ثم استشهدوا أيضا على جوازه بقضية عقد الموالاة عند الأحناف.
وصفته.. أن يقول رجل لآخر: أنت مولاى ترثنى إذا مت وتعقل عنى فيصح ذلك عندهم ويرثه أن لم يوجد من يرثه بفرض أو تعصيب أو ذى رحم ويستدلون عليه بما روى عن تميم الداري، قال: سألت رسول الله عمن أسلم على يد رجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو أحق الناس به محياه ومماته)) وفسروا محياه بالعقل ومماته بالميراث ينسبون القول به عن على وابن عمر وابن مسعود، وهذا الحديث ضعيف جدًا، قال في المغنى: إنه ضعيف لا يصح، وقال الشافعى: الموالاة ليست بشيء.
والإمام أبو حنيفة يعترف على نفسه بأنه مزجى البضاعة من الحديث وقد ظنه صحيحًا فبنى على ظنه القول به وأخذه عنه أصحابه كما في الهداية وبدائع الصنائع وغيرهما، وكان أصل الحديث صحيحًا في بداية الأمر ثم نسخ الحكم به وانقطع العمل بموجبه.(2/466)
وأصل الموالاة في بدء الإسلام هو أن النبى صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار وكانوا تسعين رجلًا نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار فآخى النبى صلى الله عليه وسلم بينهم على المؤاساة ويتوارثون بعد الموت دون ذوى أرحامهم إلى حين وقعة بدر، قال ابن عباس: كان المهاجرى يرث الأنصاري دون قرابته وذوى رحمه للأخوّة التى آخى بينهما رسول الله.
ولهذا يقول الزبير بن العوام: إنا معشر قريش لمّا قدمنا المدينة قدمناها ولا مال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم ووارثناهم فآخى أبو بكر خارجة بن زيد وآخى عمر فلانًا وآخى عثمان رجلًا من بنى زريق بن سعد، قال الزبير: وآخيت أنا كعب بن مالك فوالله يا بنى لو مات عن الدنيا ما ورثه غيرى حتى أنزل الله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} فرجعنا إلى مواريثنا وبقيت المناصرة الدينية. ذكره ابن كثير في التفسير عن أبي حاتم.
فما ينسب عن عمر وعلى وابن مسعود فمحمول على ذلك في بداية الإسلام والا فقد أجمع الصحابة على نسخه، فلم يحفظ عن أحد منهم القول به ولا الحكم بموجبه.
والوصية بماله كله ممن لا وارث له جائز في ظاهر مذهب الإمام أحمد، ولهذا قالوا: وتجوز الوصية بماله كله ممن لا وارث له.
والحكم في الموالاة على العقل هو الحكم في الإرث، على حسب ما ذكرنا وأنه منسوخ، وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإيجاب دية الخطأ على العاقلة كما في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله فقضى رسول الله أن دية الجنين غرة عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم فقام حمل بن النابغة الهذلى، فقال: يا رسول الله، كيف نغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك يطل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما هذا من اخوان الكهان)) من أجل سجعه الذي سجعه. فمضى الأمر على هذا وانعقد عليه الإجماع.(2/467)
فكانت القبيلة تجلس لتوزيع الدية بينهم فيحمّلون كل شخص ما يستحقه على حسب مقدرته وقربه، وهذا من التعاون الواجب بحكم الشرع.
ومن محاسن الشريعة وقيامها بمصالح العباد في المعاش والمعاد أن أوجب الله دية الخطأ على من عليه موالاة القاتل ونصرته، بحيث أن هذا القاتل هو قريبهم ورحمهم، ولم يتعمد القتل وإنما وقع بغير اختياره وقصده فوجب عليه في خاصة نفسه عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله كما أوجب الدية على العاقلة.
ومن المعلوم أن الجناية في الأصل تتعلق بالجانى، فلا يجنى جان إلا على نفسه ولا تزر وازرة وزر أخرى. أي لا يحمل أحد ذنب الآخر وكانت الدية في الأصل مائة من الإبل وفى الغالب أن القاتل لا يستطيع حملها بجملتها فإيجاب الدية مع الكفارة عليه في ماله فيها ضرر عليه لعدم قدرته عليها، وإهدار دم القتيل من غير ضمان فيه ضرر على ورثته.
فكان من محاسن الشريعة أو أوجبت دية الخطأ على أقارب القاتل، أي عاقلته، كما أوجب الله النفقة على الأقارب، فإيجاب الدية على العاقلة من جنس ما أوجب الشارع من النفقة على المضطرين ونحوهم والأقربون هم أحق بالمعروف.(2/468)
لأن المؤمن كثير بإخوانه غنى بأعوانه {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
وهذه هى حقيقة التعاون بين الأرحام الواجبة في دين الإسلام.
ولا تحمل العاقلة العمد المحض ولا المال من قيمة عبد ونحوه ولا ما دون ثلث الدية.
والحاصل هو أن الأمة التى يبذل أغنياؤها المال وتقوم بفريضة التعاون على الأعمال فيكفل أغنياؤهم فقراءهم ويعول أقوياؤهم ضعفاءهم ويعودوا بفضل ما أتوا إلى إخوانهم المعوزين ويعطفوا على البائسين والمنكوبين أنها لابد أن تتسع تجارتها وأن تتوفر سعادتها وأن تدوم على أفرادها النعمة ما استقاموا على هذه الفضيلة ثم يكونون مستحقين لسعادة الدنيا والآخرة.(2/469)
قرار المجمع الفقهى بمكة المكرمة
القرار الخامس
التأمين بشتى صوره وأشكاله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله واصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فإن مجمع الفقه الإسلامى قد نظر في موضوع التأمين بأنواعه المختلفة بعد ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك وبعد ما اطلع أيضا على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة المنعقدة بمدينة الرياض بتاريخ 4/4/1397هـ. من التحريم للتأمين بأنواعه.
وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأى في ذلك قرر المجلس بالأكثرية تحريم التأمين بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك من الأموال.
كما قرر مجلس المجمع بالاجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء من جواز التأمين التعاونى بدلًا من التأمين التجاري المحرم والمنوه عنه آنفًا وعهد بصياغة القرار إلى لجنة خاصة.
تقرير اللجنة المكلفة بإعداد قرار مجلس المجمع حول التأمين:
بناء على قرار مجلس المجمع المتخذ بجلسة الأربعاء 14 شعبان 1398هـ المتضمن تكليف كل من أصحاب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد محمود الصواف والشيخ محمد بن عبد الله السبيل بصياغة قرار مجلس المجمع حول التأمين بشتى أنواعه وأشكاله.
وعليه فقد حضرت اللجنة المشار إليها وبعد المداولة أقرت ما يلى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.(2/470)
أما بعد:
فان مجمع الفقه الإسلامى في دورته الأولى المنعقدة في 10 شعبان 1398هـ بمكة المكرمة بمقر رابطة العالم الإسلامى قد نظر في موضوع التأمين بأنواعه المختلفة بعد ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك، وبعد ما اطلع أيضا على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة بمدينة الرياض بتاريخ 4/4/97هـ. بقراره رقم (55) من التحريم للتأمين التجاري بأنواعه.
وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأى في ذلك قرر مجلس المجمع الفقهى بالاجماع عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء تحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك للأدلة الآتية:
الأول: عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر الفاحش، لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطى أو يأخذ فقد يدفع قسطًا أو قسطين ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم به المؤمن، وقد لا تقع الكارثة أصلًا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئًا وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطى ويأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده، وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم النهى عن بيع الغرر.(2/471)
الثانى: عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية، ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيها، ومن الغنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافئ فإن المستأمن قد يدفع قسطًا من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قمارا ودخل في عموم النهى عن الميسر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والآية بعدها.
الثالث: عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنسأ فان الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها فهو ربا فضل والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة فيكون ربا نسأ وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما. دفعه لها يكون ربا نسأ فقط وكلاهما محرم بالنص والإجماع.(2/472)
الرابع: عقد التأمين التجاري من الرهان المحرم لأن كلا منهما فيه جهالة وغرر ومقامرة ولم يبح الشرع من الرهان الا ما فيه نصرة للإسلام وظهور لإعلامه بالحجة والسنان وقد حصر النبى صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان بعوض في ثلاثة بقوله صلى الله عليه وسلم ((لا سبق الا في خف أو حافر أو نصل)) وليس التأمين من ذلك ولا شبيهًا به فكان محرمًا.
الخامس: عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، وأخذ بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرم لدخوله في عموم النهى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .
السادس: في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعًا فإن المؤمن لم يحدث الخطر منه ولم يتسبب في حدوثه وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له والمؤمن لم يبذل عملًا للمستأمن فكان حرامًا.
وأما ما استدل به المبيحون للتأمين التجاري مطلقًا أو في بعض أنواعه فالجواب عنه ما يلى:
(أ) الاستدلال بالاستطلاح غير صحيح فان المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة. وقسم سكت عنه الشرع فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار فهو مصلحة مرسلة وهذا محل اجتهاد المجتهدين، والقسم الثالث ما شهد الشرع بإلغائه. وعقود التأمين التجاري فيها جهالة وغرر وقمار وربا فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة.(2/473)
(ب) الإباحة الاصلية لا تصلح دليلًا هنا لأن عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة. والعمل بالاباحة الأصلية مشروط بعدم المناقل عنها وقد وجد فبطل الاستدلال بها.
(ج) الضرورات تبيح المحظورات لا يصح الاستدلال به هنا، فان ما اباحه الله من طرق كسب الطيبات أكثر أضعافا مضاعفة مما حرمه عليهم فليس هناك ضرورة معتبرة شرعًا تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين.
(د) لا يصح الاستدلال بالعرف فإن العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام وفهم المراد من ألفاظ النصوص ومن عبارات الناس في إيمانهم وتداعيهم وأخبارهم وسائر ما يحتاج إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال فلا تأثير له فيما تبين أمره وتعين المقصود منه وقد دلت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين فلا اعتبار به معها.
(هـ) الاستدلال بأن عقود التأمين التجاري من عقود المضاربة أو في معناه غير صحيح؛ فإن رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحبه وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسبما يقضى به نظام التأمين، وأن رأس مال المضاربة يستحقه ورثة مالكه عند موته، وفى التأمين قد يستحق الورثة نظاما مبلغ التأمين ولو لم يدفع مورثهم إلا قسطا واحدًا، وقد لا يستحقون شيئًا إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته، وأن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسبًا مئوية مثلًا بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة وليس للمستأمن الا مبلغ التأمين أو مبلغ غير محدد.(2/474)
(و) قياس عقود التأمين على ولاء الموالاة عند من يقول به غير صحيح، فإنه قياس مع الفارق ومن الفروق بينهما أن عقود التأمين هدفها الربح المادى المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة بخلاف عقد ولاء الموالاة فالقصد الأول فيه التآخى في الإسلام والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال وما يكون من كسب مادى فالقصد إليه بالتبع.
(ز) قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزم عند من يقول به لا يصح لأنه قياس مع الفارق ومن الفروق أو الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلًا من باب المعروف المحض فكان الوفاء به واجبًا أو من مكارم الأخلاق بخلاف عقود التأمين فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح المادى فلا يغتفر فيها ما يغتفر في التبرعات من الجهالة والغرر.
(ح) قياس عقود التأمين التجاري على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب قياس غير صحيح لأنه قياس مع الفارق أيضًا، ومن الفروق أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين فإنه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولًا الكسب المادى فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع ما دام تابعًا غير مقصود إليه.
(ط) قياس عقود التأمين التجاري على ضمان خطر الطريق لا يصح فإنه قياس مع الفارق كما سبق في الدليل قبله.
(ى) قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد غير صحيح فإنه قياس مع الفارق أيضا لأن ما يعطى من التقاعد حق التزم به ولى الأمر باعتباره مسئولًا عن رعيته وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة ووضع له نظامًا راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظر إلى مظنة الحاجة فيهم فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذى هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التى يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة. لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر حقًا التزم به من حكومات مسئولة عن رعيتها وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه وتعاونًا معه جزاء تعاونه ببدنه وفكره وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة.(2/475)
(ك) قياس نظام التأمين التجاري وعقوده على نظام العاقلة لا يصح فإنه قياس مع الفارق ومن الفروق أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ وشبه العمد ما بينهما وبين المقاتل خطأ أو شبه العمد من الرحم والقرابة التى تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون وإسداء المعروف ولو دون مقابل وعقود التأمين التجارية استغلالية تقوم على معاوضات مالية محضة لا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث المعروف بصلة.
(ل) قياس عقود التأمين التجاري على عقود الحراسة غير صحيح لأنه قياس مع الفارق أيضًا. ومن الفروق أن الأمان ليس محلًا للعقد في المسألتين وإنما محله في التأمين الأقساط ومبلغ التأمين، وفى الحراسة الأجرة وعمل الحارس، أما الأمان فغاية ونتيجة والا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس.
(م) قياس التأمين على الإيداع لا يصح لأنه قياس مع الفارق أيضا فإن الأجرة في الايداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه بخلاف التأمين فان ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن ويعود إلى المستأمن بمنفعة إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة وشرط العوض عن الضمان لا يصح بل هو مفسد للعقد وان جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جعل فيها مبلغ التأمين أو زمنه فاختلف في عقد الإيداع بأجر.
(ن) قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البزمع الحاكة لا يصح. والفرق بينهما أن المقيس عليه من التأمين التعاونى وهو تعاون محض والمقيس تأمين تجاري وهو معاوضات تجارية فلا يصح القياس.
كما قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم (51) وتاريخ 4/4/1397هـ. من جواز التأمين التعاونى بدلًا عن التأمين التجاري المحرم والمنوه عنه آنفًا للأدلة الآتية:
الأول: أن التأمين التعاونى من عقود التبرع التى يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسئولية عند نزول الكوارث وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر فجماعة التأمين التعاونى لا يستهدفون تجارة ولا ربحًا من أموال غيرهم وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر.(2/476)
الثانى: خلو التأمين التعاونى من الربا بنوعيه: ربا الفضل وربا النسأ فليس عقود المساهمين ربوية ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية.
الثالث: أنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاونى بتحديد ما يعود عليهم من النفع لأنهم متبرعون فلا مخاطرة ولا غرر ولا مقامرة بخلاف التأمين التجاري فإنه عقد معاوضة مالية تجارية.
الرابع: قيام جماعة من المساهمين أو من يمثلهم باستثمار ما جمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذى من أجله أنشئ هذا التعاون سواء كان القيام بذلك تبرعًا أو مقابل أجر معين. ورأى المجلس أن يكون التأمين التعاونى على شكل شركة تأمين تعاونية مختلطة للأمور الآتية:
أولًا الالتزام بالفكر الاقتصادى الإسلامى الذى يترك للأفراد مسئولية القيام بمختلف المشروعات الاقتصادية ولا يأتى دور الدولة الا كعنصر مكمل لما عجز الأفراد عن القيام به وكدور موجه ورقيب لضمان نجاح هذه المشروعات وسلامة عملياتها.
ثانيًا الالتزام بالفكر التعاونى التأمينى الذى بمقتضاه يستقل المتعاونون بالمشروع كله من حيث تشغيله ومن حيث الجهاز التنفيذى ومسئولية إدارة المشروع.
ثالثًا تدريب الأهالى على مباشرة التأمين التعاونى وإيجاد المبادرات الفردية والاستفادة من البواعث الشخصية فلا شك أن مشاركة الأهالى في الإدارة تجعلهم أكثر حرصًا ويقظة على تجنب وقوع المخاطر التى يدفعون مجتمعين تكلفة تعويضها مما يحقق بالتالى مصلحة لهم في إنجاح التأمين التعاونى إذ أن تجنب المخاطر يعود عليهم بأقساط أقل في المستقبل، كما أن وقوعها قد يحملهم أقساطا أكبر في المستقبل.(2/477)
رابعًا أن صورة الشركة المختلطة لا يجعل التأمين كما لو كان هبة أو منحة من الدولة للمستفيدين منه بل بمشاركة منها معهم فقط لحمايتهم ومساندتهم باعتبارهم هم أصحاب المصلحة الفعلية وهذا موقف أكثر إيجابية ليشعر معه المتعاونون بدور الدولة ولا يعفيهم في نفس الوقت من المسئولية.
ويرى المجلس أن يراعى في وضع المواد التفصيلية للعمل بالتأمين التعاونى على الأسس الآتية:
الأول: أن يكون لمنظمة التأمين التعاونى مركز له فروع في كافة المدن وأن يكون بالمنظمة أقسام تتوزع بحسب الأخطار المراد تغطيتها وبحسب مختلف فئات ومهن المتعاونين كأن يكون هناك قسم للتأمين الصحى وثان للتأمين ضد العجز والشيخوخة..الخ.
أو يكون هناك قسم لتأمين الباعة المتجولين وآخر للتجار وثالث للطلبة ورابع لأصحاب المهن الحرة كالمهندسين والأطباء المحامين..الخ.
الثانى: أن تكون منظمة التأمين التعاونى على درجة كبيرة من المرونة والبعد عن الأساليب المعقدة.
الثالث: أن يكون للمنظمة مجلس أعلى يقرر خطط العمل ويقترح ما يلزمها من لوائح وقرارات تكون نافذة إذا اتفقت مع قواعد الشريعة.(2/478)
الرابع: يمثل الحكومة في هذا المجلس من تختاره من الأعضاء ويمثل المساهمين من يختارونه ليكونوا أعضاء في المجلس ليساعد ذلك على إشراف الحكومة عليها أو اطمئنانها على سلامة سيرها وحفظها من التلاعب والفشل.
الخامس: إذا تجاوزت المخاطر موارد الصندوق بما قد يستلزم زيادة الأقساط فتقوم الدولة والمشتركون بتحمل هذه الزيادة.
ويؤيد مجلس المجمع الفقهى ما اقترحه مجلس هيئة كبار العلماء في قراره المذكور بأن يتولى وضع المواد التفصيلية لهذه الشركة التعاونية جماعة من الخبراء المختصين في هذا الشأن.
والله ولى التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(2/479)
[توقيع]
نائب الرئيس
محمد على الحركان
الأمين العام
لرابطة العالم الإسلامى
[توقيع]
الرئيس
عبد الله بن حميد
رئيس مجلس القضاء الأعلى
فى المملكة العربية السعودية
الأعضاء
[توقيع]
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
فى المملكة العربية السعودية
[توقيع]
محمد محمود الصوّاف
[توقيع]
صالح بن عثيمين
[توقيع]
محمد بن عبد الله السبيل
[توقيع]
محمد رشيد قبانى
[توقيع]
مصطفى الزرقاء
[توقيع]
محمد رشيدى
[توقيع]
عبد القدوس الهاشمى الندوى
[سافر قبل التوقيع]
أبو بكر جومى(2/480)
المجمع الفقهى الإسلامى بمكة المكرمة
ب- د/6/2 – 1406/3
مخالفة الأستاذ الدكتور مصطفى الزرقاء
اخوانى الأستاذة الفضلاء أعضاء المجمع الفقهى..
إنى أخالف ما ذهبتم إليه من اعتبار التأمين الذى أسميتموه تجاريًا بمختلف أنواعه وصوره حراما. وميزتم بينه وبين ما أسميتموه تعاونيًا، وأرى أن التأمين من حيث إنه طريق تعاونى منظم لترميم الأضرار التى تقع على رؤوس أصحابها من المخاطر التى يتعرضون لها هو في ذاته جائز شرعًا بجميع صوره الثلاث وهى: التأمين على الأشياء والتأمين من المسئولية المسمى (تأمين ضد الغير) ، والتأمين المسمى خطأ بالتأمين على الحياة جائز شرعًا.
وان أدلتى الشرعية من الكتاب العزيز والسنة النبوية وقواعد الشريعة ومقاصدها العامة والشواهد الفقهية بالقياس السليم عليها ودفع توهم أنه يدخل في نطاق القمار أو الرهان المحرمين، ودفع شبهة أنه ربا، كل ذلك موضح تمام الإيضاح في كتابى المنشور بعنوان (عقد التأمين، وموقف الشريعة الإسلامية منه) وأنتم مطلعون عليه مع بيان حاجة الناس في العالم كله إليه.(2/481)
وقد بينت لكم في هذه الجلسة أيضا أن التمييز بين تأمين تعاونى وتجاري لا سند له، فكل التأمين قائم على فكرة التعاون على تفتيت الأضرار وترميمها ونقلها عن رأس المصاب وتوزيعها على أكبر عدد ممكن بين عدد قليل من الأشخاص الذين تجمعهم حرفة صغيرة –أو سوق- ويتعرضون لنوع من الأخطار فيساهمون في تكوين صندوق مشترك حتى إذا أصاب أحدهم الخطر والضرر عوضوه عنه من الصندوق الذى هو أيضا مساهم فيه هذا النوع الذى يسمى في الاصطلاح تبادليًا وسميتموه (تعاونيًا) لا تحتاج إدارته إلى متفرغين لها ولا إلى نفقات إدارة وتنظيم وحساب الخ..
فإذا كثرت الرغبات في التأمين وأصبح يدخل فيه الألوف –عشراتها أو مئاتها أو آلافها- من الراغبين وأصبح يتناول عددًا كبيرًا من أنواع الأخطار المختلفة فإنه عندئذ يحتاج إلى إدارة متفرغة وتنظيم ونفقات كبيرة من أجور محلات وموظفين ووسائل آلية وغير آلية الخ.. وعندئذ لابد لمن يتفرغون لإدارته وتنظيمه من أن يعيشوا على حساب هذه الإدارة الواسعة كما يعيش أي تاجر أو صانع أو محترف أو موظف على حساب عمله.
وعندئذ لابد من أن يوجد فرق بين الأقساط التى تجبى من المستأمنين وبين ما يؤدى من نفقات وتعويضات للمصابين عن أضرارهم لتربح الإدارة المتفرغة هذا الفرق وتعيش منه كما يعيش التاجر من فرق السعر بين ما يشترى ويبيع.
ولتحقيق هذا الربح يبنى التأمين الذى أسميتموه تجاريًا على حساب إحصاء دقيق لتحديد القسط الذى يجب أن يدفعه المستأمن في أنواع من الأخطار. هذا هو الفرق الحقيقى بين النوعين. أما المعنى التعاونى فلا فرق فيه بينهما أصلًا من حيث الموضوع.(2/482)
كما أنى أحب أن أضيف إلى ذلك أن هذه الدورة الأولى لهذا المجمع الفقهى الميمون الذى لم يجتمع فيها الا نصف أعضائه فقط والباقون تخلفوا أو اعتذروا عن العضوية لظروفهم الخاصة لا ينبغى أن يتخذ فيها قرار بهذه السرعة بتحريم موضوع كالتأمين من أكبر الموضوعات المهمة اليوم خطورة وشأنًا لارتباط مصالح جميع الناس به في جميع أنحاء المعمورة والدول كلها تفرضه إلزاميًا في حالات كالتأمين على السيارات ضد الغير صيانة لدماء المصابين في حوادث السيارات من أفئدة تذهب هدرًا إذا كان قائد السيارة أو مالكها مفلسًا.
فإذا أريد اتخاذ قرار خطير كهذا وفى موضوع اختلفت فيه آراء علماء العصر اختلافا كبيرًا في حله أو حرمته يجب في نظرى أن يكون في دورة يجتمع فيها أعضاء المجمع كلهم أو إلا قليلًا منهم وعلى أن يكتب لغير أعضاء المجمع من علماء العالم الإسلامى الذين لهم وزنهم العلمى ثم يبت في مثل هذا الموضوع الخطير في ضوء أجوبتهم على أساس الميل إلى التيسير على الناس عند اختلاف آراء العلماء لا إلى التعسير عليهم.
ولابد لى ختامًا من القول بأنه إذا كانت شركات التأمين تفرض في عقودها مع المستأمنين أمورًا لا يقرها الشرع، أو تفرض أسعارًا للأقساط في أنوع الأخطار غالية بغية الربح الفاحش فهذا يجب أن تتدخل فيه السلطات المسئولة لفرض رقابة وتسعير لمنع الاستغلال، كما توجب المذاهب الفقهية، وجوب التسعير والضرب على أيدى المحتكرين لحاجات الناس الضرورية وليس علاجه تحريم التأمين. لذلك أرجو تسجيل مخالفتى هذه مع مزيد الاحترام لآرائكم.
دكتور مصطفى الزرقاء(2/483)
العَرض وَالمناقشَة
12/4/1406 = 24/12/1985
الساعة: 17.45 – 20.15
13/4/1406 – 25/12/1985
الساعة: 9.30 – 13.20
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد،
فى هذه الجلسة المسائية المباركة على جدول أعمالنا بحث "مسألة التأمين وإعادة التأمين" وقد تسلمتم مسبقا البحوث التى أعدت في هذا الموضوع وهى في ثلاثة أطر:
الإطار الأول: بحوث معدة من المشايخ الزحيلى، التميمى، والشيخ عبد اللطيف صالح،
والثانى بحث معد من الشيخ مصطفى الزرقاء.
والإطار الثالث: في بحث البديل للتأمين، وفيه بحث تبعى وهو بحث الأستاذ محمد عبد اللطيف الفرفور، وبحث مستقل للشيخ عبد اللطيف جناحى المدير العام لبنك البحرين الإسلامى. ونبتدئ بالرغبة من الشيخ مصطفى ليتفضل بإعطاء ملخص عما حرره في التأمين، ونظرا لكثرة البحوث والمشايخ المطلوبة كلماتهم ورغبة في أن يستوعب الوقت هذه القضية، فأرجو أن يكون الزمن المحدد لكل واحد من أصحاب الفضيلة لا يتجاوز ما قرر سابقا، عشرين دقيقة.(2/484)
الشيخ مصطفى الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم.. سيادة الرئيس، إخوانى الأستاذة الكرام. إننى لم أقدم بحثا في ورقة في هذه الدورة وإنما أجبت فضيلة الأستاذ الأمين العام بأن رأيى مدون في كتاب جديد ظهر لى في العام الماضى وفيه خلاصة كتابى السابق القديم والذى بينت فيه أن رأيى في التأمين بجميع أنواعه الثلاثة وهى، التأمين على الأشياء، والتأمين من المسؤولية والذى يسمى خطأ تأمينا على الحياة، هذه التسمية الموهمة لغير موضوعه. ولى أدلة مبسوطة في السابق معروفة وقد ظهر في كتابى الجديد الذى تناول السابق وأضاف له أمورا كثيرة في البحث الجديد وعالج جميع الشبهات والآراء التى أثيرت في موضوع التأمين خلال ربع القرن الماضى. وإن كل شيء حرصت على أن ينضج بحثا ولا يترك منه أي شيء لم يعالج، الشيء الذى وفقنى الله إليه وارتضيته، وكان بحثى الجديد مؤكدا فيما تراءى لى، خلاصة رأيى السابق المعروف فيه لم يتغير. وبما أن كل ما يمكن أن أقوله موجود في هذا الكتاب الجديد فلا حاجة لأن أكتب أوراقا جديدة وإنما قدمت نسخة لفضيلة الأمين العام رجوت أن يصورها ويوزعها على أعضاء المجمع عند الاجتماع وتكون هى بحثى، ولكنى لخصت مضمون الكتاب في أقسامه وما تضمنه والإحالة في كل نقطة من النقاط التى يثار حولها النقاش، مكان وجودها في الكتاب وقلت أيضا إنه تضمن فهرسا هجائيا مرتبا على الحروف لكل نقطة ولكل موضوع محالا بها على موطنها من الكتاب. هذه خلاصة ما قدمته لفضيلة الأمين العام.
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بودى أن سماحة الشيخ مصطفى الزرقاء يتكرم بإعطائنا خلاصة لرأيه مع التعليل. أما قصة الكتاب وما يتصل به فهو يعلم بأننا اتصلنا به واتصلنا بدار النشر حتى يبعثوا الينا بنسخ نوزعها على الأعضاء ومع ذلك لم تصلنا حتى الآن. فمثل هذه القصة لا أريد أن أتحدث عنها لكن المهم نحن الآن، ولو حتى الذين كتبوا ولهم دراسات مطبوعة موجودة بين أيدينا، يحتاج المجمع للاستماع اليهم. فنحن نرجو من سماحة الشيخ أن يقدم لنا رأيه من جديد ملخصا مع الاستدلال أن شاء وذلك في الوقت المحدد.
وشكرا لكم.(2/485)
الشيخ مصطفى الزرقاء:
سيدى أنا أقول إنكم طلبتم إرسال نسخ من الكتاب وأنا اتصلت بدار النشر قالوا إنهم أرسلوا مائة نسخة.
الأمين العام:
ولكن لم تصل حتى الآن ولسنا ملومين في هذا، ولكن كلمة منكم لبيان الرأى لأن كل عضو من الأعضاء يريد أن يستفيد من وجهة نظركم، فنحن في حاجة للاستنارة بهذا الرأى.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
حسب رأى أستاذنا الأمين العام الكريم، فأنا أبين ولكن في عشرة دقائق هل يمكن عرض الأدلة في كل الموضوع، أنا استوفيت في الكتاب الأدلة بالتفصيل وناقشت وعرضت رأى الآخرين. فأنا إذا أردتم أن ألخص لكم رأيى وهو معروف فيما أعتقد ولا يوجد من يجهله.
رأيى أن نظام التأمين في ذاته هو نظام تعاونى في أساسه وأنه لا يوجد في الشرعية ما يوجب منعه بل بالعكس أنا أعتقد أن مبادئ الشريعة وقواعدها تتقبله بل تستحسنه، ذلك لأن فيه تفتيتا للمصائب التى قد تقع على رأس المؤمن لولا التأمين أو المستأمن لولا التأمين فتحطمه، ولكن طريقة التأمين تؤدى إلى تفتيت المصيبة وتوزيعها بدلا ما تحطم رأس صاحبها، توزيعها على أكبر عدد من الرؤوس وهم عدد المستأمنين الآخرين الذين دفعوا أقساط التأمين، فعندئذ ترمم مصيبته أو يعوض عنها من هذه الأقساط، وبذلك تكون مصيبته وزعت، بقيت ذرات على مجموعة كبيرة من الرؤوس لا تثقل أحدا. هذا نظام التأمين يقوم على هذا الأساس وهو لا يقبل نظام التأمين الا في الحوادث غير المصطنعة وغير العمد، في أنواعه الثلاثة: التأمين على الأشياء، كالتأمين على السيارة ذاتها، والتأمين من المسؤولية وهو ما يلحق من الشخص من ضرر لغيره غير متعمد، الضرر الخطأ، والثالث التأمين على الحياة. وأن التأمين على الحياة تسميته خاطئة نتيجة ترجمة حرفية من اللغة الأجنبية، فإنها توهم كثيرين وقد وقع هذا فعلا. ونوقشت فيه، توهم كثيرين أن شركة التأمين لما تؤمن على الحياة إنما تتكفل للإنسان بأن يعيش المدة المحددة في العقد، وهذا وهم وخطأ وإن كان قد وقع فعلا سببه التسمية الموهمة في عقد التأمين. ثم بينت الأدلة الشرعية التى لا يتسع المقام لبسطها وشبهت التأمين بأنه ليس افتياتا على قدر الله وليس ربا وليس قمارا وليس رهانا وليس كما يثار حوله، وكل واحد من هذه الشبهات فندتها وحللت أمرها وبينت الفرق العظيم بينها وبين التأمين.(2/486)
وبينت أن شأن التأمين أشبه ما يكون. "قضيب الصاعقة" السافود الحديدى الذي ينصب دقيق الرأس في أعلى البنايات الثمينة حتى إذا الصاعقة قذف بها السحاب بدلا من أن تنزل على البناية فتحرقها، وقضيب الصاعقة لا يمنع السحب أن تقذف بشرارتها الكهربائية الصاعقة وإنما إذا قذفت هذه الشرارة فإن القضيب يسحبها ويجذبها وتأخذها إلى مدفنها في باطن الأرض بدلا من أن تنزل فتضر تلك الأضرار المعرفة.. هذا شأن التأمين، فهو في ذاته نظام صالح. وأما ما يشاع من أنه عقد جديد لا يجوز إحداثه أو أنه ربا أو أنه قمار كله مبين ومردود عليه ومبين له الأمثلة المماثلة من فقه الشريعة المسلم به، وكذلك في الدراسة الجديدة التى تضمنها الكتاب الجديد بين فيه من زاوية جديدة أخرى تناولتها من النواحى الاقتصادية وآثارها العامة وبينت أن التأمين أصبح يعتبر من عصب الأعمال بدونه تكون المصائب كبيرة، فهو نظام توق واجتناب ولا يوجد في الشريعة ما يمنع الإنسان من التوقى. ثم عالجت الشبهات التى تكررت أو اجترت أو استجدت لدى كثيرين خلال ربع القرن الأخير وكلها أيضا عولجت معالجة جديدة وبينت أن هذه الشبهات شبهات داحضة ولي لها ثبات وبينت الردود عليها. وكذلك تعرضت لرأى المجمع الفقهى الكريم في مكة المكرمة وقراره بالتمييز بين تأمين تجاري وهو ما تمارسه الشركات وبين تأمين تعاونى أنه يجوز وأما ذاك فممنوع، وبينت ذلك، وبينت مخالفتى إذ ذاك لقرار المجمع التى سجلت وطبعت معه فنشرتها أيضا في هذا الكتاب الجديد وبينت أن التمييز بين تأمين تجاري هو ما تمارسه الشركات وتأمين تعاونى لا ربح فيه، هذا كله تمييز غير صحيح، وأن معنى التعاون موجود في كلا النوعين ما يسمونه تعاونيا وما يسمونه تجاريا، ولكن الفرق الوحيد بينهما أن التأمين لما بدأ في أصل ما بدا قبل أربعة قرون إنما بدأ بالشكل الذى سمى تبادليا أو تعاونيا وذلك لأن أهل سوق معينة تجمعهم اخطار مشتركة في بضائعهم وتجارتهم كالحريق مثلا أو الغرق فيضعون صندوقا يمول بما يدفعه كل منهم ويحفظ حتى إذا طرأ على أحدهم مصيبة فانها تعوض من هذا الصندوق.(2/487)
فلما ظهر نفع هذا الترتيب التعاونى، الناس أقبلت عليه ثم شمل أخطارا متنوعة كثيرة لما ظهر من فائدته والمصلحة فيه. فلما كثرت الأعداد الكبيرة الراغبة في التأمين أصبح لا يمكن أن يديره أشخاص مع أعمالهم كأهل سوق معينة، بل لابد له من إدارة متفرغة تنصرف إليه كما ينصرف التاجر إلى تجارته فيسهر عليها صباح مساء ويتابعها ويريح منها ويعيش. فلابد من جهاز إداري أصبح ينظم عمليات التأمين الواسعة التى أصبحت تتناول الآلاف المؤلفة وأحيانا الملايين من الناس وفى مختلف الأنواع من الأخطار. هذا إذا حصل ووجدت هيئة متفرغة فلابد لها أن تعيش من هذا العمل كما يعيش التاجر من تجارته وكيف تعيش؟ عندئذ ظهر ما يسمى الحساب قوانين الأعداد الكبيرة التى تبنى على الإحصاء، الإحصاء الذى هو إحصاء الأعداد الكبيرة وهو معروف في عالم الرياضيات وهذا القانون، قانون الأعداد الكبيرة يعطى نتائج ثابتة تقريبا إلا الكوارث الطارئة كالزلازل والفيضانات.. الخ، وإنما يعطى نسبة ثابتة في الأخطار في كل أنواع الأخطار، لأنه كلما كثر العدد الكبير من الداخلين تحت الخطر عنئذ تنضبط نسبة الخطر فيهن وهذا شى، قانون رياضى، يعنى ليس عائدا إلى التقويم والتقدير، وبناء عليه يستخدمون قانون الاعداد الكبيرة ليضبطوا ويحصوا الأخطار في كل نوع، وبناء على ذلك يحسبون تكاليف ما سيلحقهم من تعويضات ويضعون أقساطا تتناسب مع هذه التكاليف، وزيادة، هذه الزيادة هى ما يربحونه كما يربح كل تاجر من تجارته ربحا مشروعا. بينت أن الشريعة الإسلامية لا تمانع في أن يكون لكل من يتفرغ لعمل نافع أن يعيش منه وأن يربح منه، هذا شيء طبيعي ولذلك شركات التأمين لا تبدل طبيعة التأمين من تعاونى إلى تجاري، التأمين يبقى تعاونيا في جميع الأحوال ولكن الفرق بين ما يسمونه تجاريا أن الهيئة المتفرغة والتى تربح من فرق الأقساط بين ما تأخذ وبين ما تدفع من تعويضات، هذا الربح يريدون أن يسموه التأمين به تأمينا تجاريا، وهو تعاونى، نفس الشيء، وضربت أمثلة بالضمان الاجتماعى والتأمينات التى تحصل للموظفين والحكومة، ومنها تأمينات على الحياة وكلها مقبولة لدى المعارضين أنفسهم، فما الفرق بينهما؟ وانتهيت إلى أن هذا التأمين لا يوجد في الشرع ما يمنعه وعالجت بشكل خاص شبهة الغرر وهى من أهم وأقوى الشبهات لدى الذين يعارضون وبينت أن هذا الغرر نقلت آراء الفقهاء من مختلف المذاهب فيه وبينت كيف أن الغرر يغتفر بأقوال فحول علمائنا الأقدمين يغتفر حتى الفاحش منه إذا كان فيه مصلحة تقتضيها الحاجة، ونقلت كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم في هذا الموضوع وفيه كلام شبه حاسم، كل هذا بينته بما يدحض فكرة الغرر وأنها هذه تجعله عملا محرما، وبينت كيف أن كبار الفقهاء اغتفروا الغرر الفاحش وعللوه بأنه للمصلحة والحاجة، والأمثلة كثيرة في الكتاب. وهذا خلاصة ما أراه ولا أزال على هذا الرأى، ولإخواننا الكرام أن يناقشوه، ومتى جاء الكتاب الذى أمر فضيلة الأستاذ الأمين العام، متى وصل مع أن دار النشر تقول إنها شحنته منذ شهر تقريبا وعندها الإيصال وكيف لم يصل؟ لا أدرى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/488)
الأمين العام:
سيدى جزاكم الله كل خير ونحن قد اتصلنا بالبريد وأخذنا معنا الورقة التى فيها رقم إرسال هذه المجموعة من الكتب، ومع ذلك قالوا حتى الآن لم يصلنا، فالقضية هى قضية البريد، أرجو إذا وصل أن يوزع على كل الأعضاء هذا الذى نقدر عليه.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
على كل، في ختام بيان رأيى بهذا الشكل الموجز الذى لا يتسع المقام لأكثر منه أقترح أن موضوع التأمين هذا، موضوع بالشكل والإطار الذى شرحته وأهميته وكثرة اختلاف الآراء فيه، أنه لا يجوز أن يبت فيه في هذه الدورة، بل أقترح تأجيله حتى يأتى كتابى وأقول وأصرح غير متباه ولا مدع، ولكن هذا أعده من فضل الله. أقول أن كل بحث يبنى عليه قرار في هذا الموضوع قبل الاطلاع على كتابى الجديد سيكون ناقصا مبتورا، ولذلك اقترح أن يؤجل النظر فيه وبحثه والقرار فيه إلى دورة قادمة لأنه لم يعد في الإمكان احتمال مجيء الكتاب وأن يوزع وأن يقرأ في هذين اليومين الباقيين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس:
شكرا لفضيلة الشيخ، والآن انتهينا من بيان فضيلته للرأى الذى ليس لدينا أي بحث إلا من قبل فضيلتة، أما المجموعة الثانية، والتى تمثلها البحوث الموجودة لدينا من الشيخ الزحيلى والشيخ التميمى والشيخ عبد اللطيف وعدد من المشايخ فإن شاء الله تعالى نستأنف ذلك بعد صلاة المغرب مباشرة، وبالله التوفيق.(2/489)
بعد الصلاة
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم نستأنف الجلسة وأرجو من فضيلة الشيخ وهبة الزحيلى أن يتفضل مختصرا للبحث الموجود بين أيدينا وشكرا.
الشيخ وهبة الزحيلى:
بسم الله الرحمن الرحيم، وأصلى وأسلم على نبى الرحمة وإمام المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد،
فبعد أن تحدث فضيلة أستاذنا الجليل علامة العصر الأستاذ مصطفى الزرقاء عن هذا الموضوع، يكاد يقف الإنسان مترددا، هيوبا أمام علمه وقدره وجلالته كما نعهده في كل مجلس وفى كل منبر وفى كل مكان. ولكن عذرى وعذر غيرى أن كثير من أئمة الفقهاء خالفوا مشايخهم أحيانا، فربما يكون هذا مجرئا لى أن أتكلم في هذا الموضوع وقد يكون لى رأى مخالف لرأيه لأنه بالرغم من تقديرى الكبير لما فتحه من آفاق علمية دقيقة في موضوع التأمين منذ عام 56 في جامعة دمشق وإلى الآن لا أكاد بالرغم من قراءتى المتكررة لكتابه القديم والحديث لم أر تغيرا في هذا الرأى، تغيرا يذكر ولكن لم أجد طمأنة نفسية للأخذ بكل ما قاله فضيلة أستاذنا، ولذلك عندما صممت على الكتابة في هذا الموضوع وجدت نفسى بينى وبين الله جل جلاله واستخرت الله على أن يهدينى إلى الحق والصواب، لذلك كتبت هذا الموضوع ولا أقول كما أشار فضيلته أن كلامى وكلام غيرى اجترار لما مضى فأنزه الفقه والفقهاء من هذا المعنى، ولعله لا يقصدها بالمعنى الواسع الذى فهمناه.(2/490)
فالاجترار يحدث شيئًا في النفس ولكن يمكن أن تكون هذه مرادفة بالمعنى الضيق لمعنى التكرار. فحقيقة كما أن كتابه الجديد تكرار لما مضى، الكتابات الحديثة التى تعارض رأيه لا مانع من أن تكون تكرارا، لأن رأيه في الحقيقة إذا أخذنا به يكاد ينسف كل ما نعرفه من قواعد الفقه الإسلامى في باب المعاملات كما نعهدها بالمفهوم الذى عرفناه عن العقود وعن قواعدها وعن شروط الفقهاء فيها، المتمثلة في النهى عن الجهالة والغرر والقمار والمخاطرة. فإذا نظرنا إلى هذا العقد بالمعنى الضيق الفردى وليس بالمعنى الجماعى الذى يعتمد على الإحصاءات الدقيقة كما يقول القانونيون إنه أي التأمين لا ينافى الأخلاق لاعتماده على إحصاءات دقيقة لا تكاد تخطئ، هذا في الحقيقة إحصاء نظرة إلى المعنى العام بالنسبة لشركات التأمين، لا بالنسبة إلى المستأمن نفسه، فشركات التأمين هى في الحقيقة دائمًا تستهدف من وراء هذه الإحصاءات أن تحقق ربحًا أكبر من هذه العملية، وأن تفيد نفسها ولا تفيد المستأمن، فالمستأمن إذا طبقنا الفقه الإسلامى هو في الحقيقة عندما يعتمد عقد التأمين مع شركات التأمين التجارية ذات القسط الثابت هو في الحقيقة أولًا عقد معاوضة وهو عقد غرر بدليل أن القانونيين يدرجون هذا العقد ضمن عقود الغرر، والغرر هو الاحتمال المتردد بين أمرين الوجود والعدم، وهو أيضا فيه قمار وهو أيضا بالرغم من رأيه الجليل وأنا أعرف ذلك من سنة 56 من فضيلته، بالرغم من كل هذا فهو يقول بغض النظر عما تتعاطى به شركات التأمين من ربا، الحقيقة شركات التأمين التجارية كلها تقوم على الاسترباح والاستغلال والاتجار وما هى وكل البنوك إلا تنفيذ للمخططات الصهيونية لأن بيوت رؤوس المال في العام هى وراء شركات التأمين، كما أن أيضا الأهداف التى تقصدها من وراء إساءة ما بحثناه من أحوال بنوك الحليب وأنابيب الأطفال كل ذلك وراءه الصهيونية العالمية لتدمير القيم الإسلامية والأحكام الشرعية. فمن المعروف حتى بنص القرآن الكريم أن اليهود والصهاينة موغلون منذ القديم بأكلهم الربا وأكلهم السحت وقد نهوا عنه ويمثلون ذلك بذكائهم ومخططاتهم واعتمدوا على علوم دقيقة ونشروا هذه المؤسسات في البلاد الإسلامية.(2/491)
فينبغى أن نعرف جميعا أن كل أغلب ما يدور حول هذه القضايا الجديدة وراءه الدماغ الصهيونى. لذلك هذا العقد الذى هو عقد التأمين ذو القسط الثابت الذى تمثله شركات التأمين التجارية لا يمكن أن نعفيه من المفاسد التى نعرفها عند فقهائنا الأجلاء والعظام والذين ندرس كتبهم وندرس قواعدهم، فإذا طبقنا هذا العقد على هذه القواعد المعروفة لا يطمئن المسلم إلى أن يجد في التأمين إباحة بالشكل المطلق الذى عليه شركات التأمين في الوقت الحاضر.
هناك تأمين تعاونى، هناك التأمينات الاجتماعية وهناك التأمين الإجباري هذه الأصناف الثلاثة لاشك في جوازها وقد أكد ذلك الجواز مؤتمر علماء المسلمين الثانى في القاهرة سنة 85/65 ومؤتمر علماء المسملين سنة 92/72 ثم جاء مجمع الفقه الإسلامى في مكة المكرمة وأكد هذا القرار وقرأت بالتفصيل مستندات هذا القرار في قرار مجمع الفقه في مكة المكرمة، وتحفظات أستاذنا فضيلة الأخ مصطفى الزرقاء، ولكن مازلت أقول: لم أطمئن إلا إلى الرأى الذي يقول بالتحريم نظرا لأن هذا العقد يشتمل أولًا وهو عقد معاوضة بالمعنى الضيق، هو عقد يراد به من شركات التأمين الاسترباح والاستغلال والاتجار، هو عقد فيه ربا لأن المستأمن يدفع بعض الأقساط وهو يقصد أحيانا أن يحصل على فائض من التعويضات الكبرى عند حدوث الحادث، وهو أيضا عقد يشتمل على غرر كثير وليس على غرر يسير، لأن الغرر اليسير مغتفر. وأما الغرر الكثير فهو واضح في هذا العقد إذ لا يدرى كل من المستأمن والمؤمن مقدار التعويض الذى يدفعه وأيضا المستأمن في هذا يدفع قسطا واحدا ويقع الحادث وقد يدفع كل الأقساط ومع ذلك يسلم من الحوادث وتضيع عليه كل الأقساط التى دفعها. وكذلك في هذا العقد جهالة إذا قيس هذا الموضوع على قضية ضمان الطريق وعقد موالاة.(2/492)
الحقيقة أن من هنا نبدأ، عقد التأمين التجاري هو عقد معاوضة وأما التأمين التعاونى وقياس التأمين التجارى على ما هو معروف من أن جمهور الفقهاء يجيزون ضمان المجهول غير الشافعية وأن ضمان الطريق مقرر أيضا وعقد الموالاة، الحقيقة كل هذه الأمور الهدف والباعث والشكل قائم على أساس من التبرع، ولذلك أجيز عقد التأمين لأنه تبرع وأما عقد التأمين ذو القسط الثابت التأمين التجاري فهو عقد معاوضة، بالمعنى الدقيق الكامل لذلك يصعب القول بجوازه. أما ما يقال بأنه لا غرر فيه ولا احتمال بالنسبة للمستأمن وهو ما يريده فضيلة أستاذنا، فالحقيقة هذا كلام محل نظر لأن محل العقد في التأمين هو الأمان كما يقولون دون توقف على الخطر، هذا الكلام غير سديد لأن الأمان هو الباعث على عقد التأمين وليس هو محل العقد. وإنما محل العقد هو ما يدفعه كل من العاقدين، المؤمن والمستأمن، وعنصر الخطر جاثم وقائم ولذلك لا يمكننا أن نتهاون في هذا الموضوع. لهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيوع الغرر ويقاس عليها كل العقود الأخرى وكما قال الإمام النووى: "الغرر النهى عن الغرر أصل من أصول الإسلام، أما النواحى الإنسانية التى يسترحم بها شركات التأمين الناس ويحاولون الدعاية، وإننا جماعة أنصار الإنسان وأنصار الرحمة وأنصار الضعف وأنصار هذا الشخص إذا تعرض لحادث أو حريق أو موت أو ما شاكل ذلك وهددت الأسرة بالمجاعة، أولًا الدولة هى المسئولة عن كفالة هؤلاء المحتاجين هذا شيء معروف في الإسلام،(2/493)
الشيء الثانى هذه الحاجة للتأمين، نحن مع فضيلته في أنه إذا تعينت الحاجة وليس كل حاجة تجيز الخروج على قواعد الشرع وإنما الحاجة العامة أو الخاصة التى تكون متعينة. وحيث أن هذه الحاجة لم تعد متعينة بقيام ونجاح. ونحن أظن فضيلته يريد أن يدعم أولًا البنوك الإسلامية التى لا تقوم على الربا. وأظن أنه يفضلها مائة بالمائة على البنوك الربوية، وكذلك شركات التأمين الإسلامية التى نجحت نجاحا باهرا ونافست حتى أننى زرت إحدى هذه المؤسسات في السودان فقال لى بالحرف الواحد، ومدير الشركة كان باكستانيا قال لى أصيبت شركات التأمين الأخرى بالذعر لنجاح شركات التأمين الإسلامية. فحيث وجد البديل ونجح ولله الحمد فلماذا نصر على تأمين مشبوه ومنغمس إلى الأذقان في الربا وأموالنا ودخلنا وثروتنا تعود كلها في النهاية إلى مؤسسات وبيوت المال الصهيونية. لذلك حيث نجح هذا النظام، نظام التأمين التعاونى لماذا لا ندعمه ونقول إنه هو الحل الأفضل المتعين؟ وليس نظريا أو بدائيا. القانونييون درسوا هذا العقد. عند علماء القانون يصفون التأمين التعاونى بأنه عملية بدائية، هذه العملية البدائية نحن نرحب بها وقد نجحت في العصر الحديث نجاحا منقطع النظير، وأكرر أن مدير هذه الشركة في السودان قال لى أصيبت شركات التأمين الأخرى بالذعر حينما نجحت شركات التأمين الإسلامية.(2/494)
فلذلك نظرا لكل هذه العيوب التى اشتمل عليها عقد التأمين من ربا وغرر ومخاطر وقمار وشبهات كثيرة وقصد استرباح، ثم اتصال هذه المؤسسات ببيوت أخرى هى في الحقيقة تعارض ما عليه عقيدتنا وما عليه ديننا وما عليه مبادئنا، فلذلك أؤكد بضرورة القول والإصرار على تحريم شركات التأمين ذات القسط الثابت والتأكيد على ضرورة إقامة هذه الشركات على أسس إسلامية وهى التبرع {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فهو تعاون محض، والتعاون هو الذى يحبذه ويفضله الإسلام، فهو تعاون محض وليس فيه قصد الاسترباح ولا الاتجار، وهو عمل إنسانى وملطف ويشعر كل إنسان أنه فعلا يقصد بعمله هذا وجه الله يريد ثواب الدار الآخرة عندما يشارك في عمليات التأمين التعاونى، أما ذلك فهو لا يهدف إلا إلى ربح مادى، والعملية مادية إذا كنا نعيش في تيار الاتجاهات المادية في العالم الحاضر، فالحقيقة هو أن مادة العصر أحرقتنا، فهلا عدنا إلى نظام شرعنا القائم على أسس من التكافل والتضامن التى تقوم على الرحمة والتعاون وإشعار الإنسان بسمو ارتباطه إلى الجماعة الإسلامية وإلى أخوة الإسلام.(2/495)
بقى شيء واحد وهى قضية إعادة التأمين. شركات التأمين التعاونية اصطدمت في الوقت الحاضر بأنها مضطرة إلى إعادة التأمين سوكرة وإعادة السوكرة.. يعنى مع شركات كبرى في العالم تدعمها لأنه ربما حدثت أضرار كثيرة، حدثت مثلا زلازل، أشياء من توقعات وتقديرات هذه الشركة في بلد من البلدان كما حدث من زلازل وبراكين وانفجارات ومجاعات، ففى هذه الحالة تريد هذه الشركة أن تضمن وجودها وبقاءها ولذلك تؤمن مع شركات تأمين أخرى كبرى عالمية. لابد أن أؤيد ما جنحت إليه لجنة الرقابة الشرعية في السودان وأخونا الدكتور الصديق الضرير هو من عمد هذه اللجنة، أؤيد ما قررته اللجنة بأنه من الضرورى أن ننشيء شركات تعاونية إسلامية كبرى تدعم وتحتضن هذه الشركات الصغيرة في البلاد الإسلامية، وإلى أن توجد مثل هذه الشركات وكانت بحاجة متعينة برأينا نحن دائما في قراراتنا الشرعية نعتمد على رأى أهل الخبرة، فإذا قالوا أن الحاجة متعينة، وقد قرروا أن الحاجة متعينة إلى إعادة التأمين، فالحاجة تقدر بقدرها كما أن الضرورة تقدر بقدرها، فلا مانع من إعادة التأمين مع شركات التأمين الكبرى ريثما يتم وجود شركات تأمين تعاونية إسلامية كبرى تحتضن هذه الشركات في البلاد الإسلامية بشروط مذكورة هنا في البحث. ولذلك لا مانع من الأخذ بهذه الفتوى وربما أكون مخطئا فيما تصورت ويكون الصواب في جانب فضيلة أستاذنا الجليل ولكن هذا ما اجتهدت فيه وما اطمأنت إليه نفسى. والله الموفق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/496)
الشيخ رجب التميمى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أيها الأخوة.. عقود التأمين لا يوجد لها أي أحكام خاصة في الشريعة الإسلامية. ولم يبحثه الفقهاء المتقدمون، ذلك لأن نظام التأمين نظام حديث جلب من الغرب مع ما جلب إلينا ونقل إلينا من أنظمة الغرب المادية.. أول من كتب عن نظام التأمين من الفقهاء المسلمين ابن عابدين رحمه الله سبحانه وتعالى، فقد ذكر ابن عابدين في كتاب الجهاد أحكام التجار الأجانب الذين يدخلون دار الإسلام مستأمنين، فذكر ما يلى قال "جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبا من حربى يدفعون له أجرة المركب ثم يدفعون له أيضا مالا معلوما لرجل منهم يقيم في بلادهم حتى إذا حصل أي شيء للمال, للمركب من حرق أو غيره يدفع لهم تعويضًا" ويسمى ذلك الرجل سوكرة، الذى يعرف في هذا الزمن بشركات التأمين، يقول ابن عابدين: أن هذا المال الذى يدفعه هذا الحربى لمن استأجر المركب ودفع له مالا معلوما، هذا العقد هو عقد فاسد، ذلك لأنه التزام ما لا يلزم والتزام ما لا يلزم هو عقد فاسد ولا يجوز للمسلم أن يأخذ بدل الهالك أن غرقت البضاعة أو حرقت بدلا عن ذلك لأنه أخذه بعقد لا يلزم الأخذ، والأخذ هنا حرام شرعا، كما ذكره ابن عابدين أول من تكلم عن موضوع التأمين. وابن عابدين يقول لا يحل للتاجر أن يأخذ بدل هالك لأن صاحب السوكرة لن يتعدى ولن يتلف هذه البضائع وأنه دفعه التزام ما لا يلزم كما ذكرنا. واعتبر ابن عابدين مسألة التأمين كالوديعة والمستعيض والمستأجر. الوديعة لا تضمن إذا هلكت قضاء وقدرا وكذلك المستعار لا يضمن إذا هلك قضاء وقدرا، وكذلك المأجور لا يضمن إذا هلك قضاء وقدرا.(2/497)
وإنما يضن بالتعدى. وهنا بدل التأمين حرام لأنه كالوديعة وكالمستعاض. فابن عابدين تحدث عن التأمين البحرى وهو الذى كان معروفا في ذلك الوقت. وقد ذكر الشيخ بخيث المطيعى مفتى الديار المصرية الأسبق المتوفى سنة 1935 عن موضوع التأمين فقال "أن من المقرر شرعا أن الأموال لا تضمن إلا بثلاثة أشياء: بالكفالة أو التعدى أو الإتلاف"، وعقد التأمين ليس من تلك العقود التى قرر الشارع الضمان فيها. وقال أيضا "إن الضمان الذى قررته الشريعة الإسلامية له أسباب وليس من أسبابه هذا العقد الذى هو عقد فاسد، ذلك لأنه معلق على حظ تارة يقع وتارة لا يقع، فهو قمار، لأنه لا يحل للمسلم أن يأخذ بدل المال الهالك بسبب هذا التأمين الذى هو يكون مبنيا على احتمال أن يقع أو لا يقع فهو مبنى على الحظ أي مبنى على القمار". ولذلك الشيخ بخيت رحمه الله، أيضا والفقهاء المسلمون الذين تكلموا في هذا الموضوع في العصور الماضية حرموا موضوع التأمين. طبعا التأمين التجاري الموجود الآن هو ما ذكره ابن عابدين لأنه مثل التأمين البحرى الذى كان معروفا في عصره من الجماعة الذين كانوا يقومون بعمل شركات التأمين الذين يسمونهم السوكرة الذين هم للآن. أيضا التأمين على الحياة هو أيضا عقد فاسد كالتأمين التجاري لأن التأمين على الحياة هو عقد مجهول فيه احتمالات وفيه مخاطرة وفيه قمار وفيه ربا، لأن الإنسان إذا أمن نفسه على الحياة مقابل أقساط قد يموت بعد القسط الأول ويكون المبلغ المؤمن عظيما، فإذا مات بعد القسط الأول استحق أن يأخذ بدل التأمين وهو مبلغ عظيم، كبير، قد يكون مبلغا كبيرا اتفق عليه وهذا مقدر بين العاقدين هذا المؤمن لماذا يأخذ هذا المبلغ؟ بأى حق حتى يأخذ بعد القسط الأول هذا المبلغ العظيم؟ أليس هذا مقامرة؟ أو ماذا يسمى أن لم نسمه مقامرة؟ فماذا نسميه؟ ثم إذا دفع جميع الأقساط ولم يمت يأخذ ما دفعه مضافا إليه الفوائد الربوية. فهو إما قمار وإما ربا، وهو من العقود الاحتمالية المجهولة، متى يقع؟ وبأى تاريخ يقع؟ وبأى أمر يمكن أن يكون معروفا؟ فهو من العقود الاحتمالية المجهولة حرمها الإسلام. وكتب القواعد الفقهية الكلية تخالف ما عليه التأمين، لأن كلا من المتعاقدين لا يدرى أحدهما وقت إبرام عقد التأمين مدى ما يأخذ أو ما يدفع ولا يعرف إلا في المستقبل نتيجة هذا العقد لأمر غير محقق الحصول ولا معروف وقت حصوله.(2/498)
إذن عقد فاسد لأنه لم بين على القواعد الفقهية الصحيحة المستنبطة من كتاب الله وسنة ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو أيضا عقد فيه غرر، وغرر فاحش والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، فكيف نجيز الغرر الفاحش. الغرر اليسير أجازه بعض الفقهاء، لكن الغرر الفاحش لم يجيزوه وجعلوه سببا في فساد العقود. هذا الأصل في عقود التأمين، عقود ليست مبنية على أسس من الشرع، قمار، مخاطرة، ربا، ابدا تؤدى إلى المقامرة، يدفع الإنسان شيئا ويأخذ أكثر، وإن دفع كل شيء ولم يحصل شيء يأخذ ربا، هذا أمر واقع لاشك فيه. بقى شيء، أن شركات التأمين، وهذا معروف لدى الجميع ولم أثبته في كلمتى، أن شركات التأمين هى شركات ربوية تتعامل بالربا وجل مالها من التعامل بالربا أو بالأعمال التى لا يقبلها الإسلام أساسا للعمل. تتعامل في كل شيء لأجل الحصول على المال والأرباح، وأساس الأموال عندها هى ما تأخذه من المؤمن له. تأخذ هذه الأموال ثم تستغلها في الربا أو في الأعمال المحرمة عند المسلمين أو في أمور لا يقبلها المسلم. ثم تدفع له عندما يحصل ما يحصل له، على أن هذا فيه مخاطرة أخرى من نوع آخر أن عقود التأمين كثيرا ما تؤدى إلى المنازعات بين شركات التأمين وبين المؤمن له لأن ما نراه في المجتمع من الحوادث التى تحصل والمنازعات التى تحصل بين شركات التأمين والمؤمن له كثيرة. ومن أراد أن يتحقق من ذلك فليرجع إلى سجلات المحاكم. واحد مؤمن على تجارته وهو مشرف على الإفلاس يفتعل حادثا ليأخذ مالا وهذا كثيرا ما حصل. واحد مؤمن على سيارته يفتعل شيئا ليأخذ بدل التأمين، على أن أيضا التأمين على الحياة هى أيضا هذا النزاع، فقد نشرت جريدة الجمهورية بالقاهرة بتاريخ 24 يناير 1960م أن أحد الأطباء أمن على حياته 47 ألف دولار تقريبا. هذا الرجل عمل حادثة شنيعة من أجل أن يحصل على التأمين إذ قطع تذكرة طائرة ليسافر وأعلن انه سيسافر بالطائرة وفي الموعد الذي سيسافر فيه اتفق مع صديق له وأقنعه أن يسافر بدله واختفى.
وسافر الصديق في الطائرة وفى الطريق طبعا تحطمت الطائرة لأنه وضع فيها ما ينسفها ليحصل على التأمين واختفى، وجهات التحقيق توصلت إلى الرجل قد ظهر بعد شهرين، الذى اختفى وسافر. وتبين أنه عمل على نسف الطائرة وفيها كذا من الناس أربعين أو خمسين ليحصل على بدل التأمين، وهذه حادثة من جملة الحوادث التى تحصل كثيرا بين شركات التأمين والمؤمن له. لذلك فإن التأمين هو عقد فاسد وفيه غرر فاحش والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، والله نسأل أن يوفقنا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/499)
الشيخ محمد على التسخيرى:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد النبيين وآله وصحبه الطاهرين.. بكل اختصار أود أن نحذف من بحوثنا الفهقية ما يؤثر عليها من تأثيرات عاطفية كربط قضية معينة أو مورد معين بجانب سياسى مع احترامى الشديد لكل الإخوة الذين ربطوا بين عقد التأمين مثلا وبين التخطيطات الصهيونية لتحطيم العالم، أو عقد التأمين وما نتج عنه من نزاع وتفجير طائرة وما إلى ذلك، فيمكن أن يجرى هذا أو ذاك في عقود نسلم جميعا بصحتها وإنما يجب أن نبحث بحثا علميا متجردا نرضى به الله تعالى، ومعنى إرضاء الله يعنى إرضاء الحقيقة والوصول على صخرة الواقع. الحقيقة يجب أولا أن نخرج عقد التأمين، ما هو هذا العقد؟ هل هو هبة معوضة؟ هل هو ضمان معوض أن قلنا بصحته ولم نقل بأنه ضمان ما لم يجب؟ هل هو صلح؟ هل هو عقد من العقود الجديدة التى يعترف بها العرف ويطلق عليها لفظ عقد فيحقق موضوع {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ؟ وهذا ما قال به الكثير من الفقهاء والحنفية أيضا قالوا به، موضوع اشتغال شركات التأمين بالربا وإعطائنا مما اشتغلت فيه بالربا، هذا أمر ثانوى وجانبى ونحن نستطيع أن نتعامل مع هذه الشركات ونعمل فيها قواعد اليد وما إلى ذلك، يقال أن مثلا عقد التأمين ينفى بعض موارد مصرفية الزكاة وهنا نشكره على أنه وفر للموارد الأخرى الزكاة دون أن نعارضه. يجب أن نركز إذن على هذه النقطة، إذا أردنا أن نخرج، الواقع يحتاج الأمر إلى وقت طويل وإلى بحث فقهى، هناك تخريجات تطرح لعقد التأمين، وإذا طرحت هذه التخريجات حينئذ يجب أن نبحث هذه الإشكالات الواردة، هل هى تتناول شروط ذلك التخريج؟ مثلا إذا جلعناه صلحا بين هذا الشخص وذاك، فهل يرد على الصلح إشكال غرر؟ أم أن الصلح المفروض به التغاضى عن الغرر؟ فالتخريجات المذكورة هنا أذكرها بشكل سريع جدا. هناك تخريج كما قلت على أنه عقد مستقل عقلانى مشمول لقوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ويلزم الوفاء به فالآية القرآنية تشمل كل عقد عرفى ما لم يتناف مع الحدود التى منع الشرع من الاقتراب منها. فكل شرط ليس في كتاب الله باطل. الناس غير محصورين هم أيضا في العقود المعروفة.(2/500)
الأسلوب الثانى أن نخرجه على أساس أنه هبة معوضة ولا يرد على هذا التخريج تخريج إشكال، إلا أن المتعارف اليوم الذى هو في ذهن المتعاملين في عقد التأمين ليس هو الهبة المعوضة. هناك مسألة الصلح، مصالحة بين هذا الإنسان الذى يريد أن يؤمن على تجارته وبين شركة التأمين على هذا المعنى. هذا العقد أيضا عقد صحيح معاوضى، وآتى للإشكالات إن شاء الله.
الأسلوب الرابع، الضمان المعوض، عقد ضمان يلتزم فيه أحد الطرفين بجبران الخسارة لقاء التزام الآخر بعوض، قد يقال كما قال شيخنا الجليل المرحوم الشيخ بخيت المطيعى قال: إن المعروف من الشريعة أن الضمان له أسبابه، الكفالة، والتعدى، والإتلاف. فمن أين جئتم لنا بهذا الشكل وليس هنا كفالة ولا تعد ولا إتلاف. الواقع بنفس دليل {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الذى قلنا إنه يشمل حتى العقود الجديدة، اليوم مثل هذا الضمان عرفى بلا ريب، لنتغاض عن شرعيته، عرفى لا ريب، هذا الضمان العرفى يعنى العقد، عقد ينتج الضمان، عرفى ويمكن أن تشمله الآية الكريمة أو المقطع الشريف {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
النقطة الأخرى طبعا هناك اشكالات.(2/501)
الرئيس:
ممكن يا شيخ تذكر لنا حقيقة الصلح شرعا عند الفقهاء؟
الشيخ محمد على التسخيرى:
الصلح هو عقد يجرى بين طرفين يتصالحان على شيء فيه عوض ومعوض وطبيعة هذا الصلح غررية، يعنى يدخلها الغرر، طبيعته يدخلها الغرر وأنا سوف أشير إلى الغرر يا سماحة الشيخ، طبعا هناك من لا يجيز ضمان الأجنبى هناك من لا يجيز ضمان من لا يجب، يعنى ضمان ما لا يلزم وما إلى ذلك، الشيء الآخر الذى أود أن أشير إليه هو الإشكالات، إذن هناك أساليب ويجب أن نحرر هذه الأساليب لا نترك الأمر عائما ثم نشكل.
الرئيس:
كلمة بسيطة بس عارضة.. في حقيقة الصلح، المعروف أن الصلح أنه لا ينشأ إلا في حق بين الطرفين أصلا.
الشيخ محمد على التسخيرى:
فى حق بين الطرفين، لا لا، إن هذا لا نقول به، أي صلح عندنا جائز والصلح جائز بين المسلمين، على أي حال إن هذا اختلاف مبدئى قد يكون.(2/502)
نعود إلى الإشكالات، الإشكالات المطروحة، الإشكالات التى طرحت هنا. أول إشكال هو الغرر وأهم إشكال هو الغرر كإمامى أجد أن الغرر إنما ورد في البيع فقط، يعنى النص الوارد في الغرر وارد في البيع، ثم نحن نعمل على تعميمه إلى شتى العقود الأخرى. كما قلت كإمامى القياس عندى غير معمول به لكن لنفترض القياس ألا يمكن أن نسأل أنفسنا؟.
الرئيس:
يعنى أمران الآن متوفرة عندنا: أن القياس غير معمول به، إضافة إلى حقيقة الصلح.
الشيخ محمد على التسخيرى:
لا هذا أمر ندعه الآن.. كاختلاف في المبدأ.
الرئيس:
لا هذا أمر ندعه الآن.. كاختلاف في المبنى وكما تفضلتم في التفريع عليه أنتم تفترضون القياس في بحثكم هذا الموجود عندى على فرض التسليم بالقياس هذه قضية، القضية الاختلاف الحاصل في حقيقة الصلح.
الشيخ محمد على التسخيرى:
نعم ومعذرة سيدى الرئيس، مسألة القياس لنفترض أنه يجرى ولكن ألا لاحظنا الفوارق بين العقود الأخرى ولها شروطها وللبيع شروط. ثم توسعة دائرة الغرر هل تشمل كل العقود؟ أو لها حدود معينة؟ هذا أمر متروك للعلماء الأجلاء. مسألة الغرر، لنفترض أن الغرر شرط في كل العقود الأخرى مسألة الغرر يجب أن نلاحظ أن العقد تارة يكون مبهما إبهاما كاملا أو كما يسمى جهالة فاحشة. تارة هكذا نفترض وأخرى نفترض لا. المؤمن والمستأمن كلاهما يعرف الشروط بكاملها، الإمام القائد حفظه الله يقول هكذا ويشترط هذا المعنى. يقول "يجب تعيين المؤمن عليه من شخص أو مال أو مرض، تعيين طرفى العقد، تعيين المبلغ المدفوع، تعيين الخطر الموجب للخسارة، تعيين المبلغ الذى يدفعه المستأمن، تعيين زمان التأمين ابتداء وانتهاء" يمكن أن نضيف إلى هذه الشروط كل ما يدخل في الدقة في معرفة كل خطوات هذا العقد بشكل كامل، حينئذ هنا هذا العقد واضح المعالم. لكن تقولون قد تحدث وفاة، وقد تأتى صاعقة، في كل العقود الأخرى أيضا يوجد غرر من هذا القبيل يا سيدى، في المضاربة لا أعلم أنا كم أربح، في المزارعة، في المساقاة لا أعلم هل تصل المسألة إلى مستويات عالية أو لا ينتج هذا الزرع، لا يأتى مطر أو لا يكون كذلك، هناك نسبة من الغرر هناك إذا لوحظت الحوادث التى تحدث هناك نسبة من الغرر، وإذا لوحظ وضوح العقد، هنا العقد واضح. واضح لدى شركة التأمين. وواضح لدي أنا المستأمن، هذه نقطة، النقطة الأخرى مسألة الربا، لا أعتقد أن هذا الإشكال وارد هنا أبدا خصوصا إذا أخرجنا المسألة من شكل قرض، يعنى لا نعتبر المسألة مسألة قرض يعطى حتى يقال هنا ربا يأتي في البيع. هناك مسألة المقامرة والرهان يعتمد على الحظ والمصادفات، الرهان ليس فيه ترميم للأضرار وما إلى ذلك، وجواب الدكتور جواب واف، قيل إنه أخذ مال الغير بلا مقابل وهذا وجه غريب، قيل إنه إلزام بما لا يلزم شرعا مسألة الضمان، قلنا أن الضمان يمكن تصحيحها على أساس أنها عقد مستقل، قيل إنه صرف باطل وما أبعده عن الصرف، قيل إنه يؤدي إلى تعطيل سهم الغارمين ويجب أن نشكره على ذلك لأنه يوفر للسهام الأخرى الزكاة، وهكذا هناك إشكالات أهم إشكال هو الغرر. وأرجو أن نركز على الغرر حتى نعرف واقعا عقود غررية أم لا هذا ثانيًا طبعًا، أولا التخريج الفقهى المهم. أعتذر كثيرا وهى جسارة منى على أساتذتى.(2/503)
فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأزواجه وصحبه أجمعين.
كم نود أن نجد مخرجا للمسلمين وسندا صالحا من كتاب الله وسنة رسوله أو من القياس، أو من أقوال الفقهاء، ليبيح هذه المعاملة. ولكننى مع الأسف لم نجد هذا السند. أن كل ما قدم في هذا الموضوع لم ينقع الغليل ولم يشف العليل. فكأنه حوار الصم كما يقولون:
تقول هذا لُعاب النحل تمدحه وإن ذممت فقل قييء الزنانير
هذا يقول هذا تعاون من باب {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وهذا يقول هذه شركات تجارية تشكل لأغراض التجارة ويدخلها المساهم ولا يدرى ما هى نتيجة العقد، وما هى النتيجة التى سيحصل عليها بعد دخوله في هذا العمل يدخلها تارة طائعا ويدخلها تارة مجبرا. لأن كثيرا من الحكومات تجبر الإنسان على أن يؤمن السيارة وإذا لم يؤمنها فإن سيارته توقف وتسحب منه الرخصة. إذن في الحقيقة.(2/504)
والوفق في الحكم لدى الخصمين شرط جواز القيس دون مين نحن لم نتفق أساسا في الماهية فكيف نقيس على هذه الماهية، إنها مسألة في غاية الصعوبة، التحليل والتحريم مسألة كبيرة، حذر الله سبحانه وتعالى منها في أكثر من آية ويجب أن نتذكر ذلك دائما هنا ونحن نتحدث عن هذه المسائل فالكلام الذى نقوله ولما نقدمه للمسلمين من حلول. يقول الله سبحانه وتعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فهذا تحذير شديد ويقول الله سبحانه وتعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} هذا تحذير آخر شديد. إذن أمام هذا الوضع ليس لنا إلا أن نلجأ إلى النصوص الشرعية، لاستقرائها والاستنباط منها وأن نحاول عن طريق هذه النصوص أن نفهم طبيعة القضية التى نعالجها اليوم. لأن هذه النصوص لم تذكر هذه القضية باسمها، وهذا ليس عيبا، وإنما ذكرت كثيرا من القضايا التى تشبه هذه القضية شبها شديدا، بل أن الله سبحانه وتعالى أشار إشارة واضحة إلى أن المنافع لا تكفى للتحليل في قوله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} ما هو الميسر؟ هى العرب كانوا ينحرون الناقة ويضعون جملة من السهام منها السهم الظافر ومنها المنبج وجملة من السهام لكل سهم اسمه، يضعون عليها الاسم، فمن ربح بالسهم الأعلى قمر، أي أخذ الناقة كلها ولا يقضى شيئا، لا يبذل مالا، ومن فاز بالوغد، أو كان من حظه الوغد وهو من آخر السهام فإنه لا يفوز بشيء ويدفع المال المترتب. العرب كانوا ينتفعون بهذا في زمن الشتاء إذا لم يجدوا من ينحر لهم. تعلمون أن العرب كانوا ينحرون في الشتاء ويتمدحون بذلك فكانوا ينتفعون بذلك، والله سبحانه وتعالى قال نعم، هذا فيه منافع ولكن الإثم أكبر من النفع فانتهوا، توقفوا عن هذه المعاملة السيئة لأنها ليست مقبولة شرعا لما فيها من الغرر، حينئذ يبقى أن نتكلم عن الغرر.(2/505)
لقد قلت أولا إنه يجب تحديد مفهومنا للتأمين، أنا لست من المختصين في عقود التأمين، ولكنى أراه هكذا، لقد كنت في بعض البلاد الإسلامية في مسئوليات معينة ومتطلع على بعض الملفات وأيضا أعرف إلى حد ما بعض القوانين الغربية واللغات الغربية. فالتأمين تابع لأى من الوزارات؟ هل هو تابع لوزارة الشئون الاجتماعية أو وزارة الأوقاف؟ لا هو تابع لوزارة المالية ووزارة التجارة. إذن تأمين الشركة التجارية إذا كان للدولة فالدولة تجنى من ورائه أرباحا وإذا كان للأفراد فالأفراد يجنون من ورائه أرباحا. وهذه هى المهمة الكبرى وهى الباعث. هذا الذى أراه والله سبحانه وتعالى أعلم. قلت: إنه يمكن للبلاغة أن يقول الواحد هذا لعاب النحل والآخر يقول هذا قيء الزنانير، للتنفير، فالذى نعرفه أن التأمين هو من الأعمال التجارية المحضة الواضحة جدًا وأن الشخص قد يدخل فيه مجبرا، كما ذكرت في السيارات التى يجب تأمينها في البلاد التى يطبق فيها عقد التأمين ولا يمكن أن تسير بسيارة بدون أن تكون مؤمنة وإلا فإن الشرطة توقفك وتطلب منك ورقة التأمين. هل هذا الشخص مجبر أم مختار؟ إذا كان مختارا لقال أنا أريد أن أذهب بسيارتى بدون تأمين واتركونى لأتحمل أخطائى، فيقولون له: لا، لابد أن تأخذ عقد التأمين. هو مجبر إذن وليس مختارا وليس عقدا والعقد فاسد من هذه الناحية لأن الاختيار شرط لابد أن يكون الطرف الآخر راضيا بهذا العقد، فإذا لم يكن راضيا فإن هذا العقد من باب الجبر فهو مجبر عليه والمكره لا يلزمه عقد كما جاء في الحديث "وما استكرهوا عليه" وكما قال إمامنا مالك رحمه الله تعالى: طلاق المكره. وتعرفون ما وقع لمالك رحمه الله في المسألة. التأمين ليس فيه غرر هذا صحيح. التأمين عقد ليس فيه غرر بيع الغائب، يثبت بيع الغائب بالوصف، هذا عقد فيه غر، عقود المساقاة عقود فيها غرر، عقد الغرر لا يجوز مطلقا، حتى عند من يقول بأن النهى لا يبطل العقد وبعضهم قال أن النبى لا يبطله وإنما يفسده وفرق بين الفساد والبطلان. فالبطلان هو تدمير الماهية تدميرا تاما، والفساد يمكن انجباره بالخيار في البيع مثلا بثبوت حق الخيار في البيع أو بثبوت حق الخيار في النكاح أو بثبوت الصداق في نحو نكاح الشغار مثلا بالنسبة لمن يعلل الخلاف لإمامنا مالك رحمه الله تعالى الذى لم يعلل في قضية الشغار.(2/506)
النهى إذن، ما هو النهى الذى يوجب البطلان؟ بالتتبع لمذاهب العلماء نجد أن النهى الذى يوجب البطلان هو النهى الذى ينصب على الماهية، بمعنى يفقد الماهية ركنا أساسيا من أركانها، أو النهى الذى ينصب على الصيغة بأن تكون صيغة غير شرعية، هذا هو النهى الذى يؤدى إلى البطلان. وهذا واقع في العقد الذى نتحدث عنه اليوم. النهى الذى يفقد الماهية ركنا من أركانها، معلوم أن الركن العاقد والثمن والمعقود عليه ومتعاقدين هذه هى أركان البيع. شرط البيع الذى لا تنفك عنه الماهية هو القدرة على التسليم، الصيغة أيضا هى دليل الماهية وليست من الماهية على خلاف بين العلماء، يقول صاحب القواعد:
الشرط عن ماهية قد خرج والركن لها قد ولج وصيغة دليلها والعدل لها من الأركان في بعدها إذن الصيغة إذا كان البيع معيبا من ناحية الصيغة فإنه يكون باطلا، ولنخرج من هذه العمومات المقدمة أدلة: نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر في الجملة ومع ذلك نجد بيوعا فيها غرر قبلها العلماء وليست بيوع غرر. نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن بيع المضامين والملاقيح.(2/507)
هذا ما أسميه بيع الغرر. لأن ذات المعقود عليه لا يمكن تسليمها وبالتالى يفقد البيع شرطا كبيرا من شروطه وهو القدرة على التسليم والحكمة في البيوع وهى القدرة على التسليم. إذن هذا من بيوع الغرر التى نهى عنها النبى صلى الله عليه وسلم والتى أجمعت الأمة على أن النهى فيها دليل على البطلان، وليس دليلا على الفساد، لا يمكن انجباره فعقد التأمين الذى نتحدث عنه هو شبيه جدا ببيع المضامين والملاقيح فألا يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها، قريبا جدا منها كأنه هى. إذن إذا كان البيع منصبا على ركن من الماهية كبيع الميتة فهذا البيع باطل قطعا. إذا كان البيع منصبا على صيغة كبيوع الربا فهذا البيع باطل قطعا ولا يمكن انجباره. إذا احترمت الماهية واحترمت الصيغة فإن البيع حينئذ يمكن انجباره كتلقى السلع إذا كان البيع منهيا عنه كتلقى الركبان واشتراء السلع قبل وصولها إلى السوق. وكبيع النجش الذى يزيد الغرر فإن هذا البيع منجبر بعد ذلك صحيح عند الجمهور إذا كان فيه غبن فاحش يؤدى إلى الخيار عند الإمام أحمد ورواية عن مالك مشى عليها ابن عاصم رحمه الله تعالى، أما خليل فقال: أن الغبن الفاحش لا يرد به، لا بغبن ولو خالف العادة، أما ابن عاصم فذهب إلى أن الغبن يؤدى إلى وجوب الخيار في البيع. الحقيقة أننا في وضع إذا تباحثنا فيه لا نصير في الحقيقة إلى كبير فائدة إلا أن كلا من الناس يعرب عن وجهة نظره عندما يقول هذا التأمين الذي ترونه أمامكم ليس عقدا نحن نقول له: هو ليس يصح في الأذهان شيء يحتاج النهار إلى دليل، ليس عقدا تجاريا وإنما هو تعاون كقول النبى صلى الله عليه وسلم: ((إن الاشعريين يجمعون أزواجهم)) هذا يجعل التأمين من هذا النوع، هذا في الحقيقة نصبح أمام وضع صعب جدا في نقطة الانطلاق ونقطة البداية، وتصحيح البدايات شرط في تصحيح النهايات.(2/508)
لابد من تصحيح هذه البداية التى ننطلق منها، أن نعترف بالحقيقة ماثلة أمامنا، نحن لا نعرف شيئا عن أصول التأمين وعن تاريخ التأمين، يمكن أن يكون تاريخ التأمين كان طبيبا ولكن التأمين الذى نشاهده الآن وفى البلاد التى تؤمن والتى تؤمن على الحياة وعلى السفن وعلى البضائع هو يدخل فيما ذكرته آنفا وأنه عقد غرر وليس فيه غرر. وعقد مجهول لأن الشخص لا يدرى هل يعود إليه شيء من هذه الأقساط أو لا يعود له مطلقا وهو حريص جدا على أن يجد ما فقد أو لا يعمل شيئا مطلقا ولا يصير له شيء من هذا المال الذى قدمه. فبعد ما ذكرته الآن وأحترم رأى بعض الإخوان الذى يقول إنه يجب أن نتجنب الأمور العاطفية، أعتقد أننى لم أذكر أمورًا عاطفية، الذي أذكره أننى حاولت التركيز جدا على هذه النقطة وأن التأمين عقد غرر وأن النهي إذا كان يتعلق بذات العقد فإنه يؤدي إلى البطلان والرد الذي جاء بالحديث ((من اعتدى بأمرنا على أعمالنا ليس منا، فهو رد)) ، يدل على بطلان النهى كما وعند جمهور العلماء وحتى من لا يقول بالبطلان كأبي حنيفة رحمه الله تعالى الذي يقول أن النبي يدل على وجود الماهية فإنه في هذه العقود بالذات يقول بالبطلان وهو فناء الماهية فناء مطلقا. والحمد لله رب العالمين.
وإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار
الرئيس:
شكرا أثابكم الله، أيها المشايخ، نحن أمامنا البحث ذو جهتين أما الجهة الاولى فهو البحث في التأمين حلا وحرمة. وأما الجهة الثانية فهي في البديل الإسلامى والذي تقدم به الأستاذ عبد اللطيف جناحي ولدى الشيخ عبد اللطيف صالح الذى يشتغل في إحدى اللجان الآن بحث كذلك وهو بين أيديكم. ولهذا فإنه قد ترون مناسبا أن البحث في البديل الإسلامى نؤجله إلى جلسة غير الصباحية باذن الله تعالى ونطلب من أصحاب البحوث أن يتفضلوا بإعطاء مختصرات عن بحوثهم كما جرى عليه العمل. وأما الآن فنسمع القسط من المداولات حول ما سمعتموه من ملخصات لهذه البحوث وأعطي الكلمة للشيخ أحمد الخليلى.(2/509)
الشيخ أحمد الخليلى:
بسم الله الرحمن الرحيم، شكرا معالي الرئيس، في الواقع أنا لست من أهل الخبرة في موضوع التأمين لأننى لم أدرسه من مصادره ومن مظانه وينبغى أن يكون الإنسان دائما متوقفا أمام الشيء الذى يجهله، وإنما تكونت عندى فكرة الآن مما سمعته من هذه البحوث القيمة التى تليت على مسامعنا، وبقي عندي شيء من الإشكال وأريد أن استفسر عما أشكل علي، الموضوع الذي أشكل علي والذي لم أعرف حقيقته هو موضوع التأمين الاجتماعي أو التأمين غير التجاري كيف طريقته حتى أستطيع أن أتحدث عن هذا الموضوع بعدما نتصوره، أنا حسب ما سمعت من هذه البحوث الآن. وحسب ما تبين لي أيضا بعض الشيء من أحاديث الناس حول التأمين، وجدت الدخول في التأمين أمرًا فيه حرج كبير، لأن التأمين كما تفضل أصحاب الفضيلة المشايخ الذين تحدثوا عن حرمة التأمين، هو عقد بين متعاقدين، عقد فيه غرر بحيث لا يدري هذا المستأمن هل يسترد شيئا مما أعطى أو لا يسترد شيئا قط، وهل يبقى مستمرا في عقده هذا وقتا طويلا أو يمل آخر شيء بعدما يرى الخسائر تتتابع ويحاول أن ينسحب، وفى نفس الوقت تكونت عندي صورة من بعض ما سمعته من الناس، منذ سنين سمعت أحدا ممن استأمن على سيارته يقول بأن ريحا شديدة أو إعصارا حل وكانت سيارته تحت شجرة فكان يتمنى أن تسقط هذه الشجرة على سيارته حتى يدفع له العوض، وفى الأيام القريبة أيضا نفس الشيء سمعت أحدا يذكر عن ابنه بأنه اتفق مع الشباب بأن يعملوا صداما مصطنعا ما بين سياراتهم حتى ينالوا تعويضا من شركة التأمين عن طريق هذا الصدام المصطنع. وقد تم ذلك فعلا، فلو كان هذا الإنسان الذي شارك في هذه الشركة "شركة التأمين" حريصا على ما لها لما كان ذلك، ولو كان يراعي أن هذا المال هو شريك فيه لما حدث مثل ذلك، وإنما هذا يدل على أنه يريد أن يسترد بعض ما أخذه، لأن أن كان هذا التأمين مفروضا بالقهر فهو يريد أن يستنصر لنفسه باسترداد بعض مما أعطى، وأن لم يكن مفروضا فهو يريد من وراء هذا ربحا، لعله يعوض سيارة جديدة بدلا من تلك السيارة القديمة. وبجانب هذا، كما تفضل فضيلة الشيخ رجب، نحن لا نأمن من شركات التأمين أن تكون تعنى بتنمية ثروتها أو رأس مالها من طريق الربا وهذا واقع طبعا لأن المعاملة إنما تكون مع البنوك وعن طريق بيع المحرمات كالخمر وغيرها، وعن طريق الاشتراك في الملاهي والمراقص إلى ما وراء ذلك، وعلى كل حال مما جاء في الأثر: أمر بان لك رشده فاتبعه، وأمر بان لك غيه فاجتنبه، وأمر أشكل عليك فقف عنه. على الأقل في القضية شبهة أن لم تكن حرمة ظاهرة صريحة فهناك شبهة، والشبهة يجب علينا أن لا نتخطاها. فمن هذه الناحية أنا أضم صوتي إلى أصحاب الفضيلة المشايخ الذين قالوا بمنع التأمين وبجانب ذلك أيضا أنا أضم صوت إلى الذين يرون البديل الإسلامى، فماذا عسى أن يضيرنا إذا نحن كونا شركة إسلامية، هذه الشركة الإسلامية عليها أمناء يراقبونها تجمع تبرعات، هذه التبرعات تنمى بطريقة مقبولة شرعا يبقى رأس مالها ومن الربح يعطى الذين يرزأون بحوادث وقضايا، في هذا البديل ما يغني عن اتباع المناهج والنظم التى عند غيرنا وعلى كل حال أصحاب الرأى الحصيف كل منهم يدلي إن شاء الله برأيه ورأي الجماعة لا تشغل بلاد به.(2/510)
الرئيس:
شكرا أثابكم الله، أرجو من الشيخ الضرير أن يتفضل بإعطاء لمحة عن التأمين التعاونى وإن كان موجودا لدى أصحاب الفضيلة وهو في قرار مجمع مكة وهو موجود لديكم في آخر البحث، عن التأمين التعاونى.
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا الموضوع "التأمين" بدأ البحث فيه منذ سنين عديدة ولعل أول مؤتمر بحث فيه هذا الموضوع كان في أسبوع الفقه الإسلامى الثاني وكان فيه أستاذنا الزرقاء وكان لي شرف الحضور بهذا المؤتمر وقد عرضت فيه الآراء وأوردت شبه كثيرة في هذا وكان رأيي ورأي الأستاذ الزرقاء يكاد يكون واحدا إلا في مسألة واحدة اختلفنا فيها وهي موضوع الغرر. وكان رأي الأستاذ الزرقاء في ذلك الوقت أن الغرر غير موجود في عقد التأمين، أو أنه ليس عقد غرر، إذا أن الغرر فيه يسير بحيث يكون مغتفرا. وكان رأيي ولا يزال أن الغرر هو السبب الأساسى في منع عقد التأمين التجاري. ونظرية الغرر قد كتبت فيها كتابا وتعرضت فيه لعقد التأمين وأصل هذا العقد وانتهيت إلى أن الغرر الذي يؤثر في العقد وهو قد قاله بعض الإخوان، هو الغرر في عقود المعاوضات المالية وبشرط أن يكون كثيرا وفي المعقود عليه أصالة وألا تدعو إلى العقد حاجة، وهذه مسائل استنبطها من أقوال الفقهاء، وارتضيتها لأنها محل خلاف، فان يكون في عقود المعاوضات المالية، وهذا هو الشاهد الذي أريد أن أقف فيه قليلا هذا الشرط محل خلاف. أما بقية الشروط الثلاثة فلا خوف فيها، الغرر اليسير لا يؤثر في العقود مطلقا عند جميع الفقهاء. وكذلك كونه في المعقود عليه. أصالة لا يغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، وإذا دعت إلى الأصل حاجة، الفقهاء يكاد يتفقون على أن الغرر هنا لا يؤثر ولو كان كثيرا. ولو كان في عقد المعاوضات. لكن الخلاف حصل في عقود المعاوضات، فبعض أو أكثر الفقهاء عمموا، وقالوا الغرر يؤثر في جميع العقود، وإن كان النص ورد في البيع خاصة، وخالف المالكية في هذا ولهم فيه رأي صريح ومبدأ ثابت، وهو أن الغرر لا يؤثر في عقود التبرعات. قالوها صريحة، وإن كان بعض الفقهاء لهم آراء أيضا بالنسبة لعقود التبرعات، الهبة هل يؤثر فيها العقد كما يؤثر في البيع؟ لكن لم يصرحوا كما صرح المالكية بهذا المبدأ، وهو أن عقود التبرعات يؤثر فيها الغرر، فيجوز في الهبة، لا يجوز أن تبيع ما تثمر الحديقة في العام القادم ولكن يجوز أن تهب ما تثمره الحديقة في العام القادم. والسبب واضح في هذا، وجهة نظر المالكية في هذا سليمة وقد أخذت بها، ولذلك اشترطت في الغرر المؤثر أن يكون في عقود المعاوضات. ومن أجل هذا رأيت أن عقد التأمين التعاوني وهو عقد تعاوضي يؤثر فيه الغرر إلا إذا دعت إليه حاجة. وأن عقد التأمين التعاوني إذا كان قائما على أساس غير معاوضة، على أساس التبرع، فهو عقد جائز، بناء على هذه القاعدة، وأن كان فيه غرر، الغرر موجود في الحالتين سواء كان عقد تأمين تعاوني أو عقد تأمين تجاري، الغرر واحد، لكن الفارق هو أن في العقود التجارية هناك جهة تسعى إلى التجارة في هذا العمل، في التأمين، إلى التجارة في التأمين وهي التى تغنم وقد تغرم. أما في التأمين التعاونى فالمؤمن والمؤمن له واحد، وليست هناك جهة تتاجر في التأمين. المشتركون هم أصحاب الشركة وهم الذين يستفيدون من أرباحها إذا فاضت أو من أموال الاشتراكات إذا فاضت عن التعويضات وتعود إليهم هذا الفائض، وهم الذين يغرمون إذا زادت التعويضات عن الاشتراكات. والمبالغ التى يدفعونها كما قلت هى تبرع منهم. لمن تقع عليه كارثة يحتاج إلى أخذ المال منها.(2/511)
الرئيس:
فضيلة الشيخ هنا أود أن تسمح لى بكلمة بسيطة. طالما أن التأمين التعاونى هو عقد تبرع ممكن أن نصفه بهذا أو لا؟ هل نصفه بأنه عقد تبرع؟.
الشيخ الصديق الضرير:
نعم.
الرئيس:
نصفه بهذا، طالما أنه عقد تبرع، والتبرعات الأصل فيها الارفاق والإحسان وحب الخير والتعاون على البر والتقوى، فكيف نصف أن التأمين التعاوني يستوى مع التأمين التجاري في الغرر؟ وكيف يرد الغرر والحالة هذه؟ لأن عنصر الاحتساب وطلب الثواب هو الأصل الذي قام عليه التأمين التعاوني.
الشيخ الصديق الضرير:
الغرر هو يرجع إلى طبيعة العقد. فكما وجد الغرر في المثال الذى ذكرته في عقد البيع، بيع ما تثمره الشجرة في العام القادم، هذا عقد غرر لأننا لا ندرى هل ستثمر هذه الشجرة في العام القادم أو لا تثمر، وإذا أثمرت هل ستثمر كثيرا أو قليلا. ففى عقد المعاوضة المشتري دفع مبلغا، إذ لم تثمر الشجرة فيضيع عليه هذا المبلغ، وكذلك إذا أثمرت أقل مما كان يتوقع، وقد تثمر أكثر مما كان يتوقع البائع فيأخذ المشتري أكثر مما دفعه، وهبة ما تثمره الشجرة في العام القادم فيه نفس هذا الغرر وهو عقد تبرع، فالغرر موجود في عقود التبرعات كما هو موجود في عقود المعاوضات، لكن في عقود التبرعات لا يؤثر، لأن هذا الشخص الذي وهبت له ثمرة هذه الشجرة في العام القادم لم يدفع شيئا، فإذا أثمرت يستفيد وإذا لم تثمر لا ضرر عليه، وهذه وجهة نظر المالكية في التفرقة بين تأثير الغرر في عقود المعاوضات وفي عقود التبرعات، أيضا عقد التأمين هو عقد التأمين. إذا أنا دفعت مائة جنيه قسطا عن سيارتى لشركة تجارية في هذا العقد غرر لأن السيارة قد لا يصيبها شيء فالشركة تأخذ كل المائة جنيه وأنا لا آخذ شيئا، هذا في الشركات التجارية. إذا دفعتها اجتمعنا عشرة أو مائة شخص ودفع كل منا مائة جنيه قسطا على أن من يحصل لسيارته يأخذ من هذا المبلغ وإذا فضل شيء يعاد إلينا ودخلنا من أول الأمر على أننا جميعا متبرعون بهذه المبالغ لمن تصيب سيارته مصيبة، فالغرر موجود وبنفس القدر لا يختلف.
الرئيس:
لكن هل الفقهاء أو العلماء أطلقوا عليه غررا؟(2/512)
الشيخ الصديق الضرير:
نعم، أطلقوا عليه غررا ولذلك قلت أن المالكية نصوا..
الرئيس:
لا، قصدي أنا على عقود التبرع يا شيخ،
ولكن هل يطلقون على ما أصله الإرفاق والإحسان من التبرعات غررا؟ هذا هو السؤال، أما أنا فحسب التتبعات، وفوق كل ذي علم علم الله، أعرف أنهم يطلقون على هذا غررا.
الشيخ الصديق الضرير:
هذا موجود في كل كتب الفقه التى اطلعت عليها وفي كل المذاهب عندما يتحدثون عن أثر الغرر يذكرون العقود التى يؤثر فيها الغرر والتى لا يؤثر فيها. فهم بإجماع اتفقوا على أن عقود المعاوضات تقاس على عقد البيع إذا كان فيها غرر، ثم تحدثوا عن بقية العقود ومنها عقود التبرعات هذه، فتحدثوا عن الغرر في الهبة وهي من عقود التبرعات بنصوص صريحة في كل المذاهب، وهي موجودة عندي. فما من شك أن العقد من حيث هو سواء كان معاوضة أو تبرعا أو حتى عقود الزواج، عقد الزواج تحدثوا عن الغرر فيه، فكلها يدخلها الغرر لكن هل يؤثر فيها جميعا أو لا يؤثر؟ هب هو الفارق، والواقع أننا نحن في السودان بدأنا، ولعل شركة التأمين في السودان والتى أشار إليها الأخ الزحيلى هى أول شركة تأمين تعاوني هي قامت على هذا الأساس ولها نظام مكتوب ووضع فيه كل ما يجنبها المسائل العرضية التي تدخل على عقد التأمين، مثل موضوع الربا، هذا ليس من أصل العقد، فمسألة عرضية قد توجد وقد لا توجد، ولكن الذي يدخل في أصل العقد هو الغرر ولم نجد مخرجا من هذا إلا بتحويل عقد التأمين من عقد معاوضة إلى عقد تبرع، ولذلك عندما أنشئت شركة التأمين التعاونى بهذا الأساس وقلنا أن رأس مال هذه الشركة هو الاشتراكات ولا نريد رأس مال من الخارج، ما فيه مؤسسين لهذه الشركة، لكن اصطدمنا بالواقع القانونى الذى يشترط في كل شركة أن يكون لها رأس مال ومؤسسون. فوافقت الهيئة على أن تقوم الشركة بحيث تتفق مع المتطلبات القانونية وجعل لها رأس مال دفعه البنك ومعه شخص أو شخصان لكى تتم العملية من الناحية القانونية. لكن اشترطنا على رأس المال هذا ألا يستفيد مطلقا من عمليات التأمين، بل استفادت الشركة من رأس المال هذا، بأن أصحاب رأس المال قبلوا أن يوضع نص بأنه إذا حصل عجز ونقصت الاشتراكات عن التعويضات، الشركة تأخذ من رأس المال هذا بصفة قرض لتسدد به العجز لأننا اصطدمنا بمشكلة عملية أنه حسب القاعدة في التأمين التعاونى أنه إذا حصل عجز نرجع على المشتركين، والمشتركون آلاف فكيف نرجع عليهم؟ حلت هذه المشكلة بأن وافق أصحاب رأس المال على أن يكون رأس المال هذا أيضا بمثابة تأمين لهذه الشركة في حالة إذا ما حصلت خسارة والحمد لله لم تحصل خسارة في هذه السنوات الثمانية. فالشركة ماشية الآن ووزعت أرباحا على المشتركين في العام الماضى بمقدار 8 % لأن هذا فاض، الأموال تستثمر وتدفع التعويضات، فحصل ربح زيادة على الاحتياطات الموجودة.(2/513)
ثم وضعنا في نظام الشركة هذه ما يميزها عن الشركات الأخرى، فيها جمعية للمشتركين لأنهم أصحاب الشركة، وهذا لا يوجد في أي شركة تجارية أخرى، المشترك ليس له غرض ولا يسأل عن أخيه في الشركات التجارية لأنه يتعاقد مع أصحاب رأس المال، لكن هنا، المشتركون يعرفون بعض ويجتمعون كل سنة وتصدر منهم توصيات فيما يتعلق بسير هذه العملية، فسار العمل والحمد لله في كل هذه السنوات، والعقبة التى اصطدمنا بها هي موضوع إعادة التأمين وهنا طبقنا أيضا نفس القاعدة، والتى هى قاعدة الغرر، لإعادة التأمين لم نجد في ذلك الوقت شركة إعادة تأمين إسلامية، فليس هناك إلا الشركات التجارية، شركات إعادة التأمين، أيضا صدرت فتوى بجواز إعادة التأمين في الشركات التجارية عملًا بمبدأ الحاجة، ومبدأ الحاجة التى تجعل الغرر غير مؤثر لأنه ليست هناك شركة إسلامية يمكن أن يعاد فيها التأمين، وتبين لنا من أقوال المتخصصين في التأمين أنه لا يمكن قيام شركة تأمين من غير أن تعيد التأمين في شركات أخرى لأنه سيكون مصيرها الفشل والخسارة، وناقشنا هذا الموضوع طويلا ثم أصدرنا هذه الفتوى بقيود وهى مدونة في كتابى "فتاوى" وسوف أعطيكم نسخة منه، هذا فيما يتعلق بإعادة التأمين. وأنا في رأيي أن هذا الموضوع أصبح الآن موضوعا عمليا، شركات التأمين التعاونية انتشرت الآن في أكثر من بلد، وأصبح الآن موضوعا عمليا، شركات التأمين التعاونية انتشرت الآن في أكثر من بلد، وأصبح المطلوب هو تنمية هذه الشركات وتقويتها والخروج من الحرج الذى نحن فيه بإعادة التأمين في شركات أجنبية. في الواقع أننا عندما أصدرنا هذه الفتوى اشترطنا على البنك أن يسعى لإقامة شركة إعادة تأمين، والآن والحمد لله بدأت هذه الشركات، توجد شركات إعادة التأمين إسلامية، بعض شركات التكافل، وتوجد شركات يمكن الاخ الذي تكلم عن البديل، يتحدثون عنها في البحرين أيضا شركة إعادة تأمين، لكنها لا تكفي. وأنا في رأيى أن المطلوب من هذا المؤتمر أن يوصي بالإكثار من إنشاء شركات التأمين التعاونية، والتعاون فيما بينها للخلاص من إعادة التأمين في الشركات التجارية، والنظر فيما تقوم به هذه الشركات، قد يكون فيها بعض المسائل التى تحتاج إلى تعديل هذا هو المطلوب الآن في رأيي، أما البحث في جواز التأمين التجاري أو عدم جوازه، في رأي أن هذا الموضوع تخطاه الزمن وما دام وجدت الآن الشركات الإسلامية، وهي من غير شك، على أقل تقدير، أقرب إلى القبول من الشركات التجارية، فلا معنى للبحث في جواز التأمين في الشركات التجارية بعد أن وجد هذا الآن ونجح والحمد لله، فمهمتنا ينبغي أن تنحصر في تحسين ما بدأنا فيه، وأكتفي بهذا. وشكرًا.
الرئيس:
الشيخ أحمد لديه استفسار بسيط.(2/514)
الشيخ أحمد حمد الخليلى:
أستفسر عن المشتركين في هذا التأمين التعاونى. هؤلاء المشتركون هل يعتبرون ملاكا يملكون هذه الشركة أو يعتبرون متبرعين، أخرجوا ما دفعوه من ملكهم تبرعا واحتسابا؟
الشيخ الصديق الضرير:
هم متبرعون، وهم في نفس الوقت كما قلت أصحاب الشركة، لأنه لهم جمعيتهم، جمعية للمشتركين تستطيع أن توصى بكل ما تراه فيه المصلحة لهذه الشركة، والذين يديرون الشركة لا يملكون الشركة، هم موظفون يتقاضون مرتبات، فالأصحاب الحقيقيون للشركة هم المشتركون، وهذا هو الأساس في التأمين التعاونى، حتى يعبر عنه بأنه المؤمن والمؤمن له واحد.
الرئيس:
شكرًا، ونحن إن شاء الله تعالى غدا سنستكمل البحث ولكن قبل أن نستكمل البحث أعطي الكلمة للشيخ معروف مع أملي بمراعاة الزمن لأننا ملتزمون أولا بأداء الصلاة ثم وراءنا التزام وبقية البحث والمداولة إن شاء الله سنكملها غدا بإذن الله تعالى.(2/515)
الشيخ معروف الدواليبى:
شكرا سيادة الرئيس.. وأنا كعادتى سأتكلم كلمات برقية سريعة. كنت أريد أن أقصر كلامي على التعاون الذي جرى حوله البحث أولا في التجاري ولكن سؤال فضيلة استاذنا الجليل الشيخ أحمد الخليلى طلب معلومات عن التأمين الاجتماعي، ولما كان التأمين الاجتماعي قد جرى في المملكة هنا وطبقناه وكنت مشرفا على وضع قانونه وقد حدث في الأول خلاف حوله ما بين إخواننا السادة العلماء من خمس عشرة سنة ولكن كلفت بشكل رسمي وبقينا مع المرحوم الشيخ عبد الله بن حميد وسماحة الأستاذ الشيخ عبد الله بن باز نحو ستة أشهر حتى اتضحت لهم الأمور وخرجنا بالتأمين الاجتماعي.
الرئيس:
الذى هو تعاونى.
الشيخ معروف الدواليبى:
الذى هو قائم الآن في المملكة العربية السعودية، التأمين التعاوني للعمال طال عمرك، يعني هو القائم الآن، وصدر كتاب من المرحوم الشيخ عبد الله بن حميد والشيخ عبد العزيز بن باز إلى الملك وأشرفنا على المواد كلها وصدر. وسوف أتكلم أيضا عنه بسرعة، وكما أتكلم عن البقية، فأولا هناك أيها السادة تنوير لمن لم يقرأ شيئا أو قليلا عن التأمين. التأمين الآن بشكل عام هو حاجة في العالم ولا يمكن لأحد أن يبيع تجارة أو يركب سيارة في أوربا إلا وهناك القانون إجباري وأصبح العرف به قائما ويؤمن حاجة حتى راكب السيارة لو قلت ما فيه سائل هو لا يرغب لأنه قد تحدث حادثة ويذهب فيها هو والآخرون ولذلك يجد أن من مصلحته أن يؤمن والدولة تجبره.. الخ، فالتأمين في العرف الدولى في العالم أصبح حاجة ضرورية.
فأبدأ بالتأمين الاجتماعي الذي قام في المملكة وبموافقة السادة العلماء فإذا كان التأمين المعروف دوليا هو التأمين التجاري ثم التأمين التعاوني ثم التأمين أيضا الاجتماعي الذي تفرضه الدولة بدون الشركات، التأمين التعاوني يجري ما بين أصحاب العلاقة بشكل رضائى ويضعون دستوره، ولعل من أكبر شركات التأمين في الغرب الآن هى الشركات، بعض الشركات التعاونية، هى شركة تضع دستورها ومنها شركة "نيويورك لايف" ومعها "مشوال" كذلك هذه من أكبر الشركات وهي تعاونية ولكن هم شركة فيما بينهم أصحاب العلاقة، بمعنى أنهم ما يجمعونه من أقساط سنوية حسب الحاجة قد يرفعونه فيما بينهم بالاتفاق إذا أدت الحاجة، وقد يهبطون بالحصص عندما يجدون عندهم وفرا. أما الشركات التجارية فهى أيضا، ولكن هنا في التعاونية ليس فيه ربح لأحد، وإنما في الشركات التجارية فيه ربح. أما فيما يتعلق بالتأمين الاجتماعي فهو ما تفرضه الدولة على أصحاب العلاقة ويدار من قبل موظفين والدولة تزيد أو تنقص عن طريق الفرض على أصحاب العلاقة ليتأملوا الحاجة التى تدعو إليها لأصحاب العلاقة، ونحن هنا في المملكة العربية الواقع خرجنا بنوع جديد في التأمين الاجتماعي، فأوجدنا تأمينا اجتماعيا ما بين أصحاب العمل والعمال بفرض من ولي الأمر.
الرئيس:
تقصد مؤسسة التأمينات الاجتماعية، هكذا اتضحت الصورة.(2/516)
الشيخ معروف الدواليبى:
نعم يا سيدى، ولكننى أحب أن أعطي صورة عنها للإخوان ولن أزيد أكثر من ذلك، فهو نوع جديد من التأمين الاجتماعى في المملكة وأدى الغرض، إلا إن الشيء الجديد فيها أن الدولة قالت عندما تعجز المخصصات التى فرضها ولى الأمر جزء من راتبه وجزء من أرباح الشركة لمصلحة العامل وما يصيبه من أحداث في حياته أو مرضه أو في عطله، فالدولة هي التى تتبرع عندئذ إذا عجز. وأقول لكم عندما وضعنا هذا القانون وأعطينا للعمال ما لم يعط الموظف في أي دولة من الدول، فوضع العمال عندنا الآن هو خير من وضع الموظفين، وتجنبنا كل حركة عمالية وشيوعية يمكن أن تدخل إلى قلب العمال بل جاءني مندوب الشرق الأوسط في الشئون الاجتماعية للحكومة بالولايات الامريكية ويقول إننا دهشنا كيف استطاعت المملكة أن تصدر مثل هذا القانون أو النظام في التأمين الاجتماعي الذي أعطت فيه للعمال ما لم تستطع أن تعطيه اياه الدول اليسارية في المنطقة، وأذكر أن مظاهرة قامت من العمال اليساريين في لبنان في ذلك الوقت وقالت تتطالب الحكومة اعطونا ما أعطته الدولة الرجعية المملكة السعودية لعمالها، والمرحوم الملك فيصل لما جاءته أنباء المظاهرة فيها الخبر تبسم من قلبه، الواقع أننا عملنا عملا كان فيه الخير لهذه البلاد وفيه مصلحة، شيء واحد الذين وقفوا أمام التأمينات الاجتماعية بعد أن عملناه هى شركات الأجانب التى تعمل هنا وكانت بصورة خاصة شركة التابلاين، لأنه ما كان منه عندنا بعض مصانع منذ خمس عشرة سنة كانوا العمال المؤمنون هم فقط الذين يدخلون شركة التابلاين وحسب القوانين لا تستطيع شركة التابلاين أن تقبل عاملا بدون أن تؤمنه في أمريكا، لا تقبل موظفا حتى لا تكون مسئولة، وفى السنة التى أعلنا وجدنا أنها تدفع عشرة ملايين دولار في السنة عن العمال فقط السعوديين ولكن تذهب إلى شركة أجنبية. طبعا ونحن بصورة عامة أيضا لا نشتري من الدبوس إلى الطيارة ولا أحد يبيعنا لنأتي بها من الخارج وندفع بها التأمين شئنا أو أبينا، فالتاجر لا يبعنا، الطيارة الآن لا يبيعونها قبل ما تؤمن وقبل نقلها ولا الدبوس التاجر لا يبيعه قبل أن يؤمن ما دام سينقل. فنحن إذن في كل الأحوال ندفع التأمين وعمليا تذهب إلى الشركات الأجنبية. فلما أصررنا على الإخوان بضرورة إقامة التأمين ونبدأ بالتامين الاجتماعي لأننا ننقل عمالنا السعوديين الذين يدفع عنهم عشرة ملايين دولار إلى شركات أجنبية صهيونية كما قال الأخ ونريد أن نجعلها هنا من أجل العمال وتبقى في أراضينا.(2/517)
وأجبرنا عندئذ أيضا المهندسين الأمريكان لأنهم يدفعون هناك وقلنا إنه عندما يكون لدينا شركة تأمين اجتماعية فكنتم تأخذون من عمالنا وتضعونها في أمريكا أما وقد أقمنا مؤسسة هنا، ولذلك فالمؤسسة تأمين اجتماعي أصبحتم ملزمين أن تمشوا مع العمال فاحتجوا ومن مهازل الدهر أنهم تمكنوا، لأنه وضعنا وقلنا أن الأجنبي ينال نفس الحقوق لأنه في ذلك لما ضمنا أيضا التأمينات الاجتماعية التى يأخذها المهندسون غير العمال السعوديين الذين رواتبهم بسيطة المهندسون والاخصائيون ضماناتهم الاجتماعية أكثر بكثير. ولما أصررنا على أن المؤسسة هنا وطنية والشركة التابلاين وطنية إذن كلهم يجب أن يجروا التأمين هنا وإلا لن نسمح بها، فعندئذ خضعوا ولكن ذهبوا وأثاروا علينا رجال الأعمال قبل أن يكون عندهم مصانع وتقدموا إلى جلالة الملك رحمه الله وقالوا لماذا تدخلون الأجانب وتلزموننا نحن أن ندفع لهم تقاعدًا، فاجتمعنا بهم وبعدها فهمنا أن شركة "التابلاين" هى التى حاولت أن ترسل رجال الأعمال أن أخرجوا الأجانب على الأقل ولكن أجبرناهم، واليوم عندكم شركة التأمين الاجتماعية في هذه السنة كما نشر فقط عن التعويضات التى دفعتها، أولا أغنى مؤسسة عندنا هنا جمعت المليارات وأصبح عندها أملاك وخيراتها تعود على العمال ويمكن أن تزيد دائما في مصالحه وربما سوف تبني لهم مساكن وسوف تبني لهم مستشفيات، لكن في هذه السنة الأخيرة، كما نشر قريبا في الصحف ما دفعته من تعويضات أو تأمينات صحية أو عمالية أو إصابية وأيضا من أجل الوفاة ومن أجل أيضا البدل العائلى.. الخ، التأمين الاجتماعي في جميع نواحيه وجدناه بلغ خمسمائة مليون، هذه كان العامل السعودى ممنوعا عنها وما كان يدفع من تأمين عن عمله فقط فيما إذا أصابته مصيبة دون أن يكون له تأمين عائلى كلها كانت تذهب إلى أوربا. ولذلك هذه المؤسسة أدت خدمات كبيرة جدا والحمد لله أن إخواننا العلماء وافقوا عليها.(2/518)
ننتقل الآن بعد هذه الفكرة الموجزة إلى كلمات لن تكون إلا أقصر منها فأقول أن التأمين أولا واقع شئنا أو أبينا، والأصل في المعاملات المدنية في الشريعة الإسلامية كما تعلمون أيها السادة الجواز ما لم يكن هناك نص. وكل شرط كان مزيلا للنزاع لأن الشروط القصد منها إزالة النزاع من العقود فكل شرط كان سببا من الأسباب التى تزول فيه أسباب النزاع كان مقبولا. ولذلك العقود عندما تعقد بشكل عام الآن (أنا لا أقول بالشركة التجارية ولا بالتعاونية) العقود تلزم أصحابها وإذا كان هناك شروط قد لا تكون معروفة من قبل ولكنها وجدت لتزيل النزاع فهي لا شك أنها مقبولة. ولذلك هنالك الغرر الذى تفضل به بعض الإخوان بشكل عام وإن كنت أرجح أن نقول بالتأمين التجاري ندخله في التأمين الاجتماعي إضافة إلى التأمين الاجتماعي ولكن عن طريق مؤسسة عامة كما جعلناها في التأمين الاجتماعي وتفرضه الدولة ولي الأمر على أن يدفع فليست عندئذ تجارية وليست اجتماعية ولكن ولى الأمر وجد من المصلحة أن يوزع المصيبة عند الاقتضاء من فرض ضريبة من قبل ولى الأمر حتى إذا أصابت أحدا في تجارته مصيبة يجد هناك تعويضا وفي هذا الشكل نكون تجنبنا التجارة وتجنبنا أيضا الموضوع التعاوني الذى يخضع للزيادة والنقص وفتحنا مجالا بأن تكون شركة التأمين التى توجدها الدولة كما أوجدت مؤسسة التأمينات الاجتماعية توجد مؤسسة التأمين التجارية من قبل ولي الأمر تفرض على كل من يشتري أو يبيع أن يؤدى جزءا دون ما تدفعه في الحقيقة إلى شركات أجنبية لأننا إذا بعنا أيضا من عندنا أشياء فالشركات الأجنبية لا تقبل إذا أرسلنا سمادا إلا أن يكون مدفوع التأمين خشية أنه في الطريق أن يفقد. ولذلك أن بعنا من عندنا مضطرين إلى أن نؤمن وإذا اشترينا مضطرين إلى أن نؤمن، فأتمنى لو نطلب إقامة مؤسسة من قبل الدولة أيضا تجارية وهي نوع من الأنواع. لذلك كل ما أبدى من ملاحظات حول الغرر، الغرر له تأثير على العقود عندما يؤدى إلى النزاع.
وأما ما ذكره فضيلة أستاذنا الجليل التميمى ما ذكره من منازعات تنشأ، الواقع، نشأت في الواقع من الاحتيال من أحد المؤمنين ولم تنشأ بسبب العقود مع أن العقود إذا جرى فيها غرر، وجرى عليه العرف كما إذا استأجر أرضا لأجل الزراعة ولكن لم يشأ الله أن تنبت تلك السنة، فيكون دفع الإيجار فالغرر موجود ولكن هذا جرى عليه العرف ولم يعد مكانا للنزاع ولكن الغرر الأصل في العقود يؤثر على العقد إذا كان يؤدى إلى النزاع أما إذا جرى العرف على أنه لم يعد فيه مجال للنزاع فلا بأس به وأكتفى بهذا القدر تنويرا للموضوع.. وشكرًا.(2/519)
الرئيس:
شكرًا فضيلة الشيخ، والذى أحب أن التأمينات الاجتماعية في الذى يظهر لي أنه لا دخل لها في موضوعنا هذا لا من قرب ولا من بعد. وهذا طيب أيدتمونى على هذا على كل حال فيه إنارة وإحاطة للذي حصل وعلى كل أحب أن يفهم الإخوان أنه لا دخل لها في موضوعنا لا من قرب ولا من بعد هذا رقم واحد.
رقم اثنين: يظهر لي أن لدي فضيلتكم ضمنيا بأن التأمين غير مقبول شرعا نظرا لاقتراحكم بالبديل، هو تأمين تجاري حكومي في كل دولة فهذا قد يكون فيه تأييد ضمني للقول بالمنع شرعا. وعلى كل ما تفضلتم به هو وجهة نظر وأرى أن ما يتعلق بالبديل سنعقد له جلسة خاصة بإذن الله. وأشكر لمعالي الشيخ ولجميع الإخوة وفى الجلسة الصباحية إن شاء الله تعالى نستأنف البحث عن بقية هذا الموضوع ومن بعده يأتي البحث في البديل.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. ومعالي الأمين.
الأمين العام:
أريد قبل أن نفارق هذه القاعة أن أشير إلى أن قضية إعادة التأمين والتفكير فيها لنتوقى التعاون مع شركات إعادة التأمين الأجنبية لعل البت فيها يتم بحول الله في مؤتمر وزراء الخارجية الذي سينعقد بفاس في الأيام القريبة القادمة. وشكرًا لكم.(2/520)
الجلسة الصباحية
13/4/1406 = 25/12/1985
الساعة: 9.30 – 13.20
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،
فإن جلستنا هذه تعتبر استئناف عمل امتدادا للجلسة المسائية في بحث التأمين وقد صار استعراض البحوث المعدة في التأمين وسماع بعض المداولات وفى هذه الجلسة نود أن نسمع من الشيخ عبد اللطيف صالح الفرفور مختصرا لبحثه في التأمين دون البديل، لأن البديل سيكون له مناقشة مستقلة، فسواء البحث المقدم من قبل الشيخ عبد اللطيف جناحى أو البحث المقدم من قبل الشيخ عبد اللطيف الفرفور أو وجهة النظر المقدمة من بعض الإخوة فإن البديل سيكون له جزء من الوقت مستقل بنفسه، ولهذا أرجو من الشيخ عبد اللطيف أن يقتصر على ما يتعلق بالتأمين فقط.(2/521)
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم.. شكرًا معالي
الرئيس.. الذى يبدو من ظواهر الأدلة التى احتج بها الفريقان، أن أدلة من ذهبوا إلى تحريم عقود التأمين هى أقوى استنباطا وأتم دلالة وأمتن احتجاجا وأرسخ ارتباطا بنصوص الشريعة ومقاصدها وقواعدها العامة وذلك للأمور التالية:
أولًا: المجوزون للتأمين اعتمدوا في أدلتهم استنادات قياسية استنبطوها من استنتاج الفقهاء المجتهدين، بينما القائلون بحرمته استندوا على نصوص تشريعية وقواعد أساسية أجمع المجتهدون على الأخذ بها والعمل بمقتضاها والفرق واضح بين الاستدلالين.
ثانيًا: المجوزون للتأمين اعتمدوا على تعليلات وتأويلات في الجواز أقل ما يقال فيها أن فيها معنى الغرر المحرم، بينما اعتمد القائلون بالحرمة نصوصا قطعية تحرم الغرر، وفرق كبير بين الأمرين.
ثالثًا: من القواعد المقررة شرعا، إذا تعارض المحرم والمبيح قدم المحرم وكذا تعارض المانع والمقتضى قدم المانع، لذا نأخذ بجانب الحرمة بعقود التأمين باعتبار أنه يتعارض مع الجانب المبيح على افتراض وجود التعارض، ولا تعارض لظهور أدلة المحرمين.
رابعًا: رد القائلون بالتحريم على المبيحين في مسألة القياس على نظام العواقل ونظام التقاعد والمعاش وعقد الموالاة بأنها عقود تعتمد التبرع والدافع الذاتى والمساهمة في أوجه الخير، ولا كذلك نظام التأمين التجاري القائم على الاسترباح والاستغلال وابتزاز الأموال، وكذلك رد القائلون في التحريم على المبيحين في استدلاهم بالاتفاق بمرتب عمري عند المالكية بأن أشهب قال: أكره ذلك، وهو عند المالكية اصطلاح في المنع لا في الإباحة كما قالوا، لذا فإنه يصبح دليلا للمحرمين لا عليهم.
خامسًا: واستدلالهم بقول مالك رضى الله عنه لا يفيدهم لأن مدة الاتفاق معينة هناك وفي عقد التأمين مجهولة فلا يصح.
سادسًا: وكذلك ردوا على المبيحين في استدلالهم بضمانهم لخطر الطريق عند الحنفية بأن هذا تغرير لا غرر، وفي التغرير يضمن.
سابعًا: وردوا على قاعدة الالتزامات عند المالكية بأن ذلك المتحمل معلوم وهذا المتحمل في عقد التأمين غير معلوم فحصل الغدر فبطل القياس.
ثامنًا: وكذلك ردوا على المبيحين بأن الغرر غير مؤثر بقولهم أن الغرر هنا مؤثر في صحة العقد لأنه ينبنى عليه أكل مال كثير بالباطل في جمهور غفير من الناس ليربح أناس ربحا فاحشا على أكتاف الآخرين بلا سبب مشروع.
تاسعًا: وأما عقد الاستئجار على الحراسة فلا يجوز القياس عليه هنا لأنه قياس مع الفارق، فهناك العقد قائم على عمل وهو الحراسة وبذل الجهد واليقظة وليس في عقد التأمين أي عمل تقوم به الشركة لقاء دفع الخطر عن المؤمنين المساكين.
عاشرًا: أما قول الدكتور السنهورى أن الضرورة تبيح التأمين للضرورة مع الغرر كما ذهب إليه مالك، فإن المحرمين قالوا لا نسلم بالضرورة هنا ولا بالحاجة مطلقا لأن الأمة الإسلامية تستطيع أن تتخلص من هذا النظام الاستغلالي إلى تأمين من صنع الشريعة الإسلامية ومن قواعدها وليس في ذلك أي حرج ولا مشقة فيما إذا أراد المسلمون بصدق أن يحكموا شريعة ربهم.(2/522)
رأينا في عقود التأمين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر، هل في عقد التأمين غرر؟ الجواب نعم، وليس غير الغرر في نظرى دليلا ظاهرا يناطح الخصم ويظهر عليه ويشهد لذلك علماء القانون الذين عدوا بالإجماع هذا العقد من عقود الغرر. وقد مر أنه من العقود الاحتمالية في خصائصه، والغرر إذا استطاع المبيحون أن ينفوه عن أحد طرفي العقد المؤمن فلابد في أن ينتفي الغرر بالنسبة للمستأمن أيضًا، وهو ما لم يستطع المبيحون أن يثبتوه بوجه ما، ثم هل الغرر في التأمين كثيرا مانع أم لا؟ ضابط الغرر الكثير لدى الفقهاء هو ما غلب على العقد حتى صار العقد يوصف به. وأرى مع أخي الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير حفظه الله في كتابه القيم الغرر وأثره في الفقه الإسلامى أن هذا الضابط ينطبق على عقد التأمين، فإن من أركان عقد التأمين التى لا يوجد دونها الخطر والخطر هو حادثة محتملة لا تتوقف على إرادة أحد الطرفين، ولذا لا يجوز قانونا التأمين إلا من حادث مستقبل غير متحقق الوقوع، فالغرر عنصر لازم لعقد التأمين ومن الخصائص التى يتميز بها ومما يدل على أن الغرر تمكن من عقد التأمين وأصبح صفة لازمة له، أن كثيرا من القوانين تذكره تحت عنوان "عقود الغرر". ثم هل هناك حاجة أو ضرورة لعقد التأمين تجعل الغرر الذي في عقد التأمين غير مؤثر، من المعلوم أن الحاجة أدنى من الضرورة منزلة إذ يلزم بلزومها الحرج والضيق ويشترط أن تكون الحاجة لاعتبار الغرر غير مؤثر أن تكون عامة أو خاصة وأن يكون ذلك العقد متعينا لسد تلك الحاجة بحيث لو أمكن سد الحاجة عن طريق عقد لا غرر فيه فلا يصح اللجوء إلى العقد الذي فيه غرر، والذي يبدو لى أن الحاجة عامة لعموم البلوى ولكن عقود التأمين بقسط ثابت ليست متعينة لسد تلك الحاجة، وهذه ناحية مهمة جدًا، فالذي تقتضيه قواعد الفقه الإسلامى منع هذا العقد لما فيه من غرر كثير من غير حاجة ملجئة، إذ من الممكن أن نحتفظ بعقد التأمين في جوهره ونستفيد بكل مزاياه مع التمسك بقواعد الفقه الإسلامي وذلك بإبعاد الوسيط الذي يسعى إلى الربح وجعل التأمين كله تأمينا تعاونيا خيريا بحتا تتولاه الحكومات في البلاد الإسلامية بكافة أنواعه فتجعل له منظمة تشرف عليه على أن يكون المعنى التعاوني بارزا فيه بروزا واضحا وذلك بالنص صراحة في عقد التأمين حينئذ على أن المبالغ التى يدفعها المشترك تكون تبرعا منه للشركة يعان منها من يحتاج للمعاونة من المشتركين حسب النظام المتفق عليه.(2/523)
فالخلاصة: انى أكره تحريما كل عقود التامين التبادلى والتجاري لما فيها من الغرر ولزوم ما لا يلزم شرعا ولعدم الحاجة إليها عينا. وحكم التأمين التجاري كعقد، الفساد، لتمكن الغرر منه وفكرة الاسترباح ولزوم ما لا يلزم شرعا. وحكم عقد التأمين التبادلى الجواز مع الإثم، هذا كله في التأمين التجاري والتعاوني أي التبادلي فقط، علما بأن كل عقد فاسد شرعا عقد ربوي. أما التأمين الاجتماعي الذي تقوم به الحكومات فهو جائز شريطة خلوه من الربا نهائيا. وأما صور التأمين الأخرى الجديدة التى ابتدعها الغرب ولم نصل إلى معرفة حقيقتها بعد بشكل مفصل فهي تحت مجهر البحث العلمى ولكل عقد منها حكمه الشرعي حسب ما تقتضيه طبيعته وخصائصه.
ثانيًا: إعادة التأمين في الفقه الإسلامى كما توصلنا إليه. رأينا من تعرض لعقد التأمين المباشر من الفقهاء الإسلاميين وأدلى بدلوه في هذه القضية ولكنا لم نر من تكلم في هذه المسألة المتفرعة عن عقد التأمين المباشر فيما رأيته أنا شخصيا إلا وهي عقد إعادة التأمين من الفقهاء المسلمين القدامى ولا المعاصرين، والذي يبدو لنظري والله تعالى أعلم أن هذا العقد الفرعي هو كعقد التأمين المباشر يسرى عليه ما يسرى على الأصل من الأحكام الرئيسية كما ذكر علماء القانون في التكييف الفقهى لهم. لذا فإنه يأخذ الحكم الشرعى الذى يتناول عقد التأمين المباشر بقسط ثابت كما مر آنفا ولا يتصور هنا في إعادة التأمين وجود عقد تعاوني ذى هدف إنسانى محض حتى نقول بجوازه، فلا عقد إعادة التأمين تعاونى في القانون، لذا فلا حكم له في الشرع.
وعلى هذا فالقائلون بالإباحة المطلقة لعقد التأمين المباشر يقولون بمثل ذلك لعقد إعادة التأمين، والقائلون بالمنع المطلق للأصل يقولون بمثل ذلك العقد المتفرع عنه، والقائلون بالانتفاء يقولون بمثل ذلك لكل ما يشمل التأمين المباشر وإعادة التأمين، والقائلون بالكراهة للتأمين المباشر يقولون بمثل ذلك لعقد إعادة التأمين. أما ما يبدو لنا فهو ما ذكرناه من القول بالكراهة لكل عقد تأمين مباشر بقسطه الثابت وما يتفرع عنه من عقد إعادة التأمين في جميع صوره واشكاله تبعا للأصل، والكراهة هنا تحريمية وقد قلنا بها تأدبا مع الشريعة المطهرة بألا يقال حرام إلا لما جاء تحريمه بالنص القطعي فقط وما عدا ذلك فقد اعتادالعلماء من قبل أن يقولوا نكره كذا بما يرون تحريمه ونحن نقول: نكره العقد الأصلى أو نكره العقد الأصلى التعاوضى وما يتفرع عنه من عقد إعادة التأمين، قلت هذا ما ظهر للعبد الفقير لله تعالى والله تعالى أعلم، وكتبه خادم العلم الشريف. أخوكم.
الرئيس:
شكرًا وبهذا انتهى استعراض البحوث المعدة في التأمين وحصل طرف من المداولات حولها بالأمس ولعله من خلال جميع ذلك يمكن لى أن أعلن ما اتجهت إليه الأنظار بعد مستخلص للآراء في ذلك.(2/524)
الشيخ محمد على التسخيرى:
بسم الله الرحمن الرحيم.. أرجو أن يركز الإخوة وطبعا الإخوة ركزوا ولا ريب لكنه جانب أرجو التركيز عليه وهو أن الغرر لو وقع على ما وقعت المعاوضة عليه فيمكن التسليم بأنه مضر أما ما وقعت المعاوضة عليه في هذا العقد فهو واضح لدى الطرفين بشكل كامل. نعم هناك لواحق فيها غرر، نتصور أن الغرر فيها لا يؤثر على الإبطال. هنا لو شخصنا الطرفين في المعاوضة لما رأينا أيا منهما لا المتعاقدين ولا العوضين يتطرق إليه الغرر. الشيء الآخر، الغرر هنا المطروح في التأمين التجاري موجود في التأمين التعاونى والتأمين الحكومى وهو أشد قربا من مسألة التأمين التعاونى ورأيت أن الكثير من العلماء قبلوا هذا التأمين الحكومى، يعنى أن تكون الحكومة هى المنشئة لشركة التأمين وحينئذ فما يعود يعود على المجتمع وروح التبرع المذكور في التأمين التعاونى.
الرئيس:
كلمة بسيطة يا شيخ.. وإذا قبلت أحد الجهات يكون حجة على الشرع.(2/525)
الشيخ محمد على التسخيرى:
لا أنا لا أريد أن أقول ذلك، أنا أريد أن أنبه على وجود هذه الأمور ولا أريد أن أحتج وربما الالتفات إلى وجود هذه الأمور يؤثر في الوصول إلى النتيجة. الملحوظ هنا أن نفس عقد التأمين بطبيعته تعاوني وهذه نقطة مهمة حتى لو صدرت من محتكر، حتى لو صدرت من إنسان منحرف، نفس عقد التأمين كما أشار الأستاذ الزرقاء هي نفسها تعاونية بحيث تقسم الضربة.
النقطة الأخرى التى أود أن نركز عليها أن الغرر قد يندفع بالمشاهدة قد يندفع بالعلم بالتفصيلات، أن الغرر قد يندفع بالمشاهدة بالعلم بالتفصيلات، وعندما نسأل العرف نقول أن العرف هو الذى يشخص لنا المقدار، نقول له هل تحس غررا في هذا المجال عندما تشرح له تفصيلات الأمر بشكل كامل فهو إما لا يحس غررا فاحشا أو يبقى يشك، وإذا شك العرف فقد تخلص الفقيه باعتبار أن المراد إبطال هذا العقد بعموم أكل المال بالباطل، ولا يمكن التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية للعرف، يعنى إذا قال أكرم العلماء ثم شك العرف في عالمية شخص لا يمكن التمسك بالعموم في تطبيقه على هذا المصداق. إذن العرف عندما يشك، وهناك احتمال قوي في شك العرف في هذه المسألة، لا يمكننا أن نتمسك بعموم حرمة أكل المال بالباطل لإثبات الحرمة لهذا المورد.(2/526)
وهذا المعنى يجب أن يفرق بينه وبين ضربة القانص وما إلى ذلك. الذى أرجو في ختام هذه الملاحظة ألا نصدر هنا قرارا بعد أن نجد الأمر عاما بين المسلمين جميعا اليوم. وإصدار هذا القرار فيه هذه الآثار الكبرى ربما يأثم الكثيرون في هذا المعنى، لا أريد أقول أن هذا يؤثر على قرارنا، لكن أقول يجب أن نترك الأمر لتشخيص مصداق، هل هنا ضرر أم لا؟ اتركوا الأمر في الفتيا للمفتين ليشخصوا ذلك، لكن إذا أصدرنا هنا قرارًا فقد أغلقنا عليهم الباب، وشكرًا جزيلًا ومعذرة.
الرئيس:
شكرًا لكن هنا كلمة بسيطة هى من باب التعليق الجانبى فقط، إذا كنتم تقولون بأنه لا يصدر قرار، فلو لم تصدروا رأيكم من الأصل لأنكم صرحتم برأيكم بالأمس في هذه القضية. هذا واحد.
الشيء الثانى أن قضية التأمين ليست جديدة على المجامع ولا على دور العلم ولا على مدارس الاقتصاد ولا على محافل الدراسات الإسلامية. فهى قضية لها عمر مديد من الزمن من مجمع إلى مجمع ومن محفل إلى محفل ومن دار علم إلى أخرى ومن مؤسسة اقتصادية إلى أخرى. فنحن لم نأت إذا أصدرنا قرارا بما ندين الله به لم نأت من الأمر نكرا ولم نستعمل أمرا لنا في أناة لأن الذى يظهر، قضية التوجهات الحاصلة فيها وضوح. وأعطى الكلمة للشيخ أحمد.(2/527)
الشيخ أحمد بزيغ ياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم، أحمده وأستعينه وأصلى وأسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد، أقول: عقود التأمين الموجودة عقود أصلها ووضع قواعدها أناس ماديون من غير المسلمين، فهذا يكفى بأن يقول فيها العلماء ما قال مالك في الخمر. إنما أود أن أضيف إلى ما قالوا نقطتين في الحقيقة، ما أدرى غفلوا عنها مشايخنا أو أن ما قالوه يشملها وهي فيها استغلال وابتزاز. هذه العقود فيها استغلال وفيها استغلال وفيها ابتزاز لأموال المسلمين. ثم أود أن أبين لأنكم كلكم ما شاء الله علماء ولا أستطيع أن أتجرأ بحضوركم أن أقول، بأن الشريعة الإسلامية لا نريد أن نلوى عنقها لواقعنا. نريد أن نصحح واقعنا إلى الشريعة الإسلامية إذا نحن مسلمين. وهذا شيء آخر، ثم أريد أن أبين أيضا، اليهود يجرون في الأمور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بين الأمم مجري الشيطان في الدم، يري أثره ولا يري شخصه، فلا نقبل هذه الناحية ويجب أن نكون على مستوي من الوعي والإدراك لما يكيد لنا أعداؤنا، إنما أن أبين نقطة في الحقيقة، وهى نقطة فيها إشكال. إذا قامت هذه البدائل الإسلامية ويجب أن تقوم ويجب أن نوصى بها وأن نشجعها وأن نعممها في ديار الإسلام وجوبا، لكن في البلاد التى لا يوجد بها هذه البدائل، إذا علم وكلاء الشحن أصحاب البواخر والعمال في الأرصفة للبضائع إذا علموا أن بضائع المسلمين غير مؤمن عليها يتجرؤون عليها بالسرقة. وأنا أعلم كثيرا من الأمور في الحقيقة تأتى الطرود خالية من البضاعة لأن رجلا جزاه الله خيرا لا يؤمن وعمل حسابا له فوجد نفسه رابحا على مدار السنة من ذلك يؤمن عند نفسه وجد نفسه رابحا في نهاية السنة إنما عندما علم أحد عملائه بذلك جاءته بضاعة وفى الكرتين كانت خلوا من البضائع، هذا إشكال أود أن أطرقه في الحقيقة لأنه قد حدث، ثم أن بضاعة من البضائع لمعلومكم التصدير والإستيراد هو مبنى على الثقة والمصارف تتعامل في المستندات والمفروض في التعامل بالمستندات بين أناس ثقات – حصلت حوادث كثيرة بأن تأتى المستندات وتصل الباخرة ولا بضاعة. المستندات مزورة. هذه أمور ليست حجة بأن نجيز التأمين، أبدا، إنما هذه حجة يحب علينا أن يكون عندنا رجال أن نملك أساطيل تحمل بضائعنا وأن يكون عندنا رجال يستلمون بضائعنا في الخارج وتكون بضائعنا في أيدينا، هذه في الحقيقة وددت أن أبين، وحتى يقوم البديل ما هو الرأي في التأمين التجاري، هل ممكن للضرورة القصوي وحتى لا يكون ابتزاز لأموال المسلمين نعمل به أو لا؟، وشكرا.
الرئيس:
أحب أن أضيف كلمة بسيطة لكلام الشيخ أحمد، وهو أن الابتزاز والاستغلال والسلب وما جرى مجرى ذلك وهو أن لم يكن منصوصا عليه فهو أثر المغامرة والمقامرة وأثر الغرر، هو هذه آثارها هو المنصوص عليه ضمنا.(2/528)
الشيخ عبد الحليم الجندى:
شكرا سيادة الرئيس، لدي كلمات قليلة جدا من أحرف قليلة كتبتها الآن فنستمع إلى البدائل بقلب مفتوح. وإذا وفقنا إلى البديل فنحن نستقبله بكل إخلاص ونعمل به. إنما أريد أن أضيف أشياء، إننا أجزنا أمس تأمينا كثيرا جدا وفيه خير كثير جدا وضمنته حكومة من حكومات الأمة الإسلامية. الكلام عن عيوب التأمين في الحقيقة تنحصر في تصرفات شركات التأمين بأموال المودعين. ونستطيع أن نضع هنا تصحيحا وأن نقول لها إنها لا تتصرف في أموالنا إلا تصرفا إسلاميا، استفتاء المسلمين، حدث أن المسلمين جميعا استفتوا على مدار عشر سنين في موضوع التأمين، استفتى علماء المسلمين جميعا في السنوات العشر من أربع سنوات في موضوع التأمين بقرار من جهة أخرى فجاءت أغلبية أصوات العلماء من كل الأقطار، أغلبية كانت تبيح ولخص هذا لجهة رئيسية وهى مجمع بحوث الأزهر في تقرير طويل من علماء كبار جدا في عصرهم بأن أبيح التأمين، أما التأمين على النفس ففى نفس الملخص منه أشياء ولم يصدر القرار بعد. ابن رشد عد ثلاثين نوعا من الغرر وهو رجل لاشك متحرر الفكر واسع النظر، ولكن بعد أن عد ابن رشد ثلاثين نوعا من الغرر تقلصت ومازالت تتقلص وأصبح المسلمون أعلم بالتصرفات من أن يقولوا أن هنالك غررا مادامت تكتب في أشياء يرونها، هنالك شيء يسمى في المنطق قاعدة أصبحت منطقية تدرس في جميع المعاهد وهى تسمى "بالمنطق الوضعي" المنطق الوضعي لا يتنافى أبدا مع النظرية الإسلامية في المنهج، لأن المنهج الإسلامي كله يميل إلى الواقع، هذه النظرية في القانون الوضعى تسمى "قانون الاحتمالات" هى أصبحت قانونا يتعاملون عليه ويصدرون المنطق على أساسه.
أخيرا أقول أن المعاملات تلقن حتى يحدث المنهج، أي أن الإباحة أصل وأرجو ألا نتعجل أمرا لنا فيه أناة أيضا لأن المجامع مختلفة وأرجو أيضا أن لا يسبقنا مجمع برأي فنسير وراءه، بل نحن ما زلنا لنا حرية الاختيار وحرية إبداء الرأي.. وأشكركم يا سيادة الرئيس لأنك أعطيتنى الكلمة وقد أردت أن ترخصها على أساس أننا أمس بلغنا مرحلة في المسألة وأشك أننا بلغناه، وشكرا.(2/529)
الشيخ المختار السلامى:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
أريد أن أعلق على قضية التأمين أولا ببيان ما هو هذا العقد. فقد جعله بعضهم عقدا فيه غرر وجعله آخرون هو الغرر نفسه. ولكن العقود معلومة مبوبة فليس الغرر عقدا، ولا قولنا هذا فيه غرر، هو عقد، عقد التأمين، عقد معلوم من قبل، هو عقد ضمان. لأن الشركة التى تحملت هى ضامنة وكان الضمان يقع على أنحاء، فكان رئيس القبيلة يضمن سلامة القافلة إذا مرت على قبيلته في مقابل فلا تسرق ولا تنتهب وهو ما قال فيه ابن عاصم:
وسُمى الضامن بالحميل كذاك بالزعيم والكفيل
ثم أدخله في بابه فقال وهو من المعروف. فالضمان في الإسلام هو عقد من عقود المعروف. وهذا الكلام الذى قاله فقيه الشريعة إنما جاءت لإصلاح البشر فكل شيء له مفهومه في العقود، والعقود كلها معللة وواضحة. فهناك نظرة عامة في تربية الأمة الإسلامية. حتى لا تربى الأمة الإسلامية على الامتصاص تكون فيها جماعة تكون ثرواتها من الامتصاص المساوي للسرقة، فلذلك حرمت عقد الربا لأنه فيه امتصاص بدون بذل مجهود، وحرمة الضمان باعتبار أن فيه امتصاصها، لأنه امتصاص بدون بذل مجهود.(2/530)
ثانيًا، أن بعد هذا حرمت الشريعة أيضا على أن تكون اللحمة بين الأمة الإسلامية لا يدخل ما يوجب نزاعا، وكل عقد أوجب نزاعا فهو محرم. ومن هنا جاء تحريم الغرر. ففي عقد الضامن هذا، أولا تعويض جماعة على امتصاص بدون بذل مجهود ثم فيه ما يمكن أن يكون منه تنازع بين الضامن والمضمون وعدم رضا المضمون على الضامن لأنه أخذ ماله ولم يعطه شيئا. فهذه بعد تأملي في القضية هو مفهوم عقد الضمان أو عقد التأمين. هذا هو مفهوم جرت عليه الأمة الإسلامية، واضح وما وجد فيه خلاف ولا يمكن لفقيه أن يخالف فيه. ثم نمنا على أثقالنا وخرجت التجارة العالمية من أيدينا وفرض علينا واقع. فاليوم الحذاء الذى ألبسه والقميص الذى ألبسه كله قد دفع فيه الضمان لشركات التأمين شئت أو أبيت. وأن هذا التأمين سيتواصل شئنا أم أبينا. فالحاجة إذن هو أنه لا يمكن لو فرضنا أن مؤتمرنا الموقر هذا قال: التأمين حرام، أبطلوا التأمين يا عباد الله، فهل يبطل التأمين ولو استمع الينا الناس ولو استعمت الينا الحكومات ولو استمع الينا رجال الاقتصاد، لما استطاعوا أن يمونوا الأسواق ولو بمليم واحد. فإذن هناك حاجة أساسية اليوم هو وضع العالم الإسلامى لا يمكنه أن يجرى اقتصاده إلا بإعطاء طريقة لهذه الحاجة أولًا، ثانيًا هو النظر في الأمرين اللذين ابتدأت منهما، كيف نجعل تأمينا يكون هذا التأمين من ناحية لا يوجب خصاما وليس فيه امتصاص. وفقت الشركات التعاونية وقامت بالتجربة فعلا، فما علينا إلا أن نشجع هذه الشركات، ثم أن في البلدان التى لا يوجد فيها ندعو إلى ايجاد هذا. ولابد من إعطاء حل للواقع، وإلا نكون قد أغمضنا عيوننا عن الواقع ولم نعط للبشر حلا. وأيسر الحلول، وهو أن هذا المعروف القديم حرام فهو حرام، هذا ليس حلا، وما جمعنا لهذا، ولو كان الغرض من اجتماعنا هو هذا الأمر لو كان هذا الغرض لكان نفقات زائدة ولكان مؤتمرا زائدا ولكانت أتعابنا زائدة. لأن كل واحد منا إذا أخذ الأحكام الأصلية ونظر فيها يعطى حكمه واضحا، فتقدير المصلحة وتقدير الحاجة الاجتماعية أعتقدها ضرورية. وشكرًا.(2/531)
الشيخ تقى العثمانى:
بسم الله الرحمن الرحيم، شكرًا سيدى الرئيس، إنى لا أريد أن أقع في تكرار لما قيل من قبلى في موضوع التأمين، فإن موضوع التأمين فيما أظن قد غربل غربلة ونخل نخلًا في عدة مؤتمرات واجتماعات. ولكنى أريد في كلمتى الموجزة أن أعلق على بعض النقاط التى آثارها أخونا الفاضل فضيلة الشيخ التسخيرى حفظه الله. فإنه طرح لدينا بعض النقاط الجديدة وطرح لدينا عدة تخريجات فقهية للتأمين التجاري، فلابد أن ننظر فيها.
