جدا لا يتردد في استعمال، أي سلاح ليثبط من عزائم هذه الأمة ويشككها في قدراتها، وبالأخص القدرات العقلية، إنه عنيف وعميق في استعمال الأساليب النفسية، إنه يزرع في نفوسنا فكرة عدم المقدرة على مواجهة التكنولوجيا والتقنية الحديثة، ويزعزع من ثقتنا في أنفسنا.
تمتلك إسرائيل في الوقت الحاضر عشرة مراكز للتلقيح خارج الجسد عشرة مراكز، أي تفوق أي مستوى في العالم فوق مستوى أمريكا ومستوى إنجلترا لأن الإحصائيات دلت أن لكل مليون ونصف مركزا واحدا، فإسرائيل وحدها لها عشرة مراكز، وعندما كنت في أحد المؤتمرات علمت وكنت أسمع مناقشة بين اثنين علمت أن الحافز من الإكثار من هذه المراكز في إسرائيل هو إقبال العرب عليهم كما علمت أن كثيرا من إخواننا المصريين ومن الضفة الغربية وتركيا يتوافدون لإسرائيل للعلاج والتكلفة هناك ألفا دولار إن سياسة إسرائيل عميقة ولها ثلاثة أهداف:
(أ) إبراز الإسرائيلي بأنه عبقري ومتفوق على الغير.
(ب) تشكيك المواطن العربي والمسلم بنفسه وبقدرته وجعله ينظر إلى الإسرائيلي نظرة القزم إلى العملاق وزعزعة فكرة المريض بمقدرة الطبيب العربي والمسلم.
(ج) كسب مادي وسوق طبي.
وأما آخر أهداف المشروع الأردني فتح الأبواب الآن وبعد إثبات النجاح أي فتح الأبواب لزملائنا في الدول العربية والإسلامية للتدريب في مركزنا وطبعا دون مقابل، التدريب في الخارج صعب جدا جدا جدا، وصعب الوصول إليه، ومعاملة العربي أو المسلم في الخارج ليست معاملة يهودي لما يطلع يتدرب فإحنا الآن في مركز نستطيع أن ندرب زملاءنا أما توصياتي فتتلخص في:
أولا: الرجاء عدم التصريح بأية معلومات دون فهم الموضوع تماما ومناقشة الجهات العلمية المختصة فيه.(3/131)
ثانيا: التصريح بتجميد الأجنة، وهذا يتطلب الكثير من المناقشة ومن أهمها مدة التجميد، تجميد الأجنة أتصور أنه أمر مهم وحق للمرأة وزوجها.
ثالثا: إعادة النظر في موضوع حمل الضرة لجنين ضرتها.
رابعا: دراسة موضوع زرع الجنين في رحم أم مستعارة يعني الجنين من زوج وزوجة في أم مستعارة.
وأخيرًا آمل إن كان في هذا الحديث إقناع الإخوة المعارضين بأن هذا المشروع أساسي لمجتمعنا وطبعا أمر أحله الله في اعتقادي أن العمل فيه يتطلب الكثير من الجهد الجسدي والتركيز الذهني وأن شبابنا المجندين في هذا المشروع وطبعا شاباتنا، لأن طبعا فيه معنا دكتورات مسلمات كثيرات فالمشروع بحاجة لكل دعم وكل مناخ يسوده الهدوء وللتركيز على عملهم المضني العمل الشاق جدا جدا ونرغب في الدعم، وشكرًا.
الشيخ علي أحمد السالوس:
سبقني إلى ما كنت أريد أن أقوله الأستاذ الدكتور العبادي ولذلك أكتفي بهذا، وشكرًا.
الشيخ أحمد محمد جمال:
أريد في البداية أن أقول، وإن كان قد سبقني الشيخ عمر، أن العقم مرض أو علة أو داء كسائر الأدواء وإن كان هناك عقم دائم وعقم مؤقت فالتلقيح الصناعي هذا هو علاج للعقم المؤقت وينبغي للمسلمين ألا يتخلفوا أو يتأخروا أو يحجموا على علاج العقم كمرض كسائر الأمراض.
الأمر الثاني: هو أننا كما سبق أن قال الشيخ المختار السلامي: إن المسلمين اليوم يواجهون تحديات ومشكلات قوية لابد من مواجهتها بما ينبغي أن يستفيد منه المسلمون عن رضا واختيار لا بمواجهة بالتحريم أو المنع المطلق نحن نعاني من هذا الوضع، هنا مراكز أو مستشفيات لإنجاب الأطفال عن طريق التلقيح الصناعي، وكما قلت إن التلقيح الصناعي هو علاج لمرض، فلماذا نرفض العلاج للمرض؟ ولماذا نرفض هذه المستشفيات أو هذه المراكز العلمية القائمة على علم؟ ونحن لا نريد أن نحل حراما، لكن ينبغي أن نتقبل المحدثات العلمية الجديدة بأسلوب شرعي، على طريقتنا نحن المسلمين، لا نواجه هذه التحديات العلمية بالمنع والتحريم ينبغي أن نستقبلها بما نجده عندنا من وسائل إباحة أو حليِّة.
الأمر الثالث: أريد أن أسأل سيادة أو سماحة الرئيس الشيخ بكر أبو زيد لماذا أباح مجمع الفقه في مكة استخدام الضرة في حمل الجنين ثم حرمه، أنا أرى صواب هذه الحلية أريد أن يتفضل سماحة الرئيس ببيان أسباب الحليِّة أولا ثم أسباب المنع ثانيا.
الرئيس:
حيث إن الذي حضر الموضوع في التحليل والتحريم هو الشيخ مصطفى فأنني أوكل الموضوع إليه.(3/132)
الشيخ مصطفى الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم
إخواني الكرام ...
مجمع مكة في دورته السابعة أباح الحالتين اللتين كنت قدمت في حلهما تقريرا وهما اللتان ذكرتا الآن في التلقيح الداخلي بين الزوجين والتلقيح الخارجي أيضا هناك وهو الشيخ عبد الله العثيمين هو الذي طرح الحالة الثالثة بين الضرتين، وقال: نحن في المجتمع الإسلامي لدينا طريق، وهي تعدد الزوجات، فيا ترى لو أن إحدى الزوجتين رحمها منزوع وضرتها رحمها سليم، والأولى مبيضها سليم فهل ممكن أن تؤخذ البييضة منها؟ أي من الضرة منزوعة الرحم أو المعطل رحمها، وأن تزرع بعد تلقيحها في وعاء الاختبار في رحم ضرتها بحث المجمع هذه النقطة ورأى أنها مبدئيا لا مانع منها باعتبار أن الاثنتين زوجتان لرجل واحد، وهنا تطرق بالمناسبة وبحكم الضرورة إلى نتيجة الولد ونسبه فقرر المجمع أنه في هذه الحالة إذا تم الحمل وولدت الضرة هذا الولد المزروع من بذرة ضرتها يكون نسب الولد الحقيقي لصاحبة البييضة، أي لضرتها وتكون الضرة التي زرع في رحمها الأم المرضعة بالأولوية لأنه أكثر من رضاع هذا ما قرره المجمع إذ ذاك وكان هذا بالإجماع وأحب أن أقول هذا بالنسبة لما تفضل به فضيلة الرئيس من أن قرار المجمع كان بالأكثرية.
هذا كان بالإجماع ووضعت عليه تواقيع الجميع، ولكن بعد ذلك رئيس المجمع فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز بن باز رجع عن رأيه هذا بالنسبة للكل وهذا الرجوع كان بعد انفضاض المجمع ففي السنة اللاحقة وهي العام الماضي وجد من الأعضاء من قدم ملاحظة وكان متحفظا على حالة الضرة في الدورة الأولى، وهو الشيخ رشيد القباني من لبنان، فقال: إنه سمع من بعض الأطباء في لبنان أنه في هذه الحالة ما بين الفترة الفاصلة بين أخذ بويضة من الضرة المعطلة الرحم وتلقيحها ببذرة الزوج في وعاء اختبار ثم زرعها في رحم ضرتها الأخرى، في هذه الفترة من الممكن أن يكون حصل اتصال بين الزوج وبين الضرة التي ستزرع اللقيحة في رحمها.
وفي هذه الحالة إذا نجحت الزراعة وعلقت اللقيحة وولدت، وقد اتصل الزوج بهذه الضرة قبل ذلك، فما الذي يدرينا أن الحمل حصل من اتصال الزوج بالطريق الطبيعي أو أنه لم يحصل منه حمل ولكن الحمل حصل من زرع اللقيحة فهنا يحصل اشتباه وكان الأستاذ الكريم الدكتور البار موجودًا في تلك الدورة فعندئذ لما حصل هذا التشكيك في أمر النسب في هذه الحالة سئل الأطباء الكرام الخبراء وكانوا حاضرين كانوا ثلاثة: أحدهم الأستاذ البار، ومنهم الدكتور الاختصاصي الدكتور عبد الله باسلامة سُئلوا فقالوا فإن هذا الاحتمال وارد نظريا، ولكنه عمليا لا يمكن أن يحصل لأن عملية الأخذ وغيره تحتاج إلى تحضيرات، وتكون المرأة في المستشفى يعني الضرة التي سيجرى لها، يعني هناك تحضيرات كثيرة تمنع اتصال الزوج ثم لا تخرج من المستشفى إلا بعد أن يكون قد أغلق الرحم بعد العلوق فقالوا: عمليا جدا مستبعد أن تحصل وإن كان نظريا ممكن على كل حال من باب الاحتياط المجمع قرر سحب هذه الصورة من الجواز لهذا السبب وليس لشىء آخر غيره هذه خلاصة المسألة.(3/133)
الشيخ رجب التميمي:
لقد أشار إلى أن الباب قد فتح وأن مراكز التلقيح موجودة في السعودية ثلاثة مراكز وقد فهمت أن هنا مركزًا، الأحكام الشرعية لا تبنى على الواقع، إن كان الواقع يأباه الشرع وإنما ينزل الواقع على الأحكام الشرعية فإذن الأحكام الشرعية تمنع وجود الواقع الذي هو موجود يجب أن يمنع أما أن ينزل الواقع دليلا على حكم شرعي وتتأثر الأحكام الشرعية بالواقع الذي يأباه الإسلام، هذا أمر غير وارد هذه نقطة.
النقطة الثانية: أنا لم أقل إن العقم هو ليس ضرورة، قلت: إنه ليس ضرورة بالنسبة للتلقيح لكن العقم هو لا شك أنه ضار ويجب أن يعالج علاجا يكون كعلاج الأمراض الأخرى، العلم يتقدم والعلم كل يوم له أساليبه، ففيه أدوية الآن توصل إليها لعلاج العقم. العقم صحصح أنه ضرر وأننا نعمل على أن نعالجه، لكن لا نعالجه بما يفتح بابا فيه شر على المسلمين، لكن نعاجله بطرق الأدوية، وبالطرق العلمية الحديثة، والعلم يتقدم وأنا أقول كلمة أخيرة: إن مجتمعنا الإسلامي يأبى هذا النوع من النسل ويأبى هذا النوع من الولد، وإن الأسرة قد يكون فيها القيل والقال بالنسبة لطفل التلقيح سواء كان خارجيا أو داخليا، وإني أقول في النهاية: يجب النظر في هذا الأمر بكل دقة تلافيا لما يجلب علينا في مجتمعنا من فساد، وشكرًا.
الشيخ الصديق الضرير:
أرى أنه لا مانع من جواز حالة واحدة فقط، هي ايصال ماء الزوج إلى المكان المناسب من رحم زوجته بالشروط المذكورة في فتوى المجمع مضافا إليها – إلى هذه الشروط - أن يتم ذلك في حضور الزوجين، ومن غير تصرف في ماء الزوج وأنا أضفت هذين الشرطين لكي نمنع أي احتمال للتلاعب في هذه العملية لابد من حضور الزوجين معا حتى نقفل الباب أمام أحد الزوجين للتلاعب ونقفل الباب أيضا أمام الطبيب للتلاعب فبهذه القيود لا أرى مانعا مطلقا. هذه العملية تسميتها " أطفال أنابيب " غير واردة ليست هناك أنبوبة أما باقي الصور فلا أرى وجها لجوازها. وأحب أن أضيف شيئا قليلا عما قاله الأستاذ الزرقاء في إجابته على السؤال في العلة في تحريم أو في منع تلقيح أحد الضرتين بماء الأخرى، زيادة على السبب الذي توصل إليه المجمع ورجع عن رأيه يحضرني مانعان آخران: أحدهما أنه في هذه الحالة نحن نضع ماء امرأة أجنبية في رحم امرأة أخرى هل يجوز هذا؟ صحيح أن ماء الرجل هو الرجل بين الزوجتين لكن إذا اختلط به ماء زوجته ونقلناه إلى ماء الزوجة الأخرى ما العلاقة بين ماء الضرتين هل يصح هذا؟ إذا كان السحاق لا يصح فهذا لا ينبغي أن يكون.(3/134)
ثانيا: وإن قال المجمع: إن النسب يلحق بصاحبة البويضة هذا الحكم لا أوافق عليه بتاتا لأنه ما هو المناط في نسبة الولد إلى الأم؟ هل هو البويضة ماء المرأة؟ أم هو الحمل؟ أم هو الولادة؟ وإن كان الحمل والولادة متلازمين. ما أرجح أنه السبب أو المناط هو البويضة من أين هذا؟ هذه العمليات الثلاثة معا. وقد أضاف إليها الرئيس أن يكون ذلك في فراش الزوجية وبالطريقة الطبيعية لا مانع من هذه هي ملحقة بها فإذا لم يكن المناط هي هذه الثلاثة فإني أرجح أن يكون الحمل والولادة وليس البويضة، لأن القرآن تحديث عن الأم ووصفها بأنها التي تحمل وتضع {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} هذا أولى إذن هذه الطريقة لا توصلنا إلى النتيجة التي نريدها، ولذلك أنا لا أتردد في منع هذه الصور كذلك لا أتردد في منع الصورة التي يكون فيها التلقيح في الخارج لأن هذا كما سمعنا فيها محاذير كثيرة وتعذر قفل باب هذه المحاذير فتبقى على المنع.
الرئيس:
إعادة الشرطين يا شيخ الذي ذكرتهما.
الشيخ الصديق الضرير:
الشرطان النص يقول: إنه لا مانع من إيصال ماء الزوج إلى المكان المناسب من رحم زوجته بالشروط المذكورة في فتوى المجمع مضافا إليها أن يتم ذلك في حضور الزوجين ومن غير تصرف في ماء الزوج يعني لابد أن يؤخذ مباشرة وكما هو يدخل في المكان المناسب من رحم زوجته ثم هذه يا سيدي الرئيس لا أقيدها بضرورة ولا حاجة وإنما يكفي فيها رغبة الزوجين في الولد.(3/135)
الرئيس:
في الواقع إن البحث يكاد يكون منحصرًا الآن في طرق الإنجاب بين الزوجين على فراش الزوجية سواء بأسلوبيه الداخلي والخارجي، ولكن هناك توجهات بعض المشايخ في المنع والمنع البات للتلقيح الخارجي لكن أحب أن أسأل الطبيب البار عن أمرين، وهما مسألة حدوث الخطأ بالعينات ومسألة بقاء النطف أو الاحتمال، فهل هذان الأمران يحتملان كذلك في التلقيح الداخلي أو لا يكونان إلا في التلقيح الخارجي؟
الدكتور محمد علي البار:
سماحة الرئيس ما فهمت السؤال الثاني: بقاء النطف ما تقصدون بذلك؟ تجميد الأجنة.
الرئيس:
نعم تجميد الأجنة أعطيكم إياه من لفظكم لأنه مدون في بحثكم يا شيخ.
الدكتور محمد علي البار:
طيب جزاكم الله خيرًا ... بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة الرئيس ... أصحاب الفضيلة
الحقيقة هناك مسألة حدوث الخطأ في العينات وارد سواء كان بالتلقيح الصناعي الداخلي أو الخارجي، وسواء كان هذا الخطأ خطأ أو متعمدا في الحالتين يمكن أن يكون هذا. والقيود، صحيح والحمد لله لا يزال كثير من الأطباء لا أشك فيهم لأنهم زملائي وهم من أحسن الناس أخلاقا وفيهم ناس على تقوى من الله سبحانه وتعالى، ويقومون بهذه العملية، وأعرف أنهم يأخذون كافة الاحتياطات اللازمة وخاصة الاحتياطات التي ذكرها الشيخ الضرير، هم يأخذونها بالفعل، يعني الدكتور عبد الله باسلامه يقوم بهذا التلقيح الداخلي في الجامعة وغيره من الأطباء بحضور الزوجين، بهذه الشروط التي ذكرها الشيخ الضرير -أمد الله في عمره - ومن غير تصرف بطبيعة الحال في مني الزوج وفي الحال، يعني يطلب من الزوج أن يكون موجودًا وينفذ هذا بالصورة التي أقترحها الشيخ الضرير، وهي صورة لا شك في أنها تضع ضمانات كثيرة جدًا في هذا الباب، لكن إذا فتح هذا الباب، الرقابة في مستشفياتنا معدومة كثير من الأطباء غير مسلمين أصلا عنصر الربح موجود، هذه العناصر كلها لا نستطيع أن ننفيها الرقابة أصلا غير موجودة غير رقابة الله سبحانه وتعالى:(3/136)
هذه هي النقطة الأساسية في هذا الباب، بالنسبة إذا فتح باب بنك المني والاحتفاظ بالمني أو بالنطف، هذا يؤدي إلى احتمالات وجود الخطأ بدون شك، حتى ولو كانت واحدا في الألف، احتمالات وجود الخطأ موجودة مهما كتب عليها الاسم لأن الاسم أحيانا يكتب خطأ، وأخبرني الأخ الدكتور سمير عباس القائم على مشروع أطفال الأنابيب في المملكة العربية السعودية والذي استطاع أن يولد طفلة بهذه الطريقة عنده في مستشفى فقيه بالفعل، ولديه أكثر من عشرين امرأة حاملا بهذه الطريقة، وأطلعني على التفاصيل وجلست معه جلسات طويلة حتى أعرف هذه رغم هذه التفاصيل والاحتياطات وهو رجل فاضل وتخرج من طب الأزهر وعنده ناحية دينية قوية جدا ولا أزكي على الله أحدا، لكن احتمال الخطأ، أعترف بأنها لابد أن تكون موجودة، وإن كانت نادرة وهو يأخذ كافة الاحتياطات. وكان من رأيه أيضا لأخذ احتياطات أن لا يسمح بهذا الإجراء على من هبَّ ودبَّ، أي مستشفى الآن يفتح ويعمل إعلانا، الآن أصبحت بدل مركز ستصبح عشرات المراكز، وتصحيحا للدكتور الكيلاني، في الولايات المتحدة الآن أكثر من 125 مركزًا حسب الإحصائيات الأخيرة، طبعا ليست إسرائيل هي المتفوقة في هذا، وموضوع لا أريد أن ندخل في مناقشة الدكتور كيلاني في التفاصيل إقحامه موضوع إسرائيل لأن الموضوع خارج عن النطاق السياسي مهما كانت الدوافع له.
تأتي النقطة المهمة وهي تجميد الأجنة، نقطة تجميد الأجنة كما يعرف الأستاذ الدكتور الكيلاني وكما يعمل بنفسه، ينبه الطبيب المبيض فيحصل على مجموعة من البويضات هذه البويضات تلقح بماء الزوج في طبق به سائل خاص، وبعد كما ذكر من 40 إلى 76 ساعة أو أكثر أو أقل حوالي ثلاثة أيام، تعاد بويضتان أو ثلاثة إلى الرحم لماذا؟ لأنه عندما كانوا يعدون بويضة واحدة كانت نسبة النجاح حوالي 10 %، طبعا من النسب التي ذكرناها في النسبة الأخيرة من العلوق 10 %، ثم يجهض منها تلقائيا حوالي الثلث فتبقى النتيجة النهائية 3 أو 5 % عندما وضعوا ثلاثة أجنة أو جنينين إذا اصطلحنا على هذا التعبير، بويضات ملقحة ولقائح، زادت نسبة النجاح إلى حوالي 20 أو 30 % يقابلها أيضا زيادة في الحمل الثنائي أو الثلاثي، وإذا وضعوا أربعة يمكن يحصل حمل رباعي، والحمل كلما زاد كلما زادت خطورته بطبيعة الحال كلما زاد عدد الأجنة كلما زاد الخطر على الأجنة وكلما زاد الخطر على الأم أيضا فماذا يفعلون؟ لا يستطيعون إعادة كل هذه الأجنة فيحتفظون بهذه الأجنة الفائضة الأجنة الفائضة فائدتها إذا فشلت المحاولة الأولى أو أن الأم أجهضت بعد أن حملت تكون قد حملت ثم تجهض لأن احتمالات الإجهاض كبيرة أكبر من الشيء الطبيعي، فتجهض، فعندما ترجع مرة أخرى تجد البويضات ملقحة جاهزة ويخفف هذا من الأعباء والتكاليف ويخفف أيضا من الجهد وإدخالها المستشفى إلى كل التكاليف الأخرى الموجودة.(3/137)
ماذا يحدث عندما يتم الحمل من المحاولة الأولى؟ في 30 % ينجح الحمل ماذا يتم في الـ 30 % هذه إذا نجح الحمل هل ترمى هذه الأجنة؟ هل تستخدم للغير؟ هل تجرى عليها الفحوص؟ وإلى أي مدى؟ هذه هي المشاكل التي ينبغي أن تبحث وكان رأي كثير من السادة الفضلاء الأجلاء في تحديد ذلك، وأنهم يأخذون جنينين فقط، هما ذكروا جنينا واحدا لكن جنينا واحدا يبدو لي نسبة كثيرة، لكن لو أخذوا جنينين فقط مباشرة ووضعوها في الرحم بعد ذلك ترمى هذه الأجنة الفائضة، لا يلقح من الأساس غير ثلاث بويضات أو بويضتين من الأساس، ويعديها الطبيب مباشرة، البويضات الفائضة لا يلقحها ولا يأخذ أكثر من اثنتين، يعني أصلا في أثناء الشفط لا يحتاج إلى أن يشفط كل هذا العدد، وإذا حدث أن شفط الطبيب أكثر من بويضتين أو أكثر من ثلاث لا تزال نطفة غير ملقحة ليست لها الحرمة حتى على قول المالكية في هذه الحالة يستطيع أن يستغني عنها بويضة مثل نطفة الرجل وماء الرجل لم يحدث تلقيح بعد هذا الإجراء ربما يكون إجراء وقائيا وجيدا وشرطا طيبا يضعه المجمع في هذه النقطة.
أظن أني أجبت على هذا لكن أرجو ما دام سمح لي بالكلام أن أستمر نقطة واحدة وهي في الحالة الأولى هي موضوع الأول هي المستثني حالة الضرة وإن كان الدكتور الكيلاني أراد أن يقترحه مرة أخرى لكن هذا كما يعلم السادة الفضلاء هناك تلقيح البويضات خارج الرحم، أصبح ليس محصورًا فقط بطفل الأنابيب أو الأنابيب مريضة أصبح الآن، وهذه مشكلة، تكون الأنابيب مفتوحة طبيعية جدًا، ويكون الزوج أيضا طبيعيا تماما مائة في المائة، ولكن ما يحدث هو أحد أمرين إما أن هناك عداء بين مضادات الأجسام الموجودة داخل الرحم أو المهبل فيقتل هذه الحيوانات المنوية ولا يسمح لها بأن تدخل إلى الداخل ثم بالتالي تلقح البويضة أو أن الإفرازات تكون بشكل كثيف يقتل الحيوانات وهذه ينبغي التغلب عليها بصورة من الصور في هذه الحالات حتى الأطباء في المراكز الجيدة الذين يعملون هذه العمليات الأنابيب مفتوحة، ولو حصل تلقيح في الأنابيب أو تلقيح خارجي لزوجة واستخدمت الضرة في هذا – الزوجة الأخرى – ثم أتاها زوجها، لا يوجد مانع أبدا أن تحمل من زوجها لأن الأنابيب أصلا مفتوحة، لا يمنع، فيحدث اختلاطات كثيرة في هذا الباب وأشياء لم تكن مقصودة بحيث أن التيقن لا يمكن في موضوع الضرة إلا بأن يعتزلها اعتزالا تاما حتى يتبين حملها فهذه الحالة الوحيدة.
إذن هذا باب آخر وإن كنتم قد أقفلتم هذا الباب كذلك قال فضيلة الشيخ الزرقاء: إنهم اشترطوا أن لا يكون لديها أولاد مطلقا وفي قرارات المجمع الفقهي السابقة ليس فيها اشتراط بأن لا يكون لديها أولاد مطلقا.
الآن للأسف أصبح تعريف عدم الإخصاب بأنه إذا استمر الزوجان لمدة سنة كاملة بدون أن ينجبوا أطفالا اعتبر هذا حالة عدم خصوبة ويسمح لهم بالتالي أن يذهبوا إلى المراكز والفحوصات فإذا الأسباب الكثيرة الداعية إلى التلقيح الاصطناعي الخارجي، الآن أصبحت متعددة منها الأنابيب مريضة أو مزالة أو قلة الحيوانات في الرجل فقط أو إفرازات عنق الرحم المعادية، أو أسباب مجهولة أو عدة أسباب أصبحت خمسة أو ستة أسباب وكل يوم تتسع القائمة التي تستخدم من أجلها موضوع تلقيح الأنابيب مع أنهم يعترفون تماما بأنه لو مكثت هذه المرأة سنتين أو ثلاثا أو أربعا ربما تحمل حملا طبيعيا دون الحاجة إلى تلقيح الأنابيب أو ما يسمى التلقيح الاصطناعي الخارجي بأي شكل من الأشكال.(3/138)
فإذن هناك استخدامات غير ضرورية هناك نوع من الاستعجال في بعض الأحيان أحيانا تكون المرأة قد حملت وكان لديها ولد أو توفي هذا الولد أو لا يزال لديها ولد وتريد أولاد آخرين ومضى عليها عامان أو ثلاثة وما حملت وأنابيبها ما تزال مفتوحة، ولكن الأطباء يجرون هذا الإجراء لأن قائمة الأسباب الداعية إلى التلقيح الاصطناعي الداخلي أو الخارجي تزداد يوما بعد يوم هذا ما أحببت أن أورده على أصحاب الفضيلة ليروا رأيهم في هذا الموضوع.
الرئيس:
شكرًا، سؤال بسيط وأرجو أن يكون الجواب قليلا كذلك وهو قضية حدوث الخطأ في العينات في التلقيحين الداخلي والخارجي هل هي متساوية النسبة تقريبا أو يكون الخارجي أكثر؟
الدكتور محمد علي البار:
حدوث الخطأ في الداخلي إذا تم بالشروط التي ذكرها الشيخ الضرير وهي التي تقام وتستخدم حاليا كما أعلم في مراكز المملكة العربية السعودية أعتقد أن نسبة الخطأ فيها ضئيلة جدا جدا جدًا هذا الداخلي أما في الخارجي فهي احتمال، فنتائج احتمالها أكثر لأنها تبقى أياما.
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
لا شك أن إخواننا العلماء يظهرون جيدًا أننا في خطب الزواج أو النكاح نقول " تناكحوا تكاثروا فإنني أباهي بكم الأمم يوم القيامه " فإذن الزواج كأنه مشروع من هذا الكلام لأجل النسل والنسل مطلب شرعي وهو دعاء الأنبياء كم كانت المنة على نبي أنه رزق بعد أن لم يكن منجبا وتبادر لي من الآيات الكريمات معنى قوله تعالى {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} وكأن الجعل هنا متميز عن الخلق فالخلق لا تغيير فيه ولكن الجعل قد يتغير {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} لم تكن موجودة فوجدت وإذا طلق خرجت المودة والرحمة إذن الآية تشير هنا إلى أن هذا الأمر ليس أمرا يخالف أو يعارض القدرة الإلهية أو القدر الإلهي، إن الجعل لم يكن فكان وربما يرتفع أيضا إذن هذا توجه.(3/139)
توجه آخر، العلم كل الذي فعله أنه طور أسلوب العلاج والناس يطلبون العلاج منذ عرف الناس الزواج إذن هذا العلاج هو أسلوب متطور ومع هذا الأمر نعرف توجه الشريعة لحماية الحمل أولًا والنسب ثانيا عندما نرى أن مدة الحمل عند بعض الفقهاء سنتين وأقلها ستة أشهر، وهذا أمر معروف إذن هنا يتوجه الإسلام لحماية النسب ولحماية الحمل في نفس الوقت أيضا.
فمع هذا الأمر إذن هنالك حالتان: التلقيح الداخلي هذا أظن لا مانع فيه، التلقيح الخارجي يمكن شيء من التوقف لمزيد من الضمانات الطبية والله أعلم والسلام عليكم.
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين
الحقيقة ما دام في مجمع الفقه في مكة بحث الفقهاء هذا الأمر ووصلوا فيه إلى نتيجة معينة، وهي النتيجة الأخيرة بعد إضافة الشرطين اللذين أضافهما الصديق الضرير، لأنه إذا أخذنا باليسر في الأمور الاقتصادية ووقعنا في خطأ ممكن تلافي هذا الخطأ، ولكن إذا وقعنا في خطأ في الأمور النسبية فكيف نتلافى هذا الخطأ.
ثم عندنا باب سد الذرائع، ثم مهما كان الإنسان يريد أن يأخذ من الاحتياط، الإنسان إنسان، ومعرض للخطأ، ومهما بلغ العلم من الدقة فالدقة هذه أيضا معرضة للخطأ، وأنا أمامي أخذ دم إنسان لفحصه ثم جاءت الممرضة ووضعت على هذا الدسم اسم شخص آخر خطأ، مجتهدة ليس متعمدة، نحن لا نتهم الأطباء ولا نتهم في الحقيقة العلم، ولكن أيضا يجب علينا أن نبتعد والحقيقة، هذا التيسير في الأمور الاقتصادية إذا كان ينبغي نمتد في التيسير إلى الأمور الاجتماعية والنسبية ربما حصل عندنا خط رجعة، لأن أمورنا ونرى تلذذا في الوقوف على النصوص وعدم التطاول في الحقيقة في مثل هذه الأمور، فالمسألة خطيرة.
ثم إن الأمة الإسلامية عليها أن تتقي الله في نفسها عندها رجال أسوياء يقاتل بعضهم بعضا، ونروح نركض على الأنابيب فلنتق الله في أنفسنا ونحفظ أمتنا الإسلامية، نحافظ عليها وعلى كيانها، ولعل المحبة تسود فيما بينها فأنا في الحقيقة في رأيي أن نتحوط كثيرا وأن الإنسان المريض في مثل هذا يحتسب الأجر أمام الله سبحانه وتعالى، لأنه هو الذي جعله عقيما ما هو الذي جعل نفسه عقيما وفي الحقيقة أرى أن من باب سد الذرائع: أن نقف كثيرا في هذا الأمر ولا نسمح في التلقيح الخارجي وأما ما ذهب إليه الفقهاء في مكة مع زيادة الشرطين اللذين أضافهما الأستاذ الصديق الضرير.
الرئيس:
ما ذهبوا إليه بالأكثرية.
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
نعم بالأكثرية ذهبوا إليه وليس بالإجماع هذه مشكلة كبيرة في الحقيقة، يعني يجب علينا أن نحذر لأن الأنساب، الأمر خطير فيها، وشكرًا لكم.(3/140)
الشيخ المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم
لا شك أنها حساسية القضايا التناسلية هي حساسية خاصة عند الجميع. ولكن إذا ما أخذنا بميزان الشرع فاننا نجد أن حفظ النفوس وحفظ النفس البشرية هو مقدم في المرتبة من قبل. واليوم تجري في المخابر التحليلات التي تتوقف عليها حياة الإنسان، وأنا أعرف صديقا لي رحمة الله عليه ذهب إلى مخبر التحليل وكان في إغماء فأعطى مخبر التحليل أنه عنده 0.5 من السكر، فأخذ الطبيب شيئا من السكر وأعطاه فمات، لأن القضية هي قضية 5 ما هي 0.5 لكن الراقمة أخطأت فهل نقول: إنه بناء على هذا الخطأ الاحتمالي الذي يقع نمنع تحليل الدم، فاحتمال الخطأ لو أخذنا الاحتمالات البعيدة لتعطل الإنسان في الحياة. هو يخرج من بيته لعله يصدم في سيارة فيموت فعليه ألا يخرج لأنه معرض حياته للخطر، والاحتمالات قائمة من احتمالات الخطأ وأنا أسأل الدكتور البار هو أن احتمال الخطأ كم نصيبه في هذه القضية؟ فعلينا ألا نهول الاحتمالات أكثر من اللازم. وأعتقد أن ما ذهب إليه القرار الفقهي في مكة قد أخذوا الاحتياطات اللازمة. وشكرا.
الدكتور محمد علي البار:
احتمالات الخطأ في الواقع ضئيلة بالنسبة للتلقيح الداخلي إذا كانت الزوجات موجودات فالاحتمالات تكاد تكون منعدمة. بالنسبة للتلقيح الخارجي وبقاء النطف إذا انتشرت، وطبعا كثرت هذه المراكز، وصار الطبيب عليه عنده أكثر من عشرين مريضة وعشرين مريضا، احتمالات الخطأ واردة مثل ما هي موجودة بالنسبة للمختبر العادي، العشرين عينة، كذلك احتمالات الخطأ موجودة ما أستطيع أن أحدد النسبة ولكنها نادرة، وموجودة. هذه النسبة موجودة مثلها مثل تحليل الدم مثلها مثل أي تحليل آخر موجود، ويحدث كل يوم في المختبرات لكن هذه التحاليل الأخرى قد يتعلق بها في بعض الأحيان النادرة حياة إنسان إنما في الغالب الطبيب يستطيع أن يميز على حسب حالة الشخص ونادر جدا أن يقع فيها خطأ يؤدي بحياة إنسان ويمكن المراجعة فيها.
أما احتمالات الخطأ في شيء يسبب اختلاط الأنساب يحتاج إلى إعادة نظر وإلى التروي فيه، يعني الشيئين مختلفين قليلا، فيه اختلاف بين الاثنين، اختلاف في تحليل الدم هيموجلوبين مثلا بدل ما يكتب 10 كتب 1 جرام، طبعا الطبيب يستطيع بنظره أن يعرف أن هذا خطأ ويستطيع أن يراجع في هذه المسألة ويطلب التحليل مرة أخرى، لكن إذا لقح المرأة بماء غير زوجها، الخطأ فيها صعب جدا يعني يقوم بعملية إجهاض إذا عرف أن هناك خطأ حدث فلا بد كإجراء وقائي أن تسمحوا له بالإجهاض.(3/141)
الرئيس:
شكرا.. بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من خلال المناقشات التي دارت في موضوع طرق الإنجاب بأنواعه وأساليبه فإنه قد توصل مجمعكم هذا إلى ما يلي:
أولا: التثنية على قرار مكة الأخير بجميع الصور التي أفتى بتحريمها.
ثانيا: ما يتعلق بالتلقيحين الداخلي والخارجي الذين يقعان بين الزوجين على فراش الزوجية في رحم الزوجة ذاتها، فإنه بالنسبة للتلقيح الداخلي في هذه الصورة يظهر الاتجاه العام إلى الجواز تثنية على قرار مجمع مكة.
وأما بالنسبة للتلقيح الخارجي فإنه يظهر أنه الأكثرية، لكنني تحوطا أرجو من أصحاب الفضيلة الذين يرون المنع الإشارة تفضلا بأيديهم. من الأعضاء العاملين. الشيخ رجب، الشيخ الضرير، الشيخ عيسى، الشيخ إبراهيم.
الشيخ عبد السلام العبادي:
أرجو يا سيادة الرئيس التوضيح بالضبط المقصود بالتلقيح الخارجي.
الرئيس:
التلقيح الخارجي، ذكرت إن كان بين الزوجين فواضح هذا. التلقيح الخارجي والمراد التلقيح الذي يقع بين الزوجين على فراش الزوجية في رحم الزوجة ذاتها ذات البويضة، ولكنه لا يكون تلقيحا داخليا وإنما يكون تلقيحا خارجيا، أما التلقيح الداخلي فالاتجاه العام على الجواز، ولكن التلقيح الخارجي في هذه الصورة فإنني أرجو من أصحاب الفضيلة في الصف الأيمن الذين لا يرون الجواز الإشارة تفضلا بأيديهم.
الأمين العام:
كلمة " الخارجي " هذه حتى نكون على بينه، يراد بها المخبري الذي يوضع في المخبر وينقل إلى رحم المرأة.
الرئيس:
نعم هو هذا، هو المخبري، لكن الاصطلاح الطبي عليها أو الجاري ولذلك الدكتور زيد الكيلاني يقول: أرى أن يقال في هذه الأنواع: التلقيح خارج الجسد، فالاصطلاح سائد.
الشيخ عبد السلام العبادي:
يا سيدي ما هذا الذي أقره مجمع مكة؟
الرئيس:
نعم هو أقره، هنا اختلفوا.. الشيخ هارون خلف جيلي، الشيخ عمر جاه الشيخ عمر كذلك.
الشيخ عمر جاه:
لا.
الرئيس:
المهم أن الذين لهم الخلاف هم سبعة: الشيخ إبراهيم، الشيخ الضرير، الشيخ رجب، بناء على الأصل الشيخ أبو بكر، الشيخ هارون، الشيخ آدم وبهذا تكون الأكثرية على الجواز يبقى شيء واحد هل أصحاب الفضيلة الذين يرون الجواز لديهم إضافة شروط عما تضمنه قرار مكة؟(3/142)
الشيخ عمر جاه:
طبعا يا فضيلة الشيخ تذكرت أنني اشترطت أن أقبل التلقيح الخارجي بشروط أنا قلت حينما تدخلت أخيرًا قلت: إن الخارجي أقبله أو أقبل الخارجي بشروط، وتفضل الشيخ الضرير وأنا أضيف صوتي إلى ما ذهب إلى أنه ينبغي أن نحدد البويضات التي تستغل أو تستعمل في حالة واحدة، يعني لا نترك للطبيب أية فرصة أن يحتفظ ببويضة أكثر من بويضة واحدة تحتاجها العملية.
الرئيس:
شكرًا، أما العبد الفقير فأنا أبدي توقفا في هاتين الصورتين وبهذا ترفع الجلسة وستكون إن شاء الله نعود في الساعة الخامسة.
الشيخ خليل الميس:
سيادة الرئيس أنا عندي توقف في الثانية ولست موافقا قلت: توقفا في الثانية.
الشيخ عبد السلام العبادي:
يا سيدي بالأكثرية.
الرئيس:
إذن صوتوا ثمانية وأنا واحد تسعة مقابل خمسين.(3/143)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (4) د 3 / 07 / 86
بشأن أطفال الأنابيب
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهامشية من 8 إلى 13 صفر 1407 هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986.
بعد استعراضه لموضوع التلقيح الصناعي "أطفال الأنابيب" وذلك بالاطلاع على البحوث المقدمة والاستماع لشرح الخبراء والأطباء.
وبعد التداول:
تبين للمجلس:
أن طرق التلقيح الصناعي المعروفة في هذه الأيام هي سبع:
الأولى: أن يجرى تلقيح بين نطقة مأخوذة من زوج وبييضة مأخوذة من امرأة ليست زوجته ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته.
الثانية: أن يجرى التلقيح بين نطفة رجل غير الزوج وبييضة الزوجة ثم تزرع تلك اللقيحة في رحم الزوجة.
الثالثة: أن يجرى تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متطوعة بحملها.
الرابعة: أن يجرى تلقيح خارجي بين بذرتي رجل أجنبي وبييضة امرأة أجنبة وتزرع اللقيحة في رحم الزوجة.
الخامسة: أن يجرى تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى.
السادسة: أن تؤخذ نطفة من زوج وبييضة من زوجته ويتم التلقيح خارجيا ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة.
السابعة: أن تؤخذ بذرة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها تلقيحا داخليا.
وقرر:
أن الطرق الخمسة الأول كلها محرمة شرعا وممنوعة منعا باتا لذاتها أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة وغير ذلك من المحاذير الشرعية.
أما الطريقان السادس والسابع فقد رأى مجلس المجمع أنه لا حرج من اللجوء إليهما عند الحاجة مع التأكيد على ضرورة أخذ كل الاحتياطات اللازمة.
والله أعلم(3/144)
أجهزة الإنعاش وحقيقة الوفاة
بين الفقهاء والأطباء
لفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد، فهذا بحث في: نازلة الإنجاز الطبي الحديث في: حال المريض تحت جهاز الإنعاش وحقيقة الوفاة بين الطب والفقه، ليس لي فيه فضل سوى الجمع والترتيب في مباحثه الخمسة وهي:
المبحث الأول في: التصور لأجهزة الإنعاش.
المبحث الثاني في: حقيقة الوفاة عند الأطباء، وعلاماتها.
المبحث الثالث في: حقيقة الوفاة عند الفقهاء، وعلاماتها.
المبحث الرابع في: حالات المرض تحت الإنعاش.
المبحث الخامس في: التكييف الفقهي لهذه النازلة.
وإلى بيانها والله الموفق.
المبحث الأول: التصور لأجهزة الإنعاش (1)
- أجهزة الإنعاش.
- أجهزة الإنعاش المعقدة.
- العناية المكثفة.
- العناية المركزية.
- إبقاء آلة الطبيب.
كلها أسماء لمسمى واحد ومن مفرداتها:
- جهاز التنفس الصناعي.
- جهاز مانع الذبذبات.
- جهاز التنظيم لضربات القلب.
- العقاقير.
- مجموعة الأطباء المدربة ومساعديهم.
حقيقة الإنعاش:
إذا أصيب شخص بتوقف القلب أو التنفس نتيجة لإصابة الدماغ بصدمة مثلًا، الذي به مركز التنفس، أو إصابته بأي عرض آخر كغرق أو خنق، أو مواد سامة، أو جلطة للقلب، أو اضطراب في النبض.. فإنه يترقب الأمل بإنعاش ما توقف من دقات قلبه أو تنفسه إذا أدخل في غرفة الإنعاش "العناية الطيبة المكثفة" بوسائلها الحديثة كالمنفسة (جهاز التنفس) ونحوه.
__________
(1) أجهزة الإنعاش للبار: 4، 7، وكتاب الحياة الإنسانية/ بداياتها ونهاياتها طبع المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، المذكرة السعودية من وزارة الصحة في المملكة العربية السعودية والتي تم إعدادها من عدد من الأطباء السعوديين(3/145)
المبحث الثاني: حقيقة الموت عند الأطباء أو: نازلة موت الدماغ (1)
وبحثها في الفقرات التالية:
1- تاريخها.
2- تكوين الدماغ.
3- المفهوم الطبي لموت الدماغ.
4- علامات موت الدماغ.
وبيانها على ما يلي:
1- تاريخها:
إن أول من نبه إلى موضوع موت الدماغ هو: المدرسة الفرنسية عام 1959م فيما أسمته "مرحلة ما بعد الإغماء " ثم أعقبتها المدرسة الأمريكية عام 1968م، وأخذت الأبحاث بعد تتسع وتنتشر مبينين عدة أبحاث وهي: تكوين الدماغ، ومفهوم موته، وعلاماته، والخلاف بين الأطباء في كون: موت الدماغ نهاية للحياة الإنسانية، إذ عقدت لهذا مؤتمرات وندوات ومنظمات.
2- تكوين الدماغ:
يتكون الدماغ من أجزاء ثلاثة هي:
المخ: وهو مركز التفكير، والذاكرة، والإحساس.
المخيخ: ووظيفته توازن الجسم.
جذع المخ: وهو المركز الأساسي للتنفس والتحكم في القلب، والدورة الدموية.
__________
(1) هذا المبحث مستخلص من: مبحث البار، ومن بحوث الأطباء في كتاب: الحياة الإنسانية(3/146)
3- مفهوم موت الدماغ:
هو توقفه عن العمل تمامًا وعدم قابليته للحياة.
فإذا ما مات المخ أو: المخيخ من أجزاء الدماغ: أمكن للإنسان أن يحيا حياة غير عادية وهي: ما تسمى بالحياة النباتية.
أما إذا مات "جذع الدماغ " فإن هذا هو الذي تصير به نهاية الحياة الإنسانية عند أكثر الأطباء على الصعيد الغربي.
ويمكن حصر خلاف الأطباء في ذلك على رأيين:
الأول: الاعتراف بموت جذع الدماغ: نهاية للحياة الإنسانية بدلًا من توقف القلب والدورة الدموية.
الثاني: عدم الاعتراف بموت الدماغ: نهاية للحياة الإنسانية.
فيكون الشخص محكومًا بموته على الرأي الأول دون الثاني.
4- علامات موت الدماغ "جذع المخ".
هي على ما يلي:
(أ) الإغماء الكامل.
(ب) عدم الحركة.
(جـ) عدم التنفس بعد إبعاد جهاز المنفسة.
(د) عدم وجود أي انفعالات منعكسة.
(هـ) عدم وجود أي نشاط كهربائي في رسم المخ بطريقة معروفة عند الأطباء.
ويشير الطبيب أحمد شوقي إبراهيم إلى ظنية بعض هذه العلامات فيقول كما في: كتاب الحياة الإنسانية ص/ 376:
" ما هي علامات موت المخ؟: ليس لدينا من العلم في ذلك إلا رسم المخ الكهربائي وهو قطعي في بعض الحالات، ولا يكون كذلك في بعض الحالات، كحالات التسمم بالأدوية المنومة مثلًا" ا. هـ.
وفيه أيضًا في مبحث فقهي للأستاذ/ توفيق الواعي ص/ 484 قال:
"ركز القائلون بالموت إذا فقد المخ الحياة على فقدان الشعور، وهذا لا ينهض دليلًا على الموت وإلا كان المجنون والمغمى عليه والمشلول ميتًا، وهذا ما لم يقل به إنسان إلى اليوم " أهـ.(3/147)
المبحث الثالث: في حقيقة الموت عند الفقهاء وعلاماته.
حقيقة الموت عند الفقهاء:
الموت يراد به: المنية، المنون، الأجل، الحمام، السام، ونحوها كانقطاع الوتين، وانقطاع الأبهر، جميعها أسماء لمسمى واحد هو: مفارقة الروح البدن.
وهذه هي حقيقة الوفاة عند الفقهاء وتكاد كلمتهم تتوارد على هذا، ولم يتم الوقوف على خلافه في كلامهم من أنه مفارقة الروح البدن.
والروح قال الله تعالى في شأنها: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} فأوقف العقل عند حده وأتى على الروح بخبر لا يمكن نقضه، هذا على أحد التفسيرين للآية.
ولهذا قال البعض: لا يجوز الكلام في الروح لأنه مما استأثر الله بعلمه كما في هذه الآية، والذي عليه الأكثرون الجواز فقالوا: الروح جسم نوراني لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأخضر، قال الله تعالى {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} وفي أخرى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} والنفخ لا يتحقق إلا في جسم لطيف كما في كتاب أصول الدين للبزدوي ص/ 222.
وقد جاء حديث عظيم النفع جليل القدر وهو حديث: البراء بن عازب رضي الله عنه الطويل المشهور بطوله في مسند أحمد رحمه الله تعالى، والذي جمع طرفه الدارقطني في جزء مفرد، وبسط ابن القيم القول فيه سندًا ومتنًا في كتاب: الروح.
قال البراء رضي الله عنه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر إلى أن قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن قبض روح المؤمن: ((فتخرج نفسه تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها ملك الموت)) ، الحديث، وأما الكافر فقال: ((فينتزعها كما ينزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها)) الحديث.(3/148)
وفي سورة الحاقة قال الله تعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} قال المفسرون: "الوتين: نياط القلب، أي لأهلكناه وهو: عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه، قاله ابن عباس وأكثر الناس" أهـ، من تفسير القرطبي 18/276 وذكر أقوالًا بمعناه.
وفي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته من: صحيح البخاري في: كتاب المغازي 8/ 131:
قالت عائشة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: ((يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم)) أهـ.
قال الحافظ ابن حجر في: الفتح 8/ 131:
"قال أهل اللغة: الأبهر، عرق مستبطن بالظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه، وقال الخطابي: يقال إن القلب متصل به" أهـ.
والأبهر في اصطلاح الطب الحديث باسم "الأورطي" وهو شريان يندفع منه الدم إلى الدماغ وبقية أعضاء الجسم كما في بحث: البار ص/ 8، 9.
وفي إحياء علوم الدين للغزالي 4/ 493 نص مهم ترجمه بقوله: الباب السابع: في حقيقة الموت، وما يلقاه الميت في القبر إلى نفخة الصور، ثم قال: بيان حقيقة الموت:
"اعلم أن للناس في حقيقة الموت ظنونًا كاذبة قد أخطئوا فيها" فذكرها وأبطلها ثم قال:
"وكل هذه ظنون فاسدة ومائلة عن الحق بل الذي تشهد له طرق الاعتبار وتنطلق به الآيات والأخبار أن الموت معناه: تغير حال فقط، وأن الروح باقية بعد مفارقة الجسد إما معذبة وإما منعمة.
ومعنى مفارقتها للجسد: انقطاع تصرفها عنه بخروج الجسد عن طاعتها، فإن الأعضاء آلات للروح تستعملها حتى أنها لتبطش باليد.. إلى قوله: والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها، وكل الأعضاء آلات والروح مستعملة لها، إلى أن قال: "نعم لا يمكن كشف الغطاء عن كنه حقيقة الموت إذ لا يعرف الموت من لا يعرف الحياة.." أهـ.
وعند قول الطحاوي في "عقيدته": " ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين" قال شارحها ص/ 446 في مبحث: هل تموت الروح أو لا؟ "والصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها.. أهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية 4/ 223:
"قد استفاضت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الأرواح تقبض وتنعم وتعذب، ويقال لها: أخرجي أيتها الروح الطيبة أهـ.(3/149)
الخلاصة:
فمن مجموع ما تقدم نستخلص ما يلي:
1- أن حقيقة الوفاة هي: مفارقة الروح البدن.
2- وأن حقيقة المفارقة: خلوص الأعضاء كلها عن الروح، بحيث لا يبقى جهاز من أجهزة البدن فيه صفة حياتية.
أمارات الوفاة عند الفقهاء
ثبت في صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الروح إذا قبض أتبعه البصر)) .
وفي حديث شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرًا؛ فإنه يؤمن على ما يقول أهل الميت)) رواه أحمد.
فشخوص بصر المحتضر علامة ظاهرة على قبض روحه ومفارقتها لجسده.
والفقهاء - رحمهم الله تعالى - يذكرون العلامات والأمارات الظاهرة التي بموجبها يحكم بموت المحتضر كما في: حاشية ابن عابدين 1/ 189، والفتاوى الهندية 1/ 154، ومختصر خليل 1/ 37، وروضة الطالبين: 2/ 98، وشرح المنهاج: 1/ 322، والمغني 2/ 452، ومنتهى الإرادات 1/ 323.
وجماع ما ذكروه من العلامات هي (1)
1- انقطاع النفس.
2- استرخاء القدمين مع عدم انتصابهما.
3- انفصال الكفين.
4- ميل الأنف.
5- امتداد جلدة الوجه.
6- انخساف الصدغين.
7- تقلص خصيتيه إلى فوق مع تدلي الجلدة.
8- برودة البدن.
__________
(1) وانظر بحوثا في كتاب: الحياة الإنسانية: 430، 475-476(3/150)
وبالجملة فالحكم بالموت بانعدام جميع أمارات الحياة.
والملحوظ في هذه الأمارات أنها أدلة وظواهر تدرك بالمشاهدة والحس ويشترك في معرفتها عموم الناس.
تنبيه:
ويضيف النووي في روضة الطالبين 2/98 نصا مهما عند الشك فيقول: "فإن شك بأن لا يكون به علة، واحتمل أن يكون به سكتة، أو ظهرت أمارات فزع أو غيره: أخر إلى اليقين بتغير الرائحة أو غيره" أهـ.
الخلاصة الجامعة للأبحاث المتقدمة:
1- أن أجهزة الإنعاش: إنجاز طبي مهم في حياة الإنسان.
2- أن حقيقة الموت عند الأطباء هي: موت جذع الدماغ.
3- أن حقيقة الموت عند الفقهاء هي: مفارقة الروح البدن.
4- أن للموت علامات وأمارات عند الفقهاء وأخرى عند الأطباء، وأن هذه العلامات من الجائز تخلفها عند الفقهاء وعند الأطباء.
واعلم أن الأطباء مع الفقهاء في الحكم على عامة الوفيات بالوفاة بمفارقة الروح البدن، والبحث لدى الأطباء بالحكم بنهاية الحياة الإنسانية بموت "جذع الدماغ " هو في الحالات التي تدخل تحت جهاز الإنعاش، لهذا فإن البحث يعني في حدود حالات ضيقة وهي: "ما يدخل تحت جهاز الإنعاش " لا غير، فإلى بيانها:
المبحث الرابع:
حالات المريض تحت جهاز الإنعاش.(3/151)
قرر الباحثون من الأطباء والعلماء حصر أحوال المريض في: غرفة الإنعاش في صور ثلاث:
الصورة الأولى:
عودة أجهزة المريض من التنفس، وانتظام ضربات القلب و.. إلى حالتها الطبيعية.
وحينئذ يقرر الطبيب: رفع الجهاز، لتحقق السلامة وزوال الخطر.
الصورة الثانية:
التوقف التام للقلب والتنفس، وعدم القابلية لآلة الطبيب.
وحينئذ يقرر الطبيب موت المريض تمامًا بموت أجهزته من الدماغ والقلب، ومفارقة الحياة لهما.
فحينئذ يقرر الطبيب، رفع الجهاز لتحقق الوفاة.
الصورة الثالثة:
فيها قيام علامات موت الدماغ من: الإغماء، وعدم الحركة، وعدم أي نشاط كهربائي في رسم المخ بآلة الطبيب، لكن بواسطة العناية المركزة وقيام أجهزتها عليه: كجهاز التنفس، وجهاز ذبذبات القلب، و.. لا يزال القلب ينبض، والنفس مستمر.
وحينئذ: يقرر الطبيب موت المريض بموت جذع الدماغ مركز الإمداد للقلب، وقرر أنه بمجرد رفع الآلة عن المريض يتوقف القلب والنفس تمامًا.
المبحث الخامس:
التكييف الفقهي لهذه النازلة.
أما في الصورتين الأولى والثانية، فلا ينبغي الخلاف برفع جهاز الإنعاش لسلامة المريض في الأولى، وتحقق موته في الثانية.(3/152)
وأما في الصورة الثالثة: فهي محل البحث والنظر في هذه النازلة، وعليها ترد الأسئلة الثلاثة الآتية:
1- ما حكم رفع جهاز الإنعاش؟
2- ما حكم نزع عضو منه كالقلب ونحوه – وهو تحت الإنعاش - لحي آخر؟
3- هل تنسحب عليه أحكام الميت من التوارث وغيره، في هذه الصورة التي تحقق فيها موت جذع الدماغ، وقيام نبضات القلب والتنفس تحت الأجهزة الآلية؟
هذه هي الأسئلة الثلاثة الواردة حالًا على هذه النازلة.
وبعد التصور الطبي لها مستخلصًا من كلام الأطباء الباحثين لها فإن التكييف الفقهي ببيان الحكم التكليفي لهذه الأسئلة الثلاثة هو فرع عن بيان الحكم الشرعي لحقيقة الوفاة عند الأطباء، "موت جذع الدماغ" هل هذه الحقيقة مسلمة شرعًا أم لا؟
وعليه:
فبما أن هذه الحقيقة محل خلاف بين الأطباء، وأن علاماتها أو جلها ظنية ولم تكتسب اليقين بعد، وأن قاعدة الشرع: أن اليقين لا يزول بالشك، ونظرًا لوجود عدة وقائع يقرر فيها: موت الدماغ، ثم تستمر الحياة كما في ص/ 447، 453 من كتاب الحياة الإنسانية، وص/ من بحث: البار، وأن الشرع يتطلع إلى إحياء النفوس وإنقاذها وأن أحكامه لا تبنى على الشك، وأن الشرع يحافظ على البنية الإنسانية بجميع مقوماته ومن أصوله المطهرة المحافظة على: الضروريات الخمس ومنها "المحافظة على النفس"، ولهذا أطبق علماء الشرع على حرمة الجنين من حين نفخ الروح فيه، وبما أن الأصل في الإنسان: الحياة والاستصحاب من مصادر الشرع التبعية إذ جاءت بمراعاته ما لم يقم دليل قاطع على خلافه، ولهذا قالوا في التقعيد "الأصل بقاء ما كان على ما هو عليه حتى يجزم بزواله".
فإنه لهذه التسبيبات فإنه لا يظهر أن موت الدماغ في هذه الصورة الثالثة هو "حقيقة الوفاة" فتنسحب عليه أحكام الأموات، ولكن ليس ثمة ما يمنع من كون هذا الاكتشاف الطبي الباهر: علامة وأمارة على الوفاة لهذا قال الأستاذ الشربيني في: بحثه من كتاب الحياة الإنسانية:
"وقد أوضح بعض الباحثين أننا لسنا بصدد مفهومين للموت: أحدهما توقف الدماغ، والآخر توقف القلب والتنفس، بل هما مجموعتان من الأدلة والظواهر تنتهيان إلى نهاية واحدة هي محل الاعتبار؛ وهي: موت جذع الدماغ في كل الأحوال، إذ إن ذلك هو ما يحدث أيضًا عند التوقف النهائي للقلب والتنفس خلال دقائق إن لم تكن ثوان" أهـ.(3/153)
فكما لا يسوغ: إعلان الوفاة بمجرد سكوت القلب - كما حرره النووي - لوجود الشك فكذلك لا يسوغ إعلان الوفاة بموت الدماغ مع نبض القلب وتردد التنفس تحت الآلات.
وكما أن مجرد توقف القلب ليس حقيقة للوفاة بل هو من علاماته إذ من الجائز جدًّا توقف القلب ثم تعود الحياة بواسطة الإنعاش أو بدون بذل أي سبب، ومن هنا ندرك معنى ما ألف فيه بعض علماء الإسلام: باسم من عاش بعد الموت، لابن أبي الدنيا وهو مطبوع.
وما يذكره العلماء عَرَضًا في بعض التراجم من أن فلانًا عاش بعد الموت أو تكلم بعد الموت.
وكذلك يقال أيضًا: إن موت الدماغ علامة وأمارة على الوفاة وليس هو كل الوفاة بدليل وجود حالات ووقائع متعددة يقرر الأطباء فيها موت الدماغ ثم يحيا ذلك الإنسان.
فيعود الأمر إذن إلى ما قرره العلماء من أن حقيقة الوفاة هي: مفارقة الروح البدن.
وحينئذ تأتي كلمة الغزالي المهمة في معرفة ذلك فيقول:
"باستعصاء الأعضاء على الروح" أي: حتى لا يبقى جزء في الإنسان مشتبكة به الروح، والله تعالى أعلم.
وبناء على تحرر هذه النتيجة يمكننا الوصول إلى الجواب فقهًا للأسئلة الثلاثة فيقال:
إن رفع آلة الإنعاش في الصورة الثالثة هي: عن عضو مازالت فيه حياة فجائز أن يحيا، وجائز أن يموت، وعلى كلا الحالين استواء الطرفين أو ترجح أحدهما على الآخر:
1- فإذا قرر الطبيب أن الشخص ميئوس منه: جاز رفع آلة الطبيب لأنه لا يوقف علاجًا يرجى منه شفاء المريض، وإنما يوقف إجراء لا طائل من ورائه في شخص محتضر، بل يتوجه أنه لا ينبغي إبقاء آلة الطبيب والحالة هذه لأنه يطيل عليه ما يؤلمه من حالة النزع والاحتضار.
لكن لا يحكم بالوفاة التي ترتب عليها الأحكام الشرعية كالتوارث ونحوه، أو نزع عضو منه، بمجرد رفع الآلة بل بيقين مفارقة الروح البدن عن جميع الأعضاء، والحكم في هذه الحالة من باب تبعض الأحكام وله نظائر في الشرع كثيرة.
2- أما إذا قرر الطبيب أن الشخص غير ميئوس منه أو استوى لديه الأمران فالذي يتجه عدم رفع الآلة حتى يصل إلى حد اليأس أو يترقى إلى السلامة.
وهذا إنما أذكره بحثًا، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بكر بن عبد الله أبو زيد(3/154)
موت الدماغ
لسعادة الدكتور محمد علي البار
مستشار قسم الطب الإسلامي بمركز الملك
فهد للبحوث الطبية جامعة الملك عبد العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
موت الدماغ
إن موت الإنسان كموت أي كائن حي هو أمر طبيعي فرضه الله على كل نفس قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} .
ولم تكن هناك صعوبات شتى في تشخيص الموت إلا فيما ندر فملايين من البشر أتوا إلى هذه الدنيا دون شهادة طبيب وغادروها دون الحاجة إلى معاينة طبيب وشهادته.
وفي العصور الحديثة نتيجة لحصول بعض الأخطار، أو كل تحديد الحياة بدءًا ونهاية إلى الأطباء ولم يعد من المقبول دخول إنسان إلى الحياة دون إثبات شهادة ميلاد يصدرها طبيب.. وكذلك لا يسمح له بالمواراة في جوف الأرض ما لم يحصل على شهادة طبيب تثبت الوفاة.
وفي ذلك خير كثير.. فلا بد أن تكون الوفاة طبيعية وأن يشهد بذلك الطبيب وإلا فكم من جريمة قتل بصورة (تسميم مثلًا وهو أمر كان شائعًا عند القدماء وخاصة لدى الطبقات الحاكمة) يمكن أن يتم دون أن تكتشف إذا لم يكن هناك هذا الإجراء المتشدد، كما أن ذلك يحد من الوقوع في خطأ تشخيص الوفاة بينما الشخص مغمى عليه وهو لا يزال حيًا.
وكان تشخيص الوفاة أمرًا غير عسير على الأطباء في الأغلبية الغالبة من الوفيات، فلا بد أن يتوقف القلب والدورة الدموية والتنفس وما يصحبها من علامات لإعلان الوفاة، وإذا شك الطبيب في سبب الوفاة أحال ذلك إلى الطبيب الشرعي، أما إذا شك في بقاء الحياة استخدم وسائل أخرى للتأكد من حصول الوفاة.
ومع التقدم الطبي في العشرين عامًا الماضية بدأ استخدام أجهزة الإنعاش يتطور بسرعة مذهلة، وأمكن إيقاف القلب لعدة ساعات أثناء عمليات القلب المفتوح، وأن يستبدل القلب والرئتان في هذه المرحلة بمضخة، فإذا ما تمت العملية أعاد الأطباء القلب إلى وظيفته السابقة بعد أن تعاد درجة حرارته بالتدريج (يثلج القلب أثناء العملية حتى يقل استهلاك الطاقة إلى أدنى درجة) كما تمكن الأطباء من إخراج القلب واستبداله بقلب إنسان أو قلب قرد أو قلب صناعي.(3/155)
ولأول مرة في التاريخ تمكن الإنسان أن يعيش بدون قلب لعدة ساعات وبقلب إنسان آخر قد لاقى حتفه لعدة سنين وبقلب صناعي لعدة أشهر.
ولم يعد مفهوم الموت مرتبطًا بالقلب في كثير من الحالات، وخاصة الحالات التي يصاب فيها الدماغ إصابات بالغة نتيجة الحوادث، أو نزف داخلي في الدماغ أو وجود ورم بالدماغ، ومع هذا فإن مفهوم موت الدماغ لم يشكل في بريطانيا حتى عام 1981 سوى 8 آلاف من مجموع الوفيات، ولا يزال توقف القلب والدورة الدموية هو الأساس في تشخيص 99.2? من جميع الوفيات في بريطانيا، ومثلها أو ما يقاربها في دول أوروبا والولايات المتحدة وكندا.. إلخ.
موت الدماغ أو جذع الدماغ:
يموت الدماغ إذا انقطع عنه الدم لمدة أربع دقائق، ولذلك فإن موت القلب يتبعه موت الدماغ، ولهذا فإنه إذا لم يكن إنقاذ القلب وإعادته إلى العمل فإن الدماغ سيموت خلال أربع دقائق من توقف عمل القلب، وبالتالي يعتبر مثل ذلك الشخص في عداد الموتى.
ولكن المشكلة تأتي حين يصاب الدماغ إصابات بالغة نتيجة الحوادث (سيارات، ارتطام، إطلاق نار، إلخ) أو نتيجة نزف في الدماغ أو نتيجة ورم بالدماغ، وفي هذه الحالات قد يموت الدماغ وتقوم الأجهزة الحديثة بإنعاش القلب والتنفس وجعلهما يستمران في وظيفتهما.
وبما أن جذع الدماغ هو المتحكم في جهازي التنفس والقلب والدورة الدموية فإن توقف جذع الدماغ وموته يؤدي لا محالة إلى توقف القلب والدورة الدموية والتنفس ولو بعد حين.
وفي كثير من الحالات عندما توضع أجهزة الإنعاش لا يكون الطبيب متيقنًا من أن جذع الدماغ قد مات حيث تتميز تلك الحالات بالإغماء التام وتوقف التنفس وتحتاج إلى سرعة كبيرة لمحاولة الإنقاذ، وبالتالي يبقى المصاب تحت المنفسة Ventilator.
ولكي يشخص الطبيب موت جذع الدماغ لا بد من مواصفات نجملها فيما يلي:
1- الإغماء الكامل:
وعدم الاستجابة لأي مؤثرات لتنبيه المصاب مهما كانت وسائل التنبيه قوية ومؤلمة، ولو ظهرت من المصاب حركة ولو بسيطة أو صوت ولو حشرجة دل ذلك على حياة المصاب ولا يمكن بالتالي إعلان موت الدماغ.
2- عدم التنفس لمدة ثلاث دقائق (شروط مجموعة هارفارد) أو أربع دقائق (مجموعة مينوسوتا) أو 10 دقائق (المدرسة البريطانية) بعد إبعاد المنفسة، ويشترط لإيقاف المنفسة أن يتنفس المصاب أوكسجين 95 بالمائة مع 5? ثاني أكسيد الكربون لمدة 10 دقائق بواسطة قنطرة (Catheter) تدخل إلى القصبة الهوائية ويتم التنفس بواسطة المنفسة، وذلك يؤدي إلى رفع ضغط ثاني أكسيد الكربون في الدم إلى 40 مم زئبق أو فوقها) وهو مسئول عن تنبيه مركز التنفس في جذع الدماغ.(3/156)
فإذا لم يتنفس المصاب بعد كل هذه التنبيهات لمركز التنفس في جذع الدماغ يعتبر ذلك دلالة على موت جذع الدماغ.
3- عدم وجود الأفعال المنعكسة من جذع الدماغ: وهي تتمثل في الآتي:
(أ) عدم حركة بؤبؤ العين للضوء الشديد.
(ب) لا يرمش المصاب رغم وضع قطعة من القطن على قرنية العين.
(جـ) لا تتحرك مقلة العين رغم إدخال ماء بارد في الأذن.
(د) لا يقطب المصاب جبينه رغم الضغط على الجبين بالإبهام.
(هـ) عدم التحكم أو الكحة عند لمس الحنك وباطن الحلق بالإبهام.
4- عدم وجود حركة الدمية:
عدم تحريك الرأس No Dolling إعادة فحص وظائف الدماغ من فريق آخر بعد مرور عدة ساعات (6 ساعات المدرسة البريطانية- 24 ساعة مجموعة هارفارد) .
5- لا يعتبر رسم الدماغ أساسيًا:
في تشخيص موت الدماغ وإذا توفر كان دليلًا إضافيًا مفيدًا من الناحية القانونية وخاصة في الولايات المتحدة.
ولا تكفي هذه الشروط لإعلان موت الدماغ بل لا بد أن يكون توقف وظائف جذع الدماغ مصحوبًا بإصابات باثوليجية وتشريحية وليس فقط إصابة وظيفة فسيوليجية وهناك مجموعة من الإصابات الوظيفية التي تؤدي إلى توقف جذع الدماغ وبالتالي إلى توقف التنفس مع وجود الإغماء وعدم وجود الأفعال المنعكسة، ورغم هذا كله لا تعتبر هذه الأسباب كافية لإعلان موت الدماغ، ولا بد من إزالة الأسباب المؤقتة لتوقف وظيفة جذع الدماغ قبل إعلان موت الدماغ، وهذه الأسباب المؤقتة أو الأسباب الوظيفية التي تؤدي إلى توقف وظائف جذع الدماغ تتمثل في الآتي:
1- العقاقير:
وقائمتها طويلة جدًّا وتشمل الكحول والمنومات مثل الباربيتورات والمهدئات مثل الفاليوم والليبيريم والمخدرات مثل المورفين والهروين وأدوية الصرع مثل الفيناتوين والأدوية المضادة للكآبة مثل التربتلين والمعقلات مثل الستيلازين والكلوبرومزين والمسكنات مثل الأسبرين.(3/157)
وقد يحدث أن يتناول الشخص كمية من أحد هذه العقاقير أو ما يقاربها كوسيلة للانتحار فيؤدي إلى حدوث توقف وظائف جذع الدماغ.. ولهذا لا بد من التريث في إعلان موت الدماغ في هذه الحالات حتى يزول كل أثر من آثار العقار من الجسم، ويمكن أن يتبين ذلك بفحص الدم وفحص البول، فإذا كان الدم خاليًا من العقار المتهم فإن ذلك يعني زوال تأثيره من الجسم ومن الدماغ خلال بضع ساعات.
2- برودة الجسم:
كما يحدث في الجو القارس حيث تحدث نوبة إغماء ويتوقف التنفس وتنخفض حرارة الجسم، ولا بد في هذه الحالات من استمرار أجهزة الإنعاش حتى يتم رفع حرارة الجسم إلى درجتها الطبيعية، ولا يعلن موت الدماغ إلا بعد ذلك.
3- التسمم نتيجة الغازات السامة وغاز أول أكسيد الكربون:
قد يؤدي التسمم إلى توقف وظائف جذع الدماغ، ولهذا لا بد من إزالة السموم من الجسم أولًا والاستمرار في الإنعاش حتى يتضح أن تأثير المواد والغازات السامة قد انتهى من الجسم ثم يمكن بعد ذلك إعلان موت الدماغ.
4- زيادة البولينا في الدم:
قد يؤدي فشل الكلى إلى الغيبوبة التامة وإلى توقف وظائف جذع الدماغ، ولهذا لا بد من خفض البولينا في الدم بواسطة الديلزة (الكلى الصناعية) قبل إعلان موت الدماغ.
5- نقص السكر أو زيادته في الدم:
قد تؤدي إلى الغيبوبة التامة وإلى توقف وظائف جذع الدماغ، ولا بد من إعادة توازن السكر في الدم إلى وضعه الطبيعي قبل إعلان موت الدماغ.
6 - نقص الهرمونات أو زيادتها في الدم:
قد تؤدي إلى توقف وظائف جذع الدماغ مؤقتًا ولا بد من إعادة هذه الهرمونات إلى وضعها الطبيعي قبل إعلان موت الدماغ.
7- حالات الغرق وتوقف القلب الفجائي:
التي يتم إنعاشها بالوسائل الحديثة وفي نفس الوقت يظهر للأطباء من الفحوصات الخاصة بجذع الدماغ أن هذا الجذع قد توقف عن وظيفته مما أدى إلى الإغماء وتوقف التنفس، وفي هذه الحالات لا يتم إعلان موت جذع الدماغ إلا بعد رفع الأوكسجين في الدم لفترة لا تقل عن 24 ساعة.(3/158)
8- الحالات التي أجري لها عمليات كبيرة في الدماغ:
مثل ورم في الدماغ أو نزف تحت الأم العنكبوتية Subarchnoid hoemorrhage أو وجود أم الدم aneury Sm في الدماغ، وفي هذه الحالات قد يحدث توقف لوظائف جذع الدماغ من إغماء تام وتوقف عن التنفس، ولهذا لا يمكن إعلان موت جذع الدماغ قبل مرور 24 ساعة على الأقل.
9- اخماج (انتانات) ميكروبية (فيروسية وبكترية) تصيب جذع الدماغ:
بالإضافة إلى إصابة مناطق أخرى من الدماغ، وقد يؤدي ذلك إلى توقف لوظائف جذع الدماغ، ولا بد في هذه الحالات من الاستمرار في أجهزة الإنعاش رغم توقف وظائف جذع الدماغ حتى يتبين بوضوح وجلاء تام عدم وجود توقف وظيفي (فسيولوجي) مؤقت لجذع الدماغ، وأن هناك إصابة دائمة نتيجة هذا الغزو الميكروبي.
10- في حالات الشك وخاصة في الأطفال تجري فحوص إضافية وهي:
(أ) حقن شرايين الدماغ الأربعة:
فإذا لم توجد دورة دموية في الدماغ كان ذلك دليلًا قاطعًا على موت الدماغ.
(ب) إجراء الفحص السابق بواسطة المواد المشعة Radionuclide
وميزة هذا الفحص سهولته النسبية، وأنه يمكن إجراؤه دون الحاجة لنقل المريض من غرفة الإنعاش إلى غرفة الأشعة.(3/159)
إعلان الوفاة وأجهزة الإنعاش:
عند ثبوت تشخيص موت جذع الدماغ وعدم وجود أي من الأسباب المؤقتة لتوقف وظائف الجذع يكتب الأطباء المختصون شهادة بوفاة ذلك الشجص.
أما بالنسبة لأجهزة الإنعاش فإنها توقف إلا إذا كان المصاب أو ذووه قد وافقوا على التبرع بأعضائه وفي هذه الحالة تستمر أجهزة الإنعاش حتى تستمر الدورة الدموية، وبالتالي تكون الأعضاء التي ستنتزع في أفضل حالاتها.
وبما أن القلب بالذات سريع التلف ولا فائدة من نقل قلب تالف إلى شخص آخر لإنقاذه فإن الحاجة تبدو واضحة لاستمرار أجهزة الإنعاش لبضع ساعات حتى يتم نزع القلب والأعضاء الأخرى المتبرع بها، وهي في حالة جيدة يمكن أن تعمل في شخص آخر.
في هذه الحالات المحدودة يتم إعلان موت جذع الدماغ وبالتالي موت الشخص بينما القلب لا يزال ينبض والتنفس لا يزال وإن كان بواسطة الأجهزة.
وهذا هو الذي جعل كثيرًا من الفقهاء ورجال القانون يترددون في إعلان الوفاة لمثل هذا الشخص.
ولكن إذا اتضحت الصورة بجلاء وهو أن تشخيص جذع الدماغ يعني أساسًا توقف التنفس التلقائي توقفًا تامًا لا رجعة فيه أدركنا أن الفروق الجوهرية محدودة جدًا، وبالتالي يجعل تشخيص موت الدماغ أو جذع الدماغ مقبولًا من الناحية الشرعية إذا اتخذت كافة الاحتياطات اللازمة في تشخيص جذع الدماغ كما أسلفنا، وذلك بعدم تشخيص موت جذع الدماغ في الحالات التي تتوقف فيها وظائف جذع الدماغ مؤقتًا، وبالتالي لا يمكن تشخيص موت جذع الدماغ إلا بعد التيقن من توقف تام لا رجعة فيه لوظائف جذع الدماغ مع وجود إصابة مرضية (باثوليجية) وتشريحية.
ولا غضاضة في استمرار أجهزة الإنعاش بعد إعلان الوفاة من أجل الحصول على أعضاء في حالة جيدة، إذ أن الشخص قد مات فعلًا، وهذه التروية بأجهزة الإنعاش ليست إلا إحدى الوسائل المتعددة التي تستخدم لحفظ الأعضاء في حالة تصلح للاستخدام، ومن المعلوم أن الأعضاء بعد انتزاعها من الجثة تحفظ في سائل معين وفي درجة برودة معينة، ويمكن أن تبقى محفوظة لفترة من الزمن كما يمكن نقلها بالطائرة من بلد إلى بلد آخر واستخدامها لإنقاذ شخص آخر يوشك أن يحتضر.
وعليه فإن الاحتفاظ بهذه الأعضاء بواسطة أجهزة الإنعاش لبضع ساعات أمر لا غبار عليه ولا يغير من حقيقة الوفاة شيئًا.(3/160)
(1) قسم الأبحاث الطبية
نهاية الحياة الإنسانية
للدكتور مختار المهدي
رئيس قسم جراحة المخ والأعصاب
مقدمة:
لم يكن التساؤل عن نهاية الحياة الإنسانية يثير الكثير من الجدل والنقاش مثل ما يفعل الآن، ويرجع ذلك إلى طفرة التقدم في العلوم الحديثة ومنها العلوم الطبية، وقد كشف لنا هذا التقدم عن الكثير من دقائق الحياة، وأيضًا الكثير من أسرار الموت، وذلك من خلال استعمال الأجهزة الحديثة في أقسام العناية المركزة ومنها أجهزة التنفس الصناعي، وكذلك أجهزة قياس عمل المخ وقياس وظائف محددة بالمخ واختبار هذه الأجزاء المختلفة، ومن خلال تفهم هذه الظواهر الجديدة أصبح تحديد توقيت نهاية الحياة الإنسانية ممكنًا على درجة كبيرة من الدقة، ودقة هذا التحديد وأهميته لا ترجع فقط لما يترتب على هذه النهاية من شرع وقوانين ومراسم، ولكن أيضًا لما قد يستخلصه ذلك من بعث فرحة الأمل في إنقاذ حياة ما من خلال مرارة فقد حياة ولت وانتهت، وذلك بفتح آفاق علمية كبيرة في علم نقل وزراعة الأعضاء البشرية، وهو الأمل في الحياة من جديد عندما يصل علاج بعض الأمراض إلى طريق مسدود وتبدو في الأفق علامات نهاية حياة المريض.
من هو الإنسان وما موضع المخ الحي منه؟
كلنا يذكر ببساطة أن الإنسان عبارة عن جسد وروح ولن نتحدث هنا عن كنه هذه الروح حيث إننا لا نعلم عنها شيئًا ولكننا ندرك تأثيرها في الجسد، فالجسد الميت الجامد لا يختلف كيميائيًا عن الجسد الحي على الإطلاق، كما أنه لا يختلف عنه أيضًا من الناحية الشكلية أو التشريحية أو حتى من خلال فحص الأنسجة بالميكروسكوب، وبكلام أعم لا يوجد اختلاف مادي بين الجسد الحي والميت ولكن الفرق هو في تأدية الوظائف.
الجسد الحي جميع أجزائه تعمل وهذا العمل يكون على مستويات مختلفة من خلايا أو أعضاء أو كجسد متكامل، الخلية الواحدة تعمل ويتم في داخلها العشرات من الأعمال المختلفة، كلها تتم في آن واحد ولكنها تدرك أنها ليست وحدها في هذا الجسد لأنها تتعامل مع خلايا أخرى في داخل العضو أو في أعضاء أخرى، هذا التعامل يتم بأساليب مختلفة، ولكن هذا الإدراك والتعامل ليس إدراك الواعي العاقل ولكنه إدراك البرمجة بما تحتويه نوايا هذه الخلايا من أشرطة متوارثة من وقت آدم، بها تفاصيل أعمال كل خلية إنسانية ومتى تعلمها بحيث يكون عمل أجهزة الجسم كلها في انسجام وتوافق، كل في اختصاصه، بعض هذه الخلايا دائم التجدد، أي القديم يشيخ ويبلى ويحل محلها خلايا أخرى جديدة، وأخرى لا تتجدد طوال حياة الإنسان وحتى هذه فإن مكوناتها من مركبات عضوية وغير عضوية دائمة التبديل، حتى مادة الكالسيوم الصلبة التي في العظام فإنها تتجدد تدريجيًا مرة كل عدة شهور مع المحافظة على الشكل العام وذلك أيضًا بفعل البرمجة، وبمعنى آخر فالإنسان الذي نراه أمامنا بكتلته التي قد تصل إلى سبعين أو ثمانين كيلو جرامًا يتبدل تمامًا جسده من ماء وأملاح ومعادن بجسد جديد تدريجيًا كل فترة من الزمن وهذه الكيماويات تذهب في إفرازات الجسم المختلفة وتحدد من غذائه وهو ما يمكن أن نسميه بالبعث المتكرر في أثناء حياة الإنسان.(3/161)
وهنا حقيقة كبرى يجب أن نتفهمها من البداية، وهي وإن كانت الخلية الإنسانية تمثل حياة وهي إحدى مظاهر إعجاز الخالق، سبحانه وتعالى، إلا أن حياة الغالبية العظمى من خلايا جسد الإنسان وكذلك أعضاؤه التي يحتويها هذا الجسد لها حياتها المستقلة عن حياة الإنسان كفرد، وكحقيقة مطلقة لا ترتبط حياة إحداهما بالأخرى، وبمعنى أوضح أن خلايا جسم الإنسان وأعضائه لا تشاركه "روحه" بدليل أننا يمكن أن نأخذ بعض خلايا من جسم الإنسان لزراعتها ودراستها بالمعمل ولا تفقد هذه الخلايا "حياتها" بخروجها من جسم الإنسان ومن الأمثلة الأخرى استئصال كلية حية من جسم إنسان لزراعتها في جسم إنسان آخر، إنها لا تفقد حياتها باستئصالها ولا تكتسب حياة جديد من الجسد المنقولة إليه ولا تتأثر لو حدث أن توفي صاحبها الأول ولكنها تستمر في حياتها الذاتية وتؤدي نفس العمل الذي خلقت له أساسًا وتحيا حياة فيها نماء وهدم وبناء طالما توافرت لها إمكانية الغذاء المناسب، بصرف النظر عمن يحتويها.
هل يمكن أن نعود إلى التساؤل من هو الإنسان مرة أخرى ونقول هذه المرة هو جسد يحتوي على خلايا وأعضاء حية تعمل بوحي ذاتي على مستوى الخلية الواحدة وعلى مستوى العضو بشرط توافر أسباب هذه الحياة ماديًا، بالإضافة إلى روح قد نسميها نفسًا أو ذاتًا إنسانية وبها يتم تحديد شخصية هذا الإنسان وفرديته.
أين هي إذن النفس الإنسانية من هذا التركيب؟
إننا نتعرف على بعضنا البعض بالمظهر الخارجي من شكل الجسم أو الوجه أو لون العينين أو لون البشرة وأحيانًا من بصمة الإصبع! ولكن كل هذا يمكن أن يتغير، ولن يغير ذلك من ذات الإنسان، أما عن الأعضاء الداخلية والأجهزة السابق ذكرها فإنها جميعًا يمكن استئصالها والاستغناء عنها كما أسلفنا إلا المخ، فالقلب والرئتان والكبد والكلى يمكن استئصالها واستبدالها بأعضاء أخرى إنسانية أو حتى بلاستيكية.. أيضًا مع استمرارية الذات الإنسانية وعدم تغيرها، ما هي إذن وأين تكمن هذه الذات؟(3/162)
قد نظن الآن أن النفس الإنسانية تكمن في مخ الإنسان لأنه مكان استقبال جميع الحواس من سمع وبصر وشم وذوق ولمس، إنه مكان الاستقبال الوحيد من العالم الخارجي، كما أنه يحتوي على مخازن الذاكرة من قراءات وسمع وبصر.. إلخ والخبرات السابقة ومكان التفكير والابتكار، وبه تم إرسال الطباع والعادات والمثل المكتسبة، والمميزة لكل إنسان ومكان تواجد الغرائز الموروثة أيضًا، كما أنه مصدر الأفعال المترتبة على ما يستقبله من معلومات، وقد عرفنا ذلك كله لأن تلف أجزاء محددة من المخ ينتج عنه فقد قدرات معينة اختصت بها هذه الأجزاء ولكل هذه القدرات استخلفنا الله في الأرض وعلى استخدامها سنحاسب في النهاية وإذا ما فقدها إنسان فقد الأهلية وسقط عنه الحساب.
ولو نظرنا بتكبير مجهري داخل المخ لوجدناه يتكون من ملايين الخلايا العصبية التي تشبه البطاريات الكهربائية الصغيرة يترجم فيها كل شيء من أحاسيس وأفكار ورغبات إلى ومضات كهربية تحملها أسلاك دقيقة معزولة تنتهي إلى أطراف دقيقة تترجم هذه الومضات السابقة إلى طاقات كيمائية تقوم بدورها بتنبيه خلايا أخرى، وهكذا تستقبل الأحاسيس من سمعية وبصرية وخلافه وتنفذ المهام من فكر وأفعال.
وهنا يجب أن نلاحظ أن جميع الأحاسيس الواردة للمخ وأيضًا جميع الإشارات الصادرة عنه لتنفيذ المهام تصل منها للعلم إلى مكان معين من المخ يكون باستمرار على علم تام بمجريات الأمور ذلك هو جذع المخ وعلى الأدق نسيج معين داخله يسمى النسيج الشبكي، وهذا الجزء له تأثير كبير على أجزاء المخ الأخرى، وقد أثبتت البحوث الكثيرة أن هذا النسيج الشبكي هو المسؤول عن وعي الإنسان، وأنه إذا فقد الإنسان وعيه لسبب أو آخر فإن ذلك يحدث لأن هذا النسيج قد تعرض لضرر ما، وذلك كالإصابة في الحوادث أو بالتأثير من السموم أو الأمراض ويدخل في ذلك التخدير أو تعاطي العقاقير من منومة ومهدئة ومهلوسة، وهو المسؤول عن نوم الإنسان ويقظته.. ويبدو لنا الآن أن هذا هو الغالب مكمن النفس الإنسانية (شكل 2) .(3/163)
تأثير توقف القلب على أعضاء الجسم:
في ظني أن الجسم البشري يحتوي على مستويات متعددة من الحياة وتعتبر الحياة الإنسانية هي المستوى الأعلى.
فعند توقف القلب عن العمل نهائيًا لأي سبب من الأسباب، وهو ما يحدث في الغالبية العظمى من حالات الموت فإن ذلك يتبعه فورًا فقدان الوعي وتوقف التنفس وهما وظيفتان من وظائف المخ الذي لا يتحمل توقف دورته الدموية إلا لثوان معدودة ولو أن خلاياه تظل حية لبضع دقائق إلا أنها تتوقف في أثنائها عن العمل.
ويستنتج توقف الدورة الدموية ذلك حرمان جميع أعضاء وأنسجة الجسم من الغذاء اللازم لها وهو أساسًا سكر الجلوكوز والأكسوجين اللازمين لتوليد الطاقة وتشغيل الخلايا، كما أن الفضلات السامة المتخلفة عن هذه العملية وغالبيتها حمضية تتراكم في أماكن تولدها لعدم تصريفها بتوقف الدورة الدموية بالأنسجة.
وبناء على هذه التغيرات الكيماوية تموت الخلايا والأعضاء المكونة لجسم الإنسان وهذه الأعضاء تتفاوت في فترة بقائها حية بعد توقف الدورة الدموية والتنفس اعتمادًا على درجة حساسية هذه الخلايا لنقص الغذاء وتحمل درجات الحموضة فالمخ مثلًا لا تتحمل خلاياه وبالذات خلايا القشرة (قشرة المخ) نقص الجلوكوز والأكسوجين أكثر من نحو أربع دقائق وهناك خلايا بالمخ قد تتحمل البقاء لثوان أخرى أكثر من ذلك ثم يلي ذلك خلايا الكبد والكلى، أما العضلات والعظام والجلد، فقد تستطيع الحياة لعدة ساعات بعد توقف القلب والدورة الدموية، كل هذه التوقيتات في درجات الحرارة العادية للجسم.(3/164)
فترة الاحتضار:
يتضح مما سبق أن هناك فترة لا تقل عن أربع دقائق بعد توقف القلب والتنفس عن العمل وتشخيص موت الإنسان الأكلينيكي من فقد للحس والوعي والإدراك والحركة والنبض والتنفس ولكن يكون الكثير من أعضائه لا يزال حيًا بل وبعضها تعمل وقابلة للاستمرار في العمل إذا أمكن إنعاشها بتوفير المحيط الملائم لها من تغذية وتصريف للفضلات، وفي هذه الدقائق الأربعة تكون خلايا مخ الإنسان ما تزال حية ولو أسعف هذا الشخص بتدليك قلبه أو بإعطائه الصدمات الكهربية مع التنفس الصناعي لدفع الأكسوجين بالدم وإعطاء المنشطات والمسعفات اللازمة قد يمكن أحيانًا أن يعود القلب للعمل ويبدأ التنفس الذاتي في العمل من جديد ويعود الإنسان إلى وعيه هذا إذا كان سبب الوفاة الأصلي يسمح بذلك وبهذه الطريقة يمكن إنقاذ حياة بعض المرضى في هذه الفترة الحرجة التي يعتبر فيها الإنسان ميتًا بكل المقاييس الأكلينيكية الطبية ولكنه بالفعل لا يكون كذلك لأن مخه ومن ثم معظم أعضاء الجسم لازالت حية فنحن لا يمكننا أن نقول إننا نستطيع أن نعيد الحياة لإنسان قد مات بالفعل، ويمكننا أن نسمي هذه الفترة بفترة الاحتضار وأرى أنه يتحتم على كل طبيب يحضر هذه الفترة أن يحاول هذه المحاولة وإذا لم يفعل فهو نوع من إهمال العلاج.
تلف قشرة المخ:
وفي أحيان نادرة، عند محاولة إنعاش مريض في فترة الاحتضار قد يعود القلب والتنفس للعمل بعد فترة الدقائق الأربع بعدد من الثوان ولكن قشرة المخ الحساسة تكون قد تلفت جزئيًا أو كليًا، على حين تستمر أجزاء المخ الأخرى ومنها جذع المخ في العمل، وقد يحدث هذا التلف نفسه نتيجة هبوط شديد في ضغط الدم لفترة طويلة حتى بدون توقف القلب والتنفس وذلك لوصول الغذاء للمخ بكميات غير كافية في هذه الفترة، وأحيانًا يحدث ذلك نتيجة إصابة شديدة ولكن غير مميتة للمخ.
وينعكس تأثير ذلك على حالة المريض بدرجات متفاوتة حسب درجة التلف ما بين عته بسيط أو ضياع كامل للعقل أو فقدان كامل للوعي وهذه الحالات ليست لها علاج على الإطلاق فخلايا المخ التي تموت لا يمكن تعويضها.
وفي الحالة الأخيرة حيث يكون هناك فقد كامل للوعي يستمر هذا الإنسان في حياة يصفها البعض خطأ بالحياة النباتية والبعض الآخر بالحياة الخلوية وكلها تعبيرات غير دقيقة من الناحية العلمية وقد تكون وصف "حياة جسدية" هو الوصف الأدق ومن الناحية النظرية يمكن لإنسان من هذا النوع أن يعيش مدى حياة كامل على هذا الوضع ويعتمد ذلك على مستوى كفاءة التمريض، والرعاية الطبية وعلاج الأمراض العارضة والتي قد تصيبه نتيجة الرقاد الطويل.(3/165)
وهذا المرض يحتاج إلى إطعام عن طريق أنبوب إلى المعدة بغذاء شبه سائل بنسب متوازنة وعناية مستمرة بالجلد وتقليب الجسد أو تغيير أوضاعه كل ساعتين تقريبًا لمنع قرح الفراش وكذلك العناية بتصريف البول والبراز، وإنسان من هذا النوع يتنفس ذاتيًا لأن جذع المخ سليم ولكن حياة مثل هذه لا تكون إلا داخل مستشفى وهي بالتأكيد كارثة اقتصادية، للتكلفة المادية الباهظة وانعدام الأمل في عودة المريض إلى وعيه، وقد رأيت بنفسي إحدى هذه الحالات استمرت حياتها لمدة خمسة عشر عامًا على هذا الوضع في إحدى المستشفيات الأوروبية وكان الاحتفاظ بهذا المريض من قبيل استعراض العناية التمريضية الفائقة ولعرضه على الزوار من الأطباء الأجانب، وعادة هذه الحالات تموت نتيجة قرح الفراش أو النزلات الرئوية العارضة ومن الأطباء من يتراخى عمدًا في علاج ما يطرأ عليه من الأمراض العارضة لتسهيل موت المريض من هذا النوع.
وفاة المخ (جذع المخ) :
كما أسلفنا فإنه في أغلب الأحيان تنتهي الحياة الإنسانية بتوقف القلب الذي يعقبه فورًا توقف التنفس وفقدان الوعي ثم تموت الأعضاء بدءًا بالمخ في الدقائق الأولى.. إلخ ولكن هناك حالات أخرى يموت فيها المخ أولًا، وأرجو ألا يستنتج البعض أن هناك أنواعًا مختلفة من الموت ولكن هناك بالفعل أسباب مختلفة له فمريض الكبد أو مريض القلب أو مريض الرئة أو مريض الكلى قد ينتهي به الأمر إلى الموت لأن عضوًا هامًا حيويًا قد تلف في جسمه ويؤدي ذلك إلى اختلال الوظائف الحيوية بهذا الجسم مما يؤدي في أغلب الأحيان إلى هبوط في الدورة الدموية وتوقف القلب عن العمل وبالتالي موت المخ، ولكن هذا لا يمنع أبدًا أن تلف المخ المباشر يؤدي أيضًا إلى وفاة الإنسان حتى لو كانت بقية الأعضاء الأخرى بما في ذلك القلب سليمة وذلك مثل ما يحدث في بعض إصابات الرأس الشديدة في حوادث الطرق أو السقوط من أماكن مرتفعة وكذلك في بعض الأمراض مثل نزيف المخ أو أورام المخ وفي هذه الأحوال يموت المخ بالكامل أو أساسًا جذع المخ وطبيعي تبدأ سلسلة الموت في هذه الحالة بفقد الوعي وتوقف التنفس، وانقطاع الأكسجين عن الدم، إن الدورة الدموية التي ما تزال تعمل ينقص فيها الأكسجين ويتراكم ثاني أكسيد الكربون وبالتدريج تموت بقية الأعضاء الأخرى ولكن هذا لا يعني أن تزويد الجسم بالأكسجين بواسطة أجهزة التنفس الصناعي أن المخ الذي مات قد يعود ثانية، كلا فكما أسلفنا فإن خلايا المخ التي تتلف لا يمكن تعويضها، ولكننا بهذه الطريقة، وأقصد باستعمال التنفس الصناعي، يمكننا المحافظة على أعضاء الجسم الأخرى (خلاف المخ) حية لفترة من الزمن تمتد من عدة ساعات إلى أسبوعين أو نحو ذلك، وهذه المدة لا تطول حتى مع استمرار إعطاء جميع المنشطات الممكنة، فيبدأ ضغط الدم بعد ذلك في الانخفاض وتباطؤ عمليات التمثيل الغذائي وتنخفض درجة حرارة الجسم وأخيرًا يتوقف القلب ويمكننا أن نصف هذه الفترة التي يمكن الاحتفاظ فيها ببعض أعضاء الميت حية بفترة الحياة العضوية (نسبة إلى الأعضاء المتبقية) .(3/166)
ومن الأمثلة المعروفة عن الموت الفوري عملية الإعدام شنقًا وفيه تنخلع الفقرات العنقية العليا عن الرأس حيث يوجد جذع المخ وعلى الفور يموت جذع المخ ولاشك أنه كان من الفهم الخاطئ وفي وقت سابق، أن طبيب السجن كان يقوم بجس نبض المذنب ولا يأذن بإنزال جثته حتى يتوقف النبض والذي يستمر لعدة دقائق ولكن جذع المخ يكون قد تلف من اللحظة الأولى لعملية الشنق والتي يفقد فيها الوعي ويقف التنفس ولو أسعف هذا المذنب في خلال هذه الدقائق بجهاز تنفس صناعي لتكررت نفس الأحداث وطالت فترة الحياة العضوية لفترة من الزمن، أسبوع أو أكثر، ولكن هذا لا يعني أن الذي شنق قد استمر في الحياة لأن الذات الإنسانية تكون قد ذهبت بلا عودة، وأجهزة الاستقبال والتفاعل والإرسال التي تتعامل بها النفس الإنسانية مع البيئة قد تدمرت نهائيًا.
تلخيصًا لما سبق فإن موت الإنسان يكون عند وفاة جذع المخ سواء نتج ذلك عن توقف القلب أولًا لأكثر من دقائق معدودة تقطع الجلوكوز والأكسوجين بدرجة تسبب تلف المخ أو تكون وفاة جذع المخ والمخ عمومًا بإصابة موجهة إليه مباشرة ولا يهم موقف الأعضاء الأخرى فهي تبدأ في التحلل والتعفن مباشرة أو يمكن الاحتفاظ بحيويتها لفترة محددة باستعمال أجهزة الإنعاش الصناعية، والحقيقة التي نريد أن نؤكدها أن توقف القلب عن العمل لا يعني بالضرورة الوفاة (فترة الاحتضار) كما أن استمرار القلب في العمل بعد موت المخ لا يعني الحياة.
تشخيص وفاة المخ:
لقد اتفقت بعض دول العالم المتقدمة على وضع تعريف لموت المخ ووضع أسس لتشخيصه وذلك بناء على وجود علامات معينة يتفق على وجودها أكثر من أخصائي أخصائي في العلوم العصبية كل على حدة ويشترط ألا تربط أحدهما بالمريض أية معرفة سابقة وأن تمر فترة لا تقل عن ست ساعات بين فحص كل منهما للمريض ومن هذه العلامات:
1- عدم استجابة المريض للتنبيه بالألم على أي صورة من الصور (مما يعبر عن الغيبوبة العميقة وفقد الحس والحركة) .
2- فشل التنفس التلقائي نهائيًا ويختبر ذلك بفصل المريض عن جهاز التنفس الصناعي لمدة دقيقتين كاملتين وملاحظة أي محاولة ذاتية للتنفس.
3- اتساع حدقتي العينين وعدم استجابتهما للضوء.
4- اختفاء الموجات الكهربية الصادرة عن المخ في تخطيط المخ.
5- هبوط الوظائف الحيوية للمخ وجذعه وهذه يمكن الكشف عليها بأجهزة قياس حديثة.
6- توقف الدورة الدموية للمخ وهذه يمكن قياسها بطرق مباشرة أو غير مباشرة.
كل هذه الاختبارات أو حتى بعضها لا يدع أي مجال للشك فيما نحن بصدده ويكون التشخيص نهائيًا، ويستبعد من هذه الحالات تمامًا حالات الغيبوبة الناتجة عن التسمم أو التهابات المخ المختلفة.(3/167)
وأما عن خبراتي الشخصية في هذا المجال فإننا في خلال السنوات العشر الأخيرة وحتى اليوم وبالرغم من تشخيص وفاة جذع المخ فإننا لا نرفع أجهزة التنفس الصناعي ولا نتوقف عن إعطاء كافة المسعفات حتى يتوقف القلب نهائيًا وذلك انتظارًا لكلمة الشرع في هذا المجال من ناحية، ولتوافر الأجهزة اللازمة وعدم وجود تكلفة مادية على أهل المرضى من ناحية أخرى، وعلى الرغم من ذلك ففي خلال هذه الفترة لم أشاهد أيًا من هذه الحالات قد تحسنت حالته أو استمر قلبه في الخفقان لفترة طويلة بعد هذا التشخيص، وإذا تصادف وأجريت الصفة التشريحية لمتوفي من هذا النوع عند توقف قلبه نجد أن المخ قد تحلل تمامًا وتحول إلى مادة سائلة داخل الجمجمة.
وهنا قد يثار تساؤل: إذا كان نقل الأعضاء ممكنًا فماذا عن نقل المخ لمن تلف مخه والرد على هذا التساؤل بديهي لأن القاعدة هي نقل العضو الحي، ولكن المخ الحي لا يكون إلا في إنسان حي ونقل المخ منه هو قتل له، ناهيك عن الاستحالة التكنيكية للعملية فإن ذلك يتطلب نقل المخ والنخاع الشوكي مع زوائد المخ وهي العينان والأنف وتوصيل عدد من الأعصاب يصل إلى ثمانين عصبًا وعدد من الشرايين والأوردة يصل إلى مثل هذا العدد في فترة زمنية لا تتعدى الأربع دقائق!
وإذا فرضنا جدلًا إمكانية حدوث ذلك فالأغلب أن الذي يتم هو نقل الجسم الذي توفي مخه إلى المخ الحي وليس العكس لأن المخ الحي يحمل معه صاحبه أي تصحبه ذاته أما الذات الإنسانية التي توفي مخها فقد انتهت من عالمنا وسبحان من له الدوام، ولنذكر قول الله تعالى في سورة الزمر آية 42: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} صدق الله العظيم.
فالموت إذن هو النهاية للحياة الإنسانية والنفس الإنسانية وليس بالضرورة لأعضاء وخلايا الجسم الأخرى والتي قد تعيش سنوات وسنوات بعد نقلها في أجساد أخرى وفي الآيات السابقة وصف الله النوم بالوفاة وهي درجة من درجات الحياة كما في حالات التخدير وهو ما أطلقنا عليه الحياة الجسدية.
وأرى أن أنتهز هذه الفرصة لأسجل هذه المسميات والتي قد تكون أقرب للناحية العملية والمنطق من المسميات الشائعة والخاطئة والواردة حتى في الكتب الطبية.(3/168)
أولًا: الحياة الإنسانية اليقظة وهي التي تشمل على حس ووعي وحركة.
ثانيًا: الحياة الجسدية وهي حياة النوم، وقد رأيت ألا أطلق عليها "حياة الوفاة" لأن هذا الوصف قد يحدث منه لبس لشيوع المعنى العكسي للكلمة وهي على أي الأحوال حياة ليس بها حس ولا وعي ولا حركة، ويجب أن نعرف أن للنوم درجات، والدرجات السطحية منه يخالطها بعض اليقظة وبعض الحس والحركة من تقليب وخلافه وأما الدرجات العميقة فلا، ونفس الشيء يحدث في التخدير وفقد الوعي المؤقت مهما اختلفت أسبابه وفقد الوعي الدائم كتلف قشرة المخ الكامل.
ثالثًا: الحياة العضوية وهي ما تبقى من حياة في بعض أعضاء الجسم بعد وفاة الإنسان وهو ما زال تحت أجهزة الإنعاش ويكون جذع المخ قد تلف وما زال القلب يعمل وكلمة الحياة هنا لا تعود على الإنسان كفرد ولكن على ما تبقى من أعضائه حيًا كالقلب والكبد والكليتين.. إلخ ما عدا المخ، وهي فترة محدودة، وحدها الأقصى نحو أسبوعين وفي خلال هذه الفترة يكون كل شيء امتدادًا لما كان معتادًا قبل وفاة الإنسان من تغذية وهدم وبناء.
رابعًا: الحياة النسيجية وهي تصف مجموعة خلايا حية غالبًا ما تكون في مزرعة في مختبر ما.
خامسًا: الحياة الخلوية وهي عبارة عن خلية إنسانية واحدة.
وفي المعامل تؤخذ خلية أو أكثر في أطباق زجاجية وتحاط بسوائل معينة بغرض تغذيتها وذلك لأعمال الدراسة المعملية.
ولو تأملنا بداية الحياة الإنسانية لوجدنا أن هذه الدرجات أو المستويات المختلفة للحياة تتجمع تدريجيًا فتبدأ بخلية واحدة هي البويضة كالقلب ولم تنفخ الروح بعد فهنا تكون الحياة العضوية ثم تنفخ الروح في الجنين فتتتابع الحياة الجسدية مع الحياة الإنسانية اليقظة حسب نومه ويقظته.(3/169)
في ضوء ما وصلنا إليه الآن لو عدنا مرة ثالثة للسؤال من هو الإنسان؟ فإن الإجابة تكون: الإنسان هو مخ حي يحمل نفسًا إنسانية، هذا المخ الحي تقوم على خدمته أجهزة كثيرة، بعضها لتغذيته وبعضها لتصريف فضلاته والبعض الآخر لحركته والتنقل به حيث يشاء، ومن خلال المخ تقوم النفس الإنسانية بالتحكم، والسيطرة على جميع أعضاء الجسم وأفعاله.
نعود بعد ذلك لبحث موضوع تحديد وقت وفاة المخ لما لذلك من أهمية شرعية كبيرة. وأرى أن هناك أكثر من طريقة ولكن أكثرها دقة وتحديدًا هي أن يوصل أي مريض مصاب بإصابة شديدة بالمخ بأجهزة تخطيط المخ أو أجهزة قياس عمل المخ. أو أجهزة فحص عمل جذع المخ وهذه كلها أجهزة دقيقة تقوم بتحديد المطلوب وعندما تعطي هذه المؤشرات ما يفيد وفاة المخ تتم عملية الفحص الإكلينيكي بغرفة طبيبين ذوي خبرة كما ذكر سالفًا.
والأهمية الكبرى لهذا التوقيت ليس فقط من الناحية الشرعية، ولكن أيضًا من ناحية قواعد علم نقل وزراعة الأعضاء والذي يتطلب الحصول على الأعضاء بعد الوفاة الإنسانية وأثناء الحياة العضوية للمتوفى وهي الطريقة الوحيدة علميًا البديلة لعملية تبرع الأحياء بأحد أعضائهم لذويهم وهذا التبرع الأخير لا يكون إلا في حالات محدودة (الأعضاء المزدوجة) كالكلى مثلًا وذلك علاوة على ما قد يتعرض له المتبرع من أخطار جراحية أو احتمال احتياجه مستقبلًا للعضو الذي تبرع به.
وفي النهاية إذا ما ثبت لنا ذهاب الحياة الإنسانية فعلى الشرع عندئذ أن يدلي برأيه آخذًا في الاعتبار مئات المرضى الذين يموتون كل يوم في عالمنا الإسلامي وقد تلفت أعضاؤهم من قلوب وأكباد وكلى والذين كان بالإمكان إنقاذ بعض منهم.(3/170)
الموت والحياة بين الأطباء والفقهاء
للدكتور عصام الدين الشربيني
مستشار الأمراض الباطنية
م. الصباح الكويت
الطب علم سريع التطور والنمو، والطبيب في عمله يتعرض بالتالي لقضايا متجددة يحب أن يؤدي فيها واجبه، ويحب في أداءه هذا أن يسترشد بهدي دينه ويلتزم بحدود شريعته.
والدين رسالة الله في الناس، قد كملت يوم نزل قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .
فلا ينبغي أن تعرض للناس قضية لا يكون للشريعة حكم فيها بنص أو باجتهاد، سواء كان الحكم بالفرض أو المنع أو الإباحة.
ومع ذلك يبدو للطبيب في عمله، كما يبدو لغير الطبيب، أن هناك فجوة بين الأحكام الشرعية وبين القضايا المستحدثة في الممارسات الطبية.
ومرد ذلك في نظري إلى أمرين:
أولهما: المحاولات الجارية منذ أكثر من قرن بعزل الشريعة الإسلامية عن المجرى الرئيسي لحياة المسلمين، والتي بلغت ذروتها بعد سقوط الخلافة العثمانية وسيطرة دول غير إسلامية على بلاد المسلمين، وترتب على ذلك أن الطلب لم يعد مستمرًا ولا ملحًا لرأي الشريعة فيما يعرض من قضايا، وكذلك الاستجابة من الفقهاء لم تكن متصلة ولا شاملة ولا مسلمة، كما فقد عنصر التطبيق وما يقدمه من خبرة وإثراء.
ثانيهما: التفاوت الكبير في ثقافة الأطباء وتربيتهم الدينية.
ونستطيع أن نجملهم في طوائف ثلاث..
1- طائفة بحكم إيمانها والتزامها وثقافتها، تحرص على تحري التوجيه الديني والحكم الشرعي، وتستطيع أن تصل إليه في أغلب الأحوال، وأحسبهم قلة نرجو أن تزيد.
2- طائفة لا تستطيع ولا تهتم بتحري ذلك.
3- طائفة يحرصون أو يغفلون عن تحري الحكم، ويصيبون أو يخطئون إن تحروا ذلك، معتمدين على أنفسهم أو مستعينين بسواهم ممن هم أكثر معرفة.
ولا شك أن جهود المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية هي محاولة لسد هذه الفجوة بمؤتمريها الأول والثاني، والندوات التي تعقدها لموضوعات محددة مثل ندوة الإنجاب، وندوتكم هذه، وهي جهود تستوجب الشكر والتقدير، وتحفز الهمم لمواصلة السعي وتكثيف الجهد.(3/171)
وندوتنا هذه عن الحياة والموت، أو الحياة بدايتها ونهايتها، وهي كما فهمت ندوة حوار بالدرجة الأولى يطلع فيها الفقهاء على بعض ما يعرض للأطباء وما يعانون ويواجهون، ووجهة نظرهم في ذلك، ويطلع فيها الأطباء على بعض ما يبني عليه الفقهاء آراءهم، وما يستمدون منه أحكامهم، ويسمع بعضنا لبعض وهو ما لا غنى عنه لكلا التخصصين، استقصاءً لجوانب البحث وتقليبًا لأوجه الرأي واستجلاءً لمشاكل التطبيق.
وأحسب أن خير ما أشارك به من جهد هو أن أعرض على سيادتكم بعض ما يواجه الطبيب من قضايا، ومحاولتي كطبيب مسلم أن ألتمس الطريق الذي أسلكه إزاءها في ضوء التزامي المهني بالمحافظة على حياة المريض وتخفيف آلامه ما استطعت، واحترامي كذلك لنهاية هذه الحياة في مرحلتها الدنيوية وهي الموت.
ثم أسألكم فقهاء وأطباء جميعًا أن تروا فيه رأيكم وتقدموا نصحكم، لا رأيًا في نقطة بعينها وحسب ولكن توجيهًا للمنهج الذي يجدر أن يتبع.
اجتهاد أم نص:
وأقول ابتداء إنني حاولت فيما يتيسر لطبيب مسلم متوسط الثقافة أن أجد للموت تعريفًا محددًا للحياة أو للموت، فلم أصل إلى نص شرعي يحدد أيًا من الاثنين، الابتداء أو الانتهاء، فإن صح ذلك معناه أنها تركت للاجتهاد البشري والخبرة البشرية.
وقد أجد إشارات في أبواب كالإرث، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((إذا استهل المولود يرث)) (رواه أبو داود) أو قوله: ((لا يرث الصبي حتى يستهل)) (ابن ماجة) ، جاء في الموسوعة الفقهية: وتعرف حياته بالاستهلال صارخًا، واختلف الفقهاء فيما سوى الاستهلال ... ولأن الاستهلال لا يكون إلا من حي والحركة تكون من غير حي ... الخ، وفي رواية عن أحمد إذا علمت حياته بصوت أو حركة أو رضاع أو غيره ورث. وثبتت له أحكام المستهل لأنه حي، وبهذا قال النووي والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه (1) ...
__________
(1) الموسوعة الفقهية الجزء الثالث فقرة 112 ص 66(3/172)
وواضح أن هذا يستند إلى خبرة بشرية بجانبيها الفقهي والطبي، وأجد في باب الجنازة، (1) المسارعة في تجهيز الميت إذا تيقن موته، وإن اشتبه أمر الميت اعتبر بظهور أمارات الموت، وإن مات فجأة انتظر به حتى يتيقن موته" (معجم الفقه الحنبلي) .
فإذا رجعت إلى كتاب من كتب الفقه الحديثة وجدته يقول " لا بد من تحقق الموت بواسطة الأطباء وغيرهم من العارفين". (2)
ولست هنا أحاول إيجاد حكم فقهي، فتلك مهمة السادة الفقهاء، وكل ما أقوله هو توضيح ما يلمسه الطبيب من أن الحكم يعتمد على خبرة بشرية وهذه قابلة للتطور مع تطور المعرفة البشرية.
النقطة الثانية التي أحب توضيحها:
عملية الموت:
إن الموت ليس نقطة واحدة أو خطًّا رفيعًا، ولكنه عملية لها امتداد يطول أو يقصر، والناس من قديم يعرفون أن فلانا دخل مرحلة الموت أو بدأ عملية الموت أو في حالة احتضار، وتتحدث كتب السنة عما يسن "عند الاحتضار"، وربما كان اللفظ مأخوذًا مما في الكتاب الكريم {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} (3) وقوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (4) ولا شك أن الآيتين الكريمتين تشيران إلى مرحلة من الموت دون المرحلة التي لا تقبل عندها التوبة والتي تشير إليها الآية الكريمة {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ} (5)
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)) (6) (مسلم وغيره) (وفي حديث آخر إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) (7) (الترمذي) وهنا أيضًا مرحلتان مختلفتان.
والخبرة الطبية لا تختلف عن ذلك.
__________
(1) معجم الفقه الحنبلي جـ 1 ص 193
(2) فقه السنة (سيد سابق) ط، جـ 4 ص 53
(3) سورة البقرة / 133
(4) سورة البقرة / 180
(5) سورة النساء/ 18
(6) مختصر صحيح مسلم 453
(7) رياض الصالحين للنووي باب التوبة(3/173)
فالجسم مجموعة من الخلايا والأعضاء والأجهزة تقوم كل منها بوظيفتها، ولها متطلبات لأداء هذه الوظائف من غذاء أو طاقة أو وسط يحيط بها في توازن دقيق، ويعتمد كل منها في ذلك على الآخر، فإذا اختلت وظيفة عضو أثر ذلك على أداء الأعضاء الأخرى لوظائفها بدرجات متفاوتة كما في تشبيه الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بالجسد ((إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)) (1) ... والخلل إذا لم يتوقف تداعى إليه عضو بعد عضو حتى يحدث الموت.
ولنذكر بعض الأمثلة:
لا بد للأعضاء والخلايا من أكسجين، وهذه وظيفة الجهاز التنفسي فإذا امتنع ذلك لخنق أو غرق أو توقف إدخال الهواء إلى الرئتين لشلل في عضلات التنفس أو كسر في عظام القفص الصدري، أو غلبة غاز غير الأكسجين، أو مرض بالرئتين يمنع انتقال الأكسجين إلى الدم أو مادة كيميائية تمنع انتقال الأكسجين من الدم إلى الأنسجة، اختلت وظيفة الأعضاء وتداعى الخلل حتى يموت الإنسان، وتختلف الأعضاء في المدة التي تحتملها بغير أكسجين قبل أن تتلف تلفًا كاملًا.
وإذا عجز القلب عن القيام بوظيفة ضخ الدم إلى أعضاء الجسم حدث مثل ذلك، سواء كان العجز لسبب من خارج القلب يعوق عمله، أو لسبب في العضلة نفسها يجعل ضخها غير مُجْدٍ أو لاضطراب في نظام القلب الكهربي، مثل ارتجاف البطين الذي يجعل كل مجموعة من الألياف تنقبض مستقلة عن غيرها من الألياف فلا يكون هناك ضخ على الإطلاق، وتختلف الأعضاء كذلك في تحملها لهذا الخلل قبل أن تتلف، ومن المشهور بين الناس أن الضخ الفعال إذا لم يعد قبل مرور دقائق أربع فإن المخ يتلف تلفًا لا يمكن علاجه.
ومثل ذلك إذا أصيب الإنسان بنزف، ولم يصل للأعضاء حاجتها من الدم ولم يوقف النزف، ويعوض الدم المفقود في الوقت المناسب، أي قبل أن تتلف الأعضاء.
__________
(1) مختصر صحيح مسلم 1774(3/174)
وإذا عجزت الكليتان عن أداء وظيفتها وتعذر تخلص الجسم من المواد التي لا بد أن يتخلص منها، وتعذرت المحافظة على التوازن الحمضي القاعدي في سوائل الجسم، والتوازن الدقيق بين عناصر الأملاح التي تدخل في تركيبها وما يصحبها من شحنات كهربية، وكل هذا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالوظائف البيولوجية العديدة التي تقوم بها الخلايا والأعضاء، أقول إذا حدث هذا اختلت وظائف الأعضاء وتداعى الخلل، حتى يموت الإنسان، إلا أن نقدم ما يوقف الخلل ويصححه في الوقت المناسب كالكلية الصناعية مثلًا ...
وربما لاحظتم في الأمثلة السابقة تكرار تعبير الوقت المناسب، وذلك أن الخلل الوظيفي إذا لم يعالج قبل فوات هذا الوقت استمرت الأعضاء في تداعيها إلى خلل إثر خلل وقصور إثر قصور إلى أن يتم الموت، حتى لو أمكن علاج وتصحيح الخلل الأول الذي بدأ سلسة التداعي هذه.
ومن أوضح الأمثلة على ذلك.. النزيف الدموي، فإنه إذا لم يسارع بوقفه قبل مرحلة معينة استمرت عملية الموت حتى لو أوقف النزيف بعد ذلك وعوض الدم المفقود.
ويختلف الوقت أو المدة التي نحن بصددها تبعًا لسرعة أو بطء حدوث الخلل الوظيفي، لأن الجسم يحاول تلقائيًا تصحيح أو تعويض الخلل بما خلق الله فيه، كما تختلف بطبيعة المرض أو قل بطبيعة العضو أو الجهاز الذي يكون قد أصابه الخلل قبل وصول العلاج إلى المريض. فالعضو الواحد يختلف عن غيره في مدة احتماله لهذا القصور أو ذلك قبل أن يتلف تلفًا غير قابل للإصلاح، وقد سبق أن المخ يحتمل توقف القلب أقل من أربع دقائق، فإذا عاد القلب لعمله بعد ذلك بقي المخ تالفًا، كما أن توقف التنفس يتبعه توقف القلب بعد أقل من ذلك وهكذا ...(3/175)
موت الأعضاء وموت الإنسان:-
وفي ضوء ما سلف نستطيع أن نستوعب إعلان سيدني (1) "الذي صدر عن اتحاد الأطباء العالمي في جمعيته الثانية والعشرين في سيدني باستراليا سنة 1968م، وجاء فيه "أن الموت على مستوى الخلية (أو مستوى الأنسجة) عملية تدريجية، والأنسجة تختلف في تحملها لحرمانها من الأكسجين، وليس المهم تحديد موت الأعضاء المختلفة أو مجموعات الخلايا، وإنما المهم التأكد من أن عملية الموت قد وصلت إلى نقطة لا يمكن عندها وقفها مهما استعمل من وسائل العلاج والإنعاش. وأن وجود عضو أو مجموعة من الخلايا حية لا يغني بالضرورة أن الكائن ذاته حي".
وربما اتضح ذلك أكثر إذا تذكرنا أن القلب يستمر في الضرب بعد أن يشنق صاحبه، وقد جرت عادة المنفذين أن يسجلوا المدة التي استمر فيها النبض بعد التنفيذ، وما نشاهده الآن من نقل كلية من أمريكا أو أوروبا بالطائرة لتزرع في مريض في الكويت مثلًا، وهي كلية حية لمريض مات ودفن قبل أن تزرع، وما نعرفه من إمكان استزراع خلايا بشرية مرة بعد مرة في المختبر بعد فصلها عن صاحبها.
ويبذل أهل الاختصاص جهودًا متنامية للإبقاء على حياة هذه الأعضاء أو تلك الخلايا أطول مدة ممكنة بحفظها مثلًا في درجة حرارة معينة، وقد تصل إلى التجميد، أو بإبقائها في سائل ذي خواص معينة جار أو غير جار، يمر أو لا يمر خلاله الأكسجين.
كيف يحدد الموت:-
وهنا لا بد أن تنشأ قضايا أو أسئلة، هي ما نحاول في ندوتنا هذه أن نجيب على بعضها.
أولها كيف يحدد الموت؟ حتى يترتب على هذا التحديد ما يترتب من قضايا فقهية وقانونية لا غنى للناس عنها.
وهذا سؤال قديم لم يزل الناس على مر العصور يجتهدون في تحري الدقة في الإجابة عليه، وفي اتباع إجراءات تتيح الرصة لبعض التصحيح إن كان القرار خاطئًا، أو للتثبت إن كان الشك قائمًا. (2)
وقد نذكر من بعض الوثائق صورة الراهب الذي يمر بشمعة مضاءة أمام وجه الميت حتى يتأكد أن التنفس قد توقف، ونذكر تعليمات المستشفيات منذ كنا طلبة للطب أن يسجل الطبيب في أوراق المريض الذي شهد وفاته ما قام به من محاولات لإسعافه أو إنعاشه ثم يكتب: ينقل إلى غرفة الموتى بعد ساعتين.
ومنذ ظهرت السماعة الطبية تركز الانتباه على دقات القلب كعلامة مؤكدة على استمرار الحياة تتوقف بتوقفها.
__________
(1) BMJ 1968, 3, 493 - 494
(2) Jennet, B 1981 B. J. Anaesth, 53, 1112(3/176)
ولا يزال العديد من الموتى تحدد وفاتهم بهذه العلامات التقليدية، أي توقف القلب والتنفس كمن يموت في منزله أو في المستشفى نتيجة تطورات مرضية معروف انتهاؤها بالموت، أو كمن يموت لأي سبب وفي أي مكان قبل أن تتاح الفرصة لإسعافه بوسائل العلاج الحديثة، ولا توجد عادة صعوبة في تحديد الموت في مثل هذه الأحوال فإن مرور دقائق بعد توقف القلب والتنفس يحل المشكلة، ويحيل الشك إلى يقين.
موت جذع الدماغ:-
إلا أن الصورة تغيرت بعض الشيء بتطور المعرفة البشرية في مجال الطب والعلوم المساعدة له، ومن أهم هذه التطورات إمكان استمرار التنفس إذا عجز أو توقف بواسطة أجهزة صناعية، حتى فيمن يصاب إصابة قاتلة، فإذا أصيب شخص في رأسه ودماغه أمكن استمرار التنفس الصناعي، وفي هذه الحالة يستمر القلب في النبض أيامًا بعد أن يكون الدماغ قد توقف، بل بعد أن يكون قد بدأ في التحلل.
ومن هنا بدأت تظهر فكرة تحديد الموت بواسطة العلامات الدالة على موت الدماغ ونعني بالتحديد موت جذع الدماغ. (Brain – stem death) .
وقد أتيحت الفرصة لاستعمال هذه الأجهزة على نطاق واسع على جرحى الحرب الكورية (1950- 1953) ثم على المصابين في وباء شلل الأطفال في الدانمارك 1952م وفي أمريكا 1953 (إذ إن الشلل يصيب أيضًا عضلات التنفس) ، ثم بدأت تنتشر وحدات العناية المركزة التي تتوفر فيها هذه الأجهزة، ثم استعملت بصورة واسعة لعلاج إصابات الرأس (في إنجلترا) ... وهكذا.(3/177)
وتزايدت الخبرة المتجمعة، وتوافرت المعلومات الدقيقة، وبدأت تظهر دراسات محددة تحاول تحديد علامات واضحة يمكن عند توافرها الاطمئنان إلى تشخيص "موت الدماغ"، ونشرت دراسة فرنسية 1959م ثم العلامات التي حددتها جامعة هارفارد 1968م بعد دراسة قامت بها لجنة من الأطباء والمحامين ورجال الدين، ثم إعلان سيدني 1968 الذي سلفت الإشارة إليه، ثم دراسة جامعة مينيسوتا ... الخ، (1) كما أخذت السلطات الطبية في بلد إثر بلد تصدر تعليمات محددة يعتمد عليها الأطباء في تشخيص موت الدماغ.
وحسبنا هنا الإشارة إلى الإعلان الصادر 1976 عن المؤتمر المشترك للكليات الملكية للأطباء في المملكة المتحدة (2) فهو يعتبر تلخيصًا وتنقيحًا ومراجعة للدراسات التي سبقته، وقد أصبح بعد عام من صدوره تعليمات قائمة من السلطات الصحية في المملكة المتحدة للأطباء العاملين بها، وهي تحدد شروطًا لا بد من توافرها لتشخيص موت الدماغ منها على سبيل المثال:
1- أن يكون المريض في حالة غيبوبة عميقة، وأن نستبعد الغيبوبة القابلة للعلاج كليًا أو جزئيًا مثل العقاقير المهدئة أو المنومة أو الانخفاض الشديد في حرارة الجسم ... الخ.
2- أن يكون المريض معتمدا على أجهزة التنفس الصناعي، لانعدام التنفس التلقائي.
3- ألا يكون هناك شك في وجود تلف في الدماغ غير قابل للعلاج (مثل إصابة بالرأس، أو نزيف تلقائي بالدماغ، أو بعد عملية جراحية في المخ ... الخ) .
4- أن يثبت الفحص السريري علامات موت جذع الدماغ كاتساع إنسان العينين اتساعًا ثابتًا لا يتأثر بالضوء، وانعدام التأثر الانعكاسي في منطقة الأعصاب القحفية وهكذا.
5- انعدام الاستجابة لمحاولات تنبيه التنفس التلقائي.....
وليس هنا مجال استقصاء هذه الشروط والعلامات، ويسهل التماس ذلك في مظانه، وإنما أحببت أن أبين أنها علامات محددة اتضحت وتجمعت وتأكدت بعد دراسات ومراجعات امتدت على طول سنوات عديدة، وأصبح من الثابت أنه متى حدث موت جذع الدماغ، فإن الأعضاء الأخرى ستتوقف عن العمل عضوًا إثر عضو مهما استمرت أجهزة التنفس الصناعي وغيرها من الأجهزة في العمل.
أما إذا أوقفت الأجهزة فإن القلب يتوقف بعدها مباشرة.
(وأنبه إلى أن جذع الدماغ قد يكون حيًّا في مرضى مصابين بغيبوبة أو بمرض يمنع الكلام ويمنع الحركة أو يمنع الإدراك أو يمنع الاستجابة لمحاولة الاتصال به إلخ، وهذه لا تندرج تحت تعبير موت جذع الدماغ بشروطه المحددة) .
__________
(1) Julius Korein, 1980, Anaesthesia & Neurosurgery, 289 - Molby Co, Ed. James E. Gothell
(2) B. M. J. 1976, 2. 1187 - 1188(3/178)
مراجعة وتمحيص:-
والأطباء مثلهم مثل الفقهاء لا يسلمون بالجديد، على كثرة البحوث واستمرارها، حتى يقتلوه بحثًا وتمحيصًا، وذلك ما اتبعوه مع قضيتنا هذه أي اعتبار موت جذع الدماغ موتا للمريض، ولما كان قرار تشخصي الموت يتبعه إيقاف الأجهزة الصناعية ووقف التنفس يتبعه توقف القلب، فقد كان من الضروري تمحيص هذه القضية بصورة أخرى.
فأجريت دراسة استقصائية للحالات التي تم فيها تشخيص موت الدماغ، ولكن الأجهزة لم توقف لسب من الأسباب وقد زادت على سبعمائة حالة وقد ماتت الحالات جميعًا رغم استمرار الأجهزة، هذا وقد توقف القلب فيها جميعًا. بعد ساعات أو أيام من موت الدماغ، وكان متوسط المدة ثلاثة أيام ونصف يوم إلى أربعة أيام ونصف يوم وأقصى مدة سجلت لاستمرار القلب في الدق هي أربعة عشر يومًا. (1)
ثم أجريت دراسة أخرى من الزاوية المقابلة على أكثر من ألف حالة أدخلوا إلى المستشفيات في حالة غيبوبة عميقة إثر إصابة بالغة بالرأس وتمت معالجتهم، وكانوا جميعًا أحياء وقت إجراء الدراسة، أي بعد ثلاثة أشهر من إصابتهم، وقد روجعت البيانات المسجلة لكل منهم، وذلك للإجابة على سؤال واحد محدد "هل كان يمكن أن يشخص موت الدماغ في إحدى هذه الحالات"؟
فلم يجد الدارسون حالة واحدة من بين هذه الحالات استوفت شروط هذا التشخيص، حتى في أسوأ مراحل الإصابة. (2)
وبتعبير آخر فإن الحالات السبعمائة التي تم فيها تشخيص موت الدماغ لم يعش أحد منها على الرغم من استمرار الأجهزة الصناعية في عملها.
والحالات الألف التي عاشت لم يكن من الممكن أن يشخص في إحداها موت الدماغ.
متى توقف الأجهزة:-
وبهذا يطمئن الطبيب عندما يشخص موت الدماغ إلى اتخاذ قرار بوقف الأجهزة، وهو هنا لا يوقف علاجًا ليسلم المريض إلى الموت، وإنما يوقف إجراءات لا طائل من ورائها في شخص قد مات بالفعل. (3)
وقد أوضح بعض الباحثين أننا لسنا بصدد مفهومين للموت: أحدهما توقف الدماغ والآخر: توقف القلب والتنفس، بل هما مجموعتان من الأدلة والظواهر تنتهيان إلى نهاية واحدة هي محل الاعتبار، وهي موت الدماغ في كل الأحوال، إذ إن ذلك هو ما يحدث أيضًا عند التوقف النهائي للقلب والتنفس خلال دقائق إن لم تكن ثوان. (4)
__________
(1) (Julius Korein 1980 Anaesthesia & Neurosurgery) Jinnet B, 1981 BJ. Anaesth., 53, 1112
(2) Jennet B et aL 1981 BMJ, 282, 533- 39
(3) Jennet B 1981 Anaesth. 33, 1113
(4) Julius Korein 1980 Anaesthesia & NeuroSurgery(3/179)
ولعل ما أسلفت يكفي للإجابة على السؤال الثاني من الأسئلة المطروحة وهو متى يوقف الطبيب أجهزة الإنعاش؟
وكما أن المهنة الطبية لم تستقر على قبول موت جذع الدماغ كموت للإنسان إلا بعد معاناة ومخاض فكري ودراسي وتمحيصي، فكذلك الطبيب الذي يتخذ القرار وينفذه لا يأتي ذلك بسهولة أو دون روية أو دون معاناة نفسية.
فالعاطفة الإنسانية غلابة بالرغم من الاقتناع العقلي وخاصة إذا كان القرار يصدر من الطبيب الذي يتولى العلاج المباشر للمريض، وقد شهدت أكثر من مرة أطباء لا جدال في طول خبرتهم وعلو كفاءتهم، وكأنهم لا يستطيعون أن يتوقفوا عن محاولات الإنعاش، بل يقاومون وقفها بالرغم من ثبوت الموت حتى يفيئوا بعد جهد إلى تذكير زملائهم وإلحاحهم.
زراعة الأعضاء:
وينشأ بعد ذلك السؤال الثالث وهو عن زراعة الأعضاء.
وقد صدرت فتاوى تبيح نقل عضو من حي تبرع به لسواه بشروط.
من أهمها ضرورة ذلك للمستفيد وعدم هلاك المتبرع، وسؤالنا هنا عن جواز أخذ أعضاء من الموتى لزراعتها في الأحياء.
ونقول ابتداء: إنه لا يوجد طبيب صحيح العقل فضلًا عن طبيب مسلم يفكر في الإجهاز على مريض محتضر لنقل عضو من أعضائه إلى مرض آخر يوشك أن يموت، فللطبيب التزامه المهني بالمحافظة على الحياة الإنسانية ابتداء من لحظة الحمل حتى تحقق الموت، والمسلم يعرف قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (1) ويستشعر حرمة الحياة الإنسانية في قوله تعالى {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (2) ويحذوه في عمله الطبي قوله تعالى في نفس الآية {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (3) وإحياء النفس بإنقاذها من هلكة يندرج تحته كل أنواع العلاج بما فيها زراعة الأعضاء.
وإذا كانت الفتاوى قد أجازت للحي أن يتبرع بعضو من أعضائه أثناء حياته فما يمنع أن يوصي – بالانتفاع - بهذا العضو بعد وفاته؟ وإذا لم يوص هل يجوز ذلك من وليه؟ وهل يجوز أن يحل الحاكم أو المجتمع أو القانون مكان الولي إذا لم يكن الميت قد أوصى بالتبرع أو بعدم التبرع؟
بعض الدول سنت قانونًا يبيح أخذ الأعضاء من الميت ما لم يكن قد أوصى بغير ذلك، وبعضها يمنع أخذ الأعضاء ما لم يكن الميت قد أوصى بالتبرع، وبعضها يشترط فوق ذلك موافقة الولي على إنفاذ الوصية.
أين نحن كمسلمين من هذا الخضم؟ هذا ما ننتظر جوابه من الندوة الموقرة.
__________
(1) سورة آل عمران/ 145
(2) سورة المائدة/ 32
(3) سورة المائدة/ 32(3/180)
احتياط واستبراء:
وسأكتفي هنا بذكر الاحتياطات التي تتخذها المهنة الطبية حتى تتأكد من صحة القرار الصادر بأن المريض قد مات قبل أن يؤخذ أي عضو من أعضائه ومن ذلك: (1)
1- وجود تعليمات واضحة بشروط محددة يجب توافرها لتشخيص الموت وقد سبق توضيح ذلك.
2- اشتراك أكثر من طبيب ذي خبرة كافية في قرار تشخيص الموت.
3- في الحالات التي ينتظر أخذ أعضاء منها لا يكون أحد من الأطباء المشار إليهم في الفقرة السابقة مرتبطًا بالفريق الطبي الذي ينتظر الأعضاء لزراعتها.
4- أن تكون الشروط والإجراءات واحدة سواء كان الميت ستؤخذ منه أعضاء أو لا تؤخذ.
"وليس صحيحًا أن الأطباء قد يستعجلون وقف الأجهزة، بهدف أخذ أعضاء للزراعة وهي في حالة أفضل، بل العكس هو الذي قد يحدث، بمعنى أن المريض عندما يتأكد موته قد يؤجل وقف الأجهزة حتى يتاح لوليه أن يفكر في روية ويقرر في غير عجلة الموافقة على أخذ أعضاء إن شاء..".
الخلاصة:
وتلخيصًا لما سبق أقول: إننا تحدثنا عن تحديد الموت في غيبة النص الشرعي باجتهاد بشري (بشقيه الفقهي والطبي) وأن الموت عملية لها امتداد يطول أو يقصر، وأن حياة عضو أو مجموعة من الخلايا لا تعني بالضرورة حياة الإنسان نفسه، وأن تحديد الموت يتم عند توقف القلب والتنفس، أو عند توقف جذع الدماغ في الحالات التي يستمر فيها التنفس بوسائل صناعية، وأن موت الدماغ له شروط وعلامات محددة استقرت المهنة الطبية عليها بعد سنوات من الدراسة والتمحيص، ويترتب على هذا التشخيص وقف الأجهزة، ثم تعرضت لجواز أخذ أعضاء من الميت وتساءلت عن موقفنا من بعض القوانين التي تنظم أخذ أعضاء الموتى في دول مختلفة.
ماذا عن الأحكام التي تترتب على الموت؟
وأضيف جوابًا على سؤال بعض الزملاء أننا هنا لم نتعرض لشيء من الأحكام الفقهية التي تترتب على الموت كإرث أو وصية أو قصاص.. فهي أحكام تترتب على الموت، والذين نتحدث عنه هو الموت كيف نحدده؟ ومتى صدر هذا القرار فالأحكام هي هي لم تتغير.
وأحسب الوقت المتاح لي لا يتسع للحديث عن حياة الجنين والمولود، وحسبي أن أحيل إلى مداولات ندوة الإنجاب، وإلى مداولات اللجنة التي شكلها ورأسها معالي وزير صحة الكويت ورئيس المنظمة، والتي كان لي شرف عضويتها، وقد أعدت المواد الخاصة بالإجهاض من قانون مزاولة المهن الطبية الذي أقره مجلس الأمة الكويتي موافقة لجنة الفتوى عليه.
وأشكر للسادة الذين نظموا هذه الندوة إتاحتهم الفرصة لي كي أتشرف بالحديث إليكم وأشكركم جميعًا على استماعكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
__________
(1) Jennet B, 1981 Anaesth, 53, 117 (BMJ 1976, 2, 1188)(3/181)
نهاية الحياة البشرية
للدكتور أحمد شوقي إبراهيم
إن خلق الإنسان سر من أسرار الخلق. . ومن أسرار الفطرة التي فطر الله خلقه عليها.. وليست معرفة سر خلق الإنسان ميسورة لعلومنا التجريبية قط.. وبالتالي فإن فهمنا لبدء حياة الإنسان ونهايتها أكثر صعوبة على فهمنا وأبعد يسرًا ومنالًا.
ولا شك أن هذا الموضوع سيفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، إلا أنه يجب أن يكون أي اجتهاد في الرأي، مؤسسًا على الحق المبين الذي جاء به الوحي الإلهي في القرآن والسنة.. وينبغي قبل الحديث عن بداية الحياة البشرية ونهايتها أن نحاول التعرف على الإنسان الذي هو موضوع القضية.
فمن هو الإنسان؟
قال الدكتور الكسيس كاريل المتوفى سنة 1944م (1) "إن علوم التشريح والفسيولوجيا والكيمياء والنفس والاجتماع وغيرها من العلوم لم تعطنا نتائج قطعية في ميادينها عن ماهية الإنسان، وإن الإنسان الذي يعرفه العلماء ليس إلا إنسانًا بعيدًا جدًا عن الإنسان الحقيقي، فالإنسان كائن مجهول لنفسه وسيظل جهلنا به إلى الأبد".
وقال أيضًا "إن معرفتنا بالإنسان لا زالت معرفة بدائية" وقال دوكاس "إن الإنسان الحقيقي لا نعرف عنه شيئًا". ولقد سبق كل ذلك في علم الله تبارك وتعالى.. لذلك يتحدى البشر ويرد الله عز وجل عليهم في سورة الإنسان بقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} . (2)
والإنسان كما علمنا من الوحي الإلهي في القرآن والسنة، ليس جسمًا فحسب، بل هو نفس وروح أيضًا.. وهنا اختلف العلماء في معرفة الإنسان.. فالأطباء يعرفونه جسمًا وخلايا، يتعرض للصحة والمرض.. وعلماء النفس يرونه شعورًا ولا شعور.. والجميع لا يدركون كنه النفس البشرية وأسرارها.. ولا يعلمون عن الروح إلا ما أخبرنا به القرآن والسنة من حق..
ولما كانت بداية حياة الإنسان ونهايتها متعلقة تعلقًا وثيقًا، بكل من الجسم والنفس والروح والعقل والقلب، فينبغي على الباحث في هذا الموضوع أن يتعرف على كل هذه المكونات في الإنسان أولًا، حتى يتمكن بعد ذلك من أن يفهم متى تبدأ حياة الإنسان ومتى تنتهي.؟
__________
(1) الإنسان ذلك المجهول للدكتور الكسيس كاريل
(2) تفسير القرطبي الجزء 12 ص 109(3/182)
فماذا عن حياة الجسم وموته؟
خلق جسم الإنسان من طين هذه الأرض لأن كل مكونات الجسم موجودة في تراب هذه الأرض.. وجعله الله تعالى نطفة ثم علقة فمضغة فعظامًا فلحمًا، ثم نفخ فيه الروح وبذلك صار "خلقًا آخر" كما قال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك ثم بعد ذلك صار في الحياة الدنيا بشرا..
وجسم الإنسان مكون من خلايا. وخلايا الجسم تموت وتحيا.. كل خلية لها أجل مسمى.. تموت بعده وتنتهي وتحل محلها خلايا جديدة. (1) وذكر بعض الباحثين أن 125 مليون خلية تموت في جسم الإنسان كل دقيقة وتحل محلها خلايا جديدة.. وتتساقط الخلايا من الجسم كما تتساقط أوراق الشجر الميتة من أشجارها.. وأن الذرات التي تكون جسم أي إنسان منا غير موقوفة عليه.. فهي تأتي له من مصادر شتى.. وبعد أن تغادر الجسم تذهب إلى مصادر شتى كذلك. (2)
فجسم الإنسان يموت ويحيا ثم يموت ويحيا في الحياة الدنيا، وهو حي يرزق.. إذن فسر الحياة غير متعلق بموت الجسم أو حياته. (3) وهذه حقيقة ينبغي أن نلتفت إليها في بحثنا عن بدء حياة الإنسان ونهايتها.
ما هي النفس البشرية ومتى تحيا ومتى تموت؟
- اختلف العلماء بشأنها.. فهل هي كائن منفصل عن الجسم والروح؟
- أم هي كائن نشأ من التقاء الروح بالجسد؟
ونرجح أن النفس البشرية شيء غير الروح البشرية، لأن الروح ذكرت في القرآن والسنة تنفخ في الجسد، ولم تذكر النفس.. كذلك فالنفس تأمر بالخير والشر.. أما الروح فهو الخير الخالص لأنه من أمر الله.. فأوجب ذلك أن تكون النفس البشرية غير الروح البشرية على قدر ما نعلم.
وقال الإمام أبو حامد الغزالي المتوفى 505هـ. عن النفس البشرية: (4) "إن النفس هي الأصل الجامع للصفات المذمومة في الإنسان" وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أعدى عدوك النفس التي بين جنبيك)) .
__________
(1) سنريهم آياتنا للدكتور أحمد شوقي إبراهيم.
(2) العلوم الذرية الحديثة في التراث الإسلامي (لأحمد عبد الوهاب)
(3) الإسلام يتحدى: وحيد الدين خان.
(4) إحياء علوم الدين الجزء 3 ص 4 للإمام أبي حامد الغزالي(3/183)
وروى الإمام أحمد والترمذي عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المجاهد من جاهد نفسه)) .
ونفس الإنسان هي سر الحياة فيه.. وهي حقيقة الإنسان وذاته. والحيوان يعيش بنفس حيوانية.. وقد يكون بالإنسان نفس حيوانية ونفس إنسانية كما سنبين فيما بعد..
وتوصف النفس البشرية بأوصاف تختلف أحوالها. (1) فإذا زايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات، سميت "بالنفس المطمئنة" وإذا لامت صاحبها على تقصيره في عبادة الله، سميت "بالنفس اللوامة" وإذا أذعنت لشهوات الجسم، سميت "بالنفس الأمارة بالسوء".
وذكرت النفس في القرآن في 295 موضعًا.
- والنفس متعلقة بالجسم وداخلة فيه، كما وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((النفس التي بين جنبيك)) ولكنها ليست مادية.. وإذا التقت بالجسم دبت فيه الحياة.. وإذا فارقته انتهت من الإنسان الحياة.. كما قال تعالى {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) } .
والنفس هي التي تموت.. وهي التي تقتل.. وليس الجسم.. لأن الجسم يحيا ويموت وسر الحياة باقٍ في الإنسان.. وقد يموت الجسم فيصبح غير صالح لوجود النفس والروح فيه.. إلا أن الموت هو موت النفس كما قال الله عز وجل في سورة الكهف: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} .
وفي سورة آل عمران / 145 يقول عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} ويقول عز وجل في سورة العنكبوت / 57 {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} والحيوان فيه حياة ففيه إذن نفس حيوانية.. والإنسان حي في بطن أمه قبل نفخ الروح فيه ففيه نفس حيوانية أيضًا.. أما بعد نفخ الروح فيه فإنه يصير خلقًا آخر بشرًا له نفس بشرية أو تأخذ نفسه الصفة البشرية.
فبدء حياة النفس بتكون النطفة ونهايتها بخروجها من الجسم ورجوعها إلى خالقها.
__________
(1) إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي جزء 3 ص 4(3/184)
ما هي الروح البشرية؟
جاء لفظ الروح في القرآن الكريم في عشرين موضعًا وله مدلولات كثيرة:
جاء بمعنى جبريل كما في سورة مريم/ 17 في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} .
وجاء بمعنى القرآن كما في سورة الشورى/ 51 في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} .
وجاء بمعنى الوحي الإلهي كما في سورة النحل / 2 في قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} .
وجاء بمعنى الروح البشرية كما في سورة الحجر/ 29 في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) } .
فالروح في أي معنى من معانيه هو من أمر الله عز وجل.. ولا يحيط بعلمه إلا الله تعالى، لذلك جاء لفظ الروح بصفة شاملة بمعنى الوحي وجبريل والروح البشرية في سورة الإسراء/ 85 في قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} .
وقال الإمام أبو حامد الغزالي: الروح هي اللطيفة العالمة المدركة في الإنسان وهو أمر رباني عجيب تعجز أكثر العقول والأفهام عن إدراك حقيقته. (1)
وقال الإمام الشعراني: (لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم عن حقيقة الروح مع أنه سئل عنه؛ فنمسك عن الحديث عنها أدبًا) .
وقال الإمام الجنيد: (إن الروح شيء استأثر الله تعالى بعلمه ولا يجوز لأحد البحث عنه أكثر من أنه موجود) .
ولا تخضع الروح للعلم التجريبي أبدًا.. ومن هنا فليس لها من مصدر للعلم من علوم البشر.. وليس له من مصدر وحيد إلا ما جاء بالوحي الإلهي في القرآن والسنة.. فينبغي إذن أن نأخذ من الوحي الإلهي العلم عن الروح بدون نقاش لأن علومنا التجريبية تعجز عن أن تكون طرفًا في هذا النقاش.
__________
(1) إحياء علوم الدين: جزء 3 ص 4(3/185)
ما هو قلب الإنسان؟.. وهل لو توقف القلب عن النبض توقفت الحياة؟
ليس القلب الذي ينبض في صدر الإنسان هو الذي جاء ذكره خاصة في القرآن والسنة ... وإنما جاءت كلمة القلب لتعني الوعي والعقل وذكر الإمام الغزالي أن القلب يطلق على معنيين:-
1- أحدهما: العضو الذي يضخ الدم الموجود في الجانب الأيسر في الصدر ويتعلق به غرض الأطباء ولا يتعلق به الأغراض الدينية وهذا القلب موجود في البهائم.. بل هو موجود للميت.. وهو قطعة لحم لا قدر فيه.
2- المعنى الثاني: هو لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق.. وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان. والقلب هو المدرك العالم العارف من الإنسان وهو المخاطب والمطالب.. وقد تحيرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته بالقلب الجسماني.
وأن تعلقه به يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام، والأوصاف بالموصوفات، وأننا إذا أطلقنا لفظ القلب، فإننا نعني به هذه اللطيفة الربانية. ويمكننا أن نذكر أوصافها وأحوالها. ولكننا لا نستطيع أن نذكر حقيقتها في ذاتها.. ويمكن أن يكون القلب هو عقل الإنسان وفكره، فلم تذكر كلمة العقل في القرآن وذكر القلب للدلالة عليه.
وذكر الصحاح أن كلمة " قلب " تعني العقل.. كما قال الله تعالى في سورة ق {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .
وجاء في تفسير القرطبي: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} قال: لمن كان له عقل يتدبر به فكنى بالقلب عن العقل.. وقيل لمن كان له نفس مميزة، فعبر عن النفس البشرية بالقلب.
وقال الفيروز أبادي في القاموس المحيط: القلب هو الفؤاد والعقل ومحض كل شيء.. كما في قوله تعالى {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أي من كانوا مرضى في عقولهم وأفكارهم، وفي سورة الشعراء/ 192 يقول الله عز وجل {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) } ، أي على وعيك وإدراكك وفكرك وعقلك.
وفي سورة الكهف: 27 {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} .(3/186)
وفي سورة التغابن/11 {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
وفي سورة آل عمران / 8: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .
وكما جاء ذكر القلب بمعنى العقل، فقد جاء ذكر المصدر بمعنى النفس.. كما في سورة الأحزاب / 31 {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي نفسيته مريضة.
وقوله تعالى في سورة الناس / 5 {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}
أي في نفوس البشر.
وفي سورة يونس/ 56 {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أي وشفاء لما في النفوس.
وفي سورة الحج/ 45 جاءت آية ذكرت القلب والصدر معًا في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} قلوب يعقلون بها: أي عقول إدراكات يعقلون بها.
ولكن تعمى القلوب التي في الصدور: أي العقول التي هي نفس الإنسان.
وقال مجاهد في شرح هذه الآية (1) إن لكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه وعينان في قلبه لآخرته فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه فلم يضره عماه شيئًا، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئًا ... وقال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} .
قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله فأنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزل قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أي من كان في هذه أعمى بقلبه عن الإسلام فهو في الآخرة في النار.
فالقلوب التي في الصدور هي اللطيفة الواعية المدبرة في النفس البشرية وقال ابن كثير (2) في شرح هذه الآية: ليس العمى عمى البصيرة إن كانت القلوب الباصرة سليمة، فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر.
__________
(1) تفسير القرطبي الجزء 12 ص 77
(2) ابن كثير الجزء 3 ص 227(3/187)
وقال الزمخشري: في شرحه لهذه الآية الكريمة: (1) {لِهِمْ قُلُوبُ} أي لهم عقول يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد ويسمعون ما يجب سماعه من الوحي، والمعنى أن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها وإنما العمى في القلب استعارة، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين، وفضل تعريف، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار..".
وقوله تعالى: {الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} زيادة في التوكيد على أن العمى ليس عمى الأبصار ولكنه عمى القلوب، وقد استعمل كلا اللفظين، "القلوب" "الصدور" استعارة للدلالة على الوعي والإدراك في النفس البشرية، وذكر البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال قلب الكبير شابًا في اثنتين: حب المال وطول الأمل)) .. وواضح أن كلمة القلب هنا معناها الحسن والإدراك.
وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) في قلبه أي: في نفسه..
وروى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((القلوب أوعية بعضها أوعى من بعض فإن سألتم الله عز وجل أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل)) وواضح من الحديث أن القلب والقلوب هي الوعي والعقل والإدراك وليس القلب الذي يضخ الدم في الصدر.
وروى أبو داود عن أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الحرقات فنذروا بها فهربوا فأدركنا رجلًا فلما غشيناه قال: (لا إله إلا الله) فضربناه حتى قتلناه فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة)) فقلت: يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح فقال صلى الله عليه وسلم: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا ... من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ومازال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ)) .
__________
(1) الجزء 3 ص 17(3/188)
نفهم من ذلك أن القلب الذي ذكر بالقرآن والسنة، هو الوعي والإدراك والفكر والعقل، وأن القلب إذا توقف عن النبض فلا يعني هذا انتهاء العقل أو الإدراك.. أو انتهاء الحياة، فقد يتوقف القلب عن النبض فترة والإنسان حي يرزق، ثم يعود إلى النبض مرة أخرى، بأي صنف من صنوف العلاج، وأما انتهاء الحياة الإنسانية فهو موت المخ نفسه موتًا نهائيًا، لأن المخ هو آلة الوعي والعقل والفكر والإدراك، فإذا ما انتهى من الإنسان كل ذلك فلم يعد إنسانًا.. وإن عاش بعد ذلك بقلب ينبض ونفس يدخل ويخرج.. سواء من تلقاء نفسه أو تحت تنفس فإنه يعيش حياة حيوانية.. وليس حياة بشرية..
الإنسان يتميز على غيره من المخلوقات بحمل الأمانة:
كما قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} .
وقال الفخر الرازي: الأمانة هي التكليف وهي الأمر بخلاف ما في الطبيعة أما السماوات والأرض والجبال فهي على ما خلقت عليه.
والعقل هو محل تلقي التكليف.. والمخ هو مورد العقل. ومن هنا فإذا تعطل المخ أو ماتت خلاياه سقط عن الإنسان التكليف وأصبح هو والحيوان سواء.. وبذلك تسقط عنه الصفة البشرية.
وهكذا نجد أن العقل والقلب والأمانة والفؤاد كل هذه الطاقات البشرية تتصل اتصالًا وثيقًا بالمخ.. فإذا مات المخ انتهت كل هذه الطاقات ولم يعد بالجسم إلا حياة حيوانية ولم يعد إنسانًا ولم يعد بشرًا.
ونأخذ من هذا دليلًا على أن نهاية الحياة الإنسانية هي بموت المخ ولو ظل القلب ينبض، ولو ظل التنفس يعمل ولو ظلت باقي خلايا الجسم تدب فيها الحياة.
علاقة الجسم بالنفس والروح:
الجسم إطار مادي عارض.. والجسم والنفس كمصباح معد تمامًا للإضاءة ولكنه لا يضيء بذاته حتى تنفخ فيه الروح فحينئذ يشرق ويضيء وتكتمل وظائفه.
وليس علاقة الجسم بالروح في اليقظة مثل علاقته أثناء النوم.. فأثناء اليقظة تكون العلاقة كاملة، أما أثناء النوم فتضعف الرابطة بين الجسد والروح والنفس البشرية.(3/189)
فالروح هو الوعي والإدراك والنفس البشرية هي شخصية الإنسان وفهمه وفكره وهو سر الحياة فيه.
نقرأ في سورة الزمر/ 41 يقول الله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
فالله يقبض الأنفس حين موتها.. وحين نوم الجسم.. فأما الذي قضى عليها الموت فيمسكها عنده ولا يردها لجسدها.. والتي لم يقضه عليها فيرسلها إلى جسدها إلى أجل مسمى.
كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} .
فالنائم ليس ميتًا حقيقة فهو حي.. ولكنها الوفاة الصغرى لأن الجسم أثناء النوم يكون حيًا، ولكن الوعي والإدراك اختفيا عن الجسم بابتعاد النفس البشرية والروح عنه.
ونقرأ في السنة من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نومه كان يقول:
((باسمك اللهم وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)) .
وقال ابن عباس في تفسيره لآية سورة الزمر: (إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله منها فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الموتى عنده وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها) .
وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى أي يعيدها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كما تنامون فكذلك تموتون. وكما توقظون فكذلك تخرجون)) .
وروى القرطبي عن ابن عباس أنه قال: " في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس هي العقل والتمييز والروح هي التي بها النفس والتحريك فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه".
وقال القشيري: (المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين واحدة واختلف الناس في هذه الآية في النفس والروح وهل هما شيء واحد أم شيئان؟ والأظهر أنهما شيء واحد) .(3/190)
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليضطجع على شقه الأيمن وليقل: سبحانك ربي باسمك وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عندما يستيقظ من نومه: ((الحمد لله الذي أحيانا بعد أن أماتنا وإليه النشور الحمد لله الذي رد إلى روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره)) .
وقال الزمخشري في تفسير آية الزمر:
أي يتوفى الله الأنفس حين تنام تشبيهًا للنائمين بالموتى حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أن الموتى كذلك، فيمسك الأنفس التي قضى عليها الموت الحقيقي أي لا يردها.. ويرسل الأخرى النائمة إلى جسدها إلى أجل مسمى.. وقالوا: إن التي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة، لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس.
وقال ابن كثير: إن الله يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى بما يرسل الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) } فذكر الوفاة الصغرى ثم الوفاة الكبرى.
نفهم من ذلك أنه في حالة انتهاء الحياة البشرية تقبض الروح وترجع النفس إلى بارئها.. وقد سبق أن علمنا أن النفس والروح هما الوعي والإدراك والعقل والفكر.. وكل ذلك متصل بالمخ.. أو أن المخ هو رافدها الوحيد ... إذن فإن نهاية الحياة هي موت المخ.. وليس توقف القلب أو التنفس.. لأن توقفهما معًا أو توقف أحدهما لا يعني بالضرورة موت المخ وبالتالي لا يعني نهاية الحياة.
إن رجوع النفس إلى بارئها وقبض الروح من الغيبيات التي لا تخضع للعلم التجريبي.. وبالتالي فإن الوحي الإلهي في القرآن والسنة هو المصدر الوحيد للعلم فيها.(3/191)
أما الذي يخضع للعلم التجريبي، فهو مظهر ذلك في الجسم، وهو موت المخ. فإن ثبت موت المخ ثبتت نهاية الحياة البشرية.. ولو كان الصدر يتنفس والقلب ينبض تحت جهاز تنفس مثلًا، فالجسم حي تحت الجهاز.. ولكها حياة حيوانية.. وليست بشرية قطعًا..
وكما سبق أن تحدثنا عن القلب والصدر، فهما يعنيان العقل والفكر والنفس البشرية.. وليس القلب والصدر كأعضاء في جسم الإنسان، فليس مرض القلب أو الصدر أو أي عضو بالجسم هو السبب المباشر لنهاية حياة الإنسان.. ولكنه يكون سببًا غير مباشر لأن السبب الوحيد لنهاية الحياة هو موت الخ.. سواء بمرض في المخ نفسه أو بمرض في أي عضو آخر بالجسم أدى إلى موت المخ.
ما هي علامات موت المخ؟
ليس لدينا من العلم في ذلك إلا رسم المخ الكهربائي.. وهو قطعي في معظم الحالات.. ولا يكون كذلك في بعض الحالات.. كحالات التسمم بالأدوية المنومة مثلًا..
ويهمنا هنا تعيين وقت نهاية حياة الإنسان لأهمية ذلك في شئون المعاملات مثل الإرث وغيره.. ويمكننا الجزم بأن نهاية الإنسان هو عندما بموت مخه. ولو كان القلب ينبض ولو كانت الرئتان تتنفسان.. فلو تأكد الطبيب أن المخ قد مات والمريض يتنفس وقلبه تحت جهاز.. فلا حرج عليه في أن يقرر أن هذا الإنسان قد مات.(3/192)
متى تنتهي الحياة؟
للدكتور حسان حتحوت
منذ كان الإنسان عرف الحياة وعرف الموت.. ودفن موتاه ولا يزال يستوي في ذلك إنسان القرون الأولى وإنسان القرن العشرين.. ومجتمع لا يعرف القراءة ولا الكتابة وآخر يعيش آخر صيحات العلم الطبي وغير الطبي. وما عرف الإنسان الحيرة ولا التردد وهو يقرر أن فلانا قد مات، ولا شغل فكره أو فتح على نفسه باب القلق بأن يجابه نفسه سائلًا ماذا يعني الموت بالضبط؟ وما هي على وجه الدقة والتحديد اللحظة من الزمن التي يقال عندها: إن العمر انتهى ووقعت الوفاة؟
وواضح أن موت الإنسان في جملته لا يعني موت أعضائه أو أنسجته أو خلاياه كلا على حدة.. فهناك فترة زمنية بعد إعلان الوفاة لو أخذت خلالها عضلة منه ونبهتها بالكهرباء لانقبضت، ولو أخذت جزءًا من خلاياه فاستزرعتها في سائل مغذ مناسب لتكاثرت، بل لو أخذت قلبه أو كليته ووصلتها بالدورة الدموية في شخص آخر لاستمر في الحياة مظهرًا ووظيفة بكل ما تعنيه الحياة.. ويمر وقت بين وفاة الإنسان ككل وبين دبيب الموت إلى أجزائه المتفرقة ثم إلى خلاياه في كل أجزائه.
وقد كان تعامل البشر مع الموت ولا يزال قائمًا على اعتبار أن الموت هو انتهاء حياة الفرد في إجمالها، وليس انتظار تطرق الموت إلى آخر خلية من خلاياه. فلما تقدم العلم الطبي حتى وصل إلى إمكان نقل عضو من إنسان لإنسان، كان من الطبيعي بالنسبة لتلك الأعضاء التي لا غنى لحياة الإنسان عنها كالقلب مثلًا أن يثور السؤال الحتمي المنطقي: إن فلانًا من الناس قد مات لتوه ولكن قلبه أو كبده، أو رئتيه لم تمت بعد، فماذا لو شققنا عنها فاستخلصناها لتزرع في مريض لا أمل له في الحياة إلا إن استبدل بعضوه التالف عضو صحيح؟ وهو سؤال أجاب عنه الإسلام بالإيجاب. بحكم أن الضرورات تبيح المحظورات فالضرورة في إنقاذ الحي تبيح المحظور في جرح الميت وأخذ عضو منه. وبحكم أنه حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله والمصلحة في إبراء المريض المشرف على الهلاك جلية واضحة، وقد صدرت بذلك الفتاوى كتلك التي أصدرتها لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف بالكويت في 31/12/1979 مفصلة تفصيلًا.(3/193)
ثم تسلسل الأمر إلى تلك المواقف التي لم تعلن فيها وفاة الإنسان بعد، لأنه ما زال محتفظًا بأمارات تعارف الناس على أنها من أمارات الحياة كنبضة القلب وتردد الأنفاس شهيقًا وزفيرًا، في حالات معلوم فيها أن هذه الأمارات ليست ذاتية ولا تلقائية، ولكنها ترتكز على وصل الجسم بوسائل الإنعاش الصناعية، وما دامت دورة الدم والتنفس قائمتين ففي وسع سائر أعضاء الجسم أن تستوعب نصيبًا من الغذاء والأكسجين يُبقي عليها حياتها فلا يدب إليها الموت.. ويمضي زمان يطول أن يقصر حتى تفشل وسائل الإنعاش الصناعية فتنطفئ الحياة تمامًا.
نقول هذه حالات لم تعلن فيها وفاة الإنسان بعد.. فلماذا استعملنا هذا التعبير ولم نقل إنهم أحياء؟
ذلك أن العلم الطبي قد اهتدى إلى أن العبرة في الموت ليست أساسًا بتوقف القلب والتنفس.. ولكنها تتوقف أولًا وآخرًا على موت المخ.. الذي يستبين بتوقف النشاط الكهربائي للمخ تمامًا وهو ما يمكن قياسه بجهاز خاص. فإذا غاضت كهرباء المخ تمامًا، فهو مخ ميت ويكون باقي الجسم قد دخل في نطاق الموت إلى مرحلة اللاعودة، ومهما احتفظ الإنعاش الصناعي بالتنفس ودورة الدم فمحال أن يعود المريض إلى الحياة أبدًا.
موت المخ إذن هو معنى الموت عند الأطباء.. واللحظة التي يخمد فيها المخ تمامًا كهربائيًا هي لحظة حدوث الوفاة علميًا، ووسائل الإنعاش الصناعي تصون الجسم أو فلنقل الجثة في نطاق الحياة فترة ما فلا تتحلل ولا تتفتت ولكنها فترة إلى انتهاء.
ونشأ عن هذا في العالم الطبي موقفان:
الأول: ما دام الكشاف الكهربائي للمخ قد أعلن وفاة المخ.. بصدق وإخلاص وعدم تزييف، فقد أصبح الأطباء في حِلٍّ من نزع أحد أعضاء الميت الحيوية كالقلب مثلًا لزرعه لمريض تالف القلب مشرف على الهلاك ولا أمل له إلا قلب بديل صحيح، وتستغل وسائل الإنعاش الصناعي في حفظ هذا القلب حيًا في جثة صاحبه، ريثما يتم الإعداد للعملية واستدعاء المريض وتحضيره للجراحة، وهي إجراءات تستغرق بعض الوقت، ولولا تلك الوسائل الصناعية لخاس القلب وبدأت فيه تحللات الموت وفقد صلاحيته للزرع، ولما يتم تجهيز المريض المنقول إليه بعد.(3/194)
الثاني: أنه ما دام المخ قد مات فهذه هي الوفاة فعلًا ويكون الإصرار على الاستمرار في الإنعاش الصناعي ما لم يكن مؤقتًا وهادفًا إلى استخلاص لعضو لزرعه في مريض من الناحية الفعلية إطالة لعملية الموت وليس حفاظًا على الحياة وإرهاقًا لأعصاب الأهل في غير طائل، وإسرافًا في استعمال وسائل الإنعاش الصناعي، وهي باهظة الكلفة شحيحة التعداد، وحرمانًا منها لمريض آخر قد يكون في حاجة إليها ولم يزل مخه حيًا فله الفرصة إذن في شفاء حقيقي وحياة سوية.
فهل للطبيب إذن أن يمد يده إثر موت المخ فيفصل الكهرباء عن جهاز الإنعاش ويرفعه عن جسم المريض حتى ولو كان نابض القلب متردد الأنفاس فإن فعل توقف التنفس وتوقف القلب عاجلًا أو آجلًا وعجل الغسل والدفن؟
َكلا الموقفين بطبيعة الحال رهن بموافقة الأهل أو وصية المتوفي، أما الموقف الأول فمن أمثلته أول عملية زرع قلب ناجحة وكان إجراؤها في جنوب إفريقيا على يد الجراح كريستيان برنارد. أسرة زنجية شابة تستروح في نهاية الأسبوع بلعب الكرة في الحديقة وفجأة يسقط الزوج الشاب، ويحمل للمستشفى، ويكون التشخيص نزفًا في المخ لا يجدي العلاج ويموت المخ وما زال قلبه الفتي ينبض بفعل الإنعاش الصناعي، وهناك طبيب أسنان يهودي على شفا الهلاك من هبوط قلبه ويشرح الطبيب الموقف للزوجة الشابة وللأم فتوافقان على أخذ القلب ليزرع في طبيب الأسنان فيعيش به.. تصرف نبيل وحاسم في موقف عصيب وقاس.. وقلب شاب زنجي لرجل أبيض في جنوب إفريقيا التي لا تقدم للزنوج إلا كل ما يثير الحقد ويبعث على المرارة.
وبقى أن ننظر بشيء من التفصيل إلى مسألة مد اليد لإيقاف أجهزة الإنعاش في المريض الذي انطفأ مخه، وما زال قلبه يدق وما زال يتنفس وما زال جسمه يتغذى ويفرز.
والخلاف حول هذه النقطة في العالم الطبي ليس خلافًا علميًا، فالموت العلمي هو موت المخ رغم أن باقي الجسم لم يزل حيًا.
فريق يبني تصرفه على هذه الحقيقة العلمية ويقول: أمد يدي لإطفاء الجهاز، والفريق الآخر: يرى أن الأفعال والتصرفات لا تحكمها الحقائق العلمية ولكن تحكمها القوانين الوضعية أو الأحكام الشرعية.(3/195)
وفي الشريعة والقانون تعتبر دقة القلب وتردد الأنفاس واستيعاب الغذاء وإفراز العصارات والفضلات بالتأكيد من دلائل الحياة، فإن مد الطبيب يده وبحركة واحدة أطفأ كل ذلك فهل اعتدى على الحياة فيقع بذلك تحت طائلة المساءلة أو العقوبة بالدية أو القصاص؟
وليس هذا كل ما في الأمر فلو اعتبرنا لحظة الموت هي لحظة موت المخ وإن بقي الشخص من بعدها نابض القلب متنفسًا متغذيًا مفرزًا من بعد ذلك شهرًا أو شهرين ثم مات من بعد ودفن.
فمن أي التاريخين تكتب شهادة الوفاة؟
ومن أي التاريخين تبدأ عدة زوجته التي توفي عنها؟
وأي التاريخين يحتسب أساسًا للمواريث؟ وهل يحجب إخوته أبناءه إن مات أبوه فيما بين التاريخين؟ لأنه مات (بمخه) قبل موت أبيه، أو يرث ثم يرثه أبناؤه لأنه كان حيًا بدليل النبض والتنفس حال موت أبيه؟
هذه وغيرها أمور تدل على أن في الموضوع أكثر مما يظهر للنظرة السطحية العجلى أو الطبية المجردة.
ولا بد أولًا من أن يضع الأطباء هذه الحقائق أمام رجال التشريع، فإن استقر الرأي على أن الموت موت المخ وأن الوفاة تبدأ من لحظته فمن الطبيعي إذن أن يقنن هذا ويدخل إلى أحكام المساءلة وأحكام عدة المتوفى عنها زوجها وأحكام المواريث.
وليس من الصالح أن يظل الأطباء في عزلة عن القوانين، أو تظل القوانين في غفلة أو في إغماض على هذا المجال الهام من مصالح الناس.
ونوقن أن شريعة الإسلام لا تضيق عن استيعاب المحدثات والتقنين للجدائد والوفاء بالمصالح وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله.(3/196)
القلب وعلاقته بالحياة
مدخل في مناقشة "متى تنتهي الحياة"
للدكتور أحمد القاضي
مستوصف أكبر، باناما سيتي، فلوريدا
التعريف اللغوي لكلمة القلب وما يتعلق بها:
القلب: الفؤاد العقل، اللب (مختار الصحاح)
- عضو عضلي أجوف يستقبل الدم من الأوردة ويدفعه في الشرايين في الجهة اليسرى من التجويف الصدري، وسط الشيء ولبه ومحضه (المعجم الوسيط) .
- مضغة من الفؤاد معلقة بالنياط، الفؤاد، العقل، اللب، خالص الشيء ومحضه (لسان العرب) .
اللب: العقل (مختار الصحاح) .
- خالص الشيء وخياره، العقل (المعجم الوسيط) .
- خالص الشيء وخياره، العقل، نفس الشيء وحقيقته (لسان العرب) .
الصدر: أول الشيء (مختار الصحاح)
- مقدم كل شيء، الطائفة من الشيء، الرئيس، الجزء الممتد من أسفل العنق إلى فضاء الجوف (المعجم الصحيح) .
- أعلى مقدم كل شيء وأوله كل ما واجهك من الشيء وما أشرف من أعلاه الطائفة من الشيء (لسان العرب) .
النتيجة المبنية على التعريف اللغوي:
القلب نوعان: قلب عضوي وقلب معنوي.
المواصفات التشريحية والوظائفية للقلب العضوي:
هو عضو عضلي في حجم قبضة يد صاحبه متصل بالشرايين والأوردة الرئيسية، ومتواجد في وسط القفص الصدري من الجسد الإنساني (أو الحيواني) . ومهمته الرئيسية ضخ الدم وتسييره عبر الدورة الدموية، وكأي عضو آخر في الجسد له شرايينه الخاصة التي تغذيه بالدم النقي وله أعصابه التي تؤثر فيه، وهي فروع من شبكة الاتصالات العصبية العامة، ولو أن القلب له محركه الكهربائي الذاتي إلا أنه يتأثر بالحالة العاملة لجسد صاحبه عن طريق الفروع العصبية التي تصله بالشبكة العصبية العامة للجسد كله.(3/197)
المواصفات التشريحية والوظائفية للقلب المعنوي:
هو لب الإنسان وجوهره، وتجتمع فيه الصفات التي نعرفها عن العقل والشخصية والنفس كلها مجتمعة، ونعتقد أن هذا هو القلب الذي يعنيه القرآن حين يذكر القلب أو الفؤاد (انظر الدليل فيما بعد) ، وهو الذي يتم به الشعور والتفكير والإدراك، وهو ليس قاصرًا على المخ وإنما هو وحدة مركبة من المخ، وما يرتبط به من شبكة اتصالات عصبية تربط بينه وبين الحواس المختلفة، وما يدور في هذه الشبكة من تحصيلات واتصالات وردود فعل، وما يتخزن في هذه الشبكة من معلومات مدركة وغير مدركة، كل هذا المذكور أعلاه يكون القلب المعنوي أو الفؤاد الذي يتحدث عنه القرآن.
والقلب المعنوي له قوام عضوي وقوام معنوي، والقوام العضوي للقلب المعنوي في الجسد هو المخ وما يتصل به من شبكة اتصالات عصبية، أما القوام المعنوي للقلب المعنوي فهو مجموع الأحاسيس والمشاعر والمعرفة المكتسبة وما يترتب عليها من عاطفة وفكر وإدراك. ولتقريب المفهوم يمكن تشبيه القلب المعنوي بالحاسب الكهربي (الكمبيوتر) وما يتضمنه من جزء آلي وجزء برمجي معنوي، وهذا التشبيه لتقريب المفهوم فقط، لأن خلق الخالق ليس له شبيه من صنع المخلوق.
القلب القرآني هو القلب المعنوي والدليل على ذلك:
1- كلمة "القلب" في اللغة تحتمل المعنيين: المعنى الحرفي المباشر وهو القلب العضوي في القفص الصدري، والقلب المعنوي بمعنى اللب والجوهر، ولتحديد الاختيار بين المعنيين وأيهما يناسب ما سماه القرآن بالقلب أو الفؤاد علينا مراجعة المواصفات التي أعطاها القرآن للقلب والفؤاد، ومحاولة مطابقتها على مواصفات كل من القلب المعنوي والعضوي، وأيهما يتفق مع المواصفات القرآنية يكون هو المقصود.(3/198)
2- صفات القلب أو الفؤاد كما ذكرها القرآن تشمل التالي:
أ- القلب القرآني يبصر {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (1) وهذه الصفة لا تتوفر في القلب العضوي وإنما تتوفر في القلب المعنوي.
ب- القلب القرآني يسمع {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (2) وهذه الصفة لا تتوفر في القلب العضوي وإنما تتوفر في القلب المعنوي.
جـ- القلب القرآني يفقه {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} (3) و {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} (4) وهذه الصفة لا تتوفر في القلب العضوي وإنما تتوفر في القلب المعنوي.
د- القلب القرآني يحس ويشعر بالوجل والرعب والريبة والاطمئنان والخشوع وغيرها من الأحاسيس والمشاعر {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (5) و {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} (6) و {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (7) و {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (8) و {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (9) ، وكل هذه الصفات لا تتوفر في القلب العضوي وإنما تتوفر في القلب المعنوي.
هـ- القلب القرآني يمرض {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} (10)
وهذه الصفة متوفرة في كل من القلب العضوي والمعنوي.
3- استعمل القرآن عبارتين لتحديد مكان القلب في الجسد، إحداهما "الجوف" {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} وهي كلمة تدل على داخل الجسد بدون تحديد جزء معين منه، وبالتالي تتناسب مع كل من القلب العضوي والمعنوي والثانية "الصدر" {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وهي كلمة تدل على معنيين: إما الجزء الأعلى من الجسد ويحيط به القفص الصدري ويحتوي على القلب العضوي والرئتين والمريء وبعض الملحقات الأخرى، أو المعنى الآخر للصدر وهو المكان أو التجويف الرئيسي أو الأساسي أو الأعلى في الجسد أو في مقدمته (انظر التعريف اللغوي) ، وإذا أخذنا بالمعنى الأخير فهو ينطبق على كل من القلب العضوي والمعنوي.
__________
(1) 22/46
(2) 7/100
(3) 63 /3
(4) 17/ 46
(5) 8/ 2
(6) 33/ 26
(7) 9/ 45
(8) 13/ 28
(9) 57/ 17
(10) 2/ 10(3/199)
وعلى ذلك فالعبارة القرآنية بخصوص مكان القلب ليس لها دور في تحديد الاختيار بين أي من المعنيين للقلب القرآني.
شرح تعبير "موت القلب" أو "موت المخ":
- موت القلب هو توقف القلب عن العمل تمامًا، وكذلك عدم قابليته للحياة.
- موت المخ هو توقف المخ عن العمل تمامًا، وكذلك عدم قابليته للحياة.
شرح تعبير "قابلية القلب للحياة" أو "قابلية المخ للحياة":
يمكن أن يتوقف عضو ما عن العمل تمامًا ولكن يتمكن من العودة إلى العمل إذا تغيرت ظروف معينة، وفي هذه الحالة يمكن القول بأن العضو ما زال قابلًا للحياة، أو حيا ولكنه متوقف عن العمل، أما إذا توقف العضو عن العمل وأصابه تلف غير رجعي لسبب من الأسباب ففي هذه الحالة تنتفي قابليته للحياة ويصير ميتًا.
ولتوضيح المذكور أعلاه نستعرض أمثلة عملية للقلب والمخ:
فالقلب يمكنه أن يتوقف عن العمل تمامًا بسبب قطع الأكسجين عنه، أو قطع وصول الدم الذي يحمل الأكسجين إليه، إما تلقائيًا بسبب المرض أو بواسطة الجراح أثناء عمليات القلب المفتوح، وإذا حدث ذلك وحرارة القلب طبيعية (أي بدون تبريد) فإن القلب يبقى حيًا أو قابلا"ً للحياة لمدة تتراوح بين 20 إلى 30 دقيقة بدون تلف كبير، وإذا عاد الأكسجين إلى القلب من خلال هذه المدة (بعودة الدورة الدموية التاجية) يعود القلب إلى العمل كما كان. وإذا زادت فترة قطع الأكسجين يزداد التلف تدريجيًا حتى إذا وصلت المدة إلى 90 – 100 دقيقة (أو أقل) يفقد القلب قابليته للحياة، أي أنه لا يمكن إعادته للعمل حتى ولو عادت الدورة الدموية إلى الشرايين التاجية.
أما لو انقطع وصول الأكسجين إلى القلب وحرارته منخفضة بسبب تبريده إلى درجة معينة من البرودة، فيمكن للقلب حينئذ أن يتحمل قطع الأكسجين عنه ساعات بدون تلف وبدون أن يفقد قابليته للحياة، ويمكن أن يعود إلى العمل بعد ساعات من التوقف حين تعود الدورة الدموية إلى شرايينه التاجية وترفع حرارته إلى الدرجة الطبيعية.
وبالنسبة للمخ فتوجد ظروف مشابهة لما ذكر عن القلب إلا أن المخ يفقد قابليته إذا انقطع عنه الأكسجين لمدة دقائق معدودة (3-5 دقائق) وحرارته طبيعية (أي بدون تبريد) ويمكن إطالة فترة تحمل انقطاع الأكسجين إلى ساعات إذا تم تبريد المخ إلى درجة معينة من البرودة أو شبع بكمية معينة من العقاقير الحافظة. وفي هذه الحالة يمكن للمخ أن يعود للعمل بعد عدة ساعات من التوقف إذا عادت إليه الدورة الدموية الحاملة للأكسجين ورفعت درجة حرارته إلى الدرجة الطبيعية.(3/200)
تأثير موت القلب العضوي على حياة صاحبه:
يمكن أن يتوقف القلب العضوي عن العمل تمامًا بصفة مؤقتة أو بصفة دائمة، وتستمر حياة صاحبه بجسده وفكره وعاطفته وحواسه وإدراكه وكل مقومات شخصيته، ما دامت هناك مضخة بديلة تضخ الدم وتسيره عبر الدورة الدموية، وهذه المضخة يمكن أن تكون قلبًا عضويًا آخر من إنسان أو حيوان، أو تكون المضخة آلية بصفة تامة.
وتوقف القلب العضوي عن العمل يكون تلقائيًا بسبب حالة مرضية مثل انسداد الشرايين التاجية المغذية للقلب، وما يعقب ذلك من انقطاع الأكسجين عن القلب، أو انقطاع الموصلات الكهربائية داخل القلب، أو انخفاض أو ارتفاع الضغط داخل القلب خارج نطاق معين، أو غير ذلك من الحالات المرضية للقلب أو أن يكون توقف القلب العضوي عن العمل مفتعلًا بواسطة الطبيب المعالج مثل حالة القلب أثناء جراحات القلب المفتوح حيث يوقف الجراح القلب بوسائل فنية خاصة مثل منع وصول الأكسجين إلى القلب، أو حقن الشرايين التاجية بمحلول معين أو تبريد القلب أو كل هذه الوسائل مجتمعة، ويكون إيقاف القلب لفترة تتراوح بين الدقائق والساعات حسب الحاجة الجراحية.
وإذا توقف القلب العضوي عن العمل إما تلقائيًا أو افتعاليًا، ولكنه احتفظ بقابليته للحياة حسب الشرح المذكور أعلاه، فيمكن إعادته إلى العمل بوسائل فنية مختلفة مثل استعمال الصدمة الكهربائية أو إعادة الأكسجين إلى القلب، أو إعادة درجة الحرارة في القلب إلى المستوى الطبيعي، أو توصيل محرك كهربائي بعضلات القلب أو كل هذه الوسائل مجتمعة حسب الحالة والحاجة المتواجدة. أما إذا فقد القلب قابليته للحياة ومعنى ذلك أن القلب العضوي قد مات ففي هذه الحالة يمكن استعمال مضخة بديلة تقوم بضخ الدم وتسييره عبر الدورة الدموية بصفة دائمة، أي استبدل القلب كلية، وهذا يكون إما بزرع قلب عضوي آخر محل القلب الأصلي، أو استبدال القلب العضوي بمضخة آلية.
وهناك حالات يكون فيها القلب العضوي عاجزًا عن القيام بأعماله كاملة ولكنه ما زال على قدر من الحياة وإن كان لا يكفي لتوفير احتياجات صاحبه، وفي هذه الحالة يمكن الإبقاء على القلب الأصلي لمساعدته.
من هذا الغرض يظهر بوضوح أن موت القلب العضوي لا يعني بالضرورة موت صاحبه.(3/201)
تأثير موت المخ على حياة صاحبه:
موت المخ يؤدي بالضرورة إلى موت صاحبه. ومن الممكن أن يتوقف المخ عن العمل جزئيًا بسبب صدمة أو احتقان أو توقف الدورة الدموية لفترة من الزمان ثم يعود إلى حالته الطبيعية ما لم يفقد الحياة أو القابلية للحياة تمامًا (حسب الشرح المذكور أعلاه) أما إذا فقد القابلية للحياة وانعدمت كل المؤشرات الكهربائية فيه فلا يمكن إصلاحه بعد ذلك، ولا يمكن للإنسان الحياة بدونه إلا إذا وجد البديل له، وبما أنه لا يوجد بديل للمخ في الوقت الحاضر ولا ينتظر أن يوجد له بديل في المستقبل القريب أو ربما البعيد، فإن موت المخ تحت الظروف الحاضرة يؤدي بالضرورة إلى موت صاحبه، وبما أن المخ هو الجزء الأساسي من القوام العضوي للقلب المعنوي، فإن موت المخ يعني موت وتعطيل عمل القلب المعنوي.
تأثير موت الأعضاء الأخرى على حياة صاحبها:
من الممكن أن يموت أي عضو آخر أو يستأصل جراحيًا ويحتفظ صاحبه بحياته وعقله وتفكيره وإدراكه وشخصيته وكل ما له من مقومات، إما لأن العضو يمكن الاستغناء عنه والحياة بدونه، مثل الأطراف وأجزاء من المعدة والأمعاء وما إلى ذلك، أو لتوفير البديل الذي يقوم بوظيفة هذا العضو ولو لفترة من الزمان، طالت أو قصرت مثل حالة الكلى والكبد والرئة.
تساؤل والرد عليه:
كيف يمكن اعتبار الإنسان ميتًا بموت المخ وربما قلبه ما زال ينبض؟
والرد على ذلك بأن بقاء عضو من الأعضاء على قيد الحياة أو في حالة قابلية للحياة لا يتعارض مع موت صاحبه، فمثلًا الشعر يستمر في النمو لمدة 24 ساعة أو أكثر بعد موت صاحبه ودفنه وبدون أي دورة دموية جارية.(3/202)
والقلب العضوي يمكنه أن يستمر في العمل خارج الجسد منفصلًا عن صاحبه لساعات عديدة إذا وفر له الغذاء والحرارة المناسبة، وفي هذه الأثناء يكون صاحبه قد مات ودفن، وكذلك كثير من أعضاء الجسد، ولذلك لا يمكن الاستدلال بحياة عضو من الأعضاء على حياة أو موت صاحب هذا العضو.
تساؤل آخر والرد عليه:
ولو أنه لا يوجد حاليًا بديل كامل للمخ ووظائفه، فإنه يوجد بديل لإحدى وظائف المخ وهي تحريك الجهاز التنفسي عن طريق آلة التنفس مما يوفر الأكسجين للقلب وبقية الجسد، ويمكن القلب العضوي وبقية أعضاء الجسد من الاحتفاظ بقابليتهم للحياة ولو لفترة من الزمان، فلماذا لا تستعمل آلة التنفس هذه لفترة غير محدودة طالما هناك حياة في بعض الأعضاء؟ والرد على ذلك يكون بالنقاط التالية:
1- أثناء الإبقاء على حياة بعض أعضاء الجسد بالطريقة المذكورة أعلاه يكون هناك انعدام تام لحركة الإنسان وفكره وعاطفته وحواسه وإدراكه وكل مقومات شخصيته، وبالتالي لا يوجد من الإنسان إلا وعاء حاضن لتغذية الأعضاء الأخرى، ولا يفترق كثيرًا عن التوصيلات الغذائية الصناعية التي توصل بالقلب أو الكلى أو غيرهما من الأعضاء المنفصلة نم الجسد تمامًا بعد موت صاحبها للمحافظة على قابليتها للحياة في المختبر.
2- سبق أن ذكرنا أن بقاء بعض الأعضاء على قيد الحياة لا يعني بالضرورة حياة صاحبها.(3/203)
3- لا يمكن الحفاظ على هذه الحالة لفترات غير محدودة، بل تتدهور الحالة تدريجيًا حتى يتوقف القلب العضوي والأعضاء الأخرى بالرغم من كل الآلات المستعملة.
4- من الناحية الخلقية الشرعية فإن الجسد الإنساني له حرمته ولا يجوز التدخل في أموره إلا إذا كانت هناك فائدة منتظرة أو تحسن مرتقب من هذا التدخل، وفي حالة موت المخ لا ينتظر حدوث أي فائدة أو تحسن من التدخل الآلي، وبذلك لا يوجد مبرر أو مبيح للتدخل.
أو بعبارة أخرى فإن الأصل في الأمر هو عدم التدخل إلا إذا انتظرنا شفاء أو تحسنًا من جراء هذا التدخل، وهذا غير منتظر في حالة موت المخ.
الخلاصة:
المناقشة المذكورة أعلاه هي مقدمة لمحاولة الرد على السؤال عن أي الأعضاء يعتبر مؤشرًا للحياة في الجسد، وإذا مات هذا العضو يمكن الحكم بموت الإنسان صاحب هذا الجسد، وهل هذا العضو هو القلب أو المخ؟
في القديم كان التصور أن هذا العضو هو القلب العضوي، وكان الإنسان يعتبر حيًا ما دام القلب نابضًا، وإذا توقف القلب حكم بموت صاحبه.
ويظهر لنا من المعلومات المذكورة في هذه المناقشة المختصرة المبسطة أن المخ كعضو محدد أو القلب المعنوي كوحدة مركبة قوامها العضوي هو المخ أولى من القلب العضوي لأن يعتبر مؤشرًا لحياة صاحبه، وبالتالي إذا مات المخ يمكن الحكم بموت صاحبه بغض النظر عن حالة القلب العضوي.(3/204)
نهاية الحياة الإنسانية
للدكتور مصطفى صبري أردوغدو
مرمره كلية الإلاهيات – استنبول
إن الجسم في الإنسان له خلايا، والأعضاء تقوم بوظيفتها، فإذا اختلت وظيفة عضو، يؤثر ذلك على أداء الأعضاء الأخرى لوظائفها بدرجات متفاوتة. وإذا توقف عضو ما عن العمل تمامًا، ولكنه قد يتمكن من العودة إلى العمل إن تغيرت ظروف معينة، فمعنى ذلك أن العضو ما زال قابلًا للحياة، أو كان حيًا ولكنه متوقف عن العمل، فبذلك يمكن أن نستنتج من هذا الأمر، أنه إذا مات الإنسان تمامًا وتأكد من هذا الأطباء فهل يمكن أن ينقل من هذا الميت عضو ما أم لا؟ وهل يجوز لنا نقل الأعضاء من إنسان لإنسان؟ وهل يحق للشخص أن يوصي بأعضائه في الحياة بعد الموت؟ وهل تسمح الشريعة بالتصرف في الأعضاء أو في الجسم بأي حال من الأحوال؟
وهناك جانب آخر، هو أن الأطباء يقولون: إن القلب يتوقف عن العمل تمامًا بسبب قطع الأكسجين عنه، أو قطع وصول الدم إليه، وإذا عاد الأكسجين إلى القلب خلال 20 – 30 دقيقة يعود القلب إلى العمل كما كان. وإذا زادت فترة قطع الأكسجين يزداد تدريجيًا، حتى إذا وصلت المدة إلى مدة تتراوح بين 90 – 100 دقيقة يفقد القلب قابليته للحياة.
والمخ كذلك مشابه للقلب، إلا أن المخ يفقد قابليته إذا انقطع عنه الأكسجين لمدة أربع دقائق؛ وإذا كان المخ قد دخل في نطاق الموت إلى مرحلة اللاعودة بتقرير الأطباء مهما بذل الجهد لإنعاش صناعي بالتنفس وتحريك الدم في الجسم. ففي مثل هذا الأمر، قد يمكن نقل الأعضاء من إنسان لإنسان وقد يدخل في إغاثة الملهوف، فهي واجبة لإنقاذ إنسان مشرف على الهلاك: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} . (1)
ولكن الفقهاء متفقون على أنه لا يجوز في غير حالة الحرب الاعتداء – ولو عند الاضطرار- على حياة الإنسان؛ كذلك نرى أنه لا يجوز استئصال عضو من إنسان يوشك أن يموت، كالعين والقلب، لإعطائه إنسانًا آخر، تحت ستار الضرورة والرحمة المزعومة بالإنسانية، إذ إن أجزاء الإنسان ليست مملوكة له، ولا يمكن القطع بموت المريض حيث إنه لا يعمل الغيب إلا الله سبحانه.
__________
(1) سورة المائدة: 32(3/205)
لذلك نرى الكثيرين من أطباء العلم يعلنون أن عملية نقل القلب من رجل إلى رجل لا تتفق مع الأخلاق والقيم، لما فيها من تحقيق منفعة غير مضمونة النتائج غالبًا على حساب مصلحة وحياة إنسان آخر. لكن إذا تأكد الطبيب المسلم الثقة العدل من أن الذي يؤخذ قلبه أو عينه سيموت حتمًا، جاز نقل القلب أو العين وزرعه لآخر مضطر إليه، لأن الحي أفضل من الميت، ورعاية المصالح أمر مطلوب شرعًا، وتحقيق النفع للآخرين مندوب إليه في الإسلام، والضرورات تبيح المحظورات، لأنه يترتب على النقل إنقاذ مريض بالقلب، أو إعادة البصر لإنسان وتوفير الحياة أو البصر نعمة عظمى مطلوبة شرعًا. ويجوز التشريح لأغراض تعليمية، أو لمعرفة سبب الوفاة، وإثبات الجناية على متهم، عملًا بما أباحه المالكية والشافعية والحنفية: من شق بطن الميت لإخراج مال غيره الذي ابتلعه، إذا تعذر تسديده من التركة وكان المال كثيرًا.
أقول:إن الفقهاء قد تكلموا في نهاية الحياة في الإنسان وما يتبعها من أعمال خاصة بتجهيزه وتكفينه وصلاته وغير ذلك.
فقالوا: إذا تيقن الحاضرون من موت الإنسان، وعلامة ذلك انقطاع نفسه، وإحداد بصره، وانفراج شفتيه فلا ينطبقان، وسقوط قدميه فلا ينتصبان. (1) والتأكد من الموت هو خمود الجسد وسكونه سكونًا أبديًا. وحكم الموت في الإنسان بدون تحقق وتأكد يكون حكمًا على المجازفة؛ إذا فكيف يتصرف الأطباء في جسم الإنسان وما زال مشكوكًا في حياته، والقاعدة هي: "ما ثبت باليقين لا يزول بالشك"، وكذلك "الأصل بقاء ما كان حتى يثبت ما يغيره". فكيف يدعي الطبيب اليقين، والجسد لا يزال ينبض، والذي ثبت اليوم قد ينقض غدًا".
__________
(1) مختصر خليل جـ 1/ 33، روضة الطالبين جـ 98، الفتاوى الهندية جـ 1/ 154، ابن عابدين جـ 1/ 189.(3/206)
وأمام هذه الحقائق حقائق أخرى، ألا وهي حرمة الميت، والنهي عن التمثيل بالأموات ولو كانوا كفارًا؛ كما نهينا عن إيذاء الميت المؤمن، ففي الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه والطحاوي والدراقطني والبيهقي وأحمد "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي"، وفي رواية الدراقطني زيادة عليه: "في الإثم" (1) وجاء في كتب الحنابلة: "ويحرم قطع شيء من أطراف الميت، وإتلاف ذاته، وإحراقه، ولو أوصى به". (2)
لذلك لا يمكن أن نعتبر الحياة شرعًا قد انتهت، ونحكم على الشخص أنه في عداد الموتى، إلا إذا كانت هناك إمارة ظاهرة كما قررها الفقهاء في كتب الفقه، فيترتب على ذلك الإرث وانتهاء العدة وغيرها من الأحكام الشرعية.
إن إخواننا سوف يبدون آراءهم وقد يقولون: إن هناك مصلحة، "وإذا وجدت المصلحة فثم شرع الله".
والمصالح التي جاء بها الشرع خمسة، وهي: مصلحة الدين، ومصلحة النفس، ومصلحة العقل، ومصلحة النسل، ومصلحة المال. ثم إن المصالح باعتبار الشارع ثلاثة: مصلحة معتبرة شرعًا، ومصلحة ملغاة شرعًا، ومصلحة سكت عنها الشارع فلم يعتبرها ولم يلغها. وكل هذه المصالح معروفة لدى كل المشتركين في هذه الندوة. وإنما أريد أن أقول بهذه المناسبة كلمة أخيرة، وهي: أنه في المصلحة التي ألغاها الشارع، لا ينبغي أن يبتنى عليه حكم، حيث إنه قد ألغاها فعلًا؛ وعليه فإن الإتيان بأي حكم يناقض الحكم الشرعي، خطر يحوي إغراء النفوس بالهوى؛ والسلام عليكم ورحمة الله.
__________
(1) إرواء الغليل: 3/ 214
(2) كشاف القناع: 3/ 127(3/207)
نهاية الحياة الإنسانية
للدكتور عبد الله محمد عبد الله
مستشار محكمة الاستئناف العليا – الكويت
الموت معناه وما يتعلق به من الأحكام
عرف علماء الكلام وكذلك الفقهاء الموت بأنه صفة وجودية تضاد الحياة تزول بها قوة الإحساس والنماء والتعقل فلا يعرى الجسم الحيواني عنهما ولا يجتمعان فيه. (1) والقول بأن الموت أمر وجودي يضاد الحياة هو مذهب أهل السنة وعند المعتزلة هو عدم الحياة عما من شأنه أن يكون حيًا؛ لأن الموت قطع مواد الحياة عن الحي واختاره كثير من المحققين. (2) وقال المازري من المالكية الموت عرض من الأعراض يضاد الحياة. ويدور نقاش بين العلماء في الروح هل تموت مع البدن أم أن الموت للبدن وحده؟ رأيان ذهب فريق إلى أن الروح تذوق الموت لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت ولقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ... وقال آخرون: لا تموت الأرواح، فإنها خلقت للبقاء وإنما تموت الأبدان مستدلين بالأحاديث التي دلت على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها، ولو ماتت الأرواح لانقطع عنها النعيم والعذاب.
وذهب إلى التوفيق بين الرأيين وجمعا بين الأدلة فريق من العلماء بأن موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها لا بمعنى انعدامها واضمحلالها وبهذا الاعتبار فهي باقية بعد مفارقتها الجسد في نعيم أو عذاب نعيم.
ويذهب ابن القيم إلى أن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام:-
الأول: تعلقها به في بطن الأم وجنينًا.
الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.
الثالث: تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه.
الرابع: تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقًا كليًا بحيث لا يبقى لها التفات إليه البتة.
الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن لأنه تعلق لا يقبل البدن معه موتًا ولا نومًا ولا فسادًا.
أمارات الموت وعلاماته:
للموت علامات ظاهرة يعلمها عامة الناس فمن هذه العلامات انقطاع نفس الميت، وإحداد بصره، وانفراج شفتيه فلا ينطبقان وسقوط قدميه فلا ينتصبان (3) كما ذكروا علامات تدل على قرب حدوث الموت ممن وصل إلى درجة الاحتضار من هذه العلامات.
__________
(1) الخرشي علي الخليل ح/2 ص 113 الدر المختار ح/ 2 ص 189
(2) حاشية البيجوري ص 29 والدر المختار ح/2 ص 189
(3) الخرشي على خليل ح/ 2 ص 122(3/208)
الموت في الطب الحديث:-
عرف الأطباء الموت بأنه توقف حياة الإنسان أو الحيوان في وقوف الأجهزة الثلاثة وهي جهاز التنفس، والدورة الدموية، والجهاز العصبي.
وذكروا علامات تحدث عقب الوفاة منها أنه يترتب على توقف الدورة الدموية تغييرات كبهاتة الجثة وتكون الرسوب الدموية (الزرقة الرمية) . يتوقف التنفس. كما يتوقف تحكم الجهاز العصبي على الجسم وعلى العضلات ويشمل ذلك الارتخاء الآدمي الرمي وأن الجهاز العصبي متمثلًا في المخ الذي يوجه الشخص الحي في عقليته وتنبهه وتحكمه على حواسه وحركته كما تحدث تغيرًا في العينين وتفقد الجثة حرارتها الحيوية ثم ينتهي إلى التيبس الرمي ثم التعفن الرمي ثم التصبن الرمي ثم التحول إلى مومياء. (1)
ويقرر الأطباء أن الجسم يموت أولًا كوحدة يتوقف التنفس وحركة القلب وأما الأنسجة فتموت شيئًا فشيئًا بهيئة تدريجية الواحدة تلو الأخرى ويعبر عنه بموت الخلية أو الموت الجزيئي. ويقولون: إ\ن بعض الأنسجة العضلية تعطي استجابة على هيئة تقلص لتنبيهات التيارات الكهربائية بعد الوفاة. وأنه يلاحظ استمرار تدرج الخصية في النمو المتتابع من خلية الخصية الأولية غير المميزة إلى أن تصل في نضوجها إلى الحيوان المنوي الإنساني المميز بعد الوفاة لمدة بضع ساعات.
وإن خلايا الكبد تستمر في تخزين السكر العادي إلى جليوكوجين بعد الوفاة بساعات إلى أن يتم نهوكها وتفقد الحياة. (2)
وهذا الذي يذكره الأطباء ويعبرون عنه بالموت الجزيئي يعبر عنه الفقهاء بآثار الحرارة الغريزية التي تبقى عقب مفارقة الروح البدن (3) فتبقى بعض التفاعلات نتيجة تلك الحرارة الغريزية ثم لا تلبث أن تنطفئ.
__________
(1) الطب الشرعي ح/ 1 ص 285
(2) الطب الشرعي ح/ 1 ص 285
(3) نهاية المحتاج ح/ 2 ص 429(3/209)
الأحكام الفقهية المترتبة على الموت:
نبحث تحت هذا العنوان ثلاث مسائل وهي الإرث. العدة. الجناية.
المسألة الأولى: الإرث.
من شروط الميراث يشترط في الإرث شروطًا منها:
أولًا: موت المورث حقيقة أو حكمًا أو تقديرًا. الموت الحقيقي معروف وهو ما سبق الكلام عليه، أما الموت الحكمي فكما في المفقود والغائب الذي انقطع خبره ولم تعلم حياته ولا موته فيرفع أمره إلى القضاء فيقضي القاضي بموته بشروط لا محل لبحثها في هذه العجالة. والموت التقديري فكما لو كانت امرأة حاملًا فضربها إنسان على بطنها فأسقطت جنينًا ميتًا فإن الجنين الميت يورث عنه مع أنه من الجائز أن يكون الجنين قد مات قبل الضرب.
ثانيًا: أن يكون الوارث حيًا في الوقت الذي مات فيه المورث حياة حقيقية أو تقديرية الحياة الحقيقية معروفة بالمشاهدة أما الحياة التقديرية فكما في الحمل يكون في بطن أمه في الوقت الذي يموت فيه أبوه حتى ولو كان علقة أو مضغة لم تدب فيها الحياة. (1)
ميراث من وصل إلى حركة المذبوح بالجناية عليه:-
نص الشافعية في كتبهم على أن من وصل إلى حركة مذبوح بأن لم يبق فيه إبصار ونطق وحركة اختيار بالجناية عليه أعطي حكم الأموات مطلقًا فيجوز تجهيزه ودفنه ويجوز تزوج زوجته وحينئذ إذا انقضت عدتها كأن ولدت عقب صيرورته إلى هذه الحالة وأنه لا يرث من مات عقب هذه الحالة وتقسم تركته قبل موته. (2)
واختلف علماء المالكية على أقوال فيمن وصل إلى حركة المذبوح.
القول الأول: يرث ويورث.
القول الثاني: لا يرث ولا يورث. (3)
__________
(1) شرح الرحبية ص 44
(2) نهاية المحتاج ح/ 7 ص 250
(3) الخرشي على خليل ح 8 ص 7(3/210)
المسألة الثانية: العدة
العدة تجب من وقت وفاة الزوج حقيقة أو حكمًا وقد سبق بيان الموت الحقيقي والحكمي ويقصد بالموت الحكمي الغائب الذي قضى القاضي بوفاته طبق الشروط المنصوص عليها، بقي مسألة واحدة وهي من وصل إلى حركة مذبوح بالجناية عليه فقد نص الشافعية على اعتباره كالميت في سائر الأحكام فيجوز تجهيزه ودفنه وتزوج زوجته إذا انقضت عدتها بالوضع وأنه لا يرث من مات وهو في هذه الحالة وتقسم تركته.
الجناية على منفوذ المقاتل:
نص الفقهاء على أنه لو أجهز شخص على منفوذ المقاتل من غيره فلا يقتص إلا من الأول (1) هذه عبارة خليل الخرشي من المالكية ووضح هذه العبارة العلامة العدوي في هامشه بقوله: "أشار أبو الحسن لهذه الأقوال فقال: لو أجهز شخص على منفوذ المقاتل من غيره فقيل: يقتل به الأول ولا يرث ولا يورث، والثاني يقتل به الثاني ويرث ويورث، والثالث يقتص منه الأول ويرث ويورث وهو أحسن الأقوال، وفي سماع أبي زيد أنه يقتل به الثاني ولا يكون على الأول إلا الأدب لأنه من جملة الأحياء ويرث ويورث إلى أن قال: ولو قيل يقتلان به جميعًا لأنهما قد اشتركا في قتله لكان له وجه. (2)
ونص الشافعية على أن من أوصله جان إلى حركة مذبوح بأن لم يبق فيه إبصار ونطق وحركة اختيار ثم جنى آخر عليه فالأول قاتل لأنه سيره إلى حالة الموت ومن ثم أعطي حكم الأموات مطلقًا ويعزر الثاني لهتكه حرمة ميت، وعلق الشبراملسي في حاشيته على قوله ومن ثم أعطي حكم الأموات جواز تجهيزه ودفنه –وفيه بعد- وأنه يجوز تزوج زوجته حينئذ إذا انقضت عدتها. كأن ولدت عقب صيرورته إلى هذه الحالة وأنه لا يرث من مات عقب هذه الحالة ثم عقب بقوله "ولا يعد أيضًا على قياس ذلك أنه تقسم تركته قبل موته". (3) ويقاس على من ذكر من تعاطي السم فوصل إلى حركة المذبوح في الأحكام المشار إليها. (4)
__________
(1) الخرشي على خليل ح/ 8 ص 7
(2) الخرشي على خليل ح/ 8 ص 7
(3) نهاية المحتاج ح/ 7 ص 250
(4) منهاج الطالبين ح/ 4 ص 103، 104 يراجع المتن والشرح والهامش(3/211)
الفرق بين من وصل إلى حركة مذبوح لمرض وبين من وصلها لجناية عليه.
فرق الفقهاء بين الحالتين ونصوا على أن من وصل إلى حركة المذبوح وهو الذي لا يبقى معه سمع ولا إبصار ولا حركة اختيار (1) بالأسباب العادية من غير جناية عليه كمرض ونحوه قال الإمام النووي في المنهاج: ولو قتل مريضًا في النزع وعيشة عيش مذبوح وجب بقتله القصاص "قال في الشرح: لأنه قد يعيش بخلاف من وصل بالجناية إلى حركة مذبوح" قال العلامة عميرة في حاشيته: وعبارة الإمام لو انتهى إلى سكرات الموت وبدت أمارته وتغيرت أنفاسه لا يحكم له بالموت بل يلزم قاتله القصاص وإن كان يظن أنه في مثل حالة المقدور –أي من قد نصفيه بالجناية عليه- ويفرق بين المريض الذي انتهى إلى سكرات الموت وبين المجني عليه فإن المريض لا تشرع زوجته في العدة ولا تنتهي عدتها لو ولدت حينئذ ولا تجب مؤنة تجهيزه ولا يجوز تجهيزه ولا تصح الصلاة عليه ولا يجوز دفنه ولا ينتقل ماله للوارث بخلاف الجريح" (2)
ومحصل ذلك أنه من وصل إلى حركة مذبوح ولو لم يمت بعد بالجناية عليه أو بانتحاره بشرب سم ونحوه يجوز الاستفادة من أعضائه وكذلك يجوز إيقاف الأجهزة الطبية عنه بخلاف من وصل إلى حركة مذبوح بالأسباب العادية كمرض ونحوه فإنه لا يجوز الاستفادة من أعضائه إلا بالموت الحقيقي؛ لأن الأول في حكم الميت من سائر الوجوه بخلاف الحالة الأخيرة وقد نص الفقهاء على جواز الاستفادة من عظم الميت للعلاج كما نص على جواز أكل لحمه في حالة الاضطرار إن لم يجد ما يأكله من ميتة ونحوها. (3) ومن الفتاوى الحديثة الصادرة عن لجنة الفتوى بالأزهر والمنشورة بالمجلد العشرين عدد شعبان 1368هـ تحت عنوان: نقل الدم وحاسة البصر، وهذه صيغة السؤال وجوابه "أتشرف بأن أطلب بيان حكم الله تعالى في هاتين المسألتين وذلك لأهمية ذلك حيرا عندنا في تونس ".
- نقل الدم للمسلم المريض المحتاج من شخص غير مسلم.
__________
(1) ويفرق بين هذه الحالة وبين الحياة المستقرة والحياة المستمرة فحركة المذبوح ما سبق بيانه أما الحياة المستقرة هي التي يوجد معها الحركة الاختيارية تغلب على الظن بقاء الحياة، كما الحياة المستمرة فهي الباقية إلى خروجها بذبح أو نحوه نهاية المنهاج ح/ 8 ص 109، 110
(2) منهاج الطالبين ح/ 4 ص 103، 104
(3) الخرشي على خليل ح/ 2/ 145 مبحث الجنائز، ونهاية المنهاج ح2 / ص 20(3/212)
2- الانتفاع بجزء من عين شخص متوفي لرد بصر شخص آخر حي.
الجواب:-
"الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين".
أما بعد. فقد اطلعت اللجنة على الاستفتاء وتفيد بأن الله تعالى قال في كتابه الكريم {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} وقال سبحانه في آية أخرى {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفي آية أخرى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} .
وهذه الآيات الكريمة تفيد أنه إذا توقف شفاء المريض أو الجريح وإنقاذ حياته على نقل الدم إليه من آخر بألا يوجد من المباح ما يقوم مقامه في شفائه وإنقاذ حياته جاز نقل الدم إليه بلا شبهة ولو من غير مسلم، وكذلك إذا توقفت سلامة عضو وقيام هذا العضو بما خلقه الله له على ذلك جاز نقل الدم إليه، أما إذا لم يتوقف أصل الشفاء على ذلك ولكن يتوقف عليه تعجيل الشفاء فنصوص الشافعية تفيد أنه يجوز نقل الدم لتعجيل الشفاء، وهو وجه عند الحنفية فقد جاء في الباب الثامن عشر من كتاب الكراهية من الفتاوى الهندية ما نصه" يجوز للعليل شرب الدم والبول وأكل الميتة للتداوي إذا أخبره طبيب مسلم بأن شفاءه فيه ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه. وإن قال الطبيب بتعجيل شفائك فيه وجهان".
أما الجواب على السؤال الثاني: فقد أجاز كثير من متأخري علماء الشافعية جبر المنكسر من عظم إنسان حي بعظم إنسان ميت إذا لم يمكن جبره بغيره. وقياسًا على هذا ترى اللجنة جواز نقل جزء من عين الميت لإصلاح عين الحي إذا توقف على ذلك إصلاحها وقيامها بما خلقها الله له"
هذا هو ما قضت به اللجنة والله الهادي إلى سواء السبيل
رئيس لجنة الفتوى
"عبد المجيد سليم"
هذا ما عَنَّ لنا تدوينه في هذه العجالة والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.(3/213)
نهاية الحياة الإنسانية في ضوء اجتهادات
العلماء المسلمين والمعطيات الطبية
للدكتور محمد نعيم ياسين
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة الكويت
تمهيد:
لا شك في أن محاولة تحديد اللحظة التي تنتهي فيها حياة الإنسان في الدنيا، تحديدًا دقيقًا من الناحية الشرعية، أصعب من البحث في معرفة الزمن الذي تبدأ منه تلك الحياة؛ ذلك أننا وجدنا في هذه الثانية منطلقًا من نص نبوي شريف صحيح ننطلق منه في النظر، ونبني عليه ملاحظاتنا واستنتاجاتنا المستفادة من النصوص الأخرى، وأما قضيتنا هذه فليس فيها نص من قرآن أو سنة يمكن اتخاذه منطلقًا للبحث.
ومع غيبة النصوص في هذا الموضوع، وتعلقه بواقع مخلوق من مخلوقات الله عز وجل هو الإنسان، وابتنائه على الملاحظة والاختبار والتشخيص، أمام هذه الحقيقة نجد أنفسنا ملزمين بالاعتراف بأن الدور الحاسم في هذه القضية (متى تنتهي الحياة) ينبغي أن يكون من نصيب أهل التخصص، المشتغلين بملاحظة ذلك المخلوق وهم الأطباء، فهم الذين يقفون على الثغرة الحرجة من هذه المسألة، وعلى خط التماس مع الواقع محل البحث.
ولولا وجود النص في المسألة الأولى (بداية الحياة الإنسانية) لكان الأمر فيها كما هو في هذه القضية.
وهذا الاعتراف لا يعني الغض من الدور الذي يجب على علماء الشريعة أن يقوموا به، جنبًا إلى جنب مع إخوانهم الأطباء المسلمين، الذين يطلبون في ممارسة مهنتهم الانسجام مع حقائق الدين الحنيف.
ودور علماء الشرع سابق لدور أهل الاختصاص ولاحق له، فهم في أول الأمر يضعون بين أيدي إخوانهم الأطباء المبادئ والحدود والشروط العامة التي يلتزم بها المسلم في ممارسة اختصاصه، مهما كان متعلقه من موجودات هذه الحياة، وهم بعد ذلك يتسلمون من إخوانهم نتائج بحوثهم وملاحظاتهم، وينطلقون منها في تقرير الأحكام المتعلقة بها، وجميع هذا محصور في القضايا التي لم ترد فيها نصوص حاسمة كهذه القضية التي نبحث فيها.(3/214)
منطلق البحث:
وبسبب ما ذكرنا من عدم وجود نص ننطلق منه في البحث عن اللحظة التي تنتهي فيها حياة الإنسان، فإن منطلقنا في ذلك سيكون من بعض المبادئ التي توصلنا إليها خلال بحثنا السابق عن مبدأ الحياة الإنسانية.
المبدأ الأول:
إن حياة الإنسان تنتهي بعكس ما بدأت به، فإذا كانت قد بدأت –كما توصلنا في المبحث السابق- ببدء تعلق مخلوق سماه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الروح بالبدن، بناء على أمر الله وقدره سبحانه، فإن انتهاء هذه الحياة لا بد كائن بمفارقة هذا المخلوق للجسد الذي تعلق به.
المبدأ الثاني:
أن الروح مخلوق خلقه الله تعالى، يمكن للإنسان البحث فيه من حيث خصائصه وصفاته وأنشطته، وآثاره في البدن وتأثره، ووقت تعلقه به، ووقت مفارقته له.
أما المبدأ الأول فهو نتيجة منطقية، أصلها قاعدة السببية التي جعلها الخالق متحكمة في هذا الوجود، وفي كل نشاط يصدر عن موجوداته، والتي تفيد بأن كل شيء جعله الباري متوقفًا على سبب لا يمكن أن يقوم مع غيبة ذلك السبب، وبما أن الله عز وجل قد جعل لبداية الحياة سببًا هو اقتران الروح بالجسد، فإن نهايتها ينبغي أن تكون عند افتراقهما.
وكان مقتضى هذا أن يبدأ البحث من هذه النقطة (مفارقة الروح للجسد) وأعتقد أن هذه قناعة كل باحث في هذا الموضوع، لولا أن طائفة من الإخوة المفكرين أعرضوا عن ذلك؛ لاعتقادهم بأن الروح غيب حجب الله معرفته عن عباده، وأنه لا يجوز إدخاله تحت البحث بأية صورة من الصور؛ مما اضطرهم إلى التحول في البحث إلى منطلقات أخرى لا علاقة لها بالروح.
ولكن الدافع لهذا الإعراض عن الانطلاق المنطقي في البحث عن الوقت الذي تنتهي فيه حياة الإنسان، مبناه على سبب غير مسلم به عند كثير من العلماء المسلمين المعروفين بالحرص على الانسجام مع نصوص القرآن وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، ذلك أن اعتماد أولئك المعرضين إنما هو على نص غير قاطع الدلالة على حشر الروح في قائمة الغيبيات التي يحظر على المسلم الخوض فيها، وهو قول الله عز وجل {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} وإعراض الرسول عليه الصلاة والسلام عن الخوض في هذه الروح المسؤول عنها بأكثر مما أمره الله سبحانه وتعالى.(3/215)
وقد تقدم في مبحث (بداية الحياة الإنسانية) أقوال العلماء في هذه الآية، وتفسيراتهم لموقف الرسول صلى الله عليه وسلم بما يدل في محصلته على أن هذا الدليل ليس فيه الكفاية لاعتبار الروح من الغيبيات التي لا تقع تحت طول الاجتهاد البشري، ولا يجوز له أن يحوم حولها.
ولسنا بمضطرين لتكرار ما أثبتناه هنالك، فيمكن الرجوع إليه وإلى المصادر التي أخذ منها، ولكنا نذكر مرة أخرى بأن كثيرًا من العلماء بحثوا في الروح، وألفوا حولها المؤلفات، وتكلموا عن صفاتها ونشاطها وأثرها في جسم الإنسان، وأثر الجسم عليها وغير ذلك، غير خائفين من الوقوع في التعارض مع النصوص مع تدينهم وحرصهم الفائق على الالتزام بمقتضيات الهدي القرآني والنبوي، حتى صرح بعضهم بأن الروح ليست من الغيب الذي يحرم الكلام فيه، وحتى الذين ذهبوا إلى حمل النص القرآني على إرادة الروح الآدمية، والنهي عن الكلام فيها بأكثر مما ورد في ذلك النص صرحوا بأن المقصود بذلك هو البحث في كنه الروح وذاتها، ولم يمنعهم ذلك الحمل تناولها من جوانب أخرى، بصورة قد نستفيد منها في بحثنا هذا حول تحديد نهاية الحياة الإنسانية.
ومما يدل على سلامة منهج أولئك العلماء الذين تكلموا في الروح وفصلوا القول في كثير من شؤونها؛ أنهم أرجعوا كلامهم في الروح إلى نصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمنها أخذوا حقيقة أنها مخلوقة وليست قديمة، ومنها أخذوا مبدأ دخولها في الجسد الإنساني، ومنها أخذوا كثيرًا من أحوالها، مما يشير إلى أن الروح التي أمر الرسول بالاقتصار في الكلام عنها على القول {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ، ليست هي الروح الآدمية، أو أن المقصود بهذه الجملة ليس النهي عن أي بحث في الروح، وإنما البحث عن حقيقة ذاتها، وإلا ألبسنا النصوص ثوب التناقض من غير قصد، أعاذنا الله من الخطأ في فهم كلامه، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام لو فهم أن المقصود بقول الله تعالى {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وأنه لا تجوز الزيادة في الكلام عن الروح عن هذا الجواب الرباني، لالتزمه بتوجيه ربه، ولما بَيَّن في أحاديثه الشريفة بيان يزيد عن ذلك، غير أننا وجدناه صلى الله عليه وسلم قد بين لنا أشياء كثيرة عن الروح، كمبدأ تعلقها بالجسد، وتآلفها وتعارفها، وتناكرها واختلافها وكيفية خروجها من جسد المؤمن، ومن جسد الكافر، وغير ذلك؛ فدل هذا على ما أسلفنا.(3/216)
استلهام المبدأين السابقين في البحث عن نهاية الحياة الإنسانية:
فإذا سلم لنا المبدآن السابقان أمكننا استخدامهما في استثمار ما توصل إليه العلماء المسلمون من خلال النظر في النصوص الشرعية حول الروح، وما توصل إليه أهل الاختصاص من الأطباء بالنظر في واقع الكيان الإنساني، للخروج بنوع من غلبة الظن في تحديد نهاية الحياة الإنسانية يمكن أن تجعل أساسًا لبناء الأحكام الضرورية، وذلك على النحو الآتي:
أولًا- الدور الذي قام به علماء الشريعة:
من خلال النظر في كثير من نصوص الشرع استطاع علماء الإسلام تحصيل تصور معين عن الروح، التي تنفخ بإذن الرب تبارك وتعالى في بدن الإنسان، أهم معالمه ما يلي:
أ- أن الروح مخلوق من المخلوقات، ينشئها الخالق في الجسد الذي يريد خلقه إنسانًا، يشير إلى هذا قول ابن قيم الجوزية (يرسل الله سبحانه الملك إلى الجسد، فينفخ فيه نفخة تحدث له الروح بواسطة تلك النفخة فتكون النفخة هي سبب حصول الروح وحدثوها له، كما كان الوطء والإنزال سبب تكوين جسمه، والغذاء سبب نموه، فمادة الروح من نفخة الملك ومادة الجسم من صب الماء في الرحم، فهذه مادة سماوية، وهذه مادة أرضية.. الملك أب لروحه، والتراب أب لبدنه وجسمه) (1)
ب- إن من أهم وظائف الروح العلم والإدراك؛ بهذا عرَّفها من تعرَّض لتعريفها من العلماء؛ فهذا الجرجاني يعرف الروح الإنسانية "بأنها اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان الراكبة على الروح الحيواني نازل من عالم الأمر، تعجز العقول عن إدراك كنهه. وتلك الروح قد تكون مجردة وقد تكون منطبقة في البدن" (2) وأبو حامد الغزالي يعرفها بقريب من هذا فيقول: "الروح هي المعنى الذي يدرك من الإنسان العلوم وآلام الغموم ولذات الأفراح" (3)
وبناء على هذا التصور لوظيفة الروح، فإنها هي التي تدرك مختلف المعاني التي يمكن إدراكها، فهي التي تدرك العلوم ونتائج تحليلها، فتتعلم وتستنبط الجزئيات من الكليات، والكليات من الفروع وغير ذلك، وهي التي تدرك مختلف المعاني من ألم ولذة وفرح وحزن، وهي التي ترضى وتغضب وتنعم وتيأس، وتغتر وتحب وتكره، وتعرف وتنكر ...
__________
(1) الروح ص 199 طبع بيروت- سنة 1402 هـ/ 1982م.
(2) التعريفات ص 99 طبع الحلبي سنة 1357هـ / 1938م
(3) إحياء علوم الدين أبو حامد الغزالي جـ 4 ص 494 طبع بيروت دار المعرفة(3/217)
ويرى بعض العلماء أن جانبًا من مدركات الروح يحصل لها بواسطة أعضاء الجسد وأجهزته المختلفة، وجانبًا آخر منها يحصل لها من غير توقف على الجسد، كالتألم بأنواع الحزن والغم والكمد، والتنعم بأنواع الفرح والسرور؛ فإن عمل الروح المتعلق بهذه المعاني لا يتوقف على توظيفها لأي عضو من أعضاء الإنسان، وإنما تقوم به الروح بنفسها. (1)
جـ- ويرى العلماء أن الروح تؤثر في البدن الإنساني، وأن من أهم آثارها الحركة الاختيارية، وأن كل نشاط اختياري يقوم به الإنسان هو أثر من آثار الروح، وأن كل ما في العالم من الآثار الإنسانية إنما هو من تأثير الأرواح بواسطة الأبدان التي تعلقت بها؛ فالأبدان آلات للأرواح وجنود لها. (2)
ويفهم من ذلك أن العلماء المسلمين يرون أن الحركة الاضطرارية التي لا اختيار فيها ليست أثرًا من آثار الروح. وبما أنا الحركة الذاتية لا يمكن صدورها عن جماد، وإن كانت هذه الحركة اضطرارية، فإنه لا مناص من الاعتراف بوجود نوع من الحياة وراء كل حركة اضطرارية يقوم بها الجسد الإنساني بنفسه، أي بغير تحريكه بمحرك خارج عنه. ولعل هذه هي الحياة التي خلقها الله عز وجل في الجسد الإنساني قبل نفخ الروح، وجعلها في خدمة الروح بعد نفخها، وقد تبقى في بعض أعضاء الجسد بعد مفارقة الروح لها، وهي التي سماها بعض علماء الطب بالحياة الخلوية، وشبهها بعض علماء الإسلام بحياة النبات كما تقدم. ومقتضى ما تقدم من تصورهم لوظائف الروح أن الحركة الاضطرارية الناشئة عن هذا النوع من الحياة ليس فيها دلالة على وجود الروح الإنسانية.
د- ومع أن علماء الإسلام لم يحددوا اللحظة التي يفارق فيها الروح بدن الإنسان، لكن الذين بحثوا في هذه القضية، منهم أشاروا بصورة واضحة إلى قاعدة، سنرى مدى فاعليتها في تحديد زمن مفارقة الروح للبدن، إذا ما جمعت مع الاكتشافات الطبية الحديثة؛ ذلك أنهم أكدوا أن ملازمة الروح للجسد الإنساني مرهونة بصلاحية هذا الجسد لخدمة هذه الروح، وتنفيذ أوامرها وقبول آثارها، وأن الله عز وجل قد كتب عليها أن تفارق مسكنها المؤقت، وهو جسد الإنسان عندما يغدو عاجزًا عن القيام بتلك الوظائف.
__________
(1) إحياء علوم الدين جـ 4 ص 494، الروح ص 286، 287
(2) الروح ص 242، 285، شرح العقيدة الطحاوية ص 381 الطبعة الثالثة.(3/218)
فهذا ابن قيم الجوزية يعرف الروح (بأنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جنس نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف، بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكًا لهذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية، وإذا فسدت هذه الأعضاء، بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار، فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح، ثم عقب على ذلك بقوله (وهذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواء باطلة، وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة ... ) ، ثم ساق على هذا المذهب في تعريف الروح وعلاقتها بالجسد الإنساني مائة وستة عشر دليلًا من القرآن والسنة والمعقول، وأجاب بعد ذلك على اثنتين وعشرين شبهة أوردها المخالفون عليه (1) وممن تبنى مذهب ابن القيم في الروح شارح العقيدة الطحاوية والشيخ محمود السبكي (2)
ومذهبه هذا فيه شبه كبير مما ذهب إليه أبو حامد الغزالي في تفسير الموت، ودور الروح فيه؛ حيث قال (معنى مفارقة الروح للجسد انقطاع تصرفها عن الجسد بخروج الجسد عن طاعتها، فإن الأعضاء آلات الروح تستعملها، حتى إنها لتبطش باليد وتسمع بالأذن، وتبصر بالعين، وتعلم حقيقة الأشياء بنفسها.. وإنما تعطل الجسد بالموت يضاهي تعطل أعضاء الزمن بفساد مزاج يقع فيه، وبشدة تقع في الأعصاب تمنع نفوذ الروح فيها، فتكون الروح العالمة العاقلة المدركة باقية مستعملة لبعض الأعضاء، وقد استعصى عليها بعضها. والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها، وكل الأعضاء آلات، والروح هي المستعملة لها.. ومعنى الموت انقطاع تصرفها عن البدن، وخروج البدن عن أن تكون آلة له، كما أن معنى الزمانة خروج اليد على أن تكون آلة مستعملة، فالموت زمانة مطلقة في الأعضاء كلها..) (3)
__________
(1) الروح ص 242- 290
(2) شرح العقيدة الطحاوية ص 381، الدين الخالص –محمود السبكي جـ 7 ص 186 طبع سنة 1368هـ
(3) إحياء علوم الدين جـ 4 ص 494(3/219)
والنتيجة التي نخرج بها من أقوال هؤلاء العلماء أن حياة الإنسان في هذه الدنيا تنتهي عندما يغدو الجسد الإنساني عاجزًا عن خدمة الروح والانفعال لها، ومعنى هذه النتيجة أن العلم إذا استطاع أن يعرف اللحظة التي يصبح فيها الجسد عاجزًا عن القيام بكافة وظائفه الإرادية بصورة نهائية، فقد وصل إلى الجواب عن السؤال: متى تنتهي الحياة الإنسانية؟
هـ- ذلك هو فهم طائفة من علماء المسلمين حول علامات رحيل الروح الإنسانية عن بدن الإنسان، لم ينطلقوا في بحثهم من حاجتهم إلى استنباط أحكام فقهية لتصرفات إنسانية لها علاقة بنهاية الحياة، ولكن من منطلق الحاجة إلى معرفة حقيقة الإنسان من خلال المعلومات التي حصلوها من النصوص والحقائق الشرعية، فماذا كان موقف العلماء الذين سخروا طاقاتهم للبحث عن الأحكام العملية الشرعية، وهم الفقهاء؟ ألم يتعرضوا لحاجات واقعية ومواقف عملية اضطرتهم لإظهار رأيهم في هذه القضية بحسم ووضوح؟
الواقع أن استخراج رأي الفقهاء في هذه المسألة من أصعب الأمور، والذي يظهر أن معظم القضايا الواقعية التي تعرضوا لها في هذا المجال لم تكن كافية لتضطرهم إلى البحث عن نهاية الحياة الإنسانية بدقة وتحديد، وإنما كفاهم فيها الصورة الواضحة القاطعة لهذه النهاية والتي يندرج ضمنها النهاية الحقيقية وجزء من الزمن يمر عليها في حالات الوفاة، وهي الصورة المشاهدة المعلومة لمعظم الناس، عالمهم وجاهلهم، فبنوا أحكامهم عليها، سواء ما تعلق منها بجسد الميت من غسل وتكفين وصلاة ودفن وغير ذلك، وما تعلق منها بالحقوق التي كانت له قبل الوفاة، من نفوذ وصية وقسمة تركة، وما تعلق بالواجبات التي تفرض على زوجة المتوفى كالعدة، والفرق في النتيجة بين بناء هذه الأحكام على لحظة الوفاة الحقيقية، وبين بنائها على زمن الوفاة المتضمن تلك اللحظة وسويعات أخر، ليس بكبير.
وبالرغم من أن هذا هو حال معظم القضايا المتعلقة بنهاية حياة الإنسان، فإن الفقهاء تعرضوا لمسألة وجدوا فيها أنفسهم مضطرين للبحث عن الزمن الدقيق الذي حصلت فيه الوفاة، وتحصيل غلبة الظن فيه، وبناء الأحكام عليه، وذلك التماسًا لتحقيق العدل في توزيع مسؤوليات خطيرة، يترتب على الخطأ فيه إهدار أرواح لا تستحق الموت، وإفلات أرواح مجرمة من العقوبة العادلة، وهذه هي مسألة الاشتراك في القتل العمد على التتابع، وصورتها: أن يعتدي مجرم على شخص ويتركه في حالة خطيرة، ثم يأتي مجرم آخر، ويجهز على المجني عليه، فمن منهما يعتبر قاتلًا ويستحق القصاص؟(3/220)
وفي الجواب على هذا السؤال، وتحديد القاتل في نوع هذه المسائل يكاد الفقهاء يجمعون على قاعدة أساسها النظر إلى الحالة التي صار إليها المجني عليه، بسبب الفعل الأول، وقبل ورود الفعل الثاني عليه، فإن صار إلى وضع يفقد فيه كل إحساس من إبصار ونطق وغيرهما، وكل حركة اختيارية إلى غير رجعة، كان صاحب الفعل الأول هو القاتل الذي يستحق القصاص، وصاحب الفعل الثاني –مهما كان- يعزر ولا يقتص منه، وأما إذا صيره الفعل الأول إلى حالة لا يفقد معها كل إحساس وكل حركة اختيارية، كان صاحب الفعل الثاني هو القاتل الذي يستحق القصاص، ولزيادة هذه المسألة وضوحًا نثبت فيما يلي بعض النصوص الفقهية:
يقول بدر الدين الزركشي (الحياة المستقرة هي أن تكون الروح في الجسد ومعها الحركة الاختيارية، دون الاضطرارية، كما لو كان إنسان، وأخرج الجاني أو حيوان مفترس حشوته وأبانها، لا يجب القصاص في هذه الحالة.. ولو طعن إنسان وقطع بموته بعد ساعة أو يوم، وقتله إنسان في هذه الحالة وجب القصاص، لأن حياته مستقرة، وحركته الاختيارية موجودة؛ ولهذا أمضوا وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بخلاف ما إذا أبنيت الحشوة، لأن مجاري النفس قد ذهبت وصارت الحركة اضطرارية.
وأما حياة عيش المذبوح، فهي التي لا يبقى معها إبصار ولا نطق ولا حركة اختيارية ... ) (1)
وقال الرملي (وإن أنهاه –أي المجني عليه- رجل إلى حركة مذبوح، بأن لم يبق فيه إبصار ونطق وحركة اختيار، وهي –أي حركة الاختيار- المستقرة التي يبقى معها الإدراك، ويقطع بموته بعد يوم أو أيام، ثم جنى عليه آخر فالأول قاتل، لأنه صيره إلى حالة الموت، ومن ثم أعطى حكم الأموات مطلقًا ويعزر الثاني، لهتكه حرمة ميت ... ) وقال الشبراملسي (ظاهر إطلاقهم عدم الضمان على الثاني أنه لا فرق في فعل الأول بين كونه عمدًا أو خطأ أو شبه عمد، بل عدم الفرق بين كونه مضمونًا أو غير مضمون، كما لو أنهاه سبع إلى تلك الحركة فقتله آخر، ويلحق بالحياة المستقرة حياة من شك في موته) ثم قال الرملي (ويرجع فيمن شك في وصوله إلى حالة الحياة غير المستقرة إلى عدلين خبيرين ... ) (2)
__________
(1) المنثور في القواعد – بدر الدين الزركشي جـ 2 ص 105 وما بعدها نشر وزارة الأوقاف - الكويت - الطبعة الأولى سنة 1402 هـ / 1982 م
(2) انظر هذه الأقوال في نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه جـ 8 ص 15، 16، وانظر أيضًا قريبًا مما ذكر: المهذب – أبو إسحاق الشيرازي جـ 2 ص 174، 175 – مطبعة عيسى البابي الحلبي – مصر، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد جـ 9 ص 451، 452- علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي –تحقيق محمد حامد الفقي- الطبعة الأولى سنة 1377هـ/ 1957م، والجريمة للشيخ محمد أبو زهرة ص 404 هـ طبع دار الفكر العربي، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم جـ 8 ص 335، طبع بيروت –دار المعرفة- الطبعة الثانية، والأم – الشافعي - جـ 6 ص 20، 21- طبعة مصورة عن طبعة بولاق 1321هـ.(3/221)
وهذا الذي ذهب إليه الفقهاء في هذه المسألة يشير إلى أنهم اعتبروا فقدان الإحساس والحركة الاختيارية علامات تورث غلبة الظن بوصول المجني عليه إلى مرحلة الموت، وأن الحركة الاضطرارية الصادرة عن المجني عليه لا تعطي غلبة الظن ببقاء الروح في الجسد إذا كانت وحدها، ولم تقترن بأي نوع من الإحساس أو الحركة الاختيارية، وإلا لجعلوا القصاص من نصيب الجاني الثاني، إذ يكون فعله القاتل واردًا على جسد فيه روح. ولعلهم في هذا تأثروا بما قرره علماء الطائفة الأولى أمثال ابن القيم والغزالي من أن الروح ترحل عن جسد صاحبها في اللحظة التي يصبح فيها الجسد عاجزًا عن الانفعال للروح بأي نوع من الإحساس أو الاختيار.
هذا وإن من مقتضى الأمانة العلمية في عرض مذهب الفقهاء في هذه القضية، أن نشير إلى مسألة يمكن أن ترد على ما استنتجناه من أقوال الفقهاء في صورة الاشتراك في جريمة القتل على التتابع، وتشكك في قوته.. وهذا المسألة هي أن المجني عليه إذا كان قد صار إلى مرحلة الحياة غير المستقرة بسبب مرض، لا بسبب جناية، أو فعل حيوان مفترس، كما لو صار إلى مرحلة النزع، فأجهز عليه مجرم وهو في هذه الحالة؛ فإن جمهور الفقهاء يذهبون إلى إيجاب القصاص على هذا المجرم؛ حتى قال الزركشي (إن المريض لو انتهى إلى سكرات الموت، وبدت مخايله لا يحكم له بالموت، حتى يجب القصاص على قاتله..) (1)
وفرق الزركشي بين حالة ورود الجناية على الجناية، وبيَّن هذه الحالة، أن هذه لا يوجد فيها سبب يحال عليه الهلاك، بخلاف الحالة الأولى. (2)
__________
(1) المنثور في القواعد جـ 2 ص 106
(2) المنثور في القواعد جـ 2 ص 106(3/222)
والذي يظهر أن هذا الفرق الذي ذكره الزركشي بين الصورتين غير مؤثر في اختلاف الحكم؛ ويدل على ذلك ما صرح به نفسه، وصرح به غيره من علماء الشافعية، فيما نقلناه سابقًا، أن صاحب الفعل الأول لو كان حيوانًا مفترسًا، وأخرج حشوة المقتولة وأبانها فإن القتل لا يضاف إلى أي صاحب فعل لاحق، مهما كان. وإضافة الفعل الأول إلى حيوان مفترس لا يختلف من حيث النتيجة عن إضافته إلى أي حادث سماوي، يوصل الشخص إلى النتيجة نفسها، كانهيار بيت عليه مثلًا ونحو ذلك.
ولكن المعنى المعقول الذي يمكن أن يفرق به بين الصورتين هو مدى التحقق من وصول الشخص إلى الحياة غير المستقرة التي يتيقن من عدم إمكان انعكاسها إلى حياة مستقرة. ومظاهر النزع في عهد أولئك الفقهاء لم تكن كافية لتغليب الظن –فضلًا عن التيقن- على أن المريض قد انتقل فعلًا إلى مرحلة عيش المذبوح، كما سموه؛ بدليل أن حالات كثيرة يوصف فيها الشخص بأنه وصل إلى حالة النزع الأخير ثم يتجاوزها ويعيش إلى ما شاء الله تعالى.
وإذا كان هذا هو الفرق الحقيقي بين الصورتين السابقتين، فإنه لا يؤثر على فهمنا السابق لموقف الفقهاء من تحديد زمن الوفاة في مسألة الاشتراك على التتابع في جريمة القتل بل يؤيده ويقويه.
خلاصة تصور علماء الشريعة عن الروح وعلاقتها بالجسد:-
وخلاصة ما تقدم من بيان حول دور العلماء المسلمين في مسألة الروح وعلاقتها بالبدن الإنساني:
أن الإنسان في تصورهم جسد وروح، ولا يكتسب وصف الإنسانية بواحد من العنصرين دون الآخر.
وأن الجسد مسكن الروح في هذه الدنيا طوال فترة الحياة المقررة للإنسان.
وأن العلم والإدراك والحس والاختيار أهم وظائف الروح.
وأن وظيفة الجسد بكل ما فيه من أعضاء وأجهزة وأنظمة، خدمة الروح والانفعال لتوجيهاتها، وليس له وظيفة أخرى في فترة حياة الإنسان.
وأن الروح تقوم بجانب كبير من وظائفها بواسطة الجسد، وتقوم بجانب آخر بدون وساطته.(3/223)
وأن الجسد الإنساني لا يصدر عنه أي نشاط اختياري في هذه الدنيا بغير أمر الروح، وأن كل ما يصدر عنه هو بتأثيرها الذي أودعه الله فيها.
وأن الموت معناه مفارقة الروح للجسد، وأنه يحصل للإنسان عند صيرورة الجسد عاجزًا عن الانفعال لأمر الروح.
وأن وجود أي نوع من الحس والإدراك والحركة الاختيارية يدل على بقاء الروح في الجسد، وغياب هذه المظاهر غيابًا كاملًا يدل على مفارقة الروح للجسد.
وأن مجرد وجود حركة اضطرارية لا معنى له سوى وجود بقايا الحياة المجردة عن معية الروح.
ثانيًا- دور أهل الاختصاص:-
ذلك هو دور علماء الإسلام واجتهاداتهم حول معنى الحياة والموت. وأما دور أهل الاختصاص، فالذي يظهر لنا منه بصورة إجمالية: أن الجسد الإنساني الحي هو مجال بحثهم، وأنهم في سبيل المحافظة عليه وتقدم المعونة له من أجل تمكينه من القيام بوظائفه، قاموا بدور جليل يحمدون عليه:
فكشفوا الستار الذي ظل مسدلًا آمادًا طويلة عن مجاهل كثيرة من جسد الإنسان؛ فتعرفوا على أعضائه وأجهزته والأنظمة التي تسير عليها، وعلاقة بعضها ببعض، وتوقف بعضها على بعض، ووظيفة كل منها وأهميته.
ومن أهم معالم الدور الذي قاموا به أنهم تمكنوا من التعرف على الكيفيات التي يؤدي بها ذلك الجسد كثيرًا من وظائفه، كالحس والإدراك والحركة وغير ذلك، ووصفوا بدقة العمليات الداخلية التي تتم بها كل وظيفة من تلك الوظائف، وما يحدث في الجسم عندما نبصر أو نسمع أو نتألم خطوة خطوة حتى تتم العملية بكاملها.(3/224)
ومن أخطر ما توصلوا إليه اكتشافهم العضو الذي يقع من أعضاء الجسم وأجهزته المختلفة في مركز القائد المتحكم، الذي يعتبر صلاحه شرطًا لتمكن أي عضو آخر من القيام بوظيفته، ألا وهو المخ؛ فقد أفادوا أنه ما من عملية إرادية يقوم بها أي عضو من أعضاء الجسم، إلا كان مصدرها نشاطًا معينًا يقوم به الدماغ. وأنه هو الأساس في كل ذلك. وأن أي تلف جزئي فيه يقابله عجز أو تلف في أعضاء وأجهزة معينة. وأن عجزه الكامل سبب حتمي لعجز بقية الجسد عن القيام بجميع وظائفه الإرادية.
كذلك أفادوا أنهم يستطيعون بواسطة الأجهزة الحديثة تشخيص حالة هذا العضو الرئيس إجمالًا وتفصيلًا، وتحديد مدى قدرته على مزاولة نشاطاته وإدراك نوعية عجزه، وتحديد ما إذا كان هذا العجز مستمرًا أو غير مستمر، قابلًا للعلاج أو غير قابل، وبالتالي تحديد حالة الجسد الإنسان ومدى قدرته على القيام بالأعمال الإرادية.
ومن أخطر ما أنجزوه تمكنهم من المحافظة على أصل الحياة (أو الحياة الخلوية) في أعضاء الجسد الإنساني، وهي في معزل عنه وعن المخ وعن الروح المتعلقة به، ونقل هذه الأعضاء من جسد إلى جسد آخر.
ثالثًا- محصلة الجمع بين الدورين:-
الذي يغلب على الظن بالنظر فيما توصل إليه علماء الإسلام من نتائج، وما توصل إليه أهل الاختصاص من الأطباء، أنه ليس بينهما أي تناقض، وأن دور كل منهما مكمل للآخر على طريق البحث عن جواب السؤال المطروح: متى تنتهي حياة الإنسان؟
نعم قد يقع باحث متعجل يلتقط من ظواهر الأمور، ولا يغوص في أعماقها، قد يقع مثل هذا الباحث في ظن التناقض بين الطرفين فيما قدماه من تصور حول نهاية الحياة الإنسانية.
فقد يظن أن علماء الشريعة قد نسبوا إلى الروح من الوظائف والأنشطة ما يشبه إلى حد كبير، ما اكتشفه أهل الاختصاص أنه من وظائف المخ وأعماله. وأنهم أطلقوا الروح على عضو حسي يخضع للاختبار والتشريح والملاحظة في عرف أهل الطب، في الوقت الذي جزموا فيه أنا لروح لا يمكن أن تكون جسمًا ماديًا، وأن هذا الخطأ إنما وقعوا فيه بحكم وجودهم في عصر من التاريخ لم يكن علم الطب فيه متقدمًا كما هي حاله الآن.(3/225)
واعتقادي أن هذا نظر سطحي منطلقه أساسًا من طغيان التفسير المادي، وتعميمه على كل الظواهر، حسية كانت أو غير حسية.
ذلك أن العلماء الماديين لا يبحثون إلا في المحسوس، ولا يعترفون إلا بنتائج هذا البحث المادي؛ فإذا أرادوا تفسير أي نشاط يقوم به الإنسان، تتبعوا ما يحدث لأجزاء الجسم المحسوسة عند ممارسة هذا النشاط، ولاحظوا مختلف التطورات والأفعال وردود الأفعال المحسوسة، التي تقوم بها أعضاء الجسم المختلفة، فإذا انتهى بهم المطاف إلى آخر نشاط حيوي يقع تحت آلاتهم، نسبوا إلى العضو الذي صدر عنه هذا النشاط الأخير التصرف الذي قام به الإنسان.
وهكذا عندما اكتشفوا أن المخ هو العضو الأخير الذي ينفعل بأنواع من الانفعالات لكل تصرف يصدر عن الإنسان، نسبوا إليه كل تصرف إنساني مادي كان أو غير مادي.
والحقيقة أنهم قد يكونون على حق في تفسير جميع الخطوات المادية التي تتم داخل الجسم عند قيام الإنسان بتصرف ما؛ فهذا مجالهم وهم أدرى به.
ولكن الذي لا يقرون عليه أن ينسبوا النتائج النهائية، وهي صدور التصرفات الإنسانية بأشكالها النهائية، إلى العضو المادي الذي كانت فيه خاتمة الانفعالات المادية قبيل صدور ذلك التصرف؛ وذلك أن جميع التصرفات الإرادية الصادرة عن الإنسان فيها عنصر معنوي غير مادي هو الإرادة. والذي تدل عليه سنن الحياة ومعهودات الكون أن المادة لا يمكن أن تنتج المعاني، وإنما ينتج عن المادة مادة مثلها. ولا بد أن يكون هناك مخلوق غير مادي في جسد الإنسان خلقه الله عاقلًا، يستفيد من الحركات المادية التي تقوم بها أعضاء الجسد بتأثيره هو، وتتجمع محصلتها في المخ، فيصدر عن ذلك المخلوق التصرف الإنساني بصورته النهائية.
إن مما يصعب تصديقه أن مجرد حركات تظهر على الأعضاء وتظهر محصلتها على العضو الرئيس –المخ- تنتج في النهاية إحساسًا بالألم، واللذة والسرور والطمأنينة وغير ذلك من المدركات بمختلف أنواعها.
صحيح أن المخ وبقية أعضاء الجسد تختلف عن الأجهزة المادية الجامدة بأنها تتكون من خلايا حية تنمو وتتطور وتموت، ولكن هذه الحياة غير عاقلة، وهي عينها حياة الجنين قبل نفخ الروح، وهي عينها حياة القلب النابض المقلوع من جسد الإنسان، المحفوظ تحت ظروف معينة.(3/226)
إن محاكمة عقلية بسيطة تدلنا على خطأ تلك النتيجة النهائية التي يدعيها العلماء الماديون بنسبة كل تصرف إنسان إرادي للمخ والوقوف عنده، وهذه المحاكمة هي:-
أنه إذا كان المخ وراء كل حركة إرادية في أعضاء الجسد فهل عمله هو –أي المخ- عمل إرادي أو غير إرادي؟ أي عندما يصدر المخ أوامر للأعضاء، وعندما يتسلم منها نتائج تنفيذ تلك الأوامر، ويقوم بتحليلها وإصدار النتائج النهائية على ضوئها: هل هذه الأنشطة المختلفة الصادرة عن المخ إرادية أو غير إرادية؟
لا سبيل إلى القول: إنها أنشطة اضطرارية غير إرادية؛ فإنها دعوى مخالفة للمحسوس، وتؤدي إلى القول بأن كل عمل يقوم به الإنسان عمل اضطراري، كأي نشاط يصدر عن خلايا النبتة الحية، أو خلايا الكلية الحية المفصولة عن جسد صاحبها!
وإذا كانت تلك الأنشطة إرادية، فإنه لا سبيل إلى نسبتها إلى خلايا المخ المادية المحسوسة؛ لما تقدم من استحالة صدور المعاني عن المواد دون تدخل من مصدر آخر لهذه المعاني، له طبيعة خاصة مختلفة عن المحسوسات.
وإذا كان كذلك فلا مناص من التسليم بوجود مخلوق حي عاقل غير مادي وغير محسوس يقف وراء كل نشاط إرادي من أنشطة الدماغ المختلفة.
والذي يغلب على الظن في تفسير علاقة الروح بالجسد بصورة عامة، وبالمخ بصورة خاصة، على ضوء ما استقيناه من تصور علمائنا المسلمين، الذي يمتد بجذوره إلى كثير من النصوص، ومن النتائج العلمية التي توصل إليها أهل الاختصاص في تفسير نشاطات الأعضاء، الذي يغلب على الظن أن الجسد الإنساني الحي، بما فيه من مخ وأعضاء أخرى عبارة عن مجمع دقيق من الآلات الحيوية المتشابكة بأسلوب معجز، جعله الباري في خدمة مخلوق عاقل نفخه الله في ذلك المجمع الحيوي، اسمه الروح في مصطلح القرآن والسنة. وأن هذه الروح تسيطر على ذلك الجسد الحي في هذه الدنيا بواسطة المخ؛ فهو يشتغل بتشغيلها له وينفعل بتوجيهاتها، فيحرك أعضاء الجسد الأخرى، فيرسل عن طريقها ما تريد الروح إرساله، ويستقبل عن طريقها ما تريد الروح استقباله، فتقرأ الروح ما يتجمع في الدماغ، وتصدر الأحكام والنتائج في صورة تصرفات إنسانية، وأنه –أي المخ- إذا أصابه تلف جزئي عجز بصورة جزئية عن الانفعال لأوامر الروح، وظهر ذلك العجز الجزئي على بعض الأعضاء، وأثمر بالتالي عجزًا جزئيًا عن ممارسة التصرفات.(3/227)
وأنه –أي المخ- إذا أصابه تلف كامل بسبب ما يطرأ عليه مما سماه علماؤنا بالأخلاط الغريبة، التي تبدأ بالأمراض والحوادث، مما يعرف تفصيلاته أهل الاختصاص، إذا حدث ذلك للمخ كان عاجزًا بصورة كلية عن الاستجابة لإرادة الروح، وعجزت سائر الأعضاء أيضًا بعجزه. فإن كان هذا العجز نهائيًا لا رجعة فيه، ولا أمل في استدراكه، رحلت الروح عن الجسد بإذن ربها، وقبضها ملك الموت، وأخذها في رحلة جديدة لا نعلم منها إلا ما علمنا ربنا عن طريق المصطفى عليه الصلاة والسلام، وليس مجال تفصيله في هذا البحث.
فإذا استطاع أهل الاختصاص أن يعرفوا بصورة جازمة الوقت الذي يصبح فيه المخ عاجزًا عجزًا كاملًا عن القيام بأي نشاط بسبب انتهاء حياته الخلوية، ومستعصيًا استعصاء كاملًا على العلاج، لم يكن هناك أي مبرر لإنكار موت الإنسان عند هذه الحالة.
هذا ما يمكن تحصيله من إجراء التفاعل بين دور علماء الشريعة الإسلامية ودور علماء الطب. المفصلين آنفًا، ويمكن تلخيصه في هذه المقابلة بين الفريقين:-
علماء الشرع علماء الطب النتيجة
1- الروح التي تدرك مختلف المدركات عمليات الحس والإدراك تتم في مخ الإنسان الروح تدرك المدركات باستعمال المخ
2- الروح هي التي تتصرف بالجسد في جميع حركاته الاختيارية المخ هو الذي يسيطر على بقية أعضاء الجسد في حركاتها الاختيارية الروح هي التي تتصرف بالأعضاء بواسطة المخ
3- علامة اتصال الروح بالجسد الحس والحركة الاختيارية علامة صلاحية المخ الحس والحركة الاختيارية علامة اتصال الروح بالجسد صلاحية المخ
4- علامة مفارقة الروح للجسد غياب الحس والحركة الاختيارية بصورة نهائية علامة موت المخ غياب كلي نهائي للحس والحركة الاختيارية علامة مفارقة الروح للجسد موت المخ بصورة نهائية
5- الحركة الاضطرارية لا تدل على اتصال الروح بالجسد الحركة الاضطرارية لا تدل على صلاحية المخ لا كليًا ولا جزئيًا الحركة الاضطرارية لا تدل على حياة أو موت الإنسان
6- لا تتصل الروح بالجسد في الدنيا إلا بعد مرور أربعة أشهر على تكون الجنين إمكان فصل كثير من أعضاء الجسد مع المحافظة على حياة الخلايا المكونة لهذه الأعضاء حياة الخلايا الجسدية غير حياة الروح، وإمكان اتصالهما وانفصالهما.(3/228)
قوة تلك النتيجة:
لا نستطيع أن ندعي أن تلك النتيجة في تحديد نهاية الحياة الإنسانية قطعية يقينية، لا تقبل إثبات خلافها. وإنما هي نتيجة مبناها على غلبة الظن؛ لأن مقدماتها وإن كان بعضها قطعيًا، لكن بعضها ظني؛ ذلك أن تحديد العجز الكامل النهائي للمخ، بما وصل إليه العلم الحديث، قد يدخله بعض الشك؛ فإن المخ كما تبين مما سبق ذكره عضو من أعضاء الجسم وإن كان رئيسها، وليس هو الروح بعينها، ولم يقم دليل شرعي ولا علمي على حلول الروح فيه دون غيره. وتعطله يكون نتيجة أمراض معينة. وكل مرض وجد أو سيوجد، اكتشف علاجه أو لم يكتشف فيه قابلية الشفاء، كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام ((ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء)) (1) وقد يأتي يوم يتقدم فيه العلم أضعافًا مضاعفة عما هو عليه الآن، ويكتشف أن العلامات التي يقررها أطباء اليوم لموت المخ نهائيًا ليست قاطعة، وأن معالجة المخ بالرغم من ظهور تلك العلامات عليه ممكنة. أو قد يأتي يوم يتمكن العلماء فيه من نقل مخ حي إلى إنسان تلف مخه بصورة كاملة. ولا يرد على ذلك ما أورده أحد الإخوة الأطباء من أن نقل مخ حي يقطع بعدم جوازه شرعًا؛ لأن صاحبه يكون حيًا بالاتفاق، ونقل مخه يكون قتلًا له؛ إذ قد يتصور أن يكون صاحب المخ الحي محكومًا عليه بالإعدام بفصل رأسه عن جسده بالسيف مثلًا، كما هو الحال في بعض الدول، وما دام العلم كما ذكر بعض الإخوة الأطباء، قد توصل إلى إمكان تبريد المخ لبضع ساعات، محتفظًا بقابليته للانبعاث من جديد، فإن احتمال إمكان النقل يظل واردًا عقلًا وشرعًا. ولو حصل هذا الاحتمال فإن معناه إمكان الحفاظ على الروح في الجسد بتعويضها عن مخ صاحبها بمخ جديد. (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطب من صحيحه
(2) ولو حصل هذا لم يكن هناك أي داع للتخوف من انتقال المعاني والمسؤوليات من إنسان إلى إنسان؛ لأن المخ كما استنتجنا ليس هو الروح، وإنما هو الآلة الرئيسة لبقية آلات الجسد، ومثله في ذلك كمثل القلب، وإن كان أبلغ في أهميته.(3/229)
هل يمكن بناء الأحكام العملية على هذه النتيجة؟
ليس هنالك خلاف يعول عليه بين علماء الإسلام في أن الأحكام العملية تبنى على غلبة الظن المحصلة بالأمارات والدلائل، وقد أشار إلى ذلك علماء الأصول. (1)
وترتيبًا على ذلك فإنه يمكن بناء ما يحتاج إليه من الأحكام العملية على تلك النتيجة التي توصلنا إليها في تحديد نهاية الحياة الإنسانية؛ فيمكن الاستفادة منها لتحديد القاتل عند اشتراك الجناة على التتابع، كما يمكن استخدامها لمعرفة حكم نقل الأعضاء الآدمية.
غير أنه في كل مرة تتخذ هذه النتيجة أساسًا لبناء حكم عملي عليها ينبغي توفر جميع الشروط اللازمة لمنع استغلالها أو الخطأ فيها؛ فينبغي أن يصدر قرار انتهاء الحياة الإنسانية بموت المخ النهائي عن لجنة من أهل الاختصاص ذوي الكفاءة والنزاهة، وأن يكون ذلك بالإجماع، وأن تسبق عملية النقل موافقة صاحب المخ الميت في خلال حياته، وأن لا يكون قد رجع عنها قبل موته، وموافقة ذويه بعد وفاته، وأن لا يكون هنالك أي بديل آخر يتوصل إليه العلم ويحقق المراد.
هذا ولقائل أن يقول: كيف يصح أن تبنى أحكام خطيرة، كحكم نقل القلب، على نتيجة مبناها على غلبة الظن، والخطأ فيها معناه إهدار حياة موجودة؟
والجواب عن هذا الاعتراض أن جانبًا كبيرًا من حقائق الحياة لا يعرف إلا بغلبة الظن لا بالقطع واليقين. والاقتصار في بناء الأحكام على تحصيل اليقين، فيه تعطيل لكثير من المصالح الخطيرة. وكثير من أحكام الشرع مبناه على الظن الغالب، وبعض هذه الأحكام خطيرة جدًا قد يترتب على الخطأ في بنائها إزهاق أرواح بريئة؛ من ذلك إلزام القاضي ببناء أحكامه في قضايا الحدود والقصاص على طرق الإثبات الشرعية فيجب على القاضي أن يحكم برجم الزاني المحصن الذي يشهد عليه أربعة من الرجال العدول. وأن يحكم بالقصاص على القاتل الذي تثبت جريمته بشهادة اثنين من الرجال العدول وغير ذلك. واحتمال كذب الشهود مهما كانوا عدولًا في الظاهر أمر قائم، واحتمال خطأ الحاكم في حكمه في أمثال هذه القضايا الخطيرة لا ينكره أحد، والخطأ فيها قد يؤدي إلى إهدار أرواح بريئة كما يرى، ولم يقل أحد بحرمة إصدار الأحكام في غير محل اليقين، بل الكل مجمعون على وجوبه بحصول الظن الغالب عن طريق اتباع الطرق الشرعية.
__________
(1) انظر: كتاب المنخول من تعليقات الأصول –لأبي حامد الغزالي ص 327 وما بعدها طبع دمشق سنة 1400هـ – 1980م- دار الفكر.(3/230)
على أن هناك من الصور الواقعية ما تقترب فيه غلبة الظن من اليقين، بحصول الوفاة، قبل فقدان أعضاء الميت، ومنها القلب، لقابلية الانبعاث من جديد، والاستفادة من نقلها في إحياء إنسان مشرف على الموت؛ وذلك كما لو أصيب شخص بحادث أدى إلى انفصال رأسه عن جسده، وتناثر دماغه على مسرح الحادث، واستطاع الأطباء الوصول إلى قلبه، وهو في حالة يمكن فيها الاستفادة منه: أليس من المبالغة الواضحة الجنوح إلى تحريم تلك الاستفادة؟! كذلك عندما يحكم على إنسان بالإعدام شنقًا أو بالسيف، فإذا تمت عملية الإعدام وبقي القلب نابضًا، واستطاع الأطباء الاستفادة من ذلك القلب في إنقاذ إنسان آخر من الموت في حدود ما تقدم من الشروط والقيود، فأي قاعدة شرعية تمنع ذلك؟!
خلاصة ومثال من الواقع:
وبناء على ما تقدم فإن أغلب الظن عندي أن مجرد وجود قلب ينبض أو كلية خلاياها حية، أو غير ذلك من أعضاء الجسد الإنساني سوى المخ، ليس قرينة على وجود الروح أو عدم وجودها؛ وذلك لإمكان قيام هذه الأعضاء بخلاياها الحية مع وجود الروح ومع غيابها. وإنما ترتبط الروح الآدمية وجودًا وعدمًا مع حياة الدماغ.(3/231)
وإلى الذين يخالفون هذا الرأي أضرب هذا المثل الذي لا يستبعد وقوعه في الحياة:
إنسان حكم عليه بالإعدام بالسيف، وله ولد أفاد الأطباء بصورة قطعية أن قلبه تالف، ولا أمل له في استمرار حياته إلا بتعويضه عن قلبه بقلب سليم (بعد مشيئة الله تعالى) فأوصى الوالد بقلبه بعد تنفيذ الحكم عليه لولده المريض. وفور تنفيذ الحكم عليه، وفصل رأسه عن جسده، تلقفه الأطباء وحفظوا الجسد المفصول بما فيه من قلب وغيره بوسائلهم وأمدوه بما يلزم للحفاظ على حياة الخلايا فيه، وبقي القلب الموصول بالأجهزة نابضًا:
ففي هذه الحالة هل يمتنع في حكم الدين أن ينقل هذا القلب النابض إلى ذلك الولد المبتلى بقلب يوشك أن يخمد ويتوقف نبضه؟! وهل يستطيع أحد أن يدعي بقاء الروح في هذا الجسد الذي استطاع الطب –بعون الله تعالى- المحافظة على الحياة في خلاياه؟!
لا أعتقد أن أحدًا يقول ببقاء الروح في جسد بلا رأس، مهما كانت خلاياه حية. وأما نقل بعض أعضاء ذلك الجسد فقد يتمسك متمسك بالمنع معتمدًا على حرمة الميت في شرع الله تعالى ولكن حرمة الميت ليست أشد ولا آكد من حرمة الإنسان الحي الذي أفتى كثير من العلماء بجواز نقل بعض أعضائه خلال حياته برضاه، كالكِلْيَةِ مثلًا. ولا شك في أن حاجة الإنسان الحي إلى كليته بل إلى ظفره أشد من حاجة جسد مفصول عنه الرأس إلى القلب الموجود فيه.
وكأني ببعض الإخوة الكرام يقول: إن هذا المثال الذي ضربته يختلف عن حالات موت الدماغ بأن المخ قد ذهب إلى غير رجعة، لانفصال الرأس عن الجسد، بينما الصور الأخرى يفترض فيها بقاء الدماغ في الرأس المتصل بجسده.
والجواب في هذا فرق غير مؤثر في الحكم، وهو لا يزيد عن الفرق بين إنسان مات بسكتة قلبية، وإنسان احترق بالنار، وصار جسده كله رمادًا؛ كلاهما ميت، ولا ومضة أمل في حياته ولا فرق كذلك بين دماغ ذهب وانفصل عن جسده، ودماغ حكم أهل الاختصاص بصورة قاطعة أن خلاياه قد ماتت كلها. (1)
وليس الفرق في حقيقة الأمر، إلا من حيث وضوح الموت في الحالة الأولى لكل ناظر وعدم وضوحه في الحالة الثانية إلا لأهل الاختصاص. وهذا فرق غير مؤثر في الحكم؛ لأن عدم إدراك الإنسان غير المختص لواقع معين ليس له أثر في نفي هذا الواقع، وإنما الأمر في ذلك للمختصين. وهذه قاعدة مضطردة؛ ألا يرى أن المبصر لو شهد برؤية ما لا يدرك بوسيلة أخرى غير البصر، ونفى ذلك أعمى، فإن الحكم يبنى على شهادة المبصر. ولو أن الأحكام توقفت على إدراك كل الناس للوقائع، لكان هذا تعطيلًا لمعظم الأحكام.
__________
(1) أكد ذلك كثير من الأطباء الذين حضروا ندوة الحياة الإنسانية: بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي، ولم يخالف في ذلك أحد منهم(3/232)
ولا شك في أن معرفة أحوال الدماغ من حيث صحته ومرضه، وحياته وموته أمر من أمور الدنيا؛ وليس أمرًا دينيًا ولا غيبيًا. والرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم أمرنا بالرجوع في أمور دنيانا إلى المختصين العدول، فإذا وجد بيننا علماء في الطب مسلمون لا نشك في علمهم ولا نتهمهم في إخبارهم عن الواقع، وجب أن نبني الأحكام على قولهم.
هذا وقد يقال لي: لماذا لم تلتزم بهذه القاعدة في رأيك عن بدء الحياة الإنسانية؟ أليس أكثر الأطباء يرون خلاف ما ذكرته هناك، وهم أهل الاختصاص؟
والجواب عن ذلك أن تلك القضية فيها نص حديث شريف، أسندت ظهري إليه، وفسرت الواقع بناء عليه، وهذا واجب كل مسلم مهما كان تخصصه ولم أخالف الأطباء فيما يدخل في اختصاصهم، وإنما فسرت بالشرع الواقع الذي أفادوه، ورددت عليهم ما ليس من تخصصهم؛ حيث حاولوا تفسير الواقع الذي اكتشفوه بما يتعارض مع حقيقة شرعية أخبر عنها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وأخيرًا قد يجادل مجادل بأن المثال الذي ذكرته فيه فرق آخر، وهو أن المحكوم عليه بالإعدام لا حرمة له؛ لأنه مهدر الدم. وهذا فرق آخر لا قيمة له ولا أثر له في الحكم الذي ذكرناه؛ لأن المحكوم عليه بالإعدام غير محكوم عليه بخلع قلبه من صدره؛ وهذا أمر زائد عن العقوبة، وهو من المثلة المنهي عنها لو تجرد عن إذن صاحبه وعن غرض مشروع. وعلى أية حال فإن هذا مجرد مثال، والواقع قد يتمخض عن أمثلة كثيرة، وخاصة في هذا الزمان الذي تضاعفت فيه الأخطار على حياة ابن آدم. وهو متصور في حوادث السيارات والطائرات والقطارات وغيرها متصور بكثرة في الحروب.(3/233)
نهاية الحياة
للدكتور محمد سليمان الأشقر
الموسوعة الفقهية الكويتية
بدأت حياة البشرية بنفخة، وتنتهي بنفخة، فسبحان الله الحي القدير. بدأت بنفخة في جسد آدم، وتنتهي بنفخة ينفخها إسرافيل في الصور {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} أي ماتوا في الحال. وأما الواحد من بني آدم فقد يطول احتضاره ومعاناته لسكرات الموت الذي كان منه يحيد، حتى إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم أعنَّي على سكرات الموت)) .
ونهاية الحياة الإنسانية بما يقوم به ملك الموت ورسل الله، من إيجاد الانفصال الكامل بين تلك الروح وبين الطين الذي كان مسكنها ومطيتها، وذلك بتوفيها وإرجاعها إلى ربها الذي هي من أمره {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} .
وبينما الروح بعد ذلك في روح وريحان وجنة نعيم أو في نزل من حميم وتصلية جحيم، يبدأ ذلك الطين المشكل، والمسكن الذي كان معدا لإقامة النزيل يبدأ بالتحلل، بعد رحيل ذلك النزيل شيئًا فشيئًا ليعود ترابًا كما كان، وليندمج في الأرض التي منها بدأ.
ولن تستطيع قوة أو علم أو حكمة أن تجمع بين ما فرقه الله {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) } .
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لحصول ذلك الافتراق أمارة ترى: فعن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الروح إذا قبض أتبعه البصر)) (رواه مسلم) وعن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح. وقولوا خيرًا، فإنه يؤمن على ما يقول أهل الميت)) رواه أحمد في المسند.
ويذكر الفقهاء أمارات أخرى وصل إليها علمهم، وعرفوها بمقتضى التجربة البشرية "استرخاء رجليه، وانفصال كفيه، وميل أنفه، وامتداد جلدة وجهه، وانخساف صدغيه" (المغني 2/ 452.
ولا بد للحكم بموته من أن تنعدم كل أمارات الحياة. ويذكرون ذلك في استهلال المولود ليرث، قالوا "لا بد أن ينفصل حيًا حياة مستقرة، فلو مات بعد انفصاله حيًا حياة مستقرة فنصيبه لورثته، ويعلم استقرار حياته عند الحنابلة والشافعية إذا استهل صارخًا، أو عطس، أو تثاءب، أو مص الثدي، أو تنفس وطال زمن تنفسه، أو وجد منه ما يدل على حياته، لاحتمال كونها كحركة طويلة ونحوها ولو لم تكن حياة مستقرة، بل كالحركة اليسيرة، والاختلاج، والتنفس اليسير، لم يرث؛ لأنه لا يعلم بذلك استقرار حياته لاحتمال كونها كحركة المذبوح، أو كما يقع للانتشار من ضيق، أو استواء الملتوي (العذب الفائض في الفرائض 3/ 91) .(3/234)
وفي شرح السراجية مما تعلم الحياة المستقرة به "صوت أو عطاس أو بكاء أو ضحك أو تحريك عضو".
ولو كان عندك شاة أصيبت وقاربت الموت، فذكيتها بالذبح، فإن علمت أنك ذبحتها وفيها حياة مستقرة فهي حلال، وإن ذبحتها وهي ميتة فلا ذكاة لميت. وروي ((أن امرأة كانت ترعى غنمًا، فأصيبت شاة لها، فذكتها بحجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوها)) .
قال الإمام أحمد بن حنبل: إذا مصعت بذنبها، وطرفت بعينها، وسال الدم، فأرجو إن شاء الله أن لا يكون بأكلها بأس.
قال الشيخ الموفق: إن أدركها وفيها حياة مستقرة حلت، لعموم الآية والخبر، سواء كانت قد انتهت إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه، أو تعيش (المغني 8/ 538) .
ومع أنه يتوقف على تحديد لحظة الموت أمور شرعية ضخمة إلا أننا لم نجد في ما رجعنا إليه من كتب الفقه تحديدًا بشيء غير ما تقدم.
فمما يتوقف على ذلك:
تحديد مبدأ عدة زوجته ونهايتها. وقد يتوقف على معرفة النهاية الحكم بصحة زواجها من غيره أو البطلان.
والتوارث: فقد يموت الأخوان أو القريبان في وقت متقارب، ويتوقف على التحديد أن تنتقل ملايين هذا أو ألوفه إلى ورثة الآخر، أو عكس ذلك.
والوصايا: فقد يوصي ثم يموت الموصى له في الفترة المتحيرة، فلا يدري أيستحق شيئًا أم لا؟
وغسله والصلاة عليه: فإن غسل وصلي عليه، وعليه أجهزة الإنعاش وقلبه يدق ونفسه يربو وصلي عليه، فهل تلك الصلاة صحيحة لأنه ميت، أم لا لأنه حي؟
وإيقاف أجهزة الإنعاش: هل هو سلب سبب تعلقت به حياة نفس إنسانية يفضي إلى موتها، أم هو كإيقاف صنبور ماء يصب على شجرة قد يكون من الخير والاقتصاد فصله عنها.
وأخذ قلبه أو كليته أو عينه: هل هو جناية أو قتل عمد، فيؤخذ قلب الجراح أو كليته أو عينه قصاصًا، أم هو عمل في ميت قد انتهى وسبقت روحه إلى السماء، يستطيع أهله بإذنهم فيه أن يهزوا ضمائر البشر لو كان يهتز لبيض الجنوب الإفريقي ضمير.(3/235)
هذا وفرق بين موت الجنين وحياته عند ولادته وبين موت الحي، فإن الأصل في الجنين عدم الحياة حتى يتحقق أنه حي، والأصل في من ثبتت حياته أنه حي حتى يتحقق أنه ميت، والأصل بقاء ما كان على ما كان، لا يزول ذلك اليقين بأمر مشكوك فيه.
والقلب الإنساني – دينامو الجسم البشري - يتبع فساده وتلفه الموت لا محالة "فإذا فسد فسد الجسد كله"
إن نضال الطب ضد الموت حقق إنجازاته الرائعة، وقامت أجهزة الإنعاش بدور يقدر الكل قدره، في حفظ الحياة بإذن الله على مئات الألوف من البشر، وحفظ الستر على مئات الألوف من الأسر.
وإن محاولة الطب الاستفادة من قلب من تحقق موته لإحياء نفس أخرى، محاولة يقدر الكل قدرها أيضًا.
وكانت حياة القلب ونبضه والتنفس دليل الحياة ووجود الروح، فأمكن أن تحل أجهزة الإنعاش محل القلب، ومحل التنفس التلقائي لساعات محدودة، أو أيام معدودة، وإذا كان الدماغ في تلك الأثناء قد مات، فهل الإنسان في تلك الساعات المحدودة، أو الأيام حي أم هو ميت؟
إنها الفترة المتحيرة.
وتأتي المشكلات التي تقدم بيانها عبئًا يلقيه التقدم الطبي على عاتق فقهاء العصر.
وحرص إخواننا الأطباء على أن يكونوا ممن (أحيا الناس جميعًا) يحدوهم إلى أن يمهدوا الطريق، ليكون عملهم ضمن الإطار الشرعي، حيث لا إثم ولا ضمان.
وقد ورد السؤال إلى لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية في جلستها المنعقدة في 18 صفر 1402هـ الموافق 14/12/1981م. من كل من الدكتور/ رعد عبد الوهاب شاكر –مدرس في كلية الطب بجامعة الكويت، والدكتور/ عبد الرحمن حمود السميط- أخصائي الباطنية بمستشفى الصباح. وكان نصه:
"في حالة التأكد من حصول الموت الدماغي، والذي تتوقف فيه كل وظائف الدماغ، ويتبعه فورًا موت بقية أعضاء الجسم لولا وجود أجهزة إنعاش التنفس والقلب وغيرهما، والتي تؤخر موت بقية أعضاء الجسم لبضعة أيام فقط:
هل يجوز للطبيب المسلم العمل، وبأسرع ما يمكن، لإنهاء هذه الحالة المصطنعة، التي تؤخر توقف بقية أعضاء الجسم عن العمل لأيام، وتؤخر دفنه؟ "(3/236)
وقد أفتت اللجنة بما يلي:
"إنه إذا قطع الأطباء بأن هذا المصاب لا يمكن شفاؤه، وأنه لا يعيش أكثر من عدة أيام مع وضع هذه الأجهزة عليه، ووجد من هو أحوج لهذه الأجهزة من هذا المصاب، فيجب رفع هذه الأجهزة عنه ووضعها للأحوج.
أما إذا لم يكن هناك حاجة لرفعها عنه فتبقى –وجوبًا- إذا كان هناك أدنى أمل في شفائه.
أما إذا لم يكن هناك حاجة لرفعها عنه فتبقى –وجوبًا- إذا كان هناك أدنى أمل في شفائه.
أما إذا لم يكن هناك أدنى أمل في شفائه فيكون الأمر متروكًا للطبيب: إن شاء أبقاه تحت هذه الأجهزة، أو صرفها عنه. ولا يمكن اعتبار هذا الشخص ميتًا بموت دماغه متى كان جهاز تنفسه وجهازه الدموي فيه حياة ولو آليًا.
وعلى هذا فلا يجوز أخذ عضو من أعضائه –ولا سيما إذا كان رئيسيًا- كالقلب والرئتين لإعطائها لغيره، أو للاحتفاظ بها للطوارئ كما أنه لا تُجرى عليه أحكام الموت: من التوريث، واعتداد زوجته، وتنفيذ وصاياه، إلا بعد موته الحقيقي، وتعطيل كل أجهزته.
هذا وبالله التوفيق وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم".
وهذا الحكم الذي أصدرته اللجنة على سبيل الجزم، عادت في 29/9/1984م فشككت فيه، فقد أصدرت الفتوى التالية وبناء على استفتاء مشابه:
"لا يحكم بالموت إلا بانقضاء جميع علامات الحياة، حتى الحركة والتنفس والنبض، فلا يحكم بالموت بمجرد توقف التنفس أو النبض أو موت المخ، مع بقاء أي علامة من العلامات الظاهرة أو الباطنة التي يستدل بها على بقاء شيء من الحياة. وذلك لأن الأصل بقاء الحياة، فلا يعدل عن هذا الأصل بالشك، لأن اليقين لا يزول بالشك. هذا ما انتهت إليه اللجنة مبدئيًا وهي ترى أن الأمر يستحق مزيدًا من البحث المشترك بين الأطباء والفقهاء. والله أعلم"
لقد تراجع أهل الفتيا السابقة عن الجزم بأنه لا يحكم بالموت إلا بتعطيل جميع أجهزة البدن، وقالوا: إن ذلك ما انتهوا إليه مبدئيًا.(3/237)
والآن تتبدى حقائق لم تكن متوفرة.
ولكن يبقى تساؤلات لمزيد من الاستيضاح:
أولًا: هل يظن أنه قد يأتي يوم يتمكن العلم أيضًا من إعادة النشاط الكهربائي للدماغ، أو نقل جذع الدماغ من بدن إلى بدن آخر؟ أم إن عجزنا الحالي هو الذي دعانا إلى أن ندعي أن الموت في حقيقته هو موت الدماغ دون موت القلب؟
ثانيًا: ونتساءل أيضًا عن الحكايات التي يتناقلها الناس من أن فلانًا مات، ثم دفن ثم سمع صوته صدفة، فحفر القبر وإذا به حي، أو قد غير وضعه ثم مات مرة أخرى، هل يصح علميًا من هذه الحكايات شيء؟ وهل كان القلب متوقفًا طيلة هذه المدة. ويستغرق ذلك أحيانًا ساعات طويلة والمريض غائب عن الوعي؟
وفي حالة الموت بالسكتة والصعقة والخوف والسقوط ونحوها مما قد ينتج عنه الموت المفاجئ، يطلب الفقهاء أن ينتظر بالميت احتياطيًا حتى تظهر به العلامات المعتبرة في غير هذه الأحوال من استرخاء الرجلين، وانخساف الصدغين، إلى آخره، ليتحقق الموت (المغني 2/452)
ويقول ابن عابدين (1/ 572) "إن أكثر الذين يموتون بالسكتة يدفنون وهم أحياء، لأنه يعسر إدراك الموت الحقيقي إلا على أفاضل الأطباء."