أما التخريج الأول الذى أشار إليه أخونا الشيخ التسخيرى حفظه الله فهو أننا يمكن لنا أن نخرجه عن طريق الصلح. ولكن الصلح كما يعرف الفقهاء وكما أشار إليه فضيلة سيدنا الرئيس، أنه لابد أن يكون في حق متنازع بين طرفين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الصلح لا يحل حراما ولا يحرم حلالا إلا صلحا أحل حراما وحرم حلالا)) استثنى الصلح الذى يحل حراما أو يحرم حلالا وإلا لجاز كل منكر وكل إثم باسم الصلح وجاز أخذ الرشوة وقلنا إنه يجوز من طريق الصلح.
والتخريج الثانى الذى أشار إليه فضيلة الشيخ التسخيرى، هو أن نعتبر التأمين كالهبة المعوضة. ولكن الهبة المعوضة أولا يجب أن يكون فيها عوض، وها هنا ليس شيء يعتبر عوضا، والعوض وإن كان فهو على خطر. ثم ثانية، الهبة المعوضة كما صرح به الفقهاء تكون في حكم البيع في سائر الأحكام، فهل يجوز بيع النقود بنقود أكثر منها نسيئة وعلى خطر. تكون الهبة المعوضة في حكم بيع النقود بالنقود المؤجلة وهى على خطر فلا يصلح أن نقول إنها هبة معوضة. أما ما تفضل به أن العوض هو الأمان، فإن الأمان هو شيء عدمي لا يصلح أن يكون عوضا ولا يصلح أن نعتبره عوضا ماليا. أما إذا كان العوض هو المبلغ الذي يحصل عليه في المستقبل عند وقوع الخطر فهذا شيء لا نستيقن به فهو على خطر وهو غرر.
والشيء الثالث الذى أشار إليه الشيخ التسخيرى حفظه الله، هو أن بعض الغرر يكون في المضاربة. ولكن المعروف في كتب الفقه وعند الفقهاء أن الغرر إنما يحدث إذا استوفى فريق واحد كل ما يستحقه بالعقد، ويكون حق الآخر على خطر، كبيع الطير في الهواء، فإن البائع يحصل على ثمن والمشترى على خطر لا يدرى أيحصل على الطير أم لا؟ وأن في المضاربة لا يحصل ذلك، فإنه إذا ربحت المضاربة ربح كلا الطرفين، وإذا خسرت المضاربة خسر كلا الفريقين، فليس هناك غرر في المضاربة.
هذه التخريجات التى ذكرها أخونا الشيخ التسخيرى حفظه الله لا أرى أنها تبرر عقد التأمين من وجهة نظر الشريعة والفقه الإسلامى، والسلام عليكم ورحمة الله.(2/532)
الشيخ عبد الله إبراهيم:
بسم الله الرحمن الرحيم، شكرا لفضيلة الرئيس على إتاحة الفرصة لى فإننى هنا أؤيد كل ما قاله فضيلة الشيخ تقي قبلى وكذلك القرارات التى سبق أن اتخذت في عدة مؤتمرات واجتماعات وكذلك الاتجاه الذى سنتجه إليه أو اتجه إليه رأي الأغلبية في مجمعنا هذا. إلا أننى هنا أريد أن أستفسر أولا على ما ورد في كلام فضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور، وكذلك عما ورد في كلام فضيلة الدكتور الضرير أمس بشأن المساهمة أو الاشتراك بهذا التأمين وذلك كما يقولون عن طريق التبرع. فقد صرح فضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف الفرفور أن هذا التبرع للشركة، مع أنه دعا إلى عدم تأسيس هذا التأمين عن طريق الشركات وإنما عن طريق الحكومات أو المؤسسة التى تقيمها الحكومة. فاستفسر لماذا التبرع إلى شركة؟ ما هو المقصود بهذه الشركة؟ ثم لفضيلة الدكتور الضرير أيضا عن طريق التبرع، ثم لا أفهم كيف يكون التبرع؟ ثم يشترك المتبرعون في الأرباح وملكية الأسهم، أو يعتبر المتبرعون حملة الأسهم أو البوليصة؟ كيف يكون متبرعون كذلك مع أنهم متبرعون بما دفعوا؟ ثم هنا أريد أن أوجه سؤالا آخر لفضيلته، وكذلك لأصحاب الفضيلة أعضاء المجمع جميعا، أليس من الأصح أو الأنسب أن يتبرع المشتركون على أساس المضاربة بنسبة معينة معلومة على أن يتبرع المضاربون بأرباحهم لأغراض التأمين، وعلى أن يكون لهم إذا فضل شيء من الأرباح في آخر السنة يرد عليهم بمقدار نسبة معلومة؟ وشكرا.(2/533)
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
شكرا سيدي الرئيس {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} . إخوتي الأعزاء شعرت بشيء من التجني غير المقصود من زميلي وجاري الذي ورائي، ولعل هذا من حسن الجوار أنه كان معي كمن يقول: الله تعالى يقول: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} ، وهنا أخونا الكريم أولا نسب إلي أني قلت: الشركة، قضية الشركة ما قلتها أصلا، وإنما قلت: تجعل له منظمة. وكلمة تجعل يعود على الحكومات الإسلامية، فاعل جعل، هو الحكومات الإسلامية، وإذا قامت الحكومات الإسلامية، كل حكومة في بلدها، وأقصد بالإسلامية الحكومات حين تطبق الشريعة الإسلامية. فإذا قامت منظمات وأناطت بهذه المنظمات المعنى التعاوني التبرعي الذي ذكرت، وكانت مثل جمعيات خيرية كان هذا المعنى واضحا لا ضرر فيه، لا على المجتمع ولا على الفرد ولا على الجماعة. قلت: هذا ليس هو النظرية التي سقتها في هذا الموضوع؛ لأن نظريتي لم يسمح لي السيد الرئيس بما فطر عليه من الحكمة أن أعرضها؛ لأنه أرجأ عرض النظريات البدائل إلى وقت آخر. لكن زميلي لو قرأ البحث إلى نهايته وأوفى فيه على الغاية وقرأ البديل الذي اقترحته لما تسرع في قوله هذا. وغفر الله لي وله، وشكرا.
الشيخ علي السالوس:
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.. في الواقع ما كنت أحب أن أتحدث في موضوع التأمين بعد هذه المناقشات الحادة ووجود أساتذتنا الأفاضل الأجلاء، ولكن أكتفي بالتعقيب على ثلاث نقاط:
النقطة الأولى، القول بأن أكثر فقهاء العصر أباحوا التأمين، أنا في الحقيقة ما أعرفه هو خلاف هذا؛ لأن منذ أن تحدث ابن عابدين وتوفي سنة 1252.
الرئيس:
يا شيخ علي.. هذه النقطة أرجو من فضيلتكم عدم التعليق عليها؛ لأنها واضحة كالشمس؛ للاختصار، قصدي أنه كون أكثر علماء العصر في أحد المحافل أفتوا بالجواز.(2/534)
الشيخ علي السالوس:
ليس في أحد المحافل، أنا أتحدث هنا منذ ابن عابدين.
الأمر الثاني: النظر إلى التأمين على أنه عقد ضمان، التأمين لا يجوز كعقد ضمان؛ لأن التأمين التجاري يخضع للقوانين الوضعية، والقوانين الوضعية تنص على أنه عقد معاوضة، وأن شركة التأمين ملتزمة بأن تدفع التعويضات مقابل ما تأخذه من أقساط ولا تملك الامتناع، ولكن في الضمان، الضامن غير المتبرع له أن يعود على المضمون بما يغرم، شركة التأمين ليس لها أن تعود بهذه الأقساط على من يصاب، ولذلك لا يمكن أن يكون عقد ضمان إلا إذا كانت شركات التأمين شركات متبرعة، والذي نعرفه أنها شركات مستغلة لا متبرعة.
الأمر الثالث: إلغاء شركات التأمين، ما قلنا بإلغاء شركات التأمين، وإنما البحث عن البديل الإسلامي، فإن كانت شركات التأمين الآن مسيطرة هذه السيطرة، ونريد أن نخرج بحكم شرعي، فإذا كان نظام شركات التأمين حراما، فليس معنى هذا أن نقول: حلال؛ لأنها تسيطر، وإنما نقول: إننا نبحث عن البديل الإسلامي، وتبقى القاعدة العامة: الضرورات تبيح المحظورات. وشكرا.
الشيخ محمد شريف أحمد:
شكرا سيدي الرئيس، في الحقيقة تكونت لدي بضع ملاحظات منذ آن وقد طلبت الحديث عدة مرات ولكن لم يؤذن لي، أو لم يسع الوقت على الأكثر لتدخلي في الموضوع. وأود أن أعود بالمناقشة التي طالت، إلى أفكار أصولية؛ لأننا إذا تعمقنا في الفروع لا بد وأننا سنخوض لجة لا نصل فيها إلى غاية.(2/535)
أولا، تكون هذا المجمع وأريد منه أن يتوصل إلى حلول نوحد بها تشريعات الأمة. أريد لهذا المجمع أن يكون وسيلة فقهية لتوحيد الأمة، فلا يجوز لهذا المجمع أن يتوصل إلى قرار نختلف فيه؛ لأننا بذلك نضيف خلافا جديدا وهذا الخلاف لا يحقق لا مقاصد الأمة ولا المقاصد الأساسية لتكوين هذا المجمع الفقهي الإسلامي الأصيل. ولكي يمكن لنا أن نتوصل إلى حلول موحدة إسلامية بنظر إجماعي نستطيع بها أن نوحد، أنا بدون شك أدعو بالبديل الإسلامي لا لأن كل ما هو كائن هو مخالف للشرع الإسلامي أبدا، وإنني في ذلك أصرح بأنني مع الأستاذ الزرقاء تماما، مع تقديري للمشاعر الصادقة وللعمل الغزير الذي تفضل به الأستاذ الدكتور وهبة، ومع العقلية الفقهية الكبيرة لأستاذنا السلامي الذي تكلم أخيرا بعقلية المفتي الواقعي، لكني مع ذلك أطالب بالبديل الإسلامي؛ لأن أمتنا يجب أن تتميز وهي أمة متميزة.
أما كيف نتوصل إلى حلول أو منهج موحد، الحقيقة كلنا متفقون على الكتاب والسنة لا يمكن أن يختلف فقيه أو غير فقيه في قضية أن الكتاب هو المصدر الأول للشريعة الإسلامية. ولكننا قد نختلف في التفسير، علينا أيضا أن نتفق، أن نضع خطة موحدة ومنهجا واحدا للتفسير، كيف نفسر القرآن الكريم أو الآيات والأحكام؟ وتعلمون أن أول الأصوليين من الفقهاء المسلمين قد نبغوا في هذا الميدان حتى أن الغربيين فقهاء القانون الغربي، مع تعمقهم ومع تقدم قوانينهم لحد الآن هم عالة على أصولنا في كثير من أفكارهم. وإني درست مدارس التفسير الغربي، تفسير القوانين، فرأيتهم كأنهم تلاميذ مبتدئون في مسألة التفسير، وفي مسألة الاستنباط لا بأس أن نقف عند الكتاب والسنة. وفي هذا أيضا نشير إلى قانون عريق في القانون الغربي، وهو القانون المدني الفرنسي. القانون المدني الفرنسي وضعه أناس بشر، ومع ذلك قدس هذا القانون ومعظم القانونيين الغربيين الفرنسسين بالذات والذين يمثلون القانون الروماني العريق بدون شك في تنظيمه للمسائل القانونية، نظروا إلى هذا القانون على أنه مقدس، ولم يسمحوا للقضاة بالخروج على نصوص القانون المدني الفرنسي، رغم أن القانون المدني الفرنسي معلوم أنه صدر في أواخر القرن الثامن عشر، والتطورات الاقتصادية والتطورات التجارية والتطورات الصناعية كلها حدثت بعد صدور هذا القانون، مع ذلك استطاع هذا القانون أن يواجه هذه القضايا المستجدة بفضل فقه الفقهاء الفرنسسين الذين استطاعوا أن يفسروا وأن يتعمقوا في التفسير، وبدون شك أنهم استفادوا من نظرة الأصوليين كثيرا، حتى أحدهم يقول: أن منهج البحث العلمي الحر الموجود في فرنسا هو مستنبط من منهج فقه أبي حنيفة.(2/536)
على أي حال، لا نطيل في هذا البحث وفي أصولنا وفي منهجنا كل ما نستطيع أن نعالج به قضايانا واستنباطنا في الكتاب والسنة. وأعتقد بأن بعضا منا قد لا يأخذ بالاستحسان ولكنه يعمل بالاستحسان أو يعمل بالمصالح المرسلة أو يعمل بالقياس، وكل هذه الأصول التبعية هي كلها مناقشات لفظية، وكلها تعود أساسا إلى الكتاب والسنة حتى أن الذي لا يأخذ بالقياس يأخذ بالعقل وما يؤدي إليه العقل هو ما يؤدي إليه القياس.
فإذن المهم بالنسبة لمجمعنا حسب اعتقادي، حتى نصل في المستقبل إلى حلول موحدة، وحتى نستطيع أن نقدم لأمتنا، أي لدولنا التي تمثل الأمة الإسلامية، وأشير هنا في جملة معترضة، قد يكون هنالك فرق بين، أو بون شاسع أو غير شاسع، بين ما يجب أن يكون في دولنا وبين ما هو كائن، ولكننا علينا أن ندفع بما هو كائن إلى ما يجب أن يكون، ولذلك فإنه لا يجوز لنا أن نعطل مصالح الأمة إطلاقا، وإلا سنصبح مسئولين أمام الله، ونصبح مسئولين أمام شعوبنا أيضا التي إذا عطلنا مصالحهم، أنهم دون شك سيمضون في مصالحهم وسيتجاوزوننا، وأخشى أن أكون قد أطلت، ولكني أضيف نقطة أخرى أيضا، هذه النقطة لها علاقة بالمنهجية، هل يجوز لنا ونحن نعالج المشاكل المستجدة أن نجعل من عبارات الفقهاء المتأخرين منهم بالذات والفقيه الكبير ابن عابدين مع تقديرنا وإجلالنا له، أن نجعله أصلا نستمد ونستنبط منه أحكامنا، هل يجوز لنا؟
الرئيس:
هل هناك أحد يقول هذا يا شيخ؟ سؤال فقط.(2/537)
الشيخ محمد شريف أحمد:
لا لا!
الرئيس:
إذن ما فيه داع لإيراد هذا يا شيخ.
الشيخ محمد شريف أحمد:
على كل سؤال ربما، ثم أن هناك مسألة مبحوثة في كتب الفقه ومبحوثة لدى القانونيين وفي الفقه أكثر، هل لنا أن نحدث عقودا جديدة ونكيفها على أنها عقود جديدة؟ هل نحن مكلفون أن نكيف أي عقد كفالة أو وكالة أو مضاربة أو مرابحة أو أي عقد من العقود المعروفة، من المسميات القديمة كما تفضل، أم يجوز لنا أن نحدث عقودا جديدة؟ وكيف يكون تكييفنا لهذه العقود الجديدة؟ يعني مجرد ملاحظات.
الرئيس:
يا شيخ انتهيت أم لا؟
الشيخ محمد شريف أحمد:
إذا كان عندكم الرغبة أن أنهي فقد أنهيت.
الرئيس:
لا، يعني قضية التخريج عندما، إذا ضاقت بالفقيه المخارج على أن يكون هذا العقد شرعيا، فإنه قد يبحث عن تخريجه حتى يتكيف شرعيا هذا في الغالب، وإلا فالأصل في العقود الإباحة، وهنا لا إشكال فيه، لكن لو استصحب الأصل ثم استصحب ما حف بهذا العقد وجد أنه لا يتلاقى مع الأصل وهو الإباحة في نظره لما يعتبره، لكن ربما يكون عنده ميل إلى الجواز فيحاول أن يخرجه على أصل متفق عليه أو على عقد متفق عليه حتى يكون أدعى للقبول، ومع الإيمان في نفسه أن يعتريه ما يعتريه مما أثاره صاحب القول المقابل.(2/538)
الشيخ عبد اللطيف جناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
أنا في الواقع دائما شديد الاختصار، وهذه طبيعة عملنا؛ لأننا نرسل البرقيات الآن ولا نكتب الكتب. أحببت أن أتعرض لنقطة واحدة بالنسبة لأولئك الذين يبررون حل التأمين بأن هناك حساب احتمال، وغيرها من العمليات الإحصائية. طبيعة عمل التأمين يحتاج إلى نقد سريع في اليد؛ لأننا لا نعلم متى يقع الحدث. وأنا لي ما يقارب من ربع قرن في هذا العمل، ووضعت عددا من القوانين والحمد لله في النواحي الإسلامية، مثل ذلك في النواحي الوضعية. التأمين بطبيعته يحتاج إلى نقد سريع في اليد لعدم معرفتنا متى سيقع الحدث، فإذن لا بد أن تستثمر هذه الأموال استثمارا سريعا، وأفضل الاستثمارات السريعة هي أن نضعها في بنوك ربوية نحصل على العائد الفوري. هذه نقطة. والنقطة الأخرى بالنسبة لحساب الاحتمال، في أواخر السبعينات كما تعلمون راجت التجارة في المنطقة وأصبحت الاستيرادات كثيرة فاسقطنا من حسابنا حساب الاحتمال، وقلنا لنجمع أكبر مبلغ من رسوم التأمين بأي سعر كان ونستثمرة استثمارا ربويا؛ لأن الدولار نسبة الربا عليه 21 % في ذلك الوقت. فإذن معظم التعويضات التي دفعناها في أواخر السبعينات هي تعويضات ربوية أعطينا المؤمن لهم أموالا عن الخسائر التي وقعت لهم من ناتج الربا وإذا أردنا أن نتحقق من ذلك تعالوا بنا لننظر إلى سوق التأمين العالمية اليوم، سوق التأمين العالمي اليوم يعاني مشكلة كبيرة من نتائج أعماله الربوية في أواخر السبعينات، بحيث الآن بدأوا يعيدون حساباتهم؛ لأن نسبة الفائدة على حسابنا من جديد ونرفع أسعار التأمين 50 % و100 %. هذه هي طبيعة عمل التأمين أردت أن أوضحه حتى لا يلتبس الأمر، وأشكركم.(2/539)
الشيخ وهبة الزحيلي:
أرجو ألا يكون قد فهم من كلامي بالأمس عندما قلت بتحريم التأمين التجاري ذي القسط الثابت، ثم عقبت عليه بأن إعادة التأمين على هذا التأمين يجوز إذا كانت هناك حاجة متعينة وذلك لظروف اقتضتها طبيعة نشوء شركات التأمين التعاونية الإسلامية؛ لأني إذا قلت بجواز إعادة التأمين، فكأني أقول أنسف المبدأ الذي بنيت عليه حرمة التأمين في الأصل، وهو ما لم يكن في قصدي أصلا، والحقيقة الحاجة التي تجيز إعادة التأمين مقيدة بشروط كثيرة ينبغي أن أشير إليها، وهي أن تكون هذه الحاجة أولا حقيقية لا وهمية، وأن تكون عامة، وأن تكون متعينة لا فردية، ولذلك إذا كانت الحاجة فردية فكثير من الناس يدعي أنه بحاجة إلى التأمين، وعندئذ النتيجة التي أريد أن أصل إليها، وهي الحرمة أكون قد نقضتها من جانب آخر، هذا طبعا لا يجوز بأي حال من الأحوال، بداية التأمين وهي أن تكون لحاجة فردية، هذا لا يجوز تمشيا مع الأصل الذي أريده، وأما تلك الحالة الضرورية الخاصة التي هي إعادة التأمين هي حاجة أو ضرورة، والضرورة والحاجة تقدران بقدرهما. فلذلك لا يمكن أن أجيز ناحية وأمنع ناحية إلا ضمن القيود الشرعية الضيقة جدا للجانب الذي أجزته ولفترة محدودة ولفترة زمينة ولظروف ضيقة جدا، هذا شيء.
والشيء الثاني، الحقيقة نحن غيورون على هذا المجتمع وعلى حرمته وكرامته والحب في ديمومته واستمراره ودعمه للمجامع الفقهية الأخرى في العالم الإسلامي، فلذلك فنحن في الحصاد ثلاثة أيام وأربعة كان حصادنا ضعيفا أو نتاجنا محدودا قليلا، فأرجو ألا يكون اتجاهنا فيما عدا بعض هذه الأمور التي غلب فيها الاتجاه نحو تحريم التأمين مثلا أن يكون اتجاهنا في قضايا كثيرة فنميل إلى الهدم وإلى السلبية ولا نميل إلى البناء والإيجابية. فأنا أؤكد وأقدر ما تفضل به فضيلة الشيخ السلامي والأخ الدكتور الشريف من أننا إذا مشينا في الاتجاه نحو تحريم شيء أن نؤكد على البديل؛ لأننا نريد أن نبني ولا نريد أن نهدم فقط. فالبناء هو هدفنا، وهي المهمة الأساسية التي من أجلها وجدت المجامع لأن يكون هناك عقلية متفتحة تضيف جديدا وتعطي بدائل، وهذا هو هدفنا في الحقيقة وينبغي أن نحرص على الوصول إلى هذا الهدف لا أن تكون حصيلة عملنا في النهاية استصدار قرارات أكثرها قد يكون مشابها لما مضى، ونريد أن تكون لنا خطوة إيجابية جديدة في الموضوع، وشكرا سيادة الرئيس.(2/540)
الشيخ عبد الله البسام:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما موضوع التأمين فأنا لن أدخل في تفاصيله من نواح: الناحية الأولى أن أصحاب الفضيلة بحثوه وبحث قبلهم وقد كثر فيه البحث وأعتقد الآن وضح، ولكني أوافق الإخوان على البديل حتى لا نهدم ولا نبني وموضوع البديل سواء بحث في هذه الجلسة.
الرئيس:
لكن لو أوضحت عن الشيء الذي ظهر.
الشيخ عبد الله البسام:
الشيء الذي ظهر أنا أعتقد أن التأمين في معناه المعروف الآن أنه منصوص على تحريمه في كتاب الله، وأن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} أنه هو أول ما يدخل في الميسر. وأنا ما أردت أن أدخل في باب التأمين وإنما لفت نظري كلمة سمعتها من فضيلة الشيخ المختار وهي أنه يجب أن يكون لدينا مرونة وإن هذه المرونة مثل فيها أن التأمين هو واقع شئنا أو أبينا وأنه مادام أمرا واقعا في المسلمين وفي العالم كله يجب أن نساير هذا. أنا أرى أن هذا مبدأ خطير جدا؛ لأننا إذا أردنا أن كل عقد أو كل عمل موجود في المجتمع أننا نسايره، معنى أولا أن الاجتماعات والبحوث ليس لها قيمة، الناحية الأخرى أننا بهذا نهدم الشريعة. فأنا أرى أن الشريعة كما قال بعض الإخوان وهو الشيخ الشريف متبوعة لا تابعة، لكن متبوعة أيضا ولا تقف حجر عثرة أمام المسلمين وأمام المتعاملين وإنما يجب على علماء المسلمين وعلى مفكري المسلمين وعلى قادة المسلمين أن يجدوا للناس حلولا وأنا أعتقد اعتقادا تاما وكلهم يعتقدون هذا، أن الشرعية الإسلامية لله الحمد شريعة العقل والنقل، إنها كفيلة لحل جميع الإشكالات وكفيلة لتلبية جميع المتطلبات، ولكن يجب علينا الجد والاجتهاد فيها وأن نعطي الأمر حقه وأن ندرس الأمور ونبحثها على حقيقتها ونخرج منها بما يسير المجتمع. فكان كلكم تعلمون أن الإسلام لا تغيب الشمس عنه، ومع هذا حكمته الشريعة الإسلامية وسار والحمد لله فيه، فهذا ما أردت أن أنبه عليه لاأن هذا من المخاطر أننا نجاري العادات ونجاري العقود وما يجري في المجتمع ونتلمس لذلك أشياء ورخصا ونفتي بما يمكن به وصف الشريعة بالمرونة.
الرئيس:
بعد هذا إتماما لبحث التأمين فإن أمامنا بحثين في البديل، أحدهما للشيخ عبد اللطيف جناحي، ولهذا أرجو من فضيلته إعطاء صورة ملخصة عن هذا البديل المقترح.(2/541)
الشيخ عبد اللطيف جناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد،
لا بد من بسط الموضوع بصورة موجزة فجزى الله الأمانة كل خير فقد طبعت البحث ووزعته وأنا أشكرها على همتها واهتمامها بما قدم لها وما أنيط إليها من أعمال.
البحث الذي بين أيديكم استعرضت فيه التأمين بشكل موجز، بينت نشأته وشرحت طبيعة العقد مستخلصا ذلك من القوانين الوضعية، القانون الإنجليزي والقانون البلجيكي والقانون المصري. ثم تطرقت لعناصر العقد ومبادئ العقد وخصائص العقد، وأيضا تناولت نظريات الباحثين الذين تناولوا موضوع التأمين، ثم انتقلت إلى أنواع الأخطار المغطاة. هناك أخطار الأشخاص حيث يعوض الشخص عند بتر يد له أو رجل له لا قدر الله، أو عند فقد دخل متوقع أو دخل كان مصدر رزقه. وأيضا من أنواع الأخطار، أخطار الممتلكات، كتأمين عمارة أو تأمين سيارة أو تأمين مسكن. وأخيرا أخطار المسئوليات المدنية. وكلنا يعلم أننا نستخدم مركبات، وهذه المركبات معرضة للحوادث وهذه الحوادث قد تؤذي الآخرين في أموالهم وفي أجسادهم، فلا بد من تعويضهم، أو هناك مهنيون كالأطباء والمهندسين فلو أخطأوافي عملهم، طبيب الأسنان لو طلب منه خلع السن فجرح الشفة مثلا طلب منه التعويض، ومسألة التعويض المدني مسألة واسعة جدا ومنتشرة في أمريكا الآن بشكل فظيع حتى أن أرقام هذه التعويضات وصلت إلى الملايين ووصلت إلى أرقام خيالية. في الصفحات الأخيرة من البحث شرحت أهم أنواع هيئات التأمين القائمة في العالم، لذا لن أتعرض بشرح تفصيلي لما ذكرته حفاظا على وقتكم الثمين. وممكن من الحوار أن نجيب على الاستفسارات التي لدى حضراتكم. ولكن أود أن أشير إلى بعض النقاط التي أرى أنها تستحق أن يلقى الضوء عليها. نحن لا نختلف أبدا على أن التأمين ضرورة من ضروريات الحياة، وضرورة ملحة، وما التأمين إلا حماية منشودة لحفظ المال من الهلاك أو حفظ الخلف من الضياغ عند وفاة رب العمل. فهل الإنسان عندما يحتاج إلى شيء أول ما ينظر ينظر ما حوله في بيته؟ هل يوجد ما يغطي حاجته في بيته؟ سؤالنا هنا: هل يوجد في ديننا الحنيف ما يغنينا عن التأمين بصيغته القائمة في العالم الغربي والشرقي؟ هذا سؤال نضع عليه علامة استفهام. ليس كل النظريات التي تطبق في الشرق والغرب صالحة أن تطبق عندنا. ومشكلتنا وعلتنا أننا نأتي بالنظريات الغربية والشرقية ونطبقها في بلادنا، وقد تكون تلك النظريات ناجحة لديهم ولكنها تفشل عندنا. قضية كبيرة، قضية ظروف يجب أن ندرسها يجب ألا نكون مقلدين، فلا بد إذن أن ننطلق منطلقا فكريا إسلاميا، نغير المنطلق الفكري، وألا نقوم باستيراد أفكار أجنبية ونؤسلمها، نلبس هذه النظريات ونلبس هذه الأفكار العمة الإسلامية ونقول الآن أسلمت. هذا في الواقع محظور يجب أن نتجنبه. وإذا اتبعنا هذا الأسلوب، أسلوب أن نأتي بالنظريات الغربية، هذا الأسلوب سيبعدنا عن تاريخنا الإسلامي الغني، تاريخنا الإسلامي غني بالخيرات، فلابد أن نبحث فيه ونبحث عن كنوزه الثرية لكي نستنبط. إنني أدعو علماءنا الأفاضل إلى أن يدلوا وأن يكثروا نشاطهم وأن يكثفوا نشاطهم في فريضة عظيمة هي فريضة الزكاة. ليبحثوا لنا هل في هذه الفريضة ما يغنينا عن استيراد التأمين بهذا الشكل.(2/542)
أنا في الواقع لست بفقيه ولكن كمسلم علي واجب أن أتفقه في ديني قدر الإمكان حتى لا أخطئ، سأسرد على مسامعكم بعض الفقرات التي أوصلت لدي قناعة بأن هذا الدين دين عظيم، وأن فريضة الزكاة قاعدة أمنية عظيمة جدا، لذلك أنا من أنصار أولئك الذين يريدون أن يوسعوا هذه القاعدة الأمنية. فيما رواه الطبراني عن مجاهد في تفسير كلمة الغارمين حيث يقول: " من احترق بيته أو يصيبه سيل فيذهب متاعه ويدان على عياله فهذا من الغارمين ". الحريق والسيل موضوعان من مواضيع التأمين، ويقول عمر بن عبد العزيز،عندما كتب الى رجاله في الأمصار اقضوا عن الغارمين فكتب إليه بعضهم يقول: إنا نجد للرجل مسكنا وفرسا وأثاثا، فكتب إليهم: اقضوا عنه فإنه غارم. والرسول صلى الله عليه وسلم كما روى أحمد ومسلم أباح لمن أصابته حائجة اجتاحت ماله أن يسأل ولي الأمر حقه من الزكاة حتى يصيب قظاما من عيش، هذه الفريضة العظيمة لا يظهر قيمتها ولا يظهر نفعها إلا إذا سعينا سعيا لنشر الدين الإسلامي في العالم، وأنا الآن بصدد جمع الإحصائيات، وقد جمعت إحصائيات لعشر دول، أخذت الزكاة التي يجب أن تدفعها هذه الدول كما يقره الإسلام، وأخذت التأمينات الاجتماعية التي تدفعها هذه الدول، وأخذت إحصائيات تعويضات التأمين، فوجدت هناك تكافؤا، أي أن الزكاة لو طبقت التطبيق الصحيح ستغطي هذه الكوارث، وستغطي ما يدفع من التأمينات الاجتماعية. فإذا أضفنا إلى ذلك التكافل الاجتماعي الذي ينص عليه الإسلام لوجدنا أن الأمر يحتاج منا إلى تنظيم فقط. لننظم بيت المال الذي يغني المسلمين عن حاجة التأمين.
إذن ما أود أن أقوله بأن التكريس يجب أن يكون على تطوير ما لدينا من تراث تاريخي، لا على الاستيراد؛ لأن تاريخنا الإسلامي تاريخ عظيم، حتى البنوك الإسلامية، الشيكات التي تصدر عرفها تاريخنا الإسلامي. ويكفي أن أذكر لكم بيتين من الشعر عندما كتب وال من ولاة العراق صكا، هذا الصك وهو الشيك المعروف لكي يصرفه فلم يصرفه لأنه ليس له رصيد. عملية مصرفية قبل أربعة عشر قرنا أو قبل عشرة قرون، فكتب ذلك الشاعر خلف الصك يقول:
تحرر بالأنامل والأكف إذا كانت صلاتكم رقاعا
فها خطي خذوه بألف ألف ولم تكن الرقاع تجر نفعا
عرفنا الشيكات المصرفية وخدعونا عندما درسونا بأن الغرب هو الذي عرف الشيكات. عرفنا التأمين في ثوبه الإسلامي البراق، وخدعونا قالوا: أن شركات التأمين أو فكرة التأمين بدأت من الغرب، لا الفكرة ممكن أن تنبع. ولكن عزلنا أنفسنا عن تاريخنا، وهذه هي المشكلة أن هناك محاولات من الأعداء تبذل لكي نعزل عن خلفية عظيمة؛ لأننا أقوياء بخلفيتنا. من حوار الأمس تبين لي أن هناك حاجة لكي أتعرض لهيئات التأمين القائمة، وهيئات التأمين في العالم متعددة ولكني سأتعرض لأهمها فقط. لن أتعرض لهيئات اللوج ووهيئات الاكتتاب وغيره. لكن سأتعرض لبعض الهيئات التي أرى أن لها صلة بموضوعنا.(2/543)
هناك هيئات التأمين التبادلي، أصحاب صنعة يجتمعون فيما بينهم ويقررون تعويض من يقع عليه الضرر. بهذا الشكل لها عيوب؛ لأنه في بعض الأوقات يكون الضرر كبيرا، فعندما يوزع الضرر على المجموعة قد يكون هناك شخص لا يمتلك ما يدفع، فإما أن يصفي قسما من أصوله وإما أن لا يدفع، فالتعويض لا يدفع كاملا للشخص.
هناك شركات التأمين، شركات التأمين تأخذ قسطا ثابتا ومقصدها في ذلك الربح، والربح فقط، لم تأت شركات التأمين لتقوم بالتعاون أو لتقوم بالحماية. أتت لتحقق ربحا لها، فالمقصود في الأساس الربح، ثم وثائقها التي تصدرها كلها مستندة على قوانين وضعية. وفيها ما فيها من الأضرار في كثير من الأوقات بالمؤمن له. وهناك دفوع تدفع عند التعويض حتى لا يدفع التعويض للمتضرر، بل صيغة الشركات تنمي الحقد، يحس المؤمن له أنه في آخر المدة أو في آخر السنة خسر مبلغا، فتكون هناك حوادث مفتعلة، وسجلات التأمين ترى أن هناك حوادث قتل، أناس قتلوا زوجاتهم ليحصلوا على التعويض، لماذا؟ لأن الضابط الداخلي فقد، الفكرة أتت بقصد الربح ولا تتورع هذه الشركات أن تستثمر هذه الأموال في الأمور الربوية. بل كما قلت لكم في السبعينات عندما زاد سعر الفائدة لجأنا جميعا إلى الاستثمار الربوي، وبدأنا نكسر الأسعار، الشيء الذي كان يجب أن يأخذ عليه 2 % نأخذ عليه 1 % على أساس أننا نحصل على قدر من المبلغ ونستثمره في الأمور الربوية ونقول بأننا سنخسر فنيا ولكننا سنربح من جانب الاستثمار، وسوق العالم اليوم يعاني من هذه المشكلة. هذه الشركات إما أن تكون شركات مساهمة وإما أن تكون ذات مسئولية محدودة لها رأسمال لها أشخاص يديرونها، تجمع الأقساط وعندما يقع الحادث تدفع التعويض. وإذا تحقق ربح الربح يذهب لأصحاب هذه الشركات. ثم هناك الهيئات الحكومية، نظرا لأهمية التأمين ونظرا لما يحققه التأمين من دخل كبير، لجأت بعض الحكومات إلى تأميمه كليا ومنهم من أممه جزئيا، فتقوم هذه الهيئات الحكومية مقام شركات التأمين.(2/544)
نأتي إلى التعاونيات: التعاونيات مجموعة يبدأون العمل ليس من الضروري أن يكونوا أصحاب صنعة واحدة، فلذلك نجد أن التعاونيات في التركيبة تقوم بأكثر من عمل تأمين، تقوم بالحريق، تقوم بتأمين السيارات ولكن الفرق أن المؤمن له هو مؤمن في نفس الوقت. أي أنني عندما أدفع ألف ريال تأمين سيارتي، أنا أدفع هذا الألف بنية التعاون مع غيري لكي أجبر ضررا وقع لي أو لغيري. فإذا وقع الضرر أخذنا من هذا الصندوق الذي فيه مجموعة المبالغ والأقساط وعوضنا الضرر. لهذه النظرية سلبية أنها تبدأ ضعيفة، لأننا لو بدأنا التعاونيات بعشرة أشخاص، وأمنوا عشر سيارات، وسيارة واحدة منهم غالية مرتفعة الثمن، ووقع الحادث لها من أول يوم، من أين يدفع لها والصندوق ضعيف، ولكن تجدون بأنني في البديل الذي طرحته عالجت هذه المشكلة. إذن في العالم هناك تأمين تبادلي وتأمين تعاوني، شركات تأمين. ما أتى إلينا إلى مجتمعنا هو الشركات فقط، فلم يأتوا لسواد عيوننا، لم تأت التعاونيات وهي موجودة في الغرب، إنما أتت شركات التأمين، لماذا؟ لكي تمتص أرباحا من هذا البلد، وما أكثر ما امتص من أرباحنا. تصوروا أيها الإخوة أنه في السبعينات وفي الستينات استفادت الدول الأوربية 200 بليون دولار من الدول النامية، على هيئة تأمين وعلى هيئة مواد وطعام. في سنة 1975 ميزان المدفوعات في بريطانيا كان خاسرا. وما عدل الميزانية؟ أهم عامل عدل الميزانية هو إيرادات التأمين. ولم تكن إيرادات التأمين تلك من بريطانيا، إنما كانت من دولنا نحن. إذن نحن نفرط إذا كنا نهمل قضية التأمين. ثم عملية التأمين عندما قال البعض: أن وراءها الصهيونية العالمية، يجب ألا ننكر ذلك؛ لأن هدفا من أهداف الصهيونية العالمية هو التربع على عرش السيولة، التربع على عرش السيولة. ويتحقق هذا بعمليتين؛ عملية الربا، وعملية التأمين، عملية التأمين جمع أقساط، وعملية الربا أيضا هو إقراض وبحكم. فالصهيونية العالمية عندما يقول البعض بأنها وراء هذه العملية نقول: نعم؛ لأن هذه هي استهدافاتها وهي هدف من أهدافها الأساسية أن تكون السيولة دائما محتكرة لديها.(2/545)
التأمين فطرة الإنسان السليم ساقته إليه. التأمين التعاوني وليس التأمين التجاري، أنا أعتبر التأمين التجاري قضية، لا يجوز التأمين، أن التأمين التجاري محاولة استغلال، تلك الفطرة السليمة. وإذا رجعنا إلى سنة 2250 قبل الميلاد في قانون حامورابي نجد أن هناك نصا تعاونيا: من احترق بيته يجب على المجموعة التي حواليه أن تجبر ضرره. وفي تلمود بابل ورد ما يفيد تعاون البحارة على أن يجبروا الضرر الذي يقع على أحدهم إذا تعرض لقوة قاهرة، وقبل أكثر من سبعة قرون ظهر تجار في المغرب العربي بنوع من التأمين التعاوني لكن قضية الشركات أخرجت هذه التعاونية عن رسالتها.
هناك نقطة في الحقيقة يجب أن نركز عليها، وهي في خصائص العقد. النقطة تقول بأن التأمين عقد احتمالي، والبعض يقول: نعم عقد احتمالي لا نعرف كم ندفع آخر النهار ولكن هناك إحصائية، قولوا لي: أين الإحصائيات عندما طار أول قمر إلى الفضاء، قمر صناعي وأمن. أين الإحصائيات عندما طير أول مكوك فضاء وأمن؟ أين الإحصائيات عندما أمنوا على حياة رواد الفضاء؟ ما كان فيه إحصائيات القضية قضية عشوائية وقضية أرقام، وهناك الآن تدفع تعويضات، فإذن موضوع نوع هذا من المقامرة قائم وموجود ونعاني منه.
نحن نبحث شيئا، التأمين قد يكون قديما، التأمين حلال أو حرام، ما هو نحن الآن وصلنا إلى البدائل. وصلنا إلى البدائل. والتأمينات التعاونية الآن قائمة وفي أول البحث ذكرت لكم بعضها في العالم الإسلامي وناجحة نجاحا باهرا بل لديها حقائب من أرقام الأقساط كبيرة جدا. ولا أخفيكم القول بأننا عندما وضعنا نظام تأمين تعاوني وعرضناه على دولة من الدول قامت قائمة الشركات هناك. قلنا لهم: لماذا هذه المحاربة؟ قالوا: أن قمتم بهذه الشركات سوف تسحبون البساط من تحت أقدامنا. بينما في نفس الوقت تغطي تراخيص لشركات تجارية عادية ولا تقوم على مثل هذه القاعدة عملية التأمين، عندما أقيمت مؤسسات التأمين التعاونية رفع الحرج عن المسلمين. تأتي شركة التأمين أو مؤسسة التأمين الإسلامية فتؤمن سيارتك، نحن رفعنا الحرج عنك. ولكن هناك مشكلة أخرى، في عالمنا اليوم نحن دخلنا متأخرين، في عالمنا اليوم أخطار غير متوازنة، عمارات بالملايين ثم فلل صغيرة. هل نتجه ونقول لأصحاب الفلل الصغيرة نؤمن لكم وأصحاب العمارات نقول لهم لا؟ إذن نحن أمام مشكلة لا بد أن نفتت هذا الخطر. ولا يمكن أن نفتت هذا الخطر إلا عن طريق إعادة التأمين فصدرت الفتوى أن نلجأ إلى إعادة التأمين بمقدرا الضرورة. وأود أن أبشركم بأننا أسسنا الآن أول شركة إعادة تأمين إسلامية. فإذن خففنا الآن العبء من على إخواننا الذي يريدون مؤسسات التأمين التعاونية فهم يعيدون التأمين الآن إما كليا أوجزئيا لدى هذه الشركة. ولكن هذا لا يكفي يجب أن تكون هناك سلسلة من هذه الشركات، حتى نستطيع أن نغطي احتياج المجتمع الإسلامي.(2/546)
البديل المطروح أمامكم هو بديل تعاوني، وفي التعاونيات سلبية في البداية حيث لا توجد حقيبة مالية كبيرة وقوية يمكن أن تدفع التعويض الذي يقع في الغد مثلا. من أول يوم قد تصدر وثيقة التأمين ويكون هناك تعويض، قلنا: أن البنوك الإسلامية عندما نشأت استبشر المسلمون بها ودعموها دعما قويا والحمد لله هي الآن ناجحة ووصلت أعدادها إلى ما يقارب الستين تقريبا مع شركات ومؤسسات الاستثمار. هذه المؤسسات مع هذا الدعم الذي لاقته من المسلمين ألا يجب عليها أن تقوم ببعض التضحيات والتبرعات لترفع الحرج عن المسلمين في التأمين؟ أنا أرجو من مجلسكم الموقر أن ينظر في هذا الموضوع على أنه فرض كفاية على البنوك القائمة بتأسيس المؤسسات التعاونية. سوعدوا من قبل المسلمين ولم يطلب منهم أن يقوموا بالعمل المصرفي , طلب منهم أن يطبقوا الاقتصاد الإسلامي ككل، وما داموا نجحوا وحققوا أرباحا، وهذه الأرباح التي حققت بفضل تعاون هذا الجمهور، فإذن فلينظر هذا المجمع في هذا الموضوع على أن على البنوك الإسلامية القائمة أن تؤسس مؤسسات إسلامية تعاونية وأن هذه من باب فرض الكفاية، وأنا لا أفتي بذلك إنما أترك الموضوع لتبحثوه أنتم.
المشكلة الوحيدة في المؤسسات التعاونية أن رأس المال يبدأ صغيرا فلجأنا إلى البنوك القائمة في المنطفة، وطلبنا منها قرضا، سميناه الاحتياطي المدفوع حسابيا وموجود طبعا في النظام، احتياطي مدفوع مسبق، هذا الاحتياطي نوعان، فيه احتياطي مكتسب ينتج من ناتج العمل، فنحن قلنا: على هذه البنوك أن تضع في صندوق هذه المؤسسة نصف مليون دينار كاحتياطي مدفوع، هذا الاحتياطي المدفوع يستثمر لصالح الصندوق التعاوني.(2/547)
ولو حصل لا قدر الله ضرر في بدء العمليات فهذه مخدة واقية يؤخذ منها الجبر. ولدفع التعويضات تبرعا من البنوك الإسلامية، لكن عملنا إحصائية في مدة خمس سنوات، ممكن أن نرجع إلى هذه البنوك النصف مليون دينار عن طريق تعويض الاحتياطي المدفوع بالاحتياطي المكتسب، سنويا نحن نربح نأخذ قسما من الربح ونعطي البنوك، في أول سنة مثلا لو ربحنا ثلاثمائة ألف دينار نأخذ منه مائة ألف دينار وندفعه للبنوك فيبقى لهم في ذمة الصندوق كقرض أربعمائة ألف دينار، وهكذا، عملنا دراسة وقدمناها إلى الجهات المسئولة خلال خمس سنوات نتيجة للإحصائيات الموجودة في السوق، ممكن أن نعيد الخمسمائة ألف دينار إلى البنوك الإسلامية ويبقى الاحتياطي المكتسب لصالح المؤمنين جميعا في هذا الصندوق. أنت عندما تشترك في هذا الصندوق تحصل على شيئين، تحصل على الحماية التي تريدها وأنت تسوق السيارة هذه من ناحية ثم أنت شريك في الأرباح، آخر العام نجلس فنحسب كم دفعنا من التعويضات. وكم دفعنا من مصاريف إدارية وكم نريد أن نقتطع احتياطيات ثم الباقي نوزعه على جميع المشتركين في هذا الصندوق، بصرف النظر أنا في نظامي لم أميز، في بعض الأنظمة الأخرى التعاونيات ميزوا بين ما تسبب في حادث وما لم يتسبب في حادث، قالوا من يتسبب في حادث لا يدفع له ناتج الربح، أنا عندي من يتسبب في حادث ندفع له حقه، لماذا؟ لأنه عندما أتى لكي يؤمن أتى بحسن نية. وأتى مسلما مؤمنا بهذه القضية فبالتالي وقع له حادث قضاء وقدرا ولا يجب أن نحرمه من نصيبه في الأرباح، وكذلك راعينا في النظام سماحة الإسلام. فقلنان حتى غير المسلم ممكن يأتي ليؤمن وله نصيبه من الأرباح، ولكن ليس له حق أن يصوت في الجمعية العمومية وليس له حق أن يكون عضوا في مجلس الإدارة؛ لأن هذه الإدارة إدارة إسلامية ويجب أن تلتزم بالشرع الحنيف. وغير المسلم لا يمكن أن يتأتى له ذلك. ولكن ما دام يعيش بيننا ومادام يتعرض لأخطار كما نتعرض نحن، مادام يقبل بالنظام الإسلامي فأهلا وسهلا به لكي نذيقه حلاوة الإسلام. وعندما عالجنا قضية العضوية بمجلس الإدارة جعلناهم كلهم سواسية سواء دفعت دينارا أم دفعت مليون دينار، فالعبرة ليست بما تدفع إنما العبرة بشخصك المسلم.
هذه بعض الملامح التي أردت أن ألقي الضوء عليها ولا شك أنكم قرأتم البحث وقرأتم الموضوع. فيه ورقة سؤال جاءتني سيدي الرئيس هل أجاوب عليها أو فيه نقطة نظام؟
الرئيس:
هو، إذا تفضلت هل انتهيت؟(2/548)
الشيخ عبد اللطيف جناحي:
نعم أنا في الحقيقة أكتفي بهذا التلخيص.
الرئيس:
إذن ربما أن رغبة الإخوان تكون مع الرغبة عندنا في أن تعطينا ملخصا للبديل ثانية.
الشيخ عبد اللطيف جناحي:
نعم ... البديل كما قلت هو بديل تعاوني، والتعاونية عندما تبدأ بفرد أو فردين أو ثلاثة. ويكون هؤلاء الجماعة يأتون بدفع مائة ريال أو ألف ريال في هذا الصندوق تبرعا منهم وإيمانا منهم بجبر ضرر غيرهم، لكن طبعا المشكلة عندما تأتي وأنت عندك سيارة تساوي 20 ألف ريال أو ثلاثين ألف ريال قد يقع الحادث غدا ولا يوجد في الصندوق ما يكفي لتغطية خسارتك فلجأنا نحن إلى البنوك الإسلامية وطلبنا منهم أن يدفعوا في هذا الصندوق قرضا حسنا سميناه " الاحتياطي المدفوع " هذا القرض الحسن قدرنا قيمته بنصف مليون دينار، أي تقريبا بخمسة ملايين ريال سعودي حتى نجبر الضرر العاجل، هذا المبلغ بالإحصائيات التي لدينا ممكن أن نعيده مرة أخرى إلى البنوك الإسلامية عن طريق الاحتياطي المكتسب. مؤسسات التأمين التعاونية تربح نقطع كل عام نسبة من الأرباح لكي تخرج البنوك الإسلامية من الصورة وتكون الحقيبة كاملة للمؤمن له. هذا من حيث الميكانيكة المالية. هناك موجود في البحث عن ميكانيكية التطبيق في عضوية مجلس الإدارة في دفع التعويضات كلها هذه موجودة، وطبعا من الصعب أن نأتي عليها جميعا، إنما هذا هو الملخص. وشكرا سيادة الرئيس.
الرئيس:
نرجو هذا الملخص أن تزودنا به محررا بهذه الصيغة مع وضوح معالمه كما تفضلتم.(2/549)
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. أيها السيد الرئيس، شكرا لكم، أولا أعترف أن هناك حلولا في البدائل كان من الأوائل فيها الدكتور عيسى عبده، ما أدري رحمه الله أم لا، ذهب إلى رحمة الله.
الشيخ عبد اللطيف الجناحي:
لا غريب الجمال قبله الله يرحمه ويغفر له.
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
نعم، لكن أنا قلت من الأوائل، ما قلت أولا في كتيب أصدره بعنوان " التأمين والبديل حلا لمشكلة التأمين " ينبع من جوهر الشريعة الإسلامية ويرجع إلى مبادئ التكافل الاجتماعي في الشريعة الإسلامية. وكذلك اقترح من سوريا باحث اسمه عبد الله علوان حلا شبيها بالمذكور في كتيب أصدره بعنوان " حكم الإسلام في التأمين، السوكرة " لا يخرج عما ذكره الدكتور عبده في أغلب نقاطه وها نحن الآن استمعنا إلى البديل الذي تفضل به الأستاذ عبد اللطيف جناحي حفظه الله. ولكن جميع الاقتراحات تعطينا تصورا عن وجود الدولة الإسلامية وقيامها وأن هذه الدولة الإسلامية الوليدة قد جاءت بمسئوليها تطالبهم بالحل الذي يرونه ليطبقه القائمون على الأمر من الإسلاميين المخلصين، ولكن الأمر غير ذلك كليا. فنحن في ظل وضع غاب عنه الإسلام غيابا كاملا في الأمة الإسلامية جمعاء من الناحية الشرعية، اللهم إلا ما بقي منه من ظلال العقيدة والعبادة، أما الفقه الإسلامي فلا وجود له في المجتمع ولا في الأفراد، لا في الأفراد ولا في الجماعة إلا في القليل النادر، وفي هذا الوضع وجب أن نبحث الأمر على غير ما بحثه الأساتذة السابقون.
الرئيس:
لو قلتم إلا ما شاء الله كان أحسن من كلمة القليل النادر؛ لأن أمة محمد عليه السلام إلى خير، والخير موجود في هذه الأمة، ولا يزال يوجد من يحكم الشريعة، ولا يزال يوجد تطلعات واتجاهات ولله الحمد جيدة جدا حول تحكيم الشريعة ونحن نشاهد.(2/550)
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
أضم صوتي على صوتكم وأقول إلا ما شاء الله، ووجب أن نضع إذن تأمينا عمليا تسمح الدول والحكومات بالعمل به، ثم حين تقوم الدولة الإسلامية بنظامها الإسلامي الجديد يزاد على هذا التأمين ما اقترحه المحررون الأفاضل ويعدل حسب الظروف آنذاك.
أقول: إننا الآن أمام تأمين إسلامي مؤقت، فلننظر! أرى أن يكون هذا التأمين المقترح على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: إنشاء مصرف تنمية إسلامي- أظنه قد نشأ الآن – على الوجه الذي اقترحه علماء المسلمين وتجتمع فيه أموال المسلمين فقط وتشغل بالأسلوب المذكور مع اشتراط المصرف على المشترك بتعهد خطي أن تكون زكاة ماله عائدة إلى صندوق الزكاة وعمل الخير في المصرف المذكور.
الدرجة الثانية: إنشاء صندوق الزكاة من أموال المصرف المذكور وبدلا من إعطائها للفقراء مباشرة كما هي العادة، يتكون منها أو من أكثرها رأس مال تجاري يقوم عليه موظفون يعملون بأجر معقول. وهنا تأتي الدرجة الثالثة وهي النتيجة.
الدرجة الثالثة: أن يكتتب طالبو التأمين بمبالغ خيرية تبرعا منهم لصندوق الزكاة وعمل الخير في المصرف المذكور وليس لهم حق إعادتها، ثم إذا جاءت الأرباح بعد سنين وفينا الفقراء حقهم من رأس مال الصندوق وأبقينا الأرباح مع التبرعات الخيرية للاستثمار، ويتكون من هذا الصندوق الجديد المنبثق من صندوق الزكاة وعمل الخير " صندوق عمل الخير " أو ما سماه زميلي الموقر "مؤسسة التأمين الإسلامي" وهو التأمين الإسلامي الذي نراه صالحا لإنقاذ حياة الفقراء والمساكين والمعوزين والمتضررين من المكتتبين في مصرف التنمية الأساسي لأن أرباحهم كافية لهم وهذه أولوية فقط. ولا بأس من أن نشترط هنا ما اشترطه المحررون السابقون على المؤسسات التعاونية التكافلية وهي:
أولا: أن يدفع الفرد المساهم نصيبه المفروض عليه في ماله على وجه التبرع قياما بحق الأخوة الإسلامية.
ثانيا: إذا أريد استغلال هذا المال المدخر فبالوسائل المشروعة وحدها وبإعلامهم.
ثالثا: لا يجوز لفرد أن يتبرع بشيء على أساس أن يعوض بمبلغ معين إذا حل به حادث ولكن يعطي من مال الجماعة بقدر ما يعوض خسارته أو بعضها على حسب ما تسمح به حال الجماعة.
رابعا: التبرع هبة والرجوع فيها ممنوع شرعا كراهة أو تحريما على خلاف.(2/551)
وبعد، فالذي دعاني إلى إقامة الصندوق عمل الخير "التأمين الخيري" زميلي سماه "التأمين التعاوني" وأنا أسميه "التأمين الخيري"، على أساس الزكاة ثم على أساس مصرف التنمية يعني الينبوع هو مصرف التنمية الإسلامي، ما نراه ونعلمه من استبعاد فكرة إقامة التأمين الخيري هذا فورا على أساس خيري بحت، وهب أنه قام وتنادى إليه موسرو المسلمين، فكيف يتم صرف وتشغيل أمواله؟ ومن هم أولئك المستفيدون منه؟ وهل نضمن قيام هذه المؤسسة دون استغلال؟ أما فيما ذكرت، فلو أن الناس لم يتبرعوا افتراضا لصندوق عمل الخير وبقيت أموال الزكاة فقط، فاستثمرت بيد أناس عاملين عليها ثم رد رأس مال الصندوق وهو محض الزكاة للفقراء وأخذت الأرباح لصندوق عمل الخير لكان كافيا ولا ضرر في تأخير إعطاء الفقير الزكاة ولا في استثمارها على أساس الضمان لا الأمانة، كي لا يضيع حق الفقير في رأس المال. والذي يجلب لنا فائضا من الزكاة هذه صندوق التنمية الأساسي الذي يستثمر أموال الناس بما يشبه شركة المضاربة في الفقه الإسلامي. فكلما كثرت أموال الناس في مصرف التنمية، كثرت الزكاة ومن ثم كثرت أرباح الزكاة؛ لأن المال يجر المال، ثم وجدت ذلك كله في صندوق عمل الخير.
بقيت مسألة واحدة هي: هل نستطيع ... ؟ هذا مبدأ لا علاقة له مباشرة بهذا البحث ولكن هو أساسي يمكن أن يبني عليه هذا البحث هل يصح أن يرابي الإنسان مع كافر في دار الحرب مباشرة؟ الذي أعرفه في مذهبنا الحنفي وحرره العلامة ابن عابدين في حاشية " رد المحتار " أن أموال الحربيين في بلادهم تجوز لنا بربا أو ميسر أو قمار بشروط:
أولها أن يكون التسلم والتسليم هناك في بلادهم، وأن يكون ذلك بمحض رضاهم وألا يؤدي ذلك إلى ضرر بمال المسلم أو دينه أو كرامته. وأن غلب الظن على النفع، لا أن تكون المسألة مراهنة.
هذا الذي ذكره علماء مذهبنا وعلى هذا الأساس نستطيع أن نوظف بعض أعمال صندوق التأمين الخيري هذا، في بلاد ذات نسبة فائدة عالية كأمريكا. لا أدري بقية المذاهب ما تقول في هذا الأمر، يكفي أن مذهبا معتبرا من المذاهب الكبرى يفتي بهذا ولدي النص مع رقم الصفحة ورقم الجزء، وحينما تريدون أن أدلكم فأنا أستطيع أن أدلكم على ذلك لمن لا يعلم ذلك. وفي اعتقادي أن الجميع يعلمون هذا أو الأكثر، على كل، إذا استطعنا أن نؤسس على هذا جواز وضع هذه الأموال هناك في استرباحها عن طريق الفائدة مع الحربيين في بلادهم بشروطها، نمت هذه الأموال وازدادت وحصل لدينا مؤسسة تأمينية خيرية إسلامية، والله تعالى الموفق، اللهم هذا رأيي فيما وصلت إليه لا أزعم أنه الحق فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان غير ذلك فمني، وأستغفر الله تعالى، وشكرا.(2/552)
الرئيس:
يا شيخ عبد اللطيف، أحب أن أشير إلى قضية الربا بين المسلم والحربي يعني هذه قضية معلومة، لكن ما وجه ذكر الحنفية أو غيرهم لحالة تجويز الربا بين المسلم والحربي. لأن الحنفية أنفسهم يقولون بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ربا بين مسلم وحربي)) وهذا الحديث لا أصل له فضلا عن أن يكون موضوعا. فطالما أن الدليل الذي بني عليه بهذا هو ليس دليلا شرعيا ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك كالرواية الثانية أنه لا ربا بين حر ورقيقه، فهاتان الراويتان غير صحيحيتين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا تأسس هذا القول، فطالما أن الأساس الذي بني عليه هذا القول غير سليم، فيبقى هذا القول مهجورا في مكانه.
أنا قصدي أردت الإيضاح حتى من جهة لفظ النبوة وإن كنتم لم تذكروه حتى لا يلتبس الأمر على الإخوان، أن المنزع في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ربا بين مسلم وحربي)) .
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
معلوم لديكم ولدى الجميع من العلماء الأفاضل أن الحديث إذا لم يثبت في قواعد المذهب لم يثبته بعض المحدثين وأكثرهم من علماء السنة، إذا لم يثبت الحديث على قواعد المذهب فهل رأيتم ما أخرجه الزيلعي في "نصب الراية" في تخريج هذا الحديث وحكمتم به؟ أم رأيتم ما قاله الحافظ الذهبي مثلا أو غيره من المتشددين، فكم حديث وضعه الحافظ الذهبي وهو عند الزيلعي من الحسان، نحن لا نستطيع أن نأخذ دائما بأقوال المتشددين في التوضيع وغيره. وإنما نأخذ تخريج الحديث. الحنفية من كتب المذهب، من كتب حديث المذهب، فلدينا " نصب الراية" للزيلعي، أنا الآن يغيب عن بالي تخريج هذا الحديث هناك، ونحتكم إليه، فإن قال الزيلعي إنه لا أصل له نرجع عن هذا الحكم، وإذا قال الزيلعي: له أصل، إذن فهذا من المختلف فيه ويبقى الحكم المذهبي محفوظا، وشكرا.(2/553)
الشيخ علي السالوس:
الزيلعي ذكر الحديث في "نصب الراية" وضعفه. الزيلعي نفسه ذكر هذا وقال: قلت: غريب، وهو يأتي، حديث الحنفية بدلا من أن يقول ضعيف فالاصطلاح الذي يتبع أن يقول غريب، فهو إذن نفس الزيلعي رفض الأخذ بهذا الحديث، والحنفية أنفسهم رفضوا الأخذ بهذا الحديث، وهذا ليس رأي الحنفية ولكنه رأي الإمام أبي حنيفة فقط.
الرئيس:
أحب أن أنبه إلى مسألة أخرى جانبية وهي اصطلاح الزيلعي في نصب الراية إذا قال في هذا الحديث إنه غريب، فهو لا يريد الغرابة الاصطلاحية عند المحدثين، وإنما يريد أنه لم يجده.
الشيخ علي السالوسي:
يريد الضعف.
الرئيس:
لا، يريد أنه لم يجده، وهذه النكتة نبه عليها العلامة قاسم بن قطلبغا في كتابه " منية الألمعي فيما فات تخريجه على نصب الراية للزيلعي " وهو أخذها من بعض تعليقات الزيلعي نفسه في بعض سياقات الحديث.(2/554)
الشيخ محمد الزبير:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
بالنسبة للنقطة الأخيرة أيضا أريد أن أذكر قضية دار الحرب، فالواقع العلاقات الدولية الآن والاتفاقات بين الدول قد تعطينا مفهوما آخر غير مفهوم دار الحرب الذي ذكر في كتب الفقه. فلذلك من المستبعد جدا أن نأخذ بهذا الراي حتى ولو كان صحيحا في ظروف الأوضاع الحالية والعلاقات الدولية، هذه نقطة أريد أن أذكرها.
النقطة الثانية في الواقع أن التأمين التعاوني يجب أن نحدد مفهومه تحديدا دقيقا حتى نستطيع أن نخرجه تخريجا فقهيا شرعيا. فهل هو عقد تبرع محض أو هو عقد يشتمل على تبرع ومعاوضة. في الواقع الطريقة أو الأسلوب المتبع في وقتنا الحاضر هو عقد يشتمل على النقطتين. هناك أشكال عديدة في الواقع للتأمين التعاوني. ولكن أذكر الشكل السائد في الوقت الحاضر الممارس الذي أشار إليه الأخ عبد اللطيف. تبدأ الفكرة على أساس عقد بين المستأمن وبين المؤمن، على شروط. فهذه الشروط، أول شرط أن يدفع قسطا محددا معينا على حسب القيمة المؤمن لها، فتختلف باختلاف الحالة وباختلاف القيمة، قيمة السيارة إذا كانت سيارة عادية أو سيارة كاديلاك أو سيارة روزرويس، حسب قيمة الشيء المؤمن له، ثم هذه المبالغ حيثما تجمع تستثمر، وممكن هناك عدد من الطرق للاستثمار ولكن لا تهمنا قضية الاستثمار لأنه نستطيع أن نستخرج أو نستصفيها نستنقذها من شوائب الربا ونستطيع أن نستثمر هذه الأموال بعيدا عن أشكال الربا وحتى في التأمين التجاري ممكن أن نأخذ بنفس الفكرة ولكي نستنقذ شوائب الربا ويصبح تجاريا محضا. إلا أن العلاقة بين الشكلين، الشكل التجاري والشكل التعاوني في شكله الحاضر أنه في أول الأمر يبدأ عقدا تبرعيا وفي مفهومي والله أعلم، أن المؤتمرات السابقة قد أقرت الشكل التعاوني الذي يعتمد على التبرع المحض بحيث يضع المؤمنون أقساطهم وتنتهي ملكيتهم لهذه الأموال وتصبح وقفا يخفف الضرر حسب الحالات الموجودة ولا يمكن أن يلتزم الصندوق بدفع مبالغ معينة في حالة الضرر بحيث إنه يضمن أن يسدد هذه المبالغ فهنا لا بد للإخوة الفقهاء في حالة التكيف أن يعتبروا هذه النقاط:(2/555)
أولا: أنه ليس تبرعا محضا وإنما تبرع مع معاوضة؛ لأنه هناك شرط في ذلك أن يعوض في حالة الضرر، والخسارة بالمبالغ المتفق عليها أيضا، ثم من الناحية الفنية البحتة في اعتقادي أن التأمين بالشكل التعاوني يستلزم إعادة تأمين، وإعادة التأمين تستلزم إعادة تأمين أيضا، إذا التزمنا بقضية دفع المبالغ حسب الاتفاق. أما إذا كانت قضية تبرع وتخفيف المضار وتوزيعها حسب حالات الصندوق فهذا لا غبار عليه. فإذن لا بد أن نناقش هذا الموضوع من هذه الجوانب المختلفة؛ لأنه قد لا تختلف الصورة كلية بين التعاوني كما قال الدكتور الزرقاء أن التعاوني قد يكون شبيها تماما بالتجاري، إلا أن قضية استخدام رؤوس الأموال في الربا، وهذه قضية جانبية، أنا أعتقد نركز قضايانا في قضية التأمين والعقد هذا على شيء احتمالي مقدر وفيه التزام وفيه ضمان من جانب المؤمن للمستأمن.
الشيخ إبراهيم الغويل:
الحقيقة عندي ثلاث نقاط. أولا نقطة بصفة عامة علي، وليعذرني إخوتي، على روح المناقشات، ثم تلخيص فيما يبدو لي في هذا الموضوع الذي نراه. ثم ملحوظة ثالثة نحو نظرة مستقبلية في هذه المواضيع.
النقطة الأولى فيما يتعلق بجو المناقشات – يبدو أننا بهذا الشكل سنظل باستمرار نناقش كل موضوع ثم نختلف حوله ثم نحيله إلى لجنة وتنتهي بهذه المقررات، هذه المناقشات فيما يبدو لي – وأذكر نفسي قبل أن أذكر إخوتي – تحتاج أن تسودها روح الشورى، والشورى هي بحث عن الحقيقة في مختلف الآراء كما يشور الإنسان العسل من مختلف خلايا النحل، الإنسان في الشورى يبحث عن الحق في قول أخيه، فإذا سمع قولا يغير به رايه، إنما أن جئنا كل منا برأيه وأراد أن يدلي به بغض النظر عما قيل قبله أو ما سيقال بعده لا شك أننا سننتهي في كل مسألة إلى خلاف وإحالة إلى لجنة وتختلف هذه اللجنة أن لم تسدها نفس الروح وهكذا. هذه الملحوظة الأولى، وأعتذر لإخوتي لا أخفيكم القول أنني حزنت خلال كل هذه المناقشات، يقال رأي ونشعر أننا نحن نقترب نحو خطوات عملية لمعالجة مشكلة تهم المسلمين وهي ضرورة، فإن لم تكن ضرورة فهي من الحاجيات الأساسية عند المسلمين، ثم نختلف من حيث لا ندري وننتهي إلى لا شيء.(2/556)
فيما يبدو لي في موضوع التأمين، بدت هناك في كلمة الدكتور الجناحي الحقيقة نقطتان أساسيتان، حتى أنا سميت أن إحداهما ستكون النقطة المستقبلية التي أقترحها عليكم، معالجة لما هو قائم مع إبقاء الطريق نحو معالجة مستقبلية. الرجل بدأ يقول أن موضوع الزكاة من الممكن أن ننظر له نظرة مستقبلية ونظرة تنظر إلى روح معنى الزكاة، سيؤكد بالإضافة إلى جوانب أخرى سيؤكد معنى تحقيق ضمان اجتماعي شامل للمجتمع المسلم. ومن الممكن أن يغنينا عن كافة البدائل. إذن هذا سأرجئه بالنسبة للنظرة المستقبلية، في واقع الحال الأمر الآن أوضح أمرا واضحا، ويبدو أننا خلال المناقشات ننتهي إليه أن أردنا أن نبحث عن الحقيقة في أقوالنا.
أولا: نحن جميعا فيما يبدو لي مجمعون على إنهاء شركات التأمين الخاصة التي تستهدف الربح، فقط، وتتاجر بأمور الناس بغض النظر عن إمكانية تخريجها أو ما إلى ذلك. هناك أمامنا نوعان آخران أو ثلاثة أنواع أخرى من التأمينات السائدة، قال البعض وهو أمر سلكته ومن الممكن أن تسلكه الحكومات أيضا، ويجب أن نكون نحن عمليين وندفع بأمور الناس نحو التدرج السليم أن تكون هناك تأمينات كهيئات حكومية، وأنا لا أعتقد أن هناك حكومة مسلمة اليوم تمتنع عن هذا أن عرفت أنه من الممكن أن تقوم بهذه الخدمة للمسلمين في ذلك البلد، في نفس الوقت يسير مع هذا المعنى إمكانية هيئات التأمين التبادلي مدعومة بهيئات التأمين التعاوني، هناك خطوات متدرجة، هذا كله ليس الحل الأمثل، نحن نقول أن هناك أولا خطوات يجب أن تتخذ، أولا يجب أن تنهى المتاجرة والمرابحة والاستغلال في مجال الأمور المتعلقة بدفع الأخطار عن المسلمين.
ثانيا: أن نقول نحن نحض على تشجيع التأمين التعاوني والتبادلي بين مختلف الجماعات الإسلامية، ومن ذلك أن تقوم الحكومات الإسلامية بهذه المسئولية أيضا.
ثالثا: هذه خطوات نحو تأكيد معنى التأمين الحقيقي الذي يقوم على أساس إسلامي ويجد أساسه في الزكاة وفي بند الغارمين.
يبدو لي أننا يجب أن نفكر بأمور كمواجهة لضرورات وحاجات المسلمين وندفع بها نحو مزيد من التطبيق الإسلامي الذي يقدم جديدا للإنسانية. إنما أن بقينا نبحث عن نقاط الخلاف، فسنجد نقاط خلاف في كل قول وسنختلف جميعا وسنحيل إلى لجان وتختلف اللجان وتنتهي إلى لا شيء. واقع المسلمين اليوم أن هناك ضرورات، واقع المسلمين هناك حاجات ليست أمورا تكميلية. المسلمون اليوم إما أن نقدم لهم حلا وندفع به نحو المستقبل ومزيد من التطبيق الإسلامي وإما سيستغنون عن أي كلام يسمعونه في هذا الموضوع.(2/557)
فيه ملاحظة أخرى وهي كما قلت نحو المستقبل دائما، أود أن يكون روح الإسلام وجهة الإسلام أنه نظام العالم الجديد للإنسانية كلها هو الذي يسود. ونظام عالمي جديد يقوم على أساس الإسلام يذكر أول ما يذكر أن ربي قبل أن يحرم الربا تحريما كاملا على مراحل نزول الآيات {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} الأصل ألا آكله، فالأصل أن المنع يبدأ المسلم أن يقدم القدوة من نفسه فكيف ننقلب كأننا بني إسرائيل، نقول: تعامل مع أخيك لا تتعامل بربا ولكن مع الآخرين استغلهم كما تريد.
سيدي أنا أود نفكر بروح البحث عن الحقيقة، البحث على أن هذا الإسلام يقدم نظاما عالميا جديدا وإنا نحن حين نعالج واقع اليوم نعالجه لكي ندفعه نحو هذه الوجهة.
إذن نمنع هذا الشركات المستغلة الآتية إلينا من الخارج التي تدفع بأموالنا إلى الخارج، ولكن أيضا ندفع نحو التأمين التعاوني والتبادلي ونؤكد على الحكومات بأن تقوم بهذه المسئولية في طريق تأكيد الضمان الاجتماعي الشامل الذي تقدمه الزكاة. ولقد استمعنا إلى الأخ المحاضر وهو يقول: إنه بصدد دراسة وتقديم إحصائيات تبين كيف أن بند الزكاة من الممكن أن يغطي أغلب الالتزاماتت الاجتماعية والضمانات الاجتماعية. فإذا كنا نستمع فنتتبع أحسن ما قيل ذلك سيؤدي بنا إلى حلول. أن كنا نستمع لكي نختلف فأعتقد أننا سننتهي بكل مشكلة إلى خلافات لا حد لها وإحالتها إلى لجنة ولا ندري أين ننتهي وشكرا، وآسف.
الرئيس:
هناك كلمات لثلاثة من المشايخ، فإذا سمحوا لنا وتنازلوا عنها لأن هذا الموضوع استهلك فيه من الوقت الشيء الكثير.(2/558)
الشيخ حسن عبد الله الأمين:
لقد أعطيتني الفرصة سيادة الرئيس.
الرئيس:
تفضل.
الشيخ حسن عبد الله الأمين:
أريد أن أتحدث في ثلاث نقاط، حديث سريعا. النقطتان الأوليان أثارهما الأخ مقدم الموضوع الأستاذ عبد اللطيف الجناحي. والنقطة الثالثة أثارها الأخ عبد الله إبراهيم ممثل ماليزيا فيما أعتقد في وقت سابق قبل فترة الاستراحة، وتحدث حولها شيئا ما الدكتور الزبير. أما ما أثاره الاخ عبد اللطيف فالنقطة الأولى فيه هي أن التأمين التعاوني يبدأ ضعيفا لقلة عدد المشتركين فيه، وقلة المال الذي يؤمن المخاطر التي قد تحدث لبعضهم. وأقترح لذلك أن تاخذ شركات التأمين التعاوني قروضا من البنوك الإسلامية كاحتياطي مدفوع تؤمن به هذه المخاطر العاجلة. وفي الحقيقة، منذ ثمان سنوات في السودان شركة تأمين إسلامية تعاونية على المبادئ التي ذكرها الأخر عبد اللطيف الجناحي. وفرت لهذا المحظور أو لهذا الخطر المتوقع شيئا بطريقة أخرى في أنه قانون الشركات في السودان وقد تكون كثير من الدول النامية لديها هذا الاتجاه في قوانين الشركات أنه لا يسمح بقيام أية شركة كانت إلا بمجلس إدارة ومبالغ معينة مقدرة سلفا كرأس مال لهذه الشركة من ضمنها شركة التأمين الإسلامية. فلم تستثن من هذا. فكان من الضرورة أن يكون هناك مجلس إدارة ومؤسسون ورأس مال لهذه الشركة، فاتخذت هذه حيلة ومخرجا، بل كان والحمد لله دعما لشركة التأمين الإسلامية. فأسست شركة تأمين الإسلامية برأس مال محدد وبأسماء أشخاص معينين ثم فصلت حقيبة المشتركين في التأمين التعاوني عن الشركة الأم ورأس مالها وأصبح التأمين التعاوني يدور في هذا الصندوق وأصحاب الحقائب المشتركين فيه إلى أن توسع إلى حد كبير والحمد لله واستغنى عن التأمين الذي كان موفورا له من خلال الصندوق ملك المؤسسين، فشخصية الشركة لدى المؤسسين منفصلة عن شخصية صندوق التأمين التعاوني، وأصحاب الحقائب المشتركين فيه منفصلون كاملا، وبذلك توفر هذا التأمين والحمد لله الذي أشار إليه الأخ عبد اللطيف الجناحي.
الثانية، أن الأخ عبد اللطيف أشار إلى أنه من يصيبه خطر من المؤمنين تأمينا تعاونيا جرت العادة لدى بعض شركات التأمين التعاوني أن يحرم من الأرباح وأن لا يعود عليه شيء من الفائض في نهاية السنة الحسابية لشركة التأمين. وهذا لم يجر في شركة التأمين الإسلامي في السودان فيما أعلم التي أسسها بنك فيصل الإسلامي. وهم يدخلون صاحب المخاطر مع من لم يصبه خطر في عائد الأرباح. هذا فيما يبدو لي اتجاه سليم؛ لأننا نحن تعاقدنا على التعاون جميعا ونتحمل الخطر جميعا فإذا فصلنا صاحب الخطر وحملناه الخطر وحده كأننا نقضنا مبدأنا من أساسه. ولا أدري ما هي الشركات التي تقوم بهذه الطريقة الأخرى التي أشار إليها الأستاذ.(2/559)
النقطة الثالثة التي أثارها الأستاذ عبد الله إبراهيم، هو طرح سؤالا: كيف يكون المؤمن تأمينا تعاونيا صاحب ملك فيما يتبرع به. وهي أساسا تقوم على أساس التبرع؟ كيف يعود إليه الفائض ويكون ملكا له؟ والحقيقة أنا أشكر الأخ على إثارة هذا الموضوع؛ لأنه منذ أن أنشئت شركة التأمين الإسلامية في السودان منذ ثمان سنين كان من حين لآخر يخطر ببالي هذا السؤال، وبكل أسف تجنبت التعمق فيه والتفكير الطويل والإجابة عليه دهرا طويلا، وأنا أشكره على إثارته الآن. ويبدو لي أن الطريق التي يجري به تحصيل أقساط شركات التأمين التعاونية، هي من الناحية الفنية نفس الطريقة التي تقدر بها أقساط التأمين على السيارة أو على الطائرة أو على السفينة بنفس الأسس الفنية التي تقدر بها حصص التأمين وأقساطه في شركات التأمين العادية، فيجري هذا في شركات التأمين التعاوني وتؤخذ هذه الحصص وتوضع في صندوق التأمين التعاوني، ثم بعد ذلك يقابل المخاطر التي تحدث من هذه الحصص يكون هو المتعاقد عليه تبرعا ويسقط وما يتبقى بعد ذلك يظل في ملكية صاحبه كما هو ويعود إليه في نهاية الوقت. يبدو لي أن الفكرة تسير على هذا الأساس وأنا أطرحها هكذا، كرأي فطير ليس مختمرا وأعتبره مؤشرا في التفكير لدى الإخوة الزملاء. وشكرا.(2/560)
الشيخ أحمد البزيع ياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم، الأخ عبد اللطيف أولا أنا مستبشر جدا بالمجمع الفقهي الذي قامت به الدول الإسلامية وهذه بشارة خير إن شاء الله تعالى استنادا إلى قوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} تعهد الله بحفظ ذكره، وأنتم من أهل العلم، والعلماء ورثة الأنبياء وبإذن الله نصل إلى نتيجة مرضية بإذنه تعالى ومجمع الفقه هذا مجمع فقهي وليس مجمعا سياسيا.
الأخ أنابني أن أجاوب فضيلة الشيخ محمد عن سؤال يقول: هل يستطيع الفرد العادي الذي لم يشترك في رأس مال الشركة هل يجب أن يكون عضوا حتى يمكن أن يؤمن؟ طبعا لا، يستطيع أي فرد عادي أن يؤمن عند هذه الشركة. ثم أحب أن أبين عندما ثبت لدينا ثبوتا يقينيا بحرمة شركات التأمين الربوية بدأنا وعملنا البديل يعني نحن لم ننتظر المجمع الفقهي أن يبحث ويعطينا القرار بدأنا في البديل ولله الحمد الآن عندنا عدة شركات تأمين وبدأنا بشركة تأمين الآن إعادة تأمين بخمسين مليون دولا مدفوع منها الآن تحت الطلب 25 مليون دولار، فالآن التوصية التي أود أن نبينها أن نوصي البلاد الإسلامية في تشجيع هذه الشركات وتكون هي البديل، في الحقيقة وصيتنا أن نشجع الشركات البديلة القائمة الآن ونشجعها بالانتشار وأن تسهل الحكومات الإسلامية مهمتها حتى تقوم برسالتها وتكون البديل. ثم بالنسبة للزكاة في الحقيقة الزكاة لها علاقة وثيقة جدا في التعويض ومن بنودها الغارمين وأنا صار بيني وبين رئيس أكبر بنك عالمي أمريكي عن بنود الزكاة وأبواب الزكاة تشمل الغارمين فقال: لو كنا نعلم هذا أنتم مقصرون في الإعلام عن دينكم. لو أننا نعلم فيه تعويضا. ثم توصية الأخ عبد اللطيف في الحقيقة أثني عليها لأن على المصارف الإسلامية حتى لما تقوم البلاد الإسلامية بإنشاء هيئات تعاونية، نوصي وصية بأن تكون هذه المصارف الإسلامية بما أنها قامت ونجحت من الجماهير الإسلامية المسلمة المؤمنة وبتأييد شعبي إسلامي منقطع النظير، في الحقيقة يا إخوان عندما بدأنا بيت التمويل الكويتي وجدت الناس على الباب كالإبل العطشى الظمآنة التي تريد أن تشرب لأن المسلم عندما تتاح له الفرصة في ممارسة عقيدته يأتي إليها راغبا، فالذي يحول في الحقيقة بين المسلمين وبين تطبيق عقيدتهم الإسلامية ذلك رجل ظالم لنفسه مبين. فنرجو أن نوصي أن على المصارف الإسلامية بما أنها حصلت على هذا التأييد، أن تقوم بتأسيس الجمعيات التعاونية أو التبادلية حتى تحل محل الشركات الربوية، هي في الحقيقة ليست شركات تأمين بل هي شركات ربوية حقيقة مثل ما وضح الأخ عبد اللطيف. وشكرا لكم.(2/561)
الرئيس:
شكرا، بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها المشايخ إنه من خلال البحوث العميقة في مسألة التأمين وإعادة التأمين سواء كان التأمين التعاوني أو التأمين التجاري ومن خلال هذه المداولات ومن خلال السماع لوجهات النظر في البديل الإسلامي فإننا نستطيع أن نكيف اتجاه أنظار، أن لم نقل الكل يكاد أن يكون الكل. وهو أن التأمين التعاوني لا شبهة فيه شرعا على الصفة المقررة لدينا، والتي سبق تقريرها من عدة مجامع ومحافل علمية.
ثانيا: أن التأمين التجاري قال الشيخ الضرير كلمة، أن هذا موضوع تخطاه الزمن، وقال الشيخ عبد السلام أن هذا موضوع أفتى به جموع من العلماء والذي تحرر أن هذا الموضوع الذي هو التأمين التجاري مر بعدد من المجامع العلمية ودور الدراسات الاقتصادية والدراسات الإسلامية وأن الذي اتجهت إليه أنظار أهل العلم ربما في بعضها يتجهون بالإجماع كما في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وقد استحضروا الشيخ مصطفى الزرقاء وهذا يدل على وجود خير في نفوسهم ليستنيروا بما لديه فانتهوا بالإجماع على تحريم التأمين التجاري بصوره الحاضرة بجميع دروبه وأشكالة الحاضرة، ثم أنه درس في مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة وكان فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء أحد أعضائه، فانتهى المجمع بالإجماع كما أجمع على التأمين التعاوني إباحة فإنه انتهى بالإجماع عدا الشيخ مصطفى الزرقاء إلى تحريم التأمين التجاري. ثم إنه كما تعلمون من قبل درس في دمشق ودرس في القاهرة ودرس في عدد من البلدان الإسلامية وكانت لرؤية الكثرة الكاثرة هي على القول بالمنع، وهذا القول الذي يقول بالجواز أو يحدد وجوها منه فإنه بقي طريدا ليس له من ينصره نصرا جماعيا. وذلك أن عقد التأمين التجاري هو عقد معاوضة مشتملة على الغرر والمخاطرة وعلى أسلوب الابتزاز والاستغلال والامتصاص لأن فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، إضافة إلى عنصر ربا الفضل أو النسأ فيه وإلى أنه عقد رهان والرهان لا يكون إلا على ما تحققت فيه مصلحة شرعية على ما هو منصوص عليه شرعا إلى غير ذلك من الوجوه التي تحف بهذا العقد. ثم إنني أريد أن أوضح مسألة مهمة في القرار الذي سيكون صدوره بإذن الله تعالى وهو أننا – الجواب على قدر السؤال – ما حكم إنشاء التأمين التجاري؟ أما قضية الضرورة، قضية الحاجة فهذه الأمور ليست محل سؤال وهذه يفتي بها الفقيه من ابتلي بها لأن الضرورة والحاجة تقدر بقدرها ولكل حالة ظروفها وملابساتها، لكن العبرة بالأصل وهو إنشاء عقود التأمين أو شركات ومؤسسات التأمين التجاري، تحرر كالآتي:
أولا: القول بإباحة التأمين التعاوني وأنه لا غبار عليه شرعا على ما هو موصوف هنا.
ثانيا: اتجاه الأكثرية في مجمعكم هذا إلى القول بحرمة التأمين التجاري.
ثالثا: مناشدة الدول بتكثيف إيجاد شركات التأمين التعاوني بصفتها المعتبرة شرعا، ثم تجسيد ذلكم البديل، شركات التأمين التعاوني على ما هو مقرر لدى المجامع السابقة في هذا.
وبهذا نكون انتهينا من بحثنا في هذا الموضوع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(2/562)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم 2
بشأن
التأمين وإعادة التأمين
أما بعد:
فإن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الثاني 1406 هـ/22 – 28 ديسمبر 1985م.
بعد أن تابع العروض المقدمة من العلماء والمشاركين في الدورة حول موضوع "التأمين وإعادة التأمين".
وبعد أن ناقش الدراسات المقدمة.
وبعد تعمق البحث في سائر صوره وأنواعه، والمبادئ التي يقوم عليها والغايات التي يهدف إليها.
وبعد النظر فيما صدر عن المجامع الفقهية والهيئات العلمية بهذا الشأن.
قرر:
1 – أن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد. ولذا فهو حرام شرعا.
2 – أن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون. وكذلك الحال بالنسبة لإعادة التأمين القائم على أساس التأمين التعاوني.
3 – دعوة الدول الإسلامية للعمل على إقامة مؤسسات التأمين التعاوني، وكذلك مؤسسات تعاونية لإعادة التأمين، حتى يتحرر الاقتصاد الإسلامي من الاستغلال ومن مخالفة النظام الذي يرضاه الله لهذه الأمة.
والله أعلم.(2/563)
حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائد
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. وبعد فهذا بحث عن:
حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائد:
أقدمه لمجمع الفقه الإسلامي استجابة لطلبه:
الفائدة التي تتعامل بها البنوك من ربا القرض الثابت تحريمه بالكتاب والسنة والإجماع، وإليكم البيان:
1 – أنواع الربا:
الربا نوعان: الأول ربا الديون، ويشمل ربا الجاهلية وربا القرض، والثاني ربا البيوع. ويشمل ربا النسيئة وربا الفضل.
2 – ربا الجاهلية:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . (1)
هذه الآية هي أول ما نزل في تحريم الربا، والمراد بالربا فيها ربا الجاهلية المعهود عند المخاطبين عند نزول الآية، وهو كما يقول ابن جرير الطبري: " أن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه، فيقول الذي عليه المال: أخر عني دينك وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك.. "
روى هذا التفسير لربا الجاهلية عن عطاء ومجاهد وقتادة. (2)
ويقول القرطبي: " أن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك فكانت إذا حل دينها قالت للغريم: إما أن تقضي وإما تربي. (3) .
فربا الجاهلية على هذا التفسير كان في اقتضاء الدين بعد حلول الأجل. والدين قد يكون أصله بيعا إلى أجل، وقد يكون قرضا بزيادة أو بغير زيادة، فإذا حل الأجل طالب البائع أو المقرض المدين فإن لم يكن عنده ما يفي به اتفقا على أن يمد الدائن الأجل ويزيد المدين المال، وهكذا عند حلول كل أجل.
__________
(1) سورة آل عمران 130.
(2) تفسير الطبري 6/8/ و 7/204 وانظر تفسير المنار 4/123.
(3) تفسير القرطبي 3/356، وانظر أيضا تفسير المنار 4/124(2/564)
3 – ربا القرض:
ربا القرض هو القرض الذي تكون فيه منفعة للمقرض مشروطة في العقد، وصوره كثيرة: منها أن يقرضه مالا على أن يرد له أكثر منه. (1)
وهذه هي الصورة المألوفة التي يتعامل بها الأفراد والبنوك وهي القرض بفائدة.
4 – هل يدخل ربا الفضل في ربا الجاهلية؟
ما نقلته عن الطبري في تصوير ربا الجاهلية لا يدخل فيه ربا القرض الذي تكون فيه الزيادة مشروطة في العقد الأول؛ لأنه كله في اقتضاء الدين بعد حلول الأجل. وعلل الشيخ محمد رشيد رضا هذا بقوله: "وكأنهم كانوا يكتفون في العقد الأول بالقليل، فإذا حل الأجل، ولم يقض المدين، وهو في قبضتهم اضطروه إلى قبول التضعيف في مقابلة الإنساء ". ثم قال " وما قالوه – الطبري وغيره – هو المروي عن عامة أهل الأثر، ومنه عبارة الإمام أحمد الشهيرة، وهي أنه لما سئل عن الربا الذي لا يشك فيه قال: هو أن يكون دين فيقول له: أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقض زاده في المال، وزاده هذا في الأجل". (2) .
5 – بعض ربا القرض يدخل في ربا الجاهلية قطعا:
التصوير الذي ذكره الطبري لربا الجاهلية وارتضاه الشيخ محمد رشيد رضا تدخل فيه صورة من صور ربا القرض قطعا، وهي إذا أقرضه مبلغا ثم طالبه به عند حلول الأجل فأمهله نظير زيادة يدفعها إليه المقترض، فإن هذه الصورة هي ربا الجاهلية بعينه، ويقابلها في التعامل المصرف المعاصر ما يعرف بالربح المركب، أو الفوائد على الفوائد، أو الفوائد التأخيرية، وقد أشار إلى هذه المعاملة الشيخ محمد رشيد رضا (3) ، والدكتور السنهوري. (4)
6 – بعض الروايات تجعل ربا القرض في صورته البسيطة من ربا الجاهلية تصور بعض الروايات ربا الجاهلية تصويرا ينطبق تمام الانطباق على القرض بزيادة مشروطة في القرض أو القرض بفائدة وهو ربا القرض: يقول أبو بكر الجصاص: " والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به ". ويقول أيضا: " ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط الزيادة ... " (5)
ويقول في موضع آخر: " معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلا من الأجل ". (6)
__________
(1) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 3/408 و 4/225 وفتح القدير 5/274.
(2) تفسير المنار 4/124
(3) تفسير المنار
(4) مصادر الحق 3/269
(5) أحكام القرآن 1/552
(6) أحكام القرآن 1/554.(2/565)
ويقول الإمام فخر الدين الرازي: " اعلم أن الربا قسمان: ربا النسيئة وربا الفضل، أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهورا متعارفا في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا، ويكون رأس المال باقيا ثم إذا حل الدين طالبوا المدين برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به ". (1)
ويقول الألوسي: " روى غير واحد أنه كان الرجل يربي إلى أجل، فإذا حل قال للمدين: زدني في المال وأزيدك في الأجل فيفعل، وهكذا عند كل أجل فيستغرق بالشيء الضعيف ماله بالكلية فنهوا عن ذلك ". (2)
فهذه الروايات صريحة في أن ربا الجاهلية كان يأخذ شكل القرض بزيادة كما يأخذ شكل الزيادة في الدين عند حلول الأجل إذا لم يكن عند المدين ما يفي به، ثم تتكرر الزيادة بتكرر التأخير في الأجل، وعلى هذا فحكم الزيادة في القرض عند العقد الأول – ربا القرض – وحكم الزيادة بعد حلول الأجل – ربا الجاهلية – واحد أو إن شئت فقل: إن ربا القرض من ربا الجاهلية، والنوعان يطلق عليهما ربا الديون، ويطلق عليهما بعض العلماء ربا النسيئة، كما رأينا في عبارة الفخر الرازي.
7– حكم ربا الديون:
حكم ربا الديون ويشمل كما قلنا ربا الجاهلية وربا القرض، هو الحرمة، وهذا الحكم ثابت بالقرآن والسنة والإجماع.
أما القرآن فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} . (3)
وعبارة {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ليس المراد منها تقييد الربا المنهي عنه بالأضعاف المضاعفة، وإنما المراد منها بيان الواقع. (4)
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . (5)
قال ابن جرير الطبري: " أن الذين كانوا يأكلون الربا من أهل الجاهلية كان إذا حل مال أحدهم على غريمه يقول الغريم لغريم الحق: زدني في الأجل وأزيدك في مالك، فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك: هذا ربا لأجل، فإذا قيل لهما ذلك قالا: سواء علينا زدنا أول البيع، أو عند محل المال، فكذبهم الله في قيلهم فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . يعني وأحل الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع، وحرم الربا، يعني الزيادة التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل وتأخيره دينه عليه ". (6) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . (7)
قال ابن جرير الطبري: " ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا قد قبضوا بعضه منهم ... وبقي بعض فعفا الله جل ثناؤه عما كانوا قد قبضوا قبل نزول الآية، وحرم عليهم اقتضاء ما بقي " (8)
ثم جاء قوله تعالى {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}
(9)
__________
(1) مفاتيح الغيب 2/370.
(2) روح المعاني 4/49.
(3) سورة آل عمران 130.
(4) روح المعاني 4/69.
(5) سورة البقرة 275.
(6) تفسير القرطبي 6/12 ر 13.
(7) سورة البقرة 278.
(8) تفسير القرطبي 6/22.
(9) سورة البقرة 279.(2/566)
مبينا بيانا شافيا أن أخذ أي زيادة على رأس المال ظلم منهي عنه.
وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)) . (1)
واضح أن هذه السنة مؤكدة لما في القرآن من تحريم أخذ أي زيادة على رأس المال.
ومن السنة ما روي عن علي رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة، وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل قرض جر منفعة فهو ربا)) (2)
وهذا الحديث وإن كان في سنده مقال إلا أن معناه يؤيده القرآن، ولهذا فقد اتفقت المذاهب الأربعة على العمل به.
وأما الإجماع فقد نقل عدد من العلماء الإجماع على تحريم ربا الديون بنوعيه ربا الجاهلية وربا القرض.
قال ابن رشد: " واتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين: في البيع، وفيما تقرر في الذمة من بيع أو سلف أو غير ذلك، فأما الربا فيما تقرر في الذمة فهو صنفان متفق عليه وهو ربا الجاهيلة الذي نهى عنه، وذلك أنهم كانوا يسلفون بالزيادة وينظرون فكانوا يقولون: أنظرني أزدك، وهذا هو الذي عناه عليه الصلاة والسلام بقوله في حجة الوداع: " ألا وأن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب ". (3)
وقال النووي: " أجمع المسلمون على تحريم الربا وعلى أنه من الكبائر ". (4)
ويقول ابن قدامة: " وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بلا خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا ". (5)
ويقول القرطبي: "أجمع المسلمون نقلا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا. ولو كان قبضة من علف كما قال ابن سعود، أو حبة واحدة ". (6)
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام القسم الثاني 603.
(2) نيل الأوطار 5/246 وانظر أيضا سبل السلام
(3) بداية المجتهد 2/128.
(4) المجموع 9/442.
(5) المغني مع الشرح الكبير 4/360.
(6) تفسير القرطبي 3/241.(2/567)
8 – النوع الثاني: ربا البيوع
عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كانت يدا بيد)) . رواه أحمد ومسلم. (1)
بين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وغيره من الأحاديث الصحيحة الأصناف التي يجري فيها ربا البيوع وحكمه، وقد أجمع الفقهاء على جريان ربا البيوع في هذه الأصناف الستة الواردة في الحديث، واختلفوا في جريان الربا في غيرها، ولكنهم اختلفوا في تحديد الأصناف التي تلحق بها بسبب اختلافهم في علة جريان الربا في الأصناف الستة. (2)
وربا البيوع يشمل كما قلنا ربا النسيئة وربا الفضل، فإذا بيع الصنف بصنفه حرم فيه النساء والتفاضل، أي التأخير والزيادة، وإذا بيع الصنف بصنف آخر حرم النساء وجاز التفاضل، وقد أجمع العلماء على هذا الحكم عملا بحديث عبادة، إلا ما روي عن ابن عباس من إنكاره الربا في التفاضل. (3)
9 – ربا البيوع لا يجري إلا في الأموال الربوية وربا الديون يجري فيها وفي غيرها:
يتبين مما ذكرناه أن ربا البيوع في الأموال الربوية وحدها، وهي الأصناف الستة وما يلحق بها عند جمهور الفقهاء، أما ربا الديون فيجري في الأموال الربوية وفي غيرها باتفاق الفقهاء، وهذا فارق هام بين نوعي الربا ترتب على عدم مراعاته خطأ جسيم وقع فيه بعض الباحثين، فأجازوا الفائدة التي تتعامل بها البنوك بكل صورها ومقاديرها على أساس أن النقود الورقية التي نتعامل بها في الوقت الحاضر ليست من الأموال الربوية.
__________
(1) منتقى الأخبار مع نيل الأوطار 5/202.
(2) ينظر تفصيل ذلك مع باقي الأحاديث في نيل الأوطار 5/204 وما بعدها.
(3) بداية المجتهد 2/128.(2/568)
ونورد فيما يلي النصوص التي تثبت أن ربا الديون – ومنه الفوائد التي تتعامل بها البنوك –يجري في الأموال الربوية وفي الأموال غير الربوية.
روي عن زيد أنه كان يقول: إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن (1) يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل يقول له: تقضيني أو تزيدني أن كان عنده شيء يقضيه قضى وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك أن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم حقة، ثم جذعة، ثم رباعيا، ثم هكذا إلى فوق، وفي العين (2) يأتيه فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا، فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة أو يقضيه، قال: فهذا قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} . (3)
فهذا نص صريح في أن ربا الجاهلية كان في الذهب والفضة وفي الحيوان أيضا.
أما ربا القرض فيجري في كل ما يجوز فيه القرض، سواء أكان من الأموال الربوية أم من غيرها.
وإليكم هذه النصوص من كتب الشافعية:
يقول الشيرازي: " يجوز قرض كل مال يملك بالبيع ويضبط بالوصف؛ لأنه عقد تمليك يثبت العوض فيه في الذمة فجاز فيما يملك ويضبط بالوصف كالسلم، فأما ما لا يضبط بالوصف كالجواهر وغيرها ففيه وجهان: أحدهما لا يجوز؛ لأن القرض يقتضي رد المثل، وما لا يضبط بالوصف لا مثل له، والثاني يجوز؛ لأن ما لا مثل له يضمنه المستقرض بقيمته. والجواهر كغيرها في القيمة". (4)
ويقول الشيرازي أيضا: "ولا يجوز قرض جر منفعة مثل أن يقرضه ألفا على أن يرد عليه أكثر منه ". (5)
__________
(1) أي العمر يريد بها أسنان الإبل.
(2) فسر الشيخ محمد شاكر العين بالذهب والفضة وأشباهها.
(3) تفسير الطبري 7/205.
(4) المهذب 1/203 وانظر أيضا نهاية المحتاج 4/220.
(5) المهذب 1/204.(2/569)
وهذا صريح في أن ربا القرض يجري في الأموال الربوية وفي غيرها.
ويقول الرملي المتوفى 1004 هـ في شرحه لعبارة النووي "ويرد المثلي في المثلي": " لأنه أقرب إلى حقه، ولو في نقد بطلت المعاملة به، فيشمل ذلك ما عمت به البلوى في زماننا في الديار المصرية من إقراض الفلوس الجدد ثم إبطالها وإخراج غيرها وإن لم تكن نقدا " (1)
ويقول أيضا: ولا يجوز قرض نقد أو غيره أن اقترن بشرط رد زيادة على القدر المقرض. (2)
وعلى هذا فربا القرض لا يجوز في مذهب الشافعية كما لا يجوز عند غيرهم سواء أكان المال ربويا أم غير ربوي.
هذا وفي قوله تعال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} ما يفيد أن ربا الديون الذي وردت فيه الآية يكون في كل مال، والنقود الورقية مال من غير شك.
يتضح مما تقدم أن الفائدة التي تدفعها البنوك عند الاقتراض من الغير والفائدة التي تأخذها عند قرض الغير ربا محرم بإجماع المسلمين سواء اعتبرنا النقود الورقية من الأموال الربوية – وهو الحق – أو لم نعتبرها؛ لأن هذه الفائدة من ربا الديون وليست من ربا البيوع، ولا يشترط في ربا الديون أن يكون المال من الأصناف الستة الربوية أو ما يلحق بها.
وتشمل الحرمة كل أنواع التعامل بفائدة، فتشمل القرض بفائدة قليلة أو كثيرة، بسيطة أو مركبة، كما تشمل القرض للاستهلاك والقرض للانتاج (التمويل) وتشمل أيضا فتح الاعتماد بفائدة وتشمل أيضا خصم الأوراق التجارية؛ لأن هذه العملية في حقيقتها قرض بفائدة، فالبنك عندما يتسلم الورقة التجارية التي تكون مستحقة الدفع بعد شهر ويدفع لصاحبها أقل من قيمتها، كأنه يقرض صاحبها مبلغا ليأخذ أكثر منه بعد شهر.
والله أعلم.
__________
(1) نهاية المحتاج 4/223.
(2) نهاية المحتاج 4/225.(2/570)
حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائد
فضيلة الشيخ محمد علي عبد الله
المراد هنا من كلمة الفوائد لغة الزيادة التي تحصل للإنسان من مال أو علم، وهي عبارة عن ربح المال في زمن محدد وبسعر محدد. ونحن نعلم أن الربا يعتبر من البيوعات الفاسدة المنهي عنها نهيا مغلظا ويعبر عن الربا بالزيادة. وذلك لقوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي علت وارتفعت. وقوله تعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أي أكثر عددا.
وقد عرف الفقهاء الربا اصطلاحا بأنه زيادة أحد البدلين المتجانسين من غير أن يقابل هذه الزيادة عوض.
وينقسم الربا المشار إليه إلى قسمين: 1 – ربا النسيئة. 2 – ربا الفضل.
ويعتبر ربا النسيئة أكثر رواجا في عصرنا الحاضر وهو الذي تتعامل به المصارف في وقتنا هذا.
ويقصد بربا النسيئة زيادة أحد البدلين المتجانسين مقابل تأخير الدفع. وهو على عموم الفقهاء كبيرة من الكبائر، حرمه الله تعالى بقوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} .
والربا المقصود به هنا هو الربا المعروف لدى العرب في الجاهلية؛ إذ كان العربي في ذلك العصر إذا داين شخصا لأجل وحل موعده فإنه يقول لمدينه: أعط الدين أو أرب، أي إما أن تعطي الدين أو تؤخره بالزيادة، ومثاله أيضا ما كان متعارفا عندهم من أن يدفع أحدهم للآخر مالا لمدة ويأخذ كل شهر قدرا معينا، فإذا حل موعد الدين ولم يستطع المدين أن يدفع رأس المال أجل له مدة أخرى بالفائدة التي يأخذها منه وهو الربا الغالب في عصرنا، تتعامل به أغلبية المصارف العصرية من إعطاء ما يؤجل بفائدة سنوية أو شهرية على حسب المائة. وهذا النوع من الربا حرمه الله عز وجل ونهى عنه كافة الأمم؛ لما فيه من إرهاق المضطرين، والقضاء على عوامل الرفق والرحمة بين الناس كما ينزع التعاون والتناصر بين الناس. فيصبح الإنسان ماديا يستغل أخاه ويرده إلى أرذل العمر. رغم أن الله تعالى قد أوصى الأغنياء بالفقراء وجعل لهم حقا معلوما في أموالهم. وشرع القرض لإغاثة الملهوفين وإعانة المضطرين.(2/571)
وقد ورد النهي عن الربا في آية آل عمران في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . فالله تعالى في هاته الآية الكريمة يلفت نظر المرابين لما قد يؤول إليه أمر الربا من حصر الأموال في فئة المرابين مع تحطيم المدين وذلك بإضعاف ماله من جراء تراكم فوائد الربا، وعندما يصبح عاجزا عن تسديد ديونه يقع الحوز على بقية أمواله وبذلك يقع القضاء على ما بقي في المدين من حياة.
ومن الملاحظ أن بعض الفقهاء أردف بأن القرض بفائدة يعد ربا وبالتالي اقتراض المال مع التسديد بفائدة لا يعد بيعا. في حين أن الربا عقد بيع لا بد له من صيغة أو ما يقوم مقامها.
وقد أردف عليهم جمهور الفقهاء بحجتهم على اعتبار أن القرض بالفائدة ينجر عنه أكل أموال الناس بالباطل وبالتالي فإن مضار الربا متوفرة فيه وعلى هذا الأساس تكون حرمته كحرمة الربا.
والنوع الثاني من الربا هو ربا الفضل وهو بيع أحد الجنسين بمثله بدون تأخير في القبض وهذا النوع من الربا حرام أيضا.
ومن الملاحظ أن مثل هذا الربا ليس له تأثير في المعاملة لقلة وقوعه.
وخلاصة القول أن تعامل المصرفي المعاصر بالفوائد يدخل ضمن البيوع الفاسدة التي تقوم على الربا وهذا حرام، والله جل جلاله جعل المرابين خارجين عليه، ومحاربين له ولرسوله، ومن يقدم على ذلك فإنه يعرض نفسه للتهلكة.(2/572)
حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائد
الدكتور علي أحمد السالوس
محتوى البحث
- تقديم.
- وظيفة البنك.
- ودائع البنوك عقد قرض شرعا وقانونا.
- القرض الاستهلاكي والقرض الإنتاجي.
- القرض الإنتاجي الربوي وشركة المضاربة.
- الفرق بين القرض والمضاربة.
- الثابت والمتطور في القرض والمضاربة.
- النص والاجتهاد في المضاربة.
- ابن تيمية يبين أن المضاربة ثابتة بالسنة.
- هل البنك فقير حتى نقرضه؟
- هل الربا يحل بالعادة.. والرضا والاستفادة؟!
- المنفعة للمقرض.
- الأدلة من كتب السنة.
- دفتر التوفير.
- الإقراض العادي والإقراض بفتح الاعتماد.
- خصم الأوراق التجارية قرض ربوي.
- الخاتمة.(2/573)
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
تقديم
الحمد لله، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستهديه ونسأله عز وجل العون والرشاد، وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل. والصلاة والسلام على الرسول المصطفى خير البشر، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فمن المعلوم أن المعاملات في الإسلام تجمع بين الثبات والتطور، فالربا والغش والاحتكار من الأشياء التي حرمها الإسلام منذ أربعة عشر قرنا، وهي حرام إلى يوم القيامة، في كل زمان وفي كل مكان، مهما اختلفت الصور والأشكال. فليس لأحد أن يحل صورة مستحدثة أو شكلا جديدا ما دام في جوهره يدخل تحت ما حرمه الله سبحانه وتعالى.
والبيع حلال إلى يوم يبعثون، ولكن نقود اليوم ليست كنقود عصر التشريع، ومن سلع اليوم ما لم يعرفه العالم من قبل، واستحدثت أشكال يتعامل بها الناس في بيوعهم. وما دام البيع يخلو من المحظور فليس لأحد أن يقف به عند شكل تعامل به المسلمون في عصر معين.
لهذا كان من الضروري لمن يدرس فقه المعاملات المعاصرة أن يميز بين الثابت والمتطور، وأن ينظر إلى التكييف الشرعي للصور المستحدثة حتى يمكن بيان الحكم الشرعي، وأضرب هنا هذا المثال:
من أحدث ما توصلت إليه بعض البنوك الربوية أنها جعلت راتبا شهريا لمن يودع لديها مبلغا معينا، وحددت الراتب تبعا لمقدار ما يودع. ويعلن عن هذا النوع من التعامل في الصحف دعوة وترغيبا للناس.
وإذا تركنا هذه المؤسسة الحديثة بمشروعها المستحدث ونظرنا إلى المعاملات في العصر الجاهلي وجدنا من صور الربا صورة اشتهرت بين الناس، وهي: أن يدفع أحدهم ماله لغيره إلى أجل، على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا، ورأس المال باق بحاله.
وإذا نظرنا إلى ما قبل العصر الجاهلي وجدنا هذه الصورة في الدولتين الإغريقية والرومانية فقد جرى العرف في كلتا الدولتين بأن الفائدة السنوية يؤديها المدين على أقساط شهرية!
(انظر دراسات إسلامية لأستاذنا الجليل المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز – ص 150)(2/574)
فودائع البنوك ذات الراتب الشهري صورة (طبق الأصل) لتعامل ربوي اشتهر بين أهل الجاهلية، وعند الإغريق والرومان.
فمن قال بتحريم فوائد هذه الودائع فقد أصاب، حيث رد الصورة إلى أصلها الجاهلي. ومن ذهب إلى التحصيل فربما لم ينظر نظرة عميقة فاحصة.
وإني إذ أتشرف بتقديم هذا البحث لمؤتمركم الموقر أرجو ألا أكون قد جاوزت الحد إذا جرى القلم بذكر بعض الفتاوى الشرعية، فإن البحث إنما قدم ليقول السادة العلماء الأجلاء كلمتهم ويصدروا فتواهم، غير أني أشير إلى فتاوى سبقت لعدد من المؤتمرات، ولمؤتمركم هذا أن يصدر ما يؤكدها ويدعمها أو يعارضها.
نسأل الله عز وجل التوفيق والسداد، وأن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يجعل هذا المؤتمر مباركا طيبا، معليا لكلمته، داحضا للباطل، مبطلا للشبه التي يثيرها المثيرون.
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}
ولله الحمد في الأولى والآخرة، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى.
وظيفة البنك
كلمة " البنك " من الألفاظ التي أقرها مجمع اللغة العربية، وجاء التعريف في معجمه الوسيط بقوله:
(البنك) : مؤسسة تقوم بعمليات الائتمان بالاقتراض والإقراض.
وهذا التعريف يبين وظيفة البنك، وهو يتفق مع تعريف رجال الاقتصاد.(2/575)
عرف أحد أساتذة الاقتصاد البنك بقوله:
"يمكن تعريف البنك بأنه المنشأة التي تقبل الودائع من الأفراد والهيئات تحت الطلب أو لأجل، ثم تستخدم هذه الودائع في منح القروض والسلف ".
وتحدث أستاذ آخر عن أعمال البنوك فقال:
" يمكن تلخيص أعمال البنوك التجارية في عبارة واحدة هي:
التعامل في الائتمان أو الاتجار في الديون: إذ ينحصر النشاط الجوهري للبنوك في الاستعداد لمبادلة تعهداتها بالدفع لدى الطلب بديون الآخرين، سواء أكانوا أفرادا أم مشروعات أم حكومات. ويقبل الأفراد هذه التعهدات المصرفية. وهي التي تعرف باسم الودائع الجارية – في الوفاء بما تزودهم به البنوك من اعتمادات وسلف نظرا لما يتمتع به التعهد المصرفي بالدفع لدى الطلب من قبول عام في تسوية الديون.
وهكذا تتوصل البنوك التجارية إلى مزاولة نشاطها الذي تبرز به وجودها وتستمد من القيام به أرباحها، بالاضطلاع تارة بمركز الدائن، وتارة بمركز المدين " اهـ.
(التعريف الأول للدكتور إسماعيل محمد هاشم. انظر كتابه مذكرات في النقود والبنوك ص 43.
والأستاذ الآخر هو الدكتور محمد زكي شافعي – راجع كتابه: مقدمة في النقود والبنوك ص 197) .
البنك إذن تاجر ديون، والفوائد التي يدفعها ترجع إلى مقدار الدين. والزمن الذي يمكثه هذا الدين، ومعظم كسب البنوك من هذه الفوائد، حيث تأخذ قروضا بسعر أقل مما تقرض.(2/576)
ودائع البنوك عقد قرض شرعا وقانونا
ذهب أكثر من تكلم عن ودائع البنوك إلى أنها تعتبر قرضا، ويشيع بين آخرين أنها وديعة، حيث يقال: نحن لا نقرض البنك وإنما نودع لديه. وذهب بعض من أراد أن يستحل فوائد البنوك إلى القول بأن هذه الفوائد تعتبر أجرا لاستعمال النقود أي أن الودائع تدخل تحت عقد الإجارة.
ولعل من المفيد هنا أن نذكر ما يبين الفرق بين العقود الثلاثة كما جاء في الفقه الإسلامي: عقد القرض ينقل الملكية للمقترض، وله أن يستهلك العين، ويتعهد برد المثل لا العين. والمقترض ضامن للقرض إذا تلف أو هلك أو ضاع، يستوي في هذا تفريطه وعدم تفريطه. أما الوديعة فهي أمانة تحفظ عند المستودع. وإذا هلكت فإنما تهلك على صاحبها لأن الملكية لا تنقل إلى المستودع، وليس له الانتفاع بها، ولذلك فهو غير ضامن لها إلا إذا كان الهلاك أو الضياع بسبب منه.
والعقد الثالث وهو الإجارة: فمن المعلوم أنه لا ينقل الملكية للمستأجر وإنما يعطيه حق الانتفاع مع بقاء العين لصاحبها ويدفع أجرا مقابل هذا الانتفاع , ولذلك يطلق على الإجارة " بيع المنافع " فتجوز إجارة كل عين يمكن أن ينتفع بها منفعة مباحة مع بقاء العين بحكم الأصل، ولا تجوز إجارة ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالطعام، فلا ينتفع به إلا باستهلاكه، والإجارة عقد على المنافع، فلا تجوز لاستيفاء عين واستهلاكها، ومثل الطعام النقود، فلا يمكن الانتفاع بها إلا بإنفاقها في الشراء أو غيره، أي باستهلاك العين، والعين المستأجرة أمانة في يد المستأجر، أن تلفت بغير تفريط لم يضمنها.
وفي ضوء ما سبق يمكن القول بأن ودائع البنوك سميت بغير حقيقتها فهي ليست وديعة؛ لأن البنك لا يأخذها كأمانة يحتفظ بعينها لترد إلى أصحابها، وإنما يستهلكها في أعماله ويلتزم برد المثل.
وهذا واضح في الودائع التي يدفع البنك عليها فوائد، فما كان ليدفع هذه الفوائد مقابل الاحتفاظ بالأمانات وردها إلى أصحابها.
أما الحسابات الجارية فمن عرف أعمال البنوك أدرك أنها تستهلك نسبة كبيرة من أرصدة هذه الحسابات.(2/577)
كما أن البنك في جميع الحالات ضامن لرد المثل، فلو كانت وديعة لما كان ضامنا، ولما جاز له استهلاكها.
ومن الواضح الجلي أن ودائع البنوك لا تدخل في باب الإجارة، ويكفي أن ننظر إلى طبيعة النقود، وإلى عملية الإيداع من حيث الملكية والضمان والاستهلاك.
ولم يبق إلا القرض وهو ينطبق تماما على عقد الإيداع.
وإذا نظرنا إلى القانون نجد أن تشريعات معظم الدول العربية تعتبر هذه الودائع قرضا، قال العلامة الأستاذ الدكتور عبد الرازق السنهوري في كتابه (الوسيط في شرح القانون المدني) : " ويتميز القرض عن الوديعة في أن القرض ينقل ملكية الشيء المقترض إلى المقترض على أن يرد مثله في نهاية القرض إلى المقرض، أما الوديعة فلا تنقل ملكية الشيء المودع إلى المودع عنده بل يبقى ملك المودع ويسترده بالذات. هذا إلا أن المقترض ينتفع بمبلغ القرض بعد أن أصبح مالكا له، أما المودع عنده فلا ينتفع بالشيء المودع بل يلتزم بحفظه حتى يرده إلى صاحبه.
ومع ذلك فقد يودع شخص عند آخر مبلغا من النقود أو شيئا آخر مما يهلك بالاستعمال ويأذن له في استعماله، وهذا ما يسمى بالوديعة الناقصة.
وقد حسم التقنين المدني الجديد الخلاف في طبعية الوديعة الناقصة، فكيفها بأنها قرض. وتقول المادة 726 مدني في هذا المعنى: إذا كانت الوديعة مبلغا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال، وكان المودع عنده مأذونا له في استعماله اعتبر العقد قرضا.
أما في فرنسا فالفقه مختلف في تكييف الودائع الناقصة. والرأي الغالب هو الرجوع إلى نية المتعاقدين. فإذا قصد صاحب النقود أن يتخلص من عناء حفظها بإيداعها عند الآخر فالعقد وديعة. أما أن قصد الطرفان منفعة من تسلم النقود عن طريق استعمالها لمصلحته فالعقد قرض. ويكون العقد قرضا بوجه خاص إذا كان من تسلم النقود مصرفا " (5/428- 429) وقال بعد ذلك في حديث عن صور مختلفة لعقد القرض: " وقد يتخذ القرض صورا مختلفة أخرى غير الصور المألوفة.. من ذلك إيداع نقود في مصرف، فالعميل الذي أودع النقود هو المقرض، والمصرف هو المقترض، وقد قدمنا أن هذه وديعة ناقصة وتعتبر قرضا " (5/435) .(2/578)
ويقول الدكتور علي جمال الدين عوض في كتابه (عمليات البنوك من الوجهة القانونية) :
إذا نظرنا إلى الحالة الغالبة للوديعة المصرفية وجدناها قرضا؛ لأن الوديعة تكون بقصد الحفظ والمودع لديه يقوم بخدمة للمودع، في حين أنه في القرض يستخدم المقترض مال غيره في مصالحه الخاصة، والتمييز دقيق بين كل من القرض والوديعة في العمل، فإذا وعد البنك برد النقود لدى الطلب فقد يمكن القول أن هناك وديعة؛ لأن الرد بمجرد الطلب يمنع البنك من استخدام النقود.
ولذلك فهو يقوم بخدمة لعملائه ولا يعتبر مقترضا، لكن هذا لم يعد صحيحا اليوم إلا من الناحية النظرية، فإن البنوك إذ تقبل الودائع ترد لدى الطلب أو بعد مدة قصيرة من الطلب، فإن ذلك لا يمنعها من استخدام النقود في مصالحها، اعتمادا منها على أن المودعين لن يتقدموا جميعا لطلب الاسترداد دفعة واحدة في وقت واحد، وأن سحب بعض الودائع يؤدي إلى إيداع مبالغ جديدة، وأن الودائع الجديدة تستخدم في مواجهة طلبات الاسترداد، وأنه على أي حال إذا زاد القدر المطلوب على الموجود فعلا لدى البنك فإنه يستطيع بطرق متعددة الحصول على ما يلزمه لمواجهة الطلبات الجديدة، فضلا عن أن الوديعة بالمعنى الفني الدقيق التي تهدف إلى خدمة المودع تفرض في الواقع أن البنك المودع لديه لا يعطي فائدة عنه، بل فوق ذلك يتقاضى أجرا عن هذه الخدمة؛ لأن مجانية الإيداع التي يطلبها الفرد يصعب أن يقبلها البنك، كما أن القانون المدني لا يفترض في الوديعة أجرا إلا لصالح المودع لديه، في حين أن البنك لا يتلقى أي أجر عن عمله، بل إنه يعطي فائدة للعميل مقابل إبقاء النقود لديه.
ولذلك يمكن القول بالنظر على الواقع أن الوديعة النقدية المصرفية في صورتها الغالبة تعد قرضا، وهو ما يتفق مع القانون المصري حيث تنص المادة 726 منه على ما يأتي: إذا كانت الوديعة مبلغا من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك باستعماله، وكان المودع عنده مأذونا له في استعماله اعتبر العقد قرضا. ويأخذ كثير من تشريعات البلاد العربية بهذه القرينة، أي ينص على أن البنك يمتلك النقود المودعة لديه، ويلتزم بمجرد رد مثلها من نفس النوع.
(راجع ما كتبه عن طبيعة الوديعة النقدية المصرفية ص20-28 والجزء الذي نقلناه منه بتصرف من صفحات 22، 26، 27) .(2/579)
بعد هذا كله نقول: أن ودائع البنوك تعتبر قرضا في نظر الشرع والقانون، والاتفاق هنا بين الشرع والقانون من حيث الحكم على الودائع بأنها قرض، وبعد هذا الاتفاق يأتي الاختلاف الكبير بين شرع الله تعالى في تحريم ربا الديون بصفة عامة وبين القانون الوضعي في إباحته هذا الربا بعد أن أسماه فوائد.
ومن هنا ندرك سبب الفتوى التي أصدرها بالإجماع علماء المسلمين المشتركون في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بعد أن نظروا في الأبحاث المقدمة إليهم عن أعمال البنوك، ونص هذه الفتوى هي:
" الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي، وما يسمى بالقرض الإنتاجي، وكثير الربا في ذلك وقليله حرام.
والإقراض بالربا محرم، لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا حرام كذلك، ولا يرتفع إثمه إلا إذا دعت إليه الضرورة، ووكل امرئ متروك لدينه في تقرير ضرورته.
وإن أعمال البنوك في الحسابات الجارية، وصرف الشيكات وخطابات الاعتماد والكمبيالات الداخلية التي يقوم عليها العمل بين التجار والبنوك في الداخل، كل هذا من المعاملات المصرفية الجائزة، وما يؤخذ في نظير هذه الأعمال ليس من الربا.
وإن الحسابات ذات الأجل، وفتح الاعتماد بالفائدة، وسار أنواع الإقراض نظير فائدة، كلها من المعاملات الربوية، وهي محرمة ".
وبعد هذا المؤتمرعقدت عدة مؤتمرات، وبحث المجتمعون هذا الموضوع، وكلهم أجمعوا على أن فوائد البنوك من الربا المحرم.
ثم كانت الخطوة الأخرى نحو دعم البديل الإسلامي وتحسينه، ونرى هذا مثلا في مقترحات وتوصيات المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي.
ونرجو أن يكون مؤتمرنا هذا دعما وتقوية للمؤتمرات السابقة.(2/580)
القرض الاستهلاكي والقرض الإنتاجي
في الفتوى السابقة لمجمع البحوث إشارة لعدم التفرقة بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي من حيث تحريم فوائد كلا النوعين من القروض.
وإذا كان تحريم القروض الاستهلاكية أمرا لا خلاف حوله، فإن تحريم فوائد القروض الإنتاجية يجب أن تستقر عليه الفتوى، فهي القروض الربوية التي شاعت وانتشرت في العصر الجاهلي، ثم جاء الإسلام فحرم ربا الديون جميعها.
وإذا نظرنا إلى البيئة العربية التي نزل فيها التحريم لم نكد نجد قرضا استهلاكيا، ذلك أن الربا قل أن يحتاج إلى هذا النوع من القروض:
فالعرب في الصحراء كان غذاؤهم فيها بسيطا، فقليل من الشعير يكفيهم، وإذا أضيف التمر واللبن فذلك غذاء رافه، وكان لباسهم بسيطا كغذائهم، وهو ليس أكثر من ثوب طويل يضمه في وسطه منطقة، وقد تلفه عباءة، وغطاء للرأس يمسكه عقال ". " ولم تكن خصلة عندهم تفوق خصلة الكرم وقد بعثتها فيهم حياة الصحراء القاسية، وما فيها من إجداب وإمحال، فكان الغني بينهم يعطف على الفقير، كثيرا ما كان يذبح إبله في سنين القحط، يطعمها عشيرته، كما يذبحها قرير العين لضيفانه الذين ينزلون به أو تدفعهم الصحراء إليه. ومن سنتهم أنهم كانوا يوقدون النار ليلا على الكثبان والجبال؛ ليهتدي إليهم التائهون والضالون في الفيافي، فإذا وفدوا عليهم أمنوهم حتى لو كانوا من عدوهم ".
(انظر كتاب: العصر الجاهلي للدكتور شوقي ضيف ص68، ص78)
أما مكة في الجاهلية فكانت مدينة تجارية عظيمة، وأهلها اعتادوا القيام برحلتين تجاريتين: إحداهما إلى اليمن شتاء، والأخرى إلى الشام صيفا، وقد امتن الله عز وجل عليهم بهذا في سورة قريش كما هو معلوم.
" وعقد عبد شمس معاهدة تجارية مع النجاشي، كما عقد نوفل والمطلب حلفا مع فارس ومعاهدة تجارية مع الحميريين في اليمن. وكذلك ازدادت مكة منعةو جاه كما ازدادت يسارا، وبلغ أهلها من المهارة في التجارة أن أصبحوا لا يدانيهم فيها مدان من أهل عصرهم. كانت القوافل تجيء إليها من كل صوب، وتصدر عنها في رحلتي الشتاء والصيف، وكانت الأسواق تنصب فيما حولها لتصريف هذه التجارة فيها، ولذلك مهر أهلها في النسيئة والربا، وفي كل ما يتصل بالتجارة من أسباب المعاملات " (حياة محمد للدكتور محمد حسين هيكل ص97) .
من هنا نرى أن مثل هذا المجتمع العربي تندر فيه القروض الاستهلاكية، وتكثر القروض الإنتاجية للتجارة.(2/581)
القرض الإنتاجي الربوي وشركة المضاربة
إلى جانب القرض الإنتاجي الربوي الذي شاع واستشرى في الجاهلية، وجد أيضا تعامل آخر للاستثمار وهو شركة المضاربة، أو ما يسمى بالقراض، وذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في شبابه وقبل زواجه من السيدة خديجة رضي الله عنها تعامل بهذه الشركة عندما تاجر في مالها.
وعندما جاء الإسلام وحرم الربا، دخل القرض الإنتاجي الربوي في دائرة الحرام، وبقيت المضاربة حلالا، فتعامل بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع غيرها من طرق الاستثمار المشروعة، وأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الذي تعامل بالربا، وكان رباه أول ربا وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم، تعامل أيضا بالمضاربة، وكان يشترط على المضارب شروطا، إذا خالفها فهو ضامن، ويذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفع إليه شرط العباس فاجازه.
(انظر المطالب العالية 1/419، والخبر سكت عليه البوصيري، ولكن في سنده مقال) .
ومن المعلوم أن المضارب ليس بضامن إلا إذا خالف شروط العقد، أو فعل ما ليس من حقه أن يفعله، أو قصر أو فرط.
ومن الذين تحدثوا عن الودائع، وعن بعض صورها مثل شهادات الاستثمار، وجدنا من يشير إلى شركة المضاربة، ومن يعتبر هذه المعاملات عقودا مستحدثة لها بالمضاربة شبه، ولكنها تختلف عنها بما لا يخالف كتابا ولا سنة، لهذا أحب أن نميز بين القرض الإنتاجي الربوي وشركة المضاربة، وأن ننظر إلى الثبات والتطور في هذين العقدين، قبل النظر في القول المذكور آنفا.(2/582)
الفرق بين القرض والمضاربة
القرض يحدد له فائدة ربوية تبعا للمبلغ المقترض، والزمن الذي يستغرقه القرض، كأن يكون 10 % من رأس المال سنويا، بغض النظر عما ينتج عن هذا القرض من كسب كثير أو قليل أو خسارة.
أما المضاربة، فالربح الفعلي يقسم بين صاحب رأس المال والمضارب بنسبة متفق عليها، والخسارة من رأس المال وحده، ولا يأخذ في حالة عدم وجود ربح.
والعلاقة بين صاحب القرض وآخذه ليست من باب الشركة، فصاحب القرض له مبلغ معين محدد ولا شأن له بعمل من أخذ القرض، ومن أخذ القرض يستثمره لنفسه فقط، حيث يملك المال ويضمن رد مثله مع الزيادة الربوية، فإن كسب كثيرا فلنفسه، وإن خسر تحمل وحده الخسارة.
أما المضاربة فهي شركة، فيها الغنم والغرم للاثنين معا، فالمضارب لا يملك المال الذي بيده وإنما يتصرف فيه كوكيل عن صاحب رأس المال، والكسب مهما قل أو كثر يقسم بينهما بالنسبة المتفق عليها، وعند الخسارة يتحمل صاحب رأس المال الخسارة المالية، ويتحمل العامل ضياع جهده وعمله، ولا ضمان على المضارب كما ذكرنا.(2/583)
الثابت والمتطور في القرض والمضاربة
الإسلام لا يبيح إلا القرض الحسن، سواء أكان القرض استهلاكيا أم إنتاجيا، وكل مال يدفع في مقابل الزمن الذي يستغرقه القرض فهو من ربا النسيئة.
وإذا اتخذ القرض أشكالا مختلفة، وصورا متعددة، واستحدثت منه ما استحدث، فإنا ننظر في جوهره ومضمونه، ونلحقه بأصله، فإما أن يكون قرضا حسنا، وإما أن يكون قرضا ربويا.
وفي بداية البحث أشرت إلى الرواتب الشهرية التي تدفعها البنوك الربوية لمن يودع لديها مبلغا من النقود، ورأينا أن هذا الشكل في مضمونه يعود إلى ربا الجاهلية، بل إلى ما قبل الجاهلية.
ونضرب هنا مثلا آخر من أعمال البنوك وهو ما يعرف بالاعتماد المستندي، فالبنك يأخذ عمولة كأجر على أعماله التي يقوم بها لصالح عميله الذي يستفيد من فتح هذا الاعتماد، فالأجر هنا حلال؛ لانه في مقابل منفعة مشروعة، غير أن البنك عند فحص المستندات ودفع الثمن لمصدر السلع، قد لا تكفي الأموال التي أخذها من العميل ثمنا لهذه السلع، وعند ذلك يقوم البنك بدفع المبلغ الزائد، وهنا إذا كان البنك من البنوك الإسلامية، فإنه ينص صراحة على أن هذا المبلغ قرض حسن، أما إذا كان البنك ربويا فإنه يعتبر هذا المبلغ دينا على العميل بفائدة محددة، أي أن هذا يعتبر قرضا ربويا.
والبنوك الربوية كما تقرض قروضا تأخذ الشكل العادي المعروف، فإنها تعطي قروضا في أشكال مستحدثة مثل ما يسمى بفتح الاعتماد (غير المستندي) ، وخصم الأوراق التجارية، والسحب على المكشوف ... إلخ.
فكل هذه المعاملات في جوهرها قروض ربوية، والمضاربة في الأصل كانت صورة بدائية لا تكاد تزيد عن شركة بين اثنين: صاحب رأس المال والمضارب. وكانت تستخدم في التجارة في أشياء محدودة. ورأس المال كان من الدنانير الذهبية والدراهم الفضية.(2/584)
غير أنها في جوهرها شركة، وليست علاقة دائن بمدين، ولهما شرطان مجمع علهما وهما ما أشرت إليهما في الربح والضمان. فإذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه مبلغا محددا من المال بطلت المضاربة. ومتى شرط على المضارب ضمان المال، أو سهما من الخسارة، فالشرط باطل بغير خلاف.
والبنوك الإسلامية عندما أرادت أن تقدم تطبيقا عمليا للاستثمار الحلال المشروع، ابتعدت عن القرض الإنتاجي الربوي، وقامت على أساس شركة المضاربة الإسلامية، غير أن الشكل تطور دون مساس بالجوهر.
فمجموع المودعين يمثل صاحب المال، والبنك يعتبر المضارب، ورأس المال لم يعد من الذهب والفضة، فقد تطورت النقود وأصبحت ورقية، ومجالات الاستثمار تعددت وتنوعت.. كل هذا التطور لا يمس الجوهر الثابت، فلا تزال شركة فيها الغنم والغرم، تحتفظ بالشرطين اللذين أجمعت عليهما الأمة طوال أربعة عشر قرنا.
النص والاجتهاد في المضاربة
قال أحد السادة العلماء:
" لم يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أنه تكلم في موضوع المضاربة حتى قال الأئمة ورجال الحديث كالشوكاني في (نيل الأوطار) : ليس في المضاربة شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم سوى حديث ضعيف يقول أن فيها بركة، كما أثر عن الإمام ابن حزم أن كل أبواب الفقه لها أصل من الكتاب والسنة ما عدا القراض (المضاربة) فما وجدنا له أصلا البتة في الكتاب والسنة " أه.
وأرى من اللازم هنا تكملة ما نقله الشوكاني عن ابن حزم حيث قال بعد الكلام السابق مباشرة:
" ولكنه إجماع صحيح مجرد، والذي يقطع به أنه كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فعلم به وأقره ولولا ذلك لما جاز ".(2/585)
بعد هذا أقول: إذا لم تصل إلينا سنة قولية أفليس التقرير من السنة؟
ثم هذا الإجماع الصحيح المجرد لم يخرج عليه أحد من الصحابة أو التابعين رضي الله عنهم، وأخذ به كل الأئمة المجتهدين، وأجمعت عليه الأمة مدة أربعة عشر قرنا، هذا الإجماع أليس حجة ملزمة ومصدرا من مصادر التشريع الإسلامي؟
ألنا اليوم أن نهدم مثل هذا الإجماع؟
ولننظر هنا إلى ما قاله إمام دار الهجرة في الموطأ (كتاب القراض – باب ما يجوز من الشرط في القراض، وباب ما لا يجوز) :
قال رضي الله عنه في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا، واشترط عليه فيه شيئا من الربح خالصا دون صاحبه: أن ذلك لا يصلح، وإن كان درهما واحدا.. إلا أن يشترط نصف الربح له ونصفه لصاحبه، أو ثلثه أو ربعه، أو أقل من ذلك أو أكثر. فإذا سمى شيئا من ذلك، قليلا أو كثيرا، فإن كل شيء سمي من ذلك حلال، وهو قراض المسلمين.
قال: " ولكن أن اشترط أن له من الربح درهما واحدا فما فوقه، خالصا دون صاحبه، وما بقي من الربح فهو بينهما نصفين، فإن ذلك لا يصلح، وليس على ذلك قراض المسلمين ".
وتعبير الإمام مالك هنا " وهو قراض المسلمين مع كلمة حلال "، ثم تعبيره الآخر: " وليس على ذلك قراض المسلمين " يدل على أن القراض الحلال لا يكون فيه مبلغ محدد من المال ولو كان درهما واحدا.
والصورة التي اعتبرها الإمام مالك مخالفة لما عليه المسلمون، لا تخرج عن الشركة، لكن درهما واحدا يمكن أن يبطلها ويخرجها عن دائرة الحلال. فكيف إذن بما لا يمكن أن يكون شركة فيها الغنم والغرم، وليس إلا قرضا استثماريا ربويا!
ويرد هنا سؤال وهو أن ما ورد عن الصحابة الكرام، وأجمعوا عليه دون مخالف واحد، ألا يدخل في حكم المرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؟(2/586)
أفيمكن أن يكون هذا الاجتهاد محضا أم أنهم أخذوه وفهموه من الرسول صلى الله عليه وسلم؟
أليسوا هم أدرى وأعلم بما أحل صلى الله عليه وسلم وبما حرم؟
والمضاربة ليست هي الشركة الوحيدة في الإسلام، فلننظر إلى الشركات المماثلة. قال ابن تيمية رحمه الله:
" والمزارعة مشاركة، هذا يشارك بنفع بدنة، وهذا بنفع ماله، وما قسم الله من ربح كان بينهما كشريكي العنان ".
ثم قال: " والمساقاة والمزارعة والمضاربة هما يشتركان في جنس المقصود، وهو الربح، مستويان في المغنم والمغرم، أن أخذ هذا أخذ هذا , وإن حرم هذا حرم هذا. ولهذا وجب أن يكون المشروط لأحدهما جزءا مشاعا من الربح من جنس المشروط للآخر، وأنه لا يجوز أن يكون مقدرا معلوما، فعلم أنها من باب المشاركة، كما في شركة العنان , فإنهما يشتركان في الربح.
ولو شرط مال مقدر من الربح، أو غيره: لم يجز. وهذا هو الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المخابرة، كما جاء ذلك مفسرا في صحيح مسلم وغيره، عن رافع بن خديج، أنهم كانوا يكرون الأرض، ويشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها كما تنبت الماذيانات والجداول، فربما سلم هذا ولم يسلم هذا.
ولهذا قال الليث بن سعد: أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المخابرة أمر إذا نظر فيه ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز. وهذا من فقه الليث الذي قال فيه الشافعي: كان الليث أفقه من مالك فإنه بين أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم موافق لقياس الأصول؛ لما فيه من أن يشترط لأحد الشريكين شيء معين من الربح. والشركة حقها العدل بين الشريكين فيما لهما من المغنم وعليهما من المغرم، فإذا خرجت كان ظلما محرما ".
(مجمعوع الفتاوى 30/225 – 226) .
قال ابن تيمية في موضع آخر:
" في المزارعة ... يشتركان في المغنم وفي الحرمان كما في المضاربة، فإذا حصل شيء اشتركا فيه، وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان، وكان ذهاب نفع مال هذا في مقابلة ذهاب نفع بدن هذا. ولهذا لم يجز أن يشترط لأحدهما شيء مقدر من النماء، لا في المضاربة، ولا في المساقاة، ولا في المزارعة؛ لأن ذلك مخالف للعدل، إذ قد يحصل لأحدهما شيء والآخر لم يحصل شيء، وهذا هو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي روي فيها أنه نهى عن المخابرة، أو عن كراء الأرض، أو عن المزارعة، كحديث رافع بن خديج وغيره: فإن ذلك قد جاء مفسرا بأنهم كانوا يعملون عليها بزرع بقعة معينة من الأرض للمالك، ولهذا قال الليث بن سعد: أن الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك أمر إذا نظر فيه ذو علم بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز ".
(مجموع الفتاوى 25/16 – 62) .(2/587)
قال ابن القيم رحمه الله: " المزارعة من جنس الشركة، يستويان في الغنم والغرم، فهي كالمضاربة ". وقال: " أصحاب الأرض كثيرا ما يعجزون عن زرعها ولا يقدرون عليه، والعمال والأكر يحتاجون إلى الزرع، ولا أرض لهم، ولا قوام لهؤلاء ولا هؤلاء إلا بالزراع، فكان من حكمة الشرع ورحمته بالأمة وشفقته عليها، ونظره لهم: أن جوز لهذا أن يدفع أرضه لمن يعمل عليها، ويشتركان في الزرع: هذا بعمله، وهذا بمنفعة أرضه، وما رزق الله فهو بينهما، وهذا في غاية العدل والحكمة، والرحمة والمصلحة.. كما في المضاربة والمساقاة ".
(عون المعبود شرح سنن أبي داود 9/259، 260 – شرح الحافظ ابن القيم الجوزية بالحاشية) .
المساقاة والمزارعة إذن شركتان كالمضاربة، فماذا جاء فيهما من النص؟
في نيل الأوطار تحت كتاب المساقاة والمزارعة جاءت عدة روايات، منها: ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع". وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر سألته اليهود أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها ولهم نصف الثمر، فقال لهم: ((نقركم بها على ذلك ما شئنا)) .
وما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخل، قال: ((لا)) . فقالوا: تكفونا العمل ونشرككم في الثمرة، فقالوا: سمعنا وأطعنا.
وما ذكره البخاري تعليقا ووصله عبد الرازق عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع.
وهذه الروايات وغيرها تؤيد ما ذكره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم من قبل، ولكن إذا شرط أحد الشريكين شيئا لنفسه، فما حكم العقد؟(2/588)
بعد الموضوع السابق من نيل الأوطار نجد "باب فساد العقد إذا شرط أحدهما لنفسه التبن أو بقعة بعينها ونحو" (5 – 309) .
وتحت هذا الباب نقرأ ما يلي:
عن رافع بن خديج قال: "كنا أكثر الأمصار حقلا، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، فأما الورق فلم ينهنا". أخرجاه.
وفي لفظ: "كنا أكثر أهل الأرض مزدرعا، كنا نكري الأرض بالناحية منها تنمي لسيد الأرض، قال: فربما يصاب ذلك فتسلم الأرض، وربما تصاب الأرض ويسلم الأرض، فنهينا، فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ". رواه البخاري.
وفي لفظ قال: "إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله بما على الماذيانات وأقبال الجداول , وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كري إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به". رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
وفي رواية عن رافع قال: "حدثني عماي أنهما كانا يكريان الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله بما ينبت على الأربعاء وبشيء يستثنيه صاحب الأرض، قال: فنهى النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم عن ذلك". رواه أحمد والبخاري والنسائي.
وفي رواية عن رافع "أن الناس كانو يكرون المزارع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم بالماذينانات وما يسقي الربيع وشيء من التبن، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كرى المزارع بهذا ونهى عنها". رواه أحمد.
(الماذيانات: هي ما ينبت على حافة النهر ومسايل المياه، وهي في الأصل مسايل فسمى النابت عليها باسمها. الجدول والربيع: أي النهر الصغير، والجمع جداول وأربعاء) .
من الروايات السابقة نرى فساد العقد إذا جعل لأحد الشريكين شيء معين، والحكمة هنا واضحة، وإن كان النص يتصل بالمزارعة والمساقاة، فكلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم واضح كل الوضوح، فلعل هذا النص كان أصلا أخذ به في المضاربة. وقد أشار إلى هذه الروايات المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الرحمن تاج في بحث قدمه للمؤتمر السابع لمجمع البحوث الإسلامية، ثم قال:
"ومن هذا كله يتبين: أن اشتراط جزء معين من الخارج لصاحب الأرض في المزارعة لا يجوز، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه؛ لما يترتب عليه من الظلم، وعدم العدل بين الشريكين: صاحب الأرض، والعامل فيها، لجواز ألا تخرج الأرض غير ما اشترطه الأول لنفسه، فيضيع عمل العامل وجهده، على حين ينتفع الشريك الآخر وحده. فأما كراء الأرض بالذهب، أو الفضة، أو بشيء غيرهما ومضمون في الذمة، فلا شيء فيه ".(2/589)
هذا هو ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ورواه أئمة الحديث: البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي، بألفاظ متحدة أو متقاربة، ولا يسع الفقهاء من مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، إلا أن يتبعوه ويقولوا به في المزارعة والمساقاة والمضاربة وسائر الشركات، فإن اشترط جزء معين من ربح ذلك وثمراته لأحد المتعاقدين، قد يؤدي إلى المعنى الذي من أجله ورد النهي، فإنه يخل بالمقصود من العقد، وهو الاشتراك في النتائج والثمرات.
وإذا كان اشتراط جزء معين من الخارج، لصاحب الأرض في المزارعة، قد حظرته الشريعة ونهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لما فيه من الظلم والغبن بأحد الشريكين المتعاقدين على الاشتراك في الربح والخسارة، فلماذا يرد في وجه الأئمة الفقهاء قولهم بلزوم خلو العقد من ذلك الاشتراط الجائر الظالم؟ وهو لم يقولوه إلا تطبيقا للسنة الصحيحة وعملا بما تدل عليه نصوصها الصريحة! وكيف يسوغ من مطلع على نصوص الشريعة ومواردها، أن يقول اشتراط ربح محدود لرب المال في المضاربة: أنه جائز، غير مخالف لكتاب ولا سنة، وإن كان فيه مخالفة لأقوال الفقهاء؟ أو لا يكفي النص على حظر ذلك الاشتراط ومنعه في المزارعة، فيعلم أنه محظور وممنوع في المضاربة والمساقاة وغيرهما ممن فروع الشركات؟ وهل من حسن الظن بالشريعة العادلة أن يقال: " أنها تمنع من الظلم والجور في شركة المزارعة، وتبيح ذلك كله في شركة القراض " اهـ.
وقال الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه " الحلال والحرام " (ص262) :
"هذا الشرط المفسد للمزارعة بالنص الصريح، هو في رأيي أصل لإجماع الفقهاء على الاشتراط في المضاربة ألا يحدد نصيب لأحدهما يضمنه على كل حال، ربحت الصفقة أم خسرت. وتعليلهم فساد المضاربة هنا كتعليلهم فساد المزارعة هناك، فهم يقولون: إنه إذا شرط أحدهما دراهم معلومة احتمل ألا يربح غيرها فيحصل على جميع الربح، واحتمل ألا يربحها. وهذا تعليل موافق لروح الإسلام الذي يبني كل معاملاته على العدالة المحكمة الواضحة ".