فهل يصح هذا كله؟ وإذا صح فكيف التنسيق بينه وبين ما يقوله الأطباء من أن القلب إذا توقف تبعه موت الدماغ يقينًا بعد ما لا يزيد عن خمس دقائق؟
ثالثًا: يذكر إخواننا الأطباء أن الموت يتبين يقينًا بانعدام كهرباء المخ، وأن من السهولة بمكان قياس ذلك. فبماذا يفسرون أن الجهات العلمية البريطانية وغيرها تشترط أنواعًا من الاختبارات غير هذا، وتقيس به وتطلب أن تعمل الاختبارات كلها. فهل يستطاع القول: إنه يبقى الشك في الوفاة قائمًا حتى مع انعدام كهرباء الدماغ؟
رابعًا: لتحديد حجم المشكلة: هي يعتقد أنه يمكن أن يأتي اليوم الذي نستغني فيه نهائيًا عن زراعة الأعضاء الإنسانية بأعضاء صناعية، أو بأعضاء الحيوانات. وقد سمعنا أخيرًا بأن طبيبًا غرس لطفلةٍ قلب قرد، فهل النجاح في هذا الميدان يبطل الحاجة إلى انتهاك حرمة المرضى الذين قد يدعى أنهم أحياء وتؤخذ قلوبهم؟
خامسًا: إذا أخذنا بالرأي القائل بأن الإنسان لا يعتبر ميتًا حقيقة إلا بتوقف عمل القلب، بالإضافة إلى توقف عمل الدماغ، فهل يعني ذلك القضاء على عمليات زراعة القلب بصورة شرعية قضاء نهائيًا؟ ومثل القلب سائر الأعضاء المفردة التي تتوقف عليها الحياة.(3/238)
ولو كان المفتي يفتي بجواز زراعة القلب، ويفتي أيضًا بأن الإنسان حي ما دام قلبه يعمل إن كان دماغه قد مات، فهل تعتبر فتاواه متناقضة من وجهة النظر الطبية؟
سادسًا: ما الذي وصلت إليه القوانين بهذا الخصوص في الدول المعاصرة؟
عودة إلى الفقه الإسلامي:
نعود إلى فقهنا الإسلامي العظيم لنبحث عن نور يعيننا على استجلاء ما نحن فيه من الحيرة.
ونجد فقهاءنا قد تعرضوا لشيء شبيه بما نحن فيه.
فقد ذكر فقهاء الحنفية لمن (قتل) إنسانًا قد وجد فيه سابقًا سبب الموت ثلاث حالات:
الحالة الأولى: لو جرح إنسان آخر بأن شق بطنه أو نحو ذلك، وأشرف المجروح على الموت، ولكن فيه حياة مستقرة، فقطع عنقه آخر، فالثاني هو القاتل وليس الأول.
ومعنى "فيه حياة مستقرة" أن يتوهم فيه أن يعيش يومًا أو بعض يوم.
الحالة الثانية: قطع إنسان عنق آخر، وبقي من الحلقوم قليل وفيه الروح، فجاء آخر فقطع عنقه، فلا قصاص على الثاني، والقصاص على الأول، لأنه لا يتوهم بقاؤه، ولم يبق إلا اضطراب الموت، وحركته حركة مذبوح، فكأن الثاني ضرب من هو في حكم الميت، ولا قصاص في ذلك على الثاني.
الحالة الثالثة: مريض في النزع، من غير جناية، لم يبق منه إلا مثل حركة المذبوح، فقتله قاتل، فاختلف كلام الحنفية، وقيل: إن الصواب أن عليه القصاص وإن كان القاتل يعلم أنه لا يعيش به، وهذا هو الذي صوبه ابن عابدين.
وقيل: إذا كان يعلم أنه لا يعيش فلا قصاص على القاتل، لأن المقتول كان في حكم الميت.
وذكر ابن قدامة من الحنابلة الحالتين الأوليين وقال: لا نعلم فيهما خلافًا (المغني 7/ 684) ومثله في (كشاف القناع 5/ 516) والشافعية أيضًا ذكروا الحالات الثلاث، ولم يختلف كلامهم في الحالة الثالثة أن على القاتل القصاص.
أما الفرق بين الحالة الأولى والثانية فواضح.
وأما الفرق بين الحالتين الثانية والثالثة فقد قال ابن عابدين "لعل الفرق بين هذا وبين من هو في حالة النزاع، أن الموت في حالة النزاع غير متحقق فأن المريض قد يصل إلى حالة تشبه النزاع، بل قد يظن أنه قد مات، ويفعل به كالموتى، ثم يعيش بعده طويلًا، بخلاف من شق بطنه، وقطعت حشوته، أو قطع عنقه، ولم يبق منه إلا حركة المذبوح، فإنه يتحقق موته، لكن إذا كان فيه من الحياة ما يعيش معها يومًا فإنها حياة معتبرة شرعًا، فلذا يكون القاتل هو الثاني، أما لو كان يضطرب اضطراب الموت من الشنق فالحياة فيه غير معتبرة أصلًا، فهو ميت حكمًا، فلذا كان القاتل هو الأول، وقال: هذا ما ظهر لي فتأمل".
وكذلك فرق الشافعية: قال النووي والمحلي: "لو أوصله رجل إلى حركة مذبوح بأن لم يبق إبصار ونطق وحركة اختيار، ثم جنى عليه آخر، فالأول هو القاتل، ويعزر الثاني لهتكه حرمة ميت"، ثم قال: "ولو قتل مريضًا في النزع، وعيشه عيش مذبوح، وجب بقتله القصاص، لأنه قد يعيش، بخلاف من وصل بالجناية إلى حركة مذبوح" (شرح المنهاج 4 /103) .
قالوا "ولا ينتقل ماله –أي مال الذي في النزع- للوارث، بخلاف الجريح".(3/239)
وهذا الذي قالوه من التفريق بين من فيه حياة مستقرة، وبين من لم يبق فيه إلا مثل حركة المذبوح واضح، فإن الأول حي يجري عليه حكم الأحياء، أما الثاني فهو (في حكم الميت) كما عبر الحنفية والحنابلة، أو هو (ميت) كما عبر الشافعية، ولذا نأخذ في حقه بأنه لا يرث لو مات له قريب في تلك الحال، ولو ضربه آخر ضربة أقعصته في الحال، فالقاتل الأول، ويكون على الثاني التعزير للإساءة، وقد لا يكون ثمة تعزير إن لم يكن الغرض الانتهاك.
إنني أرجو تدقيق النظر من هذه الوجهة، والتأمل الحق الذي دعا إليه ابن عابدين رحمه الله:
أولًا: الجريح الذي لم يبق منه إلا مثل حركة المذبوح، والذي اتفقت كلمة من ذكرناهم على اعتباره ميتًا أو في حكم الميت، فإن قلبه يعمل، وأعضاءه تتحرك، ومع ذلك فلا يعامل معاملة الحي، ولا يحكم له بحكم الحي، وما ذلك إلا لليقين الحاصل بأنه إلى الموت سائر، وأنه قد تجاوز نقطة اللاعودة، ولم يبق من حياته ما يعتد به.
وثانيًا: الذي في النزع من غير جناية ولم يبق منه إلا مثل حركة المذبوح، اعتبروه في حكم الحي، لكنهم عللوا ذلك بأمر واضح، هو عدم العلم قالوا: "لأنه لا يتحقق موته" كما عبر الحنفية، أو "لأنه قد يعيش" كما عبر الشافعية.
إذن يبدو أن الأمر في حق من لم يبق منه إلا مثل حياة المذبوح راجع إلى التحقق وعدمه، ووسيلة التحقق قد تكون ظاهرة لكل أحد، كالذي قطعت عنقه أو أبينت حشوته، وقد تكون خفية لا يعلمها إلا حذاق الأطباء، لكنهم منها متيقنون، كالذي مات منه الدماغ.
هذا ما نقوله في هذا المؤتمر على سبيل البحث والنظر، لا على سبيل الإفتاء به، والإذن في الأخذ به لأحد من الناس.
فإذا تأيد هذا في مؤتمركم الموقر، ووافق على الأخذ به علماء الشرع، يبقى القول في أمرين:
الأول: أنه هل ينبغي أن يقال: إن المريض في تلك الحال (ميت حقيقة) أم أن يقال: (هو في حكم الميت) كما قال الحنفية؟
والذي أراه أنه ينبغي أن يقال: هو حي في حكم الميت، أي يعامل معاملة من قد مات في نزع أجهزة الإنعاش عنه، وفي أخذ أعضائه، لا في الميراث ونحوه (1)
الثاني: ما هي الاحتياطات التي ينبغي اتخاذها من حيث الخبرة، ومن حيث الثقة والأمانة، لنضمن عدم حصول التجاوزات غير المنضبطة؟
والله أعلى وأعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) أي فلا يورث حتى يتوقف قلبه ليكون ميتًا حقيقة، وكذلك عدة زوجته ونحو ذلك(3/240)
نظرة في حديث ابن مسعود
للدكتور محمد سليمان الأشقر
بسم الله الرحمن الرحيم
تعليقًا على حديث ابن مسعود الذي رواه البخاري ومسلم أود أن أتكلم من وجهة نظر حديثية وأصولية صرفة، وكم كنت أود لو فرعت بحثي الذي قدمته للمؤتمر في هذه النقطة خاصة، لأنها أساس الكلام تقريبًا في هذا المؤتمر فيما يتعلق ببدء الحياة.
هذا الحديث روي في الصحيحين وغيرهما، وتضمن قضايا مختلفة:
القضية الأولى:
أنه أخبر بكتابة الأجل والرزق، وهذا اتفقت عليه الروايات عن ابن مسعود وغيره من الصحابة، وقد بلغ عددهم كما في فتح الباري عشرة من الصحابة، فلا يشك في ذلك.
القضية الثانية:
أنه أخبر بزيارة المَلَك للجنين في بطن أمه، وهذا أيضًا تتفق فيه الروايات.
القضية الثالثة:
أن هذه الزيارة تكون بعد أربعين وأربعين وأربعين، وهذه النقطة بالذات اختلفت فيها هذه الرواية للحديث مع روايات كثيرة لغير ابن مسعود من الصحابة، بعضها في صحيح مسلم، كحديث أبي أُسيد الغفاري، أن المدة أربعون يومًا، فقط، ولم يذكر عن أي واحد من الصحابة غير ابن مسعود أنها ثلاث أربعينات، بل كلها اتفقت على أنها أربعون واحدة فقط، أو أربعون وبضعة أيام.
فما موقف المحدث تجاه مثل هذا؟
إن هذا النوع هو من تعارض الروايات. ولا ينبغي في نظري أن يقال: إنها زورتان، فإن التفاصيل المذكورة في الروايات تدل على أنها زورة واحدة.
إذن هذا نوع من التعارض، وإحدى الروايات هي الصحيحة، وتعبر عما صدر في الحقيقة والواقع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الرواية الأخرى - وإن صحت سندًا - فينبغي أن نحملها على تصرف من بعض الرواة بنوع من الوهم، أو نؤولها، أو نفهمها على وضع غير ما يتبادر منها.(3/241)
قد قال بعض من تكلم من المحدثين في هذا الموضوع: إن اختيار البخاري لرواية الأربعينات الثلاث، وعدم ذكره لما خالفها، نوع من الترجيح.
ولكن يمكن أن ننظر في هذا الأمر بطريقة أخرى، وهي أن كثرة الرواة، واتفاقهم على طريقة واحدة، ترجح على رواية الواحد.
فإذا علمنا أن الرواة عن ابن مسعود في الروايات التي صحت سندًا لم يأت بالأربعينات إلا واحد منهم فقط هو المسمى زيد بن وهب: نعلم بذلك رجحان رواية أن الأربعين واحدة، حيث إنها قد صحت واتفق عليها سائر الرواة.
وهذا الترجيح هو المطابق لكلام الأصوليين والمحدثين، طبقًا لما يذكرونه في باب التعارض، من أن الترجيح بكثرة الرواة أصل معتبر، خاصة وقد صحت الروايتان من حيث السند، وتكون رواية الأربعينات الثلاث شاذة.
فإذا صح هذا الترجيح لزمنا أن نعتبر أن نفخ الروح، وما ذكر معه إنما يكون بعد أربعين، أو اثنين وأربعين، أو خمسة وأربعين يومًا، وليس بعد مائة وعشرين يومًا.
وينبغي أن تبنى الأحكام على هذا التوقيت لا على التوقيت بأربعة أشهر.
ويمكن أن نذهب إلى طريقة الجمع بين الروايتين، حيث إن الجمع في حال التعارض أولى من الترجيح.
فأشير إلى أن رواية ابن مسعود التي فيها الأربعينات الثلاث رويت في الصحيحين بطرقتين:
الأولى: قالت: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه المَلَكُ)) .
أما الرواية الثانية: فأرجو أن يتنبه إلى لفظها: هي تقول: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك)) .
فهذا الاختلاف لا شك أنه وقع بعد ابن مسعود وليس من ابن مسعود نفسه.
فإذا دققنا النظر في الرواية الثانية أمكن أن تحل الإشكالات كلها، فهي قالت: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك)) .(3/242)
فقوله: "في ذلك" يعود إلى ماذا؟
لم أجد أحدًا تكلم في الفرق بين الروايتين، ولعلهم استسهلوا فهم الرواية الأولى ففهموا أنها أربعينات ثلاث، ولكن أغفلوا الكلام عن الرواية الثانية:
إن كلمة "في ذلك" لا يظهر لها أي مرجع ترجع إليه إلا قوله (أربعين يومًا) أي تكون أيضًا علقة في الأربعين الأولى، وكذلك مرحلة العلقة هي أيضًا في الأربعين الأولى، وبهذا تجتمع جميع الروايات عن ابن مسعود وغيره، ولا يكون بينها تعارض.
ومآل الطريقتين واحد: إن قلنا بالتعارض والترجيح فالمدة أربعون يومًا فقط، وإن قلنا بالجمع فالمدة أربعون يومًا فقط كذلك.
أما القضية الرابعة: التي ذكرت في رواية ابن مسعود، فهي أن المَلك ينفخ الروح في الجنين في زورته تلك، فهذه القضية لم تذكر في أي رواية أخرى إلا في رواية ابن مسعود، إلا أنها رويت عن ابن عباس من قوله.
وأيضًا هنا أتكلم من وجهة نظر أصولية وحديثية صرفة.
قد يظن أن هذا أيضًا من باب تعارض الروايات.
ونقول: لا، ليس هذا من باب التعارض في شيء، بل هذا من زيادة بعض الرواة عن البعض الآخر، فقد أتى بتفصيل لم يذكره غيره، فيكون هذا من باب (زيادة الراوي الثقة) وليس من باب التعارض.
(وزيادة الراوي الثقة) قد تضعف بسبب عدم مشاركة غيره من الرواة له في تلك الزيادة، وانفراده بذلك، لأن غيره كان يسمع كما سمع، فلماذا أتى هو بما لم يأت به غيره؟
ولكن الراجح عند العلماء أن زيادة الراوي الثقة عن غيره مقبولة، ويعلم بمضمونها وعلى هذا فرواية (نفخ الروح) في زيارة الملك معتمدة ومقبولة، وتؤيدها إشارات قرآنية وحديثية أخرى، بخلاف قضية الأربعينات الثلاث.
وقد تعرضت لهذه المسألة في ندوة الإنجاب بإيجاز ولم أزل أقلبها في ذهني، وقد رجعت إلى كثير من الروايات، وأرجو أن يكون هذا الأمر الذي وصلت إليه كاشفًا للأمر، وجامعًا بين الروايات، ويثبت عندنا أن زيارة الملك إنما هي بعد أربعين واحدة فقط.
والمسألة – مع ذلك - بحاجة إلى مزيد من البحث، بحيث تجمع جميع الروايات من كتب الحديث، بأسانيدها ومتونها، جمعًا مستقصيًا، ثم ينظر فيها بعد ذلك بحسب ما تقتضيه الأصول المقررة لدى المختصين، ويخرج برأي حاسم في الموضوع والله أعلم.(3/243)
نهاية الحياة الإنسانية في نظر الإسلام
للشيخ بدر المتولي عبد الباسط
باطلاعي على ما كتبه إخواننا الأطباء يكاد إجماعهم ينعقد على أن الحياة الإنسانية تنتهي بتوقف المخ عن العمل، ورتبوا على ذلك أحكامًا في غاية الخطورة، وهي جواز الانتفاع بأعضاء من هذا الشخص لآخرين حتى ولو كانت أجهزته الأساسية يقوم بعضها بأداء مهمته كالجهاز الهضمي والتنفسي والدموي، سواء أكان قيام هذه الأجهزة بنفسها أم بواسطة أجهزة من صنع الإنسان.
وقبل أن أبين رأيي أسائل السادة الأطباء عن أمرين:
أولهما: لو مات الجهاز التنفسي مثلًا هل كان يستجيب لأداء وظيفته بالأجهزة المستحدثة؟
ثانيهما: هل الجسم الميت يكون فيه عامل الهدم والبناء معًا.. أم لا يبقى إلا عامل الهدم دون غيره؟
وعلى ضوء الإجابة يتضح هذا الأمر الخطير.. فإن كان الجواب عن الأول بأن الأجهزة البشرية إذا ماتت حقيقة لا تستجيب للأجهزة الحديثة، فيكون الموت بموت هذه الأجهزة وليس بتوقف المخ وحده.
وإن كانت هذه الأجهزة البشرية لا تستجيب إلا إذا كانت بها حياة فكيف يقال بأن الموت إنما هو بتوقف المخ فقط؟
أما السؤال الثاني: فإن توقف المخ مع بقاء الأجهزة البشرية لأداء وظيفتها بوسائل حديثة يبقى هناك عامل الهدم والبناء في الجسم البشري وهذا دليل على وجود الحياة، فكيف يقال بأن الموت يعتبر بتوقف المخ وحده مع بقاء الجسم في حالة هدم وبناء؟
والإسلام رتب على انتهاء الحياة الإنسانية أحكامًا كثيرة منها:
وجوب غسله وتكفينه ودفنه وانتقال عدة المرأة إلى عدة المتوفي عنها زوجها إن لم تكن حاملًا.. كما رتب على ذلك وجوب القصاص أو الدية إذا كان انتهاء الحياة بسبب جناية، كما رتب على ذلك أيضًا أحكام الميراث والوصية فكان لا بد من تحديد الموت الحقيقي المعتبر شرعًا والذي يترتب عليه هذه الأحكام وغيرها.
وبالرجوع إلى المصادر الفقهية تبين ما يأتي: يكاد يجمع الفقهاء على أنه إذا شق شخص بطن إنسان ولم يخرج حشوته، فجاء آخر وذفف عليه أي ذبحه فالقصاص على الثاني دون الأول؛ لأن شق البطن يمكن أن يعيش الإنسان معه ما لم تفصل حشوته من أمعاء ومعدة وكبد وغير ذلك.(3/244)
أما إذا شق إنسان بطن آخر وأخرج حشوته وبقي فيه حياة وجاء من ذفف عليه أي ذبحه فالقصاص على الأول، والثاني يجب تعزيره، لأن ما بقي من الحياة بعد إخراج الحشوة هي حياة غير مستقرة، ولكن لكرامة الإنسان وجب أن يحافظ على هذا القدر ولا يعتدي عليه.
كما أن الفقهاء قرروا أنه لا توارث بين شخصين نفذ فيهما القتل في لحظة واحدة، إلا أنه بقي أحدهما يضطرب أكثر من الثاني، فاشترطوا أن تكون الحياة التي بموجبها يستحق الحي الميراث أن تكون حياة فوق حياة المذبوح.
وبهذا يمكنني أن أقول: إن الحياة الإنسانية تنتهي –بالنسبة لبعض الأحكام كالميراث- بمباشرة سبب الوفاة وأنه لا بد في الميراث من أن تكون حياة الوارث فوق حياة المذبوح.
ولكن هل يعقل أن تُجْرَى على من توقف مخه الأحكامُ الأخرى من غسل وتكفين وأن تُزَوَّجَ امرأته وهو لا يزال تحت الأجهزة يتنفس ويتغذى؟ !!!
وقد وقع ما يكاد يبطل نظرية توقف المخ فقط، فقد نشرت جريدة الأهرام في صفحتها الخامسة بتاريخ: 30/ 9/ 1984 م هذا الخبر أنقله حرفيًا وعنوانه: "حالة فريدة من نوعها: أم في غيبوبة تضع طفلًا مكتمل النمو ...
"حالة وضع غريبة أثارت اهتمام العلماء في العالم أجمع، تلك حالة السيدة الفنلندية انجاليتالو 32 عامًا التي وضعت طفلها الرابع وهي في غيبوبة تامة منذ شهرين ونصف، وقد دخلت الأم في هذه الغيبوبة إثر إصابتها بنزيف في المخ، والغريب أن الأم قد توفيت بعد أن وضعت طفلها ماركو بيومين.. ويؤكد د. جورما هيكينين الطبيب الذي باشر حالة السيدة أن هذه الحالة تعتبر نادرة للغاية، فقد كانت الأم تتنفس صناعيًا وتتغذى بالأنابيب وينقل لها دم مرة أسبوعيًا، وذلك لمدة عشرة أسابيع.
أما الشيء الذي حير الأطباء فهو كيف أمكن اكتمال نمو الطفل بطريقة طبيعية تحت هذه الظروف؟ بل إن الطفل ولد بصحة طيبة ووزن طبيعي.. يقول الأب: إنه يعتقد أن ولادة ابنه ماركو تعتبر شيئًا من قبيل المعجزة إذ إنه كان قد فقد الأمل في أن يعيش الجنين بعد الغيبوبة التي دخلت فيها الأم، غير أن عناية الله كانت تفوق كل توقع، وكان الأطباء يباشرون حالة الجنين بانتظام عن طريق الموجات الصوتية.. وفي الأسبوع الـ 22 كان على الأطباء أن يتموا عملية الوضع لكنهم تركوا القرار الأخير للأب الذي وافقه على الفور، وكان لمولد الطفل ماركو وقع مهدئ على الأسرة لتعويضهم عن الصدمة المؤلمة التي شعروا بها بعد موت الأم وللطفل ماركو ثلاثة إخوة تتراوح أعمارهم بين 5، و 11 عامًا.(3/245)
فما يدرينا لعل الله سبحانه وتعالى أن يوفق بعض الباحثين إلى ما يعيد للمخ حياته بعد توقفه، كما وفق الأطباء بعض الباحثين إلى ما يعيد للمخ حياته بعد توقفه، كما وفق الأطباء إلى زرع الكلى والقلوب والأعضاء الأخرى.
وما أفتى به بعض العلماء من جواز الانتفاع ببعض أعضاء الميت لإنقاذ حياة حي فإن ذلك لا يكون إلا بعد التحقق من وفاة المأخوذ منه عضوا يعيش إلا به، كالقلب والكبد، ويحفظ بالوسائل العلمية الحديثة لينتفع به.. ولا أعتقد أن عالمًا في الشريعة يستطيع أن يفتي بجواز نزع قلب شخص لا تزال به حياة –مهما كانت هذه الحياة ضئيلة- لينقل إلى شخص آخر.
ومما ينبغي أن يعلم أن فقهاء الإسلام جميعًا مجمعون على أنه لو كان شخص في النزع الأخير – من غير جناية - فجاء من قتله وجب القصاص إذا كان القتل عمدًا والدية إذا كان خطأ.
والذي يستريح له ضميري بعد مراجعة النصوص الفقهية، أن مثل هذه المسألة يفتى فيها بالأحوط أخذًا بقاعدة (اليقين لا يزول بالشك) .
فبناء على هذا إذا كانت الحياة بعد توقف المخ مثل حياة المذبوح، فإن هذا الشخص لا يرث غيره، لأن شرط الميراث تحقق حياة الوارث بعد المورث، وحياة مثل هذا الشخص حياة مشكوك فيها، والشك لا يعارض اليقين.
كما أن هذا الشخص إذا كان بهذه الحال لا يورث حتى تتحقق وفاته، لأن حياته كانت ثابتة بيقين، وحياته في هذه الحال مشكوك فيها، كما يجب أن لا تجرى عليه الأعمال التي تجرى في الوفاة من غسل وتكفين ودفن.
أما عن زوجته فالذي أطمئن إليه أنه لا تبدأ عدتها إلا بعد التحقق من وفاته، بحيث لا يكون هناك شك في حياة أي جهاز من أجهزته الحيوية.(3/246)
تنبيه:
جاء في بعض ما كتبه إخواننا الأطباء العبارة الآتية "إذا وجدت المصلحة فثم شرع الله".
وهذه العبارة تحتاج إلى توضيح فأقول وبالله التوفيق:
إن المصالح التي جاء بها الشرع خمس:
1- مصلحة الدين.
2- مصلحة النفس.
3- مصلحة العقل.
4- مصلحة النسل.
5- مصلحة المال.
وهذه المصالح منها ما هو ضروري بحيث تفوت المصلحة بفوته، ومنها ما هو حاجي بحيث تبقى المصلحة ولكن مع الحرج الشديد، ومنها ما هو تحسيني.. وقد تتعارض هذه المصالح فتقدم مصلحة الدين على مصلحة النفس، ومصلحة النفس على مصلحة العقل، ومصلحة العقل على مصلحة النسل.. وكل هذه المصالح تتقدم على مصلحة المال.. كما يقدم الضروري منها على الحاجي.. والحاجي على التحسيني، ثم إن المصالح بالنسبة لاعتبار الشارع ثلاث:
1- مصلحة معتبرة شرعًا.
2- مصلحة ملغاة شرعًا.
3- مصلحة سكت عنها الشارع فلم يعتبرها ولم يلغها.
فأما المصالح التي ألغاها الشارع فهي كالمصلحة في الخمر والميسر فالله سبحانه وتعالى يقول {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} وكالمصلحة في الربا كما كان يزعم المرابون قديمًا بقولهم "إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا" فألغى الله ما في الربا من مصلحة بقوله {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} وكالمصلحة في التبني فقد ألغاها الله بقوله {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} فكل مصلحة ألغاها الشارع لا ينبغي أن نبني عليها حكمًا بل هي مهدرة وهي من تخييل الهوى.
وأما المصالح التي سكت عنها الشارع فلم يعتبرها ولم يلغها، وهي ما يعرف عند العلماء بالمصالح المرسلة فالأمر فيها موسع، ويؤخذ فيها برأي المختصين.
بعد هذا البيان ينبغي أن يفهم ما قالوه من أنه إذا وجدت المصلحة فثم شرع الله.. أن المراد بالمصلحة التي تتفق مع شرع الله هي التي لم يلغها الشارع ولم يملها الهوى وقديمًا قيل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا
ولعله بعد هذا البيان يجب أن لا نحكم أولًا ثم نلتمس الأسباب والعلل والمسوغات التي لا يعجز العقل البشري عن التماسها عندما يكون خاضعًا للأهواء والأغراض.
هذا ما بدا لي في هذا الموضوع الخطير حتى لا ننساق وراء كل جديد.
والله من وراء القصد ...(3/247)
متى تنتهي الحياة
للشيخ محمد المختار السلامي
مفتي تونس
إن انتهاء الحياة له حالتان – حالة ظرفية وحالة مطلقة.
الحالة الظرفية:
هي حالة توقف الأجهزة الأساسية عن العمل توقفًا نهائيًا لا يمكن للعلم حسب إمكاناته ومستواه أن يعيدها إلى العمل من جديد، والأجهزة الأساسية هي القلب باعتباره المغذي لكل الأجهزة البشرية وجذع الدماغ باعتباره المنظم وبرج القيادة لكل الأجهزة فإذا امتنع الغذاء أو خربت القيادة أبديًا كان الموت.
ثم إن عمل هذين قد يكون عملًا طبيعيًا ولا إشكال في هذا، وقد يكون العمل غير طبيعي كتركيب آلات بوظائف القسم المعطل، فهل يعتبر الإنسان ما دامت فيه الحياة ولو كانت حياة خلوية أو آلية هل يعتبر حيًا له حكم الأحياء؟
يقول خليل بن إسحاق: ولا سقط ما لم يستهل ولو تحرك أو بال أو رضع.
إن هذه الفقرة تجعل مقياس الحياة الصوت، وقد فصل اللخمي ما تكون به الحياة فقال:
اختلف في الحركة والرضاع والعطاس فقال مالك: لا يكون له بذلك حكم الحياة، قال ابن حبيب: وإن أقام يومًا يتنفس ويفتح عينيه ويتحرك حتى يسمع له صوت، وإن كان خفيًا، قال إسماعيل: وحركته كحركته في البطن لا يحكم له فيها بحياة، قال عبد الوهاب: وقد يتحرك المقتول، وعارض هذا المازري وقال: لا معنى لإنكار دلالة الرضاع على الحياة لأنا نعلم علمًا يقينيًا أنه محال بالعادة أن يرضع الميت، وليس الرضاع من الأفعال التي تكون بين الطبيعية والاختيارية، كما قال ابن الماجشون: إن العطاس يكون من الريح، والبول من استرخاء المواسك، لأن الرضاع لا يكون إلا من القصد إليه، والتشكك في دلالته على الحياة يطرق إلى هدم قواعد ضرورية –والصواب ما قاله ابن وهب وغيره إنه كالاستهلاك بالصراخ (1)
ويقول المواق معلقًا على هذا البحث انظر هذا البحث من الإمام فقد كان عمر رضي الله عنه لما طعن معدودًا في الأموات لو مات له مورث لما ورثه، وهو قول ابن القاسم، ولو قتل رجل عمر رضي الله عنه لما قتل به وإن كان عمر حينئذ يتكلم ويعهد، وفرق بين ولد البقرة مثلًا تزلقه ومثله يعيش وبين المريضة التي أيس من حياتها، هذه يراعى الاستصحاب فتحسب حية وتتعلق بها الذكاة بخلاف المزلق (2)
__________
(1) الزرقاني ج 2 ص 112
(2) شرح المواق علي خليل ج 2 ص 250(3/248)
لقد نقلت هذا النص بطوله لبيان أن المجتهدين قد اختلفوا متى تعتبر الحياة منتهية فينتفي تبعًا لذلك ترتب أحكام الحياة، لقد رأينا أنهم لم يعتبروا الحياة تثبت إلا بالصوت والصوت حركة مرتبطة بالدماغ، فإذا كان الدماغ هامدًا لا يعطي أوامره ولا يضبط الإرجاع عن المؤاثرات فإنه لا حياة، ولذلك قدروا أن العطاس والبول والرضاع لا يعبر عن الحياة، وتنبه المازري إلى أن الرضاع حركة إرادية يعني أن الدماغ هو الذي يتدخل ليرضع الإنسان، فالامتصاص ليس عملية طبيعية وإنما هو عملية إرادية لا تكون إلا إذا كان الدماغ عاملًا.
ولكن حتى عمل الدماغ لم يعتبره المواق دليل حياة ما لم يكن عمله محكومًا عليه بالدمار القريب، فإذا حصل في أجزاء الجسم ما يدمر الطاقة الذهنية وحركة الدماغ كان في حكم الميت لا يرث غيره في هذه الحالة.
الرأي عندي:
بعد هذا العرض من الاختلاف في تحديد حياة الإنسان واعتباره ميتًا إذا كانت الحياة السارية ليست حياة بالمعنى الكامل كحياة الذي نفذت مقاتله، أو حياة الموضوع تحت الأجهزة الآلية التي تبقى على الدورة الدموية، أقول: إن هذا الرأي يبدو لي أنه رأي غير وجيه ويترجح عندي أنه ما دامت الأجهزة الأساسية حية فالإنسان حي يأخذ كل أحكام الأحياء.
إن الذي رجح عندي هذا هو أنه في السنة الماضية قرأت فصلًا في إحدى الجرائد جاء فيه أن فتاة أمريكية تعيش اصطناعيًا لمدة سنوات وطلب أبواها أن تراح من هذا العذاب المتواصل، وأن يقطع الأطباء أجهزتهم عن العمل لفائدتها، وبعد تدخل القضاء ورضا الأطباء بذلك كانت المفاجأة، إذ استمرت الحياة فيها غير معتمدة على الأجهزة، وأيضًا فإنه قبل سنوات كان المريض الذي يتوقف قلبه عن النبض تمامًا يعتبر قد انتقل من حالة المرض إلى حالة الموت، لكن توقف القلب بعد تقدم الجراحة الطبية أصبح لا يدل على موت صاحبه، بل إن عملية القلب المفتوح تقتضي توقيف القلب.(3/249)
الحالة المطلقة:
أعتقد جازمًا أنه لا يمكن إعطاء تحديد مطلق للموت لأن العلم يتطور تطورًا مبدعًا، وإذا أمكنه اليوم أن يعيد للقلب نبضه وانتظامه، فما المانع من أن يتمكن في يوم من الأيام من أن يعيد إلى جذع الدماغ قدرته ودوره؟ خاصة وقد دخل الدماغ الإلكتروني في الساحة الطبية، ويسر على الجراحين العمليات المعقدة والخطيرة وحقق نجاحًا مذهلًا ولذا يكون إعطاء تعريف مطلق للموت فيه من التجني على المستقبل ما لا يمكن قبوله بحال.
طريقة طرح السؤال:
إنه بناء على ما تقدم يكون من الخير أن يقدم السؤال لا على أساس تحديد الموت والمقياس الضابط لذلك، ولكن على أساس هل يجوز شرعًا نقل أعضاء حية إلى المصابين والذين حياتهم في خطر إذا لم يسعفوا بهذا العضو الذي لا بد أن ينقل في حالة حياة قبل أن تدمر خلاياه.
إن التكييف الشرعي لنقل الأعضاء لا يرتبط بتحديد الحياة والموت ولكنه يرتبط بأمرين آخرين:
الأول: المضطر لما حرم عليه
المضطر: هو الإنسان الذي يبلغ درجة الاختيار بين أمرين لا ثالث لهما؛ الموت المحقق أو تناول ما يحرم عليه وقد جاءت الآية صريحة في جواز الإقدام على المحرم حفاظًا على الحياة قال تعالى {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} (1) وقال تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (2) ونص الفقهاء على أن المضطر يجب عليه أن يبقى على حياته بتناوله للمحرم، والخلاف بينهم إنما هو في تفصيلات كالبيع والتزود وأمور أخرى يهمنا منها:
أ- هل التداوي كالأكل؟
يقول ابن تيمية: والتداوي بالمحرم ليس مثل أكل المضطر للميتة فإن ذلك يحصل به المقصود قطعًا وليس له عنه عوض، والأكل منها واجب فمن اضطر إلى الميتة ولم يأكل حتى مات دخل النار، وهنا لا يعلم حصول الشفاء ولا يتعين هذا الدواء، بل الله تعالى يعافي العبد بأسباب متعددة والتداوي ليس بواجب عند جمهور العلماء ولا يقاس هذا بهذا (3)
__________
(1) سورة الأنعام آية 118
(2) سورة البقرة آية 173
(3) الفتاوى ج 24 ص 266 وما بعدها(3/250)
ويقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: ومما اختلفوا في قياسه على ضرورة الجوع ضرورة التداوي، فقيل لا يتداوى بهذه المحرمات ولا بشيء مما حرم الله كالخمر، وهو قول مالك والجمهور ولم يزل الناس يستشكلونه لاتحاد العلة وهي حفظ الحياة، وعندي أن وجهة أن تحقق العلة فيه منتف إن لم يبلغ العلم بخصائص الأدوية ظن نفعها كلها إلا ما جرب منها وكم من أغلاط كانت للمتطببين في خصائص الدواء؟ ونقل الفخر عن بعضهم إباحة تناول المحرمات من الأدوية، وعندي أنه إذا وقع قوة ظن الأطباء الثقات بنفع الدواء المحرم من مرض عظيم وتعينه أو غلب ذلك في التجربة فالجواز قياسًا على الأكل للمضطر وإلا فلا (1)
ملاحظة:
إن المتتبع لكلام الفقهاء يتبين له أن سبب الخلاف هو مقدار ثقة الفقيه في وصف الأطباء، إذ الطب لم يكن واثقًا من كثير من العقاقير، ولا من تشخيص المرض ولا من ملاءمتها للمريض، والمرض كما يدل عليه تعليل ابن تيمية وهنا لا يعلم حصول الشفاء ولا يتعين هذا الدواء، لذا ولأنه بمقدار ما تزيد الثقة في الصحة بالتجربة يزداد الاطمئنان إلى جواز تناول الدواء وإن ركب من محرم.
أكل الميتة:
إذا اضطر الإنسان لأكل الميتة جاز له الأكل منها بلا خلاف، وذلك بنص القرآن لكنهم اختلفوا رغم ذلك في أمور:
أ- هل يجوز للمضطر أن يأكل ميتة الإنسان؟
يقول خليل للضرورة ما يسد (أي الرمق) غير آدمي وخمر.
يقول شارحه الزرقاني واستثناؤه الآدمي مسلمًا أو كافرًا موافق للمشهود الذي صدر به في الجنائز، ثم ذكر مقابلة –ونصه "والنص عدم جواز أكله لمضطر وصحح أكله، وهل علة الحرمة التعبد وهو المشهور أو الإذاية لأنه قيل إذا جافت صارت سما. وهو لابن عمران الجورائي، ثم قوله وصحح أكله وما قبلاه من المنع شامل لأكله من نفسه كيده أو رجله. ولا يبعد القول بإباحة أكله من بعض أعضائه حفاظًا لنفسه كما ذكروه فيمن لدغته أفعى في يده وكان يرجو الحياة بقطعها قبل سريان السم فيه، أو طولها فإنه يجب". (2)
__________
(1) التحرير والتنوير ج 2 ص 121
(2) الزرقاني ج 3 ص 28(3/251)
ومذهب أحمد كما فصله المغني.
وإن لم يجد المضطر شيئًا لم يبح له أكل بعض أعضائه. وقال بعض أصحاب الشافعي له ذلك لأن له أن يحفظ الجملة بقطع عضو كما لو وقعت فيه الأكلة.
ولنا أن أكله من نفسه ربما قتله فيكون قاتلًا لنفسه، ولا يتيقن حصول البقاء بأكله، أما قطع الأكلة فإنه يخاف الهلاك بذلك العضو فأبيح له إبعاده ودفع ضرره المتوجه منه بتركه كما أبيح قتل الصائل عليه. ولم يبح له قتله لمأكله.
وإن لم يجد إلا آدميًا محقون الدم لم يبح له قتله إجماعًا ولا إتلاف عضو منه مسلمًا كان أو كافرًا لأنه مثله: فلا يجوز أن يبقى نفسه بإتلافه. وهذا لا خلاف فيه وإن كان مباح الدم كالحربي والمرتد فذكر القاضي أن له قتله وأكله لأن قتله مباح. وهكذا قال أصحاب الشافعي لأنه لا حرمة له فهو بمنزلة السباع. وإن وجد ميتًا أبيح أكله لأن أكله مباح بعد قتله فكذلك بعد موته. وإن وجد معصومًا ميتًا لم يبح أكله في قول أصحابنا.
قال الشافعية وبعض الحنفية يباح، وهو أولى لأن حرمة الحي أعظم ومذهب الشافعي كما ذكره الهيثمي في التحفة.
وله أي المعصوم بل عليه أكل آدمي ميت محرم إذا لم يجد ميتة غيره ولو مغلطة، لأن حرمة الحي أعظم، ومن ثم لو كانت ميتة نبي امتنع الأكل منها قطعًا. وكذا ميتة مسلم والمضطر ذمي. وظاهر كلامهما أنهما حيث اتحدا إسلامًا وعصمة لم ينظر لأفضلية الميت، وإذا جاز أكله حرم طبخه وقيده شارح الأذرعي بما إذا أمكن أكله نيئًا.
وله بل عليه قتل مهدر نحو مرتد وحربي وزان محصن ومحارب وتارك صلاة بشرطه ومن عليه قود بغير إذن الإمام للضرورة لا ذمي ومستأمن لعصمتهما. وصبي وحربي وامرأة حربية لحرمة قتلهما قلت الأصح قتل الصبي والمرأة الحربيين، وكذا الخنثى والمجنون ورفيقهم للأكل والله أعلم لعدم عصمتهم. وحرمة قتلهم إنما هي لحق الغانمين ومن ثم لم تجب فيه كفارة. (1)
__________
(1) المغني جـ 8 ص 601 - 602(3/252)
إن هذه النصوص الثلاثة يمكننا أن نستخلص منها ما يلي:
أ- أكل الميت
مذهب مالك أن الأكل من الإنسان الميت للضرورة مختلف فيه المشهور عدم الجواز والصحيح الجواز.
مذهب أحمد أن الأكل من الإنسان الميت للضرورة مختلف فيه محترم الدم جاز أكله وإن كان محترم الدم فالأولى الجواز.
مذهب الشافعي جواز الأكل من الميت إلا إذا كان المضطر ذميًا أو الميت مسلمًا.
ب- قتل الحي لأكله
مذهب مالك الحرمة
مذهب أحمد إن كان محقون الدم فلا يجوز له قتله لأكله، وإن كان غير محقون الدم جاز قتله وأكله.
مذهب الشافعي أنه يجب عليه قتل الحربي والمسلم المرتكب ما يوجب قتله، وكذا الحربي المحقون الدم كالمرأة والصبي.
جـ – أكل بعض أعضائه
مذهب مالك ترجيح أكله بعض أعضائه.
مذهب أحمد ترجيح عدم الجواز.
مذهب الشافعي جواز أكل بعض أجزائه
النتائج
بناء على هذا فإن نقل بعض أعضاء من إنسان إلى آخر مع بقاء حياة كل منهما لا مانع منه، لأنه حتى على مذهب أحمد هو معلل بأن الانتفاع ببعض الأعضاء ربما يؤدي إلى الموت فمتى اطمأننا إلى السلامة فلا مانع.
- أنه بناء على ما ذكر صاحب التحفة
فإنه يجوز أكل كل من أجزاء المحكوم عليهم بالإعدام وكذا كل من لم يكن معصوم الدم.
- إذا جاز الأكل لاستبقاء الحياة فإنه يجوز الانتفاع بالعضو لاستبقاء الحياة أيضًا بواسطة زرعه.(3/253)
- بناء على أن أولياء الميت يملكون العفو فإذا كان الإنسان في حالة جيدة اصطناعية فلا مانع من الاستفادة ببعض أعضائه لإنقاذ حياة غيره.
الثاني: الوجه الثاني من التكييف الشرعي – الإيثار.
يقول الزركشي قال الإمام في باب صول الفحل لا خلاف في استحباب الإيثار وإن أدى إلى هلاك المؤثر وهو من شيم الصالحين، فإذا اضطر وانتهى إلى المخمصة ومعه ما يسد جوعه وفي رفقته مضطر فآثره بالطعام فهو حسن، وكذا القول في سائر الإيثارات التي يتدارك بها المهج. قال والده في باب التيمم من الفروق، المضطر إن أراد الإيثار بما معه لاستحياء مهجة أخرى كان له الإيثار وإن خاف فوات مهجته. (1)
هذا وإنه أثناء كتابة هذا البحث اطلعت في النشرة الإخبارية لوكالات الأنباء السعودية على الخبر التالي: يستضيف مستشفى القوات المسلحة بالرياض خلال الفترة من 25 إلى 27 ربيع الأول الحالي الموافق 17/ 9 – 5 ديسمبر 1984 مؤتمر الشرق الأوسط الدولي الثاني عن زراعة الأعضاء.
وفي الصفحة التالية ودعا الفريق المواطنين للاستعداد للتبرع بكلاهم وذلك بعد الموت حتى يستفاد منها، مشيرًا إلى أن ذلك واجب ديني قبل أن يكون وطنيًا، مشيرين بذلك إلى قرار هيئة كبار العلماء رقم 99 وتاريخ 6/11/1402 وقرار مجلس الوزراء رقم 4/ 29221 اللذين أجازا التبرع بالأعضاء. (2)
إني سأعمل للتحصيل على الفتوى التي تفضلت بإصدارها الهيئة الموقرة لكبار علماء المملكة المشار إليها بالخبر أعلاه. وإني أدعو بهذه المناسبة رجال الإعلام أن يتوخوا الدقة فيما يكتبون وأن لا ينساقوا مع أقلامهم المغموسة بالعواطف ففرق كبير بين أن التبرع بالكلى واجب ديني وبين قولهم بعد الذي أجاز التبرع إن معنى أنه واجب ديني أن كل من لم يتبرع آثم لأنه ترك واجبًا ومعنى جائز أنه مختار له أن يفعل وأن يترك.
وأنهي كلمتي هذه التي كتبتها معجلًا إذ لم يرد علي عرض المشاركة إلا في نهاية شهر نوفمبر أنهيها بالتأكيد على أن القضية اجتهادية لا مطمع في اليقين لأي عالم ولا باحث، وإنه من الخير أن يقع التنسيق أفضل بين مؤسسات العالم الإسلامي في تبادل المعلومات، فكلما بحثت دائرة أو هيئة قضية من القضايا فإنه يكون من المتأكد أن تتولى نشرها في الجهات المختصة تعميمًا للفائدة.
والله من وراء القصد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
__________
(1) قواعد الزركشي ج 1 ص 211
(2) وكالة الأنباء السعودية مكتب تونس عدد 11/21/3/1405 ص 5 و6(3/254)
حقيقة الموت والحياة
في القرآن والأحكام الشرعية
للدكتور توفيق الواعي
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
يجب أولًا أن نعرف أن الحياة والموت بيد الله سبحانه، مصداقًا لقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
فكما أن الحياة سر من أسرار الله سبحانه، كذلك الموت، كل بقدر، وميعاد. وقد تتنوع معاني الحياة، ويتنوع معاني الموت، واللغة العربية، والدلالات القرآنية تستوعب هذا التنوع.
والمعروف أن الحياة مقابلة للموت، والموت مقابل للحياة، فإذا عرفنا الحياة كان ما يخرج عن التعريف ميت، وإذا عرفنا الموت كان ما يخرج عن التعريف حي.
تعريف الموت:
إذا أردنا أن نعرف الموت لغة وجدنا أن الميم، والواو، والتاء. تشير إلى ذهاب القوة من الشيء سواء كان حيوانًا أو نباتًا. قال صلى الله عليه وسلم: ((من أكل من هذه الشجرة الخبيثة)) يعني الثوم ((فلا يقربن مصلانا إلا إذا أماتها بالطبخ)) .
فأصل الكلمة في اللغة إذن تدل على ذهاب القوة النامية. وقد تستعمل في ذهاب القوة الحسية، أو النفسية.
وعلى هذا تنوعت دلالات الكلمة، من هذه الدلالات إطلاقها على،
1- السكون. فكل ما سكن فقد مات، يقال: ماتت النار إذا برد رمادها فلم يبق من الجمر شيء، وماتت الريح ركدت وسكنت.
2- النوم. يطلق على النوم أنه موت حيث يقال في الدعاء المعروف: الحمد الله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور.
3- ذهاب القوة النامية. فيطلق على ذهاب القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات كقوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19] .(3/255)
4- يطلق على زوال القوة الحسية كقوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} . [مريم: 23] .
5- الجهالة. فيطلق على الجهالة موت: كقوله تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122]
كقول القائل:
ليس مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش ذليلًا كاسفًا باله قليل الرحاء
6- مقدمات الموت "الاحتضار" كقوله تعالى {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} [البقرة: 133] .
7- باعتبار ما سيكون: يطلق الموت على الشيء باعتبار ما سيكون، كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَاَنٍ} .
8- فقدان الحياة: كما يطلق الموت على فقدان الحياة ومغادرة الروح للجسد الإنساني كقوله تعالى {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] . (1)
الروح:
للروح في اللغة العربية إطلاقات ومعاني منها:
1- يطلق على جبريل أنه روح لقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) } [الشعراء: 163] .
2- يطلق على الوحي أنه روح: لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] .
3- وتطلق على السر الذي أودعه الله في آدم لقوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} كما تكون بمعنى اللطيفة الربانية التي أودعها الله في الإنسان والتي أشار إليها الحق سبحانه بقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] .
__________
(1) انظر في ذلك لسان العرب، ومقاييس اللغة، وبصائر ذوي التميز، والفروق في اللغة لأبي هلال العسكري في المادة.(3/256)
وإذا أردنا نلقي الضوء على الروح التي هي اللطيفة الربانية التي أودعها الله في الإنسان، وجدنا أنفسنا أمام تعريفات عدة، ولكن حسبنا أن نذكر التعريف المعول عليه عند المحققين من العلماء، وهو:
"الروح عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس" سرى فيه سريان الماء في الورد، والدهن في الزيت، والنار في الفحم، لا تقبل التحلل والتبدل والتفريق والتمزق، تعطي الجسم المحسوس الحياة وتوابعها إذا كان الجسم قد تم استعداده لها، وهو المراد بقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وتظل هذه ملازمة له ما دام صالحًا لقبولها، لعدم حدوث ما يمنع من السريان كالأخلاط الغليظة، أو التلف والفساد، ومتى حدث ذلك حصل الموت لعدم صلاحية الجسم" وهذا هو رأي ابن سينا، والفخر الرازي وابن القيم وجمهور العلماء.
إذن فالروح هي التي تعطي الجسد الحياة، والجسد هو الذي يكون به الإنسان إنسانًا يتحرك وتجري عليه الأحكام، فبدونه أو بدون صلاحه لا روح ولا حياة.
والإنسان لا يصير إنسانًا إلا بالروح والحياة معًا. لقوله تعالى {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} فما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم إلا بعد أن استكمل خلقه جسدًا وروحًا.
الجسم الإنساني:
يعرف الفخر الرازي الإنسان فيقول: الإنسان جسم موصوف متولد عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص.
والفخر الرازي بهذا يعرف الإنسان بجسمه المادي الموجود أمامه يراه ويحسه ويسميه الجسم الأرضي، كما يسميه الناس اليوم الجسم العضوي.
ثم يزيد الفخر الرازي تعريف الجسم إيضاحًا فيقول: الجسم الذي تغلب عليه الأرضية هو: الأعضاء الصلبة الكثيفة كالعظم والغضروف والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد والدم، ثم قال: ولم يقل أحد من العقلاء أن الإنسان مغاير لهذا الجسم، ولم يقل أحد من العقلاء كذلك: إن الجسم عبارة عن عضو معين من هذه الأعضاء" (1) انتهى كلام الفخر.
__________
(1) الفخر الرازي 21 /43/ 44(3/257)
علاقة الجسد والروح بالإنسان.
صرح المعتزلة بأن الإنسان جسم مخصوص بشرط كونه موصوفًا بصفة الحياة والعلم والقدرة، والحياة عرض قائم بالجسم. أي أن الروح عرض قائم بذلك الجسم،وهم بذلك قد جعلوا الروح غير منفصلة عن الجسم، وليس لها ذات مستقلة.
فالإنسان على رأيهم عبارة عن جسم مخصوص بشرط كونه موصوفًا بصفة الحياة والعلم والقدرة، ويمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده، وهيئة أعضائه وأجزائه وبما أوتي من تمييز وعقل.
أما أهل السنة: فيقولون: إن الإنسان مكون من جسد، وروح تحل في هذا الجسد ما دام صالحًا لاستقبال الروح. فإذا فقد صلاحيته فقد روحه.
وكل من الرأيين يلتقي مع الآخر في أن الإنسان جسم يفترق عن الحيوان، لأن فيه إحساسًا وعقلًا وعلمًا وقدرة، وصفات عليا.
ويفترق الرأيان في الروح فيقول المعتزلة له: الروح عرض قائم بالجسم ولا يفترق عنه والجسد، والروح شيء واحد ولا انفصال بينهما.
أما أهل السنة فيقولون: إن الروح شيء والجسد شيء آخر، فهي منفصلة عنه بدليل قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} فهذا دليل على أن النفس لا تموت بموت البدن. لأن القرآن جعل النفوس ذائقة للموت. والذائق لا بد أن يكون حيًا حال الذوق. والمعنى كل نفس ذائقة موت البدن. وهذا يدل على أن النفس غير البدن، وعلى أن النفس لا تموت بموت البدن. وأيضًا فيه تنبيه على أن ضرورة الموت مختص بالحياة الجسمانية" (1) لقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} "فالجسد إذا غير الروح المنفوخة فيه".
__________
(1) تفسير الفخر الرازي – 9/ 125(3/258)
الإشارة إلى الإنسان بالجسد والروح:
تكلم القرآن عن الإنسان مشيرًا إليه بالجسد وحده، وأعلم الخلق أن هذا الجسد ليس بخالد، وذلك مثل قوله في الأنبياء عليهم السلام: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} .
فقد اقتضت حكمة الله أن يكون الرسل من البشر، يلتقون الوحي، وما كان الرسل من قبل إلا رجالًا ذوي أجساد، وما جعلهم الله أصحاب أجساد، ثم جعلهم لا يأكلون الطعام. فأكل الطعام من مقتضيات الجسدية، والجسدية من مقتضيات البشرية، والموت من مقتضيات تلك الجسدية، فهم إذن غير خالدين في هذه الحياة.
وأشار القرآن أيضًا إلى الإنسان بالروح والنفس فقال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) } [الشمس: 7] إذا فالقرآن يخاطب الإنسان بالجسد مرة وبالروح أخرى. وهذا دلالة واضحة على أن الإنسان بجسده وروحه يشار إليه بكل منهما.
الموت في القرآن:
ذكر الموت في القرآن بمعانيه المختلفة التي سبقت الإشارة إليها. والذي نعنيه هنا من هذه المعاني، هو حديث القرآن عن موت الإنسان، وعن صفة هذا الموت، وحالة الإنسان بعده فنجد أن القرآن دائمًا يركز على موت الجسد، ثم يتبع ذلك بذكر صفة هذا الجسد الميت سواء ذكر مع هذا الجسد الروح أو لم تذكر.
فالقرآن مثلًا يقول في وصف هلاك العصاة: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) } [يس: 29] .
والخمود: هو سكون الجسد وخلوه من الحركة أو التنفس أو أي علامة للحياة الجسدية ثم يقول في آية أخرى:
{فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] ويقول {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) } [القمر: 20] .
يصف القرآن بذلك أجساد الهلكى بأنها صرعى لا حراك بها، قد تحللت ولم يبق إلا هياكلها كأنها أعجاز نخل خاوية منقعرة لا حراك بها ولا حياة.(3/259)
ثم نجد أن القرآن يأتي بصورة أخرى للموت تخمد فيها الحياة والحس والنفس والحركة فيقول: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] حياة لا حركة ولا همس لا نبض لا تنفس، بل خمود وزوال.
تصور لك الآية فقد الحياة بكل معانيها ودلالتها وإحساساتها. ويتحدث القرآن في آيات أخرى على موت الإنسان ويحكي منظر مشاهدة الناس لهذا الوداع الأخير فيركز على أمرين، أمر غير مشاهد للناس وإنما هو معلوم لله سبحانه وأمر مشاهد للناس ومعلوم لهم وبه يعرف الحياة والموت.
فيقول: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) } فالناس لا يبصرون خروج الروح وهم جلوس حول الميت، إذا فبماذا يعرفون الموت؟ بعلامات جسدية تأتي في الآية اللاحقة.
فيقول القرآن: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) } قال المفسرون: بردت وماتت وفقدت حرارتها وكان عليها جوالًا" الماوردي 4/ 362.
وقال الفخر الرازي: يبست ساقاه والتصقت إحداهما بالأخرى فاقدة الحركة. الفخر الرازي 30/ 232.
موت القلب:
أشار القرآن في بعض آياته إلى أن توقف القلب من علامات الموت، فقال تعالى: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} . [التوبة: 110] .(3/260)
المعجزة القرآنية في الإحياء والإماتة:
نجد القرآن ينبه ويلفت دائمًا إلى الإعجاز الباهر في خلق هذا الإنسان وفي تكوينه وتصويره على أحسن صورة وأفضلها، فيقول في سورة المؤمنين:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) } أي أن هذا الجسد البديع الخلق ينحل ويزول ويخمد ويتلاشى ثم يحييه الله سبحانه يوم القيامة. والإماتة والإحياء ينصب على تلاشي الجسد وخموده بكل يقين نسمع في ذلك القرآن الكريم في كثير من الآيات التي تقرر ذلك.
{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}
{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ}
{وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) } .
إذًا فحياة الجسد سواء كانت حياة خلوية أو حياة متحركة هي حياة تدل على إبداع الخالق وعلى عظيم صنعه. فما زالت الكلية تعمل وهذا إعجاز وما زال القلب يعمل وهذا إعجاز، وما زال الكبد والطحال والأمعاء وسائر أجهزة الجسم تعمل بإعجاز تام مع الحياة الخلوية التي يقال عنها. فهل يكون هذا حياة أو موت، تلك الأجهزة الإلهية العاملة هي صناعة إنسان أم خلق خالق. وإن كان الأطباء يمدون الجسد ببعض ما يحتاجه من غذاء أو أشياء منشطة وإن كان، ولكن هذا يديم الحياة لا يديم الموت أو يلغي الحياة.
القصص القرآني يوضح الفرق بين الجسد الميت وبين الجسد الحي.
نرى القرآن في قصصه عن الموت والحياة يسير حسب القاعدة العامة في حديثه عن الإحياء والإماتة، فيوضح لنا الفرق بين إنسان مات ثم بعث وبين إنسان فقد إحساسه ثم أيقظ وكان الفرق الوحيد بينهما، انحلال الجسد في الموت، وعدم انحلاله في الإيقاظ.
ولنأخذ مثلًا من القصص القرآني الذي يتكلم عن موت الجسد وحياته فنذكر قصتين.(3/261)
الأولى: عن الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها.
والثانية: قصة إبراهيم عليه السلام وطلبه من الله أن يريه إحياء الموتى"
فأما عن القصة الأولى فهي قصة عزير كما يسميها بعض المفسرين فقد قال الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) } .
قال ابن كثير أحياه الله: فأول ما أحيا منه أحيا عينيه ليرى بهما كيف تسري الحياة إلى جسده ويرى بهما صنع الله في خلق الحياة في الجسد.
ثم لفته الله سبحانه إلى حياة حماره فنظر إلى العظام التي تجمع واللحم الذي يكسو تلك العظام.
يقول الفخر الرازي: انضمت أجزاء العظام بعضها إلى بعض، ثم التصق كل عضو بما يليق به، الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه، ثم الرأس ثم العصب والعروق ثم أنبت اللحم عليهما ثم الجلد ثم نبت الشعر على الجلد، ثم نفخ فيه فإذا هو قائم".
وأما القصة الثانية فهي قصة إراءة إبراهيم عليه السلام إحياء الموتى إذا قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} .
قال المفسرون: قطع إبراهيم عليه السلام أجساد الطيور الأربعة ثم فرقها على جبال أربعة ثم أمسك برؤوسهن في يده، ثم دعاهن فتجمعت الأجزاء المتفرقة وجاءت الأجساد تسعى إليه كل يعرف رأسه التي مع إبراهيم عليه السلام. فقال إبراهيم: أعلم أن الله عزيز حكيم. من هذا نعرف أن حياة الجسد حياة قد ركز القرآن عليها ولفت إليها الأنظار؛ لأنها محل الإعجاز والدلالة على قدرة الله سبحانه.
وسائل الإنسان نفسه قائلًا: إذا لم تسم حياة الجسد حياة، فبماذا تسمى، وإذا كان في الدماغ حياة تستطيع أن تؤثر على باقي الجسم، ففي الجسم كذلك أعضاء تفعل نفس الشيء مثل القلب والرئتين والكبد والأمعاء وكثير من الأشياء في جسم الإنسان، بدونه لا تستمر حياة الإنسان، فلماذا التركيز على عضو معين وترك باقي الأعضاء. ولماذا إضافة الحياة والموت إليه فقط.(3/262)
القرآن لا يعد تعطل الإحساس موتًا.
إن تعطل الإحساس لا يدل على فقد الحياة اللهم إلا إذا كان ذلك على سبيل المجاز أو التشبيه، فلا يقول عاقل مثلًا أن النائم ميت، ولا يقول أن المجنون فاقد للحياة، كما لا يقال ذلك لناقص الأهلية كالصبي غير المميز، لا يقال إن هؤلاء يعاملون معاملة الأموات، كما لا يقال أن المريض حين يكون في غيبوبة طالت أم قصرت تحت أي ظروف يعامل معاملة الأموات، إلا إذا كان الموت والحياة أصبح بيد البشر وحاشا لله أن يدعي أحد ذلك.
ولهذا نرى القرآن الكريم يقص علينا قصة غيبوبة طويلة ظلت ثلاثمائة عام، وظل الجسد فيها صالحًا ثم عاد إليه الإحساس بعد تلك المدة الطويلة وبعد هذه الغيبوبة الكبيرة ولم يسم ذلك القرآن موتًا. مع العلم أن تسمية ذلك موتًا كان سهلًا وميسورًا ويدل في نظر البعض على معجزة تساوي حفظ الأجساد حية. وهي المعجزة التي أظهرتها القصة الآتية.
قال تعالى {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) } أجمع الفقهاء والمفسرون على أن كلمة بعثناهم معناها أيقظناهم لأن أجسامهم كانت حية وفيها الحياة ولم تفقدها بدليل قول الله في الآيات بعد ذلك {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} إلى أن قال: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} .
فرق بين موت وحياة:
والناظر في القصتين قصة عزير السابقة وقصة أصحاب الكهف هذه يلاحظ في النظرة العجلى أمورًا منها:
1- عبر القرآن في قصة أصحاب الكهف بقوله {فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ} ولم يقل فأمتناهم أو ألقينا عليهم الموت، مثلًا وإنما خلت القصة من ذكر الموت تمامًا لأنه فقدان للإحساس فقط، والحياة مستمرة، ولهذا حرص القرآن على أن ينبهنا إلى سلامة الجسد وعلى عدم تحلله، بل وعلى نماء شعورهم في تلك الفترة الطويلة التي ذكرها القرآن على خلاف العادة وهي {ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) } ونماء ما ينمو في الجسد مثل الأظافر وغيرها وذلك مشار إليه في القصة بقوله {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} وذلك لطول شعورهم ونمو أظافرهم ولحاهم إلى غير ذلك مما يغير الملامح ويخيف عند زيادته عن المألوف والمتعارف.(3/263)
أما في قصة عزير فقد تحلل الجسد وذهب وصرحت القصة بالموت صراحة ثم البعث بعد جمع العظام والأشلاء، فقالت {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} إلى أن قالت {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} .
2- حرص القرآن في القصة على أن يعلمنا كيف نحفظ الأجساد حين ذهاب العقل حتى لا يتلف الجسد ويفقد الحياة إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، ويفيق الإنسان أو ترد إليه الحياة الشعورية، وذلك بأمرين:
أولهما: التدفئة المناسبة.
ثانيهما: التقليب المستمر.
وكأن القصة بهذا تعلمنا صورة من صور التمريض المتقدم، والتي تقول: يستمر الإنسان في الحياة بدون القوى العاقلة فترات طويلة، بشرط كفاءات التمريض، وعلاج الأمراض العارضة وانتظام الغذاء الأنبوبي والعناية المستمرة بالجلد وتقليبه، أو تغيير أوضاع المريض كل ساعتين بصفة مستمرة، لمنع قرح الفراش، مع العناية بتصريف البول والبراز وإذا تم ذلك بعناية يمكن أن يعيش الإنسان حياة عادية حتى سن الستين "ونلحظ في القصة أن القرآن يركز على عنصرين أساسيين: التدفئة والتقليب الجسدي المستمر، أما الغذاء فهو غذاء رباني تولاه الله، ومثل هذا الغذاء لا بول معه ولا براز فبقي ما ذكرته القصة من التقليب والتدفئة المشار إليهما في القصة بقوله تعالى {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} هذه هي التدفئة، وقوله تعالى {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} هذه هي العناية السريرية.
إذن فقصة أصحاب الكهف قصة فقدان للإحساس والشعور استمر ثلاثمائة عام ولم يسم هذا القرآن موتًا وإنما سماه إيقاظًا لأن الجسد لم يفقد طبيعته أو يتحلل أما في قصة عزير فالأمر مختلف ولهذا سماه القرآن موتًا وبعثًا.
فلماذا نسمي من يفقد الإحساس لبضعة أيام ميت، ولم يسمه القرآن كذلك في ثلاثمائة عام وازدادوا تسعًا".(3/264)
الحياة والموت عند فقهاء المسلمين:
تكلم الفقهاء في الموت والحياة في أبواب عدة من كتب الفقه، في الجنائز، وفي الميراث وفي الجنايات وفي الجهاد "الاستشهاد" وغير ذلك من الأبواب التي تتعلق بهذا الإنسان الميت.
فمثلًا تكلم الفقهاء في تحديد الحياة والموت، في بدء حياة الإنسان، لما يترتب على ذلك من حقوق كالميراث، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((إذا استهل المولود ورث)) (1) وقوله: ((لا يصلي عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل)) (2) لهذا احتاج الفقهاء أن يعرفوا الحياة والموت، بعلامات الحياة التي تظهر على جسد الجنين في حركاته وسكناته وصوته إلى غير ذلك مما سنتعرض إليه، لأن الحياة لا تعرف إلا بدلالاتها وآثارها، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14]
علامات الحياة:
تكلم الفقهاء على علامات الحياة مثل الصياح –الصوت الخارج من جسد الطفل- أو العطاس أو التنفس، أو الحركة طويلة كانت أم يسيرة، كحركة القلب، أو التنفس أو الجسد، ويناسبنا في هذا المقام أن نتكلم على قسمين من هذه العلامات وهما:
التنفس:
قرر الحنفية والشافعية والحنابلة (3) أن التنفس يأخذ حكم الحركة في إثبات الحياة لأن التنفس حياة وحركة ذاتية يتحرك فيها الصدر وينبض بها القلب تلقائيًا في الجسد فكان ذلك دلالة حياة صاحب الجسد.
الحركة:
اتفقت المذاهب على أن الحركة في الجسد من علامات الحياة، غير أن بعضهم اعتبر الحركة الطويلة –أي التي تستمر دقيقة أو أكثر- وبعضهم اعتبر مطلق الحركة في الجسد، ومن هذا يتبين أمران:
__________
(1) رواه أبو داود
(2) رواه الترمذي وابن ماجة
(3) المبسوط 16/ 114، الجمل 2/ 191، شرح الروض 3/ 19، الخرشي 2/ 46، الإنصاف 7/ 331(3/265)
الأول: أن الجسد هو المعول عليه في معرفة الحياة والموت حيث إن الحركة تنبعث منه.
الثاني: اعتبر العلماء مطلق الحركة، أو الحركة الطويلة التي تدل على الحياة، وهل هناك مثلًا حركة تدل على الحياة أكثر من حركة القلب ونبض الدم في العروق والتنفس وحركة الصدر وعمل باقي الأعضاء من كبد وكلية وأمعاء وغير ذلك، ولهذا نجد أن الفقهاء لم يجعلوا أبدًا العقل أو الإحساس هو مصدر الحياة، وإلا فكيف يعرف ذلك في الوليد حتى يقولوا به؟
أقوال الفقهاء في نهاية الحياة:
تكلم الفقهاء عن نهاية الحياة في الإنسان، وما يجب أن يتبعها من أعمال خاصة بتجهيزه وقبره، لأن الموت دائمًا يعقبه قبر الميت مباشرة مصداقًا لقوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} وما يلزم ذلك المقبور من تغسيل وتكفين وصلاة وغير ذلك.
فقالوا: إذا تيقن الحاضرون من موت الميت، وعلامة ذلك، انقطاع نفسه وانفراج شفتيه، وأضاف بعضهم أوصافًا أخرى مثل انخساف صدغيه أو ميل أنفه واسترخاء أعصابه ورجليه، وامتداد جلد وجهه، وتقلص خصيتيه إلى فوق مع تدلي الجلدة (1)
ثم يتبعون تلك الأوصاف بشروط أخرى، فيقول النووي في روضة الطالبين جـ 2 ص 98: فإن شك في موته بأن يكون به علة، واحتمل أن يكون له سكتة، أو ظهرت عليه أمارات فزع أو غيره، كأن يكون هناك احتمال إغماء أو خلافه آخر حتى اليقين بتغير الرائحة أو غيره".
بعد هذا البيان في علامات الموت عند الفقهاء، نرى أنهم حرصوا على أنه لا يحكم بالموت إلا بعد فقدان الجسم للحياة، أي حياة فقدانًا كاملًا، واشترطوا اليقين في ذلك والتأكد الذي لا يخالطه شك، فإذا كان هناك أدنى ريبة، ترك الجسد حتى تتغير رائحته وينتفي معه أي شك في الموت، هذا هو ما عليه إجماع الفقهاء من لدن الصدر الأول إلى اليوم.
__________
(1) انظر الفتاوى الهندية 1/ 154، مختصر خليل 1/ 37، منتهى الإيردات 1/ 323، روضة الطالبين 2/ 98، ابن عابدين طـ الحلبي 1/ 189(3/266)
لكن أن يكون الجسد حي والصدر يعلو وينخفض والنَّفَسُ يتردد والقلب ينبض والأعضاء والغدد تعمل وكل شيء حي، ما عدا المخ كما يقال، ثم يأتي من يقول: إن الإنسان قد مات، وهو ما زال راقدًا وفيه ما فيه من الحياة هذا أمر غريب لم يقل به فقيه أو حتى طبيب إلى اليوم احترامًا للحياة وللإنسان وللآدمية، إلا إذا أطلق عليه أنه ميت باعتبار ما يؤول إليه، وما يكون من أمره بعد وقت بعينه.
والأحكام الإسلامية دائمًا تبنى على التحري لا على الشك وخصوصًا في مثل هذه الحالات فنرى مثلًا في إجراء أحكام الميت على المفقود في سفر أو في جهاد أو حرب أو غير ذلك، فإنه ينتظر مدة معينة حددها الفقهاء للتأكد من موته أو لغلبة الظن بحسب عادة الناس أنه لا يعيش بعد هذه المدة، ثم يعلنون موته، فتعتد امرأته ويقسم ماله ويؤخذ فيه العزاء إلى غير ذلك.
الشريعة وكرامة النفس الآدمية:
قررت الشريعة الإسلامية في كثير من النصوص حرمة النفس البشرية، كما أعلت شأنها ورفعت قدرها، فقال سبحانه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} .
وقد أكدت الشريعة حرمة الاعتداء على النفس البشرية بما لم يسبق إليه فقال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} .
ورتب الإسلام عقوبات رادعة لكل من تخول له نفسه الجناية عليها، ولم يكتف بمضاعفة الإثم والوعيد بالعذاب الأليم والخلود في الجحيم لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} النساء 93، وإنما رتب على ذلك عقوبات دنيوية رادعة أيضًا، وهذه العقوبات وإن اختلفت حسب العمد أو الخطأ أو النية إلا أنها مغلظة في كل أحوالها ويصاحبها مع ذلك القصاص أو الدية، كل ذلك حفاظًا على النفس لما لها من كرامة وحقوق وحرمة.
ومما يجب أن يذكر في هذا المجال اتفاق فقهاء المسلمين على أن للجنين حرمة من حين نفخ الروح فيه، لما في ذلك من إزهاق نفس محترمة بغير حق، هذا وقد ارتفعت شفافية بعض الفقهاء فقالوا بحرمة البويضة الملقحة وحرمة النطفة حتى قبل نفخ الروح فيها، لأنها بويضة وبذرة آدمي له حرمته وكرامته.(3/267)
ولهذا ينبغي أن نلفت النظر إلى ما يلي:
1- إذا كان هذا هو منطق الشريعة الإسلامية، وهذه هي أقوال فقهائها، أفلا يكون من الأولى والأجدر حفظ حياة إنسان مازالت فيه حياة نابضة منظورة قوية، واحترام حياة تتنفس وتنمو؟
2- الإنسان ما زال موطن الأسرار، وحياته وموته ما زالت يكتنفها الغموض وإن كان العلم قد بدأ يزيح الستار عن بعض هذه المجاهيل، إلا أنه كل يوم يظهر تقدم جديد في مجال خدمة الحياة الإنسانية، فالحكم على حياة الإنسان وموته بدون تحقق وتأكد، يكون حكمًا مبنيًا على المجازفة.
3- من الأدلة الشرعية المعترف بها الاستصحاب، وهو الحكم على الشيء بما كان ثابتًا له ما دام لم يقم دليل قطعي بغيره، فمن عرف إنسانًا حيًا حكم بحياته وبنى تصرفاته على هذه الحياة، حتى يقوم الدليل الأكيد على وفاته، ومن عرف فلانة زوجة فلان شهد بالزوجية ما دام لم يقم دليل له على إنهائه، فأين هو الدليل الشرعي على انتهاء الحياة الإنسانية والجسد حي وما زال يقبل الغذاء ويبول وجسده لم يتغير بل ينمو؟ وكيف يحكم بالموت في هذه الحالة والقاعدة الشرعية المعروفة تقول: "الأصل بقاء ما كان حتى يثبت ما يغيره" وكذلك قاعدة "ما يثبت باليقين لا يزول بالشك" فكيف يدعى اليقين والجسد ينبض والحياة مليئة بالأسرار؟ وما ثبت اليوم ينقص غدًا "وما هو مستحيلًا اليوم هو حقائق الغد".
الأحكام الشرعية لفاقد الحياة العاقلة:
قد يكون الإنسان فاقد للحياة العاقلة فيكون فاقدًا للأهلية، كالطفل في زمن طفولته وكالمجنون في أي سن كان، فكل منهما لكونه لا عقل له فلا يكون له أهلية للأداء ولا تترتب آثار شرعية على أقواله وأفعاله.
قال صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ وعن المبتلي حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر)) حديث صحيح، أخرجه أبو داود من حديث عائشة بهذا اللفظ، وأخرجه من حديث علي وعمر بلفظ ((عن المجنون)) حتى يبرأ وعن النائم حتى يعقل، وأخرجه أيضًا عنهما ((عن المجنون حتى يفيق)) وبلفظ ((عن الصبي حتى يحتلم)) فلا يجب إذن على المجنون صلاة ولا صوم ولا حج، وإذا بريء لا يقضي صلاة ولا صومًا وإذا صلى أو صام أو حج لا يقبل منه.(3/268)
كما يكون له أحكام شرعية في غير العبادات فعقوده وتصرفاته باطلة، غاية ما في الأمر إذا جنى أحدهما أي المجنون أو الطفل على نفس أو مال يؤاخذ ماليًا لا بدنيًا فإذا قتل الطفل أو المجنون أو أتلف مال غيره ضمن دية القتيل أو ما أتلفه ولكنه لا يقتص منه وهذا معنى قول الفقهاء "عمد الطفل أو المجنون خطأ" لأنه ما دام لا يوجد العقل لا يوجد القصد فلا يوجد العمر.
ومع أن فاقد الأهلية يكون فاقدًا للأداء كما قدمنا إلا أنه تكون له أهلية وجوب كاملة.
فتثبت له الحقوق، فيصح أن يوهب وأن يرث ويورث، وأن تفرض له نفقة ويكون عليه واجبات كذلك من ماله من نفقة زوجته وأولاده وما عليه من حقوق، أو تلف في مال الغير، إذن فتثبت له حقوق ويجب عليه واجبات، وهذه تثبت لكل إنسان من حين ولادته، فهو في طفولته وفي سن عدم تمييزه وبعد التمييز وبعد البلوغ وفي حالة العقل وفي حالة زواله - على أي حال كان وفي أي طور من أطوار الحياة - له أهلية وجوب كاملة بوصفه أنه إنسان سواء كان ذكرًا أم أنثى وسواء كان جنينًا أم طفلًا، مميزًا أم بالغًا أم رشيدًا أم سفيهًا، عاقلًا أو مجنونًا صحيحًا أو مريضًا؛ لأنها مبنية على خاصية فطرية في الإنسان فأهليته للوجوب هي إنسانيته، أي بمعنى أوضح هي حياته الجسدية لا حياته العقلية، فما دام له جسد حي فله أهلية وجوب كاملة.
إذن فالحياة الجسدية هي المعتبرة في هذه الحالة لا الحياة العقلية وقد اعتبرت الحياة العقلية في الأداء كما قدمنا، وغالب ذلك مختص بالعبادات والتكاليف الشرعية بين العبد وربه، فكيف يأتي من يقول: لا اعتبار للحياة الجسدية ولا حرمة لها ويخالف الكتاب والسنة وإجماع المسلمين في ذلك؟
الحياة غير المستقرة:
الحياة غير المستقرة في عرف الفقهاء هي اللحظات التي تسبق خمود الجسد، وهي ما يسميها الناس بحركة خروج الروح.(3/269)
وهذه وإن كان لها أحكامها الخاصة من حيث حل الذبح في الحيوان وعدمه، فلها أحكامها، كذلك عند الإنسان في إثبات الفعل المؤثر في إنهاء الحياة الإنسانية، إذا تعددت المؤثرات، لما يترتب عليه من عقاب للمتسبب الحقيقي، ولما يترتب عليه من تحديد حجم الجناية والعقوبة إذا لم تتعدد المؤثرات على أثر واحد.
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه الحياة غير المستقرة سماها الفقهاء حياة لا يجوز تخطيها أو إعلان حالة الوفاة إلا بعد الانتهاء من أي حياة والتحقق من ذلك بجمود الجسد وسكونه سكونًا أبديًا.
والسؤال الذي يطرح الآن: وهو اعتداء الطبيب على الإنسان في هذه الحالة بوقف الأجهزة المنشطة أو بنزع الأنابيب المغذية ما حكمه؟
نقول: إذا كان الاعتداء بدون سبب ضروري فله حكمه المعروف، وهو قتل بالتسبب ولذلك عقوبته المعروفة.
أما إذا كان لا يوجد إلا جهاز واحد في المستشفى وهناك من يتحقق شفاؤه إذا وضع له هذا الجهاز فنقول: أولًا: يجب على أولي الأمر أن يوفروا الأجهزة اللازمة لذلك وإلا أثموا لأن ذلك من الضروريات، فإذا لم تتوفر لقلة ذات اليد أو لعدم العثور عليها أو عدم توفرها أو إمكان الحصول عليها فلا بأس بنزع الجهاز ممن يتأكد أنها لا تجدي معه، وتركب للذي يحتاجها لإنقاذ حياته، وهذا يشبه في نظري إجهاض الأم وإخراج الجنين للإبقاء على حياة الأم المريضة التي لا تتحمل الحمل أو تستطيعه لما فيه من التضحية بحياة مشكوك فيها لبقاء حياة مؤكدة.
وقد أجازت لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية بتاريخ 14/ 12/ 81 نزع الأجهزة من شخص يتحقق موته بعد قليل إلى شخص تتحقق حياته في نظر الأطباء إذا ركبت له هذه الأجهزة.
نقل الأعضاء:
أفتى العلماء بجواز نقل الأعضاء من حيوان إلى إنسان ولا شيء في ذلك ومن إنسان إلى إنسان بشروط:(3/270)
فإن كان من إنسان حي يشترط لذلك شروط:
1- أن يكون المتبرع بالعضو المنقول عاقلًا بالغًا راشدًا حيا يستطيع الحكم على الأشياء ويكون أدرى بمصلحته.
2- يشترط ألا تتعرض حياة المتبرع للخطر المحقق.
3- أن تكون هناك ضرورة لذلك كأن يكون هناك إنسان يحتاج ذلك العضو للإبقاء على حياته.
4- أن يكون البديل معدومًا أو لا يؤدي إلى الغاية المطلوبة.
أما نقل الأعضاء من الميت عند موته لإحياء نفس معرضة للهلاك فهذا لا بأس به لقول الله تبارك وتعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} ولأن هذا يدخل في إغاثة الملهوف وهي واجبة لإنقاذ نفس مشرفة على الهلاك، ولأن هذا ليس فيه انتهاك لحرمة الميت، لأن المصلحة الراجحة في إنقاذ إنسان مشرف على الهلاك والموت أولى، أما عن استئذان الأهل فهذا شيء للترضية وتطيب الخاطر ولمنع حدوث فتنة، فهم لا يملكون بذل شيء من الميت أو عدمه وبهذا يكون لا مشكلة في نظري حتى تستبقي الأجساد حية للأخذ منها، فالأعضاء التي تؤخذ من الميت حال الوفاة، تحفظ وتثلج وتنقل اليوم من قطر إلى قطر دون تلف فما هو الداعي لترك الإنسان حيًا والحكم عليه بالموت، حتى تؤخذ منه قطع غيار بدون حاجة فورية إلى هذا؟
ثم ما هو الضمان حتى لا تكون هناك تجاوزات بأن تكون هذه وسيلة أخرى لبيع الأعضاء وإنشاء سوق معينة لبيعها؟ كما يلاحظ بعض التجاوزات في بعض الدول التي يباع فيها جثث أو أعضاء الموتى للطلاب ولغيرهم دون ضوابط، أو زواجر مما لا يكون في أي مجتمع يحترم نفسه فضلًا عن المجتمعات الإسلامية التي تجعل للميت حرمة كحرمة الحي، يشهد لذلك ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه الموطأ والترمذي بسند صحيح "كسر عظام المؤمن ككسره وهو حي" وهذا معروف بأن يكون هذا للتعدي أو الاستهجان أو بغير ضرورة أو لمجرد التسيب أما إذا كان لضرورة ومنفعة كما بينا، فلا بأس.(3/271)
ما يترتب على إعلان الوفاة:
تترتب على الوفاة أمور معينة في الدين والدنيا منها:
1- ثبات عقود معينة كان قد أبرمها الميت، وانفساخ عقود أخرى كالقراض وغيره.
2- نفاذ الوصية حيث تخرج من ماله بقدر معين منه، أو من الشريعة، وتدخل في ملك الموصى له.
3- خروج ماله عن ملكه وذهابه إلى الورثة ومن يستحقون التركة من الورثة.
4- إخراج ديونه، ما حل منها وما لم يحل.
5- آثار الموت في الكفالة والحوالة.
6- سقوط النفقة التي كانت تجب عليه لأربابها زمن حياته.
7- ارتفاع النكاح –وبدء العدة للمرأة- ولزوم ما تأخر من مهر.
8- رد الأمانات إلى أصحابها.
9- تولية خليفة أو تنصيب إمام أو قاضي بدلًا عن الميت.
10- عزل بعض الولاة بموت الإمام.
11- نقض الهدنة والنظر في العهود وما إلى ذلك.
هذه مثلًا بعض الأمور الدنيوية التي تلزم بإعلان الوفاة.
وهناك أمور أخرى يجب أن تتم وأحكام يجب أن تتبع ديانة منها:
1- غسل الميت ودفنه لما ورد من عدم تأخير دفن الميت إذا تحقق موته.
2- الصلاة عليه –حيث يجب الصلاة على الميت قبل الدفن، فهل يصلى عليه ويغسل فور إعلان توقف مخه أو دماغه، أم بعد وفاة الأعضاء، وغسله والقصد إلى دفنه؟ أم لا صلاة ولا دفن ما دام الميت سيفتت قطعًا ويوزع على المرضى كما يقول بعض الإخوة الأطباء؟
3- العزاء: هل سيؤخذ العزاء بعد الدفن أم قبله والمريض يرقد في المستشفى؟ وهل هذه الأحكام الدنيوية السابقة يبدأ فيها فور إعلان وفاة المخ أم بعد وفاة الجسد؟
تطلق المرأة وتعتد وتوزع التركة إلى غير ذلك.
وهل سيستبقى شيء للتكفين والتجهيز أم ماذا؟
يجب أن يُلقى الضوء على ذلك..(3/272)
أسئلة:
1- لقد استطاع العلماء أن يوجدوا بديلًا للمخ في إدارة حركة الدورة الدموية والجهاز التنفسي والجهاز الهضمي والإبقاء على صلاحية الجسد والحياة فيه وذلك هو الأجهزة فلم يعتبرون الإنسان ميتًا والبديل يعمل.
2- ركز القائلون بالموت إذا فقد المخ الحياة على فقدان الشعور، وهذا لا ينهض دليلًا على الموت.
وإلا كان المجنون والمغمى عليه والمشلول ميتًا، وهذا ما لم يقل به إنسان إلى اليوم.
3- ما حكم من وقف قلبه وتنفسه وحركته، ثم عولج بالتدليك أو بالصدمة الكهربائية وعاد القلب إلى النبض من جديد هل يسمى في عرف الأطباء أنه مات ثم رجعت له الحياة من جديد أم لا يعتبر هذا في الحياة والموت وإنما يعتبر الدماغ فقط وما قولهم فيمن يموت اليوم ومن مات أمس ولم تقاس لهم موجات الدماغ أماتوا أحياء، أم أن هناك موت وموت، موت إذا وجد الجهاز وموت بدونه.
4- تدحرجت بعض الأمم حتى اعتبرت الإنسان في الشيخوخة عبء يستحسن التخلص منه، إما بإيداعه في مصلحة، أو دار للعجزة، أو ملجأ للرعاية مادام قد أصبح عديم التأثير أو النفع، فهل ستعمم تلك الفكر وتتطور حتى تنسحب على الناس كافة في حالة عجزهم أو فقدهم للقوى المؤثرة؟
إذا كان هذا اليوم شعار يسري في الأمم التي جنحت إلى الالتفات إلى المادة فقط فنحن والحمد لله ما زلنا نتمسك بتعاليم الإسلام التي تعتز بالإنسان قويًا كان أو ضعيفًا وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ((هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟)) ..(3/273)
نهاية الحياة
للأستاذ عبد القادر بن محمد العماوي
القاضي بالمحكمة الشرعية الأولى بقطر
الموت:
لا ريب أن الموت الطبيعي يكون تدريجيًا، فتموت الخلايا أولًا ثم الأنسجة ثم الأعضاء والأجهزة الحيوية، وبعد ذلك يتوقف الجسم بكامله عن العمل، ولكن هناك موتًا غير طبيعي، فإذا قطع الوتين مثلًا مات الشخص، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) } (1) وقالوا: إن الوتين هو نياط القلب وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب إذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه، قال ابن تيمية: ولم يرد أنا نقطع ذلك العرق بعينه، ولكنه أراد لو كذب علينا لأمتناه، لكان كمن قطع وتينه، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم ((مازالت أكلة خيبر تعاودني وهذا أوان قطع أبهري)) ، وقالوا: إن الأبهر عرق يتصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال هذا وإن قتلي بالسم فكنت كمن انقطع أبهره.
وقال الفقهاء في أمارات الموت في الذي يموت من علة باسترخاء قدميه ولا ينتصبان ويميل أنفه أو ينخسف صدغاه أو تمتد جلدة وجهه أو ينخلع كتفاه عن ذراعيه، أو تتقلص خصيتاه إلى فوق مع تدلي الجلدة، وقال الفقهاء: فإن كان هذا شك واحتمل أن يكون به سكتة لعدم العلة، أو ظهرت أمارات فزع أو غيره أحرى إلى اليقين بتغير الرائحة أو غيرها.
وقال بعض الفقهاء: إن حقيقة الموت تعتبر بجس العرق الذي بين الكعب والعرقوب وبجس عرق في الدبر، وقالوا أيضًا: إن من علامات الموت سكون الحركة في البدن كله وتغير لونه وانقطاع نفسه، ولذلك يعتبر موت الحامل بوضع كفة الميزان أو ما أشبهها على سرتها، فما دامت الكفة تتحرك فهي حية وهذا إذا تبين حملها إما بقولها أو بقول غيرها مما لا يتهم على ذلك، وهم يقولون ذلك لأنهم عاجزون عن الكشف عن الحقيقة إذ لم يكن في متناول أيديهم أجهزة كما هي الآن.
والواقع أننا لا نستطيع أن نحدد الحد الفاصل بين الحياة والموت، وإذا كان الأطباء قد قالوا سابقًا: إن توقف القلب عن العمل هو الحد الفاصل، وقالوا الآن: إن موت الدماغ هو الحد الفاصل، فما يدرينا أن يكتشف العلم وسائل لإنعاش المريض وتنشيط الدماغ مثل ما حصل للقلب؟
__________
(1) سورة الحاقة / 44، 45، 46، 47(3/274)
لذلك فنرى ألا نعتبر الحياة شرعيًا قد انتهت ونحكم على الشخص إنه في عداد الموتى إلا إذا كانت هناك أمارات ظاهرة كما قررها الفقهاء، فنرتب على ذلك الإرث وانتهاء العدة وغيرها من الأحكام الشرعية، أما مسألة ما توصل إليه الطب من أن موت المخ هو الموت الحقيقي للشخص، فيكون ذلك في حكم الميئوس من حياته فلا يلزم الطبيب أن يبقى عليه الأجهزة التي تطيل عليه حالة النزع والاحتضار بما لا فائدة فيها، وقد قال الفقهاء إن حكم من هو في النزع حكم الميت فلا حرج على الطبيب إن هو مد يده إلى إطفاء الجهاز؛ لأن الحياة المتوقفة على جهاز غير طبيعي، ليست حياة في الحقيقة.
وهم يقولون ذلك لأنهم عاجزون عن الكشف عن الحقيقة إذا لم يكن في متناول أيديهم أجهزة كما هي الآن.
غير أن ترتيب الأحكام الشرعية على أمور واضحة يطلع عليها أكبر عدد من الناس العاديين أولى من ترتيبها على أشياء لا يطلع عليها إلا المختصون أو عدد محدود، ولذلك فنرى أن التقيد بما قاله الفقهاء في مسألة إرث الجنين وغير ذلك من الأحكام سيمنع كثيرًا من المشاكل لو أننا رتبنا الأحكام هذه على الحياة في بطن الأم اعتمادًا على قول الطبيب، وكذلك في مسألة علامات الموت الظاهرة فنرى التقيد بها عند ترتيب الأحكام الشرعية.(3/275)
نهاية حياة الإنسان
للشيخ صالح موسى شرف
عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر
عرف الإمام الغزالي وغيره الموت، بأنه إزهاق الروح أي خروجها بعد البدء ولهذا الخروج أسباب كثيرة كما قال القائل: تنوعت الأسباب والموت واحد، فمن الأسباب: القتل ومرض القلب وتلف أجهزة المخ وغير ذلك من الأسباب التي تؤدي إلى الموت.
فإذا وجد في شخص واحد من هذه الأسباب التي شوهدت وجربت استحالت حياته، ولذلك يقول الإمام الغزالي في التوفيق بين من يقول المقتول ميت بأجله أو بغير أجله: للموت أسباب كثيرة منها القتل وغيره من الأمراض التي تؤدي للموت، فإذا تجمعت هذه الأسباب كلها في المقتول مات بأجله لأنه لو لم يقتل لمات.
أما إذا لم يوجد غير القتل فقط وباقي الجسم سليم فإنه يكون ميتًا بغير أجله وعندئذ تضاعف العقوبة، ولذلك قال بعض المفسرين في قصة سيدنا موسى عليه السلام حينما وكزه فقضى عليه: إن موسى عليه السلام لم يقصد قتله، وإنما كانت هناك أمراض لهذا الشخص تؤدي إلى موته، ومن أجل هذا حينما يحصل حادث لشخص يستدعى الطبيب الشرعي لمعرفة هل هذا الحادث هو الذي أدى إلى الموت أم هناك أسباب أخرى مع الحادث أدت إلى الوفاة؟
بقي سؤال: هل يكفي في انتهاء حياة الإنسان تلف جميع أجهزة المخ مع أي نوع من الأسباب التي تؤدي إلى الموت أم يكتفى بأي نوع من أنواع المقاتل الأخرى؟ وأيضًا فإن المشاهد من التجارب هو الثاني.
فإن ذبح الإنسان مثلًا فيه إتلاف للأوردة الموصلة للدم لجميع أجزاء الجسم اللهم إلا أن يقال: إن في هذا الذبح إتلافًا لأجهزة المخ الذي انقطع عنه الشريان الذي يوصل إليه الدم بسبب الذبح.
لكن تلف المخ قد توجد معه الحياة زمنًا كما تحدث للمريض غيبوبة طويلة مع بقاء الأجهزة الأخرى سليمة كما حدث للمريضة في فنلندا فإنها كانت في غيبوبة طويلة ثم ماتت ووضعت طفلًا كامل النمو، فلو كانت بعض أجهزة المخ كافية في نهاية حياة الإنسان لماتت هذه المرأة.(3/276)
بقي سؤال آخر حاصله: أنه إذا وجد بعض أسباب الموت مثل تلف المخ أو القلب أو الكبد ثم وجدت معه اضطرابات وحركات كالمذبوح فكيف مع هذا يقال: إنه قد مات؟ وقد نشاهد في الحيوان بعد هذا اضطرابًا وطيرانًا مما يتنافى مع الموت الذي هو سكون للجسم.
والجواب على ذلك: أن هذه الاضطرابات والحركات ناشئة من بطء خروج الروح وكل عضو من أعضاء الجسم يتنازع مع خروج الروح، ويقال: إن هذا الاضطراب أثر من آثار الحياة السابقة على الذبح.
والأحوط في هذا المقام الانتظار حتى يهدأ المذبوح ويتبين موته، ومن ثم تطبق الأحكام الشرعية المترتبة على الموت.
ثم إن المذبوح يتحرك ويضطرب إذا جاء شخص وأجهز عليه ينظر في الذبح فإذا كان الذبح كاملًا بأن قطع الأول الودجين فالمجهز الثاني لا يعد قاتلًا إنما عليه الإثم والتعزير حتى لا يجر ذلك لكثير من الناس للتعدي على المذبوح بحجة أنه يريحه ما دام أنه لا يقصد؛ لأن للميت حرمة وكرامة، أما إذا كان الذبح غير كامل فإن المجهز عليه يعد قاتلًا وعليه القصاص كالأول الذابح.
بقي أن يقال: إن إتلاف المخ وحده هو السبب الوحيد للقتل وأن الحياة تبقى في جميع بدن الجسم، واستدل القائل على هذه النظرية بزرع القلب في بدن آخر قلبه تالف فيحيا.
فما ذاك إلا أن أعضاء الجسم فيها حياة.
وللرد عليها نقول وبالله التوفيق:
أولًا: إن الموت والحياة متضادان فكيف يجتمعان في شخص واحد؟
ثانيًا: إن القرآن الكريم دل على إبطال هذه النظرية حيث يقول الله تعالى وقوله صدق: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} .(3/277)
فقوله تعالى: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا} يمسك التي قضى عليها دليل على موت جميع أجزاء الجسم؛ لأن النفس بها الحياة والإدراك والوعي، فما دام قد أمسكها الله عنده فقد انقطعت الحياة عن جميع أجزاء البدن.
ثالثًا: إن الإنسان إذا دخل على مريض محتضر يرى أن الروح تخرج منه شيئًا فشيئًا والعضو الذي خرجت منه لا يتحرك وأصبح كالثلج باردًا لا حرارة فيه.
أما الاستدلال بزرع الأعضاء في جسم حي فإن الحياة لهذا العضو المزروع قد استمدت من جسم الحي، فهو قد أفاض عليه حياة جديدة بعد أن قد مات، كالبذرة التي تضعها في الأرض ولا تتعهدها بالسقي فتموت، ثم إذا أرسلت إليها الماء عادت إليها الحياة، ولو أخذنا هذا القلب من إنسان ميت وزرعناه لإنسان آخر ميت فهل يحيا هذا القلب المزروع؟ طبعًا لا يحيا.
أما الحديث عن أخذ عضو من ميت ليوضع في آخر أشرف على الموت فقد أجاز ذلك العلماء بشرط أن يتحقق موت صاحب القلب، وبأن يأذن أهله في ذلك، لأن للميت حرمته ولا يجوز التمثيل به.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التمثيل بجثث أعداء الإسلام فكيف بجثث المسلمين؟ ولكن للضرورة وهي أن الحي أبقى من الميت أجاز الشارع ذلك، إذا أذن جميع أهله.
والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.(3/278)
توصيات
مؤتمر الطب الإسلامي بالكويت
التوصيات
بسم الله الرحمن الرحيم
بحمد الله ورعايته عقدت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالاشتراك مع وزارة الصحة بدولة الكويت ندوتها الثانية من سلسلة ندواتها حول (الإسلام والمشكلات الطبية المعاصرة) وذلك تحت عنوان " الحياة الإنسانية: بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي" في الفترة ما بين 24- 26 ربيع الآخر 1405هـ التي توافقها الفترة من 15- 17 يناير 1985 م بفندق هيلتون بدولة الكويت.
وقد كان ذلك استجابة للشعور العام بأن مشكلات العصر قد تعقدت فلم تعد الإحاطة بها في وسع المجتهد الواحد، فلزم أن تحشد لها جهود علماء المسلمين المتخصصين مع جهود الفقهاء حتى يكفل للرأي الشرعي أن يبنى على إحاطة وافية بالموضوع المطروح.
وقد دعي إلى الندوة نخبة من الفقهاء والأطباء ورجال القانون والعلوم الإنسانية، وخصص اليوم الأول لبحث موضوع بدء الحياة، واليوم الثاني لبحث موضوع نهايتها، بينما انعقدت لجنة الصياغة في صبح اليوم الثالث لتصوغ حصيلة ما اتجهت إليه المداولات.
وبعد تدارس ما تم عرضه في جلسات الندوة، وما قدمه مقررو الجلسات من مذكرات وما تقدم به – كتابة - بعض المشاركين في الندوة من اقتراحات وافقت الندوة على ما يلي:
أولًا: بداية الحياة
بداية الحياة تكون منذ التحام حيوان منوي ببويضة ليكونا البويضة الملقحة التي تحتوي الحقيبة الوراثية الكاملة للجنس البشري عامة وللكائن الفرد بذاته المتميز عن كل كائن آخر –على مدى الأزمنة- وتشرع في الانقسام لتعطي الجنين النامي المتطور المتجه خلال مراحل الحمل إلى الميلاد.
ثانيًا: منذ يستقر الحمل في بدن المرأة فله احترام متفق عليه ويترتب عليه أحكام شرعية معلومة.
ثالثًا: إذا بلغ الجنين مرحلة نفخ الروح (على خلاف في توقيته فإما مائة وعشرون يومًا وإما أربعون يومًا) تعاظمت حرمته باتفاق وترتبت على ذلك أحكام شرعية أخرى.
رابعًا: من أهم تلك الأحكام أحكام الإجهاض التي وردت في الفقرة السابعة من توصيات "ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام".(3/279)
ثانيًا: نهاية الحياة
أولًا: رأت الندوة أنه في أكثر الأحوال عندما يقع الموت فلا تقوم صعوبة في معرفته استنادًا إلى ما تعارف عليه الناس من أمارات، أو اعتمادًا على الكشف الطبي الظاهري الذي يستبين غياب العلامات التي تميز الحي من الميت.
ثانيًا: تبين للندوة أن هناك حالات قليلة العدد، وهي عادة تكون تحت ملاحظة طبية شاملة ودقيقة في المستشفيات والمراكز الطبية المتخصصة ووحدات العناية المركزة، تكتسب أهميتها الخاصة من وجود الحاجة الماسة إلى تشخيص الوفاة فيها، ولو بقيت في الجسم علامات تعارف الناس من قديم على أنها من علامات الحياة، سواء أكانت هذه العلامات تلقائية في بعض أعضاء الجسم أم كانت أثرًا من آثار أجهزة الإنعاش الموصولة بالجسم.
ثالثًا: وقد تدارست الندوة ما ورد في كتب التراث الفقهي من الأمارات التي تدل على الموت واتضح لها أنه في غيبة نص شرعي يحدد الموت تمثل هذه الاجتهادات ما توفر آنذاك من معرفة طبية، ونظرًا لأن تشخيص الموت والعلامات الدالة عليها كان على الدوام أمرًا طبيًا يبني بمقتضاه الفقهاء أحكامهم الشرعية، فقد عرض الأطباء في الندوة الرأي الطبي المعاصر فيما يختص بحدوث الموت.
رابعًا: وضح للندوة بعد ما عرضه الأطباء:
أن المعتمد عليه عندهم في تشخيص موت الإنسان، هو خمود منطقة المخ المنوطة بها الوظائف الحياتية الأساسية، وهو ما يعبر عنه بموت جذع المخ.
إن تشخيص موت جذع المخ له شروطه الواضحة بعد استبعاد حالات بعينها قد تكون فيها شبهة، وإن في وسع الأطباء إصدار تشخيص مستقر يطمأن إليه بموت جذع المخ.(3/280)
إن أيًا من الأعضاء أو الوظائف الرئيسية الأخرى كالقلب والتنفس قد يتوقف مؤقتًا، ولكن يمكن إسعافه واستنقاذ عدد من المرضى ما دام جذع المخ حيًا.. أما إن كان جذع المخ قد مات فلا أمل في إنقاذه وإنما يكون المريض قد انتهت حياته، ولو ظلت في أجهزة أخرى من الجسم بقية من حركة أو وظيفة هي بلا شك بعد موت جذع المخ صائرة إلى توقف وخمود تام.
خامسًا: اتجه رأي الفقهاء تأسيسًا على هذا العرض من الأطباء، إلى أن الإنسان الذي يصل إلى مرحلة مستيقنة هي موت جذع المخ يعتبر قد استدبر الحياة، وأصبح صالحًا لأن تجري عليه بعض أحكام الموت، قياسًا –مع فارق معروف- على ما ورد في الفقه خاصًا بالمصاب الذي وصل إلى حركة المذبوح.
أما تطبيق بقية أحكام الموت عليه فقد اتجه الفقهاء الحاضرون إلى تأجيله حتى تتوقف الأجهزة الرئيسية.
وتوصي الندوة بأن تجرى دراسة تفصيلية أخرى لتحديد ما يعجل وما يؤجل من الأحكام.
سادسًا: بناء على ما تقدم اتفق الرأي على أنه إذا تحقق موت جذع المخ بتقرير لجنة طبية مختصة جاز حينئذ إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعية.(3/281)
(2)
دراسة
وزارة الصحة بالمملكة العربية السعودية
مقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد.. فلقد قمنا بتكليف من وزارة الصحة بالمملكة العربية السعودية بإعداد الدراسة المرفقة حول موضوع "تشخيص الوفاة في أقسام العناية الطبية المركزة، وبنينا ما جاء بهذه الدراسة من آراء على عدة مراجع عربية وأجنبية إضافة إلى ما لدينا من تجربة وخبرة في هذا المجال.
والذي نود تأكيده هنا هو أننا نظرنا إلى الموضوع من الوجهة العلمية الطبية البحتة تاركين النواحي الشرعية والقانونية إلى رجال الفقه والشرع من علمائنا الأفاضل.
والله نسأل أن يهدينا جميعًا إلى طريق الخير والصواب.. إنه سميع مجيب.
د/ جاسر الحربش د/ محمد سعيد أبو ملحة
جامعة الملك سعود مستشفى القوات المسلحة بالرياض
د/ زهير القاوي د/ صالح الأسود
مستشفى الملك فيصل التخصصي وزارة الصحة
د/ محمد العمر الصايغ
وزارة الصحة(3/282)
الهدف من الدراسة:
(تشخيص حدوث الوفاة بغرض تحديد متى ترفع أجهزة الإنعاش)
دواعي البحث:
قال الله تعالى في محكم كتابه:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
وكمال الدين يعني صلاحيته لكل زمان.. لذلك فعندما تعرض للناس قضية لا بد من أن يكون للشريعة السمحاء حكم فيها بنص أو اجتهاد.
ولقد أنعم الله على البشرية في هذا العصر بتقدم هائل في العلوم وبخاصة العلوم الطبية، واستطاع الإنسان أن يعرف الكثير من دقائق الحياة والكثير من ظواهر الوفاة، وذلك من خلال استخدام الأجهزة الحديثة في أقسام العناية المركزة، ومنها أجهزة التنفس الصناعي، ومراقبة عمل القلب، وكذلك أجهزة قياس عمل المخ وقياس وظائف محددة بالمخ واختبار هذه الأجزاء المختلفة.
ومن خلال فهم هذه الحقائق العلمية الجديدة أصبح تشخيص نهاية الحياة الإنسانية ممكنًا على درجة كبيرة من الدقة.. ولهذا التشخيص أهميته البالغة من النواحي الشرعية والقانونية.. كما أنه يفتح آفاقًا علمية كبيرة في نقل وزراعة الأعضاء البشرية.. وهو بالنسبة لبعض المرضى أمل في الحياة من جديد عندما يصل العلاج إلى طريق مسدود.
والمخ هو مكان استقبال جميع الحواس من سمع وبصر وشم وذوق ولمس.. كما أنه المكان الوحيد للاتصال بالعالم الخارجي فهو يحتوي على مخازن الذاكرة، كما يحتوي على أنماط الطباع والعادات والمثل المكتسبة وهو مكمن الغرائز.. كما أنه مصدر الأفعال المترتبة على ما يستقبله من معلومات.. وعرف الأطباء ذلك كله لأن تلف أجزاء محددة من الدماغ ينتج عنه فقد قدرات معينة اختصت بها هذه الأجزاء.
أما القلب بمعناه العضوي فهو مضخة عضلية في الجزء الأيسر من التجويف الصدري للإنسان تقوم بدفع الدم في العروق لإمداد الجسم بالغذاء والأكسجين ويمكن استبداله بقلب حي آخر أو بمضخة صناعية وتستمر حياة المنقول إليه بجسده وفكره وعاطفته وحواسه وإدراكه، كما ثبت من خلال عمليات زراعة القلب البشري والصناعي.. وأصبح حقيقة علمية لا جدال فيها.(3/283)
وتحدث حالات وفاة نهائية بالدماغ نتيجة لبعض الأمراض أو الحوادث ويكون المريض أو المصاب موجودًا في غرفة العناية المركزة (الإنعاش) ومعتمدًا في استمرار نبض قلبه على تزويده بالأكسجين عن طريق جهاز التنفس الصناعي في حين أن الدماغ تلف نهائيًا ولو أوقفت الأجهزة عنه لتوقف نبض القلب تلقائيًا مما يدل على أن هذا المصاب هو في الواقع ميت، وإنما أدى التنفس الميكانيكي له إلى استمرار نبض قلبه بالرغم من أن الوفاة حصلت بالفعل بتلف الدماغ تلفًا نهائيًا.
ولما كانت مسؤولية تشخيص الوفاة من اختصاص الأطباء فقد درست هذه المشكلة من أطباء من جميع أنحاء العالم، وأظهرت هذه الدراسات قصورًا في الشروط التي تعارف عليها الأطباء قديمًا لتشخيص الوفاة مثل غياب النبض وتوقف القلب.. وثبت علميًا مما لا يدع مجالًا للشك وجود علامات ودلائل أخرى إذا ما توفرت ثبتت الوفاة قطعيًا.
ومن خلال الخبرة العلمية بالمستشفيات أصبح من الثابت أن كثيرًا من حالات توقف القلب يعاد فيها القلب إلى العمل بوسائل الإنعاش.. فإذا ما أمكن إعادة عمل القلب قبل تلف الدماغ استمر المريض في الحياة بإذن الله.. أما إذا تلف الدماغ كليًا قبل استعادة عمل القلب فإن ذلك يعني أن الوفاة قد حدثت بالفعل وأصبح استمرار عمل القلب مرهونًا باستمرار عمل جهاز التنفس الصناعي ويتوقف بإيقافه.. مما يدل على أن هاتين العمليتين تؤديان حركات ميكانيكية لا تعني استمرار حياة المريض أو المصاب.
وفيما يلي طرح للتساؤلات المتعلقة بهذا الموضوع والإجابة عليها على ضوء الدراسات العلمية:
1- هل يقطع العلم بموت من تلف دماغه تلفًا كاملًا؟
أجريت دراسات كثيرة في العقدين السابقين واستمرت إلى عهد قريب وكانت غايتها بحث كفاية القرائن التي تشير إلى موت الدماغ النهائي كمؤشر على أن سير المصاب نحو الوفاة قد وصل إلى نقطة اللاعودة، وقد شملت ما ينوف على الألف مصاب لم تفصل عنهم أجهزة التنفس إلى حين توقف القلب لدى الجميع دون استثناء خلال عدة أيام عقب تلف الدماغ مما يدل على أن التلف النهائي للدماغ يعني نهاية الحياة.
2- الدماغ هو أحد أعضاء الجسم وقد يتوصل العلم إلى استبداله بالزرع أو بآلة تعمل عمله، فما هو رأي العلم في ذلك؟(3/284)
نظرًا لشدة تعقيد الدماغ سواء في تركيبه أو عمله فإنه لا يتوقع توصل العلماء إلى مثل هذه العملية ولو افترض جدلًا حدوث ذل فإن هذا لا ينفي حقيقة حدوث الوفاة بالتلف النهائي للدماغ في الوقت الحالي.. وإلى حين حدوث مثل هذا التطور العلمي المفترض جدلًا فعند ذلك يستدعي الأمر فقط تعديل القرائن المستعملة حاليًا لتشخيص تلف الدماغ بما يتناسب مع ما قد يستجد.
3- ما قصة عودة الوعي إلى بعض المصابين بالغيبوبة المزمنة؟
الفرق شاسع بين الغيبوبة الناجمة عن تلف الدماغ النهائي التي تنطبق عليها الشروط المحددة لتشخيص الوفاة وبين الغيبوبة المزمنة التي لا تتوفر فيها هذه الشروط، وقد أجريت دراسة عن عدد كبير من مرضى الغيبوبة المزمنة الذين استعادوا الوعي خلال ثلاثة أشهر.. واتضح أنه لم يتم تشخيص غيبوبة أي منهم في حينها على أنها وفاة بسبب تلف الدماغ النهائي، وذلك لعدم استيفائها لكل الشروط المحدودة والمطلوبة لتشخيص حدوث الوفاة.
4- ما هو الضرر الناجم عن إبقاء المريض مرتبطًا بجهاز الإنعاش رغم ثبوت تلف دماغه النهائي؟
أولًا: لأن في ذلك بذل جهد كبير فيما لا طائل تحته بل يقرب من كونه نوعًا من العبث وكما سبق الإشارة إليه فإن الدراسات العلمية أثبتت أن من توفرت فيه كل شروط تشخيص موت الدماغ قد وصل إلى نقطة اللاعودة، وأن توقف بقية الأعضاء عن العمل لا بد أن يحدث بعده مدة.
ثانيًا: غرف العناية المركزة في كل مستشفيات العالم محددة العدد ومخصصة لإعطاء عناية متواصلة في كل ثانية حتى تستقر حالة المريض الصحية، وهم بحاجة ماسة لمثل هذه المراقبة والعناية ووجود مريض تلف دماغه نهائيًا على هذه الأجهزة يحجز مكان مريض آخر يكون إنقاذ حياته ممكنًا بإذن الله.
ثالثًا: تكاليف العناية المركزة باهظة جدًا سواء تحملتها الدولة أو الفرد.. فمن الأولى إنفاقها فيما يعود بالنفع على المريض أو أسرته بدلًا من إهدارها بما لا جدوى منه.
رابعًا: العاملون في وحدات العناية المركزة يصابون بالإحباط لمعرفته بأن مآل جهودهم آلي ويؤثر ذلك على مستوى عنايتهم بالمرضى الآخرين.
خامسًا: تزداد آلام أقارب المريض وذويه ومعاناتهم بتكرار رؤيتهم له جثة هامدة.
5- إذا سلمنا بأن تلف الدماغ النهائي يعني نهاية الحياة.. فمتى يتم تحديد موت هذا الشخص.. أهو عند الإصابة.. أم عند التشخيص.. أم عند إيقاف الجهاز؟
من الناحية الطبية يعتبر الشخص في حكم الميت متى استوفيت كل شروط حدوث الوفاة الدماغية لديه كما هو موضح بالتفصيل في الاستمارة المرفقة.
أما ما يتعلق بالنواحي الشرعية والقانونية المتعلقة بالوفاة.. فيترك للمتخصصين والله ولي التوفيق.. انتهى.
الملحقات:
1- قائمة ببعض المراجع.
2- استمارة التشخيص.
الرياض في 8/ 6/ 1406هـ(3/285)
المراجع(3/286)
__________(3/287)
تشخيص الوفاة الدماغية(3/290)
__________(3/291)
(3)
ورقة العمل الأردنية
قدمت للمؤتمر العربي الأول للتخدير والإنعاش
موت الدماغ
ورقة العمل الأردنية المقدمة من قبل الدكتور أشرف الكردي والدكتور حلمي حجازي في المؤتمر العربي الأول للتخدير والإنعاش والمعالجة الحثيثة الذي عقد في عمان بتاريخ 22- 24 أكتوبر 1985.
النقاط البارزة لمحاضرة الدكتور أشرف الكردي
مستشار الأمراض العصبية عن موت الدماغ
تطور الطب والجراحة خلال العقدين الماضيين في مختلف حقولهما، وظهر نظام نقل الأعضاء كما رافق ذلك بروز تكنولوجيا حديثة تتمكن من الحفاظ بصورة اصطناعية على استمرار التنفس والدورة الدموية وطرح الفضلات من جسم توقف دماغه عن العمل بصورة نهائية لا عودة عنها، وظهرت مثل هذه الحالات في بلدان مختلفة من العالم وصلت مراكز المعالجة الحثيثة فيها إلى مستويات عالية من الكفاءة والمهارة.. ونتيجة لذلك أخذ الأطباء والمجتمع بصورة عامة يبدون اهتمامًا عامًا بالمشاكل المترتبة على تشخيص موت الدماغ.
إن المقدرة على الوعي والتفكير والتصور والشعور والاستجابة وتنظيم وظائف الجسم وتنسيقها أمور جوهرية لتقدير الإنسانية في الجسد.. فإذا اختفت جميع هذه الوظائف اختفاءً نهائيًا لا عودة عنه لم يعد بالإمكان اعتبار الجسد ككل شخصًا حيًا بالمعنى الشامل للكلمة.
إن التشخيص المبكر والصحيح لموت الدماغ هام جدًا لأسباب متعددة على رأسها الاعتبارات الطبية الشرعية لتقرير ساعة الوفاة ومثال على ذلك تقرير الإرث وتوزيعه وحوادث القتل وغيرها وكذلك العبء النفسي والجسدي الثقيل الملقى على عاتق الجهاز الطبي وكل من يمت للحالة بصلة لمتابعة مريض قد أصبح في عداد الأموات.
إن معالجة الجثة كما لو كانت إنسانًا حيًا تعكس فهمًا خاطئًا وتشكل ذنبًا أخلاقيًا وإهانة للإنسان، وهكذا فإنه من الزاوية الأخلاقية والسلوكية يتوجب علينا أن نعامل الشخص الذي فقد جميع وظائف دماغه وأصبح بالتأكيد ميتًا على أنه في الواقع كذلك. ومن هذه الأسباب أيضًا تحديد الأولويات لرعاية المرضى المتواجدين في وحدة المعالجة الحثيثة، خاصة إذا كانت هذه الوحدة مزدحمة بالمرضى من جهة، وكان العديد منهم ينتظرون دورهم للحصول على سرير فيها من جهة أخرى مما يضطرهم للذهاب إلى مراكز علاجية أقل كفاءة، أما موضوع نقل الأنسجة والأعضاء فيكتسب أهمية خاصة عندما ندرك أن هذا النقل ليكون ناجحًا وليستفيد منه شخص آخر تتعلق حياته به، فإنه يجب أن يتم فور إعلان الوفاة حينما يكون العضو المنقول لا يزال محتفظًا بقدرة الحياة عن طريق أجهزة اصطناعية متقدمة.(3/293)
وأخيرًا لا آخرًا بالرغم من أن حياة الإنسان لا تقدر بأي ثمن فإن التكاليف الباهظة التي تنفق على إنسان يعتبر في عداد الموتى لا بد وأن تؤخذ بعين الاعتبار.
ونستخلص مما سبق أن موضوع نقل الأعضاء ليس الموضوع الهام الوحيد في تشخيص موت الدماغ، وإنما هناك اعتبارات أخرى أخلاقية وسلوكية ودينية وقانونية لا بد وأن تؤخذ بعين الاعتبار.
تعريف موت الدماغ:
يعرف الموت تقليديًا من الناحية الطبية بواحد من شرطين: إما حدوث توقف لا رجعة فيه على القلب والتنفس، أو توقف جميع وظائف الدماغ ككل توقفًا نهائيًا لا عودة عنه.
أسباب موت الدماغ:
تصنف أسباب موت الدماغ على أنها: إما تلف أولي أو تلف ثانوي للدماغ.
ومن أهم أسباب التلف الأولي للدماغ الإصابات المباشرة والحديثة وكذلك النزف داخل الجمجمة والجلطات الدماغية.
أما أسباب التلف الثانوي للدماغ فتنتج عن نقص حاد في أوكسجين الدماغ ناجم عن توقف القلب والتنفس توقفًا مؤقتًا أو الحوادث أثناء التخدير أو عدم تروية الدماغ أو الغرق أو الصدمة العنيفة.
تشخيص موت الدماغ:
لما كان موت الدماغ يعني توقف جميع وظائف الدماغ بصورة نهائية فإن التشخيص يستلزم الشروط الصارمة التالية:
1- استكمال الشروط المسبقة.
2- استبعاد جميع الأسباب الأخرى للغيبوبة (السبات) .
3- غياب منعكسات جذع الدماغ.
4- إثبات وقف التنفس.
5- السكون الكهربائي في تخطيط الدماغ.
وأقدم فيما يلي تفصيلًا لكل من هذه الشروط:
1- استكمال الشروط المسبقة:
1-1: المريض في غيبوبة لا يستجيب لأي تحريض.
1-2: المريض موضوع على جهاز التنفس الصناعي.
1-3: المريض مصاب بتلف دماغي بنيوي لا يمكن شفاؤه.
1-4: مرور وقت كاف للتأكد من أن التلف لا يمكن شفاؤه بالفعل.
1-5: مراجعة الأدوية المعطاة للمريض في المستشفى مراجعة دقيقة لأن بعض هذه الأدوية يمكن أن تعطل وظائف التنفس وتؤثر على انعكاسات جذع الدماغ، وبذلك تؤثر على تقييم حالة المريض.(3/294)
2- الحالات التي يجب استبعادها:
استبعاد جميع حالات الغيبوبة الناتجة عن:
2-1: العقاقير والأدوية والمواد الكيمائية.
2-2: نقص حرارة الجسم إلى درجة أقل من 35م.
2-3: الاضطرابات الناجمة عن التغيير في الاستقلاب (Netabolism) كحالات الغيبوبة الناجمة عن قصور وظائف الكلى أو الكبد، واضطرابات الغدد الصماء مثل غيبوبة هبوط السكر في الدم أو ارتفاعه أو الغيبوبة الناجمة عن اضطرابات غازات الدم (نقص الأكسوجين والتسمم بأول أكسيد الفحم Co والغازات السامة الأخرى.
402: الغيبوبة عند الأطفال:
أما أسباب استبعاد هذه الحالات فهي:
أولًا: أن أيًا من هذه الحالات منفردة أو بالاشتراك مع عوامل أخرى يمكن أن تؤدي إلى اضطرابات عميقة في وظائف جذع الدماغ ولكنها مؤقتة.
ثانيًا: عندما يكون هناك أكثر من سبب واحد للغيبوبة فإنه يصبح من المستحيل تحديد القدر الذي يسهم فيه كل واحد من هذه الأسباب في إحداث الغيبوبة.
ثالثًا: يمكن أن تؤدي قراءة تخطيط الدماغ الكهربائي إلى نتائج إيجابية خاطئة ومثال على ذلك الأدوية وهبوط درجة الحرارة وتأثيرها على تخطيط الدماغ.
رابعًا: من المعروف أن الأطفال قادرون على تحمل الغيبوبة أكثر ممن هم أكبر سنًا، كما أن نضوج خلايا الدماغ يختلف من طفل إلى آخر، وأن قراءة تخطيط الدماغ الكهربائي عند الأطفال لها صعوباتها الخاصة.(3/295)
3- منعكسات جذع الدماغ:
عند اعتماد هذه المنعكسات في تشخيص موت الدماغ، فإنه من الضروري أن تكون جميع هذه المنعكسات معدومة.
وهذه المنعكسات هي: رد فعل الحدقة للضوء، والمنعكس القرني، والمنعكس العيني الدماغي، والمنعكس النهليزي العيني، والاستجابة الحركية ضمن منطقة توزع الأعصاب القحفية لأي تحريض مناسب من أي منطقة في الجسم وخاصة الوجه، وأخيرًا المنعكسات التنفسية.
4- وقف التنفس:
قبل إثبات تشخيص موت الدماغ يجب التأكد من توقف التنفس مدة لا تقل عن عشر دقائق بعد فصل المريض عن جهاز التنفس الاصطناعي، وهنا لا بد من التشديد على ضرورة أخذ الاحتياطات اللازمة لضمان إعطاء الأكسجين بكمية كافية وضبط ارتفاع ثاني أكسيد الفحم (C.o.2) في الدم خلال هذه الفترة.
كما أنه من الضروري أن نشدد هنا أيضًا على أن هذه الاختبارات والفحوص يجب أن تجرى من قبل أخصائيين مدربين وذوي خبرة في هذا المضمار.(3/296)
5- السكون الكهربائي في تخطيط الدماغ:
يجب إجراء تخطيط الدماغ الكهربائي بعد إثبات الشروط الأربعة السابقة جميعها، ويجري هذا التخطيط تبعًا للقواعد التي وضعتها جمعية تخطيط الدماغ الكهربائي الأمريكية والمقبولة في العالم وظهور السكون الكهربائي في المخطط لمدة لا تقل عن عشرين دقيقة، وأعود هنا للتوكيد على أن تخطيط الدماغ الكهربائي يجب أن يقرأ ويقيم من قبل أخصائي في الأمراض العصبية وله خبرة في هذا المجال، ذلك أن مثل هذا التقييم يمكنه أن يساند التشخيص السريري ويضيف عاملًا آخر إلى سلامته، وبذلك يريح الأهل والفريق الطبي وأخيرًا لا بد من الإشارة إلى أن التشخيص النهائي يجب أن يجرى في المستشفيات المركزية فقط حيث يمكن للشروط السابقة أن تدقق من قبل أخصائيين مدربين، وحيث توجد جميع الأجهزة الضرورية الأمر الذي لا يتوفر في المستشفيات المحيطية.
الفحص وإعادة الفحص:
نعتقد أن الفحوص والاختبارات يجب أن تجرى من قبل ثلاثة اختصاصيين من ذوي التجربة في هذا الميدان، أحدهم يجب أن يكون أخصائيًا بالأمراض العصبية له خبرة في الفيزيولوجيا العصبية السريرية ومن الناحية العملية فإن هؤلاء الأطباء غالبًا ما يكونون أخصائيين في التخدير، والمعالجة الحثيثة وطب وجراحة الجهاز العصبي.
ويجب أن تجرى الفحوص والاختبارات مرتين تفصل بينهما فترة لا تقل عن أربع ساعات وقد تكون أطول من ذلك بكثير حسب الظروف الطبية لكل حالة، والسبب في ذلك هو التأكد من أنه لم يحدث أي خطأ في المراقبة أو أي تغيير في حالة المريض، وإذا كان هناك أي شك يتعلق إما بالتشخيص أو بالشروط السابقة فإن معالجة المريض يجب أن تستمر.
وإذا أظهرت الاختبارات والفحوص الأولى موت الدماغ فإن المريض يجب أن يعاد إلى جهاز التنفس الاصطناعي وتعاد جميع الفحوص والاختبارات بعد فترة لا تقل عن أربع ساعات، فإذا أكدت الاختبارات المكررة موت الدماغ، فإن الوفاة يجب أن تعلن بصورة قانونية، ويمكن عند ذلك إصدار شهادة الوفاة ويجب التوكيد هنا، خاصة في حالة نقل الأعضاء، أن استمرار المعالجة لا يشكل استمرار للحياة، وفي حالة نقل الأعضاء ولأسباب أخلاقية وطبية شرعية فإننا نؤكد على أن كل طبيب ينتسب بأية علاقة للمريض الذي سوف ينقل العضو إليه أو إلى الفريق الطبي –الجراحي الذي سوف يقوم بعملية نقل الأعضاء- يجب أن يستبعد عن تشخيص موت الدماغ عند تشخيص المتوفى.(3/297)
إن هذه الشروط متبعة حاليًا في مستشفياتنا الكبرى، ونحن نشدد هنا على ضرورة التقيد بهذا تقيدًا كاملًا.
وأخيرًا فإننا نتمنى أن تلاقي هذه الشروط قبولًا وتبنيًا لديكم وفي بلدان العالم العربي الأخرى إذ أنها تحمل في طياتها كل ما يستبعد الخطأ في التشخيص وما يطمئن المواطنين على مختلف فئاتهم واتجاهاتهم وتشجيعهم على قبولها.
مزايا الخصائص الأردنية:
1- صرامة شروط التشخيص.
2- يجب أن يتم التشخيص في المستشفيات المركزية المجهزة لمثل هذا العمل.
3- التشديد على أهمية التشخيص المبكر.
4- أن يكون أخصائيو الأمراض العصبية طرفًا رئيسيًا في التشخيص وأن تجرى الفحوصات والاختبارات من قبل ثلاثة أخصائيين.
5- التشخيص السريري يجب أن يكون مدعومًا بتخطيط الدماغ الكهربائي.
6- في حالة نقل الأعضاء التشديد على أن يكون سبب موت الدماغ تلفًا أوليًا.
7- استبعاد أي طبيب ينتسب بأية علاقة للمريض الذي سوف ينقل العضو إليه أو أن يكون ضمن الفريق الطبي الجراحي الذي سوف يقوم بعملية نقل الأعضاء.(3/298)
__________(3/299)
المناقشة
أجهزة الإنعاش
10 صفر 1407هـ / 13 أكتوبر 1986 م
بعد صلاة العشاء
الدكتور محمد علي البار:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل المرسلين..
سماحة الرئيس.. أصحاب الفضيلة..
الموضوع الحقيقة العنوان كان موضوع أجهزة الإنعاش ونوقش في المرة الماضية نقاشًا مستفيضًا حتى تبين أن ليس المقصود هو أجهزة الإنعاش في ذاتها ولا بحث أجهزة الإنعاش وإنما كان المقصود بحث مفهوم موت الدماغ بعد الجلسات المستفيضة والنقاش المستفيض تبين أن المقصود من هذا النقاش كله ليس أجهزة الإنعاش في حد ذاتها ولكن المقصود بها مفهوم موت الدماغ حتى يتحدد الوقت والنقطة المعينة التي نريد أن نناقشها لأن الموضوع ممكن أن يتسع وممكن أن نختصره.
كما تعلمون موت الإنسان سيستمر ظاهرة مستمرة وكان تشخيص هذه الوفاة معتمدًا على الأشخاص غير ذوي الخبرة من غير الأطباء في السابق ثم أنيط هذا الأمر بالأطباء لأن حالات التشخيص يحدث فيها التباس ويحدث فيها أخطاء فأنيط هذا الأمر بالأطباء في كل مكان في العالم، صحيح قد لا يطبق هذا تطبيقًا مثاليًا في معظم بلاد العالم الثالث في القرى وغيرها والأرياف لا يزال الطبيب يعتمد على شهادة الأهل أحيانًا ويصدر شهادة الوفاة دون أن يرى بنفسه في بعض الأحيان نفس المريض حتى يتيقن من الوفاة.
في الطب أيضًا كانت معايير الوفاة هو توقف الدورة الدموية، توقف القلب، وتوقف الدورة الدموية وتوقف التنفس، وهذا هو المعيار الذي كان ساريًا إلى عهد قريب جدًا إلى بداية الستينات أو نهاية الخمسينات من هذا القرن يعني 1959، بدأت فكرة موت الدماغ تظهر لأول مرة ولكن استمر المفهوم العام وهو توقف القلب وتوقف الدورة الدموية وتوقف التنفس هو العلامة الأساسية لمفهوم الموت وهو الذي تعتمده قوانين الدول جميعًا في تعريف الموت، منذ بداية الستينات ظهرت حالات جديدة نتيجة التقنية وأدوات الإنعاش الجديدة التي استخدمت، أمكن بالفعل- كما تعلمون جميعًا - إيقاف القلب توقفات ما، وتُجرى العمليات في القلب لبضعة ساعات يعني ساعتين أو ثلاث أو أكثر أو أقل، في جميع المستشفيات المتقدمة في العالم أجمع بما فيها طبعًا البلاد العربية الآن وآلاف الحالات تجرى لهم هذه العملية.(3/300)
فهل هذا الشخص الذي توقف قلبه وتوقف التنفس الطبيعي بالنسبة له توقفت الرئتان عن التنفس، وتوقف القلب عن العمل وأنيط هذا العمل بآلة خلال ساعتين أو ثلاث ساعات من العملية هل هذا الشخص حي أم ميت؟
هو بكل المقاييس حي – المقاييس الطبية - لأن وظيفة القلب قامت بها مضخة أخرى، ووظيفة الرئتين قامت بها منفسة تنظف الدم وتأخذ ثاني أكسيد الكربون وتعطيه الأكسجين بالكميات المقدرة.
إذن في هذه الحالات هذا الشخص إذا اعتبرناه بالتعريف القديم هو بتعريف أنه ميت لأن قلبه قد توقف وتنفسه قد توقف، حتى يعطى فكرة عن المفهوم الجديد الذي نريد أن نعرضه عليكم وهو أن هناك مفهومًا آخر أن هذا الشخص الذي لا يزال في العملية هو في الواقع حي لأن دماغه لا يزال حيًا لأن خلاياه لا تزال تعمل وقلبه يعود بعد العملية إلى العمل بأفضل بكثير مما كان عليه قبل العملية، وجود القلب أصبح غير ضروري في بعض الأحيان يوقف القلب أو يزال هذا القلب بالكلية ويستبدل إما بقلب صناعي أو بقلب من متبرع يعني قد جرت الحالات وأصبحت حالات معروفة جدًا.
إذن دخلنا إلى مفهوم آخر وهو أن مفهوم أن القلب على أهميته، القلب طبعًا والقلب هو الذي يبدأ بالضخ من اليوم الثاني والعشرين ومن بداية تكون الجنين يعني من بداية النطفة والتلقيح في اليوم الثاني والعشرين يبدأ هذا القلب البدائي في جسم الجنين الذي لا يزيد عن حبة أرز أو حبة قمح.
في اليوم الثاني والعشرين لا يزيد حجم الجنين عن حبة قمح ومع هذا فالقلب ينبض ويستمر هذا النبض والدقات متتالية حتى الوفاة لا يتوقف لحظة من ليل أو نهار، لكن هذه التقنيات الجديدة جاءت لنا بمفهوم جديد وهو أن القلب ممكن أن يتوقف أو مفهوم عكسي أنه يصاب الشخص بحادث سيارة، ورم في الدماغ، يموت هذا الدماغ أو يموت جزء من هذا الدماغ فيسرع الأطباء لإسعاف هذا الشخص وينبهون الجهاز يضعون المنفسة فيتنفس بواسطة الجهاز المنفسة "الفنتليتر" وتستمر الدورة الدموية موجودة، إما بمساعدة أو حتى تلقائيًا نتيجة وجود التنفس والدورة واستمرارها، ممكن هناك منظمات للقلب "باسميكرز" ممكن يكون هناك أدوية وعقاقير تجعل القلب يعمل.(3/301)
فهذه الوسائل جعلت مفهومًا جديدًا أمامنا، هذا الشخص أمامه أحد حالات ثلاث إذا وضعنا المنفسة ووضعنا أجهزة الإنعاش الحديثة، إما أن يتحسن ويعود قلبه وجهازه يتنفس طبيعيًا بدون الجهاز، ويبدأ الدماغ يعمل لأن الدماغ هو الذي يتحكم في التنفس، وهو الذي أيضًا يتحكم في ضربات القلب إلى حد كبير، فيعود الدماغ إلى العمل ويبتدأ يتحكم في هذه الأعضاء المهمة جدًا، فيعود الشخص إلى التنفس ويعتبر ناقهًا هذا المريض وينقل من غرفة الإنعاش بعد فترة من الزمن إلى غرفة عادية بحيث أنه يتنفس ولو بقي مغمى، يعني الإغماء شيء آخر لا يحس لا يأكل لا يشرب، هذا باب آخر لا يرى لا يسمع فقدان الإحساس كله، شيء آخر مختلف تمام الاختلاف عما سنتحدث عنه من موت الدماغ لأن هذا يسبب التباسًا في بعض الأذهان أحيانًا، قد يموت جزء من الدماغ لكن الدماغ ككل لم يمت بعد، جذع الدماغ لا يزال حيًّا ولا تزال هذه الأعضاء تتحرك فلا يعتبر هذا الشخص حيًا بكل المقاييس.
الشخص الثاني: رغم وجود الأجهزة ورغم وجود المنفسة وغيرها يتوقف القلب حتى مع وجود هذه الأجهزة فهذا ميت بكل المقاييس ولا خلاف حوله إطلاقًا فإنه ميت.
يبقى الموضوع الذي فيه نوع من الإشكال أمام الناس هو شخص إذا نزعنا منه هذه الآلات توقف قلبه وتوقفت الدورة الدموية وتوقف التنفس، فتبادر إلى الأذهان أن هذا الشخص إذا نزعنا منه آلة كانت تجعله حيًا فإذا نزعنا هذه الآلة هناك نوع من الاتهام بنوع من القتل سواء كان عمدًا أو غير عمد لكن الواقع أثبت أن هناك مواصفات معينة إذا مات هذا الدماغ وعملت الفحوصات التقنية الكاملة في هذا الباب وأزيلت الأسباب الوظيفية يعني ممكن الدماغ –سنتحدث عن هذا- إذا مات هذا الدماغ موتًا كاملًا لا رجعة فيه فإن هذه الأجهزة تصبح غير ذات فائدة وغير ذات جدوى أصلًا لأنها لا تستطيع أن تغير من حقيقة هذا الميت شيئًا.
إذن لماذا نطالب بنزع هذه الأجهزة؟ نطالب بنزع هذه الأجهزة لأن بقاء هذه الأجهزة يكلف مبلغًا كبيرًا، وربما يرى الناس طبعًا أن هذا ليس مهمًا كثيرًا مهما كانت المبالغ كبيرة حياة الإنسان أغلى منها، لكن هذه الأجهزة محدودة فلا بد من أخذها لشخص آخر ربما تساهم في إنقاذه وتساهم في عودته إلى ما به من رمق من الحياة، تساعد على عودة هذا الرمق واستمرار هذا الرمق، فحرمان هؤلاء الأشخاص الذين كان يمكن إنقاذهم بينما نبقي هذه الآلات معلقة على شخص قطعًا يعرفون أنه ميت أمر غير مستساغ ولا يقبلونه ويشكل عبئًا نفسيًا عليهم كما أن ذلك يشكل عبأ على نفس الأسرة باهظ التكاليف فتعاني الأسرة من جهتين: جهة نفسية وجهة مالية أيضًا.(3/302)
إذن هناك أسباب معينة إذا أصيب الدماغ إصابة غير وظيفية، إصابة عضوية، هذه الإصابة عضوية بحيث يتبين أنه لا مناص من انتهاء وظيفة هذا الدماغ انتهاء كاملًا لا أمل في العودة فيه، في تلك اللحظة ينبغي أن نعترف بموت الدماغ، هناك أسباب الالتباس في الحقيقة أدت أن هناك أسبابًا وظيفية تؤدي إلى توقف عمل الدماغ، منها حالات التسمم بالعقاقير وخاصة العقاقير المرقدة أو المنومة مثل الباربوتريت وغيرها أو الكحول أو واحد وجد في ثلج فأدى انخفاض درجة الحرارة إلى توقف عمل الدماغ، في هذه الحالات إذا استعجل الأطباء وقرروا –هذه مرحلة تاريخية كانت- كان الأطباء غير متيقنين تمامًا من المواصفات فكان يعمل كل هذه الفحوصات يرى أن هذا الدماغ ميت من هذه الناحية، حصل خطأ في حالات نادرة لكن إذا استثنيت هذه الحالات التي ذكرناها هنا بالتفصيل وهي مجموعة طويلة، منها الحالات الوظيفية التي ممكن أن يحدث فيها توقف لوظيفة الدماغ دون أن يكون الدماغ كله قد مات فعلًا، العقاقير، برودة الجسم، التسمم نتيجة الغازات السامة، زيادة البويلينة في الدم، نقص السكر أو زيادته في الدم، نقص الهرمومات أو زيادتها في الدم، حالات الغرق، توقف القلب، الحالات التي أجري لها عمليات كبيرة في الدماغ، انتانات ميكروبية تصيب جذع الدماغ أيضًا.
كل هذه الحالات لا بد فيها من التريث حتى نتيقن أن الأسباب الوظيفية قد انتهت يعني العقاقير كلها التي كانت تسبب موت هذا الدماغ أو توقف هذا الدماغ تكون قد انتهت من الدم وانتهت من جسم هذا الشخص، فإذا انتهت كل هذه الأسباب الوظيفية يمكن للطبيب أن يتأكد بإجراء الفحوصات التي ذكرناها والتي لا أرى ضرورة لإعادتها عليكم بالتفصيل لأنها تهم الأطباء أكثر.
هذه الفحوصات الطبية التي تجعلها في درجة من اليقين أن الدماغ قد مات ولا أمل في عودته يقوم بهذا الفحص مجموعة من الأطباء ثم يعاد الفحص بمجموعة أخرى تؤكد موت هذا الدماغ ككل، فإذا مات الدماغ تم بعد ذلك إعلان الوفاة، بعد إعلان الوفاة يمكن أن تنزع الأجهزة أو أن تبقى الأجهزة إذا كان هناك غرض لاستخدامها في أخذ زرع الأعضاء إذا كان هناك غرض في أخذ الأعضاء لزرعها في شخص آخر، القلب كما نعلم وغيره من الأعضاء تفسد، إذا بقيت في درجة الحرارة العادية داخل الجسم والجسم ميت فتكون غير ذات فائدة أن أخذ قلب إنسان قد مات من فترة وتوقف قلبه فترة من الزمن أخذها لشخص آخر لأنقله لها ما فيه داع لأن ننقل له هذا القلب لأن هذا القلب لا يستطيع الصمود.(3/303)
فلا بد أن أنقل أحسن ما يمكن أن أنقله، ففي هذه الحالات التي يتعين فيها أو قد تبرع فيها الشخص قبل وفاته أو تبرع بالأعضاء، في هذه الحالات يمكن للطبيب أن يستمر في استخدام الأجهزة لساعات معدودة حتى يتم نزع الأعضاء، وهي في حالة جيدة تستطيع أن تكون ذات فائدة وذات جدوى للأشخاص الآخرين.
الحقيقة بجانبي أيضًا الأستاذ الدكتور أشرف الكردي، وهو أخصائي جراحة الدماغ والجهاز العصبي ومن أشهر الأطباء في العالم العربي في هذا الميدان، وأنا أحب أن أترك له الفرصة حتى يحدثنا لأنه الحقيقة يعتبر مرجعًا أيضًا من المراجع المهمة في هذا الميدان وله أبحاث كثيرة في تعريفات موت الدماغ من واقع عمله وخبرته الطويلة في هذا الميدان.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
هل نفهم مما شرحه الأخ الكريم الدكتور البار أنه من الممكن بعد أن يعتبر الدماغ ميتًا بالنظر الذي بينتموه يمكن أن تكون أجهزة الإنعاش تستمر تشغل القلب والرئتين بعد أن يحكم بأن الدماغ قد مات هذا ممكن؟ أو أنه لا يمكن أن تستمر الأجهزة في تشغيل القلب والرئتين إلا ما دام الدماغ غير محكوم عليه بالموت الكلي. هذا أرجو جوابه لأنه سيبنى عليه الأمور فيما بعد.
الدكتور محمد البار:
جزاكم الله خيرًا، الحقيقة هذا السؤال مهم جدًا ممكن تشغيل القلب والرئتين بواسطة الأجهزة لكن لأي مدة هذا باب آخر، معظم الحالات حتى لو استمرت في تشغيل الأجهزة لا تبقى سوى بضعة أيام، ولكن هناك حالات وثيقة ونشرت في المجلات الطبية أن حالة بقيت 68 يوم، شخص اتفق الأطباء بكافة الوسائل التشخيصية الموثقة أن هذا الشخص قد مات.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
مات دماغه، التعبير دائمًا بموت الدماغ لأنه نستطيع التمييز بين قولنا مات الشخص أو مات دماغه.
الدكتور محمد علي البار:
نعم، نعم، جزاكم الله خيرا، معذرة مات دماغه، وبعد ذلك استمروا في عملية استمرار الأجهزة ليروا كم يستمر القلب في هذه الحالة لوجدها حسب علمي استمر 68 يوما وهي حالة شاذة وحيدة وبقية الحالات كلها كان يستمر أياما.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
يعني هل من الممكن بعد الحكم بموت الدماغ أن يبقى القلب والكلى يشتغلان.
الدكتور محمد علي البار:
ممكن تستمر.
الشيخ عبد الله بسام:
بدون التنفس الصناعي هل يمكن بقاء بعد موت الدماغ كليا؟ هل يمكن للجسم وضخ القلب؟
الدكتور محمد علي البار:
هذا الذي نتحدث عنه يا فضيلة الشيخ.
الشيخ عبد الله بسام:
قصدي بدون آلة صناعية.
الدكتور محمد علي البار:
بدون آلة لا يمكن لأنه بمجرد نزع الآلة يتوقف تمامًا.(3/304)
الرئيس:
الدكتور أشرف..
الدكتور أشرف الكردي:
بسم الله الرحمن الرحيم..
أعتقد أن الدكتور البار أوفى في هذا الموضوع الكثير من النقاط التي ممكن أن يسأل عليها. أرغب في البدء في التفريق بين سحب أجهزة الإنعاش من مريض ميؤوس من حالته الطبية، أي لا أمل في الشفاء منه، وبين سحب أجهزة الإنعاش من إنسان توقف دماغه توقفًا نهائيًا لا عودة فيه ولا رجعة.
نحن الآن في صدد الموضوع الثاني وليس في صدد الموضوع الأول. أن الرأي الطبي في البلاد العربية الإسلامية في الوقت الحاضر بالنسبة إلى سحب الأجهزة من مريض ميؤوس من حالته أي لا أمل في شفائه طبيًا يعتبر جريمة لا تغفر، أما سحب الأجهزة من إنسان فقد جميع وظائف دماغه واعتبر طبيًا أنه ميت، فهذا يجب أن تسحب الأجهزة منه من وجهة النظر الطبية ويعتبر في حكم الأطباء هو ميت حكمًا.
يا سيدي إن المقدرة على الوعي والتفكير والتصور والإحساس والاستجابة وتنظيم وظائف الجسم وتنسيقها أمور جوهرية لتقرير الإنسانية في الجسد فإذا اختفت جميع هذه الوظائف اختفاء نهائيًا لا عودة عنه لم يعد بالإمكان اعتبار الجسد ككل شخصيًا حيًا بالمعنى الشامل.
إن التشخيص المبكر والصحيح لموت الدماغ هام جدًا ليس فقط لأسباب طبية ولكن لأسباب كثيرة ومتعددة وعلى رأسها الاعتبارات الطبية الشرعية لتقرير ساعة الوفاة ومثال على ذلك تقرير الإرث، وهنا أضرب مثلًا أن شخصًا يوجد في مركز الإنعاش، وهذا الشخص مات دماغه واعتبر طبيًا أنه لم يمت ولم يقرر الأطباء ذلك وهو في الحقيقة ميت وفي هذه الأثناء في هذه الأيام في هذه الساعات ماتت زوجته فهو يرث من زوجته، وإذا مات هو فإخوانه يرثون منه، وهذا الحكم طبعًا غير صحيح لأنه مات قبل زوجته فتقرير الحكم والتقرير الصحيح فإن هذا الإنسان مات مهم جدًا.
كذلك أضرب مثالًا آخر إلى حوادث القتل، كثير من الأشخاص الذين يصيبهم رصاص أو حوادث ينقلوا إلى وحدة الإنعاش ويعتبروا طبيًا أنهم في حكم الأموات إذا بقوا في غرفة الإنعاش، وهذه حدثت أن جاء إنسان آخر وقتلهم فمن يعتبر القاتل هل هو الأول أو هل هو الثاني؟
ولهذا يا سيدي يجب أن ننتبه إلى هذا الموضوع بصورة جدية لتقرير موت الدماغ واعتباره كموت حقيقي للأسباب التي سأذكرها.(3/305)
كذلك هنالك أسباب أخرى منها العبء النفسي والجسدي الثقيل الملقى على عاتق الجهاز الطبي. وكل من يمت للحالة بصلة لمتابعة مريض قد أصبح في عداد الأموات، وهذا ما رأيناه كثيرًا في بداية دراستنا لهذا الموضوع منذ عام 73. وأظن الشيخ الدكتور الزرقاء كان معنا في إحدى الندوات في هذا الموضوع سابقًا، أن أشخاصًا يعتبرون في حكم الأموات ويبقون ساعات وأسابيع تصوروا العبء النفسي الملقى على الأهل وعلى الأقارب وعلى الجهاز الطبي.
إن معالجة الجثة كما لو كانت إنسانًا حيًا تعكس فهمًا خاطئًا وتشكل ذنبًا أخلاقيًا وإهانة للإنسان. وهكذا فإنه من الزاوية الأخلاقية والسلوكية يتوجب علينا أن نعامل الشخص الذي فقد جميع وظائف دماغه وأصبح بالتأكيد ميتًا على أنه في الواقع كذلك..
ومن هذه الأسباب أيضًا تحديد الأولويات لرعاية المرضى المتواجدين في وحدة المعالجة الحثيثة، خاصة إذا كانت هذه الوحدة مزدحمة بالمرضى من جهة، وكانا لعديد منهم ينتظرون دورهم للحصول على سرير فها من جهة أخرى، مما يضطرهم للذهاب إلى مراكز علاجية أقل كفاءة.
أما موضوع نقل الأنسجة والأعضاء فيكتسب أهمية خاصة عندما ندرك أن هذا النقل ليكون ناجحًا وليستفيد منه شخص آخر تتعلق حياته به فإنه يجب أن يتم فور إعلان الوفاة حينما يكون العضو المنقول لا يزال محتفظًا بقدرة الحياة عن طريق أجهزة صناعية متقدمة.
وأخيرًا لا آخرًا بالرغم من أن حياة الإنسان لا تقدر بأي ثمن فإن التكاليف الباهظة التي تنفق على إنسان يعتبر في عداد الموتى لا بد وأن تؤخذ بعين الاعتبار. وأحب أن أؤكد هنا أن موضوع نقل الأعضاء ليس الموضوع الهام الوحيد في تشخيص موت الدماغ، وإنما هناك اعتبارات أخرى أخلاقية وسلوكية ودينية وقانونية لا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار.(3/306)
سيدي أريد أن أؤكد أن موضوع موت الدماغ مرتبط بحالات معينة فقد يجب أن ينطبق عليها ومن هذه الحالات هي الإصابات المباشرة للدماغ كحوادث الطرق أو إطلاق النار أو الشظايا أو النزف داخل الجمجمة أو وجود أورام، وهذه تعتبر أسباب أولية كما يوجد أسباب ثانوية منها نقص حاد في الأوكسجين أو نقص في ضغط الدم أو الغرق أو الصدمات الكهربائية أو الصدمات الناتجة عن حوادث التخدير. لهذه الحالات فقط هنا نركز على هذا الموضوع، موضوع الدماغ ويوجد حالات كثيرة يجب أن تستبعد والدكتور البار حكى فيها بالتفصيل.
شروط التشخيص هي صارمة وقاسية، ولا داعي لذكرها هنا، ولكن من أهميتها أن المريض يجب أن يكون في غيبوبة دائمة لا يستجيب لأي تحريض مهما كان، وأن المريض موضوع على جهاز التنفس الاصطناعي، وأن المريض مصاب بتلف دماغي بنيوي لا يمكن شفاؤه، وأنه يجب أن يمر وقت كاف للتأكد من أن التلف لا يمكن شفاؤه بالفعل، كما يجب أن تكون انعكاسات جذع الدماغ معدومة كاملة كما أنه يجب أن يثبت وقف التنفس. وهذا شرط أساسي ومهم يجب أن لا يكون هنالك تنفس تلقائي، ولا بأي شكل من الأشكال ولمدة لا تقل عن عشر دقائق بعد إعطاء الأوكسجين الكافي لضمان إذا كان هذا الشخص أنه لن يتأثر وهذا شرط أساسي وجوهري.
الشيخ مصطفى الرزقاء:
تلقائي أو بواسطة الأجهزة.
الدكتور أشرف الكردي:
تلقائي.. ألا يكون هنالك تنفس تلقائي مهما كان إذا نزعنا الأجهزة لإثبات أن التنفس غير موجود تلقائيًا ننزع الأجهزة يا سيدي ونزعها ونضع أوكسجين للتأكد أنه لا يوجد أي تنفس تلقائي نهائيًا.
ويجب أن يثبت أيضًا السكون الكهربائي في الدماغ، أي أن الكهرباء لا يوجد به أي حرارة كهربائية أو أي أمواج كهربائية أو أي ذبذبات كهربائية، كما كنا في السبعينات نستعمل حقن شرايين الدماغ بواسطة مواد ملونة حتى نرى أنه فيها دورة دموية أو لا والحقيقة أنه يجب أن لا يكون هنالك أي دورة دموية في الدماغ.(3/307)
من يقوم بهذا الفحص؟ هل أي طبيب يقوم بهذا الفحص؟ الحقيقة لا، نعتقد أن الفحوص والاختبارات يجب أن تجري من قبل ثلاثة اختصاصيين من ذوي التجربة في هذا الميدان أحدهم يجب أن يكون أخصائيًا بالأمراض العصبية وله خبرة في الفزيولوجيا العصبية والسريرية.
ومن الناحية العملية فإن هؤلاء الأطباء غلبًا ما يكونون أخصائيين في التخدير والمعالجة الحثيثة وطب وجراحة الجهاز العصبي بالإضافة إلى الطبيب المعالج المباشر، ويجب أن تجرى الفحوص والاختبارات مرتين تفصل بينهما فترة لا تقل عن أربع ساعات وقد تزيد عن أربع وعشرين أو ثمان وأربعين ساعة للتأكد من أنه لم يحدث أي خطأ في المراقبة، أو أي تغيير في حالة المريض. وإذا كان هنالك أي شكل يتعلق إما بالتشخيص أو بالشروط السابقة فإن معالجة المريض يجب أن تستمر.
فإذا أظهرت الاختبارات والفحوص الأولى موت الدماغ فإن المريض يجب أن يعاد إلى جهاز التنفس والاصطناعي وتعاد جميع الفحوص الاختبارات بعد فترة لا تقل عن أربع ساعات، فإذا أكدت الاختبارات المكررة موت الدماغ، فإن الوفاة يجب أن تعلن بصورة قانونية، ويمكن عند ذلك إصدار شهادة الوفاة.
ولكن الذي نعلمه من الناحية العملية أننا نخبر الأهل أن هذا أصبح في عداد الأموات وأصبح متوفى ونأخذ رأيهم في سحب الأجهزة.
ويمكن عند ذلك إصدار شهادة الوفاة ويجب التأكد هنا خاصة في حالة نقل الأعضاء، أن استمرار المعالجة لا يشكل استمرارًا للحياة، وفي حالة نقل الأعضاء ولأسباب أخلاقية وطبية شرعية فإننا نؤكد على أن كل طبيب ينتسب بأية علاقة للمريض الذي سوف ينقل العضو إليه أو إلى الفريق الطبي الجراحي الذي سوف يقوم بعملية نقل الأعضاء، يحب أن يستبعد عن تشخيص موت الدماغ عند الشخص المتوفى.
يا سيدي إن مزايا الخصائص الأردنية في هذا التشخيص هو الحقيقة ناتج هذا عن قراءتنا ودراستنا لما يعمل به في الخارج ودراستنا وخبراتنا هنا، مزايا الخصائص الأردنية في هذه الورقة هي صرامة شروط التشخيص. إن شروط التشخيص القاسية التي وضعناها لا يوجد لها أي مثيل في أي مكان في العالم، ويجب أن يتم التشخيص في المستشفيات المركزية المجهزة لمثل هذا العمل.
ليس كل مستشفى ولا أي طبيب ممكن يقوم به، والتشديد على أهمية التشخيص المبكر وأن يكون أخصائيو الأمراض العصبية طرفا رئيسيا في التشخيص وأن تجرى الفحوصات والاختبارات من قبل ثلاثة اختصاصيين.
ونقطة أخرى أن التشخيص السريري يجب أن يكون مدعوما بتخطيط الدماغ الكهربائي، وفي حالة نقل الأعضاء التشديد على أن يكون سبب موت الدماغ هو تلف أولي في الدماغ، وناحية أخرى هو استبعاد أي طبيب ينتسب بأي علاقة للمريض الذي سوف ينقل العضو إليه أو أن يكون ضمن الفريق الطبي الجراحي الذي سوف يقوم بعملية نقل الأعضاء. وشكرا يا سيدي.
الرئيس:
في الواقع إذا تكرمتم أن تصور هذه المذكرة وتسحب وتوزع على المشايخ.(3/308)
الدكتور محمد علي البار:
يا طويل العمر هي موجودة، هذه في هذا الكتاب.
الرئيس:
موجودة طيب شكرًا.. فيه سؤال ذكرتم أن سبب موت الدماغ هو التلف، يعني نوعية التلف هذا، هو التلف يعين بصدمة أو بحادث أو كذا، أو جائز أن يكون تلفًا طبيعيًا.
الدكتور أشرف الكردي:
يجب أن يكون تلفًا أوليًا. يجب أن يكون هنالك تهتك في مادة الدماغ وليس بشكل طبيعي، يجب أن يكون هناك لها سبب. وهذا السبب مثل حوادث الطرق، شخص داسته سيارة ودماغه طلع على الشارع أو قسم من دماغه طلع لبره. أن يكون طلقات نارية، أن يكون ضرب على الرأس أو أن يكون هنالك ورم في الدماغ يأكل في خلايا الدماغ أو نزيف في داخل الدماغ ويؤدي هذا النزيف إلى تهتك في خلايا الدماغ.
الرئيس:
يعني معنى هذا موت الدماغ أو موت جذع الدماغ ليس علامة على الوفاة في جميع الحالات.
الدكتور أشرف الكردي:
لا يا سيدي، تلف جميع وظائف الدماغ ككل أنا لم أقل جذع الدماغ، جذع الدماغ هو جزء من الدماغ، أنا أقول توقف جميع وظائف الدماغ توقفًا نهائيًا لا عودة فيه ولا رجعة فيه، هذا ما أقوله.
الشيخ محمد عبده عمر:
أنا قصدي أستفسر: هل موت الدماغ بشكل كامل علامة صحيحة على الموت؟ يعني هل موت الدماغ بشكل كلي علامة قطعية على موت الإنسان؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فكيف يبقى القلب والدورة الدموية يشتغلان.
الدكتور أشرف الكردي:
يا سيدي يعتبر توقف جميع وظائف الدماغ توقفًا نهائيًا وأركز دائمًا على أن توقفًا نهائيًا لا عودة ولا رجعة فيه يعتبر الشخص المصاب فيه ميتًا، أما بالنسبة إلى القلب لماذا ينبض مع العلم بأن الدماغ قد مات؟ السبب من هذا يرجع على أن القلب فيه نبضات خاصة موجودة فيه وباستطاعتها أن تعمل بدون التوجه من الأعصاب الصادرة من الدماغ ولكن عملها هذا محدود وإلى فترة بسيطة.(3/309)
الدكتور محمد علي البار:
ممكن أشرح هذه الزيادة للتوضيح بأشياء تعرفونها كلكم: إذا ذبحت حيوانًا فإن هذا الحيوان أو الدجاجة أو الخروف أو غيره لا يزال يتحرك وإذا وضعت المقصلة على شخص أو المشنقة وشنق أو ضرب بحد السيف وحركة المذبوح هذه معروفة لدى الفقهاء وسجلوها من قديم.
فحركة ليس عندما يموت الشخص، فيه شيئان مهمان جدًا في هذه اللحظات موت الخلايا وموت الأعضاء ممكن أن يكون موت الخلايا والأعضاء والشخص لا يزال حيًا هذا أمر معروف وفي كل لحظة تموت مئات الملايين من الخلايا في أجسامنا في هذه الجلسة مئات الملايين من الخلايا أماتها الله ثم أحيا غيرها، لكل واحد فينا أيضًا ممكن أن يموت الشخص وتخرج روحه وهذا موضوع الروح ما نعرفه نحن لكن حسب التعبير نقول خرجت روحه ويبقى بعض أعضائه وخلاياه حية وهذه الخلايا، أنت إذا أخذت اللحم بعد ذبح الشاة تجد هذا اللحم أو العضلات لا تزال تنبض.
الشيخ محمد عبده عمر:
لو سمحت أنا قصدي أتأكد هل موت الدماغ علامة على الموت القطعي عند كل الأطباء أو فيه خلاف؟
الدكتور محمد علي البار:
لا ما فيه خلاف الآن بعد هذه التحديدات الموجودة بالشروط الموجودة، يعني الآن وضعت شروط واتفق عليها عالميًا، بهذه الشروط لا يوجد خلاف في الاعتراف بموت الدماغ بأنه مواز للموت موت الإنسان كاملًا، طبعًا لا يزال موت الدماغ يشكل أقل من 1? من جميع الوفيات، يعني لا يختلط بالأذهان أن كل الوفيات الآن لا بد أن يسجل عليه مات دماغه بل كل الوفيات التي تحصل حتى في البلاد الغربية، وحيث الأجهزة متطورة بكثرة لا تشكل أكثر من 1? من جميع الوفيات، بقية الوفيات كلها 99? هي وفيات عادية بتوقف الدورة الدموية وتوقف التنفس.(3/310)
لكن في الحالات الخاصة التي يحدث فيها، كما ذكر الدكتور الكردي، خلل عضوي نسيجي في الدماغ نتيجة رصاص، نتيجة نزف، نتيجة ورم أو حتى نتيجة سبب ثانوي توقف القلب أربع دقائق ولم ينقذ هذا المريض لا شك أن دماغه سيموت بعد أربع دقائق.
يعني ربما يكون التوقف من القلب، فإذا لم ينقذ هذا الشخص أو غريق أو كذا أو كذا من الأسباب الأخرى أو غاز ثاني أكسيد الكربون أو الأسباب الثانوية كلها التي ذكرناها كل هذه الأسباب الثانوية.
واحد تسمم وانتحر بالمرقدات بالباروتريت ممكن أن يموت به فعلًا لكن نزيل كل أثر لهذه المادة أولًا قبل أن نحكم عليه أنه مات دماغيًا، لا بد من الانتظار حتى لا نعطي أية فرصة للخطأ، وقد بحثت ألف حالة بعد هذه التشديدات هل يمكن أن يكون فيها خطأ؟ فلم يجدوا خطأ في حالة واحدة من ألف حالة.
الشيخ محمد عبده عمر:
إذا سمح لي سيادة الرئيس سؤال أخير.. كيف نعرف علامات موت الدماغ؟ ما هي العلامات التي نعرف بها أن الدماغ قد مات؟
الدكتور محمد علي البار:
ما أدري إذا كان يهمكم كثيرًا هذا لكن الحقيقة الدكتور الكردي أشار إليها: وأولها أن الشخص يكون مغمى إغماء كاملًا، ولا يستجيب لأية مؤثرات يعني لا يصدر منه صوت لا حشرجة، يعني لو صدرت منه حشرجة التي تسمى نزعًا لا نعتبره ميتًا، لو حركة تحركت قدمه أو رجله أو أي شيء حتى لو حاولنا نأتي مثلًا بقطنة على العين ونضعها على القرنية، الشخص العادي أو كذا ترمش عينه، فإذا رمش هذا لا يعتبر ميتًا بدون شك.(3/311)
هناك مجموعة من الفحوصات ضوء شديد على بؤبؤ العين، عادة الضوء يحدث انقباض بؤبؤ العين إذا حدث مثل هذا لا يعتبر هذا ميتًا، هناك مجموعة من الفحوصات، الإغماء الكامل، عدم وجود الأفعال المنعكسة نسميها مجموعة من الفحوصات التي تدل على وظيفة الدماغ أو جذع في هذه المنطقة ثم إن عدم وجود أي حركة في هذا الشخص وجود حركة الدمية.
إثبات هذا وقف التنفس مهم جدًا لا بد أن يكون التنفس قد توقف ماذا تصنع؟ ننبه الدماغ بإعطائه أوكسجين فترة ثم بعد ذلك 5? ثاني أوكسيد الكربون، المعروف أن ثاني أكسيد الكربون ينبه المراكز الموجودة في جذع الدماغ التي تكون مسؤولة عن التنفس، فإذا نبهت هذه المناطق كلها ولم يستجب هذا الشخص ولم يحدث منه أي تنفس إطلاقًا ما حدث تنفس إطلاقًا، توقف التنفس منه توقفًا تامًا، وهذا الفحص يجرى لمدة عشر دقائق طبعًا تختلف المدارس فيه بعضها جعلته خمس دقائق، أو سبع دقائق، أو عشر دقائق فنأخذ الحد الأقصى وهو عشر دقائق، كما أخذته المدرسة الأردنية الآن، بعد ذلك يعاد هذا الفحص مرة أخرى من فريق آخر من الأطباء، وليس لهم مصلحة إطلاقًا في أن يريدوا موت هذا الشخص ليأخذوا منه أعضاء جاهزة لنقل الأعضاء مثلًا ليس لهم أي علاقة إطلاقًا لا من قريب ولا من بعيد بموضوع نقل الأعضاء.
لا بد أن يكون القرار من مجموعة من الأطباء ليس لها أية علاقة بنقل الأعضاء حتى تبعد أية شبهة مهما كانت موجودة ولو ضئيلة في هذا الميدان، بحيث يكون التشخيص مبنيًا على أسس لا مصلحة لأحد فيه إطلاقًا حتى ليست بدافع الرحمة، ما يسمى بالرحمة، هي مبنية على أسس واقعية علمية مضبوطة، وأن هذا الشخص قد توفي تمامًا.
كذلك رسم الدماغ الكهربائي يبين أن الدماغ قد توقف تمامًا عن أي نشاط، بعض المدارس لا تهتم به، لكن المدرسة الأردنية تصر عليه باعتباره أيضًا وسيلة إضافية لتأكيد موت الدماغ، يعني نأخذ بكافة الاحتياطات المشددة التي قد لا تأخذ بها بعض البلاد الأخرى، وتكتفي بهذه العلامات وتقريرها كافية جدًا مثل المدرسة البريطانية، لكن إذا أخذنا بكافة الاحتياطات زيادة على ما هو موجود فإن ذلك يشكل ضمانة لئلا يحدث خطأ في تشخيص موت الدماغ.(3/312)
الرئيس:
شكرًا.. في الواقع أن من خلال عرض الطبيب الأستاذ أشرف الكردي بالنسبة لي حدث عندي تغير كامل في التصور لحقيقة الوفاة عند الأطباء لأنا كنا من خلال البحوث السابقة الذي ظهر لنا أن هناك تعارضًا بين حقيقة الوفاة عند الأطباء وحقيقة الوفاة عند الفقهاء.
ثم تبين الآن كما في الصفحة الثانية تقريبًا من البحث اعتبار ما ذكره الفقهاء حقيقة للوفاة، وهو هنا يقول "تعريف موت الدماغ: يعرف الموت تقليديًا من الناحية الطبية بواحد من شرطين، إما حدوث توقف لا رجعة فيه على القلب والتنفس جميع وظائف الدماغ ككل توقفًا نهائيًا لا عودة منه، هذا شيء.
الشيء الثاني هنا في تشخيص موت الدماغ ذكر هنا شرط وهو الرابع، إثبات وقف التنفس فأرجو من سعادة الطبيب شرح الناحية هذه.
الدكتور أشرف الكردي:
يا سيدي نحن ذكرنا أن هنالك خمسة شروط يجب أن تكون موجودة ومثبوتة وموثقة لتقرير تشخيص موت الدماغ، أحد هذه الشروط هو وقف التنفس، المريض موضوع على جهاز التنفس الاصطناعي حتى نتأكد من أن المرض تنفسه قد توقف توقفًا نهائيًا وتلقائيًا، نعطي قبل نزع جهاز التنفس الاصطناعي عن المريض نعطيه أوكسجين بكمية تتراوح لفترة تتراوح بين خمس إلى عشر دقائق قبل نزع جهاز التنفس الاصطناعي عنه، ونأخذ "سامبلز" أو عينات الدم لدراسة كمية الأوكسجين وكمية ثاني أوكسيد الكربون أو ثاني أوكسيد الفحم في الدم للتأكد أنه لن يحدث أي نقص خلال فترة العشر دقائق التي وقفنا فيها جهاز التنفس الاصطناعي عن هذا المريض حتى لا نكون نحن لنا علاقة في توقيف التنفس للمريض.
وفي الحالة هذه نتابع كل ثلاثة دقائق نأخذ عينة من الدم للتأكد من أن كمية الأوكسجين كافية في داخل الجسم، وأن كمية ثاني أوكسيد الفحم غير مرتفعة كثيرًا بحيث تؤثر على أي وظيفة من وظائف الدماغ أو وظائف الجسم وتؤدي إلى نتائج عكسية، وهذا يعمل حسب شروط ومقاييس خاصة، ويجب أن يكون الطبيب الذي يعمله له خبرة في هذا الموضوع، فإذا تمت هذه العملية خلال فترة عشر دقائق وتأكدنا أن المريض لم يتنفس خلال هذه الفترة، وهذا يمكن إما بوضع اليد على صدر المريض أو بوضع آلة خاصة دقيقة التي ممكن أنها تريني أي تحركات عضلية، إذا كان هذا الشيء غير موجود وخلال فترة عشر دقائق فهنا نؤكد على أن التنفس انعدم تلقائيًا وأنه معتمد على الآلة الاصطناعية.(3/313)
ولا نكتفي بهذا يا سيدي، نرجع ونعود إذا كانت جميع الشروط موجودة ومثبوتة وموثقة نرجع مرة ثانية بعد فترة لا تقل عن أربع ساعات وكما قلت قد تزيد إلى أربع وعشرين إلى ثمانية وأربعين ساعة ونعيد نفس الفحص للتأكد من أنه لم يحدث أي تغير.
الشيخ عبد الله البسام:
أنا لا زلت من خلال ما قرأت ومن خلال ما سمعت من الطبيبين الكريمين أرى أن هناك فرقًا بين الموت عند الأطباء والموت عند الفقهاء وعلماء الشرع، فالأطباء يقررون الموت نهائيًا بموت الدماغ على اختلاف بينهم كله أو حتى في جذعه، أما علماء الشريعة لا يرون أن هذا الموت شرعي بمعنى أنه يورث وبمعنى أنه يغسل ويدفن وبمعنى أنه لو مات أحد في هذه الأثناء في وجود نبض القلب وضخه والدورة الدموية لا تزال موجودة يعتبرونه لا يزال حيًا وأنه يحتضر وأنه لا يزال يحتضر وتجرى عليه أحكام الأحياء كلها إلا من ناحية الاعتداء عليه والجناية عليه هذه فيها تفصيل بين الفقهاء، أما من ناحية الإرث وعدم الإرث وعدة النساء وحرمته كحي فهذه علماء الشرع لا يزالون يرون أنه وإن مات الدماغ وإن كان في السابق لا يعلمون عن موت الدماغ لكن ما دام أنهم يرون أنه لا يزال فيه نبض والدورة الدموية لا تزال تعمل عملها لا يزالون يعتقدون أنه في حساب الأحياء، وبناء عليه فهناك فرق بين الموت عند الطبيب وبين الموت عند الفقيه، يعتبر ميئوسًا منه، إذا قرر الطبيب وهو صاحب الخبرة بأنه الآن مات دماغه ولا أمل في عودته ولا رجوعه، الفقيه يقول: هذا رجل ميئوس منه، حي ولكن ميئوس منه.
يبقى نزع آلة الإنعاش هذه هل إن كانت لم توضع فلا داعي لوضعها؟
يعني نفس العلاج ما هو واجب أن الإنسان يعالج، وأيضًا إذا كان ميئوسًا منه يعني تزداد بعد ذلك المسألة، لكن إذا كانت آلة الطبيب أو أن التنفس أو الجهاز إن جعلا عليه على أساس أنه كان فيه أمل ثم بعد ذلك عرف أنه لا أمل فيه فأنا أرى أن نزعها من باب الإجهاز عليه، أنه حي وأجهز عليه.
الرئيس:
حتى ولو قرر الأطباء أنه ميؤوس.(3/314)
الشيخ عبد الله البسام:
حتى ولو قرر الأطباء أنه ميئوس اعتبر محتضرًا، واعتبر أن الله سبحانه وتعالى له حكمة في ذلك، وأنه قد يشدد على الإنسان في نزعه لأجل ذنوب عليه ونحو ذلك وأن تبقى آلة الطبيب إلا إذا كان هناك مثل ما تفضل الأطباء أن هناك ما هو أحوج منه إليها، هذا من باب تزاحم المصالح، أما ما دام أن الجهاز هذا غير محتاج إليه فأنا أرى أن نزعه وإن كان ميئوسًا منه من باب الجناية عليه.
الرئيس:
كلمة بسيطة، لأن الحقيقة النقطة هذه مهمة فهمنا من حديثكم وحديث الشيخ عبد الله، تعرفون يا شيخ عبد الله أنه في الدورة الماضية الذي تمثل أمام الجميع تقريبًا، هو يعني مثل ما تفضلتم، أن حقيقة الوفاة عند الأطباء خلاف حقيقة الوفاة عند الفقهاء، وأن هذا الذي كان بمفهومي لكن أنا من خلال هذه العبارة وهي "يعرف الموت تقليديًا من الناحية الطبية بواحد من شرطين، -يظهر المراد واحد من حالين- إما حدوث توقف لا رجعة فيه على القلب والتنفس، هذه الجملة "حدوث توقف لا رجعة فيه على القلب والتنفس" هذه أظنها تلتقي مع كلام الفقهاء، وأنا أسأل الشيخ عبد الله لأنه أعرف أنه في العام الماضي بحث فيها جيدًا وأعطى المجلس ورقة في هذا الموضوع.
الشيخ عبد الله البسام:
الفقهاء ذكروا علامات للموت حتى قالوا: إذا شك فيه أصبر عليه حتى يتغير.
الرئيس:
لكن أنا قصدي هل في هذه التقاء مع الفقهاء أو لا في العبارة هذه؟
الشيخ عبد الله البسام:
ما هي العبارة؟
الرئيس:
يقول هنا "يعرف تقليديًا من الناحية الطبية بواحد من شرطين" الظاهر أنه واحد من أمرين، كذا يا دكتور أشرف.(3/315)
الدكتور أشرف الكردي:
نعم يا سيدي.
الرئيس:
بواحد من أمرين: إما حدوث توقف لا رجعة فيه على القلب والتنفس، أو توقف جميع وظائف الدماغ ككل توقفًا نهائيًا لا عودة منه.
الشيخ عبد الله البسام:
الأول هذا يعتبر موتًا عند الفقهاء، الأول عند الفقهاء موت إما الأخير..
الرئيس:
الأول قصدي أن الأول فيه التقاء في حقيقة الوفاة عند الفقهاء.. كذا..
الشيخ عبد الله البسام:
نعم.. أي نعم..
الرئيس:
هذا الذي أريد يعني هذا الذي أنا أثرت وهي الحقيقة نقطة مهمة جدًا لأنه كما تعلمون في الدورة الماضية ما كنا نتصور التقاء حقيقة الوفاة بين الأطباء والفقهاء، يعني الذي يظهر لنا في الدورة الماضية أنهم على طرفي نقيض، هؤلاء يقولون: حقيقة الوفاة موت الدماغ أو جذع الدماغ، وهؤلاء يقولون: حقيقة الوفاة هي موت القلب وانقطاع التنفس ويذكرون العلامات المسطرة أمامكم.
الشيخ عبد الله البسام:
لأن الأطباء الآن هم الذين يجيبون عن هذا، أرى أنه إذا كان توقف التنفس والقلب والدورة الدموية، الدماغ نصرف النظر عنه.
الدكتور أشرف الكردي:
يا سيدي بالنسبة للجواب الأول: أنا بدأت حديثي في أنه يجب التفريق بين سحب الأجهزة من مريض ميئوس من حالته، ولكنه لا يزال حيًا وبين سحب الأجهزة من مريض يعتبر في عداد الأموات، يجب التفريق في مثل هذين الحالتين، الحالة الأولى: أنا أؤيد أن أسحب الأجهزة من مريض ميئوس فيه ولا تزال علائم الحياة موجودة عليه بوظائف الدماغ، هذه تعتبر جريمة لا تغفر.(3/316)
الموضوع الثاني: الذي نحن حكينا فيه والذي نحن في صدده هو سحب الأجهزة من إنسان اعتبر متوفيًا ولا رجعة في أي وظيفة من وظائف دماغه نهائيًا، أما بالنسبة للموضوع الآخر وهو أنه مريض ميئوس من حالته عدم وضع أي جهاز عليه فهذا الكلام لا يقبله الأطباء مطلقًا؛ لأن وظيفة الطبيب أن يلاحق المريض لآخر لحظة ولآخر رمق في حياته إلى أن ربنا يأخذ الروح، لا نستطيع أبدًا أن نمنع جهازًا نملكه ممكن أن يساعد المريض بأي مرض كان ومهما كانت حالته.
الشيخ مختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم ...
سيادة الرئيس في الواقع أغنيتني عن كثير من الأسئلة، فضيلة الشيخ عبد الله البسام هو الذي دفعني إلى زيادة الكلام، أعتقد أن دخول الأطباء في اختصاص الفقهاء لا يمسح به، كما أعتقد بالأمثل أن دخول الفقهاء في اختصاص الأطباء لا يسمح به.
الرئيس:
إذن يتركون المريض لا حيًا ولا ميتًا، لا بد أن تتلاحم الوجهتان يا شيخ.
الشيخ مختار السلامي:
فأنا أسأل الطبيب أن هذا الشخص مات أو لم يمت؟ فإذا قرر الطبيب أن هذا الشخص مات لا أبحث عن العلامات التي وضعها العلماء بحثًا في طفولة العلم وأتمسك بها، فإذا قال الطبيب أو قال الطب كلمته في أن الحياة قد انتهت إذ ذاك يأتي دور الفقيه ليقول: يورث أو لا يورث، يصلى عليه، متى يصلى عليه، متى يدفن، من يرثه، هذه كلها قضايا لا يدخل فيها الطبيب، أما أن نجعل أنفسنا أطباء ونجعل أنفسنا فقهاء فأعتقد أن هذا ليس صحيحًا، وشكرًا.
الرئيس:
شكرًا.. في الواقع أنه لا بد أن نكون أطباء فقهاء، يعني في تقريرنا ولهذا نستدعي الأطباء حتى نستكمل التصور لأنه إن لم نستكمل التصور الطبي ويكون مفهومًا لنا مثل وضوح الشمس ما يمكن لنا أن نكيف المسألة فقهًا إطلاقًا.(3/317)
الشيخ مختار السلامي:
يا سيدي، القلب ينبض أو لا ينبض أنا كفقيه لا أعرفه، قد يكون القلب ينبض نبضًا خفيفًا فأضع يدي وأتسمع فلا أسمع شيئًا.. والطبيب يقول لك: هذا حتى بقيت الحياة فيه وما زال حيًا، قد أحاول التنفس فلا أجد نفسًا فأقول مات، وهو التنفس بسيط ويعود إلى الحياة.
القضية قضية تشخيص أو بيان الوقت الذي مات فيه المريض لا يستطيع أي فقيه مهما أوتي إلا أن يكون ذلك ادعاء لأنها قضية دقيقة جدًا وتخضع لآلات عندما أقف أجدها صماء بالنسبة لي لا تتحدث بشيء بينما هي تتحدث للطبيب بكل شيء.
الدكتور أشرف الكردي:
يا سيدي نحن بحاجة إليكم لأن هذا الموضوع الحقيقة هو بصدد خلق بلبلة في الكثير بين الناس، ورأي علماء الدين الأفاضل ورأي الفقهاء يساعدنا وبيطمأن الكثير من الناس، أن القرارات الطبية هذه تؤخذ بالطريقة الصحيحة لأن الشروط الصارمة والقياسية التي نحن وضعناها هي تعتبر من أقسى الشروط الموجودة في العالم، يعني يوجد هنالك شروط أقل صرامة منها ومعترف فيها في العالم أجمع، وشكرًا.
الدكتور محمد علي البار:
بسم الله الرحمن الرحيم ...
أولًا: قلنا: إن موضوع موت القلب وتوقف القلب والتنفس هما أساسيان من الجلسات الماضية وهي التي في حوالي 99? أو أكثر من جميع حالات الوفيات التي يقررها الأطباء هذه النقطة الأولى.
النقطة الثانية: أنه في حالة موت الدماغ بما أن الدماغ هو الذي يتحكم في التنفس، فيه مراكز في جذع الدماغ هي التي تجعل الإنسان يتنفس إذا ماتت هذه المراكز موتًا كاملًا فلا يمكن أن يحدث تنفس، ولهذا من شروط الفحص الدلالة القوية في علامة موت الدماغ من أهم العلامات التشخيصية لموت الدماغ هو أن يكون التنفس قد توقف لكن بما أن الأطباء يريدون أن يحرصوا على أن لا يكون لهم دور في التنفس ولو شيء بسيط يعطون هذا الشخص بواسطة أنبوبة أو قسطرة تصل إلى القصبة الهوائية تعطيه أوكسجين لفترة قبل أن ينزعوا الأجهزة، وهذه الاحتياطات وفحص الدم الذي شرحه الدكتور الكردي يوضح الاحتياطات الإضافية التي تعمل وتجرى من أجل أن يبقى مستوى الأوكسجين في الدم ومستوى ثاني أوكسيد الكربون بحيث أنه ينبه مراكز الدماغ لو كانت غير متنبهة، يعني كانت خامدة فقط.(3/318)
أما بالنسبة لتعريفات الفقهاء وتشخيصات الفقهاء فلا شك أن التعريفات السابقة قد حكمت بالموت على مئات الآلاف من الأشخاص بينما كانوا أحياء، والدليل على ذلك ما ذكره الشيخ السلامي في قوله يرى الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه " أن المولود إذا لم يصرخ لا يعتبر حيًا ولو تنفس" يعني هم عندهم لو تنفس ما يعتبروا التنفس، بينما نحن لو تنفس نعتبره حيًا بدون شك ولو تنفس أو بال أو تحرك كل هذا عندنا طبعًا علامة للحياة، بينما يرى الإمام مالك أنه ليس حيًا. ومعنى هذا أنه لا يحكم له بالحياة لمجرد التنفس حتى يقرن به البكاء.
وقال ابن الماجشون: إن العطاس يكون من الريح، والبول من استرخاء المواسك واعتبروا الرضاع، بدءوا يتناقشون: هل الرضاع دليل على الحياة أو لا؟ يعني الطفل حي ويرضع وكل هذا هم مصرون على أنه ميت، ثم إن عمر رضي الله عنه لما طعن وسقاه الطبيب اللبن وخرج اللبن من الأمعاء قال الطبيب: هذا ميت، واعتبره الفقهاء المتأخرون أو بعض الفقهاء على الأقل أنه ميت ولو قتل شخص عمر لما اعتبره قاتلًا، بينما هذه الحالة تعتبر تافهة جدًا مما يعتبره الطبيب، يعني "ريجان" لما ضرب بالرصاص اخترق رئتيه الرصاص واخترق التامبور يعني غشاء القلب أيضًا، غشاء القلب اخترقته الرصاصة، ومع هذا لم يعتبره الأطباء ميتًا بل سارعوا لإنقاذه.
نحن في الواقع الشروط التي وضعها الفقهاء للموت شروط تؤدي إلى حكم بالموت على مئات الآلاف بل ملايين الأشخاص الأحياء لو اتخذنا تعريفات الفقهاء في أن هذا هو الموت انخسف رجله بردت يداه كل هذه التعريفات التي يتخذونها علامات ليست علامات للموت.
هي علامات أحيانًا توقف الدورة نسبيًا أو شيء ما جس النبض، كل هذه العلامات لو اتخذناها لحكمنا بالموت على مئات بل على ملايين من الأشخاص إذا أخذنا النظرة التاريخية الماضية خلال ألف وأربعمائة عام لكان ذلك قتل لآلاف بل ملايين الأشخاص، بينما النظرة الطبية لهذا فرضت القوانين والدول أنه لا يحق للشخص العادي أن يعلن الموت الطبيب، فكانت معظم - يعني كل الحالات - يشخصها الطبيب ويعلن حالة الوفاة الطبيب، ويوقع على شهادة الوفاة الطبيب، لأنه هو المسئول وهو ذو الخبرة، ثم جاءت حالات ما هو أشد وأعقد نتيجة التقدم الطبي فصار الأمر إلى نوع معين من الموت وهو موت الدماغ نتيجة المحاولات الحثيثة أنقذ ما لم يكن ممكنًا إنقاذه، قبل عشرين سنة هذا لم يكن موجودًا لأنه لم يكن إنقاذ بعض هؤلاء الأشخاص، الآن بموت الدماغ أو بالوسائل الحديثة أمكن إنقاذ مجموعة من هؤلاء الأشخاص.
فلا بد أن يعرف أن موت الدماغ يشمل توقف التنفس وإلا لما كان موتًا للدماغ، لو كان التنفس تلقائيًا موجودًا أو حتى لو رفعنا بالتنبيه وغيره ثم استطاع هذا الشخص أن يتنفس ولو لحظة واحدة لما اعتبر ميتًا. موت الدماغ نفسه يفرض أن التنفس قد توقف لا رجعة فيه توقفًا نهائيًا.(3/319)
يعني إذا فهم الأطباء هذه النقاط كلها يسهل عليهم فهم كيف أن هذا الشخص ممكن أن يستمر في حالات محدودة ينبض قلبه بالماكينة أو التنفس بالماكينة حتى يمكن أخذ الأعضاء منه وهي بحالة جيدة. أما إذا نزع الطبيب هذه وتوقف التنفس فهو توقف للتنفس وهو علامة الموت ولا بد أن ينتهي الإنسان بشكل من الأشكال ولا بد أن يتوقف تنفسه ويتوقف قلبه. فلا نستطيع أن ننفخ في جثث ميتة لفترة طويلة لأن ذلك كما ذكر الدكتور الكردي وكما ذكرت من قبل أنه يشكل مشاكل كثيرة وخطيرة.
الرئيس:
في الواقع يا سعادة الأستاذ في قضية أنه قد يحكم على حساب حقيقة الوفاة عند الفقهاء بموت أشخاص ثم يتبين أنهم أحياء، نفس الشيء قد يحكم على الشخص بموته لموت جذع الدماغ أو لموت الدماغ لدى الأطباء، ومن خلال ما رأينا في مطالعات في ندوة بداية الحياة الإنسانية ونهايتها في الكويت وجدنا عدة حالات حكم بها أو أعلن عنها بأن الحكم بالوفاة ثم تبين أنه حي واستمرت الحياة. فقصدي أن هذه الوقائع هل تؤدي إلى أن مجموع الوفاة طالما أنه ليس في حقيقة الوفاة نص شرعي ينص على أن حقيقة الوفاة هو موت الدماغ وأن حقيقة الوفاة هو توقف القلب وإنما هي مجرد ما لدى الفقهاء؟ يظهر، والله أعلم، أنه بحكم العلامات الظاهرة لأنه ما كان عندهم اكتشافات طبية في ذلك الوقت ليعرفوا الدماغ وبموت جذع الدماغ وإنما بحكم الظواهر التي أمامه، ولهذا جعلوا هذه العلامات مع توقف القلب وتوقف التنفس إلخ العلامات الظاهرة. فأنا قصدي هل يمكن أن يقال: إن حقيقة الوفاة هي مجموع الصفة لحاصلة على ما قرره الإمام الغزالي بأنه يقول: هي انفصال الروح عن البدن بالكلية، فإن كلمة الغزالي هذه في الحقيقة فيها جامعية بحيث إنه يكون انفصلت الروح عن جميع أجزاء البدن. ولأن الروح يقولون: إنها مشتبكة بالهيكل هكذا تمامًا. فما أدرى وجهة نظر الطب في هذا الشيء.
الدكتور محمد علي البار:
هذا التعريف، الحقيقة تعريف ديني، وليس للطبيب من وسيلة لمعرفة خروج الروح غير العلامات التي تحدثنا عنها، توقف القلب أو توقف التنفس أو توقف الدماغ، أما الطبيب، الحقيقة ليس لديه أي مقدرة في أي مكان في العالم أن يعرف أن الروح قد خرجت أو لم تخرج. هذا خارج نطاق بحث الطبيب.(3/320)
الرئيس:
قصدي في الحالات التي يحكم الأطباء بموته لموت الدماغ أو جذع الدماغ تم تثبت حياته.
الدكتور أشرف الكردي:
ممكن أن أجيب.. يا سيدي الذي تفضلت فيه صحيح مثل ما قال الفقهاء، لو أخذنا على حكمهم أنه فيه كثير من الناس هم يعتبرون في حكم الأموات لكنهم أحياء، كذلك الأمر بالنسبة لما ذكرت في مؤتمر الكويت، هذا الحكم صحيح، لكن إذا نظرنا إلى الشروط التي وضعت لتشخيص هذه الوفاة نجدها أنها مختلفة عن الشروط التي تكلمنا فيها هذا المساء والتي بدأنا نمشي فيها من السنة الماضية في الأردن وتبنتها كثير من البلاد العربية. المهم في الموضوع هو صرامة شروط التشخيص في الشيء الذي ذكرته في الكويت هم كانوا متبعين الطريقة الإنجليزية، الطريقة الإنجليزية تقول: إن أي طبيب حتى ممرضة ممكن أن تقوم بهذا الشيء، نحن هنا نركز أنه يجب هنالك ثلاثة اختصاصيين من ذوي المعرفة في هذا الموضوع، ويجب أن يراقب كل واحد منهم عمل الآخر، وكذلك يحدث هذا التشخيص على حالات معينة وليس على جميع الحالات.
الشيخ مصطفى الرزقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم ...
إخواني أنا كنت في ندوة تلفزيون هنا في الأردن مع بعض الأطباء، اشتركت طرحت نقطتين وأحب الآن أن أطرحهما لأن الواقع يتوقف عليهما الحكم في الموضوع بين قضية الوفاة الشرعية والوفاة الطبية.(3/321)
أولًا: أريد أن أسأل يا ترى هل من الممكن حتى بالنظر الطبي أن يفرق ما بين حكم الميت أن يكون الشخص في حكم الميت أو أن يقول: إنه قد مات ليس دماغه مات شخص وأنا أريد أن نميز أن نقول: مات دماغه أو مات هو، فهل ممكن أن نقول: إن حالة موت الدماغ بالتعريف الطبي؟ وهذا لا ننازع الأطباء فيه لما يقولون موت الدماغ، وبمعنى أنه الدماغ أصبح قطعة معطلة لا رجعة فيها أبدًا ولا سبيل إلى أن يستمر هذا الإنسان في الحياة طويلًا. فهذا موت الدماغ الذي وصفتموه. ألا يمكن أن نقول عنده يجعل الشخص في حكم الميت، ولكنه ما دام قلبه ينبض ولو بالأجهزة ونفسه صاعد نازل فإنه لا نقول عنه ميت، بل نقول: إنه في حكم الميت، بمعنى أنه صار موته وبقاؤه سيان، هل يمكن هذا من الوجهة الطبية أو لا يمكن؟ هذا سؤال.
السؤال الثاني: وهو ما يتعلق الآن مما أثير وأجاب الأخ الكريم الدكتور البار.. هل يمكن أن نقول خرج الروح يعني نحن لا نشك في النظر الشرعي عندنا الموت هو خروج الروح لكن الروح لا نراه، فمتى يحكم بأن الخروج قد خرج؟ هذا يا ترى لا شك أجاب الدكتور هناك علامات يعني تلك العلامات التي ذكرتموها لا حاجة لإعادتها فهذه العلامات كلها طبقت فوجدت أن تدل دلالة إيجابية بمعنى أنها تدل على وفاة وانعدام خصائص الشخص.
تقولون: إنه يحكم بخروج روحه لأننا لا نراها، ألا يمكن أن نقول: إن هذه العلامات لا تكفي للحكم بخروج الروح الذي هو معنى الوفاة الشرعية، وهي التي أراد أساتذتنا أن يمسوها الموت عند الفقهاء، فهذا المعنى الذي هو ثابت شرعًا، أن الموت موت الشخص هو خروج روحه، أفلا يمكن أن نقول هذه العلامات لا تكفي للحكم بأنه خرج روحه ما دام نبضه شغال، قلبه دورته الدموية شغالة، نفسه ورئتاه شغالة ولو بالأجهزة. وإنما هناك علامة أخرى أنا كنت طرحتها في الندوة التلفزيونية علامة أخرى يمكن أن تكون هي العلامة الصحيحة على خروج الروح وهي ما يذكره أطباء في الطب الشرعي أحيانًا. أما علامة خروج الروح هو أن يصبح الجسم مستعدًا للتفسخ أي مستعدًا لتلقي وتقبل عوامل التفسخ التي هي المكروبات دون أن يكون عنده أي مقاومة لها تقف في وجهها لأننا نعلم أن الحي لا يتفسخ فما دام فيه حياة فيقاوم عوامل التفسخ لكن ممكن تتعطل وظائفه بالكلية ويصبح كأنه ميت لكن لا يمكن أن يتفسخ ما دام حيًا. فلا يمكن أن نقول إن الموت الحقيقي ما هو كل الدماغ، أن كلمة موت الدماغ لا أكتفي بها، أنه حتى نحكم أن الشخص قد مات بمعنى أن نقول: خرج روحه، أن نقول: آية ذلك ليست هي مسألة تعطل وظائف الدماغ أو غير ذلك وإنما هي أن يصبح هذا الجسد مستعدًا لتقبل عوامل التفسخ بلا مقاومة بمعنى أن تعمل فيه عوامل التفسخ. لا يمكن أن نقول هذا بالنظر الطبي، ثم أحب بالنسبة لمسألة حكم الميت، أنا آتي بمثال خطر لي الآن هناك حالات الشخص معدود في حكم الميت تمامًا يعني بالعادة والشهود. ومن الرأي مثلًا مرض النوم الذي يحدث في إفريقيا في بعض بلاد إفريقيا نتيجة لسعة ذبابة المعروفة (تسي تسي) ، هذا الذي أعرفه عن هذا المرض أن الشخص يصبح في غيبوبة دائمة يبقى في غيبوبة إلى أن يموت ولا يمكن أن يصحو ولا يمكن أن يمارس أو يبقى له أي وظيفة من وظائف الشخص الحي لكنه حي وقد يموت بعد فترة شهرين لا أدري المدة التي تقدر فنتيجة لسعة ذبابة (تسي تسي) ، لا يمكن أن يمارس أي وظيفة أو وظائفه الفسيولوجية كلها معطلة دماغه الخ.. ولكنه حي قطعًا، فهذا ممكن أن نقول عنه: أصبح في حكم الميت، فالذي تعطل دماغه لا يمكن أن نعده من هذا القبيل، إن هذا في حكم الميت ولكن ليس بالمعنى الشرعي ميت لأن الموت خروج الروح وأرجو أن لا تؤاخذوني لأن هذه نقاط أعتقد يتوقف عليها كثير من الأهمية في الحكم في الموضوع.(3/322)
الدكتور محمد علي البار:
الحقيقة الشيخ مصطفى الزرقاء بدأ الموضوع.. أنتم بدأتم الموضوع وصعبتوه علينا نسبيًا، لكن في الآخر سهلتوه جدًا. ذكرتم مثال موضوع "تسي تسي" ومرض النوم واعتبرتوه في حكم الميت، هذا الواقع ليس أبدًا إطلاقًا هو حي لأنه لا يزال يتنفس. يتحرك، التنفس يكفي، في الوقت الحاضر والدتي هي في المستشفى ولها عشرة أسابيع مغمى عليها إغماء تامًا، لا تسمع لا تبصر، لا تتكلم لا تحس أي شيء، وهي تتنفس تنفسًا طبيعيًا وتتغذى بأنبوب، ويخرج منها الإفرازات بأنبوب آخر، لكن بدون أي أجهزة إطلاقًا هذه ما دخلت أصلًا في موضوع موت الدماغ إطلاقًا. هي ما تزال حية بكل المقاييس لأنها لا تزال تتنفس، قلبها ينبض طبيعيًا بدون أي جهاز إطلاقًا. فمثل هذا الشخص الذي ذكرتوه هو ليس في حكم الميت بالنسبة لنا هو حي تمامًا ولا يدخل في حكم الميت إطلاقًا.
إذا مات الإنسان دماغه فمعناه أن تنفسه أيضًا توقف متى يلتقي بسرعة الطب والفقه في هذه النقطة إذا نزعنا هذا الجهاز وأصدرنا شهادة الوفاة أنه ميت نزعنا الجهاز في تلك اللحظة على التو يدخل تعريفك مباشرة لأن تنفسه متوقف وقلبه متوقف على التو، وتبدأ التغيرات الرمية التي ابتدأت تذكرها لو تركناه ستحدث، لكن الذي يمنعنا من إتمام هذا فيه بعض الحالات النادرة التي يراد منها نقل الأعضاء إذا تركنا التغييرات الرمية تحدث التغييرات هذه فإن الأعضاء تصبح غير ذات جدوى في هذه الحالات فقط محدود حتى جزء من جزء، يعني جزءًا من حالات موت الدماغ، ليس كل حالات موت الدماغ تصلح لنقل الأعضاء ويمكن أهله غير متبرعين والشخص غير متبرع بذلك وفيه عوائق كثيرة، هذا ينزع الجهاز فيتوقف التنفس ويتوقف القلب وكل علامات الموت السابقة والقديمة واللاحقة والجديدة متوفرة فيه.
الشيخ مصطفى الرزقاء:
إلى أن نصل إلى هذه النقطة هل نحن إذا رفعنا الجهاز مات قطعًا؟ ولكن قبل أن نرفع الجهاز هل يمكن وقلبه ينبض وتجري الدورة الدموية فيه ونفسه شغال أن نقول عنه قد مات؟ هذه واحدة.(3/323)
ثانيًا: لو أردنا أخذ الأعضاء، لكن بدلًا أن نأخذها والجهاز مركب عليه وقلبه ينبض ونفسه يشتغل إذا أردنا أن نرفع الجهاز هل يمكن أخذ الأعضاء المطلوبة فورًا بعد أن يعتبر برفع الجهاز قد مات هو فعلًا، لا أن دماغاه قد مات وهذا الواقع ويقف القلب وتقف الرئة الخ.. هل يمكن أن يستفاد من الأعضاء في تلك اللحظة أن تؤخذ أو يجب أن تؤخذ والأجهزة شغالة وقلبه ينبض؟ هنا بيت القصيد، ويترتب عليه نتائج محسوسة تمامًا. هذا سؤال حساس يعني.
الدكتور أشرف الكردي:
يا سيدي نحن لا نعتبر الإنسان الذي يتوقف دماغه توقفًا نهائيًا أنه ميت إلا إذا أثبتنا أن تنفسه قد توقف، فهذا قد توقف وتوقف تلقائيًا ولا رجعة فيه.
الشيخ مصطفى الرزقاء:
يعني يتوقف مع الأجهزة القائمة.
الدكتور أشرف الكردي:
لا.. هذا لإثبات أنه متوفى يجب أن نعمل هذا الفحص ونثبت أن التنفس قد توقف توقفا نهائيا ويجب إعادة هذا الفحص أكثر من مرة للتأكد من أن التنفس قد توقف بشكل نهائي إن فائدة الجهاز لا يمثل علاجًا لهذا المريض.
الشيخ مصطفى الرزقاء:
لا يمثل علاجًا؟
الدكتور أشرف الكردي:
أبدًا لا يمثل علاجًا لأن هذا يعتبر في عداد الأموات.
الشيخ مصطفى الرزقاء:
لا يمثل علاجًا ولكن ما دام هذا الجهاز يجعل القلب نابضًا والتنفس مستمرًا وإن لم يكن يشكل علاجًا لكن هل يمكن أن يقال: إن الشخص مات، إلا أن يكون دماغه قد توقف؟
الدكتور أشرف الكردي:
نعم نعم.. نحن نعتبر أن الإنسان الذي مات دماغه موتًا نهائيًا يعتبر ميتًا.
الشيخ مصطفى الرزقاء:
اعتبر ...
الدكتور أشرف الكردي:
لا إنه ميت، مثله الشخص الذي توقف قلبه وتنفسه مع بعض.
الشيخ مصطفى الرزقاء:
كيف يموت وقلبه ينبض؟(3/324)
الدكتور أشرف الكردي:
قلبه ينبض اصطناعيًا.
الشيخ مصطفى الرزقاء:
السؤال الذي سألته ما أخذت جوابه، لو فرضنا رفعنا الجهاز ووقف القلب والتنفس فعلًا لأنه الواقع لا يشتغلان بغير هذا الجهازهل يمكن يستفاد من الأعضاء فورًا؟
الدكتور أشرف الكردي:
لا يمكن.
الشيخ مصطفى الرزقاء:
لا يمكن إلا أن تؤخذ والقلب شغال.
الدكتور أشرف الكردي:
نعم!
الدكتور محمد علي البار:
توضيح زيادة.. الحقيقة بتعتمد على الأعضاء يعني إذا أردت القلب لا يمكن تستفيد منه إذا أردت العظام ممكن تجلس 24 ساعة. يختلف على نوعية العضو الذي تريده. القرنية ممكن تجلس بضع ساعات لكن القلب لا يمكن، فيعتمد على العضو المقصود به نقل الأعضاء.
الشيخ مصطفى الرزقاء:
يعني ما سوى القلب يمكن إلى فترة ما.
الدكتور محمد علي البار:
فترة محدودة جدًا. يعني تختلف من عضو إلى آخر.
الشيخ مصطفى الرزقاء:
يعني إذن ممكن أن يستفاد منها بعد رفع الجهاز.
الدكتور محمد علي البار:
نعم بعض الأعضاء لكن القلب لا يمكن.(3/325)
الشيخ إبراهيم الغويل:
بسم الله الرحمن الرحيم ...
الحقيقة، يبدو لي أن الموضوع واضح وفقًا حتى للقرآن الكريم، فربنا هو الذي يتوفى الأنفس حين موتها. إذن العملية واضحة مع عملية التنفس ووقف التنفس التلقائي، وليس الاصطناعي، هي الحاسمة في قضية الوفاة حين الموت يكون ذلك موتًا حقيقيًا عندما تتوفى الأنفس، انتهت، كذلك وهذا الأمر أيضًا هو السر في قضية نفخ الروح القضية متصلة بالتنفس في بعث الحياة، وفي الموت كلمة الروح يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أن الطير تروح خماصًا وتغدو بطانًا)) فدائمًا عملية النفخ هو عبارة عن التنفس، النفس حينما تخرج والروح هي عبارة عن التنفس وهو داخل فبعث الحياة وانتهاؤها يتصل بعملية التنفس التلقائي بالنسبة للإنسان، هكذا يبدو لي. والله أعلم.
الشيخ عبد السلام العبَّادي:
الواقع النقاش الأخير الذي تم وضح الصورة إلى حد كبير، يعني نستطيع أن نقول، وأطلب من الإخوة الأطباء أن يصححوا ذلك: إن موت الدماغ يعني توقفًا فوريًا للتنفس ولحركة القلب لكن كل ما في الأمر أننا نبقي هذه الحركة الظاهرية في الدورة الدموية وفي التنفس بأجهزة، وهذه الأجهزة تبقى حركة ظاهرية يعني لا تعطي حياة لا، أسس عملية التنفس قد انتهى بموت الدماغ. فالتنفس حقيقة الذي أمامنا ليس تنفسًا حقيقيًا والدورة الدموية ليست دورة دموية حقيقية. هل هذا صحيح؟ فإذا كان صحيحًا يكون التعريف الشرعي للوفاة والتعريف الطبي للوفاة واحدًا، كل ما في الأمر أن التقدم العلمي مكننا من أن نحرك القلب حركة ظاهرية ونعمل نفسًا ظاهريًا.
الدكتور محمد علي البار:
صحيح.
الشيخ عبد السلام العبادي:
هذا يقودنا بعد أن تبلور هذا إلى نقطة أخرى. ما مدى احتمال الخطأ في التشخيص على ضوء الشروط التي وضعتها الخصائص الأردنية أو المزايا الأردنية ما مدى احتمال الخطأ في التشخيص؟ هذا سؤال.(3/326)
ثم ما مدى فيما إذا صدر قرار بأن موت الدماغ يعتبر موتًا للجسم وأن الأجهزة لا تقدم ولا تؤخر كل ما في الأمر هي لمنافع أخرى ولمصالح أخرى الذي منها موضوع زرع الأعضاء ونقلها؟ ما مدى الالتزام بالشروط التي وضعت والتي تفضلتم وأشرتم في قضية الثلاثة أطباء وقضية الفحص المكرر في موضوع وقف التنفس إلخ الخ؟. ما مدى الالتزام بالشروط فيما إذا صدرت فتوى شرعية تقول: إن موت الدماغ يعتبر هو الموت الحقيقي. هل سيلتزم بهذه الشروط؟
أنتم تفضلتم أن هناك مدارس وأن بعض تلك المدارس تحكم بوفاة حالات وفق الطريقة المقررة والتي أشار إليها الدكتور أشرف لا يحكم بوفاته إذن فما مدى الالتزام بالشروط؟ قد تعود في النهاية المدارس الأخرى وليس هذه المدرسة التي فيها تحوط كبير خاصة أن هنالك قضية ملحة وقضية الاستعجال بالاستفادة من الأعضاء يعني قد يدفع إلى عملية التراخي في تطبيق هذه الشروط والالتزام بها الرغبة في الاستفادة من الأعضاء وبخاصة الأعضاء التي لا يمكن الاستفادة منها إلا وأجهزة الإنعاش موجودة على جسم الإنسان الذي حكمنا نحن بموته دماغيًا. وشكرًا.
الدكتور أشرف الكردي:
يا سيدي مدى الالتزام بهذه الشروط الحقيقة هذه الورقة قدمت في المؤتمر العربي للتخدير والإنعاش في أكتوبر 85 وحضر المؤتمر العديد من الدول العربية، ونوقشت هذه الورقة بإسهاب. وفي النهاية تقرر تبنيها من الدول العربية والأخذ فيها على حسب الشروط الصارمة التي وضعت فيها. وكذلك ظهرت توصية أخرى على أن تعرض كل دولة هذا الموضوع على مجلس الفقه الموجود في بلدها لأخذ الرأي في هذا الموضوع لأنه كما ذكرت سابقًا أن هذا مهم جدًا بالنسبة إلى عامة الناس.
بالنسبة إلى الخطأ في التشخيص الحقيقة لما نقول: إن نحن ذكرنا ثلاثة أطباء وثلاثة أطباء اختصاصيين ولهم خبرة في هذا الموضوع ويجب أن يكونوا هم موجودين وأن توقيعهم موجود فمجال الخطأ غير وارد. ولحد الآن ما ظهر عندنا أي شيء ونحن حريصون جدًا أن لا يكون أي خطأ لأن أي خطأ في هذا الموضوع سيكون دمارًا بالنسبة لهذا الموضوع ككل.(3/327)
الشيخ المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أريد أن أتوجه بسؤال إلى السادة الأطباء. هذا السؤال هو أنه أن موت الدماغ عبارة عن عدم قبول الدماغ للتغذية هل هذا صحيح أو لا؟
الدكتور أشرف الكردي:
هذا جزء منه يا سيدي.
الشيخ المختار السلامي:
بمعنى أنه يمكن أن يموت الدماغ، بمعنى أن قبول التغذية وعدم قبولها لا يعتبر دليلًا على الموت.
الدكتور أشرف الكردي:
لا يا سيدي هذا جزء منه، عدم قبول التغذية وعدم مرور الدورة الدموية التي فيها التغذية وفيها الأوكسجين هذا شرط رئيسي من شروط وفاة الدماغ أو موت الدماغ.
الشيخ المختار السلامي:
إذا مات الدماغ وأصبح غير قابل للتغذية وتوفرت جميع الشروط فما هو الزمن اللازم لتدمير الدماغ لان لا يبقى كبقية الأعضاء، هو يتحلل يتفسخ، بعد كم زمن يتفسخ؟
الدكتور أشرف الكردي:
الحقيقة العلمية أنه إذا توقفت الدورة الدموية عن الدماغ لفترة تتراوح بين 4 دقائق إلى 6 دقائق وحتى في بعض الأحيان تؤخذ إلى 8 دقائق يعتبر أن الدماغ يبدأ في التهتك، فنحن الفترة التي أبقيناها أقل فترة ممكنة هي أربع ساعات وليست دقائق، وهذه الأربع ساعات تنطبق على إنسان دماغه تقريبًا ليس تهتك داخلا بل تهتك خارجًا يعني طلع دماغه خارج الجمجمة.
الشيخ المختار السلامي:
بحيث يصبح الدماغ متحللًا تحللًا كاملًا بعد أربع ساعات.
الدكتور أشرف الكردي:
نعم يا سيدي.
الشيخ المختار السلامي:
الدماغ في ذاته. لأن الذي أعرفه من الأطباء هو أنه إذا مات الدماغ فإن الدماغ ليس كبقية الأعضاء عنده خصائص من خلاياه، عنده خصائص في كل شيء، هو شيء آخر بالنسبة للإنسان فإذا مات الدماغ أسرع إليه التحلل بعد أربع دقائق يبدأ في التحلل وإذا كان أبقيناه أربع ساعات معناه أصبح ماء.
فلذلك الذي يقع بالنسبة إليكم أنكم لا تأخذون الأعضاء إلا بعد أربع ساعات من موت الدماغ.
الدكتور أشرف الكردي:
هذا صحيح يا سيدي.. والذي ثبت في كثير من الحالات التي نعمل لها تشخيص موت الدماغ وتوقفت الأجهزة عنها، وعمل لها تشريح فورا بعد توقيف الأجهزة وجدوا أن قطعة من خلايا الدماغ موجودة في أسفل النخاع الشوكي مما يثبت الكلام الذي أنت تفضلت فيه أن الدماغ يبتدئ في التحلل بسرعة ولكن هذا الكلام لا ينطبق على بقية الأعضاء التي تحت الدماغ ما دام فيه تغذية اصطناعية لهم.
الشيخ المختار السلامي:
وإذا دمر الدماغ فلا عودة له.
الدكتور أشرف الكردي:
كلامك صحيح مائة في المائة يا سيدي..
الشيخ مصطفى الزرقاء:
سؤال.. يعني في الحالة هذه يعني إذا الأجهزة شغالة والقلب نابض والنفس مشتغل لكن الدماغ متوقف عن كل وظائفه يمكن أن يبدأ التفسخ به مع بقاء النبض شغال.
الدكتور أشرف الكردي:
نعم. نعم. نعم.(3/328)
الدكتور محمد علي البار:
في الواقع، أجري الفحص على أكثر من ألف حالة، ووجد أن الدماغ أحيانًا صار فيها مثل الماء تحلل تمامًا وخاصة في الحالات التي بقي فيها أيامًا طويلة والقلب لا يزال ينبض، وبعد هذه الأيام والقلب لا يزال ينبض والتنفس ساريًا ثم فحص الدماغ فوجد الدماغ خلاص منتهيًا تمامًا قد تحلل تحللًا نهائيًا، كالماء أصبح متحللًا تمامًا تحللًا والحقيقة يبدأ التحلل بعد دقائق رغم أن النبض شغال بالأجهزة ولهذا نقول: إنه ثبت بعد ألف حالة شرحت وجد هذا الكلام أن كلها متحللة تحللًا نهائيًا وتفسخًا تامًا.
الرئيس:
أصحاب الفضيلة في الواقع إننا نشكر الأطباء الموجودين وندعو لنا ولهم بالتوفيق والهداية وأن ينفع الجميع بما علمنا.
في الواقع نرجو أن يكون حصل تصور للموضوع من جوانب مهمة التي يمكن هي صالحة أن تكون منطلقًا لما يمكن تقديره والتوصل إليه من الوجهة الشرعية. ونظرًا لأن سعادة الطبيب البار سيسافر في الغد إن شاء الله تعالى وسعادة الطبيب أشرف كذلك مرتبط بأشغال ومواعيد فقد ترون مناسبًا , وإن كان فيه نوع من المشقة لكن يستحسن أن تؤلف لجنة بعد الاستراحة الليلة هذه، إن شاء الله تعالى، يجتمعون مع الطبيبين الكريمين ومن الشيخ مصطفى الزرقاء والشيخ السلامي وإذا أردتم أن أنضم إليكم كمرافق فلا مانع لدي. وما يتوصل إليه هو يمكن إن شاء اله تعالى يكون كمشروع يعرض في الغد أو بعد الغد.
إذن تمت الموافقة وبهذا ترفع الجلسة وصلى الله على نبينا وعلى آله وصبحه.(3/329)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
القرار رقم (5) د 3/ 07/ 86
بشأن " أجهزة الإنعاش "
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986م.
بعد التداول في سائر النواحي التي أثيرت حول موضوع " أجهزة الإنعاش " واستماعه إلى شرح مستفيض من الأطباء المختصين.
قرر ما يلي:
يعتبر شرعًا أن الشخص قد مات وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعًا للوفاة عند ذلك إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين:
1- إذا توقف قلبه وتنفسه توقفا تامًا وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه.
2- إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلًا نهائيًا، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه. وأخذ دماغه في التحلل،
وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلًا لا يزال يعمل آليًا بفعل الأجهزة المركبة.
والله أعلم(3/330)
بحث
لفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
حكم إثبات أول الشهر القمري وتوحيد الرؤية
فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد/ فإن المجمع رأى في دورته الثانية المنعقدة في مدينة جدة عام 1405هـ بحث مسألتين تتعلقان بأول الشهر القمري:
المسألة الأولى: في حكم إثباته بالحساب.
المسألة الثانية: في حكم توحيد الرؤية.
وقد أدرت البحث في المسألة الأولى على ما يلي:
المبحث الأول: في سياق النصوص.
المبحث الثاني: في فقهها.
المبحث الثالث: إجماع المسلمين على موجبها.
المبحث الرابع: تفنيد الخلاف الحادث في هذه المسألة.
المبحث الخامس: أدلة الخلاف الحادث.
المبحث السادس: في نقضها.
المبحث السابع: في ظنية الحساب.
المبحث الثامن: في منابذته للشرع.
فإلى بيانها:
المبحث الأول: في سياق النصوص
قال الله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}
وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .(3/331)
وشهود الشهر يكون بعد إهلاله كما في الآية الأولى. وقد علم أن ما ثبت من المؤقتات بشرع أو شرط فالهلال ميقات له كالصيام والحج، والإيلاء، والعدة، ونحوها وإنما خص الحج بالذكر متميزًا له، ولأنه علامة الحول كما أن الهلال علامة الشهر.
وقال تعالى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} .
فالشهور معدودة اثنا عشر شهرًا، والشهر هلالي بالاضطرار. فالسنة عددية اثنا عشر شهرًا، والشهر طبيعي معلق برؤية الهلال. وأصح المعلومات ما شوهد بالأبصار ولهذا سمي الهلال هلالًا لظهوره وبيانه. والشهر القمري يكون تارة (30) يوما، وتارة (29) يومًا كما في النصوص النبوية الآتية. وعليه فالسنة القمرية (354) يومًا وبعض يوم خمس أو سدس. وإنما يقال إنها (360) يومًا جبرًا للكسر على عادة العرب في جبر الكسور كما جعل الشرع: اليوم طبيعيًا من طلوع الشمس إلى غروبها، وجعل الأسبوع عدديًا بسير الشمس.
هذا وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم الطريق الذي يعرف به الإهلال للشهر في جملة أحاديث حكى فيها التواتر واردة عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم: أبو هريرة، وابن عباس، وابن عمر وحذيفة، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وجابر، والبراء بن عازب، ورافع بن خديج، وطلق بن علي، وأبو بكرة، وسمرة، وعدي بن حاتم وعن رجال من الصحابة، وعن عطاء مرسلًا رضي الله عنهم أجمعين.
وحديثا ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما، وحديث ابن عباس في صحيح مسلم، وهو وحديث حذيفة في سنن أبي داود والنسائي وغيرهما، وبقية أحاديث الجماعة والمذكورين رضي الله عنهم: خارج الكتب الستة كالموطأ، ومسندي أحمد والشافعي وغيرهما.
وقد خرج أحاديثهم بألفاظها، وبيان من أخرجها:
ابن الأثير في: جامع الأصول 6/ 265 – 271.
والمتقي في: كنز العمال 8/ 485 – 493.
والألباني في: إرواء الغليل 4/ 2 – 14.(3/332)
وغيرهم من أصحاب الكتب الجوامع. وهذه جميعها من قوله صلى الله عليه وسلم، وثبت من حديث عائشة رضي الله عنها من هديه الفعلي صلى الله عليه وسلم.
وهذا بيان ألفاظ روايات حديث: أبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، وبقية أحاديث الآخرين ترجع إليهم:
1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يومًا)) ، رواه الشيخان والنسائي.
وفي لفظ: قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم فأكملوا العدة)) .
وفي لفظ: ((فإن غمي عليكم فأكملوا ثلاثين)) .
وفي لفظ عند النسائي: ((فاقدروا له ثلاثين)) .
وفي لفظ عنده أيضًا: ((فاقدروا له)) .
وفي لفظ عنده أيضًا: ((الشهر تسع وعشرون. ويكون ثلاثين، فإذا رأيتموه فصوموا. وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأكملوا العدة)) .
2- حديث ابن عمر رضي الله عنهما:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له)) .
وفي لفظ مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: ((الشهر هكذا وهكذا وهكذا، ثم عقد إبهامه في الثالثة، فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين)) .
وفي لفظ: ((فاقدروا له)) .
3- حديث ابن عباس رضي الله عنهما:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) . رواه مالك، وأبو داود والترمذي والنسائي.(3/333)
وفي رواية للنسائي أن ابن عباس قال: عجبت ممن يتقدم الشهر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) .
وفي لفظ ((صوموا لرؤيته)) . الحديث.
وفي لفظ ((لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته)) .. الحديث.
وفي لفظ لأبي داود: ((لا تقدموا الشهر بصيام يوم أو يومين ... ولا تصوموا حتى تروه، ثم صوموا حتى تروه)) .. الحديث.
4- أما هديه الفعلي صلى الله عليه وسلم ففي حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لم يتحفظ لغيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يومًا ثم صام)) أخرجه أبو داود.
المبحث الثاني: في فقه هذه النصوص.
فهذه النصوص الصحيحة تدل دلالة صريحة على أصول شرعية في أحكام الشهور وإثبات أوائلها على ما يلي:
الأصل الأول: أن الشرع جعل علامة أول الشهر: الهلال لا غير، وأن ليس لأول الشهر حد عام ظاهر سواه.
الثاني: أن جنس الشهر القمري الشرعي منحصر أقله في (29) يومًا، وأكثره في (30) يومًا، وأنه لا يشرع الصوم بحال حتى يمضي (29) يومًا من شعبان ولا بد أن يصام في رمضان (29) يومًا لا يصام أقل منها بحال.
الثالث: أن أول الشهر لا يعتبر إلا بيقين، وهذا مطرد من قاعدة الشريعة في العبادات المؤقتة: أنه لا يصح وقوعها إلا في وقتها بيقين تام، ولهذا ربط الله أسبابها بعلامات يقينية لا مدخل للعباد فيها بل هي سنن كونية ثابتة يستوي في معرفتها عموم الخلق: علماء، وعامة، حاضرة، وبادية، وهذا من أجل أسباب اليسر ورفع الحرج في الشريعة.
الرابع: أن الشرع علق الأحكام التعبدية الشهرية على الأهلة بطريقي اليقين: الرؤية أو: الإكمال، وذلك:
1- لسهولته، ويسر يقينيته.
2- ولأنه لا يدخله الخطأ.
3- ولأن كل نظام سواه الأصل فيه خطأ، كالحساب فإنه مع عسره وندرة العارف به يدخله الخطأ كثيرًا كما سيأتي.(3/334)
الخامس: أن اليقين في ذلك يتحقق بأمر محسوس: حقيقية أو حكمًا، حقيقة محسوسة بالإهلاك، وفي حكم المحسوسة بالإكمال أي:
2- الإكمال لشعبان - مثلًا – ثلاثين يومًا في حال تعذر الرؤية لغيم ونحوه، وهذا محسوس حكمًا يقيني في واقع الحال، لعصمة التشريع بخبرة الصادق والذي هو من سنن الله الكونية: أن الشهر القمري لا ينقص عن (29) يومًا ولا يزيد عن (30) يومًا.
فالشرع أناط الحكم بأول الشهر بوجود الهلال حقيقة لا بوجوده تقديرًا، وأن وجوده حقيقة بالرؤية البصرية بالإهلال، أو بالإكمال، وأنه بأمر لا مدخل للعباد فيه بل هو سنة كونية ثابتة. وصاحب الشرع أشعر بحصر السبب فيهما ولم ينصب سببًا سواهما.
ووجه التيقن بالإكمال أيضًا هو: استصحاب الأصل، إذ الأصل بقاء الشهر وكماله فلا يترك هذا الأصل إلا ليقين بناء على أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بمثله. قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: في الاستدلال من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: "اعلم أن الأحكام لا تجب إلا بيقين لا شك فيه، وهذا أصل عظيم من الفقه، أن لا يدع الإنسان ما هو عليه من الحال المتيقنة إلا بيقين من انتقالها، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يومًا)) يقتضي استكمال شعبان قبل الصيام، واستكمال رمضان أيضًا.. اهـ.
السادس: أن الأحاديث دلت بمجموعها على انحصار الوصول إلى اليقين المذكور بأحد الطريقين. فالصيام حكم سببه: الرؤية للهلال أو الإكمال.
فمنها ما يفيد بمنطوقه وجوب الصوم والفطر بعد الرؤية أو الإكمال كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) .
ومنها: ما يفيد بمنطوقه تحريم الصوم والفطر قبل الرؤية والإكمال كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين))(3/335)
وأنه ليس في شيء من الأحاديث إناطة الحكم الشرعي بالحساب الفلكي. وتسمية الشهر به: شهرًا، بل تعليقه الحكم بأمر يقيني من رؤية أو إكمال يدل دلالة واضحة على نفي إناطة الحكم بأي سبب آخر، ففي هذا فطم عن الاعتماد على الحساب في هذا الحكم.
السابع: أن ترائي الهلال مشروع لهذه الأمة لضبط مواسم تعبدها فإن كانت العبادة واجبة كصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام، كان الترائي واجبًا كفائيًا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وإن كانت مسنونة كان الترائي مسنونًا؛ إذ الوسائل لها أحكام الغايات، فإن تمت الرؤية وإلا فالمصير إلى الإكمال، والحمد لله على اليسر ورفع الحرج.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: (وفيه –أي حديث ابن عباس - أن الله مقيد عباده في الصوم برؤية الهلال لرمضان، أو باستكمال شعبان ثلاثين يومًا، وفيه تأويل لقول الله عز وجل {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أن شهوده ورؤيته أو العلم برؤيته) اهـ.
المبحث الثالث:
إجماع المسلمين على موجب هذه النصوص.
موجب هذه الأحاديث أن التكليف يتبع العلم، وقد علقه الشارع بأمر محسوس يستوي فيه عموم البشر، ونهي الأمة عن الصوم إلا بأحد هذين الطريقين. فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال..)) الحديث. وهذا من باب عموم النفي لا من باب نفي العموم، أي: لا يصوم أحد حتى يرى، أو حتى يعلم أنه رؤي أو ثبت شرعًا أنه رؤي. فإذا انتفت الرؤية البصرية انتفى العلم بالإهلال، وإذا انتفى العلم به بحاسة البصر فقد جعل الشرع المصير إلى تعليق الحكم بمناط آخر يستوي فيه عموم البشر وهو إكمال شعبان مثلًا ثلاثين يومًا. ولا يعلم في شيء من النصوص تعليق المناط بغير هذين. وهذا –والله أعلم- لأن ما سواهما، إما فاسد أو مظنون، أو فيه من التكلف والحرج والعناء، وصرف الحياة إلى ما لا نفع من ورائه بما لا تأتي بمثله الشريعة المطهرة.
وهذا التقرير هو ما عرفه المسلمون في شتى عصورهم، وما زالت عباداتهم قائمة وأمورهم راشدة. ولا يعرف في هذا خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، بل حكى شيخ الإسلام ابن تيمية اتفاقهم. وحكاه المهدي في البحر. ومذاهب الأئمة الأربعة متفقة على ذلك. قال مالك رحمه الله تعالى: إن من يصوم بالحساب لا يقتدى به، وقال ابن عرفة: لا أعرفه لمالكي. بل قد حكى الإجماع على موجبه غير واحد من أهل العلم في القديم والحديث منهم ابن المنذر في الإشراف، وسند من المالكية، والباجي، وابن رشد القرطبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن حجر، والسبكي، والعيني، وابن عابدين، والشوكاني، وصديق حسن خان في تفسيرهم لقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} الآية وملا علي قاري. وقال أحمد شاكر: "واتفقت كلمتهم أو كادت تتفق على ذلك".
ونكتفي من النقول عنهم بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية إذ حكاه في مواضع من: اقتضاء الصراط المستقيم، ومجموع الفتاوى 25/ 132، 179، 207 فقال 25/ 132:
"إنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب، أنه يرى أو لا يرى، لا يجوز، والنصوص المستفيضة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة. وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلًا، ولا خلاف حديث، إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا. وهذا القول وإن كان مقيدًا بالإغمام ومختصًا بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو، أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم" اهـ.(3/336)
المبحث الرابع: تفنيد الخلاف الحادث في هذه المسألة.
كما رأينا من فرع حكي فيه الخلاف ثم يتبين عند التحقيق عدم ثبوته عن المخالف وهذا كثير في مسائل فرعية. ومنه في الصيام: حكاية الخلاف في صوم يوم الشك حيث عزاه ابن قدامة وعنه ابن الجوزي رحمهما الله تعالى لنحو عشرة من الصحابة رضي الله عنهم، ونحوهم من التابعين، ثم بين العراقي وغيره ضعف الرواية في ذلك عن عدد مهم. وفي غير الصيام ما يروى عن جماعة كثيرين من الصحابة التابعين! أنهم خضبوا بالسواد، وقد أبان الحفاظ منهم ابن القيم في (الهدي) أن في الروايات عنهم ضعفًا وانقطاعًا وهكذا.
وفي هذه المسألة: لا يعرف فيها خلاف صحابي بل حكى إجماعهم، وقد حكى الخلاف فيها عن:
1- الشافعي.
2- وابن سريج.
3- ومطرف بن عبد الله بن الشخير.
4- ومحمد بن مقاتل.
5- وابن قتيبة.
وقد استقرأ ابن تيمية رحمه الله تعالى: أن الخلاف الحادث في الجواز مقيد بأمرين في: حال الإغمام، وللحاسب فقط لا يتعداه إلى غيره كما تقدم قريبًا.
وسيتبين من التقييد الآتي: إنه حصل الغلط في هذا الخلاف على القائل به وفي نوعه فابن سريج وابن خويز منداد غلطا في حكايتها ذلك على الشافعي وأن ابن سريج الشافعي بنى قوله على غلطة على إمامه، وأن بعض الشافعية غلط أيضًا ابن سريج في حكايته لقوله. وأن مطرف بن عبد الله لا يصح عنه، وأن محمد بن مقاتل الرازي صاحب محمد بن الحسن الشيباني ضعيف. وأن ابن قتيبة ليس من أهل هذا الفن، وأن بعض أهل العلم غلط في حكايته نوع الخلاف حيث أطلق ولم يقيد. وعليه: فتبقى حكاية الإجماع إن قبلناها قائمة، وإلا فعدم وجود المخالف في القرون المفضلة خلاف معتبر. وبيان ذلك على ما يلي:
1-الغلط على الشافعي رحمه الله تعالى: قال ابن رشد في بداية المجتهد: "حكى ابن سريج عن الشافعي أن من كان من مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر، ثم تبين له من جهة الاستدلال أن الهلال مرئي وقد غم، فإن له أن يعتقد الصوم ويجزئه" اهـ.(3/337)
وحكاه أيضًا: ابن خويز منداد المالكي عن: الشافعي كما في: التمهيد لابن عبد البر. وعند العراقي في: طرح التثريب. ولذا قال ابن تيمية: "وحكاه بعض المالكية عن الشافعي" اهـ.
تعقبه:
أفاد العلماء من الشافعية وغيرهم أن هذا غلط على الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وأن هذا لا يعرف من قوله ولا مذهبه. وأن الصحيح عنه خلافه، ومن الذين قرروا إنكار نسبته إلى الشافعي، ابن عبد البر، وابن العربي، والحافظ ابن حجر، والمطيعي في جماعة سواهم. وهؤلاء هم الذين ذكروا الخلاف وسموا القائلين به على ما يأتي، وتعقبوهم. ونص الشافعية المفيد لمذهبه على وفق ما قرره السلف وذهبوا إليه اتباعًا للنص، وهو ما في كتاب أحكام القرآن لشافعي جمع البيهقي رحمه الله تعالى، فثبت بهذا بطلان نسبة القول المذكور إلى الشافعي وغلط ابن سريج وابن خويز منداد فمع كونه رأسًا في نصرة السنة جذعًا في أعين المبتدعة فقد كان يغلط في حكاية الفقهيات كما في ترجمته من ترتيب المدارك وغيره والله أعلم.
2- الأصل في خلاف ابن سريج: أبو العباس أحمد بن سريج الشافعي من سنة 306هـ إمام الشافعية في وقته رحمه الله تعالى. رأى الأخذ بالحساب جوازًا في حق الحاسب خاصة إذا غم الشهر ولم يره الراءون.
والذي يتجلى أن ابن سريج - مع جلالته – رتب ما ذهب إليه من تفسيره لرواية ((فاقدروا له)) أي بحساب المنازل خطاب لمن خصه الله بهذا العلم- رتبه على ما حكاه غلطًا عن الشافعي رحمه الله تعالى، وعنه اشتهر القول بذلك ومع اشتهاره اختلف عليه النقلة بين الجواز والوجوب وفي الإطلاق والتقييد، والذي يصححه علماء المذهب عنه: أنه قال بالجواز وقت الإغمام خاصًا بالحاسب نفسه لا يتعداه إلى سواه، ومن سواه يبقى على الأصل في حكم الرؤية وبسطه النووي في المجموع محررًا.
وهذا الذي تحرر قولًا لابن سريج هو: عين ما حكاه هو غلطًا على الشافعي. فإذا ثبت مما تقدم قيل: إن ابن سريج رحمه الله تعالى غلط على الشافعي في ذلك فإنه إنما قال ما قال تقليدًا منه لإمام المذهب عنده، وإذ قد بطلت نسبة القول به إلى الشافعي فهذا يفرغ ما بني عليه فلم يبق ذلك قولًا لابن سريج.(3/338)
وقد أنكر العلماء من الشافعية وغيرهم على ابن سريج قوله: ومنهم ابن تيمية، كما تقدم نقله في آخر المبحث الثالث.
ثم إن العلامة تقي الدين السبكي الشافعي رحمه الله تعالى ألف رسالته: العلم المنشور في إثبات الشهور، انتصر فيها لرأي ابن سريج للجواز لا للوجوب مقيدًا" لذلك بشرطين: أن ينكشف الحساب جليًا من ماهر بالصنعة والعلم، وأن يكون الجواز في خصوص الصوم لا الفطر.
ثم ألف الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي رحمه الله تعالى رسالته باسم: إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة، وساق اختيار السبكي ولم يتعقبه.
ثم ألف الشيخ أحمد بن محمد شاكر رحمه الله تعالى رسالة باسم: أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعًا إثباتها بالحساب الفلكي؟
ثم تعقبه كل من الشيخ أبو النصر مبشر الطرازي الحسيني برسالة سماها: بحث في توحيد أوائل الشهور العربية.
كما تعقبه الشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري ببحث سماه: لو غيرك قالها يا أستاذ.
ثم رأيت لدى الشيخ إسماعيل خطابًا من الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى يعتذر فيه إلى الشيخ إسماعيل وأنه إنما نشر رسالته لإثارة البحث بين أهل العلم وإلا فليس له رأي بات في المسألة.
وكل هؤلاء الأجلة: السبكي، فالمطيعي، فأحمد شاكر رحمهم الله تعالى ينزعون من قوس واحدة من قول ابن سريج، وقد علمت مدى العمدة في رأيه مذهبيًا. وأن السبكي قرر الجواز بالشرطين المذكورين، أما الشيخ شاكر رحمه الله تعالى فقد وسع الخطو فصرح بالوجوب ص/ 15، ثم ضعف تجاسره فأبداه بحثًا ص/ 17، 29 والله أعلم.
3- مطرف بن عبد الله بن الشخير – م سنة 87 هـ رحمه الله تعالى- كان من كبار التابعين وساداتهم وقد نفى ابن عبد البر صحة الأثر عنه فقال:
"روي عن مطرف بن شخير وليس بصحيح عنه، ولو صح ما وجب اتباعه عليه لشذوذه فيه، ولمخالفة الحجة له" اهـ.
ونقله عنه ابن حجر، والعراقي وغيرهما، وقال ابن تيمية 25/ 182:
"إن هذا إن صح عنه فهي من زلات العلماء" اهـ.(3/339)
4- ابن قتيبة: العلامة المشارك عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري م سنة 376 هـ رحمه الله تعالى.
قال ابن عبد البر متعقبًا له:
"ليس هذا من شأن ابن قتيبة ولا هو ممن يعرج عليه في مثل هذا الباب" اهـ.
5- محمد بن مقاتل الرازي: صاحب محمد بن الحسن الشيباني: فهو مترجم لدى الحنفية ترجمة موجزة لا تفيد نباهته في العلم، ولم أر من نص على تاريخ وفاته، وهو مضعف في الرواية عند النقاد، قال الذهبي في المغني في ضعفاء: "محمد بن مقاتل الرازي، لا المروزي، عن وكيع، ضعيف" اهـ.
وفي الميزان قال: "حدث عن وكيع وطبقته، تكلم فيه ولم يترك" اهـ.
والنقل عنه في هذا لم يتم الوقوف على سند له ليتم الكشف عنه والحنفية ينقلون قوله لنقضه، وينقلونه ممرضًا كقول القاري في شرح النخبة ص/19: "وأما ما ذكره بعض علمائنا عن محمد بن مقاتل أنه كان يسأل المنجمين ويعتمد قولهم ... " فذكره ثم ذكر من تعقبه كالسرخسي وغيره.
المبحث الخامس: ما استدل به المتأخرون.
استدل بهم بحديثين وقياسين:
1- أن رواية ((فاقدروا له)) معناه: قدروه بحساب المنازل، وأنه خطاب لمن خصه الله بهذا لعلم وأن قوله "فأكملوا العدة" خطاب للعامة.
2- حديث: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا)) الحديث.
فالأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء معللًا بعلة منصوصة وهي: أن الأمة لا تكتب ولا تحسب، والعلة تدور مع المعلول جودًا وعدمًا، فإذا وصلت الأمة إلى حال في معرفة هذا العلم باليقين في حساب أوائل الشهور وأمكن أن يثقوا به ثقتهم بالرؤية أو أقوى صار لهم الأخذ بالحساب في إثبات أوائل الشهور.
3- ليست حقيقة الرؤية شرطًا في اللزوم لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا عمل بالحساب بإكمال العدة أو بالاجتهاد بالأمارات أن ليوم من رمضان: وجب عليه الصوم وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه.(3/340)
المبحث السادس: في نقضها:
أولًا: نقض الاستدلال بلفظ ((فاقدروا له)) .
واجب على أهل العلم جمع ألفاظ الرواة، والجمع بينها ما أمكن، ولا تحمل على التعدد إلا عند التعذر، بل قد يكون التعدد مؤثرًا في صحة الرواية كما علم من قواعد الاصطلاح عند المحدثين.
وعليه فألفاظ الرواة كما يلي:
1- فأتموا العدة ثلاثين.
2- فأتموا شعبان ثلاثين.
3- فأكملوا ثلاثين.
4- حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة.
5- فصوموا ثلاثين.
6- أحصوا عدة شعبان لرمضان.
7- فأكملوا العدة ثلاثين، عن حديث ابن عمر.
8- فأكملوا العدة ثلاثين فإنها ليست تغمى عليكم، أبو هريرة.
9- فعدوا ثلاثين، أبو هريرة، وابن عمر.
10- فأكملوا العدة، أبو هريرة.
11- فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا، أبو هريرة.
12- فصوموا ثلاثين يومًا، أبو هريرة.
13- فعدوا له ثلاثين يومًا، ابن عمر.
14- فاقدروا له ثلاثين، أبو هريرة، وابن عمر.
15- فاقدروا له، أبو هريرة، وابن عمر.
فهذه الرواية ثبتت من أحاديث الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجميعها متفقة لفظًا ومعنى، أو معنى، على إكمال وإحصاء الشهر السابق ثلاثين يومًا لعدة الشهر اللاحق عند تعذر الرؤية، ولهذا فإن أهل الاصطلاح يذكرون هذا الحديث في مبحث المتابعات بالمعنى أو باللفظ والمعنى كما في: شرح نخبة الفكر للقاري ص/ 90- 94.(3/341)
وهذا الثابت من قوله صلى الله عليه وسلم، ثابت من سنته الفعلية صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يومًا ثم صام)) ، رواه أبو داود بسند صحيح.
وجميع روايات الصحابة المذكورة رضي الله عنهم ليس فيها ((فاقدروا له)) إلا في بعض ألفاظ حديثي أبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهم، وقد تعددت ألفاظ روايتهما فجاء فيها مثل ألفاظ الجماعة سواء ففي لفظهما أيضًا ((فعدوا ثلاثين)) وبلفظ ((فأكملوا العدة ثلاثين)) عن ابن عمر، وبلفظ ((فأكملوا العدة)) عن أبي هريرة ونحوها من الروايات السابقة عنهما، ومنها الرواية عنهما بلفظ ((فاقدروا له ثلاثين)) عند مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وعند النسائي، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فاتضح أن رواية ((فاقدروا له)) هي مثل رواية ((فاقدروا له ثلاثين)) وهما بمعنى: فأتموا العدة ثلاثين، وفي التنزيل {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} أي تمامًا، وهذا هو ما فهمه أهل الحديث الذين أخرجوا الحديث، حيث يوردون الرواية المفسرة بعد المجملة كما صنع: البخاري، ومالك، وبسطه الحافظان ابن عبد البر في: التمهيد 2/ 93- 40، وابن حجر في: الفتح 4/ 120.
وعليه فإن جميع مورد الروايات واحد وإن اختلفت ألفاظها، فالإكمال، والإتمام، والإحصاء، والتقدير، والعدة، هكذا وهكذا وهكذا، جميعها بمعنى واحد، وأن الذين رووا، ((فاقدروا له)) جاء عنهما ((فاقدروا له ثلاثين يومًا)) ، وجاء عنهما أيضًا مثل ألفاظ الجماعة.
والواجب في السنن جمع شملها ونفي الاختلاف والتضارب عنها، وأن الاختلاف في اللفظ لا يحمل على الاختلاف في المعنى إلا عند تعدد المخارج وتعذر الجمع، كما عليه العمل عند المحدثين وأهل الأصول، وحرره ابن حجر في النكت كما أن من طريقتهم التي لا اختلاف فيها بينهم حمل المجمل على المفسر، فمثلًا لفظ: ((فاقدروا له)) يفسره لفظ ((فأتموا العدة ثلاثين)) إذ ليس بين المجمل والمفسر تعارض أصلًا، وهذا لائح الوضوح والبيان.(3/342)
وأن الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى قد اضطرب في هذا غاية الاضطراب من حمله تعدد المباني على تعدد المعاني في حديث واحد من رواية صحابي واحد، فهو يناقض ما ذهب إليه مع الجمهور طردًا للقاعدة المذكورة في حديث كيفية النهوض في الصلاة ما بينه في: الأجزاء الحديثية، هل يكون باعتماد على الركبتين أم الأرض؟ وفي حديث ((الفطر يوم يفطر الناس)) وأنه بمعنى الرواية الأخرى: ((الفطر يوم يفطر الإمام)) كما بسطه في رسالته: توحيد أوائل الشهور العربية ص/ 25- 28.
فسبحان من صرف بصر الأستاذ معالجته إلى هذا التأويل الذي أوصله إلى التناقض والله أعلم.
ولهذا فإن السبكي في: العلم المنشور ص/ 9 قد أنصف غاية الإنصاف إذ بين تفسير الرواية: ((فاقدروا له)) بالرواية الأخرى: ((فأكملوا العدة ثلاثين يومًا)) .
بل جاء في رواية أبي داود لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن ابن عمر كان لا يأخذ بهذا الحساب فهذا تفسير منه لرواية: ((فاقدروا له)) وأنها بمعنى الرواية الأخرى: ((فاقدروا له ثلاثين)) .
وبعد كتابة جميع ما تقدم وجدت في المستدرك للحاكم 1/ 423، والسنن الكبرى للبيهقي 4/ 204، بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى جعل الأهلة مواقيت فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له، أتموه ثلاثين)) فهذه الرواية الصحيحة صريحة في تفسير المرفوع بالمرفوع ولم أر من أشار إليها في النقض فالحمد لله على التيسير والله أعلم.
ثانيًا: نقض الاستدلال بمفهوم حديث: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) الحديث.
فقد علم في اللسان أن بساط المقال كبساط الحال له تأثير في الأحكام كما علم في مسائل من الإيمان والنذور والطلاق وغيرها، فقوله صلى الله عليه وسلم هنا: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) فقرنه بقول ((الشهر هكذا ... )) أي مرة ثلاثين ومرة 29 –فهو محض- خبر من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته: أنها لا تحتاج في أمر الهلال إلى كتاب ولا حساب، إذ هو إما (30) يومًا أو (29) يومًا، ومرد معرفته بالرؤية للهلال أو بالإكمال، كما في الأحاديث المتقدمة المشعرة بالحصر في هذين السبيلين لا بكتاب ولا بحساب، فهذا خبر منه صلى الله عليه وسلم يتضمن نهيًا عن الاعتماد على الكتاب والحساب في أمر الهلال، وفطم للأمة عن الاعتماد عليه، إذ أغناهم بنصب الرؤية أو الإكمال دليلًا على أوائل الشهور، ولهذا نظائر في النصوص الخبرية كقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) فهذا خبر يفيد صفة المسلم متضمنًا النهي عن إيذاء المسلم بلسان أو يد.(3/343)
وهذا الظاهر في خبرية النص هو الذي يتفق مع الحقائق الشرعية والدلائل النصية من الأحاديث السابقة، إذًا فيتعين إبقاء النص على ظاهره في الخبرية، ولا يصرف عنها إلى العلية إلا بدليل وصرفه يؤدي إلى تعارض النصوص كما هو بيِّن.
وهذا معنى ما قرره المحققون من أهل العلم في توجيه هذا الحديث من أنه على ظاهره لا غير من عدم الاحتياج إلى الكتاب والحساب في أمر الهلال، قرر ذلك ابن تيمية في: الفتاوى 25/ - وابن العربي في: عارضة الأحوذي، وابن حجر في: الفتح: 4/ 122، وقال: فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلًا، ويوضحه قوله في الحديث الماضي: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) ولم يقل: فسلوا أهل الحساب والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الخلاف والنزع عنهم ... " اهـ. وابن بطال قال كما في: إرشاد أهل الملة:
"وقال ابن بطال وغيره معنى الحديث: أنا لم نكلف في معرفة مواقيت صومنا ولا عباداتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة إنما ربطت عباداتنا بأعلام واضحة وأمور ظاهرة يستوي في معرفة ذلك الحساب وغيرهم" اهـ.
والسبكي كما في العلم المنشور ص/ 9 قال:
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((هكذا وهكذا وهكذا)) وإشارته تحقيق لاعتماد الأمر المحسوس الذي هو من أجلى الأمور، وفطم عن اعتماد الحساب في ذلك" اهـ.
ثالثًا: نقض الاستدلال بالقياس على المحسوس بالمطمورة.
فهذا القياس باطل من أصله لأن المقيس عليه هنا لم يثبت بنص ولا اتفاق ومن شرط القياس توفر ذلك، وهو مفقود فهو ملغى من أصله، ثم هو على التسليم مقدوح فيه بعدة قوادح قياسية منها:
فساد الاعتبار لمخالفة المقيس لصرائح النصوص المشعرة بالحصر في نصب الشارع الرؤية سببًا للحكم بأول الشهر.(3/344)
وأنه قياس مع الفارق إذ المحبوس معذور فيجب عليه الاجتهاد في دخول الوقت فإن انكشف له غلط قضى، والله أعلم.
رابعًا: نقض قياسه على إثبات أوقات الصلوات بالحساب.
فهذا القياس كسابقه باطل من أصله، لأن المقيس عليه مختلف فيه غير ثابت بنص ولا إجماع، وثبوته بنص أو اتفاق الخصمين شرط للأصل المقيس عليه، وشرط ثالث أن يكون الحكم معقول المعنى كتحريم الخمر إلا إن كان تعبديًا كأوقات الصلوات وأعداد الركعات لأن ما لا يعقل معناه لا يمكن تعديته إلى محل آخر.
وعلى التسليم فهو قياس مع الفارق، وقد بسطه القرافي في: الفروق –الفرق الثاني بعد المائة- ذلك أن المشرع أناط الصلاة بوجود العلامة لوقتها فنفس الوقت هو سبب الصلاة فمن علم السبب بأي طريق كان، لزمه حكمه فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع في أوقات الصلوات، وأما الأهلة فلم ينصب الشرع خروجها سببًا بل جعل السبب: الرؤية لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته)) ، ولم يقل لخروجه، فإن لم تكن رؤية رد إلى الإكمال الذي يباري الرؤية في الإهلال، ثم بسط وأورد ما للمعارض وأجاب عنه في بحث مطول، والله أعلم.(3/345)
المبحث السادس: في ظنية الحساب.
وذلك للأمور الآتية:
1- أن قطعية الحساب لا تقبل إلا بنتائج فاشية تفيد العلم اليقيني بصدق نتيجته واطرادها، وإخبار العدول على رسم الشرع من ذوي البصارة به بذلك، ويبسط طريقته بمحضر من أهل العلم لمعرفة مدى سلامة مقدماته شرعًا، هذا لو جعل الشرع المصير إليه.
والواقع أنه ليس لدينا دليل متوفر على هذا المنوال ليكسب إفادته اليقين إلا شهادة بعض الفلكيين لأنفسهم بأن حسابهم يقيني، والأدلة المادية الآتية تقدح في مؤدى شهادتهم، وتقوي نفي نظرائهم في الفلك من عدم إفادته اليقين كما قررته اللجنة الشرعية الفلكية بالأزهر في قراراتها المطبوعة، إضافة إلى أن الشرع لا يعتبر صدق الخبر والشهادة إلا من مبرز في العدالة الشرعية.
2- قيام دليل مادي في ساحة المعاصرة على أن الحساب أمر تقديري اجتهادي يدخله الغلط، وذلك في النتائج الحسابية التي ينشرها الحاسبون في الصحف من تعذر ولادة شهر رمضان أو شهر الفطر مثلًا ليلة كذا، ثم تثبت رؤية الهلال بشهادة شرعية معدلة، أو رؤية فاشية في ذات الليلة التي قرروا استحالته فيها.
ومنه ما حدث في هلال الفطر شهر شوال من هذا العام 1406 هـ فإن الحاسبين أعلنوا النتيجة في الصحف باستحالة رؤية هلال شوال ليلة السبت (30) من شهر رمضان، فثبت شرعًا بعشرين شاهدًا على أرض المملكة العربية السعودية في مناطق مختلفة في: عاليتها وشمالها وشرقها ورؤي في أقطار أخرى من الولايات الإسلامية.
فهذا دليل مادي حاضر مشاهد على أن النتائج الفلكية المعاصرة في هذا ظنية وضعيفة ضعفًا غالبًا، وهذا في ساعة المعاصرة التي ينادي فيها البعض إلى الاعتماد على الحساب ولا أرى هذا الدليل إلا إعلانًا على عدم صدق شهادة الفلكيين لأنفسهم بأن حسابهم قطعي.
3- ومن شواهد المعاصرة على ذلك أنا رأينا بعض البلدان الإسلامية تعلن الصوم والفطر بموجب الحساب الفلكي، والفارق بينها وبين البلدان التي تثبته بالرؤية يومان أو ثلاثة، فهل يكون في الدنيا فارق في الشهور القمرية الشرعية كهذه المدة؟ وهذا هو عين دخول الخلل في مواسم التعبد مما يقطع كل عاقل بفساده، وقد بسط ابن تيمية رحمه الله تعالى ما يدخل على المسلمين من التلاعب في شعائرهم من جنس ما يحصل من أهل الكتابين وغيرهم، إذ كانت الأحكام عندهم معلقة على الأهلة، ثم جعلوها دائرة على السنة الشمسية على اصطلاحات لهم، ومن جنس النسيء الذي كان عند العرب على ضربين:
الأول: تأخيرهم المحرم إلى صفر لحاجتهم إلى شن الغارات.
والثاني: تأخير الحج عن وقته تحريًا منهم للسنة الشمسية كما يعلم من تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} .(3/346)
4- ودليل آخر في ساعة المعاصرة وهو: التضارب الحاصل بالنتائج والتقاويم المنتشرة بحساب المعاصرين، فإنها متفاوتة مختلفة في إثبات أوائل الشهور وما زال اختلافها قائمًا في الولاية الواحدة ومن ولاية إلى أخرى، فهذا دليل على دفع يقينيته أو ظنيته الغالبة.
5- أن الطب مثلًا في العصر الراهن بلغ من الدقة والترقي ما هو مشاهد لعموم الناس، ومع هذا فيقع لذوي البصارة فيه ومن دونهم من الخطأ والغلط ما يكون ضحيته نفس معصومة أو منفعة أو عضو محترم، هذا مع أن لوازمه مدركة بالحواس العاملة فيه من سمع وبصر ولمس.. فكيف بحال الحساب الفلكي الذي ما زال عملة نادرة ولم تكن نتيجته فاشية باليقين، ولوازمه غير محسوسة، إذًا فكيف يسوغ التحول من المقطوع بدلالته بحكم الشرع إلى المظنون، ومن المتيقن إلى المشكوك في نتيجته.
6- الحساب الفلكي المعاصر قائم على الرصد بالمراصد الصناعية الحديثة، والمرصد كغيره من الآلات التي يؤثر على صلاحيته نتائجها: أي خلل فني فيها قد لا يشعر به الراصد، هذا فيه ظنية من حيث الآلة، ورحم الله الشيخ أحمد شاكر إذ تحوط في بحثه من حيث الراصد فنص على الوثاقة، والله أعلم.
المبحث السابع: في منابذته للشرع.
وذلك من وجوه:
أولًا: حقيقة الشهر عند الفلكيين هي: المدة بين اجتماع الشمس والقمر مرتين بعد الاستسرار وقبل الاستهلال، وهذه المدة مقدرة عندهم بمقدار واحد هو: (29) يومًا، و (12) ساعة، و (44) دقيقة.
وتمثل هذه المدة دورة القمر حول الأرض، أي دورته الاقترانية بالشمس بحيث يكون القمر واقعًا بين الأرض والشمس تمامًا، وعند اللحظة التي يغادر القمر فيها وضع الاقتران، أي ينفصل فيها القمر عن الدائرة الشعاعية ويستمر إلى أن يجتمع معها مرة ثانية حينئذ يبدأ الشهر القمري الفلكي، واعلم أن "الاقتران" عند الفلكيين هو ما يسمى بالمحاق عند المتقدمين، واعلم أنه في حال الاقتران، لا يرى القمر وذلك لأن نصف القمر المضيء يكون في اتجاه الشمس.
ونصفه المظلم يكون في اتجاه الأرض، ولكن عندما يتحرك القمر بعيدًا عن وضع الاقتران يتغير وضع القمر بالنسبة لسكان الأرض وتظهر حافة القمر لامعة والتي هي: قوس دقيق بشكل هلال.(3/347)
هذه هي حقيقة الشهر عند الفلكيين، وهذا مقداره عندهم.
أما حقيقته الشرعية: فهي الرؤية له عند الغروب أي أول ظهور القمر بعد السواد وهذا بالإجماع، حكاه ابن رشد وغيره.
ومقدار الشهر القمري الشرعي هو: لا يزيد عن (30) يومًا، ولا ينقص عن (29) يومًا.
وعليه فهناك فروق الاعتبارات الشرعية والاعتبارات الفلكية في عدة أمور:
1- الشهر يبتدئ عند الفلكيين قبل البدء بالاعتبار الشرعي ونتيجة لذلك فهو ينتهي قبل.
2- الشهر مقدر بوحدة زمنية ثابتة عند الفلكيين هي (29) يومًا و (12) ساعة و (44) دقيقة، أما بالاعتبار الشرعي فهو إما (30) يومًا أو (29) يومًا.
3- أن الشهر يبتدئ باعتبار الشرع بطريق (الحس) والمشاهدة بالعين الباصرة أو بالإكمال بخروج الهلال حقيقة، أما باعتبار الفلكيين فهو: بتقدير خروجه لا بخروجه فعلًا.
4- عند الفلكيين لا فرق أن يتم الاقتران والانفصال ليلًا أو نهارًا، فلو جعل الاقتران والانفصال قبيل الفجر فاليوم عندهم هو بعيد الفجر مباشرة، ولو حصل أثناء النهار فإن الشهر يبتدئ في اللحظة التالية له، أما باعتبار الشرع فالمعتبر الرؤية بعد الغروب، فلو رؤي نهارًا بعد الزوال فهو لليلة المقبلة ولا يصام ذلك النهار الذي رؤي فيه، وهذا بلا نزاع بين أهل العلم بل حكي الإجماع عليه، أما إذا رؤي نهارًا قبل الزوال فالجمهور منهم الأربعة أنه لا عبرة بذلك ويكون لليلة المقبلة، والله أعلم.
ثانيًا: دلالة النصوص النصية على أن إثبات أول الشهر بالإهلال أو الإكمال إذا لم ير الهلال وحال منظره قتام أو سحاب، فلو صار اللجوء إلى الحساب الفلكي وقرر الحاسب أن الشهر سيهل بمضي (29) يومًا لصار هذا ملغيًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكمال وقاضيًا على موجب النص.
ثالثًا: أن صاحب الشرع جعل رؤية الهلال خارجًا من شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي فلا يثبت الحكم فألجأ الشرع إلى سبب شرعي آخر هو: إكمال العدة ثلاثين يومًا التي هي أقصى مدة للشهر القمري بنص الشرع.(3/348)
أما الحساب ففيه منابذة لهذا، إذ جعل تقدير خروج القمر من الشعاع سببًا للصوم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) ولم يقل لتقدير خروجه من شعاع الشمس، فطالما أن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم أشعر بحصر السبب: الإهلال أو الإكمال ولم ينصب صاحب الشرع الحساب لخروجه سببًا فلا يجب صوم ولا فطر، وهذا معنى ما قرره القرافي في الفروق، والله أعلم.
رابعًا: أن الشرع وقَّت أول الشهر بأمر طبيعي عام يدرك بالإبصار فلا يضل أحد عن دينه، ولا يشغله مراعاته عن شيء من مصالحه، ولا يدخل بسببه فيما لا يعنيه، ولا يكون طريقًا إلى التلبيس في دين الله، ويستوي في معرفته أهل الإسلام كافة على اختلاف طبقاتهم.
وإثباته بالحساب الفلكي يفقد هذه المحاسن الشرعية كما هو بين لمن تأمله.
وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا أشد البسط في رسالته كما في: الفتاوى 25/ 134، 136، 139، 141، والله أعلم.(3/349)
الخلاصة:
المسألة الأولى:
أن طريقة إثبات أول الشهر شرعًا، بالإهلال أو الإكمال، وأن إجماع المسلمين منعقد على عدم الأخذ بالحساب في إثبات أوائل الشهور، وأن الخلاف الحاصل حادث ثم هو ليس على إطلاقه بل هو مقيد، ثم إنه وقعت في حكايته أغاليط، وأن كلمة المحققين والحفاظ على أن الخلاف الحادث في هذا شاذ تنكبه الأئمة، والله أعلم.
المسألة الثانية:
في توحيد الرؤية:
أن هذه المسألة قد استهلكت من البحوث والدراسات الفردية والجماعية وعلى المستويات الرسمية ما لو جمع لصار في عدة مجلدات، ومنها بحثها في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة لمدة تزيد عن عشرين عامًا، وهي تدرس من جلسة إلى أخرى حتى أصدرت الرابطة آخر قرار لها في المجمع الفقهي المتضمن: أنه لا شك في اختلاف المطالع، وأن المسألة من مباحث العلم الخلافية، وأن أحوال العالم الإسلامي كما هي معلومة على ما في كتاب تبيان الأدلة في إثبات الأهلة ص/ 5، 50- 52، وأن القول بعدم توحيد الرؤية هو مذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة فلكل قوم رؤيتهم والخلاف للحنابلة، واختار جماعة منهم مذهب الجمهور منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن حديث كريب مع ابن عباس رضي الله عنهم في صحيح مسلم وغيره يفيد عدم توحيد الرؤية، ولهذا قرر المجمع على أن أهل كل بلد يتبعون ما يقرره أهل الفتوى فيهم، وأن على المسلمين السعي إلى أساس توحيدهم وجمع كلمتهم في تحكيم شريعة الله وإعلان الحكم بها قولًا وعملًا.
وبمثل هذا قررت: اللجنة الشرعية الفلكية بالأزهر برئاسة شيخ الأزهر محمود شلتوت عام 1979 م، وأنه لذلك ولوجود بحوث لدى المجمع كافية في هذه المسألة اقتصرت على هذه الإلمامة، وهي خلاصة ما يظهر في هذا الموضوع، وأنه لا ينبغي التهويل والإرجاف في أن اختلاف أهل الأقطار الإسلامية في يومي الصوم والإفطار مدعاة إلى تفككهم، وأن الواجب هو الالتفات إلى توثيق الأسس من حماية الاعتقاد من أسباب الزيع والانحراف، وتحكيم الشرع المطهر بين المسلمين وتربية أجيالهم على تعاليمه، وتكثيف دراستها في المدارس النظامية.
والله المستعان وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(3/350)
بحث
لفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي
بسم الله الرحمن الرحيم
نظرات إسلامية
في
توحيد بداية الشهور القمرية
إن مسألة توحيد المواسم الإسلامية هي أمنية قديمة خامرت عقول المسلمين وقلوبهم منذ زمن بعيد، ونادوا بها كلما أحسوا بالحاجة للوحدة والتضامن وجمع الكلمة، لذلك كان من المتحتم على العلماء والعاملين في الميادين الإسلامية أن يبذلوا قصارى جهدهم لإيجاد طرق وحلول من شأنها أن توحد المسلمين في أعيادهم ومواسمهم الدينية على ضوء أحكام الشريعة الإسلامية ونصوصها والعلوم الصحيحة.
لقد سبق عقد عدة مؤتمرات إسلامية تناولت توحيد المواسم والأعياد بالدرس والتحليل وأصدرت في ذلك مقررات، ولكن يبدو أنها ما استطاعت أن تحقق الوحدة المنشودة بين الدول الإسلامية، سواء منها التي تعمل بالحساب أو التي تعتمد الرؤية.
وفي كل سنة يكثر الجدال بين المسلمين في مسألة ثبوت شهر رمضان وثبوت عيدي الفطر والأضحى، وتعلن وسائل الإعلام الإسلامية وغيرها عن موسم واحد في تواريخ متباينة.
وقد حاول كثير ممن يهتمون بالقضايا الإسلامية أن يدرجوا هذا الموضوع في المجامع العلمية والمؤتمرات العالمية علهم يظفرون بحل يزيل مظاهر اختلاف المسلمين في أعيادهم ومواسمهم الدينية.
1- المؤتمرات الإسلامية ومحاولاتها التوحيد:
حسبما أعلم فإن الجامعة العربية أوصت في 28 ديسمبر 1955/ (1375) بالدعوة لعقد اجتماع بين المختصين من علماء المسلمين لبحث اقتراح توحيد أيام الصيام والأعياد في البلاد الإسلامية بطلب من الدولة الأردنية الهاشمية.
وأنه لمن الصدف الغريبة أن تنعقد دورة "المجمع" هذه في عاصمة الدولة نفسها "عمان" وبعد واحد وثلاثين سنة ليتخذ المجمع قرارًا في الموضوع نفسه، مستجيبًا بذلك لرغبة إسلامية ملحة تقدمت بها " المملكة الأردنية الهاشمية ".
وفي تاريخ 16 مارس 1961/ (1381) أرسلت نفس الجامعة مذكرة أرفقت بها قرارات اللجنة الشرعية الفلكية التي كونها الأزهر الشريف للنظر في أمر توحيد مبدأ الشهور القمرية ومواقيت الصلاة.(3/351)
كما عقدت بتونس ندوة حضرها ثلة من رجال الاختصاص في الدين والفلك من أقطار العالم الإسلامي وذلك بتاريخ 16 أكتوبر 1963 (1383) بإشراف الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور مفتي الديار التونسية في ذلك الوقت.
وأبرز القرارات الصادرة في هذا الموضوع هي قرارات مؤتمر معهد البحوث الإسلامية بالأزهر المنعقد بجمادى الآخرة سنة (1385) وأكتوبر 1966.
وقرارات المؤتمر الإسلامي العالمي المنعقد بكوالالمبور بدولة ماليزيا في أبريل 1969/ (1389) .
وقرارات وزراء الشئون الدينية الإسلامية والأوقاف المنعقدة بالكويت في محرم (1393) /مارس 1973.
وقرارات مؤتمر اسطنبول المنعقدة في سنة (1398/ 1978) .
وكان آخر هذه القرارات:
قرارات المجلس الفقهي الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة في شهر ربيع الآخر سنة (1401) / 1981.
على أن مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر قرر أن الرؤية هي الأساس لكن لا يعتمد عليها إذا تمكنت فيها التهم تمكنًا قويًا ومن أسباب ذلك:
مخالفة الحساب الفلكي الموثوق به، فكانت الفقرة الثانية من التوصيات تنص على اعتماد الحساب الفلكي في إثبات دخول الشهر إذا لم تتحقق الرؤية ولم يتيسر الوصول إلى إتمام الشهر ثلاثين يومًا.
ومؤتمر ماليزيا ورد في توصياته أنه إذا تعذرت الرؤية لسبب من الأسباب وكان الحساب الفلكي يثبت إمكان رؤية الهلال يجوز الاعتماد على الحساب الفلكي بها.
ومؤتمر وزراء الشؤون الدينية والأوقاف المنعقد بالكويت ينص قراره الرابع على وجوب عمل تقويم قمري بمعرفة لجنة معتمدة من فقهاء الشريعة الإسلامية وعلماء الفلك تلتزم به الحكومات الإسلامية في صومها وفطرها وفي تحديد مواسمها الدينية وفي تاريخها، ولكن هذه اللجنة لم تؤسس.
أما مؤتمر اسطنبول فقد احتضن تقريبًا مقررات مؤتمر الكويت، وخطا خطوة إيجابية جديدة وهي بعث لجنة من دول إسلامية عشرة مؤلفة من فقهاء الشريعة الإسلامية وعلماء الدين لضبط التقويم الهجري الموحد سنة فسنة، وقد اجتمعت بالفعل هذه اللجنة وكنت أحد أعضائها في عدد من العواصم الإسلامية (اسطنبول – تونس – الجزائر – أنقرة) وآخر اجتماع لها كان بمكة المكرمة في المحرم سنة (1405) –آخر سنة 1955- وقد أصدرت تقاويم موحدة بداية من مؤتمر اسطنبول سنة فسنة إلى هذه السنة، واحتضنت أعمال اللجنة منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، وأذاعت كل تقاويمها وقراراتها على جميع الدول الإسلامية.
أما قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بالرابطة فإنه يصرح باعتماد الرؤية البصرية خاصة دون الحساب بأي شكل من الأشكال.(3/352)
وفي اعتقادي أن اعتماد الحساب في دخول الشهور القمرية، إذا كان ناتجًا عن دراسة علمية صحيحة فهو لا يمكن أن يخالف الرؤية الصحيحة بحال من الأحوال لأن العلم الصحيح لا يناقض المبادئ العامة التي قام عليها الإسلام، ونصوصه التي تخص الرؤية بالذكر.
كما أعتقد أن هذا المجمع الفقهي المبارك الذي يضم خيرة من علماء العالم الإسلامي جدير بأن يعمق البحث في هذا الموضوع من جديد وأن ينظر إليه من جميع جوانبه حتى يجد الحلول المناسبة التي تتفق مع المبادئ الإسلامية وتتماشى مع روحه السمحة وتوحد الأمة الإسلامية في أعيادها وبداية شهورها، وهي أُمْنِيةٌ قلنا: إنه نادى بها كثيرون منذ زمن بعيد.
2 - إنكار المتقدمين العمل بالحساب
وحججهم
فالمتمسكون بظاهر الرؤية في إثبات أوائل الشهور – ويعنون بها الرؤية البصرية - لا يعتمدون الحساب، لأنهم يعتقدون أن الحساب الفلكي ليس وسيلة قطعية، بل هو لم يصل عندهم حتى إلى مرتبة الظن، لأنه حدس وتخمين، وقد نهت الشريعة عن الخوض في "علم النجوم إذ حذر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأخذ بأحكام المنجم فقال فيما رواه أبو داود وابن ماجة: ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر)) .
وفي حديث آخر يقول: ((من أتى كاهنًا أو منجمًا فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) ... أخرجه أبو داود في كتاب الطب.
ولأجل هذا نجد كثيرًا من المتقدمين في علم الفقه ينصون صراحة على عدم اعتماد حساب المنجمين.
أولًا: لأن التفرقة عندهم لم تكن واضحة بين "التنجيم" الذي هو ليس بعلم وإنما هو تطلع إلى الغيب، وبين "علم الفلك" الذي هو من العلوم الصحيحة التي لا يختلف الناس في قواعدها العامة ولكون عالم الفلك في القديم كان المتطلع إلى معرفة الغيب، ومن هذا الخلط شك الفقهاء في الحساب الفلكي الذي كان في الغالب من المنجمين.
ثانيًا: لأن علم الفلك لم يصل في القرون الإسلامية الأولى إلى درجة من النضج ولم تضح معالمه عند الناس حتى يتمكنوا من الاعتماد عليه في هذه القضايا الدينية.(3/353)
ففي الفتاوى الهندية يقول: "وهل يرجع إلى قول أهل الخبرة العدول عمن يعرف علم النجوم؟ "الصحيح أنه لا يقبل"، ويقول في كتاب معراج الدراية: "ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه"..
وقال ابن عرفة: "لا أعلم أن مالكًا اعتبر قول المنجم".. وقال القاضي عبد الوهاب في كتابه الأشراف: "ولا عبرة بقول المنجمين في دخول وقت الصوم".
وفي الجزء الثاني من الدر المختار شرح تنوير الأبصار في باب الصوم (ص 93) : قال محمد علاء الدين الحصكفي "لا عبرة بقول الموقتين ولو كانوا عدولًا على المذهب".
وقال ابن عابدين في حاشيته رد المحتار على الدر المختار في بيان قوله: ولا عبرة بقول الموقتين، أي في وجوب الصوم على الناس، بل في المعراج: لا يعتبر قولهم بالإجماع، ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه، وفي النهر: فلا يلزم بقول الموقتين أنه أي الهلال يكون في السماء ليلة كذا، وإن كانوا عدولًا في الصحيح كما في الإيضاح، ثم قال: ووجه ما قلناه أن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية بقوله: ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا)) (الجزء الثاني صفحة 93) .
ولهذا حصر الشيخ شمس الدين بن فرج المقدسي في شرحه الكبير على المقنع ثبوت رمضان بواحد من ثلاثة أشياء فقط، وكلها ترجع إلى الرؤية البصرية (ص 4 من المجلد الثالث من كتاب المغني والشرح) فقال:
"وجملة ذلك أي صوم شهر رمضان يجب بأحد ثلاثة أشياء".
أحدها: رؤية هلال رمضان يجب بها الصوم إجماعًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) (متفق عليه) .
الثاني: كمال شعبان ثلاثين يومًا يجب به الصوم، لأنه يتقين به دخول شهر رمضان ولا نعلم فيه اختلافًا، ويستحب للناس ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ليحتاطوا لصيامهم، وليسلموا من الاختلاف، وقد روى الترمذي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أحصوا هلال شعبان لرمضان)) .
الثالث: أن يحول دون منظر ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر، يجب صيامه، في ظاهر المذهب.
ويقول ابن قدامة في كتابه المغني: "من بنى على قول المنجمين والحساب لم يصح صومه وإن كثرت إصابتهم، لأنه ليس بدليل شرعي، إنما الدليل قوله عليه الصلاة والسلام: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) .
وفي رواية ((لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه)) فأناط وجوب الصوم برؤية الهلال. وقد نقل الباجي في المنتقى، والقرطبي في الأحكام رواية عن ابن نافع عن مالك عن الإمام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته وإنما يصوم ويفطر على الحساب أنه لا يقتدى به ولا يتبع (1) .
وجاء في شرح مسلم للنووي نقلًا عن الماروزي: حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم ((فاقدروا له)) على أن المراد إكمال العدة ثلاثين كما فسر في حديث آخر، ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين، لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم، لأنه لا يعرفه إلا أفراد، والشهر إنما يعرف بما يعرفه جماهيرهم (2) .
وحجة المتمسكين بإثبات الشهور القمرية بخصوص الرؤية البصرية هي أنهم اعتمدوا جملة نصوص من السنة، واعتبروا الرؤية أمرًا تعبديًا لا يمكن العدول عنها إلى الحساب بحال من الأحوال، لأن الشريعة الإسلامية ربطت اعتماد الأهلة في كل هذه النصوص بالرؤية البصرية وهذا يؤدي إلى حتمية الرؤية وعدم جواز العمل بالحساب، واستشهدوا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له)) ، وفي رواية: ((فاقدروا له ثلاثين)) ، وفي رواية ((إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له)) وفي رواية ((إذا غم عليكم فصوموا ثلاثين يومًا)) .. وفي لفظ البخاري: ((الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) فلم يذكر صلى الله عليه وسلم علم الحساب ولا أقوال المنجمين والنصوص صريحة في اعتماد الرؤية.
__________
(1) المنتقى ج2- ص 38، والجامع ج 2 – ص 293
(2) شرح مسلم ج 7 – ص 179(3/354)
والقدر أو التقدير عندما تتعذر الرؤية البصرية لعارض من العوارض كالضباب وغيره إنما هو إكمال الشهر ثلاثين يومًا.
كما اعتبروا أن قضية الصوم والإفطار قضية دينية بحتة يجب الرجوع فيها إلى النصوص لا إلى مقتضيات العقول لأنها ليست مجالًا للاجتهاد الذي يُفضى إلى استعماله في حالة فقدان النصوص، والمعروف أن حكمها مقرر في السنة النبوية واتفاق المسلمين في الطبقة الأولى منهم، وأغلبهم فيما بعد ذلك وإلى اليوم لم يؤولوها لأن عباراتها صريحة لا تحتمل التأويل، خصوصًا وأنه لا يوجد دليل من النصوص يعارضها.
وعلى هذا الاتجاه سار العلامة ابن حجر في شرحه لحديث: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) فقال: لا نكتب ولا نحسب، تفسير لكونهم كذلك، وقيل للعرب: أميون، لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} .
ولا يرد على ذلك أنه كان فيهم من يكتب ويحسب لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة، والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضًا إلا النزر اليسير (كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري – الجزء الرابع ص 127) .
وقال في المكان نفسه: فإن تعليق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية دون الحساب يستمر ولو حدث فيما بعدهم من يعرف الحساب، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم أصلًا، ويوضحه قوله في الحديث الماضي: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) ولم يقل: فسلوا أهل الحساب.
والحكمة في ذلك أن يستوي الناس فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم.
كما ذكر العلامة ابن حجر في نفس المكان تعليق ابن بطال الذي قال في حديث: ((إنا أمة أمية)) رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل وإنما المعول رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف ولا شك أن في مراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته الطويلة حول الهلال في استدلاله على عدم جواز الاعتماد على الحساب: "أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل لمطلع الهلال حسابًا مستقيمًا بل لا يمكن أن يكون إلى رؤيته طريق مطرد إلا الرؤية، وقد سلكوا طرقًا كما سلك الألوف منهم لم يضبطوا سيره إلى التعديل الذي يتفق لحساب على أنه غير مطرد وإنما هو تقريبي" (الفتاوى – ج 25- ص 183) .
وقال في فقرة أخرى من نفس الرسالة:
"فالذي جاءت به شريعتنا أكمل الأمور، لأن ضبط وقت الشهر بأمر طبيعي ظاهر عام تدركه الأبصار، فلا يضل أحد عن دينه، ولا تشغله مراعاته عن شيء مخصص له، ولا يدخل بسببه فيما لا يعنيه، ولا يكون طريقًا إلى التلبيس في دين الله، كما يفعل بعض علماء أهل الملل بمللهم (ص 139) .
وقال في نفس الرسالة: "ما ذكرناه من أن الأحكام مثل صيام رمضان متعلقة بالأهلة لا ريب فيه، لكن الطريقة إلى معرفة طلوع الهلال هو الرؤية لا غيرها" (ص 146) .
وقال (في ص 207) : "والمعتمد على الحساب في الهلال كما أنه ضال في الشريعة، مبتدع في الدين، فإنه مخطئ في العقل وعلم الحساب فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي" ...
والذي يظهر لي أن كل هذه الحجج والتعاليل التي اعتمدها المانعون للعمل بالحساب ليست مقنعة ولا أنها في المنع.(3/355)
ذلك أن أمر المسلمين باعتماد رؤية الهلال ليس هو أمرًا تعبديًا كما يحاول أن يقول به بعضهم، بل لأسباب أخرى منها:
أولًا: أن الرؤية هي الوسيلة الممكنة في زمن البعثة لمعرفة بداية الشهور ونهايتها، لأن الكتابة كانت قليلة نادرن وأن الرصد الفلكي لم يصل إلى درجة من الوضوح والدقة حتى يصبح وسيلة لإثبات الحكم، وكثيرًا ما وصفوا حساب المنجمين بأنه حدث وتخمين.
ثانيًا: أن الأمية التي وصف بها الرسول المسلمين هي وصف عارض لهم زمن البعثة، لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة ونادرة، كما قال ابن حجر: وقد جاء الإسلام ليخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور الإسلام والمعرفة، وبذلك يزول وصف "الأمية" عنهم وقد فعل.
ومعنى هذا أن الحساب إذا وصل إلى درجة من الوضوح والدقة وأصبح علمًا من العلوم الصحيحة، وأصبحت الكتابة المنتشرة في غالب أنحاء العالم الإسلامي، فإنه يمكن الاعتماد على الحساب كالاعتماد على الرؤية.
وإذ جاز أن يكون ضعف علم الحساب والهيئة في الماضي حجة لهم على عدم الاعتداء به، فلا يجوز أن يكون حجة في العهد الحاضر على عدم اعتباره.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه يعتبر الأمية صفة للأمة الإسلامية كالوسطية لا تنفك عنها بحال فقال (في ص 162 من الجزء 25 من الفتاوى) : "فهذه الأحاديث المستفيضة المتلقاة بالقبول دلت على أمور: أحدها: أن قوله: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) هو خبر تضمن نهيًا، فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته، وهي الأمة الوسط أمية، لا تكتب ولا تحسب، ومن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة"..
ومع تقديري الكامل لعلم شيخ الإسلام ابن تيمية وسمو مداركه فإني أعتقد أن تفسيره للأمية هذا لا يقره عليه عدد كبير من علماء المسلمين وخاصة في العصر الحاضر.(3/356)
3- الحساب الفلكي هو غير التنجيم
اعتقد علماء الفلك والهيئة من جانبهم أنهم مخاطبون شرعًا للعمل يلف هذا الميدان لا سيما والقرآن نفسه رغب الناس في علم الهيئة لمعرفة حساب الشهور والسنين من منازل القمر بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} .
وقد ورد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فإذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له)) .
ويتعين أن يكون المراد من ((اقدروا)) انظروا فيه وتدبروه حتى تعرفوا الأوقات، وذاك يختلف باختلاف الناس، ولا يلزم أن يكون كل الناس عارفين بالعلامات التي تدل على الأوقات، بل يكفي أن يعرف ذاك البعض، وسبيل من لم يعرف أن يسأل من يعرف، والله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
كما حفزهم على بذل الجهد في هذا الميدان بالحديث المروي عن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب الشهر هكذا وهكذا)) ، وانكبوا انكبابًا كليًا لمعرفة كل العلوم للخروج من الأمية إلى نور العلم والمعرفة محبة في الرفعة، والله يقول: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} .
وهكذا انطلق علماء الفلك المسلمون على رصد سير الشمس والقمر منزلة منزلة حتى تمكنوا من التقدم في هذه العلوم تقدمًا واسعًا، كما تمكنوا من معرفة الأحوال التي يمكن أن يرى فيها الهلال إذا تعذرت رؤيته بالبصر حتى كانت نتائجهم لا تخالف الرؤية البصرية، بل كانت الرؤية تؤكد حسابهم وإرصادهم، مما جعل علم الهيئة يتبوأ الصدارة من بين العلوم لديهم، وهذا ما تفطن إليه كثير من الفقهاء في مختلف المذاهب الإسلامية، وجعلهم يميلون شيئًا فشيئًا إلى هذه الاكتشافات العلمية الصحيحة، ويعطون للحساب ما يستحقه من اعتبار في التشريع، إذ أصبح وسيلة من وسائل إثبات الصوم لا تقل قيمة عن الرؤية البصرية.(3/357)
ولا أظن أن أمر الشك الذي كان يحوم حول قدرة "المنجمين" على حسب الأهلية ينصب اليوم على أكاديميات البحث العلمي والتكنولوجي، مثل معهد الأرصاد بحلوان بمصر، ومعهد قانديلي باسطنبول، والمعهد الفلكي ببوزريعة بالجزائر، والمرصد الفلكي بجاغرتا بأندونيسيا وغيرها من المراصد التي تمحضت لدراسة علم الفلك، وأصبحت عنوان التقدم العلمي في العصر الحاضر.