من هذا نرى تعدد الأدلة التي تبين بطلان عقد المضاربة إذا جعل لأي من الشريكين نصيب معلوم، فإلى جانب هذه الأحاديث الشريفة توجد السنة التقريرية والإجماع. غير أن المضاربة مع هذا الشرط الباطل لا تخرج عن كونها شركة، أما ودائع البنوك فليست من الشركة الصحيحة أو الباطلة، فعلاقة المودع والبنك لا تحرج عن كونها علاقة دائن ومدين.(2/590)
شيخ الإسلام ابن تيمية يبين أن المضاربة ثابتة بالسنة
قرأت لابن تيمية بيانا لحجية الإجماع، ومما جاء فيه (الفتاوى جـ 19 ص 192) :
الآية المشهورة التي يحتج بها على الإجماع قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [115: النساء] .
وبعد أن ذكر الآراء المختلفة حول دلالة الآية الكريمة قال رحمه الله:
"ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم وهذا ظاهر، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا، فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم. فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعا، والآية توجب ذم ذلك. وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول. قلنا: لأنهما متلازمان، وذلك أن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول، فالمخالف لهم مخالف للرسول، كما أن المخالف للرسول مخالف لله، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول، وهذا هو الصواب.
فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص، وهو دليل ثان مع النص، كالأمثال المضروبة في القرآن، وكذلك الإجماع دليل آخر، كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع. وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها، فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة. وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه، ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص.
وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلا نص كالمضاربة وليس كذلك، بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لاسيما قريش، فإن الأغلب كان عليهم التجارة، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد سافر بمال غيره قبل النبوة كما سافر بمال خديجة، والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره، فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة ولم ينه عن ذلك. والسنة: قوله وفعله وإقراره، فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة.
والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ، ويعتمد عليه الفقهاء، لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لابنيه، واتجرا فيه وربحا، وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش، فقال له أحدهما: لو خسر المال كان علينا فكيف يكون لك الربح وعلينا الضمان؟ فقال له بعض الصحابة: اجعله مضاربة فجعله مضاربة. وإنما قال ذلك لأن المضاربة كانت معروفة بينهم، والعهد بالرسول قريب لم يحدث بعده. فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات كالخياطة والجزارة.(2/591)
وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص، ولكن كان النص عند غيرهم. وابن جرير وطائفة يقولون: لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول، مع قولهم بصحة القياس.
ونحن لا نشرط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى كما تنقل الأخبار، لكن استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة، وكثير من العلماء لم يعلم النص، وقد وافق الجماعة، كما أنه قد يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع ".
(مجموع فتاوى شيخ الإسلام 19/194 – 196)
هل البنك فقير حتى نقرضه؟
يعجب كثير من الناس عندما يسمعون أن ودائع البنوك تعتبر قرضا، فالقرض إنما يكون للفقير المحتاج، والمودع قد يكون هو الفقير الذي ادخر أموالا قليلة بشق الأنفس للانتفاع بها في وقت آخر، أو لأي سبب من الأسباب، فكيف يقرض البنك صاحب الملايين؟!
ويعترض بعض أهل العلم على جعل هذه الودائع من باب القرض؛ لأن القرض عقد إرفاق، والمتعاملون مع البنوك هنا إنما يريدون الإيداع والاستثمار، وليس الرفق بالبنوك والإحسان إليها!
وعامة الناس معذورون، وخاصتهم قد يعذرون وقد لا يعذرون.
وقبل أن أحاول إزالة هذه الشبهة أضع أمام القارئ المسلم ما يأتي:
بعد أن قتل الزبير بن العوام – رضي الله عنه – ترك من بعده مالا كثيرا وفيرا، ووجدوا عليه دينا كبيرا! وقد أشار إلى هذه التركة وهذا الدين الإمام البخاري في صحيحه، وكثير غيره كما ذكر الحافظ في الفتح.
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (7/250) :
"وقد كان الزبير ذا مال جزيل وصدقات كثيرة جدا، لما كان يوم الجمل أوصى إلى ابنه عبد الله، فلما قتل وجدوا عليه من الدين ألفي ألف ومائتي ألف، فوفوها عنه، وأخرجوا بعد ذلك ثلث ماله الذي أوصى به، ثم قسمت التركة بعد ذلك، فأصاب كل واحدة من الزوجات الأربع من ربع الثمن ألف ألف ومائتا ألف درهم.. فعلى هذا يكون جميع ما تركه من الدين والوصية والميراث تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف ".
معنى هذا أن تركة الزبير رحمه الله ورضي عنه كانت كالآتي:
مجموع الديون مليونان و200 ألف.
نصيب الزوجات الأربع 4 ملايين و 800 ألف، ومن المعلوم أن نصيب الزوجة أو الزوجات (ثمن التركة) فتكون التركة المقسمة على الورثة 68 مليونا و 400 ألف، وهذا يعادل الثلثين، حيث أوصى بالثلث ومقداره 19 مليونا و 200 ألف، وبهذا تكون التركة بعد الديون 57 مليونا و600 ألف درهم وهنا يرد السؤال:
من يملك هذه الثروة الضخمة كيف يستدين هذا الدين؟(2/592)
ولنقرأ معا ما جاء في صحيح البخاري:
" إنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة ".
(راجع صحيح البخاري – كتاب فرض الخمس – باب بركة الغازي في ماله حيا وميتا، مع النبي صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر) مما رواه الإمام البخاري ترى أن الذين جاءوا بهذه الأموال أرادوا حفظها عند الزبير، أي أن تكون وديعة، فطلب منهم أن تكون سلفا لا وديعة وذكرنا الفرق بين الوديعة والقرض: فالوديعة لا يضمنها المودع لديه والقرض يضمنها المقترض، ولذلك قال الزبير: فإني أخشى عليه الضيعة، أي أنه طلب أن يكون ضامنا للمال باعتباره قرضا، ويقابل هذا الضمان أن يكون من حقه الاستفادة من هذا المال المقترض، فيحفظه بماله في التجارة وغيرها، أما الوديعة فتبقى كما هي لا يستفاد منها.
ونترك تركة الزبير ودينه مؤقتا ونأتي إلى حكم من الأحكام الفقهية وهو " إقراض الولي مال اليتيم":
مما جاء تحت هذا العنوان في معجم الفقه الحنبلي (2/1076) : لا يجوز للولي إقراض مال اليتيم إذا لم يكن فيه حظ له، فمتى أمكن الولي التجارة به، أو تحصيل عقار له فيه الحظ لم يقرضه، وإن لم يكن ذلك وكان في إقراضه حظ لليتيم جاز، ومعنى الحظ أن يكون لليتيم مثلا مال يريد نقله إلى بلد آخر، فيقرضه لرجل ليقضيه بدله في البلد الآخر، بقصد حفظه من الغرر في نقله، أو يخاف عليه الهلاك من نهب أو غرق أو نحوهما أو يكون مما يتلف بتطاول مدته، أو يكون حديثه خيرا من قديمه كالحنطة.
فإن لم يكن فيه حظ وإنما قصد إرفاق المقترض وقضاء حاجته فهذا غير جائز، وإن أراد الولي السفر، لم يكن له المسافرة بمال اليتيم، وإقراضه حينئذ لثقة أمين أولى من إيداعه؛ لان الوديعة لا تضمن.. ولا يجوز قرضه إلا لمليء – أي غني – أمين. (وانظر المغني 4/295) .
من هذا يتضح أن الغاية من إقراض مال اليتيم الرفق باليتيم لا بالمقترض، ومصلحة اليتيم لا مصلحة المقترض، والمراد الإيداع، غير أن الوديعة لا تضمن ففضل الإقراض لغني أمين حتى يحفظ المال لصالح اليتيم لا لصالح الغني.
لعل من هذين المثلين يتضح المراد، فلم يكن الزبير فقيرا يستقرض، بل كان من أصحاب الملايين، له ممتلكات في المدينة والعراق ومصر وغيرها، وأراد المودعون حفظ أموالهم لا الرفق بالزبير، وتحول العقد من وديعة إلى قرض، فكل عقد له ما يميزه عن غيره، وإقراض مال اليتيم لحفظه أيضا، فهو لمصلحة اليتيم لا لمصلحة المليء الغني.
وما دام العقد عقد قرض فلا يحل أخذ زيادة على رأس المال وإلا كان من ربا النسيئة.
فمن أراد الإيداع لحفظ المال مع الضمان فالإيداع هنا قرض مضمون، كإقراض المودعين للزبير، وإقراض مال اليتيم للغني المليء.
ومن أراد الإيداع للاستثمار عن طريق الفائدة المحددة كودائع البنوك الربوية وشهادات الاستثمار، فالإيداع هنا عود للقرض الإنتاجي الربوي الذي كان شائعا في العصر الجاهلي.
ومن ساعد المحتاج، وفرج كربته، وأقرضه قرضا حسنا، جزاه الله سبحانه وتعالى أحسن الجزاء، وفرج عنه كربة من كرب يوم القيامة، وهذا هو عقد الإرفاق.
إذن ليس القرض في جميع حالاته عقد إرفاق، وإنما هو في الأصل عقد إرفاق وقد يخرج عن هذا الأصل.(2/593)
هل الربا يحل بالعادة.. والرضا والاستفادة؟
تحدث أحد السادة الأساتذة عن فوائد البنوك فقال:
"لقد تعودت الناس منذ أجيال عديدة على النظام القائم.
إن وضع المسلمين في البنوك استفادة ما دام لا يجهد المقترض (البنك) ولا يستغله. وليس من الحكمة التنازل عن ربح أموالنا المشتغلة في التجارة.
نظام التوفير ليس ربا.. مادام المتعامل قد ذهب طائعا مختارا وسلم أمواله للبنك.. كذلك نظام الوديعة ليس ربا مادام البنك هو الذي حدد الفائدة وليس المودع.. أي أنك لم ترغم البنك على سعر فائدة معين، بل هو الذي حدد هذه الفائدة على حسب ما أجرى من دراسات وخطط اقتصادية.
الفائدة هنا أرباح في الواقع " اهـ.
وبالنظر في كلام الأستاذ الدكتور نلحظ ما يلي:
أولا: من المعلوم أن البنوك نشأت يهودية ربوية، وعندما دخلت بلاد الإسلام حملت معها طابعها اليهودي الربوي، فقد كان المسلمون في حالة من الضعف والخضوع لم تجعلهم يترددون في قبول ما هو قادم إليهم من بلاد الاستعمار وعلى الأخص أنه يتصل بالنظام الاقتصادي الرأسمالي الذي فتن به الكثيرون، فإذا تعود الناس التعامل بالربا، فهل العادة تحكم النص وتخرج المسلمين من الأذان بحرب من الله ورسوله، وتجعل الربا المحرم بالكتاب والسنة حلالا طيبا؟!
ما أكثر الحرام الذي انتشر في عصرنا! أفيصبح حلالا مادام الناس قد تعودوه؟!
ثانيا: يعترف الأستاذ بأن ودائع البنوك عقد قرض، فالبنك مقترض، ومعنى هذا أن الزيادة المشروطة في العقد مرتبطة بالقرض والزمن، وهذا من ربا الديون المحرم بالكتاب والسنة، ولكن الأستاذ يرى أن هذا ليس من الربا المحرم لأسباب ذكرها وهي:
1 – الاستفادة وعدم إجهاد المقترض وعدم استغلاله.
2 – المقرض أقرض طائعا مختارا.
3 – المقترض هو الذي حدد الفائدة – أي الزيادة الربوية – وليس المقرض.
ولا أدري كيف أن الاستفادة تحل الحرام؟ وهل يخلو الحرام من فائدة ما؟ أن الخمر والميسر بنص القرآن الكريم فيهما منافع {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} . أفلأحد أن يحلهما إذا كان فيهما استفادة؟ أن شركات الطيران التي تصر على بيع الخمر، والدول التي تبيح الخمر والمجون، تستند إلى الاستفادة، أفترى أيها الأستاذ أن هذا حلال؟(2/594)
إن الله عز وجل عندما حرم الربا في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لم يستثن منه ما كان غير مجهد للمقترض وغير مستغل له، وإنما بين رسوله صلى الله عليه وسلم تحريم ربا الجاهلية كله، ومنع أي أحد من أن يأخذ درهما واحدا زيادة عن رأس المال، وحذر من بشاعة جريمة درهم واحد من الربا حتى جعله أشد من الزنا الذي تشمئز منه النفوس الطاهرة.
ولو جاز ما يقوله الأستاذ لأحل لعمه العباس أخذ القليل الذي لا يجهد ولا يستغل، ولأحل هذا أيضا للقبائل التي احتكمت إليه في خلاف حول بقايا الربا، ولنظمت حياة الناس على أساس التعامل بهذا النوع من الربا، ولكن الكتاب والسنة نطقا بغير ما نطق به الأستاذ.
وقوله بأن المقرض أقرض طائعا مختارا، فلا أدري ما الفرق بين هذا وبين التعامل الجاهلي؟ أفكانوا في الجاهلية يجبرون المقرض حتى يقرض رغم أنفه؟! نحن نعرف أثر التراضي في العقود التي لا تصح بغيره، ولكن التراضي لا يحول الحرام إلى حلال، بل أن أكثر جرائم العصر ومنكراته تفعل بالتراضي.
والقول بأن الربا يكون حلالا إذا كان المقترض هو الذي حدد الفائدة يستدعي أن يبين لنا الأستاذ أن كل من قال لغيره: أقرضني بزيادة ربوية كذا فهو حلال! وأن تجار الجاهلية الذين حددوا الفائدة ليتوسعوا في تجارتهم أجبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على إعطاء الزيادة الربوية التي حددوها بأنفسهم! وأن من احتكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسأله: من الذي حدد الفائدة؟ فإن كان المقرض حرمها، وإن كان المقترض أحلها!
أخبرنا يا أستاذ: أحدث شيء من هذا؟ أم ربا الجاهلية كله موضوع؟
ونقف عند ختام حديثه بأن البنك حدد الفائدة على حسب ما أجرى من دراسات وخطط اقتصادية، وأن الفائدة هنا أرباح في الواقع.
وأقول: نحن نعرف وظيفة البنك، تاجر الديوان المرابي، فالفائدة التي يعطيها هي جزء من الربا الذي أخذه من المقرضين، فأين الدراسات والخطط الاقتصادية والأرباح نتيجة التجارة؟ أن ربا الجاهلية كان جله ناتج أرباح تجارية، وهو ما أشرت إليه عند الحديث عن القروض الإنتاجية، ومع هذا نزل التحريم، أما ربا البنوك فهو أسوأ من ربا الجاهلية، وسيأتي بيان هذا عند الحديث عن خلق النقود.
ملحظ أخير يتعلق بقوله: ليس من الحكمة التنازل عن ربح أموالنا المستغلة في التجارة، وأقول: إذا كان هذا الربح نتيجة الاتجار في الديون، فهل من الحكمة أن نأكله؟
لقد أجمعت الأمة على أن الزيادة المشروطة في مقابل القرض والزمن هي من الربا المحرم قطعا، فهذا ربا الديون المحرم بالكتاب والسنة، وهو واضح جلي غني عن البيان غير أني أحب أن أقف هنا أمام شيء آخر غير الزيادة المشروطة وهو مجرد المنفعة للمقرض:
ما حكمها؟
وما أدلة الحكم؟(2/595)
المنفعة للمقرض
من الأحاديث التي اشتهرت على ألسنة الناس بالأمس واليوم ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كل قرض جر نفعا فهو ربا)) وهذا الحديث ليس له إسناد صحيح، فقد روى الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل قرض جر منفعة فهو ربا)) ، وفي إسناده أحد المتروكين، وله شاهد ضعيف عند البيهقي بلفظ ((كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا)) .
نعم هناك آثار موقوفة عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، وقد تأخذ حكم المرفوع.
(انظر الحديث وبيان عدم صحته في سبل السلام 3/872، وكشف الخفاء للعجلوني 2/125، وانظر كنز العمال 6/123 حديث رقم 937، والحديث ضعفه السيوطي ووافقه المناوي – انظر فيض القدير 5/28)
ولننظر بعد هذا في حكم المنفعة للمقرض.
قال ابن قدامة في المغني:
"كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف، قال ابن المنذر: " أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا ". وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة ". (4/360) .
وقال أيضا بعد هذا:
"إن شرط أن يؤجره داره بأقل من أجرتها، أو على أن يستأجر دار المقرض بأكثر من أجرتها، أو على أن يهدي له هدية، أو يعمل له عملا، كان أبلغ في التحريم.
وإن فعل ذلك من غير شرط قبل الوفاء لم يقبله، ولم يجز قبوله إلا أن يكافئه أو يحسبه من دينه، إلا أن يكون شيئا جرت العادة به بينهما قبل القرض ".
وذكر ابن قدامة من الآثار والأحاديث ما يؤيد هذه الأحكام، ثم قال: " وهذا كله في مدة القرض، فأما بعد الوفاء فهو كالزيادة من غير شرط ".
(راجع أيضا هذا الموضوع في المجموع شرح المهذب للشيرازي 12/182، وكتاب الإجماع لابن المنذر ص 95، وغيرهما من كتب الفقه) .(2/596)
الأدلة من كتب السنة
بعد هذا البيان للأحكام المتعلقة بالمنفعة للمقرض، ننظر في كتب السنة لنرى الأدلة التي أشار إليها ابن قدامة، وغيرها مما لم يشر إليه.
أولا: في سنن ابن ماجه نجد في باب القرض من كتاب الصدقات الحديث التالي:
حدثنا هشام بن عمار، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا عتبة بن حميد الضبي، عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي، قال: سألت أنس بن مالك: الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي له؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى له، أو حمله على الدابة، فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك)) .
وعقب الحديث الشريف علق المرحوم محمد فؤاد عبد الباقي بقوله نقلا عن الزوائد: " في إسناده عتبة بن حميد الضبي، ضعفه أحمد وأبو حاتم، وذكره ابن حبان في الثقات ".
" ويحيى بن أبي إسحاق لا يعرف حاله ".
غير أننا في ترجمة عتبة هذا في ميزان الاعتدال نقرأ ما يأتي: " قال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال أحمد: ضعيف، ليس بالقوي ".
وفي تهذيب التهذيب:
"قال أبو طالب عن أحمد: كان من أهل البصرة، وكتب شيئا كثيرا، وهو ضعيف ليس بالقوي، ولم يشتبه الناس حديثه. وقال أبو حاتم: كان جوالة في الطلب وهو صالح الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات ".
أما يحيى بن أبي إسحاق فهو من التابعين، ترجم له الحافظ في تهذيب التهذيب، وأشار إلى هذا الحديث فقال:
"يحيى بن أبي إسحاق الهنائي عن أنس في القرض.. هذا الحديث أخرجه ابن ماجه عن طريق إسماعيل بن عياش، عن عتبة بن حميد، عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي، عن أنس. وقد رواه سعيد بن منصور في السنن عن إسماعيل بن عياش فقال: عن يزيد بن أبي إسحاق الهنائي، وكذا رواه البخاري في تاريخه من طريق إسماعيل لكن قال: ابن أبي يحيى الهنائي ".
والحديث ذكره السيوطي وحسنه، ووافقه المناوي، ولكن الشيخ الألباني ضعفه.
(انظر الحديث رقم 467 في فيض القدير 1/292، ورقم 489 في ضعيف الجامع 1/153) .
ثانيا: روى الإمام البخاري في صحيحه عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه قال: "أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقال: ألا تجيء فأطعمك سويقا وتمرا، وتدخل في بيت؟ ثم قال: إنك في أرض – يقصد العراق – الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فإنه ربا ".
(انظر كتاب مناقب الأنصار – باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه، والأثر رواه عبد الرزاق في المصنف وفيه: يابن أخي، إنكم بأرض تجار.. إلخ. راجع جـ 8 ص 144، وفي ص 143 أثر مثل هذا عن أبي بن كعب، وفيه.. فخذ قرضك، واردد إليه هديته) .(2/597)
ثالثا: في مصنف عبد الرزاق نجد كثيرا من الآثار في بابين هما " باب الرجل يهدي لمن أسلفه "، و"باب قرض جر منفعة ". من هذه الآثار:
1 – أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: تسلف أبي بن كعب من عمر بن الخطاب مالا – قال: أحسبه عشرة آلاف – ثم أن أبيا أهدى له بعد ذلك من ثمرته، وكانت تبكر، وكان من أطيب أهل المدينة ثمرة، فردها عليه عمر، فقال أبي: ابعث بمالك، فلا حاجة لي في شيء منعك طيب ثمرتي، فقبلها، وقال: إنما الربا على من أراد أن يربي وينسئ.
(8/142، وفي الصفحة تجد رواية ثانية لهذا الأثر.
ولاحظ أن القرض عشرة آلاف، وليس لفقير محتاج.
والأثر أخرجه أيضا البيهقي – انظر الحاشية للشيخ المحدث حبيب الرحمن الأعظمي. وكنز العمال 6/128 حديث رقم 967) .
2 – أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن منصور والأعمشي، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: إذا نزلت على رجل لك عليه دين، فأكلت عليه، فأحسب له ما أكلت عنده إلا أن إبراهيم كان يقول: إلا أن يكون معروفا كانا يتعاطيانه قبل ذلك. (8/142 – 143) .
3 – أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إذا أسلفت رجلا سلفا فلا تقبل منه هدية كراع، ولا رعاية ركوب دابة. (8/143) .
4 – أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إنه كان جار سماك فأقرضته خمسن درهما، وكان يبعث إلي من سمكه، فقال ابن عباس: حاسبه، فإن كان فضلا فرد عليه وإن كان كفافا فقاصصه. (8/143 – والأثر أخرجه أيضا البيهقي: انظر الحاشية.
ومثل هذا الأثر عن ابن عباس كذلك في المطالب العالية 1/428. ورقم 4/142، وهو:
قيلويه أبو صالح، قال: كان لي على علج عشرون درهما، فأهدى إلي هدية فسألت ابن عباس، فقال: احسب من الهدية، وخذ البقية) .
5 – أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: كل قرض جر منفعة فهو مكروه. قال معمر: وقاله قتادة. (8/145 – وكلمة مكروه عند السلف تطلق على المحرم) .
6 – أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر وابن عيينة، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: استقرض رجل من رجل خمسمائة دينار على أن يفقره ظهر فرسه، فقال ابن مسعود: ما أصبت من ظهر فرسه فهو ربا.
(8/145 – والأثر رواه البيهقي بطرق مختلفة – انظر الحاشية للأعظمي) .
هذا بعض ما جاء في كتب السنة، وأعتقد أننا لسنا في حاجة إلى البحث عن المزيد من الأدلة، فقي هذا القدر غنى وكفاية لمن أراد أن يتثبت من صحة ما ذهب إليه أئمتنا الفقهاء المجتهدون، ولمن أراد أن يستبرئ لدينه وعرضه.(2/598)
دفتر التوفير
الإيداع في البنوك عن طريق فتح دفتر توفير يشبه الحساب الجاري من حيث عدم التقيد بمدة معينة للسحب من الرصيد، غير أنه يخضع لقيود لا يخضع لها الحساب الجاري. ونسبة السحب من دفاتر التوفير أقل من الحسابات الجارية، ولذلك تستخدم البنوك من أرصدة هذه الدفاتر نسبة أكبر من الحسابات الجارية، وتدفع فوائد على هذه الأرصدة بشروط معينة.
ومعنى هذا أن البنك تنتقل ملكية الأرصدة إليه، يتصرف فيها ويستفيد منها في عمليات الإقراض ومشروعاته المختلفة، ويتعهد برد المثل للمودعين، وهو ضامن في جميع الحالات.. وهذا هو عقد القرض كما بينت في البحث السابق.
ثم تأتي الفوائد، وهي النسبة الزائدة على القرض في مقابل الزمن الذي يستغرقه هذا القرض.. وهذا هو الربا المحرم. وما ذكرته عن فوائد ودائع البنوك ينطبق على ودائع دفتر التوفير، فالودائع كلها عقد قرض، والفوائد من ربا النسيئة الذي حرمه القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة. وذكرت بعض الاعتراضات والشبه، وأثبت بطلانها ولله الحمد.
غير أن هذا النوع من التعامل قد يحتاج إلى وقفة خاصة نتيجة لما نشر في الصحف، فإن أحد السادة الذين تحدثوا عن شهادات الاستثمار ركز الحديث على صندوق التوفير.
ولننظر إلى كلمة السيد الكاتب من البداية. (1)
جاء في بداية مقاله ما يلي:
نقدم في بداية المقال آراء صفوة من المجتهدين في موضوع الربا. وفيما يلي نصوص ما قالوه. يقول ابن تيمية: " إن الضرر على الناس من تحريم هذه المعاملات أشق عليهم من الأخذ بها؛ لأن الضرر فيها يسير، والحاجة إليها ماسة، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الضرر، والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم، إذا عارضها حاجة راجحة أبيح المحرم (كأكل الميتة) فكيف إذا كانت المفسدة منفية ".
__________
(1) هو الأستاذ الدكتور أحمد شلبي – أستاذ التاريخ بكلية دار العلوم.(2/599)
وكلام ابن تيمية هنا ليس عن الربا ولا عن المعاملات الربوية، بل كيف يتصور أن شيخ الإسلام يقول في موضوع الربا: أن المفسدة منفية؟! ولا أدري كيف ساق الأستاذ هذه العبارة ليوهم القارئ أن ابن تيمية يبيح المعاملات الربوية؟!
فالأستاذ يذكر أن ما ينقله آراء صفوة من المجتهدين في موضوع الربا، ثم ينقل كلام ابن تيمية " أن الضرر على الناس من تحريم هذه المعاملات.. إلخ " أي هذه المعاملات الربوية، ومعنى هذا أن ابن تيمية لا يرى تحريم المعاملات الربوية!!
وابن تيمية إنما يتحدث عما رخص فيه من بيوع الغرر – وهو الغرر اليسير – مستندا إلى السنة المطهرة، وموافقا جمهور العلماء، أما كلامه عن الربا فشيء آخر.
ولنقرأ معا شيئا مما قاله شيخ الإسلام:
قال رحمه الله: " أكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان، ذكرهما الله في كتابه، هما: الربا والميسر ".
ثم قال: "نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر " كما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه. والغرر هو المجهول العاقبة فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار، وذلك أن العبد إذا أبق أو الفرس أو البعير إذا شرد، فإن صاحبه إذا باعه يبيعه مخاطرة، فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير فإن حصل له قال البائع: قمرتني وأخذت مالي بثمن قليل، وإن لم يحصل قال المشتري: قمرتني وأخذت الثمن مني بلا عوض، فيفضي إلى مفسدة الميسر: التي هي إيقاع العداوة والبغضاء، مع ما فيه من أكل المال بالباطل، الذي هو نوع من الظلم، ففي بيع الغرر ظلم وعداوة وبغضاء.
ومن نوع الغرر ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع حبل الحبلة، والملاقيح، والمضامين، ومن بيع السنين، وبيع الثمر قبل بدو صلاحه، وبيع الملامسة، والمنابذة، ونحو ذلك كله من نوع الغرر.
أما الربا: فتحريمه في القرآن أشد ولهذا قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} .(2/600)
وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر كما خرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذكر الله أنه حرم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم وصدهم عن سبيل الله، وأخذهم الربا، وأكلهم أموال الناس بالباطل. وأخبر سبحانه أنه يمحق الربا كما يربي الصدقات، وكلاهما مجرب عند الناس ".
ثم قال ابن تيمية بعد هذا:
"مفسدة الغرر أقل من الربا، فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه، فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا مثل بيع العقار جملة وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس. ومثل بيع الحيوان الحامل أو الرضيع وإن لم يعلم مقدار الحمل أو اللبن وإن كان قد نهى عن بيع الحمل مفردا. وكذلك اللبن عند الأكثرين. وكذلك بيع الثمرة بعد بدو صلاحها فإنه يصبح مستحق الإبقاء، كما دلت عليه السنة، وذهب إليه الجمهور كمالك والشافعي وأحمد وإن كانت الأجزاء التي يكمل الصلاح بها لم تخلق بعد.
وجوز النبي صلى الله عليه وسلم إذا باع نخلا قد أبرت: أن يشترط المبتاع ثمرتها فيكون قد اشترى قبل بدو صلاحها، لكن على وجه البيع للأصل فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز من غيره ".
وقال شيخ الإسلام بعد ذلك:
"وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل: فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل، لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض وإن لم يجز غيره بعوض، وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة فهو باطل، وإن كان فيه منفعة – وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رمية بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته، فإنهن من الحق)) صار هذا اللهو حقا.
ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض وأكل بالباطل؛ لأن الغرر فيها يسير كما تقدم والحاجة إليها ماسة.
والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر، والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم فكيف إذا كانت المفسدة منتفية؟ ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح، أباح الشرع ذلك وقاله جمهور العلماء ".(2/601)
ونختم كلام ابن تيمية بقوله:
" ... فتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير ".
(راجع ما كتبه تحت فصل: القاعدة الثانية في العقود حلالها وحرامها – مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 29 ص 22 وما بعدها) .
ومن كلام شيخ الإسلام نرى من الخطأ أن ينسب إليه ما نسبه الأستاذ كاتب المقال، ولعل ما نقلته طال بعض الشيء، غير أنني حرصت على هذا لتتضح الصورة، إلى جانب أنه لا يخلو من فائدة مرجوة.
ونترك كلام ابن تيمية هنا، وننتقل إلى فتوى أخرى تعتبر نصا في موضوعنا.
سئل ابن تيمية عن إنسان يريد أن يأخذ من إنسان دراهم قرضا يعمر به ملكه، يشتري بها أرضا إلى مدة سنة، وبلا كسب ما يعطي أحد ماله، فكيف العمل في مكسبه حتى يكون بطريق الحل؟
فأجاب: " الحمد لله، له طريق بأن يكرى الملك أو بعضه، يتسلفها ويعمر بالأجرة وإذا كان بعض الملك خرابا، واشترط على المستأجر عمارة موصوفة جاز ذلك. فهذا طريق شرعي، يحصل به مقصود هذا وهذا.
وأما إذا تواطآ على أن يعطيه دراهم بدراهم إلى أجل، وتحيلا على ذلك ببعض الطرق، لم يبارك الله تعالى لا لهذا ولا لهذا". (مجموع الفتاوى 29/529) .
ولنتأمل كلام ابن تيمية هنا:
فالقرض للعمران وليس لتاجر الديون المرابي، ومع ذلك لم يحله، وبين طريقا شرعيا فيه بعد عن القرض. وواقعنا يذكرنا بنهاية ما جاء هنا: "لم يبارك الله تعالى لا لهذا ولا لهذا".
وفي المضاربة ذكرنا رأي ابن تيمية، وهو واضح ناصع، مؤيد بالنص والإجماع، مخالف لما أراده كاتب المقال.
وبعد أن انتهى ما نقله السيد الكاتب عن ابن تيمية قال:
"وقد عرض الإمام محمد عبده لهذه المسألة فقال: أن مثل هذا الربح لا يدخل في الربا. فليس حكم الربا كالحكم في هذه المضاربة.
ويرى الأستاذ عبد الوهاب خلاف أن اشتراط بعض الفقهاء ألا يكون هناك نصيب معين من الربح اشتراط لا دليل عليه ".
وما ذكرته في البحث السابق عن المضاربة يغني عن المناقشة هنا، غير أن كلمة " بعض الفقهاء" من كلام الأستاذ الكاتب ليست صحيحة، فأستاذنا المرحوم خلاف كان يعلم أن هذا اشتراط جميع الفقهاء لا بعض الفقهاء.
وانتقل كاتب المقال بعد ذلك إلى الحديث عن صندوق التوفير فذكر فتوى الشيخ شلتوت (1) ، والشيخ علي الخفيف، والشيخ عبد الجليل عيسى.
ولسنا في حاجة إلى أن نعد إلى المناقشة من جديد بعد البحث الذي نشر من قبل.
غير أنني أحب أن أقف هنا وقفة لننظر في تسلسل فكرنا الاقتصادي المعاصر، ولنعذر مشايخنا الأجلاء – رحمهم الله تعالى - فيما وقعوا فيه من خطأ في الفتوى.
نشأت البنوك نشأة يهودية ربوية، وظل هذا الطابع مسيطرا عليها حتى عصرنا. وصور لنا الاقتصاديون أن الاقتصاد لا يقوم بغير البنوك، وأن البنوك لا تقوم بغير نظام الفائدة المتبع، أي النظام الربوي.
__________
(1) الفتوى تتعلق بصندوق توفير البريد(2/602)
وانقسم علماؤنا آنذاك: فمنهم من بحث بحثا علميا مجردا، وانتهى إلى أن فوائد البنوك وما شابهها هي من الربا المحرم، ومنهم من حاول تبريرها رغبة في تحليل عقود المسلمين، فحسنت نياتهم، وسمت مقاصدهم، إلا أنهم وقعوا فيما رأيناه من الأخطاء، وعذرهم نبل الغايات مع عدم وجود البديل الشرعي.
ومشكلات العصر لا تحل باجتهاد فردي، وهذه حقيقة يسهل إدراكها، فرأي الجماعة غير رأي الفرد، ولهذا عندما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأمر يحدث ليس في كتاب ولا سنة، قال: ((ينظر فيه العابدون من المؤمنين)) (وتأمل من الذي ينظر؟ فليس مجرد العلم يكفي للنظر) .
وكان هذا منهج سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، فكما يروي المسيب بن رافع: "كانوا إذا نزلت بهم قضية ليس فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر، اجتمعوا لها وأجمعوا، فالحق فيما رأوا فالحق فيما رأوا". وكان أبو بكر رضي الله عنه إن أعياه أن يجد في أمر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به. (راجع ما سبق وغيره من الأخبار في سنن الدارمي: باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، وباب الفتيا وما فيه من الشدة) .
وهنا نذكر ونشكر المجهود الذي بذله المرحوم الشيخ شلتوت لإنشاء مجمع البحوث الإسلامية، وتحقق ما سعى إليه ولكن لم ير ثمرة غرسه، وعقد المؤتمر الأول للمجمع سنة 1383 هـ (1964 م) ، وكان من قراراته وتوصياته:
"أن السبيل لمراعاة المصالح، ومواجهة الحوادث المتجددة، هي أن يتخير من أحكام المذاهب الفقهية ما يفي بذلك، فإن لم يكن في أحكامها ما يفي به فالاجتهاد الجماعي المذهبي، فإن لم يف كان الاجتهاد الجماعي المطلق.
وينظم المجمع وسائل الوصول إلى الاجتهاد الجماعي بنوعيه ليؤخذ به عند الحاجة ".
وعقد المؤتمر الثاني لمجمع البحوث في شهر محرم سنة 1385 هـ (مايو سنة 1965 م) فكان هذا المؤتمر نقطة تحول في مسار فكرنا الاقتصادي الإسلامي من الناحية النظرية، حيث صدرت الفتوى الجماعية بتحريم فوائد البنوك، ونقلت نصها فيما سبق، وبعد صدور هذه الفتوى حسم الأمر، وأصبحنا في غنى عن أي رأي فردي.(2/603)
وإلى جانب هذه الفتوى انتهى المؤتمر إلى التوصية التالية:
"لما كان للنظام المصرفي أثر واضح في النشاط الاقتصادي المعاصر، ولما كان الإسلام حريصا على الاحتفاظ بالنافع من كل مستحدث مع اتقاء أوزاره وآثامه، فإن مجمع البحوث الإسلامية بصدد درس بديل إسلامي للنظام المصرفي الحالي، ويدعو علماء المسلمين، ورجال المال والاقتصاد إلى أن يتقدموا إليه بمقترحاتهم في هذا الصدد ".
ثم كان التحول في هذا المسار من الناحية العملية التي دعا إليها المؤتمر بظهور البنوك الإسلامية، فظهر التطبيق العملي، وأثبت البديل الإسلامي إمكان قيام بنوك بدون تعامل بالفوائد الربوية.
وبذلك حسم الجانبان: النظري والعملي معا.
وبدأت الجهود الإسلامية المخلصة تتجه إلى تحسين هذا البديل ودعمه، ومحاولة إزالة العقبات من طريقه.
وعندما عقد المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي سنة 1396 هـ (1976م) وحضره الكثرة الكاثرة من فقهاء الشريعة ورجال الاقتصاد والقانون وغيرهم، لم يثر أي خلاف حول اعتبار البنوك الربوية من الربا المحرم، كلهم أجمعوا على أن هذه الفوائد من الربا الذي حرمه الإسلام، ثم كانت الخطوة الأخرى نحو دعم البديل الإسلامي وتحسينه، ولهذا جاء في المقترحات والتوصيات ما يلي:
1 – دعوة الحكومات الإسلامية إلى دعم البنوك الإسلامية القائمة في الوقت الحاضر، والعمل على نشر فكرتها، وتوسيع نطاقها.
2 – العناية بتدريب العاملين في البنوك الإسلامية لتحقيق المستوى اللائق لكفايتهم العملية.
وعقدت مؤتمرات أخرى أجمع المشاركون فيها على ما أجمع عليه هذان المؤتمران، فمن أفتى قبل هذا الإجماع فهو معذور مأجور مغفور له إن شاء الله عز وجل، ومن أراد أن نرد على أعقابنا خاسرين ونعود القهقرى، ونخالف هذا الإجماع، فلا عذر له، ونخشى أن يكون خاطئا آثما غير مغفور له.
وأذكر هنا على سبيل المثال أن أستاذنا المرحوم الشيخ علي الخفيف أفتى بحل التأمين على الحياة، وحضر مؤتمرا بعد ذلك أجمع على أن التأمين على الحياة حرام، فكان مع المجتمعين.
والشيخ شلتوت له فتاوى منسقة، وأخرى مضطربة متناقضة.
الأولى نراها في كتابه في التفسير، في حديثه عن الآية الثلاثين بعد المائة من سورة آل عمران، وهي قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .(2/604)
فعند تفسيره لهذه الآية الكريمة تحدث عن الجانب الخلقي، والجانب الاقتصادي في تحريم الربا، ثم تناول شبهات " العصريين" في استباحة الربا، وأبطل هذه الشبهات، وبين أسباب لجوء هؤلاء "العصريين" لمثل هذه الشبهات.
(انظر كتابه: تفسير القرآن الكريم. الطبعة الثامنة - ص 139 وما بعدها) وتحت عنوان " بطلان الاستدلال بالآية على إباحة الربا القليل " (ص 150) ذكر كلاما أنقله هنا بتمامه. قال رحمه الله تعالى:
"بقي علينا أن ننبه في هذا الشأن لأمر خطير، وهو أن بعض الباحثين المولعين بتصحيح التصرفات الحديثة، وتخريجها على أساس فقهي إسلامي ليعرفوا بالتجديد وعمق التفكير، يحاولون أن يجدوا تخريجا للمعاملات الربوية التي يقع التعامل بها في المصارف أو صناديق التوفير أو السندات الحكومية أو نحوها، ويلتمسون السبيل إلى ذلك، فمنهم من يزعم أن القرآن إنما حرم الربا الفاحش بدليل قوله: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} فهذا قيد في التحريم لا بد أن يكون له فائدة وإلا كان الإتيان به عبثا، تعالى الله عن ذلك، وما فائدته في زعمهم إلا أن يؤخذ بمفهومه وهو إباحة ما لم يكن أضعافا مضاعفة من الربا، وهذا قول باطل؛ فإن الله سبحانه وتعالى أتى بقوله: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} توبيخا لهم على ما كانوا يفعلون، وإبرازا لفعلهم السيئ، وتشهيرا به، وقد جاء مثل هذا الأسلوب في قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . فليس الغرض أن يحرم عليهم إكراه الفتيات على البغاء في حالة إرادتهن التحصن، وأن يبيحه لهم إذا لم يردن التحصن، ولكنه يبشع ما يفعلونه ويشهر به، ويقول لهم: لقد بلغ بكم الأمر أنكم تكرهون فتياتكم على البغاء وهن يردن التحصن، وهذا أفظع ما يصل إليه مولى مع مولاته، فكذلك الأمر في آية الربا، يقول الله لهم: لقد بلغ بكم الأمر في استحلال أكل الربا أنكم تأكلونه أضعافا مضاعفة، فلا تفعلوا ذلك، وقد جاء النهي في غير هذه المواضع مطلقا صريحا، ووعد الله بمحق الربا قل أو كثر، ولعن آكله ومؤكله وشاهديه، كما جاء في الآثار، وآذن من لم يدعه بحرب الله وحرب رسوله، واعتبره من الظلم الممقوت، وكل ذلك ذكر فيه الربا على الإطلاق دون تقييد بقليل أو كثير.
ومنهم من يميل إلى اعتباره ضرورة من الضروريات بالنسبة للأمة، ويقول: ما دام صلاح الأمة في الناحية الاقتصادية متوقفا عى أن نتعامل بالربا، وإلا اضطربت أحوالها بين الأمم، فقد دخلت بذلك في قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات.
وهذا أيضا مغالطة، فقد بينا أن صلاح الأمة لا يتوقف على هذا التعامل، وأن الأمر فيه إنما هو وهم من الأوهام، وضعف أمام النظم التي يسير عليها الغالبون الأقوياء".
ومما قاله تحت عنوان " إباحة الحرام جرأة على الله " (ص151) :
"وخلاصة القول، أن كل محاولة يراد بها إباحة ما حرمه الله، أو تبرير ارتكابه بأي نوع من أنواع التبرير، بدافع المجاراة للأوضاع الحديثة أو الغربية، والانخلاع عن الشخصية الإسلامية، إنما هي جرأة على الله، وقول عليه بغير علم، وضعف في الدين، وتزلزل في اليقين ... ".(2/605)
وكلام الشيخ هنا واضح كل الوضوح في تحريم المعاملات الربوية التي يقع التعامل بها في المصارف، وهو يتفق مع الفتاوى الجماعية التي صدرت بعد ذلك، وأشرت إليها من قبل.
وذكره للسندات الحكومية يدل على أنه يرفض ما زعمه الزاعمون من أنه " لا ربا بين الدولة وأبنائها". وقد ثبت بطلان هذا الزعم في بحث آخر.
ونرى الاضطراب في كتابه " الفتاوى"؛ حيث أفتى بتحريم فوائد السندات، وهذا يتفق مع ما سبق، غير أنه أفتى بحل فوائد توفير البريد التي حرمها من قبل أو من بعد، وهذا التعارض بين الفتويين قد يعني أنه رجع عن إحداهما، ولكن التفرقة بين فوائد دفتر التوفير وفوائد السندات تناقض، فلا فرق بين أموال دفتر توفير لها زيادة محددة مقابل المبلغ والزمن، وأخرى لسندات لها زيادة محددة أيضا مقابل المبلغ والزمن، مع أن الشيخ نفسه نص على تحريم فوائد البنوك، ولم يعلم أنه أحلها.
وإذا كان هذا مسلك الكاتب، والفتاوى لشخص واحد، فإنا لا نعجب عندما لا يشير إلى فتوى الشيخ عبد المجيد سليم بتحريم فوائد البنوك، وهو الذي تولى مشيخة الأزهر مرتين قبيل الشيخ شلتوت، وتولى الإفتاء عشرين عاما، وله آلاف الفتاوى.
وأكثر من هذا أنه لم يشر إلى أي شيء مما ذكرناه عن المؤتمرات والإجماع، بل قال: فوائد البنوك حلال مائة في المائة! وقال: حلال على مسئوليتي!!
وبعد أن عرض السيد الدكتور أستاذ التاريخ الجزء الذي راقه واتفق مع هواه من تاريخ فكرنا الاقتصادي، انتقل بعد ذلك إلى الإجابة عن سؤال سأله، وهو: لماذا حرم الإسلام الربا؟
ونقل شيئا من تفسير الرازي، ثم قال: " هذه بعض الجوانب في حكمة تحريم الربا ويذكر المفكرون المحدثون جوانب أخرى ذات بال ... ".
ونقل كلاما لأبي الأعلى المودودي، ثم قال: "هل توجد هذه العيوب في شهادات الاستثمار والإيداع بالبنوك؟ "
ثم ختم كلامه هنا بقوله: " وهناك قاعدة فقهية تقول: أن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما ".(2/606)
ولا أستطيع أن أكتب ما يجول بخاطري وأنا أقرأ ما كتبه السيد الدكتور؟ قد يعذر لأن تخصصه بعيد عن الأصول والفقه فلم يعرف الفرق بين الحكمة والعدالة، ولكنه هنا يفتي ويخالف إجماع المئات بل الآلاف من الفقهاء!
والسيد أبو الأعلى المودودي – الذي نقل عنه ما نقل من الحكمة – هو نفسه يرى أن فوائد البنوك من الربا المحرم.
والفخر الرازي لم يشهد عصرنا الربوي حتى نعرف رأيه في هذه الفوائد، غير أننا قد نستطيع أن نستشف رأيه، حيث قال في تفسيره:
" أن ربا النسيئة هو الذي كان مشهورا في الجاهلية؛ لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل، على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا، ورأس المال باق بحاله ".
سبحان الله! أليس ربا النسيئة هذا ما نراه في صورة مستحدثة أعلنت عنها بعض البنوك الربوية حيث جعلت راتبا شهريا لمن يودع لديها مبلغا معينا؟
إن الصورة الجاهلية التي ذكرها الفخر الرازي وبين حرمتها هي الصورة نفسها (طبق الأصل!) التي نراها في شهادات ادخار بنك مصر ذات العائد الشهري.
فلو أن الفخر الرازي رزئ بما رزئنا به، أفيمكن أن يحرم تلك ويحل هذه؟ أما وقد ضاق الصدر.. فلنترك هذا الموضوع حتى لا يشتط القلم.(2/607)
الإقراض العادي والإقراض بفتح الاعتماد
الصور التي سبقت كان البنك فيها يقوم بعملية الاقتراض، وكان بفائدة وأحيانا بدون فائدة. والبنك ما اقترض أساسا إلا ليقرض، فهو كما عرفنا تاجر ديون مراب وعمليات الإقراض التي تزاولها البنوك تتخذ إحدى صورتين، هما:
أولا: القروض البسيطة. وهي القروض المعتادة.
ثانيا: فتح الاعتماد.
وتختلف القروض عن الاعتمادات المفتوحة في حصول المقترض على مبلغ القرض بمجرد الاتفاق، واحتساب الفوائد عن المبلغ بأكمله، وعن المدة المتفق عليها كاملة، وقد يندمج القرض في حساب جار فيضيف البنك مبلغ القرض إلى الجانب الدائن لحساب العميل بمجرد التعاقد.
أما فتح الاعتماد فعقد يلتزم البنك بمقتضاه بوضع مبلغ معين تحت تصرف عميله لمدة معينة، فيكون للعميل الحق في سحب أي مبلغ يشاء في حدود الاعتماد في غضون مدته، كما أن له إيداع ما يريد خصما على الرصيد المدين فيقل بذلك دينه. ولا تحتسب الفوائد على الأرصدة المدينة من يوم سحبها. (مقدمة في النقود والبنوك للدكتور محمد زكي شافعي ص 215) .
" ويلتزم العميل أن يدفع للبنك عمولة معينة تستحق – غالبا – بمجرد إبرام عقد فتح الاعتماد سواء استخدمه أم لم يستخدمه، وتبرر العمولة بأنها مقابل ما يتحمله البنك ليكون مستعدا لمواجهة احتياجات العميل ".
(عمليات البنوك للدكتور علي جمال الدين ص 330 – 331) .
وإذا نظرنا فيما سبق وجدنا الفائدة التي تؤخذ زيادة على القرض في الصورتين السابقتين هي من الربا المحرم. وإذا كان البنك قد أخذ العمولة مقابل خدمته التي أداها والمنفعة التي قدمها، فإن ما يزيد على هذه العمولة في مقابل الدين هو من ربا الديون الذي تحدثنا عنه، وبينا حرمته.
وأضيف هنا بعض الحقائق عن عمليات الإقراض الربوي:
يقدم البنك القروض بنوعيها: الاستهلاكي والإنتاجي، مع أخذ الضمانات الكافية.(2/608)
والضمان هنا لا شيء فيه، فيمكن الإقراض مع أخذ رهن، ولكن لا يحل للمقرض الاستفادة من هذا الرهن.
وقد يكون الإقراض بضمان الراتب مثلا، أو من الوسائل التي تضمن حق المقرض، وما دامت الوسائل لا يمنعها الشرع فهي حلال، ولكن الحرمة هنا في الربا.
والبنك عند الإقراض يحسب الفائدة الربوية، ثم يطرحها من القرض، ويعطي الباقي فقط، مثلا تريد امرأة أن تقترض لضرورة ملجئة، فتأخذ ما لديها من حلي، وتذهب إلى البنك تطلب قرضا، يأخذ البنك الرهن، ويتفق على إقراضها مائتين: فلو فرضنا أن النسبة المئوية للفائدة الربوية هي (20) ، فإنه يعطيها 160 جنيها فقط، مع أنه في حالة الاقتراض لا تحسب الفائدة إلا بعد المدة، فلو أنه اقترض 160 جنيها بفائدة 20 % مثلا فالقرض بعد المدة يصبح 192 جنيه، على حين أن المبلغ نفسه في حالة الإقراض يصبح 200 جنيه، أي أن الفائدة هنا 25 % وليست 20 %!
ونسمع أن البنوك تسهم في مشروعات صناعية وتجارية وعمرانية إلخ، والواقع أن إسهامها هنا عادة يكون عن طريق الإقراض الربوي لأصحاب هذه المشروعات، وليس عن طريق المشاركة الإسلامية.
إن هذه القروض كلها محرمة، سواء أكانت استهلاكية أم إنتاجية.. ويستوي في هذا الفائدة الكبيرة والفائدة المنخفضة.
والمقرض آثم لا شك.. فلا عذر له.
والمقترض آثم كذلك إلا عند الضرورة.
والضرورات تبيح المحظورات. ولكن الضرورة تقدر بقدرها، فما زاد عن حد الضرورة ظل محرما، فما الضرورة إذن في القروض الإنتاجية؟
الذي يريد أن ينشئ مصنعا، أو يبني عمارة، أو يعلي بيتا، أو يستورد سلعا أو غير ذلك من المشروعات الإنتاجية.. لا يحل له أن يأخذ قروضا ربوية، إلا إذا وجدت حالات خاصة تدخل ضمن الضرورات، وللأسف الشديد يتساهل كثير من المسلمين في مثل حالات الاقتراض هذه، وقد لا يتأثمون ولا يتحرجون، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن الاثنين: آكل الربا وموكله، وجعل الآخذ والمعطي شريكين في الإثم.
روى الشيخان وأصحاب السنن وغيرهم "أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله" وزاد مسلم وغيره: "وكاتبه وشاهديه". وقال: "هم سواء".
(راجع مثلا: فتح الباري – كتاب البيوع: باب آكل الربا وشاهده وكاتبه، وباب موكل الربا. وصحيح مسلم: كتاب البيوع: باب لعن آكل الربا وموكله. واقرأ ثلاثين حديثا في الترهيب من الربا في كتاب الترغيب والترهيب 3: 3 – 14) .
وفي الإقراض الذي تزاوله البنوك يصادفنا أمر عجيب غريب يصعب تصوره، ولا يدركه إلا من ألم بأعمال البنوك.(2/609)
أيمكن مثلا أن نتصور أن شخصا يقترض ألفا، ومن الألف يقرض بضعة آلاف، ويبقى عنده رصيد؟!
هذا ما تفعله البنوك الربوية! تخلق النقود وتقرضها!
تقرض ما ليس عندها، وما لا تملكه، وتأخذ ربا!
والأمر هنا دقيق، ولذلك أترك عرضه لرجال الاقتصاد المختصين.
تحدث أحدهم عن المرحلة الحاسمة في تطور الفن المصرفي وهي خلق النقود:
دخل الفن المصرفي في دور جديد عندما تواضع الناس على قبول التزامات البنوك بديلا عن النقود في الوفاء بالديون، سواء أكان ذلك في صورة إيصالات الإيداع أم في صورة أوامر الصرف التي كان يحررها المودعون لدائنهم على البنوك، فقد فطنت البنوك في كلتا الحالتين إلى إمكان إحلال تعهداتها بالدفع محل النقود فيما تمد به عملاءها من قروض بما يترتب على ذلك من زيادة طاقتها على الإقراض، ومن ثم على جني الأرباح. ولم يكن من العسير، ووقد تمتعت ديون البنوك بالقبول العام كأداة للوفاء بالالتزامات أن تقنع المصارف هؤلاء العملاء بملاءمة اقتضاء مبالغ القروض في ودائع جارية قابلة للسحب في الحال، أو في صورة سندات تتعهد المصارف بمقتضاها بالدفع لدى الطلب (بنكنوت) ، ولن خفى على القارئ أهمية هذا التطور الحاسم في تاريخ البنوك، فلم يكن حسب هذا الاستعمال النقدي لودائع (ديون) البنوك أن ضيق من نطاق أوامر الدفع فأدى إلى زيادة موارد الائتمان عن ذي قبل، ولكنه أدى أيضا إلى ما هو أكثر أهمية، فقد أصبح في استطاعة البنوك خلق هذه الودائع ومحوها من الوجود بما تزاوله من عمليات التسليف أو الإقراض أو التثمير. وإذ تقوم هذا الودائع مقام النقود في تسوية الديون بين الأفراد، فقد تهيأ لبنوك الودائع أن تزاول سلطانا خطيرا على عرض وسائط الدفع في النظام الاقتصادي، ولإيضاح ذلك نفترض مرة أخرى أن جملة ما أودعه الأفراد لدى البنوك من النقود القانونية مليون من الجنيهات، وأن نسبة الرصيد النقدي الحاضر الذي تحتفظ به البنوك لمواجهة أوامر الدفع من قبل المودعين هي الربع.(2/610)
عندئذ يمكن للبنوك، وقد أحلت تعهداتها بالدفع محل النقود في الوفاء بالقروض، أن تقدم للناس من القروض ما قيمته ثلاثة ملايين من الجنيهات دون أن يؤثر ذلك على نسبة الرصيد النقدي الحاضر الذي تقتضي دواعي الحيطة والأمان الاحتفاظ بها لمواجهة طلبات الصرف المحتملة من قبل المودعين. ويتضح ذلك بالنظر إلى هذه الصورة المبسطة لميزانية النظام المصرفي (بصرف النظر عن حساب رأس المال) :
أصول جنيه خصوم جنيه
نقود في الخزانة 1000000 الودائع 4000000
سندات وقروض 300000 الجارية -
المبلغ 4000000 - -
وهكذا تهيأ للبنوك وقد أودع لديها مليون من الجنيهات أن تنشئ على دفاترها من الودائع ما قيمته أربعة ملايين، لا يمثل منها ما أودعه الناس بالفعل من نقود قانونية لدى البنوك سوى الربع – والربع فقط – على حين تتحصل الثلاثة ملايين جنيه الباقية في ودائع مخلوقة أنشأها النظام المصرفي بمناسبة ما قامت به مجموعة البنوك من عمليات التسليف والتثمير والإقراض.
ومن هنا يتضح لنا سذاجة الاعتقاد بأن مصدر الودائع المصرفية هو إيداع الأفراد أرصدتهم النقدية في صورة عملة قانونية لدى البنوك، فإن الودائع الأصلية التي تنشأ في ذمة البنوك التجارية على هذا النحو لا تمثل سوى قدر محدود من مجموع الودائع الثابتة على دفاتر البنوك، في حين ينشأ الشطر الأكبر منها بمناسبة قيام البنوك بعمليات إقراض أو تثمير يستوفيها في صورة ودائع قابلة للسحب لدى الطلب، ومن هنا أيضا تتحصل الخصيصة الأساسية لما تزاوله البنوك من نشاط في ميدان الإقراض فيما تهيأ لهذه المؤسسات من إقراض الناس ما ليس عندها أو بعبارة أدق، فيما توصلت إليه من خلق الموارد التي تستعملها في إقراض عملائها في غمار عملية الإقراض ذاتها.(2/611)
(مقدمة النقود والبنوك للدكتور محمد زكي شافعي ص170 – 172) وفي ص 176 عرض هذا التوضيح:
الدورة رقم المبلغ المودع بالجنيهات المستعمل في الإقراض الاحتياطي النقدي
1 1000 800 200
2 800 640 160
3 640 512 128
4 512 410 102
5 410 328 82
6 328 262 66
7 262 210 52
8 210 168 42
9 168 134 34
10 134 107 27
الجملة العمومية 5000 4000 1000
وفي كتاب مذكرات في النقود والبنوك للدكتور إسماعيل محمد هاشم نجد الفصل الخامس عنوانه "خلق نقود الودائع" (ص 47) .
ومما جاء في حديث المؤلف:
وقد أثبتت الخبرة العملية أنه في ظل الظروف الاقتصادية العادية تكون نسبة المسحوبات من النقود القانونية إلى مجموع ودائع البنك ثابتة إلى درجة كبيرة، وعادة لا تتجاوز هذه النسبة 10 % من مجموع الودائع، بل إنه كثيرا ما يحدث أن تقل هذه النسبة بدرجة كبيرة عن ذلك.(2/612)
وتعتمد هذه البنوك التجارية على هذه الحقيقة التي تعني بقاء جزء كبير من الودائع (تحت الطلب) دون سحب. ومن ثم لا تحتفظ إلا بنسبة محدودة من ودائعها في شكل نقود قانونية (في حدود10 %) لمقابلة طلبات السحب المحتملة، ما لم يلزمها القانون بالاحتفاظ بنسبة أكبر.
وفي ص 59 نجد هذا التوضيح:
رقم البنك الودائع النقدية الجديدة التي يتسلمها البنك الاحتياطي النقدي الودائع الجديدة
الأول 1000 100 900
الثاني 900 902 810
الثالث 810 81 729
الرابع 729 72.9 556.1
الخامس 656.1 65.6 590.5
بقية البنوك 5904.9 590.5 5314.4
المجموع 10000 1000 9000
من هذا كله نلحظ ما يأتي:
1 – الربا الذي يحصل عليه البنك يزيد عن ربا الجاهلية بكثير.
2 – وهو كذلك أسوأ من ربا الجاهلية؛ لأن البنك يقرض بالربا ما ليس عنده، وما لا يملكه، بل ما لا وجود له في الواقع.
3 – الحسابات الجارية التي تعتبر قروضا حسنة من المودعين تستغلها البنوك أسوأ استغلال، فتقرض أضعافها قروضا ربوية.
ومن هنا ندرك حرمة هذا التعامل مع البنوك الربوية إلا إذا دعت الضرورة.
4 – نقطة أشير إليها دون خوض فيها، وإنما أتركها لأهل الاختصاص، وهي علاقة خلق النقود بالتضخم وزيادة الأسعار.(2/613)
خصم الأوراق التجارية قرض ربوي
الأوراق التجارية عبارة عن صكوك تضمن التزاما بدفع مبلغ من النقود يستحق الوفاء عادة بعد وقت قصير، وتقبل البيئة التجارية على التعامل بهذه الأوراق كأداة لتسوية الديون نظرا لسهولة تحويلها إلى نقود قبل حلول أجل الوفاء للخصم لدى البنوك.
ويقصد بالخصم (1) . (أو القطع) دفع البنك لقيمة الورقة قبل ميعاد استحقاقها بعد خصم مبلغ معين يمثل فائدة القيمة المذكورة عن المدة بين تاريخ الخصم وميعاد الاستحقاق، مضافا إليها عمولة البنك ومصاريف التحصيل.
ويلاحظ أنه كثيرا ما تحرر السندات الإذنية (2) التي تخصمها البنوك لأمر البنك الذي يقوم بعملية الخصم، بحيث لا يعدو الأمر أن يكون عملية تسليف متخذة صورة عملية خصم. وتفضل البنوك هذا الوضع لاقتطاع الفوائد مقدما. والإفادة من الضمانات القانونية التي يحيط بها القانون الأوراق الجارية. (3)
ومن هذا نرى أن خصم الأوراق التجارية عملية ربوية واضحة، ولو أن البنك اكتفى بأخذ العمولة لكان هذا أجرا نظير قيامه بالتحصيل، وكان دفع القيمة قبل الموعد من باب القرض الحسن الذي لا تعرفه البنوك الربوية.
أما الفائدة التي يأخذها البنك فهي نظير الإقراض، ولذلك تختلف تبعا لقيمة الورقة التجارية، ولموعد الاستحقاق، فإن افترضنا أن الورقة التجارية قيمتها ألف جنيه، وموعد السداد بعد شهر، واحتاج صاحبها إلى قيمتها في الحال، فإن البنك يعطيه مثلا تسعمائة وخمسين محتسبا فائدة قدرها خمسون جنيها، فكأنه أقرضه تسعمائة وخمسين، ويسترد البنك دينه بعد شهر بزيادة خمسين، وهي بلا شك زيادة ربوية محرمة.
هذه بعض أمثلة للقروض الربوية، وقد ذكر الدكتور عبد الرازق السنهوري صورا مختلفة لعقد القرض نثبتها هنا كما ذكرها في كتابه الوسيط (5/437) .
__________
(1) من تعريفات الخصم ما يلي: (أ) أن الخصم اتفاق يعجل به البنك الخاصم لطالب الخصم قيمة ورقة تجارية أو سند قابل للتداول أو مجرد حق آخر، مخصوما منها مبلغ يتناسب مع المدة الباقية حتى استيفاء قيمة الحق عند حلول أجل الورقة أو السند أو الحق، وذلك في مقابل أن ينقل طالب الخصم إلى البنك هذا الحق على سبيل التمليك وأن يضمن له وفاءه عند حلول أجله. (ب) خصم السندات عقد يعجل المصرف بمقتضاه إلى حامل سند مالي على الغير لم يحل أجله دفع قيمته بعد اقتطاع الفائدة، على أن تنتقل ملكية السند إلى المصرف مقيدة بشرط استيفاء الدين عند حلول الأجل. (عمليات البنوك للدكتور علي جمال الدين – ص 496) ويلاحظ في التعريفات وجود الفائدة نظير إقراض قيمة الورقة التجارية، فهي إذن قرض ربوي
(2) السند الإذني من الأوراق التجارية، ويعرف بأنه "مكتوب وفقا لأوضاع حددها القانون ويتضمن تعهد شخص معين يسمى المحرر، بدفع مبلغ معين من النقود من تاريخ معين أو قابل للتعيين لأمر أو لإذن شخص آخر يسمى المستفيد ".انظر مقدمة النقود والبنوك للدكتور شافعي ص 214.
(3) انظر مقدمة النقود والبنوك للدكتور شافعي ص 212 – 214.(2/614)
قال رحمه الله: قد يتخذ القرض صورا مختلفة أخرى غير الصورة المألوفة.
من ذلك أن تصدر شركة أو شخص معنوي عام سندات، فهذه السندات قروض تعقدها الشركة أو الشخص المعنوي مع المقرضين، ومن اكتتب في هذه السندات فهو مقرض للشركة أو الشخص المعنوي بقيمة ما اكتتب به.
ومن ذلك تحرير كمبيالة أو سند تحت الإذن أو سند لحامله، فهذه الأوراق قد تكون قروضا يعقدها من حررها وهو المقترض لمصلحة من حررت له وهو المقرض.
ومن ذلك فتح اعتماد في مصرف لعميل، فالعميل يكون مقترضا من (المصرف) مبلغا حده الأقصى هو الاعتماد المفتوح.
ومن ذلك إيداع نقود في مصرف، فالعميل الذي أودع النقود هو المقرض والمصرف هو المقترض، وقد قدمنا أن هذه وديعة ناقصة وتعتبر قرضا.
ومن ذلك تعجيل مصرف مبلغا من النقود لعميل لقاء أوراق مالية مودعة في المصرف، فالمصرف يكون قد أقرض العميل هذا المبلغ الذي عجله في مقابل رهن هو الأوراق المالية المودعة في المصرف.
هذه هي الصور التي ذكرها، وقد أشرنا لبعضها، وكل قرض من هذه القروض يأخذ البنك أو غيره زيادة على رأس المال، فهي من الربا المحرم.
فإذا أردنا أن تزكو أموالنا وتطهر، لا أن تمحق وتسحق، فلنبحث عن الحل الإسلامي، فلا حل غيره ما دمنا مسلمين.
ولعل البنوك الإسلامية في عمرها القصير قد قدمت تطبيقا عمليا يمكن الاستفادة منه.(2/615)
الخاتمة
بعد هذا البيان لودائع البنوك، وبعض الصور الأخرى لعقد القرض في معاملاتنا المعاصرة، أحب أن أقول: أن واجبنا كمسلمين أن نخضع معاملاتنا للإسلام، لا أن نخضع الإسلام لمعاملاتنا، فبدلا من أن نأتي إلى أعمال البنوك الربوية ونحاول تبريرها، ونبحث عن مخرج للحكم بحلها، فلنطالب بتطهير أموالها من الربا، وبتحويل البنوك كلها إلى بنوك إسلامية، ما الذي يمنع بنوكنا وشركاتنا من أن تصبح إسلامية أفليس الحلال الطيب الذي يأتي عن طريق الشركات التي أباحها الإسلام خيرا من الاتجار في الديون والتعامل بالربا؟
إن الدين عند الله الإسلام، فهل الإسلام عقائد وعبادات فقط؟ لقد شكلت لجان لبحث تطبيق الشريعة، فعلينا أن ننادي بتطبيق الإسلام في المعاملات، والمساعدة في بيان كيفية التطبيق لا أن نحل الأوضاع الربوية القائمة.
إن الصالح لمعاملاتنا هو تطبيق الإسلام حتى يتطهر مالنا ويزكو ويبارك فيه، بدلا مما نراه من المحق والسحق وذهاب البركة وغير ذلك من بعض مظاهر حرب الله لنا، ليس الصالح نابعا من عقيدتنا فحسب، بل أن النظر إلى الاقتصاد المجرد يثبت هذا وقد بين هذا الجانب كثير ممن كتب في الاقتصاد الإسلامي.
وأشير هنا على سبيل المثال إلى ما جاء في محاضرة لمدير أحد البنوك الربوية.
تحدث المدير عن مشكلة المدخرات النفطية، وذكر أن هذه المدخرات وصلت سنة 1975 إلى خمسين (مليارا) في البنوك الأجنبية وعندما أضيفت إليها الفوائد وصلت سنة 1978 إلى خمسة وستين.
ثم قال: أن ارتفاع الأسعار خلال السنوات الثلاث وصل إلى الضعف، أي أن المدخرات مع فوائدها قيمتها الحقيقية هي 32.5 فقط، ولو أن هذه المدخرات استثمرت بالفعل في مشروعات إنمائية لكانت القيمة الحقيقية للخمسين هي مائة. وقال بأن دولة واحدة – وهي السودان – يمكن أن تستوعب هذه المدخرات جميعها في مشروعاتها.
وهنا قال أحد رجال الاقتصاد الإسلامي:
هذا دليل اقتصادي على تحريم الربا، وعلى أن مصلحة المسلمين في الاستثمار بالطريق التي أحلها الإسلام. فقال مدير البنك: أن هذا لم يخطر ببالي من قبل!
من هذا نرى أن المصلحة الاقتصادية ذاتها ليست في التعامل بنظام الفائدة، وإنما في المشاركة في التنمية والاستثمار، غير أن هذه ليست مصلحة فقط، وإنما هي عقيدة ودين.
فلنتعاون جميعا في الدعوة إلى تطبيق الإسلام في معاملاتنا، بدلا من أن نثير شبها تكون عونا وسندا للمرابين.
ونسأل الله عز وجل أن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى، إنه نعم المولى ونعم النصير، وهو المستعان، وله الحمد في الأولى والآخرة.(2/616)
حكم التعامل المصرفي المعاصر بالفوائد
فضيلة الدكتور حسن عبد الله الأمين
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
للوقوف على الحكم الشرعي للتعامل المصرفي المعاصر بالفوائد، يبدو لي أنه يلزم النظر المتأمل في عدة أشياء لتجلية معانيها وتوضيحها بصورة لا لبس فيها ولا غموض بقدر الإمكان؛ ليكون ذلك مدخلا إلى الغرض المطلوب.
من ذلك كلمة (الربا) ومدلولها العرفي الذي يفهمه العربي عند إطلاقها؛ لأهمية ذلك في تحديد الربا الجاهلي الذي ورد تحريمه في القرآن الكريم، وهل يتناوله ذلك التعامل المصرفي المعاصر، أم لا؟..
ومنها كلمة (الفائدة) وتحديد معناها اللغوي والاصطلاحي القديم والمعاصر وهل يتفق ذلك مع المفهوم العرفي لكلمة (الربا) أم يختلف عنه؟.. وفي ضوء ذلك يمكن إدخالها في نوع الربا القرآني، أو استبعادها منه، ومن ثم يسهل الوصول إلى الحكم الشرعي لها. وإذن فلنتكلم عن كل من هذين الأمرين حسب الترتيب أعلاه..(2/617)
معنى الربا
ما هو مدلول كلمة الربا في لغة العرب؟ وما هو مدلولها في عرفهم؟ وما هو معناها في الاصطلاح الشرعي؟
أولا: في اللغة – الربا في اللغة معناه الزيادة مطلقا من غير اختصاص شيء معين – من ربا الشيء يربو ربوا – أي زاد، ومنه قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} أي زائدة، وقوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي زادت.
ثانيا: في الاصطلاح:
الربا في الاصطلاح جاء على نوعين: -
النوع الأول: ربا الجاهلية الذي حرمه القرآن الكريم في عدد من الآيات، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (1) وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} إلخ. (2)
وهذا النوع من الربا له صورتان في مفهوم العرب، عرف بهما عندهم وتعاملوا به فيما بينهم وصار بهما حقيقة عرفية عندهم.
1 – الصورة الأولى: الزيادة على أصل الدين عند حلول الوفاء، وتأجيله مدة أخرى للعجز عن الوفاء.
2 – الصورة الثانية: الزيادة على دين القرض عند العقد ابتداء.
وهاتان الصورتان لمفهوم الربا في الجاهلية واللتان يتناولهما النص القرآني في عدد من الآيات ذكر كلا منهما عدد من المفسرين صراحة، وإن كان بعض المفسرين قد اقتصر على الصورة الأولى منهما، ربما لشهرتهما وكثرة جريانها عند العرب.
والذي يؤكد الصورة الثانية بما لا يقل عن الصورة الأولى شهرتها لدى اليهود على مدى التاريخ، وقد كانوا مستوطنين يثرب – المدينة المنورة – قبل الإسلام وفي مطلعه قبل إجلائهم، ولا يعقل أن تكون ممارستهم للربا بهذه الصورة، خافية على جيرانهم العرب على الأقل، أن لم يكونوا قد مارسوها مع اليهود أو فيما بينهم بعد أن تعلموها منهم.
وهذا ما يجعل تناول النص القرآني لها أمرا مؤكدا في مفهوم العرب آنذاك وما جرى به عرفهم.
__________
(1) سورة آل عمران الآية (130)
(2) سورة البقرة – الآيات 275 – 280.(2/618)
أقوال المفسرين
وإليك بعض ما قاله المفسرون عن هاتين الصورتين للربا الجاهلي المحرم بالقرآن:
عن الصورة الأولى: قال ابن جرير الطبري: " قال قتادة: أن ربا الجاهلية، يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه. وعن زيد بن أسلم قال: إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن، يكون للرجل فضل دين، فيأتيه إذا حل الأجل فيقول له: تقضي أو تزيدني، فإن كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك، أن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم جذعة، ثم رباعيا، ثم هكذا إلى فوق، وفي العين – الذهب والفضة – يأتيه، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا، فيكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة أو يعضه ". (1) وقال: عن عطاء قال: كانت ثقيف تداين بني المغيرة في الجاهلية فإذا حل الأجل قالوا نزيدكم وتؤخرون، فنزلت: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} . (2) ويكاد يكون جميع المفسرين بعد ابن إسحاق قد تكلم بهذا المعنى عن هذه الصورة لربا الجاهلية.
أما الصورة الثانية لربا الجاهلية – المتمثلة في ربا القرض فقد ذكرها عدد من المفسرين عند تعرضهم لتفسير آيات الربا ونوردها فيما يلي نقلا عن كتابنا (الودائع المصرفية النقدية واستثمارها في الإسلام) ص (261) وما بعدها، (قال أبو بكر الجصاص في كتابه أحكام القرآن عند تفسيره لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} قال: والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استعرض على ما يتراضون به، هذا كان المتعارف المشهور بينهم، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} فأخبر أن تلك الزيادة إنما كانت ربا في المال العين؛ لأنه لا عوض لها من جهة القرض) .
__________
(1) ابن جرير الطبري، جامع البيان، ج 7 ص 217 طبعة دار المعارف.
(2) ابن جرير الطبري، ج 7 ص 217 طبعة دار المعارف.(2/619)
ثم قال: ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا، من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل، مع شرط الزيادة. (1)
وقال الفخر الرازي في تفسيره: أن ربا النسيئة، هو الذي كان مشهورا متعارفا في الجاهلية، ذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا، ويكون رأس المال باقيا، ثم إذا حل الدين طالبوا المدين برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء، زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا يتعاملون به (2)
ومثل ما قاله الفخر الرازي ذكره ابن حجر الهيثمي فقال: " وربا النسيئة هو ما كان مشهورا في الجاهلية؛ لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره – أي إلى أجل – على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا ورأس المال باق بحاله، فإذا حل الأجل طالبه برأس ماله، فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل، ثم قال: وتسمية هذا بنسيئة – مع أنه يصدق عليه ربا الفضل أيضا – لأن النسيئة هي المقصودة فيه بالذات، وهذا النوع مشهور الآن بين الناس وواقع كثيرا ". (3)
__________
(1) أحكام القرآن ج 1 ص 465
(2) مفاتيح الغيب – المشهور بالتفسير الكبير ج 2 ص 529
(3) الزواجر عن اقتراف الكبائر ج 2 ص 222 طبعة مصطفى الحلبي(2/620)
أقوال الفقهاء
تلك كانت أقوال المفسرين في ربا الجاهلية الذي تناولته آيات القرآن ومنه القرض بزيادة مشترطة عند العقد، فإذا انتقلنا إلى أقوال الفقهاء، فإنا نجد عددا منهم يعتبر القرض بزيادة عند العقد صورة أخرى من صور ربا الجاهلية المحرم بالقرآن، قال الكمال ابن الهمام: " الربا: يقال لنفس الزائد، وفيه قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} أي الزائد في القرض والسلف على المدفوع.. ويقال لنفس الزيادة أعني بالمعنى المصدري، ومنه قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . أي حرم أن يزاد في القرض والسلف على القدر المدفوع ". (1)
وهذا كلام صريح بأن الزيادة في القرض عند العقد هي من ربا الجاهلية المحرم بنصوص القرآن الكريم.
ربا الديون، وربا البيوع
ونجد ابن رشد الحفيد يقسم الربا إلى ربا ديون، وربا بيوع – فيقول: " اتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين: في البيوع، وفيما تقرر في الذمة، من بيع أو سلف أو غير ذلك ". (2) وهو تقسيم دقيق، اتجه إليه أغلب العلماء في هذا العصر، ويدخل في ربا الديون إحدى صور ربا الجاهلية الذي حرمه القرآن – وهو ربا النسيئة – أي الزيادة في الدين في نظير الأجل، سواء نشأ ربا الدين عن قرض بزيادة مشترطة عند العقد، أو بيع مؤجل أعيد تأجيله بربا للعجز عن الوفاء عند الأجل الأول، وعلى ذلك فربا الديون هذا قاصر على النساء فقط ولا يدخله ربا الفضل.
أما ربا البيوع فهو شامل لربا الفضل، وربا النسيئة كل على حدة – حسب التقسيم القديم المعهود، وقد يجتمعان معا في وقت واحد كما في بيع الربوي بجنسه مع التفاضل – كبيع أوقية من الذهب بأوقية وربع الأوقية، إلى أجل شهر مثلا.
ونعود إلى ابن رشد فنجده يستطرد قائلا: " فأما الربا الذي تقرر في الذمة فهو صنفان: صنف متفق عليه، وهو ربا الجاهلية: الذي نهى عنه، وذلك أنهم كانوا يسلفون بالزيادة، وينظرون، فكانوا يقولون: أنظرني أزدك. وهذا هو الذي عناه عليه الصلاة والسلام بقوله في حجة الوداع: ((ألا إن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب)) . (3) فابن رشد يجعل السلف بزيادة من صنف ربا الجاهلية المنهي عنه بالقرآن الكريم – وهو القرض بزيادة، وهو كما يقول صنف متفق عليه.
ويقول ابن قدامة: "وكل قرض شرط أن يزيده فهو حرام بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن السلف إذا شرط على المستلف زيادة أم هدية، فأسلف على ذلك: أن أخذ الزيادة على ذلك ربا ". (4)
__________
(1) فتح القدير على الهداية ج 5 ص 274 الطبعة الأميرية.
(2) بداية المجتهد ج 2 ص 128 – طبعة دار المعرفة.
(3) بداية المجتهد – طبعة دار المعرفة.
(4) المغني لابن قدامة ج 4 ص 360.(2/621)
ومن أقوال المفسرين والفقهاء التي سردناها يتبين بجلاء أن القرض بزيادة مشترطة عند العقد هو إحدى صورتي ربا الجاهلية الذي حرمه القرآن والذي كان مفهوما لدى العرب ومعلوما لهم من كلمة الربا عند إطلاقها، وهو من ربا الديون، وليس من ربا الفضل الذي حرمته السنة المطهرة، والذي لا يكون إلا المبيعات، ولا يدخل في ربا الديون بحال.
ولقد حاول بعض العلماء المعاصرين إدراج ربا الفضل المشترط فيه الزيادة عند العقد ربا الفضل، للوصول بذلك إلى إباحته للحاجة الملحة، على أساس أن ربا الفضل من باب سد الذرائع كما يقول ابن القيم وما كان من هذا الباب يجوز عند الحاجة الملحة (1) ، كما يقولون.
وهذا الرأي غير صحيح لما تقدم من اعتبار ربا القرض المشترطة فيه الزيادة من ربا الديون، والذي هو إحدى صورتي ربا الجاهلية الذي حرمه القرآن ونهى عنه وليس هو من ربا البيوع – الذي يدخل ضمنه ربا الفضل.
ولأن الزيادة مع الأجل ليست فضلا وإنما هي عوض الزمن الإضافي ومقابل له، ولا يكون الفضل إلا حيث لا مقابل – فالزيادة تكون فضلا إذا كان تبادل العوضين حاضرا – أما مع الأجل فهي نساء في مقابل الأجل وليست فضلا.
__________
(1) رسالة الربا والمعاملات في الإسلام للشيخ رشيد رضا ص 15 وفتاويه ج 2 صفحات 607، 608.(2/622)
النتيجة المنطقية
فهذه النصوص المختلفة فيما نقل من فعل أهل الجاهلية بشأن القرض، توضح أنهم كانوا يفعلون ذلك في الغالب – على الأقل – بزيادة مشروطة في العقد – أي بما نسميه الآن في المصارف بالفائدة – وقد يكون في بعض الأحيان قرضا حسنا حسبة للمعوزين.
فكيف يقال: أن الزيادة التي أضيفت على المال بعد الاستحقاق ثم التأجيل "ربا" – سواء أكان أصل الدين قرضا أم ثمن سلعة – أما الزيادة التي زيدت على المستلف في مبدأ الإقراض، والثانية التي أضيفت على المال بعد الاستحقاق ثم التأجيل، وبهذا يتناسق التشريع – كما هو الشأن في تشريعات الإسلام – والأمر الثاني: أن يقع في التناقض – وحاشا لله، وهو أمر مستحيل) (1) فلم يبق إلا التسوية بين الزيادتين في الحكم واعتبار النص القرآني متناولا لهما معا، وإجراء حكمه عليهما.
ومن جهة ثانية، فما دمنا كلنا متفقين على أن القرض الجاهلي كان بعضه حسنا وبعضه الآخر بالزيادة المشروطة في أصل العقد وهذه الزيادة مماثلة للزيادة اللاحقة بعد الاستحقاق والتأجيل مرة أخرى. فلا مفر من التسوية بينهما في الحكم، إلا بدليل يخصص إحداهما بالحكم دون الأخرى. وليس بين يدينا هذا الدليل، فتكون التفرقة بينهما في الحكم تحكمًا.
__________
(1) ربوية الفوائد المصرفية، للشيخ عثمان صافي المكتب الإسلامي – 28 بيروت.(2/623)
ربا البيوع
ذكرنا فيما مضى تقسيم الربا – كما جرى حديثا- إلى ربا ديون وربا بيوع، وأن هذه الطريقة أوضح وأبين من الطريقة القديمة – التى كانت تقسم إلى ربا نسيئة وربا فضل، لأن الأخيرة فيها كثير من الخلط وعدم الوضوح.
وتكلمنا عن ربا الديون، وكيف أن ربا الجاهلية المحرم بالقرآن هو من هذا القبيل، ومنه ربا القرض المشترط فيه الزيادة عند العقد.
وننتقل الآن للحديث عن ربا البيوع في شئ من الإيجاز لبيان صورته المقابلة لربا الديون – بالرغم من قلة حاجتنا إليه في بيان (حكم التعامل المصرفى بالفوائد) الذى هو موضوع بحثنا – حيث يقع في نطاق ربا الديون – كما سيأتى إن شاء الله.
فنقول: أن ربا البيوع: هو الذى حرمته السنة النبوية الشريفة بقوله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه عبادة بن الصامت قال: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) (1) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن ماعدا الترمذى. وما رواه أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجر)) .. متفق عليه (2) . فهذان الحديثان الصحيحان وأحاديث أخرى مثلهما في هذا الباب جاءت بتحريم نوع معين من البيوع وسمته ربا – وهو ما يطلق عليه ربا الفضل تغليبا للفضل على ربا النسيئة – وهو في الواقع يشمل ربا الفضل وربا النسيئة كما قدمنا..
ولم يكن هذا النوع من البيوع معروفا لدى العرب في الجاهلية بكونه ربا، وإن كانوا يتعاملون به، ولكنه لم يكن معروفا عندهم بكونه ربا، لا لغة ولا عرفا (3) ، وإنما أصبح ربا بالسنة النبوية التى أوردناها في الأحاديث السابقة، وكله متعلق بالبيوع سواء كان بيع النقدين أو غيرهما من الأصناف الربوية التى وردت في الأحاديث النبوية الصحيحة، أو ما قيس عليها من الأموال الأخرى لدى القائلين بالقياس من الفقهاء.
وهذا النوع من الربا مجمع على تحريمه كالنوع الأول المتعلق بالديون والمحرم بالقرآن – ماعدا ما نقل عن ابن عباس رضى الله عنهما من إنكار لربا الفضل، استنادا إلى حديث أسامة بن زيد (لا ربا إلا في النسيئة) . وقد قيل أن ابن عباس رجع عن إنكاره لربا الفضل (4) .
__________
(1) نيل الأوطار للشوكانى ج 5 ص 300
(2) نيل الأوطار للشوكانى ج 5 ص 297
(3) أبوبكر الجصاص، أحكام القرآن ج 1 ص 464، ومحمد أبو زهرة، بحوث في الربا ص33
(4) تكملة المجموع، شرح المهذب للسبكى ج 1 ص 31-34(2/624)
أساس تقسيمات الربا ودليل كل نوع
والأساس الذى قام عليه تقسيم الربا إلى ربا ديون، وربا بيوع. وأن الأول ثابت بالقرآن الكريم – وهو ربا الجاهلية. والثانى ثابت بالسنة الصحيحة ولم يكن معروفا بكونه ربا عند العرب في جاهليتهم.
هو أن الألف واللام في كلمة (الربا) التى وردت في القرآن إنما هى للعهد على الأصح وليست للعموم والاستغراق، كما أنها ليست مبهمة بحيث تحتاج إلى بيان بأمر آخر، كما ذهب إلى ذلك أغلب المفسرين (1) . بأكثر من ثمن الأصل، وكالصوف واللبن وتمر النخيل، إذا كانت أصولها للقنية – فهذه كل فائدة مستفادة (2) فمعنى الفائدة في الاصطلاح الفقهى أخص من المعنى العام اللغوي لهذه الكلمة، أما معنى الفائدة في الاصطلاح المصرفي فهو (الثمن المدفوع نظير استعمال النقود) ، وهو بعيد عن معناها في الاصطلاح الفقهى ولكنه يدخل في المعنى اللغوي العام للكلمة.
معنى الربح: فإذا انتقلنا إلى وجه آخر من وجوه الكسب المشروعة وهو الربح، فإنا نجد الفقهاء يعرفونه بأنه: (زائد ثمن مبيع تجر – أي تبادل تجاري – على ثمنه الأول ذهبا أو فضة) (3) أي أن الربح هو الزائد عن ثمن السلعة المشتراه منذ البداية بنية بيعها تجاريا، أما إذا لم يكن الزائد عن ثمن سلعة مشتراه بغرض ونية الاتجار بها فإنه لا يسمى ربحا، وقد يسمى فائدة كما مر، أو قد يسمى غلة على ما سيأتى، ولابن قدامة الحنبلى قول في معنى الربح يطابق تعريف المالكية له، وذلك في معرض كلامه عن زكاة نماء عروض التجارة قال: " أن الزكاة لا تجب إلا في مال نام.. وإن النماء. "
__________
(1) انظر الودائع المصرفية، شرح المهذب للسبكى ج 1 ص 274- 279
(2) جواهر الإكليل – شرح الرسالة، للشيخ صالح الأبى ص 338، وحاشية الدسوقى على الشرح الكبير ج 1 ص 431
(3) شرح الخرشي على خليل ج 2 ص 183(2/625)
معنى الفائدة المصرفية
ذكرنا في التمهيد: أننا لكي نصل إلى حكم سليم للتعامل المصرفي بالفائدة لابد لنا من توضيح مفاهيم كلمة الربا وكلمة الفائدة توضيحا كاملا لنتمكن بذلك من عقد المقارنة بينهما ثم نرى ما إذا كان بينهما التقاء كلي أو جزئي أم لا، فإن التقيا التقاء تاما أخذت الفائدة المصرفية حكم الربا الذى شرحناه. وإلا، أصبحت آخر ويأخذ حكما مختلفا.
ولقد أوفينا كلمة (الربا) حقها بعض الشئ، من الشرح والتوضيح وننتقل الآن لشرح وتوضيح كلمة الفائدة، في اللغة العربية، وفى الاصطلاح الفقهي، وفى الاصطلاح المصرفي. ولزيادة الإيضاح نذكر معانى بعض الكلمات الشبيهة بالفائدة من حيث كونها أسماء لبعض وجوه الكسب.
كالغلة، والربح، لمعرفة ما إذا كانت الفائدة تمثل واحدة منهما. ونبدأ بالفائدة فنقول:
1- الفائدة في اللغة: جاء في تاج العروس: " أن الفائدة ما افاء الله تعالى العبد من خير يستفيده ويستحدثه " (1) وقال في ترتيب القاموس " الفائدة: ما استفدت من علم أو مال جمع فوائد " (2) وهذا معنى عام يشمل المال وغيره وسواء أكان المال مشروعا مكتسبا بوجه مشروع أم لا.
2- أما الفائدة في الاصطلاح الفقهي فهي: " ما تجدد – أي نتج – لا عن مال كميراث وعطية، أو عن مال غير مزكى كالزائد من ثمن عروض القنية – إذا بيعت في الغالب في التجارة إنما يحصل بالتقليب " (3) والنماء – أي – الزيادة التى تحصل من تقليب التجارة بيعا وشراء، - هو الربح دون شك، فالربح إذن عند ابن قدامة كما هو عند فقهاء المالكية هو ما نتج عن عملية تبادل تجاري، تقلب فيه النقود إلى عروض تجارية، ثم تباع هذه العروض التجارية بثمن أزيد من ثمن شرائها، فهذه الزيادة عن الثمن الأول تسمى في الاصطلاح الفقهي ربحا.
3- معنى الغلة: الغلة في المصطلح الفقهي هي: " ما تجدد – أي نتج – من سلع التجارة قبل بيع رقابها، كالصوف واللبن وتمر النخيل المشترى للتجارة، وكزيادة المبيع في ذاته، إذا اشتراه للتجارة صغيرا بعشرين، ثم باعه بعد كبره بخمسين مثلا" (4) فهذه الزيادة لا تسمى ربحا، وإنما تسمى غلة.
__________
(1) تاج العروس من ظواهر القاموس ج 8 ص 517
(2) ترتيب القاموس المحيط ج 3 ص 478
(3) المغنى ج 3 ص 34
(4) المغني ج3 ص34(2/626)
اختلاف المعنى العرفي المصرفي
للفائدة عن المعنى الشرعى لها
ومن الشرح المتقدم لبيان معانى بعض أوجه الكسب المشروع يتبين لنا أن المعنى الاصطلاحي للفائدة المصرفية يختلف عن معنى هذه الكلمة في الاصطلاح الفقهي كما يختلف عن غيره من أوجه الكسب المشروع الأخرى لأنها كما تقدم.
(هى الثمن المدفوع نظير استعمال النقود) أي مقابل اقتراضها بزيادة لأجل محدد. فهي لا تتفق مع معنى الربح الشرعي، ولا مع معنى الغلة الشرعية في المصطلح الفقهي.
انطباق معنى الربا على الفائدة المصرفية
وإذا كان معنى الفائدة المصرفية التى يجرى التعامل المصرفي بها في الوقت الحاضر لا ينطبق على مفهوم الفائدة، ولا الغلة ولا الربح في الاصطلاح الفقهي فهل ينطبق معناها على الربا الشرعى المتقدم ذكره، ويأخذ حكمه في الشرع، أم يختلف عنه كما اختلف مع تلك الأشياء؟
لقد ذكرنا من قبل أن تعريف الفائدة المصرفية الذى يقول (إنها الثمن المدفوع نظير استعمال النقود) معناه أنها الزيادة مقابل إقراض النقود إلى أجل – وهذا معنى القرض بزيادة مشروطة عند العقد والذى بينا من قبل أنه إحدى صورتي ربا الديون المعروف في الجاهلية والذى حرم بنص القرآن الكريم في عدد من الآيات.
يتضح ذلك بجلاء إذا علمنا أن المبالغ المالية التى تستخدمها – المصارف – أي تقدمها في عمليات الإقراض المباشر وغير المباشر للمتمولين – أي طالبى التمويل من التجارة وأصحاب الأعمال الأخرى، وتأخذ مقابل ذلك مبالغ محددة سلفا، زيادة على أصل المبلغ تسمى (بالفائدة) هذه المبالغ ما هي في الغالب إلا الودائع المؤجلة أو ودائع الادخار.(2/627)
وهذه الودائع المذكورة متفق على أنها قروض في فقه القانون وفي التشريعات القانونية بل وفي تخريجها الشرعي.
كما أن البنوك نفسها تدفع لأصحاب هذه الأموال التى يودعونها لديها مبالغ عائدة على أصلها عند ردها لأصحابها – مشروطة تلك المبالغ الزائدة عند استلامها باعتبارها قروضا مباشرة (بالفائدة) .
فالفائدة إذن ما هى إلا زيادة مشروطة في قرض مؤجل لمصلحة المودع في حالتى الودائع المؤجلة أو ودائع الادخار، ويدل على ذلك عدم وجودها في الودائع الجارية – أي تحت الطلب – مع كونها معتبرة قروضا أيضا في الفقه القانون والتشريع.
كما أن الفائدة زيادة مشروطة في قرض مؤجل لمصلحة البنك في حالة إقراضه للمتمولين الآخرين.
فهي على هذا الوجه أو ذلك زيادة مشروطة في قرض مؤجل، وبذلك تلتقى تماما في مقاييس الفقه والشريعة الإسلامية بمعنى الزيادة في القرض عند العقد، وتمثل بذلك إحدى صورتي ربا الجاهلية الذى حرم تحريما قاطعا بنص القرآن الكريم، بل هي الصورة البارزة في ربا الجاهلية، حتى أن أبا بكر الجصاص بالغ في توكيدها حتى قال " ولم يكن تعاملهم – أي عرب الجاهلية – بالربا إلا على هذا الوجه الذى ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط الزيادة (1)
__________
(1) أحكام القرآن ج 1 ص 465(2/628)
شاهد من أهلها
والفائدة المدفوعة كثمن لاستعمال النقود، كانت تعتبر (ربا) عند أصحابها الغربيين انفسهم، ولكن التطور التجاري والصناعي والحاجة إلى الائتمان لمواجهة هذا التطور جعلهم يتنازلون عن تشددهم على أخذ الفوائد، ويقصرون اسم الربا على ما زاد الذى سمح به عن القدر القانون أو العرف (1) .
بل أن بعض كبار علماء الغرب من لا يزال يسمى الفائدة المصرفية مهما قلت (ربا) ينقل في ذلك الدكتور عيسى عبده عليه رحمة الله عن اللورد كينز أحد أعمدة الاقتصاد الغربي قوله " وحين تتوافر رؤس الأموال المتاحة للتوظيف في صورة مدخرات خاصة أو جماعية فإن سعر الفائدة يهبط بطبيعته إلى الصفر، ولا يبقى مجال يعيش المستثمر المتبطل على حساب المجتمع بما يقتضيه من فائض ربوي في صورة فائدة، أو ربح فاحش" (2) .
__________
(1) د. سامى حسن محمود، تطوير الأعمال المصرفية ص 294
(2) وضع الربا في بناء الاقتصاد الإسلامى ص 185-186(2/629)
ربا القرض ليس قاصرا على الأموال الربوية
كما ذهب بعض آخر من الكتاب إلى أن (الفوائد) التى يتعامل بها الناس في النظام المصرفى المعاصر تجرى في نوع من المال الذى يعتبر من نوع الفلوس وليست من نوع الذهب والفضة – والفلوس فيما يرى ليست أثمانا كالذهب والفضة حتى يجري فيها الربا (1) .
ومع اختلافنا مع هذا الفريق في قوله بعدم ربوية الفلوس والنقود الورقية المعاصرة، فإننا نقول إنه فرض صحة هذا الرأى، فإن هذا لا ينطبق على ربا القروض. ذلك أن (الربا) القرض يسرى في جميع الأموال ما كان منها ربويا في الأصل كالأصناف الستة الواردة بالأحاديث النبوية الشريفة كالذهب والفضة والبر والشعير.. إلخ، وما كان منها غير ربوي في الأصل –على رأي هذا الفريق – كالفلوس المصنوعة من الحديد والنيكل والبرونز، والأوراق النقدية في الوقت الحاضر، فبمجرد قرض شئ من هذه الأشياء تصبح الزيادة فيه (ربا) لأن القرض يجب أن يرد كمثله دون زيادة مهما كان نوعه من الأموال، باتفاق العلماء. قال ابن حزم في كتابه المحلى " الربا لا يكون إلا في بيع أو سلم أو قرض.. وهو في القرض، في كل شئ فلا يحل إقراض شئ ليرد إليك أقل ولا أكثر، ولا من نوع آخر أصلا، لكن مثل ما اقرضت في نوعه ومقداره.. وهذا إجماع مقطوع به" (2) وقال " وأما القرض فجائز في الأصناف الستة التى ذكرناها وغيرها، وفى كل ما يمتلك ويحل إخراجه عن الملك، ولا يدخل الربا فيه إلا في وجه واحد فقط وهو اشتراط أكثر مما أقرض، أو أقل مما أقرض، أو أجود مما أقرض، أو أدنى مما أقرض، وهذا مجمع عليه" (3) ولذلك كله فإن الفوائد المصرفية باعتبارها قرضا بزيادة مشترطة تظل ربا محرما بأى نقد كانت.
__________
(1) د. أحمد صفى الدين، في كتابه "بحوث في الاقتصاد الإسلامى" ص 37 وما بعدها.
(2) المحلى ج 2 ص 467- 468 و 77 على التوالى
(3) المحلى، ج 2 ص 467- 468 و 77 على التوالى(2/630)
وضوح القضية
من المسار المتقدم أصبح أمر الفوائد المصرفية جلى وواضح بدرجة فيما نعتقد لا لبس فيها ولا غموض – وهو أنها نوع من ربا الديون الناشئة عن قروض بزيادة مشترطة في أصل العقد، ومتفق عليها منذ البداية بين طرفيه، وهى والحال هكذا أمر لا ريب في حرمتها حرمة مغلظة باعتبارها صورة لربا الجاهلية الذى شجبه القرآن وحرمه وأنذر متعاطيه بحرب من الله ورسوله، وهو أشنع أنواع الوعيد.
وكان بعض الزملاء بمعهد البحوث الإسلامية بالبنك الإسلامى يرى أن موضوع (حكم التعامل المصرفي بالفوائد) أصبح أمرا معلوم الحرمة لدى الرأي العام الإسلامي باعتباره ربا، ولم تعد هناك حاجة لإنفاق الوقت في دراسته دراسة جديدة.
ولكن يبدو أن هؤلاء الإخوة لم يطلعوا على وجهات نظر بعض المهتمين بالكتابة في هذه المسائل والذين لم يصلوا إلى القناعة التى يشير إليها الإخوة المعترضون على دراسات جديدة في هذا الموضوع وقد أشرنا فيما تقدم لبعض وجهات نظر هذا الفريق (1) .
فكان لابد أن تقوم بعض المعاهد المختصة بهذه المسائل، وخاصة مجمع الفقه الإسلامي بتقديم دراسات علمية مستوفاة تستنفر لها ما تيسر لها الوصول إليهم ممن تأنس فيهم المقدرة على أداء هذه المهمة من علماء المسلمين ثم تبنى على ذلك قرارات تكون هى المرجع والممثل لوجهة النظر العامة للمسلمين في هذا الموضوع.
__________
(1) انظر ص 7(2/631)
هل الفائدة المصرفية من باب السلم
من جهة أخرى ذهب بعض الباحثين إلى أن الفائدة المصرفية ليست فضلا – أي زيادة في قرض: -
1- لأن الأموال التى تسلمها البنوك أو تدفعها بأجل للمقترضين ليست هى في الحقيقة قرضا، لأنها مؤجلة، والأجل لا يجوز في القرض عند الشافعية.
2- وأن تلك الأموال تدخل في عقد السلم، لأن السلم يجوز فيه الأجل عند الشافعية.
3- أن الربا في السلم لا يقع في الأموال غير الربوية – الذهب والفضة، والبر، والشعير.. إلخ.
وبما أن الأوراق النقدية ليست من الأموال الربوية – كمثل الفلوس – في مذهب الشافعية، فإنه يرى الفائدة المصرفية ليست من ربا البيوع وعلى ذلك فإن الفائدة حلال.
وهذه القضية كما طرحها صاحبها غير صحيحة، وإليك نقضها فيما يلى:
المسألة المسارة بين الفقهاء حول الأجل في القرض – والتى بنى عليها هذا الباحث رأيه في جعل الأموال التى تتداولها البنوك أخذا أو عطاء مع عملائها، نوعا من السلم- هى: هل الأجل في القرض ملزم أم لا- بمعنى أنه يلزم المقترض رد القرض وقتما يطلب ذلك منه المقترض ولو كان له أجل مضروب ولم يحل وقته؟ قال الفقهاء كلهم الشافعية وغيرهم ما عدا المالكية، قالوا: " نعم يلزم رد القرض بمجرد طلبه بصرف النظر عن الميعاد المضروب لرده، لأن القرض إرفاق وإحسان، وما على المحسنين من سبيل، وقال المالكية: لا بل الأجل لازم ولا يجب على المقترض رد القرض إلا في الأجل المحدد له، لأن عدم لزوم الأجل قد يترتب عليه إلحاق ضرر بالمقترض، وهذا أمر يتنافى مع غرض مشروعية القرض – وهو الإرفاق بالمقترض لا إعناته والإضرار به.
وسواء أصح ما ذهب إليه المالكية – كما نرى – أم ما ذهب إليه غيرهم فإنهم جميعا المالكية وغيرهم متفقون على أن لزوم – اشتراط الأجل، أو عدم لزومه في القرض، لا يؤثر في صحة عقد القرض، ولا يبطله، أو يخرجه عن ماهيته، ويحوله إلى عقد آخر – كعقد السلم – كما يقول الباحث.(2/632)
وقوله: أن اشتراط الأجل لا يجوز عند الشافعية، قول غير صحيح لأن قضية الأجل عند الشافعية وغيرهم هي حول لزومه، وعدم لزومه كما ذكرنا، لا بخصوص جوازه أو منعه، وفرق كبير بين جواز الشرط وبين لزومه.
وعليه فإن القرض مع الأجل يظل صحيحا وتترتب عليه آثاره باتفاق جميع الفقهاء، ولا يتحول إلى عقد سلم سواء قلنا بلزوم شرط الأجل فيه أم لا.
ومن جهة أخرى، فإن السلم لا ينعقد إذا كان رأس مال السلم والمسلم فيه نقدا – أي الثمن والمثمن، حتى ولو كان النقد من نوع (الفلوس) ، ما لم يتحدد القدر والصنف، ويكون بلفظ القرض أو – السلف فينعقد حينئذ قرضا حتما، أما سلما فلا ينعقد إطلاقا.
فقد جاء في حاشية الصاوى على الشرح الصغير الآتى:
" قوله: إلا أن يكونا طعامين أو نقدين إلخ، فلا يجوز أن تقول لآخر: أسلمتك أردب قمح في أردب قمح ... ، ولا أسلمك دينارا في قدر من فضة أو دينار، ما لم يتحدد القدر والصنف، ويكون بلفظ القرض – أو السلف، وإلا، جاز. وعلم أن الفلوس الجدد هنا كالعين، فلا يجوز سلم بعضها" (1) .
وجاء في رد المحتار: " الدراهم والدنانير لأنها أثمان، فلم يجز فيها سلم " وعلق على ذلك ابن عابدين بقوله: " لكن إذا كان رأس المال دراهم أو دنانير أيضا، كان العقد باطلا اتفاقا " (2) .
وبناء على ما أوضحنا تصبح دعوى تحويل الأموال المتبادلة بين المصارف وعملائها داخلة في عقد السلم – وليست قروضا، وبالتالى تصبح الفوائد عليها حلالا لأن السلم لا يدخله الربا إذا كانت الأموال المستعملة فيه ليست من الأموال الستة الربوية – كالنقود الورقية والفلوس، أقول: تصبح هذه الدعوى منقوضة من أساسها، لعدم صحتها كما بينا.
__________
(1) ج 3 ص 366 طبعة دار المعارف بمصر.
(2) حاشية ابن عابدين من ج 5 ص 209-210. ولمزيد من الاطلاع في هذه المسألة: انظر كتابنا (الفوائد المصرفية، والربا) صفحة 28-32، الناشر الاتحاد الدولى للبنوك.(2/633)
أنواع التعامل المصرفى الذى تدخله الفائدة
فيما مضى بينا معنى الربا تفصيلا، ومعنى الفائدة المصرفية وانتهينا إلى أنهما يمثلان شيئا واحدا ولا خلاف بينهما إطلاقا، وبناء على ذلك يجب أن تأخذ الفائدة حكم الربا تماما، فما هى إذن أنواع التعامل المصرفى الذى تدخل فيه الفائدة؟
الإجابة على ذلك فيما يلى: أن الأعمال – أو التعامل المصرفي الذى يمثل الوظيفة الأساسية للمصارف ينقسم إلى نوعين:
الأعمال الخدمية
النوع الأول: يتعلق بالنواحى الخدمية التى يقدمها المصرف لزبائنه والمتعاملين معه بالأجر، وهو ليس من باب الأعمال التى تدخلها الفائدة في العادة، ويشمل الأعمال التالية:
1- قبول الودائع الجارية – تحت الطلب – وحفظها لأصحابها، وهو في الغالب يأخذ على هذه الخدمة أجرة، وخاصة إذا كانت المبالغ المودعة قليلة، أما إذا كانت المبالغ كبيرة فهو في العادة لا يأخذ عليها أجرة، لأنه كما هو واقع الحال، يستفيد منها في استخداماته لها، وهي في الغالب تمثل أكبر موارد المصارف.
2- حفظ الأوراق المالية – الأسهم، السندات.. إلخ.
3- بيع الأوراق المالية – الأسهم، السندات.. إلخ.
4- تحصيل الأوراق التجارية – الكمبيالات – مثلا.
5- إصدار خطابات الضمان – المغطاة – أما المكشوفة فالحديث حولها ما زال مطروحا في اللقاءات العلمية.
6- الاعتمادات المستندية التى لا يقدم المصرف فيها مبالغ نقدية.
7- ويلحق بهذا قيام المصرف بعمليات الصرافة، أي بيع وشراء العملات المختلفةبعضها بالبعض الآخر.
هذه أبرز الأعمال التى تقوم بها المصارف في باب الخدمات.(2/634)
أعمال الإقراض والتسليف
النوع الثانى: من التعامل المصرفي الذى تدخله الفائدة وهو من أعمال الإقراض والتسليف في الغالب – أي ما يطلق عليه منح الائتمان في العرف المصرفي، وقلنا في الغالب لأن هناك من القروض والسلف ما قد يكون حسنا، حسبة لله تعالى بدون (فائدة) . وفيما يلى أغلب أنواع هذا النوع وأظهرها:
1- الفوائد المدفوعة من المصارف، على المبالغ المودعة لديها، خاصة في شكل حسابات بأجل – أيا كان الأجل، شهرا أو عدة شهور، أو سنة وقد تقدم تعريف الفائدة فلا داعي لتكراره.
2- الفائدة على القرض النقدى المباشر – وهو واضح وبسيط ولكنه لا يمثل إلا قدرا محدودا في العادة من النشاط المصرفي، لارتباطه بقضاء حاجات محدودة للمتعاملين مع المصارف.
3- الاعتمادات المصرفية – والاعتماد المصرفي كما يعرفه د. محمد شفيق هو: " عقد بين بنك وعميل، يتعهد فيه البنك بوضع مبلغ معين تحت تصرف العميل، خلال مدة معينة " ولأنه عقد يضع البنك بموجبه مبلغا محددا من المال تحت تصرف العميل بحيث يسحبه العميل دفعة واحدة أو على عدة دفعات متعددة، أثناء المدة الزمنية المقررة لسريانه، فإنه والحال هذه، بالإضافة إلى كون هذا المبلغ المسموح للعميل بسحبه بموجب هذا العقد لا تستحق عليه فوائد إلا فيما يسحب منه بالفعل ومن تاريخ السحب، فإنه لهذين الأمرين يمثل الوسيلة الملائمة للعمل التجاري بعكس القرض المباشر الذى تستحق عليه فوائد من حين أخذه، ولو لم يستفد منه في وقته.
4- الفائدة –على خصم الأوراق التجارية – الكمبيالات- وسندات الإذن، القابلة للتداول، وقد عرفوا الخصم بأنه " اتفاق يعجل به البنك الخاصم، لطالب الخصم قيمة ورقة تجارية، أو سند قابل للتداول، أو مجرد حق أخر مخصوم منها مبلغ يتناسب مع المدة الباقية، حتى استيفاء قيمة الحق عند أجل الورقة، أو السند، أو الحق، وذلك في مقابل أن ينقل طالب الخصم إلى البنك هذا الحق على سبيل التمليك، وأن يضمن له وفاءه عند حلول أجله" (1) . والفائدة على خصم الأوراق التجارية تدخل في هذا الباب على اعتبار أن عملية الخصم هى على القول الراجح في تكييفها الشرعى من قبيل القرض بفائدة. وليست من قبيل حوالة الحق لعدم تساوى الدين المحال به والمحال عليه – وذلك شرط لصحة الحوالة.
كما أنها ليست من قبيل بيع الدين الثابت بالأوراق المخصومة لأن بيع الدين لغير من عليه الدين يلزم فيه التقايض، وعدم التفاضل.
تلك هى أظهر وأوضح أنواع التعامل المصرفى المعاصر التى تدخلها الفائدة – التى هى ربا محرم كما تبين لنا بوضوح من هذا المسار على صفحات هذا البحث، وهناك أنواع أخرى ثانوية في تضاعيف بعض العمليات المصرفية لا تخفى حقيقتها عند النظر.
__________
(1) د. على جمال الدين عوض، عمليات، البنوك من الوجهة العملية ص469، وباقر الصدر، البنك اللاربوى ص155.(2/635)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم 3 بشأن
حكم التعامل المصرفى بالفوائد
وحكم التعامل بالمصارف الإسلامية
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406هـ، الموافق 22-28 ديسمبر 1985 م.
بعد أن عرضت عليه بحوث مختلفة في التعامل المصرفي المعاصر.
وبعد التأمل فيما قدم ومناقشته مناقشة مركزة أبرزت الآثار السيئة لهذا التعامل على النظام الاقتصادي العالمي، وعلى استقراره خاصة في دول العالم الثالث.
وبعد التعامل فيما جره هذا النظام من خراب نتيجة إعراضه عما جاء في كتاب الله من تحريم الربا جزئيًا وكليًا تحريمًا واضحًا بدعوته إلى التوبة منه، إلى الإقتصار على استعادة رؤوس أموال القروض دون زيادة ولا نقصان قل أو كثر، وما جاء من تهديد بحرب مدمرة من الله ورسوله للمرابين.
قرر:
أولًا: أن كل زيادة أو فائدة على الدين الذى حل أجله وعجز عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة (أو الفائدة) على القرض منذ بداية العقد: هاتان الصورتان ربا محرم شرعًا.
ثانيًا: أن البديل الذى يضمن السيولة والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التى يرتضيها الإسلام – هو التعامل وفقًا للأحكام الشرعية.
ثالثًا: قرر المجمع التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية إلى تشجيع المصارف التى تعمل بمقتضى الشريعة الإسلامية، والتمكين لإقامتها في كل بلد إسلامى لتغطى حاجة المسلمين كيلا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته.
والله أعلم(2/636)
أحكام التعامل في المصارف الإسلامية
الدكتور وهبة الزحيلي
المصرف الإسلامي: هو مؤسسة مالية تقوم بتجميع الأموال واستثمارها وتنميتها لصالح المشتركين، وإعادة بناء المجتمع المسلم، وتحقيق التعاون الإسلامي وفق الأصول الشرعية.
وأهم تلك الأصول: اجتناب المعاملات الربوية والعقود المحظورة شرعًا، وتوزيع جميع الأرباح وفق الاتفاق دون استغلال حاجة المضطر أو المحتاج، ومساعدة أهل الحاجة عن طريق القرض الحسن، والدعوة إلى الإسلام اقتصاديًا واجتماعيًا واعتقادًا.
مميزات المصارف الإسلامية:
تمتاز المصارف الإسلامية عن المصارف التجارية الربوية القائمة على أساس الفائدة المصرفية إيداعًا وإقراضًا، أخذًا وعطاءً، بمميزات واضحة مستمدة من الشريعة الإسلامية، وفقهها الخصب غير الملتزم بمذهب معين، بحيث يمكن أن تحقق هذه التجربة نجاحًا ملحوظًا بارزًا، تستطيع به الصمود أمام المصارف الأخرى، ومنافستها وإقناع المسلم بأنها قادرة على تلبية حاجاته، وتحقيق مطالبه في ظل أحكام القرآن والسنة النبوية الصحيحة، والحد من غطرسة النظام الرأسمالى القائم أساسًا على الاستغلال والطبقية والفائدة الربوية.
وأهم هذه المميزات التى يبين منها أوجه الفرق بين المصارف الإسلامية وبين المصارف التجارية هى ما يلى:
1- ارتباطه بالعقيدة الإسلامية: المسلم في كل تصرفاته ملتزم بأصول الحلال والحرام في شريعته، فهو يقدم على الحلال الواضح المعالم الذى يطمئن إليه قلبه، ويتجنب الحرام الذى يمنعه دينه، ويحظره عليه شرعه، فلا يجرؤ على مخالفة حكم من أحكام قرآنه وسنة نبيه، وقد نص القرآن الكريم على تحريم الربا تحريمًا قطعيًا أبديًا، سواء أكان ربا نسيئة، ومنها ربا المصارف، أم ربا فضل، وسواء أكان الربا في البيع أم في القرض، وسواء أكان القرض استهلاكيًا أم إنتاجيًا.(2/637)
وبذلك في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) أي حرم جنس الربا بمختلف أنواعه، وأنذر تعالى بمحق فوائد الربا، فقال: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (البقرة: 276) وأوجب تعالى ترك كل آثار الربا وتصفيته، ولو كانت الفائدة قليلة مثل 1 % بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (البقرة: 278) وأعلن الحق تبارك وتعالى الحرب والعداوة على أكلة الربا، فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) . وهذا أشد عقاب في الإسلام في الدنيا، وأدل على أن الربا أشد الأحكام حرمة، وأفظعها وأشنعها جرمًا عند الله تعالى، لاستحقاقه عداوة الله والرسول.
وينبنى على قاعدة الحلال والحرام هذه أنه لا يجوز للمصرف الإسلامي إنتاج أو تمويل أو استيراد أو تصنيع السلع المحرمة شرعًا كالخمر، أو التعامل بالربا، أو الاحتكار، أو التغرير، أو الغش في التعامل، أما المصارف الربوية فتعتمد على الفائدة أخذًا وعطاء، وعلى دعم الاحتكارات.
ويتعين على المصرف الإسلامى توجيه الموارد، واستثمارها في مجال السلع والخدمات المشروعة دون إسراف.
ويراعى المصرف في مشروعاته حاجات المسلمين ومصلحة الأمة.
2- الأخذ بمبدأ الرحمة والتسامح واليسر: إن مبدأ الإخاء الإسلامى يوجب على عاملي المصرف الإسلامي الأخذ بيد المسلم، لانقاذه من عسر أو ضيق طارئ، أو أزمة ألمت به، فلا إرهاق ولا إعنات في المطالبة، ويعتمد في معاملته النصح والإرشاد، والأمانة والصدق، والإخلاص والتسامح، ويتعامل بالقروض الحسنة، ويمهل المدين الغريم عند العسر، أخذًا بنظرية الميسرة المقررة في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 280) .
أما المصارف التجارية غير الإسلامية فنظرتها مادية محضة، لا تعنى بالأخلاق، ولا تراعى ظروف المقترض، وإنما يهمها مصلحتها وتحقيق أرباحها، بغض النظر عن أوضاع العميل مع المصرف، فإذا لم يقم بتسديد ما عليه من فوائد متراكمة، تبادر إلى الحجز على ممتلكاته التى قدمتها رهنًا بالقرض.(2/638)
3- النزعة الاجتماعية الإنسانية: إن هدف المصارف الربوية هو الربح، وتحقيق أكبر ربح ممكن، بينما هدف المصارف الإسلامية هوالتعاون، ودرء الضرر، ودفع الحاجة، من طريق القروض الحسنة التى لا تأخذ فائدة عليها، وصرف الزكاة إلى الأسر الفقيرة، وطلبة العلم، وبناء المساجد، ودعم الجمعيات الخيرية التى تعنى برعاية الفقراء، طعامًا وغذاء وكساء وماوى وعلاجًا، وبتحفيظ القرآن، وإعداد الجيل إعدادًا صالحًا على منهج التربية الإسلامية في سيرتها السلفية الأولى، مع الأخذ بما تقتضيه المعاصرة والحداثة والتطور النافع المفيد.
وتعنى المصارف الإسلامية بربط التنمية الاقتصادية بالتنمية الاجتماعية، في أطر متوازنة، وتنسيق متكامل، فيسير العمل من أجل توفير الإخاء الاقتصادى، مع التهذيب الاجتماعي القائم على الالتزام بآداب الإسلام وقيمه وأخلاقه الاجتماعية في كل مناحى الحياة ومسيرة المعاملات، فلا غش ولا خداع، ولا تغرير ولا تدليس. ولا مقامرة ولا غبن في المعاملة، منعًا لأكل أموال الناس بالباطل، وحفاظًا على شيوع روح الود والحب والطمأنينة، ومنع المنازعات بين الناس، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقرار في الحياة والأوطان الإسلامية، وتقوية وازع الدين، وخشية الله تعالى ورقابته في السر والعلن، حتى يكون المواطن عضوًا أمينًا صالحًا منتجًا، يعمل بوحى من دينه وضميره الذى لا رقيب عليه إلا الله تعالى، ويتقن أعماله، ويضاعف جهوده في الإنتاج، والتصنيع، وتحسين الثمار والزروع، وغير ذلك من الأنشطة الاقتصادية، وتقوية التجارة القائمة على الثقة، وإفادة الأمة الإسلامية.(2/639)
4- المساواة بين طرفى التعامل، والوضوح في العمل، والثقة في الاستثمار. لا تعرف المصارف الربوية هذه المبادئ، وإنما يهمها تشغيل الأموال بمعرفة إدارة المصرف، وإعادة الإقراض إلى غير المودعين بسعر فائدة أعلى من سعر فائدة الودائع.
بينماالمصارف الإسلامية لا غموض فيها، وكل أعمالها واضحة، ويهمها توفير ثقة المتعاونين مع إدارة المصرف، ولا تعتمد على الإقراض بالفائدة، وتلتزم بعقد المشاركة بطريق شركة العنان في الفقه الإسلامى مع العميل أو صاحب رأس المال، فيساهم الشريك والمصرف في رأس المال والإدارة، ويقسم الربح بنسبة يتفقان عليها بالتراضى مقدمًا، أما الخسارة فتكون بنسبة رأس المال، إلا إذا كانت الخسارة بسبب التعدى أو التقصير.
وفى مجال تشغيل الأموال أو استثمارها يعتمد المصرف على نوع آخر من الشركات هو شركات القراض أو المضاربة التى يقدم فيها المصرف كل التمويل، بينما يقوم الشريك المضارب بالإدارة والعمل، وفقًا لشروط محددة يعينها المصرف حسبما يعرف في الفقه الإسلامى بالمضاربة المقيدة. ويحدد نصيب المضارب في الربح بالتراضى بين الجانبين مقدما، أما الخسارة فيتحملها المصرف وحده، ويفقد الشريك المضارب مجهوده الذى بذله في إدارة المشروع، ما لم تكن الخسائر بسبب التعدى أو التقصير.
أما في نطاق الاستيراد كشراء السيارات والسلع التجارية، سواء من داخل البلاد أو خارجها فيلجأ المصرف إلى نوع آخر من البيوع يسمى بيع المرابحة: وهو البيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح، وهو من بيوع الأمانة، فإن ظهرت خيانته، كان للمشترى الخيار بنقض الصفقة. ويستطيع المصرف أن يأخذ ربحًا معقولًا على شراء السلعة، سواء أكان البيع حالًا (نقدًا) أم مقسطًا، أم مؤجلًا لأجل معين، ويجوز في رأى جمهور الفقهاء أن يكون سعر التقسيط أو المؤجل أعلى من السعر الحالى أو النقدى، بشرط تحديد السعر تحديدًا نهائيًا عند الاتفاق على البيع.(2/640)
ويمكن للمصرف بناء بيت أو منزل في أرض بمبلغ معين يراعى فيه التكاليف زائدًا الربح، يدفع عند التسليم أو على أقساط يتفق عليها، ولا مانع من اختلاف الثمن باختلاف الأجل.
أما التحاويل والحوالات التى هى وسائل تؤدى إلى سداد مبالغ نقدية في داخل البلد أو خارجه، فيجوز شرعًا، وكما هو معمول به في المصارف التجارية، أن تكون بأجر أو بغير أجر.
وأما خطابات الضمان (وهى التعهدات الكتابية التى يتعهد بمقتضاها المصرف بكفالة أحد عملائه في حدود مبلغ معين تجاه طرف ثالث، بمناسبة التزام ملقى على عاتق العميل المكفول) فهى كفالة جائزة شرعًا. أما أخذ المصرف الأجرة على هذه الكفالة، فيجوز إذا كان خطاب الضمان بغطاء كامل أو جزئي (أى يتعهد بالدفع الكلي أو الجزئي، ويرصد مقابلها ما يوازيها) لأن العقد عقد كفالة ووكالة معًا، كفالة بالنسبة لعلاقة المصرف مع الطرف الثالث، ووكالة بالنسبة لعلاقة المصرف مع العميل.
ولا يجوز للمصرف أخذ الأجر إذا كان خطاب الضمان بغير غطاء (أى لا يرصد مقابل الكفالة شئ) لأن العقد هنا عقد كفالة، ولا يجوز أخذ الأجرة على الكفالة، لأنها من عقود التبرعات، وأخذ الأجر على ذات الضمان غير جائز عند جمهور الفقهاء خلافًا لما عليه المصارف التجارية من أخذ عوائد على خطابات الضمان التى تصدرها.
وهذا الحكم الشرعى هو ما أخذ به المؤتمر الأول للمصارف الإسلامية وهيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامى السوداني. وأجازت هذه الهيئة أخذ أجر حالة الكفالة المجردة، شريطة أن يكون محسوبًا نظير ما يقوم به البنك من خدمة فعلية يتكبدها في سبيل إصدار خطابات الضمان، من غير أن يمتد ذلك إلى الضمان نفسه.(2/641)
5-مناط الربح تشغيل رأس المال والعمل:
الاسترباح في المصارف الإسلامية يعتمد على تشغيل رأس المال والعمل من جانب المصرف أو وكلائه، فلا يحق إيداع المال مقابل فائدة ثابتة، وأنما صاحب رأس المال شريك بناء على شركة العنان أو شركة المضاربة. ويجوز اجتماع شركة المضاربة مع أخرى كشركة العنان، كما يجوز تعدد أرباب المال وتعدد المضاربين، فللمضارب الواحد أو جماعة المضاربين الاشتراك مع آخرين في شركة عنان. والمضاربة مبنية على الأمانة، فلا يجوز أن يضمن المضارب المال، وإلا فسخ العقد.
ويطبق المصرف مبدأ المضاربة المطلقة فيما يتعلق بالودائع الاستثمارية، والمضاربة المقيدة فيما يتعلق بعمليات الاستثمار.
أما المستفيد من المصارف فيقترض منها بالقرض الحسن الذى لا فائدة فيه، ومال القرض هو مال بعض مؤسسى المصرف، لأن الفقهاء اتفقوا على أن كل قرض جر نفعًا فهو ربا، أي اشترط فيه النفع وهو الربا أو الفائدة أو المنفعة كالسكنى في بيت الغريم المدين. ولا يجوز في أي تعامل للمصرف أن ينص على دفع فائدة منه أو إليه، وليس له أخذ فائدة مقابل دفع مبلغ مؤجل حالًا، لأن ذلك ربا حرام، داخل في مضمون قاعدة: (ضع وتعجل) وهى من قواعد الربا.
وبناء عليه، لا يصح للمصرف في تعامله مع المصارف الأجنبية أن ينص على أخذ فائدة أو دفع فائدة، كأن يشترط المصرف الإسلامي على المصرف الأجنبى أن يقرضه عندما ينكشف حسابه مقابل فائدة. والحل هو الاتفاق على إيداع المصرف الإسلامي مبالغ في المصرف الأجنبي لحسابه من غير فائدة. وإذا احتاج المصرف الإسلامي تغطية عجزه، لا يدفع فائدة للمصرف الأجنبي إذا صار دائنًا له، وقد قبلت المصارف الربوية هذا التعامل.(2/642)
ويلاحظ أن المصارف التجارية لا تتعامل مع عملائها أو مع المصارف الأخرى إلا بفائدة ربوية في حالتي الأخذ والعطاء.
ونظام الفوائد سلبًا وإيجابًا يؤدى إلى تضخم التكاليف، وارتفاع الأسعار، لأن كل فائدة تضم في النهاية على سعر السلعة، ويدفعها المستهلك مع ثمن البضاعة.
وهناك عبء إضافى ثقيل على المقترض من المصارف الربوية وهو مضاعفة الفائدة أو ما يسمى بالفائدة المركبة مع مرور الزمن ومضي السنوات، وإذا عجز عن تسديد هذه الفائدة وهو الغالب، فإن أرضه أو بستانه أو منزله الذى قدمه رهنًا سيباع بالمزاد العلني، ويأخذ المصرف من الثمن كامل حقه غير منقوص.
6-سعة رقعة التعامل مع العملاء:
ليس كل أحد يستطيع التعامل مع المصارف التجارية الربوية، وإنما الأمر مقصور غالبًا على الأغنياء، فتعطى القروض لكبار العملاء والذين يستطيعون تقديم ضمانات عقارية، أو عينية، كالبضائع والمعدات والآلات.
أما المصارف الإسلامية فتتعامل مع جميع الناس، حتى أبسط الحرفيين، وصغار الكسبة وصغار التجار، وحديثى التخرج من الجامعات، فتمول المشروعات الصغيرة، وتساعد في توفير المسكن والمأوى للشباب الذى يريد الزواج والاستقرار في حياته العائلية.
7- العدالة في تقدير العمولة:
تتقاضى المصارف التجارية عمولة على جميع أوجه نشاط التعامل معها، أما المصارف الإسلامية فتتقاضى عمولة مطابقة تمامًا للجهد المبذول، أو السعي في تحقيق مصلحة العميل، فيأخذ المصرف النفقات الفعلية التى أنفقها على قرض معين بذاته، كما يأخذ مصاريف القرض الحسن مرة واحدة في بداية القرض، ومبلغًا موحدًا على القرض غير مرتبط بقيمته. وبعض هذه المصاريف مثل (بنك دبى الإسلامى) لا يأخذ أية مصاريف على القرض الحسن‘ وإنما يأخذ فقط على مبلغ القرض، دون أي مصاريف أو زيادة.(2/643)
هل التعامل مع المصارف الإسلامية حلال أو حرام؟
تبين مما تقدم أن المصرف الإسلامى يلتزم جانب الحلال في أعماله ومعاملاته كلها، ويتجنب الحرام فيما يقوم به من مشاركة واستثمار وتنمية الأموال المدفوعة إليه، ويساهم في سد حاجة المحتاج عن طريق القروض الحسنة غير المقترنة بشرط دفع فائدة ربوية، أو تحقيق منفعة على حساب المقترض، فليطمئن المسلم على سلامة تعامله مع المصارف الإسلامية شرعًا، أخذًا وعطاء، إنتاجًا واستثمارًا، على أساس المشاركة المنتهية بالتمليك أو المساهمة.
إذ من المعلوم شرعًا أن العقد الجائز أو المباح يصح للإنسان المسلم إبرامه، والأصل في المعاملات والعقود: الإباحة. وأما التعامل أو العقد المحظور شرعًا كالعقد الفاسد أو الباطل، مثل البيع المشتمل على الربا، فيحرم الاقتراب منه، ويلزم اجتنابه، حتى ولو كان عقدًا صحيحًا في الظاهر، لكنه يستهدف غاية محظورة أو ممنوعة شرعًا، فمن المبادئ الشرعية أو الأصولية: مبدأ سد الذرائع إلى الحرام فكل ما أدى إلى الحرام أو كان وسيلة إليه، فهو حرام محظور شرعًا.
والإسلام يجيز كل ما يحقق حاجات الناس، ولا يحجر على أحد الربح المعقول شرعًا. وهو ما كان دون الخمس أو الثلث، وربما اشتبه على بعض الناس الوقوع في معنى الحرام أو الربا في بعض المعاملات، وهذا صحيح، ولكن الإسلام يمنع التصريح بالربا أو اشتراط الفائدة، ولكنه لا يمنع التوصل إلى المقصود بأسلوب شرعي مباح، فمثلًا البيع بالتقسيط أو بثمن مؤجل أكثر من السعر الحال أو النقدى المعجل، قد يقال: أنه حرام، لما فيه من زيادة في السعر على ثمن الحال، ولكن فقهاء الإسلام ما عدا بعض الزيدية أجازوه رعاية للحاجة، ولأنه لا يقصد به الاستغلال والتضييق على المضطر أو المحتاج، وإنما على العكس فيه رعاية لحاجة المشتري الذى لا يملك الثمن الكلي للسلعة، وهو بحاجة إليها.
والعمولة على الخدمات المصرفية قد يتوهم أنها فائدة أو ربا حرام، مع أنها أجر على عمل، ما لم ينص صراحة على الفائدة، ومعظم الخدمات المصرفية التى يقوم بها المصرف للعملاء جائز على أساس الإجارة والوكالة بأجر، والإجارة نوعان: إجارة منافع الأعيان، وإجارة الأشخاص، فإيجار الخزائن الحديدية أو المخازن تتضمن منافع الأعيان، وقيام موظفى المصرف بالعناية بهذه الأماكن يتضمن إجارة الأشخاص. وما عدا إيجار الخزائن الحديدية والاعتمادات المستندية من الخدمات المصرفية، يعتبر وكالة على عمل معين، وقد يجتمع مع الوكالة كالكفالة، كما في خطابات الضمان.
لكل ما سبق أرى أن التعامل مع المصارف الإسلامية حلال شرعيًا، لا شبهة فيه، وهو طريق لتنمية الأموال القليلة وإفادة أصحاب الدخل المحدود.(2/644)
أحكام التعامل في المصارف الإسلامية
فضيلة الشيخ محمد على عبد الله
لقد ورد في وثيقة استفسارات البنك الإسلامي للتنمية، بأن عمليات القروض التى يقدمها البنك الإسلامي للتنمية لمشروعات البنية الأساسية هى قروض طويلة الأجل، تتراوح مدة الوفاء بين خمسة عشر وثلاثين عامًا. والتزامًا بأحكام الشريعة الإسلامية فإن البنك لا يتقاضى فوائد على تلك القروض، غير أنه بناء على ما نصت عليه اتفاقية تأسيسه يتقاضى البنك رسم خدمة لتغطية مصاريفه الإدارية.
وبناء على ما ورد من وثيقة البنك الإسلامى فإن المصارف الإسلامية تقوم كغيرها من المصارف العالمية بقروض لحرفائها، ونحن نعلم أن القرض هو دفع مال معلوم عينيا كان أو عرضًا أو حيوانًا في مماثل الذمة لغرض نفع المعطى له (بالفتح) فقط دون المعطى (بالكسر) ، وهو المطلوب شرعًا لأنه من التعاون على البر المعروف.
وهذا النوع من التعامل هو الذى كان أهل الورع يتهربون منه بمجرد شم رائحة النفع، وهو يعرف في الفقه الإسلامى بـ (سلف جر نفعًا) وهو محرم بإجماع المسلمين، مما أدى إلى التهرب من كل ما عسى أن يكون في النهاية مؤديًا إلى هذا النفع عملًا بما ورد في صحيح مسلم، عن النعمان بن بشير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه)) . وقد ورد في صدد الربا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . والربا لغة الزيادة واصطلاحًا هو ما كانت العرب تفعله من قولهم للغريم: أتقضى أو تربى، فكان الغريم يزيد في المال، ويصبر عليه الطالب. وهذا محرم باتفاق الأمة.
ونحن نخشى أن لا يكون هناك فرق فيما تقدمه المصارف العصرية من قروض مع الفائض أي زيادة وما تقدمه المصارف الإسلامية من قروض. خصوصًا إذا ما شهدنا وأن هنالك نوعا من الغموض فيما يتعلق بالمبلغ المقطوع الذى يتقاضاه المصرف الإسلامي للتنمية مقابل خدماته لتغطية مصاريفه الإدارية. وحسب رأيي يحتاج هذا إلى نوع من تبين وإيضاح لا شبهة فيه.
وخلاصة القول إذا ما كانت المصارف الإسلامية تقدم خدماتها وفقًا للشريعة فهذا يكون متمشيًا مع الدين الحنيف. وإلا فحكمها يكون كحكم المصارف المعاصرة الربوية. وعلى هذا الأساس أقول بصفة التنبيه: أن الله تعالى قد أوصى الأغنياء بالفقراء أو جعل لهم حقًا معلومًا في أموالهم، وشرع القرض لإغاثة الملهوفين وإعانة المضطرين.
ولا شك أن للمصارف الإسلامية دورًا فعالًا لتنشيط هياكل الاقتصاد للدول الإسلامية النامية وتوحيد شمل المسلمين وانتشالهم من السعي وراء الاقتصاد الذى يريد أصحاب رؤؤس الأموال الربوية فرضها على المسلمين لحملهم على التخلى عن عقيدتهم بفتح باب الشهوات لضعاف الإرادة والقضاء على ما بقي من ثرواتهم وبالتالى من الواجب على المصارف الإسلامية افتراض وجودها على الصعيد العالمى لحمل راية الإسلام في المعارك الاقتصادية. فاعملوا فسيرى الله عملكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/645)
العرض والمناقشة
13/4/1406=25/12/1985
الساعة: 17.2- 19.10
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد قد ترون من المناسب أن نبدأ (بحكم التعامل المصرفى المعاصر بالفوائد) والدراسات التى لدينا في حكم التعامل المصرفى المعاصر بالفوائد من المشايخ، الشيخ الصديق الضرير والشيخ على السالوس والشيخ محمد على عبد الله والشيخ حسن عبد الله الأمين، وأرجو من الشيخ الصديق أن يتفضل بإعطاء ملخص وموجز عن البحث المذكور.
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد،
من أهم طرق الاستثمار في البنوك التجارية المعروفة هو الاستقراض بفائدة أو بغير فائدة في الحسابات الجارية وإقراضها بفائدة أكبر من الفائدة التى اقترض بها البنك والاستفادة من الفرق بين الفائدتين، وهذه الفائدة تكلم فيها الفقهاء المحدثون وأصدروا فيها عدة فتاوى فردية وجماعية بالتحريم. وكان لكتابتى هذا البحث سبب هو أن أحد الأساتذة كتب عن الأوراق النقدية فقال: أن الأوراق النقدية ليست من الأموال الربوية ولهذا يجوز إقراضها بفائدة وما تفعله البنوك ليس ربا. ولهذا جاء ردى لهذه الدعوى بعنوان (الفائدة التى تتعامل بها البنوك من ربا القرض الثابت تحريمه بالكتاب والسنة والإجماع) وتحدثت عن أنواع الربا فبينت أن الربا نوعان: ربا الديون، وربا البيوع.
ربا الديون يشمل ربا الجاهلية وربا القرض الذى نتحدث عنه، أما ربا البيوع فهو ربا النسيئة وربا الجاهلية هو الذى جاء فيه قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} فهذه الآية هى أول ما نزل في تحريم الربا، والمراد بالربا فيها هو ربا الجاهلية المعهود، (ال) هنا للعهد، هو الربا المعهود عند المخاطبين عند نزول هذه الآية. وهذا الربا كما صوره ابن جرير الطبرى هو أن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل وإذا حل الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذى عليه المال: أخر عنى دينك وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك. وروى هذا التفسير لربا الجاهلية عن عطاء ومجاهد وقتادة، وأيضا القرطبى تعرض لهذا فقال "إن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فكانت إذا حل دينها قالت للغريم: إما أن تقضى وإما أن تربى" فربا الجاهلية على هذا التفسير الذى صوره لنا الطبرى والقرطبى كان في اقتضاء الدين بعد حلول الأجل، وهذا الدين قد يكون أصله بيعا إلى أجل وقد يكون قرضا أيضا إلى أجل وقد يكون بزيادة أول الأمر أو بغير زيادة، فإذا حل الأجل طالب البائع أو المقرض المدين فإن لم يف قال له: إما أن تقضي وإما أن تربي.(2/646)
أما ربا القرض فهو القرض الذى تكون فيه منفعة للمقرض مشروطة في العقد، وهذا الربا صوره كثيرة منها أن يقرضه مالا على أن يرد له أكثر منه. وهذه هى الصورة المتعارفة والمتعامل بها بين الناس وبين البنوك التى تتعامل بالفائدة وهى الفوائد المقصودة بالحديث، الزيادة هذه في القبض، السؤال هنا: هل ربا القرض هذا من ربا الجاهلية؟، واضح أن ما نقلته عن الطبرى والقرطبى يدل على أن ربا القرض في المرة الأولى قبل أن يحل الأجل لا يدخل في ربا الجاهلية. وقد اقتضى هذا التفسير الشيخ محمد رشيد رضا وقال في ذلك بعد أن نقل كلام الطبرى: أن هذا هو المروي عن عامة أهل الأثر ومنه عبارة الإمام أحمد الشهيرة وهي أنه لما سئل عن الربا الذى لا يشك فيه قال: " هو أن يكون دين فيقول له: تقضى أم تربي، فإن لم يقض زاده في المال وزاده هذا في الأجر"، حتى الربا بهذا التصوير يدخل فيه ربا القرض في بعض صوره وهي ما إذا أقرض شخص مبلغا ثم طالبه به عند حلول الأجل فأمهله نظير زيادة يدفعها إليه المقترض، هذه الصورة هى ربا الجاهلية بعينه وهي معروفة ومتعامل بها في البنوك ومتعامل بها حتى بين الدول التى تتعامل بالربا ولها اسم معروف هو (الربح المركب) أو (الفوائد على الفوائد) ويسمونها (الفوائد التأخيرية) ، فهذه لاشك في دخولها في ربا الجاهلية، ثم هل ما قاله الطبري في تفسير ربا الجاهلية هو كل ما روي عنه عن ربا الجاهلية؟ الواقع أن بعض المفسرين غير الطبري ذكر تفسيرا لربا الجاهلية يدخل فيه ربا القرض أي القبض في العقد الأول الذى هو القبض بزيادة مشروطة في القرض الذى هو القبض بفائدة، من هؤلاء: الجصاص وأبوبكر الجصاص يقول: " الربا الذى كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به" ويقول أيضا: "ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذى ذكرنا من قبض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط الزيادة " ويقول في موضع آخر: " معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة فكانت الزيادة بدلا من الأجل". أيضا فخر الدين الرازى يتفق مع الجصاص في هذا ويقول: اعلم أن الربا قسمان، ربا النسيئة وربا الفضل.(2/647)
أما ربا النسيئة فهو الأمر الذى كان مشهورًا متعارفًا في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا ويكون رأس المال باقيًا ثم إذا حل الدين طالبوا المدين برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذى كانوا في الجاهلية يتعاملون به.
الألوسى أيضا يقول: " روي عن غير واحد أنه كان الرجل يربى إلى أجل فإذا حل الأجل قال للمدين: زدنى في المال وأزيدك في الأجل فيفعل. وهكذا عند كل أجل، فيستغرق بالشئ الضعيف ماله بالكلية، فنهوا عن ذلك". هذه الروايات واضحة وصريحة في أن ربا الجاهلية كان يأخذ شكل القرض بزيادة كما يأخذ شكل الزيادة في الدين عند حلول الأجل.
ونخرج من هذه الروايات بأن كلا النوعين كان موجودًا في الجاهلية عندما نزلت آية التحريم، فإذن كلاهما محرم بهذه الآية. فنستطيع أن نقول بكل اطمئنان: أن ربا القرض من ربا الجاهلية، وهذه هي ربا الديون، حكم ربا الديون ثابت بالقرآن والسنة والإجماع، وهذا لا يحتاج إلى تطويل في الاستدلال عليه، آيات الربا معروفة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} وهذه كما قلنا، هي أول آية نزلت وليس المراد من التقييد في الربا المنهى عنه بالأضعاف وإنما المراد منها كما يقول الفقهاء هو بيان الواقع الذى كان موجودًا عندهم، وآية {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ومنها قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ثم جاءت آية {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} جاءت مبينة بيانًا شافيًا أن أخذ أي زيادة على رأس المال غنم منهي عنه.
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((وإن كل ربا موضوع ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)) وواضح أن هذا الحديث تأكيد لما جاء في القرآن، وحديث آخر ما روي من أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة وفي روايات قال صلى الله عليه وسلم: ((كل قرض جر منفعة فهو ربا)) . هذا الحديث وإن كان في سنده مقال إلا أن معناه مقبول ويؤيده القرآن، ولهذا اتفقت المذاهب الأربعة على العمل بهذا الحديث بأن كل قرض جر منفعة فهو ربا، ولكنهم يختلفون في المنفعة التى تجعل القرض ربا، لكنهم لم يختلفوا في أن الزيادة في القرض ربا. الإجماع نقل عن أكثر من واحد في كل مذهب من المذاهب، نجد من حكى الإجماع على تحريم الربا الذى هو ربا الدين أو ربا الديون، أكتفى بعبارة القرطبى يقول: " أجمع المسلمون نقلًا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف، كما قال ابن مسعود: ولو حبة واحدة، هذا هو ربا الديون".(2/648)
أما ربا البيوع فهذا ثابت بحديث عبادة المشهور ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء، يدا بيد، فإن اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) فهذا الحديث بين الأصناف الربوية، وربا البيوع هذا يشمل كما قلنا ربا النسيئة وربا الفضل، وليس هذا موضوع الحديث ولكن سقته لأمر هام وهو لأن نبين أن ربا البيوع لا يجرى إلا في الأموال الربوية وهى الأصناف الستة المذكورة في الحديث وما يلحق بها عند جمهور الفقهاء، بعضهم قصرها على الأنواع الستة، أما ربا الديون فيجرى في الأموال الربوية وفى غيرها باتفاق الفقهاء، وهذا هو محط الكلام في هذا الموضوع، هذه التفرقة. وهو السبب الذى أوقع بعض الباحثين في الخطأ والقول بأن الأوراق النقدية ليست من الأموال الربوية ولهذا أرادوا أن يجوزوا فيها القرض بفائدة ظنا منهم أن القرض يدخل في ربا البيوع.
أوردت هنا عددًا من النصوص تدل على أن ربا القرض أو ربا الديون يجرى في الأموال الربوية وفى غيرها، منها ما روي عن زيد أنه كان يقول: "إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن والربا المعروف في الجاهلية هو ربا الديون، كان في التضعيف وفي السن – يريد بالسن أسنان الإبل – يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل يقول له: تقضني أو تزيدني، أن كان عنده شئ يقضيه قضاه وإلا حوله إلى السن التى فوق ذلك أن كانت ابنة مخاض حولها ابنة لبون في السنة الثانية ثم حقة ثم جذعة" فهذا هو ربا الحيوان وهذا نص صريح، ثم بعد ذلك يقول بعدما تكلم عن هذا: " وفى العين – ويقصد بالعين الذهب والفضة – يأتيه فإن لم يكن عنده أضعفه في العام المقابل، فكان ربا الجاهلية عندهم يكون في الحيوان كما يكون في الذهب والفضة".
أما ربا القرض فهذا يجرى في كل ما يجوز فيه القرض، سواء أكان في الأموال الربوية أم من غيرها، ونصوص الفقهاء صريحةوواضحة في هذا، كل ما يجوز فيه القرض يجرى فيه هذا الربا. فلا يجوز قرض أي مال من الأموال بزيادة مهما كان هذا المال سواء كان من النقود أو من غير النقود.
أكتفى بعبارة هنا لفقهاء الشافعية، الرملى يقول: " ولا يجوز قرض نقد أو غيره إن اقترن بشرط رد زيادة على القدر المقرض" وفي قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} ما يفيد أن ربا الديون الذى وردت فيه الآية يكون في كل مال {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} والنقود الورقية التى كان فيها مثار الشبهة هذه مال من غير شك.(2/649)
فيظهر لنا من هذا أن الفائدة التى تدفعها البنوك عند الاقتراض من الغير والفوائد التى تأخذها عند قرض الغير هى ربا محرم بإجماع سواء اعتبرنا النقود الورقية من الأموال الربوية – وهذا هو الحق وفيه كلام كثير لبعض المحدثين – أو لم نعتبرها، حتى لو قلنا أنها ليست من الأموال الربوية، فلا يصح قرضها بأي زيادة مهما كانت هذه الزيادة لأن هذه الزيادة ربا فتدخل في ربا الديون وليست من ربا البيوع. وهذه الحرمة في ربا القرض المعروف في البنوك تشمل كل أنواع التعامل بفائدة. فتشمل القرض بفائدة قليلة أو كثيرة. ولقد سمعنا ابن مسعود "ولوحبة " وتشمل الفائدة البسيطة والمركبة كماتشمل القرض للإستهلاك والقرض للإنتاج، وهذه كلها مسائل حدثت فيها مجادلات بين العلماء وحصلت فيها فتاوى وانتهى فيها الأمر إلى ما أقوله: " هذه ليست فتواي لوحدي وإنما هي فتوى عدد كبير من العلماء وعدد من الندوات والمؤتمرات، وتشمل أيضا الحرمة فتح الاعتماد بفائدة، وتشمل أيضا خصم الأوراق التجارية التى تكون مستحقة بعد شهر ويدفع أقل مما في هذه الورقة، أقل من قيمتها، كأنه يقرض صاحبها مبلغًا ليأخذ أكثر منه بعد شهر، وهذا هو القرض بفائدة. وشكرًا لكم.(2/650)
الشيخ عبد اللطيف جناحى:
بسم الله الرحمن الرحيم ... في الواقع ما أورده فضيلة الشيخ لن أعلق عليه من الناحية الفقهية فهذا أمر متروك لمجمعنا الفقهي ولكن ما أود أن أشير إليه بأن النظام المتبع، نظام سعر الفائدة، بأن يحدد سعر أدنى لقيمة النقد عندما يودع مبلغ في البنك ويكون هناك حد أدنى للمبلغ، هذا هو ما أوصل العالم إلى الكوارث الاقتصادية اليوم نتيجة لهذا الاقتصاد الوضعي الغربي فيه 800 بليون دولار ديون على دول أمريكا اللاتينية خدمة هذا الدين 100 بليون دولار سنويًا، فعملية الربا وعملية سعر الفائدة هي التى أدت التضخم فوصلنا إلى الباب المسدود حتى أن الكنز نفسه صاحب (النظرية الكنزية) نادى (بالزيرو انترست) أي الفائدة تكون صفرًا. فهل ما نادى به ما رجع عنه كنز نعود إليه نحن، ما رجع عنه أصحاب النظرية نعود إليه نحن. القضية قضية الربا كنا بالأمس نعتقد أنها ظلم الغني للفقير، لا، قضية الربا هي قضية تحطيم الاقتصاد العالمي، تحطم الاقتصاد العالمي من وراء سعر الفائدة ومن وراء تحديد نسبة مهما كانت صغيرة، هذه قاعدة. وصلنا إلى التضخم والتضخم اللامعقول، أنا أعطيكم نموذجًا بسيطًا، قيل لنا أن سبب التضخم هو العجز في ميزان المدفوعات، سنة 72 العجز في ميزان المدفوعات الأمريكية وهى أكبر دولة كان 0.08 % وسنة 74 كان العجز في ميزان المدفوعات 4.5 % وسنة 78 كان العجز في ميزان المدفوعات فاصلة خمسة من مائة يعنى بشكل هرمى، بينما التضخم وهو المشكلة العالمية كان يمشى في ازدياد، لما جاء الاقتصاديون يبحثون السبب الرئيسي وجدوه سعر الفائدة.
موضوع آخر جدير بالإشارة، إنها عملية تؤخذ لأغراض تجارية ومن قال أن المصارف التجارية لديها القدرة على ضبط مسار المال، ما حصل لدينا في سوق الكويت من انهيار سوق المناخ مثلا وما حصل من البطر الذى حصل من وراء الاقتراض من البنوك كانت كلها أسعارًا لفائدة تؤخذ الأموال، هناك ضمانات موجودة، ثم صفيت هذه الضمانات وفلست المجموعة. فالعملية ليست عملية ننظر إليها في حيز ضيق على أنها ظلم الغني للفقير، لان العملية ننظر إليها كاقتصاد عام ككل، ماذا يكون نتيجة سعر الفائدة بعد استخدام من سنة 40 فقط إلى اليوم، كانت هناك دورات اقتصادية من سنة 40 إلى سنة 70، سعر الفائدة كانت هى عامل الحذر، وعندما نأتى إلى قضية الأضعاف المضاعفة، تظهر صورها في أشكال عديدة جدًا، البنك عندما يقترض من زيد من الناس أو يودع زيد من الناس لديه مبلغ مائة ريال بسعر أقل سعر 2 %، هذا البنك هل يقرضه لمنتج؟ لا! يقرضه لبنك آخر ويقول له: كلفنى المائة ريال 102 كم تعطينى بزيادة؟ قال له: أعطيك 103 جيد جدا، فيذهب البنك الثانى إلى البنك الثالث ويقول له: أنت محتاج إلى مائة ريال كلفنى هذا 103 كم تعطينى زيادة؟ قال له: 104، انظروا كيف تسير المضاعفة، هذه زاوية من الزوايا.
الزاوية الأخرى، هذا الثوب الذى ألبسه أنا الآن، كان صوفًا على ماعز أو على خروف، اجتز ومول من قبل البنك بنسبة 14 % ثم ذهب إلى محلج ومول 14 % صار 28 ثم ذهب إلى بائع الجملة ومول 14 %، احسبوها تصلون إلى أضعاف مضاعفة التى وردت في القرآن، الحقيقة مع تطور الزمن نرى عظمة هذا الكتاب كيف في عصرنا هذا نراه يتجسد أمامنا ويتجسم بعدما كبرت مشاكل العالم الاقتصادية، فالعملية حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع وانتهى ((فلكم رءوس أموالكم)) وانتهى الموضوع فأخذ رأس المال وليس فيه فلس زيادة.
لدي في الحقيقة تعليقات أخرى لكن أنا أحببت أتعرض فقط من زاوية فنية ضيقة حتى أوضح لكم أن العالم اليوم في انهيار اقتصادى، وفى جدولة ديون وفى مشاكل لا أول لها ولا آخر، والسبب في الدرجة الأولى يعود إلى هذه النسبة البسيطة التى كانت في يوم 4، 5، 2 %. وشكرا سيدى الرئيس.(2/651)
الشيخ أحمد البزيع ياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه وحده نستعين، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدى رسول الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الكرام الغر الميامين وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد،
عندما نريد أن نتكلم عن المصارف الإسلامية أو المصارف العادية، أود قبل ذلك أن أدعو بالرحمة والغفران على إمام المسلمين الملك فيصل بن عبد العزيز رحمة الله على مبادرته التاريخية وعزمته الإسلامية في تأسيس بنك التنمية الإسلامي الذى جمع الأمة الإسلامية في مصرف. وقصده من هذا القضاء على الربا والتعاون فيما بين الدول الإسلامية فغفر الله له ورحمه وجزاه خيرًا عن الإسلام والمسلمين، ثم بعد ذلك أقول:
إن أستاذى العزيز صاحب البحث جزاه الله خيرًا لم يقل عن بحثه: أنه فتوى إنما قال هو مجرد بحث، وأنا أود أن أبين بأن البحوث المتكررة السابقة التى مرت على كثير من علماء المسلمين في أقطار الأمة الإسلامية جميعًا انتهت على أن الفائدة البنكية هى عين الربا وانتهى الكلام، والربا محرم في الكتاب والسنة ونحن مسلمون فعلينا أن نلتزم فلا نقاش في ذلك.
ثم بعد ذلك أود أن أبين الحالة التى تعانيها المصارف إيضاحًا للصورة وما تأتي على المصارف العالمية في العالم زيادة عن ما قال أخي وزميلي الأخ عبد اللطيف فأقول:
أولًا: القروض سواء كانت قروضًا استثمارية ويؤخذ من الأغنياء الفائدة دائما يدفعها الفقير، لأن الغنى المستثمر يضيف الفائدة التى يأخذها ككلفة على رأس المال فإذن دائمًا الذى يدفع كلفة الفائدة المستهلك، والمستهلكون أغلبهم من أصحاب الدخول المتوسطة والفقراء. ثم أن البنوك ممنوع عليها أن تتاجر في نظمها الحالية، وإذا استطعنا أن نحولها إلى بنوك مضاربة فهذا خير كثير، علينا أن نعد لها شروط وقواعد المضاربة الإسلامية ونسلمها لها ونطلب منها أن تلتزم بالمضاربة الشرعية.(2/652)
والمضاربة الشرعية لها شروطها ولها قواعدها ولها أساتذتها، إذا استطعنا أن نحول هذه المصارف الموجودة المعاصرة التى تسمى بالتجارية هي ليست تجارية، هي تشتري النقود وتبيع النقود والنقود في مفهوم الاقتصاد وحدة قياسية تقاس بها الأثمان شأنها شأن الوحدات القياسية الأخرى التى تقاس بها الأطوال، المتر وحدة قياسية للطول، الكيلو وحدة قياسية للوزن، فلا يجوز أن نقول: كيلو يساوى كيلو وربع، ولا يجوز أن نقول: مائة متر تساوى مائة وعشر أمتار، هذه من الناحية الاقتصادية البحتة، فلذلك لا يجوز أن نقول: أن المائة دينار تساوى مائة وعشرة دنانير أو مائة ريال تساوى مائة وعشرة ريالات، فالبنوك عندما تأخذ الأموال من الناس وتعطيهم الفائدة عليها، كأنها تقول: مائة دينار كم أعطيكم بدلها مائة وعشرة بدون عمل. فالوحدة القياسية عندما تقاس مع ذاتها تساوى ذاتها، كذلك بالنسبة لقضية الخليفة الثانى عمر بن الخطاب، هى في الحقيقة بُدِئى بقرض حسن وليس بقرض فائدة، يعنى أخذ المبلغ من العراق كما سمعته من مشايخنا على أساس أن يردوه في المدينة بعينه، وذلك اجتهد القائد وقال بدلا من أن أتحمل أنا المسؤولية وأولى أن يتحملوا المسؤولية اجتهادًا منه أعطاهم المبلغ على أن يردوه بنفسه وليس بزيادة، فلما جاءت البضاعة وربحت الربح الطائل تورع عمر بن الخطاب رضى الله عنه وقال: هلا عملت هذا لجميع المسلمين؟ قال: لا. قال: إذن لا يجوز لأبناء أمير المؤمنين أن يأخذوا. هذا من باب الورع، وأظن أن الإمام علي رضي الله تعالى عنه أشار بأن تكون المسألة قرضًا، فبداية القرض هو قرض حسن واجتهاد من القائد ثم بعد ذلك عمل قراضًا. ثم مبدأ الربا إذا أقر مبدأ الربا هنا تأتي الأضعاف المضاعفة يعنى السيارة الموجودة في المعرض لابد أنكم تعلمون إذا كانت قاعدة الربا موجودة، السيارة أخذ عليها من الربا من بداية صنعها كمادة خام، الشركة التى تأخذ الحديد تقترض من البنوك وعليها فائدة تضيف الفائدة، القطار الذى يحمل أو اللوري الشاحنة التى تحمل، إذا كان مبدأ الربا قائمًا فتؤخذ في الحقيقة تشتري اللوري بربا فيضيف سعر النقل، ثم المصنع الذى يصب الحديد كذلك أيضا دخل فيه الربا. فتجد السيارة الموجودة في المعرض للبيع دخل فيها الربا منذ بدايتها كمادة خام إلى أن تصل إلى المستهلك. هذه في الحقيقة أمور يجب علينا أن ننبه لها كناس نشتغل في هذا الميدان.(2/653)
ثم أود أن أبين أننا لسنا في حاجة، والحاجة هنا منتفية إلى المصارف الربوية، منتفية تمامًا بل أن العالم يعاني، وأود أن أبين حيلة عالمية في المصارف العالمية. لمعلومكم موجودات المصارف العالمية الآن هي ديون على الناس، عاجزين هؤلاء الناس على الوفاء بها، فعندما تعمل الميزانيات، المحاسبون القانونيون يعتبرون الدين ميتًا إذا كانت لا تسدد عليه الفوائد. وأكثر المدينين ليس عندهم هذه الفوائد لتسديدها، عملوا لهم حيلة، قالوا: نقرض لكم الفوائدوتسددونها لنا حتى المحاسبون القانونيون يعتبرون بأن ما عندنا من ديون على المدينين ديون محترمة، يقدر الدائنون الوفاء بها بدليل أن الفائدة تدفع، والفائدة في الحقيقة هى قروض أيضا تعطى لهم ثم يعيدونها للبنك تسديدًا عما عليهم من فوائد، فهذه في الحقيقة مصداق لقوله تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} ، ثم أود أن أبين مسألة، لو أن المسلمين أصحاب رؤوس الأموال يلتزمون بدينهم ولا يرابون ولا يضعون الأموال حبيسة في البنوك الأجنبية لاضطرهم ذلك إلى استثمارها في البلاد الإسلامية، وعدم استثمارها في البلاد الإسلامية، جعلها موجودة سجينة في البنوك الأجنبية مما أدى إلى الحروب الناشئة في بلادنا، لأن أصحاب المصارف الأجنبية عندما رأوا هذه الأموال الطائلة العظيمة قالوا: لو أراد أصحابها أخذها ونحن لسنا بقادرين على إرجاعها ماذا نعمل إما أن نفلس، نعلن إفلاس اقتصادنا أو أننا نجمد هذه الأموال؟ فكلا الحالتين مضر بنا، إذن نجعل في بلادهم الفتن والحروب حتى عن طريق الفتن والحروب يستوردون منا آلة الحرب التى تكلفهم بأرخص الأثمان ويبيعونها علينا بأغلى الأثمان لابتزاز أموالنا فهنا يأتي تفسير قوله تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فأذنوا، هل لنا طاقة في حرب مع الله ورسوله، الحرب القائمة الآن هي حرب مع الله ورسوله، أسبابها الربا وأسبابها إيداع أموالنا في البنوك وفي البنوك الأجنبية، وللأسف هذه الحروب امتصت هذه الأموال، لا أريد أن أقول أكثر مما قلت كإنسان أعايش تلك المسألة، ثم إننى في الحقيقة تورطت في السابق وكنت من مؤسسى بنك ربوي وعملت على أموال وهمية لا وجود لها مجرد قيود حسابات، تبت إلى الله سبحانه وتعالى وأعلنت التوبة ثم أردت أن أكفر عن ذنبي بالدعوة إلى المصارف الإسلامية التى عن طريقها نستقل استقلالًا تامًا في جميع الميادين، ثم كنت عضوًا في البنك المركزى الكويتى على أساس معارض لعنصر الفائدة فقيل: كيف تجعلونه عضوًا وهو يعارض؟ قالوا: نحن نريده أن يثبت هذا، ثم بعد أن صار من التزامات المصرف الكويتي بنك التنمية من أعماله ومن مهامه تحديد الفائدة قدمت استقالتي أيضا وأود أن أبين في الحقيقة بأن الأجانب عندما لايريدون لنا تطبيق الشريعة الإسلامية هم ليسوا بذلك حريصين على يد السارق تقطع، أو شفوقين على عنق قاتل يقتل، إنما يعلمون تمام العلم بأن المسلمين إذا طبقوا شريعتهم وأقاموا الحدود، طبقوا شريعتهم في الميدان السياسي والاجتماعي والأخلاقي والسلوكي والاقتصادي فإذا طبقنا شريعتنا الإسلامية في جميع هذه الميادين صرنا قادة وصرنا أصحاب الريادة، فلذلك لا يريدون منا أن يبعدونا عنهم ويريدون منا أن نقلدهم في كل شئ، فنحن أمة إسلامية متميزة لها عقيدتها ولها كيانها ولها تاريخها ولها أمجادها فيجب علينا أن نتمسك بعقيدتنا وألا تخور عزائمنا وأن ننطلق كما انطلق الصحابة الأوائل عندما قال لهم المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((أول ربا أبدأ به ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب قالوا: سمعًا وطاعة)) ، نحن أمة نحتاج إلى إيمان، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.(2/654)
الرئيس:
أصحاب الفضيلةن أمامنا في هذا الموضوع عدة بحوث كلها في مسار واحد على نحو ما ذكره مختصرًا الشيخ الصديق الضرير. فلدينا بحث الشيخ على السالوس والشيخ محمد على عبد الله والشيخ حسن الأمين، وكل هذه البحوث في مسار واحد على نحو ما سمعتم من فضيلة الشيخ الأمين الضرير، ولعلنا نكتفى في قضية العرض في البحوث إذا رأيتم ذلك ونطرح الموضوع إذا كان لأحد وجهة نظر في هذا وإلا نعلن ما تم عليه.
الشيخ وهبة الزحيلى:
بعد هذه النفحةالإيمانية الطيبة التى سمعناها من الأخ مدير بيت التمويل الكويتي الإسلامي وبعد أن عرفنا المصائب الكبرى التى تهز كيان العالم برمته وتصيب المسلمين والدول النامية بالذات بشكل أخطر بكثير مما يصاب به العالم الغربي، أري أن نطوي البحث في هذا الموضوع ونعلن ما أعلنه في كلمته الأخيرة أن موضوع الفائدة قد انتهى وطوي عليه الزمن ونحترم نصوص القرآن والسنة وإجماع الأمة ونعلنها صريحة مدوية أننا أمة نحترم كرامة الإنسان وأننا أمة الرحمة وأمة التعاون ولا داعى للبحوث الجزئية خصوصًا بعد أن وجد البديل الإسلامي والحمد لله وهي البنوك الإسلامية كما قلت في قضية التأمين وليكن قرارنا إجماعيًا حتى يكون لهذا الموضوع أهميته الكبرى بعد وجود النصوص القطعية في القرآن الكريم {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وهنا الربا يشمل أي فائدة ولو كانت نصفا في المائة فلا داعي بعد هذا البيان الكافي الشافي في نصوص كتابنا وسنة نبينا، وبعدما سمعناه من بيان الأضرار على يد المتخصصين مديري بنك الكويت والبحرين. وشكرًا والله يوفقنا لما فيه الخير.(2/655)
الشيخ عبد الله ابراهيم:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا لفضيلة الرئيس، وفى الواقع إننى مسرور جدًا إلى النداء الأخير الذى سمعناه من الشيخ أحمد والدكتور الزحيلي، فأنا أؤيد كل التأييد مثل هذا النداء.
الرئيس:
أصحاب الفضيلة يظهر لي أن هناك اتفاقًا على ما انتهى إليه أصحاب الفضيلة المشايخ الباحثون والذين لم يأتونا برأي جديد بل هو ما جرى عليه إجماع أهل العلم سلفًا وخلفًا، وأن هذا ربا وأنه ربا الديون المحرم بنص الكتاب والسنة وعليه إجماع أهل العلم.
وبهذا انتهى هذا الموضوع، وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(2/656)
بداية الشهور العربية
فضيلة الشيخ محمد على التسخيري
أولًا: أننا نعتبر مسألة الوحدة الإسلامية من أهم خصائص الأمة الإسلامية والتى عمل القرآن الكريم، والسنة الشريفة عليها، ونؤيد كل خطوة صحيحة مشروعة لتحقيق هذا الهدف الإسلامي الضخم والذى نصبو إليه جميعًا، حيث تقف الجماهير الإسلامية في خندق واحد تبني نفسها من جهة متكاملة نحو المطلق، وتقارع الطغاة المعتدين (الشرقيين والغربيين) من جهة أخرى.
ثانيًا: كما أننا متأكدون من أن الكثير من المتسلطين على مقاليد الأمور في عالمنا الإسلامي حاولوا أن يستفيدوا من مسألة بداية الشهور القمرية والمناسبات وتوقيتها لصالح أغراضهم الضيقة، الأمر الذى يدعو إلى تجريدهم من هذه السلطات وتسليمها بيد مراكز مستقلة لا تتأثر بالأهواء وإنما تراقب الله تعالى لا غير.
ثالثًا: من المعلوم أن هناك حالات يخرج فيها القمر من المحاق، ولكنه لا يمكن أن يرى في بعض المناطق تبعًا لعوامل طبيعية متعددة:
ومنها: أن يظهر بعد غروب الشمس فوق الأفق الغربي قليلًا، ثم يختفي تحت الأفق الغبر فيكون غير واضح الظهور وربما صعبت رؤيته أو كانت غير ممكنة.
ومنها: أن يواجه الجزء المضئ من القمر الأرض، ثم يغيب ويختفى تحت الأفق قبل غروب الشمس، فلا تتيسر حينئذ رؤيته مادامت الشمس موجودة.
ومنها: أن يكون الجزء المنير المواجه للأرض من القمر (الهلال) ضئيلًا جدًا لقرب عهده بالمحاق، فلا تمكن رؤيته بالعين المجردة.
وفى كل الحالات تكون الدورة الطبيعية للقمر قد بدأت، إلا أن الهلال لا تمكن رؤيته، حينئذ فإن الشهر بمفهومه الشرعى لا يبدأ حينذاك، وإنما يتوقف على أمرين:
أحدهما: خروج القمر من المحاق، ومواجهة جزء من نصفه المضئ للأرض.
والآخر: أن تمكن رؤية هذا الجزء بالعين الاعتيادية المجردة، ولهذا يتأخرالشهر القمرى الشرعى عن الشهر القمرى الفلكي الطبيعي.
وقد قلنا سلفًا أن إمكان الرؤية بالعين المجردة هو المقياس لا الرؤية نفسها، فوجود حاجب يحول دون الرؤية كالغيم والضباب لا يضر بذلك.
كما أنه ليس المعيار الرؤية بالوسائل العلمية، وإنما المعيار هو إمكان الرؤية بالعين الاعتيادية المجردة.(2/657)
حالة اختلاف البلاد في الرؤية:
قد يرى الهلال في بلد دون آخر، فما الحكم؟
وللإجابة على ذلك يقال أن هذا الاختلاف تارة لسبب طارئ كوجود غيم في هذا البلد دون ذاك وحينئذ فلا شك في كفاية الرؤية في أحدهما بالنسبة للبلد الآخر.
وأخرى يكون الاختلاف تابعًا لاختلافهما في خطوط الطول أو خطوط العرض أو فيهما معًا، فتكون لدينا آفاق متعددة.
ولما كان من اللازم توفر الأمرين السابقين (خروج القمر من المحاق، وإمكان الرؤية المجردة) فإنه لا ريب في نسبية دخول الشهر بالمفهوم الشرعي.
وذلك سواء آمنا بأن خروج القمر من المحاق أمر نسبى أو أمر طبيعي واحد لا يتكرر، لاختلاف مفهوم المحاق وهل هو انطباق مركز القمر على الخط الواصل بين مركزي الأرض والشمس فيغيب القمر عن كل أهل الأرض، أو هو مواجهة الوجه المظلم بتمامه لمنطقة ما على الأرض وهو أمر نسبي.
فإن النسبية لا محالة آتية من إمكان الرؤية بالعين الاعتيادية المجردة.
ومع ذلك يجب الرجوع إلى النصوص الشريفة لمعرفة ما إذا كان الشارع المقدس يعتبر إمكان الرؤية في مكان كافيًا لاعتبار الأرض كلها دخلت في الشهر الشرعى أم لا يعتبر ذلك؟
وفى هذا المجال وقع اختلاف رئيس بين العلماء الأعلام عند تمحيص النصوص، وسر الاختلاف يكمن في وجود انصراف لنصوص (الرؤية في البلد الآخر) يصرف الإطلاق إلى البلد القريب المتحد في الأفق وعدم وجود مثل هذا الانصراف.(2/658)
فمثلًا وردت رواية نقلها الوافى عن التهذيب، عن سعد بن أحمد، عن الحسين، عن ابن عمير، عن هشام بن الحكم، عن الإمام الصادق عليه السلام، أنه قال فيمن صام تسعة وعشرين يومًا: "إن كانت له بيّنة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين – على رؤية – قضى يومًا".
ورواية أخرى عن الشيخ الطوسى، عن القاسم، عن أبان، عن عبد الرحمن، عن الصادق عليه السلام قال: "لا تصم إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه".
وهناك روايات أخرى متفاوتة (راجع الملحق رقم 1) .
وكما قلنا فإن نقطة الخلاف تكمن في انصراف لفظ (البلد الآخر) إلى البلد القريب وعدمه، فلو تم الإطلاق كان ذلك يعنى أن رؤية شرعية ما في بلد تشكل حجة شرعية على كل الأقطار بدخول الشهر، أما لو أدى الإنصراف إلى تقييد الإطلاق فالقاعدة هي وحدة الحكم في خصوص البلدان المتقاربة فقط. ولسنا نقصد فعلًا البحث عن المسألة بقدر ما نريد من تجلية الخلاف وذكر بعض الأقوال في ذلك لنصل إلى النتيجة المطلوبة (راجع الملحق رقم 2) .
وعلى هذا الأساس، نقول أن مسألة توحيد الشهور القمرية أمر لا ينسجم مع هذا الخلاف – مادام قائمًا- ولا يمكن أن تشكل نظامًا عامًا سواء قلنا بانفتاح باب الاجتهاد أو انغلاقه فإنه بمراجعة الملحق نجد أن المذاهب مختلفة فيها وكذلك آراء المجتهدين القائلين بانفتاح باب الاجتهاد.
ومن الطبيعي والحال هذه أنه لا يمكن إجبار فرد أو دولة على اتباع نظام قد لا نؤمن به شرعًا، فكيف يمكن إصدار مثل هذا القرار؟
خامسًا: ورغم ما سبق فإننا نجد أن الجهود المبذولة قد تكون نافعة في تقريب وجهات النظر، وتشخيص الشهادات الصحيحة من الباطلة –أحيانًا- بل وهى تنفع في توحيد شطر كبير من الذين يؤمنون بمسلك وحدة الآفاق.. إلا أننا مع هذا نحذر من الاستغلال السياسى اللئيم لهذه المسألة الشريفة.
سادسًا: إننا إذا تمسكنا بشريعتنا وبحقانية ما تقول بكل دقة، فزنا ولا يهمنا ما يقوله العالم لنا، ولذلك فإننا نسجل اعتراضنا على الاستناد إلى ما يسمى بـ (ال رأى العام العالمي) في كلمات بعض العلماء. والمهم لدينا أن نحقق ما تريده الشريعة، وقد علمنا أن المسألة خلافية لا إجماع فيها.
وفى الختام فمع تقديرنا للجهود المبذولة في هذا السبيل نود أن يخرج هذا القرار عن الصفة الإلزامية إلى الصفة الترجيحية مع الدعوة إلى التقارب والتأكيد على الأمر.
ونرجو في الختام التوفيق لكل المخلصين العاملين.. والسلام عليكم.(2/659)
[المحرر]
الملحق رقم 1
بعض النصوص بالإضافة لما ذكر
يقول الإمام عليه السلام كما جاء في (فقه الصادق ج 2 ص 45) :
"الفطر يوم فطر الناس، والأضحى يوم يضحى الناس، والصوم يوم يصوم الناس".
وجاء في وسائل الشيعة قول الحر العاملي:
"وتقدم في المواقيت قولهم عليهم السلام: إنما عليك مشرقك ومغربك وليس على الناس أن يبحثوا".
"أقول هذا محمول على البلد البعيد لاتحاد المشارق والمغارب ولما تقدم".
وجاء في الوسائل أيضا (الجزء السابع ص 208)
"سئل عن اليوم الذى يقضى من شهر رمضان، فقال: لا تقضه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر".
وفيه أيضًا:
"أنه قال فيمن صام تسعة وعشرين، قال: أن كانت له بينة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يومًا".
وفيه أيضًا:
"إذا رأيتم الهلال، فأفطروا أو شهد عليه عدل من المسلمين".
وفى الوافى نقلًا عن التهذيب: عن محمد بن عيسى، قال: "كتب إليه أبو عمرو: أخبرنى يا مولاي أنه ربما أشكل علينا هلال شهر رمضان، فلا نراه، ونرى السماء فيهاعلة، فيفطر الناس، ونفطر معهم، ويقول قوم من الحُساب قبلنا أنه يرى في تلك الليلة بعينها بمصر وأفريقيا والأندلس، فهل يجوز يا مولاي ما قال الحساب في هذا الباب حتى يختلف الفرض على أهل الأمصار فيكون صومهم خلاف صومنا وفطرهم خلاف فطرنا، فقال عليه السلام: لا تصومن الشك أفطر لرؤيته وصم لرؤيته".
وكذلك؛ سعد بن أحمد، عن الحسين، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " فيمن صام تسعة وعشرين، قال: أن كانت له بينة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين على رؤية قضى يومًا".
وكذلك عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سئل عن اليوم الذى يقضى من شهر رمضان فقال: "لا تقضه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر" وقال: " لا تصم ذلك اليوم الذى يقضى إلا أن يقضي أهل الأمصار، فإن فعلوا فصم".
وعلق المرحوم الفيض الكاشانى بقوله: " من جميع أهل الصلاة يعنى أي مذهب كان من ملل أهل الإسلام.
وكذلك عن أبي الجارود، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن على عليه السلام يقول: " صم حتى يصوم الناس وأفطر حين يفطر الناس فإن الله عز وجل جعل الأهلة مواقيت".
وجاء في التهذيب عن أبي جعفر: "الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحى الناس، والصوم يوم يصوم الناس".(2/660)
ملحق رقم 2
بعض الأقوال والنصوص في هذا المورد:
نقل المرحوم (مغنية) في كتابه (الفقه على المذاهب الخمسة) أن الحنفية والمالكية والحنابلة قالوا: "متى ثبتت رؤية الهلال بقطر، يجب على أهل سائر الأقطار من غير فرق بين القريب والبعيد ولا غيره باختلاف مطلع الهلال".
وقال الإمامية والشافعية: " إذا رأى الهلال أهل البلد، ولم يره أهل بلد آخر فإن تقارب البلدان في مطلع كان حكمها واحدًا، وإن اختلف المطلع فلكل بلد حكمه الخاص".
وجاء في كتاب روائع البيان (تفسير آيات الأحكام) للشيخ محمد الصابوني الأستاذ بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة قوله:
الحكم العاشر: هل يعتبر اختلاف المطالع في وجوب الصيام؟
ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع، فإذا رأى الهلال أهل بلد، وجب الصوم على بقية البلاد، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) وهو خطاب عام لجميع الأمة، فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لهم جميعًا.(2/661)
وذهب الشافعية إلى أنه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم، ولا تكفى رؤية البلد الآخر، والأدلة تطلب في كتب الفروع، فارجع إليها هناك (الجزء الأول ص 211) .
وقال حجة الإسلام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين ج 1 ص 232) .
"وإذا رئي الهلال ببلدة، ولم يرى بأخرى، وكان بينهما أقل من مرحلتين، وجب الصوم على الكل، وإن كان أكثر، كان لكل بلدة حكمها ولا يتعدى الوجوب ".
ونقل العلامة الفيض الكاشانى في كتابه (الوافى ص 2) الرواية التالية: عن البصرى عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان، فقال: "لا تصم إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه".
وعلق عليها قائلًا: إنما قال عليه السلام فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه، لأنه إذا رآه واحد في بلد، رآه ألف كما مر. والظاهر أنه لا فرق بين أن يكون ذلك البلد المشهود برؤيته فيه من البلاد القريبة من هذا البلد أو البعيدة عنه، لأن بناء التكليف على الرؤية لا على جواز الرؤية ولعدم انضباط القرب والبعد لجمهور الناس ولإطلاق اللفظ فما اشتهر بين متأخرى أصحابنا من الفرق ثم اختلافهم في تفسير القرب والبعد بالاجتهاد ولا وجه له. (ص20) .
إلا أن المرحوم الشعرانى علق على كلامه بقوله:
"الشريعة نفسها التى ربطت شهرها (القمرى) الشرعى بإمكان الرؤية لنر أنها هل ربطت الشهر في كل منطقة بإمكان الرؤية في تلك المنطقة أو ربطت الشهر في كل المناطق بإمكان الرؤية في أي موضع كان؟
والأقرب على أساس ما نفهمه من الأدلة الشرعية هو الثانى. وعليه فإذا رئي الهلال في بلد ثبت الشهر في سائر البلاد".
ويقول المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه (الفردوس الأعلى) :
"سؤال: هل البينة حجة من البلد في ثبوت الهلال فيما إذا لم يكن في السماء علة أم لا..؟
الجواب:
فى السؤال نوع من إجمال، ولكن الضابطة الكلية أن أدلة حجية البينة مطلقة غير مقيدة بعدم الاستبعاد، أو عدم الريب فيما بعد تحقق موضوعها إلا أن يعلم اشتباهها أو خطأها، ولا فرق بين كونها من البلد أو خارج البلد بعيدة أو قريبة.."(2/662)
نظرة أكثر تفصيلًا عن بدايات الشهور العربية
فضيلة الشيخ محمد على التسخيري
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك نقاط تلقى ضوءًا على الموضوع المبحوث عنه وهي:
أولًا: أننا نعتبر مسألة الوحدة الإسلامية من أهم خصائص الأمة الإسلامية والتى عمل القرآن الكريم، والسنة الشريفة عليها، ونؤيد كل خطوة صحيحة مشروعة لتحقيق هذا الهدف الإسلامي الضخم والذى نصبو إليه جميعًا، حيث تقف الجماهير الإسلامية في خندق واحد تبنى نفسها من جهة متكاملة نحو المطلق، وتقارع الطغاة المعتدين (الشرقيين والغربيين) من جهة أخرى.
ثانيًا: كما أننا متأكدون من أن الكثير من المتسلطين على مقاليد الأمور في عالمنا الإسلامي حاولوا أن يستفيدوا من مسألة بداية الشهور القمرية والمناسبات وتوقيتها لصالح أغراضهم الضيقة، الأمر الذى يدعو إلى تجريدهم من هذه السلطات وتسليمها بيد مراكز مستقلة لا تتأثر بالأهواء وإنما تراقب الله تعالى لا غير.
ثالثًا: يبدأ الشهر بخروج القمر من موضعه بين الأرض والشمس (والذى يكون فيه وجهه المظلم مواجهًا للأرض فلا يرى) يبدأ بخروجه من هذا الموضع حيث تبدو حافة النصف المضئ بشكل هلال (ويسمى هذا بدء الحركة الاقترانية) وكلما ابتعد عن المحاق زادت مساحة الجزء الظاهر لنا حتى نواجه النصف المضئ كله بشكل (بدر) وتكون الأرض بينه وبين الشمس.
ويكون ظهور الهلال عند أول الشهر عند غروب الشمس ولا يلبث غير قليل فوق الأفق ثم يختفى ولهذا قد تصعب رؤيته أو قد لا تمكن من قبيل:
أن يظهر بعد غروب الشمس فوق الأفق الغربى قليلًا، ثم يختفى تحت الأفق الغبر فيكون غير واضح الظهور وربما صعبت رؤيته أو كانت غير ممكنة.
أو: أن يواجه الجزء المضئ من القمر الأرض، ثم يغيب ويختفى تحت الأفق قبل غروب الشمس، فلا تتيسر حينئذ رؤيته مادامت الشمس موجودة.
أو: أن يكون الجزء المنير المواجه للأرض من القمر (الهلال) ضئيلًا جدًا لقرب عهده بالمحاق، فلا تمكن رؤيته بالعين المجردة.
وفى كل الحالات تكون الدورة الطبيعية للقمر قد بدأت، إلا أن الهلال لا يمكن رؤيته، وحينئذ فإن الشهر بمفهومه الشرعى لا يبدأ حينذاك، وإنما يتوقف على أمرين:
أحدهما: خروج القمر من المحاق، ومواجهة جزء من نصفه المضئ للأرض.
والآخر: أن يمكن رؤية هذا الجزء بالعين الاعتيادية المجردة، ولهذا فقد يتأخرالشهر القمرى الشرعى عن الشهر القمرى الفلكى الطبيعى.
وإمكان الرؤية بالعين المجردة هو المقياس لا الرؤية نفسها، فوجود حاجب يحول دون الرؤية كالغيم والضباب لا يضر بذلك.
كما أنه ليس المعيار الرؤية بالوسائل العلمية، وإنما المعيار هو إمكان الرؤية بالعين الاعتيادية المجردة.(2/663)
حالة اختلاف البلاد في الرؤية:
قد يرى الهلال في بلد دون آخر، فما هو الحكم؟
وللإجابة على ذلك يقال أن هذا الاختلاف تارة يكون لسبب طارئ كوجود غيم في هذا البلد دون ذاك وحينئذ فلاشك في كفاية الرؤية في أحدهما بالنسبة للبلد الآخر.
وأخرى يكون الاختلاف تابعًا لاختلافهما في خطوط الطول أو خطوط العرض أو فيهما معًا، فتكون لدينا آفاق متعددة.
ولما كان من اللازم توفر الأمرين السابقين (خروج القمر من المحاق، وإمكان الرؤية المجردة) فإنه لا ريب في نسبية دخول الشهر بالمفهوم الشرعي.
وذلك سواء آمنا بأن خروج القمر من المحاق أمر نسبى أو أمر طبيعى واحد لا يتكرر، (تبعًا لاختلاف مفهوم المحاق وهل هو انطباق مركز القمر على الخط الواصل بين مركزي الأرض والشمس فيغيب القمر عن كل أهل الأرض، أو هو مواجهة الوجه المظلم بتمامه لمنطقة ما على الأرض وهو أمر نسبى) .
فإن النسبية لا محالة آتية من إمكان الرؤية بالعين الاعتيادية المجردة.
ومع ذلك يجب الرجوع إلى النصوص الشريفة لمعرفة ما إذا كان الشارع المقدس يعتبر إمكان الرؤية في مكان ما كافيًا لاعتبار الأرض كلها قد دخلت في الشهر الشرعى أم لا يعتبر ذلك؟
وفى هذا المجال وقع اختلاف رئيس بين العلماء الأعلام عند تمحيص النصوص، وسر الاختلاف يكمن في وجود انصراف لنصوص (الرؤية في البلد الآخر) يصرف الإطلاق إلى البلد القريب المتحد في الأفق وعدم وجود مثل هذا الانصراف.(2/664)
رأى علماء الإمامية:
اتفق علماء الإمامية على أن رؤية الهلال في بلد كافية لثبوته في غيرها من البلدان القريبة منها باعتبار العلم بأن عدم رؤيته فيه إنما يستند – لا محالة إلى مانع يمنع من ذلك.
أما البلدان المتباعدة (ذات الأفاق المتفاوتة) فقد نقل أنه لم يقع التعرض لهذه المسألة من قبل العلماء الماضين أما بالنسبة للعلماء المتأخرين فالرأى المشهور هو عدم كفاية الرؤية في بلد ما للقول بدخول الشهر القمري الشرعي لكل الأرض في حين اختار البعض من العلماء والمحققين الكفاية.
فقد نقله العلامة الحلي في كتاب (التذكرة) عن بعض العلماء واختاره هو بكل صراحة في كتابه (المنتهى) واحتمله الشهيد الأول في كتاب (الدروس) واختاره بصراحة المحدث الكاشانى في كتابه (الوافى) ونقل الرواية التالية: عن البصري عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان، فقال: "لا تصم إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه".
وعلق عليها قائلًا: إنما قال عليه السلام فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه، لأنه إذا رآه واحد في بلد، رآه ألف كما مر. والظاهر أنه لا فرق بين أن يكون ذلك البلد المشهود برؤيته فيه من البلاد القريبة من هذا البلد أو البعيدة عنه، لأن بناء التكليف على الرؤية لا على جواز الرؤية ولعدم انضباط القرب والبعد لجمهور الناس ولإطلاق اللفظ فما اشتهر بين متأخري أصحابنا من الفرق ثم اختلافهم في تفسير القرب والبعد بالاجتهاد ولا وجه له. (ص20) .
إلا أن المرحوم الشعرانى علق على كلامه بقوله:
"الشريعة نفسها التى ربطت شهرها (القمرى) الشرعي بإمكان الرؤية لنر أنها هل ربطت الشهر في كل منطقة بإمكان الرؤية في تلك المنطقة أو ربطت الشهر في كل المناطق بإمكان الرؤية في أي موضع كان؟
والأقرب على أساس ما نفهمه من الأدلة الشرعية هو الثانى. وعليه فإذا رئى الهلال في بلد ثبت الشهر في سائر البلاد".(2/665)
وأيده صاحب الحدائق في (حدائقه) ومال إليه صاحب جواهر الكلام وإن لم يصرح باختياره وكذلك النراقى في (المستند) والسيد أبو تراب الخونساري في شرح (نجاة العباد) والسيد الحكيم في مستمسكه: إذا قال ما نصه "فمع العلم بتساوى البلدين في الطول لا إشكال في حجية البينة على الرؤية في أحدهما لإثباتها في الآخر، وكذا لو رئي في البلاد الشرقية، فإنه تثبت رؤيته في الغربية بطريق أولى، أما لو رئي في الغربية فالآخذ بإطلاق النص غير بعيد (إلا أن يعلم بعدم الرؤية إذا لا مجال حينئذ للحكم الظاهري) ودعوى الانصراف إلى المتقاربين غير ظاهرة". (1) وقال بهذا القول السيد الخوئى في منهاج الصالحين إذ صرح قائلًا: " وهذا القول- أي كفاية الرؤية في بلد ما لثبوت الهلال في بلد آخر ولو مع اختلاف أفقهما هو الأظهر ". (2) كما استظهر المرحوم السيد محمد باقر الصدر في فتاواه الواضحة (3) ويقول المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه (الفردوس الأعلى) :
"سؤال: هل البينة حجة من البلد في ثبوت الهلال فيما إذا لم يكن في السماء علة أم لا..؟
الجواب:
فى السؤال نوع من إجمال، ولكن الضابطة الكلية أن أدلة حجية البينة مطلقة غير مقيدة بعدم الاستبعاد، أو عدم الريب فيما بعد تحقق موضوعها إلا أن يعلم اشتباهها أو خطأها، ولا فرق بين كونها من البلد أو خارج البلد بعيدة أو قريبة.."
إلا أن الرأى المشهور هو عدم الكفاية وقد صرح الإمام الخمينى به قائلًا: "لوثبت الهلال في بلد آخر دون بلده فإن كانا متقاربين أو علم توافق أفقهما كفى وإلا فلا" (4) .
__________
(1) المستمسك، ج 8، ص 471
(2) منهاج الصالحين، ج 1، ص 274
(3) الفتاوى الواضحة، ص519.
(4) تحرير الوية، ج1ن ص 297.(2/666)
رأى العلماء غير الإمامية:
نقل العلامة مغنية في كتابه (الفقه على المذاهب الخمسة) أن الحنفية والمالكية والحنابلة قالوا: "متى تبينت رؤية الهلال بقطر يجب على أهل سائر الأقطار من غير فرق بين القريب والبعيد ولا غيره باختلاف مطلع الهلال"، وقال الإمامية والشافعية: " إذا رأى الهلال أهل البلد، ولم يره أهل بلد آخر فإن تقارب البلدان في مطلع كان حكمها واحدًا وإن اختلف المطلع فلكل بلد حكمه الخاص" (1)
إلا أننا رأينا اختلاف الإمامية أيضا وإن كان ما ذكره هو المشهور لديهم.
وقال حجة الإسلام الغزالى في كتابه إحياء علوم الدين (2) :
"وإذا رئي الهلال ببلدة، ولم يرى بأخرى، وكان بينهما أقل من مرحلتين، وجب الصوم على الكل، وإن كان أكثر، كان لكل بلدة حكمها ولا يتعدى الوجوب ".
أدلة القائلين بكفاية الرؤية في بلد ما:
وقبل كل شئ ذكروا سورة القدر الدالة على أن ليلة القدر ليلة واحدة شخصية لجميع أهل الأرض على اختلاف بلدانهم من آفاقهم ضرورة أن القرآن نزل في ليلة واحدة وهذه الليلة هى ليلة القدر وهي خير من ألف شهر وفيها يفرق كل أمر حكيم وهذا يعم بقاع الأرض.
وبعد هذا تذكر الروايات ومنها:
1-قوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) فإنه خطاب عام لجميع الأمة فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لهم جميعًا.
2- صحيحة هشام بن الحكم عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: " فيمن صام تسعة وعشرين، قال: أن كانت له بينة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين على رؤية قضى يومًا".
3- صحيحة أبي بصير عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن اليوم الذى يقضى من شهر رمضان فقال: "لا تقضه إلا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر" وقال: " لا تصم ذلك اليوم الذى يقضى إلا أن يقضى أهل الأمصار، فإن فعلوا فصمه".
4- صحيحة اسحق بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (الصادق) (عليه السلام) عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان، فقال: "لا تصم إلا أن تراه، فإن شهد أهل بلد آخر أنهم رأوه فاقضه".
5- صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال سألت أبا عبد الله (الصادق) عليه السلام عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان، فقال: "لا تصم إلا أن تراه فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه".
6- واستشهدوا بروايات أخرى من قبيل ما جاء في التهذيب عن الباقر (عليه السلام) "الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحى الناس، والصوم يوم يصوم الناس".
وما عن أبي الجارود قال: سمعت أبا جعفر محمد بن على عليه السلام يقول: " صم حين يصوم الناس وأفطر حين يفطر الناس فإن الله عز وجل جعل الأهلة مواقيت".
كما ذكروا مستشهدين ما جاء في الدعاء المروى في قنوت صلاة العيد " أسألك بهذا اليوم الذى جعلته للمسلمين عيدًا".
وما جاء في الدعاء عن المعصومين "وجعلت رؤيتها لجميع الناس مرأى واحدًا".
وختمت استدلالاتهم بالاستشهاد بسكوت الروايات بأجمعها من اعتبار اتحاد الأفق في هذه المسألة فلم يرد ذكرها حتى في رواية ضعيفة.
__________
(1) الفقه على المذاهب الخمسة.
(2) ج 1، ص 232(2/667)
أدلة النافين لهذه الكفاية:
والذى يبدو من أقوالهم هو التركيز منذ البدء على عنصر الانصراف العرفى لنصوص (الرؤية في البلد الآخر) بشكل يصرف الإطلاق إلى البلد القريب المتحد في الأفق والمتقارب من حيث خطوط الطول والعرض، وحينئذ فإن القاعدة تقضى بوحدة الحكم في خصوص البلدان المتقاربة فقط ويتأكد هذا الإنصراف العرفى إذا لاحظنا:
(أ) استبعاد أن يكون النظر في عبارة (بلد آخر) إلى البلاد الواقعة في أقصى الأرض مثلًا.
(ب) تأكد العرف من اختلاف المطالع القمرية قياسًا على المطالع الشمسية المختلفة رغم بطلان هذا القياس واقعًا إلا أنه على أي حال يصرف الظهور إلى الشكل الذى يلزم معه التصريح بعدم الفرق بين القريب والبعيد لو كان هو المراد ومع عدمه يعنى ذلك إقرار الفهم العرفي المنصرف إلى القريب.
أما الاستدلال بسورة القدر فلعله يجاب عنه بأن الليلة في علم الله تعالى وحده واحدة وهذا يختلف في مسألة الحكم الظاهرى لهذا البلد عن ذاك.
وكذلك لعله يجب الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) بأن الحكم وإن كان عامًا إلا أنه ينحل بمقدار تعدد الأفراد والبلدان خصوصًا مع ملاحظة الإنصراف الآنف.
وهذا ما يجاب به على الاستشهادات بالاضافة لما فيه من ضعف في السند.
أما ما قيل من سكوت الروايات عن اعتبار وحدة الأفق فإنه بنفسه يقال بطرح مسألة سكوتها عن بيان عدم الفرق بين البعيد والقريب رغم ما هو المتعارف من وجود هذا الفرق لو كانت تقصده.(2/668)
وعلى أي حال:
فإن المسألة تعود للإستظهار وحينئذ فلا يمكن إقامة البرهان القاطع بعد أن لم يكن هناك تصريح نصي به.
وعلى هذا الأساس، نقول أن مسألة توحيد الشهور القمرية أمرلا ينسجم مع هذا الخلاف – مادام قائمًا – ولا يمكن أن تشكل نظامًا عامًا سواء قلنا بانفتاح باب الاجتهاد أو انغلاقه فإننا باستعراض الآراء نجد أن المذاهب مختلفة فيها وكذلك آراء المجتهدين القائلين بانفتاح باب الاجتهاد.
ومن الطبيعى والحال هذه أنه لا يمكن إجبار فرد أو دولة على اتباع نظام قد لا تؤمن به شرعًا فكيف يمكن إصدار مثل هذا القرار؟
ورغم ما سبق فإننا نجد أن الجهود المبذولة قد تكون نافعة في تقريب وجهات النظر، وتشخيص الشهادات الصحيحة من الباطلة – أحيانًا – بل وهى تنفع في توحيد شطر كبير من الذين يؤمنون بمسلك وحدة الآفاق.. إلا أننا مع هذا نحذر من الاستغلال السياسى اللئيم لهذه المسألة الشريفة.
وأخيرًا نقول: إننا إذا تمسكنا بشريعتنا وبحقانية ما تقول بكل دقة، فزنا ولا يهمنا ما يقوله العالم لنا، ولذلك فإننا نسجل اعتراضنا على الاستناد إلى ما يسمى بـ (الرأى العام العالمى) في كلمات بعض العلماء. والمهم لدينا أن نحقق ما تريده الشريعة، وقد علمنا أن المسألة خلافية لا إجماع فيها.
وفى الختام فمع تقديرنا للجهود المبذولة في هذا السبيل نود أن يخرج هذا القرار عن الصفة الإلزامية إلى الصفة الترجيحية مع الدعوة إلى التقارب والتأكد من الأمر.
ونرجو في الختام التوفيق لكل المخلصين العاملين.. والسلام عليكم.(2/669)
توحيد بدايات الشهور العربية
فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
حضرات الأساتذة المحترمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
بداية الشهر القمري عني بها فقهاء المسلمين، وفى كل مذهب نجد آثار هذه العناية بما خلفوه من خصب الاجتهاد الذى تفرع عنه أحكام عديدة في كثير من القضايا المرتبطة بذلك.
ولكن قضية الأهلة قد فرضت نفسها على ساحة الفكر الإسلامي في عصرنا هذا فرضًا تجاوز ما عرف من قبل، يبدو ذلك في عديد المؤتمرات واللقاءات التي خصصت لبحث هذا الموضوع في شرق العالم الإسلامي وغربه. كما يعود ذلك إلى بروز معطيات جديدة ما كانت موجودة من قبل.
أولًا: سرعة وسائل الاتصال الإعلامي فما يثبت الشهر في بلد من بلدان العالم الإسلامي حتى يبلغ الخبر أطراف الأرض في نفس اللحظة التي يبلغ فيها أبناء البلد المثبت.
ثانيًا: أن سرعة الاتصال هذه فرضت تصورًا جديدًا في القاعدة الشعبية الإسلامية هي ضرورة الاتحاد بين المؤمنين في الأعياد.
ثالثًا: أن غزو الفضاء قد فتح آفاقًا واسعة في مجال المعرفة الإنسانية تجاوزت الحساب النظري المجرد إلى تطبيقه على واقع الكون في أبعاد الفضاء.
رابعًا: اختلاف الأمة الإسلامية في وسائل إثبات الشهور القمرية أفضى إلى اختلاف في تعيين مبدئها ونهايتها. إذ أخذت أمم بالرؤية والآخذة بالرؤية اختلف فيما بينها في الشروط التي تثبت بها الرؤية فبعضها يكتفي بعدلين والبعض يشترط الاستفاضة.(2/670)
وأخذت أمم أخرى بالحساب. وسنحاول في هذه الكلمة تتبع القضية من أصولها ثم في مذاهب المجتهدين ثم نختم بالرأى الذى نطرحه للنقاش.
القرآن الكريم:
1- تحدث القرآن عن الأهلة قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ففي هذه الآية صرف للسائلين عن طلب بلوغ الحقائق العلمية التي تتوقف استبانتها على مقدمات معرفية في سلسلة مترابطة ومتساوية، صرفهم عن طلب بلوغها بالتلقين، إذ أن ذلك ليس سبيل المعرفة، وتوجيههم إلى ما ينبغى لهم طلبه وهو ما يمكن أن يستفيدوه من الظاهرة الكونية وليس ذلك منعًا لهم من بلوغ ما أرادوا علمه فالجواب يتضمن تأجيل الجواب لأن السائل لم يتهيأ بعد لإدراك ما يريد إدراكه ومع هذا فقد بين ارتباط التوقيت والمناسك بالأهلة.
2- تحدث القرآن عن انتظام سير القمر، كبقية الكواكب قال تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} وقال تعالى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} . فكان انتظام هذا السير سبيلًا لتحديد السنوات وحساب الزمن.
3- تحديد توزيع السنة على الأشهر: قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} .
4- ربط بعض العبادات بوقت معين من حساب الشهور {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وربط أحكامًا أخرى بمطلق العد من الأشهر كقوله تعالى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} .
إن تتبعنا للآيات الكريمة الواردة في هذا المقام نتبعه بالملاحظات الآتية:
1- أن حركة الأفلاك حركة دقيقة ثابتة لم تختلف عبر العصور فهي تسير على نسق منتظم من يوم خلق السماوات والأرض.
2- أن الزمن مرتبط بهذه الحركة وأنه اثنا عشر شهرًا في السنة ولا يجوز الزيادة عليها.
3- أنه لا توجد آية صريحة تبين طريقة التعرف على بداية الشهور.
4- أن آية الصوم التي ورد فيها لفظ شهد، حمله بعضهم على الحضور كقولهم شهد بدرًا وشهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موجهين ذلك بما جاء في مقابل الآية {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ليكون وازنه، وحمله بعضهم على معنى (علم) أخذا من قوله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، أي علم حلول الشهر وليست شهد بمعنى رأى لأن فعلها شاهد لا شهد.(2/671)
5- أنى أرجح أن يكون معنى شهد علم لأن ما وقع به توجيه حملها على الحضور من التوازن هو مفقود في الحقيقة إذ الطرف الثاني لم يقصر على السفر. فلو كان نص الآية (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان على سفر فعدة من أيام أخر) لكان التوازن واضحًا، أما الشطر الثاني فهو قد جمع بين المرض وقد قدم السفر فالتوازن مختل، ولكن يصبح صدر الآية دالًا على أن من علم الشهر وهو حاضر صحيح وجب عليه الصوم، ومن كان مريضًا أو على سفر عند علمه فعدة.
6- أن وظيفة السنة أن تبين طريقة المعرفة..
السنة النبوية: ورويت أحاديث كثيرة تعالج موضوع ثبوت الشهر، فروي عن عبد الله بن عمر، وهو أكثر من روي عنه وروي عن أبي هريرة وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن جابر، وعن ابن عباس وعن سعد بن أبي وقاص وعلي بن علي المنذري الحنفي، وهذا ما جمعته وقد يكون لغيرهم أحاديث مروية في كتب الحديث، كلها تدور حول ربط الصوم برؤية الهلال أو لا، حتى أن الحديث الذى أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمر لم تقبله عائشة وعلقت أنه وقع في وهم أو خطأ. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الشهر تسع وعشرون وصفق بيديه مرتين وقبض إبهامه، فذكروا ذلك لعائشة فقالت عائشة: غفر الله لأبي عبد الرحمن أنه وهل إنما هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرًا فنزل لتسع وعشرين فقالوا يا رسول الله إنك نزلت لتسع وعشرين فقال: أن الشهر يكون تسعا وعشرين.)) آهـ.(2/672)
فكون الشهر تسعًا وعشرين ليس قاعدة وإنما هو مرتبط بالرؤية ومجمل الحديث عندي أن اليمين تحمل على الأرفق وأقل المحامل إذا احتملت أكثر من مستوى. وهذا الحديث رواه مسلم عن جابر كما قالت عائشة فالأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وردت باللفظ: ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) ووردت بالإشارة ((الشهر هكذا وهكذا وعقد أصبعه في الثالثة)) وإذا لم ير الهلال فالمروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلف لفظه فروي ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) . وروي ((فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يومًا)) وفي رواية ((فإن عفي عليكم فاكملوا العدد)) وفي رواية ((فإن عمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين)) وفي رواية ((فإن اغمي عليكم فعدوا ثلاثين)) وفي رواية ((فإن غبي عليكم فاكملوا عدة شعبان ثلاثين)) .
كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وعقد الإبهام في الثالثة والشهر هكذا وهكذا وهكذا)) .
الروايات كلها متقاربة وحداتها الأصلية.
1- إن رؤية الهلال عند غروب شمس يوم التاسع والعشرين توجب تمام الشهر وبداية الشهر الجديد إذ أن اليوم يبدأ من غروب الشمس.
2- أنه إذا لم ير الهلال ليلة الثلاثين وَرَدَ الأمر باتمام العدد مرة وباتمام ثلاثين يومًا في بعض الأحاديث وبقوله ((فاقدروا له)) .
3- أنه ربط في بعض الروايات بين هذا الضبط وطريقة إثبات الشهر وبين المستوى العلمي الذي كان عليه أهل الجزيرة العربية في قوله صلى الله عليه وسلم ((نحن أمة أمية)) وفي رواية البخاري ((إنا أمة أمية)) وما حمله عليه بعضهم من أنه يعني نفسه موجهين ذلك بقوله تعالى {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} أن هذا المحمل بعيد إذ ما عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عن نفسه نحن. ولأنه ما كان يبين حكمًا خاصًا به وإنما كان يبين حكمًا يعم صحابته رضوان الله عليهم إذ طريقة معرفة دخول الشهر حكم يشمل كل المسلمين.(2/673)
أقوال الفقهاء في طريقة ثبوت الشهر
مذهب الحنفية:
عبارة صاحب الكنز: " ويثبت رمضان برؤية هلاله أو بعد شعبان ثلاثين يومًا ومن رأى هلال رمضان أو الفطر ورد قوله صام فإن أفطر قضى وقيل بعلة خبر عدل ولو قنا أوانثى لرمضان وحرين أو حر وحرتين للفطر، وإلا فجمع عظيم والأضحى كالفطر ولا عبرة باختلاف المطالع."
الملاحظات:
1- أن مذهب أبي حنيفة التفرقة بين هلال الصوم وهلال الفطر وحالة السماء من صحو أو غيم فالحالات أربع.
الحالة الأولى: أن يكون بالسماء غيم أو مانع وهو المعبر عنه بالعلة ليلة الثلاثين من شعبان فواحد ثقة عدل كاف ولو كان عبدًا أو امرأة والعدل هو مستور الحال أي الذي لم يثبت فسقه حسبما افتى به البزازى وهو خلاف ظاهر الرواية. ابن عابدين ج 2 ص 90 والبحر الرائق ج 2 ص 286.
وعلل ذلك الكاساني بجواز انشقاق قطعة من الغيم ص 985.
الحالة الثانية: أن يكون بالسماء غيم أو مانع ليلة الثلاثين من رمضان فيشترط في ذلك نصوب الشهادة على الأموال، رجلان توفرت فيهما صفة العدالة أو رجل وامرأتان فالاتفاق على عدم قبول المستور في هلال الفطر.
أن تكون السماء مصحية: في الصوم والفطر فيشترط لقبول الرؤية ثبوتها عن جمع كثير يحصل به العلم أو الظن الغالب وروي عن أبي حنيفة الاكتفاء بشهادة عدلين وروى الحسن عن أبي حنيفة الاكتفاء بالواحد. الكاساني ج 2 ص 985.
الجمع الكثير لم يقدر الحد الأدنى للجمع الكثير في ظاهر الرواية وقدره أبو يوسف بخمسين رجلًا قياسًا على القسامة وعن خلف بن أيوب خمسمائة ببلخ قليل وقيل ينبغى أن يكون من كل مسجد جماعة واحد أو اثنان. الكاساني ج2 ص986.
2- أن هلال ذى الحجة قد اختلف فيه فرواية أنه كهلال الفطر وهو المذهب وروي أنه كهلال الصوم وصححه صاحب التحفة البحر ج 2 ص 290.
وأما بقية الأشهر فقد ذكر الاسبيجابي في شرح مختصر الطحاوى الكبير: "وأما في هلال الفطر والأضحى وغيرهما من الأهلة فإنه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين عدول أحرار غير محدودين كما في سائر الأحكام وناقشه ابن عابدين في المفهم البحر ج 2 ص 290.(2/674)
3- إذا ثبت في بلد فهل يتعدى الحكم سائر الأقطار؟
إذا ثبتت الرؤية في بلد فإنه يجب الصوم على كل بلد يثبت عندهم بطريق صحيح رؤية البلد الآخر ويصوم أهل المشرق برؤية أهل المغرب وهذا ظاهر الرواية وهو ظاهر المذهب وعليه الفتوى لكن في البحر والأشبه اعتبار اختلاف المطالع فلا يلزمهم برؤية غيرهم كما في التبين ويقول الكاساني في بدائع الصنائع " أما إذا كانت بعيدة فلا يلزم أحد البلدين حكم البلد الآخر" وقاسه أبو عبد الله الضرير على فطر القائم على المنارة وفطر أهل البلد.
4- اكمال الشهر ثلاثين يومًا: إذا ثبت دخوله بعدلين رئي الهلال ولم ير في صحو أو غيم.
وإن ثبت دخول الشهر برؤية واحد فإن كان بغيم تم الشهر وإن كان صحوًا فخلاف ويرى محمد تمام الشهر بذلك لأنه حكم بالفطر تبعًا وضمنًا لا استقلالًا ورجح في غاية البيان ما ذهب إليه محمد بن الحسن الشيباني.
5- أعتماد الحساب: يقول صاحب الدر المختار ولا عبرة بقول الموقتين ولو عدولًا على المذهب قال في الوهبانية وقول أولى التوقيت ليس بموجب وقيل نعم والبعض أن كان يكنز آهـ علق عليه ابن عابدين يوهم أنه قيل بأنه موجب للعمل وليس كذلك بل الخلاف في جواز الاعتماد عليهم.
وقد حكي في القنية الأقوال الثلاثة فنقل أولًا عن القاضي عبد الجبار صاحب جمع العلوم بأنه لا بأس بالاعتماد على قولهم ونقل عن ابن مقاتل أنه كان يسألهم ويعتمد على قولهم إذا اتفق عليه جماعة منهم ثم نقل عن شرح السرخس أنه بعيد وعن شمس الإئمة الحلواني: أن الشرط في وجوب الصوم والافطار الرؤية ولا يؤخذ فيه بقولهم ثم نقل عن مجد الإئمة الترجماني أنه اتفق أصحاب أبي حنيفة إلا النادر والشافعي على أنه لا اعتماد على قولهم.(2/675)
وفي جعل الحساب ميزانًا لصحة الشهادة وهو ما ذهب إليه السبكي نقل ابن عابدين عن الشهاب الرملي أن المعول عليه الشهادة لا الحساب.
بناء على ما تقدم فالخلاف في اعتماد الحساب في ثبوت دخول الشهر وفي رد الشهادة أن جاءت على خلافه الخلاف ثابت والراجح عدم الأخذ بالحساب واعتمادهم على قوله صلى الله عليه وسلم ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) .
مذهب المالكية:
وذهب المالكية إلى أن الشهر:
1- يثبت بالرؤية
والرؤية رؤية عدلين ممن يقبل قولهما في الشهادة قال في المدونة: " ولا يصام رمضان ولا يفطر فيه ولا يقام الموسم إلا بشهادة رجلين حرين مسلمين عدلين." وذهب ابن مسلمة إلى قبول رجل وامرأتين، وأشهب إلى قبول رجل وامرأة.
ولا يفرقون بين هلال رمضان وهلال شوال وغيره من الأهلة.
ونقل ابن عبد الحكم أنه رأى أهل مكة لا يقبلون في شهر ذى الحجة إلا خمسين رجلًا ولا يفرقون بين الصحو والغيم.
وذهب سحنون إلى أن الرؤية أن كانت في صحو والمدينة كبيرة ولم يشهد بذلك إلا عدلان فذلك ريبة في شهادتهما توجب ردها قال: "وأى ريبة أكبر من هذا." ولم يحدد العدد الذي يراه حدًا أدنى لقبول الشهادة.
وكما يثبت برؤية عدلين فكذلك يثبت بالرؤية المستفيضة والرؤية المستفيضة تتقوى بكثرة الرائين فلا يشترط عدالة المخبرين. وتحقيق الاستفاضة أن يكون الخبر يبلغ عند السامع درجة الظن القوي بصدقه أو اليقين.
أما بخبر الواحد فلا تثبت الرؤية لا في صحو ولا في غيم ويصوم الرائى وكذا أهله ولا يفطرون برؤية هلال شوال ويقف يوم عرفة حسب رؤيته. البيان والتحصيل ج 2 ص 351.(2/676)
ملاحظة: إذا ثبت الشهر بشهادة شاهدين ثم كانت السماء صحوًا ليلة الحادي والثلاثين ولم ير الهلا كذب الشاهدان قال مالك "هما شاهدا سوء ولو انفردا بالشهادة على الرؤية ليلة الحادي والثلاثين لم تقبل شهادتهما للتهمة" وحرر ابن عبد السلام ما يترتب على هذا أنه إذا لم ير هلال ذى القعدة وجب قضاء يوم وإذا كانت الشهادة على هلال ذى الحجة ولم ير الهلال المحرم ليلة الحادي والثلاثين فسد الحج. مواهب الجليل ج2 ص383.
2- ثانيًا: ببلوغ الشهر ثلاثين يومًا حسب الضوابط السابقة.
3- ثالثًا: الحساب قال ابن الحاجب " ولا يلتفت إلى حساب المنجمين وإن ركن إليه بعض البغداديين" ورووه عن مالك قال ابن برزيزة وهي رواية شاذة في المذهب وقد ذكر ابن العربي في العارضة قال: "كنت رأيت للقاضي أبي الوليد الباهلي رحمة الله أن بعض الشافعية يقول أن يرجع في استهلال الهلال إلى حساب المنجمين وانكرت ذلك عليه لأن فخر الإسلام أبا بكر الشاشى وأبا منصور محمد بن محمد الصباغ حدثاني بمدينة السلام عن الشيخ الإمام أبي نصر الصباغ بباب الرحمن منها قال ولا يؤخذ في استهلال الهلال بقول المنجمين خلافًا لبعض الشافعيين وكذلك أخبرني أبو الحسن بن الطبوري عن القاضي أبي الطيب الطبري عن إمام الشافعية أبي حامد الاسفراييني إمام الشافعية في وقته مثله ثم نقل عن أبي العباس بن شريح أن قوله صلى الله عليه وسلم ((فاقدروا له)) أي منازل القمر لمن خصه الله بهذا العلم وقوله ((فاكملوا العدة ثلاثين)) . خطاب العامة. قال ابن العربي: "وهذه هفوة لا مرد لها وعثرة لا لعًا منها وواصل هجومه إلى أن بلغ من التشنيع أن قال أن فهمه هذا فرق أمة محمد لأمتين أحدهما عددية والثانية عامة الناس عارضة الأحوذى ج3 ص208. ثم نقل عن ابن نافع عن مالك أن الإمام إذا كان يصوم بالحساب أو يفطر أنه لا يقتدي به. ج3 ص211.
وقعد القرافي لعدم الأخذ بالحساب قاعدة ذكرها في الفرق الثاني والمائة بين اعتماد الحساب في أوقات الصلوات وعدم اعتماده في ثبوت الشهر بأن الله ربط الصوم والفطر بالرؤية لا بالخروج من شعاع الشمس خروجًا يمكن من مشاهدته بينما أوقات الصلوات ربطها بزوال الشمس وبلوغ الظل وغروب الشمس ومغيب الشفق ج2 ص129.
رابعًا: تعميم الرؤية على جميع الأقطار: نقل ابن عرفة عن أبي عمر بن عبد البر الاجماع على عدم لحوق حكم رؤية ما بعد الأندلس من خراسان.
وأما ما لم يبعد جدًا فيتعدى حكم ثبوت الشهر إلى غير بلد الرؤية. مواهب الجليل ج2 ص384 البناني ج2 ص192.(2/677)
مذهب الشافعية:
وذهب الشافعية إلى أن الشهر يثبت دخوله:
1- بالرؤية، ويشترط في الرؤية أن تكون بعد الغروب وأن تكون بمجرد النظر لا بواسطة مرآة كالمرآة المقربة والبلور الذي يقرب البعيد ويكبر الصغير.
ويكتفى فيها بشهادة عدل واحد على الرؤية إذا قبله القاضي واثبت بذلك دخول الشهر ويشترط فيه العدالة ويخفف في ضوابط العدالة فيقبل حتى مستور الحال وهو الذي يلابس ما يخرم المروءة ولا يقبل شهادة امرأة ولا عبد وقيل لا بد من عدلين ومنهم من فرق بين الصوم وغيره فيقبل في الصوم الواحد وفي غيره اثنان فإن لم يقبل القاضي الشهادة وجب على الرائي الصوم.
وإذا لم ير الهلال في تمام الثلاثين افطروا.
2- بالخبر المتواتر ولو كان من كفار. التحفة ج3 ص372.
3- تمام الشهر ثلاثين ومن أتم الشهر على روايته المرفوضة فقد تم الشهر بالنسبة له.
4- بقول منجم وحاسب: لا يقبل قول منجم وحاسب ولا يجوز لأحد تقليدهما وإنما يعملان به لأنفسهما واختلف في إجزائه وصححه الشرواني نقلًا عن الأمهات.
وذكر ابن قاسم العبادي أن قياس قولهم أن الظن يوجب العمل أنه يجب عليه الصوم وعلى من أخبره وغلب على ظنه صدقه.
تعدى الرؤية إلى غير محل الرؤية
إذا ثبت في بلد لزم البلد القريب. القرب: = ضبطه بعضهم بمسافة القصر لأن الشارع ربط بها جملة من أحكام العبادات واعتبار المطالع محوج إلى تحكيم النجوم.
وضبطه بعضهم باختلاف المطالع لأن الهلال لا تعلق له بمسافة القصر ولأن المناظر تختلف باختلاف المطالع والعروض فكان اعتبارهما أولى.
وقدر التاج التبريزى اختلافها بأربعة وعشرين فرسخًا.
وحصل في المجموع أن الأقوال ستة 1- أهل الأرض2- أهل الإقليم 3- بلد الرؤية وماوافقها في المطالع وهو أصحها 4- كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا عارض 5- من دون مسافة القصر 6- بلد الرؤية فقط.
وذهب الحنابلة: إلى أن الشهر يثبت دخوله أن كان هلال رمضان:
1- برؤية عدل ذكرًا كان أو انثى حرًا أو عبدًا ولا يشترط فيه أيقول: أشهد، ولو انفرد الرائى وسط جمع كثير فإن ذلك لا يكون ريبة.
2- بتمام شعبان ثلاثين يومًا والسماء صحو.
3- إذا كان ليلة الثلاثين غيم يمنع الرؤية فنقل الخرقي أنه يجب الصوم أن كانت السماء ليلة الثلاثين مغيمة ونقل عن أحمد أيضا أن الناس تبع للإمام فإن صام صاموا وإن أفطر أفطروا، وروى عنه رواية ثالثة لا يجب صومه ولا يجزئه عن رمضان. ج3 ص89.(2/678)
تعدى الرؤية:
إذا ثبتت الرؤية في بلد تعدت إلى سائر البلدان ولا عبرة باختلاف المطالع. ج3 ص88.
برؤية عدلين في بقية الشهور، إذا صام الناس بشهادة اثنين فلم يروا الهلال بعد ثلاثين يومًا أفطروا في الصحو والغيم وإذا استندوا في صومهم إلى شهادة واحد وكانت ليلة الحادي والثلاثين صحوًا لم يفطروا.
لقد حاولت أن ألخص المذاهب الفقهية لأن ذلك يمثل في نظري قاعدة أساسية للبحث الذي هو توحيد الأشهر الإسلامية أو القمرية.
إن المذاهب الإسلامية قد اختلفت في أمر ثبوت دخول الشهر ونهايته اختلافًا بينًا مما يدل على أن الحديث المستند إليه ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) حديث مجمل والاجمال جاء من نواح عديدة:
1- أن فاعل المصدر محذوف فقدروه واحدًا مستور الحال وواحدًا عدلًا واثنين وجماعة كثيرة من المسلمين وأدخلوا فيه التواتر عن غير المسلمين.
2- هل أن رؤيته الأولى ((صوموا لرؤيته)) هي كرؤيته الثانية ((وافطروا لرؤيته)) ؟ فمن قائل بالاتحاد ومن قائل بالاختلاف.
3- هل الخطاب للمسلمين كافة إذا ثبت الصوم في ناحية وجب على الباقين العمل بما ثبت أولًا؟
4- هل الصوم والفطر بعد الثبوت هو وضع نهائى أو أن الصوم والفطر يستأنى به؟
5- هل تغلب الرؤية أو نلغى الرؤية ونأخذ بالأحوط كما هو الحال ليلة الغيم التاسعة والعشرين من شعبان.
6- وقت الرؤية هل يشترط أن يكون بعد غروب أو يثبت الشهر ولو كانت الرؤية قبل الغروب؟
7- هل يفطر من رأى هلال شوال ولم تقبل شهادته أو لايفطر؟
إن الاجمال دفع المجتهدين إلى البحث عن البيان فبين كل واحد الحديث حسبما بلغه اجتهاده وهذا يفضي قطعًا إلى اختلاف الأمر لا بين الأمة الإسلامية بل بين العائلة الواحدة حسب ارتباط المقلد بالمجتهد.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنه حتى في المذهب الواحد لم يصل الاحتياط في فهم الحديث وتطبيقه إلى منهج مأمون فقد استبان كذب الشهود أو خطؤهم. وقد يكون الأمر مما يمكن تداركه كرمضان إذ غاية ما يترتب عليه أن يصوم الناس واحدًا وثلاثين يومًا أو أن يقضوا يومًا أما في ذى الحجة وبعد أن يقف الناس يوم عرفة ثم يتبين كذب الشهود في نهاية الشهر فإن حج الأمة الإسلامية كلها يكون باطلًا.
ومن ناحية ثالثة في البلدان التي قلما يصحو فيها الجو إذا اعتمدنا الرؤية وحدها فهل نأخذ بقاعدة أنه لا يتوالى إلى أكثر من أربعة أشهر على التمام فيكون الخامس ناقصًا وعلى هذا فقد ألغينا الحديث صوموا لرؤيته أو نستمر على التمام حتى إذا ظهر الهلال ليلة خمس وعشرين قضي الصائمون خمسة أيام وافطروا.(2/679)
بعض الوقائع:
يقول ابن نجيم: "وقع في زماننا سنة خمس وخمسين وتسعمائة أن أهل مصر افترقوا فرقتين فمنهم من صام ومنهم من لم يصم وهكذا وقع لهم في الفطر بسبب أن جمعًا قليلًا شهدوا عند قاضي القضاة الحنفي ولم يكن بالسماء علة فلم يقبلهم فصاموا وتبعهم جمع كثير على الصوم وامروا الناس بالفطر وهكذا في هلال الفطر حتى أن بعض المشايخ الشافعية صلى العيد بجماعة دون غالب أهل البلدة وانكر عليه ذلك لمخالفة الإمام " البحر الرائق ج2 ص289.
ذكر ابن عابدين: "وقعت هذه الحادثة في دمشق سنة 1239 ثبت رمضان بدمشق ليلة الجمعة بعد شعبان ثلاثين وكان في السماء علة في تلك الليلة ثم استفاض الخبر عند أهل بيروت وأهل حمص أنهم صاموا الخميس لكن استفاض الخبر عن عامة البلاد سوى هذين البلدين أنهم صاموا الجمعة مثل دمشق فهل تعتبر الاستفاضة الأولى في مخالفتها للثانية أم لا؟ بناء على أن الظاهر يقتضي غلط أهل تلك البلدتين نظير ما مر فيما لو كانت السماء مصحية ورأى الهلال واحد لا يعتبر لأن التفرد بين الجم الغفير ظاهر في الغلط مع أنه ليس بين تلك البلاد بعد كثير بحيث تختلف به المطالع لكن ظاهر الاطلاق يقتضي لزوم عامة البلاد ما ثبت عند بلدة أخرى فكل من استفاض عندهم خبر تلك البلدة يلزمهم اتباع أهلها.. إلخ " (منحة الخالق على البحر الرائق ص290.)
قال ابن ناجي في شرح المدونة: "جلس شيخنا أبو مهدي لرؤية هلال شوال بجامع الزيتونة ليلتين ولم ير وانحرف على قاضي القيروان في تسرعه لقبول الشهادة ولو كانت تثبت ما وقع في مسألة. وقال مالك في شهودها ما قال ولم يقع في عصرنا قط ولا بلغنا أنها وقعت في غيره." مواهب الجليل ج2 ص383.(2/680)
قال الحطاب: " وقد اخبرني والدي رحمه الله أنه وقع لهم في سنة من السنين أن جماعة شهدوا بمكة بهلال ذي الحجة ليلة الخميس حرصًا على أن تكون الوقفة يوم الجمعة ثم عدّ الناس ثلاثين يومًا من رؤيتهم ولم ير أحد الهلال ولكن الله لطف بالناس ولم يفسد حجهم بسبب أنهم وقفوا بعرفة يومين فوقفوا يوم الجمعة ثم دفع كثير منهم حتى خرجوا من بين العلمين ثم رجعوا وباتوا بها ووقفوا بها في يوم السبت ويقع بمكة في مثل هذا الحال أعني إذا وقع الشك في وقفة الجمعة خباط كثير غالبًا" ج3 ص383.
ويقول القاضي أبو بكر بن العربي: "كنت بالمهدية وكان الوالي نجوميًا فاقتضى حسابه عنده أن الليلة بالهلال وأراد العمل به فلم يكن حتى عضد نفسه بكتاب جاء من البادية أن الهلال استهل البارحة وأخذ المقيمين بها فاتفقوا على انه لا يعمل عليه إلا واحد كان ممن يداخل دولته وينظر في شئ من الحساب فأفتاه بالعمل بذلك الكتاب وعظم ذلك على الناس ولكنهم سلموا الحكم لحكم الله وكان شيخنا أبو القاسم بن أبي حبيب يلعن المفتى بذلك" عارضة الأحوذى ج3 ص211.
نقل الشيخ عبد الباقي الزرقاني عن الشيخ أحمد الزرقاني "إذا لم ير الهلال بالصحو ليلة الحادي والثلاثين يكذبان ولو حكم بشهادتها حاكم وهو ظاهر حيث كان الحاكم به مالكيًا وأما لو حكم به من لا يرى تكذيبهما كالشافعي فإنه يجب الفطر لأن مقتضى حكمه أن لا يراعي إلا العدد خاصة دون رؤية الهلال قاله بعض شيوخنا واعترض عليه بقول خليل فأجاب بما قدمناه فاعترض بأن الشهود قد ظهر فسقهم فينقض الحكم المترتب على شهادتهم فأجاب بأنه لم يظهر فسقهم عند الحاكم بهم بل عند غيره والفسق المضر هو المتفق على كونه فسقًا وقد وقع هذا بالبلاد المصرية سنة ثمان وستين وتسعمائة وافطر شيخنا المتقدم وتبعه غالب الجماعة وامتنع بعض الجماعة من الفطر ذلك اليوم" عبد الباقي ج2 ص192.(2/681)
أنه لا يمكن توحيد العالم الإسلامي في أعياده وصومه وفطره مطمئنين إلا إذا أخذنا بالحساب إلا أن الحساب الذي قال به مطرف بن الشخير وابن سريح وبعض البغداديين وابن قتيبة والسسبكي في هذا الاتجاه رفضه الفقهاء بقوة وعنف ورأوا فيه مصادمة لنص ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) هذا النص الذي عمل القرافي على جعله قاعدة يختلف بها أمر الصوم عن الصلاة وسكوت ابن الشاط قوى ثقة من جاء بعده على صحة قاعدة القرافي مع أن من المذاهب الرافضة للحساب من ألغى العمل بنص الحديث كأحمد ليلة الغيم ومع أن قصر الرؤية البصرية لم يستطع القرافي أن يؤكده ومع أن مفهوم الرؤية البصرية وحدودها لم يكشف عنه.
كما رأوا فيه مصادمة لقوله صلى الله عليه وسلم ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وخنس إبهامه في الثالثة وأرسل بعد ذلك في الثالثة)) .
نعم {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} وأن التعبير بالأميين على صحابته صلى الله عليه وسلم هو تعبير عن غالب أحوال أشخاصهم من الأمية فهل تبقى الأمية ملصقة بالمسلمين إلى يوم يبعثون؟ الواقع يشهد أن هذه الأمة خرجت من الجهل إلى العلم بفضل توجيه هذا الدين وأن الإسلام دخلت فيه أمم ليست أمية.
فالرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه هذا إنما هو يكشف عن وضع خاص، هو وضع الأمة الإسلامية وقت البعثة وأن هذا الوصف قد ارتفع قطعًا بعد ذلك يوم أصبح العالم الإسلامي قائد الحضارة البشرية.
كما اعترضوا بأن الأخذ بالحساب لا يتمكن منه كل الناس وهذا أمر لا تختلف فيه الرؤية عن الحساب فكما أن الهلال في أول ليلة هو دقيق لا يتمكن من رؤيته إلا من كان حاد البصر بموقعه لا يتيه بصره في السماء فكذلك الحساب لا يقوم به إلا العالم ولا فرق بين النقص الخلقي والعلمي وقد رأينا أن معظم فقهاء الإسلام يرون في شهادة عدلين برؤية الهلال ما يكفي لثبوت دخول الشهر وشمول هذا الحكم لما لم يبعد جدًا على معنى أن الذين يلزمون بالصوم هم عشرات الملايين من المؤمنات والمؤمنين وأن طريقة الثبوت لم تبلغ إلا من عدد محدود فأي فرق بين هذا وذاك.(2/682)
على أن الحكم من الصوم والفطر والوقوف بعرفة وما يتقدمه وما يتبعه والنذر وغير ذلك لم يتعلق أي واحد منها بالرؤية وإنما ارتبط الحكم بظرفه الزماني الذي لابد من وجوده لتحقق الامتثال من المكلف للطلب المتعلق بذمته. وهو دخول الشهر. الذي أمارته الحقيقية وضع الهلال في الأفق وضعًا يمكن أن يشاهد وهذا الوضع لم يكن من سبيل من التيقن منه عند البعثة وفي البيئة العربية التي نزل فيها القرآن لم يكن من سبيل إلى ذلك إلى الرؤية وما سوى الرؤية من ذلكم العهد وما تلاه من العهود إلى النصف الأول من القرن العشرين لم يكن بالغًا من الدقة مبلغًا يطمأن إليه أما بعد أن استطاع العقل البشري أن يتخلص بمعداته من جاذبية الأرض وأن يتجاوزها إلى مسابح الكواكب وأعيانها وبما تقوم به الحاسبات الإلكترونية فإن مكان القمر في كل لحظته من بين المجموعة الشمسية أصبح يقينًا إلى درجة قدرت بجزء من ثلاثين ألفًا من الثانية.
إن وسيلة معرفة دخول الشهر هي كوسيلة بلوغ البيت الحرام لأداء فريضة الحج يقول الله تعالى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} فوسيلة بلوغ البيت الحرام حسب النص القرآني هي أحد أمرين أما المشى على الأقدام أو الركوب على الدواب المهيأة للبلاغ فهل يقبل من أي فقيه أن يقول أن القرآن حصر الأمر في هذين والحاج بالطائرة أو الباخرة أو الصاروخ يكون حجه لاغيًا لأن الله حدد الوسيلة {رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} ولو أراد مطلق الوصول لقال وأذن في الناس بالحج يأتوك من كل فج عميق.(2/683)
أنه لابد من أن نعرف الأسباب التي جعلت معظم الفقهاء يقفون من الحساب مواقف مختلفة أن ذلك يعود في نظري إلى أمور.
أولًا: عدم تدقيق المراد من الحساب: قال الحطاب: "ظاهر كلام أصحابنا أن المراد بالمنجم بالحساب الذي يحسب قوس الهلال ونوره، ورأيت في كلام الشافعية أن المنجم الذي يرى أن أول الشهر طلوع النجم العلاني والحاسب الذي يحسب سير الشمس والقمر." ج2 387. ونقل الأبي عن النووى أنه قال: "عدم الأخذ بحساب المنجمين لأنه حدس وتخمين، وإنما يعتبر منه ما تعرف به القبلة ووقت الصلاة." ج3 ص222.
فكلام الفقهاء قد اختلط فيه الحاسب المنجم وقد عطف أحدهما على الآخر في بعض التآليف وانفرد أحدهما عن الآخر في أخرى.
وضبط المراد أول خطوة من خطوات البحث فالمنجم الذي يربط بين طلوع نجم وظهور الهلال ويستدل بالنجم على وجود الهلال هو قد حول الاعتماد من الهلال إلى النجم ومن حق الفقهاء أن يرفضوا ذلك وإذا أخذنا بأن المنجم هو الذي يحسب قوس الهلال ونوره فإنه أيضا مما يتحتم رفضه وذلك لما رواه مسلم عن أبي البختري قال: "خرجنا للعمرة فنزلنا ببطن نخلة: قال تراءينا الهلال فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث وقال بعض القوم هو ابن ليلتين قال: فلقينا ابن عباس فقلنا: إنا رأينا الهلال فقال: أي ليلة رأيتموه؟ فقلت: ليلة كذا وكذا فقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أمده للرؤية فهو لليلة التي رأيتموه)) فهذا نص في عدم اعتبار حساب قوس الهلال ونوره.
وما ذكره النووى من عدم الأخذ بحساب المنجمين لأنه حدس وتخمين. هو حق فلا يؤخذ بقول من اعتمد التخمين والحدس، وألغى طرق المعرفة التي قبلها الشرع وهي الخبر الصادق والحس والدليل العقلي.(2/684)
ثانيًا: قوله صلى الله عليه وسلم ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) .
يقول الزرقاني في شرحه على الموطأ: "وقد أورثت هذه الزيادة المؤكدة عند المخالف شبهة بحسب تفسيره لقوله ((فاقدروا له)) فقال الإئمة الثلاثة والجمهور: قدروا له تمام العدد ثلاثين يومًا. يقول: قدرت الشئ وأقدرته وقدرته بمعنى التقدير، أي انظروا في أول الشهر واحسبوا ثلاثين يومًا كما جاء مفسرًا في الحديث اللاحق ولذا أتى به الإمام للإشارة إلى أنه مفسر. ولذا لم يجتمعا في رواية بل تارة يذكر هذا وتارة يذكر هذا يعني روايته عن عبد الله بن عباس ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) " ج2 ص86.
فالحديث الثاني هو مفسر للحديث الأول لا تعارض بينهما. وذهب الطحاوي إلى أن الحديث الثاني ناسخ للحديث الأول أي أن بينهما خلافًا وأن العمل بالثاني وأن الأول قد بطل العمل به. قال الطحاوى: "معنى التقدير أن ينظر إذا غم الهلال ليلة الشك إلى سقوط القمر في الليلة الثانية فإن سقط لمنزلة واحدة وهي ستة أسباع الساعة علم أنه من تلك الليلة وإن غاب لمنزلتين علم أنه من الليلة الماضية فقضوا اليوم. فمعنى التقدير هو الانتظار اضبط سقوط الهلال في الليلة القادمة."
وقال ابن رشد في المقدمات: "إنه ينظر إلى هذا الذي غم الهلال عند آخره من الشهور فإن كان توالى منها شهران أو ثلاثة كاملة عمل على أن هذا الشهر ناقص فأصبح الناس صيامًا، وإن كانت توالت ناقصة عمل على أن هذا الشهر كامل فأصبح الناس مفطرين إذ لا تتوالى أربعة أشهر كاملة ولا ناقصة على ما علم مما أجرى به الله العادة ولا ثلاثة أيضا ناقصة ولا كاملة إلا في النادر. وإن لم يتوال قبل هذا الشهر الذي غم الهلال في آخره شهرًا، فأكثر كاملة ولا ناقصة احتمل أن يكون هذا الشهر ناقصًا وكاملًا احتمالًا واحدًا يوجب أن يكمل ثلاثين يومًا كما في الحديث الآخر فيكون على هذا الحديثان جميعًا مستعملين كل واحد منهما في موضع غير موضع صاحبه وهذا في الصوم وأما في الفطر إذا غم هلال شوال فلا يفطر بالتقدير الذي يغلب فيه على الظن أن رمضان ناقص" آهـ. مواهب الجليل ج2 ص389.(2/685)
وهنا أريد لفت النظر إلى الملاحظات التالية:
1- هو أن هذا النص الذي نقله الحطاب عن ابن رشد في المقدمات لم أجده في المقدمات.
2- أن هذا النص فيه جواذب لصاحبه تدعوه إلى اعتبار ما أجرى الله عليه العادة وسنته في الخلق وأنها سنن ثابتة مطمئن إليها مكتشفها.
3- أن الإستثناء ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) هو في الحديث قد ورد بعد قوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم..)) فالرسول صلى الله عليه وسلم جمع نص حديثه الصوم والفطر فتفريق ابن رشد بين الصوم يؤخذ في الصوم بالتقدير ولا يؤخذ في الفطر بالتقدير تفريق لا ينسجم مع نص الحديث.
ثالثًا: المستوى العلمي الذي بلغته البشرية قبل النصف الثاني من القرن العشرين، نعم أن علماء الفلك بذلوا جهودًا جبارة خلال القرون الماضية لمعرفة سير الكواكب ولكنهم لم يبلغوا الدقة والضبط إلا بعد صعود الإنسان إلى القمر فإن توجيه الإنسان الأول إلى القمر لم يكن مجازفة وإنما سبقه يقين بموقع القمر وقد كشفت التجربة عن صحة حساب الفلكيين ولو كان حسابهم مبنيًا على التقريب لضاع المسبار في فضاء الله ولا أمل في رجوعه.(2/686)
الخلاصة:
من هذا الذي قدمناه يتبين لنا أن طريق ثبوت الشهر:
أولًا: الرؤية البصرية للهلال بعد غروب الشمس: وهذه الرؤية لا تفيد اليقين وذلك لأمور:
1- احتمال الكذب وإن ما ظهر من العدالة والصدق هو رداء زائف وإن المخبر لا يتورع عن الكذب.
2- احتمال خداع النظر نتيجة حديث النفس السابق والاقتناع بامكان الرؤية وهذا يقع فعلًا كثيرًا ما يتصور أمام ناظر العين ما لا وجود له إلا في عقل الرائى.
3- احتمال خداع النظر من حالة العين فمن الأمراض التي تصيب العين أن تحدث شرارات يدركها النظر بعد حدوثها من الداخل ولا وجود لها في الخارج.
وأن الوقائع التي ذكرتها فيما سبق هي كاشفة عما يدخل الرؤية من احتمال الخطأ أو التخطئة.
وليس معنى هذا أن الرؤية لا يجب أن تعتمد بحال فهذا لا يقوله مؤمن ولكن الرؤية البصرية وسيلة اثبات لها حظها من الصحة وليست يقينية ونحن مطالبون بالعمل بالظن كلما تعذر اليقين فإن الظن لا يغني من الحق شيئًا.
ثانيا: الحساب: والحساب اليوم هو غير التنجيم وهو يقيني لا مجال للخطأ فيه إلا أن الحساب يجب أن يضبط بما جاء في الحديث الشريف وهو الرؤية فلا يثبت دخول الشهر بانفلات القمر بعد الاقتران وإنما يثبت دخول الشهر إذا بلغ الهلال بعد خروجه درجة تمكن رؤيته فيها وهي ثمان درجات حسبما يؤكد علماء الفلك والبصر.
ثالثًا: تبين بالتجربة الطويلة أن اعتماد الرؤية تسبب عنه اختلاف الأمة الإسلامية في مواعيد أعيادها ثم تعدى الخلاف إلى أهل البلد الواحد ثم استفحل الأمر أكثر فبلغ الشقاق أعضاء الأسرة الواحدة.
إن ما كان يسع أهل العصور السابقة من الاختلاف بينهم في هذا الأمر هو لا يقبل منا اليوم ذلك أن وسائل الاتصال زادت سرعتها فوحدت العالم كله في العلم بالأخبار.
إن اعتماد الرؤية كانت آثاره غير معقولة فسوريا ابتدأت الصيام هذه السنة يوم الأحد وهي تعتمد الرؤية والسعودية يوم الإثنين وهي تعتمد الرؤية والمغرب يوم الأربعاء وهي تعتمد الرؤية ومعلوم يقينيًا أنه لا يسبق أهل المشرق أهل المغرب والعكس هو الصحيح.
فتأخر المغرب إلى يوم الأربعاء وسبق سوريا بيوم الأحد ظاهرة غير مقبولة لها اثرها في نفس الشباب وتفضي حتمًا إلى أنواع الرفض أو السخرية والاستهزاء.(2/687)
لذا فإني أقترح على أعضاء المجلس الموقر لمؤتمر الفقه الإسلامي أن يقرروا قرارًا واضحًا بينًا أن الحساب وسيلة يقينية لثبوت دخول الشهور القمرية ونهايتها وأن العبرة بوضع القمر وضعًا تمكن رؤيته. وإن كل دعوى رؤية تخالف الحساب هي دعوى مرفوضة يكذب صاحبها شأن الشهادة بما يخالف الواقع وأن القصد هو العمل على توحيد المسلمين في أعيادهم وفي صومهم ونسكهم.
والله الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/688)
رسالة بلغة المطالع في بيان الحساب والمطالع
فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الكتاب
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونتوب إليه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد؛
فهذه رسالة وجيزة في قضيتين اثنتين؛ قضية المطالع، وقضية الأخذ بقول أهل الحساب في إثبات الشهور القمرية، وقد أقمتها على فصلين وخاتمة, جمعت فيها من النقول النفيسة والأقوال الراجحة الصحيحة ما تلذ له النفوس وتطرب له القلوب، فكان هذا الجمع مقدمة للمقارنة والموازنة من جهة ولذكر ترجيح بعض الفقهاء المعاصرين من جهة أخرى، ثم ثنيت بذكر ما ذهبت إليه في هاتين المسألتين راجيًا المولي تبارك وتعالى أن يجعل لها القبول لدى العلماء والباحثين وعباده الصالحين.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقى إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
خادم العلم الشريف بدمشق الشام
دمشق يوم عرفة 9 ذو الحجة سنة 1405 هـ د. محمد عبد اللطيف الفرفور(2/689)
محط الرسالة
تشتمل هذه الرسالة على فصلين وخاتمة، ودونك التفصيل:
الفصل الأول: النقول من المذاهب الفقهية الكبرى في قضيتي المطلع والحساب، وفيه مباحث:
1- المبحث الأول؛ تحقيق قضية المطالع فلكيًا وشرعيًا، وأقوال المذاهب الأربعة في هذه المسألة مع أدلتهم (المطالع) .
2- المبحث الثانى؛ الموازنة والمقارنة وترجيح بعض الفقهاء المعاصرين في قضية المطالع.
3-المبحث الثالث؛ مشروعية الأخذ بالتوقيت والحساب في إثبات الأهلة.
الفصل الثانى: ما ذهب إليه المؤلف بدليله في كل من المطالع والحساب وفيه مبحثان:
المبحث الأول؛ ما ذهب إليه المؤلف في قضية المطالع.
المبحث الثانى؛ ما ذهب إليه المؤلف في قضية الحساب.
خاتمة الرسالة.(2/690)
الفصل الأول
النقول من المذاهب الفقهية الكبرى
في قضيتي المطالع والتوقيت بالحساب
1- تحقيق قضية المطالع فلكيًا وشرعيًا وأقوال المذاهب الأربعة في هذه المسألة مع أدلتهم.
2- الموازنة والمقارنة والترجيح.
3- القول بالتوقيت والحساب وعدمه.
المبحث الأول
تحقيق قضية اختلاف المطالع وأقوال المذاهب
الأربعة في هذه المسألة مع أدلتهم
(أ) كلام الشيخ محمد بخيت المطيعي؛
اختلاف المطالع لا خلاف فيه لأحد من العلماء لأنه من الأمور الثابتة بالمشاهدة، وقد وافق الشرع العقل على ذلك أيضًا، كما أنهما متفقان على الدوام ألا ترى أن الشارع بنى على اختلاف المطالع كثيرًا من الأحكام فبنى عليه اختلاف أوقات الصلاة ووقت الحج فإن العبرة بمطلع أهل مكة فيه. وبنى عليه أيضا معرفة من تقدم أو تأخر موته في المواريث وغير ذلك كثير وكل ذلك متفق عليه. وإنما اختلفوا بعد ذلك في اعتبار وعدم اعتباره بالنظر لرؤية هلال رمضان وشوال ووجوب الصوم والفطر ...
الأقوال:
1- فقالت المالكية: متى ثبتت رؤية الهلال بجماعة مستفيضة عم الثبوت جميع البلاد قريبًا وبعيدًا ولا يراعى في ذلك مسافة قصر ولا اتفاق المطالع ولا عدم اتفاقها، فيجب الصوم على كل من بلغه ثبوته بنقل عدلين وبالأولى يجب الصوم على من بلغه بنقل عدلين حكم الحاكم بثبوت الهلال بشهادة عدلين أو جماعة مستفيضة خلافًا لعبد الملك فإنه يقتصر الوجوب على من في ولاية الحاكم.
وقال ابن عبد البر: أن النقل سواء كان عن حكم أو عن رؤية العدلين أو الجماعة المستفيضة إنما يعم البلاد القريبة لا البعيدة جدًا وارتضاه ابن عرفة، ويمكن أن يكون مراد من قال ولو بعيدًا البعد لا جدا فيكون موافقًا لقول ابن عبد البر كذا يؤخذ من شرح خليل وحواشيه فقد اختلف المالكية في اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتباره.
2- وقالت الحنفية: كما في الكنز وشرحه للزيلعي ولا عبرة باختلاف المطالع، وقيل يعتبر ومعناه أنه إذا رأى الهلال أهل بلدة ولم يره أهل بلدة أخرى يجب أن يصوموا برؤية أولئك كيفما كان على قول من قال: لا عبرة باختلاف المطالع، وعلى قول من قال باعتباره ينظر فإن كان بينهما تقارب بحيث لا تختلف المطالع يجب وإن كان بحيث تختلف لا يجب.
وأكثر المشائخ على أنه لا يعتبر والأشبه أن يعتبر لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم وانفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار كما أن دخول الوقت وخروجه يختلف باختلاف الأقطار حتى إذا زالت الشمس في المشرق لا يلزم منه أن تزول في المغرب وكذا طلوع الفجر وغروب الشمس بل كلما تحركت الشمس درجة فتلك طلوع فجر لقوم وطلوع شمس لآخرين وغروب لبعض ونصف ليل لغيرهم.(2/691)
والدليل على اعتبار المطالع ما روي عن كُريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام فقال: "قدمت الشام وقضيت حاجتها واستهل علىّ شهر رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيت الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال لكنا رآيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقلت: أولا تكتفى برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم." قال في المنتقى رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة. آهـ
3- وقالت الحنابلة: لا عبرة باختلاف المطالع.
4- وقالت الشافعية: كما في النهاية وغيرها: وإذا رؤى ببلد لزم حكمه البلد القريب دون البعيد في الأصح، والبعيد مسافة القصر، وقيل باختلاف المطالع قلت: هذا أصح، والقول الثاني أنه يلزم البعيد أيضا واستدلوا على القول الأصح من اعتبار اختلافهما بمثل ما تقدم عن الزيلعي، وقالوا: لا ينظر إلى أن اعتبار المطالع يحوج إلى حساب وتحكيم المنجمين مع عدم اعتبار قولهم لأنه لا يلزم من عدم اعتبار قولهم في الأصول والأمور العامة عدم اعتباره في الفروع والأمور الخاصة.
وقال القرافي في فروقه: "إن الحق اعتبار اختلاف المطالع وشنع على من قال بعدم اعتباره." وأنت إذا رجعت إلى الواقع ونفس الأمر تجد أن اختلاف المطالع معلوم بالضرورة واختلاف الأوقات باختلافها مشاهد معاين فإن سكان البلاد التي يستمر فيها ظهور الشمس شهرين أو ثلاثة يشاهدون ذلك وكذلك كل من ذهب إلى بلادهم يشاهد ذلك وكذلك صار من المعلوم بالضرورة أن الشمس تظهر ستة أشهر وتختفي ستة أشهر لدى سكان جهة القطب فهل يمكن إذا رأى أهل مصر هلال رمضان وقت الغروب عندهم أن نلكف هؤلاء بالصوم برؤية أهل مصر كما أنه صار من الضرورى التخالف في الأوقات بيننا وبين أهل أمريكا فهل يمكن أن نكلفهم بالصوم برؤية أهل مصر للهلال بعد الغروب مع أن هذا الوقت عندهم ربما كان وقت طلوع الفجر أو وقت شروق الشمس وبالجملة فالقول بعدم اعتبار اختلاف المطالع مخالف للمعقول والمنقول.
أما مخالفته للمعقول فلما علمته من مخالفته لما هو ثابت بالضرورة من اختلاف الأوقات وأن النهار عند قوم قد يكون ليلًا عند آخرين.(2/692)
وأما مخالفته للمنقول فلأنه مخالف لما تقدم عن كريب وذلك لأن المتبادر من قول كريب لابن عباس: نعم رأيته ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. وقول ابن عباس: لكنا رأيناه.. إلى آخره. وقول كريب بعد ذلك أولا تكتفي برؤية معاوية؟ وقول ابن عباس في جوابه لا، أي لا نكتفي برؤية معاوية. أن قوله: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجع إلى عدم الاكتفاء برؤية معاوية ورؤية كريب والناس وصومهم وصوم معاوية، وهذا ظاهر في أن كل قوم مكلفون برؤيتهم. ولاشك أن مورد هذا النص في الشام والحجاز وقد وجد بينهما مسافة القصر واختلاف الإقليم واختلاف المطالع واحتمال عدم الرؤية فاستند كل طائفة إلى واحد منها وأيد به قوله كذا قال الإمام الأسنوي. لكن احتمال عدم الرؤية بعد أن قال ابن عباس لكريب: أنت رأيته؟ فقال: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، ومعاوية كان الخليفة بعيد جدًا لا يلتفت إليه. فلم يبق إلا احتمال مسافة القصر واختلاف الإقليم واختلاف المطالع. فإذا رجعنا إلى الواقع نجد أنه لا دخل في اختلاف الناس في رؤية الهلال بعد الغروب لمسافة القصر ولا لاختلاف الإقليم وأن المدار في ذلك على اختلاف المطالع فإنه ليس المراد باختلاف الناس في الرؤية أن هذا يرى وهذا لا يرى بل المراد أن رؤية هذا الهلال بعد الغروب لا تعتبر رؤية للآخر لأنه غروب ولا هلال في بلدة وهذا إنما يكون باختلاف المطالع فليكن عليه المعول.
قال الخضري الكبير الدمياطي في شرح اللمعة آخر الفصل العاشر في الكلام على رؤية الهلال: "وعلم أن اختلاف الرؤية في البلاد لا يكون إلا باختلاف المطالع البلدية، واختلاف المطالع البلدية لا يكون إلا باختلاف العرض ثم قال: وأما اختلاف الطول فلا يظهر به كبير فرق." آهـ.
وعرض كل بلدة هو بعدها عن خط الاستواء كما نصّوا في علم الميقات. وأما قول السبكي في العلم المنشور بعد ذكر تلك الاحتمالات الثلاثة فلا إشكال على شئ من الأقوال المتقدمة إلا على قول من يقول إذا رؤى في بلد يلزم سائر البلاد فيمكن أن يجاب عنه بأنه قد يكون في المدينة صحو ليلة الثلاثين. وقد اختلف الفقهاء فيما إذا ثبت بشاهدين وصمنا ثلاثين ولم نر الهلال هل نفطر أو نصوم واحدًا وثلاثين لأن عدم رؤيته مع الصحو يقين وقول الشاهد ظن فلا يترك اليقين بالظن فلعل ابن عباس كان يرى هذا المذهب وهذا هو الوجه الثانى مما يحتمله كلام ابن عباس ويحتمل أن يكون ابن عباس أقام كريبا مقام شاهد واحد على هلال شوال وهلال شوال لا يثبت إلا بشاهدين عند جمهور العلماء فذلك رده لعدم شاهد آخر معه وهذا هو الوجه الثالث مما يحتمله كلام ابن عباس وقوله: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحتمل أنه إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتموه فصوموا)) الحديث.
ويحتمل أن يكون عنده حديث آخر ونص خاص في مثل هذه الواقعة والحاصل أنه لا معارضة فيه لما تقدم آهـ.(2/693)
ففيه أن ابن عباس قال: "فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه" فهذا صريح في أن مذهب ابن عباس أن الفطر معلق بالرؤية أو إكمال العدد ثلاثين فقط وأن المشار إليه بقوله: هكذا، هو عدم الإكتفاء برؤية معاوية سواء كان ذلك لحديث: ((إذا رأيتموه فصوموا)) أو لغيره وليس ذلك لرد ابن عباس شهادة كريب لأنه شاهد واحد فإن كان كريبا قال لابن عباس: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقد شهد ونقل شهادة الناس وحكم معاوية بالصوم وأما ما تمسك به القائلون بعدم اعتبار اختلاف المطالع من تعلق الخطاب عامًا بمطلق الرؤية في حديث: ((صوموا لرؤيته)) . فمسلم لكنهم لا ينكرون أن الخطاب إنما تعلق عاما بالرؤية بعد الغروب لا مطلقًا فلا يعم إلا بكل من تحقق لديهم الرؤية بعد الغروب أما من لم توجد عندهم الرؤية بعد الغروب بل وقت الغروب عند من رأوه هو وقت طلوع الشمس عند الآخرين فكيف نوجب عليهم الصوم ولم يوجد عندهم سبب الوجوب وهو رؤية الهلال بعد الغروب فعلم أن الحديث عام في كل قوم تحقق بالنسبة إليهم رؤية الهلال بعد الغروب فلا يدل على عدم اعتبار اختلاف المطالع ولذلك قال الزيلعي: والأشبه أنه يعتبر. واقتصر عليه في البدائع، فإنه بعد أن ذكر أن الهلال إذا رآه أهل بلد يلزم أهل البلدة الأخرى قال: هذا إذا كانت المسافة بين البلدتين قرييبة لا تختلف فيها المطالع فأما إذا كانت بعيدة لا يلزم أهل أحد البلدين حكم الآخر لأن مطالع البلاد عند المسافة الفاحشة مختلفة فيعتبر في كل أهل بلد مطلع بلدهم دون البلد الآخر وإن كان قوله عند المسافة الفاحشة ليس بقيد بل المدار في الحكم على اختلاف المطالع وهو باختلاف عرض البلدين بلا مدخل لبعد المسافة وقربها ولذلك اتفقوا على اعتبار اختلاف المطالع في وجوب الحج فاعتبروا مطلع مكة، وفى الأضحية أوجبوا على كل قوم الأضحية في يوم النحر وهو العاشر من شهر ذى الحجة على حسب ما يرى هلاله عندهم فلا معنى للاختلاف بعد ذلك في الصوم دون سائر أوقات العبادات وبالجملة فالواجب التوفيق بما وفقت به المالكية فيحمل قول من قال بعدم اعتبار اختلاف المطالع على ما إذا كان اختلافها لا يؤدى إلى تفاوت في رؤية الهلال بعد الغروب وقول من قال باعتباره على ما إذا كان اختلافها يؤدي إلى ذلك فإن اختلاف مطالع البلاد كما علمت مبني على اختلاف عروضها وأن عرض كل بلد هو بعدها عن خط الاستواء وهذا الاختلاف قد يكون يسيرًا جدًا لا يترتب عليه اختلاف في رؤية الهلال بين البلدين بعد الغروب وإنما يتفاوت مكث الهلال بعده في أفقهما وقد يكون فاحشًا يترتب عليه ذلك.(2/694)
وهذا هو الذى يتعين المصير إليه حملًا لكلامهم على السداد لأن المشرع لا يأتي بالمستحيلات. والله الموفق لما فيه الصواب (1) .
قلت: وجاء في الرسالة العلم المشهور في إثبات الشهور للإمام تقي الدين علي بن عبد الكافي ابن السبكي (2) . ما خلاصته:
"وقد يكون محل خلاف إذا رؤي في بلد دون بلد وبينهما إما مسافة القصر أو اختلاف المطالع فقد اختلف العلماء في ذلك" وبعد أن عدّ الأقوال قال " وإلزام البلاد إذا رؤي في بلد ضعيف جدًا " ثم قال " وأجمع العلماء في أوقات الصلوات على أن المعتبر عند كل قوم فجرهم وزوالهم وغروبهم ولا يلزمهم حكم غيرهم فكذلك الهلال بالقياس عليه وبأن ما يخاطب قومًا إلا بما يعرفونه مما هو عندهم" ثم قال "واعتبار كل بلد لا يتصّور خفاؤه عنهم جيدٌ" آهـ.
(ب) كلام العلامة ابن عابدين في ردّ المحتار؛ " (قوله واختلاف المطالع) جمع مطلع بكسر اللام موضع الطلوع بحر عن ضياء الحلوم (قوله ورؤيته نهارًا الخ) مرفوع عطفًا على اختلاف ومعنى عدم اعتبارها أنه لا يثبت بها حكم من وجوب صوم أو فطر فلذا قال في الخانية فلا يصام له ولا يفطر وأعاده وأنه علم مما قبله ليفيد أن قوله لليلة الآتية لم يثبت بهذه الرؤية بل ثبت ضرورة إكمال العدة كما قررناه، فافهم.
__________
(1) إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة، ص283 وما بعدها للعلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي من مجموع رسائل
(2) أنظر (العلم المشهور في إثبات الشهور) لتقي الدين ابن السبكي، ص3 وما بعدها من مجموع رسائل(2/695)
(قوله على ظاهر المذهب) اعلم أن نفس اختلاف المطالع لا نزاع فيه بمعنى أنه قد يكون بين البلدتين بعد بحيث يطلع الهلال ليلة كذا في احدى البلدتين دون الأخرى وكذا مطالع الشمس لأن انفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار حتى إذا زالت الشمس في المشرق لا يلزم أن تزول في المغرب وكذا طلوع الفجر وغروب الشمس بل كلما تحركت الشمس درجة فتلك طلوع فجر لقوم وطلوع شمس لآخرين وغروب لبعض ونصف ليل لغيرهم كما في الزيلعي. وقدر البعد الذي تختلف فيه المطالع مسيرة شهر فأكثر على ما في القهستاني عن الجواهر اعتبارًا بقصة سليمان عليه السلام فإنه قد انتقل كل غدو ورواح من إقليم إلى إقليم وبينهما شهر آهـ.
ولا يخفى ما في هذا الاستدلال وفي شرح المنهاج للرملي وقد نبه التاج التبريزي على أن اختلاف المطالع لا يمكن في أقل من أربعة وعشرين فرسخًا وأفتى به الوالد والأوجه أنها تحديدية كما أفتى به أيضا آهـ فليحفظ.
وإنما الخلاف في اعتبار اختلاف المطالع بمعنى أنه هل يجب عل كل قوم اعتبار مطلعهم ولا يلزم أحدًا العمل بمطلع غيره أم لا يعتبر اختلافها بل يجب العمل بالأسبق رؤية حتى لو رؤي في المشرق ليلة الجمعة وفي المغرب ليلة السبت وجب على أهل المغرب العمل بما رآه أهل المشرق فقيل بالأول واعتمده الزيلعي وصاحب الفيض وهو الصحيح عند الشافعية لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم كما في أوقات الصلاة وأيده في الدرر بما مر من عدم وجوب العشاء والوتر على فاقد وقتهما وظاهر الثاني وهو المعتمد عندنا وعند المالكية والحنابلة لتعلق الخطاب عامًا بمطلق الرؤية في حديث ((صوموا لرؤيته)) بخلاف أوقات الصلوات. وتمام تقريره في رسالتنا المذكورة.
تنبيه: يفهم من كلامهم في كتاب الحج أن اختلاف المطالع فيه معتبر فلا يلزمهم شئ لو ظهر أنه رؤي في بلدة أخرى قبلهم بيوم وهل يقال كذلك في حق الأضحية لغير الحجاج لم أره والظاهر نعم لأن اختلاف المطالع إنما يعتبر في الصوم لتعلقه بمطلق الرؤية. وهذا بخلاف الأضحية فالظاهر أنها كأوقات الصلوات يلزم كل قوم بما عندهم فتجزئ الأضحية في اليوم الثالث عشر وإن كان على رؤيا غيرهم هو الرابع عشر والله أعلم.
(قوله فيلزم) فاعله ضمير يعود إلى ثبوت الهلال أي هلال الصوم أو الفطر وأهل المشرق مفعوله؛ أو يلزم بضم الياء من الالزام مبني للمجهول وأهل المشرق نائب الفاعل وبرؤية متعلق بيلزم.
(قوله بطريق موجب) كأن يتحمل اثنان الشهادة أو يشهدا على حكم القاضي أو يستفيض الخبر بخلاف ما إذا اخبرا أن أهل بلدة كذا رأوه لأنه حكاية ح.
(قوله كما مر) أي عند قوله أشهد أنه شهد ح" (1) .
__________
(1) حاشية رد المحتار على الدر المختار ج2 ص96 والإشارة ح إلى كتاب (حاشية الحلبي على الدر) مصادر المحتار.(2/696)
في بيان حكم اختلاف المطالع
(ج) كلام العلامة ابن عابدين في مجموع رسائله:
"اعلم أن مطالع الهلال تختلف باختلاف الأقطار والبلدان فقد يُرى الهلال في بلد دون آخر كما أن مطالع الشمس تختلف فإن الشمس قد تطلع في بلد ويكون الليل باقيًا في بلدٍ آخر وذلك مبرهن عليه في كتب الهيئة وهو واقع مشاهد.
(وفي) فتاوى المحقق ابن حجر صرح السبكي والأسنوي بأن المطالع إذا اختلفت فقد يلزم من رؤية الهلال في بلد رؤيته في الآخر من غير عكس إذ الليل يدخل في البلاد الشرقية قبل دخوله في الغربية فيلزم عند اختلافها من رؤيته في الشرقي رؤيته في الغربي من غير عكس وأما عند اتحادها فيلزم من رؤيته في أحدهما رؤيته في الآخر.
ومن ثم أفتى جمع بأنه لو مات أخوان في يوم واحد وقت زواله وأحدهما في المشرق والآخر في المغرب ورث المغربي المشرقي لتقدم موته. وإذا ثبت هذا في الأوقات لزم مثله في الأهلة، وأيضًا فالهلال قد يكون في المشرق قريب الشمس فيستره شعاعها فإذا تأخر غروبها في المغرب بعد عنها فيرى. انتهى.
(لكن) اعترض قوله أن الليل يدخل في البلاد الشرقية قبل دخلوله في البلاد الغربية بأنه ليس على إطلاقه لا من محل القبلية إذا اتحد عرض البلدين جهة وقدرًا أي جهة الجنوب والشمال وقدرًا بأن يكون قدر البعدين عن خط الاستواء سواء. انتهى.(2/697)
تنبيه: قال في شرح المنهاج للرملي وقد نبه التاج التبريزي على أن اختلاف المطالع لا يمكن في أربعة وعشرين فرسخًا وأفتى به الوالد رحمه الله والأوجه أنها تحديدية كما أفتى به أيضا. انتهى.
(قلت) وذكر القهستانى عن الجواهر تحديده بمسيرة شهر فصاعدًا اعتبارًا بقصة سليمان عليه السلام قال فإنه انتقل كل غدو ورواح من إقليم إلى إقليم وبين كل منهما مسيرة شهر. انتهى.
وفي دلالة القصة على ذلك نظرٌ فالأول أولى لأن الظاهر من قوله لا يمكن إلخ أنه قدره بالقواعد الفلكية ولا مانع من اعتبارها هنا كاعتبارها في وقت الصلاة كما سيأتي.
(فتلخص) تحقق اختلاف المطالع وهذا مما لا نزاع فيه وإنما النزاع في أنه هل يعتبر أم لا؟
(قال) الإمام فخر الدين الزيلعي في شرحه على الكنز إذا رأى الهلال أهل بلدة ولم يره أهل بدة أخرى يجب أن يصوموا برؤية أولئك كيفما كان على قوله من قال لا عبرة باختلاف المطالع وعلى قول من اعتبره ينظر أن كان بينهما تفاوت بحيث لا تختلف المطالع يجب وإن كان بحيث يختلف فأكثر المشايخ على أنه لا يعتبر حتى إذا صام أهل بلدة ثلاثين يومًا وأهل بلدة أخرى تسعة وعشرين يومًا يجب عليهم قضاء يوم والأشبه أن يعتبر لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم وانفصال الهلال عن شعاع الشمس في المشرق لا يلزم أن تزول في المغرب وكذا طلوع الفجر وغروب الشمس كلما تحركت درجة فتلك طلوع فجر لقوم وطلوع شمس لآخرين وغروب لبعض ونصف ليل لغيرهم.
وروي أن أبا موسى الضرير الفقيه صاحب المختصر قدم الأسكندرية فسئل عمن صعد على منارة الأسكندرية فيرى الشمس بزمان طويل بعد ما غربت عندهم في البلد أيحل له أن يفطر فقال: لا، ويحل لأهل البلد إذْ كلٌ مخاطب بما عنده.
(والدليل) على اعتبار المطالع ما روي عن كُريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام قال: "قدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل شهر رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيت الهلال؟ فقلت: ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم." رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة. انتهى.
(وما) أختاره من اختلاف المطالع هو المعتمد عند الشافعية على ما صححه الإمام النووي في المنهاج عملًا بالحديث المذكور (قال) الرملي في شرحه عليه: ولا نظر إلى أن اعتبار المطالع يحوج إلى حساب وتحكيم المنجمين مع اعتباره في التوابع والأمور الخاصة. انتهى.
(قلت) على أن عدم اعتباره فيما مر إنما هو لمخالفته نص الحديث المعلق وجوب الصوم والفطر على الرؤية دون الحساب ولا مخالفة هنا فيه لنص بل هو موافق النص المذكور عن ابن عباس وللنص المعلق فيه الوجوب على الرؤية بناءً على اعتبار الوجوب في حق كل قوم برؤيتهم كما في اعتباره في أوقات الصلاة فهذا مؤيد لما اختاره الزيلعي من اعتبار اختلاف المطالع.(2/698)
(لكن) المعتمد الراجح عندنا أنه لا اعتبار به هو ظاهر الرواية وعليه المتون كالكنز وغيره.
(وهو) الصحيح عند الحنابلة كما في الإنصاف. (وكذا) هو مذهب سائر المالكية ففي المختصر وشرحه للشيخ عبد الباقي وعم الخطاب بالصوم سائر البلاد إن نقل ثبوته عن أهل بلد بهما أي بالعدلين والرواية المستفيضة عنهما أي عن الحكم برؤية العدلين أو عن رؤية مستفيضة. انتهى.
(قال) العلامة المحقق الشيخ كمال الدين بن الهمام في فتح القدير وإذا ثبت في مصر لزم سائر الناس فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب في ظاهر المذهب. وقيل يختلف باختلاف المطالع لأن السبب الشهر وانعقاده في حق قوم للرؤية لا يستلزم انعقاده في حق آخرين مع اختلاف المطالع وصار كما لو زالت أو غربت الشمس على قوم دون آخرين وجب على الأولين الظهر والمغرب دون أولئك. ووجه الأول عموم الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا)) معلقًا بمطلق الرؤية في قوله ((لرؤيته)) وبرؤية قوم يصدق اسم الرؤية فيثبت ما تعلق به من عموم الحكم فيعم الوجوب بخلاف الزوال والغروب فإنه لم يثبت تعلق عموم الوجوب بمطلق مسماه في خطاب من الشارع والله تعالى أعلم. انتهى.
(قلت) ولو تعلق عموم الخطاب بمطلق مسمى الأوقات لزم الحرج العظيم بتكررها كل يوم بخلاف الهلال فإنه في السنة مرة (ثم أجاب المحقق ابن الهمام عن الحديث المار بقوله وقد يقال إن الإشارة في قوله هكذا إلى نحو ما جرى بينه وبين رسول أم الفضل وحيث لا دليل فيه لأن مثل ما وقع من كلامه لو وقع لنا لم نحكم به لأنه يشهد على شهادة غيره ولا على حكم الحاكم (فإن) قيل إخباره عن صوم معاوية يتضمنه لأنه الإمام (يجاب) لأنه لم يأت بلفظة الشهادة ولو سلم فهو واحد لا يثبت بشهادته وجوب القضاء على القاضي والله تعالى أعلم والأخذ بظاهر المذهب أحوط. انتهى.(2/699)
(قال) في الفتاوى التتارخانية وعليه فتوى الفقيه أبي الليث وبه كان يفتي الإمام الحلواني وكله يقول لو رآه أهل المغرب يجب الصوم على أهل المشرق. انتهى.
(وفي) الخلاصة وهو ظاهر المذهب وعليه الفتوى (قال) في فتح القدير ثم إنما يلزم متأخري الرؤية إذا ثبت عندهم رؤية أولئك بطريق موجب حتى لو شهد جماعة أن أهل بلد كذا رأوا هلال رمضان قبلكم بيوم فصاموا وهذا اليوم ثلاثون بحسابهم ولم ير هؤلاء الهلال لا يباح فطر غد ولا تترك التراويح هذه الليلة لأن هذه الجماعة لم يشهدوا بالرؤية ولا على شهادة غيرهم وإنما حكوا رؤية غيرهم.
ولو شهدوا أن قاضى بلدة كذا شهد عنده اثنان برؤية الهلال في ليلة كذا وقضى بشهادتهما جاز لهذا القاضى أن يحكم بشهادتهما لأن قضاء القاضي حجة وقد شهدوا به. انتهى.
قلت: لكن قال في الذخيرة البرهانية ما نصه قال شمس الإئمة الحلواني رحمة الله تعالى الصحيح من مذهب أصحابنا رحمهم الله تعالى أن الخبر إذا استفاض وتحقق فيما بين أهل البلدة الأخرى يلزمهم حكم هذه البلدة. انتهى.
ونقل مثله الشيخ حسن الشرنبلالي في حاشية الدرر عن المفتي وعزاه في الدّر المختار إلى المجتبى وغيره مع أن هذه الاستفاضة ليس فيها حكم ولا شهادة لكن لما كانت الاستفاضة بمنزلة الخبر المتواتر وقد ثبت بها أن أهل تلك البلدة صاموا يوم كذا لزم العمل بها لأن المراد بها بلدة فيها حاكم شرعي كما هو العادة في البلاد الإسلامية فلا بد أن يكون صومهم مبنيًا على حكم حاكمهم الشرعي فكانت تلك الاستفاضة بمعنى نقل الحكم المذكور وهي أقوى من الشهادة بأن أهل تلك البلدة رأوا الهلال يوم كذا وصاموا يوم كذا فإنها مجرد شهادة لا تفيد اليقين فلذا لم تقبل إلا إذا شهدت على الحكم أو على شهادة غيرهم لتكون شهادة معتبرة وإلا فهي مجرد إخبار. أما الاستفاضة فإنها تفيد اليقين كما قلنا ولذا قالوا إذا استفاض وتحقق الخ. فلا ينافي ما تقدم عن فتح القدير ولو سلم وجود المنافاة فالعمل على ما صرحوا بتصحيحه والإمام الحلواني من أجل مشايخ المذهب وقد صرح بأنه الصحيح من مذهب أصحابنا. وكتبت فيما علقته على البحر أن المراد بالاستفاضة تواتر الخبر من الواردين من تلك البلدة إلى البلدة الأخرى لا مجرد الاستفاضة لأنها قد تكون مبنية على إخبار رجل واحد فيشيع الخبر عنه ولا شك أن هذا لا يكفي بدليل قولهم إذا استفاض الخبر وتحقق فإن التحقيق لا يكون إلا بما ذكرنا والله تعالى أعلم.(2/700)
وقد تلخص مما حررناه، وتحصل مما قررناه، من المسائل المتفرقة والمجتمعة، في هذه الفصول الأربعة، أن المعول عليه، والواجب الرجوع إليه، في مذاهب الإئمة الأربعة المجتهدين، كما هو المحرر في كتب اتباعهم المعتمدين، أن ثبات هلال رمضان، لا يكون إلا بالرؤية ليلًا أو بإكمال عدة شعبان، وأنه لا تعتبر رؤيته في النهار، حتى ولو قبل الزوال عن المختار، وأنه لا يعتمد على ما يخبر به أهل الميقات والحساب والتنجيم، لمخالفته شريعة نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم، وأنه لا عبرة باختلاف المطالع في الأقطار إلا عند الشافعى ذي العمل الزخار، ما لم يحكم به حاكم يراه، فيلزم الجميع العمل بما أمضاه، كما ذكر ابن حجر وارتضاه، وقال لأنه صار من رمضان عندنا بموجب ذلك الحكم ومقتضاه" (1) .
(د) كلام الباحث السيد يوسف مروّة في كتابه (العلوم الطبيعية في القرآن) :
وجه المؤلف رسالة حول رصد الأهلة إلى كل من أصحاب السماحة: الشيخ حسن خالد مفتى الجمهورية اللبنانية (بيروت) ، والمجتهد السيد موسى الصدر في صور (لبنان) وآية الله السيد محسن الطباطبائى الحكيم المجتهد الأكبر في (النجف الأشرف) والشيخ حسن مأمون شيخ الجامعة الأزهرية في (القاهرة) جاء فيها ما يلى: "والملاحظ يا صاحب السماحة أن المسلمين، وعلى رأسهم رجال الدين في هذا العصر، يقدمون على استخدام جميع وسائل ومخترعات ومكتشفات العلم الحديث بدون أي خشية أو تحفظ من أن هذه الوسائل والمخترعات قد تكون خاطئة في المهام الحياتية التي تستخدم لأجلها، فنحن نستخدم السيارة والهاتف والبرق والمذياع والتلفزيون (2) الخ.. كوسائل صالحة وصادقة في النقل والمواصلات والاتصالات، ونستعمل العدسات المحدبة والمقعرة في توضيح الرؤيا، ولكن ما بال رجال الدين لا يقبلون على استخدام المرقب الفلكى (التلسكوب) في إثبات هلالي رمضان وشوال المباركين؟
__________
(1) رسائل ابن عابدين ج2 ص49-53، رسالة تنبيه الغافل والوسنان إلى إثبات هلال رمضان
(2) أرى أن يعرب هذا الجهاز إلى (الرائى) أو (التلفاز) ، وقد جئت بكلام المؤلف بنصه(2/701)
إن الجمعية اللبنانية للأبحاث العلمية تقترح على دار الإفتاء، في كل بلد إسلامي، شراء تلسكوب فلكي من الحجم المتوسط، حيث ينصب في دار الإفتاء وبواسطته يمكن لسماحتكم ولجميع رجال الدين أن يستخدموه في هذه المناسبات الدينية وسواها، التي يكثر فيها الخلاف بين المسلمين حول إثبات الأهلة، فالبعض يرى الهلال والبعض الآخر لا يراه، وجماعة تفطر وأخرى تبقى صائمة، ولكل جماعة مقاييسها في هذا الموضوع.
فهذا لا يجوز بعد اليوم في ديار المسلمين، ولا ننسى بأن علماء المسلمين هم أول من استخدم المرقب (الاسطرلاب) أيام ازدهار الدول الإسلامية، ولم ير هؤلاء العلماء الأوائل أي ضرر في استخدام وسيلة علمية للرؤيا إذا كانت السماء ملبدة بالغيوم، إذ من المعروف أن شهر الصيام المبارك يصادف أثناء فصل الشتاء في بعض السنوات ولا يمكن للعين المجردة أن ترصد الهلال، فما المانع إذا من استخدام المرقب كوسيلة للرصد والرؤيا؟
إن علم الفلك يؤكد وجود فوارق مختلفة بين بلد وآخر، حسب الموقع الجغرافي لكل بلد بالنسبة لخطوط الطول الجغرافية، وبما أن العالم الإسلامي شاسع واسع يمتد من أندونيسيا شرق جنوب آسيا إلى المغرب شمال غرب إفريقيا أي على 160 خطًا من خطوط الطول الأرضية، إذ أن حدود جزر أندونيسيا هي خط الطول 142 درجة شرقًا وحدود البلاد الإسلامية الإفريقية 18 درجة غربًا لذلك لابد من تقسيم العالم الإسلامي إلى ثلاث مجموعات جغرافية:
الأولى تقع بين خطى الطول 30 درجة شرقًا و20 درجة غربًا وتضم: ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا ومالى والنيجر والتشاد ونيجيريا والكامرون والداهومى وغانا وغينيا وشاطئ العاج والسنغال وليبيريا وسيراليون وجميع البلدان الواقعة بين هذين الخطين.(2/702)
والثانية، تقع بين خطى الطول 30 درجة شرقًا و80 درجة شرقًا وتضم: مصر والسودان والصومال وتنزانيا والسعودية واليمن والأردن ولبنان وسوريا والعراق والكويت وبلدان الخليج وإيران وتركيا وأفغانستان الغربية وقسم من الهند.
والثالثة تقع بين خطى طول 80 درجة شرقًا و14 درجة شرقًا وتضم: باكستان الشرقية وبورما وتايلاند والصين وماليزيا وأندونيسيا.
ولا يمكن حسب مقتضيات علم الفلك والفيزياء الفلكية أن يولد هلال رمضان المبارك أو سواه من الأهلة في جميع هذه البلدان في أن واحد ولذلك فالقاعدة الشرعية يجب أن تكون كما يلى: (إذا ولد الهلال في بلد، لا يعني ذلك بالحتم والضرورة ولادته في جميع البلدان) وليس كما هو متبع اليوم لدى الكثير من رجال الفقه الذين يتمشون على القاعدة القائلة:
(إذا ولد الهلال في بلد فهو مولود في جميع البلدان)
لذلك أقترح على سماحتكم أن تبدأوا أولًا باتباع الطريقة العلمية العملية العقلية وتوحدوا الوسائل في بلدكم ومن ثم تنطلقوا لتنظيم العالم الإسلامي بأسره على نفس الأسس العلمية.
والجمعية اللبنانية للأبحاث العلمية على استعداد لإعطاء دروس نظرية وعملية للسادة رجال الدين في كيفية استخدام المرقب الفلكي وطرق الحساب والمقاييس المتبعة في علم الفلك التجريبي، حسب ما ورد في القرآن الكريم من دعوة للتفكر في أجرام الكون ونجومه وكواكبه.
بكل إخلاص واحترام وتقدير. (1)
يوسف مروّة
مؤسس الجمعية اللبنانية للأبحاث العلمية
__________
(1) ص11 و 12(2/703)
في اختلاف المطالع
جاء في كتاب (الفقه الإسلامي وأدلته) للدكتور وهبة الزحيلي من الفقهاء المعاصرين ما نصه:
"اختلف الفقهاء على رأيين في وجوب الصوم وعدم وجوبه على جميع المسلمين في المشارق والمغارب في وقت واحد، بحسب القول باتفاق مطالع القمر أو اختلاف المطالع ففي رأى الجمهور: يوحّد الصوم بين المسلمين، ولا عبرة باختلاف المطالع، وفي رأي الشافعية يختلف بدء الصوم والعيد بحسب اختلاف مطالع القمر بين مسافات بعيدة، ولا عبرة في الأصح بما قاله بعض الشافعية: من ملاحظة الفرق بين البلد القريب والبعيد بحسب مسافة القصر (89كم) .
هذا مع العلم بأن نفس اختلاف المطالع لا نزاع فيه، فهو أمر واقع بين البلاد البعيدة كاختلاف مطالع الشمس، ولا خلاف في أن للإمام الأمر بالصوم بما ثبت لديه؛ لأن الحاكم يرفع الخلاف وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية جدًا كالأندلس والحجاز وأندونيسيا والمغرب العربي.
وأذكر أولًا عبارات الفقهاء في هذا الموضوع المهم.
قال الحنفية: اختلاف المطالع، ورؤية الهلال نهارًا قبل الزوال وبعده غير معتبر، على ظاهر المذهب، وعليه أكثر المشايخ وعليه الفتوى، فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب، إذا ثبت عندهم رؤية أولئك، بطريق موجب، كأن يتحمل اثنان الشهادة أو يشهدا على حكم القاضي، أو يستفيض الخبر، بخلاف ما إذا أخبر أن أهل بلدة كذا رأوه، لأنه حكاية.(2/704)
وقال المالكية: إذا رئي الهلال، عم الصوم سائر البلاد، قريبًا أو بعيدًا، ولا يراعى في ذلك مسافة قصر، ولا اتفاق المطالع، ولا عدمها، فيجب الصوم على كل منقول إليه، أن نقل ثبوته بشهادة عدلين أو بجماعة مستفيضة، أي منتشرة.
وقال الحنابلة: إذا ثبتت رؤية الهلال بمكان، قريبًا كان أوبعيدًا لزم الناس كلهم الصوم، وحكم من لم يره حكم من رآه.
وأما الشافعية فقالوا: إذا رئي الهلال ببلد لزم حكمه البلد القريب لا البعيد، بحسب اختلاف المطالع في الأصح، واختلاف المطالع لا يكون في أقل من أربعة وعشرين فرسخًا.
وإذا لم نوجب على البلد الآخر وهو البعيد، فسافر إليه من بلد الرؤية من صام به، فالأصح أن يوافقهم وجوبًا في الصوم آخرًا، وإن كان قد أتم ثلاثين، لأنه بالانتقال إلى بلدهم، صار واحدًا منهم، فيلزمه حكمهم، وروى أن ابن عباس أمر كريبا بذلك كما سيأتي.
ومن سافر من البلد الآخر الذى لم ير فيه الهلال إلى بلد الرؤية عيد معهم وجوبًا، لأنه صار واحدًا منهم، سواء أصام ثمانية وعشرين يومًا، أم تسعة وعشرين بأن كان رمضان تامًا عندهم وقضى يومًا أن صام ثمانية وعشرين؛ لأن الشهر لا يكون كذلك.
ومن أصبح معيّدًا، فسارت سفينته أو طائرته إلى بلد بعيدة أهلها صيام، فالأصح أنه يمسك بقية اليوم وجوبًا لأنه صار واحدًا منهم.(2/705)
الأدلة
أدلة الشافعية: استدلوا على اعتبار اختلاف المطالع بالسنة والقياس والمعقول:
1- السنة: استدلوا بحديثين أولهما حديث كريب، وثانيهما حديث ابن عمر:
(أ) حديث كريب: أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام فقال: "فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل علىّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألنى عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيت الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية فقال لكنا رآيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: ألا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ب) حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له)) وهو يدل على أن وجوب الصوم منوط بالرؤية ولكن ليس المراد رؤية كل واحد، بل رؤية البعض.
2- القياس: قاسوا اختلاف مطالع القمر على اختلاف مطالع الشمس المنوط به اختلاف مواقيت الصلاة.
3- المعقول: أناط الشرع إيجاب الصوم بولادة شهر رمضان وبدء الشهر يختلف باختلاف البلاد وتباعدها، مما يقتضي اختلاف حكم بدء الصوم تبعًا لاختلاف البلدان.
أدلة الجمهور: استدلوا بالسنة والقياس:
أما السنة: فهو حديث أبي هريرة وغيره: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) فهو يدل على إيجاب الصوم على كل المسلمين معلق بمطلق الرؤية والمطلق يجرى على إطلاقه، فتكفي رؤية الجماعة أو الفرد المقبول الشهادة.(2/706)
وأما القياس: فإنهم قاسوا البلدان البعيدة على المدن القريبة من بلد الرؤية، إذ لا فرق، والتفرقة تحكم، لا تعتمد على دليل، هذا ... وقد ذكر ابن حجر في الفتح ستة أقوال في الموضوع.
وقال الصنعاني: والقرب لزوم أهل بلد الرؤية وما يتصل بها من الجهات التى على سمتها أي على خط من خطوط الطول: وهى ما بين الشمال إلى الجنوب إذ بذلك تتحد المطالع، وتختلف المطالع بعد التساوي في طول البلدين أو باختلاف درجات خطوط العرض.
وقال الشوكاني: أن الحجة إنما هى في المرفوع من رواية ابن عباس لا في اجتهاده الذى فهم عنه الناس، والمشار إليه بقوله: "هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقوله "فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين" والأمر الوارد في حديث ابن عمر، لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد، أظهر من الاستدلال به على اللزوم، لأنه إذا رآه أهل بلد فقد رآه المسلمين، فيلزم غيرهم ما لزمهم. (1)
__________
(1) الفقه الإسلامى وأدلته ج2 ص605 وما بعدها(2/707)
المبحث الثانى
الموازنة والمقارنة وترجيح بعض الفقهاء المعاصرين
جاء في كلام الدكتور الزحيلي:
" والذى ينبغي اعتماده هو ما ذهب إليه المالكية وجماعة من الزيدية واختاره المهدي منهم، وحكاه القرطبي عن شيوخه: أنه إذا رآه أهل بلد، لزم أهل البلاد كلها.
وهذا الرأي (رأي الجمهور) هو الراجح لدي توحيدًا للعبادة بين المسلمين، ومنعًا من الاختلاف غير المقبول في عصرنا، ولأن إيجاب الصوم معلق بالرؤية، دون تفرقة بين الأقطار. والعلوم الفلكية تؤيد توحيد أول الشهر الشرعي بين الحكومات الإسلامية، لأن أقصى مدة بين مطلع القمر في أقصى بلد إسلامي وبين مطلعه في أقصى بلد إسلامي آخر هي نحو 9 ساعات فتكون بلاد الإسلام كلها مشتركة في أجزاء من الليل تمكنها من الصيام عند ثبوت الرؤية والتبليغ بها برقيًا أو هاتفيًا.
والاحتياط هو الاكتفاء بتوحيد الأعياد في حدود البلاد العربية بدءًا من عمان في الشرق إلى المغرب الأقصى " (1) .
__________
(1) الفقة الإسلامى وأدلته للدكتور وهبة الزحيلى ج2 من ص606-610(2/708)
المبحث الثالث
مشروعية الأخذ بالتوقيت والحساب في إثبات الأهلة وعدمه
كلام العلامة ابن عابدين في حاشية رد المحتار على الدر:
" (ولا عبرة بقول الموقتين) أي في وجوب الصوم على الناس بل في المعراج، لا يعتبر قولهم بالاجماع. ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه. وفي النهر: فلا يلزم بقول الموقتين أنه أي الهلال يكون في السماء ليلة كذا وإن كانوا عدولًا في الصحيح كما في الايضاح وللإمام السبكي الشافعي تأليف مال فيه إلى اعتماد قولهم لأن الحساب قطعي آهـ.
ومثله في شرح الوهبانية: قلت: ما قاله السبكي رده متأخر وأهل مذهبه ومنهم ابن حجر والرملي في شرح المنهاج وفي فتاوى الشهاب الرملي الكبير الشافعي سئل عن قول السبكي: لوشهدت بينة برؤية الهلال ليلة الثلاثين من الشهر وقال الحساب بعدم إمكان الرؤية تلك الليلة عمل بقول أهل الحساب لأن الحساب قطعي والشهادة ظنية.
وأطال في ذلك فهل يعمل بما قاله أم لا؟ وفيما إذا رؤي الهلال نهارًا قبل طلوع الشمس يوم التاسع والعشرين من الشهر وشهدت بينة برؤية هلال رمضان ليلة الثلاثين من شعبان فهل تقبل الشهادة أم لا؟ لأن الهلال إذا كان الشهر كاملًا يغيب ليلتين أو ناقصًا يغيب ليلة أو غاب الهلال الليلة الثالثة قبل دخول وقت العشاء لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى العشاء لسقوط القمر الثالثة هل يعمل بالشهادة أم لا؟ فأجاب بأن المعمول به في المسائل الثلاث ما شهدت به البينة لأن الشهادة نزلها الشارع منزلة اليقين وما قاله السبكي مردود رده عليه جماعة من المتأخرين وليس في العمل بالبينة مخالفة لصلاته صلى الله عليه وسلم ووجه ما قلناه أن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية بقوله ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. الشهرهكذاوهكذا)) . وقال ابن دقيق العيد:
الحساب لا يجوز الاعتماد عليه في الصلاة. انتهى.(2/709)
والاحتمالات التي ذكرها السبكي بقوله ولأن الشاهد قد يشتبه عليه إلخ لا أثر لها شرعًا لإمكان وجودها في غيرها من الشهادات. آهـ.
(قوله وقيل نعم الخ) يوهم أنه قيل بأنه موجب للعمل وليس كذلك بل الخلاف في جواز الاعتماد عليهم وقد حكى في القنية الأقوال الثلاثة أولًا عن القاضي عبد الجبار وصاحب جمع العلوم أنه لا بأس بالاعتماد على قولهم.
ونقل عن ابن مقاتل أنه كان يسألهم ويعتمد على قولهم إذا اتفق عليه جماعة منهم ثم نقل عن شرح السرخسي أنه بعيد.
وعن شمس الإئمة الحلواني أن الشرط في وجوب الصوم والإفطار الرؤية ولا يؤخذ فيه بقولهم.
ثم نقل عن مجد الإئمة الترجماني أنه اتفق أصحاب أبي حنيفة إلا النادر والشافعي أنه لا اعتماد على قولهم" (1) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار للعلامة ابن عابدين ج2 ص93(2/710)
في بيان حكم قول علماء النجوم والحساب
وجاء في كلام ابن عابدين في مجموع رسائله ما نصه:
" فنقول: قد صرح علماؤنا وغيرهم بوجوب التماس الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فإن رأوه صاموا وإلا أكملوا العدة فاعتبروا الرؤية أو إكمال العدة اتباعًا للأحاديث الآمرة بذلك دون الحساب والتنجيم.
وقد اتفقت عبارات المتون وغيرها من كتب علمائنا الحنفية على قولهم يثبت رمضان برؤية هلاله وبعد شعبان ثلاثين.
ومن المعلوم أن مفاهيم الكتب معتبرة فيفهم منها أنه لا يثبت بغير هذين ولهذا بعد ما عبر في الكنز بما مر قال صاحب النهر في شرحه ما نصه:
وحاصل كلامه أي كلام الكنز أن صوم رمضان لا يلزم إلا بأحد هذين فلا يلزم بقول الموقتين أنه يكون في السماء ليلة كذا وإن كانوا عدولًا في الصحيح كما في الإيضاح قال مجد الإئمة وعليه اتفق أصحاب أبي حنيفة إلا النادر والشافعي. وفسر في شرح المنظومة الموقت بالمنجم وهو من يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني والحاسب وهو من يعتمد منازل القمر وتقدير سيره في معنى النجم هنا.(2/711)
وللإمام السبكى الشافعى تأليف مال فيه إلى اعتماد قولهم لأن الحساب قطعي.
انتهى كلام النهر.
وسيذكر أن المتأخرين من الشافعية ردوا كلام السبكي.
وفي الأشباه والنظائر قال بعض أصحابنا: لا بأس بالاعتماد على قول المنجمين.
وعن محمد بن مقاتل أنه كان يسألهم ويعتمد قولهم بعد أن يتفق على ذلك جماعة منهم ورده الإمام السرخسي بالحديث ((من أتى كاهنًا أو منجمًا فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) . انتهى
قال العلامة نوح في حاشية الدرر والغرر والحديث أخرجه أصحاب السنن والحاكم وصححه بلفظ ((من أتى كاهنًا أو منجمًا فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد)) وأخرجه أبو ليلى بسند جيد ((من أتى عرافًا أو ساحرًا أو كاهنًا)) . والكاهن من يخبر بالشئ قبل وقوعه كما في الجامع وفي المحكم هو القاضي بالغيب. وفي مختصر النهاية للسيوطي هو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في المستقبل ويدعي معرفة الأسرار.
وفي القاموس العرّاف كشدّاد الكاهن. وقال الخطابي هو الذي يتعاطى مكان المسروق والضالة ونحوهما. وفي المغرب هو المنجم. انتهى.
والمنجم هو الذي يخبر عن المستقبل بطلوع النجم وغروبه. وفي شرح العقائد النسفية إذا ادعى العلم بالحوادث الآتية فهو مثل الكاهن انتهى ما ذكره العلامة نوح وقد أطال في ذلك إطالة حسنة.(2/712)
لكن اعترض بعض محشى الأشباه الاستدلال هنا بالحديث المذكور بأنه لا يبعد أن يقال أن المراد منه النهى عن تصديق الكاهن ونحوه فيما يخبر به عن الحوادث والكوائن التى زعموا أن الاجتماعات والاتصالات العلوية تدل عليها وهو المسمى علم الأحكام وحكمها لا يصح وإن ادعوا الجزم بها كفروا أما مجرد الحساب مثل ظهور الهلال في اليوم الفلاني ووقوع الخسف في ليلة كذا فلا تدخل في النهي بدليل أنه يجوز أن يتعلم به ما يعلم مواقيت الصلاة والقبلة. انتهى.