إن هذه المعاهد اليوم تستطيع أن تحدد لحظة ميلاد القمر، وفترة مكثه بعد غروب الشمس في البلاد الإسلامية المختلفة بدقة متناهية، واحتمال الخطأ مع انضباط الحسابات في المراصد الفلكية الحديثة المختلفة أصبح من الأمور المستبعدة.
وأصبحت الدراسات التي تقدم من الفلكيين في هذا الموضوع تصور بوضوح كل الأشكال التي تمر بها عملية ظهور الهلال، وقد تقدم المرصد الفلكي بقاندلي باسطنبول بخرائط جغرافية واضحة تدل بكل دقة على بداية رؤية الهلال لكل شهر من شهور السنة، كما تبين البلدان التي يمكن فيها ظهور الهلال فوق الأرض بالساعة والدقيقة والثانية، ثم كيف تستمر عملية الرؤية طبقًا لحركة القمر حول الأرض.
وقد صرح كثير من الفلكيين بأنه يمكن الاستعانة بالأقمار الاصطناعية لتصبح عملية الرؤية تشاهد على شاشة التليفزيون من طرف كل الناس.
هذا وإن البحث الذي تقدم به علماء الفلك بجامعة الملك عبد العزيز بجدة إلى مجمعكم هذا، ليعد نموذجًا صادقًا ودراسة علمية عميقة لمحاولة التوفيق بين النصوص الشرعية وعلم الحساب الذي أصبح من العلوم الصحيحة في هذا العصر.(3/358)
4- المجيزون لعمل بالحساب
وحجبهم
إن القول بجواز الاعتماد على الحساب ابتدأ من عهد التابعين، أمثال: مطرف بن عبد الله، وابن قتيبة من المحدثين، والقاضي عبد الجبار، وابن مقاتل الرازي من أصحاب محمد بن الحسن، وأبي العباس ابن سريج والقفال، والقاضي أبي الطيب من الشافعية كما نص على ذلك القرطبي في تفسيره (ج 2 ص 293) وقال: "وقد ذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين، وابن قتيبة من اللغويين، فقالا: يعول على الحساب عند الغيم، بتقدير المنازل واعتبار حسابها، في صوم رمضان حتى إنه لو كان صحوًا لرئي، لقوله عليه السلام: ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) ، أي استدلوا عليه بمنازله، وقدروا إتمام الشهر بحسابه.
وصرح صاحب الهداية الحنفي في كتابه مختارات النوازل (1) : أن علم النجوم قسمان: أحدهما الحسابي معلنًا أنه حق، وقد نطق به الكتاب قال تعالى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي سيرهما بحساب، بل إن كثيرًا من الآيات القرآنية ترغب الناس في علم الهيئة لمعرفة حساب الشهور والسنين من منازل القمر، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
أما العلامة ابن دقيق العيد فقد قال في شرح عمدة الأحكام: "والذي أقول به أن الحساب لا يجوز أن يعتمد عليه بمفارقة القمر للشمس على ما يراه المنجمون من تقدم الشهر بالحاسب على الشهر بالرؤية بيوم أو بيومين، فإن ذلك إحداث لسبب لم يشرعه الله تعالى، وأما إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع، كالغيم مثلًا فهذا يقتضي الوجوب لوجود الحساب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية بمشروطة في اللزوم، لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بالحساب بإكمال العدد بالاجتهاد بالأمارات وجب عليه الصوم، وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه (كتاب أحكام الأحكام الجزء الثاني ص 17) .
أما الإمام ابن السبكي فقد ذهب إلى اعتماد الحساب في إثبات الأهلة ومواقيت الصلاة، بناء على أن الحساب قطعي الثبوت، نظرًا إلى ما وصل إليه علم الحساب والفلك من الدقة، والوثوق في نتائجهما، وقرر الإمام ابن السبكي: أنه لو شهدت بينة برؤية الهلال ليلة الثلاثين من الشهر، وقال الحساب بعدم إمكان الرؤية تلك الليلة عمد بقول أهل الحساب لأن الحساب قطعي والشهادة ظنية.
__________
(1) الشيخ علي بن بكر المرغيناني(3/359)
وابن السبكي يرى جواز الاعتماد على الحساب الفلكي، لا وجوبه، وربط الحكم الشرعي به، إذا كان القمر بعيدًا عن مغرب الشمس، بحيث يمكن رؤيته بصريًا لولا الغيم، وهو في هذا تابع لإمام سابق من أئمة الشافعية، وهو ابن سريج.
وقال في تعليقه على حديث ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) في كتابه العلم المنثور: "والبحث في الحديث في موضوعين: أحدهما قوله ((فاقدروا له)) قال بعض من يقول باعتماد الحساب: معناه احسبوا له، ويكون معناه: قدروه بالحساب والمنازل كما قال تعالى {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} قاله مطرف بن عبد الله من التابعين وابن قتيبة من المحدثين وابن سريج من الشافعية وابن مقاتل من أصحاب محمد بن الحسن وطائفة من المتأخرين قالوا: ولا يلزمنا مقال المارزي من أن الناس لو كلفوا بالحساب ضاق عليهم إذ لا يعرفه إلا القليل.. لأنه إنما يلزم ذلك لو كلف عامة الناس بالحساب ولم يقل بذلك أحد، بل الذي قلناه: إن الحديث في المعنى الذي اخترناه خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وقوله في الرواية الأخرى ((فأكملوا العدة ثلاثين)) خطاب للعامة.. فلا تنافي بين الروايتين، بل هما في حالتين مختلفتين يعمل بكل منهما في حال".
وقال الغزالي: "علم النجوم إذا أريد به: موت فلان وحياة فلان، وبطلوع نجم كذا يظهر موت فلان أو هلاك أمة أو ذهاب دولة، فليس يقينيًا ولا ظنيًا، فهذا القسم لا يقول به الشرع، فأما علم النجوم الذي يعرف به سير الكواكب والشمس والقمر وكذلك علم الهيئة فلن يكذبه الشرع، بل يهتدي به إلى معرفة السنين والشهور وأوقات الصيام والحج ومواقيت الصلاة، فإنكار هذا قصور وجهل.
ومن هذا ما ذكره الأستاذ العلامة الشيخ محمد رشيد رضا (في الجزء الأول المجلد 28 من المنار، صفحة 63 المؤرخ 29 شعبان 1345 هجرية) ونص المقصود:
"ما زلنا منذ بلغنا سن الرشد إلى أن أدركنا سن الشيخوخة نسمع المسلمين يتألمون من الاضطراب والاختلاف الذي يحدث في إثبات أول شهر رمضان لأجل الصيام الواجب، وإثبات أول شوال لأجل الفطر الوجب في يوم العيد، وكذا هلال ذي الحجة لأجل وقوف عرفة، وقد عرض لنا في هذا اليوم الجمعة 30 قبيل ظهور الشمس أي قبل طلوعها أن سمعنا دوي المدافع تنفجر في قلعة القاهرة إعلانًا لإثبات شهر رمضان، وكان الحاسبون الفلكيون قد نشروا في جميع الجرائد تذكيرًا بما دون في جميع النتائج لهذه السنة الهجرية، من أن أول رمضان فيها ليلة السبت، لأن هلاله يولد في ليلة الجمعة بعد ثلاث ساعات ونصف دقيقة واحدة من غروب الشمس، فرؤيته مستحيلة قطعًا في ليلة الجمعة، وممكنة لكل معتدل البصر في ليلة السبت".(3/360)
ويقول الشيخ رشيد رضا في مجلة المنار:
"إن الشهر قد ثبت برؤية الهلال حقيقة أو حكمًا، فلا يكون إثبات وجوب الصيام بقول الفلكيين الحاسبين بل بوجود الهلال، وإنما يبينون للناس متى يرى ...
..إن إثبات أول شهر رمضان، وأول شهر شوال، هو كإثبات أوقات الصلوات الخمس، قد ناطها الشارع كلها بما يسهل لعلم به على البدو والحضر كما تقدم، وغرض الشارع من ذلك العلم بهذه الأوقات لا التعبد برؤية الهلال، ولا بتبيين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، أي انفصال كل من الآخر برؤية ضوء الفجر المسيطر من جهة المشرق، ولا التعبد برؤية ظل الزوال وقت الظهر، وصيرورة ظل الشيء مثله وقت العصر، ولا برؤية غروب الشمس، وغيبة الشقف لوقتي العشائين ... ".
وينهي العلامة المرحوم رشيد رضا بحثه بقوله: "وجملة القول أننا بين أمرين:
إما أن نعمل بالرؤية في جميع مواقيت العبادة أخذًا بظواهر النصوص، وحسبانها تعبدية، وحينئذ يجب على كل مؤذن أن لا يؤذن حتى يرى نور الفجر الصادق مسيطرًا منتشرًا في الأفق، وحتى يرى الزوال والغروب.. الخ.
وإما أن نعمل بالحساب المقطوع به لأنه أقرب إلى مقصد الشارع، وهو العلم القطعي بالمواقيت وعدم الاختلاف فيها، وحينئذ يمكن وضع تقويم عام تبين فيه الأوقات التي يرى فيها هلال كل شهر في كل قطر، عند عدم المانع من الرؤية، وتوزع في العالم".
وقد بحث الشيخ بخيت المطيع مفتي الديار المصرية سابقا في كتابه إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة واستعرض أقوال الفقهاء في المذاهب المختلفة وساق الأدلة والمناقشة من الجانبين، وذكر ما قاله صاحب الهداية الحنفي في مختارات النوازل.
ثم قال: "مما يؤيد القول بالعمل بالحساب الصحيح أن أهل الشرع من الفقهاء وغيرهم يتوجهون في كل حادث إلى أهل الخبرة وذوي البصيرة فيهم، فإنهم يأخذون بقول أهل اللغة في معاني ألفاظ القرآن والحديث، وبقول الطبيب في إفطار شهر رمضان، وغير ذلك كثير ... فما الذي يمنع من بناء إكمال شعبان ورمضان وغيرهم من الأشهر على الحساب، والرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة العارفين به إذا أشكل علينا الأمر في ذلك، مع كون مقدماته قطعية وموافقة لما نطقت به آيات القرآن لكريم؟ ألا ترى أن الحاسب إذ قال بناء على حسابه: إن الخسوف أول الكسوف يقع ساعة كذا من يوم كذا، وقع كما قال قطعًا ولا يتخلف، خصوصًا وأن مبنى الحساب على الأمور المحسوسة والمشاهدة بواسطة الأرصاد وغيرها.."(3/361)
وقال في موضع آخر: "الواجب على القاضي النظر في حال الشهود تحقق عدالتهم وتيقظهم وبراءتهم من الريبة والتهمة، وسلامة حواسهم، وحدة نظرهم، وسلامة الأفق ومحل الهلال مما يشوش الرؤية، ومعرفة منزلة الهلال التي يطلع فيها، وما يقتضيه الحساب من إمكان رؤيته وعدمها، فإن المشهود به شرطه الإمكان، فإذا دل الحساب على عدم إمكان الرؤية وأخبر مخبر برؤيتها، فالخبر يحتمل الصدق والكذب، والكذب يحتمل التعمد الغلط، ولكل منهما أسباب لا تنحصر.
فليس من الرشد قبول الخبر المحتمل لذلك، أو الشهادة به مع عدم الإمكان، لأن الشرع لا يأتي بالمستحيلات، وهذه المسألة لم نجدها مسطورة فتفقهنا فيها ورأينا فيها عدم قبول الشهادة.
ومن العلماء من لا يقتصر على الرؤية البصرية، لإثبات الشهر، مثل العلامة المرحوم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في بحث له، بعنوان: يسألونك عن الأهلة: نشر في مجلة الهداية التونسية بتاريخ جويلية 1974، ونشر كذلك في مجلة الأصالة الجزائرية قال: "ولمعرفتنا وجود الهلال عقب المحاق في علم الله طرق:
أولها: رؤيته بالبصر، رؤية لا ريبة تتطرقها، وهذا الطريق حسي ضروري ولا خلاف في العمل به.
ثانيها: مرور ثلاثين ليلة من وقت استهلالك الهلال الذي سبقه، وهذا الطريق قطعي تجريبي، وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة.
ثالثها: دلالة الحساب الذي يضبطه المنجمون، أعني العالمين بسير النجوم علمًا لا يتطرق قواعده شك، وحسابًا تحققت سلامته من الغلط، وذلك هو ما يسمى بالتقويم.(3/362)
فإذا ضبط الحساب وقت وجود الهلال باليوم والساعة، حصل لا محالة العلم بهذا الشهر القمري، إذ جرب التقويم في حساب السنة الشمسية عند الأمم قديمًا وحديثًا، فلم يعثر له على غلط، واتبعه المسلمون في أوقات الصلوات وفي أوقات الإمساك والإفطار في رمضان، وجرب عند العرب في حساب السنة القمرية كذلك.
وإن علم الناس بوجود الهلال لم يكن له طريق في العصور الماضية سوى الرؤية فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له)) .
وليس في لفظ الحديث صفة قصر الصوم على حالة رؤية الهلال وقياس حساب المنجمين على رؤية الهلال قياس جلي ... ".
وذهب العلامة الشيخ علال الفاسي إلى مثل ما ذهب إليه محمد رشيد رضا ومحمد الطاهر بن عاشور وقال في حديث: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) أنه خرج مخرج الكلام المعلل وهو أن العرب بل الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ أُمَمِ العالم، لم يكونوا على درجة من العلم يجعل نتائج حساباتهم قطعية بل كانت مقدمات الحساب الفلكي لإثبات الشهر قبل الإسلام وإلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم غير متيقنة الإنتاج.. أما اليوم فقد تطورت حال معرفة المسلمين للفلك، ومنذ العصر العباسي وعلماؤنا يتعاطون هذا الفن، وانضمت إليه الدراسات المصرية فلم يعد من المكن القول بأن النتائج الحسابية ظنية بل هي قطعية بقدر ما تكون الرياضيات قطيعة، وعليه فما دام الحكم قد خرج معللًا وما دامت العلة قد انتفت أي أننا لم نعد أمة أمية بل أصبحنا نقرأ ونحسب فقد أرشدنا الحديث إلى العمل بالحساب طبقًا للقاعدة الأصولية التي تقول:
"الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا" (وهذا النص نقل عن كتاب للأستاذ علال الفاسي عنوانه: الجواب الصحيح والنصح الخالص في نازلة فاس وما يتعلق بمبدأ الشهور الإسلامية العربية) .
وذهب هذا المذهب عدد كبير من العلماء المعاصرين، نادوا بالعمل بالحساب في إثبات الشهور القمرية.(3/363)
وهكذا فإن بعض المصلحين يقولون:
لا يمكن توحيد المسلمين في هذه القضية إلا بواسطة تقويم فلكي يتفق عليه علماء الشريعة وعلماء الفلك المسلمون مع إلغاء اعتبار المطالع كما هو مذهب جل الأئمة المجتهدين وإلزام أهل الشرق والغرب، واعتبار "مكان ما" مركزًا لإمكان الرؤية، ولتكن " مكة المكرمة " وهي أم القرى وقلب العالم الإسلامي، وهذا ما صادق عليه مؤتمر الكويت.
أما الذي اعتمده مؤتمر اسطنبول فهو أن أية بقعة من الأرض يرى فيها الهلال يكون بداية لدخول الشهر، وقد التزمت اللجنة الشرعية الفلكية بهذا الإجراء بداية من تكليفها بإعداد التقاويم الموحدة.
إذا اعتبر أن إثبات دخول الشهر القمري بالحساب هي رؤية حسابية للهلال وأنها كالرؤية البصرية.
وبهذا ندرك أن النصوص التي استشهد بها على حصر الرؤية بالبصر لا يمكن أن تكون دليلًا على منع إثبات الشهر بغير الرؤية البصرية لأن هذه النصوص وإن أفردت الرؤية بالذكر فإنها لم تقصر إثبات الشهر على البصر، بل اقتصرت على ذكر وسيلة من وسائل إثبات الرؤية.
وكل من أجاز العمل بالحساب لا ينكر جواز الاعتماد على الرؤية البصرية إذا تحققت شروطها وسلمت من الطعن.(3/364)
5- نتائج واقتراحات
يبدو أننا لم نظفر إلى الآن بنتائج إيجابية للتقريب بين الذين يجيزون العمل بالحساب وبين الذين يقصرون ثبوت الشهر على الرؤية البصرية وحدها.
فالفريق الأول يقيد العمل بالحساب بشرط أن يكون الحاسبون جماعة من المسلمين موثوقًا في دينهم وعلمهم وأن يكون حسابهم متماشيًا مع القواعد الشرعية وأن يكون مؤيدًا بحسابات المراصد الفلكية العالمية وعندما تتوفر هذه الشروط يعتبر الحساب وسيلة ثانية من وسائل الإثبات فتكون عند المسلمين وسيلتان لا وسيلة واحدة الرؤية والحساب، لاسيما وأن علم الهيئة أصبح من العلوم الصحيحة أقرته الأمة الإسلامية وقررت تدريسه في جامعاتها وأيقن عموم الناس أنه على أساس هذا العلم وغيره من العلوم الصحيحة تسير الطائرات وتطلق الأقمار الاصطناعية ومراكب الفضاء.
وتمكن الإنسان من الصعود إلى القمر والنزول على سطحه والقرآن الكريم يبين أن حكمة الله اقتضت أن نظام الكواكب والأفلاك إنما يسير بحساب معين لا يختلف.
وإذا تمكنت المؤتمرات والندوات الإسلامية التي انعقدت حتى الآن أن تقيد عمل الحاسبين، وأن تضبط الرؤية المرادة شرعًا، وأن تقيدها بقيود اتفق عليها علماء الشريعة والفلك، وبرزت بصيغة قرارات كانت جميعها متكاملة روعي فيها جانب النص كما روعي فيها جانب المصلحة، وكانت غايتها جمع المسلمين وتوحيد أعيادهم ومواسمهم.
فإن هذه المؤتمرات لم تتمكن من جانب آخر من إقناع القائلين بانفراد الرؤية البصرية دون الحساب في إثبات الشهور لأن الرؤية عندهم أمر تعبدي لا يمكن أن يطرأ عليها أي تغيير، فالأحكام أبدية والأسباب والشروط والموانع هي كذلك أبدية من وضع إلهي، فما أثبت واجبًا يبقى كذلك وما أثبت ممنوعًا يبقى كذلك أيضًا.
وقد ثبت أن الرؤية سبب شرعي للصوم والإفطار لتبق كذلك منظورًا إليها نظر الأصول الثابتة لا أن يتحيل على إلغائها باعتماد الحساب الفلكي مناطًا مستقلًا، وبالتالي الاعتماد على التقاويم في جميع الشهور.
إن الذي يقول بذلك هو حاكم على الرؤية البصرية بالنسخ، وهو في الآن نفسه منتقص للدين الذي يجب أن يعتقد أنه كامل بالرؤية بالعين وغاية ما أنيط به الحكم، وسبب لوجوده، فلا يتحقق دخول الشهر إلا بها، وكل النصوص الواردة تنص على وجوب الصوم بالرؤية البصرية فلا موجب لتأويلها.(3/365)
وقد غفل القائلون هكذا عن أمر، وهو أن بعض النصوص التي اعتمدوها وردت معللة من الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، والقاعدة عند الأصوليين والفقهاء أن النص إذا ورد معللًا بعلة فإن للعلة تأثيرها في فهم النص، وأن الحكم يرتبط بها وجودًا وعدمًا، لا فرق في ذلك بين العبادات وغيرها.
كما تغافلوا عن أن الضرورة قد يكون لها دخل في تغير الحكم، فمثلًا: جاءت النصوص بصوم الثلاثين يومًا عند الغيم ضرورة أننا لا نستطيع معرفة أول دخول الشهر إلا عن طريق الرؤية البصرية وقد تعذرت، فإذا أمكننا التعرف على دخول أول رمضان أو أول شوال بواسطة أهل الذكر وهم أهل الحساب الفلكي فلا يجوز لنا أن نعتمد على الضرورة والله تعالى يقول {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
وبذلك يتبين أن أصحاب هذا الاتجاه لم يقنعوا بأي دليل أو برهان من الأدلة والبراهين التي قدمها المجيزون لإثبات الشهر بالحساب، واعتباره وسيلة ثانية مع الرؤية على الأقل كما أن كل المعطيات الجديدة التي حفت بموضوع إثبات أوائل الشهور والتطور العلمي المدهش الذي ظهر في العالم، والرغبة الملحة من الأمة الإسلامية في التوحيد لم تغير من مواقفهم شيئًا.
وإذا كان من المفروض عند علماء الحساب ومن يجيزون العمل به أنه لا يمكن أن تختلف نتيجة الحساب عن نتيجة الرؤية الصادقة بحال من الأحوال، فإن اختلاف المسلمين في بداية الشهور القمرية يدل على وجود خلل، إما في الحساب وإما في الرؤية.
وقد بلغ الخلل أقصاه في السنوات الأخيرة، إذ ليس من المعقول لولاه أن تختلف بداية الشهر القمري بين بلد وآخر بمدة وصلت في السنة الماضية (1406) إلى ثلاثة أيام.
وبإعادة النظر في تقييم هاتين الوسيلتين –الرؤية والحساب- بعد كل هذه الجهود التي بذلت، ولاسيما في السنوات الأخيرة، فإننا نجد ضبطًا مدققًا في التقاويم القمرية التي صدرت عن اللجنة الدولية المنبثقة عن مؤتمر اسطنبول، إذ هي التزمت بكل الضوابط التي فرضت عليها، فكان الاتفاق كاملًا بين المراصد الفلكية في كامل العالم الإسلامي، كما كان التطابق تامًا في النتائج المقدمة كل سنة من طرف المراصد، الأمر الذي دفعنا إلى الاطمئنان إلى نتائج الحساب.
أما الرؤية البصرية فإنها لم تضبط في نظرنا الضبط المدقق الذي يضمن لها الصحة، ويحقق لها النتيجة الصحيحة التي لا ينبغي أن تختلف عن الحساب المصحح عادة.(3/366)
ويرجع هذا في نظري إلى تمسك الفقهاء بأحد قولي الإمام أحمد بن حنبل الذي يجيز في إثبات هلال رمضان قبول شاهد واحد وهو مشهور المذهب الحنبلي المستند إلى حديث ابن عباس الذي قال: ((جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا لله؟ فقال: نعم، فقال: يا بلال، أذن في الناس فليصوموا غدًا)) .
بينما المشهور في المذهب الحنفي أنه لا يقبل في هلال رمضان عند الصحو إلا الاستفاضة، وقدرت بخمسين رجلًا على الأقل عند أبي يوسف، كالقسامة، وقد علل المغني اشتراط أبي حنيفة الاستفاضة بأنه لا يجوز أن ينظر الجماعة إلى مطلع الهلال، وأبصارهم واحدة، والموانع منتفية، فيراه واحد فقط، وقال ابن عابدين في تعليقه على قول الحصكفي: "جمع عظيم يقع به العلم الشرعي وهو غلبة الظن": "لأنه العلم الموجب للعمل، لا العلم بمعنى اليقين ولذلك فلا يقبل خبر واحد لأن التفرد من بين الجم الغفير بالرؤية مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه مع فرض عدم المانع وسلامة الأبصار وإن تفاوتت في الحدة ظاهرة في غلطه" (بحر – الجزء الثاني- ص 93) .
فإذا امتنع أبو حنيفة من قبول خبر الواحد في عصر التابعين، وعد شهادته بانفراده برؤية الهلال غلطًا، مع علمه بالنص الذي اعتمده من أجاز قبول خبر الواحد فكيف يكون الحال في هذا الزمان الذي اشتهر بكثيرة الكاذبين المدعين لرؤية الهلال، وكتب الفقه مليئة بالحوادث التي صام فيها المسلمون أو أفطروا تبعًا لشهادات كاذبة أو غالطة.
وكم من مرة في هذه السنوات الأخيرة أعلن عن الصيام أو الإفطار بشهادة رؤية الهلال ثم لم ير الناس الهلال في الليلة الثانية وهذا يؤكد بطلان الشهادة، فلماذا نتمسك بآراء معينة أصبحت لا تحقق المصلحة المرجوة منها، مع أننا سمعنا بحوادث كثيرة توقف فيها الفقهاء وأعادوا فيها النظر دفعًا لمفسدة وأصدروا أحكامهم الجديدة معللين ذلك بفساد الزمان؟ والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه أشار إلى ضياع الأمانة وفقدان الخير وتدهور الأخلاق، بقدر ابتعاد الناس عن القرون الأولى، ففي الحديث الذي رواه الصحيحان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)) .(3/367)
فأي مانع يمنعنا في هذا الزمان الذي كثر فيه الغش، وفقدت الأمانة، وظهرت شهادة الزور في كل مكان، من أن نشترط شروطًا من شأنها أن تحفظ سلامة الشهادة التي يصوم بها مليار من المسلمين في جميع بقاع الأرض، ويحتفلون بموجبها بأعيادهم ومواسمهم.
إذا اكتفى الرسول صلى الله عليه وسلم في زمن البعثة بتزكية الشاهد بالنطق بالشهادتين على يديه ثم اشترطت العدالة وقال مالك: لا بد من شاهدين عدلين، فإن مثل هذه التزكية لا تكفي في هذا الزمان الذي كثر فيه من ينطق بالشهادتين ثم يخون ويغدر ويسرق.
إن التمسك بمذهب أبي حنيفة وحده في هذه المسألة ربما لا يكفي في هذا الزمان، بل لا مانع من تنظيم كيفية إثبات الرؤية بطريقة تضمن بها صحة هذه الشهادة، ولماذا لا تتعدد هيئات الرؤية في جهات متعددة من العالم الإسلامي، وحتى في القطر الواحد؟
ولماذا لا ننتخب أفراد الهيئات التي يعهد إليها أمر الرؤية ما دام احتمال الكذب، واحتمال خداع النظر، واحتمال قلة المعرفة بأمكنة طلوع الهلال قائمًا.
اعتقادي أننا لا نخرج بهذه القيود الجديدة عن أصول الأحكام التي تمثل الوسائل، والتي تتبدل بتبدل الأزمان والأحوال، والأمثلة في ذلك كثيرة في الفقه الإسلامي.
1- فقد أمر الخليفة عثمان بن عفان ببيع الإبل الملتقطة بعد أن كان حكمها أن تترك لحالها حتى يلقاها ربها، كما جاء في السنة، وعلل ذلك بأن المجتمع على وشك الفساد، فخاف منه على سرقة هذه الإبل.(3/368)
2- وأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة مع نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن، وعلل ذلك بأن أسباب منع كتابة الحديث زالت بانتشار المصاحف واستقرار القرآن في الأذهان.
3- وقد نقل ابن عابدين (ج 4 ص 178) اعتبار العرف مطلقًا وإن خالف النص عند أبي يوسف ورجحه، وعلل ذلك بقوله: لأن لنص ما كان في ذلك الوقت إلا لأن العادة كانت كذلك وقد تبدلت فتبدل الحكم.
ومع ما ذكر فكثير من العلماء ممن يعتمدون الرؤية البصرية يعتبرون أن مخالفة الرؤية البصرية لما تعارف الناس عليه من قواعد علم الهيئة التي لا تتخلف، توجب تكذيب الشهود، وتعتبر من قوادح الشهادة، ومن ذلك:
1- إذا ثبت علميًا أن الهلال لم يولد فلا يمكن أن يقال إنه شوهد، لأنه لا بد من ميلاد الهلال قبل غروب الشمس، ومكثه بعد الغروب حصة تكفي لمشاهدته، واعتبروا هذا النوع من الشهادة باطلًا لأنه خداع بصر أو سراب كاذب.
2- إذا راقب الناس الهلال في آخر الشهر من جهة الشروق بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، فرأوه رؤية محققة، ثم شهد شهود برؤيتهم الهلال مساء ذلك اليوم، فيكذبون، لأن رؤيته صباحًا دليل على أنه ما زال لم يقترن مع الشمس، وما زال لم يدخل تحت شعاعها، إذ من المعلوم أن القمر لا بد أن يختفي في آخر الشهر تحت شعاع الشمس يومين على الأقل.
3- إذا راقب الناس الهلال في كل مكان فلم يروه مع الصحو التام، ثم ادعى رؤيته واحد أو أفراد قلائل من الناس، فيكذبون أيضا، لأنه لو كان موجودًا لرآه جمهور الناس.
4- إذا ادعى رؤية الهلال وانخسفت الشمس بعد ذلك بيوم أو يومين، فإن هذا دليل على كذب الرؤية، لأن الشمس لا يخسف بها في سنة الله إلا في اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين، كما دقق علماء الفلك، وحققه شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته في الصوم (في الجزء 35 ص 184، 185، من الفتاوى) .(3/369)
وهكذا تكذب كل شهادة في رؤية الهلال إذا كانت في وقت تستحيل رؤيته فيه، والغريب أنه لم يقع اعتبار كل هذه الضوابط التي يقرها العقل السليم، ولم تعتبر من القوادح في الشهادة، بل اكتفى بشهادة الشهود، وقبلت ولو من واحد عند الإعلان عن الشهر القمري في بلدان من العالم الإسلامي في هذه السنوات الأخيرة، وفي نظري أن هذه الأجزاء من الأسباب التي زادت في تباين المسلمين في بداية الشهور والأعياد.
فالرؤية البصرية في نظري لا يمكن أن تكون أكثر من وسيلة من وسائل العلم، والله عندما قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (فإنما أراد العلم بوجوده: فكل من علم منكم بوجود الشهر وجب عليه صومه، فوجود الشهر شرعًا يكون بوجود هلاله بعد غروب الشمس بأي طريق من طرق العلم، وإنما نص الشارع على الرؤية باعتبارها إحدى وسائل العلم بوجود الهلال، وهي المتعارفة عند نزول الآية.
ولعل ما قدمه علماء الدين والفلك في هذا المجمع المبارك يمكن أن يمثل البداية للخروج من الخلاف وقد أصبحت مسألة توحيد بداية الشهور القمرية بعد كل هذه الجهود واضحة تتطلب أخذ قرار حازم من مجمعكم يأخذ كله هذه الملاحظات بعين الاعتبار لكي يبعد الأمة الإسلامية عن البلبلة التي وقعت فيها منذ سنوات، ويوضح لها معالم الطريق حتى تسير في السبيل السنوي، والله الهادي إلى سواء السبيل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مصطفى كمال التارزي(3/370)
بحث
فريق علماء جامعة الملك عبد العزيز
قسم علوم الفلك
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد، فإننا ندعو الله تعالى أن يلهمنا طريق الصواب وأن يمهد لنا طريق الحق ويبعدنا عن طريق الضلال.
لم تكن مشكلة توحيد الشهور العربية قائمة في العصور السابقة وما ظهر منها فهو محدود وغير ملفت للنظر نظرًا لصعوبة الاتصال بين البلدان أما في العصر الحاضر وقد تقاربت البلدان بتقدم المواصلات وتقدمت طرق الاتصالات بين أرجاء المعمورة وفي ثوان ينتشر الخبر في جميع أنحاء العالم وأصبح المسلمون في العالم كأنهم يعيشون في بلدة واحدة ومن جهة أخرى فقد تطورت العلوم عامة والعلوم الفلكية خاصة وأتى بعدها غزو الفضاء الخارجي والذي أدى بدوره إلى ربط الحسابات الفلكية والمشاهدات والتوقعات مع الواقع الحقيقي وتم التأكد من دقة الحسابات رغم المسافات الشاسعة بين الكواكب والأجرام فأصبح بإمكان العلماء تحديد موقع ومكان الخسوف والكسوف على سبيل المثال قبل أعوام من حدوثها بدقة متناهية وتم وصف حركة الكواكب والنجوم والأقمار بدقة وتم كذلك حساب سرعتها وأوزانها وطبيعة مكوناتها.
ولا يخفى على أحد بأن دين الإسلام هو آخر الأديان وهو دين عالمي لا يخص فئة بذاتها ولا منطقة بعينها، ولا يخفى علينا بأن ديننا دين توحيد والتوحيد هو إفراد الله في العبادة وتنزيهه عن كل النقائض كما أننا نقدر أن للتوحيد معنى آخر وهو تأمين وحدة المشاعر والجهود وتوحيد المناسبات الإسلامية والأعياد.
إن موضوع رؤية الهلال وبداية الشهور العربية ترتبط به جميع المناسبات الإسلامية، ولذلك فإن له أهمية كبرى في حياة المسلم وعلى سبيل المثال لا الحصر عند نهاية شهر شعبان من كل سنة يبدأ النقاش في العالم الإسلامي حول بداية شهر رمضان، ويصبح لدى المسلمين شك نحو البلاد الإسلامية الأخرى التي تخالف بلادهم في بداية الصوم، وتعظم المشكلة عند المسلمين في البلاد الأوروبية والأمريكية حيث إن معظم المسلمين في تلك البلاد من جنسيات مختلفة، وأصبح كل منهم يصوم ويفطر على بلده مما سبب تمزقًا رهيبًا بينهم، وشكًا في أداء عباداتهم وقلقًا وخصامًا وجدالًا، وبذلك ذهبت فرحة استقبال رمضان والصوم، وذهبت كذلك فرحة العيد فنرى البعض صائمًا والآخر يفطر وهل هذا شيء طبيعي، وتوجه لهم من المجتمع هذه الأسئلة:-
- ألستم من دين واحد؟(3/371)
- لماذا لا تتفقون في مواعيد أعيادكم ومناسبتكم؟
وهل من الطبيعي أن يفطر من في العراق ويصوم من في مصر وهم يعلمون بما يفعل الآخر؟ والواقع أن لهذا الوضع حالتين:
الأولى: أن أحدهما يفطر في يوم صوم.
والحالة الثانية: أن أحدهما يصوم في عيد، وكلتا الحالتين محرمة شرعًا.
ولا بد هنا من الذكر بأن هذا لوضع بالنسبة للمسلمين غاية في السوء، ومثار الاستنكار بين معظم عامة وعلماء المسلمين، وكذلك مدعاة للهجوم من قبل الملحدين.
والسؤال الذي يجب على علماء المسلمين أن يفكروا فيه: هل هناك تعارض بين الدين والعلم؟ والجواب بالنفي معروف لدى جميع المسلمين لذلك فإننا ندعو علماء المسلمين أن يتفكروا في هذا الموضوع، ويضعوا جل اهتمامهم به، وأن يتعمقوا في فهم النواحي الفلكية حتى يتمكنوا من تصور الوضع والحلول المقترحة، وسوف نشرح فيما بعد حركة القمر والأرض وكيفية ميلاد الهلال، والقواعد التي يأخذها العلماء الفلكيون المسلمون حتى تتوافق حساباتهم مع الشريعة ومع تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم.
دعوى اختلاف المطالع:
إن دعوى اختلاف المطالع اجتهد فيها بعض العلماء السابقين لتفسير اختلاف الرؤية، وهم مأجورون على ذلك، والواقع أنه إذا ولد الهلال في مدينة ما والتي تقع على خط طول معين فإن ميلاد الهلال يكون مؤكدًا في جميع البلدان التي تقع على هذا الخط ويكون أيضًا مؤكدًا لجميع البلدان التي تلي ذلك الخط.
وإذا أخذنا بالقول الشرعي بأنه إذا اشترك بلد مع آخر بليل فإنه يؤخذ برؤية البلد الآخر يصومان ويفطران معًا، وعل هذا الأساس فإن جميع بلدان العالم الإسلامي يجب أن تصوم وتفطر في يوم واحد لأنها جميعًا تشترك مع بعضها البعض بليل.(3/372)
الحساب الفلكي:
لا بد أن نذكر هنا أن أي حل لبداية الشهور العربية يجب أن يتوافق مع الشريعة الإسلامية السمحة، وأننا عندنا نتبنى الرأي القائل بجواز الاعتماد على الحسابات الفلكية ليس معناه تعليق الحكم في الصوم وغيره بهذا الحساب أصلًا بل إننا نقول بأن حكم الشريعة باعتماد الرؤية البصرية باق إلى يوم الدين، علمًا بأنه هو الأصل، ذلك لأن الشرع الإسلامي لا يمكن أن يربط حكمًا شرعيًا بأمور تتوقف على علم قد يوجد وقد لا يوجد وقد نفقد قواعده وعلماءه يومًا ما، وإنما مرادنا بإمكان الاعتماد على الحساب الفلكي اليوم، هو أنه جائز ولا مانع شرعًا بعد أن وصل علم الفلك إلى ما وصل إليه من الدقة المدهشة واليقين المدعم بالشواهد والبراهين، وبذلك فنحن نعتقد بأن الحسابات الفلكية تحقق ما تحققه الرؤية بصورة أيسر وأبعد عن الخطأ مع بقاء الرؤية هي الأصل، بمعنى أنه إذا فقد هذا العلم بقيت الرؤية مستندًا في الحكم، وقد بنينا هذا الرأي على الأسس الآتية:
1- أن العالم الإسلامي بأسره اليوم يأخذ بالحسابات الفلكية في الصلاة والتي هي ثاني ركن من أركان الإسلام بعد الشهادة، ولا أحد يذهب ليرى هل ظهر الشفق؟ أو هل زال الظل؟ أو هل أصبح طول الظل ضعف طول الجسم الأصلي؟ بل ولا أحد ينظر هل غابت الشمس ليعلن دخول وقت المغرب؟ بل إن الجميع ينظر إلى التقويم ويأخذ منه الوقت وهذا محسوب بالحسابات الفلكية التي تحقق الأحكام الشرعية الأصلية في المواقيت، أما من لا تتوفر لديه تلك التقاويم يعود ويطبق تلك الأحكام.
2- أن الكثير من نصوص القرآن الكريم تدعو الناس للتفكر في خلق الله تعالى وبالأخص للتفكر في الكون فقال تعالى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} فهذه الآيات تدل على أن حركة الأفلاك حركة دقيقة ثابتة لا تختلف عبر العصور فهي تسير على نسق منتظم، فكان انتظار دوران القمر والأرض حول الشمس سبيلًا لتحديد السنوات، والحساب، وجاء أيضًا في القرآن الكريم {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وفسر البعض "شهد" على أنها علم، أي علم بحلول الشهر.(3/373)
ومن جهة أخرى فإن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أتت بعدة صور وروايات وقد استنبط بعض العلماء إمكانية الرخصة ومما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم:
((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) وفي رواية ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يومًا)) وفي رواية ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وإن غم عليكم فاقدروا له)) .
ففي الرواية الأخيرة ((فاقدروا له)) وأحد صور التقدير تكون بالحساب وكانت الرؤية البصرية مطلوبة في ذلك الحين لعدم توفر الحسابات الفلكية حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا..)) إلى نهاية الحديث، وربط الكتابة والحساب بالشهور دليلًا على إمكانية استخدام الحساب في تحديد الشهور إذا توفر ذلك العلم، وأن الرؤية البصرية خاصة بتلك الفترات التي لا يتوفر بها علم الحساب والله أعلم.
3- لقد كان لعامة سكان الجزيرة العربية خبرة ودراية في الكواكب والنجوم والقمر حيث كان الاعتماد كبيرًا عليها لمعرفة الاتجاهات والوقت والشهور، وكذلك كان الجو خاليًا من الملوثات التي تمنع الرؤية كالدخان والإضاءة العالية، ولكن في زمننا هذا فإن عامة الناس لا يعرفون إلا القليل عن القمر والكواكب والنجوم وحتى المهتم منهم في هذا العلم لا بد له من السفر بعيدًا عن إضاءة المدينة ودخانها حتى يتسنى له رؤية السماء بوضوح، ولذلك نرى الاختلافات الكثيرة التي تحصل بين البلدان عند تحديد بداية الشهور والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى عدة أيام.
4- من المعلوم أن الأحكام الدينية تنقسم إلى قسمين هما: المقاصد، والوسائل، فصوم رمضان، والإفطار في أول يوم من شوال، والوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة يمثل المقاصد، أما تثبيت المناهج والأصول المتعلقة بتحديد أوقات هذه العبادات تمثل الوسائل، وأن الأحكام الدينية التي تمثل الوسائل يمكن أن تتبدل بتبدل الأزمان والأحوال لأنها ليست مقاصد بالذات بل هي وسائل للوصول للغايات المقصودة، قال الفقهاء: "إن الأحكام الشرعية ترتبط بالعلل والأسباب فإذا ما ثبتت العلة ثبت الحكم وإذا زالت زال الحكم تبعًا لها".
والأمثلة على ذلك كثيرة، فعلى سبيل المثال نذكر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تكتبوا عني شيئًا غير القرآن فمن كتب شيئًا غير القرآن فليمحه)) وذلك خوفًا منه صلى الله عليه وسلم أن تختلط الأحاديث بالقرآن الكريم، وعندما دونت المصاحف وانتشرت زالت الأسباب المانعة من كتابة الأحاديث، فأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة، بل واعتبر كتابة الأحاديث واجبة لصونها من الضياع، فالأحكام التي تبنى على سبب خاص وتقوم على حالة معينة تزول لسبب وتستمر بدوام السبب والعلة.(3/374)
والسبب في اتخاذ الفقهاء الرؤية البصرية أساسًا لتحديد أوائل الشهور القمرية مستدلين من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا)) لعدم كفاية علم الفلك بتثبيت أوائل الشهور في ذلك العهد، وقد صرحت هذه العلة في الحديث النبوي الشريف ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ... )) أما اليوم فبات بالمستطاع حساب أدق حركة للقمر على وجه اليقين وأصبح بالإمكان أيضًا تحديد وقت ومكان ميلاد الهلال.
علم الفلك وكيفية تحديد الشهور العربية:
مما يؤسف له أن يعتقد البعض بأن علم الفلك هو علم التنجيم، أو أنه يعتمد على الظن والتخمين في حساباته والواقع أن علم الفلك مثل العلوم الأخرى كالفيزياء والكيمياء فهو يعتمد على أمور علمية محسوسة وعلى التجربة والمشاهدة وكما ذكرنا سابقًا بأن تطور العلوم والتقنية في مجال الفضاء أدى إلى التحقق في النظريات الفلكية، وأدت الأجهزة الحديثة إلى الوصول إلى مستويات عالية من الدقة في مراقبة وحسابات سير الكواكب والأجرام السماوية.
تنتمي الكرة الأرضية إلى المجموعة الشمسية، والتي تتكون من الشمس ويدور حولها 9 كواكب وهي على التوالي: عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، المشترى، زحل، يورانوس، نيبتوس، وبلوتو، وتدور هذه الكواكب بمدارات حول الشمس.(3/375)
الشكل (1) يوضح الشمس في المركز وحولها مدارات الكواكب وتدور الأرض بمدار شبه دائري حول الشمس وتبعد عنها بالمتوسط مسافة 149.5 مليون كيلو متر، ويدور حول معظم هذه الكواكب أقمار أقل حجمًا من الكوكب، فمثلًا يدور حول المريخ قمران وحول المشترى 16 قمرًا، وحول الأرض يدور القمر وهو يبعد عن الأرض بمسافة قدرها 365 ألف كيلو متر.(3/376)
في الشكل (2) نوضح دورة الأرض حول الشمس ودورة القمر حول الأرض، حيث تمثل دورة الأرض حول الشمس دورة كاملة السنة الشمسية بفصولها الأربع بينما تمثل دورة الأرض حول نفسها يومًا كاملًا، أما بالنسبة للقمر فإن دورته الاقترانية حول الأرض تمثل طول الشهر القمري.
يدور القمر حول الأرض بدورة اقترانية كل 29 و 12 ساعة و44 دقيقة بالمتوسط، ومعنى اقترانية هو اقتران القمر بالشمس أي أن يكون القمر واقعًا بين الأرض والشمس تمامًا، وتقاس مدة الدورة من وضع الاقتران إلى وضع الاقتران التالي.
في الشكل (3) نوضح وضع الاقتران:(3/377)
__________(3/378)
وهذه الدورة تمثل الشهر العربي (القمري) وفي وضع الاقتران لا يرى القمر وهذا ما يسمى بالمحاق، وذلك لأن نصف القمر المضيء يكون في اتجاه الشمس ونصفه المظلم يكون في اتجاه الأرض، ولكن عندما يتحرك القمر بعيدًا عن وضع الاقتران يتغير وضع القمر بالنسبة لسكان الأرض وتظهر حافة القمر لامعة والتي هي قوس دقيق بشكل هلال.(3/379)
__________(3/380)
ويبدأ الشهر فلكيًا عندما يغادر القمر وضع الاقتران، ولكن حتى نحقق شرط الرؤية التي يتطلبها الشرع وضعنا بعض الشروط اللازم توفرها حتى يتسنى لنا رؤية الهلال.
تتوقف رؤية الهلال ووضوحه على ارتفاعه وقت غروب الشمس فإذا غرب القمر قبل غروب الشمس فإنه لا يرى مطلبًا في تلك الليلة، وكلما زاد ارتفاعه عن الأفق وقت غروب الشمس كلما وضحت الرؤية، ونظرًا لوجود شفق الغروب فإننا لا نستطيع رؤية الهلال إذا كان ارتفاعه أقل من 5 درجات عن الأفق وبذلك فإن الشرط الأول الذي يتطلبه الفلكيون رؤية الهلال بصريًا هو أن يكون ارتفاعه عن الأفق وقت المغرب أكثر من 5 درجات والشرط الآخر أن يكون القمر بزاوية أكثر من 8 درجات عن وضع الاقتران كما شرحنا سابقًا، أي أن يكون القمر على بعد 8 درجات من الشمس.
وباستطاعة الفلكيين حساب وقت ميلاد القمر فلكيًا (وضع الاقتران) ، وزاوية انحراف القمر عن وضع الاقتران، وارتفاع القمر وقت الغروب فوق الأفق، وكذلك انحراف موضع غروب القمر عن موضع غروب الشمس لكل يوم، وذلك بمنتهى الدقة، وتوجد جداول عالمية توضح معظم هذه المعلومات لجميع المواقع على ظهر الأرض على مدار السنة، وأصبحت هذه الحسابات من الأمور المسلم بها علميًا وباستطاعة أي عالم فلكي القيام بهذه الحسابات بمنتهى السهولة والدقة.
التوصية:
نظرًا لما سبق ولما أتضح أن الحسابات الفلكية لا تتعارض إطلاقًا مع أحكام الشريعة ونظرًا لما لمسناه من دقة تامة في الحسابات الفلكية في تحديد مواقيت الصلاة والظواهر الفلكية المختلفة مثل الكسوف والخسوف والشروق والغروب وخلافه إننا نوصي بالآتي:
(أ) الأخذ بالحسابات الفلكية التي تحقق الرؤية البصرية لتحديد أوائل الشهور العربية.
(ب) الشروط اللازم توفرها لشروط الرؤية البصرية والتي يبني على أساسها الفلكيون حكم دخول الشهر العربي شرعًا:
1- أن لا يقل البعد الزاوي بين الشمس والقمر عن 8 درجات بعد الاقتران.
2- أن لا تقل زاوية ارتفاع القمر عن الأفق عند غروب الشمس عن 5 درجات.
(جـ) التحقيق والتأكد من شهادة من يدعي رؤية الهلال في الوقت الذي يثبت عدم ميلاد الهلال واستحالة رؤيته بالحسابات الفلكية.(3/381)
توحيد بدايات الشهور القمرية
(الشمس والقمر بحسبان)
لسعادة الدكتور فخر الدين الكراي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
التكليف في الإسلام على ما هو معروف عند أهل العلم أنه بقدر الطاقة والوسع قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ونعرف حتى في شهر رمضان، يختلف حكم الصوم باختلاف حال المكلفين والمريض والمسافر مثلًا بوسعهما أن يفطرا لأن التكليف لازم دائمًا لقدرة الإنسان، وهنالك أمر آخر، قال العلماء: المرء قادر بنفسه عاجز بغيره بمعنى أن كل تكليف شرعي إنما يناط بقدرة الفرد أو قدرة الجماعة، لنضرب على ذلك مثلًا: فرض الوقت ظهر الجمعة، قال العلماء: فرض الوقت هو الظهر، إذن كل مكلف يستطيع بانفراده أن يؤدي هذه الفريضة ولكن إذا توفرت شرائط الجماعة وجب أداء الجمعة وإسقاط الظهر.
ومن هذا المنطلق: إنا أمة صرنا قادرين على الحساب وهو أحد وجهي إثبات ولادة الهلال ودخول الشهر، ولم يعد الحساب في زماننا ضمن التنجيم ولكنه يناط به عند الشرق والغرب، أخطر القضايا ولا تقل عندهم أهميته عن تعبدنا بإثبات الهلال، وصار من البديهيات المعروفة أن حساباتهم الفلكية يكاد ينعدم منها الخطأ إطلاقًا، وأن معلوماتنا تؤكد بأن أوجه الخلاف بين أهل العلم قاطبة في هذا المجال جزء من ألف الثانية، وهذا كما تعلمون لا يؤثر في ولادة اليوم، ومما هو مسلم أن الأرقام الحسابية أدق حتى من الرؤية، وإلى ذلك أشار غير واحد من العلماء المسلمين من السلف والخلف بما فيهم علماء المنطق لأن الحواس التي تعتمد عليها قد تخطئ، وخاصة في مثل هذا المجال.
ولئن قيل: إن الحاسبين أيضًا قد يخطئون فنعود إلى الإجابة بأن خطأهم لا يتجاوز ما ذكرنا من الوقت بينما خطأ ملتمس الهلال بوسيلة البصر هو أكثر وكتب الفقه مشحونة بذلك.
وإن أول كلمة نزل بها الروح الأمين هي {اقْرَأْ} وإن قراءتنا باسم ربنا أوصلتنا إلى حقائق ثابتة لا تتعارض ولا يمكن أن تتعارض البتة مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتلمسون يا سادة أن أمصار المسلمين كان لا يصل بينها ما يصلها الآن من وسائل الاتصال الحديث وكأن العالم كله صار مصرًا واحدًا، وأن الكرة الأرضية تكاد تكون أمام علماء الفلك بمثابة الكرة الصغيرة يحيط بها من جميع جوانبها عبر الآلات الحديثة، وأن التنجيم الذي نفاه علماء المسلمين سابقًا نحن أشد نفيًا له لأنه ينطلق من مسلمات وافتراضات، بينما علماء الفلك ينطلقون من حقائق ثابتة لا مجال للشك فيها.(3/382)
وفيما يلي بسطة علمية تفسر وتوضح النقاط التقنية التي جاءت بهذه المقدمة مقرونة ببعض الدلائل التي لا يمكن القدح فيها.
منذ القديم، مثلت تحركات القمر والحالات الظاهرية التي تنشأ عنها مصدر تساؤلات عديدة، من قبل المهتمين بالمجال السماوي.
فمن المعلوم أن الشعوب القديمة اهتمت بكل الظواهر التي لها علاقة بالقمر، ونجد ذلك من خلال اعتنائهم برسم خرائط سماوية يخترقها القرص القمري من حين لآخر، كما قامت بإنشاء جداول زمنية تعتمد أساسًا على الحالات التي يمر بها القمر، فكان أن ظهرت للوجود وحدة القياس الزمنية التي يعبر عنها بالشهر القمري، وهي الفترة التي تفصل بين حالتين متشابهتين لجرم الليل، ومن بين الاهتمامات الأخرى في هذا المجال قيام الفلكيين القدامى بحسابات تقريبية مكنتهم من التعرف على مختلف الدورات الزمنية للظواهر الأخرى المتعلقة بقرص القمر، ونذكر مثلًا حالات الكسوف والخسوف التي شغلت لزمان طويل لب الدارسين للأجرام الخارجية.
التحركات الظاهرية للقمر:
يمكن لكل واحد منا أن يلاحظ لعدة أيام أن القمر يبدأ في ظهوره في القبة السماوية من الشرق ليختفي بعد اختراقه المجال العلوي لهذه القبة من الغرب، وهذا ليس بغريب نظرًا لأن القمر يشارك الأجرام البعيدة الأخرى الحركات الظاهرية الليلية الناتجة عن دوران الأرض حول نفسها.
ولكن هذه التحركات الظاهرية لهذه الأجرام البعيدة والتي تعاد كل ليلة في نفس الوقت، ليست مثل التحركات القمرية، ذلك لأن القمر يقوم بتحركات ذاتية تبعده كل ليلة عن موقعه السابق.
فالذي نلاحظه كل ليلة يمكن تلخيصه كالآتي:
إذا راقبنا قرص القمر في ليلة لما، وقمنا برسم موقعه على خريطة سماوية في وقت معين فإننا سنجد موقعه هذا قد تغير في الليلة المقبلة في نفس ذلك الوقت، ونجد أنه قد تأخر لمدة تقارب الساعة عن الموقع الأصلي.(3/383)
وعلاوة على هذا التأخير اليومي في الرجوع إلى نفس الموقع، فإن القرص القمري يتغير شكله طيلة الشهر القمري من خلال صغير في أول الشهر إلى بدر كامل الضياء في نصفه، ثم يتراجع هذا البدر ليصبح في آخر الشهر عبارة عن هلال صغير في أول الشهر إلى بدر كامل الضياء في نصفه، ثم يتراحع هذا البدر ليصبح آخر الشهر عبارة عن هلال صغير ذي اتجاه قرني معاكس للاتجاه الذي كان عليه في أول الشهر.
والقمر كغيره من الأجرام الفضائية الأخرى، يخضع في مساره الدوراني إلى كتلة أضخم منه وهي في حالنا هذا الأرض.
ويمثل مدار القمر حول الأرض مستوى يبعد عن مستوى دوران الأرض حول الشمس بخمس درجات، وبما أن هذين المستويين غير متوازيين فإنهما يلتقيان في نقطتين مداريتين يعبر عنهما بالعقد.
فإذا كان القمر في حالة اجتياز مستوى مدار الأرض من أعلى إلى أسفل، فإن العقدة تسمى بالنازلة، أما إذا كان الاجتياز من أسفل إلى أعلى فإن العقدة تسمى بالصاعدة، أما الخط الرابط بين العقد فإنه يتحرك بسرعة دائرية تبلغ دورة كاملة في 18 سنة وثلثي السنة، وتكون هذه الدورة في اتجاه معاكس للاتجاه المباشر المعروف للقمر حول الأرض، وهذه المدة هي التي تعيد نفس سلسلات الكسوف والخسوف كما سنرى.
وفيما يخص الخصائص الأخرى لقرص القمر فإنه يمكن القول أنه يبين لنا من سطح الأرض بقطر ظاهري يتراوح بين "28.22" و"33.22" وهذا التغير في القطر الظاهري ناتج أساسًا عن المسافة غير القارة التي تفصل بين مركزي الأرض والقمر.
أما المسافة التي تفصل بين مركزي الجرمين فإنها غير قارة، لأن القمر يدور حول الأرض تبعًا لمسار إهليجي تكون فيه الأرض بؤرة، ذلك طبقًا لقوانين كبلر الآنفة الذكر.
الأمر ليس بسيطًا إلى هذه الدرجة، فعلاوة على هذا المدار الإهليجي، فإنه توجد تداخلات قوات أخرى تغير من خصائص المسار القمري الطبيعية. وهذه القوات لا تعدو أن تكون سوى أفعال مشتركة تسببها الأرض والشمس لأنهما يمثلان الأجرام الأكثر فاعلية على القمر نظرًا لقرب الأولى ولكبر حجم الثانية.
والمسافة التي تفصل بين مركزي الأرض والقمر، تتراوح بين 5.5 و66 شعاعًا أرضيًا ومعدل هذه المسافة يكون قرابة 380000 كلم.
وتبعًا للمعطيات المذكورة فإنه يمكننا أن نستخلص قيمة الشعاع القمري التي تبلغ 1736 كلم.(3/384)
__________(3/385)
حالات القمر ومنازله:
يعتبر القمر جرم الليل نظرًا لظهوره الليلي المتميز بإشعاع قوي، وهذا الإشعاع يفوق كل الإشعاعات الصادرة عن الأجرام الأخرى سواء كانت نجومًا أو كواكب.
وبما أن القمر يدور حول الأرض مرة كل شهر، وأن إشعاعه ناتج عن انعكاس الضوء الذي يستقبله من الشمس، فإنه من البديهي أن يكون لقرص القمر حالات متعددة يمكن للمشاهد الأرضي أن يرقبها كل ليلة.
وقد سميت هذه الحالات بمنازل القمر، وهذا التتابع في الحالات الذي يتكرر مرة كل شهر قمري جعل بعض الشعوب والأمم تتخذ منه وحدة قياسية للزمن كالذي يحدث حاليًا بالنسبة للعديد من الدول التي تتخذ من الشهر الشمسي وحدة زمنية.
ومن بين الشعوب التي اهتمت بدراسة الوجوه المختلفة لقرص القمر بصفة خاصة نجد الشعوب الإسلامية، فقد اهتمت بالخصوص بتعيين وقت دخول الشهر القمري ووقت نهايته مرورًا بالمراحل الأخرى التي تتوسطهما، وذلك لأنها اتخذت الشهر القمري كمحدد للمقاييس الزمنية.
ولكن يبقى هنا أن نتساءل عن مصدر كل هذه الحالات المختلفة التي تطرأ على القرص القمري.
إن الشمس بنورها الذي تبعثه في كل أرجاء الفضاء المحيط بها، تضيء كافة الأجرام بصفة مماثلة، يعني أنه لو وجد جسم كروي في هذا الفضاء فإن نور الشمس سيغطي شطره، وبالتحديد المناطق المواجهة للأشعة المرسلة من القرص الشمسي، كل هذا ينطبق إذن على القمر، فإذا افترضنا وجود مشاهد خيالي في منطقة بعيدة عن الأرض فإنه سيرى القمر مقسمًا إلى شطرين: الأول مظلم، والثني مضاء بنور الشمس كالأرض.
فمن خلال هذه الملاحظات إذن يمكن أن نقول: إن الحالات المختلفة للقرص القمر لا تعدو أن تكون إلا حالات ظاهرية تبد لنا من الأرض مختلفة من يوم إلى آخر، نظرًا لاعتبارات هندسية ناتجة أساسًا عن انعكاس قسط من الأشعة التي ترسلها الشمس على القمر في مختلف مواقعها على مدارها حول الأرض.(3/386)
القران والمقابلة:
لما تكون الشمس والقمر على نفس خط الطول السماوي، يمكن اعتبارهما في حالة قران، ويحدث مثل هذا لما يلتقي القمر في دورانه حول الأرض بالخط الهندسي الرابط بين مركزي الشمس والأرض، ويكون القمر بينهما.
أما المقابلة فيه على عكس التعريف السابق، تحدث لما تكون الأرض بين القمر والشمس على نفس الخط الذي ذكرناه، وبهذا تكون الأطوار الفاصلة بين القمر والشمس بقيمة 180 درجة.
أما في المراحل التي تتخلل هاتين الحالتين، والتي يوجد فيهما القمر على الخط القائم للخط الرابط بين مركزي الأرض والشمس، فإنه يمكن تسميتها بالربع الأول والربع الأخير.
وبتحديدنا لهذه التعاريف يمكن لنا أن نفهم الآن الحالات المختلفة لقرص القمر التي تطرأ عليه في مدة الشهر القمري.
ففي حالة القران لا يمكن لنا أن نشاهد قرص القمر وذلك لاتباعه مسار قرص الشمس، فعندما يغيب هذا الأخير يغيب معه القمر، وهذا هو مفهوم القران.
ولكن هذا لا يعني أن قرص القمر سيحجب عنا قرص الشمس، لأن القران لا يمكن أن يصحبه احتجاب لقرص الشمس إلا إذا حدث في واقع قرب العقد الصاعدة أو النازلة، كما سوف نرى ذلك في حالات الكسوف، ويطلق على حالة القمر في هذه الفترة: القمر الجديد.(3/387)
__________(3/388)
وبعد بضع ساعات من القران يحدث ابتعاد القمر عن الخط الرابط بين مركزي الأرض والشمس، وذلك نظرًا لسرعته الذاتية على خلاف الأجرام الأخرى التي لا يمكن لها إلا أن تتبع التحرك الليلي الظاهري الناتج عن دوران الأرض حول نفسها، وفي هذه الحالة يكون قرص القمر قد أخذ شكل هلال نظرًا للاعتبارات الهندسية المذكورة.
ثم بعد أيام يصبح القرص عبارة عن نصف كرة مضاءة، وهذا ناتج عن انتقال القمر إلى منطقة في مداره تمكننا من رؤية الإضاءة الحقيقية لحجمه المدور، وتناسب هذه الفترة بالذات وجود القمر في الربع الأول.
وإثر هذه الحالة، وبعد أيام أخرى يمكن لنا أن نلاحظ أن القرص القمري قد تحول إلى بدر كامل الضياء، وهذه الفترة بالذات تقابل مرور نصف شهر قمري، وهي توافق وجود القمر في منطقة مقابلة، ويعبر عن هذه الحالة عادة بالقمر الكامل.
وإثر هذه المرحلة يتم القمر دورته حول الأرض ليمر بعد أيام في منطقة الربع الأخير والتي نشاهد فيها القمر على حالة مطابقة لتلك التي شاهدناه فيها في الربع الأول، ما عدا فرق واحد يتمثل في مشاهدتنا للنصف الثاني فقط من القرص القمري والذي لم يكن ظاهرًا في الربع الأول ويواصل القمر دورته إلى أن يمر شهر قمري كامل تعاد إثره كامل السلسلة التي وصفناها.
هذه لمحة عن أهم الحالات التي يمر بها القمر والتي يمكن أن يشاهدها الإنسان من الأرض، يبقى في هذا المجال سؤال هام يطرح نفسه ويتمثل في المدة التي يتركها القمر ليؤدي دورته الشهرية، والتي يعبر عنها بالدورة الاقترانية، وهل أن هذه المدة قارة أم أنها تتغير طبقًا لمعطيات أخرى؟
قبل أن نبدأ الخوض في الإجابة عن هذا السؤال، نسوق بعض المعطيات لشهر قمري ما، تم فيه حساب الوقت الذي يتركه القمر ليس بكامل المراحل التي تحدثنا عنها:
- بين القران والربع الأول ـــ 7 أيام و 8 ساعات و 37 دقيقة.
- بين الربع الأول والمقابلة ـــ 7 أيام و 22 ساعة و 12 دقيقة.
- بين المقابلة والربع الأخير ـــ 7 أيام و 8 ساعات و 45 دقيقة.
- بين الربع الأخير والقران ـــ 7 أيام و 21 ساعة و 34 دقيقة.(3/389)
وهذه أيضًا بعض المعطيات الأخرى التي يمكن كذلك أن تساعدنا على الإجابة على بعض جوانب السؤال، وتتمثل في الأوقات التي تفصل قرانات عديدة ومتلاحقة للقمر:
- القران الأول: 29 يومًا ـــ 13 ساعة ـــ 30 دقيقة.
- القران الثاني: 29 يومًا ـــ 12 ساعة ـــ 4 دقائق.
- القران الثالث: 29 يومًا ـــ 10 ساعات ـــ 45 دقيقة.
يمكن لهذه المعطيات أن توضح الأمر قليلًا، وذلك لأنها تحتوي على عنصر هام يتمثل في الفروق الوقتية التي تفصل الحالات عن بعضها، والفروق الوقتية التي تفصل قرانات متتالية، وأخيرًا الفروق الموجودة بين الشهر الحقيقي والذي يقوم فيه القمر بدورة كاملة حول الأرض، وشهر قمري تعاد فيه نفس الحالات المذكورة آنفًا.
فأما الفروق الأخيرة، يمكن تفسيرها كما يلي: فإذا حدث في فترة ما قران، فإن القران الموالي سيحصل بعد مدة قام فيها القمر بدورة كاملة، كما قامت فيها الأرض كذلك لجزء من دورتها حول الشمس، وبما أن حالات القمر المختلفة ناتجة أساسًا عن الأماكن التي تأخذها الأرض والقمر بالنسبة للشمس، فإن القمر عندما يدور مرة حول الأرض فإن القران الثاني لا يحصل في نفس الوقت الذي تمت فيه هذه الدورة نظرًا لتحرك الأرض حول الشمس، بل يحدث بعد فترة يكون فيها القمر على الخط الرابط بين الأرض والشمس وهذا الشهر القمري والذي عبر عنه بالشهر الاقتراني هو أطول من الشهر الحقيقي الذي يدور فيه القمر دورة كاملة حول الأرض بقطع النظر عن الحالات التي يكون عليها قرصه.
أما الفروق الأخرى التي تهم الحالات المتتالية للقمر من جهة والفروق التي تهم المدد الفاصلة بين اقترانات متتالية من جهة أخرى، فإنها ناتجة عن أسباب معقدة تعسر حساب أوقات دخول الشهر القمري ولا تجعله ثابتًا، وأهمها أن القمر لا يخضع في دورانه إلى جرم واحد فحسب ولذلك لا يكون مداره منتظمًا نظرًا للاضطرابات التي تعتريه نتيجة لتداخل فعل قوات الأجرام المحيطة به وأهمها الأرض والشمس.(3/390)
فالمعروف أنه إذا كان جرم الأرض هو المؤثر الوحيد في القمر، فسيتبع هذا الأخير في دورانه إهليجا ذات خصائص ذاتية معينة طلبًا لقوانين كبلر، فيسهل بذلك حساب أوقات المراحل المختلفة التي يمر بها القمر.
ولكن هذا لا يمكن تطبيقه بصفة كلية على القمر، لأن هذا الأخير يخضع لقوات أخرى، مصدرها الشمس، التي، وإن كانت بعيدة، فإن كتلتها تؤثر بصفة مباشرة على مدارها القمري.
ولهذه الأسباب فإن دراسة حركة القمر تعتبر من أعسر الدراسات الموجودة في مجال حركية الأجرام نظرًا لأنها تعتمد على مشكل الأجسام الثلاثة، والذي لا يمكن حله بصفة جذرية، ولكن بالاعتماد الحالي على الأدمغة الإلكترونية أمكن للفلكيين معرفة أوقات حدوث كافة الحالات القمرية، وبالتالي معرفة بداية الشهر القمري ونهايته، وذلك بفوارق زمنية تصل في وقتنا الحاضر مقدار جزء من ألف الثانية.
والجدير بالذكر أن مثل هذه الحسابات الدقيقة هي التي مهدت للولايات المتحدة من بعث أول مركبة قضائية مسكونة إلى القمر.
الرؤية العلمية والبصرية لهلال أول الشهر القمري:
يحصل القران بين القمر والشمس عندما يكون هذان الجرمان على نفس خط الطول السماوي مثلما رأينا في الفقرات السابقة.
وتعريف دخول الشهر القمري عند المسلمين هو عندما يبدأ الهلال في الظهور فما هي العلاقة الموجودة إذن بين ظهور الهلال وبين القران؟
لكن قبل ذلك لنا أن نسوق بعض الملاحظات:
إن المتأمل للحالات المتعددة التي يمر بها القمر يمكن أن يلاحظ أن الهلال إذا ظهر في ليلة ما، فإنه يختفي بعد ساعات من غروب الشمس، ويتفاوت عدد هذه الساعات بتغير حجم الهلال من ليلة إلى أخرى، فهل أول الشهر يختلف مثلًا عن الهلال الذي مرت عليه أربعة أيام، وذلك لأن هذا الأخير يكون في مرحلة إشعاع للضوء أكثر من الأول، نظرًا لوجوده في منطقة من مداره تخول له انعكاسًا أكبر للضوء.
كما أنه إذا اختفى هلال أول الشهر بعد ساعة تقريبًا من غروب الشمس، فإن الهلال الذي يكون عمره أربعة أيام يختفي في القبة السماوية في منطقة الغرب وبعد أكثر من ثلاث ساعات من غروب الشمس.
وكل هذه الملاحظات يمكن أن يتتبعها أي كان عندما يبدأ الشهر القمري وكما ذكرنا في الحالات الظاهرية للقمر فإن تغير حالة قرص القمر ناتجة أساسًا عن الدوران الذاتي للقمر حول الأرض.
يبقى هنا أن نفسر ما يحدث قبل أن يظهر هلال أول الشهر.
بما أن القمر في حالة دوران مستمرة حول الأرض، فإنه قبل أن يظهر هلال أول الشهر يكون القمر قد مر بمرحلة هلال آخر الشهر، وهذا التعريف الأخير غير مستعمل لعدم اهتمامنا به لأنه لا يمثل بداية لوحدة قياس زمنية.(3/391)
__________(3/392)
وهلال آخر الشهر يمكن أن يراه كل واحد منا في منطقة الشروق وذلك قبل أن يبزغ قرص الشمس وبين هذه الحالة وحالة هلال بداية الشهر توجد مرحلة ما يعبر عنها بالقران وهي التي يصبح فيها قرص القمر مصاحبًا لقرص الشمس بدون أن يقع تداخلهما الظاهري نظرًا لوجود كل منهما على مستوى مختلف، ولا يمكن أن تحدث حالة التداخل هذه إلا عند وجود القمر في واحدة من العقد الصاعدة أو النازلة أو قربها، وهذا بالذات يقابل حالة الكسوف.
إذن يمكن القول بأن الهلال النظري يولد بعد أن يمر القمر من حالة القران التي يكون فيها حدوث كسوف الشمس ممكنًا إذا توفرت الظروف الملائمة لذلك.
هذا فيما يخص الظهور العلمي للهلال الذي يكون في الدقائق التي تتلو حدوث القران أما فيما يخص الرؤية البصرية للهلال فإنها لا يمكن أن تكون إلا إذا كان بعد قرص القمر عن قرص الشمس بمقدار 8 درجات عند الغروب، وتعادل هذه القيمة ما بين تسع ساعات وعشرين ساعة بعد وقت القران.
ولا يمكن لأضخم آلات الرصد الفلكية أن تعاين الهلال الجديد إلا بعد مرور ساعتين على الأقل من وقت حصول القران.
وتكمن هذه الصعوبة في معاينة الهلال مباشرة بعد القران، في أن القمر حينما يجتاز هذه الحالة، يكون مجال وجوده في مجال ضوء الشمس الذي تحجب عنا قوته مشاهدة القمر الجديد، ولا يمكن بالتالي معاينة الهلال إلا بعد مرور ساعات عن القرن وفي وقت الغروب، لأن قرص الشمس في هذه الفترة يكون قد اختفى، ويكون الانفصال الزاوي بين قرصي الشمس والقمر كافيًا ليشاهد الهلال بالعين المجردة.
ولنا أن نقول هنا: إنه يمكن حساب وقت حدوث القران بدقة كبيرة لا يتعدى فيها الفارق جزءًا بسيطًا من الثانية.(3/393)
__________(3/394)
ويمكن لنا إذا أردنا أن نستعمل الحسابات المعتمدة في الدول المتقدمة لتعيين وقت دخول مثل هذه الظواهر، لأغراض تخدم مصالحنا الإسلامية، ومن ذلك فباستطاعتنا أن نعين وقت دخول الشهر القمري قبل عدة أشهر، ونقوم بالتثبيت التطبيقي عند حلول الشهر المعني مثلما أمرنا بذلك في الشريعة، وهذا في رأيي عين الصواب لتحاشي هفوات عديدة قد يكون ضحيتها أفراد الأمة الإسلامية من جراء رؤية قد تكون خاطئة، خصوصًا إذا كانت مصحوبة بحسابات فلكية بالية، وفي هذا السياق آخذ الواقعة التالية التي أتمنى أن يعتبر بها القارئ.
منذ سنوات، أعلنت بعض الإذاعات العربية عن رؤية الهلال، فتبعها، في ذلك عدد لا يستهان به من الدول العربية الأخرى، ثم اعترفت فيما بعد بالخطأ الذي وقعت فيه وكانت رؤية الهلال في ذلك المساء بالذات مستحيلة نظرًا لأن القرار يحصل بعد 11 ساعة من الوقت الذي تم فيه الإعلان عن الرؤية، وقد أكد حدوث القران في ذلك الوقت وجود كسوف كلي في منطقة نصف الكرة الجنوبي، وكما سنرى فيما يلي فإن الكسوف إذا حدث فإنه يكون في وقت القران تمامًا، ولا يمكن لأضخم آلات الرصد الفلكية أن ترى الهلال إلا بعد مرور ساعتين على وقت حصول القران كما ذكرنا.
وفي المدة التي حصلت فيها هذه الحادثة، أراد مدرسان سوفياتيان متابعة الحدث والاطلاع على كيفية تعيين دخول القمر الجديد من قبل المسلمين، فكانت المفاجأة كبيرة إذ قال أحدهما بالحرف الواحد: كيف يمكن أن يحدث هذا الخطأ في البلاد التي كانت مهدًا لأعظم فلكيي الإنسانية؟
فلنتحر إذن كل الإشاعات الموجودة التي تقول: إنه من المستحيل معرفة وقت دخول الشهر القمري أو انتهائه بصفة علمية، ولو كان الأمر كذلك لما تمت للفلكيين معرفة سلسلة الكسوفات والخسوفات التي تحدث بعد عدة سنوات، وكما سنرى، فإن الكسوف والخسوف يتطلبان حسابًا أدق من ذلك الذي تتطلبه المعاينة العلمية لدخول الشهر.(3/395)
ظاهرة الكسوف والخسوف:
منذ العصور القديمة استرعى انتباه الإنسان حدوث ظواهر يتسبب فيها القمر حينًا عندما يحدث كسوف للشمس، والأرض حينًا آخر عندما يحدث خسوف القمر.
وقد اعتمدت الشعوب القديمة في تفسيرها لهذه الظواهر على أسس دينية ليس لها أي مجال من الصحة.
وقد كان الصينيون القدامى أول من حاول تفسير مثل هذه الظواهر والتعرف على الدورات الوقتية المختلفة لها، فقد قاموا بوضع جداول زمنية لحدوث الكسوف ثم محاولة تعميمها على السنوات الموالية، وقد نجحوا جزئيًا في هذه المهمة.
أما العرب المسلمون فيرجع لهم الفضل في محاولة تفسير جديد للظواهر المذكورة، ويكفي أن نذكر في هذا المجال العالم المسلم ابن الهيثم الذي كان متخصصًا في علم البصريات، والذي قام بتجارب عديدة، مهدت فيما بعد الحصول على معلومات إضافية تهم حدوث الكسوف والخسوف.
كيف يحدث الكسوف:
نعلم أنه طبقًا لقوانين كبلر، أن القمر يدور حول الأرض تبعًا لمدار إهليجي ويتخلل هذه الدورة بعض الاضطرابات الحركية التي تؤثر في الحركة الدائرية للقمر، كما سوف نرى، ومستوى مدار القمر يختلف عن مستوى مدار الأرض حول الشمس بنحو خمس درجات.
إذن يمكن أن نقول: إن القمر يدور حول الأرض تبعًا لمسار شبه دائري ومائل نحو خمس درجات للمستوى الأصلي الذي تتم فيه الدراسات الفلكية وهو مدار الأرض حول الشمس، وبما أنه توجد بعض الاضطرابات فإن هذا المدار ذا الأنحاء القار يتحرك حول خط العقد بسرعة 360 درجة في 18 سنة وثلثي سنة، وهذه المدة هي التي تعيد نفس سلسلة الكسوفات والخسوفات التي حدثت في وقت ما وتسمى بالشروق نظرًا لرجوع القمر إلى نقطة البداية في المدار الأول، إذا فسلسلة الكسوفات والخسوفات التي حدثت بين سنة 1960 وسنة 1978 هي نفسها التي حدثت بين سنة 1948 وسنة 1960 مثلًا.(3/396)
ولكن متى يحدث الكسوف؟
حينما يكون القمر في حالة قران وتكون منطقة وجوده على مداره على بعد زاوي أقل من درجة و 35 دقيقة بالنسبة للدائرة الكسوفية وهي مدار الأرض حول الشمس، فإنه من الأرجح أن يكون هناك كسوف.
أما إذا كانت منطقة وجوده العرضية أقل من درجة و 22 دقيقة، فإن الكسوف يحدث لا محالة.
وبين هاتين المنطقتين يكون حدوث الكسوف غير ثابت، ولهذا يجب القيام بحسابات أدق من السابقة للتيقن من حدوثه.
ولكن لماذا يحدث الكسوف في هذه المناطق العرضية بالذات؟
للإجابة عن ذلك نقول: إنه في حالة القران يجب أن تكون زاوية العرض السماوية للقمر أقل من مجموع الزوايا التي تفصل على التوالي بين الخطين الهندسيين أرض – قمر، وأرض – شمس من جهة ونصف القطر الظاهر للقمر من جهة ونصف القطر الظاهر للقمر من جهة أخرى، وبما أن حركة القمر غير قارة كل شهر على مداره فإن مقدار هاتين الزاويتين يتغير من شهر إلى آخر.
ومن جانب آخر يمكن أن نقول: إن الكسوف يحدث إذا مكان ظل القمر يحجب بصفة جزئية أو كلية رقعة من الأرض، لذلك يكون وجود القمر في نقطة ما من مداره وقت القران بالذات المحدد الوحيد لحدوث نوع من أنواع الكسوفات المختلفة أو عدم حدوث أي واحد منها.
وأعني بأنواع الكسوف: الكسوفات الكلية، أو الكسوفات التوسطية، أو الكسوفات الجزئية.(3/397)
__________(3/398)
ومن المعلوم أنه لما يدور القمر حول الأرض يخلف في كل نقطة من مداره ظلًا يناسب طوله والمسافة التي تفصل القمر عن الشمس، وفي كل الحالات يتراوح مقدار هذا الطول بين 57 و 59 شعاعًا أرضيًا، وهذه الأرقام تقترب إلى حد كبير من الأرقام التي تتعلق بالمسافة الفاصلة بين القمر والأرض والتي تتراوح بين 55 و 66 شعاعًا أرضيًا.
ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نصف الكسوفات حسب طول الظل القمري وحسب المسافة الفاصلة بين الأرض والقمر وقت القران.
(أ) الكسوف الكلي:
إذا بلغ طول الظل الذي يخلفه القمر المقدار الأقصى، يعني 59 شعاعًا أرضيًا، بينما لا تكون المسافة الفاصلة بين مركزي الأرض والقمر إلا 55 شعاعًا أرضيًا، وهي المسافة الدنيا بينهما فتكون في هذه الحالة رقعة الظل الواقعة على الأرض عبارة على بقعة دائرية دكناء، يقدر شعاعها بـ 148 كلم، وهذه أكبر الرقاع التي يمكن أن يسببها كسوف للشمس.
أما المناطق المحيطة بهذه الرقعة فيكون فيها الكسوف جزئيًا، وذلك لأن هذه الأماكن قد اخترقها ما تحت الظل فحسب، ومن هنا فلا يرى المشاهد الأرض في هذه المناطق بالذات سوى احتجاب جزئي لقرص الشمس.
ولنصف الآن كيفية حدوث الكسوف الكلي على منطقة أرضية ما: قبل القران بساعة وبضع الساعة يبدأ قرص القمر بالدخول في مجال قرصي الشمس ويكون هذا الدخول بطبيعة الحال جانبيًا وتدريجيًا إلى أن يحجب قرص القمر جزءًا كبيرًا من قرص الشمس، وفي وقت القران بالذات يغطي قرص القمر كليًا قرص الشمس، ويخيم الظلام تمامًا على المنطقة لمدة تقارب ستة دقائق يبدأ إثرها قرص الشمس في الانجلاء شيئًا فشيئًا للرجوع بعد ساعة ونيف إلى حالة إضاءته الطبيعة.
وعلى سبيل الإفادة نذكر الحدث العلمي التالي:
في كسوف شمسي حدث سنة 1973 اتفقت بعض الدول المتقدمة على تمويل مشروع يقضي بمتابعة هذا الكسوف الذي حدثت معظم مراحله على القارة الإفريقية في المنطقة الاستوائية، ولكن هذه المتابعة لم تكن كسابقتها بالعين المجردة فحسب، أو بآلات رصد ثابتة، بل تعدتها لتكون على متن طائرة تتجاوز سرعتها سرعة الصوت، وقد جهزت بآلات رصد خاصة مهدت للعلماء فيها بعد التعرف على جزء كبير ومجهول من مكونات الأجواء الشمسية والتي لا يمكن دراستها إلا عند حدوث كسوف كلي.
والمرحلة الكلية للكسوف التي تدوم عادة ست دقائق، تمت مراقبتها في هذه المرحلة لمدة ساعتين وذلك بمتابعة بقعة الظل القمرية التي التقت بسطح الأرض في منطقة موريتانيا وتواصلت إلى أن ابتعدت عن السطح في منطقة بكينيا، وقد انتظر الفلكيون والعلماء بشغف هذا الكسوف منذ عدة سنوات لإتمام تحضيراتهم على أحسن وجه، ولم يقتصروا على معرفة وقت بداية الكسوف فحسب، بل تعرفوا كذلك على المسار الذي تتبعته بقعة الظل، وقد تم إعطاء هذه التعليمات من قبل دماغ إلكتروني وقع تصميمه لهذا الغرض.(3/399)
(ب) الكسوف الجزئي:
يحدث هذا النوع من الكسوف عندما تكون المسافة الفاصلة بين سطح الأرض والقمر تعادل في قيمتها طول الظل من قاعدته إلى قمته، وفي هذه الحال تكون كامل المنطقة المحيطة بالنقطة النظرية لهذه القمة في حالة كسوف جزئي، يعني أن ما تحت الظل هو الذي يغطيها وليس الظل نفسه، وتحدث مثل هذه الحالة أيضًا إذا التقى ظل القمر بمناطق قطبية يكون فيها معظم الظل وما تحت الظل خارج الكرة الأرضية.
(ج) الكسوف التوسطي (الحلقي) :
في حالة القران، وعندما تكون المسافة الرابطة بين مركزي القمر والأرض 66 شعاعًا أرضيًا بينما لا يتعدى طول الظل من قمته إلى قاعدته 57 شعاعًا أرضيًا فيحدث أن نرى أن قيمة الظل القمري تكون فوق سطح القمر وبهذا عندما يكون الكسوف في مرحلته القصوى فإن قرص القمر يتوسط قرص الشمس، وهذا ناتج عن كون قيمة شعاع القرص الظاهري للقمر أقل من تلك التي تكون للشمس نظرًا لأن القمر في هذه الحالة يكون في أبعد نقطة من مداره حول الأرض.
أما في المناطق الشريطية المجاورة لمناطق الكسوف التوسطي، فيمكن أن نشاهد على غرار الكسوف الكلي احتجاجًا جزئيًا لقرص الشمس.
بقي أن نلاحظ أن حدوث كسوف كلي في منطقة من المناطق نادرًا أن يتكرر في نفس المنطقة نظرًا لأن الشريط الأرضي الذي يمكن أن يشاهد فيه كسوف كلي صغير جدًا بالنسبة لحجم الكرة الأرضية، وكذلك نظرًا لأن سلسلة الكسوفات التي ذكرناها سابقًا والتي تعيد نفس أنواع الكسوفات في مدة 18 سنة و 11 يومًا لا تعيد الكسوف نفسه فوق المنطقة نفسها لأنه لا توجد تناظرية في عدد الأيام.(3/400)
فائدة الكسوف:
يتساءل المرء عن أهم الفوائد التي يمكن أن نجنيها من حصول كسوف ما على الأرض.
صحيح أن هذه الفوائد كانت منعدمة في القديم، ولكن الأمور تغيرت في عصرنا الحاضر وأصبح الإنسان يحاول جاهدًا تفسير عدد من الظواهر باتت إلى حد هذا الوقت غير مفهومة، ومن بين المشاكل العلمية التي أمكن للعلماء حلها لما يحدث كسوف للشمس فذلك توصلهم لإثبات عدم وجود طبقات جو على سطح القمر، وقد كان هذا الإثبات نتيجة مقارنتهم لبقعة الظل النظرية التي يمكن أن يخلفها جسم كروي كالقمر بدون أن يكون له مجال جوي محيط به، وبين البقعة الحقيقية التي يسببها مرور القمر بين الأرض والشمس في وقت القران وفي حالة الكسوف الكلي وقد وجد العلماء أن هاتين البقعتين لهما نفس المساحة.
ومثل هذه التجارب مكنت علماء الفضاء من بعث مراكب فضائية مسكونة إلى سطح القمر بدون أن يكون هناك خوف على هذه المراكب من الاحتراق إذا ما اخترقت المجال القمري، وذلك لعدم وجود طبقات جو.
أما التجربة التي قام بها زملاء انشتاين لتثبيت نظريته في النسبية العامة، فقد كانت رائدة في التاريخ الفيزيائي الحديث، ولو لم تكن هذه التجربة التي قاموا بها أثناء كسوف كلي للشمس سنة 1918 والتي حاولوا عبرها إثبات انحناء شعاع الضوء عندما يمر قرب كتلة ضخمة، كما تنص على ذلك بعض الفصول النظرية لقانون النسبية العامة لما كتب لانشتاين أن يفرض ما جاء به نظرًا لما كانت تكتنفه هذه النظرية من غموض على الصعيدين النظري والتطبيقي.
أما الفوائد الأخرى التي يمكن أن يقدمها حدوث كسوف كلي للشمس في منطقة ما، فإننا نذكر الدراسات القائمة على قدم وساق، والتي سوف تمكن العلماء بعد بضع سنوات من التعرف على بعض الخصائص المجهولة لجرم الشمس.
وأجواء هذه الأخيرة، لا يمكن أن تدرس إلا عند حدوث كسوف كلي للشمس، ولهذا نرى أنه كلما علم بحصول كسوف كلي على منطقة ما، تهافت عليها العلماء من كل حدب وصوب للتمكن من إتمام الدراسات التي يقومون بها، ونشير هنا أن معدل الوقت تستمر فيه المراحل الكلية لكامل الكسوفات الكلية التي تحدث كل سنة على أرض لا يتجاوز 10 دقائق، وهذا الوقت جد قصير بالنسبة لدراسات هامة كتلك التي يقوم بها العلماء في هذا المجال، ولذا فإننا نراهم يستعدون كامل الاستعداد لرصد مثل هذه الحالات، وما التجربة الرائدة التي تحدثنا عنها والتي قام بها فريق من الباحثين على متن الطائرة لتتبع بقعة الظل إلا خير دليل على ذلك.(3/401)
خسوف القمر:
قلنا في الجزء السابق: إنه لما يوجد القمر في نفس المستوى مع الأرض والشمس يمكن أن يكون القمر بين الأرض والشمس أو أن تكون الأرض بينه وبين الشمس.
ولذا فإننا سنتناول الحالة الثانية في الفقرات الموالية:
أن الظل الذي تخلفه الكرة الأرضية عندما تكون مضاءة بالشمس، أكبر من الظل الذي يخلفه القمر عندما يدور حول الأرض، فنظرًا لهذا فإن الخسوفات الكلية، عندما تحدث، يمكن أن تحجب قرص القمر تمامًا، وهذا لن يحدث عندما تكون الأرض في حالة كسوف.
لكن لا يمكن للخسوفات أن تحدث كل مرة يمر فيها القمر من منطقة التقابل، وذلك لأن المدار القمري ذا الأنحاء الثابت غير قارٍّ في تحركاته، ولهذا يمكن أن نصف أنواع الخسوفات حسب زاوية العرض السماوية:
1- أقل من 21 دقيقة: خسوف كلي ثابت.
2- بين 21 و 32 دقيقة: خسوف ثابت كلي أو جزئي.
3- بين 32 و 52 دقيقة: خسوف ثابت جزئي.
4- بين 52 و 63 دقيقة: خسوف جزئي ممكن.
5- أكثر من 63 دقيقة: حدوث الخسوف مستحيل.
وفي حالة حدوث خسوف كلي للقمر يمكن لمناطق الأرض التي يوجد فيها الظلام والتي يظهر فيها القمر أن تشاهد هذا الخسوف.(3/402)
وقد استعمل الخسوف الكلي لفترات طويلة كمحدد رئيس لزاوية الطول الجغرافية لمنطقة ما من الأرض، كما استعمل للتعرف على وقت حدوث البدر الكامل، وقد ساعد هذا على إصلاح بعض الحسابات الفلكية القديمة التي تعتمد دورة القمر كوحدة وقتية لها.
وفي حالة حدوث خسوف كلي يصبح القمر غير مرئي بالمرة، بل نرى ضياء أحمر داكنًا، وما هذا الضياء إلا نتيجة للإشعاعات الشمسية المنعكسة على مناطق سطح الأرض التي يكون فيها الوقت نهارًا.
تواتر الكسوف والخسوف:
اعتمادًا على ما ذكرنا سابقًا فيما يخص موقع القمر بالنسبة لمستوى مدار الأرض على مداره عندما يكون في حالة اقتران أو تقابل، اعتمادًا على هذا فإنه يمكن القول: إن عدد الخسوفات والكسوفات في السنة لا يحدث إلا نادرًا نظرًا لأن الشروط المذكرة لا تتكرر إلا في مناسبات معدودة، فالمعدل العام لحدوث نوع من الكسوفات في السنة يقارب 2.3 مرات، أما معدل الخسوف فلا يتجاوز 1.5 مرات.
وتبلغ مدة الدورة الوقتية التي تعاد فيها نفس الكسوفات والخسوفات، 18 سنة و11 يومًا، ويتراوح عدد الكسوفات والخسوفات في هذه المدة بين حد أقصى يبلغ السبعة (تشمل الكسوف والخسوف) وبين حد أدنى يصل في بعض الأحيان إلى اثنين (كسوف للشمس وخسوف للقمر) .(3/403)
__________(3/404)
الخلاصة
اعتبر أنه من الواجب على المسلمين وجوبًا عينيًا وكفائيًا:
- التزام التاريخ الهجري الذي أجمع عليه في عصر الصحابة.
- حساب الشهور القمرية مرتبطة بالعبادات وبالتالي فله أهمية قصوى في حياتنا.
- احترام علم الفلك وعدم مقارنته بالتنجيم الذي ليس له أي صلة بالعلوم وخصوصًا تلك التي حث عليها الإسلام.
- أن التوحيد في أوائل الشهور القمرية أمر ميسور لدى أهل علم الفلك وله ما يدعمه من حقائق وثوابت فلم يبق إلا اجتهاد فقهاء العالم الإسلامي بطريقة جماعية لتحديد أوائل هذه الشهور مستعينين بما يقدمه علم الفلك والفلكيون.
- بما أن الكسوف والخسوف ظاهرتان ثابتتان يمكن حسابهما وتثبيتهما، فإنه بالمثل لبداية الشهور القمرية، ويمكن إصدار تقاويم يوافق عليها علماء من الفلكيين والفقهاء، ومثل هذا ينظم ويبعد شبح التفرقة والفتنة بين أفراد أمة الإسلام.
وفقنا الله لما فيه خير أمة الإسلام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(3/405)
الوثائق المقدمة
توحيد بداية الشهور القمرية
لفضيلة الشيخ محمد علي السايس
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فما له من هاد، ونصلي ونسلم على خير أنبيائه وصفوة رسله وأوليائه، سيدنا محمد بن عبد الله المبعوث بالهدى ودين الحق بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
أما بعد، فقد طال الجدل بين العلماء قديما وحديثا في شأن الشهور القمرية وتحديد أوائلها وأواخرها، واختلفت كلمتهم في ذلك اختلافًا كثيرًا وفي كل عام يتجدد النزاع وتحتدم المناقشة في هذا الشأن، لا سيما في أشهر رمضان وذي الحجة لارتباط الصيام والحج بهما، وكثيرًا ما تطلع الناس إلى علماء الشريعة، وراودهم الأمل في أن يطلعوا على الناس برأي يجمع كلمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ويوحد صفوفهم ويؤلف بين قلوبهم ويقضي على هذا التفرق والتنازع، وذلك لتوحيد مبدأ الشهور العربية في جميع البلاد الإسلامية، وبذلك يتوحد مظهر المسلمين جميعًا في أنحاء المعمورة في أداء عبادتهم، وفي مواسمهم وأعيادهم الدينية مطمئنة قلوبهم إلى أنهم أدوا الصوم والفطر والحج في وقته، لا يتطرق إلى نفوسهم شك ولا يساورها قلق، كما هو الشأن الآن بالنسبة للمختلفين من الصائمين والمفطرين، لا يثق أي منهم وثوقًا مطلقًا بأنه هو المحق وغيره المبطل، ولعل هذا هو ما أراده النبي –صلى الله عليه وسلم- بقوله ((صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وحجكم يوم تحجون)) .
ولا شك أن توحيد مبدأ الشهور العربية في البلاد الإسلامية يعد من أقوى العوامل على تمكين الروابط بين الشعوب الإسلامية في جميع أقطار الأرض، وجمعهم على كلمة واحدة وطريقة واحدة، والناس الآن أحوج ما يكونون إلى التآلف والتقارب واتحاد الكلمة، والطابع العام للدين الإسلامي هو التوحيد، والله رب العالمين واحد، والرسول الكريم للناس كافة واحد، والقرآن واحد، والقبلة التي يتوجه إليها المسلمون في صلواتهم واحدة، والأمة الإسلامية واحدة، قال تعالى {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} .(3/406)
وقد تقدم فضيلة الشيخ عبد الحميد السائح عضو المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية عن شرق الأردن برغبة أن يبحث المجمع هذا الموضوع، وقد استجاب المجمع لهذه الرغبة وأحال على هذا البث ليقدم إلى المؤتمر الثالث، واستعنت بالله واطلعت على نصوص من كتب المذاهب الأربعة، وبعض علماء الشيعة الإمامية والزيدية وعلى رسائل كتبت في هذا الشأن منها رسالة تنبيه الغافل والوسنان على أحكام هلال رمضان لابن عابدين، ومنها العلم المنشور في إثبات الشهور لابن السبكي قاضي قضاة دمشق0، ومنها إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة للشيخ محمد بخيت المطيعي، ومنها رسالة الهلال للشيخ طنطاوي جوهري، ومنها رسالة الصوم للشيخ عبد الرحمن تاج شيخ الأزهر سابقًا، ومنها قرارات اللجنة الشرعية الفلكية بشأن توحيد مبدأ الشهور العربية في البلاد الإسلامية لطائفة من أساتذة كلية الشريعة.
وقد تبين لي والحمد لله بعد الاطلاع على هذه المراجع والرجوع إلى أهل الذكر فيما ليس لنا به علم من علماء الفلك أن هذا المطلب ليس بعزيز المنال، وأنه أيسر مما كنت أظن ويظن كثير من الناس، لكثرة اختلاف العلماء طوال الأزمان الخالية، دون أن تتلاقى وجهات نظرهم ويتفقوا على رأي واحد يريح المسلمين من هذا التنازع ويجمعهم على كلمة سواء.
ولا تثريب على من اختلفوا قديمًا من العلماء، فلم يكن لديهم تلك الوسائل التي مَنَّ الله بها على عباده في هذا الزمان، والتي جعلت هذا المبدأ القويم مبدأ التوحيد يسير المنال.
وأول تلك الوسائل تقدم علم الفلك وبراعة علمائه فيما يعالجونه من شؤونه، وذلك بالحساب الدقيق القطعي المبني على قواعد هندسية مبرهنة، والذي يضبطون به أحوال القمر ومنازله ومواقفه، ويحددون به أوائل الأشهر القمرية ونهايتها، مما يستعان به على رؤية الهلال رؤية عينية هي غاية العلم وهي عين اليقين.(3/407)
وثانيها: ما اخترعه العلماء في هذا العصر من الآلات الحديثة التي يسهل بها كشف الهلال في ليلته الأولى مهما كان صغيرًا دقيقًا، من المراصد المجهزة بأحدث الوسائل العلمية مما ييسر أمر الرؤية في هذا العصر.
وثالثها: تقدم وسائل الإذاعة والإعلام في هذا الزمان، كالراديو والتليفزيون واللاسلكي وغير ذلك مما يمكن من إعلام جميع البلاد الإسلامية بالرؤية فور ثبوتها.
ويشتمل هذا البحث على أربعة فصول وخاتمة:
الأول - في أقوال علماء المذاهب الأربعة وبعض الشيعة الإمامية والزيدية فيما ثبتت به هلال رمضان وشوال وغيرهما في حالتي الصحو والغيم، مع بيان وجهة كل منهم ومناقشة الأدلة وترجيح المختار منها.
الثاني - في بيان آراء علماء الإسلام في مطالع القمر، وهل يؤثر اختلافها في إثبات الشهور، أو لا عبرة باختلافها فيمكن توحيد البلاد الإسلامية واجتماعها على مبدأ واحد؟
الثالث - في بيان أنواع الحساب الفلكي وما جرى عليه العمل قديمًا وحديثًا في التقاويم الرسمية وغيرها، حتى يتميز ما يصح التعويل عليه وما لا يصح.
الرابع - في بيان آراء العلماء في الرأي بقول أهل الحساب والفلكيين في تحديد الشهور القمرية.
أما الخاتمة - فهي في بيان ما يجب على الدول الإسلامية القيام به في شأن إثبات الشهور القمرية لنصل إلى هذه لغاية المنشودة من أقرب سبيل.(3/408)
الفصل الأول
أقوال العلماء، فيما تثبت به الشهور القمرية
مذهب الحنفية:
المقرر في معتبرات الكتب عند الحنفية أنه يجب على المسلمين وجوب كفاية أن يلتمسوا هلال رمضان وغيره في اليوم التاسع والعشرين من شهر السابق لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يومًا، فيجب عليه طلبه لإقامة الواجب، فإن رأوا الهلال ثبت الشهر الجديد، وصاموا إن كان رمضان، لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وإن غُمَّ عليكم أكملوا عدة الشهر ثلاثين يومًا لقوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا)) ، ولأن الأصل بقاء الشهر وكماله، فلا يترك هذا الأصل إلا بيقين بناء على القاعدة الشرعية: لا يزول اليقين بالشك.
والمصرح به في كتبهم المتداولة أنه إذا كان بالسماء علة من غيم أو غبار يحجب الرؤية أن يقبل في تحقق رمضان خبر عدل أو مستور، ولو كان خبر العدل أو المستور على خبر مثله، ويستوي في ذلك أن يكون المخبر حرًا أو عبدًا ذكرًا أو أنثى، ولا يشترط العدد ولا لفظ الشهادة ولا تقدم الدعوى ولا حكم الحاكم ولا مجلس القضاء واستدلوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبصرت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟ فقال: نعم، قال: قم يا بلال وأذن في الناس ليصوموا غدًا)) وفي رواية ((يكفي المسلمين أحدهم قم يا بلال)) إلخ.. وعللوا ذلك أيضًا بأن هذا ليس بشاهدة، بل هو إخبار، بدليل أن حكمه يلزم الشاهد وهو الصوم، وحكم الشهادة لا يلزم الشاهد، والإنسان لا يتهم في إيجاب شيء على نفسه، إلا أنه إخبار في أمر ديني ولذلك اشترطوا في المخبر الإسلام والعقل والبلوغ، وألا يكون ظاهر الفسق، لأن قول الفاسق في الأمور الدينة التي يتيسر تلقيها من العدول غير مقبول.
أما إذا لم يكن بالسماء علة فقد اختلفت كلمتهم في ذلك، ففي ظاهر الرواية لا يقبل خبر الواحد حتى يراه جمع كثير يقع العلم للقاضي بخبرهم والمراد من العلم غلبة الظن لا اليقين، وأمر القلة والكثرة مفوض إلى رأي المشهود عنده، لأن ذلك يختلف باختلاف الأوقات والأماكن.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه تقبل في هذه الحالة أيضًا شهادة الواحد العدل، وفي رواية أخرى تقبل شهادة رجلين أو رجل وامرأتين.
ووجه ظاهر الرواية أن خبر الواحد العدل إنما يقبل فيما لا يكذبه الظاهر وهنا الظاهر يكذبه حيث تفرد بالرؤية والسماء صحو، والكل متوجه إلى ما توجه إليه يقلب وجهه في السماء، وفيهم من هو أقوى منه إبصارًا وأَحَدُّ نظرًا، فكان ذلك مظنة غلطه، فلا يفيد خبره غلبة الظن، فلا يقبل لاحتمال الغلط والخطأ، كما حكي عن أنس بن مالك أنه تراءى الهلال مع جماعة فيهم إياس، فقال أنس: إني أرى الهلال، ولم يره أحد ممن كان معه، فتفطن إياس بذكائه ونظر إلى عين أنس، فوجد عليها شعره بيضاء قد نزلت من حاجبيه، فرفعها إياس بيده، وقال: أرني الهلال، قال: لا أنظر الآن.(3/409)
أما هلال شوال فقد قالوا: إنه إذا كان بالسماء علة لا تقبل فيه إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، مسلمين حرين عاقلين بالغين غير محدودين في قذف، كما في الشهادة في الحقوق لما روي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة رجل واحد على رؤية هلال رمضان، وكان لا يجيز الإفطار إلا بشهادة رجلين،)) ، ولأن هذا من باب الشهادة؛ لأنه لا يلزم الشاهد شيء بهذه الشهادة، بل له فيه نفع، وهو إسقاط الصوم عن نفسه، فكان متهمًا فيشترط فيه العدد نفيًا للتهمة بخلاف هلال رمضان، فيشترط في هلال الفطر نصاب الشهادة ولفظ: أشهد، ولا تقبل فيها شهادة محدود في قذف، ولكن لا يشترط فيه الدعوى؛ لأن مجيء الشهر لا يدخل تحت الحكم قصدًا.
وإذا لم تكن بالسماء علة فهو كهلال رمضان لا يقبل فيه إلا خبر جماعة يحصل بخبرهم غلبة الظن، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه تقبل فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين سواء كان بالسماء علة أو كانت صحوًا.
أما هلال ذي الحجة ففي ظاهر الرواية أنه كهلال الفطر في حالتي الصحو والغيم، لأنه تعلق به نفع العباد وهو التوسع بلحوم الأضاحي، وقال ابن الهمام نقلًا عن التحفة: والصحيح أنه يقبل فيها بشهادة الواحد لأن هذا من باب الخبر، فإنه يلزم المخبر أولًا ثم يتعدى منه إلى غيره، لأنه يتعلق به أمر ديني، وهو وجوب الأضحية، وحرمة صوم يوم النحر، وأيام التشريق، فصار كهلال رمضان في تعلق حق الله به، فيقبل في حالة الغيم الواحد العدل، ولا يقبل في حالة الصحو إلا ما يحصل به غلبة الظن.
أما بقية الشهور التسعة فلم يتعرض المتقدمون لها، لأن الشارع لم يجعل مجيء شهر منها وقتًا لعبادة مفروضة أو لحرمة شيء خاص، وإنما تعرض لها بعض المتأخرين، فقد قال صاحب البحر في شرح الكنز: وذكر الإمام الأسبيجابي شرح مختصر الطحاوي الكبير:
وأما هلال الفطر والأضحى وغيرهما من الأهلة، فإنه لا يقبل فيها إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين عدول أحرار غير محدودين في قذف.(3/410)
قال المرحوم الشيخ محمد بخيت المطيعي في كتابه إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة ص 99: وما قاله صاحب البحر فهو في غير موقعه كما قال المرجاني في ناطورة الحق وقال فيها: ومن الجائز أن يكون المراد منه أي من كلام الأسبيجانبي أن هذه الأهلة (ما عدا رمضان) لا تثبت بدون شهادة شاهدين في حكم متعلق بها من حقوق العباد، من تعليق طلاق وعتاق وغير ذلك، وإلا كان معارضًا لعموم ما في الوقاية وغيرها، من قولهم: يقبل بلا دعوى ولفظ: أشهد، للصوم مع غيم خبر فرد بشرط أنه عدل، لأن جميع الأهلة في هذا كالصوم البتة ومخالفًا لاشتراط العدد في الفطر والأضحى في ظاهر الرواية لتعلق حق العباد، وعدم اشتراطه في الصوم والأضحى على رواية النوادر، لكونه من أمور الدين" اهـ يعني أنهم لم يشترطوا شيئًا آخر من الشروط التي ذكرها صاحب البحر سوى العدد في الفطر والأضحى على ظاهر الرواية، ولم يشترطوا العدد في الصوم والأضحى في رواية النوادر، فكان الخلاف في اشتراط العدد وعدمه فقط، ولم يوجد منهم ما يفيد اشتراط ما عداه من الذكورة والحرية وعدم الحد في القذف وغير ذلك، بل المدار على العدالة فبعد اتفاقهم على اشتراط العدالة اختلفوا في اشتراط العدد وعدم اشتراطه، هذا مراد المرجاني، وهو عين ما قلناه من قبل.
والذي قاله من قبل أنه لا يشترك في المخبر بثبوت الرؤية إلا أن يكون عدلًا، وأما اشتراط لفظ الشهادة والحرية وغيرهما من الشروط فهو من فهم المشايخ واستنباطاتهم، ثم قال: وقد اتفقوا أصولًا وفروعًا على أن خبر الواحد مقبول في الديانات، وأنه لا يشترط فيه سوى العدالة والبلوغ والعقل، واتفقوا أيضًا على المشهور أن الشهادة رؤية رمضان من باب الخبر لا فرق فيها بين حال الصحو وحال الغيم، ولا شك في أن المعنى الذي من أجله صارت الشهادة من قبيل الرواية لا فرق فيه بين حال الصحو في رمضان وحال الغيم، فإن الصوم يلزم الشاهد كما يلزم غيره في الحالتين، وقد اتفقت كلمتهم على أن هلال الفطر في حال الصحو كهلال الصوم في حال الصحو ففي حال الغيم بالأولى، ثم قال: وقد تقدم أن القهستاني قال في جامع الرموز، والظاهر من العمادية: إن الصوم والفطر مع الغيم وبلا غيم يستويان في تلك الشروط.
ثم قال: وكيف لا يكون الحكم كما قلنا، وقد اتفق علماؤنا على أن التماس هلال رمضان فرض كفاية؟ وأنه يجب على العدل إذا رأى الهلال أن يرفع الأمر إلى القاضي ويشهد بما رأى، ولو كان العدل امرأة مخدرة ذات زوج وجب عليها أن تخرج بغير إذن زوجها، ولو كانت أمة وجب أن تخرج بغير إذن سيدها في ليلة الرؤية، مخافة أن يصبح الناس مفطرين، فقد عللوا التماس الهلال كتحمل الأحاديث التي هي أدلة الأحكام الشريعة، ففي أنه فرض كفاية وأداء الشهادة برؤية هلال رمضان كتبليغ تلك الأحاديث بطريق روايتها، فلم تبق شبهة في أنه لا خلاف بين أئمتنا في قبول خبر الواحد العدل في رؤية هلال رمضان، سواء كان بالسماء علة أو لم تكن بها علة، متى لم يكن تفرده دليل الغلط أو الكذب، وأن هلال ذي الحجة كهلال رمضان عند أصحابنا خلافًا للكرخي، وأن هلال ذي الحجة كهلال رمضان أيضًا على رواية الطحاوي، وهي التي يساعدها الدليل وقد صححوها صريحًا.(3/411)
وأن اشتراط العدد في حال التفرد الذي لم يكن مظنة الغلط لرؤية هلال شوال إنما هو على رواية أخرى هي ظاهر الرواية أيضًا، وقد مشي عليها جميع المتون.
ثم قال في صفحة 94: والحاصل أن رؤية هلال رمضان ورؤية هلال شوال ورؤية هلال ذي الحجة سواء كان بالمساء علة أو لم يكن بها علة كل منها يتعلق به أمر ديني، فهلال رمضان يتعلق به وجوب الصوم وحرمة الفطر بلا عذر يبيحه في نهار الشهر كله، وهلال الفطر يتعلق به حرمة الصوم ووجوب صلاة العيد، ووجوب زكاة الفطر في أول يوم من شوال، وهلال ذي الحجة يتعلق به حرمة الصوم في اليوم العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر ودخول وقت الحج ووجوب الأضحية وتكبير التشريف، وغير ذلك من الأحكام الدينية المحضة، فكل من الشهادة برؤية الأهلة الثلاثة من باب الأخبار الدينية فهي شبيهة بالرواية ولا يمكن أن واحدًا منها يدخل تحت الحكم ويكون حقًا من حقوق العباد ويكون فيه إلزام محض.. إلى أن قال: "وأما قول من قال بدخول العبادات تحت الحكم، فإن كان مراده بالحكم الأمر بها فلا إشكال، وإن كان مراده بالحكم القضاء والإلزام المحض الذي يستدعي مقضيًا له ومقضيًا عليه، فيجب أن يحمل قوله على ما إذا تعلق بها حق العبد وكان المقصود منها إثباته، كما لو علق عتق عبده أو طلاق امرأته بوجوب صلاة الجمعة عليه أو بصحتها أو بفسادها، وأما أن شيئًا من العبادات والديانات المحضة يدخل تحت الحكم بمعنى القضاء والإلزام المحضي مجردًا عن حق العبد فلا قائل به أصلًا لأنه لا يتصور لا عقلًا ولا شرعًا كما هو مفصل في الأصول والفروع، فيتعين أن يحمل قول من قال باشتراط شروط الشهادة في هلال رمضان أو هلال شوال أو هلال ذي الحجة على ما إذا تعلق به حق العبد وكان ثبوته في ضمن حق من حقوق العباد بلا فرق في ذلك بين هلال وهلال".
وفي ص 91 قال: "وإنما كان مجيء الأشهر لا يدخل تحت القضاء بلا فرق بين مجيء رمضان وشوال وغيرهما، لأن مجيء كل واحد منها له علامة محسوسة هي هلاله الذي يشاهد في أول ليلة منه، ولأن شيئًا منها لم يكن حقًا فمن حقوق الله أصلًا ولا من حقوق العباد بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يوجد فيها لذاتها خصومة لأحد بوجه من الوجوه الشرعية".
وفي ص 198: "وما يدل على صحة ما قلناه من عدم الفرق بين شهر وشهر فما قدمناه في هلال رمضان وشوال وذي الحجة، فإنه لا فرق بين مجيء هذه الأشهر الثلاثة وبين مجيء كل شهر من الأشهر التسعة الباقية إذا اشتمل على عبادة محضة، وصار وقتًا شرعًا لها بنذر ونحوه، كما لا فرق بين مجيء أي شهر حينئذ وبين دخول أوقات الصلوات الخمس وخروجها، فإن الجميع مبني على علامات ظاهرة مشاهدة يستوي في معرفتها كافة الخلق من بني آدم لا فرق بين خواصهم وعوامهم، ولذلك أناط الشارع التكليف المؤقتة بهذه العلامات الظاهرة للجميع أيضًا ومن ذلك يتضح لك جليًا أن مجيء الأشهر القمرية التي عليها مدار الأحكام الشرعية مما لا يدخل تحت الحكم والقضاء لأن مجيئها ومضيها من الحوادث الكونية التي يشاهد العلامات الدالة على حدوثها ومضيها العام والخاص، ولا دخل للخلق فيها بل هي تقدير العزيز العليم، فلا يمكن أن شيئًا منها يكون حقًا يدخل تحت الحكم ويفصل القضاء فيه فهي كمجيء الليل بغروب الشمس، ومجيء النهار بشروقها، فكما لا يمكن عقلًا ولا شرعًا أن يدخل مجيء الليل ومجيء النهار تحت القضاء لذاته، لا يمكن أن يدخل مجيء أي شهر من الأشهر لذاته تحت القضاء، لا فرق في ذلك بين شهر وشهر".
ثم قال في 121: "وأيضًا قد علمت أن إثبات رؤية هلال رمضان وغيره من الأشهر ولو كانت السماء مصحية لا يتوقف على خبر الجمع العظيم، وإنما المدار في الإثبات على الخبر الذي يفيد غلبة الظن، ولو كان ذلك الخبر خبر واحد عدل، إذا لم يكن تفرده مظنة الغلط أو الكذب، لأن غلبة الظن حجة بالإجماع في مثل هذا الحكم العلمي، وأن الذي شرط الجمع العظيم من أئمتنا أراد العدد الذي يفيد خبره العلم الشامل لغلبة الظن فإن المخبر إذا انفرد وكان تفرده مظنة الغلط أو الكذب فخبره لا يفيد ظنًا فضلًا عن غلبة الظن، ثم قال: وأن الصحيح أنه لا فرق بين هلال رمضان وهلال شوال وهلال ذي الحجة في قبول شهادة الواحد العدل في حالة الغيم وكذا في حالة الصحو إذا لم يكن تفرده مظنة الغلط والكذب، وكذا بقية الأشهر التسعة إذا اشتملت على ما هو عبادة محضة، ولعله أراد أنه لم يقصد بإثباتها إثبات حق من حقوق العباد التي لا بد فيها من القضاء أو الإلزام.(3/412)
أما إذا قصد مجرد إثباتها ليتحقق ثبوت أشهر المواسم الدينية فمقتضى ما تقدم من الترجيح والتوجيه والتعليل أن يكون سبيلها في الإثبات سبيل الأشهر الثلاثة رمضان وشوال وذي الحجة، فإنه لا فرق بين شهر وشهر، كما تقدم غير مرة أن ذلك من باب الإخبار لا من باب الشهادة وأنه يكتفى في الخبر بما يفيد غلبة الظن ولو خبر واحد مستور لا فرق بين حالة الصحو وحالة الغيم، وأنه لا حاجة إلى شيء من شروط الشهادة، ولا إلى مجلس القضاء ولا إلى حكم حاكم أو أمر قاض، وأنه إنما يشترط العدد عندما يكون التفرد مظنة الغلط أو الكذب، ويكتفى بالعدد الذي يقع به غلبة الظن من غير تحدي بنصاب الشهادة ولا بنصاب الغمامة، كما لا يشترط لفظ: أشهد، ولا بتحقق شروط الشهادة في كل الشهود أو بعضهم، نعم لا بد من أن يكون المخبر مسلمًا عاقلًا بالغًا.
وهذا الذي رجحه المرحوم الشيخ بخيت هو الذي أختاره لقوة مدركه وصحة توجيهه وتعليله، وهو الذي يقتضيه النظر الصحيح ويقع به التوفيق بين الأقوال المختلفة والآراء المتضاربة والله الموفق.
وخلاصة ما تقدم:
1- أن الخبر الخاص برؤية الهلال من قبيل الأخبار الدينية فيجب وجوبًا كفائيًا إلى من رآه أو بلغه الخبر بطريق شرعي أن يعلنه قيامًا بالواجب الديني.
2- أن ثبوت الأهلة كلها لا يدخل تحت الحكم قصدًا، وأن حكم القاضي بالنسبة للهلال من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو من قبيل الفتوى.
3- أن أي شهر من الشهور الاثني عشر يثبت شرعًا برؤية هلاله أو بعد الشهر السابق ثلاثين يومًا.
4- أنه يكتفى في ثبوت أي شهر بخبر واحد عدل عدالة رواية في حالتي الغيم والصحو، ما لم يكن تفرده مظنة الغلط أو الكذب فلا بد من عدد تتحقق به غلبة الظن.
5- أنه لا يشترط نصاب الشهادة ولا لفظ: أشهد، ولا تقدم الدعوة ولا مجلس الحكم ولا قضاء قاض ولا أمر وال، إلا أن يكون المقصود بإثبات الشهر حقًا من حقوق العباد، فيشترط فيه ما يقتضيه هذا الحق مما هو مقرر في كتب الفقه.(3/413)
مذهب الشافعية:
قال الإمام النووي يجب صوم رمضان بأحد أمرين: الأول: إكمال شعبان ثلاثين يومًا، والثاني رؤية الهلال ليلة الثلاثين منه، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) والراجح أنه يكتفى بعدل واحد في ثبوت هلال رمضان احتياطًا للعبادة، وكذلك يثبت الهلال بشهادة عدل لكل لشهر اشتمل على عبادة كشوال والأضحى بالنظر إلى العبادة فقط، ولا تثبت الرؤية لأي شهر بشهادة العدل بالنسبة لغير العبادة كحلول دين مؤجل وطلاق وعتق علقا به.
والراجح عندهم على القول بالاكتفاء بعدل واحد أنه بطريق الشهادة لا الرواية، فلا يقبل فيها قول العبد والأنثى، ويشترط فيها لفظ أشهد، وهي شهادة حسبة لا تفتقر إلى الدعوى، ولكن لا بد في وجوب الصوم على العموم من ثبوتها عند قاض ينفذ حكمه.
مذهب المالكية:
يثبت رمضان أي يتحقق في الخارج سواء حكم بثبوته حاكم أم لا بأحد أمور ثلاثة:
الأول: إتمام شعبان ثلاثين يومًا، وكذا ما قبل رجب أن غم، أي يجب إكمال كل شهر ثلاثين يومًا إذا كانت ليلة الثلاثين متغيمة في كل شهر، وأما إذا كانت السماء مصحية فلا يتوقف ثبوت الهلال على كماله ثلاثين يومًا بل تارة يثبت بذلك إن لم يره الهلال، وتارة يثبت برية الهلال ليلة الثلاثي، فيكون شهر شعبان وغيره تسعة وعشرين يومًا، لا بحسب منجم ومسير قمر على المشهور لأن الشارع أناط الحكم الذي هو ثبوت الشهر بالرؤية أو بإكمال الثلاثين فقال صلى الله عليه وسلم: ((الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له)) وفي رواية ((فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا)) وهي مفسرة لما قبلها.
الثاني: رؤية عدلين الهلال، والمراد بهما ما قابل الجماعة المستفيضة فيصدق بالأكثر من العدلين، فكل من أخبره عدلان برؤية الهلال أو سمعهما يخبران غيره وجب عليه الصوم، لا بعدل ولا به وبامرأة، ولا به وامرأتين على المشهور في الكل، خلافًا لابن الماجشون في اشتراط العدلين فإنه قال: "يكفي عدل واحد وخلافًا لأشهب حيث قال: يكفي عدل وامرأة، وخلافًا لابن مسلمة فإنه قال: يكفي عدل وامرأتان، ثم قالوا: ويعم ثبوت رمضان جميع البلاد والأقطار إذا كان ثبوت الشهر بكمال شعبان، ولا يعم إذا كان ثبوته برؤية العدلين إلا إذا نقل شهادتهما عدلان، فكل من نقل إليه خبر العدلين بأخبار عدلين وجب عليه الصوم، ويثبت برؤية العدلين ولو كانت السماء مصحية وفي بلد كبير، وهو قول مالك وأصحابه.(3/414)
الثالث: رؤية جماعة مستفيضة لا يمكن تواطؤهم عادة على الكذب، كل واحد منهم يخبر عن نفسه أنه رأى الهلال ولا يشترط أن يكونوا كلهم ذكورًا أحرارًا عدولًا.
قال المرحوم الشيخ بخيت بعد أن نقل كثيرًا من فروع هذا الباب عن السادة المالكية:
ومما نقلناه لك من مذهب المالكية تعلم أن مذهبهم لا يخالف ما قرره أهل الأصل، وعليه فقهاء الحنفية من أهل الأصول والفروع من أن الشهادة في هلال رمضان وهلال شوال من قبيل الإخبار بأمر ديني محض، وأنها من قبيل رواية الأحاديث، وأنهم لم يفرقوا بين هلال الفطر وهلال الصوم، ولم يشترطوا لفظ لشهادة، وإنما اشترطوا الذكورة في العدلين عند من لهم اعتناء على قول، ولم يشترطوا الذكورة ولا الحرية في العدل عند من لهم اعتناء بأمر الهلال، وكل هذا يرشدك إلى أنهم قائلون بأن الشهادة في هلال رمضان من قبيل الخبر الديني الشبيه برواية الحديث.
مذهب الحنابلة:
جاء في المغني والشرح الكبير والإقناع وشرحه أنه يستحب ترائي الهلال احتياطًا للصوم وحذرًا من الاختلاف، فإن رؤي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان وجب الصوم بلا خلاف، لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته فإن لم ير الهلال ليلة الثلاثين والسماء مصحية أكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا)) ويقبل في هلال رمضان قول عدل وحده، لقبول خبر الأعرابي به، ولأنه خبر ديني وهو أحوط ولا تهمة فيه، ولا فرق بين الغيم والصحو والمصر وخارجه، ولو كان الرائي في جمع كثير ولم يره غيره منهم، وهو خبر لا شهادة، فيصام بقول العدل: رأيت الهلال، ولو لم يقل: أشهد، أو شهدت أني رأيته، ويقبل فيه قول المرأة والعبد كسائر الأخبار، ولا يشترط لفظ الشهادة ولا يختص بحاكم، فيلزم الصوم كل من سمعه من عدل، قالوا: وإذا ثبتت الرؤية هلال رمضان بخبر واحد ثبتت تبعًا للصوم بقية الأحكام من وقع طلاق وعتق معلقين بدخوله، وحلول الآجال لديون مؤجلة به ونحو ذلك كانقضاء عدة وخيار شرط ومدة إيلاء، ولا يقبل في رؤية هلال رمضان خبر مستور ولا مميز لعدم الثقة بخبره، ولا يقبل في بقية الشهور كشوال وغيره إلا رجلان عدلان بلفظة الشهادة، لأن ذلك مما يطلع عليه الرجال غالبًا وليس بمال ولا يقصد به المال فأشبه القصاص، وإنما ترك ذلك في رمضان احتياطًا للعبادة.(3/415)
الفصل الثاني
اختلاف مطالع القمر
اقتضت الحكمة الإلهية أن يتفرق سكان الأرض على سطحها ليعمروها ويقوموا بخلافة الله فيها، وتبع ذلك بالضرورة اختلاف مواقع البلاد على الكرة الأرضية شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، واقتضى نظام سير الكواكب لا سيما الشمس والقمر اختلافًا وتفاوتًا في مواقيت العبادات المقدرة بشروق الشمس وغروبها وزوالها كالصلوات الخمس والمقدرة بثبوت الأهلة كالصوم، فتشرق الشمس على قوم قبل أن تشرق على آخرين بساعة وساعتين وثلاث ساعات وأكثر من ذلك على حسب التباعد بين الجهتين شرقًا وغربًا، فبينما تكون بلاد في وقت المغرب وحلول الإفطار في رمضان تكون أخرى في وقت الشروق أو الزوال أو العصر لأن كل ساعة من ساعات الليل والنهار هي طلوع الفجر وشروق الشمس وهي وقت الضحى والزوال والعصر والغروب وهي وقت ظلمة الليل أوله ووسطه وآخره على حسب مواقع البلاد، ولذلك لا يمكن أن توحد مواقيت الصلاة اليومية، ولا أوقات الإمساك والإفطار في أيام رمضان في جميع الأقطار الإسلامية ما دامت الأوضاع الكونية قاضية بتفاوت تلك المواقيت وما دام هذا التفاوت هو الواقع المشاهد، وكذلك نفس الاختلاف مطالع القمر مما وقع الاتفاق عليه ولا يمكن جحده أو المكابرة فيه، فإن الثابت واقعيًا وعلميًا والمشاهد حسيًا أن الهلال يرى في بعض البلاد بعد غروب الشمس ولا يرى في بعضها إلا في الليلة التالية، ومعنى هذا أن رؤية الهلال أول شهر قد تكون متيسرة لبعض الأقطار دون البعض، فاختلاف مطالع القمر أمر واقعي مشاهد وظاهرة كونية لا جدال فيها، لكن الذي اختلفت فيه أنظار الفقهاء هو أنه: هل لهذا الاختلاف في المطالع تأثير في ثبوت الأهلة والأحكام المتعلقة بها كالصوم والإفطار والحج والأضحية؟ أو أنه لا عبرة باختلاف المطالع؟ فإذا ثبت الهلال في أي بلد إسلامي ثبت في حق جميع المسلمين إذا بلغهم ثبوته بطريق موثوق بصحته لا خلاف لأحد في أن اختلاف مطالع الشمس معتبر شرعًا في الأحكام الشرعية المتعلقة بها، وجرى العمل بمقتضى ذلك من مبدأ الإسلام في أوقات الصلوات الخمس والإمساك والفطور ولكنهم اختلفوا بعد ذلك اختلافًا كثيرًا في اعتبار مطالع القمر وعدم اعتبارها، ولعل ذلك لأن الشارع أناط الحكم في الأوقات بوجودها، قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقال صلى الله عليه وسلم: ((وقت الظهر إذا زالت الشمس)) ومعلوم أنه ما من حركة تتحركها الشمس إلا وهي فجر عند قوم، وزوال عد قوم وغروب عند قوم وليل عند قوم لذلك أجمع العلماء في أوقات الصلوات على أن المعتبر عند كل قوم فجرهم وزوالهم وغروبهم ولا يلزمهم حكم غيرهم، أما الأهلة فقد أناط الشارع الحكم فيها برؤيتها، قال تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقال صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته)) والخطاب في الآية والحديث لعامة المسلمين، وليس معنى شهود الشهر رؤية هلاله من كل مكلف فليست رؤية المكلف الهلال شرطًا لوجوب الصوم إجماعًا، ألا ترى أن في الناس من هو أعمى أو ضعيف البصر، ومن لا يتيسر له الرؤية لأي سبب مع أن الوجوب مقرر على الجميع إجماعًا لا يتصور في ذلك خلاف، كما وقع الإجماع على أن التماس الهلال ليس فرض عين، ولو كانت الرؤية شرطًا لوجب على كل أحد أن يرى الهلال، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كما هو مقرر في الأصول.(3/416)
وإذا فالمعنى، من أدرك رمضان وعلم بثبوته وهو أهل التكليف وجب عليه الصوم، وأيضًا يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته)) صوموا إذا رئي الهلال، حيث جاء الخطاب فيه عامًا للمكلفين ولم يذكر فاعل الرؤية مما يدل على أنه يكتفي برؤية البعض وهذا فعله النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمر الناس بالصيام لرؤية الأعرابي وكذلك لرؤية ابن عمر.
وكان من موجبات الإجماع على الاكتفاء برؤية البعض ألا يقع خلاف في اعتبار اختلاف مطالع القمر وعدم اعتباره، لكن اتساع الرقعة الإسلامية وبُعْدَ ما بين دولها وعدم التمكن فيما سلف من تبليغ المسلمين في الأقطار المتباعدة بثبوت الهلال، جعل بعض العلماء يفهمون الآية والحديث متأثرين بقوله {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} على اعتبار أن لكل بلد رؤيته هو، لا يكلف برؤية بلد آخر يختلف مطلعه، كما أن لكل بلد شروقه وغروبه وصبحه ومساؤه وظهره وعصره، وسنقص عليك أقوالهم وحجة كل منهم، ونختتم ذلك ببيان الرأي الراجح الذي يستنده الدليل وتدعمه الحجة.
مذهب الحنفية:
ظاهرة مذهب الحنفية كما قال صاحب الدر المختار: إنه لا عبرة باختلاف المطالع فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب، وذلك لأن عموم الخطاب في قوله: صوموا معلق بمطلع الرؤية في قوله لرؤيته، وبرؤية قوم يصدق بهم اسم الرؤية فيثبت ما تعلق به عموم الحكم فيعم الوجوب بخلاف الزوال والغروب فإنه لم يثبت على عموم الوجوب بمطلق مسماه في خطاب من الشارع، وعلى هذا الرأي أكثر المشايخ وهو الذي عليه الفتوى، وقيل يعتبر اختلاف المطالع لأن السبب الشهر وانعقاده في حق قوم الرؤية لا يستلزم انعقاده في حق آخرين مع اختلاف المطالع، وهذا هو الذي اختاره الزيلعي حيث قال: والأشبه أن يعتبره؛ لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم وانفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار، كما أن دخول الوقت وخروجه يختلف باختلاف الأقطار، حتى إذا زالت الشمس في المشرق لا يلزم منه أن تزول في المغرب، وكذا طلوع الفجر وغروب الشمس بل كلما تحركت الشمس درجة فتلك طلوع فجر لقوم وطلوع شمس لآخرين وغروب لقوم ونصف لليل لغيرهم، وحاصله قياس اختلاف مطالع القمر على اختلاف مطالع الشمس وسنين فيما بعد أن هذا قياس مع الفارق.(3/417)
مذهب المالكية:
وكذلك اختلف علماء المالكية في اعتبار اختلاف مطالع القمر وحكوا في ذلك ثلاثة مذاهب:
الأول: أنه لا عبرة باختلاف المطالع مطلقًا قربت البلاد أو بعدت: قال الحطاب في مواهب الجليل: إن الحكم بثبوت رمضان يعم كل من نقل إليه إذا نقل بشهادة عدلين أو باستفاضة، وسواء كان ثبوته عند حاكم عام كالخليفة أو خاص كالأمر والقاضي على المشهور.
الثاني: أنه يعتبر اختلاف المطالع إذا ثبتت الرؤية عند حاكم خاص، فإنه لا يعمل الحكم إلا من في ولايته فقط، قال الحطاب: إذ كانت الشهادة عند حاكم خاص فلا تعم إلا في ولايته، حكى هذا الرأي عن عبد الملك بن الماجشون.
الثالث: يعتبر اختلاف المطالع بالنسبة للبلاد البعيدة جدًا كالأندلس من خراسان، قال الحطاب: تلبيه قال ابن عرفة قال أبو عمر (يعني ابن عبد البر) : أجمعوا على عدم لحوق حكم لرؤية ما بعد، كالأندلس من خراسان وقال ابن الجزي في القوانين الفقهية: ولا يلزم في البلاد البعيدة كالحجاز والأندلس إجماعًا.
ومقتضى ما ذكره خليل في مختصره من أنه يقتصر فيه على ما به الفتوى، وقول الحطاب لأن عدم اعتبار اختلاف المطالع هو المشهور في المذاهب أن هذا القول معتبر وما عداه لا ينهض ولا يقاوم ما هو المشهور من عليه الفتوى، ودعوة ابن عبد البر الإجماع على ما ارتضاه لا تصح، لمعارضتها بشهرة خلافه ولم يعتمد المذهب إجماعات ابن عبد البر واتفاقات ابن رشد.(3/418)
مذهب الشافعية:
وكما اختلف الحنفية والمالكية في اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتبارها اختلف الشافعية، قال الإمام النووي: المسألة الثالثة إذا رأوا الهلال في رمضان في بلد ولم يروه في غيره، فإن تقارب البلدان فحكمها حكم بلد واحد بلا خلاف، وإن تباعدا فوجهان مشهوران أصحهما لا يجب الصوم على أهل البلاد الأخرى، والثاني: يجيب، والصحيح الأول، فيما يعتبر به البعد والقرب ثلاثة أوجه: أصحها أن التباعد باختلاف المطالع كالحجاز والعراق وخراسان، والتقارب لا يختلف كبغداد والكوفة والري وقزوين، والثاني: أن الاعتبار باتحاد الإقليم واختلافه فإن اتحد فمتقاربان وإلا فمتباعدان، والثالث: أن التباعد مسافة القصر والتقارب دونها، ثم قال: هذا الذي ذكرته هو المشهور للأصحاب في الطريقين، وانفرد الماوردي والسرخسي بطريقين آخرين، وبعد أن ذكرهما قال: فحصل في المسألة ستة وجوه:
أحدها: يلزم أهل الأرض برؤيته في موضع منها.
الثاني: يلزم أهل إقليم بلد الرؤية دون غيرهم.
الثالث: يلزم كل بلد يوافق بلد الرؤية في المطلع دون غيره، وهذا أصحها.
الرابع: يلزم كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا عارض دون غيرهم.
الخامس: يلزم من دون مسافة القصر دون غيرهم.
السادس: لا يلزم غير بلد الرؤية.
قال تقي الدين بن السبكي في رسالته العلم المنشور في إثبات الشهور: والقول بأن لكل بلد رؤيته على إطلاقه ضعيف، روى سعيد بن منصور في مصنفه بسند صحيح إلى أبي عمير بن أنس قال: أخبرني عمومة لي من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: غم علينا هلال شوال فأصبحنا صياما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا، ثم يخرجوا لعيدهم من الغد، وفي رواية: قدم أعرابيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان فشهدوا عنده بالله لإهلال الهلال بالأمس عشية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا، واعتبار مسافة القصر في هذا المحل ضعيف، واعتبار كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم جيد، واعتبار الإقليم ضعيف، وألزم جميع البلاد إذا رئي في بلد ضعيف جدًا، لأن عمر بن الخطاب وسائر الخلفاء الراشدين لم ينقل أنهم كانوا إذا رأوا الهلال يكتبون إلى الآفاق، ولو كان لازمًا لهم لكتبوا إليهم لعنايتهم بأمور الدين لأنا نقطع بأنه قد يرى في بعض البلاد في وقت لا يمكن رؤيته في بلد آخر، كما أنا نقطع بأن الشمس تغرب في مكان قبل أن تغرب في غيره، وأجمع العلماء في أوقات الصلوات على أن المعتبر عند كل قوم فجرهم وزوالهم وغروبهم ولا يلزمهم حكم غيرهم، فكذلك الهلال بالقياس عليه، بأن الله لا يخاطب قومًا إلا بما يعرفونه مما هو عندهم وسنناقش هذه الحجج الثلاث في نهاية البحث إن شاء الله.
مذهب الحنابلة:
جاء في المغني والشرح الكبير ص 7 جزء ثالث فصل: "وإذا رأى الهلال أهل البلد لزم جميع البلاد الصوم" وهذا قول الليث وبعض أصحاب الشافعي، وبعد أن ساق استدلال المخالفين بحديث كريب قال: ولنا قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما قال له: آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: ((نعم)) ، وأجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان، وقد ثبت أن هذا اليوم من شهر رمضان بشهادة الثقات، فوجب صومه على جميع المسلمين ولأن شهر رمضان من بين الهلالين، وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر الأحكام من حلول الدين ووقوع الطلاق والعتاق ووجوب النذر وغير ذلك من الأحكام فيجب صيامه بالنص وبالإجماع، ولأن البينة العادلة شهدت برؤية الهلال، فيجب الصوم كما لو تقاربت البلدان فأما حديث كريب فإنما يدل على أنهم لا يفطرون بقول كريب وحده ونحن نقول به، وإنما محل الخلاف وجوب قضاء اليوم الأول، وليس هذا في الحديث اهـ.
وقد أجاب القاضي عن قول المخالف: "الهلال يجري مجرى طلوع الشمس وغروبها وقد ثبت أن لكل بلد حكم نفسه فيهما فكذا الهلال" بأن تكرر مراعاتها في ككل يوم تلحق به المشقة فتؤدي إلى قضاء العبادات، وهلال رمضان في السنة مرة واحدة فليس كبير مشقة في قضاء يوم، ودليل المسألة من الصوم يقتضي التسوية (يعني به جميع البلاد) .(3/419)
مذهب الشيعة الإمامية والزيدية:
اختلف فقهاء الشيعة الإمامية وكذلك علماء الزيدية في اعتبار اختلاف المطالع في ثبوت هلال رمضان، فظاهر كلام الحلي أن اختلاف المطالع معتبر فلا يعم ثبوت الشهر برؤية من اختلف مطلع بلد عن بلد الرؤية كما ذكره العاملي في الحبل المتين في أحكام الدين وهو مذهب الهادوية والإمام يحيى من الزيدية، بل لا يعم عنده في الإقليم الواحد والجهة الواحدة إن اختلفت ارتفاعًا وانحدارًا كما في البحر الزخار، وقال الصنعاني في سبل السلام: والأقرب لزوم بلدة الرؤية وما يتصل بها من الجهات التي على سمتها واختار المهدي وجماعة من الزيدية تعميم الحكم والشهادة بالرؤية جميع البلاد وقال الشوكاني: وهو الذي ينبغي اعتماده وذهب إليه جماعة من الإمامية.
وبعد أن استمعنا إلى آراء علماء المسلمين وحججهم ومناقشاتهم لا يسعنا ترجيح القول بعدم اعتبار اختلاف المطالع لا لأن هذا هو ما تصبو إليه نفوس كثير من العلماء والمصلحين حتى تتوحد كلمة الأمة الإسلامية، ولا لأن القائلين به هم الكثرة الغالبة وهم الجمهور ولكن لأن سنده من الكتاب والسنة قوي متين وشبه المخالفين مردودة، وذلك لأنها تنحصر في أربعة.
أولها: حديث كريب وقد سمعت رد الحنابلة على من استدل به فلا نعيده.