فالأولي الاستدلال بالأحاديث الدالة على اعتبار الرؤية لا العلم فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) وقال ((فإن غم عليكم فاكملوا العدة)) ولم يقل فأسألوا أهل الحساب بل قال ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) (وما ذكره) محشي الأشباه قد رايت نحوه منقولًا في أواخر فتاوى الكازروني قال: وفي الجامع الكبير في معالم التفسير في قوله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} قال الفقيه رضي الله عنه أن ما يخبر به المنجم لا يكون غيبًا فلا يناقض قوله تعالى {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وهو على وجهين أن كان المنجم يقول أن هذه الكوائن مخلوقات الله مسخرات بأمره وهي دليل على بعض الأشياء فإنه لا يكون كفرًا وإن جعلها مختارات فاعلات بنفسها لا يكون غيبًا لأن ما يعرف بالحساب لا يكون غيبًا كما أن صبرة من المكيلات أو الموزونات أو المعدودات لو عرف مقدارها بالكيل والوزن والعدد لم يكن ذلك علمًا بالغيب. فكذلك ما يعرف بالرمل ولأنه قول بالظن وغالب الظن ليس علمًا بالغيب لأن المحققين من المنجمين مجمعون على أنه علم بغلبة الظن لأن هذه الأجرام العلوية يحتاج الحاسب إلى مساحتها ومعرفة سيرها ومطرح شعاعها وإنما يعرف ذلك بطريق التقريب لا على الحقيقة فمنهم مخطئ ومصيب.
وأما الحديث فإن ثبت فهو محمول على كهّان العرب والعرافين فإنهم كانوا مشركين يزعمون أن التأثير للفلك الأعظم وأنه الفاعل نفسه ومن قال مثل قولهم وصدقهم فيه فهو كافر وأما إذا صدق بالحساب والكواكب مع اعتقاده بأنها أمارات وأسباب فلا. هذا هو أصل المذهب فاحفظه. انتهى ملخصًا.
(رجعنا) إلى أصل المسألة فنقول الحاصل أن للمتأخرين ثلاثة أقوال نقلها الإمام الزاهدي في القنية (الأولى ما قاله القاضي عبد الجبار وصاحب جمع العلوم أنه لا بأس بالاعتماد على قول المنجمين (الثاني) ما نقله عن ابن مقاتل أنه كان يسألهم ويعتمد على قولهم إذا اتفق عليه جماعة منهم (الثالث) ما نقله عن شرح الإمام السرخسي أن الرجوع إلى قولهم عند الاشتباه بعيد لحديث ((من أتى كاهنًا)) ثم نقل أيضا عن شمس الإئمة الحلواني أن الشرط عندنا في وجوب الصوم والإفطار رؤية الهلال ولا يؤخذ فيه بقول المنجمين. ثم نقل عن مجد الإئمة الترجماني أنه اتفق أصحاب أبي حنيفة إلا النادر والشافعي أن لا اعتماد على قول المنجمين في هذا.انتهى.(2/713)
(وقد) ذكر الأقوال الثلاثة ابن وهبان في منظومته جازمًا بالراجح منها قال (وقول أولي التوقيت ليس بموجب. وقيل نعم والبعض أن كان يكثر) . (وفي) الدر المختار ولا عبرة بقول الموقتين ولو عدولًا على المذهب انتهى. (وفي) البحر في غاية البيان من قال يرجع فيه إلى قولهم فقد خالف الشرع انتهى. (وفي) معراج الدراية ولا يعتبر قول المنجمين بالإجماع ومن رجع إلى قولهم فقدخالف الشرع وما حكي عن أنهم قالوا يجوز أن يجتهد في ذلك ويعمل بقول المنجمين غير صحيح لحديث ((من أتى كاهنًا)) والمروي عنه صلى الله عليه وسلم ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) أي بإكمال العدة كما جاء في الحديث كذا في المبسوط. ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه وللشافعي رحمه الله وجهان انتهى (وقد) نقل في التتارخانية ما مر من الأقوال. ثم نقل عن تهذيب الشافعية أنه لا يجوز تقليد المنجم في حسابه لا في الصوم ولا في الإفطار وأن في جواز العمل بحساب نفسه وجهين. ومقتضى سكوته عليه أنه ارتضاه ولا مانع من جواز عمله به لنفسه إذا جزم به لما صرحوا به من جواز التسحر والإفطار بالتحري في ظاهر الرواية. وكذا لو أخبره عدل أن الشمس غربت ومال قلبه إلى صدقه له أن يعتمد على قوله ويفطر في ظاهر الرواية كما في التتارخانية أيضًا. وكذا الأسير في دار الحرب يتحرى في دخول الشهر ويصوم وعليه فيمكن التوفيق بين الأقوال الماضية بحمل القول بالعمل به على الجواز لنفسه أو لمن صدقه والقول بعدمه على الوجوب فلا يلزم الأخذ بقوله ولا يثبت به الهلال اتفاقًا. هذا ما ظهر لي والله تعالى أعلم.(2/714)
(وأما عند المالكية) ففي مختصر الشيخ خليل أنه لا يثبت بقول المنجم قال شارحه الشيخ عبد الباقي لا في حق نفسه ولا في حق غيره ولو كأهله ومن الاعتناء لهم بأمره والمنجم الحاسب الذ لا يحسب قوس الهلال ونوره وفي كلام أنه الذي يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلانى والحاسب هو الذى يحسب سير الشمس والقمر. وعلى كل لا يصوم أحد بقوله ولا يعتمد هو نفسه على ذلك وحرم تصديق منجم ويقتل أن اعتقد تأثير النجوم وأنها الفاعلة. انتهى
(وأما الشافعية) ففي الأنوار (للاردبيلي) ولا يجب معرفة منازل القمر لا على العارف بها ولا غيره. انتهى.
(وفي ينابيع الأحكام ولا عبرة بقول المنجم مطلقًا فلا يصوم وإن علم بالحساب أنه أهل على الأظهر إذْ تحكيمه قبيح شرعًا.) انتهى.
وفي شرح المنهاج لابن حجر: لا قول منجم أولا يجب الصوم بقول المنجم وهو من يعتمد النجم وحاسب وهو من يعتمد منازل القمر وتقدير سيره ولا يجوز لأحد تقليدهما. نعم لهما العمل لعلمهما ولكن لا يجزيهما عن رمضان كما صححه في المجموع وإن أطال جمع في رده. انتهى.
(وفي) شرحه للرملي: وفهم من كلامه أي كلام المنهاج عدم وجوبه بقبول المنجم بل لا يجوز. نعم له أن يعمل بحسابه ويجزيه عن فرضه على المعتمد وإن وقع في المجموع عدم إجزائه عنه وقياس قولهم أن الظن يوجب العمل أن يجب عليه الصوم وعلى من أخبره وغلب على ظنه صدقه والحاسب في معنى المنجم الذي يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلانى. انتهى ملخصًا.
وفي حاشية الشبراملسي على الرملي عند قوله نعم له أن يعمل بحسابه به قال ابن قاسم على ابن حجر (سئل) الشهاب الرملي عن المرجح من جواز عمل الحاسب بحسابه في الصوم هل محله إذا قطع بوجوده ورؤيته أم بوجوده وإن لم تجز رؤيته فإن أئمتهم قد ذكروا للهلال ثلاث حالات: حالة يقطع فيها بوجوده وامتناع رؤيته. وحالة يقطع فيها بوجوده ورؤيته. وحالة يقطع فيها بوجوده ويجوزون رؤيته (فأجاب) بأن عمل الحاسب شمل للمسائل الثلاث. انتهى.(2/715)
(وفي) شرح الرملي أيضا وشمل كلام المعد ثبوته "1- بالشهادة ما لو دل الحساب على عدم إمكان الرؤية وانضم إلى ذلك أن القمر غاب ليلة الثالث على مقتضى تلك الرؤية قبل دخول وقت العشاء لأن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية وهو كذلك كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى خلافًا للسبكى ومن سبقه. انتهى.
(قلت) وعبارة والده في فتاواه (سئل) عن قول السبكى لو شهدت بينة برؤية الهلال ليلة الثلاثين من الشهر وقال الحساب بعدم إمكان الرؤية تلك الليلة عمل بقول الحساب لأن الحساب قطعي والشهادة ظنية وأطال الكلام في ذلك فهل يعمل بما قاله أم لا؟ وفيما إذا رؤي الهلال نهارًا قبل طلوع الشمس يوم التاسع والعشرين من الشهر وشهدت بينة برؤية هلال رمضان ليلة الثلاثين من شعبأن هل تقبل الشهادة أم لا لأن الهلال إذا كان الشهر كاملًا يغيب ليلتين أو ناقصا يغيب ليلة. أو غاب الهلال الليلة الثالثة قبل دخول وقت العشاء لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء لسقوط القمر الثالثة هل يعمل بالشهادة أم لا؟ (فأجاب) بأن المعمول به في المسائل الثلاثة ما شهدت به البينة لأن الشهادة نزلها الشارع منزلة اليقين.
وما قاله السبكى مردود رده عليه جماعة من المتأخرين وليس في العمل بالبينة مخالفة لصلاته صلى الله عليه وسلم.(2/716)
ووجه ما قلنا، أن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية بقوله ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا)) وقال ابن دقيق العيد الحساب لا يجوز اعتماد عليه في الصيام. انتهى.
والاحتمالات التي ذكرها السبكي بقوله ولأن الشاهد قد يشتبه عليه إلخ لا أثر لها شرعًا لإمكان وجودها في غيرها من الشهادات انتهى كلام الرملي الكبير.
(وفصل) المحقق ابن حجر بأن الذى يتجه فيما لو دل الحساب على كذب الشاهد بالرؤية أن الحساب أن اتفق أهله على أن مقدماته قطعية وكان المخبرون منهم بذلك عدد التواتر ردت الشهادة وإلا فلا.
وقال: وهذا أولى من إطلاق السبكي إلغاء الشهادة المذكورة وإطلاق غيره قبولها. انتهى ملخصًا.
(لكن) اعترضه محشية العلامة ابن القاسم بأنه إخبار عدد التواتر إنما يفيد القطع إذا كان الإخبار عن محسوس فيتوقف على حسية تلك المقدمات والكلام فيه. انتهى. يعني أن كون تلك المقدمات حسية غير مسلم بل هى عقلية أي غير مدركة بإحدى الحواس والعقلى لا يثبت بالتواتر لأنه مما يخطئ فيه الجمع الكثير كخطأ الفلاسفة في قِدم العالم وإلا لزم ثبوت قدمه لاتفاق معظمهم عليه وإن كانوا كفارًا إذ ليس من شرط التواتر إسلام المخبرين كما في شرح التحرير لابن أمير حاج. والله تعالى أعلم.
(وأما عند الحنابلة) ففي الغاية وشرحها من باب صلاة الكسوف: ولا عبرة بقول المنجمين في كسوف ولا غيره مما يخبرون به ولا يجوز عمل به لأنه من الرجم بالغيب فلا يجوز تصديقهم في شئ من المغيبات. انتهى
(فحيث) علم أنه لا اعتماد على ما يقوله علماء النجوم والحساب في إثبات الشهر لعدم اعتباره في الشرع المعلق فيه وجوب الصوم أو الفطر على الرؤية لا على القواعد الفلكية ظهر وتبين خطأ من عارض رؤية الشهر في عامنا هذا الثابتة بالبينة التي اعتبرها الشارع صلى الله عليه وسلم وبنى الأحكام عليها بمجرد الإخبار عن جماعة أنهم رأوا الهلال نهارًا واعتمد على ذلك حتى صام يوم عيده بلا مسوغ شرعى بل بمحض الاحتمال العقلي المخالف لنصوص الشرع التي اعتبرها الإئمة المجتهدون وأتباعهم المعتمدون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" (1) .
__________
(1) رسائل ابن عابدين ج2 ص244-249. رسالة تنبيه الغافل والوسنان في أحكام هلال رمضان.(2/717)
الفصل الثاني
ما ذهب إليه المؤلف بدليله:
1- ما ذهب إليه المؤلف في المطالع
2- وما ذهب إليه في مسألة الحساب
المبحث الأول
ما ذهب إليه المؤلف في المطالع
بعد هذه الجولة في رياض الفقه وحدائقه الغناء، والاطلاع على ما كتب الفقهاء المسلمون في هذه القضية أقول - وبالله التوفيق -: " الذي ثبت لدى علماء الطبيعة اليوم في هذا القرن - القرن العشرين الميلادي، الخامس عشر الهجري - وإني أكتب في يوم الأحد الواقع في 1 المحرم سنة 1406 هـ - الموافق (15 أيلول 1985 م) الذي ثبت بعد اكتشاف مجاهيل الأرض وقاراتها، لا سيما أمريكا، منذ قرابة أربعمائة سنة ونيف أن كلا من القولين (القول باتحاد المطلع لدى أهل المشرق والمغرب، والقول باختلاف المطالع بين كل بلد وبلد ومصر ومصر) كليهما مجانف عن الصحة، بعيد عن الحقيقة العلمية.
ذلك؛ لأن الأرض كما ثبت أهليليجية التكوين (بيضوية) (1) ولها وجهان؛ وجه منير باتجاه الشمس، ووجه معتم باتجاه العكس. فساعة يكون النهار في أوله في الوجه المنير يكون الليل في أوله في الوجه المعتم، ومن هنا يختلف توقيت الزمان، وتوقيت الساعات وما إلى ذلك ...
فتأسيسا على ذلك لا بد من معيار علمي مجرد، نمسك به في حل هذه المشكلة، ألا وهو خطوط الطول.
فلنقسم الأرض حسب هذا المعيار (خطوط الطول) إلى ثلاثة أقطار كبرى رئيسية، والفواصل بينها طبيعية كالبحار:
1- القارة الأمريكية كلها قطر، بما فيها الولايات المتحدة، وكندا والبرازيل وأمريكا الجنوبية والجزر التابعة لها إلى قناة بنما.
2- من المغرب الأقصى وما يسامته شمالا من بريطانيا وفرنسا وإسبانيا إلى الخليج العربي شرقا وما يسامته شمالا من العراق وتركيا وجبال الأورال. كل ذلك قطر وفيما بين ذلك مثل الجزيرة العربية وبلاد الشام وتركيا وأروبا الشرقية والغربية والمغرب الأوسط والأدنى ومصر والسودان والحبشة وما إلى ذلك.
3- ومن شرق الخليج العربي إلى اليابان قطر، بما فيه من إيران وبلاد الهند والباكستان والأفغان والجمهوريات السوفياتية الإسلامية وبلاد الصين وبلاد اليابان (جزر اليابان) .
فكل قطر من هذه الأقطار الثلاثة وحدة مكانية مستقلة عما عداه من القطرين الآخرين، إذا رؤي الهلال فيه لا يلزم القطر الثاني والثالث، بل يلزم ذلك القطر بكل ما فيه من أمصار ودول وبلاد. والله أعلم.
__________
(1) قال تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أي: جعلها كالدحية، وهي البيضة، فيظهر أن هذه النظرية الإهليليجية ثبتت بالقرآن الكريم منذ نزوله، وهو من دلائل الإعجاز، والدحية لغة: هي البيضة، ولا يزال بعض أهل المغرب الأدنى إلى يومنا هذا مثل ليبيا يقولون عن البيضة: دحية. وانظر تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي الجزء الأخير منه في تفسير هذه الآية(2/718)
المبحث الثاني
خلاصة ما ذهب إليه المؤلف في شأن الحساب لإثبات الأهلة
ذهب الفقهاء الأقدمون - رضي الله عنهم - والمعاصرون - وفقنا الله وإياهم في هذه المسألة - إلى مذهبين: مذهب أخذ بالحساب مطلقا، ومذهب رفض الأخذ بالحساب مطلقا في شأن إثبات الأهلة.
والذي أراه أن كلا من هذين المذهبين - مع توقيري وتقديري لأصحابهما - إفراط وتفريط، والصواب هو الوسط بين هذا وذاك، لكن لا ضير على من اجتهد فلم يحالفه الصواب فأخطأ فله أجر واحد، وأسأله تعالى أن أكون من أصحاب الأجرين.
الصواب الذي يبدو لي، وهو ما ينبغي أن يصار إليه هو: أن الأصل في إثبات الأهلة الرؤية البصرية أو التلسكوبية من على ظهر الأرض لا في السماء ولا على شاهق جبل، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) .
فإذا حصل المقصود بهذا الأصل فيها ونعمت كأن جزمنا بالرؤية لوقوعها بأحد الأمرين المذكورين؛ العين المجردة والتلسكوب من على ظهر الأرض وسهلها، وكانت السماء مصحية.
وإذا كانت السماء مصحية ولم ير الهلال في القطر كله كما قدمت في مبحث المطالع، لم نعمد إلى الحساب لوضوح الأمر ولا نقلد قطرا مجاورا كما مر.
وأما إذا كانت السماء غير مصحية واحتمل الأمران ولادة الهلال وعدمها ولم تحدث رؤية معتبرة، فعندها نستطيع الأخذ بقول الفلكيين وأصحاب الأرصاد الجوية ذوي الحسابات الدقيقة لأنهم على علم شبه قطعي بذلك وغلطهم نادر، والعلم يتفق مع الدين ولا يتنافى معه بحال لا سيما إذا كان الشهر الذي انمحق هلاله تسعا وعشرين، واحتمل أن يكون ما بعده الثلاثين أو الواحد من الشهر الجديد.
أي مزيد الانمحاق أو الولادة الجديدة، وأعتقد أن هذا الأخذ بقول أهل الأرصاد الجوية وأصحاب الفلك في هذه المسألة رؤية قلبية تدخل تحت الرؤية الشرعية، لأن الرؤية القلبية مجاز لا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة كما قرر الأصوليون (1) ، ونحن لا نصير إلى هذه الرؤية القلبية إلا عند تعذر الرؤية البصرية واحتمال الولادة وعدمها شرعا، والله تعالى أعلم.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات..
__________
(1) انظر الوجيز في أصول استنباط الأحكام في الشريعة الإسلامية للمؤلف ج 1 ص 85 وما بعدها(2/719)
خاتمة الرسالة
في هذه الرسالة يرى القارئ المنصف أن كل ما قيل في هاتين القضيتين: (المطالع والحساب) في إثبات الأهلة والشهور القمرية قديما وحديثا لم يوفق كله للصواب، فكان فيه ما يؤخذ وما يترك، وكان بمثابة دراسة نقلت للقارئ الكريم خلاصتها.
واستطعت بتوفيق الله تعالى أن أتحاشى الإفراط والتفريط وهو ما وقع فيه أكثر الفقهاء القدامى والباحثين المعاصرين في هاتين القضيتين المهمتين وأن أستخلص من ذلك كله عسلا لذة للشاربين.
وأرى أن يكون بحثي هذا مفتاحا للدراسات المستقبلية إن شاء الله تعالى في مجمعنا الفقهي العظيم وفي غيره فمن تلاقح الأفكار تتولد الحقيقة العلمية.
وإني إذ أتقدم ببحثي هذا بكل اعتزاز إلى مجمع الفقه الإسلامي العتيد ذي الصفة الرسمية العالمية (التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي) بجدة، لأبادر فأشكر للسادة القائمين عليه برئاسته الرشيدة وأمانته المخلصة ما هم أهل له، كفاء ما يقومون به هم وإخوانهم من خدمة للفقه الإسلامي العظيم أسأل الله تعالى أن يكافأهم عليها.
وما أحسن ما قال الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي رضي الله عنه: "علمنا هذا رأي وهو أحسن ماقدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه كان أحق".
والحمد لله أولا وآخراً..
مسرد
أبرز المصادر والمراجع
1- تفسير أحكام القرآن الإمام القرطبي ط دار الكتب المصرية
2- أحكام القرآن الإمام الجصاص الرازي الحنفي ط القاهرة 3 مجلدات
3- مدارك التنزيل ومحاسن التأويل الإمام النسفي (حافظ الدين أبو البركات)
4- تفسير آيات الأحكام الشيخ محمد علي السايس
5- مفاتيح الغيب الإمام الفخر الرازي
6- شرح صحيح البخاري الإمام العيني ط القاهرة
7- حاشية رد المحتار على الدر في فقه الحنفية العلامة ابن عابدين (محمد أمين) ط أميرية بولاق سنة 1272مع فهرس الخضر وموسوعة الكويت
8- مجموع رسائل ابن عابدين / جزءان العلامة ابن عابدين (محمد أمين) ط محمد هاشم الكتبي / استانبول در سعادت سنة 1329
9- رسالة (إرشاد الملة إلى إثبات الأهلة) العلامة محمد بخيت المطيعي مفتي الديارالمصرية
(من مجموع رسائل) مط كردستان بمصر 1329
10- العلم المنشور في إثبات الشهور العلامة تقي الدين علي بن عبد الكافي
(من مجموع رسائل) السبكي مع تعليقات للشيخ محمد جمال الدين القاسمي مط كردستان بمصر سنة 1329
11- العلوم الطبيعية في القرآن الأستاذ يوسف مروة / منشورات مروة العلمية
12- الفقه الإسلامي وأدلته الدكتور وهبه الزحيلي / دار الفكر بدمشق
13- الوجيز في أصول استنباط الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
الأحكام في الشريعة الإسلامية
14- ابن عابدين وأثره في الفقه الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
(دراسة مقارنة) (رسالة دكتوراه)
15- مقال تفسير قوله تعالى: {ويسألونك عن الأهلة} في مجلة (نهج الإسلام)
الزاهرة بدمشق(2/720)
بدايات الشهور العربية الإسلامية
لفضيلة الشيخ هارون خليف جيلي
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعملوا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق، يفصل الآيات لقوم يعلمون. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
فإن دراسة بدايات الشهور العربية - أي القمرية الإسلامية - دراسة فقهية ليست بالعمل الهين، بل البحث فيها وفيما تثبت به وكيف يمكن توحيدها بداية ونهاية أمر يحتاج إلى عالم متخصص في علمي الأصول: أصول الفقه والحديث، وعلمي الهيئة والميقات، متوفرة لديه أمهات الكتب: الحديث والفقه من جميع المذاهب، فأنى لي هذا، وأنا لست من ذلك في شيء يذكر.
ولكني لما رأيت هذا الموضوع - موضوع " توحيد بداية الشهور العربية " أول موضوع مدرج في جدول مواضيع الفقه المطلوبة بحثا ودراستها في هذا العام - كما اقترحته شعبة التخطيط، أعجبني ذلك العنوان الفريد، وجذبني إلى النظر والبحث من مظانه سيمة التفرق والانقسام بين الأمة المسلمة في شتى الميادين، وحتى في مواسم الأعياد ومواقيت العبادة وحثني إلى انتقائه الحب فيما يقرب ويوحد مواقيت مشاعر الموحدين، فاخترت هذا الموضوع للبحث والكتابة، قدر ما سنحت لي الفرصة ووسعت هذه العجالة، وسميتها (توحيد بدايات الشهور الإسلامية) .
وأجتهد قدر وسعي أن تكون رسالة وجيزة ليس فيها إلا آيات القرآن الكريم، وأحاول أن ألا أذكر فيها من الآيات والأحاديث والآثار والأقوال إلا ما له علاقة متينة بموضوع الرسالة، وأن لا أشرح كلمات ما سأكتبه من آية وحديث إلا ما يتصل به غرض من أغراض الرسالة أو خفي معناه، لضيق الوقت.
وسأقسم كلامي عن هذه الرسالة إلى:
1- الشهور العربية جاهلية وإسلاما
2- الأمور المرتبطة بالأشهر القمرية
3- أدلة بداياتها وأقوال الفقهاء فيها
4- حكم اختلاف المطالع وأقوال الفقهاء
5- خاتمة في خلاصة.
هذا وأسأل الله الكريم أن يوفقني فيما أكتب إلى ما فيه الحق والخير والسداد، إنه ولي التوفيق(2/721)
(1) الشهور العربية جاهلية وإسلاما:
تمهيد:
إن الإنسان فكر قديما في تقسيم السنة إلى فصول طبيعية.. وسلكوا في تحديد تلك إلى طريقين: استخدام مراحل الشمس، واستخدام منازل القمر
من هؤلاء المفكرين الأمم البائدة التي عاشت في الشرق الأوسط، كالمصريين القدماء والبابليين والسومريين..
فقد استخدم المصريون تقويما شمسيا ابتدعوه سنة (4236) قبل الميلاد اعتبروا السنة في تقويمهم هذا (365) يوما، وقسموها إلى (12) شهرا، طول كل شهر (30) يوما وأضافوا إليها (5) خمسة أيام آخر كل سنة، استحدث السومريون تقويما قمريا، استحدثوه منذ سنة (3500) قيل الميلاد، جعلوا أيام السنة (354) يوما.
واستحدث العرب الجاهليون شهورا قمرية سموها بأسماء لا وجود لها في نظر الشريعة، مثل الأسماء التالية:
" المؤتمر - ناحر - خوان - بصان - ختم - زياد - الأصم - عادل - ناتق - وعل - هواغ - برك".
ثم أحدثوا شهورا أخرى - شمسية - برجية - سموها كالآتي:
" ربعي - دفئى - ناتق - ناحر- آحر - بخباخ - حرقى - وسمى - برك - شيبان - ملعان - رنة "
وهذه الشهور البرجية والتي قبلها شهور عربية قلما تسمعها الآن؛ لأنها شهور جاهلية قديمة، لم يأتها الإسلام وهي حية فلا يتعلق بها شيء من العمل الإسلامي.
أما الشهور العربية الإسلامية التي يذكرها الله تعالى في كتابه وربط بها كثيرا من أعمال الإسلام، هي التي استخدم بها عرب الجزيرة في الجاهلية الأولى وهم سموها بأسمائها المعرفة لدى جميع المسلمين، وهي الشهور العربية الإسلامية القمرية الاثنا عشر، التي ذكرها الله بقوله الحكيم: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} صدق الله العظيم.(2/722)
هذه الأشهر قد سمتها العرب بأسمائها الحالية بمناسبات كانت وقت التسمية، وبعض المناسبات منها باقية كما في الآية وهي - أي أسماء الشهور العربية القمرية الاثنا عشر المذكورة في الآية السابقة هذه:
1 " محرم ": سمي بذلك الاسم؛ لأنه من الأشهر الحرم.
2 " صفر ": سمي به لأن ديار العرب كانت تخلو من أهلها وقت التسمية، بعد خروجهم إلى الحرب بعد المحرم.
3- 4 " ربيع الأول " و " ربيع الثاني" سميا به لأنهما وقعا في الربيع وقت التسمية.
5-6 " جمادى الأولى" و" جمادى الآخرة " سميا به لوقوعهما وقت التسمية حين يجمد الماء.
7 " رجب " سمي به لأنهم كانوا يعظمونه بترك القتال فيه.
8 " شعبان " سمي به تشعب القبائل فيه للغارات بعد قعودهم عنها في رجب.
9 " رمضان " من الرمضاء سمي به لأن التسمية وقعت عند اشتداد الحر.
10 " شوال " سمي به لأن الإبل كانت ترفع فيه أذنابها وقت التسمية طلبا للقاح.
11 " ذو القعدة " سموه بهذا الاسم لقعودهم فيه عن القتال.
12 " ذو الحجة " سمي به لأنهم كانوا يقيمون فيه الحج.
وإن هذه الأشهر الاثني عشر تستغرق من الزمن حوالي: (354) يوما، أو (355) يوما؛ لأن الشهر قد يكون (30) يوما، وقد يكون (29) يوما، وقد قيل أن طول الشهر القمري بالدقة يستغرق (29) يوما و (12) ساعة، و (44) دقيقة، و (3) ثوان، والله أعلم.(2/723)
وهو ما كتبه الدكتور إحسان هندي في مجلة الفيصل، عدد (44) صفر (1401هـ) : " أن تلك الشهور الاثني عشر هي التي خلدها الله في كتابه في الآية السابقة، فأصبحت إسلامية بأوصافها التي سميت".
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أسماء الأشهر الحرم التي أجملتها الآية الكريمة، فعن أبي بكرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب في حجته فقال: ((ألا أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذوالحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)) . رواه أحمد، وأخرجه البخاري في التفسير.
فحقا إنها هي الشهور الإسلامية القمرية، وهي التي يدور عليها فلك الأحكام الشرعية، وقد حفظها الله تعالى في كتابه المكنون في اللوح المحفوظ، فلا تقديم ولا تأخير، ولا زيادة ولا نقص.
وإن بداية الشهر ونهايته يكونان بتقدير من الله الذي جعل الشمس ضياء، والقمر نورا، وقدره منازل - أنزل القمر منازل متعددة، ولله الحكمة البالغة في خلقه، جعل القمر متنقلا طول الشهر من منزل لآخر، ليعلمنا عدد شهور السنة وأيامها، وما خلق الله ذلك القمر المنير المتنقل في منازله إلا بالحق، ولكن لا يفهم تلك الحقيقة إلا العالمون.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} صدق الله العظيم.
الله خلق الشمس وجعلها ضياء وهاجا لترسل أشعتها إلى الكون الفسيح فتبدد الجليد والثلوج وخلق القمر وجعله نورا يهتدى به في ظلمات البر والبحر، وقدر له منازل ينزل كل يوم منها منزلا، فيتغير نوره حيث يبدو أول الشهر ضئيلا ثم يكبر شيئا فشيئا حتى يصير بدرا منيرا ثم ينقبض رويدا رويدا إلى أن يعود إلى ما كان عليه فيصبح كعرجون النحل معوجا ضعيفا، فسبحان من خلق ذلك وقدره تقديرا، وقال: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} صدق الله العظيم.
هذه وقد قدر الله ذلك وأتقنه ليعلمنا كيف نحسب الزمن، فنؤدي كل وقت ما أناط من عمل.(2/724)
2- الأعمال المرتبطة بالأشهر القمرية:
قد علمنا فيما سبق أن الشهور القمرية هي التي تدور عليها أحكام الشريعة الإسلامية الزمنية، لا الشمسية؛ وذلك لظهور علامتها، وسهولة معرفتها لجميع الطبقات؛ من بدوي ومدني.
ولفظ الشهر والسنة إذا إطق في عرف الشريعة الإسلامية فإنه يقع على القمرية، فالتأجيل في الشهور والسنين هلالية عند الإطلاق؛ لذا ربط الله بها أعمالا كثيرة، كحرمة القتال في الأشهر الحرم، قال تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}
ومنها: كفارة الظهار، إذا كانت صوما، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}
ومنها: عدة الوفاة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}
ومنها: عدة الآئسة المطلقة، قال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}
ومنها: أداء الحج، فإنه لا يصح إلا في أشهر ثلاثة قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}
وهي: شوال، ذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة فالجمع للتغليب، وقد بينته السنة النبوية الشريفة.
ومنها: الصيام المفروض علينا في رمضان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} إلى آخر الآيات ... وغير ذلك من الأعمال المرتبطة بالشهور أو بالسنين، كالأجل للديون، وغيرها من المعاملات.
فكل هذه الأعمال وغيرها من الأعمال المربوطة بالشهور والسنين تحتاج إلى ظروفها الخاصة وتعداد أشهرها القمرية. وقد قيل: " أن حول الزكاة الحولية من هذه الأعمال التي تتعلق بالسنة القمرية فلو عاش غني مسلم في غناه (33) عاما شمسيا وأخرج زكاة تجارته سنويا بالعام الشمسي فإنه بقي في ماله زكاة عام آخر؛ لأن كل (33) عاما شمسيا يكون (34) عاما قمريا.
وهذا مما يفرض على المسلمين أن يعتنوا بالمحافظة على الشهور القمرية بصفة عامة، وبالمحافظة على الأشهر التي تعلقت بعينها أحكام محدودة بصفة خاصة - كالأشهر الحرم وأشهر الحج ورمضان والتي قبلها - وهي: سبعة أشهر متوالية: رجب، شعبان، رمضان، شوال، ذو القعدة، ذو الحجة، محرم؛ لأن ثبوت رمضان في حالة الغيم ونحوه يكون بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوما - كما سيأتي - وأن ذلك التعداد لا يمكن إلا بثبوت بداية أشهر الحج، ونهايتها بداية الأشهر الحرم وهلم جرا ... إلى نهاية شهر محرم؛ لأن به بداية الأشهر التي يباح فيها بدء قتال الأعداء، ولا تنس التشويش والشكوك التي أثار المشركون غبارها حول قتل الحضرمي.(2/725)
3- بداية الشهر وأقوال الفقهاء فيها وأدلة كل:
بداية شهر رمضان: إما برؤية الهلال، وإما بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، وليس هناك خلاف معتبر في اعتبار هاتين عند الفقهاء، ولكنهم اختلفوا في نصاب الشهادة المقبولة في الرؤية إلى قولين:
(أ) فقال فريق منهم بقبول شهادة العدل الواحد، ومن هذا الفريق: الشافعي وأحمد بن حنبل، وبه قال المؤيد بالله.
ودليلهم على ذلك القول الأحاديث الصحيحة مثل حديث ابن عمر:
1- فعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: " تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه". رواه أبو داود، والحاكم، وابن حبان، وصححاه.
وقالوا: " أن هذا الحديث ينص بقبول شهادة رجل عدل واحد، وهو عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي قبل تلك الشهادة، والأمة تابعة له في هذا..وهو نص صريح كما قالوا.
2- وعن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: " جاء إعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إني رأيت الهلال - يعني رمضان - فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. فقال: أتشهد أن محمدا ورسول الله؟ قال: نعم. قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا)) . (رواه الخمسة إلا أحمد) .
وقالوا: إن هذا ينص بوضوح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة الرجل واحد من الأعراب لا يعرف من أعماله الإسلامية شيئا إلا الشهادتين فعدالته مستورة لذا قالت الشافعية: أن العدالة المستورة مقبولة في شهادة رؤية الهلال، وهو نص صريح كما قالوا.(2/726)
3- وروى الدارقطني " أن رجلا شهد عند علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - برؤية هلال رمضان، فصام، وأمر الناس أن يصوموا".
وهذا الحديث يبين أن عليا - وهو الخليفة الرابع - قبل شهادة رجل واحد لا يدري عدالته من شيء. وهو نص صريح على قبول شهادة الواحد.
(ب) وقال الفريق الآخر: أن الشهادة المقبولة في رؤية هلال رمضان شهادة شاهدي عدل فأكثر ومن هذا الفريق: الإمام مالك، والليث، والأوزاعي، والثوري، والأحناف، والهادوية. واستدلوا على مذهبهم بحديثين هما:
عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب (أنه خطب في اليوم الذي يشك فيه، فقال: " ألا إني جالست أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وساءلتهم، وإنهم حدثوني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وأنسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوما، فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا لرؤيته وأفطروا)) . رواه أحمد والنسائي ولم يقل (مسلمان) .
2- وعن أمير مكة - الحرث بن حاطب - أنه قال: " عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننسك للرؤية، فإن لم نره وشهد شاهد عدل نسكنا بشهادتهما ". رواه أبو داود، والدارقطني.
ومحل شاهد قول الفريق هو لفظة ((أنسكوا لها)) أي للرؤية في الحديث الأول، ولفظة " أن ننسك للرؤية " في الحديث الثاني، ومعناهما: الاهتمام للرؤية اهتماما أكثر من الاهتمام لإكمال العدة.
وهناك شاهد أقرب إلى المراد، وهو قوله في الأول: ((فإن شهد شاهدان فصوموا)) . وقوله: " فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما".
فمن هنا أخذوا أن شهادة الاثنين لا بد منها لإثبات رمضان بالرؤية وليس لهم دليل في هذا إلا في مفهومه التقديري.
هذه أدلة الفريقين في قبول شهادة رؤية الهلال كما ترى فإذا قارنا فيما بينهما مقارنة بسيطة يتبين لنا الأقوى منهما.
لقد استدل الفريق الأول بالأحاديث الثالثة السابقة وهي ظاهرة الدلالة؛ لأن الحديث الأول يدل دلالة واضحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة عدل واحد، وهو ابن عمر - رضي الله عنه.
وأن الحديث الثاني يدل مثل دلالة الأول على أنه - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة أعرابي مجهول العدالة لا يدري من أخلاقه شيئا إلا أنه شهد عند النبي الشهادتين.(2/727)
وأن الحديث الثالث يدل ما دل الحديثان السابقان من شهادة الرجل الواحد والقبول بها.
ولهذا الفريق أحاديث أخرى، نذكر منها حديثين هما:
1- حديث لابن عمر وابن عباس معا من طريق طاووس قال " شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - فجاء رجل إلى واليها، وشهد عنده على هلال شهر رمضان، فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزه، وقالا " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة رجلين". رواه الدارقطني والطبراني في الأوسط، وقال الدارقطني: " تفرد به حفص بن عمر الإيلي وهو ضعيف باتفاق، وإنما أوردنا هذا الحديث لأن فيه شبه حظ لكل من الفريقين.
2- وروى الشافعي في كتاب " الأم ": أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان، عن أمه فاطمة بنت حسين: (أن رجلا شهد عند علي - رضي الله عنه - على رؤية هلال رمضان فصام، وأحسبه قال: وأمر الناس أن يصوموا..) .
وأما ثبوت الهلال: بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، فليس فيه خلاف معتبر، ودليل ثبوته بالإكمال هو حديث أبي هريرة الصحيح وما شاكلته من كل حديث جمع بين رؤية الهلال وإكمال العدة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما)) . رواه البخاري ومسلم.
وذلك لأن هذا الحديث وأمثاله كما دل بأوله أن الرؤية أثبتت الشهر فإن إكمال عدة شعبان يثبت الشهر أيضا. فلذلك وغيره يدل دلالة واضحة على ثبوت رمضان برؤية الهلال في حالة الصحو، وفي حالة الغيم بإكمال شعبان ثلاثين يوما.(2/728)
وفي ثبوت شهر شوال:
اعلم أن ثبوت شوال كثبوت رمضان إما برؤية الهلال وإما بإكمال عدة رمضان ثلاثين يوما.
فأما ثبوته بإكمال رمضان: فإنه ليس فيه خلاف، إلا ما قالت الحنابلة: من استثناء ما إذا كان ثبوت رمضان بشهادة عدل واحد، فإنهم قالوا: إذا لم ير هلال شوال ليلة الحادي والثلاثين من بداية الصوم، فإنه تنقض الشهادة الأولى، ويصام تلك الليلة وتنقض الشهادة الأولى.
وأما ثبوته برؤية الهلال: فإنهم اختلفوا فيه كاختلافهم في رمضان إلى قولين:
فقال فريق من الفقهاء: لا تثبت شهادة هلال شوال إلا بشاهدي عدل أو أكثر ومنهم الحنفية، والمالكية والحنابلة ومن وافقهم من العترة كما في كتاب " البحر".
ودليلهم عل هذا القول الحديثان الآتيان:
1- عن ربعي بن خراش عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اختلف الناس في آحر يوم من رمضان، فقدم أعرابيان، فشهدا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله لأهل الهلال أمس عشية، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النس أن يفطروا)) رواه أحمد، وأبو داود وزاد ((وأن يغدوا إلى مصلاهم)) وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح وجهالة الصحابي غير قادحة قاله الشوكاني في نيل الأوطار.
2- وعن عبيد الله أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له: ((أن ركبا جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشهدوا أنعم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم)) . رواه أبو داود وغيره.(2/729)
فأول هذين الحديثين يدل دلالة واضحة أن الصحابيين الجليلين أمرا الوالي أن يجيز شهادة رجل واحد مستور العدالة مسندين أمرهم هذا إلى ما سمعا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا الحديث في سنده راو ضعيف الرواية بالاتفاق قلا يقيد لهم ولا لغيرهم شيئا لضعفه، والحديث الثاني يدل ما دلت عليه الأحاديث السابقة.
وهنك أثر آخر هو من أدلة الفريق فنذكره نافلة وهو ما رواه أحمد في سنده حديثا يزيد بن هارون: أنبأنا ورقاء عن عبد الأعلى الثعلبي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: " كنت مع البراء بن عازب وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - في البقيع ننظر إلى الهلال فأقبل راكب فتلقاه عمر، فقال: من أين جئت؟ قال: من المغرب. قال: أهللت؟ قال: نعم. قال عمر: الله أكبر، إنما يكفي المسلمين الرجل الواحد". قيل: أن عبد الأعلى هذا متكلم فيه.
فإن صح هذا الأثر من عمر فإنه يدل ما دلت عليه أحاديث الفريق.
وقالوا عن الحديثين اللذين استدل بهما الفريق الآحر ما يلي: أن التصريح بالاثنين في كلا الحديثين غاية ما فيه المنع من قبول الواحد المفهوم، وأحاديثنا تدل على قبول الواحد بالمنطوق، وإن دلالة المنطوق أقوى وأرجح من دلالة المفهوم.
وأما احتمال شهادة ثان وثالث مع شهادة الواحد الذي استدللناه فتعسف وتجويز، ولو صح اعتبار مثله لكان مفضيا إلى طرح أكثر الشريعة.
أما الفريق الثاني القائل: شهادة العدل الواحد عير مقبولة) فقالوا: أن دليلنا على ذلك الحديثان السابقان ومحل الشاهد في الحديثين كما قلنا سابقا كلمتي: ((أنسكوا لها)) أي: الرؤية، " أن ننسك للرؤية " وقوله: " فإن شهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما " فكأنهم فهموا منه (فإن لم نره - ونحن الأمراء - ولم بشهد عندنا شاهدا عدل لا ننسك بشهادة واحد ولا نصوم بها) لكنه مفهوم لا يوافقه الظاهر.(2/730)
وأجابوا عن أدلة الفريق الأول أنه يحتمل أن يشهد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - غير ابن عمر في الحديث لأنه قال أولا: تراءى الناس الهلال " فلا نستبعد أن أحدا - من الذين رأوا الهلال - ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل ابن عمر.
وما جاز احتماله في حديث ابن عمر جاز في غيره، انتهى.
ومن هذه المقارنة البسيطة نعلم أن الدليل الأقوى والأظهر مع الذين يقولون بقبول شهادة العدل الواحد في هلال رمضان.
ومحل الشاهد للقوم في هذين الحديثين، في الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة أعرابيين عند اختلاف الناس في ثبوت الهلال وفي الثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة ركب شهدوا برؤية الهلال، وأنت ترى أنه ليس في الحديثين ما يمنع شهادة العدل الواحد، لأننا لا نفهم ما يدل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع بشهادة رجل واحد ... وهناك حديث آخر استدلوا به لقولهم، وهو أوضح دليلا من السابقين أن صح وهو الذي مر بنا وأشرنا أن فيه حظا لكلا الفريقين وهو هذا
3- عن طاووس قال: " شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - فجاء رجل إلى واليها، وشهد عنده على هلال شهر رمضان، فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزه، وقالا " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان وكان لا يجيز شهادة الإفطار إلا بشهادة رجلين". رواه الدارقطني والطبراني في الأوسط، وقال الدارقطني: " تفرد به حفص بن عمر الإيلي وهو ضعيف بالاتفاق.
وأنت ترى أن هذا الحديث ضعيف.(2/731)
وقال الفريق الآخر من الفقهاء: " أنه لا فرق بين هلال رمضان وشوال، فرؤية هلال شوال كرؤية هلال رمضان من حديث ثبوته وهم: الشافعية، ومن وافقهم في هذا القول، ومنهم أبو ثور وأبو بكر بن المنذر وأهل الظاهر كما قاله ابن رشد هم يقولون بقبول شهادة العدل الواحد.
ودليلهم على هذا القول الأحاديث التي مرت بنا في ثبوت رمضان، مثل حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين.
1- فعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته..)) . البخاري ومسلم.
2- وكحديث ابن عمر - رضي الله عنه - السابق قال: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه سلم - يقول ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)) . البخاري.
فإن كلتا الرؤيتين في هذين الحديثين متساويتان، فرؤية الإفطار طبعا هي رؤية هلال شوال ... والرؤية تصدق برؤية عدل واحد من المسلمين / كما لا يخفى، وهو كما قالوا.
وكذلك القياس على أدلة ثبوت رمضان التي تبين قبول شهادة الواحد مثل حديث الأعرابي، لعدم الفرق بين الهلالين.
وأجابوا عن الحديثين اللذين استند إليهما الفريق الأول من الفقهاء أن الحديثين لم يشترطا لثبوت الشهر بشهادة رجلين وغاية ما فيهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة رجلين وقتا، وقبل شهادة ركب مرة أخرى، ولم نفهم واحدا منهما أنه شرط القبول الاثنين.
وقد احتج أبو بكر بن المنذر بانعقاد الإجماع على وجوب الفطر والإمساك عن الأكل بقول واحد، فوجب أن بكون كذلك في دخول الشهر وخروجه إذ كلاهما علامة نفصل زمان الفطر من زمان الصوم. انتهى. وهو صادق في قوله واحتجاجه.
شهادة الإفطار من الأدلة الصحيحة، فالظاهر أنه يكفي فيه خبر العدل الواحد قياسا على الاكتفاء به في الصوم. وقال أيضا: التعبد بقول خبر الواحد لا بدل على قبوله في كل موضوع إلا ما ورد الدليل بتخصيصه بعدم التعبد فيه بخير واحد كالشهادة على الأموال ونحوها، فالظاهر ما ذهب إليه أبو ثور. انتهى.(2/732)
4- حكم اختلاف المطالع والبلدان المتباعدة:
(أ) ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع في مسألة ثبوت الهلال. فقالوا: إذا رأى الهلال أهل بلد وجب الصوم على جميع البلدان؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) .
لأن الخطاب فيه عام لجميع الأمة، فمن رآه منهم - في أي مكان كان - رؤية مسائية فرؤيته رؤية لهم جميعا.
وقد قال عمر - رضي الله عنه - قولته السابقة كما في مسند الإمام أحمد: " الله أكبر إنما يكفي المسلمين الرجل الواحد ". وذلك بعدما شهد عنده راكب واحد برؤية هلال رمضان.
(ب) وذهب عكرمة، والقاسم بن محمد، وسالم، وإسحاق، وقول للأحناف، وقول مختار للشافعية: أنه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم، واستدلوا على ذلك بحديث كريب، ونصه: عن كريب، أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام فقال: " قدمت الشام، فقضيت حاجتها، واستهل رمضان وأنا بالشام في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ يعني هلال رمضان، فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقال: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه يوم السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم. " رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه.
وقد استدل بهذا الحديث كل من قال: لا يلزم أهل بلد رؤية أهل بلد آخر، ولكنهم اختلفوا في ذلك على مذاهب كما ذكرها صاحب الفتح:
1- قال قوم منهم: يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم ولا تلزمهم رؤية غيرهم، حكاه ابن المنذر عن كل من: عكرمة، والقاسم، وسالم، وإسحاق، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه. وحكاه المناوي وجها للشافعي، ولعل أن هذا القول حديثا آخر.(2/733)
عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لكل قوم هلالهم)) .رواه مسلم نقلناه من (شرح كتاب النيل وشفاء العليل) للشيخ محمد بن يوسف فإن صح هذا الحديث فليس أدل لمرادهم من حديث كريب.
2- وقال قوم منهم: لا ليلزم أهل بلد رؤية غيرهم إلا أن يثبت ذلك عند الإمام الأعظم، فيلزم الناس كلهم؛ لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد لأن حكمه نافذ في الجميع. قاله ابن الماجشون.
3- وقال فريق منهم: أن تقاربت البلاد كان الحكم واحد وإن تباعدت فوجهان:
الوجه الأول: لا يجب، قاله بعض الشافعية.
الوجه الثاني: يجب عليهم، اختار هذا الوجه أبو طيب، وطائفة، وحكاه البغوي عن الشافعي.
وفي ضبط البعد أوجه:
1- أولها: مسافة القصر، وبه قطع البغوي، صححه الرافعي من الشافعية واستدلوا له القياس؛ حيث قالوا: " أن الشرع علق بمسافة القصر كثيرا من الأحكام".
2- ثانيها: اختلاف المطالع، وبه قطع العراقيون، والصيدلاني، وصححه النووي في الروضة وشرح المهذب والمنهاج.
وردوا على من استدل لمسافة القصر قولهم: " أن أمر الهلال لا تعلق له بمسافة القصر".
3- ثالثها: اختلاف الأقاليم، وبه حكاه الحافظ في الفتح.
4- رابعها: يلزم أهل كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا عارض كأهل البلدان الغربية عن بلد الرؤية وبه حكى السرخسي.
5- خامسها: لا يلزم أهل بلد غير بلد الرؤية إلا إذا ثبتت الرؤية عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم وبه قال ابن الماجشون
6- سادسها: لا يلزم إذا اختلفت الجهات، ارتفاعا وانحدارا، أو كل بلد في إقليم وبه حكاه المهدي في "البحر" عن الإمام يحيى والهادوية.
وحجة أصحاب هذه الأقوال الستة حديث كريب السابق ووجه استدلالهم به كالتالي: " أن ابن عباس - رضي الله عنه - لم يعلم برؤية أهل الشام، وأنه قال في آخر حديث: هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: فدل ذلك على أنه قد حفظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يلزم أهل بلد برؤية أهل بلد آخر. انتهى.(2/734)
وأنت ترى كثرة اختلافهم في تحديد المسافة، والأولى أن لا يختلف المسلمون مثل هذا الاختلاف في مثل مسألة كهذه، وأرى أن القول القريب إلى الحق وإلى الوحدة واجتماع كلمة المسلمين عقلا ونقلا هو قول الجمهور المار بنا آنفا.
فلا بد أن نلاحظ ونناقش استدلال الفرق بحديث كريب
ملاحظة بسيطة حول الاستدلال بحديث كريب السابق:
اعلم يا أخي القارئ أن الحجة في المرفوع من رواية ابن عباس لا في اجتهاده الذي فهم عنه الناس.
والمشار إليه بقوله " هكذا أمرنا رسول الله " في آخر الحديث هو قوله " فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه".
ففي أي وقت سمع ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وفي أي حديث صرح به ابن عباس هذا المرفوع؟ وأين الأمر الكائن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما أشار ابن عباس؟ هذه التساؤلات تحتاج إلى أجوبة.
وقد قال الشوكاني: " أن الأمر الكائن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما بلفظ ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) .
وهذا - كما نرى - لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد، بل هو خطاب عام لكل من يصلح له من المسلمين.
فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم، أهل البلدان الأخرى أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم؛ لأنه إذا رآه أهل بلد فقد رآه المسلمون فيلزم غيرهم ما لزمهم.
ولو سلم توجه الإشارة في كلام ابن عباس إلى عدم لزوم رؤية أهل بلد لأهل بلد آخر، لكان عدم اللزوم مقيدا بدليل العقل، وهو أن يكون بين القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع - وليس بين الشام والحجاز ذلك البعد وعدم عمل ابن عباس برؤية أهل الشام مع عدم البعد الذي يمكن معه الاختلاف عمل بالاجتهاد، وليس بحجة.(2/735)
ولو سلم عدم لزوم التقييد بالعقل فلا يشك عالم أن الأدلة العقلية والنقلية قاضية بأن أهل الأقطار يعمل بعضهم بخبر بعض وشهادته في جميع الأحكام الشرعية والرؤية من جملتها، وسواء كان بين البلدين أو القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع أو لا فلا يقبل التخصيص إلا بدليل.
ولو سلمنا صلاحية حديث كريب هذا للتخصيص - على سبيل الفرض والتقدير- لكان الأولى أن يقتصر على محل النص، أن كان النص معلوما، أو على المفهوم منه أن لم يكن معروفا لوروده على خلاف القياس.
وابن عباس لم يأت بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بمعنى لفظه - في هذا الخبر - حتى ننظر في عمومه وخصوصه، وإنما جاء بصيغة مجملة أشار بها إلى قصة، هي عدم عمل أهل المدينة برؤية أهل الشام أن سلمنا أن ذلك هو المراد ولا نفهم منه غير ذلك حتى نجعله مخصصا لذلك المفهوم. انتهى.
أما الاستدلال بالحديث الثاني ((إن لكل قوم هلالهم)) :
فقد عبر ((القوم)) لا البلاد ولا المسافة مما نحن بصدده، وإن سلمناه على ظاهره، فإن كريبا الذي سأله ابن عباس رؤية الهلال هناك وأجابه بقوله: " نعم رأيته" هو من قومه من أهل المدينة فلماذا لم يقبله إن أسند هذا الحديث لعدم قبوله؟
فمن هذا نعلم أن ابن عباس لم يسند هذا الحديث لعلمه، ولا حديث الشيخين، بل اجتهد، والمجتهد يصيب ويخطئ ومن هذا كله يتأكد لنا صدق القول الآتي: " أن بداية الشهر- رمضان - وشعبان - وشوال- وغيرها يثبت برؤية عدل موثوق به في حالة صفاء السماء، وبإكمال عدة الشهر ثلاثين، وأن ثبوت الشهر بهذا في بلد إسلامي يعم جميع البلدان إذا بلغ.(2/736)
5- الخاتمة
أخي القارئ، أن قرأت ما في هذه الرسالة من مواضع دراسة الشهور العربية القمرية الإسلامية وفهمت ما فيها من أعمال مرتبطة بها، وما احتوته من أقوال الفقهاء وأدلتهم في ثبوت بداية الشهر، وحكم اختلاف المطالع وأوقفت على مقارنتي المتواضعة بين أقوالهم وأدلتهم، والتمست استخلاص القول المؤيد بالأدلة القوية فلا تنس أن تقرأ هذه الخاتمة لأنها خلاصة ما مر بنا في الأبواب السابقة.
فيها خلاصة القول السديد فيما مر بنا من بداية الشهر وحكم المطالع.
اعلم يا أخي المسلم القارئ أنه قد مر بنا في هذه الرسالة المتواضعة أمور لا بد لنا أن نستخلصها ونكتبها منفردة في هذا المكان.
فقد علمنا أن الشهور العربية الإسلامية في عرف الشريعة هي الشهور القمرية الاثنا عشر المعروفة، وأنها هي التي يقع عليها كل حكم استند إلى زمن وعبر به اسم الشهر ما عدا مواسم الزراعة والحرارة البرودة.
وأن من تلك الشهور ما تعلقت بها أحكام وأعمال إسلامية خاصة كحرمة القتال في أشهر منها، وكأداء الحج في أشهر، وكالصيام المفروض أصالة.
وأنها هي المقصود من قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} فهي أشهر قديمة المقدار، وخالدة الحرمة والتوقيت، فمنها أشهر حرم، لا تؤخر لحرمتها إلى غيرها ولا تنسوا لأن الله هو الذي يقول: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}
وإن تلك الأشهر هي المقصودة بقوله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وقوله جل وعلا {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وقوله سبحانه {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}
وأنها هي المراد في قوله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} لأن الأهلة جمع هلال والهلال هو القمر ما لم يكتمل نوره ولكن العرب تعبر الهلال عن الشهر كما تعبر الشهر عن الهلال.(2/737)
والشهر القمري هو المراد بقوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
وأن حرمة الأشهر الحرم تتعلق بأشهر قمرية.
وأن أشهر العدة – للمطلقة والمتوفى عنها – إذا أطلق فهي أشهر قمرية، وأن صيام رمضان معروف بتعلقه بالشهر القمري لا غير، وكذلك أداء أعمال الحج لا تنعقد في غير أشهره القمرية؛ فلهذا يجب علينا أن نعتني ببداية الأشهر القمرية.
وإليك القول المختار للأخذ به من بين الأقوال التي مرت بنا في كل من بداية الشهر وحكم اختلاف المطالع: القول القوي من حيث الدليل المختار من المبدأ الموحد، هو أن بداية الشهر تثبت برؤية شاهد عدل واحد، وأنه لا فرق في ذلك بين رمضان وغيره، وأنه إذا لم تكن السماء صافية فإنه يثبت بإكمال الشهر الذي سبق منه، ولا فرق في هذا الحكم بين الشهور.
وأن القول القوي عقلا ونقلا في مسألة اختلاف المطالع أن لا عبرة باختلاف المطالع، ولا بعد المسافة بين بلد الرؤية وغيره من البلدان الإسلامية فاتحاد الشهور العربية القمرية أمر لا مانع له في نظر الشريعة الإسلامية. فإذا رأى رجل عدل واحد رؤية ليلة تكون رؤيته رؤية جميع المسلمين؛ لأن المؤمنين أمة واحدة، فحكم ثبوت الهلال يعم بجميع أفرادها، فلا تفرق بينهم الحدود المصطنعة ولا البحار والصحاري في هذا الحكم.(2/738)
وتلك الضرورة هي التي تسببت - قديما وحديثا – إلى انقسام العالم الإسلامي في بداية شهر الصوم ونهايته.
وكانت تلك الضرورة – أي عدم سماع خبر الرؤية – محتمة في الزمن القديم بحيث لا تمكن إزالتها ولا معالجتها وذلك لبعد المسافة وانعدام المواصلات اللازمة، أما في هذا العصر فإن إزالة تلك الضرورة ممكنة لتوافر طرق المواصلات السلكية واللاسلكية المرئية وغير المرئية ولكن العالم الإسلامي يحتاج لتوحيد بدايات الشهور القمرية عمليا، إلى اختيار مركز فضائي وإعلامي واستعلامي في أن واحد، بحيث يستقطب ذلك المركز الأخبار - أعني أخبار رؤية الهلال - من أقطار العالم الإسلامي شرقيه وغربيه فيحكم الثبوت بالخبر الذي يرى أنه عدل ثم يبث هذا الحكم إلى جميع الأقطار الإسلامية في أسرع وقت ممكن ... فيا حبذا لو اختير لهذا الأمر " أم القرى " مركزا؛ لأنها قبلة الأمة، مولد الرسالة المحمدية وفيها أول بيت وضع للناس وهي التي أذن الله أن يؤتى إليها كل الثمرات، وأن يأتي الناس رجالا وعلى كل ضامر من كل فج عميق.
وإلى هنا أوقفت كلمتي المتواضعة، راجيا من الله القوي العزيز الكريم أن يتقبل مني هذا العمل في البدء والختام وأن يلهم غيري من الأكفاء إلى تكميله وتهذيبه حتى يكون هذا الجهد بداية ما يحمد عقباه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
هذا وقد بدأت كتابة تلك الرسالة " توحيد الشهور القمرية " في يوم الخميس 20 من شهر ذي القعدة سنة 1405 هـ وفرغت من كتابتها يوم السبت 8 من شهر ذي الحجة المحرم سنة 1405 هـ من الهجرة النبوية العطرة بحمد الله وتوفيقه.(2/739)
مراجع البحث
1- القرآن الكريم.
2- مختصر تفسير ابن كثير للصابوني، المجلد الأول، صفحة (169)
3- في ظلال القرآن للسيد قطب، الجزء الثالث صفحة (245)
4- صفوة التفاسير للصابوني، المجلد الأول، صفحة (534)
5- تفسير آيات الأحكام للصابوني، الجزء الأول، صفحة (210 - 211)
6- مختصر تفسير ابن كثير للصابوني، المجلد الثاني، صفحة (140 - 142)
7- تفسير القرآن العظيم لابن كثير، المجلد الأول، صفحة (225)
8- جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري، اجزء الثاني صفحة (108) الطبعة الأولى (1323 هـ)
9- فقه السنة للسيد سابق المجلد الأول، صفحة (435 - 437)
10- نيل الأوطار للشوكاني الجزء الرابع صفحة (258 - 269)
11- نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية للحافظ الزيلعي، الجزء الثاني صفحة (437 - 445)
12- شرح صحيح مسلم للنووي، الجزء السابع صفحة (197)
13- صحيح ابن خزيمة الجزء الثالث صفحة (201 - 203) و (205 - 206)
14 - سبل السلام للأمير الصنعاني الجزء الثاني صفحة (151 - 153)
15- مغني المحتاج للخطيب الشربيني الجزء الأول صفحة (420 - 422)
16- شرح كتاب النيل وشفاء العليل لمحمد بن يوسف أطفيش، الجزء الثالث صفحة (317 - 319)
17 - المذاهب الأربعة للجزائري الجزء الأول صفحة (548 - 554)
18 - روح الدين الإسلامي لعفيف الدين الطبارة صفحة (257)
19 - الموسوعة الفقهية، وزارة العدل الكويت، الجزء الثاني صفحة (34)
20 - مجلة الفيصل عدد (44) صفر 1401 هـ صفحة ()
21 - في صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحمد صالح البنداق صفحة (233)(2/740)
حول اعتماد الحساب الفلكي
لتحديد بداية الشهور القمرية
هل يجوز شرعا أو لا يجوز؟
مصطفى أحمد الزرقاء
لا أجد في اختلاف آراء علماء الشريعة المعاصرين اختلافا يدعو إلى الاستغراب، بل إلى الدهشة أكثر من اختلافهم في جواز الاعتماد شرعا على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية، في عصر ارتاد علماؤه آفاق الفضاء الكوني، وأصبح من أصغر إنجازاتهم النزول على القمر ثم وضع أقمار صناعية في مدارات فلكية محددة حول الأرض لأغراض شتى علمية وعسكرية تجسسية، ثم القيام برحلات فضائية متنوعة الأهداف والخروج من مراكبها للسياحة في الفضاء خارج الغلاف الجوي الذي يغلف الأرض، وخارج نطاق الجاذبية الأرضية، وسحب بعض الأقمار الصناعية الدوارة لإصلاح ما يطرأ عليها من اختلال وهي في الفضاء ولتصحيح مدارها إذا انحرفت عنه.
وإذا كان الرصد الفلكي وحساباته في الزمن الماضي لم يكن له من الدقة والصدق ما يكفي للثقة به والتعويل عليه، فهل يصح أن ينسحب ذلك الحكم عليه إلى يومنا هذا؟ ولعل قائلا يقول: أن عدم قبول الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية ليبنى عليه ما يتعلق بها من عبارات في الإسلام ليس سببه الشك في صحة الحساب الفلكي ودقته، وإنما سببه أن الشريعة الإسلامية، بلسان رسولها - صلى الله عليه وسلم - قد ربطت ميلاد الأهلة وحلول الشهور القمرية بالرؤية البصرية وذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديثه الثابت المشهور عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ((صوموا لرؤيته - أي الهلال - وأفطروا لرؤيته، فإذا غم عليكم فاقدروا له))
وفي رواية ثابتة أيضا: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) .
وقد أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: ((فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين)) ، وهي تفسير معنى التقدير الوارد في الرواية الأولى.(2/741)
وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه -: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما)) . فجميع الروايات الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشأن قد ربط فيها الصوم والإفطار برؤية الهلال الجديد والقدر أو التقدير الوارد عندما تمتنع الرؤية البصرية لعارض يحجبها من غيم أو ضباب أو مانع آخر معناه إكمال الشهر القائم - شعبان أو رمضان - ثلاثين يوما، فلا يحكم بأنه تسع وعشرون إلا بالرؤية وهذا من شئون العبادات التي تبنى فيها الأحكام على النص تعبدا دون نظر إلى العلل، ولا إعمال للأقيسة.
هذه حجة من لا يقبلون الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية لأجل العبادات المرتبطة شرعا بها ولو بلغ الحساب الفلكي من الصحة والدقة مبلغ اليقين بتقدم علمه ووسائله.
ونقول نحن بدورنا: أن كل ذلك مسلم به لدينا، وهو معروف في قواعد الشريعة وأصول فقهها بشأن العبادات ولا مجال للجدل فيه، ولكنه مفروض في النصوص التي تلقى إلينا مطلقة غير معللة فأما إذا ورد النص نفسه معللا بعلة جاءت معه من مصدره فإن الأمر حينئذ يختلف، ويكون للعلة تأثيرها في فهم النص وارتباط الحكم بها وجودا وعدما في التطبيق ولو كان الموضوع من صميم العبادات.
إن هذا الحديث النبوي الشريف الآنف الذكر ليس هو النص الوحيد في الموضوع، بل هناك روايات أخرى ثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - توضح علة أمره باعتماد رؤية الهلال البصرية للعلم بانقضاء الشهر القائم، وحلول الشهر الجديد الذي نيطت به التكاليف والأحكام، من صيام وغيره.
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أم سلمة - رضي الله عنها - في كتاب الصيام من صحيحه (باب: الصوم لرؤية الهلال) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما)) .
وأخرج أيضا بعده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، والشهر هكذا وهكذا وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة والشهر هكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين)) اهـ.
ومفاد هذا الحديث أنه - عليه الصلاة والسلام - أشار (أولا) بكلتا يديه وبأصابعه العشر ثلاث مرات، وطوى في الثالثة إبهامه على راحته لتبقى الأصابع فيها تسعا وعشرين وتارة ثلاثين.(2/742)
هكذا نقل النسائي تفسير هذا الحديث عن شعبة عن جبلة بن سحيم عن ابن عمر (رواه النسائي بشرح السيوطي وحاشية السندي ج 4 ص / 138 و 140) .
وكذلك ليس هذا هو كل شيء من الروايات الواردة في هذا الموضوع فالرواية التي أكملت الصورة وأوضحت العلة، فارتبطت أجزاء ما ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشأن بعضها ببعض هي ما أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي (واللفظ للبخاري) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، والشهر هكذا وهكذا)) يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين وكلهم أوردوا ذلك في كتاب الصوم وقد أخرجه أحمد عن ابن عمر فهذا الحديث النبوي هو عماد الخيمة وبيت القصيد في موضوعنا هذا فقد علل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره باعتماد رؤية الهلال رؤية بصرية لبدء الصوم والإفطار بأنهم أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، فما من سبيل لديها لمعرفة حلول الشهر ونهايته إلا رؤية الهلال الجديد ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين وتارة ثلاثين وهذا ما فهمه شراح الحديث من هذا النص.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (ج 4/127) : ((لا نكتب ولا نحسب)) (وبالنون فيهما) والمراد أهل الإسلام الذين بحضرته عند تلك المقالة، وهو محمول على أكثرهم..لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضا إلا النزر اليسير فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير..) (1)
والعيني في عمدة القاري قد علل تعليق الشارع الصوم بالرؤية بعلة رفع الحرج في معاناة حساب التسيير كما نقلناه عن ابن حجر ونقل العيني عن ابن بطال في هذا المقام قوله: " لم نكلف في تعريف مواقيت صومنا ولا عباداتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، وإنما ربطت عباداتنا بأعلام واضحة وأمور ظاهرة، يستوي في معرفة ذلك الحساب وغيرهم.
__________
(1) أضاف ابن حجر بعد ذلك قائلا: " واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلا " اهـ. وسنناقش هذه العبارة الأخيرة عن بن حجر ومفهومها فيما بعد(2/743)
وذكر القسطلاني في إرشاد الساري شرح البخاري (ج 3 ص 359) مثل ما قال ابن بطال.
وقال السندي في حاشيته على سنن النسائي يشرح كلمة (أمية) الواردة في الحديث بقوله: " أمية في عدم معرفة الكتابة والحساب، فلذلك ما كلفنا الله تعالى بحساب أهل النجوم، ولا بالشهور الشمسية الخفية، بل كلفنا بالشهور القمرية الجلية ... ".
(سنن النسائي بشرح السيوطي ج 4/140) .
وواضح من هذا أن الأمر باعتماد رؤية الهلال ليس لأن رؤيته هي في ذاتها عبادة، أو أن فيها معنى التعبد، بل لأنها هي الوسيلة الممكنة الميسورة إذ ذاك لمعرفة بدء الشهر القمري ونهايته لمن يكونون كذلك أي أميين لا علم لهم بالكتابة والحساب الفلكي.
ولازم هذا المفاد من مفهوم النص الشرعي نفسه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقومه العرب إذ ذاك لو كانوا من أهل العلم بالكتاب والحساب بحيث يستطيعون أن يرصدوا الأجرام الفلكية ويضبطوا بالكتاب والحساب دوراتها المنتظمة التي نظمتها قدرة الله العليم القدير بصورة لا تختل ولا تتخلف ولا تختلف حتى يعرفوا مسبقا بالحساب الفلكي. وكذا لو كل من يصل لديهم هذا العلم من الدقة والانضباط إلى الدرجة التي يوثق بها ويطمأن معها إلى صحته.
وهذا حينئذ - ولا شك - أوثق وأضبط في إثبات رؤية الهلال من الاعتماد على شاهدين ليسا معصومين من الوهم وخداع البصر ولا من الكذب لغرض أو مصلحة شخصية مستورة مهما تحرينا للتحقق من عدالتهما الظاهرة التي توحي بصدقهما، وكذلك هو - أي طريق الحساب الفلكي - هو أوثق وأضبط من الاعتماد على شاهد واحد حينما يكون الجو غير صاح والرؤية عسيرة كما عليه بعض المذاهب في هذه الحال.(2/744)
وواضح أيضا لكل ذي علم وفهم أن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإتمام عدة الشهر القائم ثلاثين حين يغم علينا الهلال بسبب حاجب ما للرؤية من غيم أو ضباب، ليس معناه أن الشهر القائم يكون في الواقع ثلاثين يوما، بل قد يكون الهلال الجديد متولدا وقابلا للرؤية لو كان الجو صحوا، وبالتالي أن اليوم التالي الذي اعتبرناه يوم الثلاثين الأخير من الشهر هو في الواقع أول يوم من الشهر الجديد الذي علينا أن نصومه أو نفطر فيه ولكن لأننا لا نستطيع معرفة ذلك من طريق الرؤية البصرية التي حجبتها حالة الجو ولا نملك وسيلة سواها، فإننا نكون معذورين شرعا إذا أتممنا شعبان ثلاثين وكان هو في الواقع تسعة وعشرين، فلم نصم أول يوم من رمضان إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها بنص القرآن العظيم.
هذا تحليل الموضوع وفهمه عقلا وفقها، وليس معنى إتمام الثلاثين حين انحجاب الرؤية أننا بهذا الإتمام نصل إلى معرفة الأمر وحقيقته في نهاية الشهر السابق وبداية واللاحق وأن نهاية السابق هي يوم الثلاثين.
وما دام من البديهيات أن رؤية الهلال الجديد ليست في ذاتها عبادة في الإسلام وإنما هي وسيلة لمعرفة الوقت وكانت هي الوسيلة الممكنة في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، وكانت أميتها هي العلة في الأمر بالاعتماد على العين الباصرة وذلك بنص الحديث النبوي مصدر الحكم، فما الذي يمنع شرعا أن نعتمد الحساب الفلكي اليقيني الذي يعرفنا مسبقا بموعد حلول الشهر الجديد فنعلم به، ولا يحجب علمنا غيم ولا ضباب؟(2/745)
رفض العلماء المتقدمين لاعتماد الحساب وسببه
إن الفقهاء الأقدمين وشراح الحديث يرفضون التعويل على الحساب دون الرؤية لمعرفة بدايات الشهور القمرية ونهاياتها للصيام والإفطار ويقررون أن الشرع لم يكلفنا في مواقيت الصوم والعبادة بمعرفة حساب ولا كتابة، وإنما ربط التكليف في كل ذلك بعلامات واضحة يستوي في معرفتها الكاتبون والحاسبون وغيرهم كما نقلناه سابقا عن العيني والقسطلاني وابن بطال والسندي وسواهم.
ولكن يحسن أن ننقل تعليلاتهم لهذا الرفض ليتبين سببه ومبناه مما يظهر ارتباطه بما كانت عليه الحال في الماضي ولا ينطبق على ما أصبح عليه أمر علم الفلك وحسابه في عصرنا هذا.
وصرح العلامة ابن حجر في فتح الباري بأن تعليق حكم الصوم وغيره بالرؤية دون الحساب يستمر ولو حدث فيما بعد من يعرف بالحساب، وقال: " أن الحكمة في ذلك أن يستوي الناس فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم " (الفتح ج 4 ص 127) .
ثم نقل ابن حجر أيضا عن ابن بزيزة أن اعتبار الحساب هو مذهب باطل، فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم، لأنه حدس وتخمين، وليس فيه قطع ولا ظن غالب ".
ويظهر من كلام ابن حجر وابن بزيزة أن العلة في عدم اعتماد الحساب هي أن هذا العلم في ذاك الزمن مجرد حدس وتخمين لا قطع فيه وأن نتائجه مختلفة، ولذلك بين أهله فيؤدي ذلك إلى الاختلاف والنزاع بين المكلفين.(2/746)
ونقل الزرقاني في شرحه على الموطأ (ج 2 ص/ 154) عن النووي قوله: " أن عدم البناء على حساب المنجمين لأنه حدس وتخمين، وإنما يعتبر منه ما يعرف به القبلة والوقت".
وذكر ابن بطال ما يؤيد ذلك، فقال: " وهذا الحديث - أي حديث - ((لا نكتب ولا نحسب)) - ناسخ لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول على رؤية الأهلة، وإنما لنا أن ننظر في علم الحساب ما يكون عيانا أو كالعيان، وأما ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون، وبكشف الهيئات الغائبة عن الأبصار فقد نهينا عنه وعن تكلفه " (ر: العيني ج 10 / 287) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في معرض احتجاجه لعدم جواز اعتماد الحساب: " أن الله سبحانه لم يجعل لمطلع الهلال حسابا مستقيما ... ولم يضبطوا سيره إلا بالتعديل الذي يتفق الحساب على أنه غير مطرد وإنما هو تقريب " (الفتاوى ج 25/ 183)
وقال في مكان آخر: " وهذا من الأسباب الموجبة لئلا يعمل بالكتاب والحساب في الأهلة " (المرجع نفسه ص / 181)
وقد أكد هذا المعنى في مواطن عديدة من الفصل الطويل الذي عقده في هذا الموضوع.
هذا ويبدو من كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - أنه يعتبر اعتماد الحساب لمعرفة أوئل الشهور القمرية من قبيل عمل العرافين وعمل المنجمين الذين يربطون الحوادث في الأرض وطوالع الحظوظ بحركات النجوم واقترانها فقد قال في أواخر الفصل الطويل الذي عقده في هذا الموضوع: " فالقول بالأحكام النجوبية باطل عقلا ومحرم شرعا، وذلك أن حركة الفلك وإن كان لها أثر ليست مستقلة بل تأثير الأرواح وغيرها من الملائكة أشد من تأثيره وكذلك تأثير الأجسام الطبيعية التي في الأرض.."
ثم قال: " والعراف يعم المنجم وغيره إما لفظا وإما معنى وقال - صلى الله عليه وسلم: ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر)) . رواه أبو داود وابن ماجه فقد تبين تحريم الأخذ بأحكام النجوم، وقد بينا من جهة العقل أن ذلك أيضا متعذر في الغالب ... وحذاق المنجمين يوافقون على ذلك، فنبين لهم أن قولهم في رؤية الهلال وفي الأحكام (1) من باب واحد يعلم بأدلة العقول امتناع ضبط ذلك ويعلم بأدلة الشريعة تحريم ذلك ... " (الفتاوى ج 25/ 198 - 201) .
__________
(1) مراده أحكام النجوم أي تأثير حركاتها في الحوادث والحظوظ(2/747)
وقد اشتد شيخ الإسلام - رحمه الله - على من يقول باعتماد الحساب في الأهلة، وشنع عليه، وقال: " فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون اتبع غير سبيل المؤمنين (الفتاوى 25 / 165- 174) .
الرأي الذي أراه هذا الموضوع:
يتضح من مجموع ما تقدم بيانه ما يلي:
1- أن النظر إلى جميع الأحاديث النبوية الصحيحة الواردة في هذا الموضوع وربط بعضها ببعض وكلها واردة في الصوم والإفطار يبرز العلة السببية في أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يعتمد المسلمون في بداية الشهر ونهايته رؤية الهلال بالبصر لبداية شهر الصوم ونهايته ويبين أن العلة هي كونهم أمة أمية لا تكتب ولا تحسب أي ليس لديهم علم وحساب يعرفون متى يبدأ الشهر ومتى ينتهي، ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين يوما وتارة ثلاثين.
وهذا يدل بمفهومه أنه لو توافر العلم بالنظام الفلكي المحكم الذي أقامه الله تعالى بصورة لا تختلف ولا تتخلف، وأصبح هذا العلم يوصلنا إلى معرفة يقينية.
بمواعيد ميلاد الهلال في كل شهر وفي أي وقت تمكن رؤيته بالعين الباصرة السليمة إذا انتفت العوارض الجوية التي قد تحجب الرؤية، فحينئذ لا يوجد مانع شرعي من اعتماد هذا الحساب والخروج بالمسلمين من مشكلة إثبات الهلال، ومن الفوضى التي أصبحت مخجلة بل مذهلة، حيث يبلغ فرق الإثبات للصوم والإفطار بين مختلف الأقطار الإسلامية ثلاثة أيام، كما حصل في هذا العام، وفي معظم الأعوام الماضية.(2/748)
2- أن الفقهاء الأوائل الذين نصوا على عدم جواز اعتماد الحساب في تحديد بداية الشهر القمري للصوم والإفطار بديلا من الرؤية البصرية، وسموه حساب التسيير قالوا إنه قائم على قانون التعديل وهو ظني مبني على الحدس والتخمين (كما نقلناه عن العلامة ابن حجر وابن بطال وابن بزيزة والنووي والسندي والعيني والقسطلاني) قد بنوا على حالة هذا الحساب الذي كان في زمنهم، حيث لم يكن في وقتهم علم الفلك (الذي كان يسمى علم الهيئة وعلم النجوم أو علم التسيير أو التنجيم) قائما على رصد دقيق بوسائل محكمة، إذ لم يكن آنذاك المراصد المجهزة بالمكبرات من العدسات الزجاجية التي تقرب الأبعاد الشاسعة التي يصعب على العقل تصورها والتي تتبع حركات الكواكب والنجوم وتسجلها بأجزاء من الثانية الواحدة وتقارن بين دورتها بهذه الدقة ولذا سموه بالتسيير الذي يقوم على قانون التعديل حيث يأخذ المنجم الذي يحسب سير الكواكب عددا من المواقيت السابقة ويقوم بتعديلها بأخذ الوسطى منها ويبني عليه حسابه (وهذا معنى قانون التعديل كما يشعر به كلامهم نفسه) من هنا كان حسابهم حدسيا وتخمينيا كما وصفه أولئك الفقهاء الذين نفوا جواز الاعتماد عليه. وإن كان بعضهم كالإمام النووي صرح بجواز اعتماد حسابهم لتحديد جهة القبلة ومواقيت الصلاة دون الصوم (مع أن الصلاة في حكم الإسلام أعظم خطورة من الصوم بإجماع الفقهاء وأشد وجوبا وتأكيدا) كما نقلنا آنفا كلام ابن بطال بأن " لنا أن ننظر في علم الحساب ما يكون عيانا أو كالعيان ... ".
3- أن الفقهاء الأوائل واجهوا أيضا مشكلة خطيرة في عصرهم وهي الارتباط الوثيق حينئذ بين العرافة والتنجيم والكهانة والسحر من جهة وبين حساب النجوم. (بمعنى علم الفلك) من جهة أخرى.(2/749)
فيبدو أن كثيرا من حساب النجوم كانوا أيضا يشتغلون بتلك الأمور الباطلة التي نهت عنها الشريعة أشد النهى، فكان للقول باعتماد الحساب في الأهلة مفسدتان:
(الأولى) أنه ظني من باب الحدس والتخمين لا يعقل أن تترك به الرؤية بالعين الباصرة - رغم ما قد يعتريها من عوارض واشتباهات.
(والثانية) وهي الأشد خطورة والأدهى هي انسياق الناس إلى التعويل على أولئك المنجمين والعرافين الذين يحترفون الضحك على عقول الناس بأكاذيبهم وترهاتهم وشعوذتهم.
وهذه المفسدة الثانية هي التفسير لهذا النكير الشديد الذي أطلقه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - على من يلجئون إلى الحساب حساب النجوم في أهلال الأهلة بدلا من الرؤية واعتبارهم من قبيل العرافين والذين يربطون أحداث الأرض وطوالع الناس وحظوظهم بحركات النجوم وسموا من أجل ذلك بالمنجمين وأتى بشاهد على ذلك الحديث النبوي الآنف الذكر وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر)) .
فلا يعقل أن ينهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن علم يبين نظام الكون وقدرة الله تعالى وحكمته وعلمه المحيط في إقامة الكون على نظام دقيق لا يختل ويدخل في قوله تعالى في قرآنه العظيم {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فليس لهذا الحديث النبوي محمل إلا على تلك الشعوذات والأمور الباطلة التي خلط أولئك المنجمون بينها وبين الحساب الفلكي رغم أنه لم يكن قد نضج وبلغ في ذلك والوقت مرتبة العلم والثقة
4- أما اليوم في عصرنا هذا الذي انفصل فيه منذ زمن طويل علم الفلك بمعناه الصحيح، عن التنجيم بمعناه العرفي من الشعوذة والكهانة واستطلاع الحظوظ من زعم حركات النجوم وأصبح علم الفلك قائما على أسس من الرصد بالمراصد الحديثة والحسابات الدقيقة المتيقنة التي تحدد حركات الكواكب بأجزاء من الثانية وأقيمت بناء عيه في الفضاء حول الأرض محطات ثابتة تستقبل مركبات تدور حول الأرض إلخ فهل يمكن أن يشك بعد ذلك بصحته ويقين حساباته، وأن يقاس على ما كان عليه من البساطة والظنية؟(2/750)
ملاحظة مهمة:
نقلنا سابقا أن العلامة ابن حجر - رحمه الله - في فتح الباري عندما بين أن حساب التسيير أي علم النجوم وسيرها لا يعول عليه في الحكم ببدايات الشهور القمرية لأنه ظني قائم على الحدس والتخمين قال بعد ذلك:علق الشارع الحكم بالصوم وغيره بالرؤية" لرفع الحرج عنهم واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك ... بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلا" اهـ.
فنقول: أن رأينا اليوم بجواز اعتماد الحساب الفلكي ليس معناه (تعليق الحكم في الصيام وغيره بهذا الحساب أصلا) بل إننا نقول بأن حكم الشريعة باعتماد الرؤية البصرية باق إلى يوم الدين على أنه هو الأصل ذلك لأن الشرع الإسلامي الأخير الخالد لا يمكن أن يربط حكما شرعيا بأمور تتوقف على علم قد يوجد وقد لا يوجد وقد تفقد قواعده وعلماؤه بعد الوجود فمن يتصور هذا التصور يكون من أجهل الجاهلين بخطة الإسلام ونهجه في بناء الأحكام.
وإنما مرادنا بإمكان اعتماد الحساب الفلكي اليوم هو أنه جائز لا مانع منه شرعا - بعد أن وصل علم الفلك إلى ما وصل إليه من الدقة المدهشة واليقينية - طريقا مقبولا لا يحقق ما تحققه الرؤية، بصورة أيسر وأبعد عن الخطأ مع بقاء الرؤية هي الأصل بمعنى أنه إذا فقد هذا العلم بسبب عام أو في بعض البلاد بقيت الرؤية مستندا في الحكم. فكثيرا ما يمكن في الشرع اللجوء إلى بديل عن أصل مع بقاء ذلك الأصل ومن أمثلة ذلك أن الأصل أن يكون الإنسان ملتزما بنتائج ما بصدر عنه من تصرفات باشرها بنفسه فيما يتعلق بحقوقه والتزماته ولكن تقبل الوكالة بديلا من تصرفه بنفسه للحاجة مع بقاء الأصل وهكذا في كثير من الأحكام الشرعية.
فتصور أن قبول الحساب الفلكي في موضوعنا يستلزم أن يكون ذلك هو الأصل في حكم الصوم والإفطار دون الرؤية خلافا للحديث النبوي هو تصور غير وارد.(2/751)
وثائق مقدمة المجمع
اجتماع أهل الإسلام على عيد واحد كل عام
وبيان أمر الهلال وما يترتب عليه من الأحكام
فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين.
أما بعد: فإن الله سبحانه بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إلى كافة الناس عربهم وعجمهم بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان قد نظم أمور الناس أحسن نظام في عباداتهم وأعيادهم ومعاملاتهم وسائر أمور الحلال والحرام، وساوى في التكليف بهذا الدين بين سائر الناس الخاص منهم والعام، فلم يجعل عبادة أحد منهم مقيدة ولا مرتبطة بأمر الآخر ولا إرادته.
ومن حكمته وشمول رحمته، أن جعل العبادات في الإسلام متعلقة بالظهور والمشاهدة والأمر الجلي الواضح الذي لا خفاء فيه، فوقت صلاة الفجر يعرف بطلوع الفجر وانتشاره، ووقت الظهر يعرف بزوال الشمس، ووقت العصر حين يصير ظل كل شيء مثه بعد فيء الزوال، ووقت المغرب بغروب الشمس، ووقت العشاء بذهاب الشفق الأحمر.
ويعرف وقت صيام رمضان برؤية الهلال باديا للناظرين، فإن لم ير مع الغيم فبإكمال عدة شعبان ثلاثين يوما وكذلك شهر الحج.
يقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، وسبب هذا السؤال على ما رواه أبو نعيم، أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم، قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقا كالخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حالة واحدة فأنزل الله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، فنقلهم سبحانه عن السؤال عن الذات إلى الإخبار بالصفات، كأن الله قال: إنه لا فائدة ولا مصلحة لكم في البحث عن جرم الهلال، وإنما عليكم أن تنظروا إلى الحكم والمصالح المترتبة على الهلال، حيث جعله الله ميقاتا لصيام الناس وحجهم وعدة نسائهم وإيلائهم وحلول ديونهم وبه تعرف أشهر (1) الحج والأشهر الحرم التي حرم الله القتال فيها، سواء كان التحريم باقيا أو منسوخا.
__________
(1) هذا الحديث هو من رواية السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ورواه ابن عساكر، فذكره ورواية الكلبي عن أبي صالح ضعيفة غير انه قد اشتهر هذا السبب لنزول الآية الكريمة إذ السؤال عن الأهلة واقع كما جاء مقرونا بالجواب في نص الكتاب وكون هذا الحديث ضعيفا إنما ضعفه من قبل رجاله وليس كل ما لا يصح سنده يعتبر باطلا في نفس الأمر، والواقع ولا كل ما صح سنده يكون واقعا بالفعل(2/752)
فالتوقيت بالأهلة هي المواقيت المشهورة لجميع الناس منذ خلق الله الدنيا يقول الله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} .
لأن التوقيت بالأهلة يسهل على جميع الناس معرفتها، العالم بالحساب والجاهل به والبدوي والحضري والكاتب والأمي، لكون الهلال أمرا مشهورا مشهودا به مرئيا بالأبصار وأجلى الحقائق ما شوهد بالعيان، إذ ليس المخبر كالمعاين، ولهذا سمي "هلالا" لاستهلال الأصوات برؤيته، كما سمي شهرا لشهرته إذ الرؤية للهلال، واشتهاره بمثابة الفجر وانتشاره، وقصد الشارع الحكيم من هذا كله هو شهرة العلم بدخوله وخروجه، إذ هو بمثابة الصوى والمنارالذي يعرف به، حيث قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) . وقال: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه)) لقصد التعبد بالوظائف الواجبة فيه حتى لا يزاد فيها ولا ينقص منها، بخلاف الشهور الشمسية، فإنه لا يعرفها إلا الحاسب أو الكاتب ويجهلها أكثر الأميين من الحضر وكل البوادي ولا يترتب عليها شيء من التعبدات أبدا.
لهذا لا يجوز الاعتماد في الصوم والفطر على الحساب، كحساب الجداول وغيرها، لكون الحساب مبينا على الظن والتخمين لا على العلم واليقين، فهم في إجراء عملية الحساب يجعلون شهرا كاملا وشهرا ناقصا إلى نهاية السنة، ومن المعلوم أن تمام الشهر ثلاثين قد يتوالى في شهرين وثلاثة والنقص في الشهر وكونه تسعا وعشرين قد يتوالى في شهرين وثلاثة فينتقض بذلك نظام حسابهم، كما نرى وقوع الخطأ في التقاويم، حيث يقول بعضهم: أن اول الشهر يوم كذا، وبعضهم يقول يوم كذا (1) .
__________
(1) لقد سمعنا من بعض المتفرنجين بتفضيل الشهور الشمسية التي عليها مدار حساب النصارى على الشهور القمرية، بحجة أن الشهور الشمسية لا تتغير شتاء ولا صيفا، وهذا ليس بمتقض للتفضيل وقد سبق الإسلام إلى كل عمل جليل وفعل جميل وهذا التفضيل يجعل الشهور لا يتغير شتاء ولا صيفا، قد استعمله أهل الإسلام باسم البروج على عداد شهور السنة أي اثنا عشر برجا لا تتغير شتاء ولا صيفا، وهي برج (الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدى والدلو والحوت) ، فكل برج بعدد الأشهر ولا يتغير عن وقته وما من فضيلة إلا وقد أدلى الإسلام فيها بالسهم الأوفى وكل الصيد ففي جوف الفرا(2/753)
إن أعظم مقاصد القرآن الكريم والشرع الحكيم في التوقيت بالأهلة هو اتفاق الأمة في عباداتهم من صيامهم وحجهم وأعيادهم ما أمكن الاتفاق، إذ هذا من السهل الميسر، متى سلكوا مسالكه وأخذوا بعزائمه.
فلو جرى المسلمون على نصوص الكتاب والسنة في إثبات الأهلة بطريق اليقين من الرؤية بأن يراه عدد من العدول المعروفين بالأمانة والصدق فيصومون برؤيتم ويفطرون برؤيتهم على يقين من امر دينهم لكان أفضل في حقهم من هذا الاختلاف الواقع بينهم في صومهم وأعيادهم لأنهم في هذا الزمان اخذوا يتساهلون في تصحيح الشهادة وتمحيص العدالة على خاصة الأهلة، وصار كل شاهد بالهلال فمقبول الشهادة بدون أن يعرفوا ثقته وعدالته ونجم عن هذا التساهل أن صاروا يشهدون به في وقت مستحلية رؤيته فيه ويشهدون به الليلة ثم لا يراه الناس الليلة الثانية من كل ما يحقق بطلان شهادتهم، فدخل على الناس بسبب هذا التساهل شيء من الخطأ في هذه العبادة فصاروا يصومون شيئا من شعبان ويفطرون شيئا من رمضان.
وبسببه وقع الاختلاف بين أهل الإسلام في صومهم وعيدهم، لأنه متى كان بعض أهل الإسلام يعتمدون في صومهم وعيدهم على الرؤية المحققة التي يشهد بها عدد من العدول الذين لا يمكن تواطؤهم على الكذب فيصومون برؤيتهم ويفطرون برؤيتهم، وهؤلاء هم أسعد الناس بالصواب في هذه القضية.(2/754)
وبعضهم يعتمدون في صومهم وفطرهم على أي خبر يأتيهم من أي بلد عن طريق الإذاعة فيقبلونه على علاته ويعملون به في صومهم وفطرهم، فإن هذا بلا شك من لوازمه الافتراق وعدم الاتفاق، كما يشهد به الواقع المحسوس.
فلو عملوا عملهم في التوثيق في الشهادة فلم يدخلوا في صوم رمضان ولم يخرجوا منه إلا باليقين الثابت من الرؤية الصادقة التي يشهد بها عدد من الثقات العدول، كما نص على ذلك جمهور فقهاء المسلمين، لحصل حينئذ الاتفاق، وزال عن الناس هذا الافتراق، إذ الرؤية المحققة الصحيحة تجمع أهل الإسلام من شتي البلدان فيراه أهل الشام ومصر والعراق والمغرب كما يراه أهل نجد والحجاز واليمن وكما يراه أهل فارس وباكستان والهند.
وما ذكره الفقهاء من اختلاف المطالع بين هذه البلدان، فإنما قالوه بمحض الاجتهاد يؤجرون عليه، لكنه بمقتضى المشاهدة والتجربة يترجح عدم صحته وأن التفاوت في مطلعه بين هذه البلدان منتف، فيراه أهل الشام والعراق ومصر كما يراه أهل نجد والحجاز واليمن، لا يتغير عن مطلعه ولا يختلف عن حالته لان الله سبحانه وتعالى نصب الهلال ميقاتا لجميع الناس عربهم وعجمهم، يعرفون به، وقت صومهم وحجهم {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، وما كان كذلك، فإنه لا يتغير بحال ولو جربوا لعرفوا صحة ذلك.
والحكمة في ذلك ظاهرة، وهى أن تكون طريقة إثبات العبادة واحدة وما ثبت من الأحكام على رؤية الهلال، فإنه لا يتغير بحال ولا يختلف في محل دون محل، وإنما يقع الاختلاف بين الناس لاختلاف الرائي، وعدم توثقه في رؤيته لا المرئي فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون)) هو خطاب لجميع الناس في كل بلد، لكون الهلال إذا ظهر في بلد ورأوه رؤية صحيحة، فإنه غالبا يظهر كذلك في كل بلد، إذا لم يحل دون منظره غميم أو قتر.
وإذا لم يظهر الهلال وإنما قيل بانه رؤي في بلد كذا فإن هذا خبر يصدقه اليقين أو يكذبه، وما آفة الأخبار إلا رواتها، والله اعلم.(2/755)
الحكم في إثبات رمضان دخولا وخروجا
من الفقهاء من قال: يجب صوم رمضان برؤية عدل ثقة وثبات الفطر بشهادة عدلين، كما هو الظاهر من مذهب الحنابلة، وعندهم انه متى ثبت الهلال في بلد لزم جميع الناس الصوم وهي من مفردات المذهب.
ومنهم من قال يجب الصوم بشهادة عدلين والفطر بشهادة عدلين ايضا، كما هو الظاهر من مذهب مالك والشافعي، واستدلوا لذلك بحديث ابن عمر، قال: ((تراءى الناس الهلال على عهد رسول الله، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه)) . رواه أبو داود وصححه الحاكم وابن حبان.
وعن ابن عباس أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال، فقال: ((أتشهد أن لا اله إلا الله)) قال: نعم، قال: ((أتشهد أن محمدا رسول الله؟)) قال: نعم، قال: ((فاذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا)) رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان ورجح النسائي وقفه.
أما الإمام أبو حنيفة، فإنه يشترط في حالة الصحو الاستفاضة بأن يراه عدد من العدول لا يمكن تواطؤهم على الكذب، ويقول: إنه لا يمكن أن ينظر جميع الناس إلى مطلع الهلال وابصارهم متساوية والموانع منتفية، ثم يراه واحد واثنان دون الباقين. أما في حالة الغيم فيقبل عنده شاهد واحد ... انتهى. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وإنما فرق من فرق من الفقهاء بين هلال الصوم والفطر لقصد سد الذريعة بأن لا يدعي الفساق انهم رأو الهلال لتعجلوا بذلك الفطر وهم بعد لم يروه.
والكلام هنا يرجع إلى حقيقة الإثبات وعدمه، إذ ما كل ما قيل إنه رؤي في بلد كذا أن يكون صحيحا ثابتا ولا كون مدعى الرؤية عدلا صادقا.
فقد ذكر الفقهاء لصحة الشهادة على الهلال كونه يشهد به عدلان ثقتان، ثم هم يفسرون العلة المطلوبة لصحة الشهادة بأنها التزام فرائض الصلوات الخمس بسننها الراتبة واجتناب المحارم، بأن لا يأتي كبيرة ولا يدمن على صغيرة، والثانية استعمال المروءة وهي فعل ما يجمله ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه، فهذه الشروط أن لم تدرك كلها فلن تترك كلها..(2/756)
وقد ثبت بالتجربة والاختبار كثرة كذب المدعين لرؤية الهلال في هذا الزمان، وكون الناس يرون الشهر قويا مضيئا صباحا من جهة الشرق، ثم يشهد به احدهم مساء من جهة الغرب وهو مستحيل قطعا، ويشهدون برؤيته الليلة ثم لا يراه الناس الليلة الثانية من كل ما يؤكد بطلان شهادتهم، فالاستمرار على هذا الخطأ المتكرر الناشئ عن الشهادة المزيفة لا يجيزه النص ولا القياس، ومتى رؤي الهلال رؤية صحيحة في بلد، فإنه يرى غالبا في اكثر البلدان، فتقارب بذلك الاتفاق بين جميع المسلمين في الصوم والعيد.
فلو أن فقهاءنا المتقدمين القائلين بثبات دخول الشهر بشهادة الواحد وخروجه باثتين، وكونه إذا ثبت في بلد لزم جميع الناس الصوم، فلو أنهم عاشوا إلى عصرنا اليوم وشاهدوا ما وقع الناس فيه من الأخطاء التي تنشأ عن شهادة الواحد والاثنين، لتبدل رأيهم في فنون التوثق والإثبات والاحتراس من الناس، لأن حالة الناس اليوم غير حالتهم في السنين السابقة، فيما يتعلق بشأن الأهلة وطريق إثباتها والشهادة فيها تعميم العمل بها.(2/757)
فقد كانت البلدان المتجاورة في قديم الزمان بمثابة المتباعدة، بحيث تكون القرية عن القرية الأخرى قدر مائة كيلو أو أقل أو اكثر، فثبت رؤية الهلال في إحدى القريتين ولا تعلم الثانية بثباته فيها لصعوبة الاتصالات بينهما إلا عن طريق البعير والحمار، فيحكم قاضى تلك البلدة بصحة رؤية الهلال بشاهدين عدلين، ويأمر بالعمل بذلك من الصوم أو الفطر، فتصوم هذه القرية والبلدة الأخرى المجاورة لها مفطرون، حيث لم يروا الهلال ولم يبلغهم خبر رؤيته.
وكلا القريتين على حق لا الصائمون ولا المفطرون، لأن هذا هو غاية جهدهم واجتهادهم، سواء أصابوا أو أخطأوا، لأن كل مجتهد في مثل هذا هو غاية جهدهم واجتهادهم، سواء أصابوا أو أخطأوا، لأن كل مجتهد في مثل هذا يعتبر مصيبا في حصول الأجر وحط الوزر، إذ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} .
ما عدا قضاء ذلك اليوم الذي سبقت به إحدى القريتين، فإنه من اللازم بالاتفاق وفي الغالب انه متى ثبتت رؤيته في مثل هذه البلاد رؤية صحيحة، فإنه يرى غالبا في أكثر البلدان فينتشر أمره ويشتهر خبره، وهذا هو حقيقة الحكمة في خلقه، حيث جعله الله ميقاتا للناس والحج.
ولو قدر خطأ هذه الرؤية، فإنه هذا الخطأ لا يتعدى مكان البلد المشهود فيها وما حولها فلا يتعدى إلى البلدان الأخرى.
أما الآن وفي هذا الزمان، فإنه بمقتضى اختراع الآلات الناقلة للذوات والمقربة للأصوات من برقيات وإذاعات وتليفونات وتلفزيونات، فقد صارت الدنيا كلها كمدينة واحدة وكأن عواصمها على بعدها غرف متجاورة يتخاطبون بينهم شفاهيا من بعيد كتخاطبهم من قريب فيسرى خبر الرؤية في مشارق الأرض ومغاربها في ساعة واحدة، سواء كان الخبر صحيحا أو غير صحيح، فيعم الناس الخطأ كما يعمهم الصواب.(2/758)
فمتي كان الأمر بهذه الصفة، فإن من الحزم وفعل أولى العزم أن يحسب لهذا الأمر الحساب ويستخدم له سائر الوسائل والأسباب من كل ما يقتضي التوثق والثبات بشهادة المعروفين بالعدالة والثقة والرؤية الثابتة المحققة في دخول الشهر وخروجه حتى يكون الناس آمنين على إكمال صومهم فرحين بعيد فطرهم فلأن نخطئ في التوثق والاستحياط أولى من أن نخطئ في التساهل والاستعجال، وهذا هو حقيقة ما ندعو إليه وننصح به، والله عند لسان كل قائل وقلبه.
وأما حديث ابن عمر في شهادته على الهلال، وكذا حديث الأعرابي الصحابي، فقد وقعت الشهادتان على دخول رمضان ولعلها في قضية واحدة في سنة واحدة أو في سنين متفرقة.
وعلى كلا الأمرين فليس في الحديثين ما يدل على انه لم ير الهلال أحد غيرهما، لا من أهل المدينة ولا من حولها من الأعراب، إذ عدم العلم بالشيء ليس علما بالعدم، ومن المحتمل أن يكون شاركهما غيرهما في رؤيته، وإن لم يذكر في الحديث اكتفاء بصدور الأمر من رسول الله في ثباته.
ثم إنه لا تقاس شهادة ابن عمر وهذا الاعرابي الصحابي على شهادة غيرهما من أهل هذا الزمان، ممن لا تعرف عدالتهم ولا تفثهم، إذ من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عرف تقوى هذين الشاهدين وثقتهما، فأمضى شهادتهما، إذ القصد الخبر اليقين بالرؤية، وقد وقف رسول الله على حقيقة ذلك (1) .
__________
(1) إذ لا يشترط لصحة الدخول في صوم رمضان حكم القاضي بذلك بل لو أخبره ثقة عدل رأى هلال رمضان فصدقه وجب عليه أن يصوم، وكذا لو رأي بنفسه الهلال فردت شهادته أو لم يشهد به بخلاف ما لو رأي بنفسه هلال شوال فلم تقبل شهادته أو لم يشهد به، فإنه يجب عليه أن يصوم مع الناس ولا يفطر إلا معهم(2/759)
ثم أن ابن عباس راوى حديث الأعرابي لم يقبل قول كريب وحده في رؤية دخول رمضان وقد أخبره أن معاوية صام وصام الناس معه حتى قال: أما نحن فنصوم حتى نراه أو نكمل العدة ثلاثين يوما، كما أمر رسول الله بذلك.
ثم أن الإثبات يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بن ثابت بشهادة رجلين عدلين لما يعلمه من صدقه وثقته وأمانته، ومن ذلك انه يشهد الرجل الثقة العدل على الشيء ويشهد بضده عشرة رجال ممن لا تعلم عدالتهم ولا ثقتهم فيمضى القاضى شهادة الواحد العدل ويرد شهادة العشرة لكون الكمية لا تغني عن الكيفية شيئا فإن قيل: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وجوب العمل في الصوم والفطر بشهادة الشاهدين، كما روى أبو داود في سننه عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، انه خطب الناس في اليوم الذي شك فيه، فقال: إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم كلهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا)) ، فهذا حديث ثابت، يحمل على المراد منه والمقصود به، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم إذا شهد شاهدان أن يصوموا ويفطروا، لأنه لن يشهد شاهدان عدلان برؤيته الثابتة في بلد كالمدينة إلا وقد رآه الكثير من الناس في سائر الآفاق، لاعتبار أن كل بلد تراه كذلك أو أكثر البلدان، إذ القصد من الشهود على الرؤية هو إثبات اليقين والحقيقة وهي تحصل بشهادة العدلين، وقد أمضى النبي صلى الله عليه وسلم شهادة ابن عمر وشهادة الأعرابي الصحابي، لما وقف على حقيقة صدقهما، غير انه لم يكن مراد النبي صلى الله عليه وسلم انه متى شهد شاهدان مجهولان على رؤية الهلال وجميع الناس لم يروه انه يجب إمضاؤه وتكليف الناس بالعمل بشهادتهما على قرب الديار وبعدها، فهذا لم يكن مرادا منه أبدا، والشهادة أمانة.(2/760)
وأول ما يفقد الناس من دينهم الأمانة وآخر ما يفقدون من دينهم الصلاة ومعلوم فقدان أكثر الناس في هذا الزمان لعمود دينهم وأمانة ربهم، فضلا عن فقدان أماناتهم واستخفافهم بشهاداتهم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر قبل وقوعه، كما في الصحيحين عن عمران بن حصين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، لا أدري أذكر مرتين أو ثلاثا، ثم يجئ قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن)) .
ففي هذا الحديث الإشارة إلى استخفاف الناس في آخر الزمان بالشهادة، وأنهم يشهدون بما لم يشاهدون وبما لم يحيطوا بعمله.
وقد روي من حديث ابن عباس، أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهد عنده، فقال له: ترى الشمس؟ قال: نعم، قال: مثلها فاشهد أو دع (1) .
فالعدالة التي يشترطها الفقهاء لصحة الشهادة على الهلال وغيره قد صارت مفقودة في هؤلاء الأفراد، الذين يشذ أحدهم بشهادته على الهلال من بين مجموع سائر الناس، بحيث يدعي أحدهم رؤيته الليلة ثم لا يراه جميع الناس الليلة الثانية، ويدعي رؤيته في وقت هي مستحيلة فيه بمتقضى الدليل العقلي على عدم إمكانها، كأن يراه الناس نيرا مضيئا صباحا فيما بين الفجر وطلوع الشمس ثم يدعي أحدهم رؤيته مساء من ذلك اليوم، وهذا لا يتفق ابدا والدعوى برؤية الهلال معه تعتبر كاذبة كما سيأتي بيانه.
__________
(1) هذا الحديث ساقه ابن حجر في بلوغ المرام من رواية ابن عدي، قال وصححه الحاكم فأخطأ(2/761)
ومما يؤكد هذه الغرابة وبطلان هذه الشهادة، كون البوادي الذين يسكنون في الصحراء البعيدة عن غبار المدن ودخانها وارتفاع بنيانها وقد منحوا من قوة الإبصار نتيجة صحة الأجسام، فكان أحدهم يرى ويعرف سمة الإبل قبل أن يرى اكثر الحضر أجسامها ويحرصون أشد الحرص على التطلع إلى الهلال وقت التحري له ولا يرونه، بينما يدعي أحد هؤلاء رؤيته وهي غير صحيحة في ظاهر الأمر.
فلا عبرة بمثل شهادة هؤلاء، مع قيام الدليل العقلي على بطلانها، لأن من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها.
ثم أن رؤية الهلال يقع فيها الوهم والاشتباه دائما حتى من بعض العدول الثقات، بحيث يخيل للشخص انه رأى الهلال ولم يكن هلالا {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} .
من ذلك أن جماعة كانوا يتراءون هلال رمضان وفيهم أنس بن مالك، خادم رسول الله – رضي الله عنه – وكان قد قارب مائة سنة، وفيهم إياس بن معاوية، المعروف بالفراسة، فبينما هم ينظرون إليه إذ قال انس بن مالك: أنا رأيت الهلال هو ذاك، وأخذ يشير بإصبعه إليه ولا يراه الناس، فقام إياس بن معاوية فمسح شعر عيني أنس، ثم قال: أنظر يا أبا حمزة، هل ترى شيئا؟ فنظر ثم قال: الآن لا أرى شيئا، فعرفوا انها شعرة اعترضت لعينه فحسبها هلالا (1) .
اجتمع عدد من الرؤساء العقلاء في مكان عال من الصحراء يتراءون الهلال قالوا: فنظرنا إلى قطعة سحاب من شكل الهلال وفي مطلع الهلال فجعلنا نكبر ويريه بعضنا بعضا، لا نشك إلا انه الهلال، فينما نحن كذلك نحقق فيه النظر، إذ رأيناه يتمزق وبعد قليل اضمحل وزال فعرفنا أنها قطعة سحاب، والله أن العجول من الناس ليشهدوا أنه رأى الهلال، ومثل هذا يقع كثيرا بين الناس، ولهذا امر الله بالتثبت في خبر الفاسق.
__________
(1) ذكر هذه القصة ابن خلكان في تاريخه في ترجمة إياس – ص226 الجزء الأول(2/762)
ثم أن الخبر برؤية الهلال هو بمثابة الخبر عن رسول الله، انه فعل وقال: إذ لكل خبر ديني مما يتعلق بالأحكام والحج والصيام وأمور الحلال والحرام.
ولما رأى العلماء كثرة الكذب على رسول الله، انه فعل وقال، اخترعوا فن الجرح والتعديل ليميزوا به بين الصادق الأمين والكاذب المهين، فكانوا يقولون: فلان كذاب وفلان مدلس وفلان كثير الوهم وفلان غير ثبت وفلان ينفرد بالمناكير وفلان يشذ بحديثه عن الثقات، ونحو ذلك من المميزات التي تقتضى التحذير عن الاغترار بخبرهم أو تصديقهم في شهادتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة لله ولدينه وعباده المؤمنين.
وكان أول من اعتني بالتحفظ على الشهادة والعقاب على ما دخل فيها من النقص والزيادة، هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في قصة مشهورة حاصلها ما رواه البخاري في صحيحه، أن ابا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع وكان عمر مشغولا، فلما أفاق من شغله قال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ يعني ابا موسى الأشعري، قالوا: بلى، قال: ائذنوا له، فطلبوه فلم يجدوه فأرسل في اثره من يرده إليه، ثم قال له: ما حملك على أن ترجع، قال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا استأذن أحدكم على أخيه ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع)) ، فقال عمر: إني لم أسمع ذلك أبدا، والله لتأتين بشاهد يشهد يشهد لك بذلك، أو لأوجعن ظهرك.فانطلق أبو موسى مذعورا حتى وقف على ملأ من الأنصار فقال: أنشدكم بالله، هل أحد منكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا استأذن أحدكم على أخيه ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع)) ، قالوا: اللهم نعم، فقال: ليشهد معي أحدكم عند عمر، فقالوا: يشهد معك أصغرنا، قم يا أبا سعيد الخدري فاشهد معه، فجاء أبو سعيد فشهد عند عمر فقال: صدقت، أشغلني عنها الصفق بالأسواق.
فهذا من فنون سياسته في رعيته وتثبته في الشهادة بما لا يثق بصحته حتى لا يدخل الخلل على الدين بالنقص والزيادة من طريق الشهادة المزورة، وإنما سميت الشهادة الكاذبة بشهادة الزور لازورارها عن طريق الحق والعدل.
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((عدلت شهادة الزور الإشراك بالله، ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} )) رواه الإمام احمد من حديث خريم بن فاتك الأسدى.(2/763)
من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها
إن الله سبحانه، يقول: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} ، كما قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فأمر بإقامة الشهادة لله كما أمر بإقامة الصلاة لله، وإقامة الشهادة هي أن تأتي بها مقومة معدلة غير مائلة ولا مزيفة، بل تشهد على حقيقة ما رأيت وسمعت بثبت وإتقان من غير زيادة ولا نقصان، كما في الحديث على مثل الشمس فاشهد أو دع) .
والشهادة على الهلال هو مما يكثر الاشتباه فيها دائما، بحيث يخيل للشخص انه رأى شيئا ولم يكن شيئا، كما علم بالقطع كثرة وقوع ذلك.
فإذا انحصرت الشهادة على رؤية الهلال في واحد أو اثنين من بين مجموع الناس، فإنها شهادة ظنية ليست يقينية، تشبه الخبر الذي يحتمل الصدق والكذب فهي لا تفيد اليقين قطعا، سيما إذا كان هذا الشاهد أو الشاهدان ممن لا تعرف ثقتهما ولا عدالتهما إذ ليس الخبر كاليقين، ولم يقل احد من أئمة المذاهب الأربعة ولا فقهائهم إنه يجب تصديق خبر مدعي الرؤية وإن لم تعلم عدالته، سيما في هذا الزمان، الذي ضعفت فيه الأمانة وفاض فيه الغدر والخيانة وحاول الكثير من المنافقين بأن يتلاعبوا بالدين {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} والمناقون في هذا الزمان هم شر من المنافقين الذين نزل فيها القرآن {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} فكان أحدهم يشهد برؤية الهلال في وقت مستحيلة رؤيته فيه، وهذا مما يؤكد بطلان شهادتهم ووقع التساهل في الحكم بها، كما شهدوا في زمان فات برؤية هلال شوال وأمر الناس بالفطر فأفطروا، وعند خروجهم إلى مصلى العيد لصلاة العيد انخسفت الشمس والناس في مصلى العيد، ومن المعلوم أن الشمس لا يخسف بها في سنة الله إلا في اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين، أي ليالي الإسرار، كما أن القمر لا ينكسف إلا في ليالي الأبدار، أي ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، كما حقق ذلك أهل المعرفة بالحساب وعلماء الفك وحققه شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع عديدة وأبطل ما يعارضه.(2/764)
فالاستمرار على هذا الخطأ الناشئ عن الشهادات المزورة لا يجيزه النص ولا القياس، ولن نعذرعند الله وعند خلقه بالسكوت عنه.
ثم أن الناس في هذا الزمان أخذوا يتساهلون في تصحيح الشهادة وتمحيص العدالة، وصار كل واحد مقبول الشهادة على خاصة الهلال، وبناء على هذا التسامح أخذ بعض الناس يتسابقون إلى ادعاء رؤية الهلال بدون تثبثت ولا يقين فدخل الخطأ على الناس في هذه العبادة فصاروا يصومون شيئا من شعبان ويفطرون شيئا من رمضان، بناء على شهادة من لا يعرفون عدالته ولا ثقته.
من ذلك، أنه جاء الخبر من إحدى البلدان برؤية هلال شوال من هذه السنة ليلة الجمعة، وأن يوم الجمعة هو العيد فضجت الأصوات من الإذاعات يأمرون الناس بالفطر يوم الجمعة، لاعتبار انه العيد، فأفطر الناس وفي الليلة الثانية التي هي ليلة السبت، اجتهد الناس لرؤيته فلم يروه قطعا، وفي الليلة الثالثة التي هي ليلة الأحد رآه أفراد من الناس الحادة أبصارهم رأوه ضعيفا، وقد سبره عدد من العقلاء الرؤساء حتى غاب في خمس وعشرين دقيقة، وبعضهم قال: في ثلاثين دقيقة، وهي الليلة الثالثة على حسب هذه الشهادة، وكان الصحابة يصلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء غيبوبة القمر ليلة الثالثة، كما في سنن أبي داود عن النعمان بن بشير، انه قال: "أنا أعلم الناس بوقت صلاة العشاء الآخرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها سقوط القمر لثالثه.
لهذا اضطرب الناس من هذه الشهادة، وعرفوا تمام المعرفة أن يوم الجمعة من رمضان وكذا يوم السبت على الراجح، وأخذوا يسألون عن قضاء هذا اليوم أو اليومين، هل يجب أو يستحب أو لا يجب ولا يستحب.(2/765)
وهذه المسألة ترجع إلى قضية من أفطر في نهار رمضان، يظن أن الشمس قد غربت ثم تبين أنها لم تغرب، وقد وقعت هذه القضية على الصحابة – رضي الله عنهم – كما روى البخاري في صحيحه، قال: حدثنى عبد الله بن شيبة، حدثنا أبو اسامة عن هشام بن عروة عن فاطمة عن اسماء بنت أبي بكر قالت: "أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غميم ثم طلعت الشمس، قيل لهشام: أفأمروا بالقضاء، قال: بد من قضاء، وقال معمر: سمعت هشاما قال: لا أدرى أقضوا أم لا". قال في فتح الباري: (اختلف عن عمر في ذلك فروى عنه ترك القضاء قائلا: لم نقض إنما لم نتجانف الإثم) وروى مالك عنه انه قال: الخطب يسير وقد اجتهدنا.
وروى عبد الرزاق، عنه انه قال: نقض يوما، وروى سعيد بن منصور عنه: وفيه من أفطر منكم فليصم يوما مكانه، قال: وجاء ترك القضاء عن مجاهد والحسن، وبه قال إسحاق وأحمد في رواية واختاره ابن خزيمة، انتهى.
وظاهر المذهب وجوب القضاء لكون الأصل بقاء النهار. وحكي في الافصاح اتفاق الأئمة على وجوب القضاء.
ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عدم القضاء لدخوله في عموم قوله: عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان، وكما لو أكل ظانا أن الفجر لم يطلع فتبين انه طالع فلا قضاء عليه في ظاهر المذهب.
وقد نص الفقهاء على انه لو وقف الناس بعرفة اليوم الثامن خطأ، فإن حجهم صحيح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحج يوم يحج الناس وهذا يوم حج الناس)) ، على حسب اجتهادهم، كما لو اجتهد إنسان فصلى ثم تبين انه صلى إلى غير جهة القبلة، فإن صلاته صحيحة ولا يعيدها، لكون المكلفين إنما خوطبوا بالظاهر الذي يسعهم العلم به، فإذا اجتهدوا فأخطأوا فلا حرج عليهم، أشبه بالقاضى إذا اجتهد وأخطأ فله أجر.(2/766)
موانع الرؤية للهلال بمقتضى سنة الله الجارية في خلقه
إن الهلال من آيات الله في استهلاله وفي إبداره وفي استسراره، وقد جعل الله له علامات يعرف بها إمكان رؤيته وعلامات يعرف بها تعذر رؤيته، كما جعله تارة ثلاثين وتارة تسعا وعشرين، وقد قال بعض الصحابة: لما صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر ما صمنا ثلاثين، والرؤية الصادقة الصحيحة تصدق ذلك أو تكذبه، فهي أصح العلامات للعمل به، لحديث: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) ، وقال: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) .
ومتى رؤي الهلال ابتدأ حكم به لأول ليلة، سواء كان صغيرا أو كبيرا وسواء كانت منزلته مرتفعة أو منخفضة، لأن الجلي الحقائق ما شوهد بالعيان.
أما العلامات التي يعرف بها امتناع رؤيته وعدم صحة الشهادة به، فمن أهمها كونه يرى صباحا فيما بين الفجر وطلوع الشمس من جهة الشرق، ثم يدعي بعضهم رؤيته مساء من ذلك اليوم من جهة الغرب، فإن هذا من الممتنع المستحيل قطعا، بمقتضى الحس والتجربة، والعادة الجارية في سنة الله حتى ولو كان أقوى نظرا من زرقاء اليمامة، فلا تتفق رؤيته صباحا ثم رؤيته مساء من ذلك اليوم، فمن ادعاه فإنما خيل له ولم يره، فالشهادة بذلك تعتبر كاذبة، لأن من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها.(2/767)
وقد أجرى الله العادة في خلق القمر أنه يظهر لأبصار الناس في ثمانية وعشرين يوما من الشهر لحلوله في ثمانية وعشرين منزلا، ثم يختفي عن أبصار الناس يومين أن كان تاما ثلاثين أو يوما واحدا أن كان ناقصا، أي تسعة وعشرين.
فهذا الاختفاء والاستسرار في اليومين أو اليوم لا بد منه كما هو متفق عليه عند أهل العلم وأهل الحساب والجداول والمفسرين وعلماء اللغة وبعضهم قال بجواز اختفائه ثلاثة أيام.
ويمسى هذا الاختفاء للهلال: السرار والاستسرار واجتماع النيرين والمحاق وغير ذلك من التسمية الجارية على ألسنة العرب، فمتى رأوه صباحا طالعا نيرا، عرفوا تمام المعرفة انه لن يهل مساء من ذلك اليوم أبدا، بمقتضى العادة التي أجراها الله فيه.
وما يدعيه بعض أهل العلم من إخواننا في زماننا من القول بجوازه وعدم امتناعه كما سمعنا من بعضهم ويجادلون في إثباته فهو قول لم يستند إلى إثبات لا بطريقة المشاهدة ولا التجربة، ويترجح أن هذا القول إنما خرج منهم مخرج الظن والتخمين بدون علم ولا يقين وبدون مشاهدة ولا تجربة، وذلك لا يغني عن الحق شيئا.
وكأنهم في نظرهم ومناظرتهم بنوا أمرهم على الشهادة المزيفة برؤية الهلال حيث يراه الناس صباحا، ثم يشهد بعضهم برؤيته مسا، فبنوا أمرهم ورأيهم على هذه الشهادة الكاذبة وجعلوها لهم بمثابة القاعدة وهي بلا شك من باب قياس الفاسد على الفاسد، وسنورد من الأدلة ما يوضح امتناع ذلك وعدم إمكانه بمقتضى سنة الله في خلقه.(2/768)
قال البغوي في تفسيره على قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} من سورة يونس.
قال: أن منازل القمر ثمانية وعشرون منزلا وأسماءها: السرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرفة والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك الأعزل والغفر والزبانا والإكليل والقلب والشولة والنعايم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرغ المقدم والفرغ المؤخر والرشاء.
قال: فينزل القمر كل ليلة منزلا منها ويستتر ليلتين أن كان الشهر ثلاثين أو ليلة واحدة أن كان تسعا وعشرين.
وقال القرطبي في تفسيره على الآية وعلى قوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} .
قال: أن الله سبحانه قدر للقمر منازل وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل القمر منها كل ليلة بمنزلة ويومان للنقصان والمحاق، ثم ساق عدد النجوم الثمانية والعشرين ينزل في كل ليلة منها ثم يستتر.
وقال ابن كثير في سورة نوح:
قدر الله للقمر منازل وبروجا وفات نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستتر ليدل على مضى الشهر.(2/769)
وقال الخطيب الشربيني، في تفسيره: أنوار التنزيل، قال: أن منازل القمر ثمانية وعشرون وأسماءها: السرطان والبطين.. الخ.
قال: وهذه المنازل مقسومة على البروج هي اثنا عشر برجا لكل برج منزلان وثلث، فينزل القمر منها كل ليلة منزلا ثم يستتر ليلتين أن كان ثلاثين أو ليلة واحدة إن كان تسعا وعشرين.
وقال في تفسير المنار على الآية المذكورة:
قال: أن الله قدر للقمر في سيره في فلكه منازل ينزل كل ليلة في منزل منها لا يخطئه ولا يتخطاه وهي ثمانية وعشرون معروفة تسميها العرب بأسماء النجوم المحاذية لها وهي ثمانية وعشرون: السرطان والبطين وذكر بقية النجوم، ثم قال: فهذه المنازل الثمانية والعشرون هي التي يرى فيها القمر بالأبصار، ثم يبقى ليلتان أن كان الشهر ثلاثين أو ليلة واحدة أن كان تسعا وعشرين يحتجب فيها عن الأبصار فلا يرى أبدا.
وقال شيخ الإسلام – ابن تيمية – رحمه الله:
قال: أن القمر يجرى في منازله الثمانية والعشرين كما قدره الله منازل، ثم يقرب من الشمس فيستتر ليلة أو ليلتين لمحاذاته لها، فإذا خرج من تحتها جعل الله فيه النور، ثم يزداد نوره كلما بعد عنها إلى أن يقابلها ليلة الإبدار، ثم ينقص كلما قرب منها إلى أن يجامعها، ولهذا يقولون الاجتماع، وأهل الحساب يسمونه اجتماع القرصين الذي هو وقت الاستسرار، كما يعرف بذلك وقت الكسوف والخسوف، فإن الشمس لا تكسف في سنة الله إلا عند الاستسرار إذا وقع القمر بينها وبين ابصار الناس على محاذاة مضبوطة، كما أن القمر لا يخسف إلا في ليالي الإبدار لتحول الأرض بينه وبين الشمس، فمعرفة الكسوف والخسوف تدرك بالحساب الصحيح.
قال: وأهل الحساب يرون بأنهم يعرفون طلوع الهلال بأنه عند غروب الشمس يكون قد فارقها بعشر درجات أو أقل أو اكثر أما كونه يرى أو لا يرى فهو امر حسي طبيعي يحققه وجوده ليس حسابيا، والأمر الشرعي في الصوم والفطر إنما يترتب على الرؤية المحققة لا على الحساب، انتهى (1) .
وقال الراغب الأصبهاني في غريب القرآن، قال: والسرار هو اليوم الذي يستسر فيه القمر آخر الشهر وقال في نهاية ابن الاثير، قال الأزهري: يقال سرار الشهر وسرره وهو آخر ليلة استسر فيها الهلال بنور الشمس، وقال في مختار الصحاح: استسر القمر أي خفي ليلة السرار وربما كان ليلة وربما كان ليلتين.
وقال في لسان العرب: استسر القمر إذا خفى ليلة السرار، وربما كان ليلة وربما كان ليلتين، قال الشاعر:
نحن صبحنا عامرا في دارها عشية الهلال أو سرارها
قال: وحكى عن الكسائي وغيره، انه قال: السرار آخر الشهر ليلة يستسر الهلال.
وقال أبو عبيدة: ربما استسر ليلة وربما استسر ليلتين.. انتهى. وبهذا يتبين أن استسرار القمر آخر الشهر ليلة أو ليلتين انه من الأمر الثابت شبه المجمع عليه عند المحققين من سائر العلماء، وقد أجرى الله العادة به واستقر في نفوس الناس معرفته فمتى رآه الناس صباحا عرفوا تمام المعرفة انه لن يهل مساء أبدا ولا تنخرم هذه العادة التي هي بمثابة القاعدة، بدعوى الرؤية الكاذبة، وما كل ما يقال انه رؤي في بلد كذا أن يكون صحيحا واقعا لوقوع الفرق شرعا وعرفا بين الخبر واليقين، والله أعلم.
__________
(1) من رسالة "بيان الهدى من الغلال في شأن الهلال" – ص:33(2/770)
رؤية الهلال نهارا قبل الزوال وبعده
وأما قول الفقهاء من الحنابلة وغيرهم: (وإن رؤى الهلال نهارا فهو لليلة المقبلة، سواء كان قبل الزوال أو بعده) ، قاله في الإقناع، ومختصر المقنع وغيرهما، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة. فهذا القول جرى من الفقهاء على سبيل الفرض والتقدير لكونهم يقدرون دائما ما لا يقع على فرض وقوعه، فهم يقدرون رؤيته نهارا لعارض يعرض في الجو، بحيث يقلل ضوء الشمس فيتمكن قوي النظر من رؤيته، وهو تقدير يبعد وقوعه جدا وإن رؤيته قبل الغروب مستحيلة وغير ممكنة ولو فرض وقوعها فإنه لا تأثير لها في حكم إثبات الصيام بها، وقد أنكر هذا التقدير بعض الفقهاء وعدوه من الأمر المستحيل، لعدم إمكن وقوعه لكون الهلال لا يرى برؤية صحيحة إلا بعد غروب الشمس وذهب شعاعها كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وحتى صاحب "كشاف القناع في شرح الإقناع" (1) ، استدرك على الفقهاء القول به، قائلا: إنه لا أثر لرؤية الهلال نهارا وإنما يعتد بالرؤية بعد الغروب، قال: ولعله مراد أصحابنا لظاهر الخبر السابق فعلم منه أن الرؤية قبل الغروب لا تأثير لها.. انتهى.
والخبر السابق الذي أشار إليه هو ما رواه الأعمش عن أبي وائل شقيق ابن سلمة، قال: أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى تمسوا أو يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس عشية، رواه الدارقطني، وهذا الأثر عن عمر دليل واضح على عدم الاعتبار برؤية الهلال في النهار، سواء كان قبل الزوال أو بعده، وأنه لا يعتد به على فرض وقوعه، وقد قال في بداية المجتهد: أن سبب اختلافهم في حكم رؤية الهلال بالنهار هو ترك اعتبار التجربة وليس في ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم يرجع إليه، ويحكى عن القاضي قائلا: الذي يقتضيه القياس والتجربة أن القمر لا يرى والشمس بعد لم تغب لكون المعتمد في ذلك على التجربة كما قلنا ولا فرق في ذلك قبل الزوال ولا بعده، وإنما المعتبر في ذلك مغيب الشمس أول مغيبها.. انتهى.
__________
(1) من أشهر كتب الحنابلة، لمؤلفه منصور بن يونس البهوتي(2/771)
رفع النزاع الواقع في اختلاف المطالع
إن مطالع الهلال متفقة ومتقاربة في البلدان العربية وسائر البلدان الذي يسكنها المسلمون، وذلك بمقتضى المشاهدة والتجربة وتناقل الأخبار من بين سائر الأقطار.
وما ذكره الفقهاء من اختلاف المطالع فيما بين الشام والحجاز وفيما بين مصر والعراق، فيترجح بأن هذا التحديد جرى منهم على حسب الاجتهاد، يؤجرون عليه ولا يلزم التقيد به لكونه جرى منهم بدون تجربة ولا مشاهدة، فظنوا وقوع التفاوت في المطالع بين هذه البلدان فقالوا بموجبه على سبيل الفرض والتقدير لصعوبة المواصلات في زمنهم وتعذر الاتصالات من بعضهم مع بعض.
أما في هذا الزمان، فإنه بمقتضى اختراع الآلات الناقلة للذوات والمقربة للأصوات، فقد صارت الدنيا كلها بأسرها كمدينة واحدة وكأن عواصمها بعدها غرف متجاورة يتخاطبون فيما بينهم شفهيا من بعيد كتخاطبهم من قريب، ويسأل بعضهم بعضا عن الهلال وقت طلوعه فيخبره بما يوافق في بلده فعلموا بذلك عدم التفاوت في المطالع بين سائر البلدان العربية، لكونها من الأمور الحسية التى تدرك بالمشاهدة والتجربة، فضعف القول باختلاف المطالع في هذا بعد وقوفهم على عدم صحته.
يحققه أن بعض الأقطار المتباعدة، مثل: بلدان سلطنة عمان وفارس وباكستان والهند، بما فيه من المسلمين أنهم إنما رأوا هلال شوال من هذه السنة ليلة الأحد وصار عيدهم بالأحد، وعندنا لم يره الناس رؤية صحيحة ثابتة إلا ليلة الأحد ليلة رآه أهل الهند وباكستان، ولا عبرة بما قيل من رؤيته قبلها بناء على الأوامر الصادرة عليهم بالفطر، فإننا إنما نتكلم على الرؤية الثابتة المعترف بصحتها وإن رؤيتنا لهلال شوال توافق رؤية فارس والهند وباكستان على حد سواء، غير أنه قد يختلج في نفوس بعض الناس شيء من الشك في ذلك، حينما يرى ويسمع أن الشمس تغرب في بعض البلدان في الوقت الذي تغرب فيه في البلدان الأخرى، كما أنها تغرب في الشام والعراق قبل غروبها في الحجاز، وتغرب في باكستان والهند قبل غروبها في نجد والحجاز بعدد ساعات فيظنون أن اختلافها في مشارقها ومغاربها انه مما يتغير به مطلع الهلال تبعا لها، وهذه هي الشبهة التي جعلت الفقهاء المتقدمين يقولون باختلاف المطالع وفات عليهم بأن الله سبحانه خلق القمر ميقاتا لجميع الناس عربهم عجمهم في صومهم وحجهم، فهو آية من آيات الله في استهلاله وإبداره واستسراره، ومسخر من الله لمصالح عباده، فهو يساير الشمس حسبما يراه الناظرون والا فإن فلكه غير فلكها.(2/772)
وعند اقتراب انقضاء الشهر، فإنه يقرب منها كالملازم لها أحيانا، يطلع صباحا من جهة الشرق قبلها فيغيب قبلها فلا يراه احد في أي بلد وأحيانا ينحسر عنها ويتخلف عنها، فتطلع قبله وتغيب قبله، فمتى بعد عن شعاعها على قدر ما يتمكن من رؤيته الناظرون فإنهم حينئذ يرونه في كل بلد، كما أنه لا يتغير طلوعه في حال قصر الليل ولا طوله، لأن الله سبحانه نصب الهلال ميقاتا لجميع الناس وما كان كذلك فإنه لن يختلف بحال ولا يتغير في محل دون محل، وهذا معني قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون)) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
وعن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس)) . رواه الترمذي.
والخطاب في هذا لجماعة الناس، فليس منشأ الخلاف بين الناس من مطلع الهلال، وإنما يعود إلى التثبت في الرؤية وعدمها لوقوع الاختلاف من الرائي لا المرئي، فإن الرؤية تختلف باختلاف صفاء الجو وكدره وقوة النظر وضعفه، والاستعداد لمراقبته وقت التحري له من جهة مطلعه وعدم الاستعداد لذلك، ثم التثبت لصحة الرؤية وعدم التثبت فيها، وبهذه الأسباب تختلف الأحوال في المحلات في الحكم برؤية الهلال، وهذا الاختلاف يقع من قديم الزمان بين البلدان المتجاورة كما يقع بين البلدان المتباعدة، وسببه معقول كما ذكرنا.(2/773)
ثم أن القول باختلاف المطالع من لوازمه أن شهر رمضان الذي افترض الله على عباده صيامه بكماله انه ينتقل من بلد إلى بلد فيكون أول رمضان في إحدى الأقطار بالجمعة وفي القطر الثاني بالسبت وفي القطر الآخر بالأحد، وهذا لا يكون أبدا حتى ولو قدر وقوعه فعلا بناء على التثبت في الرؤية وعدم التثبت فيها ووقع الغيم في جهة والصحو في الجهة الأخرى، وغير ذلك من الأعذار المقتضية لاختلاف الناس في الدخول في الصيام والخروج منه، لكن الأمر الصحيح أن رمضان الذي افترض الله صومه على عباده هو معلوم العدد والحد تارة تسعا وعشرين وتارة ثلاثين ومعلومة حدوده في دخوله وخروجه، لا ينتقل أبدا، أما كون الناس يختلفون في التثبت في رؤيته وعدم التثبت، فإن هذا امر واقع ولا يغير شيئا من صفاته التى رتبها الله عليه في قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} .
فكما أنه لا يتغير من بلد إلى بلد في حالة مطلعه واستهلاله، فكذلك لا يتغير في كل قطر عن حالة إبداره فكل الدنيا تتفق على حالة الإبدار التي يعرفون بها هيجان البحر واضطرابه وانتفاخه في سائر الأقطار وذلك يوم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، وقد زعموا أن هذا الاضطراب وهيجان البحر أنه من تأثره بالقمر، والله أعلم، ومما يؤكد هذا، أن الصحابة – رضي الله عنهم – لما اتسعت فتوحهم الإسلامية وامتد سلطانهم على الأقطار الأجنبية، وكانوا هم الملوك والأمراء في مشارق الأرض ومغاربها وفي ممالك كسرى وقيصر وغيرها، فكانوا يتراسلون ويتساءلون عما يلزم من الأحكام وأمور الصيام وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يأمر أمراءه وعماله بأن يلقوه بموسم الحج بمكة كل عام فيسأل كل واحد منهم عن ولاية عمله وشئون بلده.(2/774)
ومع هذا كله، فلم يثبت عنهم ولا عن احد منهم الخوض في اختلاف مطالع الهلال، إذ لو كان له أصل لأكثروا فيه الكلام وبينوا للناس ما يترتب عليه من أحكام الصيام، كما أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضوعه حديث واحد لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف، غير أن الفقهاء أخذوا القول به من مفهوم حديث ابن عباس مع كريب، لما قدم عليه من الشام وقال له: متى رأيتم الهلال؟ قال: رأيناه يوم الجمعة، قال: أنت رأيته؟ قال: نعم، رأيته وصام أمير المؤمنين وصام الناس معه، فقال ابن عباس: أما نحن فلم نر الهلال إلا ليلة السبت ونصوم حتى نراه أو نكمل عدة رمضان ثلاثين يوما فقال كريب: (ألا نكتفي برؤية أمير المؤمنين، فقال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يشير إلى حديث ((صوموا لرؤية وأفطروا لرؤيته)) وحديث: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين)) ، وهذا الرأى وهذا العمل وقع من ابن عباس – رضي الله عنه – موقع الاجتهاد وهو عين الصواب، يريد أن لا يخرج من الصوم إلا بيقين الفطر من الرؤية أو إكمال العدة، ولم يقل ابن عباس في حديثه مع كريب، بأن مطلع الهلال بالشام غير مطلعه بالحجاز، وإنما أخذوه على حسب الظن منهم فيه، فقالوا بموجبه، ثم أخذ بعضهم ينقل عن بعض القول به حتى اشتهر وانتشر ولعل ابن عباس لم يكن هذا مراده، وإنما أراد الأخذ بالحزم وأن يفطر على يقين من الرؤية أو إكمال العدة.
ومن المعلوم أن الفقهاء قد نصوا على انه لو رأى أحد هلال شوال بطريق اليقين فردت شهادته أو لم يشهد بذلك، وقد صام الناس من أجل أنهم لم يروا الهلال، فإنه يجب عليه أن يصوم مع الناس ولا يفطر في الراجح من الأقوال، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وفاقا للحنابلة، بل قد نصوا أيضا على أنهم لو صاموا رمضان بشهادة واحد ثلاثين يوما فلم يروا الهلال، فإنه يجب بأن لا يفطروا حتى يروه حتى ولو صاموا إحدى وثلاثين يوما. ذكره في الإقناع ومختصر المقنع وغيرهما، وهذا القول ينطبق على فعل ابن عباس – رضي الله عنه -.
ثم أن الكثيرين من شراح حديث ابن عباس مع كريب، قالوا: إنما رد ابن عباس شهادة كريب ولم يعمل بها، من أجل انه شاهد واحد والمفروض شاهدان، استحياطا لحفاظ هذه الفريضة، إذ ما كل ما يقال إنه رؤى في بلد كذا أن يكون صحيحا ثابتا ولا كون الرائي عدلا صادقا اللهم إلا أن يقال بثبوت وقوع التفاوت في المطالع بطريق اليقين بين الأقطار الأجنبية الواسعة والأقاليم الشاسعة، وأن مطلع الهلال فيها غير مطلعة في الجزيرة العربية وما جاورها، فعند ثباته يتعلق حكم كل قطر وكل إقليم برؤيته بنفسه والله أعلم.(2/775)
اجتماع أهل الإسلام على عيد واحد كل عام
إن كل اجتماع يعقده الزعماء والرؤساء وسائر المنتدبين لعلاج الأوضاع وإصلاح الأحوال والأعمال، فإن مبدأ حديثهم يتناول البحث عن اختلاف المسلمين في الأعياد، حيث يكون عيد بعضهم اليوم وبعضهم بعد يومين، والكل مسلمون على دين واحد، فهم يرون أن في هذا الاختلاف نوع مغمز لأعداء الإسلام، حيث يظنون أن المسلمين متفرقين في أصل الدين والعقيدة، وأنهم لن يتفقوا أبدا، فالزعماء أعطوا هذا البحث نوعا من الاهتمام يحبون اجتماع المسلمين على عيد واحد في يوم واحد، كما أنهم على دين واحد يأمر بالاجتماع والاتفاق وينهى عن الاختلاف والافتراق {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: ((استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) .
وأن هذه البغية المنشودة والرغبة المطلوبة لمن العمل السهل الميسر متى أخذوا بعزائم أسبابها ودخلوا عليها من بابها، كيف وقد نصب الله لها صوى ومنارا يعرفهم طريقها ويسلك بهم سبيل تحقيقها.
ونحن نعيش في ضمن دولة إسلامية دينية، هدفها الحق والسير برعاياها على سبيل العدل، فهي تحيل النظر في أحكام الأهلة إلى المحاكم الشرعية، لتصحيح الشهادة وتمحيص العدالة، ثم إبلاغ الناس بما يلزم من ذلك.
وأن الرأى السديد والأمر المفيد لجمع الناس على الصيام والعيد القريب منهم والبعيد، هو في امتثال المأمور واتباع المأثور الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) .(2/776)
وفي قوله: ((إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا، تارة تسعا وعشرين وتارة ثلاثين، فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له)) متفق عليه، ولمسلم: فاقدروا له ثلاثين.
فالخطاب في هذا كله لعامة المسلمين الذين خلق الله لهم الأهلة ليهتدوا بها لميقات صومهم وحجهم، لأن من مقاصد الشارع اتفاق الأمة في عباداتها وأعيادها ما أمكن الاتفاق.
وغرض الشارع الحكيم من هذا كله هو شهرة العلم بهذه الأوقات لقصد التعبد فيها بوظائفها المفروضة على الناس.
وأن الأحكام المتعلقة بالصيام وعيد الإسلام منوطة برؤية الهلال رؤية صحيحة ثابتة، بحيث يراه عدد من العدول المعروفين بالثقة والعدالة، إذ الهلال امر مشهور مشهود به مرئي بالأبصار ومن أصح المعلومات ما شوهد بالعيان، إذ ليس الخبر كالعيان.
والحكمة في ذلك جعل العبادة في ابتدائها وانتهائها مما يتيسر العلم بوقته لكل احد من بادية وحاضرة، وعالم وجاهل وكاتب وأمي ورجل وامرأة، فلم يجعل عبادة أحد متعلقة بإرادة الآخر، لأن الله سبحانه العظيم شأنه، علم ما كان يتلاعب به علماء الأديان ورؤساء الأمم السابقة، من تصرفهم في العبادات الشرعية، حيث أسقطوا عن أممهم فرض الصيام الواجب عليهم تدريجيا، وكانوا يحلون لهم ويحرمون بدون إذن من الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، فجعل عبادة هذه الأمة متعلقة بالمشاهدة والظهور والأمر الجلي، سواء في ذلك فرائض الصلوات والصيام والحج، يقول الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} .
فمعرفة وقت الصيام في دخوله وخروجه، يعرف برؤية الهلال جليا واضحا، بحيث يستوى في العلم به والتكليف بواجبه جميع الناس أو بإكمال العدة عند حصول ما يمنع الرؤية ومتى رؤى ابتداء فإنه يحكم لأول ليلة، سواء كان صغيرا أو كبيرا وسواء كانت منزلته عالية أو منخفضة، فلو جرى المسلمون على عملية التوثق واليقين في دخوله وخروجه، بحيث لا يصومون ولا يفطرون حتى يراه عدد من العدول الثقات لسلموا من هذه التشكيكات والاختلافات في الصوم والعيد الناشئة عن الشهادات غير الثابتة في الرؤية والتساهل في الحكم بصحتها والعمل بها. والله أعلم.(2/777)
ترائي الهلال مستحب
إنه يستحب الترائي للهلال وقت التحرى لطلوعه للتحفظ على الوظائف المفترضة فيه حتى لا يزاد فيها ولا ينقص منها.
لقد قلنا سابقا ولاحقا: أن منشأ الاختلاف بين المسلمين في الصوم وفي العيد يعود إلى أمر واحد، وهو التثبت في دعوى الرؤية وعدم التثبت فيها، لأنه متى كان بعض المسلمين يبنون أمرهم في صومهم وفطرهم على الرؤية المحققة المستفيضة الثابتة بشهادة عدد من العدول الثقات على صحتها فيصومون برؤيتهم ويفطرون برؤيتهم على يقين من أمرهم وحزم في أمر دينهم، كما عليه العمل في سائر البلدان التي ينتحل أهلها العمل بمذهب الأحناف وهم أسعد بالصواب في هذه القضية، سيما عند فساد الناس في هذا الزمان وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – حيث يقول: إنما سمى الهلال هلالا لارتفاع الأصوات برؤيته وكما سمي شهرا لشهرته فلا يكفي عنده ولا عند الأحناف شهادة الواحد والاثنين على رؤيته في حالة الصحو من بين مجموع سائر الناس، لكون الرؤية الصحيحة الثابتة حسية تدرك بالأبصار ويشترك في العلم بها غالب أهل الأمصار، إذا لم يكن ثم ما يمنع الرؤية من غيم وغيره، لانها متى كانت الابصار متساوية والموانع منتفية، فإنه حينئذ يمتنع اختصاص الواحد والاثنين بالرؤية دون سائر الناس، فلا بد أن تنتشر وتشتهر الرؤية الصحيحة، بحيث يراه من كل بلد واحد أو اثنان.
وهذا القول بما أن له قوة في النظر، فإن له حظا كبيرا من الأثر، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) ، وقال: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له)) ، وكلها أحاديث صحيحة ثابتة،
فمتى لم يره المسلمون وإنما أخبرهم به مخبر عن طريق الإذاعة برؤية فرد معلوم أو مجهول في بلد كذا ولم يثبت لدى احد من القضاة الشرعيين عدالة هذا الشاهد ولا ثقته، وهل هو شاهد واحد أو اثنان، فإنه حينئذ لا يقال: أن المسلمين قد رأوه وهم لم يروه، وإنما أخبروا به وليس الخبر كاليقين.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن الاختلاف بين المسلمين في الصوم وفي العيد لا يزال واقعا ومستمرا دائما لاختلاف الأفهام في تطبيق النظام على العمل بصحيح الأحكام.(2/778)
عملية التمهيد لجمع الناس على الصيام والعيد
إنه ينبغي لنا أن نعمل فيما يعود بالصلاح على أمتنا وأهل ملتنا، من كل ما يقضي بتخفيف هذا الاختلاف والافتراق، ويستدعي الاجتماع والاتفاق بأمر يقتضيه الحزم وفعل أولي العزم ولا ينافيه الشرع، وإن الرأي السديد والأمر المفيد لجمع الناس على الصيام والعيد القريب منهم والبعيد، هو في اتباع المأمور الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) ، وفي قوله: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين)) ، وكلها أحاديث صحيحة، وبما أن أهل المدن والعواصم لا يحتفلون برؤية الهلال غالبا ولا يتفرغون للترائي ويمنعهم عدم صفاء الجو من كثرة الغبار والدخان وارتفاع البنيان، فهم يتكلون على غيرهم في استهلال الشهر وقت التحري لطلوعه، فمتى كان الأمر بهذه الصفة وأن الغفلة تغلب على اكثر الناس وإنما يراقبون خبره عن طريق الإذاعة فقط لا عن طريق الرؤية، لهذا فإن من الحزم وفعل أولي العزم تعيين "لجنة استهلالية" تشتهر بهذا الاسم أو باسم "لجنة مراصد الأهلة" أو غير ذلك من الأسماء اللائقة بعملها وتكون هذه اللجنة من العدول الثقات المعروفين بالدين والعقل وقوة النظر ولا يقلون عن عشرين شخصا، يتفرقون في الجهات كل فرقة منهم قدر خمسة أشخاص ليقوي بعضهم بعضا بالنظر، وإنما قلنا بتفريقهم في الجهات خشية أن يخيم الغيم على جهة فيتحصلون على الصحو في الجهة الأخرى فيتم المقصود بذلك، فهؤلاء يرصدون الهلال وقت التحري لطلوعه.(2/779)
ويكون مقرهم بمكة المكرمة مكان خيرة الله لبيته الذي جعله مثابة للناس وأمنا والذي هو أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله - عز وجل – فهذا هو مقرهم، وأما تنظيم أمرهم وإصدار القارارات الصادرة منهم في إبلاغ إثبات الأهلة وغيرها فيكون عند "الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي" بمكة المكرمة فهي التي تتولى تنظيم أمرهم، فهذه اللجنة الاستهلالية يصرفون جهدهم في مراصدة الهلال وقت التحري لطلوعه، فإذا رأوه حكم بصحة رؤيتهم وصام الناس وأفطروا على يقين من أمرهم وحزم في أمر دينهم.
ويمكن للأئمة المسلمين وقضاتهم بأن يصدروا حكما للعمل برؤيتههم فيصير حجة على الجمهور من سائر الأقطار الإسلامية التي تتفق مطالعها وإن لم يروه ترجح عدم استهلاله فلا يتلفتوا إلى أي خبر يأتيهم من أي بلد لرجحان عدم ثباته اللهم إلا أن يثبت ثبوتا شرعيا قطعيا بشهادة عدد من العدول الذي لا يمكن اتفاقهم على الكذب، كما روى أهل المدينة عن مالك أن الرؤية لا تلزم بالخبر عند غير أهل البلد الذي وقعت فيهم الرؤية إلا أن يكون الإمام يحمل الناس على ذلك ذكره في بداية المجتهد.
وهذا العمل بهذه الصفة هو مما يزيد المسلمين ثقة ويقينا واطمئنانا ولو عمل المسلمون عملهم في التوثق واليقين في دخول الشهر وخروجه بصفة ما ذكرنا لنجحوا في مهمة الاتفاق من جميع الآفاق.(2/780)
وأما إذا خيم الغيم على هلال شعبان وأشكل الأمر على الناس فظاهر مذهب الحنابلة في ذلك معروف، وهو أنهم يحسبون تسعا وعشرين من شعبان ثم يصومون اليوم الثلاثين، حكما ظنيا احتياطا انه من رمضان، ويستدلون على ذلك بحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له)) وفسر ابن عمر فاقدروا له بالتضييق عليه، أي جعله تسعة وعشرين يوما، وقد خالف في ذلك من خالف من علماء الحنابلة، إذ ليس القول بهذا، متفق عليه عندهم.
أما الجمهور، فإنه عند الغيم يكملون عدة ثلاثين يوما، سواء كان الغيم في هلال شعبان أو في هلال رمضان، وكذا لو غم الذي قبله فإنهم يعملون بإكمال العدة ثلاثين من كل شهر وهذا هو الظاهر من مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة)) لمسلم (( ... فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما)) .
وكان السبب اختلافهم هو الإجمال في قوله: "فاقدروا له"، حيث فسره من فسره بالتضييق عليه، أي جعله تسعة وعشرين، كما هو رأى ابن عمر – رضى الله عنه – وذهب الجمهور إلى أن معناه إكمال العدة ثلاثين، واستدلوا له بالأحاديث المفسرة له بإكمال العدة ثلاثين.(2/781)
أما تفسيره بالتضيق عليه، فإن فيه بعدا في اللفظ والمعنى ولم يثبت رفعه إلى الرسول بهذا اللفظ، ويكفى في رده الروايات المصرحة بإكمال العدة ثلاثين فقد ثبت رفعها وهي مفسرة لقوله: "فاقدروا له"، فوجب أن يحمل المجمل على المفسر وهي طريقة معروفة عند الأصوليين لا خلاف في جواز استعمالها، إذ ليس عندهم بين المجمل والمفسر تعارض أصلا، والمفسر مقدم على المجمل.
وعن الإمام احمد رواية أخرى أن الناس في هذه القضية تبع للإمام أن صام صاموا وإن أفطر أفطروا، لحديث ((الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون)) رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال حسن غريب، لكون القضية، موضع اجتهاد وللإمام مجال في الاجتهاد فيها.
أما المسلمون المقيمون أو الساكنون في لندن وأمريكا وفرنسا والروس وسائر بلدان أوروبا التي تغمرها الغيوم المتواصلة دائما، بحيث لا يرون فيها الشمس إلا نادرا، فضلا عن الهلال فإن هؤلاء يكونون تبعا للجنة الاستهلالية وللبلدان العربية في الصوم والفطر كسائر جماعة المسلمين، إذ هذا هو غاية جهدهم في معرفة وقت صومهم وفطرهم لحديث: ((الصوم يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحى الناس)) والناس هم جماعة المسلمين.
وفي الختام، فإن هذا هو نهاية ما حضرني من الكلام في إيراد النصوص والأحكام المتعلقة بشأن الهلال وشهر الصيام وعيد الإسلام، وهو جواب عن رسالة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي – عليهم السلام – كما أنها هدية دينية للخاص والعام، وأني أرجو أن تقع بموقع القبول والرضى من علماء المسلمين الذين لهم لسان صدق في العالمين، وقدم راسخ في الفقه في الدين وقلم خالص في النصح لله وعباده المؤمنين، ولاأقول ببرائتي فيها من الخطأ والتقصير،غير أنني لدى الحق أسير، إذ ليس كل قائل خبير، ولا كل ناقد بصير، سوى الله الذي لا معقب لحكمه، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على محمد البشير النذير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
جرى تحريره في اليوم الثامن والعشرين من شهر ذى القعدة، عام ثلاث وتسعين بعد الثلاثمائة وألف.(2/782)
قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة
القرار الأول
بشأن العمل بالرؤية في إثبات الأهلة لا بالحساب الفلكي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطلع في دورته الرابعة المنعقدة بمقر الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الفترة ما بين السابع والسابع عشر من شهر ربيع الآخر سنة 1401 هـ على صورة خطاب الدعوة الإسلامية في سنغافورة المؤرخ في 16 شوال 1399هـ. الموافق 8 أغسطس 1979م الموجه لسعادة القائم بأعمال سفارة المملكة العربية السعودية هناك والذي يتضمن انه حصل خلاف بين هذه الجمعية وبين المجلس الإسلامي في سنغافورة في بداية شهر رمضان ونهايته سنة 1399هـ الموافق 1979م حيث رأت الجمعية ابتداء شهر رمضان وانتهاءه على أساس الرؤية الشرعية وفقا لعموم الأدلة الشرعية بينما رأى المجلس الإسلامي في سنغافورة ابتداء ونهاية رمضان المذكور بالحساب الفلكي معللا ذلك بقوله (بالنسبة لدول منطقة آسيا حيث كانت سماؤها محجبة بالغمام وعلى وجه الخصوص سنغافورة فالأماكن لرؤية الهلال أكثرها محجوبة عن الرؤية وهذا يعتبر من المعذورات التي لا بد منها لذا يجب التقدير عن طريق الحساب) .
وبعد أن قام أعضاء مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بدراسة وافية لهذا الموضوع على ضوء النصوص الشرعية قرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي تأييده لجمعية الدعوة الإسلامية فيما ذهبت إليه لوضوح الأدلة الشرعية في ذلك.(2/783)
كما قرر أنه بالنسبة لهذا الوضع الذي يوجد في أماكن مثل سنغافورة وبعض مناطق آسيا وغيرها، حيث تكون سماؤها محجوبة بما يمنع الرؤية فإن للمسلمين في تلك المناطق وما شابهها أن يأخذوا بمن يثقون به من البلاد الإسلامية التي تعتمد على الرؤية البصرية للهلال دون الحساب بأي شكل من الأشكال عملا بقوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة)) وما جاء في معناها من الأحاديث.
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
نائب الرئيس رئيس مجلس المجمع الفقهي صالح بن عثيمين
محمد علي الحركان عبد الله بن حميد
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
عبد العزيز بن عبد الله بن باز محمد محمود الصواف محمد بن عبد الله بن السبيل
[توقيع] [توقيع]
مبروك العوادى محمد الشاذلى النيفر [توقيع]
عبد القدوس الهاشمى
[توقيع] [غائب عن التوقيع] [توقيع]
محمد رشيد أبو الحسن علي الحسني الندوى أبو بكر محمود جومى
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
حسنين محمد مخلوف محمد رشيد قباني محمود شيت خطاب
[توقيع] [توقيع]
مصطفى الزرقاء محمد سالم عدود(2/784)
القرار السادس
حول رسالة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود
الموجهة إلى العلماء والحكام والقضاة في شأن رؤية الهلال
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. أما بعد:
فقد اطلع مجلس المجمع الفقهي الإسلامي على الرسالة الموجهة إلى العلماء والحكام والقضاة في شأن رؤية الهلال والتي كتبها رئيس المحاكم بدولة قطر الشيخ عبد الله بن زيد ابن محمود، وبعد الاطلاع عليها تبين أنها قد اشتملت على أغلاط عظيمة وأخطاء واضحة:
أولا: قوله أن عيد الفطر من هذه السنة – يعني سنة 1400 هـ - قد وقع في غير موقعه الصحيح بناء على الشهادة الكاذبة برؤية الهلال ليلة الاثنين حيث لم يره احد من الناس الرؤية الصحيحة لا في ليلة الاثنين ولا في ليلة الثلاثاء ... الخ.
فهذا الكلام الذي قاله مؤلف الرسالة تخرصا منه جانب فيه الصواب وخالف فيه الحق وكيف يحكم على جميع الناس أنهم لم يروه وهو لو يحط علما بذلك والقاعدة الشرعية أن من علم حجة على من لم يعلم ومن أثبت شيئا حجة على من نفاه، وكيف وقد ثبتت رؤيته ليلة الاثنين بشهادة الثقات المعدلين والمثبتة شهاداتهم لدى القضاة المعتمدين في بلدان مختلفة في المملكة وغيرها وبذلك يعلم أن دخول شوال عام 1400 هـ. ثبت ثبوتا شرعيا ليلة الاثنين مبنيا على أساس تعاليم الشرع المطهر المبلغ عن سيد البشر، فقد روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بالصيام، قال الحافظ في التلخيص وأخرجه الدارمي والدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه ابن حزم وروى أهل السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن اعرابيا قال يا رسول الله إني رأيت الهلال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم. قال: فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا)) ، وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي وروى الإمام احمد والنسائي عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم وأنهم حدثوني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا)) .(2/785)
وعن الحارث بن حاطب الحججي أمير مكة قال: "عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نر وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهاداتهما" رواه أبو داود والدارقطني وقال إسناده متصل صحيح، وعن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال: "غم علينا هلال شوال فاصبحنا صياما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوه بالأمس فأمر الناس أن يفطروا من يومهم وأن يخرجوا لعيدهم من الغد" رواه الإمام احمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة، قال الحافظ في التلخيص صححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم، وعن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اختلف الناس في آخر يوم من شهر رمضان فقدم إعرابيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالله أنهما أهلا الهلال أمس عشية فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا)) . رواه احمد وأبو داود وزاد أبو داود في رواية وأن يفدوا إلى مصلاهم، وهذه الأحاديث تدل على وجوب الأخذ بشهادة الشهود الثقات والاعتماد عليها وأنه يكفى الشاهدان العدلان في الصوم والافطار ويكفى العدل الواحد في إثبات دخول شهر رمضان كما دل على ذلك حديث ابن عمرو وحديث ابن عباس رضي الله عنهما كما تدل على انه لا يلزم من ذلك أن يراه الناس كلهم أو يراه الجم منهم كما تدل أيضا على انه ليس من شرط صحة شهادة الشاهدين العدلين أو شهادة العدل الواحد في الدخول أن يراه الناس في الليلة الثانية لأن منازله تختلف وهكذا أبصار الناس ليست على حد سواء ولأنه قد يوجد في الأفق ما يمنع الرؤية في الليلة الثانية ولو كانت رؤيته في الليلة الثانية شرطا في صحة الشهادة لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه المبلغ عن الله والموضح لأحكامه عليه الصلاة والسلام.(2/786)
وحكى الترمذي اجماع العلماء على قبول شهادة العدلين في إثبات الرؤية وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى ج 25 ص 186 بعد ما ذكر اختلاف أبصار الناس في الرؤية وأسباب ذلك ما نصه: لأنه لو رآه اثنان علق الشارع الحكم بهما بالاجماع وإن كان الجمهور لم يروه. اهـ. ولعل مراده بحكاية الاجماع وقت الغيم لأن خلاف أبي حنيفة رحمه الله في عدم إثبات دخول الشهر في وقت الصحو بأقل من الاستفاضة أمر معلوم لا يخفى على مثله رحمه الله وهذا كله إذا لم يحكم بذلك فإنه يرتفع الخلاف ويلزم العمل بالشهادة المذكورة اجماعا كما ذكر في ذلك العلامة أبو زكريا يحيى النووي في شرح المهذب ج/6 ص313 بعدما ذكر أسباب اختلاف ابصار الناس في الرؤية وهذا نص كلامه: ولهذا لو شهد برؤيته اثنان أو واحد وحكم به حاكم لم ينقض بالإجماع ووجب الصوم بالإجماع ولو كان مستحيلا لم ينفذ حكمه ووجب نقضه، ثم قال ابن محمود بعد كلام سبق ما نصه يا معشر العلماء الكرام ويا معشر قضاة شرع الإسلام لقد وقعنا في صومنا وفطرنا في الخطأ المنكر كل عام. اهـ.
ولا يخفى ما في هذا الكلام من الخطأ العظيم والجرأة على القول بخلاف الحق فأين له تكرر الخطأ في كل عام في الصوم والإفطار والقضاة يحكمون في ذلك بما دلت عليه الأحاديث الصحيحة واجمع عيه أهل العلم كما سبق بيانه. ثم قال ابن محمود بعد كلام سبق فمتي طلع يعني الهلال قبل طلوع الشمس من جهة المشرق فإنه يغيب قبلها فلا يراه احد أو طلع مع الشمس فإنه يغيب معها ولا يراه احد لشدة ضوء الشمس، اهـ.
وهذا خطأ بين فقد ثبت بشهادة العدول انه قد يرى قبل الشمس في صبيحة يوم التاسع والعشرين من المشرق ثم يرى بعد غروبهما من المغرب ذلك اليوم لأن سير القمر غير سير الشمس فكل واحد يسبح في فلكه الخاص به كما يشاء الله عز وجل.(2/787)
وأما الآية التي استدل بها على ما ذكره من عدم امكان رؤيته بعد الغروب إذا كان قد رؤي صباح ذلك اليوم قبل طلوع الشمس وهي قوله تعالى في سورة يس: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} فلا حجة له في ذلك لأن علماء التفسير أوضحوا معنى الإدراك المذكور وأنه لا سلطان للشمس في وقت سلطان القمر ولا سلطان للقمر في وقت سلطان الشمس. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه: قال مجاهد لكل منهما حد لا يعدوه ولا يقصر دونه إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا، وإذا ذهب سلطان هذا جاء هذا إلى أن قال: وقال الثوري عن إسماعيل بن خالد عن أبي صالح لا يدرك هذا ضوء هذا ولا هذا ضوء هذا وقال عكرمة في قوله عز وجل {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} يعني أن لكل منهما سلطانا فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل. اهـ.
ثم قال ابن محمود بعد ما ذكر كلام فقاء الأحناف في اشتراط الاستفاضة في الرؤية وقت الصحو وأنه لا يكتفى في رؤيته بشخص أو شخصين دون بقية الناس لاحتمال التوهم منهما إلى أن قال: وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسائله المتعلقة بالهلال فقال: إنه يعتد برؤية الواحد والاثنين للهلال والناس لم يروه لاحتمال التوهم منهما في الرؤية ولو كانت الرؤية صحيحة لرآه اكثر الناس. اهـ. وهذا الكلام الذي نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن عدم الاكتفاء بشهادة الواحد والاثنين بالهلال إذا لم يره غيرهم لا أساس له من الصحة وقد سبق كلامه رحمه الله الذي نقله عنه العارفون بكلامه وهو الموجود في الفتاوى ج25 ص186 ونقل الأجماع عن تعلق حكم الشرع بشهادة الاثنين وفيه نقل الاجماع على تعلق حكم الشرع بشهادة الاثنين.(2/788)
ثم قال: (تراءى الناس هلال رمضان فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بصيامه) رواه أبو داود وصححه الحاكم وابن حبان، ومثله حديث ابن عباس: ((أن اعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال قال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا)) . رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان وصحح النسائي ارساله فالجواب انه ليس في الحديثين ما يدل على حصر الرؤية على هذين الشخصين إذ من المحتمل أن يكونا أول من رأيا الهلال ثم رآه غيرهما، اهـ. المقصود.
ولا يخفى بطلان هذا الجواب وتعسفه لعدم الدليل عليه والأصل عدم وجود غيرهما إذ لو شهد غيرهما لنقل فلما لم ينقل ذلك علم عدم وقوعه لهذا احتج العلماء بهذين الحديثين على قبول شهادة الواحد في دخول شهر رمضان ووجوب العمل بها وهو اصح قولي العلماء كما تقدم بيان ذلك وقد تقدم أيضا انه متى حكم بها حاكم شرعي وجب العمل بها اجماعا كما سبق نقل ذلك عن النووي رحمه الله في شرح المهذب فنعوذ بالله من القول عليهم بغير علم.
ثم قال ابن محمود في ختام رسالته ما نصه: ولقد تقدم منى القول برسالتي لاجتماع أهل الإسلام على عيد واحد كل عام فدعوت فيها الحكومة حرسها الله إلى تعيين لجنة عدلية استهلالية من العدول الذين لهم حظ من قوة البصر فيراقبون الهلال وقت التحرى بطلوعه لخاصة شعبان وحتى إذا حصل غيم أو قتر حسبوا له ثلاثين ثم صاموا رمضان ثم يراقبون عند مستهل ذى الحجة لمعرفة ميقات الحج وهذه اللجنة لا ينبغي أن تقل عن عشرة أشخاص من العدول الثقات ولهم رئيس يرجعون إليه في لم شملهم اهـ. المقصود.(2/789)
ولا يخفى ما في هذا الكلام من التكلف والتشريع الجديد الذي لم ينزل الله به من سلطان بل هو اقتراح في غاية الفساد لا يجوز التعويل عليه والالتفات إليه لأن الله سبحانه قد يسر وسهل وأجاز الحكم بشهادة عدلين اثنين في جميع الشهور وعدل واحد في شهر رمضان فلا يجوز لأحد أن يحدث في شرع الله ما لم يأذن به سبحانه هو ولم تأت به سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله عز وجل {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} الآية من سورة الشورى. وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها. وفي رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) . وهذا ما أردنا التنبيه عليه من الأخطاء الكثيرة التي وقعت في رسالة الشيخ عبد لله بن محمود ونسأل الله أن يهدينا وإياه سواء السبيل وأن يعيذنا وإياه وسائر المسلمين من القول على الله وعلى رسوله بغير علم ومن الإحداث في دين الله ما لم يأذن به الله.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلي يوم الدين.
[توقيع] [توقيع]
محمد علي الحركان عبد الله بن حميد
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
عبد العزيز بن باز مصطفى الزرقاء محمد محمود الصواف
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
صالح بن عثيمين محمد بن عبد الله بن السبيل مبروك العوادي
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
محمد الشاذلي النيفر عبد القدوس الهاشمي محمد رشيدي
[غائب عن التوقيع] [توقيع] [توقيع]
أبو الحسن علي الحسني الندوي أبو بكر محمود جومي حسنين محمد مخلوف
[توقيع] [توقيع] [غائب]
محمد رشيد قباني محمود شيت خطاب محمد سالم عدود(2/790)
القرار السابع
بيان توحيد الأهلة من عدمه
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:
لقد درس المجمع الفقهي الإسلامي مسألة اختلاف المطالع في بناء الرؤية عليها فرأى أن الإسلام بني على انه دين يسر وسماحة تقبله الفطرة السليمة والعقول المستقيمة لموافقته للمصالح، ففي مسألة الأهلة ذهب إلي إثباتها بالرؤية البصرية لا على اعتمادها على الحساب كما تشهد به الأدلة الشرعية القاطعة كما ذهب إلي اعتبار اختلاف المطالع لما في ذلك من التخفيف على المكلفين مع كونه هو الذي يقتضيه النظر الصحيح فما يدعيه القائلون من وجوب الاتحاد في يومي الصوم والإفطار مخالف لما جاء شرعا وعقلا، أما شرعا فقد أورد أئمة الحديث حديث كريب وهو: "أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلي معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها فاستهل علي شهر رمضان، وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال؟ فقلت رأيناه ليلة الجمعة فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أولا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقالا: لا. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " (رواه مسلم في صحيحه) .
وقد ترجم الإمام النووي على هذا الحديث في شرحه على مسلم بقوله (باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم ولم يخرج عن هذا المنهج من أخرج هذا الحديث من أصحاب الكتب الستة أبي داود والترمذي والنسائي في تراجمهم له.(2/791)
وناط الإسلام الصوم والإفطار بالرؤية البصرية دون غيرها لما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له)) . رواه البخاري ومسلم في صحيحهما فهذا الحديث علق الحكم بالسبب الذي هو الرؤية وقد توجد في بلد كمكة والمدينة ولا توجد في بلد آخر فقد يكون زمانها نهارا عند آخرين فكيف يؤمرون بالصيام أو الإفطار أفاده في بيان الأدلة في إثبات الأهلة، وقد قرر العلماء من كل المذاهب أن اختلاف المطالع هو المعتبر عند كثير فقد روى ابن عبد البر الإجماع على ألا تراعى الرؤية فيما تباعد من البلدان كخراسان من الأندلس أو لكل بلد حكم يخصه. وكثير من كتب أهل المذهب الاربعة طافحة بذكر اعتبار اختلاف المطالع للأدلة القائمة من الشريعة بذلك وتطالعك الكتب الفقهية بما يشفي الغليل.
وأما عقلا فاختلاف المطالع لا اختلاف لأحد من العلماء فيه لأنه من الأمور المشاهدة التي يحكم بها العقل فقد توافق المشروع والعقل على ذلك فهما متفقان على بناء كثير من الأحكام على ذلك التي منها أوقات الصلاة ومراجعة الواقع تطالعنا بأن اختلاف المطالع من الأمور الواقعية. وعلى ضوء ذلك قرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي انه لا حاجة إلي الدعوة إلي توحيد الأهلة والأعياد في العالم الإسلامي لأن توحيدها لا يكفل وحدتهم كما يتوهمه كثير من المقترحين لتوحيد الأهلة والأعياد، وأن تترك قضية إثبات الهلال إلي دور الإفتاء والقضاء في الدول الإسلامية لأن ذلك أولى وأجدر بالمصلحة الإسلامية العامة وأن الذي يكفل توحيد الأمة وجمع كلمتها هو اتفاقهم على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع شئونهم، والله ولي التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
[توقيع] [توقيع]
نائب الرئيس رئيس مجلس المجمع الفقهي
محمد علي الحركان عبد الله بن حميد(2/792)
بيان الدورة السادسة للجنة التقويم الهجري الموحد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فبناء على ما قرره مؤتمر تحديد أوائل الشهور القمرية المنعقد في مدينة استنبول في 26 – 29 ذي الحجة عما 1398هـ. الموافق 27 – 30 نوفمبر 1978م وتنفيذا لقراره الخامس والسادس والسابع ولقرار مؤتمر وزراء الأوقاف والشئون الدينية المنعقد في الكويت.
وبناء على الدعوة الكريمة الموجهة من المملكة العربية السعودية باستضافتها لهذه الندوة فقد عقدت لجنة التقويم الهجري الموحد اجتماعها السادس في مكة المكرمة في 10 – 12 محرم 1406هـ الموافق 24- 26 سبتمبر 1985م برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد وبحضور جميع أعضائها وهم مندوبو أندونيسيا وبنجلاديش وتركيا وتونس والجزائر والسعودية والعراق وقطر والكويت. كما حضرها مندوبون عن كل من الأردن والإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان وماليزيا كدول ملاحظة. كما حضرها مندوب عن الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي بصفة مراقب.
وقد تفضل صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز أمير منطقة مكة المكرمة بافتتاح أعمال الدورة السادسة للجنة توحيد التقويم الهجري ورحب بالحاضرين وأشاد بالأهمية الكبرى التي يعلقها المسلمون على توحيد شهورهم وأعيادهم تحقيقا لمعنى الوحدة وأشاد بجهود المؤتمرات السابقة واعتز بأن تعقد هذه اللجنة دورتها السادسة في مكة المكرمة.(2/793)
كما أبدى اهتمام المملكة بكل ما يدعوا إلى تضامن المسلمين وتحقيق ذلك لهم.
وتمنى للجنة التوفيق في هذا الاجتماع بأن تتمكن من تقديم تقويم شرعي فلكي يكون له أثره في توحيد كلمة المسلمين في شهورهم وأعيادهم.
ثم ألقى بعد ذلك سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز كلمة ضافية رحب فيها بالحاضرين وحثهم على تقوى الله تعالى والعمل بما يحقق للمسلمين أسباب صلاحهم ووحدتهم والعمل فيما يقتضيه كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وأشاد بالجهود التي سبق أن بذلت من هذه اللجنة في دوراتها السابقة وتمنى لها النجاح والتوفيق في دورتها الحاضرة.
ثم ألقى فضيلة الشيخ الدكتور طيار التي قولاج مفتي الجمهورية التركية ورئيس الشؤون الدينية كلمة ضافية بالنيابة عن الوفود ورحب فيها بالحاضرين وتقديم الشكر للمملكة العربية السعودية ملكا وحكومة وشعبا على دعوتها واستضافتها لهذه الدورة وفي رحاب بيت الله الحرام مكة المكرمة مما كان له الأثر الطيب في نفوس الحاضرين واستعرض أعمال اللجنة في السنوات الماضية وتضمنت كلمته آراء وتقييمات شاملة للموضوع ومراحله المختلفة. وترى اللجنة أن تضم الكلمات الثلاث كوثائق ضمن تقرير اللجنة لما تضمنته من توجيهات في هذا الخصوص ثم اختتمت الجلسة بالاتفاق.(2/794)
ثم بدأت اللجنة أعمالها وسماع ما لدى المشاركين من كلمات وآراء ومقترحات. حيث ألقى مندوب اندونيسيا الأستاذ مختار زركشي كلمة عن بلاده وألقى مندوب الأردن الدكتور أحمد محمد هليل كلمة الأردن وألقى مندوب البحرين الشيخ يوسف الصديقي كلمة البحرين وألقى مندوب الإمارات العربية المتحدة الأستاذ الشيخ على الهاشمي كلمة بلاده وألقى مندوب تونس الشيخ مصطفى كمال التارزي كلمة بلاده وألقى مندوب الجزائر الأستاذ على السعدي المغربي كلمة بلاده وألقى مندوب العراق الشيخ عبد القادر إبراهيم على كلمة بلاده كما ألقى مندوب بنجلاديش الأستاذ محمد عبد السبحان كلمة بلاده.
وكانت كلمات الوفود تدور حول تصور بلدانهم لأعمال هذه اللجنة وأهمية ما تنبعث عنها من قرارات وتوصيات وكيفية إبرازها إلى حيز الوجود واعتماد نتائج أعمال هذه اللجنة وشكر الحكومة السعودية على استضافتها هذه الدورة وتسهيلها مهمة عملها.
كما جرى تبادل الآراء ووجهات النظر حول ما أبدي من آراء ومقترحات تمت مناقشتها بروح تسودها الألفة والمحبة والقصد الحسن.
ثم استعرضت اللجنة الجداول والخرائط المقدمة من وفود كل من الإمارات العربية المتحدة واندونيسيا وتركيا وتونس والجزائر والمملكة العربية السعودية. وقد لاحظت اللجنة بكل ارتياح وسرور الدقة الفائقة التي تمت بها هذه الجداول وانطباقها التام مما يدل دلالة تامة على دقة الحساب ووحدة المنهج.
وبعد عرض الجداول شهرا شهرا لعامي 1407 – 1408 وخمسة الأشهر الأولى من عام 1409هـ تم الاتفاق والمصادقة عليها بالاجماع ومرفق طي هذا التقرير الجداول المصادق عليها.(2/795)
ومن ناحية أخرى تشيد اللجنة بالقرارات الصادرة عن المؤتمرات الإسلامية السابقة لوزراء الخارجية والتي تدعوا إلى توحيد الشهور القمرية بالدول الأعضاء لمنظمة المؤتمر الإسلامي خاصة المؤتمر الرابع عشر والخامس عشر وتنوه بمتابعة الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي واهتمامها بتوحيد مواقف الدول الإسلامية بالنسبة لوضع التقويم الموحد للشهور القمرية.
وتؤكد اللجنة استعدادها على مواصلة الجهود بالتنسيق مع الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي وجميع الدول الأعضاء في المنظمة لتحقيق هذا الهدف.
وقد قررت اللجنة إرسال جداولها إلى كافة الجهات المختصة التي تتولى إصدار التقاويم في البلدان الإسلامية والبلدان التي فيها الأقليات إسلامية لإصدار تقاويمها وفقا لهذه الجداول تحقيقا لتوحيد التقويم الهجري والأعياد.
كما ترجو اللجنة والأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في تعميم هذه الجداول على كافة الدول الإسلامية والاقليات الإسلامية.
ونظرا إلى أن دول الإمارات العربية المتحدة والبحرين وماليزيا كانوا يتابعون حضور دورات هذه اللجنة فإن اللجنة تقرر اعتبار هذه الدول أعضاء ضمن هذه اللجنة.
وبالنسبة لتحديد مكان وزمان انعقاد الدورة السابعة للجنة فإن الاتصالات بالدول الأعضاء جارية وقد وكل أمر ذلك إلى الأمانة العامة بأنقرة.
وفي ختام هذا البيان تؤكد اللجنة شكرها وتقديرها لحكومة جلالة الملك المفدى فهد ابن عبد العزيز ممثلة في وزارة الحج والأوقاف وعلى رأسها معالي الشيخ عبد الوهاب أحمد عبد الواسع على ما لاقته من حفاوة بالغة وضيافة كريمة وإتاحة لكافة إمكانيات أسباب نجاح هذه اللجنة والله المستعان.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ...(2/796)
مشروع التقويم الهجري لعام 1407هـ
الشهر القمري تاريخ الاقتران ساعة الاقتران تاريخ ميدان الهلال ساعة ميلاد الهلال دخول الشهر عدد الأيام
محرم 04/09/86 11.07دق 04/09/86 55.21دق 05/09/86 30
صفر 03/10/86 56.18دق 04/10/86 42.09دق 05/10/86 29
ربيع الأول 02/11/86 03.06دق 02/11/86 27.19دق 03/11/86 30
ربيع الثاني 01/12/86 44.16دق 02/12/86 15.04دق 03/12/86 30
جمادى الأولى 31/12/86 11.03دق 31/12/86 39.13دق 01/01/87 30
جمادى الآخرة 29/01/87 46.13دق 30/01/87 23.01دق 31/01/87 29
رجب 28/02/87 52.00دق 28/02/87 45.14دق 01/03/87 30
شعبان 29/03/87 47.12دق 30/03/87 05.04دق 31/03/87 29
رمضان 28/04/87 35.01دق 28/04/87 44.16دق 29/04/87 30
شوال 27/05/87 14.15دق 28/05/87 17.05دق 29/05/87 29
ذي القعدة 26/06/87 38.05دق 26/06/87 20.19دق 27/06/87 30
ذي الحجة 25/07/87 3820 26/07/87 46.11دق 27/07/87 30(2/797)
مشروع التقويم الهجري لعام 1408 هـ
الشهر القمري تاريخ الاقتران ساعة الاقتران تاريخ ميدان الهلال ساعة ميلاد الهلال دخول الشهر عدد الأيام
محرم 24/08/87 59.11دق 25/08/87 44.04دق 26/08/87 29
صفر 23/09/87 09.03دق 23/09/87 43.19دق 24/09/87 30
ربيع الأول 22/10/87 39.17دق 23/10/87 00.08دق 24/10/87 29
ربيع الثاني 21/11/877 34.06دق 21/11/87 34.18دق 22/12/87 30
جمادى الأولى 20/12/87 26.18دق 21/12/87 21.05دق 22/12/87 29
جمادى الآخرة 19/01/88 27.05دق 19/01/88 18.17دق 20/01/88 30
رجب 17/02/88 55.15دق 18/02/88 11.05دق 29/02/88 29
شعبان 18/03/88 04.02دق 18/03/88 46.15دق 19/03/88 30
رمضان 16/04/88 01.12دق 17/04/88 03.01دق 18/04/88 29
شوال 15/05/88 12.22دق 16/05/88 25.10دق 17/05/88 29
ذي القعدة 14/06/88 15.09دق 14/06/88 02.22دق 15/06/88 30
ذي الحجة 13/07/88 54.21دق 14/07/88 02.13دق 15/07/88 30
(*) نظراً لتأخر الوقت بأمريكا الشمالية عن بقية العالم فإن الهلال يرى بها ليلة السابع عشر.
مشروع التقويم الهجري للخمسة الأشهر الأولى من عام 1409هـ
الشهر القمري تاريخ الاقتران ساعة الاقتران تاريخ ميلاد الهلال ساعة ميلاد الهلال دخول الشهر عدد الأيام
محرم 12/08/88 12و32دق 13/08/88 05و53دق 14/08/88 29
صفر 11/09/88 04و50دق 11/09/88 22و22دق 12/09/88 30
ربيع الأول 10/10/88 21و50دق 11/10/88 13و25دق 12/10/88 30
ربيع الثاني 09/11/88 14و21دق 10/11/88 03و31دق 11/11/88 29
جمادى الأولى 09/12/88 05و37دق 09/12/88 18و00دق 10/12/88 30(2/798)
العرض والمناقشة
يوم 14/4/1406هـ الموافق 26/12/1985م
الساعة: 9.35 – 14.30
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه.. اللهم صل عليه وعلى آله وعلى أصحابه أجمعين. وبعد،
في جدول أعمالنا لهذه الجلسة الصباحية موضوعان مهمان: أحدهما (توحيد بدايات الشهور العربية) والثاني (الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة) . في بيان الميقات المكاني. وحسب ترتيب الجدول يؤخذ (بتوحيد بدايات الشهور العربية) ونستعرض بصفته مختصرة وموجزة مع الإيضاح عن هذه البحوث التي أعدها أصحاب المشايخ ... وأرجو من الشيخ تسخيري إعطاء ملخص للبحث.
الشيخ محمد على تسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد البشر محمد وآله الطاهرين وصحبه الملتزمين.
هناك بعض النقاط أستعرضها سريعا في هذا المجال.. النقطة التي أذكرها كمقدمة أن بحثنا هذا يتصل بمسألة الوحدة الإسلامية. والوحدة الإسلامية هي، من أكبر خصائص هذه الأمة، وإذا أرادت الأمة أن تعود إلى ذاتها الحقيقية عليها أن تعود إلى الوحدة الإسلامية. ولكن يجب أن يكون ذلك بالأسلوب المقبول شرعا..(2/799)
النقطة الأخرى التي تعرف كمقدمة هي أن ما يسمى بالمحاق هي الحالة الطبيعية التي يكون فيها القمر بين الأرض والشمس ونصفه المظلم مواجها للأرض. وعندما يخرج القمر من هذه الحالة فيبدأ الحركة الاقترانية يبدو خيط قليل منه حينئذ نسميه الهلال وهذا الخيط يتصاعد ويكثر يوما بعد يوم حتى يصل إلى مرحلة البدر. فهي حالة طبيعية تحدث من خروج القمر من هذه الحالة. هذه الحالة الطبيعية حالة واحدة ولا تتكرر.
القمر إذا خرج من هذه الحالة فالشهر بدورته الطبيعة قد بدأ. ولكن الشهر بمفهومه الشرعي لا يبدأ إلا إذا رؤي هذا الهلال ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) ما دام أدخلنا عنصر الرؤية فمن الطبيعي أن تكون بداية الشهر بداية نسبية، لأن الهلال لا يمكنه أن يرى في كل البلدان بمستوى واحد، فتارة يظهر الهلال لدى بلد بعد الغروب قليلا ثم يختفي وأخرى يظهر قبل الغروب ويختفي أيضا، وضوء الشمس يمنع من رؤيته. وهناك حالات مختلفة يمكن أن نفترضها بحيث لا يرى البلد نور الهلال وحينئذ فلا مناص من القول بنسبة شروع الشهر من حيث الرؤية. هذا أيضا شيء نعتقد أنه واضح.
الشيء الآخر هو مسألة اختلاف المطالع. هذه المسألة تبدأ بهذا الشكل التقريري البسيط، أن الاختلاف بين بلد وبلد من حيث الرؤية تارة يكون لسبب طارئ كغيم وما إلى ذلك، هذا الاختلاف لا يعتد به، وأخرى يكون الاختلاف اختلافا في خطوط الطول والعرض، اختلاف بعيد. حينئذ وقع البحث الطبيعي بين العلماء، هل أن رؤية الهلال في بلد معين تكفي للحكم على العالم كله بأنه دخل في الشهر شرعا، من حيث الوجهة الشرعية لا من حيث الوجهة الطبيعية، الوجهة الطبيعية هي مقدمة للدخول الشرعي للشهر. أو أنه لكل بلد أفقه والآفاق مختلفة. هذا الاختلاف موجود بين أئمة المذاهب وموجود بين علماء الإمامية في داخل المذهب الإمامي بشكل واضح ويصل إلى حد الانقسام أحيانا الكلي بين العلماء في هذا المجال. فالطائفة القائلة به والطائفة المعترضة عليه كلتاهما قويتان من حيث القدرة والشهرة. محور اختلاف العلماء الإمامية في الأمر هو الانصراف في أحاديث، أن رئي أحاديث وردت عن أئمة الإمامية، الإمام الصادق والإمام الباقر، تؤكد على أن الهلال أن رؤي في بلد آخر أكتفى أهل هذا البلد به، هناك رواية تقول: "لا تصم إلا أن تراه فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه" ولا أريد أن أذكر الروايات، مذكورة هنا عندنا والاختلاف موجود. محور الاختلاف هو هذا المعنى، أن رؤي في بلد آخر، فيه إطلاق يشمل كل البلاد أو لا ينصرف هذا الإطلاق إلى خصوص البلد القريب، يعني هل هناك انصراف يصرف ظهور هذا اللفظ ظاهرا بنفسه بغض النظر عن الانصراف في الإطلاق أن رؤي في بلد آخر، ولكن في قباله يقال هناك انصراف إلى البلد القريب لأنه هو المطروح في الأذهان.(2/800)
هناك أدلة بالكفاية (يعني بكفاية الرؤية في بلد آخر) ، وأدلة للنافين بذلك مثلا مثال استعراض سريع: يقول القائلون بكفاية الرؤية في أي بلد في مجال دخول الأرض كلها في الشهر شرعا، يقولون: مثلا سورة (القدر) تدل على أنه ليلة القدر ليلة واحدة شخصية لجميع أهل الأرض على اختلاف بلدانهم في آفاقهم، ضرورة أن القرآن نزل في ليلة واحدة وهذه الليلة هي ليلة القدر وهي خير من ألف شهر وفيها يفرق كل أمر حكيم، وهذا يعم بقاع الأرض. تذكر أيضا الروايات. إلى جانب هذه الروايات يذكرون أن هناك أدعية مذكورة في صلاة العيد جاء فيها (أسألك بهذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيدا) وهذا يعني أن هذا عيد لمجموع المسلمين، وأيضا ختموا استدلالهم بالاستشهاد بسكوت الروايات بأجمعها عن اعتبار وحدة الأفق، هذا السكوت مع وجود هذه المسألة مطروحة يكشف لنا عن عدم اعتبار هذه الوحدة والمعيار هو الرؤية في أي بلد من أنحاء العالم.
هذا ما يقوله القائلون بكفاية الرؤية في بلد ما، يرد عليهم النافون لهذه الكفاية باستبعاد أن يكون النظر في عبارة، بلد آخر. إلى البلدان الواقعة في أقصى الأرض مثلا، ثم تأكد (وأرجو التركيز لان هذا دليل ينفع في مختلف المذاهب) تأكد العرف من اختلاف المطالع القمرية قياسا، العرف بنفسه يقيس على المطالع الشمسية المختلفة وإن كان هذا القياس باطلا لكن على أي حال مرتكز في ذهن العرف، ما دام مرتكزا فهو يصرف الظهور إلى الشكل الذي يلزم معه التصريح بعدم الفرق بين القريب والبعيد لو كان هو المراد، ومع عدمه يعني ذلك إقرار الفهم العرفي المنصرف إلى البلد القريب.(2/801)
أما الاستدلال بسورة القدر فلعله يجاب عنه بأن الليلة في علم الله تعالى واحدة ولكن هل يختلف معنى مسألة الحكم الظاهر لهذا البلد عن ذاك. وكذلك لعله يجاب عن الاستدلال بقوله عليه الصلاة والسلام: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) بأن الحكم وإن كان عاما إلا أنه ينحل بمقدار تعدد الأفراد والبلدان خصوصا مع ملاحظة الانصراف. وهكذا يبدأون بالإجابة على الروايات ويضعفون من سندها.
ومسألة سكوت الروايات عن اعتبار وحدة الأفق قد تجعل بنفسها دليلا فيقال بأن سكوتها عن بيان عدم الفرق بين القريب والبعيد رغم ما هو المتعارف من وجود هذا الفرق دليل على وجوده. وعلى أي حال فإن المسألة تعود للاستظهار. وحينئذ هذا الذي أخرج به فلا يمكن إقامة البرهان القاطع بعد أن لم يكن هناك تصريح نص به، وعلى هذا الأساس نقول أن مسألة توحيد الشهور القمرية أمر لا ينسجم مع هذا الخلاف ما دام قائما، ولا يمكن أن يشكل نظاما عاما سواء قلنا بانفتاح باب الاجتهاد أو انغلاقه. ومن الطبيعي والحال هذه، أنه لا يمكن إجبار فرد أو دولة على اتباع نظام قد لا تؤمن به شرعا. فكيف يمكن إصدار قرار التوحيد ورغم ما سبق فإننا نجد الجهود المبذولة قد تكون نافعة في تقريب وجهات النظر وتشخيص الشهادات الصحيحة من الباطلة أحيانا وهي تنفع في توحيد شطر كبير من الذين يؤمنون بمسلك وحدة الآفاق إلا أننا (وأرجو أن نركز) نحذر من الاستغلال السياسي اللئيم لهذه المسألة الشريفة.
وأخيرا نقول إننا إذا تمسكنا بشريعتنا وبحقانية ما تقول لا يهمنا ما يقال من مسألة الرأي العام العالمي وما إلى ذلك. فمع تقدير للجهود المبذولة في هذا السبيل نود أن يخرج هذا القرار من الصفة الإلزامية إلى الصفة الترجيحية، يعني يرجح للدول الإسلامية الأخذ بوحدة متناسبة دون إلزام لأن الأمر يرتبط بعبادات والعبادات تتبع الآراء والقناعات والقطوع والقطع حجة على الإنسان.
وأعتذر وشكرا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/802)
الشيخ المختار السلامي:
قرأ فضيلته نص البحث الذي قدمه في الموضوع، وهو منشور بغير هذا المكان مع بقية الدراسات المعروضة على الدورة الثانية لمجلس المجمع.
الرئيس:
كأني أرى المشايخ والإخوان اتجهوا إلى قراءة البحوث وأحس من المشايخ أنه ليست هناك رغبة في قراءة البحث المراد. والمنهج الذي يسار عليه هو إعطاء ملخص لهذا البحث أما قراءة البحوث فغير ضرورية لأنها بين يدي المشايخ، فأرجو من المشايخ ملاحظة المراد من أصحاب الفضيلة المعدين للبحوث هو إعطاء خلاصة لهذا البحث.
حتى تكون أجمع للذهن.
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم
لدي شعبتان في البحث رئيستان ما ذهبت إليه في المطالع وما ذهبت إليه في أمر الحساب وسأذكر الخلاصة فقط ولن أتعرض لأي خلاف سابق ولا أقوال المذاهب ولا الأدلة لأن هذا قد استوفى من الأساتذة الذين تفضلوا قبلي بقراءة بحوثهم أو مختصراتهم.
أولا فيما ذهبت إليه في المطالع والله تعالى أعلم بحقيقة الأمر الذي ثبت لدى علماء الطبيعة اليوم في هذا القرن العشرين الميلادي الخامس عشر الهجري. وإني أكتب ذلك في يوم الأحد الواقع واحد المحرم 1406هـ الموافق 15 أيلول 1985م. الذي ثبت بعد اكتشاف مجاهيل الأرض وقاراتها لا سيما أمريكا منذ قرابة أربعمائة سنة ونيف أن كلا من القولين القول باتحاد المطلع لدى أهل المشرق والمغرب والقول باختلاف المطلع بين كل بلد وبلد ومصر ومصر كليهما مجانف عن الصحة بعيدا عن الحقيقة العلمية فيما أرى. ذلك بأن الأرض كما ثبت أهليليجية التكوين بيضوية ولها وجهان. وجه منير باتجاه الشمس ووجه معتم باتجاه العكس فساعة يكون النهار في أوله في الوجه المنير يكون الليل في أوله في الوجه المعتم. ومن هنا يختلف الزمان وتوقيت الساعات وما إلى ذلك.
فتأسيسا على ذلك لا بد من معيار علمي نمسك به في حل هذه المشكلة ألا وهو خطوط الطول. فلنقسم الأرض حسب هذا المعيار خطوط الطول إلى ثلاثة كبرى أقطار رئيسة والفواصل بينها طبيعة كالبحار..(2/803)
أولا: القارة الأمريكية كلها قطر بما فيها الولايات المتحدة وكندا والبرازيل وأمريكا الجنوبية والجزر التابعة لها إلى قناة بنما.
ثانيا: من المغرب الأقصى وما يسامته شمالا من بريطانيا وإسبانيا إلى الخليج العربي شرقا أو الخليج الإسلامي وما يسامته شمالا من العراق وتركيا وجبال الأورال كل ذلك قطر.. وفيما بين ذلك مثلا مثل الجزيرة العربية وبلاد الشام وتركيا وأوربا الشرقية والغربية والمغرب الأوسط والأدنى ومصر والسودان والحبشة وما إلى ذلك.
ثالثا: ومن شرقي الخليج إلى اليابان قطر، بما فيه من إيران وبلاد الهند والباكستان والأفغان والجمهوريات السوفياتية الإسلامية وبلاد الصين وبلاد اليابان، فكل قطر من هذه الأقطار الثلاثة وحدة مكانية مستقلة عما عداه من القطرين الآخرين إذا رؤي الهلال فيه لا يلزم القطر الثاني والثالث، يعني إذا رؤي في أمريكا الهلال لا يلزمنا نحن، وإذا رؤي عندنا لا يلزم المغرب الأقصى. وإذا رؤي في الصين لا يلزم الجزيرة العربية، بل يلزم ذلك القطر بكل ما فيه من أمصار ودول وبلاد، والله تعالى أعلم.(2/804)
الشعبة الثانية: خلاصة ما ذهبت إليه في شأن الحساب لإثبات الأهلة. ذهب الفقهاء الأقدمون رضي الله عنهم والمعاصرون وفقنا الله وإياهم في هذه المسألة إلى مذهبين ... مذهب أخذ بالحساب مطلقا ومذهب رفض الأخذ بالحساب مطلقا في شأن إثبات الأهلة. والذي أراه أن كلا من هذين المذهبين مع توقيري وتقديري لأصحابهما، إفراط وتفريط. والصواب هو الوسط بين هذا وذاك، لكن لا ضير على من اجتهد فلم يحالفة الصواب فأخطأ فله أجر واحد وأسأله تعالى أن أكون من أصحاب الأجرين.. الصواب الذي يبدو لي وهو ما ينبغي أن يسار إليه هو: أن الأصل في إثبات الأهلة الرؤية البصرية أو التلسكوبية من على ظهر الأرض لا في السماء ولا على شاهق جبل بقوله لا من التليسكوب على شاهق جبل غير ما يكون على ظهر الأرض لا فرق بين أن نرى بعين مجردة أو التليسكوب على ظهر البسيطة لقوله عليه الصلاة والسلام ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) فإذا حصل المقصود بهذا الأصل، وأكرر التليسكوب والرؤية على ظهر الأرض لا في السماء ولا على شاهق جبل، لاختلاف الرؤية، فإذا حصل المقصود بهذا الأصل فبها ونعمت. كأن جزمنا بالرؤية لوقوعها بأحد الأمرين المذكورين العين المجردة والتليسكوب من على ظهر الأرض وسهلها وكانت السماء مصحية. وإذا كانت السماء مصحية ولم ير الهلال في القطر كله كما قدمت في مبحث المطالع لم نعمد إلى الحساب لوضوح الأمر ولا نقلد قطرا مجاورا كما مر. وأما إذا كانت السماء غير مصحية واحتمال الأمران (يعني ما عاد فيه قطع) ولادة الهلال وعدمها ولم تحدث رؤية معتبرة فعندها نستطيع الأخذ بقول الفلكيين وأصحاب الأرصاد الجوية ذوي الحسابات الدقيقة لأنهم على علم شبه قطعي وأخالف أخي العالم الجليل الأستاذ السلامي بقطعية الحساب، لأن الحساب مهما بلغ كما هو معلوم عند علماء الرياضيات مهما بلغ فهنالك احتمال ولو واحد من مائة مليون غلط، كما ذكر لي أحد علماء الأرصاد الجوية في دمشق على علم شبه قطعي (يعني 99.9) وغلطهم نادر والعلم يتفق مع الدين ولا يتنافى معه بحال. هب أنه في غلط نادر. الغلط النادر لا قيمة له. لا سيما إذا كان الشهر الذي انمحق هلاله تسعة وعشرين واحتمل أن يكون ما بعده الثلاثين أو الواحد من الشهر الجديد أي مزيد الانمحاق أو الولادة الجديدة وأعتقد أن هذا الأخذ بقول أهل الأرصاد الجوية وأصحاب الفلك في هذه المسألة رؤية قلبية تدخل تحت الرؤية الشرعية، لأن الرؤية القلبية مجاز لا يصار إليه إلا عند تعذر الحقيقة كما قرر الأصوليون ونحن لا نصير إلى هذه الرؤية القلبية إلا عند تعذر الرؤية البصرية واحتمال الولادة وعدمها شرعا. والله تعالى أعلم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وشكرا.(2/805)
الشيخ مصطفى الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم.. سيادة الرئيس سلفا أقول أن بحثي لا تتجاوز قراءته الحد الأدنى من الزمن المقدر.
وبحث فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء منشور بغير هذا المكان مع بقية البحوث المقدمة إلى الدورة الثانية لمجلس المجمع.
الرئيس:
هل الأحكام تعلل بالأوصاف بمعنى أن يكون الوصف علة للحكم كقوله تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} .
الشيخ مصطفى الزرقاء:
الأوصاف التي ترد في النصوص لها أحوال لا يمكن الجواب بجواب مطلق قد تكون الأوصاف واردة مورد القيد مثلا كقوله تعالى {رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . قد تكون الأوصاف ورادة لبيان واقع وليست تحمل معنى القيد كما في قوله تعالى {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} لذلك الأوصاف لا يمكن الجواب فيها وإنما تختلف الأحوال بحسب القرائن أنها وصف قيدي أو وصف واقعي، ولكن الأمور التي تعلل بعلة، نحن في مقام العلل، فلما يقول رسول الله عليه السلام ((إنا أمة)) هذا ليس وصفا إنما هو علة لجوابه في قوله ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) فالموضوع مختلف لا نستطيع أن نوجب المقارنة بين الأوصاف التي فيها احتمالات وبين العلل التي تضمنها النص نفسه.(2/806)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
في الحقيقة أن البحث في هذه القضية ليس جديدا وأن موقف العلماء منها أيضا ليس جديدا، فشروح خليل، الدسوقي يقول: أن هذا الحساب قطعي ومع ذلك فإن الشارع يعتبره. يذكرون قطعية الحساب، يعترفون بأن الحساب قطعي وهو على الأقل في زمن متأخر ما، منهم من وصل الحساب إلى القطعية، ومع ذلك اعتبروا أنه ليس مناطا للحكم، وأريد أن أسأل أولا سؤالين وبعد ذلك أحتفظ لنفسي بالتدخل.
السؤال الأول: ما هو مراد الأستاذ مصطفى الزرقاء بالعمل بالحساب، هل معناه وجوب العمل به أو معناه جواز العمل. (بمعنى أن الحساب يقوم مقام الرؤية في إيجاب العمل على المكلف أو أن المكلف يلجا له فقط) هذا السؤال الأول.
السؤال الثاني: هل إذا أثبت الحساب إمكانية الرؤية البصرية في مكان معين يشمل هذا جميع أقطار الدنيا التي يمكن أن لا يثبت الحساب فيها نفس الشئ الذي أثبته في الصين مثلا.
أود الإجابة على هذين السؤالين لأتدخل بعد ذلك.(2/807)
الشيخ مصطفى الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أما السؤال الأول: فهو أني بينت بصراحة ووضوح أن اعتماد الحساب ليس معناه إلغاء اعتبار الرؤية أصلا في موضوع الأهلة بشكل دائم، وحلول هذا محل ذاك. قلت أن الشريعة لا يمكن أن تربط التكاليف بأمر قد يوجد وقد يعدم بعد الوجود، واليوم علم الفلك وكل ما وصل إليه مما شرحنا، يمكن قنبلة ذرية تلغي هذا العالم وأهله وتعيد أهل الأرض أو ما يبقى منهم إلى الحالة البدائية. والشريعة خالدة إلى يوم الدين، فلا يمكن ولا يوجد في الشرع أبدا عندنا، كما صرح به العلماء الأوائل ونقلته، أن يربط تكليف بأمر يصعب علمه أو قد علمه يوجد وقد يفقد، ولكن هل إذا ربطت الشريعة بعض هذه الأحكام بمعالم وكانت هذه المعالم وسيلة ووجدنا وسيلة، واستطعنا ورزقنا الله علما وهو من مواهب الله، رزقنا علما أصبحنا نستطيع أن نجد وسيلة أدق وأضبط وأكثر تحديدا ولا تحتمل الخطأ. هذا هل يمنع من أن نبني عليها، وقد بينت أنا في جلسة قديمة في مجمع الفقه بمكة في أيام الشيخ عبد الله بن حميد، رحمه الله، بينت وطرحت هذه الأسئلة، هل نعتمد في صلواتنا ومواقيتها الرؤية أو أننا نبني على الساعة التي بين أيدينا والتقويم الذي هو أيضا موسوعة الموضوع من حساب فلكي وهل تكون هذه الساعة التي نعتمدها، هل نحن بنيناها على رؤيتنا أو هي ساعات أجنبية ومستوردة ومرتبة على حساب فلكي. وأمر الصلاة أعظم من أمر الصوم. فلذلك فكيف نقبل هذا ولا نقبل ذاك. وأنا بينت أن الأصل في الرؤية تبقى كأنها هي الأصل لأنه هناك حتى إلى يومنا هذا يمكن في مجاهل الأرض وبقاعها يدخل الإسلام بلاد ليس لديها علم بالحساب ولا تصل إليها الأخبار (الرؤية أساس) تبقى أساسا، ولكن حيث يوجد إمكان لاعتماد هذا العلم بصورته التي بلغت من الدقة درجة اليقين هذا يصبح جائزا بل أقول أكثر من جائز (واجب) إذا كان يتوقف عليه القضاء على هذه الفوضى المخجلة التي أصبحنا بها أضحوكة في العالم الآخر، هذه الفوضى إذا كان يخلصنا منها موضوع الحساب اليقيني فيصبح أكثر من جائز بل واجب.
أما السؤال الثاني: وهو أنه يصرح معظم فقهاء الأمة وأئمتها بأنه لا عبرة لاختلاف المطالع وإن كان هناك من يرى خلاف ذلك، ومذهب الحنفية يصرحون بهذا التعبير "إنه يلزم أهل المغرب برؤية أهل المشرق والعكس بالعكس" بهذا التعبير ومذهب أحمد هو هذا أيضا أنه لا عبرة باختلاف المطالع ويلزم أهل المشارق برؤية أهل المغارب والعكس بالعكس، فلذلك ما المانع ونحن أمامنا أئمة هم قناطر الإسلام وهم سبيلنا إلى الله أن نعتمد رأي من يقول بهذا ولا نأخذ برأي من يقول باختلاف المطالع، أي حرج علينا إذا لقينا الله تعالى بآراء هؤلاء الأئمة، وقلنا بتوحيد المطالع كما هو نصوص هؤلاء وأزلنا هذه الفوضى من العالم الإسلامي، ما المانع هل يوجب علينا الشرع ألا نبني حياتنا إلا على أضيق الآراء وأكثرها حرجا وأكثرها فوضى، لا أدري من أين هذا.
الرئيس:
يا فضيلة الشيخ نقطة توضيحية بسيطة.. الحقيقة أن اختلاف المطالع هو الذي عليه الجمهور وأنت تفضلتم قلتم أن الذي عليه الأكثر هو الجائز حتى أن عبد البر حكى الإجماع على اختلاف المطالع.(2/808)
الشيخ الزرقاء:
سيدي في مذهب أحمد أنه كالحنفية عدم اعتبار المطالع والنصوص موجودة.
الرئيس:
نحن نقول في مذهب الإمام أحمد وغيره نحن نقول عبارة الأكثر.
الشيخ الزرقاء:
لكم رأيكم أنا رأيي أنه يكفينا أن نلقى الله برأي إمامين عظيمين ولو خالفهما الأكثر.
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم.. بعد هذا الإيضاح من فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء أريد أن أتابع تدخلي في هذه القضية لأوضح بعض النقاط المهمة.
أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ألغى الحساب في هذه القضية إلغاء صريحا وواضحا وأن العلماء الذين جاؤوا بعد ذلك إنما حاولوا التعليل والعلل التي يقدومونها إنما هي علل ظنية والمعروف عند الفقهاء أن العلة إذا كانت مظنونة لا ينتفي الحكم بها ولا يدور معها، فهم يقدمون عللا ظنية فقط. والأمية ليست، إنما هي الوصف للواقع كما قالها الشيخ نفسه عندما تحدث عن أنواع الأوصاف، الوصف الذي يثبت الواقع أو يجري على الغالب كما يقول الفقهاء في عدم اعتبار مفهوم المخالفة. فمفهوم المخالفة معتبر عند من يعتبره إلا إذا كان عبارة عن ذكر للواقع أو التأكيد عند السامع أو جواب على سؤال في قضية معينة. إلى آخر تلك المسائل التي ذكروها والتي تبطل مفهوم المخالفة، وإلا فكيف يحكم على هذه الأمة بأنها ستظل أمية والله سبحانه وتعالى يقول وقد نبه رئيس الجلسة على هذا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فالرسول الأمي هذا مدح النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يتعلم وأن الله سبحانه وتعالى أوحى إليه علما من لدنه وعلمه علما من عنده، أما هذه الأمة بعد أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم وعلمها الكتابة والحكمة فقد انتقلت من الأمية، أما الكتابة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه الكتابة، كان منهم كتبة للوحي، وفي أسارى بدر أمر الأسير الذي لا يستطيع يفدي أو يفادي نفسه، أن يعلم عشرة من أصحابه الكتابة، كما يقوله علماء السيرة فالأمية كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيلها عن هذه الأمة. ومع ذلك بقي الحكم ثابتا لم يتغير. وكما أشرت إليه سابقا فبعض العلماء نصوا على أن الحساب قطعي، ونحن نعلم أن من العلماء من يعرف الحساب معرفة جيدة، السوسي عندنا في المغرب وغيره ألفوا كتبا عظيمة في الحساب الفلكي وهو قطعيا عندهم، لا يرتابون فيه ولا يتمارون فيه، ومع ذلك ظل الحكم ثابتا على ما كان عليه حتى قال القرافي، ذكر فرقا بين ما يعمل فيه بالحساب وما ما لا يعمل فيه بالحساب، وذكر أن الصوم مما لا يعمل فيه بالحساب لدليل نص الشارع..(2/809)
هنا أود أن أشير إلى الفوضى التي تحدث عنها وكأنها مناط الحكم، فقال مرة: إنها توجب جواز العمل بالحساب، ومرة قال: إنها ترتقي به إلى رتبة الوجوب. في الحقيقة أني لا أرى من هذا المنظار، نحن نصلي الصبح هنا وفي أمريكا ربما يصلون العشاء وليس في هذا فوضى ولا حرج مطلقا. الأوقات متفاوتة ومن المهم أن يذكر الله تعالى في كل وقت وفي كل رقعة من رقاع الدنيا وفي كل بقعة من بقاعها. فلا أرى في ذلك فوضى ولا أرى في ذلك شناعة. فإذا كان يبني الوجوب على الفوضى، فأرى أن يسحب الوجوب، الوجوب لا يترتب على هذا، الوجوب يترتب على رؤية الشاهد {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} على الخلاف طبعا في {شَهِدَ} هل الشاهد الحاضر الذي ليس مسافرا أو الشاهد من شاهد بعينه. إعمال الأستاذ الكبير لمذهب الإمام أحمد في مسألة عموم الرؤية في كل الأقطار مع نفيه للرؤية في نفس الوقت أرى فيه تناقضا وأرى فيه تلفيقا، أنت تنفي العمل بالرؤية وتقول بالعمل بالمراصد أو بالحساب الفلكي وفي نفس الوقت تعمل دليل القائل بالرؤية، الذين يقولون بوجوب الرؤية في كل مكان لأنه يعتبرون أن الرؤية صالحة بمعنى أنه إذا رؤي في مكان ما في الإمكان رؤيته بالعين المجردة من مكان آخر، يعني لا يعتبرون هذه الاعتبارات الحسابية، أما أنت وقد اعتبرت الحساب معيارا والحساب يثبت لك إمكانية رؤيته بالعين المجردة في الصين وينفي لك ذلك في أفريقيا وفي المغرب فلا يمكن إلا أن تعتمد الحساب اعتمادا مطلقا أو أن لا تعتمده، فإذا اعتمدت الحساب فعليك أن تقصر على المكان الذي تمكن فيه رؤية الهلال بالعين المجردة.(2/810)
إذن أرى هنا تناقضا واضحا. أهل المغرب يصومون والهلال لم يصل إليهم بعد، كما لو صلوا الظهر على صلاة أهل مكة، هذا لا يجوز مطلقا، هذه دورة الأفلاك وهذه الحركات كما يقول أبو حامد رحمه الله تعالى في المنقذ من الضلال: أن هذه العلل التي أناط بها الشارع {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} في هذا الوقت التي تكون فيه الشمس لمسامته الأرض في هذا الوقت تجب علينا أربع ركعات في وقت بعد ذلك تجب أربع ركعات، وفي وقت بعد ذلك تجب ثلاث ركعات إلخ.. يقول "إن لهذا أسرار عظيمة لا ترى إلا من عين النبوة"، وباختصار لا نريد أن نذهب في كلام أبي حامد رحمه الله تعالى من الأشياء التي قد تتراءى له كصوفي وكشخص من نوع خاص لا شك في ذلك ولا ريب، ولكن نريد أن نقول أن للعبادة أسرارا وإن اتباع الشارع هو الطريق إلى الوصول إلى هذه الأسرار، ولا يجوز لنا أن نزيد ولا ننقص، وهذه ملاحظة عامة إذا استمررنا هكذا لمسايرة كل شيء وللتخلص من كل قيد، فنستخلص من التكليف، والتكليف ما هو؟ هو إلزام لما يشق. التكليف له أحكامه وله أصوله وفي رأيي والله سبحانه وتعالى أعلم أنه يجب علينا أن نتقيد بهذه الأحكام وبهذه الأصول ولا شناعة في ذلك ولا غرابة. إذا قام المسلم في أي رقعة من الأرض ينظر إلى السماء ينظر إلى آفاق السماء ليرى الهلال ليرى سبب وجود الصوم فإنه شيء حسن جدا ومقبول، وقد أراحني الشيخ فذكر ما قاله ابن عبد البر رحمه الله تعالى في ذلك ونقله الحطاب عنه وإن كان في مذهب مالك من يقوم بعموم الرؤية كما قال خليل عما نقل به عنهما إلا أنها الرؤية وليست الحساب الفلكي.. وشكرا.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/811)
الشيخ مصطفى الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم.. أحب أن أخالف الأخ الكريم الذي تكلم في تفسير الآية الكريمة {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فسرها بأنه يعلم "الكتابة والحساب" وما إلى ذلك.
الشيخ عبد الله بن بيه:
أنا لم أقل ذلك مطلقا.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
هذا الذي سمعناه وأرجو عدم المقاطعة بهذا الشكل وأنا أتكلم أي نظام هذا، يمكن أن تضبط الجلسة "موجها كلامه إلى السيد الرئيس".
الشيخ عبد الله بن بيه:
فقط أنني أريد ألا تجيب عن مسألة أنا لم أقلها.. الكتابة تحدثت عنها بعد ذلك وذكرت دليلي.
الشيخ مصطفى الزرقاء:
فالذي سمعته وسمعه بجانبي أيضا فضيلة الشيخ البسام وكذلك أظن للجماعة آذانا أننا سمعناه يقول "يعلمه الكتابة" حتى يمكن ذكر الحساب أيضا أو القلم لا أدري.(2/812)
ولا شك أن الكتاب في الآية الكريمة هو القرآن يعلمه القرآن وإلا لتناقضت الآية مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) فكيف هذا، ثم أذكر شيئا لكي يسال عنه أهل المعرفة من الفلكيين، أنا الذي كنت قرأته في دراستي الأولى أن القمر ليس كموضوع الشمس، الشمس مطالعها بحسب خطوط الطول التي ذكرها أخونا الأستاذ فرفور، أن هذه الخطوط تجعل المطالع تختلف ثانية وثانية، يعني مع الدوران دوران الأرض المطالع التي على خطوط الطول الواحدة تشرق عليها الشمس في لحظة واحدة والتي بعد ذلك تشرق عليها بعد ذلك إلخ.. أما القمر فإنه يرى من نصف الكرة الأرضية كلها في وقت واحد، يعني موضوع القمر يختلف. هذا الذي درسته في علم الفلك في دراستي الأولى. وأذكره للبحث. ثم بالنسبة لكي لا آخذ الكلام مرة أخرى أخونا الأستاذ الكريم الأستاذ فرفور ذكر في كلمته شيئا أنه يرى أن الرؤية التي يجب أن يؤخذ بها هي ما يرى بالعين الباصرة أو بالتلسكوب من سطح الأرض لا من على شاهق لأن العلو يغير مكان الرؤية. فأنا ألاحظ أن الذي ذكره صحيح بالنسبة إلى الرؤية التي ترى فيها الأفلاك من مشارقها "من جهة الشرق"، من المشارق إذا كنا على مكان عال نرى الشروق قبل من يراه من على سطح الأرض، أما في رؤية الهلال، الهلال يكون من الأعلى ينحدر إلى الأفق الغربي وفي هذه الحال لا فرق بين أن يكون على شاهق أو يكون من على سطح الأرض ما دام الهلال يأتي من علو وينحدر ليغيب في الأفق. فالعلو لا تأثير لذلك ما دام أنه لا نراه بعد الغروب وإنما نراه قبل أن يصل إلى الأفق الغربي فلا فرق بين الشواهق وسطح الأرض.(2/813)
الشيخ عبد الله بن بيه:
سيادة الرئيس، أريد أن أصحح هذا فقط ملاحظة صغيرة.
الشيخ السلامي:
فيه نقطة نظام ما أحد يتكلم إلا بإذن.
الرئيس:
سنعطيه الكلمة لأنه كلمة تتعلق بجناب النبي صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يصححها ولو نقطة نظام.
الشيخ عبد الله بن بيه:
في الحقيقة إني أود أن ألاحظ ملاحظة بسيطة لا أوجهها إلى الأستاذ الكبير ولكن تنبغي النزاهة في البحث الذي نبحث.
أنا لم أقل أبدا ولم أفسر قوله تعالى {يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} لم أفسره بالكتابة بل قلت بعد ذلك عطفت عليه وقلت وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم الكتابة وذكرت قضية أسرى بدر، وأن الفقير منهم كان يؤمر بتعليم الكتابة ليكن بذلك واضح جدا.(2/814)
الرئيس:
هذا صحيح وهو الذي سمعناه وعلم يا شيخ.. والشيخ عبد الحليم.
الشيخ عبد الحليم الجندي:
أشكر السيد الرئيس.. أنا لا أريد أن أدخل في هذا الجدل الفقهي أو الأصولي الذي سلف به أساتذتنا وأصدقاؤنا، إنما أريد أن أنبه أن الأمر مما عمت به البلوى. حتى أن المؤتمر الإسلامي أشاد بالقرارات الصادرة من المؤتمرات الإسلامية السابقة للوزراء الداعية إلى توحيد الشهور القمرية بالدول. وأشكر للأمانة أيضا أنها نبهتنا إلى هذا وأحسنت إذ وضعته في الملخص الذي بين أيدينا. هذه إذن مسألة مما يعمل وزراء الخارجية من أجل درء مفاسدها التي يعانيها سفراؤهم أو يعانيها المسلمون في شتى الدول العربية. إذن نحن أمام مسألة يجب أن نتفق عليها أو نعلن نهائيا أننا اختلفنا فيها ونترك الأشياء معلقة على ما هي عليه، إنما يجب أن نصدر فيها قرارا لنريح بال وزارات الخارجية للدول الإسلامية جميعا. فيما يتعلق بالرؤية ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) الرؤية كما تكون حاسة بالبصر تكون عقلية أيضا لأن البصر لا يأمر بالصيام ولا بالإفطار وإنما الذي يصدر الأمر بهذا هو العقل. والله أن ناشد الناس ناشد {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} ، فالفؤاد هنا هو القلب أو العقل والذي يصوم أو يفطر هو المرء بعقله وينفذ وليست العبادة في رؤية القمر أبدا وإنما العبادة في الصوم. بأن نتعبد، بأن يفسر الرؤية بأنها مجرد الرؤية بالعين ونقف عند ذلك أن أتاح الله لنا وجها آخر أدق وأبصر وأوثق ويمكن أن يجتمع عليه العالم، أن صنعنا غير ذلك نكون قد فرطنا شيئا ما، وقد انسقنا وراء ما قرأنا في كتب السابقين، الذي لا جدال فيه أن كتب السابقين عظيمة وكلهم أهل ورع. المراجع اليوم تسوق فقهاء في أعلى درجات من الورع.(2/815)
الرئيس:
يا فضيلة الشيخ.. أرجو أن تتفضل بكلمة بسيطة.. تعرفون أن الرؤية الحقيقية المحققة ليس وراءها ما هو أدق ولا أمكن ولا أكثر يقينا منها. وهي التي علق بها الرسول عليه الصلاة والسلام، قصدي ملاحظتي ولو كانت بسيطة أرجو أن تكون في الاعتبار إذا تفضلتم أن كون ما خرج من الحساب أنه أدق وأتقن من الرؤية التي علق عليها الشارع لأن الشارع لا يعلق إلا على أمور معصومة، فالرؤية المحققة التي ترى بالعين المجردة والتي علق عليها الشارع الحكم لا شك أنها هي التي فيها العصمة. قصدي التفضيل على أنها هو أدق وأحكم أو شيء من هذا القبيل، ولعلني أكون مخطأ.
الشيخ عبد الحليم الجندي:
لست مخطئا أبدا، ولكنه تحفظ. والتحفظات مريحة وهي تريح المؤتمر أيضا. إنما نحن قلنا أن الرؤية بالبصر هي الأصل وقد كانت كذلك عندما لم يكن هنالك رؤية غيرها، إنما قلت تعبيرا أرجو أن يكون قد اتضح وهو: أن الرؤية بالبصر لنصوم ليحكم العقل بأن الصيام وقع. فالرؤية بالبصر طريقة إلى أن يفهم العقل وينفذ العبادة. هذا كلام أقوله وأرجو أن لا أطيل فيه فشرحه أيضا تكرار. إنما أريد أن أقول شيئا آخر: إننا إذا رأينا أن نؤجل هذه المسألة فإننا لن نحتاج إلى خبراء لأن هذه مسألة الخبراء قد نظرت في أماكن كثيرة وهي ثابتة ولا جدال فيها، وشيء آخر أيضا، لا يجوز لنا أن نصرف النظر عن هذه المسألة إذا كانت قد نظرتها جهات أخرى، فإنما الأمر لهذا المؤتمر وهو مطروح عليه وهو الذي يبدي رأيه فيه وهو الذي ناشده مؤتمر وزراء الخارجية أن يتكلم فيه. ولذلك أرجو أن لا نرجع إلى جهة أخرى سبقتنا، فإن الجهات الأخرى جميعا أكثر من جهة، نظرت وأبدت آراء بعضها مختلف وبعضها متفق، ولذلك أرجو أن تكون الكلمة الأخيرة لهذا المؤتمر باعتباره مؤتمر عامة المسلمين وشكرا.
الشيخ مختار ولد أباه:
بسم الله الرحمن الرحيم لا أريد أن آتي بشيء بالنسبة للحكم الفقهي لأن هذا موكول للعلماء الأجلاء، فقط أريد أن أبين بعض الإجراءات المتخذة حاليا من قبل الحكومات، حكومات الدول الإسلامية ومن قبل منظمة المؤتمر الإسلامي في هذا الموضوع لعل هذا يساعدنا على فهم بعض جوانب القضية ككل. تعرفون أيها المشايخ أنه منذ ثماني سنوات والوزراء، وزراء الأوقاف مهتمون بهذه القضية. وقد كونوا لجنة خاصة لها أمانتها ولها جهازها، وهذا طبعا قبل إنشاء هذا المجمع الفقهي. وهذه اللجنة تتكون من أندونيسيا وبنجلاديش، وتركيا، وتونس، والجزائر، والسعودية والعراق، وقطر، والكويت، وقد أصدرت عدة اجتماعات وآخر اجتماع لها كان في الأشهر الماضية في مكة المكرمة برئاسة سماحة الشيخ عبد الله بن باز، وزيادة على الأعضاء الذين هم باللجنة، شارك أيضا كذلك في أعمالها بالأردن، والإمارات ودولة البحرين والسودان وماليزيا. وكانت اللجنة مكونة من علماء وفقهاء وممثلي وزراء الأوقاف ومعهم خبراء، خبراء في علم الفلك من المسلمين الذين يمثلون هذه الدول. وطبعا كانت مناقشة حول جميع قضايا المطالع وقضايا الفلك والحساب والرؤية وما إلى ذلك. غير أن الفلكيين المسلمين قدموا جداول، وهذه الجداول موجودة بين أيديكم في هذا البحث. وهي تتناول سنتين، السنة الهجرية 1407 والسنة الهجرية 1408 وأربعة أشهر من سنة 1409 ويبينون فيها مثلا تاريخ الاقتران وتاريخ ميلاد الهلال لكل سنة بالمقارنة مع التقويم الشمسي، وهي تقريبا سهلة للاطلاع عليها حيث إنها في صفحتين فقط.(2/816)
وللجواب على بعض الأسئلة تلاحظون أنه فقط يعتقد الفلكيون أن هذه الجداول يمكن أن تطبق على جميع العالم ما عدا استثناءات بينوها وهي مثلا، أن رمضان بالنسبة لسنة 1408هـ سوف يكون ميلاد هلاله بالنسبة للعموم في يوم 17أبريل 1988 وأنه بالنسبة لأمريكا سوف يكون هناك فرق في يوم فقط. هذا بحسب الجداول والخرائط والحساب الذين عملوه. طبعا كانت المناقشة أيضا بين الفقهاء عادة مثل المناقشة بين الفقهاء في كل مكان، ولا شك أن وزراء الخارجية يودون الاستنارة برأي المجمع لأن هذه القضية مطروحة عليهم في فاس وسوف يتخذون فيها موقفا لكن هذا الموقف لن يكون شرعيا إلا إذا كان معتمدا من جانب موقف المجمع الفقهي. ثم أن الاجتماع الأخير بمكة، كان هناك إجماع للمجتمعين. اتفاق كامل بالنسبة للمشاركين في المؤتمر حول اعتماد هذه الجداول مع تبيان أنه فضيلة الشيخ عبد الله بن باز قال: أنا أوافق على هذه الجداول لكن فقط بالنسبة للأمور العادية بالنسبة للتوثيق وبالنسبة للمسائل الشرعية وتبيان التواريخ للمسلمين لكن قال أنه في رأيه بالنسبة لرمضان وبالنسبة للفطر وبالنسبة للحج أود أن يكون الاعتماد فقط على الرؤية. المهم أنه أردت فقط لفت أنظار العلماء الأجلاء على وجود هذه اللجنة التي كونت قبل اجتماع المؤتمر وعلى أن القضية سوف تبحث في مؤتمر وزراء الخارجية، وإن مؤتمر وزراء الخارجية سوف يستنير برأيكم في الموضوع. وإنكم عندكم الجداول التي أقرها الفلكيون الذين شاركوا في هذا الاجتماع الأخير الذي وقع في مكة حول هذا الموضوع، وشكرا.(2/817)
الشيخ تسخيري:
فيه إشكالات ترد على الأستاذ تطرح كلها أما أن نعبر الموضوع إلى موضوع آخر ما راح نصل. هناك إشكالات على سيادة الأستاذ يجب أن تطرح حتى يجيب عليها.. هناك إشكال علمي يطرح هنا ويرجأ الإجابة عليه لينير.
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحقيقة أنني أردت أن أوضح مجملا أو خلاصة من هذه البحوث التي استفدنا منها جميعا، وأبين الخلاصة التي يمكن أن نترجمها إلى واقع عملي. لأول مرة في هذه الدورة وجدت أصحاب البحوث الأربعة قد اتفقوا على جواز الاعتماد في إثبات الأهلة على الحساب الفلكي. هذا شيء، الشيء الثاني، مما لا شك فيه أن الفقهاء بالرغم من اختلافهم في قضية الاعتماد على توحيد بدء الصيام والأعياد فقد قرروا جميعا أن اختلاف المطالع من حيث الحقيقة والواقع أمر قائم ثابت لا إشكال فيه، اختلاف المطالع قائم وثابت ولكن هل يلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب أم لا؟ فذلك هو محط الخلاف رأيان. الشيء الثالث لا أريد أن أدخل وأقيس الصوم على الصلاة، فالصلاة كما هو معروف منوطة بالشمس لا بالقمر وهي مرتبطة بالتاريخ اليومي {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} يفهم من هذه الآية أن مواقيت الصلاة مرتبطة بالشمس لا بالقمر، وكلامنا في القمر لإثبات بدء هلال الشهر ونهايته. أما ما يتعلق بتعليل حكم الرؤية وربطها بوصف الأمية، نحن نقطع ونؤكد أن وصف الأمية لا ينسحب على جميع الأمة الإسلامية إلى يوم القيامة.(2/818)
وإنما هذا وصف وقتي لوضع وحالة العرب في زمن الرسالة وهذا مفهوم والواقع يؤيده، لا شك أن الأمة لم تعد أمة أمية منذ قديم الزمان بل من العصور الأولى في العهد العباسي وإلى هذا اليوم، وصف الأمية انتفى عنهم، ولكن المشكلة تكمن في أننا هل نعتمد في إثبات الأهلة على الرؤية البصرية أم على الحساب.
لا شك أن جمهور الفقهاء نفوا الاعتماد على الحساب وقالوا بغض النظر عن العلة التي بدئ بها الحديث ((نحن أمة أمية)) وإنما نظروا إلى ظاهر الأمر. دائما الإسلام كما هو معروف يخاطب الناس على النحو المبسط الميسر الذي لا تعقيد فيه ولا إشكال, والدليل على أن القضية قضية الاعتماد على الحساب فيها إشكال أن العمل بين المسلمين على الرؤية البصرية لقوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته)) ولا يمكنني أن أميل إلى قضية الرؤية القلبية, فتفسير هذا الموضوع فقها منصب إلى الرؤية البصرية لا إلى الرؤية القلبية فالأحكام لا تناط بقضية الرؤية القلبية يقينًا وإنما المعول عليه هو الرؤية البصرية لا الرؤية القلبية. لكن المشكلة الآن تكمن في الحقيقة في تعصب مذهبي. نريد أن نساعد وننجز أمرًا أو حدثًا ونكون جريئين في الواقع في قضية توحيد بدء الصيام والأعياد وحينئذ لا غضاضة في أن نتجاوز بعض الآراء ونرجح بعض الآراء الأخرى, فالقضية هل من الممكن أن نتجاوز هذه الخلافات المذهبية والعصبيات المذهبية ونرجح رأيًا هو رأي أئمة معتبرين في الحقيقة والواقع, ونعتمد الرؤية ولا مانع من أن ينضم إليها الحساب أو الحساب مع الرؤية ونوحد بدء الصيام ونهايته فيكون في ذلك في اعتقادي من قبيل الترجيح والعمل بالسياسة الشرعية , هذا الترجيح واقع يفرضه حركة العالم السريعة الآن وأوضاعهم العلمية ونحن في عصر العلم, وعصر العلم يفرض وجوده في كل شيء, في التخطيط في الحساب في كل شيء اليوم العلم يفرض وجوده.(2/819)
فلا مانع ونحن عندنا هذه الثروة الفقهية, وفقهاء وأئمة معتبرون لا مانع من أن نرجح من قبيل العمل بالسياسة الشرعية مذهب الإمامين أحمد وأبى حنيفة ونقول بضرورة توحيد هذه الشهور ويلزم أهل المشرق بما يراه أهل المغرب والقضية قضية الاعتماد على الحساب ممكن أن يضم لها رؤية, فأصحاب المرصد عندما يرون ذلك يأتون بشاهدين مسلمين انظر في هذه الاتجاه, فلا شك إنهم سيرون بالإضافة إلى التذكير بالمرصد الفلكي لا شك أنهم سيرون القمر ويكون المرصد عاملًا مساعدًا لهم. في الحقيقة هذا الموضوع يشغل العالم الإسلامي منذ ربع قرن وللآن لم نصل فيه إلى نتيجة ومجمعنا فعلًا كما تفضل الأساتذة هو الأمل المرجعي في أن يفصل في هذا الموضوع والقضية قضية ترجيح ولو مانع من الأخذ بأحد الرأيين وترك الرأي الآخر وننهى هذه المشكلة ولا داعي لإطالة البحث فيها ونتخذ قرارًا ولو خالف في رأيه قرار مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة , فنحن طبعًا لنا صفة أعم وأشمل وحتى قرار مجمع الفقه قال" لا حاجة. ونحن وجدنا الحاجة متعينة في الحقيقة, والأوضاع تقتضى أن هناك حاجة إلى هذا الأمر, فلذلك لا يكون قرارنا مخالفًا لقرار مجمع الفقه بمكة, فنقدر الحاجة والحاجة قائمة, والعمل على هذا الموضوع خصوصًا إذا انضمت إليه قرارات وزراء الخارجية كما تفضل الأمين العام المساعد, فلا بد من أن نصل إلى نتيجة وأرفض كل الرفض قضية التأجيل والتأخير والإمهال إلى ندوات أخرى فذلك لم يعد من قبيل مما يقبل خصوصًا ونحن نمثل في هذا الاجتماع دورة سبقت بعدة بحوث ودورات ومؤتمرات ولكن لتكن الكلمة والحسم لنا في الموضوع. وشكرًا.(2/820)
الشيخ على العصيمى:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. لقد كفاني كل المتكلمين بوجوب الأخذ بالأمرين معًا بالرؤية البصرية والرؤية الفلكية. الرؤية البصرية رؤية عين صغيرة والرؤية البصرية الفلكية رؤية عين كبيرة واسعة فهي رؤية. ومن ذا الذي يخالف في أنها رؤية, إنها رؤية عين ولكنها كبيرة وواسعة وقديرة على التدقيق والنظر بأكثر ألف مرة من الرؤية البصرية, إنها تحديد. يعنى الرؤية البصرية الواسعة التي هي الفلكية هي بصرية أم هي شيء غير ذلك؟ إنها بصرية ولكنها أوسع وأضمن أدق وأحوط. والمشكلة قائمة في الإسلام ما يمنع الأخذ بالأحسن والأصلح والأوفق والأجل والأجمل, فهل نؤخرها, إنه يجب الأخذ بالأمرين معًا والسلام.
الشيخ على التسخيرى:
أحب أن أسأل أستاذي الجليل الشيخ الزرقاء هذا السؤال.
ما هو في رأيكم موضوع دخول الشهر؟ الموضوع الشرعي لدخول الشهر ما هو؟ هل هو الرؤية البصرية بالفعل ولا غير.. أو هو الرؤية البصرية بالفعل مع الاكتفاء بإمكان هذه الرؤية, فإن قلنا أن الموضوع هو الرؤية البصرية بالفعل فلا مجال إذا للحساب وإن قلنا المعيار هو الرؤية والاكتفاء بإمكان الرؤية, هنا قد يقال أن الحساب يوجد لنا قطعًا بإمكان الرؤية. والقطع حجة من أي سبب حصل ولا يمكن أن ترفض حجية القطع. الكلام هو: أن الإمكان, الإمكان فيه جانبان, هناك إمكان من حيث قابلية القمر للرؤية وهناك إمكان من حيث الفاعلية, من حيث فاعلية الناظر. الحساب غاية ما يمكن أن يثبت لنا أم0كان القمر للرؤية من حيث قابليته للرؤية. ولكن المهم لدينا هو الإمكان الفاعلي. هل يستطيع الحساب أن يثبت إمكان الناظر بالفعل, إمكان فاعل (يعنى هو من حيث الفاعل يستطيع أن يرى) الحساب لا أقول محال ولكنه في الغالب الأعم لا يستطيع أن يثبت لنا إمكانًا فاعليا. نعم لو أن الحساب أثبت لنا ذلك أنه الفاعل أيضا بالقطع كان يستطيع أن يرى, فنحن نصدقه وهذا نظير بلدين متجاورين يرى الهلال في أحدهما والسماء في الآخر فيها علة فلا يرى, متجاوران يقطع العرف بالإمكان الفاعلي في البلد الآخر, ولا ريب في أن البلد الآخر المجاور يأخذ بهذا المعنى.. هذه نقطة. النقطة الثانية التي أركز عليها, الواقع ليست مصيبتنا أيها السادة هو الحساب المهم هو ما ركزت عليه. لنفترض أن المعيار هو الرؤية البصرية لكن هل تكفى الرؤيا البصرية في مكان ما لكل الأرض أو أنها لتلك الحالة. هذا هو المعيار. فإذا استطعنا أن نصل إلى رأي في هذا المجال, الرؤية البصرية تحدث أن لم تحدث هنا تحدث هناك, لا نحتاج إلى الحساب حتى نحل هذه المشكلة, أرجو أن يجيبني الأستاذ على ذلك.(2/821)
الشيخ مصطفى الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم.... جوابا على ما سأل عنه الأخ الكريم أقول لا مجال لهذا التساؤل أبدًا, إذا افترضنا أن الحساب الفلكي غير موجود أو غير يقيني بل هو ظني, يعنى في مثل الظرف الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) في مثل هذا الظرف, يعنى معناه لا نستطيع أن نعرف بطريق الحساب متى يهل الهلال. في مثل هذا الظرف لا مجال لهذا التساؤل, لأنه إذا لم ير بالفعل فلا يمكن أن يقال هل الحساب يثبت أنه يمكن أن يرى أو لا؟ لأنه لا حساب في ذلك الظرف حيث لا يكون هناك علم فلك أو يقيني, فالتساؤل غير وارد لأنه لا بد من الرؤية بالفعل لا بإمكان الرؤية, إذ عند عدم الحساب كيف نستطيع إذا غم علينا كيف نستطيع أن نعرف إمكان رؤيته, هذا غير ممكن, فلذلك يكون إذا افترضنا الموضوع في مثل ظرف ليس فيه علم حساب يقيني لا مجال لهذا التساؤل وإنما المناط هو الرؤية البصرية الواقعة حيث يرى بالفعل. ولكن إذا افترضنا وجود علم حساب دقيق يقيني وصل من الدقة إلى درجة لا شبهة فيها كما في زماننا مما أوضحناه, فهذا التساؤل وارد أن هذه العبرة لإمكان الرؤية أو العبرة لأن يرى بالفعل أيضا فلا شك أن الجواب أن العبرة لإمكان الرؤية. لما يثبت الحساب الفلكي أن الهلال يولد في الساعة الفلانية والدقيقة الفلانية واللحظة الفلانية وأنه بعد كذا مدة حتى يبلغ درجة كذا الدرجة الثامنة وغيرها, وهذا متروك لأهل الفلك, يمكن أن يرى من الأفق إذا – طبيعي الحساب الفلكي لا بد أن يضع هذا التحفظ –إنه يمكن أن يرى إذا لم تكن هناك حواجب للرؤية من غيم أو الضباب لأن الحساب الفلكي يعطينا هذا الإمكان ولكنه لا يستطيع أن يقول لنا أنه سوف يرى بالفعل ولو كانت هناك غيوم وضباب وحواجز تمنع الرؤية هذا لا يمكن أن يقوله الحساب, فلذلك يبقى العبرة إذا اعتمدنا الحساب وكان يقينيًا يسوغ هذا الاعتماد فإن العبرة عندئذ لما يثبت الحساب الفلكي أنه يمكن أن يرى بعد مضى كذا مدة من ميلاده أن يرى بالعين الباصرة السليمة من أفق أنتفت منه الحواجب الطبيعية التي يمكن أن تحجب البصر. هذا جوابي في الموضوع. والعبر لإمكان الرؤية.(2/822)
الشيخ إبراهيم بشير الغويل:
بسم الله الرحمن الرحيم ... الحقيقة مع تقديري لكل هذه الجهود.. المسألة من الواضح أنها مسألة خلافية ونفس الجداول التي أشار إليها الأخ الأمين العام المساعد تثبت ذلك وسأشير إلى بهذا, وأنا أرى أول ملاحظة عندي ألا يكون الضغط علينا ما يسمى بالرأي العام العالمي والخجل منه وما إلى ذلك, وهذا هو موضع الاستشهاد الذي قلناه في موضوع الصلاة, من المعروف أن الصلاة متصلة بالشمس ومربوطة بهذا الموضوع, لكن نقول لماذا لا يصبح الضغط علينا أيضا لأننا نحن نصلي نفس الصلاة في مواعيد مختلفة, من الممكن أن يجعلوها أمرًا مخجلا ويدخلوا علينا هذا الأمر, ليس الموضوع أننا لا نعرف أن موضوع الصيام مربوط بالقمر وهذا يتعلق بالشمس فهذا واضح, لكن أن يكون الضاغط علينا هو الخجل من أننا نقف للصلاة فنختلف في المواعيد أو كما يقال الآن لماذا نختلف في صيامنا, فليس كارثة أن تختلف المشارق والمغارب أو تختلف المطالع في الشهور القمرية, ليس كارثة حتى لو أخذنا بالحساب تفضل يا سيدي بالجدول الذي قدمتموه في الحساب سنصوم نحن اليوم 18/4/1988م وسيصومون في أمريكا وفى القسم الغربي يوم 17 أبريل. إذن حتى وفقًا للحساب سنختلف في الصيام, فإذا كان الأمر خلاف وإننا نظهر بمظهر الفوضى فهذا موجود حتى في الحساب على حسب ما قدمتموه إلينا, إذن لا يكون هذا هو الضاغط, الأمر الذي يجب أن ننظر فيه أن إمكانية أن نستفيد فعلا من الوسائل العلمية وما المانع أن نجمع بين الحساب والرؤية فنوجه إلى الرؤية على ضوء الحساب, لماذا لا نوجه إلى الرؤية على ضوء الحساب, فتثبت الرؤية ويكون الأمر منتهيًا ببساطة, أنا أعتبر أن الأمور الحسابية تساعدنا في تحديد أوقات الرؤية والتوجه إليها.
هناك سؤال يدور في نفسي وأقدمه أو بهذه الكلمة التي لا توافق ولا تفارق.. أطرحه: افرض سيدي الأستاذ أن قلنا أن فلانا غادر عند الساعة كذا بالقطار المنتظم السريع وأنه سيكون عند المكان الفلاني الساعة كذا, فهل يصح لي أن أقول" إنني أشهد أن فلانا كان في المكان الفلاني عند الساعة الفلانية" هناك إنسان يتحرك بمعدل معين في ساعة معينة ومن المفترض أنه عند الساعة الفلانية سيكون هناك, فهل أنا شاهد على ذلك, أنا أعتقد أن وجه الموضوع أن الشهادة أمر يقيني يتأكده منا البعض فنصوم, ولا أرى أن هناك مشكلا كبيرا حول هذه القضية أن أفدنا من الحساب ووجهنا إلى الرؤية على ضوء الحساب وبذلك يتحقق الأمر ويكون واضحا ولا يكون هناك محل لهذا الخلاف الطويل في هذه القضية وشكرا ...(2/823)
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم.. (صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم) . حقيقة أن الدراسات التي قدمت اليوم حول مشكلة الرؤية والحساب كلها جيد ومقنع سواء كانت هذه تتصل أو تمشي مع الفقهاء القدامى الذين آثروا الرؤية البصرية أو كانت تتصل بقضية الحساب واعتماده في تحقيق وحدة المواسم بين المسلمين كافة في مشارق الأرض ومغاربها, الذي أردت لفت النظر إليه, أمران عمليان نعيشهما وعشتها أنا شخصيا, وقضايا تقديرية لا بد من الانتباه إليها, والمراد بالانتباه أي أخذها في التقدير. أما القضايا العملية التي نعيشها فإني كنت من أشهر بسنغافورة وقيل لي عندما ارتفعنا إلى مكان عال هو الجهة الأكثر ارتفاعا لهذه المدينة, قالوا نحن نحاول أن نحسب الشهر وأن تقدره بطريق الرؤية فلا نستطيع ذلك لأن السماء في كل العام الأفق فيها مغطى محجوب ولذلك لا يظهر الهلال إطلاقا إلا بعد أن يرتفع في كبد السماء, فلا تمكن الرؤية إلا في اليوم الرابع والخامس إلى آخره, وبناء على ذلك فنحن نحتاج إلى التعاون مع جيراننا للاستنارة برؤيتهم أو الأخذ بالتقدير الحسابي لنكون على بينة من أمرنا في قيامنا بعبادات الصوم.
وأما الأمر الثاني: فإني لاحظت أنا شخصيا بأن الحساب يقول بأن الرؤية مستحيلة في هذا اليوم وأن الشهر لا يمكن أن يرى القمر أو الهلال فيه إلا بداية من الغد. فإذا بالرؤية البصرية تثبت أن هذا اليوم وهو يوم الخميس يمكن أن يرى فيه القمر أو الهلال أو قد رؤي بالفعل وأن الحساب يكون متأخرا, فهذا إما أن يكون الحساب غالطا وإما أن تكون الرؤية غير صحيحة. وهنا أريد أن أذكر بما ورد في حاشية ابن عابدين من أنه قال"إن الحساب لا يعتد به إلا في مقام النفي" (شاهد نفى) فإذا قيل لنا بأن الرؤية البصرية تمت وتثبت أن الشهر بدايته اليوم وكان الحساب يقول بأن هذا غير ممكن, فهذا شاهد لبطلان الرؤية بالعين المجردة, فهي شهادة نفى تقدم في هذه الحالة. ثم هناك أشياء تلتقي فيها قضية النظر بالحساب وقضية الرؤية البصرية هو قضية اختلاف المطالع واتفاق المطالع. قضية اختلاف المطالع يبدو أن الفصل فيها ينبغي أن يقدم على الحساب والرؤية. إما أن يجمع المسلمون اليوم على أن الأخذ باختلاف المطالع لم يبق أمرا مأخوذا في الاعتبار, أن الأخذ باتحاد المطالع ينبغي أن يكون هو المسيطر على تقديراتنا لنوحد هذه المواسم ونجمع بين المسلمين كافة. أما إذا قلنا باختلاف المطالع فستظل دائما الخلافات قائمة. ثم النصوص التي تثبت الرؤية أو تعتمد الرؤية البصرية هي نصوص تؤدى إلى العلم بثبوت بداية الشهر. وكذلك الحساب هو طريق للعلم, لكن الذي جعل الناس في خلاف حول الحساب هو اختلاف أحوال الحاسبين في الماضي عن أحوال الحاسبين اليوم. فالحساب في الماضي لم يكن يقينا, لم يكن علما, كان شيئا من التخمين والحدث, ذلك أن الناس كانوا ينعتون بمنجمين وينعتون بسحرة, وأنهم يربطون النجوم والحظوظ وبدايات الشهور كل ذلك في صورة واحدة, وهذه الصورة معتمة لا يمكن القبول بها ولا الأخذ بشيء من نتائجها, ولذلك أجمع العلماء في الماضي على أنه لا يجوز الأخذ بقول أهل الحساب ولا المنجمين, أما اليوم فالحساب ليس عمل منجمين, الحساب هو أمر علمي يقيني وكل ما في العالم اليوم من تصريف للكواكب الصناعية التي تسير في الفضاء والمراكب التي تخترق الطباق العليا والتي تصل بالناس إلى الأفلاك وإلى القمر وغيره من الكواكب, هذه لم يصبح معها, لا يمكن أن يوصف معها العلم, علم الحساب بكونه ظنيا وإنما هي أمور قطعية واعتماد هذه الأشياء أمر ضروري في مواكبة الحياة ومواكبة التقدم العلمي.(2/824)
وأنا حين أطرح هذه الأشياء لا أغلب جهة على جهة ولا رأيا على رأي وإنما أريد أن نأخذ في الاعتبار بهذه الحقائق كلها, وشكرا.
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم.. أولا بالنسبة لما تفضل به بعض الأساتذه من أن هناك ضاغطا على المسلمين في قضية توحيد الشهور, فالواقع إذا تجاوزنا هذا الضاغط وهو موجود فعلا وقد لا نبالي به, إلا أن هناك ضاغطا من ذواتنا من عالمنا الإسلامي ذاته, فكيف يقبل إنسان فاسق أو فاجر أو إسلامه شكلي, كما هو أكثر العامة في زماننا هذا, كيف ندعوه إلى التدين والالتزام وهو يرى التناقض والتهافت في أعيادنا ومواسمنا. في سوريا صمنا يوم الأحد في بلد آخر صاموا يوم الاثنين في بلد آخر صاموا يوم الثلاثاء في بلد رابع صاموا يوم الأربعاء وقد يمكن أن يأتي بلد خامس أن يصوم يوم الخميس أو الجمعة. الأردن مرة عيدت يوم الأربعاء ونحن عيدنا يوم الجمعة فالمسافة بيننا وبين الأردن 210 كيلومترات بين دمشق وعمان , بيننا وبين بيروت 105 كيلومترات عيدنا نحن يوم الخميس في بعض السنوات وعيدوا هم يوم الجمعة, مواسم الحج ناس بيحجوا على جبل عرفات هناك يقولون "لبيك اللهم لبيك" وناس يقولون نحن اليوم التاسع من ذي الحجة "الهم إنا نسألك بجاه يوم عرفة " أي يوم عرفة هذا وناس يقولون هذا عيد, عيدنا كل عام وأنتم بخير, وناس يقولون الثاني من ذي الحجة, أي يوم هو اليوم الفضيل يوم عرفة الذي يحج فيه الناس, الناس الذين عيدوا يوم عرفة كان عندهم 8 ذو الحجة, وأناس كلن عندهم يوم عرفة عاشر ذي الحجة وهؤلاء الموجودون على عرفات حجهم مقبول أو غير مقبول, ما يدرينا لعل المليونين حاج هؤلاء حجهم غير مقبول إذا ثبت أن رؤية هلال ذي الحجة كانت رؤية غير صحيحة. هذه أشياء الآن نحن نعانيها, فهل يجوز هذا الوضع أن يبقى, هذه مسألة جديرة بالبحث.(2/825)
ثانيا: القضية التي أثارها فضيلة الأستاذ الكبير الزرقاء حفظه الله وإياكم أولا, أنا أعجبت بفضيلته لأمرين.. الأمر الأول ما ترونه من أنه حفظه الله عضو في مجمع رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة وقع على القرار السالف وهو يقول: باختلاف المطالع, ويطالعنا فضيلته اليوم بالقول باتحاد المطالع بالكرة الأرضية كلها "ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي" المجتهد قد يرجع عن اجتهاده, إلا أني أعجبت لأمر آخر هي قضية كيف يقول بأن توحيد المطالع للكرة الأرضية كلها ثم يقول أيضا فضيلته وسمعتم ما تفضل به ولعله سهو في أحدهما, سها في أحدهما, أن الأرض قسمين قسم معتم وقسم منور, فالقسم المنور المفروض يكون يرى أهل المغرب لما رآه أهل المشرق ويلزم أهل المشرق بما رآه أهل المغرب, إذن كيف نعمم الحكم بتوحيد المطالع على الكرة الأرضية كلها علما بأن القمر طالع في نصف فقط ولا يطلع في النصف الآخر, هذا سؤال أريد أن أجاب عليه..
الأستاذ الدكتور الزحيلي حفظه الله.. قال قضية الرؤية القلبية.. الرؤية القلبية ما هى في واقع الأمر رؤية وإنما هي حساب بإطلاق وإنما قلت إنه البديل هو فضيلته أول ما تكلم قال الباحثون الأربعة قالوا بالحساب وأدمجت معهم. لي الشرف أن أدمج معهم فهم علماء أفاضل, غير أن قولي يختلف عن أقوالهم, فهم بين قائل باختلاف المطالع بالمائة مائة وبين قائل باتحاد المطالع بالمائة مائة ولكني قلت قولا وسطا, وفقت فيه بين القولين ولا أدعي أنه الصواب فهو أحسن ما وصلت إليه.. فهب أن الكرة الأرضية نصفين فلنقل بتوحيد المطالع في نصفين, إذا ما شئتم تقول خطوط الطول, وأن هذه من الناحية الفلكية غير مقبولة, أنا أصر عليها حتى يظهر لدى علماء الفلك بطلانها, قضية تقسيم الأرض إلى ثلاث خطوط طول أمريكا قطر, وآسيا تقسم إلى قطرين, والنصف هو الخليج الإسلامي, الذي على يمينه فارس وعلى يساره الكويت هذا يقسم آسيا قسمين, إذا ثبت بطلان ذلك فلكيا, هذا التقسيم الثاني, فإن الملحوظ تقسيم الأرض إلى قسمين قسم أمريكا بدليل ما رأيناه من هذا التقويم الذي بين أيدينا فإنه يثبت أن القمر يرى في يوم وفى أمريكا يرى في يوم آخر. هذا التقرير أمامكم تقويم.
فإذا أحببنا أن نوحد الشهور, بدايات الشهور نقول بتوحيدها لكن على أساس اختلاف القطر فنجعل آسيا وأفريقيا قطرا, وأوروبا طبعا معها, ونجعل أمريكا وحدها قطرا, واستراليا قطرا. هذا إذا أحببنا أن نقول بتوحيد المطالع, أما أن نقول بتوحيد المطالع في الأرض قاطبة من أولها إلى آخرها, فهذا أظنه فيه كثير من الإفراط في التوحيد الذي قد لا يقره علم الفلك.. هذه ناحية.. بعدما اكتشفت أمريكا في الواقع منذ أربعمائة سنة تغيرت موازين العلماء والفقهاء كثيرا, كان الناس لا يعرفون من الدنيا إلا آسيا وأوروبا وأفريقيا , ثم اكتشفت قارتان كبيرتان, الأوقيانوس (استراليا) وأمريكا أفنظل على ما قاله الحنفية إذا رأي أهل المشرق يلزم بأهل المغرب, طيب يا أخي كأن الدنيا كلها هذا العالم المعروف الآن أمريكا لا هي من المشرق ولا هي من المغرب. وأوقيانوسيا لا هي من المشرق ولا هي من المغرب, قطر قائم بذاته, فالقول بالاتحاد مطلقا إفراط, والقول بالاختلاف مطلقا تفريط, ثم قضية الأميين كما تفضل الأستاذ الزحيلي حفظه الله, هو قيد اتفاقي لا قيد احترازي كما هو معلوم, وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد وشكرا.(2/826)
الشيخ زكريا البرى:
في كلمات في سرعة الضوء, لأني سمعت كلمات برقية وكلمات كذا, كلماتي في سرعة الضوء. أقول إنني سعيد بهذا الحوار واستفدت منه كثيرا جدا وأسعدني أنه نبهني إلى أني كتبت مقالا في صحيفة الأخبار القاهرية في أوائل السبعينات عنوانه "رمضان العربي وفبراير الإفرنجي" لأنني وجدت أن بعض البلاد الإسلامية صامت رمضان 28 يوما وقلت (لعل العرب والمسلمين لم يجدوا طريقا لتقليد أوروبا والإفرنج فيما يفيد ويغنى, فلم يجدوا إلا رمضان المقدس لكي يوصلوه إلى هذه النتيجة. وانتهيت في مقالي على حذر وعلى أدب لأنني أخاطب مجمعا فيه هذه التيارات وأكثر من أنه أرى الأخذ بالحساب العلمي. هذه قضية تنتهي بي إلى إنني بعدما سمعت ما سمعت أرى أن العمل بالرؤية المرصدية أصبحت متعينة وليست مجرد جواز. وإذا قيل بحدوث خلافات في هذا, فإنها مهما كانت ومهما يكن فلن تكون في بعد الشقة بين آثار الرؤية البصرية. أرى أن يكون هذا المجمع أو بعبارة أدق أمانته أن تتولى إعلان بدء شهر رمضان بالذات وقد يضم إلى ذلك شهور أخرى, لأنها في مكة المكرمة وهى أم القرى. وقد قرأت لبعض أساتذة الجغرافيا أن الدليل قائم علميا على أنها قطب العالم. إذن هي من الناحية الجغرافية هي العاصمة الوسط, وهى من الناحية الدينية هي عاصمتنا جميعا. ومنها ومن رؤيتها نحج في يوم عرفات لا برؤية أمريكا ولا برؤية مصر ولا برؤية الشرق ولا برؤية الغرب, وإنما برؤية مكة. وهذا أساس نتابعه. بعد ذلك أحب أن أقول تعليقا بسيطا على كلمة تكلمت بها رياستنا العالمة الموهوبة وهى أنه لاحظ في بعض التعبيرات لاحظ ملاحظة انتهت به إلى أنه يقول أن الشارع لا يربط إلا بالشيء المعصوم. وأنا إذا سمح لي أخالفه في ذلك, أن الشريعة الإسلامية تربط الحكم بالأمر اليقيني إذا كان ممكنا وإلا نقلت إلى الراجح , وقد تربط الأمر بالظاهر ولا تربطه بالباطن بحسب اختلاف التطبيقات. هذا ما أردت إيجازه بسرعة الكلمات الضوئية وشكرا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/827)
الشيخ روحان إمباى:
بسم الله الرحمن الرحيم (وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين) . أعتقد أنا نحاول إيجاد حل لمشكلة طرحت على العالم الإسلامي بأجمع, وكلنا نقدر خطورة هذه المشكلة لا سيما تجاه النشء الذي لا يدري إلى أين يتجه علماء الإسلام في هذه المسألة بالذات. وقد أشار إلى ذلك أحد الفضلاء آنفا. وأعتقد أن البحوث التي نقدمها لمعالجة مثل هذه القضية لا يمكن أن يقتصر علي الجانب الوصفي ولا على الجانب التاريخي لأن المشكلة مشكلة ميدانية. فالمشكلة نفسها ينبغي أن ننظر إليها بعين أو تحت منظار يكون مغايرا للمنظار الذي ننظر إليه حينما نعالج القضايا الفقهية البحتة. وأعنى بذلك أن ما جاء في بحث الشيخ السلامي الذي قال لنا أن إحدي الدول الإسلامية صامت يوم الأحد وإحدى الدول الإسلامية صامت يوم الأربعاء, لا يمكن أن تكون كل دولة من هذه الدول علي حق, لا شرعا ولا فلكيا ولا عقلا. لا يمكن أن تكون هناك أربعة أهلة في شهر واحد, هذا لا يمكن لا شرعا ولا فلكيا ولا عقلا. والمشكلة إذن أن يكون هناك اجتهاد نحاول أن نوحد كلمة المسلمين كي لا تتكرر مثل هذه الأشياء بدلا من أن ننظر إلى الفقه الإسلامي في أوانه الأول, لأننا مادمنا ننظر إلى المشكلة تحت هذا المنظار فلا بد أن يكون هناك تأثيرات مذهبية, وهذا يتمسك بالمذهب الفلاني وهذا يحاول أن يلفق ولا يتبعه الآخرون. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/828)
الشيخ المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم (وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما) . أعتقد أنه لابد من التفريق بين أمرين, تفريق ثبوت الشهر ووسيلة الإثبات, فالله لما ربط الصوم والفطر والحج إنما ربط ذلك بثبوت الشهر بالشهر والظرف الزمني, على أن هذه عبادة مرتبطة بظرف زمني, وأما الوسيلة ففي القرآن لم ترد وكلمة "شهد" لا يصح أن تحمل على "شاهد" ولأن "شهد " تسلطت على الشهر والمشاهدة هي للهلال لا للشهر. فحمل {شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . على مشاهدة الهلال فيها مخالفة لأمرين: إضمار لا حاجة لنا به, وإخراج "شهد" عن معناها الأصلي إلى معنى آخر وهو "شاهد", وإضمار مع مجاز يضعف هذا الاتجاه. إذن القضية هي وسيلة من وسائل الإثبات, ووسائل الإثبات عندنا وسائل ظنية, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمد الظن وذلك لما ترافع له خصمان فقال: "لعل أحدكما أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع" فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بين يديه ولا بين يدي القضاة الذين سيردون من بعد من غالب الأحوال إلا الشهادات أو المرافعة بين الخصوم وهو يعتمد على ما يراه. فإذا جاء أمر يقيني يكذب الشاهد فإن الشهادة التي شهدها تلغى باعتبار أن الأمر يقيني مقدم على الأمر الظني, ومن هنا أتوجه إلى سيادة الرئيس في أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم هو معصوم ولا بد من أن نعلم أن كل فرد منا في هذا المجلس لا يختلف واحد عن آخر في إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يستحقه من الحب وما يستحقه من التقدير وما يستحقه من الامتنان لفضله, فمنته صلى الله عليه وسلم في رقابنا جميعا ولا يتهم أحدنا أحدا آخر بشئ في هذا المقام فإنه عندنا أنه من سب الله اختلف في كفره أما من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استهان بقيمته فإنه كفر.
القضية هنا الرؤية المحققة ليس وراءها أمر. هذا كلام نأخذه بكامل الاحتياط فأقول: أن الرؤيا هي قضية ظنية وأن الحساب أصبح أمرا يقينا لأته يقول علماء الفلك "إنه لو عدلنا مسار المسبار مقدار 10 سنتيمترات من الأرض لضاع في الفضاء ولما أمكنه أن يصل إلى مكانه". فالدقة التي كانت نظرية كما قلت في كلمتي صاحبها أمر آخر وهو الدقة التطبيقية, إثبات ما ثبت على القرطاس بما ثبت علما بما ثبت يقينا بالتجربة. وإذا اجتمعت التجربة مع النظر فقد انتهى الأمر. فاليوم كلما جاء اليقين والظن تبعنا اليقين وهذه قاعدة شرعية, فنحن لا نرفض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكننا نفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما يتناسب مع التقدم العلمي , وكذلك القرآن من الإعجاز العلمي للقرآن هو أننا نفهم القرآن اليوم فهما فإذا بالعلم يتقدم فنجد أن أفهامنا كانت ناقصة وأن القرآن هو فهمه ليس على ما فهمنا. فالعلم هو يساعدنا على فهم أفضل للقرآن وعلى فهم أفضل للسنة وعلى طريقة يقينية في أمور الوسائل للإثبات لا الإثبات الذاتي. وشكرا.(2/829)
الرئيس:
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
يا أستاذ يا سماحة الشيخ بس أمر خطير جدا- التعبير خطأ أرجوا تصحيحه.
الرئيس:
اتفضل والله أنا فاهم أنه أمر خطير جدا لكن الحقيقة أعرف أنه أمر خطير شاذ ولذلك أرجو إقفاله. إذا تفضلتم. اتفضل.
اتفضل الشيخ عبد اللطيف فرفور.
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
سماحة الأستاذ السلامي حفظه الله أظن أنه قد سها وكلنا معرض للسهو مع إجلالي لفضله وعلمه فأنا الذي أعرفه وقرأته وليس هذا تخطئة له. لا. وإنما هو مجرد تذكير, الذي قرأته وقد عقد ابن عابدين رسالة كاملة في مجموع رسائله حول هذا الموضوع وهو سب النبي صلى الله عليه وسلم, الذي قرأته في هذه الرسالة وحفظته وقد أتى بنقول الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة أن الإجماع قد وقع فعلا على أن من سب الله عز وجل يكفر قولا واحدا ولكن هل تقبل توبته أم لا تقبل؟ فيما إذا تاب وشهد شهادتين ورجع للإسلام هل تقبل توبته أم لا؟ هنا الخلاف إلا أنه بالنسبة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فمن سبه كفر قولا واحدا كما يكفر بتلك ولكن هنالك الجمهور على عدم قبول توبته.
الرئيس:
أرجو عدم الإفاضة في القضية يكفينا تنبيهكم هذا جزاكم الله شكرا وأظن من قوله تعالى {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} أظن في هذا كفاية عن أي كلام يحصل في هذا الموضوع وشكرا.(2/830)
الرئيس:
أرجو كأن بعض الإخوان أحب أن أحيطكم أن بقدر الرؤيا فإننا نسجل الأسماء ولكن بعض المشايخ قد يستبطئ ورود الاسم وإلا فنحن نقيد الأسماء وتسجل بدون مؤاخذة قد نرى ما لا ترون لأننا ندير الرؤيا يمين وشمال ونقيد إشارات لا ترونها فعندنا فنحن نقول بالرؤيا لا بالحساب فالشيخ مثلا الخليلي, الشيخ أحمد البزيع الشيخ رجب الشيخ الضرير الشيخ الجعيط الشيخ عمر جاه الشيخ عبد السلام الشيخ بن بيه الشيخ الشريف فأرجو ألا يستبطئ الإخوان وربما وقع غلط في الواحد والاثنين فتتحملون هذا لأن هذه الأمور قد تفوت على الإنسان بعض الشيء فإن رأي فضيلة الشيخ الخليلي أننا بهذا نكتفي وترفع الجلسة للصلاة ثم نعود إن شاء الله تعالى لاستكمال البحث وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم استأنف جلستنا هذه الشيخ الخليلي.
الشيخ الخليلي:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وشكرا معالي الرئيس.(2/831)
في الواقع أنا حريص أن أستفيد أكثر مما أفيد لأن بضاعتي في كل شئ مزجاة وفي هذه المسألة بالذات في هذه الأيام القريبة لم أدرسها مع إنني في الأيام السابقة عنيت بدراسة بعض جوانبها ولعله قد علق بذهني شئ من المعلومات التي تتعلق بها منذ تلك السنين الماضية إلا أن المشايخ الذين تحدثوا جزاهم الله خيرا قد أغنوا عن ذكري للمواضيع التي قد كنت حريصا على ذكرها. وإنما أريد أن أتحدث في شئ لا يكون تكرارا لما قيل وإن كان في الواقع تأييد لرأي من هذه الآراء, هذه المسألة ذات شقين:
الشق الأول: العمل بالحساب الفلكي في بداية الشهور ونهايتها أو في بداية الصوم ونهايته وتحديد مواعيد الأعياد في الإسلام. ينبغي أن ننظر أولا إلى أن دين الإسلام الذي شرعه الله سبحانه وتعالى للعباد وكلفهم به هو دين ميسر لكل أحد يفهمه الناس على اختلاف طبقاتهم الفكرية, فهناك الذكي وهناك الضعيف وهناك القادر على الفهم وهناك العاجز عن الفهم, فلذلك كان هناك الدين الحنيف دينا ميسرا ولم يكن دينا معقدا.
وقد أناط الله تعالى العبادات بأشياء مفهومة للعباد, ورؤية الأهلة أمر مشترك بين جميع الناس ليس هنالك فارق ما بين الذكي والغبي والعالم والأمي بل ولا بين الرجل والمرأة أو الشاب والعجوز, إنما الكل في هذا الأمر سواء. بينما الحساب الفلكي هو أمر لا يعرفه إلا الخاصة من الناس, فقد يكون قطر بأسره ليس فيه حاسب فلكي. والأقطار التي عنيت بالحساب الفلكي الذين يتقنون هذا العلم هم قلة نادرة. فلو نظرنا إلى النسبة المئوية في هذه البلدان المتقدمة نسبة الذين يعرفون أو يتقنون الحساب الفلكي منتهى الإتقان وسائر السكان لوجدنا النسبة ربما لا تصل إلى واحد في المائة, مع أن عبادة الصوم مطلوبة من الكل, فأرى من هذا الإلزام, إلزام الناس بالأخذ بالحساب الفلكي أو فتح هذا الباب تكليف الناس أو تكليف عامة الناس بما يجهلونه, هذا من ناحية, أما ما ذكر من أن الناس أصبحوا الآن يعتمدون على الساعة مثلا في فهم مواقيت الصلاة مع أن الصلاة أهم ركن في الإسلام بعد العقيدة فهذا قياس مع الفارق لأن الساعة يضبطها الفاهم وغير الفاهم الشاب والعجوز, العالم الكبير والجاهل الغبي, كل منهم يستطيع أن يضبط الساعة, أما الحساب الفلكي فضبطه لا يتيسر إلا للقلة النادرة. فمن هنا أرى في إلزام الناس أو في إصدار فتوى بالأخذ بالحساب الفلكي إحراجا على الناس, هذا من ناحية الشق الأول.(2/832)
الشق الثاني: يتعلق بتوحيد الأهلة. لا أشك أن الذين يسعون إلى توحيد بداية الشهور ونهايتها لهم نية حسنة. وكما سمعت من كثير من الحاضرين أنهم يريدون أن يدرؤوا بذلك عن الإسلام والمسلمين تهمة الفوضى. لا أشك أن هذه النية هي نية ربط بعض العبادات بأشياء طبيعية, فعبادة الصلاة تبدأ صلاة الفجر مثلا بانشقاق الفجر, ولا يصح لأحد أن يصلي الصبح قبل انشقاق الصبح, نفس الشئ صلاة الظهر تبدأ بزوال الشمس, صلاة العصر تبدأ إذا وصل الظل إلى مقدار معين, صلاة المغرب تبدأ بغروب الشمس, وهكذا. فكذلك الصيام هو مربوط بحسب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤية الهلال, فإذا كانت في هذه البلدة الرؤية غير حاصلة وحصلت هذه الرؤية في بلدة أخرى بينها وبين هذه البلدة من المسافة الزمنية ساعات. ننظر مثلا ماليزيا بداية البلاد الإسلامية من جهة الشرق وبلاد المغرب وموريتانيا التي هي نهاية البلاد الإسلامية من جهة الغرب فضلا عن المسلمين الذين يسكنون في أمريكا والذين يسكنون في أستراليا والذين يسكنون في اليابان والذين يسكنون في بلاد أخرى. إذا ثبتت رؤية هلال رمضان أو رؤية هلال شوال في المغرب مثلا, بين المغرب وماليزيا تسع ساعات, فإذا ثبتت الرؤية في المغرب فمتى تثبت؟ تثبت في وقت تكون فيه ماليزيا تستقبل الفجر أو تستقبل السحر في وقت السحر بالنسبة إلى ماليزيا, بالنسبة إلى ذلك البلد تكون الرؤية متعذرة في هذه الحالة. وهكذا في بقية البلدان وما دمنا نحن في الصلاة مختلفين في الأوقات فكذلك في الصيام, وما دام صيام اليوم وفطر اليوم الواحد يختلف بين منطقة وأخرى بحسب اختلاف المطالع والمشارق فكذلك بداية تحديد دخول شهر الصوم ونهاية شهر الصوم لا يضيرنا شيئا إذا ما كان هنالك أي فارق هذا حسب ما أرى.(2/833)
ثم إذا جئنا إلى ما يؤثر عن السلف في هذا نجد حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه الإمام مسلم وأصحاب السنن من طريق كريب قال: (أرسلتني أم الفضل بنت الحارث والدة عبد الله بن عباس إلى معاوية بالشام فلما قضيت حاجتها ورجعت إلى المدينة سألني ابن عباس ثم قال لي: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقالت: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: ولكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل 30 أو نرى الهلال فقلت: أو ما تكتفي رؤية معاوية وصيامه؟ قال: لا. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.) قد يقول قائل: أن هذا الحديث موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما والصحابي مهما كانت منزلته في القلب يجوز أن يخالف في الاجتهاد. أقول جوابا على هذا حسب نظري: أن الصحابي إذا قال: سمعت رسول الله, أو أمرنا رسول الله أو نهانا رسول الله, حسب ما عرفت من كتب مصطلح الحديث لأن لهذا الحديث حكم الرفع فقد ذهب كثير من العلماء إلى أن قول الصحابي نهينا عن كذا أو أمرنا بكذا له حكم الرفع, فكيف إذا نص على أن الآمر أو الناهي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا ريب أن بعض العلماء حملوا كلام ابن عباس رضي الله عنهما على أنه متأول لقول الرسول صلى الله عليه وسلم. صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته الذي يحتمل ضروبا من التأويل والجواب عن هذا ما الذي يكلفنا إلى أن نقول أن ابن عباس اعتمد إلى هذا الحديث بنفسه؟ ليس هناك دليل بأن ابن عباس رضي الله عنهما لما أراد ((هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.)) أنه أراد هذا الحديث بنفسه وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم. ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) . الفارق بين الشام والحجاز طبعا أقل من الفارق بين بلاد الخليج مثلا وبين بلاد المغرب وكذلك أقل بكثير من الفارق ما بين بداية البلاد الإسلامية من جهة الشرق ونهايتها من جهة الغرب فضلا عن الفارق الكبير بين أنحاء الكرة الأرضية. وأقول ابن عباس رضي الله عنهما في الحديث الذي رواه مسلم ولما أذكر نص الحديث ولكن حسب حفظي بأن الناس لما تراؤا الهلال قال بعضهم: هو لليلتين. وقال بعضهم: هو لثلاث, قال ابن عباس هو لليلة رأيتموه, فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أظلمه لكم لتروه)) .(2/834)
نفهم من هذا الحديث ماذا؟ نفهم من هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يقطع على الناس باب الجدل والشك والدخول في الأشياء التي أكثرهم لا يستطيعون أن يضبطوها, وإلا فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان لم يكونوا من البدائية بحيث يجهلون منازل القمر وتختفي عليهم منزلة القمر إذا كان لليلة واحدة أو إذا كان لليلتين أو إذا كان لثلاث حتى يقال: أن لغيرهم حكما آخر, هذا حسب ما أرى. ولا أرى على نفسي حرجا إذا قلت: لا أعلم فيما لا أعلم, فأنا لم أعلم وجه قول أستاذنا وأخينا فضيلة الشيخ عبد اللطيف الفرفور بأن العالم يقسم إلى ثلاثة أقطار مثلا البلاد التي نحن في جزء منها الآن تبدأ من منطقة الخليج وتنتهي ببلاد المغرب التي هي مطلة على المحيط الأطلسي. ما عرفت وجه هذا التقسيم بحيث تلزم مثلا سكان منطقة الخليج رؤية أهل المغرب ولا يعتبر أهل منطقة الخليج بالنسبة إلى الضفة الجنوبية من الخليج , لا تلزمهم رؤية أهل إيران مثلا وهم أقرب حسبما يبدو لي, ويكون أهل إيران أيضا غير ملزمين برؤية أهل منطقة الخليج وهم ملزمون برؤية أهل منطقة الخليج وهم ملزمون برؤية أهل اليابان.بقى في نفسي شئ من الإشكال بسبب قوله هذا وعلى كل حال, المسألة مطروحة لأصحاب الفضيلة العلماء الذين هم أبصر منى وأقوى على استخراج الأحكام من أدلتها.. وشكرا لكم معالي الرئيس وللحاضرين جميعا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/835)
الشيخ أحمد البازيع ياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله والصلاة والسلام على سيدي رسول الله وعلى آله الطيبين الطاهرين الأتقياء الأنقياء وصحابته الكرام البررة ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وبعد.
أنا أود أن أبين بالنسبة ما أعرفه عن الأمية عندما يصف الله سبحانه وتعالى نبيه بالنبي الأمي, هذا كمال للمصطفى صلى الله عليه وسلم وليس انتقاص. ولما يصف أمته {فِي الْأُمِّيِّينَ} بالأميين هذا كمال أيضا وليس انتقاص. لأن بالرغم من أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي أمي إلا أنه عندما نزل عليه الذكر الحكيم وأوحى إليه الله سبحانه تعالى مكنه من أن يقود العالم ولم تكن قيادته للعالم أو هدايته صلى الله عليه وسلم آتية له من فلسفة يونانية أو شرقية أو غربية, إنما هو معجزة الله الدائمة وهو القرآن. والأميون كذلك حملة القرآن إذا حملوه لا شك بأنهم يسودون العالم, وهذا ما أعتقد أنها دليل بالنسبة إلى ما ذهب إليه أستاذنا أو علة للحساب. ثم أن في وقت المصطفى صلى الله عليه وسلم فيه محاسبين. ثم الأمر الثالث عندما يكون الفقهاء إذا كان هناك نص من كتاب وسنة فلا اجتهاد, لماذا نكلف أنفسنا ما لا نطيق {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} . فما دام هناك نص ((صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته)) . فلماذا نكلف أنفسنا في غير ذلك.
إنما أود أن أبين نقطة وهي قد لا تكون متوفرة في زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهي نقطة وصول الأخبار. الآن الكرة الأرضية كما تعلمون صغيرة, لأن الواحد في أي مكان يستطيع أن يصل بالتليفون وبالتلكس أو بالبرقية إلى سائر أقطار المعمورة. {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} . هذا نص من كتاب الله فإذا اتحدت الأمة في صيامها وفي فطرها فهذا شئ جميل وشيء مرغوب فيه وشيء مدعو له. وأيضا أبين عن الحساب, إنما يعتري الحساب الخطأ, إذ مجرد ما نقول حساب, فالحساب يعتريه الخطأ, كما يعتريه الصواب. ثم إذا قلنا أن الحساب منبثق من محاسبين, المحاسب أيضا يعتريه ما يعتري الشاهد. إذا قلنا أن في الشهود قد يكون هناك مدلسين أو مزورين, إنما قد يكون في الحساب محاسبين نفس الشئ. إنما الذي يظهر لي ما دام أن الأمة الإسلامية ولله الحمد متجهة إلى توحيد شئونها وأمرها وأن المشكلة ليست مشكلة مطالع واتحاد بل مشكلة اختلافات في الآراء أو ربما في السياسات, إذا كان والحمد لله الاختلافات ما هي موجودة من الممكن أن يقترح مجمعكم تكوين هيئة رؤية شرعية, تجتمع هذه الهيئة في أي مكان ترى, وليت تجتمع في مكة المكرمة , تستعين هذه الهيئة بالرؤية وتستعين بالمرصد وتستعين بالحساب.(2/836)
فهذه الأمور الثلاثة, الوسائل الرؤية أولا, ثم إذا تعذرت الرؤية (غم عليكم) , إذا كان ممكن في الحساب أو إذا كان في المرصد كما قال أخوانا أنه في الحقيقة رؤية, إنما مكبرة, هذه بالعين المجردة وهذه بوسيلة تكبر الرؤية, ثم الحساب يأتي درجة ثالثة حسب رأيي. إذا كان من الممكن أن نقترح هذا حتى يخرج اجتماعنا بشيء عملي وأنا في الحقيقة لست فقهيا وإنما كواحد من عامة الناس ينشرح صدري وأستر سرورا عظيما بالغا عندما يقول: صام المسلمون في يوم واحد وأفطر المسلمون في يوم واحد. ثم ((صوموا لرؤيته)) هل هذا الأمر موجه فقط لأهل المدينة أو للأمة الإسلامية عموما، للأمة الإسلامية عموما من نبي الأمة عموما، إذن لو كان النبي صلى الله عليه وسلم في مقدوره أن يصل إلى هذا العلم إلى العالم كله في وقته صلى الله عليه وسلم، والكرة الأرضية كلها مسلمة هل يقول لأهل المدينة: ((صوموا)) ولا يقول لأهل أمريكا ((صوموا)) عندما يقول ((صوموا لرؤيته)) الأمة الإسلامية على الكرة الأرضية كلها أمة إسلامية مثلا رئيسها واحد، ثم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته)) يعنى هذا الخطاب موجه لمن؟ للأمة عموما أو لكل منطقة على حدة ... ؟ أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الشيخ رجب التميمى:
بسم الله الرحمن الرحيم.. أود في كلمتي أن أحدد مسألة هامة وردت في أقوال الإخوة العلماء وهي مسألة إثبات شهر رمضان أو شوال أو ذي الحجة، الشهور التي تتعلق بها عبادات. أولا، الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين لنا في الحديث الشريف الذي لم يعارضه المسلمون ولم يختلف أحد من المسلمين على صحته ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فأن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما)) هذا الحديث الشريف هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . فهذا الحديث وهذا الأمر هو وحي يوحى، فهذا الحديث وهذا الأمر هو وحي من الله لا يجوز لنا أن نجتهد فيه لأنه لا اجتهاد في مورد النص، لأن العبادة متعلقة بالرؤية كما أمر الرسول، لا بالحساب.(2/837)
وهنا أود أن أذكر شيئا، أن الحساب الفلكي لم يصل حتى الآن في تحديد الأشهر القمرية. مثلا، الأشهر القمرية شهر 30 وشهر 29 فيه شهرين يأتوا 29 وراء بعض، كما درست في علم الفلك في الأزهر الشريف فهمت أن تحديد الشهر كونه 30 أو كونه 29 لم يصل إليه الفلك. كذلك لم يصل الحساب الفلكي إلى معرفة الشهرين اللذين هما 29 وراء بعض إلا بالرؤية أما بالحساب فلم يصل ذلك قد درست هذا، والعالم والحساب الفلكي في الأشهر القمرية العربية هو حساب ظني، لكن الرؤية قطعية لا مجال للاختلاف فيها والرسول صلى الله عليه وسلم شرع لنا ذلك في عباداتنا. لا يجوز أن نقول إننا ننطلق إلى الحساب، لا بأس من أن نسترشد بذلك على أساس أنه ليس حكما شرعيا لأننا مقيدون بالأحكام الشرعية التي وردت في الكتاب السنة والأصول التي اتفق عليها الفقهاء.. أما قول الأمية، الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . تأمرون بالمعروف أي تفيضون على العالم بالعلم والحكة لتخرجوه من الظلمات إلى النور. فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إننا أمة أمية)) بمعنى أن هذه الأمة الأمية ستقود العالم إلى الخير وإلى العلم وإلى المعرفة، فهي كلمة فيها إعجاز، كرامة لهذه الأمة التي تبدل العالم من ظلم إلى عدل إلى رحمة إلى تقدم إلى فضل إلى كمال، هذه هي الأمة الأمية وليست علة أنها أمة "كذا وكذا" ولا تعرف أن تبدأ الشهر القمري، هذا كلام لا يقال، البدء بالشهر القمري الرؤية وحي من الله ولن يستطيع العلم ولن يستطيع الحساب الذي قلتم عنه إنه قطعي، أقول إنه ظني ولم يصل حتى الآن في تحديد الأشهر القمرية ولا معرفة الشهر 30 من الشهر 29 أو الشهرين 29 وراء بعض واسألوا بذلك علماء الفلك، فكلهم يطلع علينا بالمفكرات المتناقضة، يحسبون مقدما ثم يختلفون في المفكرات، لا تكون مفكرة مثل الأخرى لأن الحساب العلمي لم يصل إلى درجة القطع في الشهور القمرية لأنه لأمر أراده الله أن تكون الأشهر القمرية ثبوتها بالرؤية وتعلق الصوم والعبادات بها وبناؤها على الرؤية، وهذا أمر لا يجوز لنا أن نجتهد فيه ولا يجوز لنا أن نسمع، فيه حكا شرعيا مادام الحكم (إن غم) بسبب الأحوال الجوية نكمل ثلاثين يوما وانتهي الأمر.. هذا من ناحية إثبات الأهلة.. شيء واضح لم يختلف فيه العلماء بالرؤية من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا. الأمة الإسلامية كانت أعلم الأمم تقود العالم بالعلم في العصور الماضية، في العصر العباسي وفى الأندلس ما جاء واحد من العلماء وقال نحن كنا أميين وصرنا علماء إذن بودنا نحى الرؤية، هذا أمر لا يقوله مسلم أبدا.
الناحية الثانية: هي ما اجتمعنا لأجله وهو توحيد الشهور القمرية.. طبعا كما ذكر إخواني العلماء المطالع تختلف وما يثبت في بلد لا يثبت في بلد غيره، أما أن العلماء قد اختلفوا في ذلك وبعضهم يقول: أن اختلاف المطالع لا يؤثر، وهذا حكم قاله الحنفية والحنابلة وفى هذا العصر أن ثبت في بلد في دقيقة واحدة يعلم العالم بهذا الخبر، فيمكن أن نجتهد في توحيد الشهور القمرية حتى يجتمع المسلمون في عباداتهم في صومهم وفى حجهم. طبعا الحج هو العبرة بثبوت الرؤية في مكة المكرمة وفي بلاد الحجاز لأنها إذا ثبتت وجب على المسلمين جميعا أن يقوموا بذلك وأن يحجوا في اليوم التاسع حسب ثبوت الهلال في البلاد الحجازية هذا أمر لم يختلف فيه العلماء أبدا، لكن لا مانع من أن نجتهد في توحيد الشهور القمرية حتى يتحد المسلمون، وإن لم نجمع على ذلك من عظمة الإسلام ومن كرامة الإسلام الاختلاف وليس فوضى أبدا، هذا من عظمة الإسلام، اختلاف المطالع والصوم ليس فيه فوضى أبدا. ويجب حينما نتكلم عن أحكامنا وعما ثبت في أحكامنا أن نتكلم بالاحترام والتقديس لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. وشكرا لكم.(2/838)
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وسائر الأنبياء والمرسلين. وبعد.
أولا أود أن أقول أن فضيلة الشيخ رجب قد قال كثيرا مما في نفسي ولكن لابد أن أقوله تأكيدا. هذا الموضوع في رأيي يتطلب الحديث في مسألتين.. المسألة الأولى ثبوت الهلال أو إثباته ولا فرق عندي بين الثبوت والإثبات، هل يكون بالرؤية ولا يصح الاعتماد على الحساب أم يجوز أن نعتمد على الحساب، هذه هي المسألة الأولى.. والمسألة الثانية: هي ما يسميه الفقهاء قديما باختلاف المطالع لأن في رأيي أن البت في المسألة الأولى يؤثر تأثيرا كبيرا على بحث المسألة الثانية. ولهذا أنا كنت أول الأمر أردت أن أقترح أن ينحصر الكلام في المسألة الأولى، لأنه إذا انتهينا فيها إلى رأي هذا سيوصلنا بسهولة إلى البت في المسألة الثانية إذا انتهينا إلى أن الاعتماد على الحساب المسألة ستكون يسيرة جدا في موضوع التوحيد. وكذلك سأتكلم الآن عن المسألة الأولى فقط وأرجئ المسألة الثانية إلى فرصة أخرى.
قال المتحدثون الذين من رأيهم الاعتماد على الحساب: أن شهادة الشهود محتملة للخطأ ومحتملة للكذب إلى آخر ما قالوه. فهي حجة ظنية. نعم أقول معهم إنها حجة ظنية لكن هذا الاحتمال ليس حجة ظنية في إثبات الهلال وحده وإنما هي حجة ظنية في جميع الأحوال وشهادة الشهود يثبت بها ما هو أخطر من إثبات الهلال (هي تؤخذ في الدماء) فكيف نراها لهذه الاحتمالات هذه مجرد احتمالات، والواجب على من يتولى الأمر إثبات الهلال أو إثبات أي دعوى أخرى فيها شهود.(2/839)
الواجب عليه أن يتحرى ويتثبت في أن هؤلاء الشهود عدول وأن يتخذ كل الطرق التي يصل بها إلى ما تطمئن به نفسه إلى أن هذه الشهادة حقيقة بحسب اجتهاده. هذه مسألة مفروغ منها، فشهادة الشهود وإن كانت ظنية فهي مقبولة من غير خلاف، فقد يقول قائل: وجدنا ما هو أثبت منها، وهذا ما قالوه. قالوا: أن الحساب الفلكي قطعي، وهذه ظنية، والقطعي مقدم على الظني نقول لهم: نعم، ولكن لا نسلم بأن الحساب الفلكي قطعي ولا قريب من القطعي كما قال بعض الإخوة. والدليل عندي الآن في هذا اليوم نحن الآن هنا اليوم الرابع عشر من شهر ربيع الآخر وفي السودان في اليوم الثالث عشر من شهر ربيع الآخر والتقويم موجود هناك وموجود هنا وكلاهما معتمد على الحساب الفلكي فأي الحسابين صحيح، ليس هذا في السنة التي حصل فيها الخلاف وندد فيا زميلنا وأظنه قد خرج وسخر من الذين صاموا 28 يوم كانت النتائج تختلف على ثلاثة أيام وهذا شاهدته بنفسي وعندي هذه النتائج كلها معتمده على الحساب الفلكي، فكيف نقول: أن الحساب الفلكي يقيني. هذه مسألة مشاهدة. وأحب أن أقف قليلا لأعلق على رمضان الذي جعل فبراير لأني أنا صمت هذا رمضان ذلك 28 يوم ولكني قضيت يوما وصام معي عدد كبير من السودانيين بناء على فتوى صدرت من مجلس الإفتاء وأنا أحد أعضائه عندما سمعنا بأن الهلال ثبت في السعودية وكان ذلك قبل الفجر فأصدرنا فتوى بأن هلال شوال ثبت وعليكم أن تفطروا في هذا اليوم وتقضوا يوما لأنه تبين مادام ثبت الهلال ومعروف عند جميع المسلمين أن الشهر لا يكون 28 يوما إما 29 أو30 فأفتينا بأن يفطر المسلمون في السودان لأنه ثبت أن هذا اليوم عيد ولا يجوز الصوم يوم العيد وعليهم أن يقضوا لأنه تبين أنهم تركوا يوما في أول شهر رمضان، هذا هو ما حدث بالنسبة لمسألة 28 يوما ولا يصح أن يندد بها ويسخر منها وليست هذه المسألة أول ما حصلت.
هذا حصل حتى في العصر الأول على ما أذكر حصل مثل هذا، فأعود إلى موضوع الحساب الفلكي ومسألة الظنية والقطعية، هو واضح أن كلا الطريقين طريق ظني إلى الآن على الأقل، الحساب الفلكي ظني، إذن لم نترك ظني إلى ظني؟ نترك ظني ثبت كما قال الإخوة ولا أريد أن أدخل في هذا. ثبت بالحديث الصحيح الأمر بالرؤية وأن الثبوت يكون بالرؤية، فرأيي هذه المسألة هي في نظري واضحة ولا يصح الاعتماد على الحساب الفلكي وحده. لكن مع ذلك قد أقترب من رأي الأستاذ الزرقاء وأقول وقال هذا الرأي بعض الإخوة أيضا: أن علينا أن نجعل الأصل ونعتمد على الرؤية مع الاستعانة بالحساب الفلكي، وأن نحث البلاد الإسلامية على الاهتمام بالرؤية لأن هذه مسألة واضحة في هذه الأيام. المسلمون لا يهتمون برؤية الهلال بتاتا، أذكر أنه قبل ثلاثين سنة كان اهتمام شديد برؤية الأهلة وفى كل شهر وليس في شهر رمضان فقط. وهذا كاد ينعدم الآن ويمكن في كل البلاد. فيجب أن نحث المسلمين على الاهتمام بالرؤية، رؤية كل شهر مع الاستعانة بالحساب الفلكي. وأعنى بالاستعانة بالحساب الفلكي مثلا الآن في هذا الشهر نريد أن نتحرى هلال شهر ربيع الآخر النتائج تقول 29 يوما والنتيجة الأخرى تقول 28 يوما أتحرى يوم 29 فإن رأيته الحمد لله الرؤية أيدت هذا الحساب الفلكي، لم أره يأتي اليوم الذي بعده وهو 29 بناء على حساب آخر أيضا أتحراه ولا أعتمد ولا أكمل هنا، ولا أقول أكمل ربيع الثاني 30 قياسا على إكمال شعبان لابد أن أتحرى وأنظر فإن رأيته أعتبر أن النتيجة الثانية هي الصحيحة ولا أعتمد على أي من الحسابين الفلكيين.(2/840)
وهذا رأي في مسألة ثبوت الهلال.. هي باختصار الاعتماد على الرؤية وجعلها هي الأصل مع الاستعانة بالحساب الفلكي.. وأعتقد أن هذه كانت توصية في أكثر من مجمع في هذا الموضوع. أما الموضوع الآخر فأترك الحديث عنه إلى أن يبت في هذه المسألة.
الشيخ عمر جاه:
بسم الله الرحمن الرحيم.. فضيلة الرئيس أريد أن أشير فقط إلى نقطتين من ضمن النقاط التي دار حولها النقاش في هذه المسألة.. النقطة الأولى هي مسألة الحساب العلمي وأنا متفق تماما مع من يميل إلى أن الحساب العلمي لم يصل بعد إلى اليقين الذي لا مجال للشك فيه، هذه حقيقة وكلنا يعرف هذا. ومع ذلك ينبغي أن نعترف أيضا أن الحساب العلمي كأي علم من العلوم تطور. لو وصل هذا العلم إلى ما وصل إليه اليوم في زمن الرسول أعتقد بأن المسألة سوف تختلف، لا ينبغي أن نهمل الحساب العلمى حينما نجتهد في أي أمر يتعلق بحياة المسلمين.. هذه ناحية.