ثانيها: ما قاله السبكي من أن عمر والخلفاء الراشدين لم يكتبوا إلى الآفاق بثبوت الرؤية لأنهم حريصون على أمر الدين، والرد على السبكي أنهم لن يكتبوا لصعوبة المواصلات في زمنهم فقد لا يتيسر وصول المكتوب إلا بعد انقضاء رمضان، فلم يعم ثبوتها جميع البلاد لتعذر بلوغهم الخبر إذ ذاك، وكلامنا فيما لو أمكن تبليغ جميع البلاد ثبوت الرؤية إثر ثبوتها بحيث تصل إليهم وهم في ليلة الشهر الجديد قبل طلوع الفجر كما هو متيسر الآن بواسطة الإذاعة واللاسلكي.(3/420)
ثالثها: ما قاله السبكي وغيره من قياس اختلاف مطالع القمر على اختلاف مطالع الشمس وقد سمعت رد القاضي من الحنابلة على هذه الحجة، من أنه إنما اعتبر اختلاف مطالع الشمس لئلا يلزم الحرج وتؤدى العبادات قضاء ولا يلزم من عدم اعتبار اختلاف المطالع القمرية أي حرج، لأنه ليس في السنة إلا رمضان واحد، ولا يلزم من التوحيد في الأزمان السابقة إلا قضاء اليوم الأول الذي لم يروا الهلال فيه ولا حرج في ذلك، أما في أزماننا هذه فلا يلزم شيء أبدًا، لأنه من المتيسر جدًا بعد الاختراعات الحديثة تبليغ ثبوت الرؤية في لمح البصر، وقبل أن يطلع النهار الجديد في أي بلد إسلامي مهما كان نائيًا عن بلد الرؤية. فقد ثبت علميًا أنه ليس بين أي بلدين إسلاميين في مشارق الأرض ومغاربها أكثر من تسع ساعات فلكية، فإذا ثبتت رؤية الهلال في مراكش وهي أقصى بلد في المغرب لإنه من الممكن أن يبلغ ثبوت رؤية الهلال لأقصى بلد في المشرق بعد مرور تسع ساعات من غروب الشمس عندهم أي قبل طلوع الفجر عندهم بنحو ساعة ونصف، لأن الليل عندهم دائما اثنتا عشرة ساعة، لأنهم على خط الاستواء تقريبا وهذا القدر الباقي من الليل كافٍ لإثبات أنهم في أول ليلة من رمضان وكذلك هو كاف لتبييت النية والسحور بدون حرج ولا مشقة، هكذا قال أهل الذكر والعهدة عليهم، والله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
رابعها: ما قاله السبكي أيضًا من أن الله لم يخاطب قومًا إلا بما يعرفونه عندهم، والخطب في هذه الحجة سهل، وذلك لأنا نقول بموجبها أننا لم نقل بثبوت الهلال في حق من لم يروه من أهل البلاد النائية عن بلد الرؤية إلا إذا بلغهم خبر تلك الرؤية بطريق موثوق به وما دامت رؤية كل فرد من أفراد المكلفين ليست شرطًا لثبوت الهلال وما يتعلق به من الأحكام في حقه إجماعًا، بل الشرط العلم بها بمعنى غلبة الظن بأي طريق يقيد ذلك، فلا مناص من ترجيح القول بعدم اعتبار اختلاف المطالع، وأنه متى ثبتت الرؤية عند قوم عم ثبوتها جميع أهل الأرض متى نقلت إليهم وعلموا بها بأي طريق من طرق الإعلام ولو أنه تيسر للخلفاء والولاة في صدر الإسلام ما هو متيسر الآن من إذاعة الأخبار في جميع أنحاء المعمورة في أقل من لمح البصر ما ترددوا في إبلاغ ثبوت الأهلة إلى جميع الولايات الإسلامية، ليتوحد مظهرهم الديني ويتفقوا في بدء الصيام والإفطار وسائر أعيادهم ومواسمهم الدينية.
وجملة القول أنه ما دامت مسألة اختلاف المطالع القمرية من حيث اعتبارها أو عدم اعتبارها محل اجتهاد الفقهاء، ذلك الاجتهاد الذي اختلفت فيه أنظارهم فلا يكون بدعًا أن يرجح أحد النظرين على غيره، وينفصل في المسألة بعدم التعويل على اختلاف المطالع لما قدمنا من أسباب الترجيح، وقد علمت أن هذا هو قول جمهور العلماء من أئمة الفقه في المذاهب الأربعة وغيرها، قال ابن عابدين في رسالته تنبيه الغافل والوسنان: وأنه لا عبرة باختلاف المطالع في الأقطار إلا عند الشافعي ذي العلم الزاخر ما لم يحكم به حاكم يراه، فيلزم الجميع العمل بما أمضاه، كما ذكره ابن حجر وارتضاه، وقال: لأنه صار من رمضان بموجب الحكم ومقتضاه. اهـ.(3/421)
وبما نقلنا عن ابن عابدين من أن الإمام الشافعي يوافق الأئمة الثلاثة فيما إذا ثبتت الرؤية عند حاكم يرى أن لا عبرة لاختلاف المطالع، فأمر به وأبلغه إلى أهل المطالع الأخرى كما حكاه عنه ابن حجر وارتضاه، يتقرر إجماع الأئمة الأربعة على أن اختلاف مطالع القمر لا يعتبر شرعًا إذا نقل حكم الحاكم الشرعي ببدء الشهر ووجوب الصيام والإفطار والحج والأعياد، ومن الخير أن ننقل هنا بعض ما كتب الأستاذ الشيخ محمد أبو العلا البنا، مدرس الفلك بكلية الشريعة بجامعة الأزهر، بصدد بيان أن العلوم الفلكية تؤيد توحيد أول الشهر الشرعي بين الحكومات الإسلامية.
قال: إن جميع الحكومات الإسلامية تقع ما بين شاطئ آسيا الشرقي وشاطئ إفريقيا الغربي أعني من خط 120 شرق جرينتش إلى خط 15 غرب جرينتش مقدار 9 ساعات من24 تتم دورة اليوم بقسميه الليل والنهار حول الأرض من الشرق إلى الغرب.
إذا علمنا ذلك تأكدنا أن بدء الدورة اليومية الإسلامية من هذا الخط يكون طبيعيًا بالنسبة لبدء حكومات الإسلام من جهة الشرق، فتجتمع كلها في يوم واحد دون تفرقة، إذ يبدأ اليوم الأسبوعي والتاريخ للعالم الإسلامي كله من أبعد البلاد الإسلامية شرقًا وهي الفلبين وأندونيسيا والملايو قبل جرينتش بـ 8 ساعات وقبل العراق والباكستان بـ 5 ساعات، وقبل مصر والسودان بـ 6 ساعات، وقبل تونس بـ 7 ساعات، وقبل مراكش التي هي أبعد البلاد الإسلامية غربًا بـ 9 ساعات.(3/422)
ومعلوم أن تأخير إعلان وجوب الصيام أو الإفطار بقدر هذه الأجزاء من اليوم لا يقدح في مشاركة جميع الحكومات في نفس اليوم والتاريخ بمعنى أنه لو فرض أن الهلال لم يتكامل ليصلح للرؤية إلا في مراكش آخر الحكومات الإسلامية جهة الغرب وفيها رئي وشهدت الشهود وأثبت قاضيها الشهر وأبرقت حكومتها بذلك إلى جميع الحكومات شرقًا وهي الفلبين وأندونيسيا والملايو بعد المغرب فيها بنحو 9 ساعات بمعنى إن إذاعة الرؤية وبثبوت الشهر من مراكش عقب مغربها إنما تسمع في أندونسيا بعد مغربها هي بتسع ساعات أي قبل شروق الشمس فيها بثلاث ساعات، ضرورة أن ليلها دائمًا 12 ساعة، لوجودها على خط الاستواء تقريبًا أي قبل الفجر عندهم بنحو ساعة ونصف ساعة ومعلوم أن هذه المدة كافية لما يلزمهم من سحور وعقد النية على صيام هذا اليوم مع مراكش، وأما غير أندونيسيا من كل حكومة شرق مراكش كالعراق ومصر والجزائر فمن باب أولى.
وأما وحدة هذا اليوم في باقي بلاد الدورة من سطح الأرض كأمريكا فأمرها ظاهر، إذ أنهم وقت هذه الإذاعة من مراكش كانوا في عصر اليوم السابق أو في ظهره أو في شروقه مثلًا، وحينئذ يستقبلون هذا اليوم الجديد من أوله دون تغيير في اسمه أو في تاريخه.
وأما أهل البلاد القطبية التي تنعدم فيها علامات أوقات الصلوات اليومية لدوام النهار أو الليل أكثر من 24 ساعة في بعض السنة، فيدقون بدء الشهر عندهم بزمن مبدئه في العواصم المشهورة على خطوط أطوالهم كخط طول القاهرة مثلًا، فالبلاد القطبية التي عليه تجعل مبدأ الشهر عندها كأهل القاهرة، إما من ساعة المغرب في أقرب البلاد المعتدلة إليهم، وإما من ساعة المغرب لخط الاستواء، أعني رجوعهم إلى أعدل الأيام.(3/423)
الفصل الثالث
طرق إثبات الشهر بالحساب الفلكي
من المفيد قبل أن ننقل آراء أئمة الفقه الإسلامي في صحة الاعتماد على الحساب الفلكي وبيان الراجح منها، أن نبين أنواع الحساب الفلكي حتى نحرر محل النزاع، ونبين الحساب الذي هو مراد لمن قال بجواز الاعتماد على الحساب، ومما لا شك فيه أن الأشهر القمرية هي أجزاء السنة العربية القمرية التي تنقسم إليها دورة القمر باعتبار انتقالاته في منازله واجتماعه مع الشمس تارة ومفارقته لها تارة أخرى، فباعتبار انتقالاته في منازله تتغير أحواله ويختلف نوره زيادة ونقصًا ويجتمع مع الشمس ويفارقها اثنتي عشرة مرة، ليتكون منها اثنا عشر شهرًا قال تعالى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} ويتم انتقال القمر في منازله ويقطع دورته في فلكه اثنتي عشرة مرة في السنة، فإذا اكتمل له اثنتا عشرة دورة اجتمع مع الشمس اثنتي عشرة مرة وتكونت السنة القمرية التي اعتبرها الشارع، وجعلها مدار الآجال الشرعية كتأجيل العنين وسن اليأس للنساء وغير ذلك، كما قال تعالى {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} ولما كانت السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يومًا وخمس يوم وسدس يوم، وعدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، فقد انقسم الفلكيون في تقدير الشهر إلى ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى:
تجعل الأشهر من الوضع الاجتماعي للشمس والقمر إلى مثله، فإن القمر: يجتمع كما قلنا مع الشمس في كل شهر مرة فإذا فارقها فهو أول الشهر عندهم إلى أن ينتهي إلى مثل تلك الحالة، وقد يكون أثناء النهار، وقد يكون في أثناء الليل والشهر عند هؤلاء دائمًا تسع وعشرون وكسر نتيجة لقسمة عدد أيام السنة على 12، وهذا الطريق ألغاه الإسلام حيث قال الله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} .
ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((الشهر هكذا وهكذا وهكذا)) وعقد الإبهام في الثالثة، هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام ثلاثين، يعني أن الشهر تارة يكون 29 يومًا وتارة يكون 30 يومًا لا يخرج عن هذين الأمرين ((فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) فاعتبر الرؤية فقط، بدليل قوله في أول هذا الحديث ((إنا أمة لا نكتب ولا نحسب)) فناط الحكم الشرعي بأمر مشاهد يتفق فيه الخاصة والعامة وجعل ما بعد مفارقته الشمس إلى تمام تسع وعشرين إن رئي الهلال، أو إلى تمام ثلاثين إن لم ير من الشهر الأول، وسواء رأيناه ليلة الثلاثين أو أكملنا ثلاثين فأول الشهر غروب الشمس من إحدى ليلتين، قال السبكي: واستفيد ذلك من إشارته صلى الله عليه وسلم وقول الراوي عنه عشرًا وعشرًا وتسعًا، فإنه يقتضي دخول الليالي في حكم الأيام لأن حذف التاء يدخل على اعتبار الليالي وهي الأصل في التاريخ.(3/424)
الطريقة الثانية:
أن يجبروا كسر اليوم كلما زاد على نصف يوم فيصير المحرم 30 يومًا وصفر 29 وربيع الأول 30 وكذا على التوالي، ويسمى بالسير الوسطي الاصطلاحي، ومن هؤلاء من يبني تقويمه على جداول قديمة ويجعل المحرم وربيع الأول ورجب ورمضان وذا القعدة ثلاثين يومًا باستمرار، ويجعل باقي الأشهر تسعة وعشرين يومًا أبدًا إلا في السنة الكبيسة فيجعل ذا الحجة ثلاثين يومًا قال السبكي: وعلم الحساب يقتضي لأجل الكسر الذي ذكرناه في عدة أيام السنة القمرية وتكميله تارة أن تكون الأشهر الكاملة في السنة ستة والناقصة مثلها، وتارة أن تكون الكاملة سبعة والناقصة خمسة، فلا تكون الناقصة أكثر من ستة ولا الكاملة أكثر من سبعة، هذا أمر مقطوع به في علم الهيئة وليس في الشعر ما يرده، ومن المقرر عند الفلكيين أن الشهر بالوضع الاجتماعي الحقيقي يتقدم الشهر بالوضع الهلالي (من الرؤية إلى الرؤية) بيوم على الأقل وبيومين على الأكثر.
وبعض علماء الفلك يبني تقويمه على حسابات الرصد، ولكنه يضم إلى ساعة الاجتماع ساعات يمكن أن يرى فيها الهلال اختلفوا في تقديرها، قال الشيخ طنطاوي جوهري: كذلك الحاسبون وإن اتفقوا تقريبا في زمن الاجتماع فهم يختلفون في تقدير الساعات التي تمر من حين الاجتماع إلى الرؤية من 4 درجات إلى 12 درجة، وهي التي يقطعها القمر مبتعدًا عن الشمس صوب المشرق في نحو 20 ساعة ونقل الشيخ محمد أبو العلا البنا عن الشيخ محمد بن جابر البناني أن القدماء -يعني اليونانيين قبل الإسلام- ما تكلموا في رؤية الهلال إلا بالقول المطلق، وهو أنه لا يمكن رؤيته لأقل من يوم وليلة، وعلق عليه بقوله: ومعلوم أن سبق القمر للشمس في ساعة يساوي نصف درجة تقريبًا وعليه فقول القدماء أن بين الاجتماع والهلال 24 ساعة أو يومًا وليلة يساوي قول من قال بعدهم 12 ساعة، ثم نقل عن ابن سينا أن القمر لا يرى ألبته حتى يكون بينه وبين الشمس 12 درجة، وما كان دون ذلك لا يرى أو هو تحت شعاع الشمس فلا تلحقه الأبصار.
والخلاصة: أن الوضع الهلالي لا يسبق الوضع الاجتماعي بل إن الوضع الاجتماعي يتقدم على الهلالي بيوم أو بيومين إذ إن القمر بعد مفارقته الوضع الاجتماعي لا بد أن يسبق الشمس بمسافة يتحول فيها نوره إلى جهة الأرض، فيرى حرف منه بعد غروب الشمس وهو الهلال، وهذا السبق يقدر بنحو 12 درجة تقريبًا تحتاج إلى مضي نحو 24 ساعة.
وأما العرب فكان بعضهم يعرفه برؤية الهلال نفسه، أو بمراقبة النجوم دون أن يعرف له أي حساب، وبعضهم كان يعرفه بالحساب الوسطي دون جبر الكسر فيكون الشهر 29 يومًا وكسرًا دائمًا وبعضهم كان يجبر الكسر كما قدمنا، كما كانت هذه المعرفة تقريبية لا تحديدية عندهم جميعًا.(3/425)
قال ابن السبكي في رسالته العلم المنشور: وقالوا (علماء الفلك والهيئة) إذا كان قوس الرؤية ست درجات وقوس النور تسعًا وقوس المكث تسعًا استحالت الرؤية عادة، وإذا زادت كل واحدة من الثلاثة درجة أمكنت بعسر، وكلما حصلت الزيادة قوي الإمكان، وقال الشيخ طنطاوي جوهري في رسالته (الهلال) وهو بصدد الإجابة عن السؤال الثاني وهو (القمر بعد الاجتماع في كم ساعة يرى هلالًا) :
ولما قابلت الشيخ أحمد موسى الزرقاوي وكلمته في هذا الأمر قال: بعض الفلكيين الذين وقعت كتبهم في أيدينا كابن الشاطر قالوا: لا يمكن أن يرى الهلال إذا مكث بعد غروب الشمس نحو 50 دقيقة ويكون درج الشمس بنحو 12 درجة، قال: ومن المعلوم أن القمر يقطع الدرجة الواحدة في ساعة واحدة و 49 دقيقة، فيكون ابن الشاطر لا يعتمد رؤية الهلال إلا بعد الاجتماع بـ 48 ق 21 س، وخالفه ابن يونس المصري والسلطان ألفي بك السمرقندي والجمهور، فقالوا: إنه يرى بعد مبارحة الشمس بست درجات ومكث الهلال نحو 25 دقيقة ثم قال لي: وعندي أنه متى فارق الشمس به نحو 4 درجات ومكث نحو 16 دقيقة أمكنت الرؤية.
أقول: وقد جاءني من مرصد حلوان أنه تمكن رؤيته بـ 12 درجة فلكية، ولا يقل الزمن عن عشرين ساعة فتكون أقوال علماء الفلك هكذا:
ق س
المرصد الفلكي بحلوان.. 20
ابن الشاطر 49 41
السلطان ألفي بك 54 10
الزرقاوي المصري 16 07
الفلكيون الروسيون 32 14(3/426)
ثم قال: وقد ظهر أن الاعتبار في هذا مختلف من 4 إلى 12 درجة، والحق أنه يختلف باختلاف البقاع والزمان من صيف وشتاء وربيع وخريف، ولنرجح قول ابن الشاطر والمرصد الفلكي المصري، وقد نحا نحوها القلقشندي لأن صاحب الشرع أمر بالاحتياط في هذا المقام.
وقد أطلنا بذكر اختلاف علماء الفلك والحساب أصحاب التقاويم القديمة والحديثة {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} ويتبين الحق من الباطل، ولتعلم أن الخير فيما ارتضاه الشارع الحكيم: أن الشهر من الرؤية إلى الرؤية، وأن العبرة بالوضع الهلالي لا بالاجتماع الحقيقي الذي يتقدم به الشهر يومًا أو يومين، ولا بالاجتماع الوسطي الذي يجعل الأشهر الأولى 30 يومًا والثانية 29 لأن ذلك حساب تقريبي فقد ثبت بالرصد أنه قد تتوالى أربعة أشهر ثلاثين، وثلاثة أشهر 29 ولا يتوالى أكثر من ذلك بحساب الرصد.
وقال الشيخ أبو العلا في جواب السؤال الآتي: ما نوع الحساب المتبع في النتائج المصرية؟ إن حساب الشهور القمرية العربية المتبع نشرها في نتيجة الحكومة المصرية التي تحررها مصلحة المساحة، وغيرها كنتيجة الحلبي والزغبي والجنايني وغيرهم، مبني على (الوضع الاجتماعي) بمعنى أن يجعل فيه أول الشهر الليلة التي تلي الاجتماع مباشرة، وإن لم يمكث القمر فيها على الأفق بعد غروب الشمس غير دقيقة واحدة، وهذا الحساب الفلكي الاجتماعي كان هو المتبع لمعرفة أوائل الشهور القمرية في الأديان المتقدمة على الإسلام، كما كان معروفًا عند الأولين منهم بطريق تقريبية كطريق الأوساط عند المنجمين منهم، والمنازل عند العرب، وكانوا لا يبالون بأن هذه الطرق التقريبية تقدم الشهر يومًا أو تؤخره عن الاجتماع الحقيقي، وهي وإن أحكمت قواعدها بعد حتى صارت تنتج الاجتماع الحقيقي بالضبط إلا أن هذه الأحكام لم يخرجها عن دائرة النسخ الذي طرأ عليها في الإسلام باعتماد (الوضع الهلالي) بدل (الوضع الاجتماعي) بقوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) وليس أدل على أن المساحة تلتزم في حسابها لنتيجة الحكومة بدء الشهر بالوضع الاجتماعي من اعترافها نفسها في مبدأ هذه النتيجة بقولها: ويبدأ الشهر العربي من ليلة الاستهلال: وينتهي باستهلال الشهر التالي ويتعين الاستهلال شرعًا برؤية الهلال، ولما كانت رؤيته تتوقف على أمور متغيرة كعرض القمر، وحالة الجو، ودقة الهلال، ومقدار نوره، وغير ذلك، والحساب لا بد من أن يكون مبنيًا على أساس ثابت لذا اعتمد الحاسبون في تعيين أول الشهر على اجتماع الشمس والقمر، فإذا ما وقع الاجتماع كانت أول ليلة يغرب فيها القمر بعد غروب الشمس هي أول الشهر، وما قبلها يكون من الشهر الماضي، وهذا هو المتبع في حساب الشهور العربية في هذه النتيجة، وقد تتفق الرؤية مع الحساب، وقد يتقدم الحساب على الرؤية بيوم في الأكثر وبيومين في الأقل، ولا يمكن أن تتقدم الرؤية على الحساب.(3/427)
وقد حصر فقهاء الشريعة الإسلامية صفات القمر ليلة الثلاثين من الشهر الهلالي في ثلاث حالات بالاتفاق مع الفلكيين الشرعيين علماء الرصد والهيئة:
أولها: تقطع فيها بوجود القمر فوق الأفق الغربي بعد غروب الشمس عقب الاجتماع مع القطع بامتناع رؤيته، وهنا يرد القاضي شهادة الرؤية، قال السبكي: وأجمع المسلمون فيما أظن على أنه لا حكم لما يقوله الحاسب من مقارنة القمر للشمس إذا كان غير ممكن الرؤية لقربه منها، سواء أكان ذلك وقت غروب الشمس أم قبله أم بعده.
ثانيها: يقطع فيها بوجود القمر كذلك مع جواز رؤيته، وهنا يقبل القاضي شهادة الرؤية.
ثالثها: يقطع فيها بوجوده كذلك ورؤيته معًا، بأن يبين الحساب الموثوق به أن الهلال واضح وضَّاء، وهنا محل خلاف العلماء في اعتماد الحساب مناطًا لإثبات الشهر عند الإغمام.
ومما لا شك فيه أن الفلكيين الشرعيين في النهضة العلمية الإسلامية استعملوا قواعد حسابية مبرهنة، لمعرفة كل حالة من هذه الحالات للهلال في أول كل شهر، حتى مقادير نوره ونسبتها إلى البدر، وفتحة قوسه نحو الشمال أو الجنوب أو الأعلى، ومقدار مكثه وارتفاعه عن الأفق، وغير ذلك مما يحدد كل حالة من هذه الحالات الثلاث، ما يصحح الاعتماد على حساب الوضع الهلالي الحقيقي في إثبات كل من الحالات الثلاث بشروط:
الأول: أن يكون من النوع الهندسي التحديدي المبرهن.
الثاني: أن ينتج إحدى حالات الرؤية الثلاثة - الاستحالة والإمكان والوجوب- بحدودها وشروطها.
الثالث: أن يتفق على استخراج هذه النتيجة عدد من الحاسبين يؤمن تواطؤهم على الخطأ بحيث يثق القضاء بها ولو ظنًا، ليتمكن من تطبيق حكمه عليها من رد الشهادة أو قبولها أو اجتهاده بثبوت الشهر.
وبعد أن نقلنا إليك طرفًا من أقوال المنجمين والحسابين وأصحاب التقاويم قديمًا وحديثًا في تحديد أوائل الشهور العربية نسمعك آراء أئمة الفقه في صحة الاعتماد على الحساب الفلكي لنخلص بعد ذلك إلى ما هو أقرب إلى الحق وأشبه بالصواب في هذا الباب.(3/428)
الفصل الرابع
في بيان آراء العلماء في الاعتماد على الحساب
مذهب الحنفية:
قال الشرنبلالي في مراقي الفلاح: واتفق أصحاب أبي حنيفة إلا النادر على أنه لا اعتماد على قول المنجمين في هذا، وجاء في الفتاوى الهندية: هل يرجع إلى قول أهل الخبرة والعدول ممن يعرف علم النجوم؟ الصحيح أنه لا يقبل ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه، وقد حكى صاحب القنية في هذا الشأن أقوالًا ثلاثة، فنقل أولًا عن القاضي عبد الجبار وصاحب جمع العلوم أنه لا باس بالاعتماد على قولهم، ونقل ثانيًا عن ابن مقاتل: أنه كان يسألهم ويعتمد على قولهم إذا اتفق عليه جماعة منهم، ونقل ثالثًا عن شرح السرخسي: أنه بعيد.
مذهب الشافعية:
قال الباجوري في حشيته على ابن القاسم الغزي: ولا يجب الصوم بقول المنجم وهو من يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني، لكن له بل عليه أن يعمل بقوله وكذلك من صدقه، ومثل المنجم الحاسب وهو من يعتمد منازل القمر في تقدير سيره، وقال شمس الدين الرملي: للحاسب أن يعمل بحسابه ويجزيه عن فرضه على المعتمد، وإن وقع في المجموع عدم إجزائه عنه، قال: وقياس قولهم: إن الظن يوجب العلم أنه يجب عليه الصوم وعلى من أخبره وغلب على ظنه صدقه، ولا ينافي هذا ما تقدم من عدم وجوب الصوم بقول المنجم، لأن الكلام فيه بالنسبة للعموم والمنجم في معنى الحاسب، وإنما أناط الشارع وجوب الصوم برؤية الهلال ولم يعتبر قول الحاسب والمنجم للعموم رحمة بالمكلفين وتيسيرًا عليهم؛ لأن رؤية الهلال أمر ظاهر يعرفه كل أحد ولا يغلط فيه، بخلاف الحساب فإنه لا يعرفه إلا القليل من الناس، فاقتضت الحكمة الآلهية التخفيف على العبد وربط الأحكام بما هو متيسر على الناس من الرؤية أو إكمال الشهر السابق ثلاثين، وقال العلامة ابن السبكي في بيان معنى الحديث ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) إلخ ومعناه والله أعلم أن الشهر تارة يكون ثلاثين، وتارة يكون تسعًا وعشرين، وليس كما يقول أهل الحساب والنجوم، فإنه دائمًا عندهم تسعًا وعشرين وكسرًا، وقوله (إنا) يعني العرب، لأن الغالب عليها ذلك، وأن كان قد يعلم بعضهم الكتابة والحساب، وجعل ذلك علمًا في الشريعة على الشهر ليكون ضبطًا بأمر ظاهر يعرفه كل أحد ولا يغلط فيه، بخلاف الحساب فإنه لا يعرفه إلا القليل من الناس ويقع الغلط فيه كثيرًا، للتقصير في علمه، ولبعد مقدماته، وربما كن بعضها ظنيًا، فاقتضت الحكمة الإلهية التخفيف علن العباد وربط الأحكام بما هو متيسر على الناس من الرؤية أو إكمال العدد ثلاثين، ليس معنى الحديث النهي عن الكتابة والحساب، ولا ذمهما وتنقيصهما بل هما فضيلة فينا، وليس في الحديث أيضًا إبطال قول الحاسب في قوله: إن القمر يجتمع مع الشمس أو يفارقها، أو تمكن رؤيته أو لا تمكن رؤيته والحكم بكذبه في ذلك، وإنما في الحديث عدم إناطة الحكم الشرعي وتسمية الشهرية، وأجمع المسلمون فيما أظن على أنه لا حكم لما يقوله الحاسب من مفارقة الشمس إذا كان غير ممكن الرؤية لقربه منها سواء كان ذلك وقت غروب الشمس أم قبله أم بعده، وما اقتضاه إطلاق الماوردي والروياني والرافعي من خلاف في ذلك ليس بصحيح، وإنما اختلفوا فيما إذا بعد عنها بحيث تمكن رؤيته وعلم ذلك بالحساب وكان هناك غيم يحول بيننا وبينه، فذهب ابن سريج والقفال والقاضي أبو الطيب من أصحابنا وجماعة من غير أصحابنا إلى جواز الصوم بذلك لمن عرفه، وبعضهم لمن عرفه ولمن قلده، وبعضهم إلى جواب الصوم بذلك على من عرفه وبعضهم على من عرفه ومن قلده، وذهب الجمهور من أصحابنا وغيرهم إلى أنه لا يعتمد ذلك أصلًا لا في الوجوب ولا في الجواز، ولا في حق نفسه ولا في حق غيره، واستدل الأولون بالقياس على أوقات الصلاة، فإنه يعمل بالحساب فيها لا نعرف في ذلك خلافًا إلا وجهًا أشار إليه صاحب الفروع وأجاب الآخرون بوجهين: أحدهما أن الشارع أناط الحكم في الأوقات بوجودها قال {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} .(3/429)
وقال صلى الله عليه وسلم: ((وقت الظهر إذا زالت الشمس)) وأناط في الهلال برؤيته فلم يعتبر وجوده في نفس الأمر، والثاني أن مقدمات الهلال أخفى ويكثر الغلط فيها بخلاف الأوقاف، ولا محذور في أن الهلال يعلم بالحساب وجوده وإن كان رؤيته ولا يكلفنا الشرع بحكمه، ولو عمل في الأوقات كذلك كان الحكم كذلك لكنه أناط بوجودها فاتبعنا في كل باب ما قرره الشرع فيه، والمسألة محتملة يحتمل أن يقال: إذا قوي اعتقاد بعده من الشمس وإمكان رؤيته جليًا وهناك غيم يغلب على الظن أنه هو الحائل المانع من الرؤية يقوى هنا جواز الصوم والقول بعدم الجواز في مثل هذه الحالة بعيد، نعم الوجوب يبعد.
فأنا اختار في ذلك قول ابن سريج ومن وافقه في الجواز خاصة لا في الوجوب وشرط اختياري للجواز حيث ينكشف من علم الحساب انكشافًا جليًا مكانه، ولا يحصل ذلك إلا لما هو في الصنعة والعلم.
مذهب المالكية:
المشهور في المذهب أنه لا اعتبار بقول المنجم والحساب لسير الكواكب في ثبوت الهلال في حق نفسه ولا في حق غيره، ولو وقع في القلب صدقه، قال ابن عرفه: لا أعرفه (أي اعتبار قول المنجم) لمالك، وما روي عن مالك أنه يجيز العمل بقول المنجم في الصوم فهو رواية شاذة، وإن ركن إليها بعض البغداديين، بل نقل عن ابن نافع عن مالك في الإمام الذي يعتمد الحساب أنه لا يقتدى به ولا يتبع، وحكى سند شارح المدونة الإجماع على ذلك، قال السبكي في رسالته العلم المنشور: "فصل" قال عدد من المالكية: لو كان الإمام يرى الحساب في الهلال فأثبت به لم يتبع الإجماع السلف على خلافه، واعترض السروجي بأنه يمكن أن السلف لم يعلموا به واكتفوا بالرؤية ولم يجمعوا على منع العلم به، وهذا الاعتراض جيد، ومن قال من أصحابنا وغيرهم بجواز الصوم أو وجوبه على من قلد الحاسب كيف يسلم ذلك؟ اهـ كلام ابن السبكي.
وذكر القرافي أن الله لم ينصب خروج الأهلة من شعاع الشمس سببًا للصوم، بل نصب رؤية الهلال خارجًا عن شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي.
وقال القاضي عبد الوهاب في الإشراف عن مسائل الخلاف: ولا يعتبر بقول المنجمين في دخول وقت الصوم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن صدق كاهنًا أو منجمًا فقد كفر لما أنزل على محمد)) وأقل ما في هذا التغليظ منع الرجوع إلى قولهم في الشرع.(3/430)
مذهب الحنابلة:
قال صاحب المغني: وإن من بنى على قول المنجمين وأهل المعرفة بالحساب فوافق الصواب لم يصح صومه، وإن كثرت إصابتهم لأنه ليس بدليل شرعي يجوز البناء عليه ولا العمل به، فكان وجوده كعدمه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) وفي رواية: ((لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه)) .
مذهب الشيعة:
ذهب ابن طاوس من الإمامية وحكي عن جماعة منهم أن علم الحساب وسير الكواكب من علوم الأنبياء، وأن من علمت إصابته وعدم خطئه أفاد قوله غلبة الظن فيعمل به، وذكر ابن طاووس أن مذهب السيد المرتضى وجماعة من الإمامية العمل بسير النجوم في الشرعيات ولم يعتمده جمهورهم ورموا السيد المرتضى بالتشديد، وأنه هو الذي لم يعمل بخبر الآحاد الصحيح، وأنه ابتلي بشيء من الجدل وهو في ذلك مخالف لشيخه المفيد.
ومن ذلك تعلم مبلغ اختلاف أئمة الفقه الإسلامي سواء في ذلك الأئمة الأربعة وغيرهم في شأن الاعتماد على أقوال الحاسبين من علماء الفلك في تحديد أوائل الشهور، ووجهة كل منهم ومناقشتهم لوجهة نظر المخالفين.
هذا وقد عني المرحوم الشيخ بخيت بنقل كثير من أقوال المختلفين في هذا الموضوع وناقشها وانتهى إلى اختيار القول بالعمل بالحساب الصحيح، وأيده في قوة بيان ونصوع حجة وسطوع برهان، ونسوق لك عبارته بتصرف بعد أن نقدم لك ما علق به قول ابن السبكي: "فاقتضت الحكمة الإلهية والتخفيف عن العباد وربط الأحكام بما هو متيسر على الناس من الرؤية أو إكمال العدد ثلاثين" قال رحمه الله: وليس الاعتماد على الحساب لبطلانه وعدم صحة مقدماته في الواقع ونفس الأمر وتزييفه وتكذيب قائله، بل لأن الشارع ألغاه في الحكم لما ذكرنا، والإلغاء شيء والإبطال شيء آخر، فإن الشارع ألغى أمورًا في موضع من غير أن يبطلها فقد ألغى إصابة القبلة إذا صلى بلا تحر واجتهاد، واعتبر الخطأ فيها إذا صلى بتحرٍّ واجتهاد عند اشتباهها عليه، وألغى العلم القطعي الذي يحصل للإمام أو القاضي من المشاهدة في إقامة الحدود والقتل، واعتبر الظن الذي يحصل له من شهادة الشهود، فمنعه من إقامتها في الأول وأوجب عليه إقامتها في الثاني، مع أن الأول من قبيل الحسن وهو يفيد العلم القطعي، والثاني من قبيل خبر الآحاد وهو لا يفيد إلا الظن، ثم قال: وقد قدَّمنا لك ما قاله صاحب الهداية في مختارات النوازل من أن علم النجوم في نفسه حسن غير مذموم إذ هو قسمان: حسابي وأنه حق وقد نطق به الكتاب قال تعالى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي سيرهما بحسبان والاستدلال بسير النجوم وحركة الأفلاك على الحوادث وهو جائز كاستدلال الطبيب بالنبض على الصحة والمرض الخ..(3/431)
ثم نقل ما قاله القشيري: وإذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع كالغيم مثلًا فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية مشروطة في اللزوم، فإن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بإكمال العد أو الاجتهاد أن اليوم من رمضان وجب عليه الصوم وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه.
قال رحمه الله وأقول: مما يؤيد القول بالعمل بالحساب الصحيح أن أهل الشرع من الفقهاء وغيرهم يرجعون في كل حادثة إلى أهل الخبرة وذوي البصيرة فيها، فإنهم يأخذون بقول أهل اللغة في معاني ألفاظ القرآن والحديث وبقول الطبيب في إفطار شهر رمضان وغير ذلك كثير فما الذي يمنع من بناء إكمال شعبان ورمضان وغيرهما من الأشهر على الحساب والرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة العارفين به إذا أشكل علينا الأمر في ذلك مع كون مقدماته قطعية وموافقة لما نطقت به آيات القرآن المتقدمة؟ ألا ترى أن الحاسب إذا قال بناء على حسابه إن الخسوف أو الكسوف يقع ساعة كذا من يوم كذا وقع كما قال قطعًا ولا يتخلف؟ خصوصًا وأن مبنى الحساب على الأمور المحسوسة والمشاهدة بواسطة الأرصاد وغيرها وقد يبلغ المخبرون بوجود الهلال وإمكان رؤيته عدد التواتر فيفيد خبرهم القاطع بوجود الهلال، وإمكان رؤيته لولا المانع، أو لا يبلغ المخبرون عدد التواتر، ولكنهم يكثرون إلى أن يفيد خبرهم غلبة الظن التي تقرب من اليقين فيطمئن القلب إلى صدق الخبر، ويبقى احتمال غيره كالعدم، ومما يؤيد ذلك أيضًا قوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وشهود الشهر إما بمعنى الحضور فيه وعدم السفر، وإما بمعنى العلم بوجوده، وهذا الثاني هو الظاهر من الآية فإن الشهود بمعنى العلم هو سبب وجود الصوم، وقوله تعالى {فَلْيَصُمْهُ} جاء مرتبًا عليه بإلغاء خبر لـ (مَنْ) أو وجوبًا للشرط، فيكون الظاهر من الآية أن كل من علم منكم بوجود الشهر المعهود وهو شهر رمضان وجب عليه صومه، ووجود الشهر شرعًا كما هو مقتضى الأحاديث بوجود هلاله بعد غروب الشمس بحيث يرى الناظر، فمن علم بوجود هلال الشهر بعد الغروب بأي طريق من طرق العلم الشاملة لغلبة الظن، سواء كان ذلك العلم برؤيته نفسه، أو بإخبار من يثق به برؤيته، أو بأمر القاضي بذلك وعلمه بأمره، أو بحساب فلكي دل على وجوده وإمكان رؤيته بلا عسر لولا المانع، وجب عليه الصوم فالذي يقتضيه النظر هو ما قاله القشيري كما تقدم من أنه دال الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا المانع كالغيم مثلًا، فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية شرطًا في اللزوم.(3/432)
ثم قال: وتعليق الصوم والإفطار بالرؤية لا ينافي ذلك، لأن المقصود برؤيته ظهوره، حيث يرى كما قال القشيري، وليست حقيقة الرؤية مشروطة في اللزوم كما هو مقتضى الآية المتقدمة، فإن الأعمى والمحبوس ومن في حكمهم مكلفون بالصيام مع عدم تحقق حقيقة الرؤية في حقهم، فلا اعتبار بتعصب عدة من المتأخرين على القائلين بذلك كالسبكي وأمثاله، كما لا اعتبار بقول من قال بوجوب الصوم أو جوازه عند عدم إمكان رؤيته بعد غروب الشمس لأن ذلك مخالف لما اتفقت عليه كلمة المتقدمين من أنه لا يثبت الصوم لمجرد وجوده، إذا لم تتمكن رؤيته أو تعسرت، لاتفاقهم على أن الشارع قد أناط الحكم بالرؤية بعد الغروب، وإنما الخلاف بينهم في أنه تكفي رؤيته لولا المانع بأن دل الحساب على ذلك، أو لابد من رؤيته بالفعل ولم يكن السبكي مخترعًا القول بالاعتماد على الحساب بل ذلك قول فريق من العلماء منهم ابن سريج، ومطرِّف وابن قتيبة وابن مقاتل الرازي وهو من أصحاب محمد بن الحسن، وهو قول بعض كبار التابعين وكفى بأولئك قدوة، ثم قال: وماذا يصنع الذين لا يعتمدون الحساب في البلاد التي يستمر فيها طلوع الشمس وظهوره شهرين أو أكثر إلى ستة أشهر، ويستمر اختفاؤها كذلك؟ فهل يمكن لأهل تلك البلاد أن يصوموا برؤية الهلال بالفعل بعد الغروب، أو يمكن أن يقول أحد منهم أنهم غير مكلفين بالصوم إذا وافق رمضان شهرًا من الأشهر التي تظهر فيها الشمس أو تختفي فيها، مع أن القمر يجتمع مع الشمس كل شهر مرة ويفارقها؟ فإذا فارقها فهو أول الشهر القمري وذلك لا يختلف في جميع جهات الكرة الأرضية، وإنما الاختلاف في مدة ظهور الشمس ومدة اختفائها، ففي بعض الجهات يكون ظهور الشمس شهرين أو ثلاثة إلى أن يكون في بعضها ستة اشهر، تظهر فيها الشمس وتختفي في ستة أشهر، فالأشهر القمرية متحققة في كل جهة، والسنة القمرية كذلك، وبالجملة فالدورة اليومية والشهرية السنوية بجميع أقسامها لا تختلف في جميع أنحاء الكرة الأرضية، فكما أنه في كل دورة يومية تجب الصلوات الخمس وتقدر أوقاتها بالساعات الفلكية بحسب أقرب البلاد المعتدلة إلى أولئك، مع أنه لا زوال، ولا علامة من علامات أوقات الصلاة، فجميع علامات أوقات الصلاة مفقودة في الدورة اليومية في البلاد التي يستمر فيها ظهور الشمس أو اختفاؤها أكثر من أربعة وعشرين ساعة إلى ستة اشهر، كذلك الدورة الشهرية شمسية أو قمرية.(3/433)
والدورة السنوية شمسية أو قمرية موجودتان في جميع أنحاء الكرة، وقد ثبتت فرضية الصلوات على جميع سكان المعمورة بالكتاب والسنة والإجماع وأصبح ذلك معلومًا من الدين بالضرورة من غير اختصاص بأهل قطر دون قطر، بدون حصرها في أهل عصر دون عصر والآيات والأحاديث ظاهرة في تعلق الصلوات الخمس بأوقاتها وأن لكل صلاة وقتًا محددًا وعلى ذلك انعقد الإجماع، والزمان مقدار متجدد غير ثابت لا يدخل في حقيقته شيء من الألوان من الحمرة والصفرة والبيان والظلمة ولا الطلوع ولا الزوال والعشي والغروب ولا يتوقف على وجودها، وإنما هي أعلام معرفات لمضي الزمان وانقضاء المقدار المعين من الأوقات يتعرف بها حضور الأوقات التي جعلت بحكم الشرع مدارًا لأداء الصلوات ووجوبها قال تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} والمعنى والله أعلم أن الأهلة وما ماثلها من العلامات مواقيت للحج وما ماثله من العبادات، وأن هذا هو الذي يلزم المكلف السؤال عنه ومعرفته، لا ما سألوا عنه ولكن لا ينتفي شيء من ذلك بانتفائها، لأنها أعلام ومعرفات فقط، مثلها في ذلك العلامات التي توضع لبيان مقادير المسافات في الطرق، فمقادير المسافات على حالها بقيت تلك العلامات أو زالت، فالصلوات الخمس على هذا المنوال أديرت على أوقاتها ليتمكن العامة والخاصة من العلم بحضور الأوقات المعينة للصلوات ولم يجعل الشارع مدار العلم على الآلات الرصدية والعلوم الحسابية والساعات الفلكية، فإنها وإن كانت معرفة أيضًا لانقضاء الزمان وحضور الأوقات إلا أنها لا تتيسر لكل مكلف في كل موضع، ومما لا شبهة فيه أن الشارع أدار الحكم على تلك الأوقات باعتبار الغالب ولم يرد أن الصلوات تسقط إذا لم توجد تلك العلامات كما في بلاد القطبين، فتعين حينئذ أن نصير إلى معرف الآخر، لأن الشارع وإن لم يجعل مدار العلم بتلك الأوقات على علم الحساب لم يمنع من الاستدلال به على تلك الأوقات لمن يعرفها، لأنه معرف أيضًا، فعند عدم وجود تلك العلامات نقدرها بالساعات بحسب البلاد المعتدلة القريبة من البلاد التي لا توجد فيها تلك العلامات، وكذلك تكون خطابات الشارع الواردة في الصوم (التي جعلت الرؤية علامة للصيام والإفطار فيه والتي حددت وقت الصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس) مبنية على الغالب، وإلا فهل يمكن لعاقل أن يقول بوجود الصوم من وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس في اليوم الذي تمكث الشمس فيه ظاهرة مقدار شهرين أو ثلاثة أو ستة أشهر، عملًا بقوله {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} أو يقول إنه يأكل ويشرب إلى طلوع الفجر إذا اختلفت الشمس شهرًا أو شهرين أو أكثر ووافق ذلك شهر رمضان.(3/434)
أم يتعين أن يقال: أن مثل هذا الخطاب مبني على الغالب، وكأنه قال: وأما الذين يستمر عندهم ظهور الشمس أو اختفاؤها أكثر من أربع وعشرين ساعة فيقدرون وقت الصوم ووقت الإفطار بالساعات بحسب أقرب الجهات المعتدلة إليهم، وذلك إنما يكون بالحساب بلا شبهة، فإن الشارع بنى أحكامه في بيان أوقات الصلاة والصيام على الغالب ولكن لم يهمل بيان حكم غير الغالب فقد أخرج مسلم في صحيحه من رواية يونس بن سمعان من حديث الدجال وفيه: ((قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكيفنا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له)) وكذلك عدة أحاديث غيره جاءت في هذا المعنى، فهل يمكن أن يقال إن معنى ((اقدروا له)) أتموه وكملوه كله بل يتعين أن يكون المراد: انظروا فيه وتدبروه حتى تعرفوا الأوقات وذلك يختلف باختلاف الناس ولا يلزم أن يكون كل الناس عارفين بالعلامات التي تدل على حضور الأوقات بل يكفي أن يعرف ذلك البعض ومن لم يعرف ممن يعرف، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
ألا ترى أن لو كان أهل البلد عميانًا ما عدا أفرادًا قلائل فإن هؤلاء المبصرين يعرفون علامات الأوقات ويخبرون الباقين فكذلك الخواص يعرفون العلامات بالحساب ويخبرون من لا يعرفون ومتى كانوا عدولًا وجب قبول خبرهم، ولاشك أن حديث الدجال، وإن كان مسوقًا لبيان حكم الصلاة في أيامه، ولكن علم أن مدار العبادات على الدورة اليومية والدورة الشهرية والدورة السنوية وبيان حكم الصلاة في أيامه مبين لحكمها فيما يماثل أيامه، والظاهر أن الشارع أشار إلى أن الأيام تختلف في الطول والقصر وأنها لا تتساوى في كل الأقطار بل يكون اليوم في بعضها كأسبوع وبعضها كشهر وبعضها كسنة، وأن حكم العبادات لا يختلف بسبب ذلك الاختلاف، ومما يرشد إلى ذلك اقتصاره في غاية الطول على سنة ولا يكون اليوم في الواقع ونفس الأمر أكثر من ذلك فإن غاية ما يكون ظهور الشمس ستة أشهر واختفاؤها كذلك فلا يتجاوز بنهاره وليله سنة أي دورة كاملة، وقد يتفاوت الليل والنهار طولًا وقصرًا في جهات الكرة الأرضية، ولكن لا يتجاوز هذا المقدار فإن الدورة لا تكون أكثر من سنة، فهذا كله يدل على أن الشارع لم يأمر بالصلاة لدلوك الشمس مثلًا ولا بالصوم لرؤية هلال رمضان، وغير ذلك من الأوقات التي جعلها علامات لأوقات العبادات إلا بناء على الغالب، ولتكون العلامات التي يُتعرف بها أوقات العبادات ظاهرة للخواص والعوام في غلب المعمورة، لا لأن العبادات تسقط إذا لم توجد تلك العلامات؛ لأن سقوطها لا يوجب سقوط نفس الأوقات فلا تسقط العبادات.(3/435)
ولا لأن الشارع يمنع الاعتماد على العلامة الأخرى التي تدل على تلك الأوقات أيضًا من آلات الرصد والحساب والساعات على أن الفقهاء كثيرًا ما اعتمدوا على الحساب في تقدير السنة القمرية التي قدروا بها مدة التأجيل في العنين وسن اليأس وغير ذلك، فقالوا: إن السنة القمرية المعتبرة في ذلك ثلاثمائة يوم وأربعة وخمسون يومًا وخمس يوم وسدسه، وبعضهم قال 354 يومًا تقريبًا وأن السنة الشمسية تزيد عنه عشر أيام وكسرًا وهذا لا يمكن الوقوف عليه إلا بالحساب وسير الشمس والقمر، فاعرف ذلك فإنك لا تجده في غير هذه العجالة.
ولعلك بعد هذا البيان الواضح لا تجد في صدرك حرجًا من صحة الاعتماد على الحساب الموثوق بصحته والمبني على قواعد هندسية مبرهنة ولا سيما إذا قام به من يؤمن تواطؤهم على الكذب واتفقوا عليه، وأن ذلك الحساب يفيد علمًا لا يفيده خبر واحد يجوز أن يكون مخطئًا أو كاذبًا لحاجة في نفسه، وأن بناء الأمور الدينية على المتيقن الموثوق به خير من بنائها على ما هو دون ذلك بكثير مما يعتريه الوهم والغلط، لا سيما وأن الاعتماد على الحساب المستوفي للشروط التي تنتج صحته والوثوق به يجمع المسلمين على كلمة سواء ويوحد صفوفهم، ويؤلف بين قلوبهم ويجنبهم مغبة التنازع والاختلاف.
ومما تقدم يتبين لنا جليًا أنه لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذم الحساب وتنقيصه ونبذ العمل به كيف وقال الله تعالى {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وقال {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} ، وقال {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} فأنت ترى أن الله قد حثنا على تعلم الحساب والعمل به، وقد سمعت مقالة صاحب الهداية: أن علم النجوم الحسابي حق موافق لما نطق به الكتاب وقول ابن طاووس: إن علم النجوم من علوم الأنبياء، وأما ما تعلق به البعض من مثل قوله صلى الله عليه وسلم ((من أتى كاهنًا أو منجمًا فقد كفر بما أنزل على محمد)) فلا يصح الاستناد إليه؛ لأن ذلك المنهي عنه هو التخرصات والتكهنات التي يدعيها بعض محترفي علم النجوم مما يسمونه طوالع ويتكسبون به، ويوهمون به السذج وعباد الخرافات، ويزعمون أن هذا ما دلت عليه النجوم، وهو ما يسمى بعلم النجوم الاستدلالية أي يستدلون بمطالع النجوم على الحوادث المغيبة المستقبلة.(3/436)
ويقولون: سيموت فلان أو يتولى منصبًا خطيرًا أو ستكون السنة القادمة مجدبة، أو يعم الرخاء فيها، أو تغلو الأسعار أو ترخص مما تفنن فيه أصحاب التقاويم عندنا، وجعلوا ينظمون في ذلك أشعارًا مملوءة بالرموز والأحاجي والألغاز حتى تروج بضاعتهم ولا ينكشف أمرهم، فهذا هو الذي عناه الحديث بلفظ الناس عن التعلق بالأوهام والخرافات ويرتفع بمستواهم عن تصديق هؤلاء فيما اختص بالله به نفسه من علم الغيوب {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} .
قال الغزالي: علم النجوم إذا أريد به موت فلان وحياة فلان وبطلوع نجم كذا يظهر موت فلان أو هلاك أمة أو ذهاب دولة فليس يقينيًا ولا ظنيًا، وقد دحضه الفارابي في كتاب الفصوص، وفرق بين القضايا الحسابية والحوادث الأرضية، وقال: من العجيب أن قال: إن مرور نجم كذا يوجب أن يحصل عنه حوادث لاتفاق اتفق فيجعل قاعدة عامة، فهذا القسم لا يقول به الشرع، فأما علم النجوم الذي يعرف به سير الكواكب والشمس والقمر وكذلك علم الهيئة فلن يكذبه الشرع بل يهتدي به إلى معرفة السنين والشهور وأوقات الصيام والحج ومواقيت الصلاة فإنكار هذا قصور وجهل، ولعل الذي حمل بعض العلماء على عدم التعويل على ما يقوله الحاسبون والمنجمون ما قدمنا من اختلاف طرائقهم مما جعله يرجع هذا الاختلاف إلى أن مقدماتهم ظنية غير يقينية وأنهم يخطئون ويغلطون كثيرًا وهذا ما صرح به كثير منهم في تعليل رده لأقوالهم كما قدمنا.
وهذا إن صح بالنسبة للمنجمين والحاسبين فيكون فيما قبل عصر النهضة في الدولة العباسية أما في هذا العصر وما تلاه من الأعصر التي ظهرت فيها الاكتشافات العلمية الحديثة وأنشئت المراصد المجهزة بأحدث أجهزة الكشف في العواصم الإسلامية وغيرها فقد تقدم علم الفلك وعلم الهيئة تقدمًا ملحوظًا وتمكن العلماء من وضع قوانين هندسية مبرهنة لإنتاج مقادير الحركات الظاهرة للشمس والقمر وسائر الكواكب بالتحديد، مضربين عن القواعد الفلكية الحسابية القديمة لابتنائها على الأوساط التقريبية، قال الشيخ أبو العلاء البناء: إن مقدمات الحساب الفلكي لإثبات الشهر قبل الإسلام وإلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم عند جميع العالم كانت ظنية كلها غير يقينية الإنتاج كما قدمنا ودلت التواريخ ونصوص الفلكيين على ذلك، وهذا بعينه هو الذي حمل السبكي على أن يقول في رسالته العلم المنشور: وجعل الرؤية أو الإكمال علمًا على الشهر في الشريعة ليكون ضبطًا بأمر ظاهر يعرفه كل أحد ولا يغلط فيه، بخلاف (الحساب) فإنه لا يعرفه إلا القليل من الناس ويقع الغلط فيه كثيرًا للتقصير في علمه ولبعد مقدماته وربما كان بعضها ظنيًا فاقتضت الحكمة الإلهية والشريعة الحنفية السمحة التخفيف عن العباد وربط الأحكام بما هو متيسر على الناس منا لرؤية أو إكمال العدد ثلاثين.(3/437)
وقد أدركت الأمة من قديم أن الشهادة برؤية الهلال كثيرًا ما يعتريها الشكوك وتمازجها الأوهام فهذا أنس بن مالك يرى شعرة بيضاء ساقطة من حاجبيه فظنها الهلال، فلما رفعها إياس بيده قال: لا أنظره، ومن الشهود من يعتمد الكذب ليشتهر أو لإثبات عدالته أو للتقرب إلى الله جهلًا، ومنهم المخطئون لضعف الحاسة أو الوهم أو غير ذلك، فاستحسنوا الأخذ بالأسباب ليتبينوا أما إذا كانت الرؤية ممكنة أو غير ممكنة ليكون ذلك حصنًا يقي من غلط الحس أو تعمد الكذب ومن التنطع بالشهادة تقربًا إلى الله ونغير ذلك ولذا قال السبكي كما تقدم: وليس معنى الحديث ((إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب)) النهي عن الكتابة والحساب ولا ذمهما وتنقيصهما بل هما فضيلة فينا، وليس في الحديث أيضًا إبطال قول الحاسب إن القمر يجتمع مع الشمس أو يفارقها أو تمكن رؤيته أو لا تمكن والحكم بكذبه في ذلك، وإنما في الحديث عدم إناطة الحكم الشرعي بثبوت الشهر به.
وإذًا فلا مناص لنا بعد الذي تقدم من الاعتماد على الحساب الفلكي إن لم يكن لإثبات الشهر به بادئ ذي بدء فلإثبات أن رؤية الهلال ممكنة أو غير ممكنة فتقبل الشهادة برؤيته ممن يشهد بذلك أن قرر علماء الفلك والحساب أنها ممكنة مع عدم المانع من غيم ونحوه، ولنردد هذه الشهادة أن قرروا أن الهلال يغرب قبل غروب الشمس أو بعدها بقليل بحيث تتعذر رؤيته، ولو بالنظارات المكبرة أو بآلات الرصد في أبعد البلاد نحو الراغب وهي مراكش كما يقولون.
حقًا إن تقدم علم الفلك وبراعة علمائه وحسابهم الدقيق الذي يضبطون به أحوال القمر ومنازله، ويحددون به وقت ميلاده ومقدار ارتفاعه وغاية مكثه فوق الأفق، ويعرفون به بعد ما بينه وبين نقطة مغيب الشمس يمينًا أو شمالًا، مضافًا إلى ذلك ما أتيح لنا في هذا العصر من المخترعات الحديثة التي يسهل بها كشف الهلال في ليلته الأولى ومهما كان صغيرًا ودقيقا كل ذلك مما يساعد على إثبات الأهلة في ضبط ويسر وسهولة.
وإذا كانت الشريعة السمحة لم تكلف الناس إلا بما يطيقون ولم تفرض عليهم في تحري الهلال أكثر من التماسه بالعين المجردة ولم تحتم عليهم أن يتكلفوا البحث عنه بوسائل أخرى رحمة بهم وتخفيفًا عليهم فإن ذلك لا يمنع أن تستخدم تلك الوسائل التي تسهل رؤيته والتثبت منه ما دامت موفورة ميسرة بل إني أذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إنه يجب على الحكومات الإسلامية وجوبًا كفائيًا أيضًا - بمعنى أنه إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين- أن تلتمس الهلال بعد غروب يوم 29 من كل شهر بحساب الرؤية مستخدمين كل الوسائل التي يسر الله بها أمر الرؤية في هذا الزمان فإنهم إن قاموا بهذا الواجب الديني مسترشدين بآراء الفلكيين السديدة الموثوق بها لا يمكن أن تفوتهم جميعًا رؤية الهلال متى كان نظام دورته يسمح برؤيته، وبهذا يقضى على عوام الاضطراب في إثباته وتتوحد كلمة المسلمين في جميع أنحاء المعمورة بشأن إثبات الشهور العربية وتحديد أوائلها ونهاياتها وتنحل تلك المشكلة المزمنة وتزول أسباب التفرق والاختلاف.(3/438)
الخاتمة في خلاصة البحث
وبيان أيسر السبل لإثبات الأهلة
تبين من كل ما تقدم في هذا البحث أن الراجح ما يأتي:
أولًا: أن إثبات الشهور في حد ذاته من غير نظر إلى ما يتعلق به من حقوق العباد من باب الإخبار لا من باب الشهادة، وأنه لا يدخل تحت الحكم والقضاء، فلا تلزم فيه شروط الشهادة، ويستوي في المخبر أن يكون ذكرًا أو أنثى حرًا أو عبدًا، ولا يشترط مجلس الحكم ولا تقدم الدعوى، ولا قضاء قاض ولا لفظ: أشهد، ويكفي بأن يكون المخبر مستورًا غير ظاهر الفسق.
ثانيًا: أن الشهور جميعًا سواء في حالة الصحو أو الغيم يكفي في إثباتها خبر الواحد متى غلب على الظن صدقه ولم يكذبه الحساب الموثوق به القاضي باستحالة الرؤية وأنه لا تشترط الاستفاضة ولا العدد الجم إلا عند مظنة الغلط أو الخطأ أو رجحان تهمة الكذب.
ثالثًا: أنه لا عبرة لاختلاف المطالع، فإذا ثبت الشهر في أية حكومة إسلامية ونقل هذا الثبوت إلى سائر البلاد الإسلامية بطريق موثوق به فإنه يعم حكمه الجميع ما داموا مشتركين مع بلد الرؤية في جزء ولو يسير من ليلة الرؤية.
رابعًا: أنه لا يصح التعويل في إثبات الشهور على قواعد الفلكيين القدماء فيما قبل عصر النهضة الإسلامية في العصر العباسي لأنها قواعد تقريبية غير متيقنة ولا منضبطة كما لا يصح التعويل على الجداول الفلكية التي تجعل بعض الشهور ثلاثين يومًا أبدًا وبعضها 29 يومًا أبدًا فقد تبين خطؤها وأنه قد تتوالى أشهر كلها ثلاثون وأشهر كلها تسعة وعشرون.
كما ثبت أن الحساب الفلكي المعمول به الآن في التقاويم الرسمية وغيرها لا يتفق مع الحساب الشرعي الذي يعتمد على القطع بالرؤية أو إمكانها على الأقل، لأن التقاويم الحالية تعتمد في تعيين أوائل الشهور على اجتماع الشمس والقمر فيجعلون أول ليلة يغرب يلفها القمر بعد غروب الشمس هي أول الشهر ولو استحالت الرؤية، ومن المقرر أنه قد يتفق الحسابان وذلك فيما إذا غرب القمر بعد الاجتماع قبل الشمس أو معها يكون أول الشهر الليلة التالية لليلة الواقعة بعد الاجتماع، وقد يتقدم أول الشهر بالحساب الفلكي والاجتماعي على أوله بالحساب الفلكي الشرعي المبني على إمكان رؤية الهلال بيوم في الأكثر أو بيومين في الأقل.
ويلزم على الأخذ بهذه التقاويم تغيير أوقات العبادات عما حدده لها الشارع وبالتالي يلزم إحلال ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، فقد حرم الله صوم أيام العيدين وأيام التشريف وأحل الفطر في شعبان كما يلزم عليه أن يكون الوقوف بعرفة في غير التاسع وأن تذبح الأضاحي قبل وقتها.(3/439)
ويلزم على الأخذ بهذه التقاويم تغيير أوقات العبادات عما حدده لها الشارع وبالتالي يلزم إحلال ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، فقد حرم الله صوم أيام العيدين وأيام التشريق وأحل الفطر في شعبان كما يلزم عليه أن يكون الوقوف بعرفة في غير التاسع وأن تذبح الأضاحي قبل وقتها.
خامسًا: أن الحساب الفلكي الشرعي المبني على الوضع الهلالي وإمكان رؤيته بعد غروب يوم 29 من الشهر السابق بحساب الرؤية يصلح مناطًا مستقلًا لإثبات الشهر، كما اختاره طائفة من العلماء الأثبات ممن ذكرنا كالسبكي وابن سريج وابن مقاتل وغيرهم، ورجحه الشيخ بخيت المطيعي، وأن ذلك لا يتنافى مع أحاديث إثبات الشهور بالرؤية أو الإكمال بناء على أن المراد العلم بالرؤية حقيقتها، بدليل وجوب الصوم على الأعمى والمحبوس في المطمورة وسكان القطبين والبلاد التي في حكمها، وهم محرومون من الرؤية حتمًا ويدل على ذلك أيضًا ما جاء في بعض روايات الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) فقد فسر من يرى من العلماء الأخذ بالحساب القطعي قوله صلى الله عليه وسلم ((فاقدروا له)) بمعنى فانظروه وتدبروا فيه من قولهم: قدرت الأمر نظرت فيه، وتدبرته وذلك بالحساب عند من خصهم الله بهذا العلم، قال السبكي: والبحث في هذا الحديث في موضعين، أحدهما قوله ((فاقدروا له)) قال بعض من يقول باعتماد الحساب: معناه احسبوا له، ويكون معناه قدروه بالحساب والمنازل كما قال تعالى {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} قاله مطرف بن عبد الله من التابعين وابن قتيبة من المحدثين وابن سريج من الشافعية وابن مقاتل من أصحاب محمد بن الحسن وطائفة من المتأخرين قالوا: ولا يلزمنا مقال المازري من أن الناس لو كلفوا بالحساب ضاق عليهم لأنه لا يعرفه إلا أفراد قلائل، لأنه إنما يلزم ذلك لو كلف عامة الناس بالحساب، ولم يقل بذلك أحد، بل الذي قلناه: إن قوله صلى الله عليه وسلم ((فاقدروا له)) بالمعنى الذي اخترناه خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وقوله ((فأكملوا العدة ثلاثين يومًا)) كما في الرواية الأخرى خطاب للعامة.(3/440)
فالذين خصهم الله بهذا العلم يكون نظرهم بالطريق المقدور لهم، وهو طريق الحساب ويكون نظر العامة الذين لا يعرفون الحساب أو لا يقلدون من يعرفه بالطريق المتيسر لهم وهو الرؤية أو إكمال العدة، فلا تنافي بين الروايتين بل نحن ننزلهما على حالين مختلفين فنكون عاملين بهما.
سادسًا: يجب وجوبًا كفائيًا كما قلنا أن يكون في كل حكومة إسلامية هيئة شرعية من مهمتها إثبات الشهور العربية بوجوه الإثبات المعتبرة شرعًا مع مراعاة الاتصال بالمراصد والفلكيين العدول الموثوق بهم في دينهم وعلمهم ليتحققوا من جواز الرؤية أو استحالتها حتى لا يقعوا في الخطأ ويثبتوا الشهر قبل موعده كما حصل في بعض السنين من قاضي الرؤية المنفرد بهذا الإثبات وترتب عليه صيام المسلمين يومًا من شعبان وفطرهم يومين من رمضان.
سابعًا: ليتحقق الأمل المنشود وهو توحيد أوائل الشهور العربية في جميع البلاد الإسلامية يجب أن ينبه ناشرو التقاويم الرسمية وغيرها إلى أنه يلزمهم أن يبنوا تحديد أوائل الشهور القمرية على الوضع الهلالي الحقيقي فيكون أول الشهر هو أول ليلة يمكن أن يُرى فيها الهلال بعد الاجتماع وأن يراعوا خط عرض مراكش وهو 15 درجة (غرب جرينتش) لتكون تقاويمهم هلالية شرعية عالمية مساندة ومنظمة لعملية الرؤية في جميع الحكومات الإسلامية، والله الموفق للصواب.(3/441)
المناقشة
توحيد بدايات الشهور القمرية
10 صفر 1407 هـ / 13 أكتوبر 1986 م
استئناف الجلسة المسائية (بعد صلاة المغرب)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
لدينا في هذه الجلسة المسائية إن شاء الله تعالى موضوعان: أحدهما أجهزة الإنعاش وسيؤخر إلى بعد ساعة ونصف تقريبًا حتى حضور الطبيب الذي سيكون بمعيتكم لإلقاء الأضواء الطبية على هذا الموضوع، وأما الآن فهو في مسألة "توحيد بدايات الشهور القمرية ومدى إثباتها بالحساب الفلكي" وأرجو أن نستمع إلى تلخيص من فضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي. وشكرًا.
الشيخ مصطفى التارزي:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
سيدي الرئيس.. حضرات السادة الأكارم، إنكم على علم من أن موضوع توحيد بدايات الشهور القمرية درس في السنة الماضية من طرف مجمعكم الكريم، وألقيت فيه عدة دراسات علمية قيمة وزيادة في التحري فإن المجمع لم يأخذ قرارًا في هذا الموضوع بل أجل النظر فيه إلى الدورة الثالثة، وقد طلب مني أن أقدم عرضًا لجوانب هذا الموضوع حتى يكون هذا العرض منطلقًا للحوار وأخذ القرار الحاسم في الموضوع، وقد قسمت هذا العرض إلى خمسة عناوين:
أولًا: المؤتمرات الإسلامية ومحاولتها التوحيد.
ثانيًا: المنكرون للعمل بالحساب وحججهم على ذلك.
ثالثًا: الحساب الفلكي هو غير التنجيم.
رابعًا: القائلون باعتماد الحساب وحججهم.
خامسًا: نتائج واقتراحات.
حسبما أعلم فإن أول محاولة جدية في التوحيد كانت من الجامعة العربية التي أوصت في سنة 1376 بالدعوة لعقد اجتماع بين المختصين من علماء المسلمين لبحث اقتراح توحيد أيام الصيام والأعياد في البلاد الإسلامية بطلب من الدولة الهاشمية الأردنية ومن الصدف الغريبة أن يجتمع مجمعكم هذا في عمان بعد واحد وثلاثين سنة ليأخذ قرارًا في هذا الموضوع ويستجيب لرغبة ملحة إسلامية تقدمت بها المملكة الأردنية الهاشمية.(3/442)
وفي سنة 1382 أرسلت نفس الجامعة مذكرة أرفقت بها قرارات اللجنة الشرعية الفلكية التي كونها الأزهر الشريف لنظر في أمر توحيد مبدأ الشهور القمرية ومواقيت الصلاة، كما عقدت في تونس ندوة حضرها ثلة من رجال الاختصاص في الدين والفلك من أقطار العالم الإسلامي وذلك في سنة 1384 بإشراف الشيخ محمد الفاضل بن عاشور مفتي الديار التونسية في ذلك الوقت.
وأبرز القرارات الصادرة في هذا الموضوع هي قرارات مؤتمر معهد البحوث الإسلامية بالأزهر المنعقدة في سنة 1386، وقرارات المؤتمر الإسلامي العالمي المنعقدة بكوالمبور بدولة ماليزيا في سنة 1390، وقرارات مؤتمر وزراء الشئون الدينية والإسلامية والأوقاف المنعقدة بالكويت في محرم سنة 1393، وقرارات مؤتمر اسطنبول المنعقدة في سنة 1398، وآخر هذه القرارات هي قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة في شهر ربيع الآخر سنة 1401.
أما مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر فقد قرر أن الرؤية هي الأساس لكن لا يعتمد عليها إذا تمكن فيها التهم تمكنًا قويًا، ومن هذه الأسباب مخالفة الحساب الفلكي الموثوق به، فكانت الفقرة الثانية من التوصيات على الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات دخول الشهر إذا لم تتحقق الرؤية ولم يتيسر الوصول إلى تمام الشهر ثلاثين يومًا.
ومؤتمر ماليزيا ورد في توصياته أنه إذا تعذرت الرؤية لسبب من الأسباب وكان الحساب الفلكي يثبت إمكان رؤية الهلال يجوز الاعتماد على الحساب الفلكي بها.
ومؤتمر وزراء الشئون الدينية والأوقاف المنعقد بالكويت ينص قراره الرابع على وجوب وضع تقويم قمري بمعرفة لجنة معتمدة من فقهاء الشريعة الإسلامية وعلماء الفلك تلتزم به الحكومات الإسلامية في صومها وفطرها وفي تحديد مواسمها الدينية وفي تاريخها، ولكن هذه اللجنة لم تجتمع.
أما مؤتمر اسطنبول فقد احتضن تقريبًا مقررات مؤتمر الكويت وأخذ خطوة إيجابية جيدة وهي بعث لجنة من دول إسلامية عشرة معتمدة من فقهاء الشريعة الإسلامية وعلماء الدين لضبط التقويم الهجري الموحد سنة فسنة، وقد اجتمعت بالفعل هذه اللجنة وكنت أحد أفرادها في عدد من العواصم الإسلامية اسطنبول ثم تونس ثم الجزائر ثم أنقرة وأخيرًا الاجتماع الأخير الذي كان بمكة المكرمة في محرم سنة 1405 وقد أصدرت هذه اللجنة تقاويم موحدة بداية من مؤتمر اسطنبول سنة فسنة إلى هذه السنة واحتضنت أعمال هذه اللجنة منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة وأذاعت كل تقاويمها وقراراتها على جميع الدول الإسلامية.
أما قرار المجمع الفقهي الإسلامي بالرابطة فإنه واضح باعتماد الرؤية البصرية خاصة دون الحساب بأي شكل من الأشكال.(3/443)
العنوان الثاني: إنكار المتقدمين للعمل بالحساب وحججهم:
فالمتمسكون بظاهرة الرؤية البصرية في إثبات أوائل الشهور لا يعتمدون الحساب لأنهم يعتقدون أن الحساب الفلكي ليس وسيلة قطعية بل هو لم يصل عندهم حتى إلى مرتبة الظن فهو حدس وتخمين، وقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم، ولهذا حذر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأخذ بأحكام المنجم فقال فيه فيما رواه أبو داود وابن ماجه ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر)) ولأجل هذا نجد كثيرًا من المتقدمين في علم الفقه ينصون صراحة على عدم اعتماد حساب المنجمين.
أولًا: لأن التفرقة عندهم لم تكن واضحة بين التنجيم الذي هو ليس بعلم إذ هو تطلع إلى الغيب وبين علم الفلك الذي هو من العلوم الصحيحة التي لا يختلف في قواعدها العامة لا سيما وأن عالم الفلك في القديم كان في الغالب المنجم المتطلع إلى معرفة الغيب، ومن هذا الخلط شك الفقهاء في الحساب الفلكي الذي كان في الغالب صادرا عن المنجمين.
ثانيًا: لأن علم الفلك لم يصل في القرون الإسلامية الأولى إلى درجة النضج ولم تتضح معالمه عند الناس حتى يمكن الاعتماد عليه في هذه القضايا الدينية.
ففي الفتاوى الهندية: "وهل يرجع إلى قول أهل الخبرة العدل من يعرف علم النجوم؟ الصحيح أنه لا يقبل، ويقول في كتاب معراج الدراية: "ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه" وقال ابن عرفة: "لا أعلم أن مالكًا اعتبر قول المنجم" وقال القاضي عبد الوهاب في كتابه الأشراف: "لا عبرة بقول المنجمين في دخول وقت الصوم". وفي الجزء الثاني من الدر المختار شرح تنوير الأبصار في باب الصوم قال الشيخ محمد علاء الدين الحصكفي: "لا عبرة بقول الموقتين ولو كانوا عدولًا على المذهب".
وقال ابن عابدين في حاشيته رد المحتار على الدر المختار في شرح قوله: ولا عبرة بقول الموقتين: "أي في وجوب الصوم على الناس، بل في المعراج لا يعتبر قولهم بالإجماع ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه" وفي النهر: فلا يلزم بقول الموقتين أنه - أي الهلال - يكون في المساء ليلة كذا وإن كانوا عدولًا في الصحيح كما في الإيضاح، ثم قال: ووجه ما قلناه أن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية بقول: ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا)) ولهذا حصر الشيخ شمس الدين بن فرج المقدسي في شرحه الكبير على المغني ثبوت رمضان بواحد من ثلاثة أشياء فقط وكلها ترجع إلى الرؤية البصرية فجعل أولها رؤية الهلال، والثاني: إكمال شعبان ثلاثين يومًا، والثالث: أن يحول دون منظر الليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر.(3/444)
ويقول ابن قدامة في كتابه المغني "من بنى على قول المنجمين والحساب لم يصح صومه وإن كثرت إصابتهم لأنه ليس بدليل شرعي إنما الدليل قوله عليه الصلاة والسلام ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) وفي رواية ((لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه)) فأناط وجوب الصوم برؤية الهلال.
وقد نقل الباجي في المنتقى والقرطبي في الأحكام رواية عن مالك، روى ابن نافع عن مالك "عن الإمام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته إنما يصوم ويفطر على الحساب أنه لا يقتدى به ولا يتبع" وجاء في شرح مسلم للنووي نقلًا عن المازري: حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم ((فاقدروا له)) على أن المراد إكمال العدة ثلاثين كما فسر في حديث آخر، ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم لأنه لا يعرفه إلا أفراد والشرع إنما يعرف بما يعرفه جماهيرهم.
وحجة المتمسكين بإثبات الشهور القمرية بخصوص الرؤية البصرية جملة نصوص من السنة، واعتبروا الرؤية أمرًا تعبديًا لا يمكن العدول عنها إلى الحساب بحال من الأحوال، لأن الشريعة الإسلامية ربطت ميلاد الأهلة في كل هذه النصوص بالرؤية البصرية، وهذا يؤدي إلى حتمية الرؤية وعدم جواز العلم بالحساب، واستشهدوا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له)) وفي رواية ((فاقدروا له ثلاثين)) وفي رواية ((إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا وإن غم عليكم فاقدروا له)) وفي رواية ((إن غم عليكم فصوموا ثلاثين يومًا)) وفي لفظ البخاري: ((الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) فلم يذكر صلى الله عليه وسلم علم الحساب ولا أقوال المنجمين والنصوص صريحة في اعتماد الرؤية.
والقدر أو التقدير عندما تتعذر الرؤية البصرية لعارض من العوارض كضباب وغيره إنما هو إكمال الشهر ثلاثين يومًا، كما اعتبروا أن قضية الصوم والإفطار قضية دينية بحتة يجب الرجوع فيها إلى النصوص لا إلى مقتضيات العقول لأنها ليست من مجال الاجتهاد الذي يفضي إلى استعماله في حالة فقدان النصوص والمعروف أن حكمها مقرر في السنة النبوية واتفاق المسلمين في الطبقة الأولى منهم وأغلبهم فيما بعد ذلك وإلى اليوم لم يؤولوها لأن عباراتها صريحة لا تحتمل التأويل وخصوصًا لا يوجد دليل من النصوص يعارضها.(3/445)
وعلى هذا الاتجاه سار العلامة ابن حجر في شرحه لحديث ((إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب)) فقال: ((لا تكتب ولا تحسب)) تفسير لكونهم كذلك، وقيل للعرب أميون لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} ولا يرد على ذلك أنه كان فيهم من يكتب ويحسب لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة، والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضًا إلا النزر اليسير، وقال في المكان نفسه: فإن تعليق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية دون الحساب يستمر ولو حدث فيما بعدهم من يعرف الحساب، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم أصلًا، ويوضحه قوله في الحديث الماضي: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) ولم يقل فاسألوا أهل الحساب والحكمة في ذلك أن يستوي الناس فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم.
كما ذكر العلامة ابن حجر في نفس المكان تعليق ابن بطال الذي قال في حديث ((إنا أمة أمية)) رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل وإنما لمعول رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف، ولاشك أن في المراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته الطويلة حول الهلال في استدلاله على عدم جواز الاعتماد على الحساب "أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل لمطلع الهلال حسابًا مستقيمًا بل لا يمكن أن يكون إلى رؤيته طريق مطرد إلا الرؤية وقد سلكوا طرقًا كما سلك الأولون منهم لم يضبطوا سيره إلى التعديل الذي يتفق الحساب على أنه غير مطرد وإنما هو تقريبي".
وقال في فقرة أخرى من نفس الرسالة: "فالذي جاءت به شريعتنا هو أكمل الأمور لأن ضبط وقت الشهر بأمر طبيعي ظاهر عام تدركه الأبصار، فلا يضل أحد عن دينه ولا يشغله مراعاته عن شيء مخصص له ولا يدخل بسببه فهما لا يعنيه ولا يكون طريقًا إلى التلبيس في دين الله كما يفعل بعض علماء أهل الملل بمللهم وقال في نفس الرسالة "ما ذكرنا من أن الأحكام مثل صيام رمضان متعلقة بالأهلة لا ريب فيه لكن الطريقة إلى معرفة طلوع الهلال والرؤية لا غيرها" وقال: "والمعتمد على الحساب في الهلال كما أنه ضال في الشريعة مبتدع في الدين فإنه مخطئ في العقل وعلم الحساب فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر الحساب".(3/446)
والذي يظهر لي من كل هذه الحجج والتعاليل التي اعتمدها المانعون للعمل بالحساب لا تكون دليلًا على أن الرؤية البصرية هي أمر تعبدي وذلك لأمرين اثنين.
أولًا: لأن الرؤية هي الوسيلة الممكنة في زمن البعثة لمعرفة بداية الشهور ونهايتها، والكتابة كانت قليلة نادرة كما صرحوا بذلك مرات في احتجاجاتهم، وأن الرصد الفلكي لم يصل إلى درجة من الوضوح والدقة حتى يصبح وسيلة لإثبات الحكم وكثيرًا ما وصفوا حساب المنجمين بأنه حدس وتخمين وكثير من العلماء اعتمدوا هذا التعليل لعدم العلم بالحساب.
ثانيًا: وأن الأمية التي وصف بها الرسول المسلمين هي وصف عارض لهم زمن البعثة لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة ونادرة كما قال ابن حجر: "وجاء الإسلام ليخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور الإسلام والمعرفة ويزيل وصف الأمية عنهم".
ومعنى هذا أن الحساب إذا وصل إلى درجة من الوضوح والدقة، وأصبح علمًا من العلوم الصحيحة، وأصبحت الكتابة منتشرة في أغلب أنحاء العالم الإسلامي، فإنه يجوز الاعتماد على الرؤية، وإذا جاز أن يكون ضعف علم الحساب والهيئة في الماضي حجة لهم على عدم الاعتداء به فلا يجوز أن يكون حجة في العهد الحاضر على عدم اعتباره.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه يعتبر الأمية صفة للأمة الإسلامية قارة كالوسطية لا تنفك عنها بحال، فقال في نفس رسالة الصيام: "هذه الأحاديث المستفيضة المتلقاة بالقبول دلت على أمور: أحدها: فإن قوله: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) هو خبر تضمن نهيًا فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي الأمة الوسط أمية لا تكتب ولا تحسب ومن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة" (الصفحة 162 طبعة المغرب الجزء 25) .(3/447)
العنوان الثالث: الحساب الفلكي هو غير التنجيم:
فقد اعتقد علماء الفلك والهيئة من المسلمين من جانبهم أنهم مخاطبون شرعًا للعمل في هذا الميدان لا سيما والقرآن نفسه رغب الناس في علم الهيئة لمعرفة حساب الشهور والسنين من منازل القمر بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وبما ورد من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((فإذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له)) وأنه يتعين أن يكون المراد من ((اقدروا)) انظرا فيه وتدبروه حتى تعرفوا الأوقات، وذاك يختلف باختلاف الناس ولا يلزم أن يكون الناس عارفين بالعلامات التي تدل على الأوقات، بل يكفي أن يعرف ذاك البعض وسبيل من لم يعرف أن يسأل من يعرف والله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} كما حفزهم على بذل الجهد في هذا الميدان بالحديث المروي عن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا)) واتنكبوا انكبابًا كليًا لمعرفة كل العلوم للخروج بالأمة الإسلامية من الأمية إلى نور العلم والمعرفة محبة في الرفعة والله تعالى يقول: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} .
وهكذا انطلق علماء الفلك المسلمون على رصد سير الشمس والقمر منزلة منزلة حتى تمكنوا من التقدم في هذه العلوم تقدمًا واسعًا كما تمكنوا من معرفة الأحوال التي يرى فيها الهلال إذا تعذرت رؤيته حتى كانت نتائجهم لا تخالف الرؤية البصرية بل كانت الرؤية تؤيد حسابهم وأرصادهم مما جعل علم الهيئة يتبوأ الصدارة من العلوم، وهذا ما تفطن إليه كثير من الفقهاء في مختلف المذاهب الإسلامية وجعلهم يقتنعون بجدوى الاكتشافات العلمية الصحيحة ويعطون الحساب ما يستحقه من اعتبار في التشريع إذ أصبح وسيلة من وسائل إثبات الصوم عندهم لا تقل قيمة عن الرؤية البصرية.(3/448)
ولا أظن أن هذا الشك الذي كان يحوم حول قدرة المنجمين على حساب الأهلة ينصب اليوم على أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا مثل معهد الأرصاد بحلوان بمصر، ومعهد قانديلي باسطنبول، والمعهد الفلكي بأبو زريعة بالجزائر، والمرصد الفلكي بجاكرتا بأندونيسيا وغيرها التي تمحضت لدراسة علم الفلك وأصبحت عنوان التقدم العلمي في العصر الحاضر، مع العلم أن هذه المعاهد اليوم تستطيع أن تحدد لحظة ميلاد القمر وفترة مكثه بعد غروب الشمس في البلاد الإسلامية المختلفة بدقة متناهية، واحتمال الخطأ مع انضباط الحسابات في المراصد الفلكية الحديثة المختلفة أصبح من الأمور المستبعدة، وأصبحت الدراسات التي تقدم من الفلكيين في هذا الموضوع تصور بوضوح كل الأشكال التي تمر بها عملية ظهور الهلال.
وقد تقدم المرصد الفلكي قاندلي باسطنبول بخرائط جغرافية واضحة تدل بكل دقة بداية رؤية الهلال لك لشهر من شهور السنة كما تبين البلدان التي يرى فيها ظهور الهلال فوق سطح الأرض بالساعة والدقيقة والثانية، ثم كيف تستمر عملية الرؤية طبقًا لحركات القمر حول الأرض؟ وقد صرح كثير من الفلكيين بأنه يمكن الاستعانة بالأقمار الصناعية لتصبح عملية الرؤية تشاهد على شاشة التليفزيون من طرف كل الناس.
هذا وأن البحث الذي تقدم به علماء الفلك بجامعة الملك عبد العزيز بجدة إلى مجمعكم هذا ليعد نموذجًا صادقًا ودراسة علمية عميقة لمحاولة التوفيق بين النصوص الشرعية وعلم الحساب الذي أصبح من العلوم الصحيحة في هذا العصر.
العنوان الرابع: المجيزون العمل بالحساب وحجبهم:
إن القول بجواز الاعتماد على الحساب ابتدأ من عهد التابعين من أمثال: مطرف بن عبد الله وابن قتيبة من المحدثين والقاضي عبد الجبار وابن مقاتل الرازي من أصحاب الإمام محمد بن الحسن وأبي العباس ابن سريج والقفال والقاضي أبي الطيب من الشافعية كما نص على ذلك القرطبي في تفسيره، وقال: "وقد ذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين وابن قتيبة من اللغويين، فقالا: " يعول على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان حتى إنه لو كان صحوًا لرئي لقوله عليه السلام: ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) أي استدلوا عليه بمنازله وقدروا تمام الشهر بحسابه.(3/449)
وصرح صاحب الهداية الحنفي المرغيناني في كتابه مختارات النوازل "إن علم النجوم قسمان: أحدهما الحسابي معلنًا أنه حق وقد نطق به الكتاب فقال تعالى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي سيرهما بحساب، واستدلاله بحركة الأفلاك وسير النجوم هو جائز كاستدلال الطبيب على الصحة والمرض.
أما العلامة ابن دقيق العيد فقد قال في شرح عمدة الأحكام: "والذي أقول به إن الحساب لا يجوز أن يعتمد عليه بمفارقة القمر للشمس على ما يراه المنجمون من تقدم الشهر بالحساب على الشهر بالرؤية بيوم أو بيومين، فإن ذلك إحداث لسبب لم يشرعه الله تعالى وأما إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع كالغيم مثلًا فهذا يقتضي الوجوب لوجود الحساب الشرعي وليس حقيقة الرؤية بمشروطة في اللزوم لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بالحساب بإكمال العدد بالاجتهاد بالأمارات وجب عليه الصوم وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه.
أما الإمام ابن السبكي فقد ذهب إلى اعتماد الحساب في إثبات الأهلة ومواقيت الصلاة بناء على أن الحساب قطعي الثبوت نظرًا إلى ما وصل إليه علم الحساب والفلك من الدقة والوثوق في نتائجها وقرر الإمام ابن السبكي أنه لو شهدت بينة رؤية الهلال ليلة الثلاثين من الشهر وقال الحساب بعدم إمكان الرؤية تلك الليلة عمل بقول أهل الحساب لأن الحساب قطعي والشهادة ظنية، وابن السبكي يرى جواز الاعتماد على الحساب الفلكي لا وجوبه، وقال في تعليقه على حديث ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) في كتابه العلم المنثور: والبحث في الحديث في موضعين: أحدهما قوله ((فاقدروا له)) قال بعض من يقول باعتماد الحساب معناه احسبوا له ويكون معناه قدروه بالحساب والمنازل كما قال تعالى {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} قاله مطرف بن عبد الله وابن قتيبة من المحدثين وابن سريج من الشافعية وابن مقاتل من أصحاب محمد، إلى أن قال: إنما يلزم ذلك لو كلف عامة النسا بالحساب ولم يقل بذلك أحد بل الذي قلناه أن الحديث في المعنى الذي اخترناه خطاب لمن خصه الله بهذا العلم وقول في الرواية الأخرى ((فأكملوا عدة ثلاثين)) خطاب للعامة، فلا تنافي بين الروايتين بل هما في حالين مختلفين يعمل بكل منهما في حال. ومن هذا ما ذكره الإمام العلامة الشيخ محمد رشيد رضا في الجزء الأول المجلد 28 من المنار صفحة 63.(3/450)
ثم نمر إلى أن نصل إلى ما قاله العلامة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في بحث له بعنوان "يسألونك عن الأهلة" يقول: "ولمعرفتنا وجود الهلال عقب المحاق في علم الله طرق:
أولها: رؤيته بالبصر رؤية لا يريبة تتطرقها، وهذا الطريق حسي ضروري ولا خلاف في العمل به.
ثانيها: مرور ثلاثين ليلة من وقت استهلاك الهلال الذي سبقه، وهذا الطريق قطعي تجريبي ولا خلاف فيه بين الأئمة.
ثالثها: دلالة الحساب الذي يضبطه المنجمون أعني العاملين بسير النجوم علمًا لا يتطرق قواعده شك، وحسابًا تحققت سلامته من الغلط وهو ما يسمى بالتقويم.
وبعد ذلك تعرضنا إلى ما قاله الأستاذ علال الفاسي وكثير من الإخوان الذين تعرضوا إلى هذا الموضوع، وبهذا ندرك أن النصوص التي استشهد بها على حصر الرؤية بالبصر لا يمكن أن تكون دليلًا على منع إثبات الشهر بغير الرؤية البصرية لأن هذه النصوص وإن أفردت رؤية بالذكر فإنها لم تقصر إثبات الشهر على البصر بل اقتصرت على ذكر وسيلة من وسائل إثبات الرؤية.
العنوان الخامس: نتائج واقتراحات:
يبدو أننا لم نظفر إلى الآن بنتائج إيجابية للتقريب بين الذين يجيزون العمل بالحساب وبين الذين يقصرون ثبوت الشهر على الرؤية البصيرة وحدها، فالفريق الأول يقو بالعمل بالحساب بشرط أن يكون الحاسبون جماعة من المسلمين موثوق في دينهم وعلمهم وأن يكون حسابهم متماشيًا مع الضوابط الشرعية مؤيدًا بحسابات المراصد الفلكية العالمية.
وعندما تتوفر هذه الشروط فلا مانع من اعتبار الحساب وسيلة ثانية من وسائل الإثبات، فتكون عند المسلمين وسيلتان لا وسيلة واحدة الرؤية والحساب، لا سيما وأن علم الهيئة أصبح من العلوم الصحيحة أقرته الأمة الإسلامية وقررت تدريسه في جامعاتها، وإذا تمكن المؤتمرات والندوات الإسلامية التي انعقدت لهذه الغاية أن تقيد عمل الحاسبين وأن تضبط الرؤية المرادة شرعًا وأن تقيدها بقيود اتفق عليها علماء الشريعة والفلك وبرزت بصيغة قرارات كانت جميعها متكاملة روعي فيها جانب النص كما روعي فيها جانب المصلحة وكانت غايتها جمع المسلمين وتوحيد أعيادهم ومواسمهم، فإن هذه المؤتمرات لم تتمكن من جانب آخر من إقناع القائلين بانفراد الرؤية البصرية على القول بالحساب في إثبات الشهور لان الرؤية عندهم أمر تعبدي لا يمكن أن يطرأ عليه أي تغير، فالأحكام أبدية والأسباب والشروط والموانع هي كذلك أبدية لأنها من وضع إلهي فما أثبت واجبًا يبقى كذلك، وقد ثبت أن الرؤية سبب شرعي للصوم والإفطار فلتبق كذلك منظورًا إليها نظر الأصول الثابتة.(3/451)
ولم يقتنعوا بأن بعض النصوص التي اعتمدوها والتي وردت معللة من الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه والقاعدة عند الفقهاء أن النص إذا ورد معللًا بعلة فإن للعلة تأثيرها في فهم النص، وأن الحكم يرتبط بها وجودًا وعدمًا لا فرق في ذلك بين العبادات وغيرها، كما لم يقتنعوا بأن الضرورة قد يكون لها دخل في تغير الحكم وقد جاءت النصوص بصوم الثلاثين يومًا عند الغيم ضرورة لأننا كنا لا نستطيع معرفة دخول أول الشهر إلا عن طريق الرؤية البصرية وقد تعذرت فعملنا بما أمكن فإذا تمكنا من تعرف حقيقة دخول أول رمضان أو أول شوال بواسطة أهل الذكر وهم أهل الحساب فلا جائز أن نعتمد على الضرورة والله تعالى يقول {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
وبذلك يتبين أن أصحاب هذا الاتجاه لم يقتنعوا بأي دليل أو برهان من الأدلة والبراهين التي قدمها المجيزون لإثبات الشهر بالحساب واعتباره وسيلة ثانية مع الرؤية على الأقل كما أن كل المعطيات الجديدة التي حفت بموضوع إثبات أوائل الشهور والتطور العلمي المدهش لم يعملوا به، وإذا كان من المفروض عند علماء الحساب ومن يجيزون العمل به أنه لا يمكن أن تختلف نتيجة الحساب عن نتيجة الرؤية الصادقة بحال من الأحوال فإن اختلاف المسلمين في بداية الشهور القمرية يدل على خلل إما في الحساب وإما في الرؤية لأنه ليس من المعقول أن تختلف بداية الشهر القمري بين بلد وآخر لمدة وصلت في السنة الماضية إلى ثلاثة أيام.
وبإعادة النظر في تقديم هذين الوسيلتين بعد كل هذه الجهود التي بذلت ولا سيما في السنوات الأخيرة فإننا نجد ضبطًا مدققًا في التقاويم القمرية التي صدرت عن اللجنة الدولية المنبثقة عن مؤتمر اسطنبول إذ هي التزمت بكل الضوابط التي فرضت عليها من طرف اللجنة الشرعية فكان الاتفاق كاملًا بين المراصد الفلكية في كامل العالم الإسلامي كما كان التطابق تامًا في النتائج المقدمة كل سنة من طرف المرصد، الأمر الذي دفعنا إلى الاطمئنان إلى نتائج الحساب أما الرؤية البصرية فإنها لم تضبط في نظرنا الضبط المدقق الذي يضمن لها الصحة ويحقق لها النتائج الصحيحة التي لا ينبغي أن تتخلف عن الحساب الصحيح عادة.(3/452)
ويرجع هذا في نظري إلى تمسك بعض الفقهاء بأحد قولي الإمام أحمد ابن حنبل الذي يجيز في إثبات هلال رمضان قبول شاهد واحد وهو مشهور المذهب الحنبلي المستند إلى حديث ابن عباس الذي قال: ((جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ فقال: نعم، فقال: يا بلال، أذن في الناس فليصوموا غدًا)) مع أن المشهور في المذهب الحنفي أنه لا يقبل في هلال رمضان عند الصحو إلا الاستفاضة وقدرت بخمسين رجلًا على الأقل، وقد علل المغني اشتراط أبي حنيفة الاستفاضة بأنه لا يجوز أن ينظر الجماعة إلى مطلع الهلال وأبصارهم واحدة والموانع منتفية فيراه واحد فقط.
وقال ابن عابدين في تعليقه على قول الحصكفي: "جمع عظيم يقع به العلم الشرعي وهو غلبة الظن" لأنه العلم الموجب للعمل لا العلم بمعنى اليقين، ولذلك فلا يقبل خبر الواحد لأن التفرد من بين الجم الغفير بالرؤية مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه مع فرض عدم المانع وسلامة الأبصار وإن تفاوتت في الحدة ظاهر في غلطه (بحر) فإذا امتنع أبو حنيفة من قبول خبر الواحد في عصر التابعين وعد شهادته بانفراده برؤية الهلال غلطًا مع علمه بالنص اعتمده من أجاز قبول خبر الواحد فكيف يكون الحال في هذا الزمان الذي اشتهر بكثرة الكاذبين المدعين للرؤية الهلال؟
وكتب الفقيه مليئة بالحوادث التي صام فيها المسلمون وأفطروا تبعًا لشهادات كاذبة أو غالطة، وكم من مرة وفي هذه السنوات الأخيرة أعلن عن الصيام والإفطار بشهادة رؤية الهلال ثم لم ير الناس الهلال في الليلة الثانية وهذا يؤكد بطلان شهادتهم، هنا يجب أن نقف لنتساءل: لماذا نتمسك بآراء معينة أصبحت لا تحقق المصلحة المرجوة منها مع أننا سمعنا بحوادث كثيرة توقف فيها الفقهاء وأعادوا فيها النظر دفعًا لمفسدة وأصدروا أحكامهم الجديدة معللين ذلك فساد الزمان؟ والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه أشار إلى ضياع الأمانة وفقدان الأخلاق بقدر ابتعاد الناس عن القرون الأولى في الحديث الذي رواه الصحيحان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم يشهدون فلا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون فلا يوفون ويظهر فيهم السمن)) .(3/453)
فأي مانع يمنعنا في هذا الزمان الذي كثر فيه الغش وفقدت فيه الأمانة وظهرت شهادة الزور في كل ما كان من اشترط شروطًا من شأنها أن تحفظ سلامة هذه الشهادة التي يصوم عليها مليار من المسلمين في جميع بقاع الأرض ويحتفلون بموجبها في أعيادهم ومواسمهم فإذا اكتفى الرسول صلى الله عليه وسلم في زمن البعثة بتزكية الشاهد بالنطق بالشهادتين بين يديه ثم اشترطت العدالة، وقال مالك لا بد من شهادة عدلين فإن مثل هذه التزكية لا تكفي في هذا الزمان الذي كثر فيه من ينطق بالشهادتين ثم يخون ويغدر.
واعتقادي أن التمسك بمذهب أبي حنيفة وحده في هذه المسالة ربما لا يكفي في هذا الزمان بل لا مانع من تنظيم كيفية إثبات الرؤية بطريقة نضمن بها صحة هذه الشهادة، ولماذا لا تتعدد هيئات الرؤية في جهات متعددة من العالم الإسلامي حتى في القطر الواحد؟ ولماذا لا ننتخب أفراد الهيئة التي يعهد إليها أمر الرؤية ما دام احتمال الكذب واحتمال خداع النظر واحتمال قلة المعرفة بأمكنة طلوع الهلال قائمًا، واعتقادي أنا ما دام احتمال الكذب واحتمال خداع النظر واحتمال قلة المعرفة بأمكنة طلوع الهلال قائمًا؟ واعتقادي أننا لا نخرج بهذه القيود الجديدة عن تبديل الأحكام التي تمثل الوسائل والتي تتبدل بتبدل الأزمان والأحوال، والأمثلة في ذلك كثيرة في الفقه الإسلامي فقد أمر الخليفة عثمان بن عفان ببيع الإبل الملتقطة بعد أن كان حكمها أن تترك لحالها حتى يلقاها ربها كما جاء في السنة، وعلل ذلك بأن المجتمع على وشك الفساد بخاف منه على سرقة هذه الإبل وكثير من العلماء من يعتمد الرؤية البصرية يعتبرون مخالفة الرؤية البصيرة لما تعارفه الناس من قواعد علم الهيئة التي لا تختلف أوجب تكذيب الشهود، ويعتبر من قوادح الشهادة.
أولًا: من ذلك إذا ثبت علميًا أن الهلال لم يولد فلا يجب أن يقال إنه شوهد لأنه لا بد من ميلاد الهلال قبل غروب الشمس ومكثه بعد الغروب لمدة تكفي لمشاهدته واعتبروا هذا النوع من الشهادة باطلًا لأنه خداع بصري أو سراب كاذب.(3/454)
ثانيًا: إذا راقب الناس الهلال في آخر الشهر من جهة الشروق بعد طلوع الفجر وقل طلوع الشمس فرأوه رؤية فإذا شهد شهود برؤيتهم الهلال مساء ذلك اليوم فيكذبون لأن رؤيته صباحًا دليل على أنه ما زال لم يجتمع مع الشمس وما زال يدخل تحت شعاعها إذ من المعلوم أن القمر لا بد أن يختفي في آخر الشهر تحت شعاع الشمس يومين على الأقل.
ثالثًا: إذا راقب الناس الهلال في كل يوم فلم يروه مع الصحو التام ثم يدعي رؤيته واحد أو أفراد قلائل من الناس فيكذبون أيضًا لأنه لو كان موجودًا لرآه جمهور الناس.
رابعًا: إذا ادعى رؤية الهلال وانخسفت الشمس بعد ذلك بيوم أو يومين فإن هذا دليل على كذب الرؤية لأن الشمس لا يخسف بها في سنة الله إلا في اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين كما دقق ذلك العلماء الفلك وحققه شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه في رسالته في الجزء 25 صحيفة 184 – 185 من الفتاوى.
وهكذا تكذب كل شهادة في رؤية الهلال إذا كانت في وقت مستحيلة رؤيته فيه، والغريب أنه لم يقع اعتبار كل هذه الضوابط التي يقرها العقل السليم ولم تعتبر من القوادح في الشهادة بل اكتفي في هذا الزمان بشهادة الشهود وقبلت ولو من واحد عند الإعلان عن الشهر القمري في بلدان العلام الإسلامي في هذه السنوات الأخيرة، وفي نظري كان هذا الإجراء من الأسباب التي زادت في تباين المسلمين في بداية الشهور والأعياد، فالرؤية البصرية في نظري لا يمكن أن تكون أكثر من وسيلة من وسائل العلم، والله عندما قال {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فإنما أراد العلم بوجوده، فكل من علم منكم بوجود الشهر وجب عليه صومه ووجود الشهر شرعًا يكون بوجود هلاله بعد غروب الشمس بأي طريق من طرق العلم وإنما نص الشارع على الرؤية باعتبارها إحدى وسائل العلم بوجود الهلال.
ولعل ما قدمه علماء الدين والفلك في هذا المجمع المبارك من البحوث القيمة يمكن أن يمثل البداية للخروج من الخلاف، وقد أصبحت مسألة توحيد بداية الشهور القمرية بعد كل هذه الجهود واضحة تتطلب أخذ قرار حازم من مجمعكم يأخذ كل هذه الملاحظات بعين الاعتبار حتى يبعد الأمة الإسلامية عن البلبلة التي وقعت فيها منذ سنوات ويوضح لها معالم الطريق حتى تسير في السبيل السوي، والله الهادي إلى سواء السبيل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(3/455)
الرئيس:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. شكرًا: في الواقع يا شيخ قبل أن أدخل في الموضوع مع عدم المؤاخذة في وسط البحث الخامس كلام فيه شيء من الشدة في تجريح الأمة وهو في شهادته وما جرى مجرى ذلك وأنتم تعلمون أن هذه الأمة لا تنفك الوسطية عنها ولله الحمد، والخير في النبي صلى الله عليه وسلم في أمته، وما زال العدول قائمين وموجودين، وأنت تعرف فضيلتكم أنه عدد من المواضيع التي تنظر في هذا المجمع وآخرها في صباح هذا اليوم في شأن توظيف الزكاة قال الإخوان: على أن يتولاه أناس ثقات أمناء.
هذا موجود فمعناه وجود الثقات الأمناء فيوجدون هنا ولا يوجدون في الذين يتراءون الهلال، الحقيقة أنا أحببت أن ألفت النظر للتأمل في العبارة، والموضح خاص بيني وبينكم لتأملها فقط والأمر يعود لكم.
في الواقع يا أصحاب الفضيلة إن هذا الموضوع تعلمون أنه كان من المواضيع المطروحة في الدورة الثانية والموضوع ذو شقين:
الأول: في مسألة اختلاف المطالع اعتبارها من عدمه.
والثاني: في مدة إثبات الرؤية بالحساب.
وهذان الموضوعان كذلك قد درسا في مجمع الفقه الإسلامي بمكة وصدر فيهما قراران أو ثلاثة، أما بالنسبة لتوحيد أوائل الشهور العربية فإنهم قرروا أن مذاهب أهل العلم بما فيهم المشهور من مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم على اعتبار اختلاف المطالع، وساقوا حديث كريب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ثم قرروا أن هذا الأمر ينبغي أن يترك للمفتين في كل دولة إسلامية لأنهم يتبعون أهل العلم فيها، وهذا فيه حل وسط، وقالوا في تقريرهم أن المسألة التي بين الأمة الإسلامية ليست التفريق في مسألة توحيد الرؤية أو عدم توحيدها وإنما هو فيما هو أعلم من ذلك وهو في العودة الصحيحة إلى الكتاب والسنة، إلى تحكيم شريعة الله في إلى أحكام الشريعة الله الظاهرة والباطنة.
أما مسألة إثباتها بالحساب فقد صار تناول هذه المسألة بعض الشيء في الدورة الماضية إلا أن فضيلة الشيخ الضرير رأى أن يكون بحث المسألتين: اختلاف المطالع ومدى إثباتها بالحساب الفلكي ويستخلص منهما ما يتوصل إليه المجمع بإذن الله تعالى إلى قرار في هاتين المسألتين نظرًا لترابطهما في إثبات أول الشهور العربية.(3/456)
ومن جهة الخلاف حيث إن البحوث يكمل بعضها بعضًا، أما من جهة الخلاف الذي أشرتم إليه عن مطرف بن عبد الله بن الشخير رضي الله تعالى عنه ومحمد بن مقاتل الرازي وغيرهما فإن الخلاف نفسه فيه بحث في مدى ثبوته وقد أتى ابن عبد البر رحمه الله تعالى على ذلك في كتابه التمهيد، وأتى علماء الشافعية على ذلك في كتبهم في الفروع بأن نسبة الإثبات لأوائل الشهور بالحساب المنسوبة إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لا تثبت عنه {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} من أهل مذهب الإمام الشافعي فهذا هو من ينسب إلى الإمام الشافعي والذي ينسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى هو جواز صيام الحاسب بالحساب لا على صفة العموم.
وقال بهذا ابن سريج من الشافعية المتوفى في السنة السادسة بعد الثلاثمائة من الهجرة، فيتحرر أن حكاية هذا القول عن الشافعي قد نفى هذا أئمة المذهب من الشافعية، وأن ابن سريج لا يحكى عنه القول على الإطلاق وإنما هو على التقييد حيث إنه قال: للحاسب خاصة، وأما ما عدا ذلك فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قال: إنني لا أعلم أنه قال ذلك على الإطلاق مسلم، وأما مطرف بن عبد الله بن الشخير فإن ابن عبد البر قال: إن الإسناد عنه لا يثب ومحمد بن مقاتل الرازي من متقدمي الحنفية، قد تتبعت ذلك في كتب الحنفية المنتشرة فلم أر التوثيق لهذا لا نقل على أن محمد بن مقاتل الرازي قال الذهبي في الميزان: ضعفوه وفي نسخة: تركوه والشأن في الرأي ثم إن هذا الرأي هو في خصوص الحاسب من في جواز الأخذ بالحساب في خصوص الحاسب توسع فيما بعد لأنه حصل غلط في حكايته عن بعض هؤلاء الذين قيل عنهم غلطًا على سبيل الثبوت فإن إجمال ما يمكن أن يستدلوا به بنصين وقياسين.
أما النص الأول فهو أحد الروايات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((فاقدروا له)) لكن قد ثبت عن الصحابي نفسه وعن عدد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((فاقدروا له ثلاثين)) إضافة إلى الروايات المتعددة الصحيحة الصريحة المتكاثرة في قوله عليه الصلاة والسلام ((أكملوا العدة)) ((فاكملوا ثلاثين)) ((فأكملوا شعبان ثلاثين)) ((فأحصوا العدة ثلاثين)) إلى آخر ذلك من الروايات المشهورة المعلومة لدى الجميع.(3/457)
أما الحديث الثاني فهو قوله صلى الله عليه وسلم ((إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا..)) الحديث، فهذا الحديث قد أجاب عنه المحققون من أهل العلم وبينوا معناه، وهو على سبيل الإخبار من النبي صلى الله عليه وسلم عن حال الأمة، وممن قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى وابن بطال وغيرهم من أهل العلم، ومعلوم أن بساط الحال ولسان المقال قد يحدد المعنى والغرض المراد من المقول الذي يقول كقوله صلى الله عليه وسلم وأنتم قريبوا العهد بما ذكره الشيخ مصطفى من كلام الحافظ ابن حجر ومن كلام ابن بطال، أما القياسان فأحدهما: القياس على المحبوس في المطمورة، والثاني: القياس على إثبات أوقات الصلوات الخمس بالحساب، وفي الواقع أن كل واحد من هذين القياسين لا يثبت إذا ما طبق على أركان القياس وشرائطه، لأن من شرط صحة القياس أن يكون المقيس عليه ثابتًا بنص أو متفقًا عليه وكل واحد من هذين الفرعين المقيس عليهما لم ثبت بنص وليس محل اتفاق بين أهل العلم.
ولهذا فإنه قد تتابعت كلمة العلماء المتقدمين في حكاية إجماع أهل العلم بل إن بعضهم حكى إجماع الصحابة وقال البعض: إنه لا خلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم وممن حكى الإجماع ابن منذر في الإشراف وسند من المالكية والباجي وابن رشد القرطبي وشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن حجر والسبكي والعيني وابن عابدين والشوكاني وغيرهم.
هذا فيما يتعلق في مسألة الحساب إضافة إلى أن هناك أصولًا وهو أن الشرع جعل علامة أول الشهر هو الهلال لا غير، وأن ليس لأول الشهر حد عام ظاهر سواء كما جعل أن أقل الشهر حصره في تسعة وعشرين يومًا وأكثره في ثلاثين يومًا، وأن الشهر لا يعتبر إلا بيقين، وحدد الشارع عليه الصلاة والسلام ذلك اليقين بالرؤية أو الإكمال، فالشرع أناط الحكم بأول الشهر بوجود الهلال حقيقة لا بوجوده تقديرًا عن طريق الرؤية أو الإكمال، وهذا هو على طريق الحصر كما تفيد النصوص ((لا تصوموا حتى تروا الهلال)) ، ((إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له)) .
لهذا فإن مسألة الحساب فيها إجماع قديم محكي عن أهل العلم وأن الرواية التي اتكأ عليها عدد من المتأخرين هي قوله ((فاقدروا له)) ثبت عن الراوي نفسه –هذا بيت القصيد- أنه قال: ((فاقدروا له ثلاثين)) في لفظ آخر، ولهذا فإن الروايات معروف من جادة أهل العلم بالسنة النبوية أنه يفسر بعضها بعضًا وأن لا بد من جمع الروايات ولم شتاتها لأنه بهذا تعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا عرض نظرًا لأنه سبق بحثه في هذا المجمع ولأنني أعددت بحثًا موجزًا في هذا الموضوع بجزئيتيه مطروح للمناقشة على أصحاب الفضيلة.(3/458)
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم. أصلي وأسلم على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
مما لا شك فيه أن التكليف الشرعي منوط بالنصوص الآمرة المحددة لبدء التكليف ونهايته، وبناء على هذه القاعدة فإن الشرع الشريف لم يكلفنا بالنسبة للصيام بدءًا وانتهاء إلا بالاعتماد على الرؤية، فقال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا رؤيته)) فالتكليف مرتبط بالرؤية ولا يعني ذلك عدم أو إهدار ما تقدمه لنا النتائج العلمية أو علم الحساب أو غير ذلك حتى لا نتهم بأننا نقل من أهمية العلوم وخصوصًا أنها أصبحت قطعية في عصرنا الحاضر، فلذلك أرجو أن نلاحظ هذا المعنى وهو ربط الحكم الشرعي بالتكليف الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا واضح في النص القرآني {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} .
فهذه عموميات لا يعارضها النص الخاص في موضوع التكليف بالصيام مرتبطًا بالرؤية التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم تحصل الرؤية فهناك أيضًا روايات يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم ((فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) وليس فقط ((فاقدروا له ثلاثين)) ، ((فاكملوا عدة شعبان ثلاثين)) وهذا دليل على أن الشرع لم يكلفنا بأمور يصعب التحكم فيها أو الاطلاع عليها، ولا يعني ذلك أننا نهدر القيم العلمية النتائج التي تتوصل ليها الأرصدة سواء في الماضي وفي الحاضر ولذلك نجد الاتجاه السائد فقهًا وهو ما عبرتم عنه بشبه الإجماع أو الإجماع في أن الحكم في هذا الموضوع مرتبط بالرؤية لا بالحساب.
لكن المشكلة بعد هذا الاتجاه السائد لدى فقهائنا المشكلة في غير هذا وهي أننا أيضًا نسلم باختلاف المطالع فهذا أمر ثابت في الواقع وأهل الشام قد يرون الهلال وأهل المغرب لا يرونه وهذا استقراء ثابت في الواقع ونحن لا ننكره، والعلماء بحثوا هذه القضية واتفقوا جميعًا أيضًا اتفاقًا مضمونًا إلى التكليف بالرؤية اتفقوا على أن مبدأ اختلاف المطالع أمر مسلم به ولكن المشكلة التي نريد أن نصل إليها الآن وهي عندنا اتجاهان للفقهاء: هل إذا رئي الهلال في بلد مع التسليم باختلاف المطالع وخصوصًا أن البلاد العربية كلها يجمعها ليل واحد اثنتا عشرة ساعة ما بين المشرق والمغرب فالتي تكون على خط عرضي واحد وأما التي يجمعها ليل واحد إذا رئي فيها الهلال في بلد من البلدان فهل يجب على أهل الأقطار الأخرى أن يصوموا بناء على ثبوت الهلال مثلًا في السعودية أم لا يجب؟(3/459)
عندنا اتجاهان للفقهاء في هذا الموضوع: مذهب الإمام الشافعي أنه إذا ثبت الهلال في قطر فلا يجب على أهل قطر آخر أن يروه حتى أنه بالغ الشافعية وحددوا المسافة بين القطرين بمسافة القصر يعني 90 كلم، وهذا فيه شيء من المبالغة، يعني ولا يمكن أن تخلو بلدة من البلدان في إقليم أو قطر الآن من الأقطار إلا وبينها وبين البلدة الأخرى أكثر من هذه المسافة، فهذه مبالغة في الحقيقة نجدها واضحة في مذهب الشافعية.
لكن جمهور الفقهاء وهذا الذي أريد أن أعتمد عليه، وما دام هناك اتجاه جماعي لأغلب الفقهاء وهو القول بأنه إذا رئي الهلال في البلد يجب على أهل كل تلك الأقطار ما دامت على خط عرض واحد أن تصوم وأن تفطر وفي هذا ما دام عندنا مجال واتساع لكي نأخذ بهذا الرأي الأغلبي لدى الفقهاء ونوحد بداية الشهور ونهايتها، فما المانع من أن نقول بتوحيد بدايات الشهور العربية بناء على هذا الاتجاه الفقهي السائد، وأن نجنب الأمة الوقوع في الخلافات والنقد اللاذع.
وما أشار إليه فضيلة الأستاذ مصطفى فعلًا كان في السنوات الأخيرة، قد يكون الفرق ثلاثة أيام، فهذا لا يمكن قبوله بحال وصمنا في بعض الأقطار في الإمارات صمنا ثمانية وعشرين يومًا ثم قضينا يومًا آخر منذ سنتين وهكذا وقعنا في إشكالات كثيرة، أما الخطأ فمرجعه إلى أن القضاء الشرعي الذي يعتمد على رؤية واحد أو اثنين هو الذي يكون قد قصر في التعرف على عدالة الشهود، فهو المؤاخذ في هذه القضية وعندئذ التقصير يكون من قبله ولا ينبغي أن نجرح الناس إنما نقول يجب عليه أن يتثبت تثبيتًا دقيقًا واعيًا لأن هذه عبادة وأن آلاف وملايين المسلمين تنتظر القول الفصل من قاض شرعي واحد، والغالب أن الدول أحيانًا تقلد بعضها بعضًا إذا ثبت في مصر فكان يثبت في المشرق وهكذا.(3/460)
وبالعكس فنحن نريد الوصول إلى توحيد بدايات الشهور القمرية وعندنا المجال متسع والرأي الفقهي واضح، فما أدري لماذا نصر على القول باختلاف المطالع ونكرس التفرق ونبقي هذه الظاهرة بهذا الشكل التي لا يمكن تفسيرها في تقديري إلا للعصبية المذهبية، وإلى التحجر على الآراء، ومع الأسف الشديد تدخلت السياسة أخيرًا فكانت تعاند وتعارض في أن مثلًا بلدًا من البلدان صام كان البلد الآخر يتدخل بشكل أو بآخر فلا يصوم، فهذه آفة، تدخلت السياسة وأفسدت حتى قضايا ديننا الحنيف فنحن يجب أن نكون واعين لمثل هذه الأمور وأن نقطع تدخل أولئك الذين لا يحسنون أن يكون لهم قرار في قضايا ديننا الحنيف والمجال أمامنا متسع، والله سبحانه وتعالى أسأله أن يوفقنا إلى ما فيه الخير والسداد، وشكرًا.
الأستاذ فخر الدين الكراي: (أخصائي في علم الفلك بأمريكا) :
بسم الله الرحمن الرحيم..
وبعد، فإني أبلغ لكم سلام بعض الجاليات المسلمة الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تنتظر منكم الكثير في مجمعكم الموقر هذا لإمكانية توحيد بداية الأشهر القمرية انطلاقًا من هذه الدورة إن شاء الله، وإنه لمن المؤلم حقًا أن ترى في هذه الجاليات الأمريكية كلا يتبع بلاده فترى المجموعة ذات الخمسين أو الستين مسلمًا تحدهم يصومون على ثلاثة، يبدءون صيامهم على ثلاثة أو يومين، وهذا يؤلم وجعل الأمريكيين والأجانب يتساءلون عن مصداقية بداية الشهور وجعلونا محل استهزاء في بعض الأحيان وهذا يؤسف له.
قمت في الدراسة التي قدمتها في توحيد بداية الشهور القمرية بوصف بعض الأشياء التقنية التي طلبها مني بعض الإخوان، وهي عبارة عن التحركات الظاهرة للقمر، حالات القمر ومنازله، الكسوف والخسوف وهي من الظواهر التي تبين وتؤكد على أن هناك حسابات فلكية يمكن الاعتماد عليها للاستعانة في تعيين بداية الأشهر القمرية بداية شرعية أعني الرؤية بالعين المجردة والرؤية الصحيحة وأثبت على الرؤية الصحيحة لأنه ثبتت في العديد من السنوات الماضية أنه في عدد من دول العالم الكثيرة يعلنون عن بداية الشهور القمرية برؤى غالطة سواء في أي مناطق من دول العالم.(3/461)
وهذا مما يؤسف له، ولقد أردت في هذه الدراسة الصغيرة والتي هي مستوحاة من كتاب "في أعماق الكون" كنت قدمته قبل سنتين في هذا الموضوع وقمت بمحاورات عديدة لبعض المراكز الإسلامية في الولايات المتحدة لكي أوضح لهم هذا الموضوع.
وإذا تسمح سيادتكم أن أقدم لكم بعض التفسيرات على السبورة، فأقدم بعض التفسيرات إن شاء الله وقد قمت بتصوير وتلخيص ما جاء في هذه الدراسة وهو من أهم الأشياء التي تهمنا في اختلاف المطالع، (هنا يتولى الأستاذ الكراي رسم بعض الصور على السبورة ويقوم بالشروح العلمية) .
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين.
في الدراسة التي تحت أيديكم أظن في الصفحة 8 هناك صورة توضح مختلف المناطق التي يوجد فيها القمر خلال دورته على الأرض، وهي صورة مبسطة جدًا لأن مدار القمر ليس بالمدور وهو ليس الإهليج كما يدعي البعض ولكنه إهليج يدور في وسط إهليج ثان وهو عبارة عن إهليج يدور في حلقة خذروفية.
وهذا مما عسَّر حساب القمر منذ القديم، ولذلك لم يعتمد فيه الصحابة والرسول صلى الله عليه وسلم وبعض الفقهاء على أقوال المنجمين الذين كانوا يدعون معرفة وقت المدة الشهرية للقمر وابتداء وحساب الكسوف والخسوف، أما هنا هذه أشعة الشمس مثلًا –هذه الأرض هنا- نسبة لمشاهد خارجي عن المجموعة الشمسية أعني عن الأرض والشمس وكل الكواكب الأخرى.
فإذا اعتبرنا أشعة الشمس توجد هنا والشمس كما قلنا بعيدة عن مركز الأرض بمسافة تقدر بمائة وخمسين مليون كلم، بينما تقدر المسافة الموجودة بين الأرض والقمر بمسافة معدلية تبلغ 380 ألف كلم، فهنا أخذنا لتبسيط الأمور وتوضيح الأشياء أمامكم أن مدار القمر حول الأرض هو دائرة فبالنسبة لمشاهد خارجي يعني مثلًا خارج عن المجموعة الشمسية ماذا يرى؟ فإنه يرى في مختلف هذه المناطق القمر يدور حول الأرض وكل الاشعاعات هي نفسها نصف إشعاع، نصف كرة مشعة، والقمر بالنسبة لمشاهد خارجي عن الأرض وعن المجموعة الشمسية، ولكن الأمر يختلف تمامًا بالنسبة للمشاهد الأرضي فعند التقاء القمر على نفس خط الطول السماوي بين مركز الأرض والشمس هذه الأرض.(3/462)
وهذه كلها المنطقة المضيئة، وهنا منطقة غروب وهنا منطقة شروق، وهذا كله النهار فهذا منتصف النهار، وهذا منتصف الليل والكرة الأرضية نرى منها القطب الشمالي هنا، فهي ارتماء للصورة وهذا القمر بينما بالنسبة لمشاهد يوجد على سطح الأرض في أي من القارات الخمس فإنه لا يرى شيئًا في هذه المنطقة التي تقابل التقاء القمر بخط الطول السماوي وهو ما يعبر عنه فلكيًا بحالة القران أو الاقتران، فإنه في هذه الحالة لا يرى شيئًا، وهذه الدائرة ليس فيها أي ضوء، وكل ما ترونه هنا هو ما يشاهد لنا من مشاهد في الأرض بينما ما ترونه هو كل موقع القمر التي تحتلها في مدارها حول الأرض ولكنها بالنسبة لشخص يوجد خارج المجموعة الشمسية، عندما ينتقل القمر من هذه المنطقة إلى هذه المنطقة سيسير ارتماء الضوء، فهو ارتماء هندسي يسير ارتماء هذا الضوء بالنسبة لمشاهد على الأرض يعطينا هذا الرسم الهندسي هو ما يعبر عنه بالهلال –بهلال أول الشهر- إذن الهلال العلمي هو في اللحظة التي يخرج فيها القمر من هذه المنطقة منطقة القران الفلكي.
الشيخ عبد الله البسام:
المحاق يوم أو يومان؟
الأستاذ فخري الدين الكراي:
المحاق ليس له قيمة مفصلة ذلك لأن القمر ليست له سرعة قارة في كامل دورته حول الأرض، وذلك كما قلت لكم لأن القمر يخضع لمشكلة الثلاثة أجسام، فالقمر لا يحتل مدارًا إهليجيًا حول الأرض لأن الأرض ليس الجسم المؤثر الوحيد على القمر.
الشيخ عبد الله البسام:
لكن يوم المحاق كله يوم قران.
الأستاذ فخر الدين الكراي:
في كل هذه المنطقة التي سوف أفسرها وهي من 8 درجات من هنا و 8 درجات من هنا تقارب المحاق 16 درجة من بداية الاقتران وقبل الاقتران، في هذه المنطقة هي نهاية الشهر القمري وهذه المنطقة هي بداية الشهر القمري، ففي هذه المنطقة قبل يومين من نهاية الشهر القمري نرى أن القمر يبزغ قبل شروق الشمس بساعات قليلة ثم يغرب ثم بعد يوم نلاحظ أن القمر لم يظهر قبل شروق الشمس بقليل ولم يظهر إلا بعد يوم من ابتدائه بعد القران بمدة.
وكل هذه المدة يعبر عنها بالمحاق وهي ليست مدة قارة: في بعض الأحيان تقارب اليوم وعشرين ساعة، وفي بعض الأحيان تقدر بيوم و 12 ساعة، وفي بعض الأحيان تقدر بيوم و 10 ساعات، فهي تختلف باختلاف سرعة القمر كما قلت لكم إذ مدار القمر هو مدار خذروفي ومعقد جدًّا، ولم يستطع علماء الفلك حل المشكلة التي أعبر عنها بمشكلة الأجسام الثلاثة إلا في بداية هذا القرن العشرين عن طريق العالم الألماني بروان.(3/463)
ولكن في نفس هذه الفترة لم يتمكنوا من الحساب الدقيق لبداية الشهر ونهاية الشهر، وذلك لأن في هذه المعادلات تفاضلية معقدة جدًّا وهي حل لمشكلة الأجسام الثلاثة مكثوا مثلًا لحساب مدقق أقول ساعتين أو لثلاثة ساعات تقديرية مكثوا عشرة أيام يحسبون بمجموعة من العلماء في ذلك الوقت حسبوا لمدة عشرة أيام ولم يتوصلوا إلى دقة تقارب الساعتين أو الثلاث ساعات ولكن في العشرين سنة الماضية تطورت الحاسبات الإلكترونية وتمكن علماء الفلك من ضبط دقة هذا الموضوع وتوصلوا في سنة 1962 إلى ضبط دقة تقارب جزءًا من الألف من الثانية لمعرفة موقع القمر في مداره حول الأرض، وهذه دقة يعجب بها الإنسان، وهي دالة على نبوغ في هذا الميدان.
ونفس الحساب هو الذي مكن علماء "ناسا" وكالة الفضاء الأمريكية من بعث أول إنسان إلى سطح القمر، بنفس هذه الدقة فقد تنافست عديد من الجامعات الأمريكية على هذا الموضوع وفي الأخير نجحت الجامعة الأمريكية –ويعرفها الدكتور علواني- نجحت جامعة الأمريكيين من معرفة دقة الحسابات الفلكية بجزء على ألف الثانية، وحاليًا يعرفون دقة الحسابات هذه بجزء على مائة ألف الثانية، وسبحان الله بعثوا هذا الصاروخ القمري يقولون عنه: لو لم تكن الدقة تعدل جزءًا من المائة في الثانية، لما نبعث صاروخًا من سطح الأرض نبعثه ليكون على سطح القمر إذا لم تعد لتلك الدقة فإن الصاروخ يضيع في الفضاء الخارجي، وهذه الحقيقة لا يمكن الابتعاد عنها، ومن هنا توفرت لفلكيين هذا العصر إمكانية حساب الأشياء بدقة هائلة.
بقي موضوع اختلاف المطالع على الكرة الأرضية.. لنرسم هنا، لنفتح مثلًا الكرة الأرضية، الكرة الأرضية تعرفون مدورة لنفتحها مثلًا على مستوى السبورة هذه، ونرسم هنا القارة الأسيوية، القارة الأوروبية، القارة الإفريقية، والقارتين الأمريكية الشمالية والجنوبية، ونرسم هنا القطب الجنوبي وهنا القطب الشمالي، وهنا أشعة الشمس التي تغيب، أي توضيح أو شيء ممكن الإعادة.
هذه مثلًا القارة الأسيوية هنا توجد القارة الأسيوية وهنا توجد القارة الأوربية مثلًا وهنا توجد القارة الإفريقية مثلًا وهنا توجد القارة الأمريكية كما ذكرت هذه كرة الأرض مدورة الشكل فتحناها وجعلناها على هذا المستوى فكل هذه المنطقة فيها ليل كما أن كل هذه المنطقة فيها ليل ومنتصف هذه المنطقة فيها النهار، فمثلًا إذا اعتبرنا أن القران في هذه اللحظة هذه معنى الولادة، الولادة العلمية للشهر القمري حدثا في ساعة منتصف النهار صباحًا في هذه المنطقة مثلًا الباكستان مثلًا توجد في هذه المنطقة غروب الشمس بينما توجد في هذه المنطقة مثلًا في وسط الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا في كلورادواو في أي منطقة يوجد الفجر فجر اليوم الجديد، وهذا غروب الشمس في هذه المنطقة في كل هذه المنطقة على نفس خط الطول هذا له نفس وقت الغروب إذا كانت الأرض في منطقة المنقلب الصيفي أو المنقلب الشتوي.(3/464)
وفي غير ذلك هذه المناطق ليست لها نفس وقت الغروب في هذه المنطقة بالضبط هنا غروب الشمس وولد الهلال في ساعة منتصف النهار، قلنا يولد الهلال لا يولد في منطقة واحدة يولد على العالم كله الهلال يولد على كل الكرة الأرضية ولكن المشكلة لا يمكن رؤية هذا الهلال إلا بعد وقت من ابتعاد هذه الكرة القمرية في هذه المنطقة عن منطقة القران بعد ساعات، وهذه الساعات قدرت بعدد من الدرجات يقدر بـ 8 درجات يعني مثلًا هذه المنطقة هو يصبح فيها الهلال مرئيًا، وكما ذكرت لكم، أن الثماني درجات هذه تقابل في بعض الأحيان 12 ساعة وفي بعض الأحيان 20 ساعة وفي بعض الأحيان 17 ساعة وذلك باختلاف سرعة القمر حول الشمس.
قلنا غروب الشمس أعني أن في هذه المنطقة عندهم غروب والقمر في لحظة اقترانه يعني استحالة رؤية القمر في كل هذه المنطقة التي لديها غروب الشمس، ثم تدور الكرة الأرضية حول محورها وتصبح منطقة مثلًا منطقة السعودية تصبح عنده الغروب ولكن في ذلك الوقت القمر ابتعد عن هذه المنطقة –منطقة القران- ليصبح مثلا ًعمره ستة ساعات، وستة ساعات هذه مثلًا لا تقابل إمكانية رؤية الهلال.
إذن أشخاص في السعودية لا يتمكنون من أن يروه مثلًا أخذت السعودية أو الكويت أو الإمارات لأنها في نفس خط الطول، كل الناس الذين يوجدون على نفس خط الطول لا يمكن لهم رؤية الهلال إذا لم يتحصل على تلك الـ 8 درجات نزيد نبتعد في الوقت تدور الكرة الأرضية في نفس الاتجاه، ويصبح مثلًا خط غروب الشمس على ليبيا مثلًا في نفس الفترة تلك الهلال عمره 8 ساعات إذن الـ 8 ساعات تقابل الـ 8 درجات التي يمكن فيها رؤية الهلال في هذه المنطقة، فإن الهلال على ليبيا يمكن رؤيته بينما السعودية غرقت في الظلام في ذلك الوقت وتستحيل رؤية الهلال لأن الهلال أول الشهر لا يمكن أن يتعدى بعد غروب الشمس 15 دقيقة، 20 دقيقة، 30 دقيقة، في أكثر الأحيان إذا لم ير في تلك الدقائق فإنه تستحيل رؤيته إلا في اليوم القادم.(3/465)
إذن فالسعودية –قلنا- لن ترى الهلال وباكستان لن ترى الهلال بينما ليبيا فقط ترى الهلال، إذا ليبيا بدأت ترى الهلال فإن المغرب الذي يوجد في غرب ليبيا بثلاث ساعات أو ساعتين فإنه سوف يرى الهلال أحسن من الليبيين، فإن الهلال انتقل من هذه المنطقة إلى منطقة أبعد منها يكون فيها ارتماء الضوء أكثر من المنطقة التي كان فيها على ليبيا.
وهذا ما يفسر اختلاف المطالع أعني أن باكستان لم تر الهلال، السعودية لم تر الهلال، ليبيا تراه صغيرًا بينما المغرب بدأت تراه واضحًا، وتدور الكرة الأرضية ويصبح الهلال لما يصبح الغروب شرقًا في هذه المنطقة، أي على الولايات المتحدة الأمريكية يصبح مثلًا الهلال في وقت غروب الشمس على هذه القارة عمره 22 ساعة أو 24 ساعة وذلك يقابل هلالًا كبيرًا، يعني ما خلاصة هذا القول يعني أن كل الدول التي توجد في غرب الكرة الأرضية ترى أحسن من غيرها هلال بداية الشهر، قلنا إن ليبيا ترى أحسن من باكستان والمغرب ترى أحسن من ليبيا والولايات المتحدة رئي أحسن من المغرب، وهذه الحقيقة يجب أن نتركها في الأذهان وأنه إذا رؤي الهلال في الشهر في منطقة باكستان فإنه يرى واضحًا في منطقة السعودية ويرى أوضح من ذلك في منطقة تونس والجزائر والمغرب، هذه حقيقة يجب التفطن إليها.
الرئيس:
لكن في الواقع يا أستاذ الكراي يظهر أن الواقع يفيد العكس فإنه مثلًا يرى في السعودية وتستحيل رؤيته في المغرب.
الأستاذ فخري الدين الكراي:
لا هذا هو عين الغلط.
الرئيس:
لا أنتم تقولون العكس.
الأستاذ فخر الدين الكراي:
أنا قلت: إنه في المغرب يرى أحسن من السعودية.
الرئيس:
أنا أقول العكس، هذا الحاصل.(3/466)
الأستاذ فخر الدين الكراي:
نحن أناس نؤمن بكروية الأرض وأن الأرض تدور حول نفسها في الاتجاه المعاكس لحركة الساعة، كذلك القمر يدور في محورها في نفس هذا المدار فإنه في الغرب وهذا يقر به جميع علماء الفلك والناس الذي أرسلوا الصاروخ كلهم يعلمون هذه الحقائق.
الشيخ عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم..
كفاني بعض الإخوة شيئًا كثيرًا مما كنت سأقول، إنما أكتفي ببعض الإشارة تعقيبًا على ما قيل بخصوص مدى توافق الحقائق العلمية في مجال الدراسات الفلكية بخصوص حركة القمر مع الرؤية الشرعية.
العنوان الذي اختير لهذه المسألة هو توحيد بدايات الشهور القمرية لم يختر العنوان بحيث يقال: اللجوء إلى الحساب الفلكي في مجال إثبات الرؤية وهذا أمر في الواقع له ملحظ يعني يجب أن يقام له وزن كبير.
نعم الشريعة والنصوص التي وردت تركز وتحدد في المجال موضوع الرؤية البصرية لكن الرؤية البصرية إذا تطرق للشهادة بها احتمال من حيث اصطدامها مع يقين قاطع، كما تفضل الشيخ عبد اللطيف وخاصة أن العملية تناط بشاهدين أو بثلاثة شهود نقطع وفق البحث العلمي الذي تفضل الأستاذ الكريم وشرح لنا بأننا نحسب الآن حركة القمر بالنسبة لحركة الأرض بدقة تصل إلى مائة ألف من الثانية، ويأتي شخص أو شخصان أو ثلاثة ويقولون إنهم رأوا الهلال ولدينا يقين علمي نقطع معه بأن الهلال لم يكن متولدًا فلكيًا في تلك اللحظة.
واضح من الناحية الشرعية الشهادة في مجال تمحيصها والاستيثاق منها إذا أتت بما هو مخالف للواقع ترد، فقضيتنا في هذا المجال ترتبط أولًا بموضوع الاستيثاق من الرؤية أو من الشهادات التي تقرر موضوع الرؤية، الذي عليه الحال في عالمنا الإسلامي في هذه الأيام، وفي أكثر من مناسبة لإثبات رؤية هلال شوال أو رؤية هلال رمضان نسأل كيف تم إثبات الهلال في البلد الفلاني يقولون: جاء شاهدان أو ثلاثة شهود وشهدوا بأنهم قد رأوا الهلال، طيب يا أخي أين نذهب بالقطع العلمي اليقيني بأن الهلال لم يكن متولدًا وقت الرؤية، وكيف نترك أمر ديننا لشهادة اثنين أو ثلاثة مع احتمال أن يكون قد وقع في شهادتهم نوع من اللبس أو الوهم أو الغموض أو غير ذلك هذا من ناحية.(3/467)
من ناحية أخرى الموضوع الذي تفضل الدكتور وهبة وأشار إليه، بعد أن نستوثق من عملية الرؤية وأنها لا تخالف اليقين الفلكي، الأساس هو الرؤية لكن شريطة أن لا تخالف اليقين الفلكي في موضوع تولد الهلال إذا ثبتت الرؤية في بلد، لماذا لا يخرج هذا المجمع بقرار يتبنى فيه رأي جمهور العلماء في هذه المسألة ويقول إنه إذا رئي الهلال في بلد يجب على جماعة المسلمين أن يصوموا أو يفطروا حسب الحال المعروض في موضوع الرؤية.
والقضية ليست قضية اختلاف بين المغرب والمشرق، القضية وصلت إلى درجة بين البلدين المتجاورين الموجودين على نفس خط الطول هذا يصوم وهذا يفطر يعني هذا في الواقع مثار سخرية وانتقاد ومظهر من مظاهر فرقة هذه الأمة، قد يقول بعض الإخوة كما سمعت: إن المسلمين متفرقون في أمور أشد من هذا، وإذا كان في إمكاننا أن نوحد المسلمين في هذا الأمر نتركه لأن المسلمين متفرقون في أمور أخرى ولا أدري كيف يقبل هذا المنطق.
إذن لماذا نجتمع؟ ولماذا نبحث في وحدة المسلمين؟ ولماذا تقوم المنظمات الإسلامية ما دام أن المسلمين متفرقون ومختلفون؟ هذا في الواقع منطق غير مقبول ما دمنا نستطيع أن نحافظ على وحدة المسلمين في أمر يجب أن يحافظ عليه، وهذا الأمر الذي يكلفنا الله به قدر استطاعتنا.
بقيت قضية أخرى في هذا المجال وهي حكم المسلمين في الدول غير الإسلامية، تفضل الإخوة وأشاروا إلى ما يحدث في الولايات المتحدة مثلًا بالنسبة للمسلمين: ما حكمهم في الواقع هل يتبع كل فرد رؤية بلده إذا صح موضوع الرؤية، أو القرب إليه؟ وبخاصة أن المسلمين قد عزفوا في هذه الأيام عن موضوع الرؤية.(3/468)
تجد في البلد كله لا يأتي للشهادة إلا واحد أو اثنان لو كان الأمر كما تفضل الشيخ عبد اللطيف أنها جماعة المسلمين ترى لهانت القضية وسلم بالرؤية وحل الإشكال لكن القضية أن المسلمين انصرفوا عن عملية الرؤية ولا يتقدم إليها إلا قلة ونوادر، البلد بطوله وعرضه وملايينه لا يأتي إلا واحد أو اثنان أو ثلاثة يشهدون ونقبل شهادتهم فيما فيه قطع يقيني بمخالفته للحساب الفلكي.
كنت سأقول فكاهة عندما احتدم الخلاف بين موضوع الفلكيين والشرعيين وما تفضل به بعض الإخوة يعني أيصل الأمر أن هلال الفلكيين غير هلال الشرعيين؟ نحن نتكلم عن هلال واحد، أولئك يقطعون بأن الأمر بواحد من المائة ألف من الثانية أن الهلال في المكان الفلاني من السماء ثم يأتي واحد بسيط وقد يكون أميًا في قرية من قرانا ويقول: لا أنا رأيت الهلال فيما يخالف ذلك القطع، كيف نسلم أمر ديننا لمثل هذا؟ أكتفي بهذا وشكرًا.