والنقطة الثانية تتعلق بمسألة المطالع وكلنا يعرف أن الشمس تشرق أو تطلع في أقصى القارة في أوقات تختلف، اختلاف الأوقات قد يصل أحيانا إلى تسع ساعات أو أكثر، ومن هنا أريد أن أثنى ما ذهب إليه بعض أصحاب الفضيلة وخاصة الأمين العام للمجمع والدكتور عبد اللطيف الفرفور ومن ذهب إلى ما ذهبوا إليه. ينبغي أن نهتم إذا كنا نسعى إلى توحيد بداية الشهور الإسلامية نهتم بتوحيد المطالع، ومما لا شك فيه أن المطالع طبيعيا لا يمكن توحيدها على الكرة الأرضية كلها، ذلك لأنه ثبت الفرق الزمني بين منطقة والمنطقة ولا يمكن أن نفكر في أن الكرة الأرضية كلها يكون مطلعها واحدا، لكن يمكن كما ذهب الشيخ فرفور وهذه المسألة ليست جديدة أننا نجتهد، ونحدد مناطق جغرافية معينة ننصح أنه إذا ظهر شهر إذا رؤى شهر الهلال في أي منطقة من هذه المناطق ننصح من ينتسب إلى هذا المطلع أن يصوموا اليوم وأنا أيضا أميل إلى قول الشيخ التميمي الذي يقول إنه ليس فوضى أنا لا أرى أن هناك ضيقا من أن المسلمين في أمريكا يصومون في يوم يختلف عن اليوم الذي يصوم فيه المسلمون في جنوب شرق آسيا. هذا طبيعي حقيقة، والذي يهمني والذي يسعدني إنني أرى في دولتين مسلمتين متجاورتين يصومون في أيام مختلفة. أليس هناك ثقة؟ ألا نستطيع أن نضع الطريق ليستطيع المسلم الذي يعيش في دولة مجاورة لمسلم آخر أنه إذا ثبتت رؤية الهلال في هذه المنطقة ينبغي أن نتمسك بها ونصوم؟ لكن هذه هي المسائل العملية التي ينبغي أن نهتم بها فأنا أميل إلى أن اختلاف المطالع شئ واقع، علينا أن نجتهد في توحيد أو في تضييق شقة الخلاف فما يخص، المطالع ولا ينبغي أن نهمل الحساب العلمي إهمالا كليا لأنه ثبت علميا أن هذا العالم أثبت حقائق ملموسة يمكن أن نستعين بها في توحيد هذا المبدأ الذي نميل إليه وشكرا.(2/841)
الشيخ عبد السلام العبادى:
بسم الله الرحمن الرحيم.. الواقع من مجريات النقاش اتضح أن المشكلة ليست في صيام أحد البلاد الإسلامية اليوم وصيام بلد إسلامي آخر غدا، لأن موضوع اختلاف المطالع يعالجه، لكن القضية في الواقع التي يعانى منها المسلمون في هذه الأيام، هذه الفوضى الواسعة في هذا المجال أن يصل موضوع اختلاف المطالع إلى ثلاثة أو أربعة أيام وهذا لا يرضي أحدا، مع ملاحظة اجتهادات الفقهاء المسلمين وأوضاع المسلمين التمسك بموضوع الرؤية الشرعية، لأن هذه القضية كانت في حديث رسول صلى الله عليه وسلم الوسيلة المقررة شرعا للتأكد من دخول الشهر وخروجه لأن القران الكريم كما نعلم جميعا يوجب الصيام على من شهد الشهر، على من حضره وكان مكلفا شرعا عند شهود الشهر. والرؤية هي أداة تقرير دخول الشهر أو خروجه. السؤال الكبير في هذا المجال يتعلق بأمرين الأمر الأول: إذا قام يقين بخطأ شهود معينين جاؤوا للشهادة بأنهم رأوا الهلال هل ترد شهادتهم أم لا ترد؟ هذه قضية. والقضية الأخرى ترتبط بنص الحديث الذي هو أساس تمسكنا بالرؤية وهو أن الخطاب فيه لجميع المسلمين فهل يشترط رؤية جميع المسلمين للهلال أم يكفى رؤية بعضهم وعند ذلك يجب الصيام على جميعهم؟ الحسابات الفلكية التي تصدرها المجامع العلمية المتخصصة تقطع بالتأكيد، هذه قضية لها أصحابها ولها المختصون بها، لا نستطيع نحن بمعلوماتنا المحدودة في هذا المجال أن نقول بأن هذا الحساب ظني، لابد بأن نلتق بأهل الاختصاص وأن نرى مستنداتهم في القطع في هذه المجالات لنقرر أنه قطعي أو غير قطعي، وقد قدمت الدراسات العلمية في هذا المجال حسابات لحركة القمر بالنسبة لحركة الأرض ليس بالثانية ولكن بأقل من الثانية، وما يرى الآن في إطلاق السفن الفضائية وكيف يحسب وصول السفينة الفضائية إلى المريخ بأقل من الثانية متى تصل هذه السفينة، وقضية القطع أرجو أن لا يترك هذا الأمر لغير المختصين الأتقياء الورعين الذين لا يتقولون في هذا المجال، إنما يقولون الحق فما يعتقدون أنه الحق، مادام من خلاصة هذا الكلام أن الأمر منوط بالرؤية الشرعية والخطاب جاء للأمة الإسلامية جميعا وليس لبلد دون بلد، فلابد من تشكيل هيئة لإثبات الرؤية الشرعية وليكن مركزها مكة المكرمة للاعتبارات التي ذكرت وتكون من العلماء الذين تتوافر فيهم الشروط المقررة شرعا لمثل هذه الأمور.(2/842)
وهى شروط القضاء كما تعلمون، ولها أن تستعين بمن ترى من الخبراء وأن تجري الاتصالات اللازمة بجميع البلاد الإسلامية وبخاصة أن موضوع اختلاف المطالع قضية علمية قضية واقعية وليست قضية فقه لأنه لا نستطيع أن نقول الفقيه الفلاني قد قال بأن اختلاف المطالع أمر جائز إذن أن نقول سلمنا بأن اختلاف المطالع أمر جائز، اختلاف المطالع قضية فلكية، والواقع في هذا الأمر تقدم الدراسات العلمية شيئا يجب أن ينتبه إليه أنه في كل أشهر رمضان مثلا يكون هنالك اختلاف المطالع هي تحسب التولد الفلكي للقمر ثم تحسب إمكانية الرؤية الشرعية ثم تقول: في هذا الشهر الهلال سيرى في ليلة واحدة عند جميع البلاد الإسلامية. وفى شهر آخر في سنة أخرى قد تقول غير هذا، تقول الحسابات الفلكية: أن التولد سيتم للقمر في غرب العالم الإسلامي وهذا يعنى أن شرقه لن يراه في تلك الليلة، فإذن اختلاف المطالع كما يقرر العلماء وهي قضية علمية واقعية، قد يكون في شهر ليس هنالك اختلاف المطالع من شهر رمضان مثلا أو في أي شهر من الأشهر القمرية، وقد يقول في وقت آخر في شهر آخر إنه في هذا الشهر اختلاف المطالع لأن العملية منوطة كما نعلم بتولد القمر بالنسبة لحركته من الأرض وإمكانية رؤيته شرعا. والقمر نظرا لحركته الدائبة حول الأرض وحركة الأرض حول نفسها في إطار حركة القمر حولها فقد تأتى ظروف يكون التولد في وقت من أوقات اليوم وقد يكون التولد في وقت آخر وهذا يرتبط بالليلة التي بعدها وفق إمكانية الرؤية الشرعية وعدد ساعاتها، فإذا كانت ساعاتها تغطى الليلة كاملة عند ذلك يقطع العلماء بأن الهلال يمكن رؤيته شرعا في خلال الليلة القادمة وهذا يعنى أن رمضان يكون في الليلة التي بعدها، ويكون في بعض الحالات وفق هذه الحركة قطع بأن تلك البلاد لا يمكن أن ترى القمر في تلك الليلة، كما قالوا في مستندهم الذي قدموه.(2/843)
قالوا أن أمريكا في ذلك الشهر وليس في كل الأشهر سوف لن يكون هنالك رؤية، فنعود إلى الخطاب، الخطاب لعموم المسلمين، فهل هنالك ما يمنع شرعا وهو سؤال محدد يمكن للسادة العلماء أن يجيبوا عليه. هل هنالك ما يمنع شرعا أخذا بعموم الخطاب إذا ثبتت الرؤية في بلد أن يصوم جميع المسلمين في العالم؟ ليس هنالك مانع أخذا بعموم الخطاب لأن الخطاب جاء عاما أقول حتى في هذه الحالة يمكن من هذه الهيئة (هيئة الرقابة الشرعية) أن تستثنى بعض البلاد كما فعلت لجنة المواقيت عندما يقوم قطع بأن الهلال لن يكون من الممكن رؤيته بالنسبة لهؤلاء، وفى ظني أنه لو أخذنا بالشق الأول ظللنا في إطار التعبد لأننا من المعلوم أن القضية منوطة بعموم الخطاب كما أسلفت. ولذلك أرجو في نهاية كلامي أن قضية القطع في الحساب الفلكي لا نقوله نحن، هذه قضية تترك لأهل هذا الاختصاص فهم الذين يقدمون يقينا بأن هنالك قطعا وشكرا.
الرئيس:
هل هي قطعية أو ظنية لأنهم ما هم أصحاب الاختصاص.
الشيخ عبد السلام العبادي:
هم قدموا بالفعل ولكننا لم نحصل على ما قدموه وإنما هنالك دراسات واسعة في هذا المجال يمكن أن نستعين بها ولم تحضر لدينا.(2/844)
الشيخ ادم شيخ عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم.. فإن ثبوت الهلال بالرؤية البصرية أمر متفق عليه لصراحة النصوص الواردة من الكتاب والسنة. وإن ثبوت الهلال بالرؤية البصرية لا يختلف عليه إذا ثبتت الرؤية ثبوتا شرعيا. والخلاف منصب فقط على قضيتين هما اختلاف المطالع وعلم الحساب الفلكي.
أما اختلاف المطالع فالخلاف فيه هو هل يؤثر اختلاف المطالع في الأحكام أو لا يؤثر؟ لا خلاف في اختلاف المطالع نفسها لأنه أمر واقع لا يمكن الاختلاف فيه فالرأي الذي أراه وأؤيده وأرجو من المجمع أن يقره هو ما يلي:
أولا: التقيد في ثبوت الهلال بالرؤية البصرية الشرعية.
ثانيا: تجويز الإمكان بأن يصوم جميع المسلمين بالرؤية التي ثبتت ثبوتا شرعيا في بلد من بلاد المسلمين وأن يعتبروا جميعا هذا اليوم أول رمضان، فعند ذلك لا يضر الاختلاف في بدء الإمساك والإثبات، كاختلاف توقيت أوقات الصلوات سواء بسواء. وأما الحساب الفلكي فنتركه كما قال فضيلة الأستاذ الشيخ رجب فليوحدوا في تحديد توقيت أو مواقيت الشهور العربية. وشكرا.(2/845)
الشيخ عبد الله بن بيه:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى أهله الطاهرين وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين وأصحابه الهداة المهتدين. في الحقيقة أن الحديث في هذا الموضوع يصبح تكرارا وإن كنت أريد أن أنبه إلى بعض المباديء العامة.. هناك مبدأ عام هو إذا لم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم فإن قوله يحمل على العموم. وهذا العموم لا يجوز تخصيصه ولا نسخه إلا بمخصص شرعي هذه هي قاعدة أصولية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . الذين يقولون لو كان النبي صلى الله عليه وسلم حاضرا اليوم لغير الحكم فإنهم يخالفون هذه القاعدة الأصلية وهى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . أن الله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه اجتماعنا في هذا اليوم وبحثنا فيه ولأجل ذلك علينا أن نعتبر أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما تكلم بهذا الكلام لم يكن الله سبحانه وتعالى غائبا عنه سبحانه وتعالى أن الناس سيختلفون وسيتكلمون في هذا الأمر، فالنبي صلى الله عليه وسلم فصل وقال: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة، أو عدة شعبان ثلاثين)) ولم يقل فان غم عليكم فإذا وجدتم وسيلة أخرى فارجعوا إليها. لم يقل هذا الكلام. وكان بالإمكان أن يقوله ولم يقله، عدم الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال وحتى قيل أيضا في الأفعال. هذه قاعده يجب أن نتنبه إليها..
ثانيا: هذا المجمع هو مجمع إسلامي يتركب مبدئيا من الفقهاء، والفقهاء يلجأون إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويحجزهم ورعهم أن يقولوا ما ليس بحق والحق أن ما يعرف عن طريق الكتاب والسنة ولا يعرف عن طريق الرجال، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه قال له (إنك رجل ملبوس عليك اعرف الحق اعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف من يأتيه) . لابد من الرجوع إلى الحق أولا لنعرف الحق ولا نلجأ إلى الرجال لنعرف الحق عن طريق الرجال وإنما نعرف الرجال عن طريق الحق. أنتم أيها المجمع من يسأل منكم أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة هل يفضل أن يقول: يا ربى، قال نبيك ((افطروا لرؤيته وصوموا لرؤيته)) وأنا اتبعت نبيك صلى الله عليه وسلم، أو يفضل أن يقول: يا ربي أنا عدلت عما قال نبيك صلى الله عليه وسلم لأني رأيت أن العلم تقدم وأنه وقع كذا وكذا، أي الفربقين أحق بالأمن أن كنتم تعلمون، هذا سؤال كل واحد منا أن يطرحه على نفسه أن يصم أذنيه ويقول وزراء الخارجية ويهول هذا الأمر كما يقول الشاطبي "والأمر ليس مهولا" الأمر في الحقيقة ليس مهولا وليس أمرا عظيما مطلقا ولا أهمية له لأننا شغلنا أنفسنا في أمر قد بت فيه وقطع ولا أهمية له، ولا ينبغي أن نشتغل فيه.(2/846)
في البلاد الإسلامية من يطبق أحكام الله سبحانه وتعالى وفيها من لا يطبق أحكام الله، لماذا لا نتفق على تطبيق أحكام الله تعالى على وجه الأرض. هذا الأمر في غاية الأهمية إذن الذي أراه وأرى أن ينجينا من الله سبحانه وتعالى نستغفره ونتوب إليه ونستلهمه الرشد والصواب أن نطبق أقوال رسولنا صلى الله عليه وسلم وأن نطبق أفعاله وأقوال أصحابه التي تحمل على الرفع فيما لا مجال فيه للاجتهاد، ولأجل ذلك حديث ابن عباس رض الله عنه حديث كريب يحمل على الرفع لأنه من الذي لا مجال فيه للرأي، وإذا قال الصحابي بقول لا مجال فيه للرأي فإنه يحمل على الرفع كما يقول علماء الأصول وكذلك لو قال كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمل كذا فإن أكثر علماء الحديث قالوا إنه يحمل على الرفع، ولأجل ذلك فقول ابن عباس وقد أيده العلم الحديث، أيد قول ابن عباس، اتفقتم الآن قلتم العالم الحديث أثبت أنه يرى بالعين المجردة في مناطق ولا يرى في مناطق أخرى، أليس هذا ما قاله ابن عباس، لكل منطقة، أنا لست ضد النظر إلى مناطق محددة ومتقاربة أن تكون رؤيتها واحدة وأرى أن هذا هو الحق الذي لا غبار عليه، والعلماء كانوا يضربون المثل ببعد خراسان من الأندلس في الدولة الإسلامية الأولى لأن الأندلس بعيد جدا من خرسان وهؤلاء لا يجب أن يصوم أحدهم بصوم الآخر وأن لا يفطر بفطرهم. يمكن أن نحدد مناطق اجتهادية بعد بحث دقيق عن اتفاق هذه المناطق في خطوط الطول مثلا وهى الخطوط المعتبرة في الحقيقة في هذا، نرى اتفاق هذه المناطق في خطوط الطول وأن نحكم في أن هذه المناطق إذا رأت الهلال رؤية شرعية فإنه يجب أن نستجيب لهذه الرؤية الشرعية.
أود أن أقول أن مصداقية مجمعنا هذه تكمن في اتباعه للأثر وفى تقديمه للدليل فإذا أصبح المجمع من المجامع التي لا تهتم بالدليل والتي تقول من عند نفسها وتقول ما تراه أن كان لا يستند إلى دليل فإن المجمع سيفقد حقيقة مصداقيته وأن المسلمين لن يعبأوا به ولن يأبهوا بالقرارات التي يصدرها هذا المجمع.أخي وصديقي يقول {فَمَنْ شَهِدَ} ويقول إنه استعمال مجاز واستعمال حذف وأيضا هذا يجاب به من ناحية أخرى، قلنا "شهد" بمعنى "حضر" فإننا نقع في نفس المشكلة التي حذر منها.
هناك مسألة في غاية الأهمية قد تفيدنا في المستقبل لدراسة هذه الموضوعات إننا إذا لجأنا إلى العلم في كل شئ، العلم يقول أن الخنزير كان فيه جراثيم وهذه الجراثيم زالت وأنهم يزيلونها الآن، هل نحن على استعداد غدا أن يجتمع مجمعنا هذا وبقول الخنزير كانت فيه جراثيم والعلم اليوم توصل توصلا قطعيا في إزالة هذه الجراثيم، والحرمة الآن ليست قائمة، لأن العلم توصل الآن إلى إزالة هذه الجراثيم، لنكن حذرين في غاية الحذر، فان هذا الصعيد صعيد فيه منزلقات وليس هذا تعصبا ولا جمودا على النصوص. وشخصيا لا أعرف هل الحساب الفلكي قطعي أو غير قطعي. قالوا قطعيا في الزمن القديم ولكن أرجو أن نكون على حذر وأن نكون على ورع فيما نصدره من الأحكام أن نكون على ورع أولا، هذا الورع ضروري جدا في ما نصدره من أحكام وشكرا.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/847)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسالم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أصحاب الفضيلة.
إنه من خلاله هذه البحوث وهذه المداولات المستفيضة تبين لنا عدة أمور:
أولا: أن الشارع علق الحكم بالرؤية كما في حديث ابن عمر كما في الصحيحين وغيرهما ((لا تصوموا إلا لرؤيته)) وفى لفظ ((صوموا لرؤيته)) .
ثانيا: عندنا مبحث آخر وهو مبحث اختلاف المطالع وهو الذي عليه جماهير أهل العلم وقد حكى ابن عبد البر الإجماع عليه لكن هناك طرف يبحث في عدم اختلاف المطالع.
ثم أن هناك مسألة مهمة وهى اختلاف الفقهاء بشروط الرؤية، هل يكتفي بمستور الحال أو يكتفي بعدل واحد أو لابد من عدلين أو لابد من الاستفاضة والشهرة. ثم أن هناك في صحيح مسلم وله حكم الرفع قطعا وهو حديث كريب الذي أرسلته أم الفضل بنت الحارث أم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد سمعتموه من على ألسنة عدد من أصحاب الفضيلة المشايخ.
ثم أن هناك مسألة الحساب هل هي قطعية تحققت أمام أنظاركم مدونة لا عن طريق السمع ولا عن طريق وسائل الإعلام ولا عن طريق قال فلان وعلان، لكن هل ثبت لديكم بتقرير من ذوي الاختصاص مقروء أمامكم أن الحساب قطعي، تعلمون أن هذا انعقدت له ندوات وانعقدت له مؤتمرات وانتهت هذه المؤتمرات بنظريات وباتجاهات وقد سمعتم من ذكر على ألسنة البعض منهم أنه ظني وقد سمعتم من يحكي شيئا حول قطعيته ومنهم من يقول إنه شبه قطعي وما جرى مجرى ذلك.(2/848)
بعد هذا فإن هذه المسألة ليست وليدة اليوم على مستوى المحافل العلمية فإنه على سبيل المثال هذه المسألة استغرقت ما يزيد عن عشرين عاما في جهة علمية واحدة وهي رابطة العالم الإسلامي وتعلمون جيدا أنها منذ عشرين عاما ولا تزال ولله الحمد فيها عدد كبير من فحول علماء الأقطار الإسلامية. فجلست عندهم في رابطة العالم الإسلامي ما يقرب أو ما يزبد عن عشرين عاما ثم بعد ذلك انتهت بما توصل إليه المجمع الفقهي بمكة، ثم إنه تعلمون أن مسألة الحساب وضبط المواقيت الشرعية بالحساب انعقدت لها عدة مؤتمرات وآخرها ما صار في مكة المكرمة قبل مدة قريبة وصار فيه بحوث ودراسات وتوصلوا إلى بعض النتائج.
ولهذا فإنني أعرض على أنظاركم وجهة النظر الآتية:
وهو أن هذا الموضوع خاصة ليس من المقبول أن يخرج بعدة آراء واختلافات ووجهات نظر. وأن الآراء التي قيدناها أمامنا ووجهات النظر فيها تباين شديد في جزئية الحساب أو في كلية الحساب في جزئية المطالع أو في كلية المطالع، في توحيد الشهور، أو في عدم توحيدها أو في عدم اعتبار الحساب مرة واحدة، أو في عدم التوحيد مطلقا وما جرى مجرى ذلك، عدة آراء مقيدة لدينا. ولهذا فأنا أرى أن هذا الموضوع بحاجة إلى ما يلي:
أولا: أن يحضره خبراء مختصون من ذوى الاختصاص في الحساب.(2/849)
ثانيا: أن نستقطب ما لدى مؤتمر الأرصاد والذي عقد في مكة في آخر ندواته.
ثالثا: إذا تفضلتم فإن لدى ما يزيد عن عشرة كتب ورسائل ألفت في هذا الموضوع من عدد من علماء الأقطار الإسلامية ولم أر واحدا من أصحاب الفضيلة أشار إلى هذه البحوث وإلى هذه الكتب وإلى هذه الرسائل رغم أنها مطبوعة. وقد تيسر لي في زمن سابق أيام كنت في المدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات والتسليم أن استخلصت من هذه البحوث بحثا اسمحوا لي إذا قلت انه فيه استفاضة بأن حكت الخلاف وذكرت الأدلة لجميع الأقوال ووجوه الاستدلال وتركت إبداء الرأي كليا وذلك في مسألتين في مسألة الحساب، وفى مسألة توحيد الشهور. ولهذا إنني أقترح عليكم أصحاب الفضيلة أن هذه المسألة ينبغي أن نستقطب هذه الأمور والمسألة التي بقيت في مجمع رابطة العالم الإسلامي عشرين عاما لتبق لدينا إلى جلسة مقبلة، فأرجو أن تتكرموا بالموافقة إذا رأيتم ذلك، أن نؤجلها وأن على الأمانة العامة مشكورة أن تحضر هذه المعلومات ومن قبلي أحضر إذا عهدتم إلى بهذا البحث وبإحضاره ونحضر الأشخاص الثقات المؤتمنين المسلمين العدول الذين إن شاء الله تعالى يطمأن إلى قولهم ونستطيع بهذا أن نستكمل التصور وأن نرتب الحكم بأمان، وأملي بالله عظيم أن نخرج بحكم أو بقرار جماعي بعيد عن هذه الآراء التي قيدت منها أربعة آراء أن لم يكن هناك خامس فات علي فأرجوا موافقتكم علي ذلك إذا تكرمتم، أي إرجاء المسألة إلى المجمع الآتي إلى الدورة الآتية. إن شاء الله، شكرا. وبهذا ترفع الجلسة وأفيدكم أن الجلسة مساء ستكون علي الساعة الخامسة إن شاء الله.(2/850)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم (6) د 3/ 07/ 86
بشأن "توحيد بدايات الشهور القمرية"
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407 هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
بعد استعراضه في قضية "توحيد بدايات الشهور القمرية" مسألتين:
الأولى: مدى تأثير اختلاف المطالع على توحيد بداية الشهور.
الثانية: حكم إثبات أوائل الشهور القمرية بالحساب الفلكي.
وبعد استماعه إلى الدراسات المقدمة من الأعضاء والخبراء حول هذه المسألة.
قرر:
1- في المسألة الأولى:
إذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار.
2- في المسألة الثانية:
وجوب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد ومراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية.
والله أعلم(2/851)
خطاب الضمان
فضيلة الدكتور بكر أبو زيد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ... وبعد
فإن من نوازل العصر وقضاياه جريان المعاملة بخطابات الضمان لدى البنوك الأهلية مع المستفيد شخص اعتباري أو طبيعي وتجلية موقعها من الشريعة المطهرة يقتضي إعطاء التصور الكامل لطبيعة خطابات الضمان وخطواتها الإجرائية وأنواعها وما جرى مجرى ذلك من القوالب التي تسير عليها ثم تنزيل الفقه الشرعي عليها. فاقتضى الحال إدارة التقييد فيها في مبحثين:
المبحث الأول: خطاب الضمان.
تعريفه.. نوع الطرف المستفيد.. الغرض منه.. خطواته الإجرائية.. أنواعه. (1)
المبحث الثاني: الفقه الشرعي لخطاب الضمان.
__________
(1) اعتمدت في هذا المبحث على مذكرة إيضاحية لمؤسسة النقد العربي السعودي موجهة لوزارة العدل برقم 4646/م /444 في 28\3\1404هـ وكتاب المصارف لغريب الجمال، والبنك اللاربوي في الإسلام لمحمد باقر الصدر، الربا والمعاملات المصرفية للشيخ عمر المترك - رحمه الله تعالى-.(2/852)
وبيان كل منها على ما يلي:
المبحث الأول
خطاب الضمان
وفيه الفروع الآتية:
ا-طبيعته:
خطاب الضمان المصرفي: هو تعهد قطعي مقيد بزمن محدد غير قابل للرجوع يصدر من البنك بناء على طلب طرف آخر (عميل له) - بدفع مبلغ معين لأمر جهة أخرى مستفيدة من هذا العميل لقاء قيام العميل بالدخول في مناقصة أو تنفيذ مشروع بأداء حسن ليكون استيفاء المستفيد من هذا التعهد (خطاب الضمان) متى تأخر أو قصر العميل في تنفيذ ما التزم به للمستفيد في مناقصة أو تنفيذ مشروع ونحوهما ويرجع البنك بعد على العميل بما دفعه عنه للمستفيد.(2/853)
2 - أركانه:
من هذا يتضح أن أركان خطاب الضمان أربعة وهى:
1- البنك: وهو الطرف (الضامن) .
والضامن هو من التزم ما على غيره.
2- العميل: وهو الطرف (المضمون عنه) .
3- المستفيد: وهو الطرف (المضمون له) .
وهو رب الحق الذي التزمه الضامن.
4- قيمة الضمان: وهو (المبلغ المضمون) .
والمضمون به هو الحق الذي التزم الضامن.
فإذا أطلق خطاب الضمان حوى هذه الأركان.
3- الشخص العميل (المضمون عنه) :
يكون شخصية حكمية (اعتبارية) كالشركة أو المؤسسة ممثلة في (مديرها المسئول) . ويكون شخصا طبيعيا.
4- المستفيد: (المضمون له) :
عادة لا يكون إلا شخصية اعتبارية كمصلحة حكومية أو مؤسسة أو شركة معروفة. ومن النادر أن يكون شخصا طبيعيا.(2/854)
5 - أهدافه:
لخطاب الضمان أهمية كبيرة في حماية المستفيد (المضمون له) حكومة أو شركة لضمان تنفيذ المشاريع أو تأمين المشتريات وفق شروطها ومواصفاتها وفى أوقاتها المحددة. وبالتالي توفير الضمانة للمستفيد عن أي تقصير تنفيذي أو زمني من الطرف العميل إضافة إلى أن البنك لا يقبل في استقبال خطاب الضمان وأن يكون طرفا مع العميل لصالح المستفيد إلا إذا توفرت لديه القناعة بكفاءة العميل المالية والمعنوية. وبالتالي في هذا ضمان إضافي إلى سابقه أن لا يدخل في المشاريع والمناقصات إلا شخص قادر على الوفاء بما التزم به.
6- طريقة إصدار خطاب الضمان:
يقدم طالب خطاب الضمان طلبا للبنك يحدد فيه مبلغ الضمان ومدته والجهة المستفيدة والغرض من الضمان. ويجب أن تكون لدى البنك قبل إصداره الضمان المذكور القناعة بأن كفاءة العميل المالية والمعنوية كفيلة بالوفاء بالتزامه فيما إذا طلب منه دفع قيمة الضمان أو تمديده وإذا كان مبلغ الضمان كبيرا فإن البنك يطلب عادة تأمينات لقاء ذلك إما أن تكون رهنا عقاريا مسجلا أو رهن أسهم في شركات أو بإيداع أوراق مالية لدى البنك يسهل تحويلها إلى نقد فيما لو طلب من البنك دفع قيمة مبلغ الكفالة - مع خطاب من مودعها بالتنازل عنها إذا اقتضى الأمر أو كفالة بنك خارجي معروف، وإضافة إلى كل ذلك فإن البنك يحتفظ عادة بتأمينات نقدية يودعها العميل بنسبة حوالى25 % من قيمة الضمان وقد تزيد هذه النسبة أو تقل تبعا لمركز العميل المالي والمعنوي ولطبيعة المشروع الذي قدم الضمان من أجله، وبعد كل هذه الإجراء ات يقوم البنك بإصدار الضمان.(2/855)
7- أنواع خطابات الضمان:
تجرى المعاقدة عليها على أنواع:
أولا: خطاب الضمان الابتدائي:
ويكون مقابل الدخول في مناقصات أو مشاريع ويكون مبالغ الضمان مساويا لـ 1 % من كل قيمة المناقصة أو أكثر، وساري المفعول لمدة معينة وعادة تكون لثلاثة أشهر وهذا التعهد البنكي (خطاب الضمان) يقدمه العميل للمستفيد من مصلحة حكومية أو غيرها. ليسوغ له الدخول في المناقصة مثلا فهو بمثابة تأمين ابتدائي يعطى المستفيد الاطمئنان على قدرة العميل على الدخول في المناقصة. ولا يسوغ إلغاء هذا الخطاب إلا بإعادته بصفة رسمية من الجهة المقدم إليها (المستفيد) .(2/856)
ثانيا: خطاب الضمان النهائي:
وهذا يكون مقابل حسن التنفيذ وسلامة الأداء في العملية من مناقصة أو مشروع ونحو ذلك ويكون مبلغه بنسبة 5 % من قيمة المشروع أو المناقصة وهو محدد بمدة لعام كامل مثلا قابل للزيادة.
وهذا التعهد البنكي (خطاب الضمان النهائي) يقدمه العميل للمستفيد من مصلحة حكومية أو غيرها ليستحق المستفيد الاستيفاء منه عند تخلف العميل عن الوفاء بما ألتزم به فهو بمثابة تأمين نهائي عند الحاجة إليه, ولا يكون إلغاؤه ألا بخطاب رسمي من الطرف المستفيد.
ثالثا: خطاب الضمان مقابل غطاء كامل لنفقات المشروع أو المناقصة. (أي مقابل سلفة يقدمها العميل إلى البنك على حساب المشروع مثلا لصالح الطرف المستفيد والغاية منه كما في سابقه) - ثانيا الخطاب النهائي-.
رابعا: خطاب الضمان: (ضمان المستندات) :
وهناك نوع رابع من خطابات الضمان يقدمه البنك لصالح شركات الشحن أو وكالات البواخر, في حالة وصول البضاعة المستوردة إلى الميناء المحدد في المملكة وتأخر وصول مستندات الشحن الخاصة بالبضاعة إلى ذلك البنك الذي جرى الأستيراد عن طريقه فخشية من أن يلحق بالبضاعة تلف من جراء تأخر بقائها في جمرك الميناء يكون الضمان المذكور تعهدا من البنك بتسليم مستندات الشحن الخاصة بالبضاعة إلى وكلاء البواخر فور وصولها. واستنادا إلى هذا الضمان يتم فسح البضاعة للمستورد.
ولإصدار مثل هذا الضمان يقدم العميل المستورد طلبا بذلك إلى البنك ويسدد قيمة اعتماد الاستيراد بالكامل (وهي قيمة البضاعة المستوردة) ومن ثم يصدر البنك خطاب الضمان ويسلمه إلى العميل فيقوم العميل بتسيلمه إلى وكلاء الباخرة المعنيين.
8- مدي استفادة البنك من خطاب الضمان:
هذا التعهد الذي الزم البنك به نفسه مع العميل له بأن يدفع للطرف المستفيد من عميله المبلغ الصادر بموجبه خطاب الضمان ووفق ما فيه من شروط وإجراءات للبنك من وراء هذا مصلحة مادية وهى ما تسمى بالعمولة بمعنى أن البنك يستحق بالشرط على العميل نسبة مئوية معينة مقابل هذا التعهد وهذه الخدمة نحو 2 % حسبما يتم الاتفاق عليه.
(وبهذا ينتهي المبحث الأول الذي يعطى التصور الكامل لخطابات الضمان الجارية في المصارف والبنوك مع عملائها أمام المستفيدين منهم) .(2/857)
المبحث الثاني
الفقه الشرعي لخطاب الضمان
قد علم بأصل الشرع جواز الضمان وهو: ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون في التزام الحقوق المستحقة , بمعنى التزام دين على آخر، وهو عقد إرفاق وإحسان جاء به الشرع مع ما فيه من توثيق للحقوق وحفظ لها.
وخلاصة ما تقدم في المبحث الأول لطبيعة خطاب الضمان تنحصر في الفقرتين الأخيرتين منه وهما: -
ا - أنواعه.
2- عمولة البنك لقاءه.
أما أنواعه الأربعة المتقدمة فلم يظهر في ماهيتها ما يخرج عن المنصوص عليه في أحكام الضمان شرعا وتوفر شروطه فالضامن البنك ممن يصح تبرعه، ولوجود رضي الضامن وكون الحق معلوما حالا أو مألا وأن أجله معلوم غير مجهول. سوى ما جاء في النوع الأول وهو خطاب الضمان الابتدائي. فإنه من باب ضمان ما سيجب وضمان ما لم يجب عقد معلق وقد علم أن الضمان عقد التزام لازم فلا يعلق كغيره من العقود اللازمة، ولأن الضامن التزم ما لم يلزم الأصيل المضمون عنه وهو (العميل) بعد. لكن الجمهور من أهل العلم على جوازه وهو مذهب الأئمة الثلاثة – أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، والشافعي - في القديم والخلاف المذكور للشافعي في الجديد وما ذهب إليه الجمهور ألصق بأصول الشرع لا سيما إباحة التعامل في الأصل ما لم يعتوره مانع من غرر ونحوه.(2/858)
ولا يظهر في ضمان ما لم يجب بعد ما يمنع فيبقي على الأصل. (1) والله أعلم ولهذا قال الحنابلة: في تعريف الضمان هو: التزام ما وجب أو يجب على غيره مع بقائه عليه أو: هو ضم الإنسان ذمته إلى ذمة غيره فيما يلزمه حالا أو مآلا (2) .
وقالوا في ضمان ما يؤول إلى الوجوب (يصح الضمان بالحق الذي يؤول إلى الوجوب فيصح الضمان بما يثبت على فلان أو بما يقر به أو بما يخرج بعد الحساب عليه أو بما يداينه فلان) .
__________
(1) انظر: فتح القدير5/402، حاشية ابن عابدين 5/301، الشرح الكبير مع الدسوقي 3/333، وقوانين ابن جزى ص 353، روضة الطالبين للنووي 4/244. والغاية القصوى للبيضاوي 4/592، كشف المخدرات للبعلي ص 2 5 2، بداية المجتهد 2/298.
(2) شرح منتهى الارادات 2/108، 110.(2/859)
أخذ العمولة عليه:
أي أخذ (الأجرة) لا (الجعالة) فإن الجعالة: أن يجعل جائز التصرف شيئا معلوما لمن يعمل له عملا معلوما أو مجهولا من مدة معلومة أو مجهولة- فلا يشترط العلم بالعمل ولا المدة ولا تعيين العامل للحاجة.
فهي إذن: التزام مال في مقابلة عمل لا على وجه الإجارة فليس ما هنا مما هنالك إضافة إلى أن الجعالة: عقد جائزمن الطرفين لكل من العاقدين فسخها بخلاف الإجارة فهي عقد لازم ابتداء.
وإن كان وقع في عبارات بعضهم باسم الجعل على الضمان ففي هذا تسامح في التعبير أو على سبيل النزول بمعنى: أنه إذا لم يجز الجعل فالإجارة من باب أولى. وإن كانت الجعالة في معنى الإجارة لكن الجعالة أوسع من باب الإجارة فالجعالة كما علمت في تعريفها فلا يشترط العلم بالعمل ولا المدة ويجوز فسخها من الطرفين بخلاف الإجارة فهي عقد على منفعة أوعين لازم من الطرفين لا يملك أحدهما فسخها.
وعليه فإن جمهور أهل العلم على تقرير عدم الجواز لأخذ العوض على الضمان كما في مجمع الضمانات على مذهب الإمام أبي حنيفة البغدادى ص /282. والشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي3\404. والشرح الصغير 3\242 والفروع لابن مفلح الحنبلي 4\207، كشاف القناع 3\262.
وغيرها مصرحة بالمنع وعدم الجواز، وجماع تعليلهم للمنع فما يلي:
1- أنه يؤول إلى قرض جر نفعا وجه ذلك: أنه في حال أداء الضامن للمضمون له يكون العوض مقابل هذا الدفع الذي هو بمثابة قرض في ذمة المضمون عنه. وفى خطاب الضمان: أقوى في بعض أحواله لأن المستفيد يستوفي عادة من البنك لا من العميل.
2- أن هذا العقد مبناه على الإرفاق والتوسعة والإحسان ففي أخذ العوض لقاءه دفع لمقصد الشارع منه.
3- أنه في بعض حالات الضمان يستوفي المضمون له من المضمون عنه فيكون أخذ الضامن للعوض بلا حق وهذا باطل لأنه من أكل المال بالباطل. وفى خطاب الضمان الابتدائي أو المستندي مثلا يستوفي المضمون له المستفيد من العميل لا من البنك.
وها هنا تنبيهان:
الأول: جرى في القواعد الفقهية قوله: الأجر والضمان لا يجتمعان. وهذه القاعدة ليست مما نحن فيه من أحكام الضمان لأن الضمان هنا يقصد به (ضمان المتلفات) .
الثاني: جرى في القواعد الفقهية لهم قولهم: (ليس كل ما جاز فعله جاز إعطاء العوض عليه) بل فيه ما يجوز كالجعالة على رد الآبق. وما يمتنع كالعوض على الضمان واللهو المباح ونحو ذلك. كما جاء في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 30/215-216.(2/860)
النتيجة
مما تقدم تعلم الحقيقتان الآتيتان:
الأولى:
أن خطاب الضمان من حيث العطاء له من قبل العميل ثلاثة أحوال:
ا-خطاب ضمان ليس له غطاء البتة:
فهذا ينسحب عليه ما قرره جمهور العلماء من منع العوض على الضمان فهكذا في هذه الحالة من خطابات الضمان.
2- خطاب ضمان له غطاء كامل من العميل:
فهذه الحالة والله أعلم لا يظهر في العوض عليها ما يمنع في حق الضامن أو المضمون عنه لأن هذا العوض (العمولة) مقابل الخدمات الإجرائية ففي حال دفع البنك للمستفيد فهو من مال المضمون عنه وفى حال عدم دفعه فهو مقابل حفظه لماله وخدماته لذلك.
3-خطاب ضمان قد صار الغطاء لنسبة منه:
فهذه تنسحب عليها أحكام الحالتين قبلها فيجوز فيما قابل المغطى لا فيما لم يقابله - والله أعلم.(2/861)
وأختم هذا المبحث برأي رشيد للعلامة الشيخ/عمر بن عبد العزيز المترك في كتابه (الربا والمعاملات المصرفية) إذ قال - رحمه الله تعالى وغفر له امين - ص /309: "والذي أرى أنه إذا كان الضمان مسبوقا بتسليم جميع المبلغ المضمون للمصرف أو كان له غطاء كامل فلا يظهر في أخذ الجعالة عليه شيء لأن العمولة التي يأخذها المصرف في هذه الحالة مقابل خدماته كالعمولة التي تؤخذ من قبله في عملية التحويل بالشيكات لأن هذه العملية ليست مقابل عملية فرض ولا ما يؤول إلى قرض لأن المصرف لا يدفع من ماله شيئا وإنما يدفع ما التزمه بموجب الضمان من مال المضمون عنه الموجود لديه، أما إذا كان خطاب الضمان غير مغطى فلا أرى جواز أخذ الجعالة عليه لأن هذا الضمان قد يؤدى إلى قرض فيكون قرضا جر فائدة والربا أحق ما حميت مراتعه وسدت الطرائق المفضية إليه.
لذا فإني أرى أن على طالب الضمان أن يضع لدى الجهة الضامنة له مبلغا يساوى المبلغ المضمون وهذا إجراء متفق مع الأصول الائتمانية المتبعة في بعض المصارف حيث تطلب من العميل المضمون أن يحجز لديها مبلغا مساويا لقيمة خطاب الضمان وهو ما يسمى بالغطاء الكامل يكون رهنا لكى يسدد منه فيما لو اضطر المصرف إلى تنفيذ التزامه ويفرج عنه عندما يتحرر المصرف من ضمانه. وفى هذا الإجراء من الفوائد مما لا يخفي منها:
1- عدم إفساح المجال لمن ليس لهم المقدرة على الوفاء بالتزاماتهم في الدخول في المناقصات والعطاءات.
2- ان فيه حدا من التعامل الجشع والتوسع في الأعمال بما ليس في استطاعة الإنسان القيام به مما يعود عليه بالضرر وتنعكس عليه أثاره السيئة ذلك أن المناقض قد يقدم ضمانا مصرفيا بمبلغ ليس في استطاعته الوفاء به مما قد يضطره في النهاية إلى الخضوع لما تفرضه عليه المصارف من فوائد ربوية لقاء تسديده بمقتضي الضمان الذي التزمته.(2/862)
دراسة حول خطابات الضمان
للدكتور حسن عبد الله الأمين
تلقيت خطابا من سعادة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجه، مرفقا معه استفسارات حول خطابات الضمان التي تقدمها المصارف لعملائها بغرض بيان الحكم الشرعي حوله. ولقد سبق لي أن شاركت في إصدار فتوى حول خطابات الضمان منذ سبع سنين مع زملائي أعضاء هيئة الرقابة الشرعية على بنك فيصل الإسلامي السوداني آنذاك وقد نشرها البنك ضمن فتاويه في كتابه الأول.
ويسرني أن أثبت خلاصة لها في صدر هذه الدراسة قبل مناقشة الأسئلة المختلفة.
الخلاصة: خلاصة تلك الفتوى: أن خطاب الضمان الذي تقدمه المصارف علي نوعين:
1- نوع مغطى بمعنى أن لطالب الضمان حسابا جاريا بالبنك مثلا وهذا يعتبر خطاب الضمان من البنك معه للجهة المستفيدة من قبيل الوكالة، والوكالة عمل يجوز أخذ الأجرة عليه.
2- النوع الثاني مكشوف وغير مغطى بمعنى أنه ليس لطالب خطاب الضمان مبالغ مودعة بالبنك تغطي ما يقابل قيمة خطاب الضمان وهذا النوع من خطابات الضمان هو من قبيل الكفالة والكفالة تبرع بالجاه وليست عملا يستحق من أجله الأجر. هذه خلاصة تلك الفتوى.(2/863)
ولنعد لمناقشة الاستفسارات التي نحن بصدد دراستها، وهى تتكون من ثماني نقاط سوف نتحدث عنها فيما يلي:
1- تقول الفقرة الأولى: المعلوم فقها أن الأجر (المشروط) على الضمان لا يجوز ثم يستدرك الكاتب قائلا: غير أن بعض الفقهاء والحنفية والحنابلة والزيدية) أجازوا الربح بالضمان، إذ أجازوا شركة الوجوه) واستطرد قائلا: ويتخرج على مذهبهم أن وجيها لو اشترك مع آخر (خامل) على الضمان والربح مناصفة، ولم يشترو لم يبع، جاز لمجرد الضمان. وعلل لذلك بقوله: وهذا مثل المال لا يجوز إقراضه بأجر، لكن لا يجوز قراضه بربح. ونقول: أن شركة الوجوه: ويقال لها شركة المفاليس، لأنها شركة عقد بين اثنين أو أكثر- على أن يشتريا في ذمتها - بجاههما - شيئا يشتركان في ربحه، من غير أن يكون لهما رأس مال، على أن ما اشترياه فهو بينهم نصفين، أو ثلاثا، أو نحو ذلك، مميت بشركة الوجوه لأنهما يعاملان فيها بوجهيهما، والجاه والوجه واحد، يقال فلان وجيه، إذا كان ذا جاه. وهى جائزة عند الأحناف والحنابلة والزيدية كما ذكر الأخ الفاضل كاتب الاقتراح، وقول الكاتب: (في المذاهب الثلاثة المذكورة بإجازتها لشركة الوجوه إنما أجازت أرباح هذه الشركة بالضمان، ويتخرج على مذهبهم أن وجها لو اشترك مع آخر (خامل) على الضمان والربح مناصفة ولم يشتر ولم يبع جاز لمجرد الضمان. هذا القول يحتاج إلى مراجعة، ذلك أن الأحناف والحنابلة الذين أجازوا شركة الوجوه قالوا: أن هذه الشركة منعقدة على عمل، ووكالة، وكفالة، فالعمل: أنهما يشتركان في الشراء بجاههما-كما أنهما يشتركان في بيع ما اشترياه بجاههما، وكل منهما وكيل الآخر في البيع والشراء وكفيله بالثمن. فاستحقاق الربح المشترك بينهما بالعمل لا بالجاه، سواء أكان الاشتراك بالتساوي بينهما في كل شئ -الاشتراك في قدر الملك، والعمل، والربح، على قاعدة شركة المفاوضة. أو كان بالاختلاف والتفاوت في تلك الأشياء، على قاعدة شركة العنان، التي لا يشترط فيها التساوى في كل شئ، والتي يمكن أن يقوم بالعمل فيها بعد العقد أحد الشريكين منفردا أو مع شريكه الآخر. وشركة الوجوه تكون مفاوضة، وتكون عنانا وإذا ثبت أن الربح في شركة الوجوه مستحق للشريكين بالعمل الذي يبدأ بالشراء بوجهيهما لتحقق الشركة، ثم لا يهم أن ينتهي في مرحلة البيع بأن يقوم به أحد الشريكين أو بهما معا على أساس شركة العنان، إذا ثبت ذلك لم يعد هنالك مجال للتخريج بأن وجيها لو اشترك مع خامل إلى آخر ما ذكر في الاقتراح، لم يعد لهذا القول مكان. كما أنه لا وجه للشبه بين هذه الشركة (وبين المال الذي لا يجوز إقراضه بأجر، ولكن يجوز قراضه بربح) الذي ضرب به المثل صاحب الاقتراح، وهو قد بنى ذلك على صحة الافتراض، بأن جواز الربح، بالضمان مبنى على جواز شركة الوجوه وقد بينا فما سبق عدم صحة هذا الافتراض. نعم أن الحنفية يقولون: أن الربح فيها -أي شركة الوجوه - مستحق بالضمان، والمضمون هنا هو رأس المال المتمثل في البضاعة التي يأخذها الوجيهان بثمن اجل، وهما يستحقان الربح الناشئ عن تسويق هذه البضاعة والانفراد به دون صاحب البضاعة، بأن ثمنها له. وليس الضمان هنا من أحد شريكي الوجوه تجاه شريكه الآخر إذ لا ضمان بينهما. وبناء على ما تقدم فقد تبين عدم صحة المقدمة التي تضمنتها الفقرة الأولى من هذا الاقتراح. وبالتالي عدم صحة النتيجة المترتبة عليها - وهى جواز صحة أخذ الأجر في مجرد الضمان.
2 - وهذا ما أقرته الفقرة الثانية من الاقتراح صراحة حيث قالت: (وهذا الأجر المحرم على الضمان لا ريب فيه، إذا كان الضمان لا يكلف الضامن أية متاعب أو مشقة أو مالا أو جهدا، إنما هو فقط ضمان محض لا يقترن بأية خدمة أخرى إلخ) .
3- ولا يغير من هذه النتيجة أو هذا الحكم، قول صاحب الاقتراح في الفقرة الثالثة: (لكن المشاهد أن الضمان لو بقي يقدم طوعا وتبرعا بدون أجر ولا التزام لتعسر على كثير من الناس في أيامنا هذه الحصول عليه. والسؤال: متى كان الوصول إلى المنفعة مبررا للحصول عليها بكل الطرق الجائز منها، والممنوع؟(2/864)
4- وفى الفقرة الرابعة من الاقتراح، يفرق الكاتب بين الأجر على الضمان نفسه والأجر على تنظيم هذا الضمان وقيام مؤسسات له وإدارتها، فيمنعه على الضمان ويبيحه لتنظيم الضمان وإدارته قائلا: (علما بأن هذا الأجر ليس أجرا على الضمان، لأن ذلك حرام شرعا، إنما هو أجر يتقاضاه الضامن من المستفيد لقاء أعمال تنظيم هذا الضمان وإدارته بما يليق بمستوى العصر) .
ولصحة هذه التفرقة لابد من التأكد بأن هنالك عملا حقيقيا غير الجاه يستحق الأجرة ويجب أن تكون الأجرة وحدود أجرة مثل هذا العمل حتى لا تكون مدخلا، لأخذ الأجرة على الضمان نفسه.
5- أما في الفقرة الخامسة فقد عاد الكاتب مرة أخرى إلى محاولة إباحة الأجرة على مجرد الضمان. قياسا هذه المرة على الأجر للإمام والمؤذن والمعلم.. إلخ ولا يخفي أن هؤلاء جميعا يؤدون عملا واضحا لا مجرد جاه. وبالتالي فلا وجه للقياس عليهم.
6 - وفى الفقرة رقم (6) غموض في البداية وخلط في النهاية لا يخرج منه القارئ بفهم المراد، فهو في السطرين الأولى، يتساءل تساؤلا غامضا عن الفرق في الحكم بين القربات " التي هي موضع كسب مدني عارض أو موضع احتراف تجاري" كما يقول. ثم ينتقل إلى ضرب المثل بالحمال الذي يستأجر غيره للقيام بمهماته بأجر أقل، ويستفيد بفرق الأجرة، وهو يعترض على ذلك.
وينسى أن ذلك الفرق استحقه الحمال الأول بضمان التنفيذ الذي التزم به مباشرة بنفسه، أو بالاستعانة بآخر. وبعد ذلك يورد الكاتب عقد الاستصناع وكيف يصبح من بيوع السلم فما لم يجر الصرف بالتعامل به عند تحديد أجله - عند الأحناف، يسوق ذلك وما قبله استدلالا به على أن الفرق يغير حكم الشئ الواحد في زمن دون آخر فيقول: ألا ترى أنهم لم يجزوه إلا فما جرى عليه الصرف في التعامل.
وعبارة: لم يجيزوه إلا فما جرى عليه الصرف إلخ ... غير سليمة لأنهم في الواقع لم يمنعوه أبدا- أي الاستصناع – وإنما كيفوه على أنه بيع سلم لا بيع استصناع في حالة ما لم يجر الصرف بالتعامل به، مع تحديد أجله.
وهو والحال هذه لا يصلح للاستدلال على قرار الكاتب. ولم تتضمن الفقرتان 7، 8 جديدا في الاستدلال على مراد الكاتب وإنما هما تعليقات على ما قبلهما.(2/865)
الأجر علي الضمان - بمعنى الكفالة لدى الفقهاء
بعد ما تقدم من مناقشة موضوع الضمان - بمعنى الكفالة في إطار النقاط التي طرح بها ومن خلالها، كما ورد لمجمع الفقه الإسلامي، نعود للموضوع في ضوء النصوص الفقهية التي تعرضت لبيان حكمه الشرعي فنجد الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير للدرديرى يذكر عدة نقول للمالكية في ثمن الجاه.
1- منها قوله: وفى المعيار سئل أبو عبد الله القورى عن ثمن الجاه فأجاب بما نصه:
اختلف علماؤنا في حكم الجاه، فمن قائل بالتحريم بإطلاق. ومن قائل بالكراهية بإطلاق ومن مفصل فيه، وأنه إن كان الجاه يحتاج إلى نفقة وتعب وسفر، فأخذ أجر مثله، فذلك جائز. وإلا حرم. أهـ
قال أبو على المنياوى وهذا التفصيل هو الحق.
2- ومنها قال ابن عرفة: يجوز دفع الضيعة لذي الجاه " وللضرورة أن كان يحمى بسلاحه فإن كان يحمى بجاهه فلا، لأنها ثمن الجاه. اهـ
وبيان ذلك ثمن الجاه. إنما حرم لأنه من باب الأخذ على الواجب ولا يجب على الإنسان أن يذهب مع كل أحد.
ومن هذين النصين يتبين أن للمالكية عدة أقوال عن ثمن الجاه. أحدهما بالتحريم مطلقا. وثانيها بالكراهة مطلقا.(2/866)
ووالثالث فيه تفصيل فإن احتاج إلى تعب ونفقة وسفر، فيجوز أخذ أجر المثل عليه، وإن خلا من ذلك فلا يجوز. وعلل المالكية لعدم جواز الأجر على الضمان المجرد، بأن ذلك من باب أخذ الأجرة على الواجب (1) .
ويتفق مذهب الشافعية مع القول الثالث المفصل للمالكية عن الأجر على الضمان قال ابن حجر الهيثمي: "وكقول من حبس ظلما لمن يقدر على خلاصه - وإن تعين عليه، على المعتمد-: أن خلصتنى فلك كذا" بشرط أن يكون في ذلك كلفة تقابل بأجرة عرفا "وعلق الشرواني على قوله (لمن يقدر عليه) بقوله: أي بجاهه أو غيره. وقال تعقيبا على لزوم أن يكون في ذلك كلفة وتعبا (وينبغي أن المراد بالتعب، التعب بالنسبة لحال الفاعل) (2) .
ونجد ابن عابدين الحنفي في حاشيته يقرر كما تنسب إليه فتاوى بنك فيصل الإسلامي السوداني: أن عدم جواز الأجر على الضمان، لأن الضامن مقرض للمضمون، فإذا شرط الجعل مع ضمان المثل، فقد شرط له زيادة على ما أقرضه، وهو ربا. (3) .
__________
(1) حاشية الدسوقى ج 3 ص 224
(2) حاشيتى الشروانى وابن قاسم على تحفة المحتاج
(3) شرحت هذه العبارة في ابن عابدين في مظان وجودها ولم أوفق في العثور عليها(2/867)
وهنا نجد أنفسنا أمام تعليل آخر وهو أن الضامن مقرض وشرط الجعل له - الأجر على الضمان - زيادة على ما أقرض.
وفيما عدا هذه التعليلات المختلفة لعدم جواز الأجور على الضمان فيما وقفنا عليه من أقوال الفقهاء لم نجد لهم دليلا يعتمدون عليه من كتاب أو سنة أو إجماع.
ونعود إلى مناقشة هذه التعليلات للحكم الذي قرره الفقهاء لمنع الأجر على الضمان. ونبدأ بمسألة أن ثمن الجاه إنما هو من باب أخذ الأجرة على الواجب.
ونسأل: هل الجاه.. أو الكفالة أمر واجب على من يفعله أم أنه من أعمال التبرع؟
بداهة أنه ليس واجبا. إلا إذا تعين على شخص، بعينه. وليس من هذا النوع الضمان العرفي، إذ لا يتوقف على شخص معين أو حتى مصرف معين دون غيره. فقضية كون الضمان المصرفي من باب الواجب الذي لا يؤخذ عليه أجر غير واردة؟
ثم أن قاعدة عدم أخذ الأجرة على الواجب لا نراها مضطردة عند هؤلاء الفقهاء، فقد رأيناهم يجيزون أخذ الأجرة على حفظ الوديعة. وإن تعينت على شخص ما - وهو من باب الواجب. جاء في مغنى المحتاج للشربينى: وقضيته أن له أن يأخذ أجرة الحفظ كما يأخذ أجرة الحرز. ومنعه القرافي وابن أبي عصرون، لأنه صار واجبا عليه، فأشبه سائر الواجبات، والمعتمد الأول، كما هو ظاهر كلام الأصحاب (1) .
__________
(1) مغنى المحتاج ج 3 ص 74 وانظر في تلك حاشية ابن عابدبن ج 5ص 665 وحاشية قليوبي وعميره ج 3 ص 181 ومفتاح الكرامة للعاملى ج 6 ص 4(2/868)
أفلا يصح أن يقاس على الضمان على فرض أنه واجب على الوديعة الواجبة ويأخذ حكمها في جواز الأجرة عليه؟
فإذا انتقلنا إلى تعليل منع الأجرة على الضمان المنسوب لابن عابدين (من كون الضامن مقرضا، فإذا شرط له الجعل مع ضمان المثل فقد شرط له زيادة على ما أقرض. وهذا ربا) . وجدنا أن هذا التعليل مقبول على وجه الإجمال ولكن عند التفصيل نجده لا ينطبق على خطاب الضمان المغطى، لأن الضمان هنا بمعنى الوكالة، كما أنه لا ينطبق على خطاب الضمان الذي ينتهي بوفاء المضمون بتعهده دون حاجة إلى الضامن.
وتبقي بعد ذلك حالة واحدة يمكن أن ينطبق عليها تعليل ابن عابدين وهى حالة ما إذا كان خطاب الضمان على المكشوف - غير مغطى - وتخلف المضمون عن الوفاء إلى أن قام به مصدر خطاب الضمان، ففي هذه الحالة فقط يصبح خطاب الضمان منطويا على قرض والجعل فيه زيادة يجب منعها كما قال ابن عابدين. وبناء على ما تقدم فيبدو لي أن خطاب الضمان يكون على الأوجه التالية:
1- خطاب الضمان المغطى وهو كفالة تجاه (المضمون له، ووكالة تجاه المضمون والعبرة بالعلاقة مع المضمون في تكييف حكمه - فهو إذن وكالة والوكالة تجوز بأجر وبدون أجر، وعليه فأخذ الأجرة عليه في هذه الحالة جائز.(2/869)
2- خطاب الضمان غير المغطى - المكشوف - الذي يقوم بالوفاء به المضمون نفسه دون الضامن - مصدر خطاب الضمان - وهذا النوع هو كفالة وليس وكالة، كما أنه ليس فيه قرض لأن مصدره لا يدفع شيئا من المال للمضمون له.
لقيام المضمون نفسه بالوفاء، وهو ليس من العمل الواجب القيام به لعدم تعينه على شخص أو مصرف معين لذلك فلا يدخل تحت قاعدة منع الأجر على أداء الواجب، فيصح أخذ الأجر عليه على أساس أنه عمل في تعامل رضائي. وعلى فرض أنه تعين وأصبح واجبا على من تعين عليه القيام به، شخصا أو مصرفا فإنه يمكن قياسه على الوديعة الواجبة التي يجوز أخذ الأجر على حفظها كما وضحنا، بحيث يصبح أخذ الأجر عليه جائزا لأن الضامن في هذه الحال يبذل جهدا كبيرا في التحري وجمع المعلومات عن صلاحية المضمون لهذا الضمان. ويتحمل عبئا نفسيا وذهنيا طوال فترة سريان الضمان حتى الوفاء به.
وبذلك كله يهييء للمضمون ويمكنه من الحصول على منفعة محققة تتمثل في بلوغ مرامه بهذا الضمان الذي قد يعود عليه بالفائدة والنفع الكثير.
ولا يوجد مبرر لإهدار هذا الجهد من الضامن وما يترتب عليه من مصالح ومنافع للمضمون دون مقابل. إذ ليس ذلك من العدل في شيء.(2/870)
على أنه يلزم أن يكون الأجر في هذه الحالة والتي قبلها مراعى فيه عدم المبالغة والمغالاة بحيث يكون في حدود المعتاد عرفا.
كما أنه يلزم أيضا التنبيه إلى أن المغالاه في هذا الأجر مهما بلغت لا تدخل في نطاق الربا لانه ليس زيادة في عوض وإنما هو أجر علي عمل غايته إذا تجاوز المعتاد أن يكون مكروها أو محرما وليس ربا بالتأكيد
3- أما الحالة الثالثة التي يكون خطاب الضمان فيها مكشوفا –غير مغطي- وتؤول مسؤولية الوفاء به إلى مصدره الضامن دون المضمون، أنه يكون فيها قرضا والجعل فيه يكون زيادة تمثل الربا فلا يجوز. ولكن يجوز لمصدره أخذ أجرة الإصدار فقط –التكلفة العملية ما يقدره المختصون دون الضمان نفسه المنطوي علي معني القرض.
هذا ما استطعت أن اصل إليه حتى الآن في هذا الموضوع أرجو أن يكون فيه مساهمة لعلماء المجمع فيما يصدرونه من قرارات أو توصيات في هذا الموضوع الهام.
والله نسال أن يهدينا إلى سواء السبيل.(2/871)
خطاب الضمان
فضيلة الدكتور علي أحمد السالوس
مقدمة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .
والحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة منه، توجب على مؤدى ماضي نعمه بأدائها: نعمة حادثة يجب عليه شكره بها.
ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته، الذي هو كما وصف نفسه، وفق ما يصفه به خلقه.
أحمده حمدا كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.
وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به.
وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه.
وأستغفره لما أزلفت وأخرت. استغفار من يقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله (1) . أما بعد: ففي أحد اجتماعات هيئة الرقابة الشرعية دار حوار حول خطابات الضمان، ومما يلتزم به المصرف عند تقدير الأجر. ورأيت أن الأجر يكون في مقابل عمل المصرف وجهده، أما الكفالة ذاتها فهي عقد تبرع كما ثبت بالنص والإجماع. ورأي غيري من السادة الأجلاء أن العمل وحده لا يكفي، وإنما ينظر أيضا إلى عنصر الخاطرة التي يتحملها المصرف.
__________
(1) من مقدمة رسالة الإمام الشافعي.(2/872)
ونتيجة لهذا قمت بكتابة بحث عنوانه "أجور خطابات الضمان من الوجهة الشرعية" ثم رأيت أن أعطي وقتا لدراسة تجمع فقه الكفالة وتطبيقاتها المعاصرة وتمت بحمد الله تعالي وعونه وفضله هذه الدراسة في المذاهب الفقهية الإسلامية، والقانون الوضعي الذي يحتكم إليه عند الخلاف.
وفي مقدمة الكتاب قلت: أن مثل هذا البحث يمكن أن يكون نواة لمؤتمر ضخم، يبحث هذه المشكلة وغيرها مما اختلف فيه، ليخرج برأي يرتضيه الفقهاء، ويسهم في حل مشكلات العمل الإسلامي.
وقبل إتمام طبع الكتاب بلغتني الدعوة الكريمة لكتابة بحث عن خطاب الضمان.
فكنت سعيدا كل السعادة، وأسأل الله جلت قدرته أن يمد هذا المؤتمر بعونه وتوفيقه ليخرج برأي سديد يرضيه عز وجل، ويحسم الخلاف في مشكلة كثر النقاش حولها وتباينت الآراء، وظهر أثر الخلاف واضحا في التطبيق العملي.
والله المستعان، نعم المولي ونعم النصير، وله الحمد في الأولى والآخرة، والصلاة والسلام علي خاتم الرسل الكرام وعلي آله وصحبه، ومن اهتدي بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.(2/873)
الباب الأول
الكفالة في الكتاب والسنة
الفصل الأول
تعريف الكفالة
أولا: الكفالة في اللغة
قال ابن منظور في لسان العرب: ...
الكافل: العائل، كفله يكفله وكفله إياه، وفى التنزيل العزيز: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} . (1) ، وقد قرئت بالتثقيل ونصب زكريا، وذكر الأخفش أنه قرئ: وكفلها زكريا بكسر الفاء. وفى الحديث: ((أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة له ولغيره)) (2)
__________
(1) آل عمران: 37
(2) روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: كافل اليتيم له ولغيره أنا وهو كهاتين في الجنة، وأشار مالك - أي الراوي - بالسبابة والوسطى. (انظر كتاب الزهد - فضل الإحسان إلى الأرملة والمسكين اليتيم) . وفى باب فضل من يعول يتيما من كتاب الأدب في صحيح البخاري نجد الحديث الشريف: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى. وشرحه ابن حجر في الفتح غير أنه لم يذكر رواية مسلم مع ذكره لروايات غيره، وذكره السيوطي في: الجامع الصغير (حديث 2710) ، وأشار مع البخاري إلى أحمد وأبى داود والترمذي فقط، فقال المناوي في شرحه: "وظاهر صنيع المصنف أن ذلك مما تفرد البخاري عن صاحبه، وليس كذلك، بل رواه مسلم " (انظر فيض القدير 49/3) . وقال النووي في شرح حديث مسلم: كفالة اليتيم: القائم بأموره من نفقة وكسوة وتأديب وتربية هو غير ذلك، وهذه الفضيلة تحصل لمن كفله من مال نفسه، أو من مال اليتيم بولاية شرعية. وأما قوله: له أو لغيره، فالذي له أن يكون قريبا له، كجده وأمه وجدته وأخيه وأخته وأمه وخاله وعمته وخالته وغيرهم من أقاربه، والذي لغيره أن يكون أجنبيا".(2/874)
والكافل: القائم بأمر اليتيم المربى له، وهو من الكفيل الضمين، والضمير في له ولغيره راجع إلى الكافل، أي أن اليتيم سواء كان الكافل من ذوى رحمه وأنسابه أو كان أجنبيا لغيره تكفل به، وقوله: كهاتين إشارة إلى إصبعيه السبابة والوسطى، ومنه الحديث: الراب كافل (1) .: الراب: زوج أم اليتيم لأنه يكفل تربيته وبقوم بأمره مع أمه. وفى حديث وفد هوازن: "وأنت خير المكفولين " (2) .، يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي خير من كفل في صغره وأرضع وربى حتى نشأ، وكان مسترضعا في بني سعد بن بكر.
__________
(1) لم أجد هذا الحديث الشريف فيما رجعت إليه من كتب السنة، ولم أجد له ذكرا أو إشارة في الكتب التالية: المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، ومفتاح كنوز السنة، والجامع الصغير وشرحه فيض القدير، كنز العمال، والجامع الأزهر في حديث النبي الأنور، وكشف الخفاء، والمقاصد الحسنة. ومعلوم أن لسان العرب ضم ما جاء في كتاب النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، فرجعت إليه، فوجدت في باب الراء مع الباء (81/2) : "الراب كافل"، ونقل ابن الأثير هذا القول من كتاب "المغيث في غريب القران والحديث" للحافظ أبي موسي محمد بن أي بكر المديني الأصفهاني، المتوفى سنة 581هـ، وقد جمع فيه ما فات الهروي من غريب القران والحديث. (انظر النهاية 1/9)
(2) أشار البخاري إلى الحديث في أكثر من موضع، ولكن لم يذكر هذه العبارة، وفى الفتح (8/33) في كتاب المغازي - باب قول الله تعالى ويوم حنين..) أشار إلى رواية ابن إسحاق، وفيها "وأنت خير مكفول "، وفى سيرة ابن هشام ذكر رواية إسحاق بالتفصيل، وفيها "وأنت خير المكفولين " (4/488)(2/875)
ووالكافل والكفيل: الضامن، والأنثى كفيل أيضا، وجمع الكافل كفل، وجمع الكفيل كفلاء، وقد يقال للجمع كفيل كما قيل في الجمع صديق. {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} . أي ضمنها إياه حتى تكفل بحضانتها، ومن قرأ: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} . فالمعنى ضمن القيام بأمرها.
وكفل المال وبالمال: ضمنه، وكفل بالرجل يكفل ويكفل كفلا وكفولا وكفالة وكفل وكفل وتكفل بدينه تكفلا. أبو زيد: أكفلت فلانا المال إكفالا إذا ضمنته إياه، وكفل هو به كفولا وكفلا، والتكفيل مثله. قال الله تعالى: {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} (1) . الزجاج: معناه اجعلني أنا أكفلها وانزل أنت عنها. ابن الأعرابي: كفيل وكافل وضمين وضامن بمعنى واحد، التهذيب: وأما الكافل فهو الذي كفل إنسانا يعوله وينفق عليه. وفى الحديث: ((الربيب كافل)) "وهو زوج أم اليتيم كأنه كفل نفقة اليتيم.
ثانيا: الكفالة في الفقه:
اختلف في تعريف الكفالة شرعا تبعا لاختلاف آراء الأئمة الإعلام.
قال صاحبا المغنى والشرح الكبير:
الضمان ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، فيثبت في ذمتهما جميعا، ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما، واشتقاقه من الضم، وقال القاض: هو مشتق من التضمين، لأن ذمة الضامة تتضمن الحق.
ويقال: ضمين، وكفيل، وقبيل، وحميل، وزعيم، وصبير، بمعنى واحد. (2)
ويتضح من هذا التعريف أن ضم الذمة إلى الذمة ليس في مجرد الطلب، وإنما في ثبوت الحق أيضا، فتشغل ذمتا الكفيل والأصيل بالحق المكفول به.
والمالكية والشافعية يرون كذلك أن الالتزام بالحق. (3)
أما الحنفية فيرون غير هذا، فعرفها صاحب كنز الدقائق بقوله: الكفالة هي ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة. وقال صاحب البحر الرائق في شرحه لهذا القول: الكفالة معناها شرعا قد اختلف فيه، وقد أشار إلى الأصح بقوله: هي ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة. (4) .
__________
(1) 23: سورة (ص)
(2) انظر الكتابين5 /70-71
(3) انظر بلغة السالك 2/155 وزاد المحتاج 2/223.
(4) البحر الرائق 6/ 321.(2/876)
وفى الهداية قال: قيل هي ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة، وقيل في الدين، والأول أصح. (1) .
وجاء ابن الهمام في فتح القدير فشرح ما سبق، وبين الخلاف بعد أن أشار إلى مفهوم الكفالة لغة، فقال: وأما في الشرع فما أشار إليه من قوله (ثم قيل هي ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة، وقيل في الدين. قال: والأول أصح فلا يثبت الدين في ذمة الكفيل خلافا للشافعي ومالك وأحمد في رواية. فيثبت الدين في ذمة الكفيل، ولا يسقط عن الأصيل. ولم يرجح في المبسوط أحد القولين على الآخر. وما يخال من لزوم صيرورة الألف للدين الواحد ألفين كما ذكره بعض الشارحين قال في المبسوط: وليس من ضرورة ثبوت المال في ذمة الكفيل، مع بقائه في ذمة الأصيل ما يوجب زيادة حق الطالب، لأن الدين وإن ثبت في ذمة الكفيل فالاستيفاء لا يكون إلا من أحدهما، كالغاصب مع غاصب الغاصب، فإن كلا ضامن للقيمة، وليس حق المالك إلا في قيمة واحدة، لأنه لا يستوفى إلا من أحدهما، واختياره تضمين أحدهما يوجب براءة الآخر، فكذا هنا، يريد باختياره التضمين القبض منه لا مجرد حقيقة اختياره، لأنه يتحقق بمرافعة أحدهما، وبمجرد ذلك لا يبرأ الآخر. ومما يدل على ثبوت الدين في ذمة الكفيل أنه لو وهب الدين للكفيل صح، ويرجع به الكفيل على الأصيل، مع أن هبة الدين من غير من عليه الدين لا تجوز. وكذا لو اشترى من الكفيل بالدين شيئا يصح، مع أن الشراء بالدين من غير من عليه الدين لا يصح. والحاصل أن ثبوت الدين في الذمة اعتبار من الاعتبارات الشرعية، فجاز أن يعتبر الشيء الواحد في ذمتين، إنما يمتنع في عين ثبت في زمن واحد في ظرفين حقيقيين. ولكن المختار ما ذكرنا أنه في مجرد الطلب لا الدين، لأن اعتباره في الذمتين -وإن أمكن شرعا - لا يجب الحكم بوقوع كل ممكن إلا بموجب، ولا موجب، لأن التوثق يحمل بالمطالبة، وهو لا يستلزم ولابد من ثبوت اعتبار الدين في الذمة، كالوكيل بالشراء يطالب بالثمن وهو في ذمة الموكل. وأما الجواب عن تسليم الهبة والدين فإنا جعلناه في حكم الدينين تصحيحا لتصرف صاحب الحق، وذلك عند وقوعه بالفعل، وقبله لا ضرورة، فلا داعي إلى ذلك. (2) .
__________
(1) الهداية مع شرح فتح القدير 6/283
(2) انظر شرح فتح القدير 6/283-284(2/877)
ولعل التعبير بكلمة الحق أولى من كلمة الدين، ولذلك استدرك ابن الهمام قائلا:
" ثم الوجه أن تطلق المطالبة من غير تقييد بالدين، فان الكفالة كما تكون بالديون، تكون بالأعيان المضمونة بنفسها، وهو ما يجب تسليمه بعينه، فإن هلك ضمن مثله أن كان له مثل، وبقيمته أن لم يكن له مثل (1)
وقال صاحب زاد المحتاج: " الضمان شرعا التزام حق ثابت في ذمة الغير، أو إحضار من هو عليه، أو عين مضمونة. (2) .
والتعريف هنا فيه إشارة إلى كفالة الأبدان أيضا، وفيه تفصيل عند الشافعية.
والحنفية بعد التعريف السابق قالوا: والكفالة ضربان: كفالة بالنفس وكفالة بالمال.
والحنابلة كذلك ذكروا هذين الضربين.
أما المالكية فيرون أن الضمان ثلاثة أنواع هي: ضمان المال، وضمان الوجه: أي البدن، وضمان الطلب، فجعلوا تعريفه شاملا للثلاثة (3) .. ومن الفقهاء من خالف جمهور الأئمة، فلم ير الكفالة ضم ذمة إلى ذمة، وإنما نقل الحق من ذمة إلى ذمة، أي أنهم لم يفرقوا بين الكفالة والحوالة. وقد ذهب إلى هذا ابن حزم، وقال: "قال ابن أبي ليلي، وابن شبرمة، وأبو ثور، وأبو سليمان، وجميع أصحابنا، كما قلنا من أن الحق قد سقط جملة عن المضمون عنه، ولا سبيل للمضمون له إليه أبدا، وإنما حقه عند الضامن، أنصفه أو لم ينصفه، روينا من طريق ابن أبي شيبة، أن حفص بن غياث، عن أشعث - هو ابن عبد الملك الحمران، عن الحسن، ومحمد بن سيرين، قالا جميعا: الكفالة والحوالة سواء" (4) ..
__________
(1) انظر شرح فتح القدير6/284
(2) ج 2 ص 23 2
(3) انظر بلغة السالك، والشرح الصغير معه 2/155
(4) المحلى 8/527(2/878)
ثالثا: الكفالة في القانون:
القوانين المدنية نجد بعضها أخذ التعريف من الفقه الإسلامي، مثل القانون المدني العراقي، فالمادة (1008) نصها: "الكفالة ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة بتنفيذ التزام". ونجد بعضها الآخر يتفق مع هذا التعريف كالقانون المدني المصري، حيث تنص المادة (772) على ما يأتي: "الكفالة عقد بمقتضاه يكفل شخص تنفيذ التزام بأن يتعهد للدائن بأن يفي بهذا الالتزام إذا لم يفي به المدين نفسه" (1) بشرح الدكتور السنهوري المادة السابقة فيقول:
"يؤخذ من هذا التعريف أن الكفالة هي عقد بين الكفيل والدائن، أما المدين الأصلي فليس طرفا في عقد الكفالة، بل أن كفالة المدين تجوز بغير علم المدين، وتجوز أيضا رغم معارضته. والذي يهم في الكفالة هو التزام هذا المدين أما إذ أن هذا الالتزام هو الذي يضمنه الكفيل، فيجب أن يكون مذكورا في وضوح ودقة في عقد الكفالة. وهذا الالتزام المكفول أكثر ما يكون مبلغا من النقود، وقد يكون إعطاء شيء غير النقود، كما قد يكون عملا أو امتناعا عن عمل. فإذا لم يكن الالتزام المكفول مبلغا من النقود- ضمن الكفيل ما عسى أن يحكم على المدين الأصلي من تعويض من جراء إخلاله بالالتزام بإعطاء شئ غير النقود، أو من جراء إخلاله بالالتزام بعمل أو بالامتناع عن عمل.
فالكفالة إذن تفترض وجود إلزام مكفول، وهذا الالتزام يفترض وجود مدين أصلى به ودائن، كما تفترض الكفالة وجود عقد بين الكفيل والدائن بالالتزام الأصلي المكفول بموجبه يفي الكفيل بهذا الالتزام إذا لم يف به المدين الأصلي. فالكفالة ترتب التزاما شخصيا في ذمة الكفيل، والتزام الكفيل هذا تابع للالتزام الأصلي" (2) .
__________
(1) أنظر ما سبق، وما يتصل بقوانين بعض البلاد الأخرى، في الكتاب القيم: الوسيط في شرح القانون المدني للعلامة المرحوم الدكتور عبد الرازق السنهوري 10/18-19.
(2) المرجع السابق 10/19-20.(2/879)
الفصل الثاني
الكفالة في القران الكريم
ورد الفعل (يكفل) في القران الكريم بمعنى يتعهد الصغير ويرعى شئونه، ولم يأت بمعنى يضمن.
ففي سورة ال عمران (الآية 44) نقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} ..
وفى سورة طه (الآية40) : {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} .
وفى سورة القصص (الآية12) : {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} .
وورد الفعل (كفل) - بالتشديد- بمعنى جعله كافلا له راعيا، جاء هذا في سورة آل عمران (الآية 37) حيث يقول عز وجل: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} وضمير كفل يعود إلى "ربها ".
ولم يرد الفعل في غير هذا الموضع، فلم يأت إذن بمعنى جعله ضامنا للمال. والفعل (أكفل) جاء مرة واحدة، وهى في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} (23: سورة ص) .
والمعنى: كافلا لها، راعيا لشئونها، أو أعطني إياها لأرعاها.
فلم يرد الفعل بمعنى جعله ضامنا لمال.
وكلمة (كفيل) ذكرت مرة واحدة، وهى في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} . (91: سورة النحل) ، أي مهيمنا ورقيبا.(2/880)
لم يرد في القران الكريم كلمة من مادة (كفل) تفيد معنى الضمان، ولكن جاء المعنى من مادة أخرى هي مادة (زعم) .
قال تبارك وتعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} . (72: سورة يوسف) . والزعيم هنا هو الكفيل الضامن، ولذلك يستدل بهذه الآية الكريمة على جواز الكفالة.
وهذه الكلمة جاءت في موضع آخر، وهو قوله عز وجل: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} . (40: سورة القلم) .
وفى سورة الإسراء (الآية 92) وردت كلمة قبيل، قال تعالى: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} .
قال الفراء: (قبيلا) أي كفيلا (1) .
وقال الزمخشري: (قبيلا) كفيلا بما تقول شاهدا لصحته، والمعنى: أو تأتى بالله قبيلا وبالملائكة قبيلا كقوله:
كنت منه ووالدي بريا وإني وقير بها لغريب
أي مقابلا، كالعشير بمعنى المعاشر ونحوه (2) .
وقال ابن منظور: (3) ..
القبيل: كل جمع من شئ واحد، وكل جيل من الجن والناس، والجماعة من الناس يكونون من الثلاثة فصاعدا، وجمع القبيل قبل، واستعمل سيبوبه القبيل في الجمع والتصغير وغيرهما من الأبواب المتشابهة.
__________
(1) معاني القرآن 2/131
(2) الكشاف 2 /466
(3) انظر مادة قبل في لسان العرب(2/881)
وفى معجم ألفاظ القران الكريم الذي ألفته لجنة من مجمع اللغة العربية، جاء تفسير القبيل في الآية الكريمة بقولهم:
"جماعة جماعة، أو كفلاء يشهدون بصحة دعواك". وذكروا أن معنى القبيل: الجماعة، والكفيل، وقبيل الرجل: عشيرته وأعوانه.
وقال الكاسانى: القبالة بمعنى الكفالة، يقال: قبلت به أقبل قبالة، وتقبلت به، أي كفلت. قال تعالى: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} أي كفيلا (1) .
والآية الكريمة لا يستدل بها على مشروعية الكفالة، وإنما يؤخذ منها جواز استعمال القبيل بمعنى الكفيل في صيغة الكفالة التي يصح بها الإيجاب.
ومما جاء قريبا من معنى الكفالة بالنفس قوله تعالى في سورة يوسف (الآية 66) : {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} .
فالموثق - وهو العهد المؤكد- أخذه يعقوب عليه السلام على بنيه لضمان عودة أخيهم معهم.
ولعل في هذا ما يسترشد به على جواز الكفالة بالنفس.
__________
(1) بدائع الصنائع 7/3405.(2/882)
الفصل الثالث
الكفالة في السنة المطهرة
حظيت الكفالة بالكثير من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نذكر منها ما يأتي، مع الإشارة إلى شئ من الفقه:
أولا: روى أحمد، وأصحاب السنن عدا النسائي، والدارقطني، وغيرهم بطرق مختلفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الزعيم غارم)) (1)
وهذا الحديث الشريف يستفاد منه ما ذهب إليه الفقهاء من أن الكفالة من عقود التبرع، فالأصل فيها الغرم لا الغنم. لهذا يشترط في الكفيل أهلية التبرع، لأن الكفالة تبرع محض لا مصلحة فيها للكفيل، حتى إذا كانت عقد معاوضة انتهاء فهذا يعنى أنها تنتهي بقرض، والقرض عقد إرفاق لا مصلحة فيه للمقرض. ولذلك لا تصح الكفالة من الصغير، ولا من المجنون، ولا من المبرسم الذي يهذي. ولا تصح كذلك من المحجور عليه لسفه وإن أذن الولي، وقد ذهب إلى هذا جمهور الفقهاء. وقال القاض أبو يعلى الحنبلي: تصح الكفالة ويتبع بها بعد فك الحجر عنه، أي أنه اعتبر عدم الحجر لسفه شرط نفاذ لا شرط انعقاد. وقد رفض الحنابلة أنفسهم هذا الرأي وبينوا بطلانه (2) .
__________
(1) انظر سن إلى داود كتاب الببوع - باب تضمين العارية، وسنن الترمذي: كتاب البيوع - باب ما جاء أن العارية مؤداة، وسنن ابن ماجه: كتاب الصدقات باب الكفالة - الحديث رقم 2405، وسنن الدارقطني 3/41 - كتاب البياع.. الخ. وراجع نصب الراية 4/57-58، وعون المعبود - شرح الحديث رقم 5548ج 9 ص 478 - 479، وتحفة الأحوذي في الموضع السابق من سنن الترمذي. واقرأ قول الخطابي في معالم السنن (3/177) : "الزعيم الكفيل، والزعامة الكفالة، ومنه قيبل لرئيس القوم الزعيم لأنه هو المتكفل بأمورهم.
(2) انظر المغنى5/78.(2/883)
وذهب الرافعي من الشافعية إلى أن الضمان بإذن الولي كالبيع يحتمل الوجهين: الصحة وعدمها، قال النووي في بيانه لفساد هذا الرأي: أن البيع إنما صح على وجه لأنه لا يأذن إلا فيما فيه ربح أو مصلحة، والضمان غرر كله بلا مصلحة (1) .
ويرى الجمهور أن الصبي المميز لا تصح منه الكفالة سواء أذن الولي أو لم يأذن، وفى رواية عند الحنابلة: تصح مع إذن الولي، وهى خلاف الصحيح من المذهب، والقياس على البيع يرده ما ذكر انفا. أما المحجور عليه لفلس وإن لم تنفذ الكفالة حال الحجر غير أنها تصح، وتنفذ بعد فك الحجر، فعدم الحجر لفلس شرط نفاذ لا شرط انعقاد.
واختلف في الحرية: أهي شرط نفاذ أم شرط انعقاد؟ ولا حاجة لمناقشة هذا الرأي، فلا يوجد رق الآن يبيحه الإسلام، وبهذا أفتى مجمع البحوث الإسلامية. أما المريض فإن كان مرضه غير مخوف أو غير مرض الموت فحكمه حكم الصحيح، وإن كان مرض الموت المخوف فحكم ضمانه حكم تبرعه، لا يصح فيما يزيد عن ثلث ماله. وخالف المالكية جمهور الفقهاء في كفالة المرأة، حيث فرقوا بينها وبين الرجل، ولهم في هذا التفصيل الآتي:
الجارية البكر بعد بلوغها المحيض تعتبر كالولد الصغير في الكفالة، فلا تصح منها الكفالة حتى مع إذن الولي.
__________
(1) انظر روضة الطالبين 4/242(2/884)
والمرأة ذات الزوج تصح الكفالة منها في حدود الثلث فقط، فإن زادت على الثلث اعتبر هذا اضرارا بالزوج فلا تصح الكفالة إلا إذا كانت بموافقة الزوج نفسه، وكانت مرضية أي في تصرفها غير سفيهة في حالها.
أو إلا أن تكون إنما زادت الدينار أو الشيء الخفيف، فهذا يعلم أنها لم ترد به الضرر، فهذا يمضى.
وتصح كفالتها عن زوجها وإن بلغت جميع مالها بإذنه.
أما المرأة الأيم غير ذات الزوج إذا كانت لا يولى عليها فهي التي تكون بمنزلة الرجل في الكفالة (1) .
ورأي المالكية ينبنى على أصل الحجر على مال الأنثى، فالبكر ليست من أهل التبرع، فلا تجوز كفالتها لأن الكفالة معروف. وذات الزوج "محجورة عن جميع مالها وكذلك المريض قد حجر عليه جميع ماله، وإنما يجوز له من ماله الثلث، والكفالة معروف، فإنما يجوز ذلك في ثلثه، كما يجوز للمرأة ذات الزوج معروفها في ثلثها عند مالك" (2)
"قال مالك: كل معروف تصنعه الزوجة ذات الزوج فهو في ثلثها. والكفالة عند مالك من وجه الصدقة، لأن مالكا قال في بيع المرأة ذات الزوج دارها أو خادمها أو دابتها: جائز على ما أحب زوجها أو كره، إذا كانت مرضية في حالها وأصابت وجه البيع. قال مالك: وأرى أن كان فيه محاباة كان في ثلث مالها". (3) . وذكر سحنون ما يؤيد ما ذهب إليه الإمام مالك فقال: " ألا ترى أنه جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها؟ أو لا ترى أن شهادة الزوج لا تجوز لها ومالها غير ماله، ورأي أهل العلم من أهل الحجاز أن تبلغ بعطيتها الثلث بغير أمر الزوج؟ ". (4) .
__________
(1) راجع رأي المالكية في المدونة 5/283-278
(2) المدونة 5/277
(3) 5/284المدونة
(4) المدونة 5/286(2/885)
ولعل رأي الإمام مالك ومن وافقه يحتاج إلى مزيد من الأدلة، فلا يكفي القول بالحجر دون دليل يثبت هذا القول ومنع الضرر يمكن أن يجاب عنه بأنه لا ضرر هنا مادامت تتصرف في ملكها الخاص وهى مرضية غير سفيهة.
والحديث الشريف يمكن أن يذكر بأن المراد منع المرأة من التصرف في مال زوجها إلا بإذنه لأنه صاحب المال، وليس منعها من التصرف في مال هي مالكته إلا بإذن من لا يملكه وهو الزوج، وهذا واضح في العطايا اليسيرة. (1)
وفى معالم السنن (3/174) جاء التعقيب على الحديث الشريف بما يأتي: "قال الشيخ (أي الخطابي) : هذا عند أكثر العلماء على معنى حسن العشرة، واستطابة نفس الزوج بذلك، إلا أن مالك بن أنس قال: ترد ما فعلت من ذلك حتى يأذن الزوج.
قال الشيخ: ويحتمل أن يكون ذلك في غير الرشيد، وقد ثبت عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء: تصدقن، فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم، وبلال يتلقاها بكسائه، وهذه عطية بغير إذن أزواجهن". وننتقل بعد هذا إلى القانون الوضعي فنراه يجيز الكفالة بأجر خلافا لما أجمع عليه الفقهاء.
وفى أهلية الكفيل يفرق بين الكفالة بأجر وبدون أجر: فالكفيل المتبرع يجب أن تتوافر فيه أهلية التبرع، فلا بد أن يكون بالغا سن الرشد، غير محجور عليه. وعلى ذلك لا يجوز للقاصر ولا للمحجور عليه أن يكفل الغير متبرعا، وإذا كفل كانت الكفالة باطلة، بل لا يجوز للولي أو الوصي أو القيم أن يعقد باسم القاصر أو المحجور عليه كفالة تبرعية، حتى بإذن المحكمة.
أما إذا كانت الكفالة بمقابل فتجب في الكفيل أهلية التصرف لا أهلية التبرع. وذلك قياسا على المقترض بفائدة، وعلى ذلك لا يجوز للقاصر ولا للمحجور عليه أن يكفل لأنه لا يملك أهلية التصرف وقد يملك أهلية الإدارة، ولكن الكفالة من أعمال التصرف لا من أعمال الإدارة، وإذا كفل كانت الكفالة قابلة للإبطال إلى أن تجاز، ولكن يجوز للولي أو الوصي أو القيم أن يعقد كفالة بمقابل باسم القاصر أو المحجور عليه على أن يكون ذلك بالنسبة إلى الجد أو إلى الوصي أو إلى القيم بإذن المحكمة. (2) .
__________
(1) يؤيد هذا الاحتمال إحدى روايات الإمام أحمد ونصها: "لا تنفق المرأة من بيتها إلا بإذن زوجها. فقيل: يا رسول الله، ولا الطعام؟ قال: ذلك أفضل أموالنا" - (5/267) ، ولكن يبعد هذا الاحتمال رواية أخرى نصها: لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها" - (انظر الرواية رقم 7058 من المسند ج 12 بتحقيق الشيخ شاكر، وهنا يأتي كلام الخطابي.
(2) انظر الوسيط 10/80-81(2/886)
ثانيا: في كتاب الكفالة من صحيح البخاري نجد في بدايته "باب الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها". وتحت الباب ما يأتي:
1- وقال أبو الزناد، عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي، عن أبيه: "أن عمر -رضي الله عنه - بعثه مصدقا، فوقع رجل على جارية امرأته فأخذ حمزة من الرجل كفلا، حتى قدم على عمر، وكان عمر قد جلده مائة جلدة، فصدقهم، وعذره بالجهالة ".
2- وقال جرير والأشعث لعبد الله بن مسعود في المرتدين: استتبهم وكفلهم، فتابوا وكفله عشائرهم.
3- قال أبو عبد الله: وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن ابن هرمز، عن أبي هريرة - رضي الله عنه: "عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بنى إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا. قال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلا. قال: صدقت، فدفعها إليه على أجل مسمى.. " الخ.
هذا ما ذكره الإمام البخاري، وواضح أن الأخبار الثلاثة جاءت معلقة، فبين ابن حجر في الفتح أصل كل من الخبرين الأول والثاني والطرق الموصلة للحديث الشريف. وقال بعد الخبر الأول: "استفيد من هذه القصة مشروعية الكفالة بالأبدان، فإن حمزة بن عمرو الأسلمي صحابي، وقد فعله ولم ينكر عليه عمر مع كثرة الصحابة حينئذ".
وقال في شرحه للخبر الثاني: "قال ابن المنير: أخذ البخاري الكفالة بالأبدان في الديون مع الكفالة بالأبدان في الحدود بطريق الأولى، والكفالة بالنفس قال بها الجمهور ولم يختلف من قال بها أن المكفول بحد أو قصاص إذا غاب أو مات إلا حد على الكفيل بخلاف الدين، والفرق بينهما أن الكفيل إذا أدى المال وجب له على صاحب المال مثله".(2/887)
وقال في شرحه للحديث: "وجه الدلالة منه على الكفالة تحدث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وتقريره له وإنما ذكر ذلك ليتأسى به فيه، وإلا لم يكن لذكره فائدة " (1) .
ثالثا: في كتاب الكفالة من صحيح البخاري أيضا نجد "باب من تكفل عن ميت دينا فليس، له أن يرجع، وبه قال الحسن". ويضم الباب حديثين: أحدهما: عن سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بجنازة ليصلي عليها فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: لا، فصلى عليه ثم أتى بجنازة أخرى فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: نعم قال: فصلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: علي دينه يا رسول الله، فصلى عليه" والآخر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم لو قد جاء مال البحرين قد أعطيتك هكذا هكذا، فلم يجيء مال البحرين حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر فنادى: من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم عدة أودين فليأتنا، فأتيته فقلت: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي كذا وكذا. فحثى لي حثية، فعددتها فإذا هي خمسمائة؟ وقال خذ مثليها". وبعد الحديثين قال ابن حجر:
قوله (باب من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع، وبه قال الحسن) يحتمل قوله " فليس له أن يرجع " أي عن الكفالة بل هي لازمة له " وقد استقر الحق في ذمته، ويحتمل أن يريد فليس له أن يرجع في التركة بالقدر الذي تكفل به، والأول أليق بمقصوده. ثم أشار إلى الحديث الأول وقال:
ووجه الأخذ منه أنه لو كان لأبي قتادة أن يرجع لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على المديان حتى يوفي أبو قتادة الدين لاحتمال أن يرجع، فيكون قد صلى على مديان دينه باق عليه فدل على أنه ليس له أن يرجع. واستدل به على جواز ضمان ما على الميت من دين ولم يترك وفاء، وهو قول الجمهور خلافا لأبى حنيفة وقد بالغ الطحاوي في نصرة قول الجمهور، ثم أورد فيه حديث جابر.
__________
(1) راجع فتح الباري 4/470 - 472(2/888)
وقال عن الحديث الثاني:
ووجه دخوله في الترجمة أن أبا بكر لما قام مقام النبي صلى الله عليه وسلم تكفل بما كان من واجب أو تطوع، فلما التزم ذلك لزمه أن يوفي جميع ما عليه من دين أو عدة " وكان صلى الله عليه وسلم يحب الوفاء بالوعد، فنفذ أبو بكر ذلك (1)
رابعا: في الكتاب نفسه من صحيح البخاري حديثا في باب الديات، عن أبي هريرة رضي الله عنه " أن رسول صلى الله عليه وسلم كان يؤتي بالرجل المتوفي عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه فضلا؟ فإن حدث أنه ترك لدينه وفاء صلى وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفى من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته (2)
وبعد شرح الحديث الشريف قال ابن حجر (4/478) :
قال ابن بطال: قوله "من ترك دينا فعلي" ناسخ لترك الصلاة على من مات وعليه دين، وقوله فعلى قضاؤه أي مما يفيء الله عليه من الغنائم والصدقات، قال: وهكذا يلزم المتولي لأمر المسلمين أن يفعله بمن مات وعليه دين، فإن لم يفعل فالإثم عليه إن كان حق الميت في بيت المال يفي بقدر ما عليه من الدين، وإلا فبقسطه..
__________
(1) انظر فتح الباري 4/474 – 475
(2) راجع تخريج الحديث في نصب الراية 4/58 - 59(2/889)
خامسا: في كتاب الحوالة والضمان من نيل الأوطار نجد " باب ضمان دين الميت المفلس " (5/267) ويضم الباب حديثين:
أحدهما حديث سلمة بن الأكوع، ولكن بلفظ غير ما سبق، ويقول صاحب منتقى الأخبار بعد الحديث: رواه أحمد والبخاري والنسائي. وروى الخمسة إلا أبا داود هذه القصة من حديث أبي قتادة، وصححه الترمذي، وقال فيه النسائي وابن ماجه: " فقال أبو قتادة: أنا أتكفل به وهذا صحيح في الإنشاء لا يحتمل الإخبار بما مضى.
والحديث الثاني عن جابر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات عليه دين، فأتى بميت فسأل: عليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران. قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: هما على يا رسول الله، فصلى عليه، فلما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك دينا فعلي، ومن ترك مالا فلورثته ".
قال مجد الدين ابن تيمية عقب الحديث: رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي. وقال الشوكاني: حديث جابر أخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني والحاكم.
ثم قال: وعن أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: "من خلف مالا أو حقا فلورثته، ومن خلف كلا أودينا فكله إلى ودينه على. ثم قال: وأحاديث الباب تدل على أنها تصح الضمانة عن الميت، ويلزم الضمين ما ضمن به، وسواء كان الميت غنيا أو فقيرا. وإلى ذلك ذهب الجمهور وأجاز مالك للضامن الرجوع على مال الميت إذا كان له مال. وقال أبو حنيفة: لا تصح الضمانة إلا بشرط أن يترك الميت وفاء دينه وإلا لم يصح..(2/890)
سادسا: ويلي الباب السابق " باب في أن المضمون عنه إنما يبرأ بأداء الضامن لا بمجرد ضمانه " (نيل الأوطار5/269) وفيه حديث واحد، هو عن جابر قال: توفى رجل فغسلناه وحنطناه وكفناه، ثم أتينا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: نصلي عليه، فخطا خطوة ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة. فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران علي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد أوفى الله حق الغريم وبرئ منه الميت، قال: نعم، فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران؟ قال: إنما مات أمس. قال: فعاد إليه من الغد، فقال: قد قضيتهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم الآن بردت عليه جلده ". وعقب مجد الدين على الحديث بقوله: رواه أحمد، وإنما أراد بقوله " والميت منهما بريء" دخوله في الضمان متبرعا لا ينوي به رجوعا بحال.
وقال الشوكاني:
الحديث أخرجه أيضا أبو داود والنسائي والدارقطني وصححه ابن حبان والحاكم.
ثم قال: قوله الآن بردت عليه فيه دليل على أن خلوص الميت من ورطة الدين وبراءة ذمته على الحقيقة ورفع العذاب عنه، إنما يكون بالقضاء عنه لا بمجرد التحمل بالدين بلفظ الضمانة، ولهذا سارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى سؤال أبي قتادة في اليوم التالي عن القضاء. (1)
__________
(1) انظر نيل 5/269 - 270، وراجع الحديث في مسند الإمام أحمد 3/330، واللفظ فيه بعض الاختلاف، واقرأ الحديث. وتعقيب ابن حجر وشرح الصنعائى في سبل السلام 3/888 - 890. وراجع سنن النسائي-كتاب الجنائز: الصلاة على من عليه دين ج 4 ص 65- 66.(2/891)
سابعا: روى مسلم وأبو داود وغيرهما عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: " أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ". قال: ثم قال: " يا قبيصة أن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك (1) ... "
وهذا الحديث الشريف كما يدل على جواز الكفالة يدل أيضا على أنها واجبة على من تحملها، ليس له أن يرجع عن التزامه.
ثامنا: روى ابن ماجه في باب الكفالة من كتاب الصدقات بسنده عن ابن عباس، أن رجلا لزم غريما بعشرة دنانير، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي شيء أعطيكه. فقال: لا والله لا أفارقك حتى تقضينى أو تأتينى بحميل. فجره إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كم تستنظره؟ " فقال: شهرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنا أحمل له ". فجاءه في الوقت الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين أصبت هذا " قال: من معدن، قال: " لا خير فيها " وقضاها عنه.
وروى أبو داود الحديث الشريف -مع شيء من الاختلاف - في باب استخراج المعادن من كتاب البيوع. والحديث كما يدل على جواز الكفالة، يدل أيضا على جواز ملازمة الغريم، ومنعه من التصرف حتى يؤدى ما عليه من الحق، وعلى جواز ضمان الدين الحال مؤجلا.
__________
(1) صحيح مسلم -كتاب الزكاة: من تحل له المسألة - وانظر سنن أبي داود-كتاب الزكاة: بباب تجوز فيه المسألة. والحمالة: ما يتحمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة، مثل أن يقع حرب بين فريقين تسفك فيها الدماء، فيدخل بينهم رجل يتحمل ديات القتلى ليصلح ذات البين، والتحمل: أن يحملها عنهم على نفسه. (النهاية لابن الأثير1/442) . وقد كانت العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة في دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك والقيام به حنى ترتفع تلك الفتنة الثائرة. (عون المعبود5/50) .(2/892)
الباب الثاني
الفصل الأول
خطاب الضمان في البنوك الربوية
تعريف خطاب الضمان:
من الكفالات المعاصرة ما تقوم به المصارف بما يسمى إصدار خطابات الضمان. وخطاب الضمان يمكن تعريفه بأنه عبارة عن تعهد كتابي، يتعهد بمقتضاه المصرف بكفالة أحد عملائه (طالب الإصدار) في حدود مبلغ معين تجاه طرف ثالث، بمناسبة التزام ملق على عاتق العميل المكفول، وذلك ضمانا لوفاء هذا العميل بالتزامه تجاه ذلك الطرف خلال مدة معينة، على أن يدفع المصرف المبلغ المضمون عند أول مطالبة خلال سريان خطاب الضمان، دون التفات لما قد يبديه العميل من المعارضة.
وتتعدد خطابات الضمان تبعا لتعدد الأغراض المستعملة فيها:
منها خطابات الضمان الابتدائية أو المؤقتة، وهى خاصة بالعطاءات التي تقدم للجهات الحكومية وما في حكمها.
ومنها خطابات الضمان النهائية، وهى خاصة بضمان حسن تنفيذ العقود المبرمة مع تلك الجهات.
ومنها خطابات الضمان للتمويل (عن دفعات مقدمة) : يصدرها المصرف لضمان مبالغ تصرف مقدما من بعض الجهات للمقاولين أو الموردين، أو لضمان مبالغ تحت الحساب عن أعمال مقدرة لم يتم حصرها.
وهناك أنواع أخرى من خطابات الضمان.
وللخطابات شروطها، ويقوم المصرف بإجراءات وأعمال مختلفة تستلزمها هذه الخطابات. (1) .
__________
(1) انظرعلى سبيل المثال: الباب التاسع من الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية 2/309-336(2/893)
موقف البنوك الربوية من خطابات الضمان
البنوك الريوبة عندما تصدر خطابات الضمان تأخذ من عملائها ما يقابل هذا الإصدار، وتراعي في تحديد العمولة الأعمال والإجراءات التي تقوم بها، وقيمة الدين الذي تضمنه، ومدة هذا الضمان. وهي عادة تقدر نسبة مئوية تحسب على أساس هذا الدين ومدته.
فإذا قام البنك بدفع أي مبلغ ضمنه حسب دينا على العميل بالفائدة الربوية المتعارف عليها، والتي يلتزم بها المدين قانونا، والبنك تاجر ديون مراب، وكما يقول أحد رجال الاقتصاد:
"يمكن تلخيص أعمال البنوك التجارية في عبارة واحدة، وهى: التعامل في الائتمان أو الاتجار في الديون: إذ ينحصر النشاط الجوهري للبنوك في الاستعداد لمبادلة تعهداتها بالدفع لدى الطلب بديون الآخرين، سواء أكانوا أفرادا، أم مشروعات، أم حكومات. ويقبل الأفراد هذه التعهدات المصرفية- وهى التي تعرف باسم الودائع الجارية- في الوفاء بما تزودهم به البنوك من اعتمادات وسلف نظرا لما يتمتع به التعهد المصرفي بالدفع لدى الطلب من قبول عام في تسوية الديون.
وهكذا تتوصل البنوك التجارية إلى مزاولة نشاطها الذي تبرز به وجودها، وتستمد من القيام به أرباحها، بالاضطلاع تارة بمركز الدائن، وتارة بمركز المدين ". (1) .
ولهذا فالبنوك الريوية ترحب بخطابات الضمان، حيث تدر عليها ربحا وفيرا، وتتصل بنشاطها الربوي. وهى كما تقوم بالإقراض العادي، تقوم كذلك بالإقراض عن طريق ما يسمى بفتح الاعتماد. أما خطاب الضمان فيقول عنه الدكتور على البارودى بأنه صورة من صور إقراض التوقيع (2) .
__________
(1) مقدمة في النقود والبنوك للدكتور محمد زكي شافعى ص 197
(2) راجع خطاب الضمان في كتابه: القانون التجاري ص 532(2/894)
ويتحدث آخر عن الكفالات المصرفية فيقول:
" قد يحتاج عميل المصرف، في بعض الأحيان، إلى نوع من الاعتماد، لا يريد منه الحصول على مبلغ من المال - سواء بصورة آنية فورية أو مستقبلية- بل تقديم ضمانه للأشخاص الذين يتعاملون معه لتنفيذ الالتزامات التي تعهد بها تجاههم. ففي هذه الحالة، يتدخل المصرف لتقديم هذه الضمانة عن طريق الكفالة، فالغاية من الكفالة المصرفية هي إذن إفساح المجال أمام المعتمد له لعدم دفع المبالغ التي يطلب إليه دفعها ضمانا لتنفيذ تعهداته.
على أن الكفالة المصرفية إذا كانت لا تقتضى المصرف دفع المال المكفول به بصورة آنية فورية، فإنها -كالاعتماد بالقبول - قد تتحول إلى التزام بالدفع الفعلي، وذلك عندما يحل أجل الدين أو التعهد المكفول، ثم يمتنع المتعهد، أو يعجز عن الوفاء به (1) .
__________
(1) الحسابات والاعتمادات المصرفية للدكتور رزق الله انطاكي- 309(2/895)
الفصل الثاني
خطاب الضمان في المصارف الإسلامية
إذا كانت البنوك الربوية ترحب بخطابات الضمان لأنها تتصل بنشاطها الربوي، فالأمر مختلف بالنسبة للمصارف الإسلامية، فما قامت إلا لتطهير أموال المسلمين من الربا، فلا يمكن أن تأخذ زيادة ربوية. وإذا كانت القوانين الوضعية أباحت الربا عينه، فلا عجب أن تبيح الكفالة بأجر، أما الشريعة الغراء فقد نصت على أن الزعيم غارم، وأجمعت الأمة على أن الكفالة من عقود التبرع.
غير أن المصارف الإسلامية تأخذ أجرا مقابل إصدار خطابات الضمان، فعلى أي أساس تحدد هذه الأجور؟ وبم تستحقها شرعا؟
اختلفت النظرة والفتوى، فاختلف التطبيق العملي.
التكييف الشرعي لخطاب الضمان.
خطاب الضمان إذا كان غير مغطى من العميل فمن الواضح أنه يعتبر عقد كفالة، فالكفالة ضم ذمة إلى ذمة، فضمت ذمة المصرف إلى ذمة طالب الإصدار لمصلحة الطرف الثالث، وعلى هذا فالكفيل هو المصرف، والمكفول هو العميل، والمكفول له هو الطرف الثالث.(2/896)
أما إذا كان العميل أودع لدى المصرف ما يغطى الخطاب فإن العلاقة بينهما علاقة وكالة، حيث وكل العميل المصرف ليقوم بالأداء، فلا توجد كفالة بين الطرفين، غير أنها تكون بين المصرف والطرف الثالث، فالطرف الثالث يقبل خطاب الضمان من المصرف باعتبار المصرف كفيلا لا وكيلا.
وما جرى عليه العرف المصرفي غالبا هو قيام العميل بالغطاء الجزئي لا الكلي، وفى هذه الحالة تكون علاقة المصرف بالعميل علاقة وكالة وكفالة معا، فهو وكيل بالنسبة للجزء المغطي وكفيل مراعاة للجزء المتبقي.
ما ياخذه المصرف مقابل إصدار الخطاب.
من المعلوم في الفقه الإسلامي أن الوكالة تجوز بأجر وبغير أجر، وأن الكفالة من عقود التبرع، فهي من أعمال البر التي لا يجوز أخذ أجر عليها. وهى إما أن تكون عقد تبرع ابتداء وانتهاء، وذلك إذا لم يرجع الكفيل على المكفول بما يتحمله نتيجة الكفالة، أو تكون تبرعا ابتداء ومعاوضة انتهاء إذا أدى الكفيل عن المكفول على أن يعود عليه بما قد يتحمله.
والحالة الأولى لا ينطبق عليها خطاب الضمان، فالمصرف ليس متبرعا في النهاية، بل يأخذ على الطالب من الضمانات ما يجعله مطمئنا إلى أنه لن يغرم شيئا، والبنوك الربوبة لا تعود على المكفول بالدين الذي تدفعه فحسب وإنما تأخذ كذلك الزيادة الربوية، والقانون يعطيها هذا الحق غير المشروع.
والمصارف الإسلامية تأخذ أجرا لإصدار خطابات الضمان، فبم تستحق هذا الأجر؟
في المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي بدبي صدر القرار التالي:
"خطاب الضمان يتضمن أمرين: وكالة وكفالة.
ولا يجوز أخذ أجر على الكفالة، ويجوز أخذ أجر على الوكالة. ويكون أجر الوكالة مراعى فيه حجم التكاليف التي يتحملها المصرف في سبيل أدائه لما يقترن بإصدار خطاب الضمان من أعمال يقوم بها المصرف حسب العرف المصرفي. وتشمل هذه الأعمال بوجه خاص تجميع المعلومات، ودراسة المشروع الذي سيعطى بخصوصه خطاب الضمان، كما يشمل ما يعهد به العميل إلى المصرف من خدمات مصرفية متعلقة بهذا المشروع، مثل تحصيل المستحقات من أصحاب المشروع.
وتقدير ذلك الأجر متروك للمصرف بما ييسر على الناس شئون معاملاتهم وفقا لما جرى عليه العرف التجاري ".(2/897)
اختلاف في التطبيق:
من الفتوى السابقة يتضح أن الأجر يرتبط بالوكالة دون الكفالة، وهو في مقابل العمل الذي يقوم به المصرف، والمجهود الذي يبذله.
ولكن ما موقف المصرف إذا كان الخطاب غير مغطى، فهو كفالة، ولم يوكله طالب الإصدار للقيام بعمل ما؟ أليس المصرف شركة تجارية لا مؤسسة خيرية؟
وهل يستوي خطاب الضمان لمبلغ زهيد مع آخر بآلاف الآلاف؟
وإذا كان الضمان لمدة وجيزة فهل نجعله كالضمان لمدة طويلة؟
وهل يمكن عند تقدير الأجر النظر إلى ما قد يتحمله المصرف من المخاطرة؟
أسئلة تنوعت إجاباتها، فاختلف التطبيق في المصارف الإسلامية، وإن وجدنا أكثرها قد أخذ بفتوى المؤتمر المذكور، حيث أبيح أخذ الأجر على الوكالة دون الكفالة.
ولكن هذا قد يعنى أن المصرف لا يأخذ أجرا إلا إذا كان الخطاب مغطى كليا أو جزئيا حيث توجد الوكالة، وفى حالة عدم الغطاء لا يأخذ أي أجر، وهذا خلاف الواقع:
فبعض المصارف تأخذ أجرا محددا ثابتا لأي خطاب ضمان مهما كان نوعه، أو قيمته، أو مدته.
وبعض هيئات الرقابة الشرعية فرقت بين المغطى وغير المغطى، فرأت أن الأول يجوز أخذ أجر عليه على أساس الوكالة، وقالت في الثاني:
" لا يجوز للبنك أن يأخذ أجرا في هذه الحالة إذا كان هذا الأجر نظير خطاب الضمان، لأنه يكون قد أخذ أجرا على الكفالة، وهو ممنوع، لأن الكفالة من عقود التبرعات".(2/898)
ثم قالت:
" أما إذا كان الأجر الذي يأخذه البنك نظير ما قام به من خدمة ومصاريف تتطلبها إجراءات إكمال خطاب الضمان فلا مانع شرعا ".
ثم جاء في خلاصة الفتوى:
"ترى الهيئة جواز أخذ أجر على إصدار خطابات الضمان شريطة أن يكون هذا الأجر نظير ما يقوم به البنك من خدمة لعملائه بسبب إصدار هذه الخطابات، ولا يجوز أن يأخذ البنك أجرا لمجرد كونه ضامنا للعميل. والله أعلم ".
ولعل خلاصة الفتوى تكاد تسوي بين الحالتين من حيث ربط الأجر بالخدمة التي يقوم بها البنك.
ووجدنا من يذهب إلى رأي آخر يخالف ما سبق، حيث ذهب إلى ربط الأجر بالعمل والمخاطرة معا، معنى هذا أن يرتبط الأجر -إلى جانب العمل - بالجزء غير المغطى، غير أنه جعل هذا من باب الجعالة لا الإجارة حيث قال:
"يجوز حصول المصرف على جعل نظير إصدار خطابات الضمان مقابل ما يتحمله المصرف من الجهد والمخاطرة المترتبة على ذلك.
ويتم تحديد هذا الجعل على أساس نسبة من المبلغ غير المغطى من خطابات الضمان المصدرة بغض النظر عن مدة تلك الخطابات. كما يجوز للمصرف أن يتقاضى مبلغا مقطوعا لتجديد هذه الكفالات نظير ما يتحمله المصرف من مصروفات إدارية ".
وهذا الرأي لا يزال محل دراسة. (1) .
وهناك رأي آخر بدا كأنه غير مخالف حين ذكر أن الأجر مرتبط بالوكالة، والواقع أنه أكثر مخالفة مما ذكر آنفا، حيث يقول:
"يقدم البنك الإسلامي هذه الخدمة لعملائه على أساس الوكالة بالأجر، ويكون له أن يتقاض الأجور المتعارف عليها بين البنوك وذلك فيما عدا الفوائد المتحققة بين تاريخ دفع قيمة المطالبة (إن حصلت) وبين تاريخ تسديد هذه القيمة من قبل العميل".
__________
(1) عارضت أن يكون للمخاطرة في الكفالة جعل، وكان هذا من الأسباب الرئيسية لكتابة هذا البحث. وبحمد الله تعالى تم مناقشة الموضوع، وانتهينا إلى رأي يأتي ذكره في الفصل التالي ص(2/899)
وهذا الرأي وإن كان قد أبعد البنك الإسلامي عن الربا، إلا أنه قرنه بالبنوك الربوية في تحديد الأجر، وهذه البنوك لا تنظر إلى الوكالة وحدها، وإنما تنظر أساسا إلى الكفالة، فعندما يودع العميل لديها ما يغطي خطاب الضمان تأخذ منه أجرا يسيرا، بل قد لا تأخذ منه أي أجر لأنها تستفيد من المبلغ المودع لديها. أما إذا كان الخطاب غير مغطى فإنها تحسب العمولة على أساس قيمة الكفالة ومدتها، فتأخذ نسبة مئوية تبعا لمبلغ الكفالة ومدتها.
فهذا الرأي كسابقه نظر إلى الكفالة ذاتها في تحديد العمولة، غير أنه أكثر مخالفة حيث لم يكتف بالنظر إلى المبلغ غير المغطى، بل نظر كذلك إلى مدة ضمانه.
هل من ضابط؟
لقد سعدت بقرار مجلسكم الموقر بحث هذا الموضوع، وأحب أن أضع ما يلي أمام السادة الفقهاء الأجلاء المشاركين في هذا المؤتمر:
أولا: الكفالة تبرع ابتداء وانتهاء حين لا يرجع الكفيل على المكفول بما أدى عنه، وقد تكون تبرعا ابتداء ومعاوضة انتهاء إذا رجع على الكفيل، فتكون هنا مثل القرض. والحالة الأولى التي كانت شائعة في المجتمع المسلم، مجتمع التكافل، لا ينطبق عليها خطاب الضمان، وإنما ينطبق على الحالة الأخرى الشبيهة بالقرض، حيث يعود المصرف على المكفول بما أدى عنه:
ولا خلاف بين الأئمة في أن الكفالة لا تجوز بجعل فضلا عن الأجر.
والخروج عن هذا الإجماع قد لا يجد ما يبرره.
ثانيا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
الآية المشهورة التي يحتج بها على الإجماع قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} . (115: سورة النساء) .
وذكر الآراء المختلفة دلالة الآية الكريمة، ثم قال: " ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم، وهذا ظاهر، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا، فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم، فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعا، والآية توجب ذم ذلك.
وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول، قلنا لأنهما متلازمان، وذلك أن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول، فالمخالف لهم مخالف للرسول، كما أن المخالف للرسول مخالف لله، ولكن هذا يقتضى أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول، وهذا هو الصواب، فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفي ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به ... ".
ثم قال: " لا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص، وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلا نص كالمضاربة وليس كذلك.. ".(2/900)
وقال: " استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة " (1) .
ثالثا: هما يستدل به على مشروعية الكفالة ما روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الزعيم غارم)) . وذكرت ما يتصل بهذا الحديث الشريف من قبل عند بحث الكفالة في السنة المطهرة.
فإذا كان الأصل في الزعامة -أي الكفالة - أنها غرم، فكيف تتحول في عصرنا إلى غنم؟
ولذلك كان الإمام مالك يرى أن الكفالة من وجه الصدقة. (2)
وقال الإمام الشافعي: " الكفالة استهلاك مال لكسب مال ". (3)
وحكى عنه النووي أن الضمان تبرع أو قرض محمض. (4)
وقال الإمام النووي: " الضمان غرر كله بلا مصلحة ". (5)
وقال الكمال بن الهمام: "الكفالة عقد تبرع كالنذر، لا يقصد به سوى ثواب الله، أو رفع الضيق عن الحبيب " (6) .
وقال الدردير: " الضامن كالمسلف، يرجع بمثل ما أدى " (7)
وقال ابن قدامة: الضمين والكفيل على بصيرة أنه لاحظ لهما. واعتبر الكفالة كالنذر (8)
ولهذا كله اشترط الفقهاء في الكفيل أهلية التبرع، لأن الكفالة تبرع محض، لا مصلحة فيها للكفيل، حتى إذا كانت عقد معاوضة انتهاء، فهذا يعنى أنها تنتهي بقرض، والقرض عقد إرفاق لا مصلحة فيه للمقرض (9) ، وتحدثت عن هذا من قبل.
__________
(1) انظر مجموع الفتاوي 19/192-196.
(2) انظر المدونة 5/284.
(3) الأم. 3/205
(4) انظر روضة الطالبين. 4/241
(5) انظر روضة الطالبين 4/242
(6) شرح فتح القدير 6/298
(7) الشرح الصغير مع بلاغة السالك 2/157 وللصاوي مثل قول الدردير في الصفحة ذاتها.
(8) انظر المغني 5/94
(9) راجع ما كتب عن الكفيل الفصل الثاني من الباب الثاني(2/901)
رابعا: قال ابن حزم: " لا يرجع الضامن على المضمون عنه، وعلى ورثته أبدا بشيء مما ضمن عنه أصلا- سواء رغب إليه في أن يضمنه عنه أو لم يرغب إليه في ذلك - إلا في وجه واحد، وهو: أن يقول الذي عليه الحق: اضمن عنى ما لهذا على، فإذا أديت عني فهو دين لك علي. فهنا يرجع عليه. بما أدى عنه لأنه استقرضه ما أدى عنه فهو قرض صحيح " (1)
قال في موضع آخر: " لا يرجع الضامن بما أدى سواء بأمره ضمن عنه أو بغير أمره إلا أن يكون المضمون عنه استقرضه " (2)
وما ذكره ابن حزم من عدم رجوع الضامن على المضمون عنه يخالف ما عليه جمهور الفقهاء، ولا حاجة إلى تفصيل هنا، فهذه الحالة لا ينطبق عليها خطاب الضمان وإنما ينطبق على الحالة الأخرى التي يرجع فيها الضامن على المضمون عنه، ولا خلاف في هذا الرجوع.
والذي يعنينا هنا هو ما بينه ابن حزم من أن هذه الحالة تعتبر استقراضا.
ونجد مثل هذا البيان عند غيره أيضا:
جاء في الهداية: فان كفل بأمره رجع بما أدى عليه لأنه قضى دينه بأمره. وفى الشرح جاء في فتح القدير: إذا كان قضاء من جهة الذي أمر صار كما لو قال: اقض عنى، ويتضمن ذلك استقراضا منه. وفيه أيضا: والحاصل أن الأمر في الكفالة تضمن طلب القرض إذا ذكر لفظة عنى (3)
وقال الكاساني: " الكفالة بالأمر في حق المطلوب استقراض، وهو طلب القرض من الكفيل، والكفيل بأداء المال مقرض من المطلوب، ونائب عنه في الأداء إلى الطالب، والمقرض يرجع على المستقرض بما أدى. وإذا كانت الكفالة في هذه الحالة تعتبر استقراضا، فما يؤخذ في مقابلها زيادة على الدين ألا يدخل من باب الربا المحرم؟ وإذا أدى المضمون عنه دينه فبم يستحق الضامن هذه الزيادة؟
وقد بين سبب المنع أكثر من فقيه:
جاء في المغنى والشرح (4/365) بعد ذكر أقوال لأحمد:
" قال: ولو قال اقترض لي من فلان مائة ولك عشرة فلا بأس، ولو قال: اكفل عني ولك ألف لم يجز، وذلك لأن قوله: اقترض لي ولك عشرة جعالة على فعل مباح فجازت، كما لو قال: ابن لي هذا الحائط ولك عشرة. وأما الكفالة فان الكفيل يلزمه الدين، فإذا أداه وجب له على المكفول عنه، فصار كالقرض، فإذا أخذ عوضا صار القرض جارا للمنفعة فلم يجز".
__________
(1) المحلي 8/522
(2) المحلي 8/531
(3) انظر فتح القدير 6/304(2/902)
وقال الدردير في أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك:
وعلة المنع أن الغريم إن أدى الدين لربه كان الجعل باطلا، فهو من أكل أموال الناس بالباطل. وإن أداه الحميل لربه ثم رجع به على الغريم كان من السلف بزيادة.
وقال الصاوي في شرحه بلغة السالك: (1)
وقوله: كان من السلف بزيادة، أي كان دفعه الدين وأخذه سلفا والزيادة هي الجعل الذي أخذه، وقال: وحاصل ما في الشارح أن الجعل إذا كان للضامن فإنه يرد قولا واحدا.
وقال أيضا: علة المنع موجودة، وهى السلف الذي جر نفعا (2) .
وقال ابن عابدين في منحة الخالق على البحر الرائق (6/242) :
الجعل باطل لأن الكفيل مقرض في حق المطلوب، وإذا شرط له الجعل مع ضمان المثل فقد شرط له الزيادة على ما أقرضه فهو باطل لأنه ربا.
خامسا: المخاطرة التي يتعرض لها المصرف نتيجة الإقراض الفعلي أكبر من الخاطرة التي يتعرض لها تبعا لإقراض - قل أن يحدث - ناتج عن خطاب الضمان.
ولو جاز الجعل في مقابل المخاطرة بإصدار الخطاب لكان جوازه في الإقراض أولى.
__________
(1) بدائع الصنائع 7/3424
(2) انظر بلغة السالك 2/160(2/903)
سادسا: لا أدرى كيف يباح جعل العمولة تبعا للمبلغ غير المغطى ومدته؟
أن البنوك الربوبة تقوم بهذا لاحتمال الإقراض، فإذا تم الإقراض كانت الفائدة الربوية المعلومة. فن امتنع عن أخذ الزيادة الربوية لإقراض تم بالفعل كيف يأخذ زيادة في مقابل زمن لإقراض محتمل؟
سابعا: لم يكن الضمان من قبل بعيدا عن النشاط التجاري، ونذكر هنا:
ا - ضمان العهد أو ضمان الدرك:
من الكفالات التجارية التي كانت شائعة، وأجازها الأئمة، مع الخلاف في بعض التفصيلات، ضمان الثمن للبائع والمشتري.
فالبائع الذي يبيع آجلا، قد يطلب كفيلا يضمن الثمن الذي في ذمة المشتري، وفى البيع الحال، ومع قبض الثمن، قد يظهر أن النقود مغشوشة " أو معيبة، لذا كان يطلب بعض البائعين كفيلا يضمن لهم سلامة الثمن، وقد تكون النقود سلمت من الغش أو العيب ولكن يظهر لها مالك غير المشتري، كالمغصوب أو المسروق مثلا، ومن هنا كانت الحاجة إلى كفيل يلتزم بأداء الثمن في هذه الحال.
والمشترى قد يطلب كفيلا يلتزم برد الثمن إذا ظهر أن المبيع به عيب يستوجب الرد، أو أن أحدا يستحقه غير البائع، كأن يعرف له مالك آخر، أو أن أحدا أحق به من المشترى، كأن يكون لغيره حق الشفعة.
وهذا كما نرى ضمان للثمن، وقد يكون لجزء منه كأرش العيب: وهو ما يسترد من ثمن المبيع إذا ظهر فيه عيب ورضي المشتري استبقاءه.
ويسمي أيضا ضمان الدرك: قال ابن منظور في لسان العرب: " الدرك: اللحق من التبعة، ومنه ضمان الدرك في عهدة البيع ". وفى المعجم الوسيط: " الدرك: التبعة يقال: ما لحقك من درك فعلي خلاصه، ومنه ضمان الدرك في الفقه ".
وقد نال هذا الضمان حظه الوافر في كتب الفقه، ويطول
االكلام كثيرا إذا أردنا أن نعرض ما جاء في تلك الكتب مفصلا، فلعل ما سبق يكفى لبيان حقيقته.(2/904)
وتجد في تلك الكتب ذكرا لسبب إجازتهم هذا الآن، ويكاد ينحصر في أن الحاجة تدعو إلى الوثيقة، والوثائق ثلاثة: (1)
الشهادة والرهن والضمان: فأما الشهادة فلا يستوفي منها الحق، وأما الرهن فلا يجوز في ذلك بالإجماع، لأنه يؤدي إلى أن يبق أبدا مرهونا، حيث يلزم حبس الرهن إلى أن يؤدي، وهو غير معلوم، فلم يبق إلا الضمان، فلو لم يصح لامتنعت المعاملات مع من لم يعرف، وفيه ضرر عظيم رافع لأصل الحكمة التي شرع البيع من أجلها.
فهم أجازوه إذن لجلب المصلحة، ومنع الضرر.
2- ضمان السوق:
ومن الكفالات التجارية ما عرف باسم ضمان السوق، قال ابن تيمية:
" ضمان السوق، وهو أن يضمن الضامن ما يجب على التاجر من الديون، وما يقبضه من الأعيان المضمونة، ضمان صحيح، وهو ضمان ما لم يجب، وضمان المجهول، وذلك جائز عند جمهور العلماء، كمالك، وأبى حنيفة، وأحمد بن حنبل، وقد دل عليه الكتاب. كقوله {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} . والشافعي يبطله، فيجوز للكاتب والشاهد أن يكتبه ويشهد عليه، ولو لم ير جوازه، لأنه من مسائل الإجتهاد، وولي الأمر يحكم بما يراه من القولين " (2)
وفى مجلة الأحكام الشرعية، تنص المادة 1094 على ما يأتي:
" يصح ضمان السوق مثلا، لو ضمن ما يلزم التاجر، أو ما يبقى عليه للتجار، أو ما يقبض من الأعيان المضمونة، صح الضمان ".
وذكر ابن عابدين أن صاحب الفتاوى الحامدية سئل فيما إذا قال زيد مخاطبا لجماعة معلومين من أهل سوق كذا:
ما باعيتم عمرا أنتم وغيركم، فهو علي، فهل يلزم زيدا دين من خاطبهم دون غيرهم؟
فأجاب: نعم (3)
__________
(1) انظر على سبيل المثال: المغنى5/76 - 78، روضة الطالبين 4/245 - 249، والأم 3/204، والأشباه والنظائر: لسيوطى 490، وبدائع الصنائع 7/3420-3421، والمدونة 5/269، ومطالب أولى النهى 3/303 - 4 30.
(2) فتاوي ابن تيمية 29/549
(3) العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 1/285 وصاحب الفتاوى هو حامد العمادي، مفتي دمشقه الشام. واثني ابن عابدين عليه في المقدمة ص2(2/905)
3- ضمان نقص المكيل أو الموزون أو المذروع:
وهذا الضمان أيضا يتصل بالنشاط التجاري، حيث تنص المادة 1091 من المجلة السابقة على مايأتي:
"يصح ضمان نقص الصنجة أو المكيال أو الذراع، مثلا:
لو اشترى موزونا فشك في نقص الصنجة، أو مكيلا فشك في نقص المكيال، أو مذروعا فشك في نقص الذراع، فضمن شخص النقص، مع ضمانه، فيرجع المشتري بما نقص، والقول له بيمينه ".
هذه نماذج لكفالات تجارية لا تختلف كثيرا في جوهرها عن الكفالات المصرفية، والمصارف تأخذ لنفسها من الضمانات ما يجعل المخاطرة أقل مما كان يتعرض له الكفلاء سابقا، وما أباح عالم أخذ أجر أو جعل مقابل أي من تلك الكفالات التجارية، فكيف أصبحت المخاطرة في الكفالة لها ثمنها في عصرنا؟!.
وربما تبادر إلى الأذهان هنا ما دار من نقاش في عصرنا حول القروض الاستهلاكية والقروض الإنتاجية، ومحاولة التفرقة بين الاثنين من حيث الحرمة والحل لفوائدها، وما انتهى إليه الفتوى من أن فوائد النوعين كليهما من الربا المحرم.
ثامنا: العمل عنصر من عناصر عقد الإجارة وعقد الجعالة، فكل أجر أو جعل يقابله عمل ما، غير أن العمل في الجعالة يختلف عن الإجارة.
ويحدث ابن تيمية عن العمل الذي يقصد به المال فيقول:
" العمل الذي يقصد به المال ثلاثة أنواع:
أحدهما: أن يكون العمل مقصودا معلوما، مقدورا على تسليمه، فهذه الإجارة اللازمة.
الثاني: أن يكون العمل مقصودا لكنه مجهول أو غرر، فهذه الجعالة وهى عقد جائز ليس بلازم، فإذا قال: من رد عبدي الآبق فله مائة، فقد يقدر على رده وقد لا يقدر، وقد يرده من مكان قريب وقد يرده من مكان بعيد، فلهذا لم تكن لازمة، لكن هي جائزة. فان عمل هذا العميل استحق الجعل وإلا فلا.
ويجوز أن يكون جعل فيها إذا جعل بالعمل جزءا شائعا ومجهولا جهالة لا تمنع التسليم، مثل أن يقول أمير الغزو من دل على حصن فله ثلث ما فيه، ويقول للسرية التي يسريها: لك خمس ما تغنمين أو ربعه.
ومن هذا الباب إذا جعل للطبيب جعلا على شفاء المريض جاز، كما أخذ أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الذين جعل لهم قطيع على شفاء سيد الحي، فرقاه بعضهم حتى برأ، فأخذوا القطيع. فإن الجعل كان على الشفاء لا على القراءة، ولو استأجر طبيبا إجارة لازمة على الشفاء لم يجز لأن الشفاء غير مقدور له، فقد يشفيه الله وقد لا يشفيه، فهذا أو نحوه مما تجوز فيه الجعالة دون الإجارة اللازمة.(2/906)
وأما النوع الثالث فهو مالا يقصد فيه العمل بل المقصود المال، وهو المضاربة، فإن رب المال ليس له قصد في نفس عمل العامل كما للجاعل والمستأجر.. الخ (1)
ويذكر ابن رشد الجد أن العمل الذي لا يصح فيه الجعل ولا الإجارة نوعان:
أحدهما: مالا يجوز للمجعول له فعله.
والثاني: ما يلزمه فعله (2)
فما دام العمل الذي يقوم به المصرف ليس من هذين النوعين صحت العمولة مقابل العمل، وقد تكون جعلا لا أجرا إذا روعيت شروط الجعالة.
بل من الأعمال الواجبة ما أجاز الفقهاء أخذ الأجرة عليه:
قال الإمام السيوطي:
"قاعدة: لا يجوز أخذ الأجرة على الواجب، إلا في صور:
منها: الإرضاع.
ومنها: بذل الطعام للمضطر
ومنها: تعليم القران.
ومنها: الرزق على القضاء وهو محتاج حيث تعين.
ومنها: الحرف حيث تعينت.
ومنها: من دعي إلى تحمل شهادة تعينت عليه، بخلاف ما إذا جاءه المتحمل، وبخلاف الأداء، فإنه فرض توجه عليه، وهو أيضا كلام يسير لا أجرة لمثله. نعم له أخذ الأجرة على الركوب، ويجوز أخذها على فروض الكفاية، إلا الجهاد وصلاة الجنازة " (3)
تاسعا: أفتى الإمام النووي فيمن حبس ظلما فبذل ما لا لمن يتكلم. في خلاصه بجاهه وغيره بأنها جعالة مباحة، وأخذ عوضها حلال، ونقله عن جماعة، تم قال: وفى ذلك كلفة تقابل بأجره عرفا (4) .
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى 20/506-507
(2) انظر مقدمات ابن رشد ص636.
(3) الاشباه والنظائر ص497
(4) راجع كتاب المجموع 14/10(2/907)
وفى تحفة المحتاج ذكر ابن حجر الهيثمي بعض ما يباح فيه الجعل، ومما قاله: وكقول من حبس ظلما لمن يقدر على خلاصه وإن تعين عليه على المعتمد: أن خلصتنى فلك كذا، بشرط أن يكون في ذلك كلفة تقابل بأجرة عرفا، وأركانها: عمل، وجعل وصيغة، وعاقد.
وفى حاشية الشروانى على تحفة المحتاج (365/6) جاء ما يلي:
(قوله على المعتمد) عبارة النهاية: أفتى المصنف بأنها جعالة مباحة، وأخذ عوضها حلال، ونقله عن جماعة. وذكر صاحب مطالب أولى النهى في شرح غاية المنتهى جواز أن يجعل أحد جعلا لمن يقرضه من غير بجاهه، وقال: لأن الجعالة في مقابلة ما بذله من جاهه من غير تعليق له بالقرض (1)
هذه الأعمال وغيرها من أعمال البر، قد لا يوجد من يتبرع للقيام بها، مع وجود الحاجة إليها، ولذا جاز الجعل شريطة ارتباطه بالعمل.
وإصدار خطاب الضمان يتطلب القيام بأعمال مختلفة، والمصرف منشأة تجارية، فمن حقه أن يأخذ عمولة مقابل عمله وجهده، ولكن لا ترتبط هذه العمولة بكفالة الدين ذاتها، وإلا لكانت سحتا أو ربا.
ومما هو قريب من موضوعنا ما ثار من جدل في عصرنا حول جواز أخذ المصرف أجرا من المقترض يقابل الأعباء الإدارية الناشئة المتعلقة بالقرض، والذين أجازوه اشترطوا أن يتم ربط الأجر بوجود خدمة فعلية، أو منفعة مقصودة ومتقومة في النظر الشرعي، وألا يؤخذ نظير المنفعة غير المعتبرة في نظر الشرع في مجال الاقتراض أو الوعد به، ولذا قالوا: ينبغي أن يكون على أساس مبلغ مقطوع وليس على أساس شئ من قيمة القرض، لأن الجهد الذي يبذله المصرف في إعداد عقد القرض لا يختلف باختلاف قيمة القرض. فمفرق الطريق في اعتبار هذه المبالغ أجرا وليست ربا هو وجود الخدمة التي تقابل هذه المبالغ، وكون مقدار المبلغ محددا بما يبذله من جهد، أو يؤدى من خدمة، دون ربط ذلك بمقدار الدين أو مدته (2)
__________
(1) انظر المرجع المذكور 4/208، واقرأ مثله في المغني والشرح 4/365
(2) انظر الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية 1/29-31(2/908)
الفصل الثالث
استثمار الغطاء النقدي
عندما يكون خطاب الضمان مغطى كليا أو جزئيا فإن المصرف يضم الغطاء النقدي إلى ما لديه من ودائع غير مخصصة، وحسابات جارية، وأموال نقدية لحساب المساهمين، فالودائع المخصصة لاستثمارات معينة توجه لتلك الاستثمارات، أما غيرها فيضم بعضه إلى بعض، ويؤخذ منه لاستثمارات المصرف. ولا يستطيع المصرف أن يعين صاحب أي مبلغ محدد موجه لمشروع معين، حيث تختلط النقود المودعة. ويتعذر التمييز. غير أنه كمضارب غير ضامن لما لديه من ودائع استثمارية، وضامن للحسابات الجارية كمقترض لها، فمتى استثمرت فالربح له، والخسارة عليه. وينظر المصرف إلى حجم المشروعات الاستثمارية، ومدة بقاء الأموال المستثمرة خارج حيازته، في ضوء النقود المودعة لديه، وأنواع الإيداعات، والنظر إلى الظروف الخاصة التي يقدرها المصرف. وتحسب الأرباح والخسائر، ويتم التوزيع بنسب يحسبها المختصون، ويقرها هيئات الرقابة الشرعية.(2/909)
وتفصيل هذا يحتاج إلى شرح يطول ذكره، ولكن الذي يعنينا هنا هو أن الغطاءات النقدية لخطابات الضمان تودع في حساب خاص، وتختلط بباقي النقود، وبذلك لا يمكن تمييزها عند قيام المصرف بعمليات الاستثمار، أي أن هذه الغطاءات يكون لها أثر في الاستثمار.
أفمن حق المصرف الاستفادة من هذه النقود؟
يمكن أن يقال: أن المصرف ضامن لهذا المال، فله حق الاستثمار: والربح له والخسارة عليه ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((الخراج بالضمان)) ويمكن -أيضا- أن يقال: ليس للمصرف حرمان صاحب المال من الاستفادة من ماله مدة سريان خطاب الضمان، فلطالب الإصدار أن يكون لنقوده ما للودائع الاستثمارية من الحقوق، ولاضمان على المصرف حينئذ.
ولعل الأولى أن يخبر المصرف طالب الإصدار، مادام كل من الأمرين يؤدى الغاية من الغطاء النقدي.
وإذا كانت المصارف الربوية تستفيد من الغطاء بطريقة غير مشروعة، فإن مثل هذا التخيير يؤدي إلى تأصيل الفوارق بينها وبين المصارف الإسلامية. وقد تحدث الفقهاء عن ضمان الكفيل لمال الكفالة إذا قبضه:
ففي أقرب المسالك "وضمانه أن اقتضاه لا أرسله به ".(2/910)
وشرح الدردير العبارة السابقة بقوله:
وضمنه الضامن أن اقتضاه من الغريم ليوصله لربه، سواء طلبه منه أو دفعه له الغريم بلا طلب، لكن على وجه البراءة منه، ولو تلف منه بغير تفريط أو قامت على هلاكه بينة.. لا أن أرسله المدين به إلى رب الدين فضاع منه، فلا ضمان حيث لم يفرط، لأنه صار أمينا بالإرسال، ومثل الإرسال لو دفعه على وجه التوكيل عنه في توصيله لربه، أو هو إرسال حكما، فلا ضمان على الضامن (1)
أما الحنفية فلم يكتفوا بالحديث عن هذا الضمان، وإنما فصلوا القول في بيان حق الكفيل في استثمار مال الكفالة، وفرقوا بين النقود وغيرها.
فأجمعوا على أن مال الكفالة متى كان نقودا، وقبضها الكفيل على وجه الاقتضاء لا الإرسال، واستثمرها وربح، فالربح حلال.
أما غير النقود فالروايات عن الإمام مختلفة، والمهم هنا بيان ما يتصل باستثمار النقود، فهو موضوع البحث. وإذا قبض الكفيل المال على وجه الإرسال، فهو أمين غير ضامن، وليس له أن يستثمر المال، فإذا استثمره خالف ما يجب فيما يعد أمانة، وأصبح كالغاصب، فإن ربح فلا يطيب له هذا الربح عند أبي حنيفة ومحمد، لأنه استفاده من أصل خبيث، وخالفهما أبو يوسف مستدلا بحديث ((الخراج بالضمان))
ولنثبت هنا بعض ما جاء في كتب الحنفية.
__________
(1) انظر الشرح الصغير بهامش بلغة السالك 20/159(2/911)
قال صاحب الهداية (6/319-321) :
" من كفل عن رجل بألف عليه بأمره فقضاه الألف قبل أن يعطيه صاحب المال فليس له أن يرجع فيها، لأنه تعلق به حق القابض على احتمال قضائه الدين، فلا تجوز المطالبة ما بقي هذا الاحتمال، كمن عجل زكاته ودفعها إلى الساعي، ولأنه ملكه بالقبض على ما نذكر بخلاف ما إذا كان الدفع على وجه الرسالة، لأنه تمحض أمانة في يده.
وإن ربح الكفيل فيه فهو له لا يتصدق به، لأنه ملكه حين قبضه: أما إذا قضى الدين فظاهر، وكذا إذا قضى المطلوب بنفسه، وثبت له حق الاسترداد، لأنه وجب له على المكفول عنه مثل ما وجب للطالب عليه، إلا أنه أخرت المطالبة إلى وقت الأداء، فنزل منزلة الدين المؤجل، ولهذا لو أبرأ الكفيل المطلوب قبل أدائه يصح، فكذا إذا قبضه يملكه إلا أن فيه نوع خبث (1) نبينه فليعمل مع الملك فيما لا يتعين "
. وقال ابن الهمام في شرح ما سبق:
(من كفل عن رجل بألف عليه بأمره فقضاه) أي قضى الرجل المكفول عنه الكفيل (الألف) التي كفل بها (قبل أن يعطيه) أي قبل أن يعطي الكفيل الألف (صاحب المال) وذكر ضمير (يعطيه) على تأويل المال أو المكفول به اللازم من قوله: كفل عن رجل، و (صاحب المال) مفعول أول (ليعطي) ، والمفعول الثاني هو ضمير المال المقدم في يعطيه (فليس له) أي ليس للرجل المكفول عنه (أن يرجع فيها) وهو للشافعي وجه آخر، وله أن يرجع، وهو قول مالك وأحمد بناء على أنه أمانة عنده ما لم يقض الأصيل، ونحن نبين أنه يملكه، وأن الأمانة ما إذا كان دفعه إلى الكفيل على وجه الرسالة إلى الطالب. (2)
__________
(1) حيث الربح في غير النقود كما سيتضح
(2) ما ذكر عند المالكية من قبل يبين أنه لا خلاف حول ضمان الكفيل إذا أخذ المال من المكفول عنه على وجه الاقتضاء لا الرسالة، فالخلاف إذن في المكفول عنه في رد المال الذي أعطاه الكفيل إذا كان الكفيل لم يعط المكفول له.(2/912)
وإذا ملكه كان الربح له (إلا) أي لكن استثناء منقطع (فيه نوع خبث) على قول أبي حنيفة (نبينه) عن قريب (فلا يعمل مع الملك فيما يتعين) وهو الألف التي قضاه إياها لأن الدراهم لا تتعين (1)
وقال البابرتى في شرح العناية على الهداية:
"إذا قبضه على وجه الرسالة فالربح لا يطيب له في قولي أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، لأنه ربح من أصل خبيث، وفى قول أبي يوسف: يطيب لأن الخراج بالضمان (2) .
وقال صاحب الدر المختار:
" وإن ربح الكفيل به طاب له لأنه نماء ملكه حيث قبضه على وجه الاقتضاء، فلو على وجه الرسالة فلا، لتمحضه أمانة، خلافا للثاني، وندب رده على الأصيل " (3)
وقال ابن عابدين:
(قوله: خلافا للثاني) : أي أبي يوسف، فعنده يطيب له، كمن غصب من إنسان وربح فيه، يتصدق بالربح عندهما لأنه استفاده من أصل خبيث، ويطيب له عنده مستدلا بحديث ((الخراج بالضمان)) .
(وقوله: وندب رده) : مرتبط بقوله بعده فيما يتعين بالتعيين، أي أن قوله: طاب له - أي الربح - إنما هو فيما لو كان المؤدى للكفيل شيئا لا يتعين بالتعيين كالدراهم والدنانير (4)
__________
(1) انظر فتح القدير 6/319-321
(2) العناية مع فتح القدير 6/378
(3) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4/278
(4) من المعلوم في عصرنا أن النقود لا تتعين بالتعيين، فمثلا من أخذ ألف ريال من أحد لإعطائها غيره فلا يشترط إعطاء الأول الأوراق ذاتها التي تسلمها وهي التي تحمل أرقام كذا هو إنما تبرأ ذمته بإعطاء ألف ريال تحمل أي أرقام. ومن اشترى سلعة معينة فليس للبائع أن يبدلها مادامت قد تعينت، أما المشتري فله أن يدفع الثمن المحدد دون تعيين أوراق نقدية بعينها: فلو اخرج مثلا عشر ورقات، كل ورقة قيمتها مائة ريال، ثم رأي أن يستبقي هذه الورقات النقدية ويعطي البائع - بدلا عنها - ورقتين من ذات الخمسمائة، فليس للبائع أن يعترض وهذا الذي نراه واضحا في عصر النقود الورقية، وهو ما أشار إليه الحنفية في عصر النقود السلعية، فالدنانير والدراهم لا تتعين بالتعيين، ومثلها الفلوس الرائجة، حيث قالوا: إنها أمثال متساوية، فلا تتعين بالتعيين، فأى فلس يقوم مقام غيره (انظر: النقود واستبدال العملات ص 73، 101) .(2/913)
فإن الخبث لا يظهر فيها، فخلاف ما يتعين كالحنطة ونحوها، بأن كفل عنه حنطة، وأداها الأصيل إلى الكفيل: وربح الكفيل فيها، فإنه يندب رد الربح إلى الأصيل. قال في النهر: وهذا هو أحد الروايات عن الإمام، وهو الأصح، وعنه أنه لا يرده، بل يطيب له، وهو قولهما، لأنه نماء ملكه، وعنه أنه يتصدق به (1) .