الشيخ عبد السلام العبادي:
سيدي لو سمحت على أساس أنه وجه الكلام لي كلمة صغيرة إذا سمحت، في الواقع أنا أعرف أن هنالك فرقًا بين التولد الفلكي وإمكانية الرؤية الشرعية، وإمكانية الرؤية الشرعية تأتي بعد التولد الفلكي كما تفضل وشرح الأستاذ المختص في هذا المجال، لكن هذا لا يعني أن يسبق الشهر أو بداية الشهر شرعًا البداية الفلكية، وهذا الذي قلناه وما ذهبت إليه أنه لا يمكن أن نقبل شهادة تقول بأنها رأت الهلال ولدينا قطع بأن الهلال لم يتولد فلكيًا، هذا الذي أريد أن أقوله فقط.
الرئيس:
قبل أن نعطي الكلمة للشيخ عبد الرحمن باه لمعالي الأمين كلمة بسيطة.
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم.. صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حقيقة إن الاستماع لهذا الحديث الطويل الممتع مهما اختلفت فيه الآراء يجعلنا مطمئنين لعنايتنا بالتكاليف الشرعية وأدائها على أحسن وجه وعلى الوجه الذي يرضي الله.
اختلفت الاتجاهات في التصور، وفي التقدير، هذا طبيعي لكني أريد أن أذكر فقط بأن ما تحدث به أحد الإخوة الآن يجعلني أتردد في قبول هذه الصور ة أو هذا المثال لأنه يأتي مناقضًا لما أعتقده أو لما هو واقع، فإن المثال الذي ساقه فضيلته يجعل بداية الشهر الفلكي سابقة وقبل بداية الشهر الشرعي والذي يقع عندنا فيه الخطأ الآن في ظرفنا الحاضر هو أن يعلن عن بداية الشهر الشرعي ويقوم الشهر الفلكي بعد ذلك فيكون هذا مما يؤكد كلام ابن عابدين في حاشيته حين قال: إن العلماء لا يعتدون بالحساب الفلكي من أجل الإثبات ولكنهم يأخذون به لأنه يصلح أن يكون دليل نفي.(3/469)
وهذا يسوقنا في اعتقادي إلى أن التحري الواجب بالنسبة للمواسم الشرعية أو لبدايات الشهور سواء اعتمدنا الحساب أو لم نعتمده ينبغي أن تكون الرؤية في الوقت المناسب وأن يخرج الناس وأن يعتنوا بها، كانت العناية كما قال بعض الإخوان في السابق كبيرة ببداية الشهر وكان المسلمون يخرجون ويعرفون أماكن الرؤية، الآن لا يعرفون أماكن الرؤية ولا يخرجون ثم يأتي فرد فيقول: رأيت الهلال، إذا كان خروجه قبل بداية الشهر الطبيعي فإنه لا يستطيع أن يرى الهلال، فلذلك ينبغي أن نفكر في طريقة نبتعد بها عن هذا الخطأ الجوهري الذي يوقع الناس في الفتنة ويجعلنا في كل البلاد الإسلامية في حيرة من أمرنا وشكرًا لكم.
الشيخ عبد الرحمن باه:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما مسألة حكم إثبات الشهر بالحساب وحكم توحيد الرؤية لفضيلة الدكتور بكر أبو زيد فنعم نقدر ونشكر مع الامتنان كل جهوده التي بذلها لإخراج الحجج الدامغة في هذا الموضوع، لأن هذه مشكلة أهمت العالم الإسلامي كله ولم يبق إلا أن ندعو جميع المسلمين إلى نبذ الخلافات وتحكيم الشرع المطهر بين المسلمين بناء على أن الله ربط الهلال بعلامات يقينية لا مدخل للعباد فيها، بل هي سنن كونية ثابتة يستوي في معرفتها الخلق من أجل إثبات اليسر ورفع الحرج في الشريعة قال تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .
وبناء على أن صاحب الشرع أشعر بحصر السبب في الرؤية أو الكمال ولم ينسب سببًا سواهما وبناء على أنه ليس في شيء من الأحاديث الحكم الشرعي للحساب الفلكي، والله سبحانه وتعالى قيد عباده في الصوم برؤية الهلال لرمضان أو باستكمال شعبان ثلاثين يومًا والنصوص المستقيمة بذلك من النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة جدًا، بناء على هذا كله فيجب على المجمع تأييد هذا القرار الذي خلاصته: أن على كل بلد أن يتبعوا ما يقرره أهل التقوى فيه وأن على المسلمين السعي إلى أساس توحيدهم وجمع كلمتهم في تحكيم شريعة الله وإيذان الحكم بها دومًا وعملًا، وشكرًا.(3/470)
الشيخ محيي الدين قادي:
بسم الله الرحمن الرحيم.. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
هذا الموضوع هو موضوع طال فيه الحديث لكن لي استيضاحات..
الاستيضاح الأول: هل توحيد بداية الشهور القمرية مقصد للشارع أو ليس بمقصد؟ أنا عندما درست هذه النقطة وتوقفت عند حديث سيدنا كريب رأيت حبر الأمة عبد الله بن عباس يقول: لأهل الشام رؤيتهم ولنا رؤيتنا، ويثني على ذلك بقوله: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابي إذا قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فالحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذن هل هناك دليل على أن صاحب الشريعة أو أن الله عز وجل وهو المشرع الحقيقي قصد وأراد أن تتوحد الأمة الإسلامية في بداية الشهور القمرية؟
ثانيًا: المسألة الثانية هي قضية من المسلَّم بها وهي قضية اختلاف المطالع، هذه القضية اختلاف المطالع تجعل كما قال ابن العربي في كتاب الأحكام تجعل أن رؤية أهل أغمات لا يصوم بها أهل إشبيلية لأن سهيلًا يراه بأغمات ولا يراه بإشبيلية.
إذن القضية حتى مع تقديرنا للعلم لا يمكن أن يكون هنالك يوم واحد للصوم لأن إذا كان الدكتور الكراي الآن كان يقرر بأنه يمكن أن يرى في تونس ولا تمكن رؤيته في الأردن مثلًا أو في المملكة العربية السعودية لأن وجوده في المملكة العربية السعودية 6 دقائق لا يمكن من رؤيته ووجوده في تونس 8 دقائق يمكن من رؤيته إذن حتى مع اتباعنا للعلم فنحن سنكون مختلفين، هذه نقطة هامة.
ولهذا فقهاء المالكية من قبل حرروا مسألة ما روي عن مالك أنه قال: "إذا رئي بالحجاز صام من بالأندلس " حرروا هذه المسألة وقالوا "ما لم يكن البعد سحيقًا، ما لم يكن البعد سحيقًا كالبعد بين الأندلس وخراسان " لكن العلم الآن كما قال الشيخ بخيت المطيعي في كتابه إرشاد أهل الملة لإثبات الأهلة قال ما معناه: هذا لا يمكن أن يقال الآن لأن هذا قبيل يوم أن كان العالم لا يؤمن بكروية الأرض ووجد ظواهر قرآنية كثيرة تدل على أن الأرض بساط ومهاد وفراش ودحي وطحي.. الخ، ففهم التسطيح لكن أثبت العلماء من قبل كالإمام فخر الدين الرازي تأول ذلك وقال أن الكرة إذا كبرت رئيت من كل جهة مسطحة وإلا فالأرض كروية الشكل، هذه قضية الأرض كروية الشكل أصبحت هي يقينيات العلم ولهذا تأويل الظواهر التي هي من ظني الدين على حسابها وقع، وقالوا بمراعاة اتحاد البلدان في خطوط الطول إذا كانت البلدان متحدة أو مختلفة اختلافًا يسيرًا لا يؤثر على رؤية الهلال ممكن أن يصوموا لرؤية واحدة ويفطروا لرؤية واحدة، وإذا كان البلدان غير متحدة في خطوط الطول أو مختلفة اختلافًا يؤثر على رؤية الهلال فيها جميعًا فإنه لا يمكن أن يصوموا في رؤية واحدة ولا يفطروا برؤية واحدة.(3/471)
وأنا في جوابي على أحد الأجوبة: أطلت في هذه النقطة في جواب من أجوبة استفتاءات المعهد العالمي للفكر الإسلامي وبينت هذا بنص عن مالك أنه يقول "إذا اتفقوا إذا غم في هذه البلدة يعمل لرؤية البلدة الأخرى، هذا ما أردت أن ألاحظه، حتى العلم لا يؤيد أننا نعمل بالحساب ونصوم في يوم واحد ونفطر في يوم واحد، هذه وجهة نظر لعلها تكون صوابًا أو تكون خطأ فإن كانت صوابًا فمن فضل الله عز وجل وإن كانت خطأ فمني ومن الشيطان، والله أسأل أن يثبتنا على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
الشيخ المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم.. صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
أعتقد أننا كجماعة منتسبين إلى الفقه نعيش أزمة، هذه الأزمة تظهر فيما اقتنعنا به جميعًا أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان ثم إنه كلما عرضت علينا قضية وقفنا بها في حدود الزمن الماضي ولم نستطع أن نتقدم مع تطور الزمن ولا مع تطور العلم ولا مع تطور الأحداث، ونحن مقتنعون أيضًا بأن العلم لا يختلف عن الدين، وأن العلم حقائق ثابتة أثبته الله في سننه، ثم إذا جاء العلم بما يخالف قول مالك أو قول أبي حنيفة أو قول الشافعي كنا في أزمة تمزقنا من الداخل ولا نستطيع أن ننفك من هذا الوضع الذي نحن عليه.
الصوم كركن من أركان هذا الدين جاءت فيه الآية الواضحة {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} حصر أو علم لم يبين القرآن وسيلة به ثبوت الشهر فالحكم هو صيام الشهر والوسائل بينها صلى الله عليه وسلم في هذه الناحية فقط فقال ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) لا بد من التأمل ومن التعمق في الظروف التي كانت موجودة في عهد النبوة.(3/472)
فكانت الوسائل إما الرؤية البصرية وإما اعتماد أهل النجوم وليست هناك وسيلة أخرى تثبت دخول الشهر، ووسائل النجوم وكل ما اعتمد عليه التنجيم هو باطل في الإسلام، فلذلك جاء قوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) على أن الرؤية هي الوسيلة الوحيدة في عصره صلى الله عليه وسلم.
فهل معنى هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قد نص على الرؤية، أن الرؤية تبقى هي الوسيلة الوحيدة أو يمكن أن توجد معها وسائل أخرى؟ نظرت هذا بقوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} فالناس في عهد هذه الدعوة من إبراهيم عليه السلام ما كانت لهم من وسيلة لبلوغ الأماكن المقدسة إلا الأرجل أو الخيل.
فهل نقول اليوم إن من يحج على الطائرة أو على الباخرة أو على غير ذلك من الوسائل أنه لا يحج؟ فقضية بيان الوسيلة في عصر ليس معنى ذلك أنه يقصر عليها قوله صلى الله عليه وسلم ((نحن أمة أمية)) واردة، إخراجها عن كونها تعليلًا باعتبار أنها بيان للواقع، نعم هي بيان للواقع وهي من قبيل الإيماء لأنه قد ذكر وصف لو لم يجعل للتعليل لما كان لذكره فائدة.
فهل الأمية لازمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد نزلت آية {اقْرَأْ} .
وهل بقي المؤمنون بقي اليوم العالم الإسلامي بما فيه من علماء بقوا أميين كلامه صلى الله عليه وسلم لا يختلف عن الواقع، فلماذا نتمسك بأشياء ظاهرها لو أخذنا بها واطمأنا إلى تلك الظواهر يصبح الحديث متناقضا مع الواقع وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتناقض مع الواقع؟
الحساب الفلكي هل هو بينة شرعية أو ليس بينة شرعية؟ الحساب الفلكي هو علم قوته من ذاته لا يحتاج إلى بينة، واليوم أصبحنا نعتمد على وسائل كثيرة في ديننا ولم يتكلم أحد منا اليوم، نفتح الإذاعة أو نفتح التلفاز فيقول: الله أكبر فنفطر مع أنه قد ربط بغروب الشمس لا بقول المذيع: أذن المغرب.
نحن الآن نأخذ الساعة ونقول: الساعة الخامسة وأربع دقائق أذن المغرب، ما خرج منا أحد إلى الشمس ورأى غروب الشمس ظاهرة وجدتها وأنا أتابع الفتاوى أن الشيخ ابن تيمية رضي الله عنه أفتى بحرمة علم الفيزياء، وقال: إن علم الفيزياء حرام وذلك لأنه إشراك في الخلق وأن الخلق لله.(3/473)
يا سيدي هو كلام محق في زمانه باعتبار أن علم الفيزياء في زمانه كان ضربًا من الهوس والتهريج وابتزاز الأموال، أما علم الفيزياء اليوم فنقول إنه يجب أن نغلق كل الكليات الفيزيائية.
مناقش:
الكيمياء
الشيخ المختار السلامي:
الكيمياء، المشكل كيمياء أو فيزياء، فإن المهم هو أنه أفتى بحرمة ذلك، فهل معنى ذلك أننا نغلق الآن كل المعامل لأن الشيخ ابن تيمية أفتى فيها، في وقته صحيح لأنها ما كانت علمًا صحيحًا، أما اليوم أصبحت علمًا صحيحًا، فكيف يمكن أن نرفضها؟ فما ذكره مالك وأبو حنيفة والشافعي نعرفه ورضي الله عنهم تحدثوا عن أشياء وقد تبين لنا من الحديث الذي تكلم به أخونا الدكتور الكراي هو أن الحساب لم يصل إلى الدقة إلا في سنة 1960 وقبل 1960 ما كان الحساب دقيقًا.
أنأ أعطي مثلًا بسيطًا فإن العالم الفرنسي "لابال" بحث في حركة زحل فوجد أن حركة زحل هي حركة فيها عدم انتظار وحسب القوانين التي خلق الله عليها الكون وكل شيء عنده بمقدار، قال: هذه الحركة حركة فوضوية في نظام كامل فلابد أنه توجد كتلة أخرى هذه الكتلة تجذب كوكب زحل لتعدل مساره.
ولكن حاول أن يبصر هذه الكتلة فلم يجدها في السماء، ولكن تمكن العلماء بعده من إبراز ذلكم الكوكب وأصبحت كوكبًا آخر جديدًا وهو الذي وضح وعدل فكرة أو فهم كيف تفهم قضية هذه الحركة الموجودة في هذه الكواكب.
هذه كلها قضايا علم، العلم ثابت، ولا يمكن عندما نقول: إن العلم لا يمكن أن يختلف مع الدين لا يمكن أن يأتيني أي إنسان أو عشرة أو خمسة ويقول: رأيت الهلال والهلال لم يوجد، فالهلال هو لا نقول بالميلاد الفلكي بمعنى بالاقتران ولا بخروجه الأولي من شعاع ولا تقبله للشعاع الأول من الشمس ولكن نقول عندما تمكن الرؤية البصرية بالحساب.(3/474)
يقول أهل الفلك: إنه بعد ثماني درجات التي مقدارها كذا ساعات ممكن رؤية الهلال فإذا ادعى شخص قبل هذا أنه رأى الهلال فهو كاذب، وقد رأينا أن الناس كذبوا من قبل وفي كلمتي في السنة الماضية بينت أنه على اختلاف العصور ذكر الفقهاء كيف أنه وقع الكذب وأنه كيف سلمهم الله في وقفة عرفة فزادوا يومًا وكاد حجهم يفسد ويجب عليهم القضاء لأنه هكذا مذهب مالك.
فإذن ألخص فكرتي وهو أنه ما ذكره العلماء من اعتماد الرؤية هو صحيح وما ذكره صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يجادل فيه إلا منافق ولكن هذا لا يختلف مع التقدم العلمي الذي يجب أن نأخذ به، وشكرًا لكم والسلام عليكم.
الرئيس:
في الواقع يا فضيلة الشيخ ملحوظة بسيطة.. مناقشة بسيطة، قضية التنظير، أما شرحكم الموضوع ورأيكم هذا شيء على كل حال هو رأيكم، لكن قضية التنظير في قوله تعالى {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} ، وقضية التنظير إذا سمع المسلم الأذان في المذياع مع أنه لم يتحقق من غروب الشمس.
الحقيقة التنظيران هذان فيهما نظر، وأنت تعرف أن التنظير هو قياس، والقياس لا بد من اكتماله فالتنظير هذا أولًا في الصيام، النبي صلى الله عليه وسلم نهى قال ((لا تصوموا حتى تروا الهلال)) أما هنا في الآية ما فيه ما يقيد عدم المجيء وفي الآية الأخرى {أَوْ رُكْبَانًا} فيها العموم، ركبانًا على أي شيء، فالحقيقة قضية التنظير هذه فيها نظر.
الشيخ المختار السلامي:
الآية قبل كل شيء {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} ، وأما الركبان فهي آية أخرى.
الرئيس:
هي آية أخرى أنا أقصد أن هناك آية أخرى ليس في الموضوع آية واحدة.
الشيخ المختار السلامي:
لأنه سيادة الرئيس لو تذكرت أني قلت بكامل الوضوح هو أنه قيل هذا الحديث في وقت لا يوجد فيه إلا طريقان: أحدهما باطل لا يأخذ به الشرع، والآخر صحيح يأخذ به الشرع، ولذلك جاء قوله صلى الله عليه وسلم ((لا تصوموا ولا تفطروا)) لأنه ليست هناك وسيلة، لأنه لو قال الرسول صلى الله عليه وسلم: اعتمدوا الحساب، الحساب غير موجود من يعرفه؟ فهل يتحدث عن شيء غير موجود؟ فأنتم تريدون أنه من عدم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء غير موجود أنه دليل على عدم اعتباره، لا يمكن أن يستند إليه كدليل على نفي الاعتماد على الحساب العلمي اليقيني الآن.
الرئيس:
شكرًا.. أصحاب الفضيلة تعرفون أن لدينا موضوع أجهزة الإنعاش وفيه الطبيب محمد علي البار كان قد رتب سفره اليوم في الظهر، فلما علم أن الموضوع سيناقش هذه الليلة أخر سفره إلى الغد، والطبيب أشرف الكردي عطل عمله وحضر لأجل مناقشة هذا الموضوع فقد ترون مناسبًا أن بحث توحيد الشهور نؤجل استكمال البحث فيه إلى الجلسة الصباحية إن شاء الله تعالى، ونبحث الآن موضوع أجهزة الإنعاش طالما أن المختصين قد حضرا.(3/475)
الجلسة الصباحية
11 صفر 1407 هـ/ 14 أكتوبر 1986 م
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نستكمل في جلستنا هذه البحث الذي كان في مساء الجلسة المسائية وهو توحيد بدايات الشهور القمرية والكلمة للشيخ خليل.
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد أن استمعنا للبيان الذي قدمه الدكتور الكراي وما توصل إليه العلم من القطعيات التي لا شك فيها، ونحن أمام نصوص صريحة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تنيط وجوب الصوم أو الإفطار بالرؤية، فلا بد لنا من صيغة توفيقية ما بين العلم والنص حتى لا يهجر العلم ولا يترك النص، فلأن ما وصل إليه هو أقرب إلى القطع من شهادة الشهود..
وأود يا سماحة الرئيس أن أذكر بشيء، جاء في باب الجمعة في كتاب الهداية أن العلماء اختلفوا في فرض وقت الظهر يوم الجمعة فرض الوقت هل هو الظهر أم هو الجمعة؟ ومن عجيب ما قالوا: إن المرء قادر بنفسه عاجز بغيره، فلذلك قال: إن فرض الوقت هو الظهر إلا إذا وجدت شرائط الجمعة لأنه هو قادر بنفسه على أداء الظهر منفردًا ولكنه عاجز عن أداء الجمعة إلا بالجماعة.
فإذن قال: فرض الوقت هو الظهر إلا إذا توفرت أسباب الجمعة فوجب عليه إسقاط الظهر إلى الجمعة، وأن الأمة لما كانت أمية والعالم من حولها في هذا المجال أمي فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكلفها إلا بقدر وسعها، نعرف الآن الأرقام لا تقبل الشك أبدًا ولا يجوز إذا وصلنا إلى العلم ما وصلنا أن نتجاوز نصوص الشريعة.
على أية حال إن الرؤية إذا توافقت مع الحساب فأمر هو آكد، أما إذا اختلف الحساب عن الرؤية هنا المطلوب في الحقيقة لا ضير علينا إذا أخذنا الحساب من يوثق بدينه وعلمه، أقول: بدينه أولًا وعلمه ثانيًا، وفي ذلك لا نكون قد هجرنا النص لأن الأمة إنما كلفت بقدر وسعها والآن صار بوسعها أن تؤكد منازل القمر ووقت ولادته ولا ضير علينا في ذلك، والله ولي التوفيق، وشكرًا.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم..
أريد أن أورد على مسامعكم ما توصلت إليه الهيئة العامة للفتوى في وزارة الأوقاف بالكويت التي أشارك فيها في هذا الموضع، فإنها طرحت عليها أسئلة كثيرة فأرادت أن تضع بعض المبادئ الشرعية لثبوت دخول الشهر وفيما يتصل باختلاف المطالع.(3/476)
وقد استعانت الهيئة بفنيين في هذا المجال حيث استضافت لأكثر من جلسة الدكتور محمد صالح العجيري وهو الفلكي المعروف في الخليج وقدم أجوبة عن كثير من التساؤلات وقدم إيضاحات في هذا الموضوع.
وخلاصة ما توصلت إليه الهيئة في هذا أنها اعتبرت الرؤية هي الأساس ولكنها استعانت بالحساب في أكثر من مجال ولا سيما في مجال النفي، فقد أخذت بأن الحساب حجة في النفي لا في الإثبات، كما أنه شدد في أمر البينة وهي الثغرة التي يؤتى منها موضوع الرؤية، واستندت في هذا إلى أحاديث وأدلة ونصوص من أقوال الفقهاء، وتوفيرًا للوقت أريد أن أشير إلى هذه المبادئ إشارة مختصرة.
فيما يتصل بثبوت دخول الشهر اعتمدت الهيئة على أنه إذا رئي الهلال بعد غروب الشمس يوم التاسع والعشرين من شعبان أو رمضان أو ذي القعدة أو سائر الشهور القمرية رؤية صحيحة يثبت دخول الشهر، فإن لم ير رؤية صحيحة وجب إكمال العدة ثلاثين يومًا وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا)) أخرجه النسائي وأحمد في مسنده.
أما فيما يتصل بالبينة فإن البينة المطلوبة في إثبات الرؤية إما التواتر أو الاستفاضة وهو ما يطلق عليه الجمع الغفير أو شهادة رجلين عدلين فأكثر، ولا يقبل أقل من ذلك، وذلك لما أخرجه أبو داود في السنن في الجزء الثاني صفحة 404 أن أمير مكة وهو الحارث بن حاطب أخو محمد بن حاطب خطب ثم قال: ((عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما)) ، ولما روى شقيق بن سلمة قال: أتانا كتاب عمر رضي الله عنه ونحن بخانقين: أن الأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهارًا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس.(3/477)
وجاء هنا في كتاب المجموع للنووي، والمراد بالرؤية بالعين مباشرة أو بمساعدة الأجهزة المقربة والمكبرة كالنظارات وأجهزة المراصد لأن الرؤية من خلال هذه الوسائل رؤية حقيقية فتدخل في الرؤية المذكورة في الأحاديث دخولًا أوليًا، وفي حال الاستعانة بالمراصد يجب أيضًا اعتبار شرط الشهادة المطبق في رؤية العين مباشرة بأن تكون بلفظ الشهادة من شاهدين عدلين أو أن تحصل بمشاهدة هيئة الرؤية الشرعية نفسها التي تكون في كل بلد لا لتماس أو للسماع إلى من رأى الهلال، إذا دل الحساب القطعي على استحالة رؤية الهلال لم تقبل الشهادة برؤيته لأن من شروط صحة البينة عدم مخالفة الواقع.
وقد نقل القليوبي من الشافعية عن العبادي قوله "إذا دل الحساب القطعي على عدم رؤية الهلال لم يقبل قول العدول برؤيته وترد شهادتهم بها" ثم قال: "وهو ظاهر جلي ولا يجوز الصوم حينئذ ومخالفة ذلك معاندة ومكابرة" ومما يدل على ذلك قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وقوله {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} .
هذه الاستحالة لها أمثلة وتطبيقات كثيرة لا نخوض فيها لأنها من اختصاص الفنيين ولكن على سبيل المثال إذا دل الحساب القطعي على أن الهلال سيغرب مع الشمس أو قبلها أو دل على أن الهلال موجود وله مكث بعد غروب الشمس ولكن رؤيته مستحيلة ويرجع في تقدير المدة التي تستحيل فيها الرؤية بعد ولادة الهلال إلى قول أهل الخبرة، ومن خلال ما أفاد الدكتور العجيري أن الرؤية بالعين المجردة لا تكون ممكنة قبل مضي عشرين دقيقة على غروب الشمس، وإذا كانت الرؤية بالأجهزة الحديثة فلا يمكن أن يرى قبل مضي سبع دقائق على غروب الشمس، وهذا أمر يحتاج إلى توثيق جماعي.
كذلك من أمثلة الاستحالة أن يعرف بالحساب القطعي أن هناك كسوفًا سيقع بعد غروب الشمس لأن ولادة الهلال لا تكون قبل الكسوف ولا تكون إلا بعده فإذا ادعيت الرؤية ثم حصل الكسوف تبين أن الرؤية باطلة لمخالفة الواقع.
فخلاصة هذا أن الحساب القطعي يجب الأخذ به في حال النفي أي القطع باستحالة الرؤية، إذا دل الحساب على إمكان الرؤية ولم يكن هناك مانع لكنه لم ير فيجب إكمال عدة الشهر ثلاثين لقوله صلى الله عليه وسلم ((فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا)) كذلك إذا تمكنت التهمة لسبب آخر غير الحساب فإنه يمنع قبول الشهادة أيضًا.(3/478)
أما بالنسبة لاختلاف المطالع فإنه إذا رئي الهلال في بلدة لزم العمل بتلك الرؤية في إثبات دخول الشهر ويلزم أيضًا أهل جميع الأقاليم الذي فيه تلك البلدة والبلاد التي تشترك مع ذلك الإقليم في خط الطول، ويثبت حكم تلك الرؤية أيضًا في حق كل قوم لا يتصور عندهم عدم الرؤية وهم أهل كل بلد يقع في جهة الغرب من البلدة التي حصلت فيها الرؤية، وهذه حقيقة فلكية أكدها الدكتور العجيري.
وأما البلاد التي تقع على جهة الشرق من ذلك الإقليم وتشترك مع إقليم الرؤية في جزء من الليل فإن لهيئة الرؤية في ذلك الإقليم أن تأخذ بتلك الرؤية في الإفطار من رمضان مطلقًا إذا أتموا تسعة وعشرين يومًا وكذلك في دخول شهر رمضان إذا علموا بالرؤية وقد بقي من الليل عندهم ما يكفي لتبييت النية مع السحور دون ضيق أو مشقة، والله أعلم.
الرئيس:
شكرًا.. قبل أن أعطي الكلمة للشيخ جعيط، في الواقع يا مشائخ، في الوقت الذي يحصل فيه تحفظ على الشهادة هناك شبه القطع بقطعية الحساب وأنه قطعي وأنه من خلال تطوره واستحداث آلاته ونموه إلى الدرجة الموجودة في العصر الحاضر يكون المصير إليه إلى آخر ما يكون من البحث في هذا الموضوع، في الوقت نفسه إنا لا نعلم هذه القطعية إلا من قِبَلِ بعض الفلكيين مع أن بعض الفلكيين أنفسهم هم مختلفون، والآن مر علينا في كلام الشيخ عبد الستار في قوله: إن الفلكي محمد بن صالح العجيري قال: إنه لا تمكن الرؤية بالعين المجردة إلا بعد عشرين دقيقة من الغروب وبعد سبع دقائق، ثم قال: إن هذا يحتاج إلى توثيق.
أنا أريد أن أنطلق من هنا إلى أن ما يذكره الفلكيون هو كله يحتاج إلى توثيق لا إشكال فيه، هو كله يحتاج إلى توثيق وأذكر قضية واقعة في هذا العام في رمضان فإن الصحف تناقلت كلام الفلكيين وتصريحهم بتعذر ولادة الهلال على حد تعبيرهم وإن كان التعبير غير سليم في شهر رمضان يعني خروجًا لشهر شوال ثم ثبت في أربعة من الأقطار الإسلامية وعلى سبيل الخصوص في المملكة العربية السعودية إذ ثبتت الرؤية بشهادة عشرين شاهدًا في عدد من نواحي ومناطق المملكة المختلفة، وأذكر لكم أن من هؤلاء الشهود أحد خريجي كليات الشريعة في المملكة والذي جرت المحاولة معه لجلبه إلى القضاء فامتنع حتى تخلص ولجأ إلى التدريس وهو رجل موثوق بعمله ودينه وفضله.(3/479)
فالمهم أنه عشرون شاهدًا ورئي في ثلاثة أقطار عربية أخرى، والفلكيون يعلنون يقولون: تتعذر ولادته نحبط هذه الشهادات التي رسمها لنا النبي صلى الله عليه وسلم في طريق اليسر وفي طريق رفع الحرج، وما زالت الأمة على ذلك من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ونقول: لا إذا صرح الفلكيون نقول: تبطل الشهادات ونأخذ بكلام الفلكيين، مع أن كلام الفلكيين هم أنفسهم قد يختلف إضافة إلى أن هناك حقيقة فلكية وردت في التقرير الذي ورد من جامعة الملك عبد العزيز بجدة وهو أن حقيقة الشهر الشرعي التي يتعين الإيمان بها ولا يجوز المحيد عنها هي تسعة وعشرون يومًا أو ثلاثون يومًا، حقيقة الشهر لدى لفلكيين هي محددة بتسعة وعشرين يومًا واثني عشر ساعة وأربعين دقيقة فلا تكون ثلاثين يومًا ولا تكون تسعة وعشرين يومًا، ولادة الشهر في الإسلام أو في قاعدة الإسلام المقطوع بها هي برؤية القمر بعد الغروب، وعند الفلكيين بولادة القمر في أي ساعة من ساعات الليل والنهار، وهذا مصرح به في تقرير جامعة الملك عبد العزيز بجدة الذي هو بين أيديكم، فهذه المفارقة شرعية، إضافة إلى أن هذه الشريعة شريعة اليسر وشريعة رفع الحرج وما زالت الأمة على ذلك من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا والأمور فيها راشدة والأحكام نافذة، وهذا فقط إيضاح وددت أن أذكره.. الشيخ جعيط تفضل.
الشيخ كمال جعيط:
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد.
إن من أعظم مقاصد الشريعة الإسلامية وحدة المسلمين يظهر ذلك في قوله تعالى {وَلَا تَفَرَّقُوا} فالوحدة مطلوبة في الباطن كما هي مطلوبة في الظاهر: عقيدة واحدة وعبادة واحدة وتوجه ومن الجميع إلى قبلة واحدة واتحاد في الملبس ونزع المخيط ووقوف بعرفة في يوم واحد لأهل المشرق والمغرب بحيث هذا مقصد من مقاصد الإسلام وشريعته مما لا شك فيه، لذا أرى ونحن في القرن العشرين أن من الواجب علينا أن نوحد بين مواسمنا وأعيادنا إذ هو مظهر من مظاهر الوحدة.
ولا شك أن الوحدة فيها من القوة والمنعة ما لا يخفى، وليس تحقيق ذلك ببعيد وإن اختلفت المطالع لأن الخطاب جاء في قوله عليه الصلاة والسلام ((صوموا لرؤيته)) فقد توجه بخطابه لكافة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فإذا رئي الهلال في مكان عم ذلك جميع الأقطار في العالم الإسلامي وإن اختلف الفقهاء في القديم، وقال جماعة منهم باختلاف المطالع فهم معذورون لعدم وجود وسائل الإعلام في ذلك الزمان، أما اليوم وما وصلت إليه وسائل الإعلام فلا وجه للاختلاف على أن القول باختلاف المطالع هو قول القليل منهم وغالب الأئمة لا تقول به.(3/480)
ثم إن الهلال إذا رئي في المشرق فلا جائز أن لا يرى في المغرب باعتبار أن عدم ظهوره في الشرق لا يستلزم عدم ظهوره في الغرب أما ظهوره في الشرق فيستلزم ظهوره في الغرب من باب أولى وأحرى؛ لأن الغروب في الشرق سابق عن الغروب في الغرب وكلما بعد المكان إلا وزاد ارتفاع الهلال في الدرجات.
هذا الزمان قد بلغ في العلم إلى درجة القطع فإذا قال علماء الفلك والحساب باستحالة خلق الهلال فيلزم من استحالة خلقه عدم الرؤية ولا يلزم من خلقه الرؤية، فإذا جاء الشاهد والاثنان وقال: رأينا الهلال، اعتبرنا الحساب جارحًا في شهادتيهما ورددناها، اللهم إلا إذا جاء جماعة من جهات مختلفة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة فإذ ذاك نعتد بهذه الشاهدة من الجمع الغفير ويكون ذلك دليلًا على أن أهل الحساب قد أخطئوا في حسباهم، أما إذا أثبت الحساب خلق الهلال وإمكان رؤيته اكتفينا ولو بواحد فقط لاختلاف الفقهاء في أن رؤية الهلال هو من قبيل الشهادة أو من قبيل الرواية، هذا ما ظهر لي والله يلهمنا الصواب، وشكرًا.
الرئيس:
شكرًا قبل أن تكون الكلمة للشيخ الضرير، الحقيقة ورد في كلامكم كلمة طيبة جدًا وهي أنه قرر أهل الحساب أن الشهر لا يولد ثم شهد جمع غفير ولادته فهو دليل على خطأ أهل الحساب، هكذا يا شيخ؟
الشيخ كمال جعيط:
موافق.
الرئيس:
إذن ينبغي أن نتوقى في الكلمة الأولى وهو أن نقول: إنه قد قامت الدلائل أعني أنه قد تقرر لدينا قطعية الحساب، ينبغي أن نتوقى في هذا، نحن طلبة علم لا بد أن تقوم لدينا الدلائل الكافية في هذه الأمور وتتضح مثل اتضاح الشمس أما أنا لا نعرفه إلا من جهة الواحد والاثنين منهم ثم عرفنا بدليل المشاهدة والمعاصرة وقوع الخطأ على الرغم من هذا التطور ففي نظري أن التوقي في العبارة الأولى ينبغي أن يكون دارجًا.(3/481)
الشيخ كمال جعيط:
على كل حال نعتد بالرؤية.
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم أتحدث أولًا عن اعتماد الحساب: يقول الله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} "وشهد" بمعنى علم والخطاب هنا موجه إلى جميع المسلمين في جميع الأزمان والأماكن وصحيح لم يبين الله لنا طريقة العلم وقد بينتها السنة في قوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) وهذا أيضًا خطاب موجه إلى جميع المسلمين في كل زمان ومكان، فالأمة الإسلامية مأمورة بالصوم بالرؤية وليس بالحساب ولو كان يقينيًا، فكيف وهو ظني؟ أقول: هو ظني وأؤيد السيد رئيس المجلس في كل ما قاله وقد حدث لنا هذا أنه في السودان في العام الماضي نفس العام الذي يتحدث عنه السيد الرئيس اجتمع مجلس الإفتاء أعلن أن اليوم 29 تحرى وأرسل إليه أستاذ في الجامعة أستاذ في الفلك يؤكد بأن الهلال لا يمكن أن يرى في هذا ليوم وأن دعوتكم للتحري دعوة لا أساس لها ويجب ألا.. إلى آخر ما يقال.
لكن اجتمع المجلس وجاء معه ذلك الأستاذ وجلسنا نتحرى فاتصلنا بعدد من الدول وتبين لنا ما قاله السيد الرئيس من أنه رئي في عدد من الدول، فهل يسوغ لأي مجلس إفتاء في هذه الحالة أن يقول أو أن يفتي بأن لا يصوم المسلمون في بلده في صبيحة ذلك اليوم؟ لا أظن أن هذا يسوغ بأي حال من الأحوال، والدليل على أن الحساب ليس قطعيًا هو ما أشار إليه السيد رئيس المجلس وقد طرحت هذا السؤال على كثير من الإخوة الذين يدعون قطعية الحساب، لِمَ تختلف النتائج والتقاويم فيما بينها؟ كيف يكون قطعيًا هذه تقول اليوم 29 وأخرى تقول اليوم 30؟ فلم أجد جوابًا مقنعًا، وما يحتج به بعض الإخوة الأفاضل من أن العلم تقدم ووصل إلى القمر وإلى وإلى، هذا لا حجة فيه في أن لا تلازم بين الأمرين.(3/482)
صحيح أن العلم تقدم ووصل العلماء إلى مسائل لم تكن معروفة في الماضي ولا يمكن تطبيقها قبل أن تحصل لكن قام الدليل على أنها حق فقبلناها وما يتوصل إليه العلم ليس هو يقينًا في جميع الأحوال كما يقول بعض الإخوة، بعضه يقيني وبعضه ظني.
وهذا أمر يساعد العلماء أنفسهم ليقرروا حقيقة ثم يرجعون عنها في قابل الأيام، ثم من يدرينا لعل الله قد مكن لهؤلاء العلماء وسخرهم لاكتشاف هذه الأشياء والصعود إلى القمر وحجب عنهم معرفة ظهور الهلال معرفة يقينية، ليبقى قوله صلى الله عليه وسلم باقيًا إلى يوم القيامة ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) .
فنحن نتمسك بالرؤية ولكني مع هذا لا أقول بعدم الاستعانة بالحساب، يجب أن نستعين بالحساب مع أنه ظني والرؤية بشهادة الشهود أيضًا ظنية لكنا أمرنا باتباعها، الحساب ظني ولم نؤمر باتباعه لا مانع من أن نستعين به، نستعين به بمعنى أنه إذا قال الفلكيون أو أكثرهم بأن الهلال لا يرى في يوم كذا، فعلى القاضي الذي يثبت أن يتأكد ويتشدد في شهادة الشهود حتى يتيقن، أو لا يلزم اليقين طبعًا القطعي في هذه الحالة يغلب على ظنه أن هؤلاء الشهود عدول وأنهم رأوا الهلال، في هذه الحالة لا نلتفت إلى الحساب ولا يمكن أن نلغي هذه الشهادة ولا يلزم أن تكون شهادة متواترة، هذا ما يتعلق بالجانب الأول.
المسألة الثانية وهي اختلاف المطالع أيضًا ارجع إلى الآية القرآنية والحديث {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وهو خطاب لجميع المسلمين ((وصوموا لرؤيته وأفطروا رؤيته)) خطاب لجميع المسلمين، هذا يعني بوضوح أن الهلال إذا رئي في أي بلد من بلاد المسلمين فعلى جميع المسلمين أن يصوموا إذا بلغهم ذلك الخبر، اختلاف المطالع هذه حقيقة لن ينكرها أحد والخلاف الذي حدث بين العلماء هو هل يعتبر اختلاف المطالع أو لا يعتبر؟ وليست في أنه هناك اختلاف أو ليس هناك اختلاف فجمهور الفقهاء على أنه لا اعتبار لاختلاف المطابع.(3/483)
هذا هو رأي جمهور الفقهاء، وفي الواقع في فترة مع مكة لم أستطع أن أفهم على وجه الدقة فيه عبارة قد يفهم منها أن رأي الجمهور هو اعتبار اختلاف المطالع، لكن الذي أعرفه هو الذي ورد في كثير من البحوث التي أمامنا، إن رأي جمهور الفقهاء هو عدم اعتبار اختلاف المطالع، والحديث الذي احتج به من يقول باعتبار اختلاف المطالع حديث كريب هو الخلاف الذي حدث في الماضي مع أن الجمهور يقولون بعدم اعتبار اختلاف المطالع لا ينبغي أن يحدث الآن كما أشار إليه الأخ الفاضل الأستاذ جعيط.
والسبب في هذا هو إمكان العلم بثبوت الهلال في نفس الليلة التي ثبت فيها في بلد آخر وهذا كان متعذرًا، حديث كريب، كريب جاء إلى المدينة بعد أيام فهل ترون لو أن كريبًا ركب طائرة من الشام وجاء إلى المدينة في نفس الليلة وقال لابن عباس رأيت الهلال، أو أن معاوية اتصل بابن عباس تلفونيًا وقال له: رأينا الهلال هل كان ابن عباس يقول: لا نصوم غدًا؟
رأيي أن هذا الخلاف كان له ما يبرره لكن الآن وعملًا بالآية {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} وقد علمت الآن بثبوت الشهر في نفس الليلة سمعت الإذاعة أن المملكة العربية السعودية تقول: ثبت الهلال فكيف يقول لي قائل: لا تصم غدًا؟ الهلال ثبت وقد شهدت به وانتهى الأمر، فأنا رأيي أن هذه المسألة الخلاف الذي حدث فيها في الماضي هو اختلاف يرجع إلى الزمان ولا يرجع إلى الحجة، وهذا الذي أقوله قد قررته فيما أعلم جميع المؤتمرات والندوات التي حضرتها، لكن صحيح كان في تطبيقه خلل كبير لا يرجع إلى الاقتناع وإنما يرجع إلى أمور أخرى، ولهذا فإني في هذه المسالة أرى الأخذ برأي الجمهور في عدم اعتبار اختلاف المطابع.. وشكرًا.
الشيخ أحمد حمد الخليلي:
بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد.
فما كنت أريد أن أكرر ما سمعته كثيرًا في هذه الجلسة وإنما أردت أن أذكر أولًا أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام أراد للناس اليسر ولذلك قطع عليهم طريق النظر حتى في حجم الهلال.(3/484)
فقد جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن الناس تراءوا هلال ذي الحجة ورأوه كبيرًا فمنهم من قال: هو لليلتين، ومنهم من قال: هو لثلاث وابن عباس رضي الله عنه أنكر عليهم ذلك وقال هو لليلة رأيتموه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عظمه لكم لتروه)) أراد بهذا أن يقطع الطريق على الناس حتى لا يكلفوا أنفسهم الشيء الذي فيه الشطط عليهم. والعبادات ميسرة لجميع الناس العالم والجاهل، الغبي والذكي، على اختلاف طبقاتهم. والحساب الآلي الآن إذا كان قطعيًا عند ناس فهو ظني عند أكثر الناس. أكثر الناس لا يعرفون طريقة الحساب كم في المائة؟ كم نسبة؟ لعله 1? أو أقل من 1? الذين يعرفون الحساب من المسلمين، فمن هنا كان الاعتماد على الرؤية حسب ما أراه.
الناحية الثانية: ناحية توحيد الأهلة أنا أميل إلى ما اتفق عليه الفقهاء في مجمعهم بمكة؛ لأن هذه القضية درست من قريب. الصوم كما يكون واجبًا في وقت يكون حرامًا في وقت، فصوم يوم العيد حرام بإجماع الأمة لأنه يوم ضيافة الله، فإذا كان اليوم الذي يصبح اليوم الحادي والثلاثين عند أهل الشام هو عيد لأهل المدينة فإن صيامه حرام عليهم. وقد قال ابن عباس رضي الله عنه في حديث كريب: ولكن رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين أو نرى الهلال، اليوم الذي هو ثلاثون عند أهل المدينة في ذلك الوقت هو اليوم الحادي والثلاثون منذ بداية الصيام عند أهل الشام ويوم العيد قطعًا عند أهل الشام، فصومه حرام على أهل الشام فلو كان لأهل المدينة حكم أهل الشام لكان ذلك الصوم أيضًا حرامًا عليهم. وابن عباس رضي الله عنه ما قال: إن هذا اجتهادًا من نفسه وإنما قال هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابي في مثل هذا يعطي الحديث حكم الرفع، فلذلك أجنح إلى ما مال أو إلى ما اتفق عليه الفقهاء الذين اتفقت كلمتهم بمكة المكرمة بأن هذه المسألة تترك إلى فقهاء كل بلد ينظرون فيها.... وشكرًا لكم.(3/485)
الرئيس:
شكرًا.... في الواقع إن بحث الموضوع في مكة إشارة بسيطة من أنه ليس مسجلًا هنا وأنه ليس وليد جلسة أو جلستين أو ثلاث أو سنتين أو ثلاث وإنما صار في رابطة العالم الإسلامي قبل مجيئه في مجمع الفقه، يستمر سنين وصار فيه بحوث ودراسات ثم توصلوا أخيرًا إلى هذا لأنه مع مراعاة الأوضاع الحاضرة للعالم الإسلامي.. هذه إشارة خفيفة أحببت أن أذكرها.. الشيخ يوسف.
الشيخ يوسف القرضاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد.
فالموضوع موضوع قريب فعلًا كما أشار فضيلة الرئيس وبحث في مؤتمرات شتى ولا يزال يبحث لاختلاف وجهة النظر فيه من ناحية الحساب اعتماده أو عدم اعتماده ومن ناحية اختلاف المطالع إلى آخره.
وهنا، الحقيقة أريد أن أنبه إلى شيء، أننا حينما نشتغل بالدعوة نقول شيئًا وحينما نشتغل بالفقه نقول شيئًا آخر. حينما نشتغل بالدعوة نقول: الإسلام دين العلم ودين المنطق ودين كذا ودين كذا، وبعد ذلك إذا جئنا نفتي نخالف قواطع العلم مع ما قاله الإخوة. أمس الشيخ الفرفور والشيخ المختار قالا: إنه لا يمكن أن تختلف حقيقة شرعية مع حقيقة علمية.
ولهذا في الواقع آسفني أمس أن نجد هناك تناقضًا بين ما قاله الأخ المختص في علم الفلك وما قاله بعض الإخوة حتى ظهر كأن هناك تناقضًا بين العلم والدين، بين قواطع العلم وقواطع الدين.
مسألة أن العلم الفلكي لم يعد علمًا تنجيميًا كما قال الأولون، العلم وصل به الناس إلى القمر ويحاولون الصعود به إلى الكواكب الأخرى، بناء على علم الفلك الحديث. ولذلك ينبغي أن ننظر في هذا الأمر نظرة جديدة. نحن نقول الفترة تتغير بتغير الزمان والمكان والحال ... الخ، ونقرر هذا ولا يختلف في هذا اثنان من المشتغلين بالفقه وعند التطبيق لا نطبق بالفعل، فنحن الآن تغيرت الظروف والفقيه هو الذي يزاود بين الواجب والواقع كما يقول العلامة ابن القيم، الواقع تغير الآن، كيف نغفل مسألة الحساب الآن؟ عجبت أمس أن الأخوة كانوا ينكرون على أخ يقول: إن الهلال يرى في الشرق قبل أن يرى في الغرب وإذا رئي في الشرق لا بد أن يرى في الغرب والبعض قال هذا خلاف الواقع مع إن هذا قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وقرره الفقهاء في مختلف الكتب.
وما نقلته من حاشية البيجور عن الخطيب في فقه الشافعية قالوا: أعلم أنه متى حصلت الرؤية في البلد الشرقي لزم رؤيته في البلد الغربي دون عكسه كما في مكة المكرمة ومصر المحروسة، فيلزم من رؤيته في مكة رؤيته في مصر لا العكس. هذا ما قرره الفقهاء، وعاد بعض الأخوة يعارض الأخ المختص في علم الفلك، هذا ما قرره الفقهاء، وعاد بعض الأخوة يعارض الأخ المختص في علم الفلك. الواقع يا أيها الأخوة الموضوع موضوع خلافي من قديم لا يناقض شرعًا ولا يناقض نصًا. كيف يناقض الشرع والنص وفي داخل المذاهب الثلاثة الكبرى أقوال في المذهب المالكي والمذهب الشافعي والمذهب الحنفي بجواز اعتماد الحساب، خاصة للحاسب ومن يثق به؟ وبعضهم يقول بالجواز وبعضهم بالوجوب. الإمام النووي في المجموع نقل هذا الكلام وأكثر ونقل أقوال الشافعية، فهذا أمر ينبغي أن ينظر فيه.
الحديث الشريف عندنا ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) والواقع الحديث فعلًا حدد وصية لإثبات الصوم أو لإثبات الشهر، هذه الوصية لا تنفي وجود وسيلة أخرى وقد سررت من كلام الأخ الشيخ مختار بالأمس في أنه إذا حدد الشرع وسيلة فهذا لا ينفي أن تكون هناك وسيلة أخرى ربما تكون أفضل منها وضرب مسألة {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} وأنا أضرب مثلًا بما هو أوضح من هذا حينما قال القرآن الكريم {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} هل إذا تركنا رباط الخيل الآن ورابطنا بالدبابات والمصفحات هل نكون خالفنا القرآن؟ ما نكون خالفنا ذلك إذا وجدنا وسيلة أفضل مما كان موجودًا عليه.(3/486)
الرؤية وسيلة ظنية –الرؤية على غير المذهب الحنفي- الرؤية لشخص أو شخصين شاهدا أو شاهدين لا تثبت أكثر من الظن فإذا وجدنا وسيلة يترتب عليها الآن يقين قطعي فما لنا نرفضها؟
والحديث ((إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب)) هذا أمر ليس أبديًا وليست الأمية شيئًا ممتدحا، النبي عليه الصلاة والسلام هو أول من حارب الأمية، وفي عزوة بدر شجع الأسرى على أن يعلم كل واحد منهم عشرة من أولاد المسلمين، والأمية مفخرة له صلى الله عليه وسلم.
كفاك بالعلم في الأمية معجزة.
إنما للأمة لا، فالأمة الآن أصبحت تكتب، ولا شك أن الكتابة انتشرت من زمن قديم، والآن أضيف إليها الحساب ثم ليس مطلوبًا من الأمة كلها أن تكتب وتحسب إذا كان القصد هو رفع المشقة عن الأمة كما علل ذلك ابن حجر وغيره، وقال: إن الشرع لم يرد أن يشق علينا أراد أن ييسر علينا ويلتمس عوام الناس وجماهير الناس ما لا يستطيعون وما لا يطيقون.
لا شك أنه ليس مطلوبًا من جماهير الأمة أن تتعلم الحساب الآن الذي يثبت الشهر ليس هو جماهير الناس، فيه فئة أو هيئة مختصة لوزارة العدل أو المجلس الأعلى للقضاء أو دار الفتوى، الجهة المختصة هي التي تعين هذا بواسطة المختصين. ليس مطلوبًا من الناس أن يكونوا عارفين بالحساب فسواء كان واحدًا في المائة أو واحدًا في الألف أو واحدًا في المليون يكفينا القدر الكافي في هذا. الحساب أيسر حقيقة الآن من الرؤية وفتح أبواب المحاكم للترائي والشهود.. الخ.
على كل حال إذا لم نأخذ بهذا الرأي فهناك مستوى أقل وهو المستوى الذي ذهب إليه الإمام تقي الدين السبكي يعني إذا لم نأخذ بالحساب في الإثبات فلنأخذ به في النفي نجعله دليل نفي ولا مانع من هذا.(3/487)
بعض الأخوة قالوا: إن الرؤية بينة شرعية والحساب ليس بينة شرعية فما هي البينة الشرعية؟ هذا أمر أيضًا مختلف فيه، هل البينة الشرعية شيء محدد لا يزاد عليه ولا ينقص منه؟ ناقش هذه المسألة ابن القيم في الكتب وخاصة في الطرق الحكمية، وقال: أي حيث ما استبان صبح الحق أو أسفر صبح الحق بأي دليل كان فثمة شرع الله ودينه وأمره، فالبينة كل ما أبان الحق وأظهره فلو وجدنا طريقة تبين الحق نلجأ إليها إذا لم نأخذ بالحساب في الإثبات فعلى الأقل نأخذ به في النفي أي إذا نفى الحساب القطعي وأجمع أهل العلم الموثوق بعلمهم ودينهم على أنه لا تمكن الرؤية في وقت من الأوقات أو ليلة في الليالي فلا يجوز في هذه الحالة أن يتراءى الهلال ولا أن نفتح باب المحكمة لسماع الشهود لأنه كما قال السبكي قال: إن الشهادة ظنية، والحساب قطعي والظني لا يقاوم القطعي.
هذا معروف شرعًا تحمل شهادة الشاهد على الغلط على الوهم على الكذب على أي نحو من الأنحاء، وهذا في الحقيقة ما اتجه إليه مجمع البحوث الإسلامية، قرار مجمع البحوث أنه تعتمد الرؤية إلا إذا تمكنت النهمة منها وجعل من دلائل تمكن التهمة من الرؤية أن تكون معارضة للحساب الموثوق به حتى لم يقل الحساب القطعي، الحساب الموثوق به.
سأقول: نحن نقول: لماذا الحساب القطعي؟ إذا كانت الشهادة منافية للحساب القطعي الذي يجمع عليه أهل العلم الفلكي في هذا العصر فلا ينبغي أن تعتمد الرؤية، وبهذا يثبت الخطأ الذي كثر في هذه السنوات الأخيرة، يثبت الهلال بالرؤية اليوم ويأتي الناس غدًا في الليلة الثانية مع أن المفروض في الليلة الثانية يبقى في الأفق زيادة عن الليلة الماضية حوالي أربعًا وخمسين دقيقة يعني يبقى ساعة وربع مثلًا، يعني يراه كل الناس، ولكن شهدنا في مناسبات كثيرة في الصيام وفي الفطر أن في الليلة الثانية لا يرى الناس الهلال فكيف ثبت في الليلة الماضية؟ هذا ثبت لأنه حدث خطأ، وما ذكره الأخ الشيخ التارزي في بحثه القيم من أنه قد يحدث أحيانًا الكسوف وتثبت الرؤية ولا يمكن أن يكون هذا وما ذكره الأخ الكراي، فهناك دلائل تدل بأن الرؤية تكون غلطًا. لو أخذنا على الأقل بهذا أنه نؤيد قرار مجمع البحوث الإسلامية أنه إذا كان هناك ما يجعل التهمة بالنسبة للشهادة ترد الشهادة. ومن هذا أن يقول الحساب: إنه لا تمكن الرؤية.(3/488)
وأنا أرى أن موضوع اختلاف المطالع وتوحيد الرؤية مبني على هذا لأنه لا يمكن أن الناس تقول بتوحيد المطالع وتوحيد الإثبات إذا كان هناك شك في الإثبات أو لأن الناس تقول: أنا لا أطمئن إلى أن هذه الرؤية صحيحة ولذلك فكيف أثبت الصيام على أساسها؟ ومن هنا يبقى الخلاف يومين أو ثلاثة وفي بعض السنين من عدة سنوات قريبة كان أربعة أيام فرقا: من يوم الأحد إلى الأربعاء من سوريا إلى المغرب أربعة أيام هل هذا معقول؟
لو وقفنا على الأقل عندما نقول: إنه إذا نُفِيَ الحساب فينبغي ألا تعتمد الشهادة إطلاقًا، وإنما تبدأ تعتمد الشهادة بالرؤية عندما يقول الحساب: إنه حدث الاقتران كما يقول الفلكيون وحدثت الولادة الفلكية وحدثت الدرجات الثمانية وأصبحت الرؤية بالعين المجردة ممكنة، إذا حدث هذا أعتقد أنا بهذا نقرب على الأقل المسافة بين المختلفين ونقلل نسبة الخطأ، وشكرًا والسلام عليكم.
الرئيس:
شكرًا.. في الواقع يا شيخ في قضية الاختلاف بين بلدان ليومين وثلاثة وأربعة هل هذا ناتج من اعتماد المسلمين على الرؤية؟ لأن الاختلاف لثلاثة أيام ولأربعة لا يعقل لا لدى أهل الحساب ولا لدى أهل الرؤية هذا لا إشكال فيه، هل يعقل أنه فيه شهر يتأخر بين أهل الحساب وبين هل الرؤية لمدة أربعة أيام؟ أنا قصدي هل نوكل هذا إلى الذين يثبتون بالرؤية؟
الشيخ يوسف القرضاوي:
لو اعتمدنا على الحساب ولو على الأقل في النفي سيقلل هذه النسبة يعني يمكن يكون فرق يوم.
الرئيس:
لم يأتِ هذا إلا من الذين اعتمدوا على الحساب ولا أريد أن أذكر الدولة التي اعتمدت على الحساب وثبت أنها بينها وبين البلدان التي أفطرت في العالم الإسلامي أربعة أيام، وأعلنوه قبل دخول رمضان دخولًا وخروجًا، وجعلوا الفارق بينهم وبين بلدان العالم الإسلامي أربعة أيام بطريق الحساب.
الشيخ يوسف القرضاوي:
لا، في المغرب لا يعتمدون الحساب على ما أعلم وفي سوريا لا يعتمدون الحساب وهم يعتمدون الرؤية ومع هذا كان بينهم أربعة أيام.(3/489)
الشيخ طه جابر العلواني:
بسم الله الرحمن الرحيم ...
أظن أن عرض هذه القضية على هذا المجمع الموقر إنما للبحث عن اجتهاد ينتهي بما يرفع الإشكالات في أذهان المسلمين ويؤدي إلى القناعة بأنهم أدوا عبادتهم في وقتها كاملة غير منقوصة فتطمئن القلوب وتستقر النفوس، وذلك أن ما يتم باجتهاد جزئي ينتهي إما بتبني أحد الاتجاهين الفقهيين المعروفين أو بالخروج بقول ثالث، وكل ذلك إنما هو اجتهاد يقتضي إحاطة تامة بالقضية موضوع البحث من سائر جوانبها.
وهذه الإحاطة فيما سمعته في هذا المجمع الموقر لا أراها متوفرة حيث إن للمسألة جوانب فنية لا يمكن استيفاؤها برواية فني واحد أو اثنين بل لا بد من تواتر علمي أو استفاضة أو شهرة على الأقل، وقد تكون الحاجة ماسة إلى ندوة من الفلكيين أنفسهم يتداولون فيها أسئلة الفقيه التي لا يتمكن الفقيه من الحكم فيها بشيء قبل أن يحصل على الجواب الشافي التام.
في هذا الصباح استمعنا لمن يقول: إن الحساب قطعين واستمعنا لمن يقول: إنه ظني واستمعنا لعدة اختلافات في هذا، والفلكيون أنفسهم كذلك مختلفون فأظن أن القطع بيقينية الحساب بهذا الشكل أمر لا أراه دقيقًا بل لا بد من الاستماع إلى أكثر من واحد أو لجمع من هؤلاء يجعلون الصورة كاملة تامة تجيب على كل تساؤلات الفقيه لكي يتمكن الفقيه من إعطاء الحكم أو النسبة الخبرية التامة لهذين الأمرين كما يقولون.
كذلك للمسألة جوانب أخرى فقهية منها قضية المفاهيم اللغوية المتعلقة بقضية الرؤية وتفسيرها، ما حقيقة الرؤية هنا؟ لم أسمع التعرض لها بشكل يؤدي إلى نوع من الاتفاق عليها، كذلك قضية شهود الشهر ونحوها.
هناك مسألة ثانية فقهية أخرى تتعلق بالتفريق بين الوسائل وسائل إثبات دخول الشهر والحكم بثبوت دخول الشهر من الجهة المؤهلة للحكم بالثبوت هذه أيضًا قضية أخرى تحتاج إلى نوع من التناول.
كذلك لاحظت أن الحديث في هذا الأمر اتسم في كثير من جوانبه بالمؤثرات المختلفة حول المواقف بحيث لم يأخذ البحث الفقهي ولا البحث الفني نصيبه الكامل التام من التناول بناء على مواقف مسبقة ومؤثرات كان لها وضعها في الأقوال التي طرحت، المألوف من الشرع أن ينيط الأحكام دائمًا بالأمر البسيط الذي يستطيع المكلف الفرد بإمكانياته العادية الوصول إليه، وهذا أمر لا مراء فيه ومعهود من الشرع.
الوسائل التي بين أيدينا وسيلتان: الرؤية والحساب هل يمكن الجمع بينهما؟ سواء فيما ذكره الأستاذ القرضاوي أو فيما ذكره الإخوة الآخرون بأن يؤخذ بالحساب سواء في مجال النفي أو في المجالين معًا وأن يدعي الناس إلى محاولة الرؤية في تلك الأوقات لا التي يقررها الحساب أنها مظنة ولا نقول موضع قطع مظنة ظهور الهلال وإمكانية رؤيته.(3/490)
أعتقد أنه للخروج من هذا المأزق أو أظن أن من الممكن أو من المستحسن أن يتبنى المجمع التوصية بوضع ما يسمى بكاليندر أو روزنامه للشهور روزنامه إسلامية خاصة، تبين لنا، وهذا أمر ممكن جدًا وسهل وميسور، تبين لنا دخول الشهر وخروجه في سائر أنحاء العالم الإسلامي وحتى كذلك أوقات الصلاة وتبين لنا خطوط الطول وخطوط العرض ونحوها.
ثم بعد ذلك يترك لأهل كل مجموعة من البلاد تتفق خطوط الطول بينها أن يتحرروا الهلال في تلك الأيام التي تقرره الروزنامه أو الكاليندر إمكانية الرؤية فيها ثم يتخذ الحكم، يحكم المسؤولون في تلك البلاد بدخول الشهر أو عدم دخوله وفقًا لذلك، لعل في هذا ما يمكن أن يشكل مخرجًا من هذا الأمر الذي لولا المؤثرات المختلفة فيه لما اتخذ هذا الشكل الحاد، فإن المسلمين في صلواتهم مختلفون، وفي الوقت الذي نكون نحن الآن مثلًا في الساعة العاشرة إلا الثلث ضحى يكون الوقت ليلًا في بعض الأماكن ويكون الوقت مغربًا أو عصرًا في أماكن أخرى وهذا لم يشكل قضية لدى المسلمين، وكان يمكن أن يكون موضوع الصيام والفطر خارج هذه القضية لولا مؤثرات كثيرة تحيط بها وتجعل منها تلك القضية الخطيرة التي يستدل بها على تخلف المسلمين أو على عدم اهتمامهم بالوقت وهم يعرفون الحضارة: إنسان زائد وقت يساوي حضارة، فأظن أنه من الممكن لمجمعنا الموقر أن يأخذ بهذا الاتجاه ويوصي المسلمين باتخاذ روزنامه أو كاليندر لتقويم كامل لجميع البلاد الإسلامية ولجميع أنحاء العالم، وهذا أمر وارد وممكن وتؤخذ الرؤية ويؤخذ الحكم بدخول الشهر وخروجه، فإن ما تفضل الإخوة بالإشارة إليه من ...
الرئيس:
تشكون منها، من الروزنامه هذه.(3/491)
الشيخ طه جابر العلواني:
لا ... لا.. عفوًا الحكم أمر مستقل، لا بد من الفصل بين الحكم وبين الوسائل فهناك وسائل وهناك حكم يجري في البلد يتخذه أهل الفتوى يتخذه المسؤولين إلى غير ذلك فإن هذه الاختلافات التي بلغت أربعة أيام وثلاثة أيام مما لا شك فيه أن للمؤثرات الأخرى المختلفة التي ليس منها على الأقل قضية الرؤية ولا قضية الحساب الأثر الأكبر في اعتبار دخول الشهر أو خروجه وهذا أمر ملاحظ وملموس وعليه دلائل كثيرة في بلدان مختلفة، فأظن أن في تفصيل هذه المسألة إلى الجوانب التي ذكرناه أو محاولة الخروج بحل وسط في هذا الأمر لعل فيه نوعًا من الخروج من المأزق إن شاء الله، وجزاكم الله خيرًا.
الشيخ عبد العزيز الخياط:
بسم الله الرحمن الرحيم ...
أرجو أولًا أن يسعنا فضيلة الدكتور بكر أبو زيد بسعة صدره وبحلمه فيما لو قلنا رأيًا قد يخالف ما هو عليه كما تعودنا منه فيما مضى وفيما هو آت إن شاء الله.
الحقيقة كنت سأتكلم بما تكلم به بعض الأخوة وأخص بالذات فضيلة الأستاذ القرضاوي. فأنا أؤيده في معظم ما قاله ولا حاجة إلى تكرار ما قال في موضوع الاعتماد على الحساب القطعي، إذا كان الحساب قطعيًا، وما يقال: إن هناك خطأ، ممكن أن يقع في الحساب خطأ لكن خطأ في رجوع الحساب إذا كان من جهة رسمية ودولية تتولى هذا الحساب من أصحاب المناصب الفلكية فالحساب قد يكون الخطأ فيه قليلًا جدًا لكن مع هذا كله ينبغي أن نتعرض لبعض النقاط.
أنا أقول بأن الاعتماد على الحساب وارد وما أشار إليه الدكتور الأستاذ الضرير بأنه ليس هناك ما يشير للأخذ بالحساب فالآيات كثيرة ونص الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) ، ((فاقدروا له)) كلمة ((اقدروا له)) احسبوا له وهو أخذ بالحساب إلا إنني مع هذا أرى أنه لا بد من الأخذ بالرؤية. وهذه الرؤية توكيد واعتماد عل الناحية أيضًا الشرعية في الإثبات في الشهادة وأن نأخذ بالأسباب الحديثة في هذه الرؤية البصرية فلِمَ لا يلجأ الناس الآن، وقد انتشرت الطائرات بأنواعها المختلفة وصعدت فوق السحب؟ أنظل معتمدين على أن نقف على الأرض أو على الجبال أو نصعد إلى المأذنة لنرى الهلال لم لا؟ والدولة عادة من دوائرها ووزاراتها الرسمية هي التي تتولى ذلك فلم لا تأخذ بالطائرة؟ طائرة هليوكوبتر ويصعد فيها أناس من أصحاب ذوي الأمانة والعدالة يراقبون الهلال وبهذا نوفق بين حساب ...(3/492)
فقصدي من هذا أننا نجمع بين الشهادة وبين هذا الأمر في هذا الأسلوب، يعني نطور الأسلوب، في هذا أنا أقول أيضًا: إن ما اقترحه الأستاذ العلواني، يعني اقتراحًا وسطًا لكن فيه تناقضًا هو قال: الحساب ليس قطعيًا ولا يؤخذ به كقطعي إنما يؤخذ به من ناحية قطعية نظرًا لما اختلف فيه الفلكيون ثم يطلب أن نحضر تقويمًا ونعتمد على التقويم في بداية الشهور فاعتمدنا أيضًا على شيء ظني بشيء ظني.
الشيخ طه جابر العلواني:
لنستأنس به فقط وليس لنقطع به.
الشيخ عبد العزيز الخياط:
الاستئناس به يعني يجوز ونستأنس به وهذا ظني على كل حال إنما أريد أن أقول باختصار وكما قلت: أنا أؤيد فتوى مجمع البحوث في القاهرة وما توصل إليه في هذا الموضوع وهو الرجوع إلى آراء كثير من العلماء في هذا الاعتماد لكن أقول مع هذا نعتمد على الرؤية معًا وهو ما أشار إليه بالحل العدل الذي طرحه الأستاذ العلواني مع اختلاف الأسلوب في هذا الأمر.
وأما ما يتعلق باختلاف المطالع فأحب أن أبين رأيي في هذا أنا مع رأي الجمهور أنه إذا ثبت الهلال في بلد إسلامي سواء اختلف خط الطول أو خط العرض فنأخذ به والاختلاف كما سمعت من بعض الفلكيين لا يؤدي إلى ثلاثة أيام أو يومين أو أربعة أيام، هو عبارة لا يتجاوز كما قيل لنا الأربعة والعشرين ساعة فمن هذه الناحية يؤخذ به حتى تظل كلمتنا في هذا المظهر الذي يعترض علينا دائمًا فيه كثيرًا حتى تظل كلمتنا واحدة واتجاهنا واحدًا.
ونحن كما أشار الأستاذ بكر إلى أنه في العام الماضي على ما أذكر ثبت في المملكة العربية السعودية وتبعت المملكة العربية السعودية ثلاث دول وعادة من عادتنا أن نجلس وبوسائل الاتصال الحديثة نتصل بجميع الدول العربية والإسلامية الممكن الاتصال بها، نتصل بالسعودية ونتصل بمصر ونتصل بالمغرب ونتصل بالجزائر ونتصل بتونس ونتصل كذلك بباكستان لنرى هل ثبت عندهم الهلال، فإذا ثبت في بلد واحد معتمد نتصل بالبلدان الأخرى ونخبرها بما توصل إليها مع مراعاة ما يصدر من الإذاعات الرسمية من بلاغات رسمية حول هذا من قضاة أو من وزارات الأوقاف بناء على شهادات الشهود العدول عندئذ يثبت في البلد، وعلينا أن نتبع هذا.
وحقيقة إذا كانت الأمة الإسلامية والعربية منها قد اختلفوا هذا الاختلاف في دولهم، إنسان يعيد اليوم، الثاني يفطر غدًا، وهكذا ويصوم اليوم الثاني ويفطر، مما جعلنا موضع هزء وسخرية عند شعوبنا قبل غيرنا، فآن الأوان أن نأخذ برأي الجمهور في هذا تيسيرًا على المسلمين وتوحيدًا لكلمتهم –وأنا مع الأستاذ الشيخ الخليلي- كلما أخذنا بالأيسر للمسلمين هو أفضل وأحسن ... وشكرًا.(3/493)
الشيخ المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أعتقد أن الخلاف الذي استمعنا إليه يوم أمس واليوم هو ناتج عن أمور مبدئية أولية حتى نتحدث في نطاق واحد.
الأمر الأول: هل أن الحساب ظني أو قطعي؟ الحساب الفلكي هل هو ظني أو قطعي؟ للوصول إلى معرفة أن الحساب قطعي أو ظني لنا طريقان:
الطريق الأول: وهو أن يدخل العالم الفقيه فيتعلم الفلك إلى أن يقتنع اقتناعًا كاملًا بأن الحساب الفلكي قطعي.
الطريق الثاني: هو طريق ما يعبر عنه بالتواتر، اليقين الذي يحصل للإنسان من اتباع أخبار مختلفة من أوجه متعددة لا يستطيع ردها بعد ذلك. وهذا هو الذي في إمكاننا لو جمعنا عشرة علماء من أهل الفلك كما اقترح الدكتور العلواني ما استطعنا لا يوجب هذا العلم.
لكن ونحن نتابع ما يحدث في الدنيا، فالمسابر التي تسبح الفضاء والتي الأبعاد فيها بين الكواكب أبعاد خيالية لا يستطيع الإنسان أن يتبين الرقم إلا إذا ما تأمل فيه لمدة طويلة فيقول: إن هذا المسبار سيصل إلى الزهرة وهو يقطع كذا كذا ألف كيلو متر في الثانية يصل إليها بعد ثلاث سنوات، هذا يصل إلى الكوكب بعد ثلاث سنوات بالضبط في الدقيقة التي يجب أن يصل فيها ولو زادت دقيقة واحدة لضاع في الفضاء.
فالقمر الذي هو أقرب الكواكب إلينا حسابه أكثر من القطعي، القمر المسبار الذي خرج من الأرض ونزل على القمر لو كان الخلاف أو عدم الدقة في الحساب بدقيقة واحدة لذهب هو ورواده، فنحن قد امتلكنا يقينًا بهذا التواتر من نواحي متعددة كثيرة بما يقوله الفلكيون من أنهم اطمأنوا اطمئنانًا كاملًا إلى أنه عندما يطبقون النظريات على الواقع العملي فإن الاختلاف لا يتجاوز جزءًا من ألف من الثانية، وجزء من ألف من الثانية هو أمر تقدره الحاسبات الإلكترونية، ولكن لا نستطيع بعقولنا لأن يرتد إلينا الطرح هو عبارة عن أضعاف هذا المقدار فجعل قضية الحساب أو التشكيك في أن الحساب قطعي هو كالتشكيك في أن اثنين مع اثنين أربعة. وأنه يمكن أن يخطئ الطفل فيقول: اثنان مع اثنين ستة. فهذا إمكان الخطأ من غير الاختصاص أو من ضعيف العقل وهو لا يؤثر في أن اثنين مع اثنين أربعة.(3/494)
أما أن الفلكيين مختلفون فهذا أمر غير صحيح، إن الفلكيين متحدون ومتفقون وأن الحسابات الفلكية كما رأيناها في التقاويم التي صدرت عن علماء الفلك المسلمين والذين نأمنهم في دينهم وتقواهم وورعهم فقد اتفقوا اتفاقًا كاملًا باللحظة والثانية والذين حضروا هذه الاجتماعات واستمعوا إلى الفلكيين وقد جاءوا من أطراف العالم الإسلامي وقابلوا حساباتهم انتهوا أو وجدوا أنفسهم متفقين.
الأمر الثالث: قضية اختلاف، ونعيدها اختلاف بين دخول الشهر الفلكي ودخول الشهر الشرعي لا يا سيدي لا يوجد خلاف، الفلكيون يقولون: الاقتران يقع في ساعة كذا ولكن هذا الاقتران لا يمكن معه رؤية الهلال، ماذا ترغبون يا أهل الشريعة؟ نقول: نحن نرغب في أن نرى الهلال، فيقولون: إن الهلال يمكن رؤيته حسب قواعد البصر وحسب بعد القمر عن الاقتران واستقباله لنور الشمس، تستطيعون رؤيته في هذه اللحظة ولن تستطيعوا رؤيته قبل ذلك. فليس هناك دخول شهر فلكي، وهناك دخول شهر حسابي وإنما هو أمر واحد لا فارق بينهما إلا أن الفلكيين كما يعطوننا ما قبل الاقتران يعطوننا تاريخ الاقتران ويعطوننا ما بعد الاقتران.
ما توصل إليه المجمع الفقهي في مكة المكرمة هو رأي المجمع الفقهي في مكة المكرمة. وقد رأينا أن علماء المسلمين كانت لهم أقوال تختلف باعتبار ما عندهم من المعطيات، وقد رأينا المجمع الفقهي فعلًا في مكة المكرمة قال قولًا ثم تراجع عنه وهذا ما رأيناه بالأمس.
الشرق والغرب قضية الشرق والغرب، وأن الشرق يرى الهلال وأن الغرب لم يثبت عنده الهلال، هذه في السنة يا سيدي في مكة المكرمة ثبت دخول الشهر بالرؤية ولم يثبت دخول الهلال في المغرب الأقصى إلا بعد أربعة أيام وكلاهما يعتمد الرؤية فهل هذا الخلاف موجبه شيء؟ موجبه إلا الرؤية لأنه لا نقول: إن الرؤية كاذبة دائمًا، ولكن الرؤية فيها كذب، وهو موجود وفيها مع الكذب خداع البصر.
أنا لو أتيت بالمجمع العلمي كله وقلت له: انظر إلى القطرة النازلة من السماء لحكموا كلهم بأنه خيط نازل ويشهدون بهذا وشهادتهم حق لكانت الشهادة هي باطلة. لأنها إنما هي قطرة لكن سرعة تحول القطرة هو أكثر من اقتدار البصر على الاستيعاب فيرونه وهو ليس بخيط، فخداع النظر أو ما يتراءى من شرارات في الكون تجعل الإنسان أنه رأى الهلال وهو لم يره. شهادة عشرين في أماكن مختلفة ليس دليلًا قطعيًا لأن الواحد عندما يرى في جمع كثير ولا يراه إلا هو فلا تعمل بشهادته ولا تتأيد من ناحية أخرى.(3/495)
أما التأثر بناء على مواقف مسبقة فهذا أرجو أن لا يقال مثل هذا الكلام وأن لا يتهم أي منا أنه يعمل بأشياء مسبقة وجاء إلى هنا وكلنا فيما أعتقد ولا أتهم أحدًا. وإنما أعتقد أن كل واحد إنما يرغب الحق، وأن أجله لا يدري متى سيأتيه ولا ينفعه مال ولا بنون ولا أي شيء في الدنيا.
ولا أتهم أحدًا ولا يَحْسُنُ لأي منا أن يتهم أحدًا، معظم الناس لا يعرفون الحساب ومعظم الناس لا يرون الهلال، معظم الناس أنا لا أرى ما أمامي من الكتابة التي كتبتها لو أزلت نظارتي لأرى الكتابة، فهل معنى هذا أني سأرى الهلال في يوم من الأيام؟ فكما أعتمد على الذين رزقهم الله البصر في الوقت الذي كانت وسيلة الرؤية هي البصر فقط فكذلك اعتمد على الذين رزقهم الله العلم بالحساب لأعتمد عليهم في معرفة دخول الشهر وخروجه. ولو أخذ الرائي الطائرة فهل كان ابن عباس يخالف، ابن عباس يخالف قطعًا لو أتاهم الخبر اليقين في الوقت؛ لأن القضية ليست قضية زمن هو قال: "لهم رؤيتهم ولنا رؤيتنا" لم يعلل بقضية البعد والقرب.
فالذي أطمئن إليه من ناحية يقينية ومن ناحية أخرى ترجيحية، أما الاطمئنان هو أن الحساب يقيني وبناء على أن الحساب يقيني فلا يمكن أن نترك اليقين إلى ظن والرؤية ظنية ولا يمكن بحال من الأحوال أن تأتي رؤية مستفيضة على خلاف الحساب الصحيح اليقيني وما هذا الذي ذكره الشيخ جعيط إلا كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} فهذه هي افتراض وشأن الافتراضات العقلية أو العقل عندما يتطوع بالنظر لكن في الحقيقة أن اليقين لا يمكن أن يخالفه يقين فاليقين واحد واليقين لا يرفع. وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس:
شكرًا ... مع الإشارة بأنكم يا شيخ تقول: إن عندك اطمئنانًا على أن الحساب يقيني، معناه عندك شك وأنت تقول عندي اطمئنان.
الشيخ المختار السلامي:
أنا مطمئن بوجود الله وأنا مطمئن بذكر الله وأنا أطمئن بوجودكم معي وأنا مطمئن إلى أني في المجلس هنا ومطمئن أنه ليس عندي شك.(3/496)
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه وحده أستعين ...
الحقيقة الموضوع حساس وخطير لأنه يتصل بشعيرة من شعائر الدين وركن من أركان الإسلام. وفي هذا الأمر يجب علينا أن نلتزم بنصوص الكتاب والسنة ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) ولا نستطيع أن نبدل بحال من الأحوال النصوص من أجل أخطاء طارئة، إنما الأخطاء ممكن تلافيها بالحرص والتثبت من الشهود والاستعانة بالمراصد الدقيقة والحساب الدقيق، وهذا ليس فيه خروج عن النصوص. والله سبحانه وتعالى قال: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} ثم إن الأمة الإسلامية أمة واحدة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} وأنا أقول بأن الحساب يختلف عن المحاسب فيه فرق بين الحساب وفيه فرق بين المحاسب وفيه بين الرؤية وبين الرائي، المحاسب قد يقع في الخطأ والرائي قد يقع في الخطأ. الواجب في الحقيقة الالتزام بالنص ثم الواجب الاستعانة بالعلم. ولكن المرجع هو النص ولا بأس من الاستعانة بالمراصد وبالحساب، وإذا ثبت شرعًا في دار إسلام فأنا من رأيي أن يثبت شرعًا في بلاد المسلمين عامة حتى في بلاد الكفار التي فيها أقليات إسلامية؛ لأن اليوم الكرة الأرضية أصبحت صغيرة وأصبح الاتصال ممكنًا في لحظة واحدة في جميع ديار المسلمين وفي جميع الكرة الأرضية. وشكرًا لكم.
الشيخ أحمد محمد جمال:
بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله رب العالمين وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أنا كنت طلبت الكلام أمس ولكن حيل بيني وبينه بما حولتم إليه الحوار إلى قضية الإنعاش.
كنت أريد أن أتحدث عن مفهوم الحديثين النبويين ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) والحديث الآخر الذي يقول فيه عليه أفضل الصلاة والسلام ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) ولكني وجدت الشيخ المختار والأستاذ القرضاوي كفياني الحديث في هذا الموضوع أو في مفهوم هذين الحديثين اللذين يتمسك بهما من يقول بالرؤية وحدها.
وأريد أن أقول أيضًا إن القضية مطروحة أمامكم الآن من أجل اجتهاد جديد لاختلاف المسلمين في توحيد أهلتهم أو توحيد صيامهم وإفطارهم، فلا ينبغي أن يتمسك فريق بحديث الرؤية البصرية أيضًا، هناك اختلاف هل هي رؤية علمية أو رؤية بصرية؟ ما تعرض المجمع لها في حواره أمس ولا حواره اليوم، لأن الذين يقولون بأن الرؤية علمية يتأيدون بقول الله تبارك وتعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أي من علم يعني ليست الرؤية بصرية دائمة قد تكون علمية.(3/497)
فالذي أريد أن أقوله أنه ينبغي للمجمع أن يصدر عن فكر جديد وعن اجتهاد جديد، لا يمنع اتخاذ الوسائل العصرية العلمية الحديثة فأرى توفيقًا للآراء أن نعتمد الرؤية أولًا وأساسًا ونستعين في ذات الوقت بالوسائل الحديثة بالحساب الفلكي وبالمراصد أيضًا. وأنا أركز هنا على المراصد لأن الأبصار ضعفت الآن نحن أولادنا وأطفالنا يولدون وفي أعينهم نظارات مكبرة، فالاعتماد على الشهادة الرؤية البصرية وحدها لا يكفي الآن. فلا بد من الاستعانة بالحساب الفلكي وبالمراصد التي تعين في التقريب والتكبير.
وأذكر هنا بهذه المناسبة أن الملك عبد العزيز رحمه الله كان لا يعتمد على عامة الناس يقول: من رأى منكم الهلال فليحضر إلى المحكمة ويشهد، كان يبعث قضاة المحكمة الشرعية الكبرى إلى جبل ليروا بأنفسهم ويتحروا بأنفسهم ويكونون محل ثقة لا نشك الآن في شهادة الشهود العادلين. فالملك عبد العزيز رحمه الله كان يفعل ذلك، وأعتقد أن في مصر أيضًا يبعثون بالمفتي إلى مكان ليثبت التحري. فأرى أيضًا أن لا تعتمد شهادة عامة المسلمين، إنما تختار رجالًا بصراء أمناء لتحري الرؤية فإذا جمعنا بين الرؤية البصرية والحساب الفلكي والمراصد التي تعنيننا على الرؤية وأن يكون ذلك من قبل علماء أو قضاة في كل بلد أعتقد أن القضية منتهية بذلك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ عبد الله بن بيه:
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
في الحقيقة إن هذا الموضوع أشبع درسًا وكل ما نقوله هو تكرار لما قيل من وجه إذا لم يكن تكرارًا حرفيًا فهو تكرار معنوي، ولكن لا بد من الإدلاء بالدلو في هذا الموضوع وهو موضوع عبادي وتعبدي، عبادي يتعلق بالعبادة، وتعبدي بمعنى أنه لا ينبغي أن يكون معللًا لأن التعبدي في اصطلاح الفقهاء هو ما ليس معللًا لأنه وضع من الشارع.
في هذا الموضوع ظهرت جملة من الشبه والأقوال:
الشبهة الأولى: الشبهة العلمية الموهومة. هذه الشبهة كأنها أصبحت موضة وكأنها أصبحت نوعًا من التطور في مجال العلم وكأنها تجدي لنا نفعًا، لا أتهم أحدًا، أعتقد أن الجميع يتكلمون عن حسن نية وعن قناعة وأنا أيضًا أتكلم عن حسن نية إن شاء الله وعن قناعة، أعتقد أن البحث يدور حول شعيرة وحول قضية مهمة تتعلق بإثبات التكليف.(3/498)
متى يكون العبد مكلفًا بالصيام؟ ومتى يكون مكلفًا بالفطر؟ هذه مسألة واضحة، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنه مكلف بالصيام عند الرؤية ومكلف بالفطر عند الرؤية، قال ذلك في عبارات واضحة ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) ((فإذا رأيتموه فصوموا)) . مرة في الشرط، والشرط من المفاهيم القوية بمعنى أننا إذا لم نره لا نصوم ومفهوم الشرط قال به كثير من الناس ممن لا يقول بمفهوم المخالفة.
إذن ألا يسعنا ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكما قال الشيخ في الزمان الماضي قال له: هذا الذي تدعو الناس إليه علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أم جهلوه؟ قال له: جهلوه وعلمته أنت يا لكاع. قال له: لا أقلني، قال له: أقلتك. والمسألة على حالها علموا أم جهلوا؟ قال: علموا ادع الناس إلى مثل ما دعوتهم إليه. قال: لا. قال: ألا يسعك ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه؟ فقال الخليفة: بلى أن ذلك ليسعني.
يسعنا أيها الإخوان ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. نحن أمام رؤية وهي مشاهدة بالعين وأمام استنباط واستنتاج عن طريق ما يسمى بعلم الحساب أو علم الفلك. رؤية العين والاستنباط: رؤية العين لا يمكن أن تكون كاذبة والاستنباط أيضًا قد لا يكون كاذبًا، لا أحكم عليه بالكذب. رؤية العين: شخص رأى شيئًا لا يمكن أن تقول له: أنت لم تر، الأخ يقول بالأمس: إن هذه الرؤية كاذبة، لم ير شخص، لم ير شيئًا مطلقًا.
لا يمكن أن يقبل هذا عاقل: أنا أرى شيئًا تقول: لا ترى شيئًا. إن الحقائق كلها متبدلة ومتغيرة ولا يمكن لإنسان أن يعتمد على شيء إذا لم يعتمد على رؤية حسية. كما قال الإخوان: إن هذا الدين مبني على اليسر وإن من الوسائل ما يرفضه الدين ولا يعتمد عليه. الدين يقدم النادر على الغالب في كثير من المسائل فلو ادعى أورع الناس على أفقه الناس تافهًا كدرهم ما صدق، لو أدعى تافهًا كدرهم، لو ادعاه عمر على أي فاسق ما قبل منه إلا بشهادة. معنى ذلك أن الدين ألغى الغالب واعتبر النادر لحكمة فلا يمكن فرض بعض المفاهيم على الدين.
وفي رأيي أنه ينبغي لنا أن نرجع إلى ما يبرئنا أمام الله سبحانه وتعالى كما قال أخي الشيخ السلامي، كل واحد يحتمل أن يموت في أي وقت.(3/499)
فما هو الموقف المبرئ في الحقيقة أمام الله سبحانه وتعالى في مسألة الأهلة؟ هل هو الاعتماد على الرؤية أم الاعتماد على الحساب؟ إذا كان بعض الإخوان مقتنعًا بأن الحساب قطعي فبعضنا لا يقتنع بذلك. الأخ يقول: يراه أهل المغرب قبل أهل المشرق والدكتور شيخنا القرضاوي يقول: هو الصحيح، قنون في حاشيته على الرهوني يقول: يراه أهل المشرق قبل أهل المغرب ورؤية أهل المغرب.
الشيخ يوسف القرضاوي:
هذا صحيح أهل المشرق المفروض يرونه قبل أهل المغرب.
الشيخ عبد الله بن بيه:
هذا الذي أنتم قلتم: المغرب، قلتم ما قاله الفلكي بالأمس.
الشيخ مختار السلامي:
إذا ثبت مشرقًا ثبت مغربًا.
الشيخ عبد الله بن بيه:
لا.. لا.. لا هذا عكس ما أريد أن أقوله، أنا أقول: إن أهل المشرق يرون الهلال قبل أهل المغرب ورؤيتهم غير ملزمة لأهل المغرب، ورؤية أهل المغرب ملزمة لأهل المشرق ذلك ما قاله قنون في حاشيته على الرهوني، وممكن أن تراجعوها.
الشيخ المختار السلامي:
أحب أن أقف عليه لأن مذهب المالكية خلاف الرهوني، والرهوني الذي هو أقدر من قنون.
الشيخ عبد الله بن بيه:
إذن الخلاف ثابت، العلماء بعضهم يقولون: المشرق رؤية أهل المشرق ملزمة لأهل المغرب، وبعضهم يقول: رؤية أهل المغرب ملزمة لأهل المشرق، لا العكس ونحن نشاهد طيلة هذه القرون أن أهل المشرق يرون الهلال أولًا كما يرون الشمس قبل رؤية أهل المغرب لها، هذا شيء مطرد. وعرفه نام إذا سألت أي فلاح في مصر أو أي راع في موريتانيا يجيبك بهذا لا يحتاج إلى شيء، وهذا الدين كما قال مالك إلى العذراء في خدرها تريد أنت وأصحابك أن تجعلوه جدالًا. هذا الدين يسر، ويسر بهذه القواعد وانطلاقًا من هذا لا يوجد خلاف ولا ينبغي أن يوجد خلاف حول هذه القضية ما دام رائدنا هو رفع التكليف عن الناس بصفة مقبولة ومرضية عند الله ورسوله إن شاء الله.(3/500)
هناك في الحقيقة تخوف حقيقي وهو تدني عدالة المسلمين في هذا الزمان وعدم مبالاتهم وعدم اعتنائهم برؤية الهلال، هذا تخوف في محله وهو تخوف مشروع. علاج هذا قد عالجه العلماء قبلنا، يقول الزقاق بأن يكون الخبر مستفيضًا ولا أقول البينة مستفيضة أو أن يكون متواترًا والمتواتر لا حد له وإن كان السيوطي حدد المتواتر، وقوم حدده بعشرة وهو لدي أجود وقول باثني عشر وعشرين يحكي أربعين أو سبعين فيه هذا في مجال الحديث، وبعضهم قد ادعى فيه العدم وبعضهم عزته وهو أهم فالمتواتر لا حد له. فنحن نستكثر من العدول نلاحظ تدنيًا في عدالة الناس نستكثر من الشهود ونوصي بهذا وندعو جماهير المسلمين إلى الخروج لمشاهدة الهلال ولتحري الهلال وللبحث عنه.
هذا ما نستطيع أن نفعله في مجلسنا هذا، يسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الخطأ في الحساب قال بعض الإخوان: الخطأ في الحساب قليل مغتفر، الخطأ في الحساب مغتفر والخطأ في الرؤية ليس مغتفرًا تعلمون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين في أربعة مواضع سها في الصلاة، فالصلاة مرقعة. فالخطأ في الصوم أيضًا أن نصوم يومًا آخر يومًا زائدًا أن نقضي ذلك اليوم الذي فات.
الأمر كما يقول الشاطبي الأمر ليس مهولًا إذن لا ينبغي التجريح في الرؤية، والتجريح في الرؤية لو قلنا بلازم المذهب، لو قلنا بالمآل كما يقول ابن رشد بلازم المذهب لكان كفرًا، لأن تجريح الرؤية تجريح لوسيلة حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتجريح الرؤية مطلقًا يقال: الرؤية لا يمكن أن تعتمد ولا يمكن أن تعتبر تجريحًا في هذه الوسيلة التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم حددها بتعليل قال ((صوموا لرؤيته)) لأجل رؤيته حددها في مفهوم الشرط، ((إذا رأيتم الهلال فصوموا)) في عبارات مختلفة في غاية الوضوح، فهمها الصحابة تلقوها منه، فهمها التابعون، فهمها الأئمة جميع الأئمة إلى يومنا هذا.(3/501)
فلا أرى أن يكون مجلسنا هذا مجلسًا مهمته هدم الدين أو التجاوز على الدين، ولا أرى ذلك نافعًا في عصرنا ولا يقدم ولا يؤخر، لا يقدم ولا يؤخر حضارة، قلنا: إن الحضارة هي العمل النافع الذي ينفعنا في دنيانا وينفعنا في آخرتنا، أما مثل هذه القرارات لا أراها مطلقًا نافعة.
سيدي الرئيس أريد أن أذكر أن النووي وقد أشار شيخنا القرضاوي أن النووي قال: إن الشافعي كغيره لا يقول بالحساب ذلك كلام النووي. إذن فليراجع فلعل شيخنا القرضاوي اطلع على نسخة لم أطلع عليها. النووي قال: إن الشافعي لا يعتمد مطلقًا الحساب وأنه كغيره.
الشيخ يوسف القرضاوي:
ليس المذهب هذا، المذهب فيه أقوال.
الشيخ عبد الله بن بيه:
ولكن قال: إن الشافعي قال النووي بالحرف الواحد: إن الشافعي كغيره لا يقولون مطلقًا.
الشيخ يوسف القرضاوي:
يصح قول في المذهب يجوز.
الشيخ عبد الله بن بيه:
هذا قول ابن سيرين.
الرئيس:
لغير الشافعية أما أئمة المذهب فقد نفوه لا إشكال.
أئمة المذهب الشافعي قد نفوا نسبته إلى الشافعي ولا ينبئك مثل خبير.
الشيخ عبد الله بن بيه:
نعم، إنه نفى نسبته للشافعي، العلم لا يختلف مع الدين، صحيح أن العلم لا يأمر ولا ينهى في هذا الموضوع، الدين يأمر وينهى، الشارع رافع واضع، العلم لا يرفع شأنًا ولا يضعه في هذه القضية فلا خلاف بين العلم والدين هذا خلاف مصطنع. أعتقد أنا نحن نتكلم في ناحية ليست هي موضوع البحث، العلم ليس موضوع البحث، العلم والدين، العلم لا يرفع شيئًا ولا يضعه، العلم يقول: إن الخنزير يمكن أن تنزع عنه كل دودة والجراثيم التي فيه وأن لحمه يصبح طيبًا، الدين ينهى عن الخنزير، الله سبحانه وتعالى قال: إن الخنزير لا يجوز لنا أكله، فهل يمكن أن نقول اليوم: العلم أباح لكم أكل لحم الخنزير لأنه يستطيع نزع جميع الجراثيم.(3/502)
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا الموضوع الذي نتداول النظر فيه قد بحثه غيرنا من قبل في مؤتمرات عديدة والذي دعا إلى بحثه من جديد هنا هو الواقع المر الذي يعيشه المجتمع الإسلامي. وقد أدلى كل واحد بدلوه في هذا الموضوع، وأنا أشكر الشيخ عبد الله بن بيه على علمه الواسع لكثير من النصوص، وهذا ما يفيدنا ونطمئن إليه، لكن ليفرض علينا واحد من الناس رأيه فهذا غير مقبول.
وهذا المؤتمر نستمع فيه إلى الآراء بغاية الأدب واللطف وعندما نستمع إلى الآراء تسجل هذه الآراء وقد استمعنا لنفي هذه الحيرة والاضطراب وكل واحد منا هنا هو لخدمة الدين، إذن الاتجاهات التي اتضحت من وراء دراسة هذا الموضوع ثلاثة:
الاتجاه الأول: هو الالتزام بالرؤية وعدم الانتقال إلى غيرها مهما كان الأمر، وهو الرأي الذي بينه عدد كبير من إخواننا مع غاية من الأدب واللطف في عرض الحديث.
الاتجاه الثاني: هو أنه يجوز أن ننتقل من هذه الوسيلة التي هي في نظر بعض الإخوان ليست ملزمة إلى وسائل أخرى جدت ويمكن الاستعانة بها وهي قطعية ومفيدة للعلم وهؤلاء هم الذين يقولون بالحساب. فهذان اتجاهان اثنان.
هناك اتجاه ثالث: يقول نحن نطمئن إلى الرؤية وهي الأصل ولكن بعض الظروف التي حصلت في العام الماضي والذي قبله ومن سنين جعلت بعض الناس لا يحتاطون في الإعلان بالرؤية فيا لوقت المناسب إذ يعلنون عن وجود الهلال قبل القرآن، وهذا ما لا يمكن أن يصح لا شرعًا ولا منطقًا ولا علمًا، وبناء على ذلك فهم ينادون بالاحتياط في الرؤية وبالاستعانة بالحساب ليتمكنوا من الاحتياط لدينهم ولعبادتهم، فهل في هذا ضير؟
وعندئذ هذه القضايا الثلاث أو الأوجه الثلاثة مطروحة على حضراتكم لتبتوا فيها بالاختيار أو بالتصويت أو بما تشاءون لنستطيع أن نحرر القرار ويكون القرار علميًا مجمعيًا معللًا، وشكرًا لكم.(3/503)
وبذلك فإني أقترح إنهاء الحديث في هذا الموضوع حيث تبينت الاتجاهات، وتبينت الاتجاهات من أمس ونحن أجلنا الموضوع فقط للاطلاع على الجانب الفلكي وقد اطلعنا عليه فلا حاجة إلى الاستزادة من القول، وشكرًا لكم.
الشيخ وهبة الزحيلي:
أبدأ بالعمل باقتراحات فضيلة الأمين العام لقضية: هل إذا رئي الهلال بأي وسيلة نعتمدها؟ هل تلزم باقي الأقطار بهذه الرؤية أو لا تلزم؟ يعني الشق الثاني.
الأمين العام:
القضية هي بالنسبة لتوحيد المطالع أو اتفاق الأمة الإسلامية على الأخذ بتلك الرؤية أو بالحساب أو بما سننتهي إليه. هذا أمر موكول إليكم، وقد رأيت في الحديث الذي دار أن اتجاه أكثر الناس إلى عدم الأخذ باختلاف المطالع بمعنى إلى توحيد الأمة في قيامها بمواسمها الشرعية وبصيامها، فإن كان هناك من يتحفظ أو يخالف يسجل رأيه.
الشيخ عبد الله بن بيه:
نحن نرى اختلاف المطالع ولأنه واقع.
الرئيس:
شكرًا.. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فأمامنا قضيتان:
الأولى: مدى تأثير اختلاف المطالع على توحيد الرؤية من عدمها.
والثانية: مدى الاعتماد على الحساب في إثبات أوائل الشهور القمرية.
وهاتان القضيتان قد درستا في محافل ومجامع علمية كثيرة، ولعل من آخرها درس في مجمع مكة في هاتين القضيتين والقرار الذي صدر من مجمع مكة قد وزع عليكم والقرارات الأخرى التي صدرت من مجمع البحوث الإسلامية أو من اللجنة الشرعية الفلكية في الأزهر سمعتم عرضًا عنها، ومنه ما أشير إليه في بعض هذه البحوث.(3/504)
وقد انتهى مجمع مكة في قضية اختلاف المطالع إلى أن مذهب الجماهير من أهل العلم على اختلافها ثم قرروا في آخر قرارهم نظرًا لأوضاع البلدان الإسلامية وتلافيًا أو وطلبًا للاستصلاح قرروا أن أهل كل بلد يتبعون مفتيهم وما يقرره أهل العلم فيهم، وقد أثنى على هذا عدد من الأخوة الحاضرين من أعضاء هذا المجمع. فأرجو من أصحاب الفضيلة الذين يثنون على ما قرره مجمع مكة في مسألة اختلاف المطالع بهذا الرأي أن يتكرموا بالإشارة بأيديهم من الأعضاء العاملين.
الشيخ يوسف جيري:
سيدي الرئيس.. ينبغي –استيضاحًا- لو تكرمتم تعيدوا عرض موقف مجمع مكة لو تكرمتم. أولًا الموقف الأول ثم الموقف الثاني؛ لأننا فهمنا منكم الآن أنهم كانوا أخذوا قرارًا في الأول.
الرئيس:
لا، ليس فيه هذا القرار الأول والثاني، ليس في المسألة هذه، هذا في طفل الأنابيب.
الشيخ يوسف جيري:
في المسألة هذه أخذوا قرارًا واحدًا.
الرئيس:
قرار واحد.
الشيخ يوسف جيري:
نريد أن نعرفه.
الرئيس:
قالوا هنا: إنه قد قرر العلماء من كل المذاهب أن اختلاف المطالع هو المعتبر عند كثير، فقد روى ابن عبد البر الإجماع على ألا ترعى الرؤية فيما تباعد من البلدان إلى آخر، ثم قالوا في آخر قراراهم: وعلى ضوء ذلك قرر مجلس مجمع الفقه الإسلامي أنه لا حاجة إلى الدعوة إلى توحيد الأهلة والأعياد في العالم الإسلامي لأن توحيدها لا يكفل وحدتهم كما يتوهمه كثير من المقترحين لتوحيد الأهلة والأعياد وأن تترك قضية إثبات الهلال إلى دور الإفتاء والقضاء في الدول الإسلامية، لأن ذلك أولى وأجدر بالمصلحة الإسلامية العامة وأن الذي يكفل توحيد الأمة وجمع كلمتها هو اتفاقهم على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع شئونهم والله ولي التوفيق.(3/505)
الشيخ عبد السلام العبادي:
إذا سمحت سيدي.. نقطة نظام.. إذا سمحت قليلًا، أظن نحن في هذا المجمع ليس مطلوبًا منا ولا يجوز أن نعرض قرار مجمع آخر للتصويت هنا، نحن نبحث مسائل علمية ونستأنس بما انتهت إليه المجامع الأخرى.
الرئيس:
فقط سأقول كلمة واحدة لننهي الموضوع، أنا أقول كلمة واحدة أقول: هل تثنون على قرار مكة أم لا؟ أنا لم أقل هذا وإنما أقول: إن عددًا من الإخوان أصحاب الفضيلة المشايخ ثنوا على قرار مكة ورأوا أن ينتهي الموضوع في هذه الجزئية بما قرره الفقهاء في مجمع مكة، فانطلاقًا من هذه كما فعلنا في طفل الأنابيب بالأمس، فما الذي أجاز لكم هذا في طفل الأنابيب بالأمس وتمنعونه اليوم؟
الشيخ يوسف جيري:
لسبب واحد أنه بالنسبة لطفل الأنابيب عرضنا الفكرتين، نحن نريد الآن هذا موقف مجمع مكة، الموقف المعاكس أيضًا نريد أن نعرفه كيف نعمل تصويتًا قبل أن نعرف الاثنين؟
الرئيس:
المسألة بحثت بالأمس وبحثت اليوم وأنت تسمع الآراء.
الشيخ يوسف جيري:
الآن لم تكتفوا بعرض الآراء التي حصلت بين الأمس واليوم بل رأيتم أن تذكرونا بما قاله مجمع مكة.
الرئيس:
عرضها معالي الأمين العام وأنتم تسمعون في مسألة الحساب وأنا الآن في دور استعراض الآراء هذا واضح.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
إذن لماذا لا تعرضون الموضوع بعنوانه: من يرى اعتبار اختلاف المطالع أو من لا يرى ذلك، لماذا لا يكون بهذا الشكل؟(3/506)
الشيخ عبد السلام العبادي:
في الواقع في مجال التصويت والمعهود في كل المجالس والمجامع أن تعرض القضية أولًا، قضية الخلاف ثم بعد ذلك تعرض وجهات النظر الواردة فيها ثم يترك الأمر للتصويت.
الرئيس:
على كل نحن نستطيع أن نجمع بين هذه حتى نتلافى الخلاف الآخر، فعلى كل نحن لدينا قضيتان:
أما القضية الأولى: فهو مدى تأثير اختلاف المطالع ولدينا في هذه المسألة فيما تحصل لنا رأيان:
الأول: هو تأثير اختلاف المطالع وهذا ما ذهب إليه قرار مكة وأن يترك لأهل كل بلد الرجوع إلى المرجع الشرعي في البلاد، هذا هو الرأي الأول.
الرأي الثاني: أنه لا تأثير لاختلاف المطالع وأنه إذا ثبت ثبوتًا شرعيًا في بلد إسلامي فإنه يلزم المسلمين في جميع أنحاء العالم أن يلتزموا بهذه الرؤية.
فأنا أقول بالنسبة للرأي الأول وهو تأثير اختلاف المطالع وأن يعود أهل كل بلد إلى مفتيهم ومرجعهم الشرعي في البلاد، الذين يصوتون على هذا أرجو الإشارة بأيديهم.
الشيخ علي التسخيري – الشيخ هارون – الشيخ أبو بكر – الشيخ عبد اللطيف سعد – الشيخ تقي عثماني – الشيخ عبد الحميد – الشيخ صالح طوغ – الشيخ عمر جاه – الشيخ عبد الله البسام – الشيخ الخليلي عبد الرحمن باه – الشيخ محمد عبده عمر – الشيخ عبد الله إبراهيم – الشيخ محمد عبد الرحمن.
الشيخ تقي العثماني:
سيدي الرئيس التصويت هذا لإثبات اختلاف المطالع.
الرئيس:
لاختلاف المطالع.(3/507)
الشيخ تقي العثماني:
اعتبار اختلاف المطالع أن يكون لكل أهل بلد رؤيتهم.
الرئيس:
يعني يرجع أهل كل بلد إلى مفتيهم، إلى رؤيتهم.
الشيخ تقي العثماني:
يعني إلى رؤيتهم؟ فهذا ما لا أوافق عليه.
الأمين العام:
حضرات أصحاب الفضيلة من فضلكم.. معالي الرئيس قدم الموضوع بغاية اليسر والسهولة لنخرج من هذا الخلاف، أريد أن أعود إلى طرح الموضوع حتى نكون على بينة، الموضوع فيها اتجاهان:
الاتجاه الأول: يرى أن الرؤية تكون في بلده ويقتصر عليها ولا يأخذ بالرؤية العامة التي تشمل كل الأقطار الإسلامية بمعنى يقول باختلاف المطالع.
والاتجاه الثاني: هو عدم القول باختلاف المطالع وتوحيد المسلمين عامة في رؤية واحدة يتبعونها، فالذين يلتزمون بالرؤية المختلفة بمعنى أن لكل بلد رؤية، من هم الذين يوافقون على هذا؟
الشيخ الصديق الضرير:
نرجو اعتبار اختلاف المطالع، نحن لا خلاف بيننا في أن المطالع مختلفة وإنما الخلاف نعتبرها أو لا نعتبرها.
الأمين العام:
أنا أتحدث على اعتبارها.
الشيخ الصديق الضرير:
لأن قرار مكة الذي يتحدث عن اختلاف المطالع.
الأمين العام:
القضية هي اعتماد اختلاف المطالع، من الذي يوافق على اعتماد اختلاف المطالع؟
الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور:
عفوًا السيد الرئيس، سؤال يعرض للرئاسة أرجو الجواب عليه، إذا كان لأحدنا نظرية توفيقية ليست مع الأخذ باعتبار اختلاف المطالع ولا باتحاد المطالع، نظرية توفيقية لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.(3/508)
الرئيس:
يكون له رأي ثان، يخرج من الفريقين يحدث قولًا ثالثًا.
الأمين العام:
من الذي يرى اعتبار اختلاف المطالع؟
الرئيس:
الشيخ أبو بكر دوكوري – الشيخ محمد بن عبد اللطيف السعد – الشيخ عبد الحميد بن باكل – الشيخ صالح طوغ – الشيخ عمر جاه – الشيخ الخليلي – الشيخ عبد الرحمن باه – الشيخ محمد عبد الرحمن – الشيخ عبد الله البسام – الشيخ عبد الله بن إبراهيم – فيه أحد من غير الإخوان الذين سمعنا أسماءهم، وبكر أبو زيد أنا، كم صاروا يا شيخ؟
الشيخ عبد السلام العبادي:
أحد عشر اسمًا.
الرئيس:
بقي من لا يرى توحيد الرؤية.
الشيخ صابون – الشيخ السلامي – الشيخ هارون – الشيخ روحان – الشيخ عطا السيد – الشيخ آدم – الشيخ محمد شريف – الشيخ رجب – الشيخ الخياط – الشيخ البزيع – الشيخ يوسف – الشيخ موسى فتحي – الشيخ عبد العزيز عيسى – الشيخ محمد عبده عمر – الشيخ محمد سالم – الشيخ مصطفى الزرقاء – الشيخ الضرير – الشيخ طه –الشيخ عبد الستار أبو غدة – الشيخ خليل الميس – الشيخ عبد السلام العبادي.
الشيخ هشام برهاني:
هناك رأي لم يطرح أصلًا، وهو أنه نحن نستطيع أن نجمع بين الأمرين بحيث أولًا نقرر أن الحقيقية الشرعية وهي إثبات بدء الشهر ونهايته على الرؤية هذه حقيقة لا يجوز الخروج عنها، هذه نقطة، أنا أعرض قضية وأن هناك القضية الثانية التي جرت على لسان كثير من الإخوة الحاضرين وهي أن حقائق العلم لا تناقض حقائق الشرع، هذه قضية.
الأمر الثاني: أن العلماء اختلفوا على ثلاثة أقوال في هذه القضية:
قول يقول باختلاف المطالع، وقول لا يقول باختلافها، وقول باعتبار الاختلاف في حال البعد لا في حال القرب هذه قضية ثالثة، وليست قضيتين إنما ثلاث.(3/509)
ونحن إذا استطعنا أن نفهم حقائق العلم لا يمكن أن نختلف على هذه القضية أصلًا ولو أن علماء الهيئة عرفوا المراد عند أهل الشريعة لما أخطأوا أيضًا في الحساب فنحن نريد أن نتوسع في هذه القضية من الناحية العلمية فإذا صارت يقينية فأظن أن لهذا الخلاف أصلًا لا يمكن أن يتم.
ولذلك أقول وأثني على ما ورد في كلام الخبير أمس، العلماء، علماء الهيئة عندما تكلموا على الهلال والرؤية قالوا: الكرة الأرضية لا يمكن أن ترى الهلال في يوم واحد وهذا يثري قضية اختلاف الطالع لأنها حقيقة علمية وحقيقة شرعية، وأيضًا قالوا يفصل بين الجزئين خط يسمى خط اختلاف المطالع، هذا يحدد بدقة حتى بالثانية، وهذا يعتمد خطوط الطول أكثر مما يعتمد خطوط العرض، فإذا استطعنا أن نتثبت من هذه الحقائق.
وقالوا أيضًا بأن الذين يقعون غرب خط المطالع كلهم يرون الهلال وكلما ابتعدنا عن هذا الخط إلى جهة الغرب كلما أصبحت الرؤية أوضح، وهذا مما أحب أن أسجله بالنسبة للكلام الذي ورد على ما عرضه مولانا الشيخ بن بيه، حقيقة علمية هذه لو استطعنا، لماذا لا يرى الهلال؟ لوجود الشمس فإذا غربت الشمس ظهر الهلال فكلما اقتربنا من الليل كلما كان ظهوره أوضح ولذلك فإن الجهات التي تقع غرب خط المطالع تكون الرؤية فيها أوضح بينما الجهات التي تقع شرق هذا الخط لا يمكنها أن ترى الهلال أصلًا.
فنحن نريد أن نتثبت من هذه القضايا وقد طرح أخونا الدكتور العلواني أن يكون هناك ندوة يجمع فيها عدد من المتخصصين لتصبح هذه الحقائق معلومة لدينا وبعد ذلك نصدر حكمنا لأن إصدار الحكم قبل التثبت من هذه الحقائق ومحاولة الجمع بين حقائق الشرع وحقائق العلم أمر ضروري وإلا لا نستطيع أن نفعل شيئًا، والله تعالى أعلم.
الشيخ محمد سالم عبد الودود:
هناك ثلاث نقط نقول: أولًا قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه)) هذا ورد في معرض النهي عن أنه يتقدم شهر الصيام بيوم من شعبان هذا هو سبب الحديث وسبب نزول الحديث.(3/510)
ثانيًا: أن رأيي الذي رفعت أصبعي لأعبر عنه هو رأي السادة المالكية، وهذا من غير تعصب ولكنها مدرسة كما أقول: السادة المالكية يرون أنه لا اعتبار باختلاف المطالع ولا بثبوت الحكم إذا ثبت عند حاكم سواء إن كان ذلك الحاكم عامًا أو خاصًا فإنه يلزم سائر البلدان إلا ما نقل ابن عبد البر من الإجماع، وإجماعات ابن عبد البر غير دقيقة، إلا ما نقل من عدم اعتبار الرؤية فيما تناءى من الأقطار ومثل خراسان من الأندلس.
فالرأي الذي يتحصل على مذهب المالكية أن الهلال مثلًا إذا رؤي في مكة أمكن لأهل نواقشوط ولأهل طهران أن يعتمدوا الرؤية في مكة، ولكن إذا رئي في نواقشوط فلا يمكن لأهل طهران أن يعتمدوا على رؤية أهل نواقشوط لأنهما قطران متنائيان جدًا، وبهذا يصبح من المناسب أن تكون بحسابنا في مكة حكمًا بأنها لا تبعد من الأقطار الغربية بعد خراسان من الأندلس ولا تبعد من الأقطار الشرقية بعد خراسان من الأندلس.
الملاحظة الأخيرة عندي أن حادثة كريب تشهد لما قاله أهل الفلك بأن معاوية ومن معه من المسلمين رأوا الهلال ليلة الجمعة، أما أهل الحجاز فلم يروه إلا ليلة السبت فهذه تشهد بما يقوله الفلكيون من أن الرؤية في المغرب لا تستلزم الرؤية في المشرق، وشكرًا.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم ...
أما بالنسبة للقضية الثانية وهي مدى الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات أوائل الشهور العربية.
الشيخ تقي العثماني:
انتهينا من القضية الأولى.
الرئيس:
انتهينا..
الشيخ تقي العثماني:
هناك قول ثالث.
الرئيس:
إنك سمعت أن الأكثرية رفعوا أيديهم وسجلت أصواتهم، كم هم عددهم يا شيخ؟
الشيخ عبد السلام العبادي:
اثنان وعشرون.
الشيخ يوسف جيري:
هذا الذي كنا نبغاه.
الرئيس:
عددكم اثنان وعشرون وأعلن عن عددهم الشيخ عبد السلام.(3/511)
القضية الثانية في مدى الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات أوائل الشهور القمرية، وقد سمعتم البحوث سواء إن كانت من طرف بعض الإخوان الفلكيين أو من خلال مداولاتكم، وسمعتم ما تقرر في عدد من المجامع العلمية سواء في مجمع البحوث العلمية بمصر، أو في مجمع اللجنة الشرعية بمصر بالأزهر، أو في مجمع الفقه بمكة، وهناك عندنا ثلاث اتجاهات:
الاتجاه الأول: هو الاعتماد على الرؤية، متى ثبتت الرؤية شرعًا فإنه يعتمد عليها ولا يلتفت إلى الحساب.
والرأي الثاني: هو أنه يعتمد على الحساب ولا يلتفت إلى الرؤية إذا خالفها الحساب.
والرأي الثالث: هو أن العمدة هو الرؤية ويستأنس بالحساب.
الشيخ المختار السلامي:
يتعين أن يكون عرض الموضوع: وهو أنه يعتمد على الحساب كوسيلة للتحقق والتأكد من صحة الشهادة.
الرئيس:
يعني لا بالاعتماد؟
الشيخ المختار السلامي:
نعم، الحساب بحيث إنه إذا جاءت الشهادة على خلاف الحساب لا تقبل.
الرئيس:
هذا هو الرأي الثاني الذي أنا قلته، المهم الذين يصوتون على الرأي الأول.. أنا أعرضها ثلاثة.
الشيخ الصديق الضرير:
نقول: الاعتماد على الحساب وتبقى الرؤية ويعلم تقويم نلتزم بما يقوله التقويم.
الرئيس:
هذا ما فيه أحد يقول به، قطعًا، كذا..
الشيخ عبد السلام العبادي:
اسمح لي سيدي الرئيس، الواقع أنا أشارك الأخ الشيخ الصديق في أنه هنالك نحن أمام ثلاثة آراء:
الرأي الأول الذي يقول باعتماد الحساب ولا حاجة لموضوع الرؤية، نضع تقويمًا ونلتزم بما يقوله التقويم وفق ما سجله الفلكيون.
الرئيس:
أسألك من قال هذا؟ الشيخ طه.(3/512)
الشيخ عبد السلام العبادي:
الرأي المطروح هذا، فهمت من رأي الشيخ المختار هكذا رأي الأستاذ القرضاوي هكذا.
الرئيس:
أسألك مَنْ مِنَ الإخوان من الأعضاء العاملين من الذي قال هذا القول؟ لأنا نحن الذي فهمناه هي ثلاث، أرجو أن تتكرموا.
الشيخ عبد السلام العبادي:
إذن هو رأيان يا سيدي.
الرئيس:
هذا في الواقع يرجع إلى رأيين.
الشيخ طه جابر العلواني:
أنا ما طلبته هو الاستفادة من تقويم كامل لكامل سنة.
الرئيس:
لكامل السنة لا للاعتماد.
الشيخ طه جابر العلواني:
للاستئناس به، والاستفادة منه.
الرئيس:
هذا واضح من كلامكم.. الشيخ عبد الله.
الشيخ عبد الله البسام:
أنا أرى أن تحرر العبارتان وتقرن ثم نصوت عليهما.
الرئيس:
إذن سألقي موضوع الرأي الأول فإذا كان هناك تحرير له في العبارة فنحن نتناول حتى نحرر العبارة في الرأي الأول، الرأي الأول هو الاعتماد في إثبات أوائل الشهور العربية القمرية على الرؤية الشرعية.
الشيخ عبد الله البسام:
لو يصير إملاء، لو يملى إملاء.
الرئيس:
الاعتماد في إثبات أوائل الشهور القمرية على الرؤية الشرعية.(3/513)
الشيخ الصديق الضرير:
من غير استئناس.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
على الرؤية فقط ولا عبرة للحساب.
الرئيس:
يعني يضاف إليه دون الاعتماد على الحساب.
الشيخ الصديق الضرير:
ولا الاستئناس به ولا الاعتماد من غير الاستئناس بالحساب لأنه عندنا رأي ثان يقول الاعتماد بالرؤية الشرعية مع الاستئناس بالحساب، فهذان رأيان متقابلان.
الرئيس:
هذا سنأتيه، الاعتماد في إثبات الشهور القمرية على الرؤية الشرعية.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
البصرية.
الرئيس:
دون الاعتماد على الحساب.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
ودون الاستئناس به.
الرئيس:
والله يا شيخ مصطفى هذا إذا كان لك رأي ثالث أضعه.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
هو الثالث حتى يتميز الثالث عن الأول يجب أن ينفي الاستئناس من الرأي الأول حتى يتميزا.
الرئيس:
الرأي الثاني.
الشيخ الصديق الضرير:
نعم نحرر الآراء كلها لأجل أن تكون واضحة لأنه الذي يصوت يكون عارفًا للآراء ويختار من بينها.
الرئيس:
الرأي الثاني: الاعتماد في إثبات أو جواز الاعتماد في إثبات أوائل الشهور.
الشيخ عبد الله بن بيه:
اعتماد ليس جوازًا.
الرئيس:
أنا أرجو من الشيخ مصطفى بما أنه متبني هذا الرأي وخالف مجمع الفقه بمكة وتبناه أرجو أن يحرر العبارة على ضوء ما تفضل.. يا شيخ مصطفى.(3/514)
الشيخ مصطفى الزرقاء:
جواز الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات أوائل الشهور القمرية دون حاجة إلى الرجوع للرؤية.
الرئيس:
طبعًا هذا رأيكم.
الشيخ عبد السلام العبادي:
الرأي الثالث الذي درسه من واقع كلام الإخوان هو الاعتماد على الرؤية شريطة أن لا تخالف الحساب الفلكي القطعي.
الشيخ عبد العزيز عيسى:
الانتفاع بالحساب كلما أمكن.
الشيخ عبد السلام العبادي:
لا شريطة أن لا تخالف الحساب.
والرؤية هنا ليست رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ولا رؤية الخالق جل وعلا، الرؤية المقصودة بها رؤية الشاهد، فالاعتماد على الرؤية رؤية الشاهد شريطة أن لا تخالف الحساب الفلكي القطعي.
الشيخ تقي العثماني:
لو جعلتم العبارة هكذا، استخدام الحساب في اتهام الشهادة على الرؤية، يعني هذا أفضل.
الأمين العام:
نحن لسنا بصدد الصياغة نحن ما دمنا اتفقنا على المعنى نعرض الأفكار الثلاثة أو الاتجاهات الثلاثة لنتبينها وننتقل من هذا إلى التصويت.
الشيخ الصديق الضرير:
أصبحت أكثر من ثلاثة يا سيدي الرئيس.
الرئيس:
إذن نحن أمامنا الآن ثلاثة آراء.(3/515)
الشيخ الصديق الضرير:
يا سيدي الرئيس أصبحت أربعة بعد هذا التحرير.. الرأي الرابع هو وجوب الاعتماد على الرؤية مع الاستئناس بالحساب الفلكي.
الشيخ يوسف جيري:
كلما أمكن.
الشيخ الصديق الضرير:
لم يقل هذا.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
هذا هو الثالث.
الشيخ الصديق الضرير:
لا الثالث قال: الاعتماد على الرؤية شريطة أن لا تخالف، فرق بين الأمرين.
الشيخ تقي العثماني:
فما الفرق بين الثالث والرابع؟
الشيخ الصديق الضرير:
هناك فرق واضح بين الأمرين يا سيدي.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
معنى: شريطة أن لا تخالف، أننا نستأنس.
الشيخ الصديق الضرير:
يا إخواني إن المسالة واضحة وإنه في رأيي الخلاف بين هذين الرأيين.
الرئيس:
الذي يظهر لي أن القول الثالث والرابع ينبغي صياغتهما في قول واحد.
الشيخ الصديق الضرير:
إذا كان الأمر واحدًا فليكن هذا.. وجوب الاعتماد على الرؤية، وأصر على كلمة وجوب، مع الاعتماد على الرؤية مع الاستئناس بالحساب الفلكي في جميع الحالات.(3/516)
الشيخ عبد السلام العبادي:
يا سيدي أجمع بينهم إذا سمحت: وجوب الاعتماد على الرؤية مع الاستئناس.
الشيخ الصديق الضرير:
مع الاستئناس بالحساب، مع جواز الاستئناس حتى أعمل وجوبًا، لو سمحت لي، مع الاستئناس فقط.
يجب أن نستأنس، يجب أن نستأنس بالحقائق العلمية، وجوب الاعتماد على الرؤية مع الاستئناس بالحساب الفلكي.
الدكتور وهبة الزحيلي:
والمراصد الفلكية.
الشيخ عبد السلام العبادي:
إذا سمحت سيدي لا بد من أن تلحق بها العبارة التالية: بحيث لا تخالف الحساب الفلكي الشرعي.
الدكتور الصديق الضرير:
لا، هذا أمر آخر.
الشيخ عبد السلام العبادي:
وإلا لا معنى للاستئناس.
الدكتور الصديق الضرير:
لا أصل إلى درجة المخالفة، هذا ليس استئناسًا.
الشيخ عبد العزيز الخياط:
إذا سمح لي فضيلة الأستاذ الرئيس، هو الواقع بالنسبة للرأي الأخير هما رأيان:
رأي وجوب الاعتماد على الرؤية شريطة ألا تخالف الحساب الفلكي القطعي هذا رأي.
وفرق في عدم المخالفة بالحساب القطعي وبين الاستئناس، الاستئناس شيء آخر، ولذلك أرى أن يكون رأيًا رابعًا.
الرئيس:
فليكن هذا كله، ماشي، إذن يا أصحاب الفضيلة نحن أمامنا الآن أربعة آراء وسأقرأها عليكم: أما الرأي الأول فهو الاعتماد على الرؤية الشرعية دون الاعتماد على الحساب.(3/517)
الشيخ مصطفى الزرقاء:
الرؤية البصرية يا سيدي.
الرئيس:
الرأي الثاني: جواز الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات أوائل الشهور القمرية دون حاجة إلى الرؤية.
مناقش:
الرؤية البصرية.
الرئيس:
الحقيقة هل الإخوان الذين يرون.. أنا والله يقشعر جلدي، بدون مؤاخذة، أما أنا فيقشعر جلدي من هذا الرأي وأنتم أحرار.
الأمين العام:
هذه الآراء عرضت وقيلت في الجلسات ما دامت هي أربعة وقد تفضل رئيس المجلس بعرضها علينا فلنأخذ كل رأي ونعد الموافقين عليه أو المخالفين.
الشيخ رجب التميمي:
أنا أرى أن يستبعد الرأي الثاني لأنه مخالفة صريحة للشرع فيجب أن يبعد وأن لا يصوت عليه.
الرئيس:
إذن الآن هل يقول بهذا الرأي أحد؟
الشيخ خليل الميس:
الرأي الثاني لا يجوز عرضه أصلًا.
الشيخ الصديق الضرير:
بحسب الترتيب نبدأ بالسؤال الأول يا سيدي الرئيس.
الرئيس:
إذن الرأي الأول وهو الاعتماد في إثبات أوائل الشهور القمرية على الرؤية دون الاعتماد على الحساب.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
يا مولانا بعدما تم التصويت على الأول كيف يعاد مرة أخرى.
الرئيس:
ما صوتنا، لم نصوت، أما بعد هذا فلن نؤاخذك في شيء يا شيخ مصطفى، التصويت الذي حصل هو على قضية اختلاف المطالع –سلمك الله- ليس على هذا، هو هكذا مائة في المائة! كل الدنيا شاهدة.(3/518)
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
المسألة تعرض على مجمع فقه إسلامي.. وهذه المسألة من أصلها ومن جذورها مخالفة للشريعة جذورها مخالفة للشريعة ما يجوز ولا نقبلها بأي حال من الأحوال فكيف نرفض ما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسول؟ يقول ((صوموا لرؤيته)) ونحن نقول بدون رؤية ما يجوز هذا.
الرئيس:
والله يا شيخ، يعني رجائي أن يتفضل الذين يحتمل أن يصوتوا على هذا الرأي الثاني وأن يصوغوه بعبارة لا تكون بهذا الوضع وإذا أصروا عليه فأنا لا يظهر لي أنهم أكثرية ونحن سنصوت على الرأي الأول.
إذن الرأي الأول هو الاعتماد في إثبات أوائل الشهور القمرية على الرؤية دون الاعتماد على الحساب.(3/519)
أرجو من أصحاب الفضيلة الذين يصوتون على هذا الرأي التكرم برفع أيديهم، الأعضاء العاملين.
بكر أبو زيد – الشيخ عبد اللطيف السعد – الشيخ أبو بكر دوكوري – الشيخ هارون – الشيخ عطا – الشيخ الخليل - الشيخ عبد الرحمن – الشيخ رجب – الشيخ محمد عبد الرحمن – الشيخ عبد الله البسام – الشيخ محمد سالم. بقي أحد ما سمع اسمه من الأعضاء العاملين.
إذن بقي الرأي الثاني وهو جواز الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات أوائل الشهور القمرية دون الحاجة إلى الرؤية، الذين يصوتون على هذا الشيخ مصطفى، أنت وحيد المجمعين يا شيخ.
الرأي الثالث: الاعتماد على الرؤية شريطة أن لا يخالفها الحساب الفلكي القطعي. الشيخ عبد السلام – الشيخ الخياط – الشيخ الحبيب – الشيخ هشام – الشيخ علي – الشيخ صالح طوغ – الشيخ المختار – الشيخ عمر جاه – الشيخ روحان – الشيخ عبد اللطيف – الشيخ آدم – الشيخ أحمد شريف – الشيخ محمد عبد الرحمن – الشيخ خليل – الشيخ موسى فتحي – الشيخ يوسف جيري – الشيخ عبد العزيز عيسى – من بعد الشيخ عبد العزيز – الشيخ مصطفى يقول سحبت رأيكم من هذاك خلاص يشطب هناك الرأي إذن يشطب كله يا شيخ – الشيخ طه.
الرئيس:
أمامي بقي الآن رأيان أما الرأي الذي عليه التصويت فهو الاعتماد على الرؤية شريطة ألا يخالفها الحساب الفلكي القطعي، الرأي الرابع الذي سيأتي وجوب الاعتماد على الرؤية مع الاستئناس بالحساب هذا سيأتي وهو الأخير.(3/520)
الشيخ الصديق الضرير:
شريطة أن لا يخالفها الحساب وإلا سيكون هذا افتراضًا، لأننا اختلفنا معكم في أننا لم نعتبر الحساب قطعيًا، لو اعتبرناه قطعيًا لما اختلفنا، شريطة أن لا يخالفها الحساب المعروف الآن.
الرئيس:
يا شيخ الضرير لعل فيه تعديلًا هنا يجمع بين الوجهين وهو أن يقال شريطة أن لا يخالفها الحساب الفلكي متى ثبتت قطعيته.
الشيخ الصديق الضرير:
نحن نريد أن نصدر حكمًا في أمر واقع الآن، والآن نحن عندنا حساب فلكي اختلفنا في قطعيته وظنيته فلا نضع افتراضات.
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
استفسار – معنى هذا لو أن الرؤية ثبتت والحساب أبطل الرؤية قال: ما يمكن نعتمد على الرؤية أو نعتمد على الحساب؟ المعنى يعني.
الرئيس:
معنى هذا لا إشكال في أنهم يعتمدون على الحساب دون الرؤية.
الشيخ أحمد بازيع الياسين:
الذين صوتوا بالموافقة لم يفهموا هذا.
الرئيس:
أحب أن يكون أن مؤدى هذا الرأي على ما يلي: وهو أنه الأصل هو الاعتماد على الرؤية متى ثبتت شرعًا هذا هو الأصل ولكن هذا الأصل مشروط بشرط وهو ألا يخالف هذا الثبوت الشرعي حساب فلكي قطعي، فأنا قصدي أن هذا هو خلاصة الرأي ما هي نتيجته؟
نتيجته طالما أن هذا الرأي يقول: إنه يعتمد أن الأصل الاعتماد على الرؤية إذا ثبتت شرعًا لكن هذا الاعتماد مشروط بشرط ألا يخالفها الحساب الفلكي القطعي.
الشيخ عبد العزيز عيسى:
أنا أقول: بالاعتماد على الرؤية مع الانتفاع بالحساب كلما أمكن ذلك، بدلًا من أقول: شريطة، أعلق الانتفاع على تحقق الشرط معناه إعمال الحساب لا إعمال الرؤية.
لكن لما أقول: مع الانتفاع بالحساب كلما أمكن، إن كان علماء الحساب قالوا: لا يمكن ولادة الهلال في هذا اليوم أقوم أنا أحتاط للأمر وأحضر الجمع الذي هو يثبت عدم الرؤية وما إلى ذلك.(3/521)
الرئيس:
على كل أنا أحب أن أقول: يا أصحاب الفضيلة، قد ترون مناسبًا لأن هذه الآراء تكون على سبيل التدرج فنبدأ بالرأي الرابع قبل الرأي الثالث حتى ينتفي الالتباس.
الشيخ يوسف جيري:
وتكون صياغاته على ما قاله الشيخ عيسى.
الرئيس:
هي موجودة هنا وهي: وجوب الاعتماد على الرؤية مع الاستئناس بالحساب الفلكي.
الشيخ خليل الميس:
عفوًا هذا الذي قصدناه وننسحب من الثالث.
الرئيس:
إذن الذين يرون هذا الرأي يرفعون أيديهم.
الشيخ عبد السلام العبادي:
إذا سمحتم نحن في مجال تحرير الآراء، ما دامت الآراء لم تحرر بعد فما المقصود بكلمة الاستئناس، أريد أن أسأل الذين يقولون بهذا الرأي.
الرئيس:
الاستعانة، يا أخي واضح.
الشيخ عبد السلام العبادي:
ما مدى هذه الاستعانة؟ وما هويتها إذا كان القطع الفلكي يقول بأن هذا اليوم ليس بدء رمضان وجاء شهود وقالوا: إنا رأينا هلال رمضان هل يثبت أو نترك القضية للاختيار؟
الشيخ تقي العثماني:
نثبت بالشهادة فإذا ثبت بالاستفاضة شهود الهلال، بالاستفاضة أو التواتر فرضًا فحينئذ نعمل بالرؤية.
الرئيس:
على كل حال هو الرأي لن يكون لعامة الناس والرأي لأهل العلم، وأهل العلم يعرفون كيف ينفذون الآراء وكيف يكيفونها، فعلى كل الذين يصوتون على هذا الرأي أرجو رفع أيديهم.
الشيخ هشام – الشيخ علي – الشيخ عبد الحميد – الشيخ صالح طوغ – الشيخ صابون – الشيخ عمر – الشيخ عبد اللطيف – الشيخ آدم – الشيخ عبد الستار – الشيخ طه – الشيخ الضرير – الشيخ عبد الله بن إبراهيم – الشيخ يوسف جيري – الشيخ خليل – الشيخ البازيع – الشيخ محمد بن عبد الرحمن – الشيخ محمد عبده عمر – هلي بقي أحد من المشايخ الذين يرون هذا الرأي ولم يسمع اسمهم.(3/522)
الشيخ أحمد محمد جمال:
سيادة الرئيس، كلمة واحدة إذا سمحت، أنا أريد إضافة على الصيغة الرابعة بالاستعانة بالحساب الفلكي والمراصد الفلكية هذه تعين الرؤية.
الرئيس:
أقول: يا شيخ أحمد قضية المراصد الفلكية هذه ما أظن أحدًا يخالف فيها.
الشيخ أحمد محمد جمال:
طيب ضموها على المادة هذه، ضموها على الفقرة هذه في الصيغة الربعة.
الرئيس:
هذا طيب، مع الاستئناس بالحساب الفلكي.
الشيخ أحمد محمد جمال:
والمراصد الفلكية هذه تعين الرؤية البصرية.
الرئيس:
هذا طيب، أنت تعرف أنه عندنا في المملكة على سبيل الذكر فقط، عندنا ثلاثة مراصد، لكن قضية المراصد في الواقع لا دخل لها في مسألة الحساب.
الشيخ أحمد محمد جمال:
لا مع الرؤية – طال عمرك – لا الحساب وحده.
الشيخ عبد الله البسام:
أرى مسألة المراصد أن تضاف إلى البند الأول.
الرئيس:
البند الأول.
الشيخ عبد الله البسام:
نعم لأن البصرية سواء كانت بصرية مجردة أو بصرية مكبرة كالنظارات ومكبر الصورة ما عاد يكفي هذا.
الرئيس:
يا شيخ عبد الله هل فيه أحد يقول بمنع الاعتماد على المراصد؟
الشيخ عبد الله البسام:
ما دام أضيفت هذه المادة، معناه أننا ما نرى الكلام الأول.
الرئيس:
يعني نفس المرصد نتيجته رؤية بصرية لكنها بواسطة، أليس كذلك؟
الشيخ مصطفى الزرقاء:
هي البصرية مثل النظارة التي أصبحت ضرورية.(3/523)
الشيخ أحمد مجمد جمال:
مثل النظارات، نحن لا نقرأ إلا بالنظارات.
الرئيس:
المهم هي رؤية بصرية لكنها بواسطة، إذن هل ترون إضافتها إلى الرأي الأول؟
الشيخ أحمد محمد جمال:
إلى الرأيين أحسن وأفضل.
الرئيس:
نقول: الاعتماد بالرؤية البصرية في إثبات أوائل الشهور القمرية على البصرية دون الاعتماد على الحساب مع الاستعانة بالمراصد الفلكية، كذا يا شيخ.
الشيخ عبد الله البسام:
البصرية نضيفها سواء إن كانت مجردة أو كانت بواسطة.
الشيخ محمد سالم عبد الودود:
بمعنى البصرية، الرؤية هي بصرية.
الشيخ عبد الله البسام:
هي بصرية.
الشيخ عبد السلام العبادي:
فيه رؤية علمية يا شيخ عبد الله.
الشيخ عمر جاه:
فيه رأي آخر متفرع عن الرأي الجامع بين الرؤية والحساب، الاعتماد على الحساب على شرط إمكان الرؤية البصرية، هذا على ما أفهم فكرة الشيخ مختار.
الشيخ المختار السلامي:
عندي بحث يوجد فيه أنه لا يمكن أن نرفض الرؤية ولكن نجعل الرؤية مشروطة بالحساب لأجل أن نزيل التهمة.
الرئيس:
أصحاب الفضيلة.. بقي الآن يعني: تخلص من الآراء عندنا، هي كانت أربعة آراء وكان الرأي الثاني صوت عليه الشيخ مصطفى، وبعد أن أسقطه ورجع وصوتنا على الرأي الأخير الرابع سابقًا الذي هو الثالث، بقي التصويت على الرأي الثاني وهو الاعتماد على الرؤية شريطة أن لا يخالفها الحساب الفلكي القطعي أو الفلكي هذا شيء يعود لكم لأنكم قلة.(3/524)
الشيخ عبد السلام العبادي:
إذا سمحت، أنا كنت طرحت هذا الرأي مع أستاذنا المختار لكن أنا فهمي للرأي الرابع بعد أن تبلور رأي رابع أنه متضمن بالرأي الرابع لأنه لا معنى للاستئناس بالحساب الفلكي دون أن ترد الشهادة إذا كانت تخالف قطعه، لذلك سأكتب هذا التحفظ وأعزوه لنفسي أنني أفهم الرأي الذي تم التصويت عليه أن من معنى الاستئناس أنه إذا كانت الشهادة يخالفها الحساب الفلكي لا بد من ردها.
الشيخ الصديق الضرير:
أحب أوضح لو تسمح يا سيد الرئيس هذه النقطة، الخلاف واضح أن تقول: الاستئناس بالحساب الفلكي، وأنا أود أن أكرر وأؤكد أن ما أعنيه الحساب الفلكي القائم الآن الذي حصل خلاف في قطعيته وظنيته، الاستئناس به في حالة ما إذا كان الحساب الفلكي قال: إن الهلال لا يمكن أن يرى اليوم وجاء عدد من الناس في بلاد مختلفة فقالوا: رأينا الهلال، واجب القاضي الشرعي الشخص الذي سيثبت الهلال أن يشدد في إثبات الهلال في هذه الحالة فإذا قام بهذا التشديد ومع ذلك غلب على ظنه أن هؤلاء الشهود عدول، وقد رأوا الهلال في هذه الحالة لأنه لا أقول كما يقول الذين يرون إسقاط الرؤية لا آخذ بالرؤية في هذه الحالة مع قول الفلكيين: إن الهلال لا يرى، وفي هذه الحالة ليكن حتى ولو توصلنا إلى أن المسألة الفلكيين قالوا هذا يقينًا فليكن كما قال الشيخ علي أنه في هذه الحالة هذه الرؤية من الجماعة الكثيرة في بلاد مختلفة شككت في قطعية الحساب الفلكي هذا هو ما نقصده فخلافه فرق كبير بين قولنا الاعتماد على الرؤية بشرط ألا تخالف الحساب الفلكي وبين قولنا مع الاستئناس بالحساب الفلكي.
الشيخ رجب التميمي:
يعني على شرط ألا تخالف تسقط الرؤية، أما الاستئناس لا تسقط الرؤية.
الشيخ عبد العزيز الخياط:
إذا سمح لي فضيلة الرئيس أن أبين بالنسبة للرأي الثالث: شريطة أن لا تخالف الحساب الفلكي القاطع، لأنا على هذا وليس معنى هذا أننا نعتمد الحساب إذا اختلف مع الرؤية البصرية لكن معنى هذا أنه لا بد أن نتثبت إذا صدر الرأي الفلكي القاطع أن نتثبت من الرؤية حتى لا يقع فيها خداع، وهذا المقصود بهذا الأمر فقد يأتي بلد ويكون فيه الرؤية غير صحيحة فلا بد من إعادة التثبيت.(3/525)
الرئيس:
على كل، من كلمة الشيخ هذه أنا تلمحت شيئًا مهمًا، قد –إن شاء الله تعالى – ننهي به الموضوع، لأنه يقول: إنه إذا ثبتت الآن الرؤية شرعًا ثم قرر الحاسبون على ما يفيد ما يناقض هذا الثبوت، فالشيخ يقول: مثلًا هناك أمران هو أن نمحص هذه الرؤية وأن نمحص الحساب نفسه هل هو قاطع أو حساب مغلوط كغلط الرؤية فإذا محصنا الرؤية وصارت الرؤية الثابتة لا غبار عليها نمحص الحساب هل هو ثابت أو قطعي لكن يبقى واحدة فقط أسأل الشيخ عنها: إذا محصنا الرؤية وثبتت تمامًا أسال الشيخ عبد العزيز إذا ثبتت الرؤية بعد تمحصيها وتحرر ثبوتها فما يصير مصيرنا في الحساب؟
الشيخ عبد العزيز الخياط:
الواقع القاعدة التي تقولونها أن لا تصادم حقيقة علمية مع حقيقة شرعية فإذا ثبت هذا قطعًا فمعنى هذا أنه لم تصدم مع الرؤية قطعًا، وهذا افتراض إذ إن الاصطدام افتراض.
الرئيس:
يعني إذا حصلت قطعية الرؤية تسقط قطعية الحساب؟
الشيخ المختار السلامي:
يا سيدي كلمة بسيطة، هذا رأي أعبر عنه، لو ثبت تواترًا أن فلان بن فلان قد توفي وشاهدوه، ثم جاءنا حيًا ماذا نأخذ؟ فاليقين اليقين الأيقن، الشهادة في قوتها ظنية، إن هي إلا أمر ظني.
الرئيس:
على كل الذين يصوتون على هذا الرأي أرجو إقفال المناقشة والذين يصوتون على هذا الرأي، الشيخ عبد السلام – الشيخ الخياط – الشيخ المختار.
الشيخ أحمد محمد جمال:
هناك حقيقة ثابتة كما تفضل أستاذنا أنه لا تختلف الحقيقة العلمية إطلاقًا عن الحقيقة الشرعية، وكما يقول ابن رشد إن الحق يوافق الحق ولا يخالفه بل يشهد له، ولذلك لا يمكن أن يخالف الحساب الفلكي القاطع الرؤية البصرية وإلا اصطدمت قاعدتان حقيقيتان واقعتان وهذا مستحيل، ولذلك أنا مع الرأي الرابع.
الرئيس:
وبهذا ننتهي وترفع الجلسة وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، مع ملاحظة أن تكون العودة للجلسة المسائية في الساعة الرابعة إن شاء الله تعالى، والسلام عليكم.(3/526)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى اله وصحبه.
قرار رقم 4
بشأن
توحيد بدايات الشهور القمرية
أما بعد:
فان مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من10 - 16 ربيع الثاني 6 140 هـ /22 - 28 ديسمبر1985م. بعد أن استعرض البحوث المقدمة إليه من الأعضاء والخبراء حول توحيد بدايات الشهور القمرية.
وبعد أن ناقش الحاضرون العروض المقدمة في الموضوع مناقشة مستفيضة واستمعوا لعديد من الآراء حول اعتماد الحساب في إثبات دخول الشهور القمرية.
قرر:
ا - تكليف الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بتوفير الدراسات العلمية الموثقة من خبراء أمناء في الحساب الفلكي والأرصاد الجوية.
2 - تسجيل موضوع توحيد بدايات الشهور القمرية في جدول أعمال الجلسة القادمة لاستيفاء البحث فيه من الناحيتين الفنية والفقهية الشرعية.
3 - تكليف الأمانة العامة باستقدام عدد كاف من الخبراء المذكورين وذلك لمشاركة الفقهاء في تصوير جوانب الموضوع كلها تصويرا واضحا يمكن اعتماده لبيان الحكم الشرعي.
والله أعلم(3/527)
من أين يحرم القادم
بالطائر جوًا للحج أو العمرة؟
لفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء
بسم الله الرحمن الرحيم
من أين يحرم القادم بالطائرة جوًا للحج أو للعمرة؟
تمهيد:
منذ أكثر من أربعين عاما، والناس تتساءل، وتساءل أهل العلم من فقهاء الشريعة عن مكان الإحرام الذي لا يجوز لقاصد البيت العتيق أن يتجاوزه إلا محرما ملبيا، هاجرا ملذاته ورفاهيته التي كان يعيشها، ومتجردا من ملابسه المخيطة، ومكتفيا من متعة هذه الحياة الدنيا، وزينتها بالإزار والرداء، ذلك الرمز العظيم الذي يُذكِّره بصورة فعلية - لا قولية فقط - بذلك اليوم الرهيب الذي سيقبل فيه على ربه بعد أن ينتزعه الموت المحتم من قلب كل متعة أو زينة أو لذة أو نعمة أو سلطة أو وجاهة أو أموال كان يتمتع وينعم بها في دنياه.
هذا الإحرام الجليل المعني الذي أوجبه الإسلام على قاصد الحج أو العمرة أين ميقاته لمن يأتي جوا بالطائرة؟ تلك الوسيلة الحديثة التي لم تكن معروفة ولا تخطر في البال حين حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم حدوده المكانية للقادمين إلى الحج أو العمرة من مختلف البقاع والجهات الأرضية، فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها إلا محرما؛ تعظيما لشأن البيت العتيق قبل الوصول إليه.(3/528)
إني هنا لا أريد أن أتعرض لشيء ما من أحكام الإحرام، وما يوجبه على المحرم من التزامات، وما يحظره عليه من محظورات، وما يترتب على فعل شيء من المحظورات من جزاء، وكون الإحرام واجبا لمن أتى على ميقات مكاني قاصدا مكة لأي غرض كان، كالتجارة والسياحة مثلا، أو لا يجب الإحرام على من مرّ بأحد مواقيته المكانية إلا إذا كان قاصدا حجا أو عمرة ... إلى غير ذلك من الأحكام المتعلقة بالإحرام وما يستلزمه من مستلزمات فرعية، وما حولها من اختلاف الفقهاء، فكل ذلك لا يعنينا منه شيء؛ لأنه ليس هو محل هذا البحث، ولا مقصودا بالبيان من قريب أو بعيد. فالتعرض له هنا خروج عن الموضوع، ومضيعة للوقت، وإطالة في غير طائل.
لذا سأحصر كلامي في الناحية المطلوبة المطروحة للبحث، والتي هي وحدها من أهم قضايا الساعة التي شغلت أذهان الناس وكثر السؤال عنها، واختلفت فيها أفهام علماء العصر وأحكامهم اختلافا ليست نتيجته على المكلفين سهلة يسيرة كيفما كانت، بل هي نتيجة ذات بال، تحمل على الناس كافة عبئا وإصرا لا يستهان به في سبيل الحج والعمرة، أو لا تحمله عليهم. وأقول: على الناس كافة؛ لأن الطائرة قد أصبحت اليوم في عصر السرعة هذا الذي نعيشه هي الواسطة الأساسية للحج والعمرة، وكذلك لمختلف الأسفار.(3/529)
فكلامي فيما يلي مقصور على هذه الناحية المقصودة بالبحث، وهي: من أين يحرم القادم بطريق الجو لحج أو لعمرة، دون أي شيء آخر سواها مما يتعلق بالإحرام. فأقول مستعينا بالله، راجيا أن يهديني إلى الصواب الحق من أقرب محجة، وأوضح حجة، إنه هو ولي التوفيق.
مما لا خلاف فيه بين أئمة السلف من محدثين وفقهاء أن المواقيت المكانية للإحرام قد حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم للقادمين من جهات أربع كما يلي:
1- ذو الحليفة لأهل المدينة من أراد منهم الحج أو العمرة، وهذه أبعد المواقيت مسافة عن مكة، وتسمى اليوم " آبار علي ".
2- الجحفة لأهل الشام.
3- قرن المنازل لأهل نجد القادمين من الشرق.
4- يلملم لأهل اليمن القادمين من الجنوب.(3/530)
وقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حددها أن هذه الحدود هي مواقيت لأهل تلك الجهات، ولمن أتى عليهن من غير أهلن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دون ذلك (أي من كان مقامه في موضع يقع بين أحد هذه المواقيت وبين مكة) فإنه يحرم من مقامه ذاك، حتى إن أهل مكة يهلون من مكة. (أخرجه البخاري في باب مهل أهل مكة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم في مواقيت الحج والعمرة، وأبو داود والنسائي في ميقات أهل اليمن، كما نقله غيرهم من أئمة الحديث) .
وواضح أن حديث المواقيت هذا لا يشمل بالنص إلا أهل تلك المواقيت، ومن مر بها فقط. فليس فيه شيء عمن لا يمر فعلا بأحدها ولكنه حاذى من قريب بعض تلك المواقيت. فإلحاق المحاذاة بالمرور إنما تقرر بالاجتهاد، فقد روى أئمة الحديث أن عمر رضي الله عنه هو الذي حدد ذات عرق ميقاتا لأهل العراق، لمحاذاتها قرن المنازل، اجتهادا منه، وذلك بعد فتح العراق. فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " لما فتح هذان المصران – الكوفة والبصرة – أتوا عمر بن الخطاب فقالوا: يا أمير المؤمنين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنًا، وأنه جور عن طريقنا، وإن أردنا أن نأتي قرنًا شق علينا؟ قال: فانظروا حذوها عمن طريقكم. قال: فحد لهم ذات عرق. وروى الإمام الشافعي رضي الله عنه في الأم عن ابن جريح عن ابن طاوس عن أبيه، قال: ((لم يوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات عرق، ولم يكن حينئذ أهل مشرق، فوقت الناس ذات عرق)) . وروى الشافعي أيضًا مثل ذلك عن أبي الشعثاء (ر: الأم: 2/118) وهناك من الأئمة من يرى أن تحديد ذات عرق مهلا لأهل المشرق وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس اجتهادا من عمر رضي الله عنه، ويوردون أحاديث في ذلك. ولكن جمهور أهل الحديث يقررون أن الأحاديث التي ورد فيها النص على ذات عرق ميقاتا لحرام أهل المشرق كلها ضعيفة لا تنهض حجة. فالصحيح عندهم أن هذا التحديد لأهل العراق والمشرق إنما هو اجتهاد من عمر، أخذا بالمحاذاة السمتية لأقرب ميقات إلى جهتهم. (ر: المجموع: 7/191 – ونيل الأوطار: 4/332) .(3/531)
مما تقدم يتضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدد مواقيت مكانية إلا للقادمين برًّا من أطراف شبه الجزيرة العربية الثلاثة: وهي الشمال والشرق والجنوب؛ لأن هذه الجهات الثلاث هي التي يمكن إذ ذاك أن يأتي منها المسلمون حجاجًا أو معتمرين، وقد حدد للقادمين من الشمال ميقاتين: واحدًا لأهل المدينة (ذو الحليفة) ، وآخر لأهل الشام (الجحفة) ؛ لأن الشام كان فيه لأهل الحجاز رحلة الصيف التجارية، فقد يعودون من الشام قاصدين حجا أو عمرة، فهؤلاء عندئذ أما أن يأتوا من طريق يثرب، فيتبعون ميقات أهلها، وأما أن يأتوا من طريق أخرى لا تمر بيثرب، فجعل الجحفة عندئذ ميقاتًا لهم، وهي قريب من مكة.
أما جهة الغرب فلم يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم لها ميقاتًا مكانيا؛ لأن الجهة الغربية بحر، وفي الغرب منه أفريقية التي لم يصل إليها الإسلام إذّاك، ولا يعلم ما سيكون من أمرها إلا الله. وقد حدد الفقهاء فيما بعد لأهل مصر والمغرب إذا جاؤوا بطريق البر ميقات أهل الشام وهو الجحفة؛ لأنه طريقهم الطبيعي إذ ذاك قبل شق قناة السويس في عصرنا هذا.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم – كما هو معروف – لا يرغب أن يقرر أحكاما مسبقة لأمور غير واقعية، حتى أنه لم يكن يرغب أن يسأل عما سكت عنه، بل كان يترك ذلك للاجتهاد في ضوء سنته الشريفة ومقاصد الشريعة المستفادة من كتاب الله تعالى الحكيم، وخاصة منها دفع الحرج، كما نوه به القرآن العظيم. ومعروفة قصة الصحابي الذي سأل عن الحج حين أوجبه الله على من استطاع إليه سبيلا: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال له: ((لو قلت: نعم، لوجب عليكم، ولما استطعتم)) . وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح أحاديثه: ((إن الله حد حدودا فلا تعتدوها ... وسكت عن أشياء رحمة بكم فقلا تسألوا عنها)) أي لا تسألوا عنها قبل وقوعها، فإذا وقعت فاجتهدوا برأيكم. وَعَلَّمهم: أو اسألوا عندئذ أهل الذكر والعلم، وليس المراد عدم السؤال عنها أبدا، إذ لو وقعت في مستقبل الزمن واحتيج إلى معرفة حكم الشرع فيها لابد حينئذ من السؤال عنها والبحث فيها لمعرفة ما يجب بشأنها في ضوء أدلة الشريعة.(3/532)
وفي ضوء ما تقدم يتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد أيضًا ميقاتًا بحريا؛ لأن المجيء للحج والعمرة إذ ذاك في حياة الرسول عليه السلام لم يكن بالسفن من جهة البحر الأحمر (بحر القلزم) . فيبقى حكمه في المستقبل للاجتهاد أيضًا إذا قدّر الله للإسلام أن يمتد غربا إلى أفريقية، كما حصل فيما بعد والحمد لله.
هذا وقد قرر الفقهاء أن من لم يمرّ بأحد هذه المواقيت، بل سلك طريقا بين ميقاتين، فإنه يتحرى ما يحاذي أحدهما من طريقه بغلبة الظن فيحرم منه، فإن لم يتبين له قال الحنفية: يهل عندئذ بالإحرام على بعد مرحلتين من مكة؛ لأن هذه المسافة هي مسافة أدنى تلك المواقيت إلى مكة (ر: الدر المختار: 2/154 – البولاقية الأولى – والمقنع من كتب الحنابلة: 1/394، والمغني مع الشرح الكبير/ط أولى: 3/214، والإنصاف للمرداوي: 3/427) .
في ضوء ما تقدم من عرض الواقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من تحديد ما حدده بالنصر الصريح من مواقيت الإحرام، وما سكت عنه وتركه للاجتهاد من علماء الأمة، وما حدث بعده من اعتماد المحاذاة باجتهاد عمر رضي الله عنه، أقول: أن معالجة قضايا الساعة لا يصح منا أن نعالجها ونقرر لها حلولا شرعية منطلقين من خلفية مذهبية، أو فكرة مسبقة ننظر من زاويتها إلى القضية المستجدة، ونجردها من ملابساتها وظروفها الخاصة لنجرها جرًا إلى المقعد الذي هيأناه سلفا؛ إلحاقا وتعميما، سواء أكان ملائما لطبيعتها وظروفها وملابساتها أم غير ملائم، ولو كان هذا الإلحاق والتعميم سيزج بالمكلفين في مشقة وحرج نفتهما النصوص القطعية في الكتاب والسنة عن هذه الشريعة السمحة الخالدة.
قضايا الساعة (ومن أكبرها أهمية وحاجة للحلول الشرعية المناسبة اليوم موضوعنا هذا، وهو: من أين يجب أن يحرم القادم جوًا بالطائرة إلى الحج أو العمرة) يجب أن تعالج بفكر فقهي حر، كأنما يريد أن يرى النصوص والأدلة المتعلقة بها الأول مرة مجردًا عن الخلفيات المذهبية والآراء المسبقة التي تتحكم في توجيه فكره دون أني يشعر. وعليه أن ينعم النظر في النصوص وأن يتفهمها وفقًا للغة وأساليب البيان المعهود في وقت ورد النص الشرعي، وما يوحي به للسامع من فهم بحسب القواعد والدلالات العرفية. هذا إلى جانب الأساس المهم الآخر، وهو مقاصد الشريعة التي دلت عليها النصوص القطعية العامة، والتي لا يمكن عزلها وقطع علاقتها بالنصوص الخاصة إذا أدرنا أن نفهمها فهمًا سديدًا لا نبغي فيه سوى معرفة حكم الشارع، والحل الصحيح في القضية المستجدة، سواء وافق تصوراتنا السابقة فيها أو خالفها، فإن التعصب لرأي أو تصور سابق يحجب عن البصيرة الرؤية السليمة، والإحاطة بالمسألة من جميع جوانبها وظروفها. فبناء على هذا المنطلق أقول:
إن حديث المواقيت المكانية الذي روته كتب السنة الصحيحة، وهو النص الأصلي الوحيد في الموضوع لا يمكن أن يعتبر شاملا للطريق الجوي اليوم، ولو مرت الطائرة القادمة بقاصدي الحج أو العمرة من فوق أحد المواقيت الأرضية، وبالتالي: لا يمكن فيه تطبيق حكم المحاذاة لأحد المواقيت تلك المحاذاة التي ألحقها سيدنا عمر رضي الله عنه بالمرور بالميقات، وذلك لما يلي:(3/533)
إن حديث المواقيت محمول على الطرق المعروفة المألوفة في ذلك الوقت، وهي الطرق البرية التي يمكن أن يسلكها القادمون لحج أو عمرة من أطراف الجزيرة العربية التي مد عليها الإسلام رواقه. وهو في الوقت نفسه لم يحدد ميقاتًا من جهة الغرب، كما سبق أن أوضحته وبينت سببه. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد هذه المواقيت للإحرام قد خصها نصا وصراحة بمن يمر بها فعلا، وذلك حين قال عليه السلام: ((هن مواقيت لأهلهن)) . وهذا الإتيان لا يمكن أن يتصوره أي سامع إلا أنه المرور في الأرض. وإذ كان أهل الميقات المقيمون حوله قد وجب عليهم الإحرام منه، فمن أتى على هذا الميقات من خارجه وكان طريقًا له أصبح هو وأهل ذلك الميقات سواء، لأنه قد أصبح بينهم كواحد منهم، فلا يعقل أن يجب عليهم الإحرام منه ولا يجب عليه. وهذا المعنى لا يتحقق إلا فيمن مر بالميقات نفسه أرضا، لأن المرور فوق الميقات جوًا كما تمر الطيور لم يكن في بال أحد من الصحابة أهل اللسان الذين خوطبوا به ولا في حسبانه، ولا يمكن أن يتصوره حتى يفهم أنه داخل في هذا التحديد.
بل أستطيع القول: إن الطيران بالطائرات التي تسافر بها اليوم لو كان موجودًا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد هذه المواقيت الأرضية لأجل الإحرام لما كان المرور جوًا بالطائرة فوق بقعة الميقات مشمولاً بهذا الحديث، لأن المرور بالميقات الذي يجعل المار به كأهل الميقات لا يفهم منه في أسلوب البيان إلا المرور الأرضي فعلا، فهذا ما يفهمه أهل اللسان الذين خوطبوا به، وهذا أي ما يفهمه أهل اللسان في اللغة التي جاء بها النص، هو أساس، في فهم النص، عظيم الأهمية لا يمكن تجاهله وتجاوزه.(3/534)
إن الإمام أبا إسحاق الشاطبي رحمه الله في كتابه الإبداعي، " الموافقات في أصول الشريعة " قد بسط القول في قسم المقاصد من كتابه هذا تحت عنوان (قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام) حول أساسين في فهم قصد الشارع، لا تجوز الغفلة عنهما، وهما:
أولاً – أن هذه الشريعة الإسلامية المباركة عربية، وأن القرآن الحكيم عربي".
ثانيًا – أن هذه " الشريعة المباركة أمية، لأن أهلها كذلك ".
أما الأول فلقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] وقد تكرر هذا الإعلام في آيات أخرى. وأما الثاني فلقوله تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2] وقد تكرر أيضًا هذا في آيات أخرى. وجاء في صحاح الأحاديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((بعثت إلى أمة أمية)) وقوله: ((نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب)) : الشهر هكذا وهكذا ... " وقد فسر الشاطبي الأمي بأنه " منسوب إلى الأم "، وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره " فهو على أصل خلقته التي ولد عليها " وفسر الأمة الأمية بأنهم: " ليس لهم معرفة بعلوم الأقدمين "، وقد يبدو لأول وهلة أن كون القرآن عربيا، والحديث النبوي عربيا، هو من البديهات التي لا تحتاج إلى بسط وإيضاح وشواهد وأمثلة وتنبيهات في فصول كتاب، كما فعل الشاطبي رحمه الله في موافقاته.
ولكن الذي يرى النتائج التي بينها الشاطبي رحمه الله بناء على هذين الأصلين الأساسيين في فهم الشريعة وتنزيل نصوصها في الكتاب والسنة النبوية على منازلها الصحيحة يدرك عندئذ أن قضية هذين الأساسين ليست من البساطة والبداهة كما يتراءى لأول وهلة. (ر: الموافقات 2 /64– 107) .(3/535)
وأول هذه النتائج وأهمها يتلخص في أن المقصود هنا من بيان الأساس الأول هو أن القرآن قد نزل بلسان العرب وأساليبهم البيانية. فطلب فهمه إنما يكون بالطريق التي يفهمه من خوطبوا به حين ألقي إليهم، وهم أهل هذا اللسان خاصة، على أميتهم وجهلهم بالعلوم والفلسفات التي وجدت لدى غيرهم من الأمم، وبالاصطلاحات والمفاهيم الطارئة حين أسست العلوم ووضعت فيها الاصطلاحات وحددت لها المفاهيم العلمية في اللغة العربية بعد ذلك.
وهذا يستلزم أن من يكون أكبر فقهي وأرسخ عالم في العصور العلمية اللاحقة يجب أن يفهم النص القرآن أو الحديث النبوي كما يفهمه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما يفهمه البدوي الأمي من العرب إذ ذاك؛ لأنهم هم أهل اللسان الذي خوطبوا به. ففهم أي عالم لمدلول النص بعد ذلك، مهما علا كعبه في العلوم وطال باعه، يجب أن يكون تبعا لفهم ذلك العربي الأول ابن اللسان الذي جاء به ذلك النص، وخوطب به.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله في هذا المقام:
" فإن قلنا: إن القرآن نزل بلسان العرب، وأنه عربي لا عجمة فيه، فيعني أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة، وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهرة وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به غير الظاهر. وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره. وإنها تتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة ... وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامهم.(3/536)
فإذا كان ذلك فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب، والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام في رسالته الموضوعة في أصول الفقه، وإن كثيرا ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ، فيجب التنبه لذلك، وبالله التوفيق (الموافقات: 2/66) .
أقول: ومن الواضح أن مثل هذا الاعتبار يجب أن يراعى في فهم كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وتنزيل أحاديثه الشريفة – وهي من جوامع الكلم العربي – على هذا الترتيب نفسه في فهم نصوص القرآن.
ثم أفاض الشاطبي في شرح " أن الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك؛ إذ لم يكن لهم معرفة بعلوم الأقدمين "، وأن تنزيلها على مقتضى حال الذين نزلت عليهم من أميتهم هو الأوفق والأجرى مع رعاية المصالح التي يقصدها الشارع الحكيم.
وقد أوضح العلامة الشيخ عبد الله دراز في تعليقاته أنه وفقا لهذا الاعتبار ربطت الشريعة مواقيت الصلاة بالدلائل الحسية المشهودة من الزوال والغروب والشفق، مما لا يحتاج إلى علوم كونية وآلات وتقاويم فلكية.
أقول: وواضح أن الشريعة السمحة الخالدة إذا صلحت للأميين حتى يسهل تطبيقها عليهم، صلحت لغيرهم من أهل العلوم وللناس أجمعين، ولا عكس. وهذا من أسرار آخريتها وصلوحها للخلود ما دام لبني الإنسان وجود، فجلت حكمة الله فيما شرع لعباده.(3/537)
ثم قال الشاطبي بصدد ما تفرع عن أمية الشريعة: " إنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأمي، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثًمَّ عرف فلا يصح أن يجري في فهمها على ما لا تعرفه. وهذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب.... ".
بعد هذه المقتطفات من كلام الإمام الشاطبي عن أن الشريعة أمية، وأنها ودستورها - وهو القرآن - عربيان بالمعنى المشروح، (وكذلك بيان رسولها نبي الهدى صلى الله عليه وسلم) ، نعود إلى موضوعنا حول ميقات الإحرام الواجب للقادم جوًا بالطائرة لحج أو لعمرة، في ضوء ما نقلنا عن الشاطبي رحمه الله، فأقول:
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد تلك المواقيت المكانية لأهلها، ولمن أتى عليها ومر بها من غير أهلها. وهذا منه بيان وتحديد لقوم أميين، وبلسان عربي مبين هم أهله الأصليون، وأن علينا وعلى جميع الأجيال المسلمة التي تتلوهم من علماء في الشريعة وفي الطبيعة وفي مختلف العلوم من عرب وأعاجم، أن لا نفهم من نصوص القرآن وكلام الرسول عليه السلام إلا ما يفهمه إذ ذاك أولئك الأميون أهل العربية المخاطبون بها بحسب مألوفهم ومعهودهم وعرفهم، كما يقول الإمام الشاطبي.(3/538)
وإذا كان كذلك فمن الذي يستطيع أن يزعم أنهم يمكن أن يفهموا من تحديد الرسول لهم تلك المواقيت المكانية أنها شاملة للقادم جوًا بطائرة في مستقبل الدهر إذا اخترع البشر آلة تطير بهم، ومرت بأحد ركابها فوق ميقات أرضي وهو في السماء، أو حاذى سمته؟ مع العلم أننا أوضحنا قبلا أن الحديث النبوي المذكور لا يشمل المحاذاة من قريب أو بعيد، بل هو مقصور على أهل تلك المواقيت ومن مر بأحدها، وأن إلحاق المحاذاة لأحد المواقيت بالمرور به فعلا هو اجتهاد عمر رضي الله عنه.
ونحن نضع اجتهاده هذا فوق الرأس والعينين وهو معقول في ذاته؛ لأن ما تقتضيه حرمة البيت المعظم من أن يتهيأ من يقصده لحج أو لعمرة بالإحرام قبل الوصول إليه، هو مما ينبغي أن يستوي فيه كل قاصد، سواء مر بالميقات الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو جاء من طريق أخرى لا تمر به، فَجَعْلُ المحاذاة لأحد المواقيت هي الحد لغير من يمر بالميقات هي قيَاس معقول مبني على علة متحدة.
ولكن هذا القياس السليم لا يجوز أن يخرج عن أرضية المسألة، وهي أن تلك المواقيت التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفهم منها أهل اللسان الذين خوطبوا به، إلا أنها لأهلها ولمن يمر بها المرور المعتاد الذي لا يعرفون سواه، وهو المرور بها في موقعها على سطح الأرض؛ لأن هذا هو ما تدل عليه لغتهم التي خوطبوا بها حين قال لهم الرسول عن هذه المواقيت: هن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ولا يمكن أن يتصور أحدهم إذ ذاك مرور أحد من فوق الميقات وهو طائر في الجو.(3/539)
وقد رأينا آنفًا قول الشاطبي: " إنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ... وأنه لا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا يعرفونه، وأن هذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب ".
فاجتهاد عمر رضي الله عنه في إلحاق المحاذاة لا يمكن أن يتجاوز الأصل، فكما أن النص الأصلي، وهو حديث المواقيت معناه المرور بالميقات فعلا على سطح الأرض، فإن المحاذاة التي ألحقها به عمر معناها المحاذاة ممن يمر حذو الميقات المرور المعتاد على سطح الأرض؛ ذلك لأن المقيس لا يمكن أن يعطي أكثر من حكم المقيس عليه. فإذا كان نص الحديث النبوي لا يتناول القدوم جوًا مما لم يكن في حسبان أهل اللسان ولا معهودهم، فكذلك المحاذاة الملحقة بطريق القياس والاجتهاد لا تطبق على طريق الجو الذي لم يكن يتصوره عمر نفسه صاحب هذا الاجتهاد القياسي.
إنني أخلص من جميع ما تقدم بيانه إلى أن القادمين اليوم بطريق الجو في الطائرات لحج أو عمرة لا يشملهم تحديد المواقيت الأرضية التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في الجو. فهي حالة قد سكت عنها النص؛ لأنها لم تكن في التصور أصلاً، كما سكت عن القادمين من الجهة الغربية إذ لم يكن إذ ذاك مسلمون يقدمون من أفريقية من وراء البحر، ولا من مصر. أما الشام فإنه وإن لم يكن فيه مسلمون إذ ذاك قد كانت تجارة قريش وعرب الحجاز قائمة مع الشام في رحلة الصيف، فقد يعودون منه قاصدين حجًا أو عمرة، فلذا حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم للقادمين من الشام الجحفة ميقاتًا لهم، كما أسلفنا بيانه.(3/540)
وإذا كان القدوم جوًا ليس مشمولاً بتحديد المواقيت المكانية لما قد بينا، فهو إذن خاضع للاجتهاد في تحديد ميقات مكاني للقادمين منه بالوسائط الجديدة المبتكرة في عصرنا هذا، كسائر قضايا الساعة التي ليس عليها نص، فيجب أن يقرر الاجتهاد لها الحكم المناسب في ضوء أصول الشريعة ومقاصدها، وفي طليعتها دفع الحرج.
وفي نظري أن الحكم المناسب في هذا الموضوع، والذي لا يترتب عليه حرج ولا إخلال، هو أن القادمين بالطائرات اليوم لا يجب عليهم الإحرام إلا من بعد أن تهبط الطائرة بهم في البلد الذي سيسلكون بعده الطريق الأرضي، فإذا هبطت الطائرة بهم في بلد يقع خارج المواقيت، يكون عندئذ ميقاتهم للإحرام هو الميقات الذي سيمرون به، أو من الموقع الذي يحاذي أحد المواقيت المحددة لمختلف الجهات إذا كانوا لا يمرون بأحد تلك المواقيت. أما إذا كان المكان الذي تهبط فيه الطائرة بلدًا يقع بعد أحد المواقيت المذكورة، أي بينه وبين الحرم، فإن ميقاته للإحرام هو ذلك البلد نفسه، فيصبح حينئذ كأهله فلا يجوز له أن يجاوزه إلا محرمًا.
وبما أن المطار الدولي اليوم الذي يهبط فيه الحجاج والمعتمرون هو في مدينة جدة، وهي واقعة ضمن بعض المواقيت، فإن القادمين بطريق الجو إلى جدة لحج أو لعمرة، يكون ميقاتهم للإحرام مدينة جدة، فلا يجوز أن يتجاوزوها إلا محرمين؛ لأنهم يصبحون عندئذ كأهل جدة فيحرمون من حيث يحرم أهلها.(3/541)
فلو أن المطار الذي يهبط فيه الحجاج والمعتمرون نقل فيما بعد إلى مكة لأصبح القادمون جوا كأهل مكة، فيحرمون من حيث يحرم المكيون، أي أن القادم بالطائرة بوجه عام، من أي جهة كان قدومه، متى هبطت طائرته في آخر مكان لكي يتابع بعده السير بالطريق البري، يأخذ عندئذ حكم أهل ذلك المكان بشأن الإحرام.
أما القول بأن عليه أن يحرم وهو في الطائرة في الجو متى مرت الطائرة بأحد المواقيت أو حاذته، فهذا لا أرى دليلا شرعيًا يوجبه، وهو مبني على تصور أن القدوم جوًا بالطائرة مشمول بالحديث النبوي الذي حدد المواقيت الأرضية. وهذا في نظري رأي غير سليم في فهم النصوص فهما فقهيا كما سبق إيضاحه، علاوة على ما فيه من حرج شديد وصعوبة قد تصل إلى حد التعذر، بالنظر إلى حال الطائرات العامة، ولاسيما الدرجة السياحية فيها (وهي التي تأخذها الجماهير) ، وضيق مقاعدها لاعتبارات تجارية، حتى إن الراكب ينزل في مقعده كما ينزل الإسفين في الخشب، ويعسر عليه التحرك في تناول وجبة الطعام، فضلاً عن أن يخلع ملابسه المخيطة ويرتدى الرداء والإزار، وأين في الطائرة مغتسل ومصلى ليقيم سنة الإحرام؟
وأغرب من ذلك قول من يقول: إن هذا الحرج يمكن دفعه بأن يحرم بملابسه في الطائرة، ثم يخلعها بعد الهبوط ويفدي بدم جزاء، فمتى كانت هذه الشريعة الحكيمة السمحة تكلف أحدًا بما يشبه المستحيل لتعسره أو تعذره، على أن يخالفه المكلف ويتحمل بدلا منه جزاء مكلفًا؟ إن الشريعة الحكيمة براء من مثل هذا التكليف.(3/542)
وأشد غرابة من هذا رأي من يقول – وكل هذا قد سمعناه – أن الحل لهذه المشكلة هو أن يحرم من يريد القدوم بالطائرة من بيته قبل ركوبها. فماذا يقول هؤلاء إذا كان قاصد الحج أو العمرة من أهل موسكو أو سيبيريا قادما في الشتاء حيث درجة الحرارة خمسون تحت الصفر بمقياس سنتيغراد؟
هذا ما يبدو لي أنه الوجه الصحيح في هذه القضية واستنباط الحل والحكم الشرعي الذي يناسبها، بعد إعمال الفكر منذ سنوات في ملابساتها، وإنعام النظر في الأدلة، والاستئناس بالدلائل، فقد كثر السؤال عنها، وكلما تقدم الزمن سنة ألحت الحاجة إلى البيان الشافي فيها بصورة مدروسة بصيرة، لا تسرع فيها ولا ابتسار، يُنظر فيها إلى هذه القضية من مختلف الزوايا لا من زاوية واحدة. وما يدرينا لعل سنوات قادمة غير بعيدة تصبح فيها الطائرة من الوسائل العتيقة البطيئة، ويحل محلها الصاروخ الذي يطوي المسافات الزمانية والمكانية الطويلة والبعيدة، فيختزلها في دقائق معدودات، كما يتنبأ به كثير من رجال العلم والفكر. وأن ما شهدناه في هذا العصر من عجيب الإنجازات، التي كلما تحقق منها شيء لم يكن ليصدق لو رؤي في المنام، فتح تحققه طريقا لما هو أعجب منه.
وهذا الحل الذي ارتأيته بالدليل الذي رأيته - وأرجو أن يكون صوابا _ هو صالح لأن يتمشى مع مختلف الوسائل المبتكرة في النقل والأسفار مهما تطورت. فإن كان صوابا فمن فضل الله تعالى، وإن كان خطأ فمن قصور فكري وعلمي. والله سبحانه أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
مصطفى أحمد الزرقاء
كلية الشريعة – الجامعة الأردنية(3/543)
الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة
لفضيلة الشيخ محمد علي عبد الله
بسم الله الرحمن الرحيم
ورد في مصنف الفقه على المذاهب الأربعة: أن الحج لغة هو: القصد إلى معظم، وشرعا: أعمال مخصوصة تؤدى في زمان مخصوص ومكان مخصوص. والحج فرض في العمر مرة على كل فرد من ذكر أو أنثى. وقد ثبتت فريضته بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]
وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج)) رواه البخاري، ومسلم عن ابن عمر. وأما الإجماع فقد اتفقت الأمة على فريضته، ولم يخالف أحد من المسلمين، ومنكرها كافر كمنكر فريضة الصلاة والصيام والزكاة.(3/544)
وقد ورد في تفسير البغوي المعروف بمعالم التنزيل: قال العلماء: الحج واجب على كل مسلم. وهو أحد أركان الإسلام الخمسة. ولوجوب الحج خمس شرائط: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والاستطاعة. ولا يجب على الكافر والمجنون ولو حجَّا لم يصح؛ لأن الكافر ليس من أهل القربة، ولا حكم لقول المجنون، ولا يجب على الصبي والعبد، ولو حج الصبي يعقل أو يحج عبد صح حجهما تطوعا ولا يسقط الفرض، فإذا بلغ الصبي وعتق العبد، واجتمع فيهما شرائط الحج وجب عليهما أن يحجا ثانيًا، ولا يجب على غير المستطيع لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] . فلو تكلف غير المستطيع الحج وحج، صحَّ حجُّه وسقط عنه فرض حجة الإسلام، وبالتالي يعتبر الشيخ أحمد بن غنيم بن سالم بن مهتا النفراوي أن الحج أشد أركان الإسلام (كتاب الفواكه الدواني) فهو فريضة على كل من استطاع إلى ذلك سبيلا من المسلمين الأحرار البالغين مرة في عمره، والسبيل الطريق السابلة: فمن شروط الحج إذن الاستطاعة، فلا يجب الحج على غير المستطيع، باتفاق المذاهب الأربعة، إلا أن هاته المذاهب اختلفت في تفسير معنى الاستطاعة.
فالاستطاعة لدى الحنفية هي القدرة على الزاد والراحلة، بشرط أن يكونا زائدين عن حاجياته الأصلية، كالدَّيْن الذي عليه والمسكن، والملبس والمواشي اللازمة له، وأن يكونا زائدتين عن نفقة من تلزمه نفقتهم مدة غيابه إلى أن يعود، ويعتبر في الراحلة ما يليق بالشخص عادة وعرفا، ويختلف ذلك لديهم باختلاف الناس واختلاف أحوالهم، فالرجل الذي لم يستطع أن يستأجر محملا، فإنه لا يجب عليه الحج، أو لا يكون قادرا على هذه الحالة. ومثله من لا يستطيع أن يستأجر مركبا يركب عليه وحده، فلو قدر على راحلة مع شريك له، بحيث يتعاقبان الركوب عليها، فيمشي كل منهما تارة، ويركب الآخر، فإنه لا يعتبر قادرا، ولا يجب عليه الحج.(3/545)
والاستطاعة لدى المالكية هي إمكان الوصول إلى مكة ومواضع النسك إمكانا ماديًا، سواء كان ماشيا أو راكبا، وسواء كان ما يركبه مملوكا له أو مستأجرا، ويشترط أن لا تلحق مشقة عظيمة بالسفر، فمن قدر على الوصول مع المشقة الفائقة فلا يكون مستطيعا، ولا يجب عليه الحج، ولكن لو تكلفه وتجشم المشقة أجزأه ووقع فرضا، كما أن من قدر على الحج بأمر غير معتاد، كالطيران ونحوه لا يعد مستطيعا، ولكن لو فعله أجزأه (أي كفاه) .
ويعتبر المالكية في شأن الاستطاعة أنه لا فرق بين البر والبحر متى كانت السلامة فيه غالبة، فإن لم تغلب فلا يجب الحج إذا تعين البحر طريقا.
يزاد لدى المالكية في حق المرأة أن يكون معها زوجها أو محرم من عائلتها أو رفقة مأمونة، فإذا فُقِدَ جميع ذلك، فلا يجب عليها الحج، وأن يكون الركوب ميسورا لها إذا كانت المسافة بعيدة، والبعد لا يُحد بمسافة القصر، بل بما يشق على المرأة المشي فيه، ويختلف ذلك باختلاف النساء، فيلاحظ في كلٍّ ما يناسبها، فإذا شق المشي على المرأة ولم يتيسر لها الركوب، فلا يجب عليها، كما لا يجب عليها إذا تعين السفر في سفن صغيرة لا تتمكن فيها المرأة من الستر وحفظ نفسها. أما السفن الكبيرة التي يوجد فيها محالٌّ يمكن أن تكون المرأة فيها محفوظة، فيجب السفر فيها إذا تعينت طريقا، ولا يسقط الحج عنها.(3/546)
والاستطاعة لدى الحنابلة هي القدرة على الزاد الصالحة لمثله. كما يشترط الحنابلة لوجوب الحج أمن الطريق، بحيث لا يوجد مانع من خوف على النفس أو المال أو العرض، أو نحو ذلك. أما المرأة فلا يجب عليها الحج إلا إذا كان معها زوجها أو أحد من محارمها. ولم يتعرض الحنابلة إلى مسألة الطائرة بل الإحرام عن طريق الجو أو السفينة فكل ما لديهم أن يكون الطريق آمنا.
أما الشافعية، فالاستطاعة لديهم على نوعين:
1- الاستطاعة بالنفس والقدرة على ما يلزمه من زاد وأجرة الكفارة ونحو ذلك من الذهاب والإقامة بمكة والإياب منها.
2- وجوب الراحلة، ويعتبر ذلك لديهم في حق المرأة مطلقا سواء كانت المسافة طويلة أو قصيرة، وفي حق الرجل إن كانت المسافة طويلة، فإن كانت قصيرة وقدر على المشي بدون مشقة وجب عليه الحج بدون وجود الراحلة وإلا فلا يجب، وفسر الشافعية الراحلة بأنها ما يمكن الوصول عليه، سواء كانت مختصة أو مشتركة، بشرط أن يجد من يركب معه. فإن لم يجد من يركب معه ولم ييسر له ركوبها وحده فلا يجب عليه الحج، ولا بد أن تكون الراحلة مهيئة بما لابد منه في السفر، كخيمة.(3/547)
وقال ابن حبيب: الاستطاعة هي الزاد والراحلة، وعلى العموم من قدر على المشي وجبت عليه وإن عدم الركوب، وكذلك الأعمى إذا وجد قائدا ولم يجد طريقا إلا البحر لم يسقط عنه الحج (خلافا لموقف الشافعي كما رأيناه آنفا) ، إلا أن يكون الخوف أو يعلم أنه يعطل الصلاة بالميد. ولو كان لا يجد موضعا للسجود للضيق إلا ظهر أخيه فلا يركبه، والمعطوب الذي لا يستمسك على الراحلة لا يلزمه أن يجمع عنه غيره من ماله، ويسقط الحج إذا كان في الطريق عدو.
وعلى العموم الحج عن طريق البر والبحر مقبول لدى الفقهاء والمسألة المتعلقة عن الإحرام عن طريق الجو هو الذي لم يقع الاتفاق عليه، فقد قال الإمام مالك عن الإحرام عن طريق الجو أنه من قدر على الحج عن طريق الطيران ونحوه لا يعد مستطيعا، إلا أنه لو قام بذلك أجزأه، ونحن نعلم أن السفر عن طريق الجو كان معدوما في ذلك الحين، أما الآن فهو مصلحة ضرورية ووسيلة ناجحة للسفر، ولو إلى المكان المقصود في أقل وقت ممكن، وبالتالي يمكن إدراج الإحرام عن طريق الطائرة ضمن الاستطاعة إذ إنه قول يحقق الإحرام لمستقلِّ الطائرة عند نزولها في المطار، إذ ما دام المحرم في الطائرة وهي في الجو لا يمكنه معرفة الميقات الزماني والمكاني. وكذلك مستقل الباخرة الإحرام لديه يبدأ من بلوغه الميناء والنزول على مطية الباخرة. علما بأن المواقيت تنقسم إلى قسمين:
- ميقات زماني ومكاني: فالزماني شوال وذو القعدة والعشر الأُوَل من ذي الحجة، فمن أحرم قبل ذلك انعقد وصح على كراهية وفقا لأبي حنيفة، وقيل لا ينعقد وفاقا لداود، وقال الشافعي: يسقط وينقلب حجه إلى عمرة. وعلى الكل هذا قد لا يقع فيه خلاف كثير كما هو للنشأ فيما يخص الميقات المكاني، التي تنقسم إلى خمسة، منقسمة على جهات الحرم وهي، الحليفة لأهل المدينة، وقرن لأهل نجد، والجحفة لأهل الشام ومصر والمغرب، ويلملم لأهل اليمن، وذات عرق لأهل العراق وخرسان والمشرق. ويكره تقديمه عليها ويلزم إن فعل. ويقول الشافعي: الأخيرة أن يحرم من بلده، والأولى لمن مر بذي الحليفة من ميقات الجحفة أن يحرم من ذي الحليفة؛ لأنه ميقات النبي صلى الله عليه وسلم. وأما للمقيم بمكة فيحرم منها، وميقات العمرة من مكان مواقيت الحج إلا لمن كان في الحرم، فعليه أن يخرج إلى الحل ولو إلى أوله، ليجمع بين الحرم والحل كما يجمع بينهما الحاج، والاختيار له أن يحرم بالعمرة من الجعرانة أو التنعيم. ومن كان منزله أقرب إلى مكة من الميقات، فميقاته من منزله في الحج أو العمرة، ومن مر على ميقات فله ثلاثة أحوال:(3/548)
1- المسألة الأولى: أن يمر لحاجة دون مكة فلا إحرام عليه.
2- المسألة الثانية: أن يريد دخول مكة لحاجة، فيلزمه الإحرام وهو لازم لكل من دخلها إلا من خرج من أهلها لحاجة ثم عاد. ومن أكثر التردد إليها كالحطاب أو غيره لا يلزم عند بعض الكتاب.
3- الحالة الثالثة: أن يريد الحج والعمرة فيحرم من الميقات ولا يتجاوزه إلى ما بعده، فإن تجاوز رجع ما لم يحرم، ولا دَمَ عليه، فإن أحرم مضى ولزمه الدم، وإن رجع بعد إحرامه لم يسقط عنه الدم.
ويجدر التنبيه بأن الإحرام ينعقد بالنية المقترنة بقول أو فعل متعلق بالحج كالتلبية والتوجه إلى الطريق، وسننها أربعة.
1- الغسل تنظيفا، ولا يتطيب قبل الغسل ولا بعده بما يبقى رائحة.
2- التجرد عن المخيط في إزار ورداء ونعلين.
3- صلاة ركعتين فأكثر، فإن إحرام عقب الغرق فلا بأس.
4- التلبية من حين يأخذ في المشي، ويجددها عند كل هبوط وصعود وحدوث حادث وخلف الصلوات.
وعلى هذا نكون قد أتينا على آخر بحثنا وعلى الله التوفيق.(3/549)
الإحرام للقادم إلى الحج بالطائرة أو الباخرة
لفضيلة الشيخ تجاني صابون محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
الإحرام للقادم إلى الحج بالطائرة أو الباخرة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
يعتبر الإحرام الركن الأول من أركان الحج ومعناه في الشرع: نية الدخول في الحج والعمرة. ولا يلزم في تحققه اقترانه بتلبية أو سوق هدي أو نحو ذلك عند الشافعية. أما الأحناف فقد قالوا بأن الإحرام يتحقق بأمرين، الأول: النية، والثاني: اقترانها بالتلبية، ويقوم مقام التلبية مطلق الذكر أو تقليد البدنة مع سوقها، فلو نوى بدون تلبية أو ما يقوم مقامها مما ذُكِرَ أو لبّى ولم ينو لا يكون محرما، وكذلك لو أشعر البدنة بجرح سنامها الأيسر أو وضع الجل عليها أو أرسلها، وكان غير متمتع بالعمرة إلى الحج ولم يلحقها، أو قلّد شاة، لا يكون محرما.
أما المالكية فقد ذكروا معنى الإحرام بما يلي: الإحرام هو الدخول في حرمات الحج، ويتحقق بالنية فقط على المعتمد، ويسن اقترانه بقول كالتلبية والتهليل، أو فعل متعلق بالحج كالتوجه وتقليد البدنة.
أما المواقيت فهي تنقسم إلى قسمين: زمانية ومكانية.(3/550)
فالميقات الزماني بالحج مفردا أو قارنا هو من أول شوال إلى طلوع الفجر من يوم النحر. أما المواقيت المكانية فهي تختلف باختلاف الجهات، فأهل الشام ومصر والسودان والمغرب ومن دونهم فيمقاتهم الجحفة، وأهل العراق وسائر أهل المشرق فميقاتهم ذات عرق، وهي قرية على مرحلتين من مكة، وأهل المدينة المنورة بنور النبي صلى الله عليه وسلم ميقاتهم ذو الحليفة، وهي تبعد عن المدينة بخمسة أميال، وهي أبعد المواقيت من مكة، والميقات لأهل اليمن والهند يلملم، وهي تبعد بمرحلتين من مكة، ولأهل نجد قرن، وهي أيضًا على مرحلتين من مكة. فهذه المواقيت لأهل هذه الجهات المذكورة، ولكل من مر بها أو حاذاها، وإن لم يكن من أهل جهتها. فمن مر بميقات منها أو حاذاه قاصدا النسك، وَجَبَ عليه الإحرام منه، ويجوز له أن يجاوزه بدون إحرام، فإن جاوزه ولم يحرم وجب عليه الرجوع إليه ليحرم منه إن كان الطريق مأمونا، وكان الوقت متسعا، بحيث لا يفوته الحج لو رجع، فإن لم يرجع لزمه هدي لأنه جاوز الميقات بدون إحرام، سواء أمكنه الرجوع أم لم يمكن لخوف الطريق أو ضيق الوقت، إلا أنه في حالة إمكان الرجوع يأثم بتركه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون أمامه مواقيت أخرى في طريقه أو لا، وهذا الحكم أقرته الشافعية والحنابلة.
أما الأحناف فقالوا: إن جاوز الميقات بدون إحرام حرم عليه ذلك ويلزمه الدم إن لم يكن أمامه ميقات يمر عليه بعد، وإلا فالأفضل إحرامه من الأول فقط إن أمن على نفسه من ارتكاب ما ينافي الإحرام، فإن لم يأمن فالأفضل أن يؤخر الإحرام إلى آخر المواقيت التي يمر بها.(3/551)
أما المالكية فقالوا: هذه المواقيت معتبرة بأنفسها لا بأسمائها. فإذا كان الميقات قرية فخربت أو انتقلت عمارتها واسمها إلى موضع آخر كان الاعتبار بالأول؛ لأن الحكم تعلق به، فمتى مر بميقات من هذه المواقيت وجب عليه الإحرام منه، فإن جاوزه بدون إحرام حرم ولزمه دم، إلا إذا كان ميقات جهته أمامه يمر عليه فيما بعد، فإن كان كذلك ندب له الإحرام من الأول فقط، فإن لم يحرم منه فلا أثم عليه ولا دم وخالف المندوب.
وهذا كله فيما كان خارجا عن هذه المواقيت، وأما من كان بينها فميقاته من بيته، ومن كان بمكة من غير أهلها وأراد الإحرام بالحج صح إحرامه من مكة بلا إثم ولكن يندب له أن يخرج إلى ميقات ليحرم منه إن كان الوقت متسعا وأمن على نفسه وماله لو خرج، وإلا فلا يندب له الخروج.
أما من حج في البحر من أهل مصر وشبههم فليحرم إذا حاذى الجحفة هذا ما أقره جل السادة المالكية، خلافا على ما جاء عن بعض منهم حيث يرون الأفضل تأخير الإحرام حتى بلوغ سواحل جدة، ويرى في هذا الرأي الأخير تجاوز الميقات.
أما حكم الإحرام في الطائرة فإن حكمه حكم الإحرام في الباخرة، فإذا أمكن للحاج أن يحاذي ميقاته أحرم وإن وجد مشقة في الإحرام داخل الطائرة وفي تحديد مكان الميقات (كما هو الحال في معظم الطائرات) وخاف مجاوزة الميقات دون إحرام، فإنه يحرم قبل ركوبه الطائرة؛ لأن أمر الإحرام قبل الميقات أخف من الإحرام بعده، حيث إن الأول مكروه على المذهب المالكي، والثاني يوجب الهدي والإثم في بعض الحالات، كما مر في سياق هذا البحث.(3/552)
وقد جاء في حاشية الإمام الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل في الجزء الثاني صفحة (428) ما يلي: قال رجل لمالك بن أنس: من أين أحرم؟ فقال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعاد عليه مرارا. قال: فإن زدت على ذلك؟ قال: فلا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة. قال: وما في هذا من الفتنة إنما هي أميال أزيدها؟ فقال مالك: قال الله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] قال: وأي فتنة في هذا؟ قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك أصبت فضلا قصّر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ترى أن اختيارك لنفسك خير من اختيار الله تعالى لك واختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعلى ضوء ذلك فإنه يتعذر علينا وجود رخصة في تحديد ميقات قبل أو بعد المواقيت المحددة من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن يجب على الاجتهاد أن يجري في المحافظة عليها ومراعاتها.
فنسأل الله الكريم أن يهدينا إلى طريق الصواب، وأن يحفظ ديننا الذي ارتضاه لنا. والسلام عليكم ورحمة الله.(3/553)
الإحرام من جدة لركاب الطائرات في الفقه الإسلامي
لفضيلة الشيخ محيي الدين قادي
بسم الله الرحمن الرحيم
الإحرام من جدة لركاب الطائرات في الفقه الإسلامي (1)
الحمد لله الذي شرح صدورنا للإسلام، وجعلنا من أمة الحاشر الخاتم خير الأنام، سيدنا ومولانا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فبيّن لنا الحدود والأحكام، وفصل لنا الحلال والحرام، وأورث فقهاء أمته التوقيع عن رب العالمين، فكانوا كواكب الهدى وأنوار الدجى وخدموا الشريعة خدمة جليلة فجازاهم الله عنا أحسن الجزاء، وجعلنا وإياهم من الفائزين بالحسنى وزيادة يوم الجزاء.
وبعد، تأملت هذا الموضوع فوجدته يندرج ضمن عديد الموضوعات التي أثارتها على الساحة الإسلامية حركةُ التقدم الحضاري والتقني؛ وذلك لأن هذه القضية حدثت حصيلة تطور وسائل النقل تطورا كبيرا من عائمة من أعماق البحار، إلى طائرة في أجواء الفضاء إلى متجاوزة لذلك كله، ونازحة على سطح القمر حاضرا، وكواكب أخرى مستقبلا، ولا يخفى أن هذا التطور في وسائل النقل أحدث العديد من المشاكل في حياة المسلمين عبادات ومعاملات، وأصبح المسلم في حيرة من أمره يتساءل: هل تجوز الصلاة في الطائرة إذا انحرفت عن القبلة؟ وهل تجوز فيها إذا طارت فوق مكة وأصبحت المعاملة والمعانية متعذرتين؟ ولو طارت الطائرة في أجواء الفضاء بحيث تدور الأرض ولا تدور، هل يقصر ويفطر؟
__________
(1) التزمْتُ المذاهب الأربعة غالبا، وفي بعض الأحيان المذاهب السبعة المتواجدة على الساحة الإسلامية.(3/554)
لو صلى في مركبة فضائية خارج نظام الجاذبية، فينعدم الوزن انعداما كليا، ويتغير الأمر تغيرا جذريا، ويكون معلقا في الفضاء، وفي حركة عشوائية قسرية لا تمكنه من القيام، ولا من الاتجاه إلى الأرض، فكيف يصلي؟
ولو ركب قمرا صناعيا فدار به في الليل والنهار عشر مرات حول الأرض، وكل دورة لها ليل ونهار، فهل تجب عليه الصلوات الخمس في جميع الدورات؟
ولو سافر بالطائرة إلى الحج، فهل يحرم من الميقات؟ أو قبله؟ أو يؤخر إحرامه إلى أول مكان في البر وهو جدة في حاضرنا الإسلامي؟
كل هذه التساؤلات لا تجد الحلول الفقهية السريعة سرعةَ التقدم الحضاري والتقني بصفة عامة، وسرعةَ التطور الخطير في وسائل النقل بصفة خاصة؛ وذلك أن تكوين الفقهاء المعاصرين محدود، فلم يبق فيهم المجتهد المطلق، ولا مجتهد المذهب، ولا مجتهد الفتوى، وإنما هم مقلدون يفتون الناس بنقل أقوال الأئمة في حادثة ما، أو التخريج عليها، وتنزيل هذه الأقوال منزلة الأدلة لدى الأئمة المجتهدين.(3/555)
ولرأب هذا الصدق أنشئت المجامع الفقهية لتحقيق الاجتهاد الجماعي العاجل في المشاكل المستحدثة، ولكتابة الموسوعات والمعاجم الفقهية، والمجلات ذات المستوى العالي في البحوث الفقهية وغيرها من الوسائل لتيسير عملية الاجتهاد الفردي بين الفقهاء، وذلك ما اعتبره هذا المجمع العالمي للفقه الإسلامي مهمته وهدفه، ويوم يتحقق ذلك يفرح المسلمون بعودة الازدهار إلى أعظم مأثرة من مآثر حضارتهم وهو: " فقههم ".
ولنكف اليراع عن الاسترسال فيما يجب إنجازه لتيسير عملية الاجتهاد الفردي، فذلك ما يتطلب بدوره بحثا، أو بحوثا، ولنسارع إلى بيان الخطة التي قام عليها هذا البحث فنقول، ومنه - عم نواله - نستمد بلوغ المأمول: اقتضت طبيعة هذا البحث أن يكون مشتملا على خمسة مباحث، رتبتها على النسق التالي:
المبحث الأول: تعريف الإحرام:
ويشتمل على أربع نقاط:
النقطة الأولى: تعريف الإحرام لغة.
النقطة الثانية: تعريف الإحرام شرعا في المذاهب الفقهية.
النقطة الثالثة: شرح تعريف الإمام ابن عرفة.
النقطة الرابعة: نقد لهذه التعاريف ونتيجة.
المبحث الثاني: حكم الإحرام:
ويشتمل على نقطتين:
النقطة الأولى: ركنية الإحرام.
النقطة الثانية: هل ركنية الإحرام قدر متفق عليه بين المذاهب الإسلامية.(3/556)
المبحث الثالث: الميقات الزماني للعمرة والحج:
ويشتمل على خمس نقاط:
النقطة الأولى: تعريف الميقات لغة.
النقطة الثانية: تعريف الميقات الزماني شرعا.
النقطة الثالثة: الميقات الزماني للعمرة.
النقطة الرابعة: الميقات الزماني للحج.
النقطة الخامسة: الإحرام قبل الميقات الزماني.
المبحث الرابع: الميقات المكاني للحج والعمرة:
ويشتمل على تسع نقاط:
النقطة الأولى: تعريف الميقات المكاني شرعًا.
النقطة الثانية: الميقات المكاني لمن بالحل.
النقطة الثالثة: الميقات المكاني لمن بمكة المكرمة.
النقطة الرابعة: الميقات المكاني للأفقيين.
النقطة الخامسة: الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وقّت المواقيت.
النقطة السادسة: المواقيت لأهلها ولمن مر بها من غير أهلها.
النقطة السابعة: جواز الإحرام قبل المواقيت.
النقطة الثامنة: الإحرام بعدها بين الضيق وبين السعة.
النقطة التاسعة: إحرام من لم يمر بالمواقيت.(3/557)
المبحث الخامس: الترخيص لركاب الطائرات في تأخير الإحرام إلى جدة:
ويشتمل على ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: مقاصد شرعية عامة تساعد على الترخيص للأفقيين في تأخير الإحرام إلى جدة.
النقطة الثانية: تيسيرات خاصة بالحج.
النقطة الثالثة: نصوص فقهاء الإسلام تُرخص للقادمين جوا في تأخير الإحرام إلى جدة.
ملحق: يتضمن عدة فتاوى مصورة لأعلام من الفقهاء المعاصرين شرقا وغربا.
هذا واعتمدت في تحرير مسائل هذا البحث على مصادر ومراجع متعددة، اختلفت درجة استعمالها، واتفقت في كونها معتمدة في باباها، سيجدها القارئ في هوامش البحث، وفي فهرست مصادره ومراجعه – إن شاء الله – ولا أزعم أنني وصلت في موضوع هذا البحث إلى القول الفصل، ولكنني أصّلته، وأرجعت أقوال الفقهاء إلى مداركها، حاولت في المبحث الخامس ربطها بمقاصدها، والتخريج عليها بدون تعسف ولا إكراه لها، راجيا من وراء ذلك أن ينفعني الله بما علمت، وينفع بي، وأن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم وهو حسبي ونعم الوكيل.(3/558)
المبحث الأول
تعريف الإحرام
ويشتمل على النقاط التالية:
النقطة الأولى: تعريف الإحرام لغة.
النقطة الثانية: تعريف الإحرام شرعا في المذاهب الفقهية.
النقطة الثالثة: شرح تعريفة ابن عرفة.
النقطة الرابعة: نقد لهذه التعاريف ونتيجة.
النقطة الأولى
تعريف الإحرام لغة
الإحرام في لسان العرب: الدخول في حرمة لا تهتك، وإحرام الحاج أو المعتمر الدخول في عمل حرم عليه به ما كان حلالا (1) .
وهو مصدر أحرم الرجل، يحرم، إحراما: إذا أهلّ بالحج، أو العمرة، وباشر أسبابهما وشروطهما، من خلع المخيط واجتناب الأشياء التي منعه الشرع منها، كالطيب والنكاح والصيد، وغير ذلك.
والأصل فيه المنع، فكأن المحرم ممتنع من هذه الأشياء، ومنه حديث: ((الصلاة تحريمها التكبير)) كأن المصلي بالتكبير والدخول في الصلاة، صار ممنوعا من الكلام والأفعال الخارجية عن كلام الصلاة وأفعالها. فقيل للتكبير؛ تحريم؛ لمنعه المصلي من ذلك (2) .
__________
(1) مجد الدين بن يعقوب الفيروزآبادي. القاموس المحيط: 4/95.
(2) محمد بن مكرم ابن منظور. لسان العرب: 49/122.(3/559)
والملاحظة وجود تداخل بين المعاني اللغوية وبين المعنى الشرعي لكلمة "إحرام "، وذلك ما يفوت على الباحث معرفة العلاقة بين المعنى اللغوي وبين المعنى الشرعي، وهل هي النقل أو التخصيص أو التعميم؟
ويبدو لي هذا التداخل في قولهم: أحرم الحاج، أو المعتمر: دخل في عمل حرم عليه به ما كان حلالا، ذلك ما قاله مجد الدين في القاموس المحيط، ويزداد هذا التداخل وضوحا عند صاحب اللسان إذ يقول: وهو مصدر أحرم الرجل يحرم إحراما: إذا أهل بالحج أو العمرة، وباشر أسبابهما وشروطهما، من خلع المخيط إلى آخر ما سلف، ويعرب عن هذا التداخل بصورة جلية لا لبس فيها أحمدُ الفيوميُّ في المصباح المنير حين يقول: أحرم الشخص: نوى الدخول في حج أو عمرة (1) .
النقطة الثانية
تعريف الإحرام شرعا في المذاهب الفقهية
لقد تناول فقهاء المذاهب السبعة المنتشرة في بقاع العالم الإسلامي رسم الإحرام شرعا، فرسمه عدد كبير من الفقهاء الأحناف برسوم متقاربة، ومن ذلك ما رسمه به الكمال بن الهمام حيث قال: الإحرام: الدخول في حرمات مخصوصة أي التزامها، غير أنه لا يتحقق شرعا إلا بالنية والذكر (2) .
__________
(1) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للإمام الرافعي: 1/84.
(2) فتح القدير: 2/134.(3/560)
ورسمه من المالكية الإمام ابن عرفة رحمه الله فقال: صفة حكمية، توجب لموصوفها حرمة مقدمات الوطء مطلقا، وإلقاء التفث، والطيب، ولبس الذكور المخيط، والصيد لغير ضرورة لا يبطل بما تمنعه " (1) .
ورسمه من الشافعية الرملي فقال: يطلق الإحرام على نية الدخول في النسك (2) .
ورسمه من الحنابلة البهوتي بقوله: نية الدخول في النسك، لا نيته ليحج أو يعتمر (3) .
ورسمه من الزيدية أحمد بن يحيى المرتضى بقوله: الإحرام: نية الحج أو العمرة أو هما معا، عند الميقات (4) .
ورسمه من الإمامية العاملي فقال: الإحرام: هو في الحقيقة عبارة عن النية (5) .
ورسمه من الإباضية محمد بن يوسف أطفيش بقوله: الإحرام هو النية والتلبية، ونصه الحَرْفِيّ هو التالي: " يعقد نية الإحرام بحج، ويقول: لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة والملك لك، لا شريك لك، لبيك بحج تمامه وبلاغه عليك يا الله، ومن لم يلب لم يدخل في حج ولم يصح إحرامه، والتلبية مع نية الإحرام بحج أو بعمرة، أو بهما، قيل: كافيتان عن ذكر حج أو عمرة، أو ذكرهما في التلبية، والأولى الذي هو ذكر أحدهما، أو ذكرهما في التلبية أصح (6) .
ومن هذه الفقرة استخلصت رسم الإحرام شرعا عند الاباضية وهو النية المصاحبة للتلبية. والله أعلم.
__________
(1) الرصاع. الهداية الكافية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة الوافية: 104.
(2) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: 3/265.
(3) كشاف القناع عن متن الإقناع: 2/406.
(4) البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار: 2.
(5) الرضوة البهية شرح اللمعة الدمشقية: 1/173.
(6) كتاب شرح النيل وشفاء العليل: 2/299.(3/561)
النقطة الثالثة
شرح تعريف الإمام ابن عرفة
لم أشرح الرسوم الستة ليسرها، ولقربها من التعريفات اللغوية، وخصصت تعريف الإمام ابن عرفة بالشرح لغموضه، فلو لم يُشرح لاستعصى فهمه على ذوي الاختصاص فضلا عن غيرهم. ومن قديمٍ عرف أسلافنا من الفقهاء المالكية هذه الميزة لتأليف ابن عرفة بصورة عامة، ولحدوده بصورة خاصة، وإنما أعانهم على فقهها أنهم شيخوها، ولم يتسوروا عليها، ومن حين لآخر، ورغما عن تمشيتهم لشرحها تعترضهم عقبة كأداء، وكان المبرزون منهم يفخرون بفكّ رموزها، وفهم إشاراتها خلفا عن سلف (1) ، وناهيك بحدود يعجز مؤلفها عن فهم واحد منها وهو حد الإجارة في أخريات عمره، وتوقف يومين وهو يتضرع إلى الله في فهمها، وأجاب في اليوم الثاني (2) .
ولم أدع هذا الرسم الذي رسم به الإمام ابن عرفة – رحمه الله – الإحرام لكونه أدق محاولة من المحاولات التي ذكرتها في رسمه، ولكونه على شدة اختصاره وغموضه معينا على تصور إجمالي لحقيقة الإحرام، وإن كنت لا أدعي سلامته من النقد، كما سأبين ذلك في النقطة الموالية.
وبعد هذه الإضاءة فإلى شرح التعريف، وشرحه يقوم على إبراز مراكز الاهتمام فيه وهي:
__________
(1) الرصاع، الهداية الكافية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة الوافية: 3.
(2) محمد الحجوى. الفكر السامي: 2/400.(3/562)
1- قوله: " صفة حُكْمِيَّة ": هذا القيد ذكره في عدة رسوم كالطهارة، والطلاق، والقضاء، وغير ذلك، وهو جنس يشمل ما ذكر وما لم يذكر من كل ما هو معنى تقديري؛ لأن المراد بالصفة الحكمية معنى تقديري يحكم بها الذهن ولا وجود لها في الخارج. وأخرج بقوله " حكمية " الصفة الحسية كالطول والقصر، والسواد والبياض، والصفة العقلية كالعلم والقدرة وغير ذلك.
2- قوله: " حرمة " قيد يخرج الطهارة، وقد عرفها من قبل بأنها: " صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة " ... إلخ.
3- قوله: " مقدمات الوطء " نبه بحرمة مقدمات الوطء على حرمة الوطء نفسه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
4- قوله: " مطلقا ": يتأتى تفسير الإطلاق بتفسيرين:
(أ) أن الإطلاق يراد به جميع الحالات التي يكون عليها الحاج أو المعتمر في ليله ونهاره، في سره وإعلانه، سواء كان يمارس منسكا أو يمارس غيره.
(ب) أن الإطلاق يريد به في حالة الضرورة وفي غيرها بخلاف إلقاء التفث والطيب، وهذا أقرب الاحتمالين.
وهذا القيد " مطلقا " له أهمية في الرسم، فلو أسقطه وقال: " صفة حكمية توجب لموصوفها حرمة مقدمات الوطء وإلقاء التفث ... إلخ، للزم على ذلك صدقه في حالة الطواف مثلا، فصدق في إحرام الحج أنه أوجب حرمة المقدمات، بما وقع بعد ذلك من أجزاء الحج، لا يدل على عموم التحريم فيه، إلا بزيادة قيد الإطلاق.(3/563)
5- قوله: " ولبس الذكور المخيط " قيد أخرج به المرأة؛ لأن لبس المخيط لا يحرم في حقها، وفيه إشارة إلى أن إحرام الرجل مغاير لإحرام المرأة.
6- قوله: " والصيد " معطوف على المضاف إليه " الوطء " والمراد به في هذا الرسم: الاصطياد لا ملك الصيد؛ وذلك لأن الذي ملك صيدا في الحل ثم يُحرم، ولم يكن حامله، لا يسقط ملكه عنه.
7- قوله " لغير ضرورة " قيد راجع للأربعة المذكورة قبل ذلك، وهي: إلقاء التفث، والتطيب، ولبس الذكور المخيط، ولا صيد؛ لأنها تكون ممنوعة اختيارا كما نص على ذلك.
8- قوله " لا يبطل بما يمنعه " أراد بهذه الفقرة بيان العرف بين ممنوعات إحرام الحج والعمرة، وبين إحرام غير الحج والعمرة كالصلاة والصوم والاعتكاف، فإن ممنوعات الإحرام بالحج أو العمرة إذا ارتكبها الحاج أو المعتمر لا تبطل الحج وإن كان الممنوع مما يفسد الحج كالوطء، وإن ممنوعات غير الحج كالصلاة والصوم والاعتكاف إذا ارتكبها المصلي أو الصائم أو المعتكف فإنها تبطل عليه صلاته أو صومه أو اعتكافه.(3/564)
النقطة الرابعة
نقد التعاريف السالفة، ونتيجة
إن تعريف الإحرام أُشْكٍلَ على الفقهاء قديما وحديثا، والرسوم التي ذكرتها آنفا لفقهاء المذاهب لم تسلم من الاعتراض والنقد، فالتعريف الأول وهو تعريف ابن الهمام يتسنى نقده من وجوه ثلاثة:
(أ) أن يكون ابن الهمام – رحمه الله – أراد بـ " الدخول " في التعريف المذكور مطلق فعل الحاج أو المعتمر، وعلى هذا التفسير يلزم نفي الإحرام عن المحصر؛ لأنه غير متمكن من فعل النسكين، ويلزم عنه أيضًا أن النائم والمغمى عليه لا إحرام لهما.
(ب) أن يكون ابن الهمام أراد بالدخول حقيقته، وهي انشاؤه، يلزم على هذا الشرح أن يكون بعد إنشاء الدخول غير محرم؛ لأن الإحرام عنده إنشاء الدخول، وإذا دخل في أحد النسكين: الحج أو العمرة، أو هما معا، فلا يمكن وجود الإحرام حقيقة بعد ذلك.
وتلزم من ذلك لازمة خطيرة، وهو أن يكون غير محرم بدخوله هذا.
(ج) الذي يقع به الدخول في الإحرام النيةُ والتلبيةُ، أو ما يقوم مقام التلبية من الذكر، وتقليد البدنة مع السوق (1) ، والواجب من هذه النية وحدها، وما ليس بواجب لا يكون جزءا من واجب، والإحرام جزء.
وأما تعاريف الرملي الشافعي، والبهوتي الحنبلي، والمرتضى الزيدي، والعاملي الإمامي، فمعترضة من جهة أنها عرفت الإحرام بأنه النية، والنية شرط في الحج، فهي خارجة عن الماهية، والإحرام ركن فهو داخل في الماهية، وعندية الميقات عند المرتضى كذلك.
وأما تعريف أطفيش الإباضي فينقد من وجهين:
__________
(1) ابن عابدين. رد المحتار على الدر المختار: 2/147.(3/565)
1- أن النية التي جعلها الإحرام هي شرط، والشرط خارج عن الماهية والإحرام ركن، والركن داخل في الماهية.
2- أن التلبية التي جعلها جزءا من حقيقة الإحرام ليست ركنا، وما ليس بركن لا يكون جزءا من ركن (1) .
وقد علل الإمام ابن عرفة – رحمه الله – وقوع الغلط في تعريف الإحرام لدى كثير من الفقهاء فقال: " إن سبب وقوع الغلط من عدم تحقق الشعور بمميز ماهية الإحرام ومعرفة حقيقته عن الذي ينعقد به الإحرام وبوجوده، فالنية ينعقد بها الإحرام، وكذلك التوجه، وذلك كله سبب في حصول الإحرام، والسبب غير المسبب قطعا، كما نقول: الصلاة لها إحرام، وتكبير إحرام، فالتكبير مع النية سبب في حصول الإحرام والإحرام مسبب (2) .
بيد أن ابن عرفة الذي بين سبب وقوع الغلط لدى الفقهاء في تعريف الإحرام لم يسلم ترعيفه السالف من اعتراض، وذلك لأن ابن عرفة عرض لما ينشأ عن الإحرام من الآثار حين قال: " صفة حكمية توجب لموصوفها " إلخ.. ,لم يعرف ماهية الإحرام.
إذن تعريف الإحرام لم يفارقه الإشكال، ولم يخل تعريف عن اعتراض، والذي يظهر لي والله أعلم: أن أول ما يفعله قاصد الحج والعمرة إذا أراد الدخول فيهما أن يحرم بذلك، وقبل ذلك فهو قاصد الحج أو العمرة ولم يدخل فيهما، بمنزلة الذي يخرج إلى صلاة الجمعة، فله أجر السعي ولا يدخل في الصلاة حتى يحرم بها، فإذا وصل مريد النسك إلى الميقات أحرم (3) .
__________
(1) أردت بالواجب والركن في هذا النقد شيئًا واحدا.
(2) الرصاع. الهداية الكافية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة الوافية: 104.
(3) ابن تيمية: الفتاوى: 26/99.(3/566)
المبحث الثاني
حكم الإحرام
ويشتمل على نقطتين:
النقطة الأولى: ركنية الإحرام.
النقطة الثانية: هل ركنية الإحرام قدر متفق عليه بين المذاهب.
النقطة الأولى
ركنية الإحرام
قديما قيل: الحكم عن الشيء فرع عن تصوره، وعملا بهذه القاعدة الأساسية لا بد لنا من معرفة الركن لغة واصطلاحا؛ حتى يتضح في أذهاننا المراد بركنية الإحرام.
والركن لغة: الجانب الأقوى (1) ، واصطلاحا: ركن الشيء ما به يتم، وهو داخل فيه (2) .
وبعد معرفة معنى الركن لغة واصطلاحا نقول: إن ركنية الإحرام ثابتة من الثوابت في المذهب المالكي والشافعي والحنبلي والزيدي والإمامي والإباضي، والنصوص في ذلك قواطع: قال خليل بن إسحاق المالكي: " وركنهما الإحرام (3) " يعني الحج والعمرة. وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في منهجه: " أركان الحج: إحرام " (4) ... إلخ، وكذلك عدّ البهوتي الحنبلي أركانَ الحج أربعة، وذكر منها الإحرام (5) ، وعده المرتضى الزيدي ركنا وفرضا.
__________
(1) مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي. القاموس المحيط: 4/231.
(2) علي بن محمد الجرجاني. التعريفات: 51.
(3) المختصر: 69.
(4) المنهج بشرحه عليه: 2/488.
(5) كشاف القناع عن متن الاقناع: 2/521.(3/567)
جاء في البحر الزخار له: " أركان الحج هي: الإحرام، والوقوف، وطواف الزيارة، وفروضه الأركان وطواف القدوم " فعده ركنا وفرضا (1) ، وعده العاملي الإمامي الركنَ الأعظم لاستمراره ومصاحبته لأكثر الأفعال، وكثرةِ أحكامه (2) ، وعده أبو زكريا الجناوتي الإباضي ركنا من أركان الحج (3) .
وأما في المذهب النعماني فالإحرام كما يقول محمد علاء الدين الحصكفي في كتابه: " الدر المختار شرح تنوير الأبصار ": شرطٌ ابتداءً، وله حكمُ الركنِ انتهاءً.
وعلّل ركنيته انتهاءً بأن الذي فاته الحج لا يجوز له استدامة الإحرام ليقضي به من قابل (4) .
وتعقبه محشيه خاتمة المحققين في المذهب الحنفي ابن عابدين فقال: " قوله: وهو شرط ابتداء " حتى صح تقديمه على أشهر الحج وإن كُره، و " قوله: حتى لم يجز ... إلخ " تفريع على شبهه بالركن، يعني أن فائت الحج لا يجوز له استدامة الإحرام، بل عليه التحلل بعمرة والقضاء من قابل، ويتفرع عليه أيضًا من أنه لو أحرم ثم ارتد – والعياذ بالله تعالى – بطل إحرامه، وإلا بالردة لا تبطل الشرط الحقيقي كالطهارة للصلاة، وكذا اشتراط النية فيه، والشرط المحض لا يحتاج إلى نية، وكذا ما مر من عدم سقوط الفرض عن صبي بلغ ما لم يجدده (5) .
__________
(1) البحر: 2/294.
(2) الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية: 1/173.
(3) كتاب الوضع: 1/206.
(4) الحصكفي: 2/147.
(5) رد المحتار على الدر المختار: 2/147.(3/568)
والذي يظهر من كلام ابن عابدين – رحمه الله – غلبةُ شبهةِ الركنية على الإحرام من الشرطية؛ لأنه عدّدَ وجوهَ الشبه في الركنية، واقتصر على وجه شبه واحد بالشرط.
النقطة الثانية
هل ركنية الإحرام قدر متفق عليه بين المذاهب؟
يبدو لنا الإجماع من خلال المذاهب السبعة المذكورة آنفا على ركنية الإحرام للنسك، ولو انتهاء كما هو الشأن في المذهب النعماني، أو إضافة الفرضية إلى الركنية، كما هو الحال في المذهب الزيدي، أو الركنية فقط كما هو الأمر في باقي المذاهب السبعة، مع وصفه بالركن الأعظم عند العاملي من الإمامية.
فما المراد بالركن في باب الحج؟
الركن في باب الحج هو الذي لو لم يفعل بطل الحج، ولا يجبر بالدم.(3/569)
المبحث الثالث
الميقات الزماني للحج والعمرة
ويشتمل على نقاط خمسة:
النقطة الأولى: تعريف الميقات لغة.
النقطة الثانية: تعريف الميقات الزماني شرعا.
النقطة الثالثة: الميقات الزماني للعمرة.
النقطة الربعة: الميقات الزماني للحج.
النقطة الخامسة: الإحرام قبله.
النقطة الأولى والثانية
تعريف الميقات لغة وشرعا
الميقات: الوقت المضروب للفعل، قال تعالى:: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] قال الزجاج: جعل لها وقت واحد للفعل في القضاء بين الأمة. وقال الفرّاء: جمعت لوقتها يوم القيامة. وقال تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] أي موقتا مقدرا.
وقد يكون " وَقّت " بمعنى أوجب عليهم الإحرام في الحج والصلاة عند دخول وقتها (1) .
إذن كلمة ميقات تحمل بين طياتها: التحديد الموحد للزمن، كما جاء في تفسير الزجاج للآية الكريمة {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] ، والتحديد الموحد للمقدار الممارس من الفعل في ذلك الزمن كما تنطق بذلك الآية الكريمة: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] .
هذا والملاحظ أن هنالك تداخلا بين المعنى اللغوي وبين المعنى الشرعي، كما جاء في الفقرة الأخيرة: " وَقّتَ " بمعنى أوجب عليهم الإحرام في الحج والصلاة عند دخول وقتها.
وهذا الأمر خطير، وواجب المختصين في شؤون المعجم العربي أن يُصَفُّوا المعجم من هذا الأمر ومن غيره، مما لا علاقة له بالمعاني اللغوية حقيقة ومجازا.
ووجه خطورته أن مصادر التشريع من قرآن وسنة وآثار هي بلسان عربي مبين، فإذا أراد الفقيه أن يفسر آية أو يشرح حديثا ليستخلص فقها ولم يجد معاني لغوية محضة وقع في الخلط وسوء الفهم.
وأما تعريف الميقات الزماني شرعا هو أزمنة معينة لعبادة مخصوصة.
__________
(1) ابن منظور. لسان العرب: 7/107 – 108 بتصرف.(3/570)
النقطة الثالثة
الميقات الزماني للعمرة
الميقات الزماني للعمرة: العام كله، فجميعه وقت للإحرام بها، غير أن أبا حنيفة – رحمه الله – يقول: تجوز في كل السنة، إلا يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق فمكروهة كراهة تحريم، قال محمد التمرتاشي في تنوير اللأبصار: " وكرهت يوم عرفة، وأربعة بعدها " وقال شارحه محمد الحصكفي: أي كرهت تحريما (1) ، ويزاد على الأيام خمسة كراهة فعلها في أشهر الحج لأهل مكة ومن بمعناهم، أي من المقيمين، ومن في داخل الميقات؛ لأن الغالب عليهم أن يحجوا في سنتهم فيكونوا مقيمين وهم عن التمتع ممنوعون، وإلا فلا يمنع المكي عن العمرة المفردة في أشهر الحج إذا لم يحج في تلك السنة (2) .
وكره مالك – رحمه الله - لمن أحرم بالحج مفردا أن يحرم بعمرة بعد ذلك، من لدن يحرم بالحج حتى يفرغ من حجه ويحل، كما كان يكره الإحرام بالعمرة بعد الطواف بمكة أول ما دخل، أو بعد الخروج إلى منى، أو في وقوفه بعرفة، أو في أيام التشريق.
لكن هل كان مالك يأمر من أحرم بالعمرة في هذه الأيام المذكورة برفضها؟ قال ابن القاسم: لا أحفظ عن مالك أنه أمر برفضها.
__________
(1) تنوير الأبصار بشرح الدر المختار: 2/151 – 152.
(2) ابن عابدين. رد المحتار على الدر المختار: 2/152.(3/571)
بقي: هل تلزمه؟ قال ابن القاسم: لا أحفظ عن مالك أنه قال: تلزمه، وأرى أنه قد أساء فيما صنع حين أحرم بالعمرة بعد إحرامه بالحج قبل أن يفرغ من حجه، ولا أرى العمرة تلزمه، وقد بلغني ذلك عن مالك (1) .
وإذا قلنا: لا تلزمه كما يرى ابن القاسم، فهل عليه عمرة مكان هذه التي أحرم بها في أيام الحج بعد فراغه بهذه التي لا يرى ابن القاسم لزومها له؟ ليس عليه شيء فيما يرى ابن القاسم (2) ، وقوله: قد أساء فيما صنع، ينطق بالحرمة.
النقطة الرابعة
الميقات الزماني للحج
الميقات الزماني للحج الخُلْفُ يجري فيه على أربعة أقوال (3) .
1- ميقات الحج الزماني: شوال وذو القعدة وذو الحجة كله، وبهذا القول قال ابن مسعود، وابن عمر، وعروة بن الزبير، وعطاء، والربيع، ومجاهد، والزهري. ورواه ابن المنذر عن مالك – رضي الله عنهم جميعا (4) ، وهو المشهور عن مالك.
__________
(1) اجتهاد ابن القاسم موافق لما بلغه عن مالك رحمه الله لكنه لم يحفظه عنه.
(2) سحنون. المدونة: 1/370.
(3) ميقات الحج الذي فيه الخلف أعلاه هو ميقات من ليس بمكة.
(4) يراجع في ذلك: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/405، والتحرير والتنوير لسماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور تغمده الله برحمته: 2/232.(3/572)
2- ميقات الحج الزماني: شوال وذو القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة، وبه قال ابن عباس، وابن مسعود في رواية عنه، والسدي، والشعبي، والنخعي، وأبو حنيفة، ورواه ابن حبيب عن مالك، رضي الله عنهم جميعا (1) .
3- ميقات الحج الزماني: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة. وبه قال من الصحابة ابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن الزبير، ومن التابعين الحسن البصري، وابن سيرين، والشعبي وهو قول الشافعي والثوري وأبي ثور، رضي الله عنهم جميعًا (2) .
4- ميقات الحج الزماني: شوال وذو القعدة وثلاثة عشر يوما من ذي الحجة، وهو قول لمالك – رحمه الله – ذكره ابن العربي ولم ينسبه كما ذكره ابن الحاجب في جامع الأمهات ولم يعزه أيضًا (3) .
واستدل أصحاب القول الأول بأن الله تبارك وتعالى ذكر أشهر الحج بصيغة الجمع، وأقل الجمع المطلق ثلاثة، هذا أولاً، وثانيا: أن كل شهر كان أوله من أشهر الحج كان آخره كذلك (4) .
__________
(1) يراجع في ذلك المصدران السابقان، كل في جزئه وصفحته.
(2) الخازن: لباب التأويل في معاني التنزيل: 1/126.
(3) يراجع في ذلك: أحكام القرآن لابن العربي: 1/131، والتحرير والتنوير للأستاذ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله: 2/232.
(4) الخازن. لباب التأويل في معاني التنزيل: 1/126.(3/573)
واستدل أصحاب القول الثاني بأن طواف الإفاضة، وهو الطواف الركن يفعل في اليوم العاشر (1) .
واستدل أصحاب القول الثالث بصحة الوقوف بعرفة وهو الحج كله، وأنه يفوت بطلوع الفجر الثاني من يوم النحر، والعبادة لا تفوت مع بقاء وقتها، فدل ذلك على أن يوم النحر ليس من أشهر الحج (2) .
وأما أصحاب القول الرابع والأخير فقد احتجوا بأن الرمي من أفعال الحج وشعائره وهو يمارس في أيام التشريق (3) .
وثمرة الخلاف بين أئمة الفقه الإسلامي من لدن عصر الصحابة والتابعين إلى عصر نشأة المذاهب ما أشار إليه ابن رشد الحفيد بقوله: تأخر طواف الإفاضة إلى آخر الشهر، يقبل على القول الأول ولا يقبل على الأقوال الثلاثة الأخرى (4) . ويزيد ابن العربي المسألة بيانا فيقول: فائدة من جعله ذا الحجة كله، أنه إذا أخر طواف الإفاضة إلى آخره لم يكن عليه دم؛ لأنه جاء به في أيام الحج (5) .
هذا وما قرر في الميقات الزمني للحج على اختلاف مناحي الاجتهاد فيه إنما هو في غير من بمكة المشرفة.
__________
(1) ابن العربي. أحكام القرآن: 1/132.
(2) الخازن. لباب التأويل في معاني التنزيل: 1/126.
(3) ابن العربي. المصدر السابق والجزء والصفحة.
(4) ابن رشد. بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 1/315.
(5) ابن العربي. المصدر السابق والجزء والصفحة.(3/574)
وأما أهل مكة – زادها الله شرفا – ومن بها من غيرهم، إذا كانوا بها فإهلالهم بالحج يكون عند رؤية هلال ذي الحجة، جاء في الموطأ عن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – أنه قال: " يا أهل مكة، ما شأن الناس يأتون شعثا وأنتم مدهنون، أهلوا إذا رأيتم الهلال ". وجاء فيها أيضًا إن عبد الله بن الزبير أقام بمكة تسع سنين وهو يهل بالحج لهلال ذي الحجة، وعروة بن الزبير معه يفعل ذلك (1) .
وإهلال أهل مكة ومن بها من غيرهم بالحج لرؤية هلال ذي الحجة لم يوافق عليه عبد الله بن عمر أباه، بل كان يهل بالحج يوم التروية.
وعلل الباجي فعل ابن عمر بعلتين:
(أ) أنه لم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم يُهل حتى تنبعث به راحلته.
(ب) أن من دأب المحرم عدم الإقامة بموضع ينشئ فيه إحرامه، وإنما يحرم ويلبي عند أخذه في التوجه إليه حيث يقتضي إحرامه التوجه إليه، فكره أن يحرم بمكة، ثم يقيم بها بعد إحرامه ثمانية أيام (2) .
وبكل من القولين قال جماعة من السلف والأئمة، وهما روايتان عن مالك رحمه الله، بقول عمر جاءت رواية المدونة، وبقول عبد الله بن عمر جاءت الرواية عن مالك أيضًا (3) ، والخلاف في الأفضل، والكل جائز بالإجماع، جاء في المدونة: قلت (سحنون) لابن القاسم: أهل مكة في التلبية كغيرهم من الناس في قول مالك؟ قال: نعم. قال: وقال مالك: أحب إلي أن يحرم أهل مكة إذا أهل هلال ذي الحجة (4) .
__________
(1) مالك. الموطأ. كتاب الحج، إهلال أهل مكة ومن بها من غيرهم: 2/258.
(2) المنتقى: 2/219.
(3) الزرقاني. شرحه على الموطأ: 2/258.
(4) سحنون. المدونة: 1/369.(3/575)
النقطة الخامسة
الإحرام قبل الميقات الزماني
الإحرام بالحج قبل أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة جرى فيه الخلف بين الفقهاء على أقوال:
1- ينعقد إحرامه إحرام عمرة، وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والشافعي.
2- يكره إحرامه وينعقد ويصح، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد، رضوان الله عليهم جميعًا.
3- لا يصح إحرامه، ذكره ابن رشد في بداية المجتهد ولم ينسبه (1) .
واستدل أصحاب القول الأول بأن من التزم عبادة وقت نظيرتها انقلبت إلى النظير، مثل أن يصوم نذرا في رمضان هذا أولا، وثانيا: الله جل جلاله جعل هذه الأشهر الثلاثة وقتا للإحرام بالحج وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أي الحج حج أشهر معلومات فلو انعقد في غيرها لم يكن لهذا التخصيص وجه ولا فائدة، وثالثًا: الحج كالصلاة، وهذه لا تقع في غير وقتها فكذلك الحج.
واستدل أصحاب القول الثاني بعموم قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وقالوا: متى أحرم انعقد إحرامه؛ لأنه مأمور بالإتمام، وربما شبهوا الحج في هذا المعنى بالعمرة، وشبهوا ميقات الحج الزماني بميقات العمرة، وتأولوا الآية: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] كالتالي: أشهر الحج أشهر معلومات، هذا أولاً، وثانيًا: احتجوا بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] وقالوا: المولى تبارك وتعالى جعل الأهلة كلها ظرفا للحج، فصح أن يحرم في جميعها.
__________
(1) البداية: 1/315.(3/576)
وأما أصحاب القول الثالث فلم يذكر ابن رشد لهم دليلاً فيما يبدو لي على حدة، ويصلح لهم الثالث من أدلة أصحاب القول الأول على ما يظهر من كلام ابن رشد في بدايته (1) .
والقول الأول والذي به يقول الإمام الشافعي يبدو أنه أصح الأقوال الثلاثة؛ وذلك لأن ما تمسك به أصحاب القول الثاني لم يثبت ثبوت أدلة الشافعي والتي سقنا البعض منها. وبيان ذلك أن أصحاب القول الثاني تمسكوا بعموم قوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، وليس بالتمسك القوي؛ لاحتمال أن الأمر: " أتموا " يراد به تحصيل الفعل من أول الأمر، وذلك من سنن العرب في كلامهم، كقولهم: " وسع فم الركية " أي أوجدها كذلك من أول الأمر، وكقولك: أسرع السير فادع لها فلانا، تخاطب به من لم يشرع في السير بعد، وإنما تأمره بإحداث سير سريع من بادئ الأمر، وكقول القرآن جريا على هذا الأسلوب: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] ، وهو ضرب من ضروب التعبير ليس بكناية ولا مجاز (2) فمدلول الآية: أوجدوهما من أول الأمر تامين.
وكذلك رُدَّ على أصحاب القول الثاني ما تمسكوا به من الاحتجاج بأية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] ، وبأن المراد منها جعل الأهلة كلها ظرفا لذلك، فصح أن يحرم في جميعها بالحج، وقالوا لهم: إن هذه الآية عامة، وآية {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] خاصة، والخاص مقدم على العام، وقيل أيضًا: إن آية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] مجملة، والثانية وهي آية: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] مفسرة ومبينة لها، وهو بيان مؤخر عن المبين، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة واقع غير مرة (3) .
__________
(1) ابن رشد: 1/315.
(2) الأستاذ الإمام محمد طاهر ابن عاشور رحمه الله. التحرير والتنوير: 2/217 في غير السياق الذي استثمرنا كلامه فيه.
(3) الخازن. لباب التأويل في معاني التنزيل: 1/126.(3/577)
المبحث الرابع
الميقات المكاني للحج والعمرة
ويشتمل على تسع نقاط:
النقطة الأولى: تعريف الميقات المكاني شرعًا.
النقطة الثانية: الميقات المكاني لمن بالحل.
النقطة الثالثة: الميقات المكاني لمن بمكة المكرمة.
النقطة الرابعة: الميقات المكاني للأفقيين.
النقطة الخامسة: الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وقت المواقيت.
النقطة السادسة: المواقيت لأهلها ولمن مر بها من غير أهلها.
النقطة السابعة: جواز الإحرام قبل المواقيت.
النقطة الثامنة: الإحرام بعدها بين الضيق وبين السعة.
النقطة التاسعة: الإحرام لمن لم يمر بالمواقيت.(3/578)
النقطة الأولى
تعريف الميقات المكاني شرعا
لم أعرف الميقات المكاني لغة للمجانسة الموجودة بينه وبين التعريف اللغوي للميقات الزماني.
وأما تعريفه شرعا فحين طلبته في كتب الفقه لم أظفر به في صورته الجامعة المانعة، وإنما وجدت تعريفات لا تزيد على ذكر خاصة من خواص الميقات المكاني تقربه إلى الأذهان، كقول سليمان الجمل الشافعي: "مكان العبادة " (1) ، وكقول البهوتي الحنبلي: " موضع معين لعبادة مخصوصة " (2) فحاولت تعريفه في صورته المطردة المنعكسة فقلت: الميقات المكاني: الموضع المعين من لدن صاحب الشرع، والذي لا يجوز تأخير التلبس بالإحرام عنه لمريد النسك اتفاقا، ولغيره عند الجمهور، لغير ضرورة بهما، ولا حرج.
النقطة الثانية
الميقات المكاني لمن بالحل
إن الميقات المكاني يختلف باختلاف الحجاج والعمار فإنهم أنماط ثلاثة:
1- حليون.
2- مكيون، أو حرميون بعبارة أشمل.
__________
(1) حاشية على شرح المنهج لزكريا الأنصاري: 2/395.
(2) كشاف القناع عن متن الإقناع: 2/399.(3/579)
3- آفاقيون (1)
والحليون: هم الذين يقطنون بعد المواقيت، ودون الحرم.
والمذهب النعماني في إحرام الحليين لا يفرق بين من سكن عند الميقات وبين من سكن وراءه في المنصوص من الرواية، كما صرح بذلك الكمال بن الهمام في الفتح، أو ابن نجيم في البحر وغيرهما من فقهاء الحنفية.
والحليون هؤلاء لا يخلو حالهم من أمرين:
(أ) أن يدخلوا مكة المشرفة بنية النسك.
(ب) أن يدخلوا مكة المشرفة بغير نية ذلك، ولحاجة.
__________
(1) نسبة إلى الجمع آفَاق، وهي خطأ مشهور بين الفقهاء، والصواب أُفُقي وأُفُقيون بضمتين أو أَفَقي وأَفَقيون بفتحتين على غير قياس تخفيفا، قال الفيومي في مصباحه: والنسبة إلى آفاق أُفُقي ردا على الواحد وربما قيل: أَفَقي بفتحتين تخفيفا على غير قياس حكاهما ابن السكيت وغيره. ولا ينسب إلى الآفاق على لفظها: 1/12. وقد أشار ابن مالك إلى هذه القاعدة في الخلاصة (الرجز) : والواحد اذكر ناصبا للجمع إن لم يشابه واحد في الوضع(3/580)
وفي الصورة الأولى يجب عليهم الإحرام قبل دخول الحرم بميقاتهم الحل كل الحل إلى الحرم.
ومما يجب التيقظ إليه – كما قال القطبي في منسكه -: ما يفعله أهل جدة (1) ، وحدة (2) ، وأهل الأودية الغربية من مكة المشرفة، فإنهم غالبا ما يقدمون مكة – زادها الله شرفا – سادس أو سابع ذي الحجة بلا إحرام، ويحرمون للحج من مكة، فعليهم دم لمجاوزة الميقات بلا إحرام، لكن بعد توجههم إلى عرفة ينبغي سقوطه عنهم بوصولهم إلى أول الحل ملبين، إلا أن يقال: إن هذا لا يعد رجوعا إلى الميقات لعدم قصدهم العودة لجبر ما لزمهم بالمجاوزة، بل قصدوا التوجه إلى عرفة. وقال القاضي محمد عيد في شرح نسكه: والظاهر السقوط؛ لأن الرجوع إلى الميقات مع مصاحبة التلبية له، مسقط للهدي الذي ترتب على مجاوزة الميقات بغير إحرام، ولو لم يكن هنالك قصد لحصول المقصود وهو التعظيم (3) .
وفي الصورة الثانية يجوز له دخولها بغير إحرام لنفي الحرج كحطابي مكة إذا دخلوا للحل ولم يتجاوزوا المواقيت الموقتة للأفقيين (4) .
__________
(1) جُدّة: بضم الجيم وتشديد الدال المهملة: بلدة على ساحل البحر بينها وبين مكة مرحلتان. (النووي. تهذيب الأسماء واللغات: 2/202) .
(2) حدة: بالفتح: موضع بين مكة وجدة، وكانت تسمى حداء (الفيروز آبادي. القاموس المحيط: 1/297) .
(3) ابن عابدين. رد المحتار: 2/155.
(4) محمد علاء الدين الحصكفي. الدر المختار: 2/155.(3/581)
بقي لابد من ملاحظة، وهي أن من وجد بين ميقاتين كمن كان منزله بين ذي الحليفة والجحفة، فإنه بالنظر إلى الجحفة خارج الميقات ولا يحل له دخول الحرم إلا بإحرام، وبالنظر إلى ذي الحليفة داخل الميقات (1) فيجوز له ذلك.
وأما في مذهب مالك فالحليون لا يخلو حالهم من أمور أربعة هي:
1- حلي منزله عند الميقات أو داخله.
2- حلي بين ميقاتين كأهل بدر بين ذي الحليفة وبين الجحفة.
3- حلي بين الميقات وبين مكة كأهل جدة وحدة.
4- حلي سافر إلى ما قبل المواقيت.
وفي الصورة الأولى مكان إحرامه منزله، فإن كان منزله قريبا من الميقات ندب له الذهاب إليه، والإحرام منه.
وفي الصورة الثانية مكان إحرامه داره أيضًا.
وفي الصورة الثالثة مكان إحرامهم مساكنهم ويخيرون بين بيوتهم وبين مساجدهم.
وفي الصورة الرابعة يخير بين التأخير إلى منزله، وبين الإحرام من الميقات، وإحرامه من الميقات أفضل.
__________
(1) ابن عابدين، المصدر السابق والصفحة والجزء(3/582)
وفي الصور الأربعة المذكورة إن تجاوزوا المنازل بغير إحرام فعليهم الهدي، كمن تجاوز من الآفاقيين ميقاته بدون إحرام (1) .
وأما على مذهب الشافعي فالحليون مكان إحرامهم منازلهم إن أرادوا النسك، قال سليمان الجمل: وهذا مقيد بما إذا لم يكن بينه وبين مكة ميقات آخر كأهل بدر والصفراء، فإنهم بعد ذي الحليفة وقبل الجحفة، وميقاتهم الثاني وهو الجحفة (2) .
وأما على مذهب الإمام أحمد بن حنبل فالأمر يختلف عن مذهب الإمام الشافعي، لولا ذلك القيد الذي ذكره سليمان الجمل، قال البهوتي: ومن منزله بين الميقات ومكة كأهل خليص وعسفان، ميقاته من موضعه.
واحتج لذلك بحديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي وَقّتَ لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، فهن لهن ولمن أتى عليهم من غير أهلن ممن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمن أهله، حتى أهل مكة يهلون (3) منها (4) .
__________
(1) يراجع في ذلك الشرح الصغير لأحمد الدردير: 1/266؛ وأسهل المدارك: 1/452- 453 لأبي بكر بن حسن الكشناوي
(2) حاشية على شرح المنهج: 2/404.
(3) كشاف القناع عن متن الإقناع: 2/401.
(4) البخاري الجامع الصحيح كتاب الحج باب مهل من كان دون المواقيت: 3/388 مع فتح الباري.(3/583)
النقطة الثانية
الميقات المكاني لمن بمكة المشرفة:
قبل الكلام عن الميقات المكاني لمن بمكة المشرفة حدا بي أن أُمهد بتمهيد يتضمن المسألتين التاليتين:
1- أن مكة حرم، وما أحاط بها قريبا حرمٌ أيضًا، والحرم قد ضرب على حدوده بالمنار القديمة التي أظهر خليل الله إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم مشاعرها. ومن لدن عهد إبراهيم عليه السلام وحدود الحرم متعارفة، وقريش سكان الحرم المبارك يعلمون أن ما دون المنار إلى مكة – زادها الله شرفا – من الحرم، وما وراء المنار ليس من الحرم (1) قال ابن عابدين: إن على الحرم علامات منصوبة في جميع جوانبه نصبها إبراهيم الخليل عليه السلام وكان جبريل يريه مواضعها، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتجديدها، ثم عمر، ثم عثمان، ثم معاوية (2) وقال مالك في المدونة: وسأل عمر في أعلام الحرم واتبع رعاةً قدماء مشيخة من مكة كانوا يرعون في الجاهلية، حتى تتبع أنصاب الحرم مجددة، فهو الذي حد أنصاب الحرم ونصبه (3) .
__________
(1) ابن منظور لسان العرب: 49/122.
(2) رد المحتار على الدر المختار: 2/156.
(3) المدونة: 1/352.(3/584)
وحدود الحرم على مقتضى ضبط خليل بن إسحاق المالكي في مختصره هي:
1- من جهة طيبة الغراء أربعة أميال أو خمسة للتنعيم.
2- من جهة العراق ثمانية أميال للمقطع.
3- من جهة عرفة تسعة أميال.
4- من جهة جدة عشر أميال لآخر الحديبية.
وكما ضبطها – رضي الله عنه – بالمسح، ضبطها بالعلامة وهي وقوف سيول الحل كلها دونه (1) ، ولله در شمس الدين بن حزم إذا يقول (البسيط) :
إِنْ رُمْتَ لِلْحَرَمِ الْمَكِّيِّ مَعْرِفَةً
فَاسْمَعْ وَكُنْ وَاعِيًا قَوْلِي وَمَا أَصِفُ
وَاعْلَمْ بَأَنْ سُيُولَ الْحِلَّ قَاطِبَةً
إِذَا جَرَتْ نَحْوَهُ فَدُونَهُ تَقِفُ
(2) .
والضبط بالعلامة أغلبي. قال عبد الباقي الزرقاني: فلا ينافي قول الأزرقي: يدخله من جهة التنعيم، ولا قول الفاكهاني من جهات أخر (3) .
__________
(1) المختصر: 78.
(2) أبو عبد الله سيدي محمد الطالب بن حمدون بن الحاج حاشيته على صغير ميارة: 2/98.
(3) شرحه على مختصر خليل: 2/310.(3/585)
1- أن من يسكنون في الحرم، وليسوا من أهل مكة كأهل منى ومزدلفة حكمهم حكم أهل مكة، ومن أقام بها إقامة تقطع السفر أو لا.
وبعد هذا التمهيد نقول: إن أهل مكة ومن حكمهم لا يخلو حالهم من أمرين:
(أ) أن يكونوا بالحج محرمين.
(ب) أن يكونوا بالعمرة محرمين.
فإن كانوا محرمين بالحج ففي المذهب النعماني الحرم كله مكان للإحرام من أي مكان شاؤوا أحرموا، من الأبطح أو من غيره، والمسجد أفضل؛ لأن الإحرام عبادة، والعبادة في المسجد أولى كالصلاة.
ولو خالف الحرمي فأحرم من الحل لزمه دم، إلا إذا عاد إلى الحرم ملبيا وأحرم منه.
وأما إن كانوا محرمين بالعمرة ومهلهم الحل ليقع الجمع بين الحل والحرم، كما وقع بالحج عند الوقوف بعرفة، وعرفة في الحل، وأي مكان في الحل وقع الإحرام منه كفى، والتنعيم أفضل، وهو أقرب موضع من الحل، ويعرف بمسجد عائشة رضي الله عنها وهو في المذهب الحنفي الإحرام منه أفضل من الإحرام من الجعرانة؛ لأمره عليه الصلاة والسلام عبدَ الرحمن بأن يذهب بأخته أم المؤمنين عائشة إلى التنعيم لتحرم منه.(3/586)
ولا يرد على الأحناف إحرامه صلوات الله وسلامه عليه من الجعرانة؛ لأن هذه سنة فعلية، وتلك سنة قولية، والسنة القولية مقدمة على الفعلية في الاستدلال بما عندهم، خلافا للشافعي رضي الله عنه (1) .
وأما على مذهب مالك رحمه الله فالمحرمون بالحج لا يخلو حال أحوالهم من أمرين:
(أ) الإفراد.
(ب) القِران.
فإن أحرموا بالحج مفردا أحرموا من أي مكان في الحرم وندب لهم الإحرام بالمسجد الحرام في مواضع صلاتهم وهم جلوس، وليس عليهم القيام من مصلاهم، ولا أن يتقدموا جهة البيت، ثم يلبون بعد ذلك، بل يشرعون في التلبية من مواضع صلاتهم.
هذا وندب لأفقيٍّ الخروج إلى ميقاته الموقّت له إذا توفر شرطان:
1- أن يكون في الوقت سعة بحيث يتأتى الذهاب إلى الميقات، والرجوع منع، وأدراك الوقوف بعرفة هنيهة قبل طلوع الفجر.
2- أن يتحقق من الأمن في الطريق ذهابا وإيابا.
__________
(1) ابن عابدين رد المحتار: 2/155.(3/587)
قال الصاوي: ومع عدم الأمن لا يندب له، بل ربما كان رجوعه حراما (1) .
وأما إن أحرموا قارنين بين الحج وبين العمرة، فمكان إحرامه الحل على المشهور من المذهب خلافا لعبد الملك؛ وذلك لأن كل إحرام لابد فيه من الجمع بين الحرم والحل، فلو أحرم بالقران من مكة لم يجمع في إحرامه بين الحل والحرم بالنسبة إلى العمرة؛ لأن خروجه إلى عرفة – وهو حل- إنما هو للحج فقط، بخلاف إحرامه بالحج من مكة فإنه يخرج إلى عرفة وهو في الحل، فيقع الجمع بين الحل والحرم الذي هو شرط في كل إحرام.
ولا يطلب في القران مكان معين من الحل.
هذا هو حكم المحرمين إفرادا وقرانا في مذهب مالك رحمه الله.
وأما المحرمون بالعمرة في مذهبه فمكان إحرامه الحل أيضًا، جاء في الموطأ: وسئل مالك عن رجل من أهل مكة، هل يهل من جوف الكعبة بعمرة؟ قال: بل يخرج إلى الحل (2) ، والعلة ما سلف من الجمع في كل إحرام بين الحرم وبين الحل.
__________
(1) بلغة السالك: 1/266.
(2) الموطأ مع شرح الزرقاني: 2/259.(3/588)
ويندب للمعتمرين الإحرام من الجعرانة، ففي الموطأ عن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل من الجعرانة بعمرة (1) .
والمذهب الشافعي الميقات المكاني للحج فيه لمن بمكة نفس مكة، مكيا كان أو أفقيا، والميقات المكاني للعمرة الحل ولو بأقل من خطوة ليقع الجمع بين الحل والحرم، كما في الحج، فإن فيه الجمع بين الحرم والحل بعرفة.
وأفضل بقاع الحل الجعرانة، ثم التنعيم، ثم الحديبية (2) .
وأما المذهب الحنبلي فالإحرام بالحج لمن بمكة نفس مكة، ولو كان متمتعا لقول جابر: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح)) (3) وذكر البهوتي في كشاف القناع من متن الإقناع مازجا كلامه بكلام صاحب المتن، ونصه في رواية حرب: من المسجد، وفي الإيضاح والمبهج: من تحت الميزاب ويسمى الحطيم، ويجوز إحرامه من سائر الحرم ومن الحل كالعمرة.
وأما الإحرام بالعمرة فمن الحل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن أن يعمر عائشة من التنعيم؛ ولأن أفعال العمرة كلها في الحرم، فيلزم الحل للقاعدة القائلة: أن كل إحرام لابد فيه من الجمع بين الحرم والحل بخلاف الحج، فإنه يخرج إلى عرفة وهو من الحل، فيحصل الجمع بين الحل وبين الحرم (4) .
__________
(1) الموطأ مع شرح الزرقاني: 2/241.
(2) إبراهيم البيجورى حاشيته على شرح ابن قاسم الغزى على متن أبي شجاع: 11/387- 388.
(3) ابن تيمية الجد، منتقى الأخبار مع نيل الأوطار، كتاب المناسك، باب النهي عن التحلل بعد السعي إلا للمتمتع إذا لم يسق هديا وبيان متى يوجه المتمع إلى منى ومتى يحرم بالحج: 5/129.
(4) البهوتي: 2/401.(3/589)
النقطة الرابعة
الميقات المكاني للأفقيين
تعدد الميقات المكاني للأفقيين بتعدد الأصقاع المحيطة بالحرم، وعدد المواقيت المكانية للأفقيين خمسة:
1- ذو الحليفة، وهي ميقات أهل المدينة – زادها الله شرفا – تبعد على المدينة بستة أميال، قال العلامة ابن عابدين: وقيل: سبعة، وقيل أربعة، قال العلامة القطبي في منسكه: والمحرر من ذلك ما قاله السيد السنهوري في تاريخه: قد اختبرت ذلك، فكان من عتبة باب المسجد النبوي الشريف المعروف بباب السلام إلى عتبة مسجد الشجرة بذي الحليفة تسعة عشر ألف ذراع ونصف ذراع، بذراع اليد.
وذلك دون خمسة أميال، فإن الميل عندنا (في عصر ابن عابدين) أربعة آلاف ذراع بذراع الحديد المستعمل الآن، والله أعلم.
وتبعد على مكة بعشر مراحل أو تسع (1) .
وهذا الخلاف في التحديد بالمسح يثير إشكالا خطيرًا في بادئ الأمر؛ لأن من بالمدينة لا يخلو حاله أما أن يحرم قبل الميقات أو يتجاوز الميقات غير محرم، لكن العلامة ابن تيمية يُرجع ذلك إلى تعدد الطرق واختلافها قُربا وبعدًا من مكة المكرمة (2) .
وأنا أقول: وهو الشأن بالنسبة إلى المدينة المنورة (3) .
وهي أبعد المواقيت وتقع شمال مكة، وفي الجنوب الغربي للمدينة، وحكمة ذلك أن يعظم أجور أهلها.
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار: 2/152.
(2) الفتاوى: 26/99.
(3) وقد ضبط الشيخ أحمد الشرباصى بُعد ذي الحليفة على المدينة بالكيلو متر، فقال: تبعد بنحو 18 كيلو متر (يسألونك في الدين والحياة: 1/174 – دار الجيل بيروت) .(3/590)
ولهذا الميقات خصوصية على غيره من المواقيت؛ لأن المحرم منه يحرم من حرم المدينة، ويحل في حرم مكة، فله شرف الانتهاء والابتداء أيضًا هو ميقاته صلى الله عليه وسلم (1) ، ومن أجل ذلك إن مر من أهل الشام وأهل مصر ومن وراءهم بذى الحليفة، فأحب أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة، فذلك واسع، ولكن الأفضل له أن يهل من ميقات النبي عليه السلام إذا مر به (2) ولو كان المار حائضا أو نفساء تَرجوانِ رفعَ الدم عند الوصول إلى الجحفة، فالأفضل أن تحرما منه، ولو من غير صلاة للإحرام لأن ركوعها للإحرام لا يفى بفضل تقديم إحرامها من الميقات الباقي الشريف (3) .
وما ذكرته هو المقرر في مذهب مالك رحمه الله وبه قال الحنفية وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية، ومن هنا يتبين خلاف الصواب فيما حكاه الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم فقال شارحا قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولمن أتى عليهن)) معناه أن الشامى إذا مر بميقات المدينة في ذهابه لزمه أن يحرم من ميقات المدينة، ولا يجوز له ميقات الشام الذي هو الجحفة وكذا الباقي من المواقيت، وهذا لا خلاف فيه (4) .
__________
(1) أحمد بن غنيم النفراوي: الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: 2/62.
(2) سحنون. المدونة: 1/377.
(3) الحطاب. مواهب الجليل: 3/37.
(4) النووي: 5/201 بهامش إرشاد الساري، وكذلك نفي الخلاف في شرح المهذب.(3/591)
وقد حاول الحافظ ابن حجر العسقلاني تصويب ما حكاه الإمام النووي من الاتفاق بأنه أراد اتفاق الشافعية (1) ولكن هذه المحاولة لا تثبت فيما يبدو لوجود ابن المنذر مخالفا للشافعية وهو من أجل فقهائهم.
هذا ومكان الإحرام من ذي الحليفة المندوب إليه، المرغب فيه من مسجد الشجرة؛ لما جاء في الموطأ عن سالم بن عبد الله: أنه سمع أباه يقول: " بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد. يعني مسجد ذي الحليفة (2) .
2- الجحفة: وهي قرية كبيرة كانت عامرة، وقد زالت معالمها واندرست، تقع في الشمال الغربي لمكة المكرمة على بعد سبعة وثمانين ومائة كيلو متر منها على ساحل البحر الأحمر الشرقى. وهي ميقات أهل الشام، كما في حديث الموطأ الآتى فيما بعد، وزاد النسائي من حديث عائشة: ومصر، وزاد الشافعي في روايته: والمغرب (3) وأهلها يحرمون الآن من رابغ احتياطا، وهي شمال الجحفة، فالمحرم منها كالمحرم من الجحفة على ما اختاره المنوفي، واقتصر عليه ابن فرحون في مناسكه.
__________
(1) فتح الباري: 3/386.
(2) مالك. الموطأ. كتاب المناسك، العمل في الإهلال: 2/244.
(3) محمد الزرقاني. شرحه على الموطأ: 2/239.(3/592)
وحجة هذا الاختيار إجماع الناس على الإحرام منه.
وذهب عبد الله بن الحاج صاحب المدخل إلى القول بأنها قبل الميقات فيكره الإحرام منها، إذ هي تبعد على مكة بأربع ومائتى كيلو متر، وأشار خليل في مختصره إلى تردد شيخيه فقال: " وفي رابغ تردد " (1) ، (2) .
3- قرن المنازل (3) : وهو ميقات أهل نجد (4) ، وهو جبل شرقي مكة يشرف على عرفات، بينه وبين مكة مرحلتان أي أربع وتسعون كيلو متر، وهو أقرب المواقيت إليها.
__________
(1) أبو عبد الله محمد الطالب بن حمدون بن الحاج. حاشيته على صغير ميارة: 2/76.
(2) خليل. المختصر: 69.
(3) ضبطه الجوهرى في صحاحه بفتح القاف والراء، قال: والقرن موضع، وهو ميقات أهل نجد، ومنه أويس القرني: 6/2181. وضبطه النووي بفتح القاف وإسكان الراء وقال: " لا خلاف في هذا بين رواه الحديث، وأهل اللغة، والفقهاء، وأصحاب الأخبار، وغيرهم، وغلطوا الجوهرى صاحب الصحاح في قوله: أنه يفتح الراء وفي قوله: أن أويس القرني رضي الله عنه منسوب إليه، فإن الصواب المشهور لكل أحد أن هذا ساكن الراء، وأن أويسا رضي الله تعالى عنه منسوب إلى فوق بفتح القاف بطن من قبيلة مراد المعروفة. تهذيب الأسماء واللغات: 2/100.
(4) نجد: اسم لعشرة مواضع، والمراد هنا منها أعلى تهامة واليمن وأسفلها الشام والعراق (محمد الزرقاني. شرحه على الموطأ: 2/239.(3/593)
4- يلملم (1) : جبل تهامة، على مرحلتين من مكة – شرفها الله تعالى – وهو ميقات أهل اليمن، وضبط المسافة بينه وبين مكة بالكيلو متر أربع وتسعون كيلو متر.
5- ذات عرق (2) : وهي الحد بين أهل نجد وتهامة، ومنها يحرم أهل العراق، على مرحلتين من مكة المكرمة أي ما يساوي أربعًا وتسعين كيلو متر، وتقع في الشمال الشرقي لمكة المكرمة.
6- العقيق (3) : وهو الميقات المستحب عند بعض الأئمة من أهل السنة لأهل العراق ومن يمر عليه من غيرهم، والمتعين في حق من ذكر عند الإمامية، يقول أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسى: " فوقت لأهل العراق ومن حج على طريقهم العقيق، وله ثلاثة أوقات: أولها المسلح (4) وهو أفضلها، ولا ينبغي أن يؤخر الإنسان الإحرام منه إلا عند الضرورة، وأوسطه غمرة (5) ، وآخره ذات عرق، ولا يجعل إحرامه من ذات عرق إلا عند الضرورة والتقية، ولا يتجاوز ذات عرق إلا محرما على حال " (6) .
وهو واد يجري ماؤه من غوري تهامة، وأوسطه بحذاء ذات عرق، ويبعد عن مكة بمائة كيلو متر على التقريب.
__________
(1) يلملم: بفتح الياء واللامين وإسكان الميم بينهما، ويقال: الملم قال الفيومي: ولا يكون من لفظ لملمت لأن ذوات الأربعة لا تلحقها الزيادة من أولها إلا في الأسماء الجارية على أفعالها مثل دحرج فهو مدحرج. المصباح: 1/14.
(2) ذات عرق. بكسر العين وإسكان الراء النووى. تهذيب الأسماء واللغات: 1/114.
(3) العقيق: الوادى الذي شقه السيل قديما وهو في بلاد العرب عدة مواضع، منها العقيق الذي يجري ماؤه من غوري تهامة. وأوسطه بحذاء ذات عرق الفيومى. المصباح المنير: 2/44.
(4) المسلح: منزل على أربع منازل من مكة (ابن منظور. لسان العرب: 10/488. وفي تحرير الوسيلة: المسلخ بالخاء المعجمة ولعله تحريف مطبعي.
(5) غمرة: منهل بطريق مكة فصل بين تهامة ونجد. الفيروز آبادى. القاموس المحيط: 2/108
(6) النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: 210.(3/594)
النقطة الخامسة
الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وقتها:
المواقيت السالفة الذكر في النقطة الرابعة من نقاط المبحث الرابع أجمع الفقهاء على أن الأربعة الأول منها وَقّتَها رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه قال: ((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن)) (1) .
قال عبد الله بن عمر: أما هؤلاء الثلاثة فسمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأُخْبرتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ويهل أهل اليمن من يلملم)) ، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنال، ولأهل اليمن يلملم، وهن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة)) (2) .
__________
(1) الموطأ. كتاب الحج. مواقيت الأهلال: 2/239 – 240 مع شرح الزرقاني، وكان الأولى نقل الحديث الذي قبله، لأنه سلسلة الذهب.
(2) البخاري. الجامع الصحيح مع الفتح. كتاب الحج، باب مهل مكة للحج والعمرة: 3/384.(3/595)
واختلف الفقهاء في ميقات أهل العراق من وجهين:
1- ما هو؟
2- من وَقَّتَه؟
أما ما هو؟ فقال جمهور فقهاء الأمصار: ميقاتهم ذات عرق وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأبي ثور وغيرهم.
لكن قال الشافعي: إن أهلوا من العقيق كان أحبُّ إلينا، وبقوله قال ابن عبد العزيز من المالكية، والثوري (1) .
وعند الإمامية الميقات الموقّت من لدنه صلى الله عليه وسلم لأهل العراق ولمن مر بهم، والذي لا يجوز الإحرام قبله ولا ينعقد (2) .
وأما من وقته؟ فقالت طائفة: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبه قال مالك في المدونة، ونصها: وَقّتَ عمرُ بن الخطاب ذاتَ عرق لأهل العراق (3) ، وكذلك قال الشافعي: لم يثبت عن النبي أنه حد ذات عرق، وإنما أجمع عليه الناس (4) .
وهذا يدل على أن ميقات ذات عرق ليس منصوصا، وبه قطع الغزالي والرافعي في شرح المسند والنووي في شرح مسلم.
وصحح الحنفية والحنابلة، وجمهور الشافعية، والرافعي في الشرح الصغير، والنووي في شرح المهذب أنه منصوص (5) .
واحتج أصحاب القول الأول بما جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((لما فُتح هذان المصران أتوا عمر، فقالوا: يا أمير المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّ لأهل نجد قرنا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنا شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم. فحد لهم ذات عرق)) (6) .
__________
(1) ابن رشد. بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 1/313.
(2) أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي. النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: 210.
(3) سُحنون. المدونة: 1/377.
(4) ابن حجر العسقلاني. فتح الباري: 3/389.
(5) المرجع السابق: 3/389- 390.
(6) البخاري. الجامع الصحيح مع الفتح: كتاب الحج، باب ذات عرق لأهل العراق: 3/389.(3/596)
واحتج أصحاب القول الثاني بما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَقّتَ لأهل العراق ذات عرق (1) .
وخلاصة القول أن التنصيص على ذات عرق ميقاتا للعراق ومن أتى عليها من غير أهل العراق، ليس في القوة كغيره، فإن ثبت فليس ببدع أن يجتهد الفاروق مطابقا له، فإن كان موفقا للصواب، فهو مجتهد في الحالتين: حالة ثبوته، وحالة عدم ثبوته بطريق الأولى.
النقطة السادسة
المواقيت لأهلها ولمن مر بها من غير أهلها
من مر بغير ميقاته، هل يجب عليه الإحرام منه، وإن كان سيمر بميقاته أو لا؟
اختلف الفقهاء في ذلك.
1- قال فقهاء السادة الأحناف: لو مرّ بميقاتين، فإحرامه من الأبعد أفضل إذا أمن الوقوع في محظورات الإحرام، وجاء في كتاب الكافي للحاكم الشهيد الذي هو جمع كلام محمد بن الحسن الشيباني في كتب ظاهر الرواية (2) : " ومن جاوز وقته غير محرم، ثم أتى وقتا آخر فأحرم منه أجزأه، ولو كان أحرم من وقته كان أحبَّ إليّ " (3) .
__________
(1) أبو داود: السنن: كتاب المناسك: باب في المواقيت: 2/243.
(2) كتب ظاهر الرواية: مصطلح حنبلي يقصد به الكتب التي ألفها محمد بن الحسن الشيباني والتي بقيت مستندًا في مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وهي الجامع الصغير والكبير، والسير الصغير والكبير، والمبسوط، والزيادات.
(3) انظر رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين: 2/153 دون التقيد بوجهة نظره.(3/597)
ويظهر مما نقله الحاكم الشهيد في كافيه عن محمد أن الحكم يعم كل المواقيت إذا مر بميقاتين منها كان الثاني أمامه أم لا.
2- استثنى المالكية من عموم قوله صلى الله عليه وسلم ((هن لهن، ولمن أتى عليهم من غير أهلهن)) من ميقاته الجحفة يمر بذي الحليفة فلا يجب إحرامه منها لمروره على ميقاته بعد، ولكن يندب له الإحرام من ذي الحليفة، قال خليل: " وحيث حاذى واحدا أو مر ولو ببحر، إلا كمصري يمر بذى الحليفة، فهو أولى وإن لحيض وفي رفعه " (1) .
هذا وإن لم يرد المرور بميقاته الجحفة ولا محاذاته وجب عليه أن يحرم من ذي الحليفة، كما يجب إحرام النجدي والعراقي واليمني وسائر أهل البلدان سوى مَن ميقاتُهم الجحفة من المغاربة والمصريين والشاميين فمن ذي الحليفة، إذ لا يتعدونها إلى ميقات لهم بدون إحرام.
3- الشافعية: يقول فقهاء الشافعية: من سلك طريقا، ومر بمقاتين فيجب عليه أن يحرم من الأول وإن لم يكن مؤقتا له، فإذا حج الشامي من المدينة، ومر بذي الحليفة وجب عليه الإحرام منه، ولا يجوز له تأخير إحرامه إلى ميقاته الجحفة، ولو حج من اليمن بميقاته يلملم أو من العراق بميقاته ذات عرق أو العقيق استحبابا، وهلم جرا. قال النووي معقبا على قوله صاحب المهذب: " وهذه المواقيت لأهلها ولكل من مر بها من غير أهلها؛ لما روى ابن عباس: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأحل المدينة ذا الحليفة)) الحديث. وهذا الحكم الذي ذكره المصنف متفق عليه، فإذا مر شامي من طريق العراق أو المدينة، أو عراقي من طريق اليمن، فيمقاته ميقات الإقليم الذي مر به، وهكذا عادة حجيج الشام في هذه الأزمان أنهم يمرون بالمدينة، فيكون ميقاتهم ذا الحليفة، ولا يجوز لهم تأخير الإحرام الجحفة " (2) .
__________
(1) خليل. المختصر: 69.
(2) المجموع: 7/198.(3/598)
وقال في شرحه على صحيح مسلم شارحا قوله صلى الله عليه وسلم ((ولمن أتى عليهم من غير أهلهن)) معناه أن الشامي إذا مر بمقيات المدينة في ذهابه لزمه أن يحرم من ميقات المدينة، ولا يجوز له تأخيره إلى ميقات الشام الذي هو الجحفة، وكذا الباقي من المواقيت، وهذا لا خلاف فيه " (1) .
وبقول الشافعية قال الحنابلة، قال ابنُ قدامة: مَن سلك طريقا فيها ميقات فهو ميقاته، فإذا حج الشامي من المدينة فمر بذي الحليفة فهي ميقاته، وإن حج من اليمن فميقاته يلملم، وإن حج من العراق فميقاته ذات عرق، وهكذا لكل من مر على ميقات غير ميقات بلده صار ميقاتا له (2) ، وبقول الشافعية والحنابلة قال إسحاق.
بقي إذا مر من غير طريق ذي الحليفة أحرم من الجحفة مطلقا شاميا كان أو مدنيا؛ لما روى أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يُسأل عن المهل، فقال: سمعته (ثم انتهى وقال) ، أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة)) (3) ، (4) .
__________
(1) النووي: 5/201 بهامش إرشاد الساري.
(2) المغني: 3/263.
(3) مسلم. صحيحه. كتاب الحج، باب المواقيت: 5/204 – 205 مع النووي.
(4) ابن قدامة. المغني: 3/263 – 264.(3/599)
والاحتجاج بحديث جابر كان من ابن قدامة صاحب المغني وهو حنبلي (1) .
وأما النووي الشافعي فقد قال في شرحه على صحيح مسلم: " لا يحتج بهذا الحديث مرفوعا؛ لكونه لم يجزم برفعه " (2) .
وبعد عرض هذه الأقوال جدير بي التنبيه على ما وقع فيه الإمام النووي رضي الله تعالى عنه من خلاف الصواب حين حكى الاتفاق في السالك لطريق يؤدي إلى ميقاتين، وقال: يجب عليه الإحرام من الأول، ورده يسير، فالمذهبان الحنبلي والمالكي على خلافه، وابن المنذر من الشافعية على خلافه ... إلخ، ما رددت به هذا الرأي في المبحث الرابع عند الكلام على النقطة الرابعة.
ولنسارع لذكر أدلة أصحاب الأقوال الثلاثة فنقول:
استدل أصحاب القول الأول والثاني كل من زاويته بأدلة منها:
1- ما روي عن أبي قتادة الأنصاري في قصة صيده للحمار الوحشي وهو غير محرم، قال ((فقال النبي صلى الله عليه وسلم –لأصحابه، وكانوا محرمين: هل منكم أحد أمره، أو أشار إليه بشيء؟ . فقالوا: لا. قال: فكلوا ما بقي من لحمه)) (3) ، ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن أبا قتادة أخر إحرامه إلى الجحفة، ولم يحرم من ذي الحليفة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر أصحابه، ولم ينكر عليه الرسول ذلك، فدل ذلك على جواز التأخير للإحرام لمن يمر بميقاتين أبعد وأقرب عند الأحناف، أو لمن يمر بذي الحليفة وأمامه الجحفة من المدنيين والشاميين والمصريين والمغاربة عند المالكية.
__________
(1) المغني: 3/263- 264.
(2) النووي: 5/204 – 205.
(3) ابن حجر العسقلاني. بلوغ المرام من أدلة الأحكام، كتاب الحج، باب المواقيت: 2/193.(3/600)
2- ما روي عن سعيد بن المسيب أن عائشة رضي الله عنها اعتمرت في سنه مرتين: مرة من ذي الحليفة، ومرة من الجحفة.
3- ما ذكره ابن المنذر وغيره عن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت الحج أحرمت من ذي الحليفة، وإذا أرادت العمرة من الجحفة.
ولو لم تكن الجحفة ميقاتا لذلك، لما جاز تأخير إحرام العمرة إليها؛ لأنه لا فرق بالنسبة للأفقي بين ميقات الحج وبين ميقات العمرة.
وتمسك الشافعية والحنابلة ومن قال بقولهم بما يلى:
1- ما رواه ابن عباس رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم: ((هن لهن ولمن أتى عليهم من غير أهلن)) ، وقالوا: هذا الحديث يعمُّ من ميقاته بين يدي هذه المواقيت التي مر بها ومن لا.
2- أن أي ميقات هو كسائر المواقيت لا يجوز تجاوزه بغير إحرام (1) .
ويبدو لى أن هذا المعنى الاجتهادى للشافعية والحنابلة ومن قال بقولهم هو الراجح – رغم قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس – رضي الله عنه – في المدونة وهي أم المذهب، وظاهرها نص، وقولها دليل: ((ومن مر من أهل الشام، واهل مصر، ومن وراءهم، بذى الحليفة، وأحب أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة فذلك له واسع، ولكن الفضل له، في أن يهل من ميقات – النبي عليه السلام)) (2) .
__________
(1) ابن قدامة. المغنى: 3/263.
(2) سحنون. المدونة: 1/377.(3/601)
وذلك لأن حديث البخاري من قواطع الأدلة في هذه المسألة، ولأن ما تمسكوا به طرقه الاحتمال فسقط به الاستدلال كما هو القاعدة. وسأرد أدلة أصحاب القول الأول والقول الثانى دليلاً فأقول: رد استدلالهم بحديث أبي قتادة من وجوه أربعة:
1- أن أبا قتادة بعثة رسول الله في مهمة وهي كشف عدو للمسلمين بالساحل.
2- لم يخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم –بل بعثة أهل المدينة.
3- أن المواقيت لم توقت بعد، وذلك لأن ما وقع من أبي قتادة كان عام الحديبية، والمواقيت وقتت في حجة الوداع (1) .
4- أن أبا قتادة لم يمر في احتمال حسب الرد الأول والثانى بذى الحليفة، ومن لم يمر بها أحرم من الجحفة. لحديث جابر حين سئل عن المهل فقال: ((مهل أهل المدينة ذي الحليفة، وللطريق الآخر الجحفة)) الحديث، وهذا الرد الرابع رد به الاستدلال بحديثى عائشة – رضي الله عنها – فهي لم تتجاوز ذا الحليفة غير محرمة إلى الجحفة وإنما لم ترم به (2) .
__________
(1) يراجع سبل السلام للصنعانى: 2/193.
(2) ابن قدامة: 3/264.(3/602)
النقطة السابعة
الإحرام قبل المواقيت المكانية
إذا أحرم الحاج أو المعتمر قبل المواقيت المكانية فما حكم ذلك؟
اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
1- ذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أفضلية الإحرام للحاج أو المعتمر من دويرة أهلة بشرطين:
(أ) أن يكون ذلك في أشهر الحج (1) .
(ب) أن يأمن على نفسه الوقوع في محظورات الإحرام.
2- ذهب المالكية والحنابلة إلى أن الأفضل لمن فوق الميقات أن يحرم من الميقات لا قبله، جاء في المدونة: قلت لابن القاسم: أكان مالك يكره للرجل أن يحرم من قبل أن يأتي الميقات؟ قال: نعم. قلت: فإن أحرم قبل الميقات، أكان يُلزمه مالك الإحرام؟ قال: نعم. (2) وأشار خليل في مختصره، وهو الذي يلتزم ما به الفتوى، إلى هذه المسألة فقال: " وكُره قبله كمكانه " (3) ، أي كره الإحرام قبل الميقات الزمني كما كُره الإحرام قبل الميقات المكاني وقال ابنُ مفلح الحنبلي: يكره الإحرام قبل الميقات ويصح، قال أحمد: هو أعجب إليّ (4) .
__________
(1) محمد علاء الدين الحصكفى. الدر المختار: 2/155.
(2) سحنون. المدونة: 1/363.
(3) خليل المختصر: 69.
(4) ابن مفلح: كتاب الفروع: 3/284.(3/603)
وأما الشافعية فقد جرى عندهم خلاف في هذه المسألة فقيل: " الأفضل لمن فوق الميقات إحرام منه " (1) وقيل الأفضل من دويرة أهله، والقول الأول هو الأظهر عندهم (2) ، والروايتان عن الشافعي رضي الله عنه (3) .
ولكل من القولين وجهة وأدلة.
احتج أصحاب القول الأول بحجج منها:
1- أن التقديم على المواقيت بشرطيه أكثر أجرًا؛ لأنه أكثر تعظيما وأوفر مشقة، والأجر على قد المشقة (4) .
2- جمع من الصحابة والتابعين كانوا يستحبون الإحرام بالحج والعمرة من الأماكن البعيدة، فابنُ عمر أحرم من بيت المقدس، وعمران بن الحصين من البصرة، وابن عباس من الشام، وابن مسعود من القادسية، رضوان الله عليهم جميعا (5) . وقال أبو داود: يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس (6) .
__________
(1) زكريا الأنصارى المنهج وشرحه: 2/403.
(2) سليمان الجمل. حاشيته على المنهج: 2/403.
(3) ابن قدامة. المغني 3/264. والقاضي عبد الوهاب. الأشراف: 1/224.
(4) ابن عابدين: رد المحتار: 2/155.
(5) ابن عابدين. رد المحتار: 2/155.
(6) السنن. كتاب المناسك. باب المواقيت: 2/144.(3/604)
3- أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام؛ غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)) أو ((وجبت له الجنة)) شك عبدُ الله أيتهما قال (1) ... (وعبد الله هو ابن عبد الرحمن ابن يحنس) .
4- روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196] ، أنهما قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك (2) .
هذا أهم ما استدل به أصحاب القول الأول.
واحتج أصحاب القول الثاني بحجج أهمها ما يلي:
1- أن حديث البخاري السالف الذكر: ((وَقّتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة..)) الحديثَ، يقضي بالإهلال من هذه المواقيت، ويقضي بنفي النقص والزيادة، فإن لم تكن الزيادة حراما، فلا أقل من الكراهة، ولولا ما حكاه ابن المنذر: من إجماع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات محرم يلزمه الإحرام، لكان الإحرام قبل الميقات محرما، لأحاديث التوقيت، ولأن الزيادة على المقدرات من المشروعات كأعداد الصلاة ورمى الجمار، لا تشرع، كالنقص منها، وإنما لم يقع الجزم بالحرمة لورود الإجماع على كراهة ذلك (3) .
__________
(1) المرجع السابق.
(2) ابن عابدين: المرجع السابق.
(3) الصنعاني. سبل السلام: 2/189.(3/605)