من هذا نرى أن الربح يطيب للكفيل إذا كان مال الكفالة نقودا، والمصرف غطاء الضمان عنده من النقود، ولكن يجب ألا يغيب عن الأذهان أن الكفيل ليس له مطالبة الأصيل قبل الأداء، على حين نجد المصرف لا يصدر خطاب الضمان إلا بعد قيام العميل -وهو المكفول عنه - بإيداع الغطاء النقدي المتفق عليه. وطبيعة المعاملات في عصرنا قد تستلزم وجود مثل هذا الغطاء، فالمصرف يدفع المبلغ المكفول كله عند أول مطالبة خلال سريان خطاب الضمان، دون التفات لما قد يبديه العميل من المعارضة. وإذا تأخر العمل في إعطاء المصرف ما أداه عنه، فإن المصرف الإسلامي لا يستطيع أن يسلك طريق الربا، ويتوقف استثمار هذه الأموال. فإذا كان من اللازم وجود مثل هذا الغطاء، فمن اللازم أيضا عدم حرمان العميل من استثمار أمواله بغير رضاه، ومن هنا جاء ترجيح القول بتخيير العميل: فأما أن يختار الاستثمار، أو إبقاء الغطاء في ضمان المصرف كما يلجأ أصحاب الحسابات الجارية.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
__________
(1) حاشية ابن عابدين "رد المحتار علي الدر المختار" 4/278-279(2/914)
الخاتمة
بعد هذا البحث يتبين أن الكفالة عقد تبرع كما ثبت بالنص والإجماع والواقع العملي للمسلمين مدة أربعة عشر قرنا من الزمان، ومعاملاتنا المعاصرة في حاجة إلى مجهود أكبر، وتفرغ أكثر من فقهاء العصر حتى يسهموا في حل مشكلاتها حلا يتلاءم مع طبيعة هذه المعاملات، دون خروج على نص ثابت، أو إجماع معتبر، أو تعارض مع مقاصد التشريع الإسلامي.
والاجتهاد الجماعى كان سنة الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمرنا بأن نعض عليها بالنواجذ، فقد كانوا يجمعون رءوس الناس وخيارهم فيستشيروهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضوا به. بل روى الدارمي في سننه بسنده عن أبي سلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمر يحدث ليس في كتاب ولا سنة فقال: " ينظر في العابدون من المؤمنين ". ويمكن لأبحاث الأفراد، وآراء الجماعات الصغيرة، أن تمهد الطريق أمام الاجتهاد الجماعي، ولعل هذا البحث يقوم بهذا الدور الممهد.
وأحب أن أشير هنا إلى اجتماع لم يضم أكثر من بضعة أفراد، كان من فقهاء الشريعة فضيلة الدكتور حسين حامد حسان، وفضيلة الدكتور يوسف القرضاوي، وكان من المسئولين عن أعمال مصرفية إسلامية السيد الأستاذ أحمد أمين فؤاد رئيس مجلس إدارة المصرف الإسلامي الدولي للاستثمار بالقاهرة، والسيد الأستاذ قاسم محمد قاسم مدير مصرف قطر الإسلامي، وغيرهما، وكان بأيدينا هذا البحث، ودار حوار حول الكفالة، بدأناه ونحن مختلفون في الرأي، واستمر الخلاف فترة ثم انتهى بحمد الله تعالى، وخرجنا بحل ارتضيناه فقها وعملا، وبيانه كما يأتي:
نظرنا في الغطاء النقدي، ورأينا أن المصارف الربوية تهدف إلى الانتفاع به عن طريق الحصول على الفوائد الربوية، أما المصارف الإسلامية فتريد الاطمئنان إلى أن ما يطلب منها للمكفول له تستطيع أداءه من الغطاء نفسه لا من أموال المودعين المستثمرين، فيقع الضرر من توقف استثمار هذه الأموال، فقلنا: " إذا كان لعميل حساب جار، أو ودائع استثمارية، فإن المصرف الإسلامي يقبل جعلها غطاء نقديا للكفالة، على أن ينص على ذلك في التعاقد، مع استمرار اشتراك ودائع العميل الاستثمارية في الأرباح ".(2/915)
وهذا كما يعطي الاطمئنان للمصرف فإنه يسمح لطالب الكفالة - إذا شاء - باستثمار أمواله دون تعطيل لها، وبالتالي يؤدى إلى قلة الكفالات غير المغطاة.
وأذكر أن قانون الكفالة في الإمارات العربية المتحدة، الذي حاول واضعوه استمداده من الفقه الإسلامي، نصت المادة " 1079 " على ما يأتي: " يجوز أن تكون الكفالة مقيدة بأداء الدين من مال المدين المودع تحت يد الكفيل، وذلك بشرط موافقة المدين ".
ودار الحديث عن الكفالة المجردة، والضمان إذا كان ضمن عقد آخر:
فمن المعلوم أن الشركات في الإسلام تقوم على المال والعمل والضمان، ومعنى ذلك أن الضمان له ما يقابله، وشركة الوجوه تنبنى أساسا علي الضمان، ويؤكد هذا المعنى الحديث الشريف ((الخراج بالضمان)) فن المتفق عليه أن الضمان غير المجرد، أي الذي يكون في عقد آخر غير عقد الكفالة، يمكن أن يكون له ما يقابله من الغنم، وقد يؤدى إلى الغر م كذلك.(2/916)
أما الضمان المجرد، وهو عقد تبرع، فلا يجوز أن يكون له أجر أو جعل، وهذا الحكم مستمد من النص، وأجمعت عليه الأمة مدة أربعة عشر قرنا من الزمان، فليس لنا أن نترك النص، ونخرج على هذا الاجماع المستقر. وهنا أثيرت نقطة لتأييد جواز الجعل مقابل المخاطرة في الكفالة، وهذا يعنى أن القول بالاجماع غير صحيح!
قال القائل: لننظر إلى ضمان السوق عند الحنابلة: فيجوز أن يجعل لشخص ما أجر مقابل تعهده بحماية ما في السوق، وضمانه له.
فكان الرد بالإشارة إلى ضمان السوق الذي سبق الحديث عنه، وهو تبرع خالص لا أجر له. أما ما ذكر هنا فهو عقد إجارة أو جعالة وليس كفالة. فالأجر أو الجعل مقابل حراسته للسوق، فهو أجير عام وليس كفيلا. فالضمان إذن جاء في عقد آخر، وهو ما تناولناه في بداية الحوار، فالإجماع إذن صحيح لم ينقض. وذكر أن المصارف الإسلامية يمكن أن تستفيد من هذا، كأن تجعل كفالتها مع اشتراكها بنسبة يتفق عليها مع العميل، ويكون الاشتراك في الغنم والغرم:
مثال هذا: أن يأتي عميل لفتح اعتماد مستندي، والغطاء جزئي، لاستيراد سلعة معينة، فيشاركه المصرف بنسبة 2 % مثلا، ويشترك معه في الكسب أو الخسارة بهذه النسبة، بدلا من أن يأخذ أجرا أو جعلا مقابل الجزء غير المغطى. فالضمان هنا ليس كفالة مجردة، وإنما أصبح داخلا في عقد شركة.(2/917)
وفى خطاب الضمان كذلك يمكن أن ينظر إلى المشروع الذي طلب له الخطاب، ويشترك المصرف بنسبة ضئيلة.
وبعد الحوار اجتمع رأينا على ما يأتي:
أولا: الكفالة المجردة لا أجر عليها، وإنما الأجر على العمل المصاحب لها. ويجوز أن يكون للضمان ما يقابله إذا دخل في عقد آخر.
ثانيا: بالنسبة للغطاء النقدى: إذا كان للعميل حساب جار، أو ودائع استثمارية، فإن المصرف الإسلامي يقبل جعلها غطاء نقديا للكفالة، على أن ينص على ذلك في التعاقد، مع استمرار اشتراك ودائع العميل الاستثماربة في الأرباح.
هذا ما انتهينا إليه، والله أعلم بالصواب. {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .(2/918)
خطاب الضمان
فضيلة الدكتور زكريا البري
الافتتاحية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبي الإسلام، المبعوث رحمة للعالمين، والذي اتاه الله الحكمة وفصل الخطاب.
والمدعو له بالرضا الالهي هم الصحابة والتابعون وتابعوهم باحسان إلى يوم الدين.
التابعون الذين تابعوا الصحابة في فهم النصوص الشرعية، وفى فقه معانيها وأحكامها وعللها وحكمها ومقاصدها، وفى معرفة أدواء الأمة الإسلامية وشعوبها، وفى وضع الدواء الدائم أو المؤقت لعلاج هذه الادواء.
وقد يكون هذا العلاج في تشريع حكم المصلحة الدائمة أو الوقتية أو في ارتكاب محظور جزئي استحسانا واستثناء من القواعد الأصلية والكلية، استنادا إلى القاعدة الشرعية الضرورات تبيح المحظورات التي تستمد شرعيتها، من قوله -جلت حكمته -: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}
كما قد يكون هذا العلاج بدواء وقتي واستثنائي، قصدا إلى رفع الحرج والعنت والمشقة، استنادا إلى قاعدة شرعية، ذكرها الفقهاء وهي الحاجات تنزل منزلة الضرورات المأخوذة من قوله - وسعت رحمته -:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} .(2/919)
وبذلك جميعه يحققون لعباد الله المصالح الضرورية، التي لا تتحقق الحياة إلا بها، والمصالح الحاجية التي ترفع عن الناس الحرج والضيق والعنت، والتي نوه القرآن الكريم بها، حيث أمتن على عباده بذلك، في قوله -سبحانه -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
يحققون جميع المصالح الاجتماعية والفردية، المصالح العامة والمصالح الخاصة، مع تقديم الأولى لأهميتها على الأخرى عند التعارض.
ويمنعون من قبل ذلك جميع المفاسد من الحياة، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإن لم يتيسر ذلك، أفتوا بارتكاب مفسدة جزئية صغرى، دفعا لمفسدة كلية كبرى أو مفاسد اجتماعية أكبر.
ولذلك يضعون دين الله وشريعته أمام الناس وإماما لهم، ويحرسون دين الله، ويسوسون به دنياهم.
ويضعون المسئولية الدينية والدنيوية في عنق أولى الأمر من الحكام ومعاونيهم، ويطالبونهم بسن التشريعات اللازمة، بتنفيذ ما ينتهي إليه الرأي عند الفقهاء، وهم أولو الأمر، وأهل الذكر، وأصحاب الاختصاص، في فهم الأحكام والحكم من النصوص الإلهية، ثم يطالبون الأمة بامتثال هذه الأحكام، استجابة وخضوعا لأمر الله - عز وجل - في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} .(2/920)
هؤلاء الفقهاء الذين يقومون بذلك الواجب الديني، من غير افتيات على النصوص بالتحربف وسوء التأويل، ومن غير افراط ولا تفريط، ولا تضييع للمصالح الدنيوية، ودون التزام بما لا يلزم من أقوال الأئمة وفقهاء السلف الصالح العظيم، وآراء المذاهب الإسلامية، التي تحمل تراثا عظيما، هو محل فخرنا واعتزازنا، ومحل اعتزاز المنصفين من غير المسلمين في داخل البلاد العربية والإسلامية وخارجها، والتي تجمع الأمة - مع ذلك - على أنها ليست دينا ملزما للأمة ولفقهائها، إلا بمقدار دليلها وصحته ومدى حجيته. ثم المرجو لحاضر الأمة ولمستقبلها هم الفقهاء المتخصصون الذين أنعم الله عليهم بفقه النفس، وسلامة الحس وأمانة الضمير الديني، في كل مصر، وفى كل عصر.
أولئك الذين يستطيعون بالشرع وما فيه من نور الهي، وحكمة نبوية، ويفهمونه بعقل سليم واع، جامعين بين صريح المنقول، وصحيح المعقول بين النوريين (نور علي نور) .
أولئك الذين لا يقلدون غربا ولا شرقا، وإنما يتجهون إلى الحكمة، وهى ضالة المؤمن " وهو أحق بها أن وجدها.
هؤلاء الذين يستفيدون بالعرف السليم الصالح والمصلح، هذا العرف الذي قد يتغير بتغير الزمان أو المكان، والذين يقاومون الأعراف الفاسدة، والمفسدة مهما كثر أتباعها عن جهل أو تقليد.
ومن جهل زمانه وأحواله فقد جهل، ثم قاموا بذلك خلفا بعد سلف، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.(2/921)
التمهيد:
أما قبل، فاني أقدم وأمهد لرأيي بهذه المقدمة الأصولية والفقهية، المشتملة على القواعد التالية: أولا - الأصل في الأشياء - ومنها العقود والشروط والتصرفات - هو الإباحة والجواز والصحة، ولا يحرم منها إلا ما يقوم الدليل الخاص على تحريمه (1)
هذه القاعدة وهذا الأصل الذي ذهب إليه بعض الأصوليين والفقهاء المحققين، والذي انطلق منه الإمام العظيم، والفقية الحنبلي المجتهد: ابن تيمية، إلى حرية التعاقد والاشتراط، مستندا في دعم رأيه، الذي رفع به الحرج عن المسلمين، وبصفة خاصة في العصر الحاضر، الذي استحدثت فيه الحياة عقودا وشروطا غير مسبوقة: إلى ما يأتي:
(أ) ما جاء في القرآن الكربم من الأمر بالوفاء بالعقود بصفة عامة، ومن ذلك قوله -جل ثناؤه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . وقوله -جلت حكتمه -: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} . وقول - سبحانه -: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}
فكل عقد أو شرط في عقد، ورد به نص أو لم يرد، هو التزام وعهد من العاقدين يجب الوفاء به.
__________
(1) وقد أخذ بهذه القاعدة فقهاء المؤتمر الأول للمصارف الإسلامية والذي انعقد في البنك الإسلامي بدبي، ثم في المؤتمر الثاني لهذه المصارف، والذي انعقد في بيت التمويل الكويتي بالكويت، ثم في ندوة البركة التي انعقدت في المدينة المنورة.(2/922)
والقول بعدم جوازه وعدم صحته من غير دليل مخالفة لهذه الآيات القرآنية العامة.
(ب) ما جاء في السنة النبوية الصحيحة، من الأمر بالوفاء بالوعد وبالعهد، والتحذير من العذر، مثل قوله - عليه الصلاة والسلام -: "أربع خلال من كن فيه كان منافقا خالصا، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها".
ولو كان الأصل في العقود والشروط الحظر والمنع، إلا إذا قام الدليل الخاص على الحل، لم يذم الرسول إخلاف الوعد بهذا الإطلاق، ولم يذم الغدر بنقض العهد بصفة عامة، كما جاء في الحديث.
(ج) أن التعاقد والاشتراط فيه مباح بحسب الأصل، والمباح إذا أوجبه الشخص على نفسه لغيره، صار واجبا عليه، لتعلق حق الغير به.
(د) أن العقود والشروط من الأفعال والمعاملات العادية، وليست من العبادات التي لا تجوز ولا تصح إلا بالتلقي عن الله جل جلاله.
والله -سبحانه وتعالى- يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وهذا التفصيل يعم الأفعال والتصرفات، فإذا لم يكن العقد أو الشرط حراما بتحريم الشارع، فإنه لا يكون باطلا، لأن البطلان إنما يترتب على التحريم.(2/923)
(هـ) أن الأصل في العقود والشروط قيامها على التراض بين العاقدين، وتترتب آثارها عليها تبعا لهذا التراضي.
وفى ذلك يقول الله - تعالى -: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، ويقول في المهر: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} .
فقد أحلت الآيتان الأموال فيهما بناء على الرضا في الآية الأولى، وطيب النفس في الآية الثانية، ما لم يكن هناك دليل خاص لتحريم عقد خاص أو شرط خاص.
(و) أن العقود والشروط التي تتم بين الناس أمور مقصورة لهم، يرون فيها مصلحتهم التي لا تلحق الضرر بغيرهم، ولولا حاجتهم إليها ما عقدوها ولا اشترطوها. (1) .
فيجب رفع الحرج والضيق والعنت عن الناس بتجويزها وتصحيحها وترتيب الآثار عليها ومنع عقد أو شروط من غير دليل شرعي- مع هذه المصلحة وتلك الحاجة للمتعاقدين- يؤدي إلى الحرج والضيق والعنت، الذي رفعه الشارع الإسلامي، في مثل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} أي ما جعل وما شرع ما يحرج عباده كما جاء في الآية الأولى، يريد أن يجعل فيشرع باسمه سبحانه ما يحرج عباده وهو العليم الحكيم، الرؤف الرحيم. (ز) أن العقود والشروط المقترنة والمرتبطة بها لا يخلو حكمها من أحد أحكام ثلاثة:
- ألا تحل إلا بدليل خاص من كتاب أو سنة أو دليل يستند إليهما، فإذا حلت بهذه الصورة وجب الوفاء بها.
__________
(1) وإذا كان المذهب الحنبلي-كما يعبر عنه ابن تيمية- قد قرر من أول النظر الفقهي حرية العاقدين في التعاقد والاشتراط، فان المذهب الحنفي ينتهي إلى نحو ذلك عن طريق العرف، حيث أجاز كل شرط يجرى به العرف المحقق لمصالحهم(2/924)
- أو لا تحل إلا بدليل عام.
- أو أن تحل من غير دليل عام ولا خاص، مادام لم يوجد دليل على التحريم
والفرض الأول غير صحيح، لإ جماع المسلمين في العصر الأول على وجوب الوفاء بالعقود التي عقدت في الجاهلية، مادامت لا تشتمل على أمر منهي عنه، فإذا اشتملت على أمر منهي عنه، صح منها ما لم يرد نهي عنه.
والفرض الأول غير صحيح، لا جماع المسلمين في العصر الأول على وجوب الوفاء بالعقود التي عقدت في الجاهلية، مادامت لا تشتمل على أمر منهي عنه، فإذا اشتملت على أمر منهي عنه، صح منها ما لم يرد نهي عنه.
فقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم المال الثابت في العقود الربوية، وأبطل شرط الربا في هذه العقود، وقال: ((ربا الجاهلية موضوع)) أي أسقطه وألغاه المشرع الإسلامي.
أما الغرض الثاني فإنه يشهد للحل، ويترتب عليه الوفاء بكل عقد أو شرط غير منهي عنه بدليل خاص، للأمر العام بالوفاء بالعقود.
وكذلك الغرض الثالث يشهد للحل.,هذا ما نراه(2/925)
ثم أما بعد.
فإنه لا يوجد في أخذ الأجر على هذا الضمان المصرفي لتنفيذ أعمال مشروعة، نص محرم من كتاب أو سنة، ولا دليل محرم.
فلا يوجد له نظير يقاس عليه في التحريم، لاشتراكهما في علته.
ثم لا يوجد عرف صحيح يحرمه ويمنعه، ولا توجد فيه مفسدة، كما لا توجد مصلحة في تحريمه، بل أن المصلحة في إباحته وحله وصحيته، وفي إلزام المضمون به (1) .
__________
(1) وفي مثله يقول ابن القيم في أعلام الموقعين ج 2: "في المضاربة بالدين قولان في مذهب الإمام أحمد: أحدهما الجواز، وهو الراجح في الدليل، وليس في الأدلة الشرعية ما يمنع جواز ذلك، ولا يقتضى تجويزه مخالفة قاعدة من قواعد الشرع ولا وقوعًا في محظور من ربا ولا قمار ولا بيع غرر ولا مفسدة في ذلك بوجه ما أفلا يليق بمحاسن الشريعة المنع منه، وتجويزه من محاسنها ومقتضاها"(2/926)
وإذا قيل: أن البعض كتب المذاهب الفقهية قد صرحت بتحريمه، فإنى أقول: أن الدليل الذي استندوا إليه هو أن الضمان لم يشرع إلا على سبيل التبرع، وهو صورة من صور المصادرة، لأن نفس الدعوى هي نفس الدليل، كأنهم يقولون: أن أخذ الأجر غير مشروع، لأنه غير مشروع. (1)
وإذا قيل: أن الإمام ابن تيمية الذي ذهب إلى أن الأصل في العقود والشروط هو الإباحة والحل، قد ذهب إلى عدم جواز أخذ الأجر على الضمان، قلت: إني مع قاعدته العظيمة، لقيام الأدلة عليها، ولست معه في عدم جواز أخذ الأجر على الضمان، إذا كان رأيه بالمنع يشمل الضمان المصرفي التجاري، للأسباب التي بينتها وأبينها.
والظاهر أن هذه الفتوى المروية عنه لا تشمل الكفالات بهذه الصورة التجارية الجديدة التي تعاملت بها المصارف العامة، وتتعامل بها بعض المصارف الإسلامية.
__________
(1) يقول الحطاب: "ولا خلاف في منع ضمان بجعل، لأن الشرع جعل الضمان والقرض والجاه لا يفعل إلا لله بغير عوض، فأخذ العوض عليه سحت" انظر مواهب الجليل لشرح مختصر خليل ج 4 ص 242 أما ما ذكره ابن عابدين من أن الكفيل مقرض، فإذا شرط له الجعل على كفالته، فمعنى ذلك اشتراط الزيادة على مقدار القرض، فيكون باطلًا، لأنه ربا (انظر منحة الخالق على البحر الرانق ج 6 ص 342) فإن هذا التعليل مقبول في ضمان القرض، أما في ضمان العطاءات فلا "وانظر فتاوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامى السوداني" حيث انتهت إلى المنع.(2/927)
فقد كانت الكفالة في العصور الماضية تتم ضمانا لمحتاج يستدين، وقد لا يجد من يسلفه إلا بضمان من ملىء، لضعف ذمة المستدين المالية، ونحو ذلك فيضمنه الغني، تفريجا لكربه، ورجاء لثواب الآخرة.
وفي مثل هذا يقول الرسول الرحيم: ((من فرج عن مؤمن كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) ،أما الآن فإن هذه الضمانات تتم لشركات مالية كبرى، ولتجار أغنياء، ولابد في قبول العطاءات من هذه الشركات وهؤلاء الأغنياء من تقديم الضمان المصرفي.
وهذه العطاءات التي تقدمها الشركات والتجار للالتزام بأعمال معينة، يتوقف قبولها-كما قلنا- على هذه الضمانات، وهذه الأعمال تتوقف عليها تنمية المجتمع تنمية اقتصادية واجتماعية وعسكرية، بل أن البنية الأساسية للمجتمع من طرقات مواصلات ومرافق مياه وصرف صحي وكهربة تتصدر هذه الأعمال.
وامتناع المصارف الإسلامية عن القيام بهذه الضمانات، لأنها لا تستفيد منها ماليًا وتجاريًا، يؤدي إلى لجوء المحتاجين إليها إلى البنوك الربوية في الحصول على هذه الضمانات، وفي ذلك دعم كبير لها، يجر المحتاجين إليها إلى التعامل معها في هذه الضمانات ثم في غيرها.
فإذا سادت المصارف الإسلامية –وهذا هدف أساسي- استحال على هذه المصارف القيام بهذه الضمانات، مادام أخذ الأجر غير مشروع، لأنها إما أن تقوم بها مجانًا، وفي ذلك تعريض أموال المؤسسين والمسهمين فيها للضياع، من غير فائدة تعود عليهم وإما أن تقوم بها بأجر، ولا يرى الفقهاء جواز ذلك.(2/928)
ويتعين –بناء على ذلك- القيام بهذه الضمانات، وأخذ المناسب عليها، من غير وكس ولا شطط ومغالاة، وفي ذلك كشف لمغالاة البنوك الربوية، يدعو إلى الإحجام عن التعامل معها في هذه الضمانات ثم في غيرها، وفيه من المصلحة ما فيه.
ولقد أفتى المتقدمون من فقهاء بعض المذاهب بعدم جواز أخذ الأجر على تحفيظ القرآن الكريم، وإمامة الصلاة، بناء على أنهما يدخلان في العبادات والطاعات، التي لا يجوز أخذ الأجر المادي عليها في الدنيا، والتي يستحق فاعلها الجزاء والثواب الأوفى في الآخرة، والآخرة خير وأبقى.
وقد جرى المجتمع الإسلامي على ذلك حينا من الدهر، ثم اقتضت التطورات الاجتماعية تخصيص مسلم مؤهل للقيام بهذه الأعمال، بحيث يتفرغ التفرغ اللازم والمناسب لها.(2/929)
ووجد المتأخرون زمانًا من فقهاء هذه المذاهب، أن القول بعدم جواز أخذ الأجر في ذلك وفي أمثاله، يؤدي إلى ضياع حفظ القرآن حفظًا سليمًا، وإلى ترك إمامة الصلاة لمن لا يحسنها، نظرًا لعدم التفرغ لهذه الأعمال الدينية، اشتغالًا بكسب العيش، وأفتوا بأخذ الأجر.
وعلى ذلك جرى ويجري العمل الآن في جميع البلاد الإسلامية.
- وإذا كان مقتضى هذا الضمان المصرفي إلزام المصرف بالمغارم التي تترتب على هذا الضمان، تنفيذًا لالتزامه، فلم لا يكون له غنم من المضمون، يؤديه للمصرف الضامن، نتيجة الاتفاق والرضا به.
ومن القواعد الفقهية العادلة أن الغرم بالغنم، جرى عليها التعليل الفقهي في مثل وجوب نفقة الفقير العاجز على قريبه الغني الموسر، مغرما في حالة فقر القريب، مقابلة للمغتنم بميراثه في حالة يساره.
- وإذا كان الأصل منع الأجر عند بعض الفقهاء، فلم لا يجوز أخذه استحسانًا واستثناء من القواعد الأصلية، استنادًا إلى المصلحة العامة والخاصة.
وإذا قيل: أن في إمكان الضامن "المصرف "والمضمون أن يشتركا في نفس العمل الذي يضمنه المصرف، قلت: أن هذا ممكن إذا رأي الطرفان مصلحتهما فيه.(2/930)
ولكن قد يريان أو يرى أحدهما أن المصلحة في انفراد المصرف بالضمان واستحقاق الأجر عليه، وانفراد المضمون بنتيجة العمل ربحًا أو خسرًا.
- كما أن المجتمع الإسلامي كان يجرى على أن الوكالة عن الغير في عمل من الأعمال تكون مجانًا، وخدمة اجتماعية، ثم تطورت الأحوال تطورًا حضاريًا، ووجد المتخصصون الذين لا يقبلون الوكالة إلا بالأجر، كما في توكيل المحامي، وتوكيل السمسار، وكل منهما يتفرغ لهذا العمل، ويكسب قوته من هذا الأجر.
وأختم كلمتي بأن الأساتذة الأجلاء أعضاء المجمع الرائد يعلمون أنه يستوي في الأثم تحريم الحلال، وتحليل الحرام من غير دليل. والله سبحانه وتعالى يقول {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وأقول: هذا رأيى الذي أعرضه على حضراتكم، فإن يكن صوابًا فمن الله، وبتوفيقه، وأن يكن خطأ، فمنى، ومن الشيطان، وأستغفر الله، وأتوب إليه، وأول درجات التوبة رجوعي عنه. والمجتهد يخطئ ويصيب.
ولعل الرأي الذي ينتهي إليه المجمع بالإجماع أو بالأكثرية يصلني مع أدلته ومناقشاته، والله ولي التوفيق.(2/931)
خطاب الضمَان
فضيلة الدكتور عَبد الستار أبو غدة
خطاب الضمان من أهم أساليب التعامل المصرفي بالرغم من أنه وسيلة ائتمان وليس نشاطًا استثماريًا مباشرًا، لأنه من الدعائم الأساسية للاستثمار، وإذا كان أحد الخدمات المصرفية فإن العنصر الغالب في ماهيته الائتمان، وليس أداء المنفعة.
والائتمان الذي في خطاب الضمان هو بالقوة (الاستعداد) دائمًا، وبالفعل (التنفيذ) مآلًا في بعض الحالات.
ولا داعي للإطالة في تعاريفه وتصويراته المختلفة فإنه مما اشتهر أمره بالتعامل فيه بين المصارف والمتعاملين معها، وبين الجهات الحكومية والمسهمين في مشاريعها، وقد أصبح أحد النماذج التي لا يخلو عنها أي مصرف أو جهة حكومية للإنشاءات أو المشاريع. وتلك النماذج المعدة كلها ينطبق عليها المفهوم العام لخطاب الضمان فنيًا، وهو: أنه صك يتعهد بمقتضى البنك المصدر له بأن يدفع مبلغًا معينًا لحساب طرف ثالث لفرد معين ولا يخفي أن اشتمال هذا التعريف على كلمة (صك) سببه وجود كلمة (خطاب) في المعرف ولولا ذلك لما كان سائرًا في الاصطلاح الشرعي لما هو معروف في القواعد المقررة في الفقه من أن العقود تتم بالإيجاب والقبول مشافهة، ليست الكتابة إلا وسيلة أخرى للتعبير عن اتفاق الارداتين، فضلًا عن دورها المتميز عن العبارة في التوثيق وتوفير المستند.(2/932)
وللقانون في هذا منحى آخر من حيث الإثبات عند التنازع دائمًا ومن حيث مقومات إنشاء الالتزام أحيانًا، وخطابات الضمان قد تشكل معاملة مصرفية مستقلة، وقد تأتي ضمن عمليات أخرى ذات بال، فيسهل على المصرف النظر إليه على أنه خدمة مصرفية ذات أجر محدد يقابل الجهد التالي: (النفقات الإدارية) وأحيانًا لا يقابله شيء من العوض لأن النشاط الأصلي المقصود من التعامل يستحوذ على الاهتمام ويجر ربحًا وفيرًا، فيكون (كل الصيد في جوف الفراء) .. وليس هذا النوع محل إشكال –لأنه يقع كفالة على بابها وضمانًا على جادته المعروفة من حيث الخلو عن عوض لقاء شغل ذمة الضمان بطلب المدين لصالح الدائن.. وهو عماد الكفالة أو الضمان.
وقد سلكت هذا السبيل معظم المصارف الإسلامية في عمليات الاعتماد المستندي فرتبت الأجر على الأسلوب من حيث هو، واكتفت بذلك عن إفراد الضمان بالذكر لكن الذي يحتاج إلى الدراسة والبحث هو خطاب الضمان المستقل، وقد كان من المحتمل أن يصار إلى الأسلوب نفسه في خطاب الضمان بالتركيز على الجوانب الأخرى غير الكفالة لولا أننى استعرضت معظم النماذج المستعملة في المصارف فإذا بها تخلو من أي عمل محدد ينتفع به طالب خطاب الضمان لكي يكون محلًا للمعاوضة عليه بل أن الأعمال التي تستتبع أو تسبق إصدار خطاب الضمان هي في الغالب لصالح الضامن، وإذا تسامحنا وقلنا إنها – من حيث المآل- لمصلحة الطرفين، فينبغي أن تحدد بدقة ويدفع قيمتها المنتفع بها دون أن يعود ذلك بنفع زائد للضامن لقاء الضمان.(2/933)
تكييف خطاب الضمان:
إن خطاب الضمان هو (كفالة محضة) ، وذلك في الصورة العامة له سواء أكان بأمر المكفول أو بدون أمره، على أنه إذا كان هناك غطاء للضمان مقدم من طالب الضمان، فإنه تنشأ علاقة أخرى بين الطالب للضمان وبين مصدره فقط، وهي علاقة (وكالة) بالدفع عند وجود ما يقتضيه وهو المطالبة بالالتزام. وليس بمستغرب تباين العلاقة والتكييف من وجهات مختلفة، فكثير من العقود تأخذ طبيعة من حيث اللزوم أو عدمه، أو تأخذ عدة اعتبارات من حيث نوع التكييف، تبعًا لطرف دون آخر.
ففي الكفالة المدفوع إلى الكفيل بدلها يجوز تخصيص أجر له من طالب الضمان (الكفول) انطلاقًا من تكييف علاقتهما بالوكالة –للاستغناء هنا عن الرجوع بما أدى الكفالة – فلم يبق إلا نهوض قابض المبلغ بأدائه عند الحاجة وهو عمل يصح أن يكون محلًا للتوكيل، والوكالة مشروعة بأجر وبدونه. أما العلاقة بين الكفيل (مصدر خطاب الضمان) وبين المكفول له (المستفيد) فهي كفالة. انسجامًا من شغل الذمة لصالح ذلك المستفيد.
أما في هذه الصورة الخاصة فالكفالة هي حقيقة خطاب الضمان سواء كانت بطلب الأمر بالكفالة أم بغير طلب. ولابد هنا من مناقشة الدعوى بأن الكفالة بالأمر هي وكالة، بحجة أن الكفيل ينفذ ما أمر به من الأداء (ولو لم يكن قد قبض مقابله..) فهو يؤدى عملًا.. وهي دعوى غريبة عن منطق الفقه، لأنها تعمد إلى تفريغ الكفالة من جميع تطبيقاتها أو معظمها، لأن معظم الكفالات تتم بالأمر، بالاحتفاظ بحق الرجوع عند من يشترط وجود الأمر لوجود حق الرجوع. وفات أصحاب هذه الدعوى أن الكفالة لها حقيقة شرعية تميزها عن الوكالة، وهي شغل الذمة، والوكالة بالأمر فيها شغل واضح للذمة أما الوكالة بالأداء فهي التزام بين المدين ووكيله وليس شغلًا للذمة تجاه الدائن إلا إذا وجد التصريح بالكفالة أو الضمان، حيث يصبح للدائن محلأن لدينه هما ذمة المكفول (المدين) وذمة الكفيل.
وقد جاء في كلام بعض الفقهاء من الذين يرون أن الأصل في الكفالة الرجوع بما أداه الكفيل – (كابن قدامة المغنى) تشبيه الكفالة بالوكالة لأن الكفالة تتضمن إقرارًا بالأداء فتستتبع حق الرجوع، وهذا ما تعلق به بعض الكتاب لتأييد هذه الدعوى الغريبة التي تجعل الكفالة خالية من المضمون بإدراج معظم تطبيقاتها في الوكالة (بالنسبة لجميع الأطراف) مع أن الغرض من هذا التشبيه (والتشبيه غير الحقيقة) هو اشتمال طلب الكفالة على طلب الأداء ومن ثم على الاستعداد للأداء للكفيل.(2/934)
ولو فتحنا الباب لهاذ التعلق الضعيف لأدنى ملابسة لأضعنا التميز القائم بين العقود المسماة، فنطلق على البيع أنه إجارة لأن فيه بيعًا للمنفعة باعتبار أنه بيع للذات (وهي العين والمنفعة معًا) وهكذا..
فخطاب الضمان كفالة، والكفالة بنوعيها: التي فيها أمر بالأداء أو ليس فيه، هي غير الوكالة، فلابد إذا من النظر في المسألة مباشرة: الأجر على الكفالة وقد تواردت مذاهب الفقهاء وعبارات المؤلفين على أن الكفالة والضمان من التبرعات التي لا يجوز الأجر عليها. ولا يخفي أن هذا الحكم منسجم مع (قواعد الشريعة العامة) التي يرسيها الفقهاء من استقراء النصوص وملاحظة ما ورد عن الشرع من أحكام وما قيس على نصوصه من تطبيقات. وليست هذه المسألة هي الوحيدة التي تتلقى عن الفقهاء بالقبول لإطباقهم عليها ويقال: أين الدليل الخاص المباشر عليها، ومع هذا فقد نوه بعض الفقهاء بمستندهم في منع الأجر على الضمان – كابن قدامة - وابن عابدين –حيث بينا أن الكفالة تؤول إلى الإقراض، وإذا كان الإقراض الفعلي غير مأذون من الشرع بالأجر عليه، فالاستعداد للإقراض (وقد لا يحصل الإقراض أن أدى المكفول نفسه) أولى وأجدر بمنع جواز الأجر عليه، لأن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات.
أما ما قيل بأن الكفالة كانت عملًا نادرًا وليس لها من يتفرغ لمزاولتها والحال تغير حيث أصبحت وجهًا من وجوه الكسب الذي يتوقف عليه التعامل، فهذا من قبيل إدارة الحكم الشرعي على التصرف الواقعي، مع أن الواجب دوران التصرف طبقًا للحكم، إذ يصبح الموزون ميزانًا، وهو من قلب الحقائق.(2/935)
وما قيل من تجويز الأجر على الكفالة قياسًا على ما انتهي إليه الأمر في كثير من الواجبات التي كانت تطوعية ثم صارت مأجورة، فالجواب أن تلك الأمور واجبة، والكفالات ليست إلا من قبيل المباحات، فالقياس ليس على وجهة ثم أن تلك الأعمال هي في الأصل من فرائض الكفاية، والأصل فيها التطوع تحصيلًا من القائم بها للأجر، ورفعًا للوزر عن غيره من المسلمين.. وقد صرح كثير من الفقهاء بأن ما يعطى عن هذه الأعمال الواجبة للقائمين بها إنما هو عطاء ورزق لهم من بيت المال وأنهم يعطون الكفاية شأن العطاء من بيت المال لمن يعمل عملًا يعود نفعه على جميع المسلمين فهو ليس أجرًا وإنما شبه بالأجر لما بينه وبين العمل من التقابل واضطراد الوجود والعدم.
واخيرًا، فإن ما قيل من تخريج أجر خطاب الضمان على أنه جعالة على عمل، أو عقد وجاهة، أو نحو ذلك من الصيغ التي يراد بها إخراجه في صورة (معارضة) بين الأجر وبين عمل آخر غير الكفالة، وهذا دليل على اعتراف من يلجأ لذلك بأن الكفالة ليست محلًا للاعتياض عنها بمال.. وهذا مسلم، أما الادعاء بأن خطاب الضمان هو جعالة أو وجاهة فهو مردود، لأنه يخليه من مضمونه وهو الكفالة (شغل ذمتين بالالتزام) فالوجاهة ليس فيها شغل ذمة وكذلك الجعالة بل هي من قبيل الالتزامات التي تنحل إلى عمل له مقابل.(2/936)
وقد عرف بهذا جواب الإيرادات القائمة على إدعاء خلو الموضوع من نص فإن فيه روح النص والمناط الذي لأجله حرم الله عز وجل وحرم رسوله تقاضي الأجر على القرض بالفعل، فإن من مقتضاه تحريم تقاضي الأجر بالقوة (مجرد الاستعداد..) وأما القول بأنه لا مفسدة في أخذ الأجر على الكفالة أو الضمان فلا يسلم لقائله، فإن فيه من المفاسد ما هو شبيه بمفاسد التكسب بالأجر على القرض (الربا) ، وهو أيضا يعطل معنى الثقة والتكافل بين المسلمين وتقوية الروابط بينهم في التعامل المالي وما يستتبع ذلك الحرص على التعارف والتآلف والبذل وتشجيع حرص الناس على التحلي بالمروءة وحسن السمعة ليبادر الناس إلى كفالتهم، وبالمقابل التحلي (أيضًا) بالشهامة للمبادرة إلى القيام بالكفالة.
والخلاصة أن هناك ثلاثة أساليب هي غريبة عن الشريعة ومجافية للنظام الاقتصادي الإسلامي، وإن كانت تتفاوت في وضوح بعدها ونبوها عن منطق الفقه الإسلامي، وفي آثارها الخطرة على مجتمع المسلمين وهي:
- الفوائد الربوية، باعتبارها أجرًا (الفعلى) .
- أجور خطابات الضمان، باعتبارها أجرًا للاستعداد للقرض (عند المطالبة بحق الكفالة) .
- أقساط التأمين التجاري التبادلي، باعتبارها أجرًا على ضمان وكفالة من نوع خاص وهي كفالة تبرعية بدون رجوع لما يقع مع التزامات في المستقبل (ضمان الدرك) .
وجدير بالتعامل المشروع الواجب بين المسلمين، أفرادًا ومصارف تطهير أموالهم من هذا الثالوث، وتنقية مجتمعه من مفاسده الظاهرة والخفية.(2/937)
آراء حَول خطاب الضمَان
فضيلة الشيخ محمد على التسخيرى
ما كتبه الشهيد الصدر حول خطابات الضمان
هو تعهد من البنك بقبول دفع مبلغ معين لدى الطلب إلى المستفيد من ذلك الخطاب نيابة عن طالب الضمان عند عدم قيام الطالب بالتزامات معينة قبل المستفيد. وهي ابتدائية ونهائية.
وأما الابتدائية: فهي تعهدات توجه للمستفيد من هيئة حكومية أو غيرها لضمان دفع مبلغ من قيمة العملية التي يتنافس فيها طالب الضمان ويستحق الدفع عند قيام الطالب باتخاذ ما يلزم عند رسو العملية عليه.
وأما النهائية: فهي تعهدات لضمان دفع مبلغ يعادل نسبة أكثر من قيمة العملية المستقرة على عهدة العمل، ويستحق الدفع عند تخلف العميل عن الوفاء بما عليه في العقد النهائى بين العميل والمستفيد.
وهي تستعمل لطمأنة المستفيد.
وتتم الطمأنة تارة بدفع مبلغ من النقود لتصبح من حق المستفيد أن لم يلتزم الشخص بما رست عليه العملية.
وأخرى بخطاب الضمان.
أما خطابات الضمان الابتدائية: يكون هناك عقد بين المستفيد والعميل مشروط بتملك المستفيد نسبة معينة من قيمة العملية عند تخلف العميل وهو شرط ملزم عندما يقع في عقد صحيح كالإيجار ويعتبر خطاب الضمان تعهدًا بوفاء المقاول بالشرط تمامًا كتعهد الدين من قبل ثالث وحينئذ يرجع المستفيد على البنك إذا لم ينفذ الشرط ويضمن المقاول المبلغ الذي خسره البنك لذلك فله مطالبته، وللبنك أخذ عمولة على هذا التعهد وهو عمل محترم يمكن فرض جعالة أو عمولة عليه من قبل الشخص.(2/938)
حكم الخطاب الابتدائي:
هذا الخطاب يجوز للبنك إصداره إلا أنه غير ملزم لعدم وجود عقد يشترط فيه شيء ليمكن ضمانه فالشروط الابتدائية غير ملزمة عند الكثيرين وهناك من ألزم بها.
تعميق البحث في خطابات الضمان النهائية:
العقد بين المستفيد والمقاول مع شرط دفع مقدار عند التخلف صحيح إذا لم يؤد التخلف إلى بطلان أصل العقد.
ويتصور الشرط بأحد أنحاء: -
1- أن يكون بنحو شرط النتيجة فتشترط الجهة أن تكون مالكة للمبلغ في ذمته عند التخلف.
2- أن يكون بنحو شرط الفعل فتشترط الجهة أن تملك المبلغ.
3- أن يكون بنحو شرط الفعل فتشترط الجهة أن يملكها ذلك.
والثمرة بين الثاني والثالث تظهر في أي مكان قيام شخص آخر دون أمر أو توكيل بذلك. والشرط في الثاني مقدور لأنه يعنى الجامع بين فعله وفعل غيره.(2/939)
أما الصورة الأولى فلا تصح لأن اشتغال ذمة المقاول بذلك ليس في نفسه من المضامين المعاملية المشروعة.
فإذا قيل نثبت مشروعيته بدليل (المؤمنون عند شروطهم) .
يقال: إنه لا يشرع أصل المضمون في الشرط وإنما هو يتكفل صلاحية لأن تتشابه المضامين التي هي مشروعة في نفسها.
وأما النحوان الآخران فهما معقولان:
وحينئذ فما حكم خطابات الضمان؟
هذه الخطابات يمكن تخريجها على أساس الضمان- كما يقول السيد الصدر. ولا يقصد هنا الضمان بالمعنى المشهور في الفقه الامامي لأنه ينتج نقل ذمة إلى ذمة لا ضم ذمة إلى جانب أخرى والبنك لا يقصد نقل الدين إلى ذمته عند قبوله للكمبيالة أو في حالتنا هذه ولا نقصد ضم ذمة إلى ذمة ليكون باطلًا وإنما نقصد التعهد بأن الدين سيؤدي فهو ضمان الداء.(2/940)
ولا يتوهم أنه يرجع إلى ضم ذمة إلى ذمة فإن هذا يعني كون الشخصيتين المدين والضامن مسؤولين عن المبلغ وكلتا المسؤولتين منصبتان على المبلغ المحدد، ولكن في ضمان الأداء ذمة المدين هي المسؤولة والضامن مسؤول عن الأداء وخروج المدين من عهدة مسؤوليته فليس للدائن أن يرجع ابتداء إلى الضامن وإنما يرجع إليه عند امتناع المدين ولما كان الأداء بنفسه ذا قيمة مالية تلفت على الدائن فيصبح مضمونًا على من كان متعهدًا به ونستغل ذمة الضامن حينئذ بقيمة الأداء وهي قيمة الدين وهذا المعنى للضمان صحيح شرعًا بحكم الارتكاز العقلاني أولًا.
وبالتمسك بعموم {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ثانيًا بشرط أن نثبت عقيدته عند العقلاء أي كون إيجاده متوقعًا على التزام الطرفين وتتم معرفة ذلك بملاحظة أنه هل جعلت تحت سلطان شخص واحد أو شخصين.
وهنا قد يدعى الضمان بهذا المعنى ليس عقدًا باعتبار أنه لا يحتاج في قباله إلى التزام أكثر من التزام الضامن وليس فيه تصرفًا في شؤون المضمون له.
ولكن يجاب بأن ملاك العقيدة لا ينحصر بكونه تصرفًا في ذينك الشخصين بل قد يكون تصرفًا في إحداهما ولكنه يبقى تحت سلطان الشخصين كما في الهبة.
ولا يمكن الاستدلال بالروايات التي تبطل الضمان بمعنى نقل الدين من ذمة إلى ذمة ضد هذا الضمان لأنه هنا ضمان أداء.
فلنرجع إذن إلى خطاب الضمان النهائى. وهو يشبه ضمان الدين غاية الأمر التعهد هنا بالقيام بالشرط.(2/941)
أما كيف يقتضى استحقاق المطالبة من البنك؟ فهذا يبين بوجهين:
الأول: أن هذا التعهد يجعل أداء الشرط في عهدة البنك على حد كون العين المغصوبة في عهدة الغاصب وإن كان وقوعها في عهدته قهرية ووقوع التعهد في عهدة البنك بسبب العقد وإذا فقدت العين المغصوبة اشتغلت الذمة بالقيمة فإذا تلف أداء الشرط تحولت العهدة الجعلية إلى اشتغال الذمة بقيمة فعل الشرط وهي لازم ذلك.
الثانى: أن يقال أن العهدة الجعلية (المعنى الثالث للضمان) هي عبارة عن تحمل تدارك الشيء بقيمته إذا تلف.
وحينئذ يكون اشتغال الذمة بالقيمة عند التلف هو مدلول هذا التعهد ابتداء.
والفرق أنه على هذا الوجه ليس للمستفيد مطالبة البنك بإقناع المقاول بالأداء وإنما له تغريم البنك وأما على الوجه الأول فله ذلك.
وقد حاول بعض الأعلام إرجاع هذه الخطابات للكفالة ولكنها لا تؤدى إلى رفع القيمة.
ونحن لا داعي لنا في ذلك بعد أن أثبتنا هذا الضمان بالمعنى الثالث وهو بالدقة نظير ضمان الأعيان المغصوبة وهو ما قاله بصحته كثير من الفقهاء (1) فإنها ليست نظير النقل من ذمة إلى ذمة فلا تشتغل الذمة ما دامت العين موجودة وإنما هو تعهد بالأداء وتشتغل الذمة عند التلف.
الإمام يقول في مسألة الكمبيالة: مسالة 3 ص 744 من تحرير الوسيلة بعد ما كان المتعارف في عمل البنوك ونحوها الرجوع إلى بائع الكمبيالة وإلى كل من كان توقيعه عليها لدى عدم أداء دافعها لأجل القوانين الجارية عرفًا وكان هذا أمرًا معهودًا عند جميعهم كان ذلك التزامًا ضمنيًا منهم بعهدة الأداء عند المطالبة وهذا أيضا شرط من ضمن القرار وهو لازم المراعاة نعم مع عدم العلم بذلك وعدم معهوديته لم يكن قرارًا ولم يلزم بشيء.
__________
(1) لم يرضه الإمام (تحرير الوسيلة، ج2، ص 29)(2/942)
ويقول أيضا عن خطاب الضمان ص 744: من أعمال البنوك ونحوها الكفالة بأن يتعهد شخص لآخر بالقيام بعمل كبناء قنطرة مثلًا، ويتعهد البنك وغيره للمتعهد له بكفالة الطرف، أي المتعهد، وضمانه بأن يدفع عنه مبلغًا لو فرض عدم قيامه بما تعهد للمتعهد له، ويتقاضى الكفيل ممن يكفله عمولة بإزاء كفالته والظاهر صحة هذه الكفالة الراجعة إلى عهدة الأداء عند عدم قيام المتعهد بما تعهد وجواز أخذ العمولة بإزاء كفالته أو بإزاء أعمال أخرى من تسجيل الكفالة ونحوها إذا كانت الكفالة بإذن المتعهد جاز له الرجوع والسيد الخوئى يدخله في عقد الكفالة:
ويصح عقد الكفالة هذا والبنك يدفع وبما تعهد البنك وضمانه كأن يطلب من المتعهد والمقاول فهو ضامن لما يخسره البنك وللبنك أن يأخذ عمولة على ذلك بنحو الجعالة وكذلك يمكن الإجارة.(2/943)
وَثائق مقدمَة للمَجمَع
خطاب الضمان
فضيلة الدكتور رفيق المصري
1- المعلوم فقهيًا أن الأجر (المشروط) على الضمان لا يجوز. غير أن بعض الفقهاء (الحنفية. الحنابلة. الزيدية) أجازوا الربح بالضمان. إذا أجازوا شركة الوجوه ويتخرج على مذهبهم أن وجيها لو أشترك مع آخر (خامل) على الضمان والربح مناصفة، ولم يشتر ولم يبع، جاز لمجرد الضمان.
وهذا مثل المال لا يجوز إقراضه بأجر، لكن يجوز إقراضه بربح. غير أن الذين أجازوا ربح المال هذا هم كل الفقهاء. بخلاف ربح الضمان، فقد أجازه بعضهم فقط كما قدمنا.
أما العمل فيجوز فيه الأجر أو الربح بلا خلاف بين أحد من الفقهاء.
2- وهذا الأجر المحرم على الضمان لا ريب فيه إذا كان الضمان لا يكلف الضامن أية متاعب أو مشقة أو مالًا أو جهدا أو وقتا، إنما هو فقط ضمان لا يقترن بأية سمة أخرى. حتى أن الفقهاء أجازوا في هذه الحالة للضامن أن يسترد ما أنفق أو أن يأخذ أجر مثله.(2/944)
3- لكن المشاهد أن الضامن لو بقي يقدم طوعا وتبرعا بدون أجر ولا التزام لتعسر على كثير من الناس في أيامنا هذه الحصول عليه، وإن أمكنهم فقد لا يتم لهم ذلك في الوقت المطلوب. أو بالحجم المطلوب. كما أن الناس يتفاوتون في إقدامهم على طلب الضمان، فهناك الفقير، وهناك الغني، وهناك التاجر الذي يحتاج إلى عدد غير قليل من الكفالات لتسهيل أعماله في الوقت المطلوب. وبالحجم المنشود، دون عناء، ولا طلب إحسان أو معروف.
4- فيا ترى لو قامت خدمة منظمة لهذا الضمان، قام أناس متفرغون لها، فتكبدوا الجهود والأموال والأوقات في سبيل إدارتها وتنظيمها، ولم تكن لهم موارد اخرى للعيش، فهل يمكنهم أن يأخذوا من الأجور ما يسمح لهم باسترداد ما أنفقوه. وزيادة ربح يليق بعملهم وعمل أمثالهم؟
علمًا بأن هذا الأجر ليس أجرا على الضمان، لأن ذلك حرام شرعًا. إنما هو أجر يتقاضاه الضامن من المستفيد، لقاء أعمال تنظيم هذا الضمان وإدارته بما يليق بمستوى العصر، ,بما يلبى حاجات الناس والتجار المتزايدة إليه، وربما يكفل لصاحبه الاستمرار في حرفته، في ظل المنافسات الداخلية والخارجية، القائمة على استخدام أحدث الأساليب الفنية والتنظيمية، وأحدث الأدوات والآلات لتوفير متطلبات الدقة والسرعة المطلوبتين في عالمنا المتطور بسرعة مذهلة.
5- وقد سبق لفقائهنا أن أجازوا مثل ذلك الأجر للإمام والخطيب والمؤذن والشاهد والمعلم إذا احترفوا ذلك، ولم تكن لهم موارد أخرى يعيشون منها، ولم يقم بها أحد تبرعا وتطوعا، فإذا ما أخذوا عليها أجرا أو رزقا توجب عليهم القيام بها، فصارت واجبا ووظيفة، بعد أن كانت ندبا واستحبابا، وصارت فرض عين بعد أن كانت فرض كفاية.
6- وبعبارة أخرى، ترى هل من فرق في الحكم الشرعى على القربات بينما إذا كانت موضع اكتساب مدنى عارض، أو موضع احتراف تجاري منظم؟
لو اتفقت مع حمال أن يحمل لك متاعك إلى السيارة بمبلغ معين، فأمر هذا الحمال حمالا آخر. صبيا مثلا، أن يقوم بهذه المهمة بنصف المبلغ، واقتطع النصف الآخر لنفسه، ألا ترى أنك تجد في نفسك، حيث لا ترى أن هذا "المعلم" قدم مالا ولا عملا حتى يستحق هذا الربح ويطيب له؟
لكن لو أتخذ هذا المعلم دكانًا. واستأجر عقارًا، وجمع عنده الأجراء، أو أسس شركة صنائع، أو اشترى العدد والآلات للقيام بعمله، فزادت بذلك مخاطرته، ووضح نشاطه الأداري والتنظيمي والإشرافي، ألا تشعر بأنك تسخو له بهذا الفرق وأكثر منه؟ بل إنك لا تعود تحس بهذا الفرق أبدًا، لأنه لا يأخذ منك ليعطي آخر بهذه الصورة البدائية التي يكسب فيها على الفور وعلى المضمون وبلا مخاطر معتبرة ولا عمل محترم ولا مال مقدم.(2/945)
كذلك لو أعطاه فأسا للإحتطاب، أو شبكة للإصطياد، لقلنا: أن الحطب للمحتطب، والصيد للصائد، ولصاحب الفأس أو الشبكة أجر أداته، لكن لو قامت مؤسسة منظمة لهذا العمل، لها رأس مالها ومديروها وعمالها وآلاتها، هل يمكن أن نستمر فنقول: أن الصيد للصائد (المباشر) . وإن الحطب للحاطب. وأن النفط للعامل؟ أم هو لرب العمل، وللعامل أجره؟
كذلك الأمر في عقد الاستصناع الذي أجاز فيه الحنفية، بالمقارنة مع السلم، عدم تحديد أجل المبيع، وعدم تعجيل الثمن (انظر على سبيل المثال المادة 389 و 391 من مجلة الأحكام العدلية) ، بل عدم تحديد الثمن (انظر شرح المجلة لعلى حيدر 1/395) .
ألا ترى أنهم لم يجيزوه إلا فيما جرى عليه العرف والتعامل، نعم إنهم لم يجيزواالاستصناع إلا بعد عموم الحاجة إليه واحترافه في بعض البلدان، في بعض السلع المصنوعة.
هذا والمجلة تعتبر تقنينا، أخرج الفقه من حيز النظرية والالتزام الفردى إلى حيز التطبيق والالتزام العام، إذ ليس كل فقه نظرى يكون قابلًا للعمل به.
هل يعنى هذا أن الاحتراف المنظم قد يغير الحكم أحيانًا عما لو بقى الأمر في حدود الاكتساب البدائي، لأن أهله قد انتقلوا إلى أهل الخبرة والبصيرة بتقديم خدمات تجارية منتجة ومفيدة، لمجتمع تطلبها وتعارف عليها؟
7- لعل هذا التخريج للضمان يكون أفضل مما ذهب إليه البعض من تجويز أجر الضمان المصرفي من طريق الوكالة التي يضمنها هذا الضمان، أو من طريق القول بجواز ثمن الجاه أو أجره.
8- وهذا لا يعفي طبعا من قيام الأفراد من تلقاء أنفسهم ببذل خدمات الكفالة لمن يحتاج إليها من أقربائهم أو جيرانهم أو أصدقائهم أو إخوانهم، في حدود الطاقة، كما لا يمنع من قيام تنظيمات خيرية أو تعاونية (بلا أرباح) أو حكومية (ضمن قطاع المرافق العامة) تنافس تلك التنظيمات التجارية، وتؤدى خدماتها لمن يلجأ إليها (مع ملاحظة اختلاف درجة الكفاءة بين التجاري والحكومي والتعاوني والخيري) ، حتى إذا ما أثبتت كفاءتها وجدراتها وقدرتها على إشباع حاجات الناس، أمكن لها أن تحل بالتدريج محل الأولى، في تلبية هذه الحاجات والمصالح. والله أعلم بالصواب.(2/946)
خطاب الضمَان
فضيلة الدكتور سَامى حَمّود
1- الوضع القانونى بشكل عام:
يعرف القانون المدنى الكفالة بأنها: "عقد بمقتضاه يكفل شخص تنفيذ التزام، بأن يتعهد الدائن بأن يفى بهذا الالتزام إذا لم يف به المدين " (مادة 772 من القانون المدنى المصرى) . أما خطاب الضمان فهو: "تعهد نهائى يصدر من البنك بناء على طلب عميله بدفع مبلغ نقدى معين، أو قابل للتعيين بمجرد أن يطلب المستفيد ذلك من البنك خلال مدة محددة".
ويتبين من المقارنة بين كل من الكفالة وخطاب الضمان المصرفي أن الغاية في الحالين –بالنسبة لكل منهما- هي غاية تأمينية هدفها مساعدة العميل في تقوية مركزه الأتمانى تجاه المكفول له أو الشخص المستفيد في خطاب الضمان.
وخطاب الضمان المصرفي –في حقيقته العملية- صورة من صور الكفالة بوجه عام. ولكنها صورة متحررة من أسر التعريف القانونى، خاصة فيما يتعلق بالتزام المصرف الذي أصدر خطاب الضمان تجاه المستفيد منه. باعتبار أن العلاقة بين المصرف والمستفيد علاقة محكومة بخطاب الضمان وحده من ناحية. كما أن هذه العلاقة تعتبر مستقلة تماما عن العلاقة القائمة بين الآمر (طالب إصدار خطاب الضمان) والمستفيد.(2/947)
وهذا هو أهم ما يبعد خطاب الضمان المصرفي عن "الكفالة التي ينظمها القانون المدني والتي يعتبر فيها التزام الكفيل تابعا لالتزام المدين المكفول من حيث صحته وبطلانه، لأن البنك يلتزم دائمًا بالخطاب أن يدفع أيا كان مركز المضمون وأيا كان مصير العقد بين البنك وعميلة ومصير العلاقة بين العميل والمستفيد من الخطاب.
والواقع أن خطاب الضمان المصرفي هو البديل المقبول في العمل للتأمين النقدى فبدلًا من قيام المتعاقد أو الملتزم مع الجهة الحكومية مثلا بدفع المبلغ نقدًا كتأمين للوفاء بالتزامه، فإنه يقدم خطاب ضمان مصرفي بالقيمة المطلوبة، فيكسب بذلك عدم تجميد مبلغ التأمين من ناحيته، ويطمئن الجهة ذات العلاقة إلى أنها قادرة على الحصول على المبلغ المطلوب في أي وقت تشاء خلال مدة سريان الخطاب الصادر لها من المصرف.
ولخطاب الضمان المصرفي استعمالًا ومجالات متعددة منها: حالة تقديم الخطاب كتأمين لدخول المناقصات أو المزايدات الحكومية وما يتشابه معها، وكذلك تقديمه كتأمين لحسن تنفيذ العطاء بعد الإحالة النهائية، كما يمكن تقديم الخطاب للدوائر الجمركية والضرائبية تأمينًا لما هو مستحق أو ما قد يتحقق في بعض الحالات من رسوم أو ضرائب. ويستعمل الخطاب أيضا لتقديمه كوثيقة يمكن بموجبها استلام البضائع المشحونة في ميناء الوصول مما قد تكون السفينة الشاحنة قد بلغته قبل ورود المستندات الممثلة لتلك البضائع.(2/948)
وأما العلاقة التي توجد في خطاب الضمان المصرفي فإنها تتمثل في ثلاث علاقات متجاورة جنبا إلى جنب هي: " علاقة العميل الآمر بالمستفيد،.. وعلاقة العميل الآمر بالبنك … وعلاقة البنك بالمستفيد …"
ويحكم علاقة الآمر بالمستفيد، العقد أو الالتزام القائم بينهما والتي من أجلها قدم خطاب الضمان. أما علاقة المستفيد بالمصرف، فيحكمها التعهد غير المعلق على أي شرط من جانب الأخير إلا في حدود ما هو مبين في الخطاب من حيث الغاية التي قدم من أجلها. وأما علاقة الآمر بالمصرف فيحكمها العقد أو الطلب الذي يقدمه العميل الآمر إلى المصرف لإصدار الخطاب على أساسه.
وإن ما يهمنا من هذه العلاقات الثلاث هي العلاقة الخاصة بالعميل الآمر والمصرف لأنها هي التي يدور عليها الكلام بالنسبة لما نبحث فيه.
وهذه العلاقة تبدأ من الآمر بالطلب الذي يتقدم فيه إلى المصرف المعين لإصدار خطاب ضمان بالشروط التي يحددها بحسب الغاية المعينة وعلى أن يكون ذلك –بطبيعة الحال- غير قابل للنقص من جهة الآمر. وإذا كان الأمر كذلك، فإن أقرب تكييف قانوني يمكن أن ينطبق عليه هذا الوضع هو علاقة الوكيل بموكله. وإن منع الموكل (الذي هو الآمر) من الرجوع فما وكل به، إنما يبنى على أساس تعلق حق الغير (الذي هو المستفيد) بما ورد في الخطاب ويؤيد ذلك أمران:
الأول- هو أن الأمر إذا عدل عن طلب الخطاب قبل إصداره، أو بعد إصداره ولكن قبل تسليمه للمستفيد منه. فإنه يجاب إلى طلبه طالما لم يتعلق حق المستفيد بالخطاب.(2/949)
الثانى- أن قيام المصرف بدفع المعين في خطاب الضمان لا يعتبر أكثر من مجرد دفع مبلغ من المال- بناء على طلب الآمر ولحسابه- وهذا المبلغ المدفوع قابل للمحاسبة عليه بين الآمر والمستفيد وديا أو قضائيا، إذا لم يكن للمستفيد حق فيه- كله أو بعضه.
هذا هو الوضع الحقيقى للخطاب من ناحية كونه قد أخذه المستفيد بدلا من التأمين النقدى الذي كان بوسعه أن يصر على الاحتفاظ به ليخصم منه ما قد يترتب له تجاه الآمر (في خطاب الضمان) من حقوق بحكم العلاقة بين الطرفين.
وتكييف العلاقة بين الآمر والمصرف مصدر الخطاب على أساس الوكالة، لا يتنافي مع حق الأخير في الرجوع على الآمر بما دفع، وذلك لأن الوكيل يرجع على موكله بما دفع عنه طبقا للقواعد العامة، باعتبار الموكل ملزما بأن يرد للوكيل ما أنفقه في تنفيذ الوكالة التنفيذ المعتاد (المواد 710- 711 مدنى) .
فما هو موقف الفقه الإسلامي من هذه المعاملة الجديدة في ضوء ذلك التكييف؟
2- تكييف المسألة في ضوء الفقه الإسلامي
بحث الفقهاء الكفالة، وفرقوا بين أنواعها حسب الموضوع الذي تتعلق به، من كفالة بالمال وكفالة بالنفس. وميزوا في الكفالة بالمال بين الكفالة التي يكون موضوعها الالتزام بأداء دين أو الالتزام بتسليم عين أو ضمان خلوص المال المباع من كل حق فيه للغير، وهي ما تعرف بكفالة الدرك (بفتح الدال والراء) .
ويبدو للنظرة الأولى، أن معظم الحالات التي يتسعمل فيها خطاب الضمان المصرفي تعتبر في الغالب من نوع كفالة الدين، وذلك باستثناء الخطاب الذي يقدم للشاحنين أو وكلائهم –بالنسبة لحالة تأخر وصول المستندات الممثلة للبضاعة- حيث يكون موضوع خطاب الضمان في هذه الحالة هو من نوع الالتزام بتسليم عين (هي بوالص الشحن) أو من نوع ضمان الدرك من حيث إنه يتضمن أيضا مسؤولية ما قد ينتج عن تسليم البضاعة إذا تبين أن الحق فيها يعود لشخص أخر غير المتسلم.(2/950)
والكفالة في نظر الفقه الإسلامي هي: " ضم ذمة إلى ذمة"، إلا أن هناك خلافا في اعتبار هذا الضم من حيث كونه يقتصر على المطالبة فقط أم أن الضم يشمل الدين أيضًا.
فقد قال صاحب الهداية في ذلك: (…. قيل هي ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة، وقيل في الدين والأول أصح….) . وجاء في شرح فتح القدير كتعقيب على ما قاله صاحب الهداية: (… فلا يثبت الدين في ذمة الكفيل، خلافا للشافعي ومالك وأحمد في رواية …) ثم قال بعد استعراض الآراء مقررا (… ولكن المختار ما ذكرنا أنه في مجرد المطالبة لا الدين، لأن اعتباره في الذمتين –وإن أمكن شرعًا- لا يجب الحكم بوقوع كل ممكن إلا بموجب ولا موجب، لأن التوثيق يحصل بالمطالبة..".
وبمقارنة هذه النقطة بالنسبة لاعتبار الكفالة (ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة لأجل حصول التوثيق بذلك) بما هو الحال عليه في الغاية المقصودة من خطاب الضمان، فإنه يبدو جليا أن ما أوضحه صاحب فتح القدير هو الأقرب لمقصود خطاب الضمان وحقيقته.(2/951)
وهناك نقطة أخرى يتوافق فيها الرأي الفقهي مع الوضع القائم بالنسبة لعلاقة المصرف مصدر الخطاب بالمستفيد من حيث اعتبار التزام المصرف قائمًا بالإيجاب وحده من جانب الأخير ودون حصول القبول من جانب المستفيد. ويتمثل ذلك فيما نقله الشلبي في حاشية تبيين الحقائق بقوله:
(…. ولم يجعل أبو يوسف في قوله الأخير القبول ركنا، فجعل الكفالة تتم بالكفيل وحده في الكفالة بالنفس والمال، وهو قول مالك وأحمد وقول للشافعي، واختلفوا على قول أبي يوسف، فقيل أن الكفالة تصح من الواحد وحده موقوفا على إجازة الطالب أو تصح نافذا وللطالب حق الرد ….) .
أما مسألة رجوع الكفيل على المكفول عنه فإنه من المقرر أن الكفالة إذا كانت بأمر الأخير، فإن للكفيل الحق بالرجوع عليه، حتى أن بعض الآراء قررت هذا الحق في الرجوع بدلالة العادة والمعاملة الجارية بين الطرفين.
قال السرخسى في المبسوط (… وإذا قال رجل لآخر: اضمن لفلان ألف درهم التي له علىَّ، أو قال أحلت لفلان عليك ألف درهم له علىَّ، أو قال: اضمن لفلان ألف درهم على أنها لك علىّ، أو قال: على أنى ضامن لها، أو قال على أنى كفيل بها، أو قال: على أن أؤديها إليك، أو قال على أن أؤديها عنه، فضمن، فهو جائز ويرجع به الكفيل على الأمر إذا أداه، لأن في كلام الآمر تصريحا بوجوب المال عليه للطالب، فيكون هذا أمرا منه للمأمور في ذمته مما يؤديه من ماله أو التزاما له ضمان ما يؤديه إلى الطالب، وذلك يثبت حق الرجوع له عليه إذا أدى..) .(2/952)
وأورد صاحب البحر الزخار –بالنسبة للرجوع بدلالة العادة –ما نصه:
(.. أن قال: اضمن عنى، أو ادفع عنى رجع، وإلا فلا. إلا حيث يكون بينهما معاملة متكررة أو قرابة فيرجع استحسانا لا قياسا …) .
أما بالنسبة لتوقيت الكفالة فقد قال السمرقندي في تحفة الفقهاء: (… ولا خلاف في جواز الكفالة إلى أجل معلوم من الشهر والسنة ونحوها..)
كما أشار ابن جزى لمسألة الضمان قبل وجوب الحق أو بعد وجوبه فقال: (.. ويجوز الضمان بعد وجوب الحق اتفاقا وقبل وجوبه، خلافا لشريح القاضى وسحنون والشافعي) .
ويتبين من هذه الباقة من الآراء المختارة –اختصارا- من مذاهب الفقه الإسلامي المختلفة، أن خطاب الضمان المصرفي بعلاقاته المتعددة وغاياته المختلفة يستطيع أن يجد له مكانا في إطار الفقه الإسلامي الخصيب.
وإن تكييف خطاب الضمان المصرفي على أنه وكالة لا يبدو متباينا مع نظرة الفقه الإسلامي للموضع في نطاق الكفالة بالأمر التي يرجع فيها الكفيل بما يدفع على من أمره بذلك تمام كما يرجع الوكيل، لأن الكفالة بالأمر ما هي إلا وكالة بالأداء.
وهذا التكييف على أساس الوكالة هو الذي يمكن أن يفتح المجال للقول باستحقاق المصرف الأجر على قيامه بما وكل به، حيث أن الوكالة يمكن أن تكون بأجر فتأخذ أحكام الإجارة، وذلك على عكس ما لو بقيت كفالة بمعنى الضمان، حيث لا توجد آراء فقهية تؤيد حق الضامن بأخذ الأجر، إلا ما قال به الإمامية من جواز أخذ الأجر فيها على أساس الجعالة.(2/953)
ثانيًا: القبول المصرفي:
1- الوصف والتعريف:
يعتبر القبول المصرفي صورة أخرى من صور اقراض الثقة التي تقوم بها المصارف –في معرض التوسط – بين العميل وطرف آخر.
وكان منشأ هذا النوع من العمل المصرفي في انجلترا، وبقي على صيغته الإقليمية، حيث وجدت بيوت مالية متخصصة للقيام بهذا النوع من العمليات تسمى بيوت القبول. وقد أخذت هذه العملية إطارها التنظيمي في عهد سيطرة انجلترا على التجارة العالمية وما رافق ذلك من ذيوع شهرة التجار الإنجليز الكبار. فكان من نتيجة ذلك أن أخذ صغار التجار يلجأون لذوي الأسماء الشهيرة لكى يستفيد الأولون من وجود الاسم المعروف على السند المحرر منهم لصالح المصدر الخارجي. وهكذا أصبح هؤلاء التجار من ذوي الأسماء اللامعة يقومون بأعمال القبول هذه لقاء عمولة معينة، ثم تطور عملهم إلى مهنة مخصصة لمنح ما يعرف باعتمادات القبول.(2/954)
وتقوم بهذا النوع من العمل في انجلترا –بصفة رئيسية- المصارف المعروفة باسم مصارف التجار (MERCHANT BANKS) . والتي يقوم عملها الأساسي على تمويل التجارة الخارجية عن طريق قبول السحوبات التجارية لصالح عملائها.
فالقبول المصرفي – اذن – هو عبارة عن قيام البنك بدور المسحوب عليه، (فيقبل بهذه الصفة الكمبيالة التي يسحبها عليه عميلة أو الطرف الآخر الذي يتعامل مع العميل) .
والغاية من هذا التوقيع بالقبول هي إعطاء الكمبيالة المقبولة من المصرف قوة ائتمانية تجعل من السهل تداولها أو خصمها لدى بنك آخر. ومتى قام المصرف القابل بدفع قيمة الكمبيالة المقبولة منه فإنه يقيد قيمتها في الجانب المدين من حساب العميل لديه حيث يرجع عليه بما أدى عنه من قيمة الاعتماد.
2- تكييف العلاقة:
ويتبين من هذا أن دور المصرف في القبول هو القيام بدور الوسيط، وهو ينفذ هذا الدور بناء على طلب المعتمد له (عميل المصرف القابل) ولصالح هذا العميل وعلى مسؤوليته. ولذا فإن أقرب تكييف ممكن التطبيق على هذه العملية هو أنها توكيل مأمور به لقبول الكمبيالة المسحوبة نيابة عن العميل ذي العلاقة وعلى مسؤليته وبذلك يكون القبول المصرفي متشابها مع حالة خطاب الضمان بالنسبة لعلاقة العميل بالمصرف.(2/955)
ثالثًا: الاعتماد المستندي:
1- دوره وتعريفه:
يمثل الاعتماد المستند الوسيلة الحديثة للتعامل التجاري الدولي التي يمكن عن طريقها حفظ مصلحة كل من المستورد والمصدر، على حد سواء. وقد ساعدت المصارف – بحكم علاقاتها الدولية وفروعها المنتشرة في مختلف البلاد – على ترسيخ قواعد التعامل العالمي بهذا الأسلوب الذي بات ميسرا وشبه مستقر من الناحية العرفية على الأقل، حيث لا يوجد للاعتماد المستندي تنظيم تشريعي إلا القواعد التي وضعتها غرفة التجارة الدولية، والتي يجري التعامل على أساسها بالنص عليها في كتب فتح الاعتمادات المستندية المتبادلة بين المصارف.
ويعرف الاعتماد المستندى –بحسب ما اختاره الأستاذ الدكتور على جمال الدين كما هو وارد في المادة (1) من المشروع الفرنسى –بأنه: (الاعتماد الذي يفتحه البنك بناء على طلب شخص يسمى الآمر، أيا كانت طريقة تنفيذه –أي سواء كان بقبول الكمبيالة أو بالوفاء- لصالح عميل لهذا الآمر، ومضمون بحيازة المستندات الممثلة لبضاعة في الطريق أو معدة للإرسال) .
وقيل في تعريف الاعتماد المستندى أيضا بأنه: (تعهد يلتزم فيه المصرف بالوفاء (أو بالقبول) بالنسبة للسحوبات التي يقدمها المستفيد في الاعتماد المستندي طبقا للشروط الواردة فيه) .
وإن ما يكشف عنه هذان التعريفان أو ما يشابههما من هذه الناحية، هو أن الاعتماد المستندى يمثل حلقة وصل مثلثة العلاقات، يقوم فيها المصرف بدور الوسيط الموثوق منفذا تعليمات عميله، وملتزما – عن طريق المصرف المراسل- تجاه المستفيد الذي يكون أيضا له علاقة بفاتح الاعتماد من البداية، وإن كانت علاقتهما خارجة عن نطاق دور المصرف في الاعتماد المفتوح بواسطته.
وما يهمنا بحثه من هذه العلاقات الثلاث هو التكييف القانوني لعلاقة فاتح الاعتماد بمصرفه على نحو ما سرنا عليه فيما سبق من أعمال من هذا القبيل في هذا النوع.(2/956)
2- تكييف العلاقة:
طرح القانونيون – وهم بصدد البحث عن طبيعة عقد الاعتماد المستندي – عدة نظريات حاولوا تطبيقها على الاعتماد المستندي، فكانت النتيجة ظهور عجز كل نظرية عن الإحاطة بمفردها بجوانب العلاقات المتشعبة في هذا التعاقد الفريد.
فقيل بأن العقد يقوم على نظرية الوكالة، وقيل بل الاشتراط لمصلحة الغير. وذهبت بعض القرارات القضائية إلى تفسير الاعتماد المستندي بنظرية الكفالة. كما اقترح أيضا تفسير العملية وفقا لفكرة الإنابة أو تقابل الإرادات بطريق التوسط أو فكرة الإرادة المنفردة.
ويلاحظ أن سبب القصور في كل نظرية أو فكرة من الأفكار المطروحة إنما يكمن في محاولة جعل هذه النظرية أو تلك صالحة للتوفيق بين العلاقات المختلفة التي تتلاقى في العلاقات مختلفة الهوية والألوان والغايات.
فالاعتماد المستندي يأخذ من كل نظرية بطرف، فهو –كما يقول الأستاذ الدكتور رزق الله أنطاكي – في بيان ذلك:
(أ) يأخذ من الوكالة مبدأ التزام الموكل –طلب الاعتماد – بتسديد ما دفعه الوكيل، المصرف، بناء على طلبه، مع العمولة المتفق عليها.(2/957)
(ب) ويأخذ من الاشتراط لمصلحة الغير، نشوء الحق المباشر لصالح المستفيد من تاريخ الاتفاق الجاري بين طالب الاعتماد والمصرف.
(ج) ويأخذ من الإنابة عدم الاحتجاج بالدفوع التي كان يتمتع بها المناب لديه تجاه المنيب.
(د) وهو يأخذ أخيرًا من نظرية الالتزام المجرد استقلال التزام المصرف عن عقد البيع الذي كان سببا له.
وإن ما يهمنا من ذلك كله هو الجانب الذي يصلح لتكييف علاقة فاتح الاعتماد مع مصرفه –باعتبار أن هذه العلاقة هي مدار الكلام المتعلق بالبحث – ومن الواضح أن أقرب النظريات والأفكار المطروحة لحكم هذه العلاقة هي نظرية الوكالة.
فالمصرف بالنسبة لفاتح الاعتماد هو كالوكيل بالنسبة لموكله –فيما يقوم به ويرجع فيه، وإن كانت هذه الوكالة –نظرا لتعلقها بحق الغير (وهو المستفيد) تصبح غير قابلة للنقض إلا بموافقة المستفيد.
وهكذا يتبين أن نظرية الوكالة تصلح –في حدود علاقة العميل بالمصرف- أن تكون حاكمة للعلاقة القائمة بين الطرفين، سواء في خطاب الضمان أو القبول أو الاعتماد المستندي، وأن المصرف – بتقاضيه الأجر على ما يقوم به – إنما هو في حكم الأجير.
ولكن ما سنبينه عند الكلام عن الربا في عوائد الإقراض المصرفي العرضى في المطلب التالى.(2/958)
جواز أخذ الأجر أو العمولة
في مقابل خطاب الضمان
لفضيلة الشيخ / أحمد على عبد الله
أيا كان تكييف خطاب الضمان فلا اختلاف بين المعاصرين في جواز أخذ العمولة على إصدار خطابات الضمان باعتبارها خدمة من الخدمات المصرفية التي يؤديها البنك – كما يؤدى غيرها – ويأخذ في مقابلها أجرا مسمى. وليس في هذه المسألة خلاف، بل هي من البداهة بحيث لا تحتاج إلى بحث.
الأجر على الضمان نفسه:
أما جواز أخذ قدر زائد من الأجر على مصروفات الضمان الأصلية أي أجر في مقابل تقديم الضمان كخدمة من قبل الضامن – فهو محل الخلاف الكبير بين الفقهاء المعاصرين. وسنوجز في الأسطر التالية النظرية السائدة حتى الآن ثم نتبعها بنتائج هذا البحث.
لقد أصبح من المعلوم الآن أن خطاب الضمان ما هو إلا نوع من أنواع الضمان أو الكفالة بالمال. وهو يقضي بتحمل الضامن للالتزام المضمون به أو أي جزء منه في حالة عجز المضمون عن سداده في وقته وبناء على شروطه.
وجمهور الفقهاء-بل هناك من يقول بالإجماع – ينصون على أن الضمان يجب أن يكو محض معروف. وبما أنه تبرع فلا يجوز أن يأخذ الضامن عليه أجرًا.
حكى الحطاب: عن الأبهري قال: لا يجوز ضمان بجعل لأن الضمان معروف وفعل خيركما لا يجوز على صوم ولا صلاة لأن طريقها ليس لكسب الدنيا.
وقال مالك: لا خير في الحمالة بجعل (1) والحمالة هي الكفالة والضمان.
حكى ابن عرفة عن اللخمى: الضمان بجعل لا يجوز – ابن القطان عن صاحب الاسناد (2) .
وقال الدردير: (وأما صريح ضمان يجعل فلا خلاف في منعه لأن الشارع جعل الضمان والجاه والقرض لا تفعل إلا لله تعالى فأخذ العوض عليها سحت (3) .
__________
(1) مواهب الجليل 5/111.
(2) مواهب الجليل ص 113.
(3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقى) 3/ 77(2/959)
وحكى الطبري: (ولو كفل رجل على رجل بمال عليه لرجل على جعل جعله له المكفول عليه فالضمان على ذلك باطل. ولا يلزم الضامن للمضمون له شيء أن كان ضمن له ما ضمن على شرط جعل الذي عليه المال أو على المضمون له …) (وهكذا قول أبي حنفية وأصحابه) (1) .
والنصوص ناطقة بعدم جواز أخذ الأجر على الضمان. وبما أن خطابات الضمان نوع من الضمان والكفالة، فينطبق عليها الحكم وبالتالى لا يجوز أخذ اجر على الضمان باعتباره ضمانا.
خطابات الضمان بغطاء كلى أو جزئى:
إن خطاب الضمان قد يكون بغطاء أو بغير غطاء وأن الذي بغطاء قد يكون غطاؤه كليا أو جزئيا. وعليه فقد كيّف الفقهاء المعاصرون خطابات الضمان ذات الغطاء الكلي أو الجزئي بأن فيها جمعا بين الكفالة والوكالة. فهي كفالة باعتبار أصلها، وهي وكالة لأن المضمون قد دفع قيمة الضمان كليا أو جزئيا. فأصبح الضامن وكيلًا عنه في العلاقة التي تحكم المضمون بالمضمون له. إذ من خلاله سيفي المضمون بالتزاماته. وبما أن هذه العلاقة تضمّنت الوكالة والكفالة في أن واحد ومعلوم أن الكفالة لا يصح أن يؤخذ عليها أجر. اما الوكالة فيجوز أخذ الأجر عليها. وعليه يجوز أخذ الأجر على خطابات الضمان بغطاء.
يقول ابن قدامه: ويجوز التوكيل بجعل وغير جعل فإن النبي صلى الله عليه وسلم وكّل أنيسا في إقامة الحد وعروة في شراء شاة وعمرا وابا رافع في قبول النكاح بغير جعل. وكان يبعث عماله لقبض الصدقات ويجعل لهم عمالة (2) .
ويقول ابن جزى: تجوز الوكالة بأجرة وبغير أجرة، فإن كانت باجرة فحكمها حكم الإجارات، وإن كانت بغير أجر فهو معروف من الوكيل (3) .
وبما أنه يجوز من الناحية الشرعية أخذ الأجر على الوكالة فكذلك يجوز أخذ الأجر على الضمان إذا كان بغطاء جزئى أو كلى.
__________
(1) اختلاف الفقهاء لمحمد بن جرير الطبري ص 9.
(2) المغنى 5/210- 211
(3) قوانين الأحكام الشرعية 345(2/960)
وأعنى بالأجر هنا الأجر الزائد على مجرد المصروفات البنكية كما أوضحت سابقا. ولذلك نصّت فتوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي على الآتى: -
(لا يجوز للبنك أن يأخذ أجرًا في الحالة التي يكون فيها خطاب الضمان بغير غطاء إذا كان هذا الأجر نظير خطاب الضمان لأنه يكون قد أخذ أجرًا على الكفالة وهو ممنوع لأن الكفالة من عقود التبرعات. قال الحطاب: ولا خلاف في منع ضمان بجعل لأن الشرع جعل الضمان والقرض والجاه لا يفعل إلا لله بغير عوض فأخذ العوض عليه سحت وعلّل ابن عابدين بأن الكفيل مقرض في حق المطلوب وإذا شرط له الجعل مع ضمان المثل فقد شرط له الزيادة على ما أقرضه فهو باطل لأنه ربا) (1) .
وجاء في الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية: وبالنظر إلى هذا النوع من التعامل المصرفي – أي خطابات الضمان- وغحالته للعقود الشرعية الواردة في كتب الفقه فإنه يمكن رده إلى نوعين من العقود التي طرقها الفقهاء هما الكفالة والوكالة. وأخذ الأجرة على الوكالة جائز في الشريعة الإسلامية. (2) .
وهذا يعنى أن الضمان إذا كان بغطاء كلى أو جزئى يجوز أخذ الأجر عليه أما إذا كان بغير غطاء فلا يجوز عند هؤلاء.
__________
(1) الفتاوى الشرعية
(2) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية المجلد الأول الجزء الشرعى 485(2/961)
المذهب الثانى:
هناك من يرىجواز أخذ الأجر على الضمان نفسه سواء كان بغطاء أو بغير غطاء.
وينقسم هؤلاء إلى فريقين: -
(أ) فريق يرى أخذ الأجر على الكفالة بناء على أن بعض الفقهاء أجاز أخذ الأجر في مقابل الضمان الذي يترتب عليه استخدام الضامن جهدا ولو قل. تبنّت هذا الرأي ودافعت عته الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية حيث جاء فيها: -
(أما إذا قلنا بجواز أخذ الأجرة على الكفالة فإن هناك من العلماء من يجيز أخذ الأجر مقابل الضمان ما دام الضمان يترتب عليه استخدام جهد ولو كان ذلك الجهد مجرد مشى أو حركة. والضمان شقيق الجاه فإن تطور الحياة الاقتصادية أدى إلى اجتهاد بعض الفقهاء في جواز أخذ الأجر مقابل الضمان. فقد ذكر الهيثمى أن المحبوس ظلما إذا قال لمن يقدر على خلاصه: أن خلصتني فلك كذا، بشرط أن يكون في ذلك كلفة تقابل بأجرة عرفا) .
وفي حاشية الشرواني: أفتى المصنف بأنها جعالة مباحة وأخذ عوضها حلال.(2/962)
ونقل النووي قول القفّال في الفتاوى: فيمن أراد استئجاره للخروج إلى بلد السلطان والتظلم للمستأجر وعرض حاله في المظالم. فقال: يستأجره من كذا ليخرج إلى موضوع كذا ويذكر حاله في المظالم ويسعى في أمره عند من يحتاج إليه فتصح الإجارة لأن المدة معلومة وإن كان في العمل جهالة.
وقد روي عن الشافعي أنه قال: ليس من الرشوة بذل مال لمن يتكلم مع السلطان مثلا في جائز فإن هذا جعالة جائزة.
وفي حاشية الدسوقى: قال أبو على المسناوي: محل منع الأخذ على الجاه إذا كان الإنسان يمنع غيره بجاهه من غير مشي ولا حركة وأن قول المصنف (وذي الجاه) مقيد بذلك أي من حيث جاهه فقط كما إذا احترم زيد مثلًا بذي جاه ومنع من أجل احترامه، فهذا لا يحل له الأخذ من زيد. ولذا قال ابن عرفة: يجوز دفع الصنيعة لذي جاه في حالة الضرورة أن كان يحمي بسلاحه فإن كان يحمي بجاهه فلا، لأنها ثمن الجاه وبيانه أن ثمن الجاه إنما حرم لأنه من باب الأخذ على الواجب ولا يجوز على الإنسان أن يذهب مع كل واحد.
وفي المعيار: سئل أبو عبد الله القوري عن ثمن الجاه فأجاب بما نصه: اختلف علماؤنا في حكم ثمن الجاه. فمن قائل بالتحريم باطلاق، ومن قائل بالكراهة باطلاق، ومن مفصل فيه. وأنه إن كان ذو الجاه يحتاج إلى نفقة أو مشقة أو مسعى فأخذ أجر مثله فذلك جائز، وإلا حرم.(2/963)
ومثل ذلك عن ابن عبد الله العبدوسي عمن يحرس الناس في المواضع المخيفة ويأخذ منهم على ذلك فأجاب: ذلك جائز بشرط أن يكون له جاه قوي.
وقد صح الحديث عن أخذ الجعل على رقية من القرآن. قال ابن تيمية: ولا بأس بجواز أخذ الأجر، على الرقية، نص عليه أحمد. فإذا كان يصح أخذ الجعل على الرقية من كتاب الله. وصاحب الرقية لا يبذل جهدًا كبيرًا. فلماذا لا يجوز أخذ الأجر في عملية خطاب الضمان الذي يترتب عليه جهد وعمل … (1) .
وبالرجوع لهذه النصوص والنقول اتضح أنها صحيحة. أما أنها تدل على جواز أخذ الأجر على الضمان كما أراد لها مؤلفو الموسوعة أم لا فذلك ما سنأتى له بعد قليل.
(ب) والفريق الثاني يرى جواز أخذ الأجر على الضمان باعتبار أن التعهد الذي يشتمل عليه خطاب الضمان يعزز قيمة التزامات العميل المضمون وبذلك يكون خطاب الضمان عملا محترما يصح أخذ أجر أو عمولة أو جعل عليه.
تبنى هذا الرأي محمد باقر الصدر ويبسطه كالآتى: -
(ولما كان تعهد البنك وضمانه للشرط يطلب من الشخص المقاول فيكون الشخص المقاول ضامنا لما يخسره البنك نتيجة لتعهده. فيحق للبنك أن يطالبه بقيمة ما دفعه إلى الجهة التي وجه خطاب الضمان لفائدتها، ويصبح للبنك الحق في أن يأخذ عمولة على خطاب الضمان هذا، لأن التعهد الذي يشتمل عليه هذا الخطاب يعزز قيمة التزامات الشخص المقاول. وبذلك يكون عملا محترما يمكن فرض جعالة عليه أو عمولة من قبل ذلك الشخص) (2) .
هذا ملخص ما جاء في جواز أو عدم جواز أخذ أجر على الضمان عمومًا وخطابات الضمان على وجه الخصوص.
__________
(1) الموسوعة 5/ 488 وما بعدها
(2) البنك اللا ربوي في الإسلام ص 131(2/964)
مناقشة حجج المانعين للعوض
دعوى أن الضمان محض معروف:
أسست فكرة عدم أخذ الأجر على الضمان أو الكفالة على أن الضمان أو الكفالة محض تبرع ومعروف، ولذلك لا يجوز أخذ الأجر عليه. وهذه الدعوى أصبحت من المسلمات الفقهية، ويبدو لى أنها في واقع الأمر ليست كذلك. وأنها حجة ليست بقاطعة في موضوعها ولا قوية في مضمونها.
(أ) فمثلا قاس البهري الكفالة على الصلاة والصوم في عدم أخذ الأجر على كل. وصحيح أن الصلاة والصوم واجبان على العهد. المكلف يؤديهما لله سبحانه وتعالى. وهو واجب يثاب العبد على أدائه ويعاقب في الدنيا والآخرة على تقصيره كما هو معلوم. فالصلاة والصوم واجبان على كل مكلف، فلا أدري ما هو وجه الشبه وما هي العلة أو الحكمة المشتركة حتى نعطيهما حكما واحدا. بل الظاهر أن بينهما قياسا عكسيا لا طرديا وعليه فإذا منع الأجر في الصلاة والصوم لأنهما واجب فينبغى أن يجوز في الضمان لأنه غير واجب على الإنسان. فقد يحتاج المضمون إلى هذا الجعل (الضمان) ولا يجد من يتبرع له فيستأجر عليه لئلا تفوت منفعته ومصلحته. وفي عبارة الدسوقى في الموسوعة ما يفيد أن الجاه وبالتالى الضمان واجب وبذلك يمكن قياسه هنا على الصلاة والصوم. ولكنه سرعان ما نفي ذلك بقوله:
(وبيانه أن ثمن الجاه إنما حرم لأنه من باب الأخذ على الواجب ولا يجب على الإنسان أن يذهب مع كل أحد) .(2/965)
هذا، ومع التسليم بان الأصل في الصلاة والصوم أن تؤدى كواجب إلا أنه يجوز تشجيع الإنسان على الصلاة والصوم بالنفع المادي فذلك غير محرم بل قد يكون مندوبا إليه، ولكن من حيث الأصل لا يجوز أخذ العوض المادي لها.
(ب) ومن ناحية أخرى يقول الدردير: إن الشارع جعل الضمان والجاه والقرض لا تفعل إلا لله تعالى، فأخذ العوض عليها سحت. ومعلوم أن الشارع قد جعل القرض تبرعا لا يفعل إلا لله، وأنه منع أخذ الجر عليه وجعل ذلك ربا. وكان كل قرض جرّ منفعة فهو ربا. فالعبارة صحيحة بالنسبة لكل من جوز ولكن الفقيه أعلم ما لم يرد نص شرعى يحرم العوض في الضمان أو الجاه. بل أن جمهور الفقهاء يجوزون أخذ العوض المادي وغيره في كثير من أوجه التبرع وحتى في أخصها كالهبة.
الهبة:
الهبة هي أساس عقود التبرعات. ولكن أجاز الجمهور فيها العوض وهو ما يعرف بهبة الثواب.
يقول ابن رشد: وأما هبة الثواب فاختلفوا فيها أجازها مالك وأبو حنيفة ومنعها الشافعي.. (1)
ويقول ابن جزي في أنواع الهبة: والثالث هبة الثواب على أن يكافئه الموهوب له وهي جائزة خلافا للشافعي. (2)
قال الحصكفي: الهبة شرعا (تمليك العين مجانا) أو بلا عوض لأن عدم العوض شرط فيه. قال ابن عابدين: هي كائن بلا شرط عوض على أن معنى العوض فيها غير شرط بخلاف البيع والإجارة (3) .
__________
(1) بداية المجتهد 2/ 284
(2) قوانين الأحكام الشرعية 386
(3) حاشية ابن عابدين 5/ 687(2/966)
فالأصل في الهبة أن تكون تبرعا ومعروفا ومجانا ولكن يجوز فيها فوق ذلك عند الجمهور أن تكون بعوض مادي. فإذا صح ذلك في الهبة وهي أصل تصرفات التبرع ففيما سواها ينبغى أن يكون أجوز.
الوكالة:
إن التصرف الواحد قد يكون من عقود المفاوضات وعقود التبرعات في آن واحد. والوكالة أوضح مثال لهذه الازدواجية. قال ابن جزي: تجوز الوكالة بأجرة وبغير أجرة فإن كانت بأجرة فحكمها حكم الاجارات. وإن كانت بغير أجرة فهو معروف من الوكيل (1) . ولقد سبقت عبارة ابن قدامة في هذا المعنى حيث بينت أن الوكالة تجوز بأجر وبغير أجر.
واحسب أن الضمان يمكن أن يكون من هذا القبيل هو الأصل فيها أن تكون تبرعا.. ولكنها ليست بواجب على أحد. فإذا اشترى مؤديها عوضا لها جاز له ذلك دون تأثير على أنها في الأصل تبرع كالهبة. وبذلك يتضح لنا جليا أن الحكم على عدم جواز الأجر على الضمان باعتباره عقدا من عقود التبرعات حكم لا يسنده دليل. إذ اتضح أن كون العقد أو التصرف من قبيل التبرع لا ينفي عنه العوض. كل ما هناك أن العوض فيه ليس بشرط. كما يقول ابن عابدين. ولكن إذا شرط العوض فيه جاز.
وينبغى أن ننبه إلى أن معظم التصرفات السائدة في مجتمعنا اليوم باعتباره من قبيل التبرعات وتعتبر من وجوه التكافل في المجتمع المسلم كالمساعدات في الأفراح بأنواعها والأتراح بأنواعها إنما هي مبنية على معنى هبة الثواب – أي تبرعات بعوض وصحيح أن العوض ليس مشروطا فيها ولكنه معروف عرفا مستقرا. ونحن نعلم أن المعروف عرفا كالمشروط شرطا.
__________
(1) قوانين الأحكام الشرعية 344- 345(2/967)
فأرجو أن أكون قد وفقت إلى تبيان أن كون الضمان من عقود التبرعات لا ينافي – استنادا إلى أي نص تشريعي أو معنى فقهي – أخذ العوض أو الأجر عليه.
أخذ الأجر: سلف جر منفعة:
علل ابن عابدين – في عبارته السابقة ضمن فتوى بنك فيصل – عدم جواز الأجر على الضمان بأن الضامن مقرض للمضمون. فإذا شرط له الجعل مع ضمان المثل فقد شرط له زيادة على ما أقرضه وهو ربا.
ونقول ردا على ذلك أن الضمان ليس بقرض. ولا أحسب أن أحدا عدّ الضمان وجها من وجوه القرض. والضمان كما هو معروف عن المالكية- وهو المعنى المتمشى مع مفهوم خطابات الضمان والمتمشى أيضا مع القانون السوداني – وهو التزام بالوفاء بما في ذمّة المضمون: -
1- عند حلول أجل الالتزام أو ما في حكمه.
2- وعند عجز المضمون عن الأداء.
والقرض بالمقابل لا ينعقد مضافا إلى زمن ولا معلقا على شرط كما هو الشأن في الضمان. صحيح أنه إذا حلّ الأجل وعجز المضمون عن الأداء كان للمضمون الحق في أن يطالبه بالأداء. فإذا طالبه وأدى، فإنما يؤدى ما عليه من التزام مباشر تجاه المضمون له دون وساطة المضمون. ويجب عليه أن يفي بهذا الالتزام حتى وإن تحقق عسر المضمون أو موته. فإذا قلنا إنه قرض فهو غير مختار في إقراضه وقت الأداء، وإذا قلنا إنه قرض فهو غير مقرض للمضمون الذي توفي وليس في تركته وفاء. وكل هذه المعانى تنافي معنى القرض ابتداء وانتهاء.(2/968)
ومع ذلك فللضامن –إذا أدى الالتزام بناء على عقد الضمان – الرجوع على المضمون إذا كان ذلك ممكنا. ولكنه رجوع نشأ عن تنفيذ الالتزام السابق ولم ينشأ عن قرض بين الضامن والمضمون.
وفي الختام نقول أن عقد الضمان عقد اسيثاق وليس عقد قرض. فإنه وإن شابه القرض في وجه فقد خالفه في وجوه كثيرة. ثم أن الأصل في عقود الاستيثاق توقع وفاء المضمون وأن الاستثناء هو تنفيذ الالتزام على عقد الاستيثاق. والحكم يبنى على الغالب لا على الاستثناء. وعليه، فإن أخذ الأجر على الضمان لا يدخل تحت محظورات كل قرض جر منفعة فهو ربا لأن الضمان ليس بقرض. ومع ذلك فقد يصح هذا القياس وتثار الشبهة لو طلب الضامن العوض أو الأجر عند وفائه بالتزام الضمان. أما اشتراط العوض ابتداء فليس من القرض في شيء كما قدمنا.
هذه ثلاث حجج اعتمد عليها الفقهاء في حكمهم بعدم جواز أخذ الأجر على الكفالة. واتضح لنا أن هذه الحجج لا تقوى دليلا على ذلكم الحكم. فما الذي دفع الفقهاء إلى الانقياد والتسلم بذلك.
في تقديري أن الذي قادهم لذلك ودفعهم إلى التسليم به هو العرف العملي. فالمعاملات كانت بسيطة وتتم في أسواق محصورة وبين الناس يعرف بعضهم بعضا، ولم تتسع المعاملات وتتعقد بالصورة التي عليها اليوم من حيث حجم العمل ومن حيث المدى الجغرافي بحيث يضطر الإنسان إلى أن يتعامل مع أشخاص ومؤسسات في الداخل والخارج وهو لا يعرفهم. بل يتم التعامل عن طريق المراسلات في كثير من الأحيان.
وحتى الوكالة فيبدو أن العرف فيها كان يجرى على اعتبارها عقد تبرع ثم لما تطورت أعراف الناس تجاريا بدأت تدخل الوكالة بأجر شيئا فشيئا حتى أضحت اليوم أمرًا عاديًا وأن الوكالة بأجر صارت هي الأصل.(2/969)
وهو نفس العرف الذي لم يكن الناس يسوّقون به أخذ الأجر على تعليم القرآن وعلوم الشريعة فلما انقطع الناس لذلك وأصبحت لهم مهنة أجازوه دون أدنى حرج. وهو نفس العرف الذي دفع الحنفية إلى عدم اعتبار المنفعة مالا وخالفهم في ذلك الجمهور.
وما الضمان إلا واحد من هذه التصرفات التي مشى فيها الفقه بناء على العرف. وحيث أن العرف قد تبدّل اليوم كثيرًا فلا مناص من النظر في امر الضمان لاستنباط الحكم الذي يلائم حاجة ومصلحة الجماعة المسلمة.
ومما يدل على أن الحكم بعدم جواز أخذ الأجر على الضمان لم يكن صحيحا على إطلاق ما ثبت من بعض الفقهاء جوّزوا صورا من أخذ الأجر على الضمان تمشيامع تبريرات التعامل التي واجهتهم من ذلك مثلا:
في الخطاب:
1- وفي التوضيح إذا كان رب الدين أعطى المديان شيئا على أن يعطى جميلًا فأجازه مالك وابن القاسم وأشهب وغيرهم. وعن اشهب في العتبية أنه لا يصح وعنه أيضا أنه كرَهه. وقال اللخمى وغير الجواز بين (1) .
2- وقال ابن غازى أن الجعل لو كان من رب الدين للمديان لصح فأحرى إذا كان من غيره (2) .
3- ولابن القاسم في العتبية لا بأس أن نقول: خذ هذه العشرة دنانير وأعطنى بما عليك حميلا ورهنا وعلى أحد أقوال مالك لا يجوز (3) .
4- ولمحمد عن أشهب: من له على رجل عشرة دنانير لأجل فاسقط عنه قبل الأجل دينارين على أن يعطيه بالباقى رهنا أو حميلا فلا بأس به. وقال ابن القاسم لا يجوزه اللخمي لأن أخذه الحميل خوف عسر الغريم عند الأجل فيجب تأخيره فأخذه الحميل بما ضع مثل: ضع وتعجل (4) .
هذه النصوص تفيد بصورة أو أخرى أنه يجوز للغريم أي المدين أن يأخذ عوضا أو أجرا من الدائن على أن يقوم هذا الغريم بتقديم كفيل أو ضامن بالدين الذي عليه، طبعا على اختلاف بينهم على هذا الجواز وعدمه، وعلى اختلاف بين المجيزين في درجة جوازه. فلم جوّزوا العوض للغريم والضمان في تقديرهم ما زال من عقود التبرع. ولم جوزوه للغريم ولم يجّوزوه في حق الضامن الذي يتولى المسؤولية؟ أحسب أنهم أحسوا بالحاجة للضامن. ولم يروا أن يصادموا الحكم العام بعدم جواز الأجر على الضمان، فجعلوا العوض للمدين مع أن الدائن يستفيد من ضمان الضامن لا من المدين. فهو عندما دفع يريد أن يستوثق لحقه ويحصل على هذا الاستيثاق بتحرير الضمان لصالحه، فما يسعى له ويشتريه هو الضمان وهو المقابل لما دفعه من أجر. وليس هو شيئا عند المدين، لأنه لو رضي بالمدين فلا حاجة له بدفع العوض لأن الحق متعلق بذمته ابتداء.
__________
(1) مواهب الجليل 5/ 112
(2) 5/113مواهب الجليل
(3) مواهب الجليل 5/113
(4) مواهب الجليل 5/113(2/970)
وأظن أن إدخال عملية الوكالة هنا – وعلى فرض وجودها – مجرد حيلة لتجويز الأجر على الضمان. فإذا رأي الفقهاء أن هناك مقتضى لأخذ الأجر على الضمان فالأصلح أن يقرره مباشرة لا أن يتحيّلوا عليه بفرض ألا يطرد في حين أن الحاجة إلى العوض قد تطرد وبفرض الا يكون جزءا من الضمان.
5- ولمحمد عن مالك وابن القاسم وأشهب وغيرهم: من قال لرجل ضع من دينك عند فلان وأتحمل لك بباقيه لأجل آخر، لا باس به لأن له اخذه بحقه حالًا. وروى أشهب عنه جوازه وكراهته. وقال مالك في العتبية: لا يصح كمن قال: أعطني عشرة دراهم وأتحمل لك، فالحمالة على هذا حرام والأول أبين (1) .
وها هنا يقول الضامن لصاحب الدين: ضع من دينك عن فلان وسأتحمل لك بباقيه إلى أجل آخر. فذلك لا باس به. ولكنه كالأمثلة الأولى فالمنفعة فيه وإن كانت مشروطة من قبل الضامن إلا أنها تذهب لصالح المضمون. وكل هذه الأمثال فيها أجر على الضمان ولكنه بدلا من أن يتحرك من المضمون للضامن من تحرك العوض من المضمون له إلى المضمون. وفيها شراء من قبل رب الدين للضامن بعوض فإذا جاز ذلك هنا وفيها ضيعة من الدين في مقابل الضمان فلم لا تجوز هناك يا ترى؟
__________
(1) مواهب الجليل 5/ 133(2/971)
أخذ الأجر مع الغطاء ومنعه مع عدم الغطاء:
ذهب بعض المجتهدين – كما رأينا في الموسوعة وفتوى بنك فيصل السوداني –إلى جواز أخذ الأجر على الضمان إذا كان خطاب الضمان مغطى بغطاء كليث أو جزئي. ومنعوا أن يؤخذ على خطاب الضمان أجر إذا لم يكن ثمّة غطاء. وبنوا ذلك - كما قدمنا – على أساس أن خطاب الضمان إذا بغطاء فإنه يشتمل على ضمان ووكالة، ويجوز الأجر على الوكالة ولذلك يجوز الأجر على خطاب الضمان في الجملة.
هذا الحكم يفيد أن العميل الذي يطلب خطاب ضمان من بنك التضامن مثلا لالتزامه تجاه بيت التمويل الكويتى في حدود مليون دولار لمدة ستة أشهر – يفيد أن هذا العميل يمكن أن يدفع أجرًا على خطب الضمان إذا كان الخطاب بغطاء كامل أو كان بغطاء جزئي. بمعنى أنه عندما يدفع للبنك كل قيمة الضمان أو جزءا منها – فتبقى عند البنك ويستفيد منها حتى يحل من أجلها – عند ذلك يجوز لهذا البنك أن يأخذ أجرا والحال أنه ليس ثمّة خطرعليه في حالة الغطاء الكامل، وقل خطره في حالة دفع الجزء. وعندما لا يدفع شيئًا فيزداد خطره يحرم من أخذ الأجر. فلماذا هذه التفرقة غير المنطقية؟ قيل لأنه عندما يدفع قيمة الضمان أو جزءا منها يكون وكيلًا ويجوز الأجر على الوكالة. ومهما يكن من أمر فإن الوكالة ليست شرطا في عملية الضمان. فإذا وردت تبعا ومصاحبة للضامن فيصح أخذ الأجر عليها باعتبارها وكالة منفصلة عن الضمان. ولا يعد أجرها أجرًا للضمان. ولكن سيظل وكيلًا في بعض حالات عقد الضمان، وخاصة في خطابات الضمان، لأن دفع الأقساط كثيرًا ما يتم عن طريق الجهة الضامنة وهي تقوم بذلك عن طريق الوكالة عندما يدفع لها المضمون قسطًا كما هو الحال عند دفع القسط مقدما. فليس ثمّة تفرقة بين الحالين. ففي كليهما يكون البنك – الضامن – وسيطا يتم من خلاله تنفيذ الالتزام. فإذا جاز الأجر في الأول كان جائزًا في الثاني، وعليه فلا أرى ثمة تفرقة حقيقية بين الصورتين حتى يجوز الأجر في الأولى ولا يجوز في الثانية. بل عن جوازه في الأولى ينافي كل منطق.
بذلك تنتفي – في تقديرى – كل الحجج التي اعتمد عليها المانعون لأخذ الأجر على خطابات الضمان. فماذا عن حجج المجوّزين؟(2/972)
الذين بنوا جواز أخذ الأجر بناء على جوازه في الجاه:
النصوص العامة في الفقه الإسلامي تفيد أنه لا يجوز أخذ الأجر على الجاه والضمان. ولكن فريقا من الفقهاء المعاصرين قالوا بجواز أخذ الأجر على الجاه بناء على أقوال لبعض الفقهاء المتقدمين كما قدمنا. غير أن أقوال المتقدمين تتحدث عن جواز الأجر على الجاه بشروط. فهل أولًا الضمان كالجاه – كما قالوا: أن الضمان شقيق الجاه؟ وأحسب أن القياس صحيح. فالضمان والجاه يتمخضان عن معنى واحد. فالشخص الذي يتحلى بسمعة طيبة مبنية على درجة وفائه بإلتزاماته هو الذي يقبل ضامنًا. وبذلك يكون له وجه مقدّر عند الآخرين فيقبلون كلمته. فالجاه والضمان إذن بمعنى واحد.
ولكن معظم النصوص التي أوردها أصحاب هذا الرأي لا تسند حجتهم فكلها تتحدث عن عمل مادي، إما عمل معلوم فيكون إجارة أو عمل مجهول فتكون جعالة بل فيها نفي للأجر على الوجاهة إلا إذا ارتبط به عمل. فيكون الأجر إذن للعمل لا للوجاهة. وعليه فإن النصوص المستدل بها لا توصل إلى جواز أخذ الأجر على الوجاهة ومن ثّم على الضمان. ونأخذ هنا المثل العام على ما قررنا: جاء في حاشية الدسوقي: وفي المعيار سئل أبو عبد الله القوري عن ثمة الجاه فأجاب بما نصه اختلف علماؤنا في حكم ثمن الجاه فمن قائل بالتحريم بإطلاق ومن قائل بالكراهة بإطلاق ومن مفصّل فيه وأنه أن كان ذو الجاه يحتاج إلى نفقة وتعب وسفر فأخذ أجر مثله فذلك جائز وإلا حرم. (1)
__________
(1) حاشية الدسوقى 3 /224(2/973)
والفريق الثاني يرى في عملية الضمان أنها خدمة محترمة يقدّمها الضامن فيعزز بها قيمة التزامات المضمون. وبما أنها خدمة محترمة ومقوّمة شرعا فيجوز أخذ الأجر عليها. وهذا تخريج وجيه في تقديرى يعززه:
1- أن الحنفية والحنابلة والزيدية قد اجازوا شركة الوجوه. وهي شركة لا تعتمد على مال ولا على عمل وإنما تعتمد على وجاهة الشركاء وثقة الناس في درجة إلتزامهم. وبهذه الثقة فقط يستحقون الربح. ولذلك يحتج المانعون لعدم جواز شركة الوجاهة بان الربح لا يستحق إلا بالمال أو العمل وها هنا لا مال ولا عمل. وأجاز اولئك أن تكون الوجاهة والالتزام المترتب عليها سببًا للربح (1) فلم لا يكون سببًا للأجر في خطابات الضمان؟
يقول ابن رشد: وشركة الوجوه عند مالك والشافعي باطلة. وقال أبو حنيفة جائزة. وهذه الشركة هي الشركة على الذمم من غير صنعة ولا مال. وعمدة مالك والشافعي أن الشركة إنما تتعلّق على المال أو على العمل، وكلاهما معدومان في هذه المسألة والالتزام المترتب عليها سبب للربح فلم يكون سببًا في خطابات الضمان؟ وقال ابن رشد: وشركة الوجوه عند مالك والشافعي باطلة.
وقال أبو حنيفة جائزة. وهذه الشركة هي الشركة على الذمم من غير صنعة ولا مال. وعد مالك والشافعي أن الشركة إنما تتعلق على المال أو على العمل، وكلاهما معدومان في هذه المسألة مع ما في ذلك من الضرر، لأن كل واحد منهما عاوض صاحبه بكسب غير محدود بصناعة ولا عمل مخصوص، وأبو حنيفة يعتمد أنه عمل من الأعمال فجاز أن تنعقد عليه الشركة (2)
ويقول ابن جزي: وأما شركة الوجوه فهي أن يشتركا على غير مال ولا عمل وهي الشركة على الذمم بحيث إذا اشتريا شيئًا كان في ذمتهما وإذا باعا اقتسما ربحه، وهي غير جائزة خلافا لأبي حنيفة (3) .
__________
(1) الشخصية الاعتبارية في الفقه الإسلامى 232 لأحمد على عبد الله
(2) بداية المجتهد 2/ 192
(3) قوانين الأحكام الشرعية 299/ 300(2/974)
2- ويعززه كذلك أن الشرع الإسلامي جعل الضمان واحدا من شروط استحقاق الربح، فإن الجمهور – وبناء على أحاديث اشتراط قبض المبيع قبل بيعه – قالوا لا يجوز بيع السلعة المشتراه قبل قبضها. وعلّلوا ذلك بأنه يقبض السلعة فإنها تدخل في ضمان البائع وتهلك عليه فيستحق إذن الربح في البيع مقابل خطر الضمان هذا. فهنا لم يكتف الشارع بمجرد ملكية السلعة وإنما اشترط فوق ذلك أن تدخل في ضمانه حتى يجوز له أن يبيعها ويستحق عليها الربح. فكان هذا مؤشرًا آخر على جواز أخذ الأجر بناء على الضمان كما جاز استحلال الربح هناك بناء على الضمان ومع الخلاف بين الضمانين إلا أن جوهرهما واحد.
3- ثم هل الوجاهة عمل أم أنها ليست بعمل. معلوم أن الوجاهة والثقة في الشخص الطبيعى أو الاعتباري لا تأتي إلا بجهد عمل كبير ومضطرد وممتاز، بحيث يستقر ويتأكد بموجب هذا الفصل أن هذا الشخص أهل للثقة ويمكن الأعتماد عليه. ثم أن مسئوليته تجاه هذه الثقة والوجاهة ستزداد بعد أن يصبح أهلًا ومحلًا لثقة الآخرين. ولا يستطيع المحافظة عليها إلا بمزيد من العمل الممتاز المتمثل في الوفاء بالأمانة رغم كل الظروف الصعبة.
فالوجاهة وإن لم تكن عملا في ذاتها فهي نتاج عمل مسئول وممتاز. ولا يتصور خلق سمعة في وسط من الأوساط ولا يتصور المحافظة على هذه السمعة إلا بالعمل. فالعمل هو الأساس والثقة هي النتاج والمظهر. ولذلك عبّر أبو حنيفة – كما جاء في عبارة ابن رشد - عن هذه الوجاهة بأنها عمل من الأعمال.(2/975)
4- وعليه فإن المؤسسات المالية تبدأ مشوار بناء الوجاهة هذه بمشوار صعب تخضع فيه لكل أنواع الابتلاء من قبل الأفراد والمؤسسات. ويكلفها ذلك الكثير من المال والجهد والخسارة. ولكنها تتحمل ذلك من أجل بناء اسم في المحيط المحلي والخارجي، لأنه متى ما بنيت هذه السمعة وحافظت عليها فستجد كثيرًا من التسهيلات، فمثلًا بدأ بنك التضامن في علاقته بالمراسلين الأجانب وفي تجارة الاستيراد بخصم قيمة كل الاعتماد المطلوب من حساب أو على الأقل حجزه في حساب مقابل تعزيز هذا الاعتماد للجهة المصدرة. في حين أن المؤسسات الأخرى التي سبقت وبنت سمعة تستطيع أن تجد تسهيلات بما يعادل 10 % فقط من قيمة الاعتماد وهكذا. ليس ذلك فحسب بل أن البنك كان يخصم من حسابه كل قيمة الاعتماد حتى ولو اشترى التاجر البضاعة موضوع الاعتماد بتسهيلات صغر أو كبر مداها. ولقد جمّد بنك التضامن في هذه الفترة الأولى كثيرًا من أمواله التي كان يمكن أن يستغلها لصالح البنك. ولكن الوجاهة لا تأتى بلا ثمن وهذا ثمن هذه السمعة. حتى إذا ما اجتاز البنك هذه المرحلة بنجاح والحمد لله فإنه الآن محل ثقة كثير من المراسلين والكثير منهم يخطب التعامل معه بناء على الشروط السهلة التي تناسب الورقة. فهذا مثال واحد نوضح به أن البنوك التي تقدم ضمانا لطلابها لم تصل لهذه الدرجة بدون عمل وجهد وإنفاق. وأن المحافظة على السمعة التي وجدتها تحتاج إلى جهد لا يقل عن الجهد الذي حصلت به على هذه الوجاهة. فإذا قيّمت ذلك العمل المحترم بمال وأخذت عليه أجرا فإنما تأخذ على عمل مقوّم ومحترم ومشروع.(2/976)
وهي في نفس الوقت الذي تقدم فيه خطاب الضمان المزين الذي يطلبه، إنما تقدم له خدمة مقدرة ومحترمة ويستطيع من خلال استخدامه لضمان البنك أن يتجاوز ذلك بجهده الخاص حتى يبني هو سمعته ويكون محل ثقة الجهات التي يتعامل معها، ولا يحتاج بعد ذلك إلى ضمان الآخرين. وهكذا تمضي الدورة. فكما بنى البنك هذه الثقة لبنة لبنة وكما دفع فيها ما غلا من الثمن مالا وزمنا كذلك يستطيع الفرد أن ينهج نفس النهج فيبني جاهه ولذلك ثمنه. ويكون الأجر الذي يدفعه للبنك الضامن جزءا من ذلك الثمن ويكون الوفاء بإلتزاماته في وقتها وبشروطها هو جزء آخر.
ومع قولنا أن الضمان يكون نتاج عمل مقوم ومحترم إلا أنه في ذاته يحتاج إلى عمل مادي من قبل الجهة المعطية للضمان كدراسة أحوال العميل ومعرفة مركزه المالي ودرجة التزامه ودراسة المشروع موضوع التمويل ومدى جدواه الإقتصادية والإجتماعية، ولكنا لا نقول كما قال المتقدمون: أن له أجر المثل في هذه الدراسات فحسب، وإنما له أخذ الأجر على عطية الضمان ككل ما كان منها عملا ماديًا وما كان منها جاها.
5- ومما يدل على مالية الجاه اشتراط كثير من الفقهاء في الضامن أن يكون مليًا. إذن فالمقصود من الضمان ليس هو جاه أو مجرد ذمة الضامن وإنما جاهه المبني على سمعته المالية وذمته القادرة على الوفاء. وما دام المقصود هو ملاءته وما الجاه والثقة إلا مظهر من مظاهرها فلا معنى لأن يقول البعض إنه يجوز الأجر على الجاه إذا كان ثمة عمل كسعي ونفقة وغيره. أما إذا لم يكن شيء من ذلك فلا أجر على الجاه علمًا بأن الجاه لا يكون إلا منفعة من منافع العمل. ولعل الذي صرف الفقهاء عن اعتباره هو أن الخدمة المؤداة عن طريق الضمان وإن كانت خدمة جليلة ومحترمة تفوق في جلالها وقيمتها كثيرًا من القيم الأخرى المادية إلا أنها تبدو وكأنها خدمة ناتجة عن عمل غير مادي بل ناتجة عن منفعة عمل مادي. ولأنها منفعة فقد دقت على الفقهاء فيما مضى. غير أن المنافع والحقوق قد أصبحت اليوم من الوضوح والشخوص بحيث لا ينكرها أحد ولا تدق على فقيه كما كانت من قبل. ولقد مضى الزمن الذي لم تكن فيه المنافع مالا أو شيئا يقوم بالمال.(2/977)
الخلاصة:
نخلص من كل ذلك:
1- إلى أن دعوى أن التبرع والمعروف لا يجوز عليه العوض دعوى غير صحيحة. وأن ما ترتب عليها من أن الضمان تبرع ولذلك لا يجوز أخذ الأجر عليه نتيجة غير صحيحة هي الأخرى. فرغم أن الأصل في التبرع أن يكون مجانا وبلا عوض مادي إلا أنه إن شرط فيه العوض صح.
2- وإلى أن الضمان ليس بقرض. ولذلك فلا يدخل تحت محظور المأثور: ((كل قرض جر منفعة فهو ربا)) . لما بينّا من أن الضمان استيثاق وأن الضامن غارم وأن قياس الضمان على القرض قياس مع الفارق. إذ ليس هناك منافاة بين الأجر والضمان ولا بين الأجر والغرم فقد يأخذ الأجير أجره والمضارب ربح عمله مع أنه قد يغرم ويضمن في بعض الحالات نتيجة تقصيره مثلًا. فإذا قصّر الأجير وترتّب على ذلك اعتداء طرف ثالث على أدوات عمله فهو غارم للمؤجر وضامن لقيمة هذه الأدوات وله في نفس الوقت الرجوع على المعتدى بالقيمة. ولا يؤثر ذلك في استحقاقه لأجرته ولا يحرمها.
3- إذا انتفت الأسباب والعلل التي بنى عليها الفقهاء تحريم أخذ العوض في الضمان فالنتيجة الطبيعية أن يكون العوض في الضمان جائزًا إذا ما اشترط، إلا إذا أدى ذلك إلى محظور آخر. وفي تقديرنا أنه لا يوجد محظور. فالضمان عمل محترم يكلف الضامن مسئولية ويلقى عليه عبئا ويفيد المضمون فائدة كبيرة تفوق فائدته من دراسة جدوى المشروع من نواحيه الإقتصادية والفنية. ولذلك ينبغي أن يكون عملًا يمكن تقويمه بالمال ويمكن أخذ الأجر عليه بحسب اتفاق الأطراف المتعاقدة.
4- وقولنا بجواز أخذ العوض على الضمان ليس قولا بإخراج الضمان من عقود التبرعات. بل نفضل أن يكون الضمان تبرعًا في عمومه وأن يجري بين الناس كواحد من عوامل التكافل الذي يقدم فيه الإنسان ضمانًا لأخيه الإنسان لوجه الله. وذلك مما يزيد من عرى الإخوة، بحيث يكون من ضمن عوض الإنسان هو أن هذا الآخر أو غيره سيضمنه إذا ما احتاج إليه. ولكن هذا لا يمنع من أن تؤدي المؤسسات المالية مثل هذه الخدمة تبرعًا وبعوض أن اختارت ذلك وقبل الطرف المتعامل معها: والله ولى التوفيق(2/978)
من تقرير حول ندوة "البركة"
الثانية التي انعقدت بتونس
من 11-14 صفر 1405هـ
1- مداولات الجلسة العامة:
دار النقاش أولًا حول توصيف خطاب الضمان هل هو كفالة أولًا. رأي البعض أن خطاب الضمان غير الكفالة لأن الكفيل يحل محل المكفول في الوفاء بالتزاماته بينما البنك الذي يقدم خطاب الضمان إلى مقاول مثلا لا يطلب منه أن يقوم بالأعمال المطلوبة من المقاول.
ورد آخرون بأن الكفالة يمكن أن تكون محدودة ولا يشترط أن يحل الضامن محل المكفول في كل أعماله.
ثم نوقشت مسألة استحقاق البنك مقدم خطاب الضمان لأجر. فأكد البعض ما سبق أن قيل (4-ب) من أن الضمان أخذ في عصرنا هذا صورا تختلف عما عرفه الفقهاء حينما وصفوه بأنه عقد تبرع. لذلك لا يرى هؤلاء مانعًا من أخذ البنك الإسلامي أجرًا عند تقديم خطاب الضمان.
وقال آخرون بأن خطاب الضمان كفالة وهي تبرع وكون العميل هو الذي لا يخرجها عن طبيعتها تلك. وقالوا إنه يجوز للبنك أخذ أجر شريطة أن لا يزيد عن التكلفة الحقيقية للخدمات المقدمة. أما مسألة الغطاء في خطاب الضمان فقد قيل أن البنك الذي يصدر خطاب ضمان غير مغطى يعتبر كفيلًا. أما إذا كان خطاب الضمان مغطى بالكامل فإن البنك له صفتان: هو وكيل بالنسبة للعميل طالب الضمان، وهو كفيل في علاقته مع الطرف الثالث المستفيد من خطاب الضمان. ويصح أخذ أجره في حالة التغطية لكون البنك وكيلًا.(2/979)
2- السؤالان المقدمان إلى لجنة العلماء.
السؤال الثامن:
هل يجوز للبنك الإسلامي أخذ عوض مقابل عمله المتمثل في إصدار خطاب الضمان المصرفي إما على أساس الأجر باعتبار أن هذا العمل توكيل مطلق لدفع مبلغ معين أو على أساس الوجاهة نظرًا لما يتمتع به البنك من ملاءة.
الفتوى:
تبين بعد المداولة في السؤال أن موضوع خطاب الضمان المصرفي يحتاج إلى مزيد من البحث ودراسة الواقع الذي يجري عليه العمل في البنوك الإسلامية.
السؤال الثاني عشر:
هل يجوز للبنك الإسلامي الذي دفع له مبلغ نقدي لخطاب الضمان أن يستثمره بموافقة المودع مضاربة بنفس الشروط التي يستثمر بها للمودعين.
الفتوى:
يجوز للبنك الإسلامي أن يستثمر بالمضاربة المبلغ المودع لديه غطاء لخطاب الضمان الذي يصدره بنفس الشروط التي يستثمر بها للمودعين.(2/980)
ندوة البركة الثالثة للاقتصَاد الإسلامي
المنعقدة باسطنبول
الفتوى في المسألة الأولى
أولًا – موضوع المسألة: خطاب الضمان المصرفي:
1- خطاب الضمان المصرفي ومدى جواز أخذ الجر عليه.
2- هل خطاب الضمان المصرفي كفالة بمفهومها الفقهي ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة أم أنها توكيل بأداء مبلغ معين من النقود ضمن مدة محددة.
3- إذا كان خطاب الضمان المصرفي كفالة وهو من أعمال التبرع فهل تنقلب أعمال التبرع إلى أعمال تؤدي بالأجر كما أفتى المفتون بذلك عن أعمال الطاعات مثل تعليم القرآن وإمامة الصلاة.
4- إذا كان خطاب الضمان المصرفي وكالة فهل يجوز للوكيل أخذ الأجر نسبيًا بمقدار القيمة كما هو الحال في السمسار والمحامي.
ثانيًا – الأوراق التي نظرتها اللجنة وناقشتها:
1- البحث المقدم من الدكتور سامى حسن حمود.
2- الرأي المكتوب المقدم من فضيلة الشيخ زكريا البري.(2/981)
ثالثًا – الفتوى في المسألة:
1- خطاب الضمان:
(أ) إن جواز إصدار خطابات الضمان مشروط بأن يكون مرتبطًا بمشروعية الموضوع الذي يطلب خطاب الضمان لأجله.0
(ب) أن خطاب الضمان المصرفي إذا كان بدون غطاء نقدي كامل فهو كفالة ويخضع لأحكامها. وإذا قدم له غطاء نقدي كامل لدى البنك فهو وكالة بالنسبة للشخص المكفول، أما بالنسبة للجهة المكفول لها فإن خطاب الضمان حينئذ كفالة.
(جـ) يجوز للبنك في جميع الأحوال أن يأخذ أجرًا على خطاب الضمان بمقدار ما يبذله من جهد وعمل إجرائي دون أن يربط الأجر بنسبة المبلغ الذي يصدر به خطاب الضمان.
(د) أما أخذ الأجر على خطاب الضمان غير المغطى بنسبة مبلغ الضمان، كما هو معمول به في البنوك فقد رات اللجنة (باغلبية الآراء) انه يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتمحيص والإطلاع على النماذج المستعملة في مختلف الحالات والتي طلب من المختصين في البنوك تقديمها للنظر فيها، وخاصة أن موضوع خطاب الضمان المصرفي مطروح للبحث لدى مجمع الفقه الإسلامي في جدة ومدرج في جدول أعماله للدورة القادمة.
نقطة إيضاح من المقرر:
نظرًا لما قرره الأساتذة العلماء من ناحية تأجيل النظر في مسألة الأجر على خطاب الضمان غير المغطى وطلبهم تقديم البحث الذي اعده المقرر للنظر فيه أيضا من مجمع البحوث الإسلامية، فإن المقرر سيعمل على توسيع البحث المقدم وتقديم اسانيد إضافية لما يراه في خطاب الضمان من حيث تكييفه ومدى جواز أخذ الأجر عليه.(2/982)
العرَض وَالمناقشَة
14 /4 /1406 = 26 /12 / 1985
الساعة 18.10 – 20.50
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، به تعالى نبدأ، وبه نستعين وعليه نتوكل بعد حمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائه ورسله، أما بعد، فبين ايديكم بحوث ودراسات بشأن خطاب الضمان، وهذه البحوث بما أنها متعددة وكثيرة، فسنكتفي ببعض منها لأن المراد هو استكمال التصور وتبادل وجهات النظر ثم بعد ذلك تجرى المداولة بشأن ما تسمعون من ملخصات. وأرجو من أصحاب الفضيلة أصحاب البحوث الذين ستطلب منهم ملخصات، ألا تتجاوز كلماتهم خمس عشرة دقيقة على الأكثر، وارجو من الشيخ عبد الستار أن يتفضل.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه. اللهم أهدنا إلى ما اختلف فيه من الحق بإذنك.
خطاب الضمان من أهم أساليب التعامل المصرفي رغم أنه وسيلة ائتمان ويعتبر أيضا خدمة من الخدمات المصرفية، وهو عبارة عن استعداد للأداء عند الطلب، فهو في المئال تنفيذ للالتزام الذي ترتب في ذمة المكفول. ومن هنا يتبين أن خطاب الضمان فيه ضم ذمة إلى ذمة، ولا داعي للإطالة في تعاريفه وتصوراته فإنه اصبح معروفًا وسوف يتولى الآخرون الإشارة إلى تلك الصور. وحصيلة خطاب الضمان: أنه صك يتعهد بمقتضاه البنك المصدر له بان يدفع مبلغًا معينًا لحساب طرف ثالث لغرض معين. وقد يقال لماذا استخدمت كلمة صك هنا، مع أن المعروف في الشريعة الإسلامية أن العقود تتم بالإيجاب والقبول ولو شفاها، بدون كتابة، والحقيقة أن الإبقاء على كلمة صك هنا لوجود كلمة خطاب في الضمان، فإذا عرفنا خطاب الضمان فنحن مضطرون إلى أن نستخدم كلمة (صك) مع الاعتراف والتقرير بان الضمان يتم بمجرد إلتقاء الإرادتين الإيجاب والقبول ولو لم يكن مدونًا لأن الكتابة في نظر الشريعة عبارة عن توثيق وليست إنشاء للعقد. هذا هو النظر الفقهي، أما النظر القانوني فيختلف، فكثير من التصرفات تعتبر الكتابة والتوثيق فيها عنصرًا أساسيًا ومقومًا ضروريًا لنشوئها.(2/983)
خطابات الضمان، أو فكرة الضمان، إما أن تكون ضمن معاملة أخرى مثل الضمان الذي يكون في الإعتماد المستندي، وإما أن يكون ضمانًا مستقلًا وهو الذي ينصرف إليه مدلول عبارة خطاب الضمان. إذا كان الضمان جزءًا من معاملة مصرفية أخرى، كالاعتمادات المستندية فلا إشكال في الأجر الذي يتقاضى على تلك العملية، لأن هناك أعمالًا عديدة يقوم بها المصرف منها الوكالة، ومنها التبليغ، ومنها المهمات الكثيرة التي يقوم بها لصالح طالب الاعتماد. ولذلك يعتبر الضمان تبعًا ولا يكون مفردًا بالذكر ولا مخصوصًا بالأجر. إنما تثور المشكلة إذا كان هناك خطاب ضمان مستقل وليس ضمن معاملة مصرفية متكاملة. كثير من الباحثين حاول أن يلتمس في معاملة خطاب الضمان عن عمل ينصب عليه هذا الأجر لكي تكون هناك معاوضة أجر لقاء عمل وليس أجرًا لقاء كفالة محضة. وهذه المحاولة حاولت أن أتحراها أو أتقصى أمرها فاستعنت ببعض العاملين في هذا المجال، وطلبنا صورًا كثيرة من خطابات الضمان المستخدمة في الميدان، فلم نجد فيها إلا فكرة الكفالة وضم الذمة إلى ذمة المدين الأصلي، فليس هناك عمل متميز يصلح أن ينصب عليه الأجر.(2/984)
إذن خطاب الضمان عبارة عن كفالة محضة في شتى صوره ولو كانت هذه الكفالة أحيانًا تعتريها بعض القيود المعدلة للأصل المتبادر منها، كأن يكون من حق المكفول عنه أن يرجع على الكفيل بدون مطالبة الأصيل، وأحيانًا يرجع عليه ولو أدى الأصيل ما طلب منه لأنه ليس مطالبًا بالتثبيت والتحرى قصدًا لاستقرار التعامل، فهو يؤدي ما طلب منه ثم يرجع بما دفع. وقد يطالب أو يطلب دعوة جزائية على ذلك الذي أخذ البدل مع أن العميل الأصلي قد سقط والالتزام قد تحقق.
بعض الباحثين أراد أن يوجه خطاب الضمان وجهة أخرى فاعتبره وكالة ولا سيما إذا كان كفالة بالأمر، لأنه اعتبر هذا الأمر بمثابة توكيل والحقيقة أن الكفالة بالأمر لم تتغير فيها الحقيقة الشرعية وهي شغل ذمتين بحق واحد، ومعظم الكفالة التي تتم إنما بالأمر من المكفول عنه، وهذا الأمر لا يغير من الطبيعة الشرعية التي تقوم عليها الكفالة وإلا فنكون قد فرغنا الكفالة من محتواها ومن مضمونها لمجرد وجود هذا الأمر. الوكالة شيء والكفالة شيء آخر، الوكالة فيها التزام، أما الكفالة ففيها شغل ذمتين بحق واحد، كان الحق في ذمة الأصيل، فبوجود الكفالة انضمت ذمة أخرى إلى الذمة الأصلية لتوثيق هذا الحق.
إلا أن هناك صورة من خطاب الضمان وهي التي يكون فيها غطاء يعطي إلى الكفيل من المكفول عنه لكي يسد به الدين إذا طولب به. وهذا النوع من خطابات الضمان المغطاه أمكن تشخيصة وتكييفه إلى اعتبارين: فهو بين الدائن وبين المصدر لخطاب الضمان أو الضامن عبارة عن كفالة، لأن الدائن يشعر بأن ذمة هذا الكفيل قد شغلت بالدين الأصلي. وأما العلاقة بين الضامن وبين طالب الضمان وهو المكفول عنه، والذي قدم مقابلًا لهذا الضمان فإنه عبارة عن وكالة، لأنه أعطى مالًا وطلب من الضامن أن يدفع هذا المال عندما يطالب به. ولا يستنكر أن يكون للتصرف الواحد اعتباران، فهناك كثير من العقود تعتبر لازمة بالنسبة لطرف، وغير لازمة بالنسبة لطرف آخر ويكون لها اعتبار شرعي في مجال، واعتبار شرعي عندما تتغير المقتضيات والمضمون الذي تقوم عليه. فيما عدا هذه الصورة فإن خطاب الضمان يستقر أمره على أنه كفالة، سواء كان بطلب (كفالة بالأمر) أو بغير طلب. ولكن بعض الكتاب نظر في عبارات بعض الفقهاء وتصيد منها عبارة جاء فيها تشبيه الكفالة بالأمر بانها فيها وكالة وادعى أن كل كفالة بالأمر إنما هي وكالة لوجود هذا الأمر متغاضيًا أو متغافلًا عن أن هذا الأمر لم يغير من حقيقة الكفالة من انها فيها ضم ذمة إلى ذمة. والحقيقة أن هذا التشبيه إنما هو في النتيجة وليس في التكييف الشرعي، فالتكييف الشرعي بين الكفالة بالأمر وبين الوكالة مختلف كل الإختلاف.(2/985)
لننظر الآن في خطاب الضمان الذي هو في حقيقته كفالة، هل يمكن أن يتقاضى عليه جعل أو أجر؟ إذا كان هذا الأجر منصبًا على أداء هذه الخدمة كإصدار هذا الخطاب والعمل الكتابي الذي يتكلفه مصدر خطاب الضمان بعيدًا عن المدة التي يسري لها هذا الخطاب وعن المبلغ الذي يتعلق به الدين فإن هذا لا يعدو أن يكون خدمة مصرفية، فهو إجارة على عمل فعلًاولا إشكال في تجويزه، والبنوك الإسلامية كلها تزاول هذا العمل، ولا ترى فيه بأسًا لأنه خدمة لقاء أجر، فهو من باب الإجارة ومن باب الوكالة بأجر.
أما ترتيب الأجر على خطاب الضمان منسوبًا إلى مدته وإلى مبلغه فهو عبارة عن عوض على الكفالة، وقد عرف من نصوص الفقهاء وتطبيقاتهم وتصريحاتهم أن الكفالة لا تقبل العوض وإنها في حقيقتها من عقود التبرعات وهي من باب المروءات فلا يجوز أخذ العوض عنها. ولم يصرح هؤلاء الفقهاء بنص في الموضوع وإنما صرحوا بما هو في معنى النص، أو بما هو من الأولويات. فقد أشار ابن عابدين ومن قبله ابن قدامة في المغني، إلى أن تحريم العوض على كفالة لأن الكفالة في مآلها تتحول إلى قرض إذا طولب الكفيل بالأداء فأدى ورجع على مكفولة فإنه يطالبه بهذا القرض. وإذا كانت الشريعة قد منعت أخذ الجعل أو العوض على القرض الفعلي نفسه، فمن باب أولى أن تمنع أخذ العوض على الاستعداد للإقراض، لأن هذا أشد ظلما.(2/986)
فإذن الدليل على تحريم العوض على الكفالة مستمد من قواعد الشريعة واستقراء تطبيقاتها ونصوصها، فهو من تحقيق المناط ومن الأولويات التي تعتبر في مستوى النص والتصريح.
بعض الكتاب أراد أن يجعل من تبدل حال الكفالة وتغير ظروفها بين الماضي وبين الحاضر من أنها كانت في الماضي عملًا نادرًا وعملًا محدودًا، ولذلك لم يهتم الفقهاء بالتنصيص أو بالتصريح على جواز أخذ الجعل والأجر عليها، وأما في الوقت الحاضر فقد اصبحت عملًا مهما يتخصص له ناس وتعطيه وتولية البنوك حظًا من نشاطها، فإذن يتغير الحكم بهذا التطور، والحقيقة أن هذا لا يغير من واقع الأمر شيئًا، فالحكم الشرعي إذا لم يكن مرتبطًا بالعرف فإنه يبقى ثابتًا ولا يتغير بتغير هذا العرف. أما إذا كان الحكم الشرعي دائرًا على العرف ومرتبطًا به فحينئذ يدور معه.
والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار إذا كان الحكم في اصله مرتبطًا بهذا العرف.
بعض الكتاب أيضا أراد أن يقيس أخذ الأجر على الكفالة بما أفتى به العلماء والفقهاء من جواز أخذ الأجر على فعل الواجبات والطاعات إذا قل التبرع والتطوع بها كمهمة الإمامة والقضاء وغير ذلك من المهام التي يعود نفعها على المسلمين والتي هي في الأصل فرض على الكفالة عليهم، فلما ضعفت همم الناس في الإلتزام بهذه الواجبات أفتى العلماء بجواز أخذ الأجر عليها فيقاس عليها أمر الكفالة لأن همم الناس قد تقاصرت على المبادرة إلى فعل الكفالة بدون مقابل. والحقيقة أن هذا قياس مع الفارق لأن الكفالة ليست من الواجبات ولا من فرائض الكفاية. وإنما هي من المباحات شأنها شأن معظم المعاملات المالية.(2/987)
وأخذ الأجر على تلك الواجبات والفروض الكفائية ليس في الحقيقة من باب الإجارة وإنما هو من باب الرزق والعطاء الذي يخصصه أولو الأمر من بيت المال لسداد هذه الثغرات وهذه المهمات التي يعود نفعها على المسلمين، فهي مشبهة بلإجارة لأنها توجد عند وجود العمل وتنقطع عند انقطاع الإنسان عن هذا العمل.
كذلك بعض الكتاب اراد أن يستخلص من عمل الكفالة أن فيه جهدًا في دعم المركز المالي للمكفول، فهو من قبيل الوجاهة ومن قبيل الشفاعة التي يتكلف فيها الإنسان جهدًا ومشقة. وقد جاءت بعض النقول الفقهية بأن الإنسان إذا قام بمهمة رفع ظلامة عن مظلوم وتجشم في سبيل ذلك بعمل ونقلة وسفر وارتحال له أن يأخذ عن هذا العمل ما يلاقيه من مقابل. والحقيقة أن هناك مفارقة كبيرة بين الوجاهة وبين هذا العمل وبين الكفالة لأن الكفالة عبارة عن ضم ذمة، أما ذلك الجهد الذي يبذله الإنسان فهو عمل وهو يستحق الأجر إذا كان فعلًا تكلف في ذلك مالًا ونفقة وعملًا.
بالإضافة إلى هذا كله فإن بقاء الكفالة على طبيعتها وحقيقتها من أنها عقد تبرع، يعتبر معلمًا من معالم الحياة الإجتماعية الإسلامية من أن هناك تكافلًا بين المسلمين وتعاضدا بينهم، فالذي يستطيع أن ينفع أخاه ينفعه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ((من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه)) فلتبق هذه المعاملة على طبيعتها ولتكن شبيهة بطبيعة القرض من أنه مواساة، والكفالة أيضا استعداد للإقراض فهي من ذلك الباب.ولذلك هناك تشابه كبير بين ثلاث معاملات:(2/988)
الأولى: هي أخذ الفوائد الربوية باعتبارها أجرًا للقرض الفعلي.
والثانية: تقاضي اجور وجعل على خطابات الضمان باعتبارها أجرًا للاستعداد للقرض عند المطالبة بحق الكفالة.
والمعاملة الثالثة: هي أقساط التأمين التجاري التبادلي، باعتبار هذه الأقساط اجرًا على ضمان وكفالة، لكنها كفالة من نوع خاص، فهي كفالة تبرعية ليس فيها رجوع وهي كفالة على أمر مستقبل وهو من قبيل ضمان الدرك أو الكفالة بالدرك.
وجدير بالتعامل المشروع الواجب بين المسلمين، أفرادًا ومصارف تطهير اموالهم من هذا الثالثوث وتنقية مجتمعهم من مفاسده الظاهرة والخفية، والله ولي التوفيق.
الشيخ حسن عبد الله الأمين:
شكرًا سيدي الرئيس … بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا ومولانا محمد عبد الله ورسوله، وبعد،
لا أريد أن أثقل على المجلس وأن أكرر التعريف بخطاب الضمان وقد كفاني ذلك الأخ الدكتور عبد الستار أبو غدة، وإنما أريد أن أدخل في الموضوع من ناحية بيان أحوال خطاب الضمان ومحاولة تكييفه الشرعي.
فخطاب الضمان في وقتنا الحاضر يمثل موردًا كبيرًا من موارد البنوك والمصارف، وهو لذلك لا تستطيع البنوك الإسلامية أن تقف موقفا محايدًا عن تناوله، وهي لا تملك ذلك بحكم أن عملاءها يردون عليها بهذا الطلب كما يردون على البنوك الأخرى، وفي نفس الوقت الناحية المادية التي يمثلها كبيرة، في موارد المصارف، فهي تريد أن تعرف إلى أي حد يمكن لها أن تستفيد بهذا المورد، ومن هنا كانت أهمية الحديث عن هذا الموضوع وعن تكييفه الشرعي.(2/989)
أحوال خطاب الضمان كما أشار إلى ذلك زميلي الدكتور عبد الستار، هي أحوال يكون منها حال ما إذا كان خطاب الضمان له رصيد يغطيه أو يكون طالب خطاب الضمان من المصرف ليس له رصيد يغطي هذا الخطاب، وقد اشار الأخ الزميل إلى حالة ما إذا كان هناك غطاء، فهو في هذه الحالة يمثل الخطاب كفالة من جهة في العلاقة بين طالب خطاب الضمان وبين المصرف، ومن ناحية أخرى يكون كفالة بين الضامن وبين المكفول له. أما إذا كانت الحالة أن ليس هنالك غطاء، فهو كفالة يقوم بها المصرف عن طالب خطاب الضمان وعن المكفول له فما هو موقف الشرع من الأجرة على إصدار هذا الخطاب، وأبعد من ذلك على ما تعورف بين المصارف من أخذ مبالغ لا تقف عند حدود قيمة الإصدار التي بينها الزميل، مبالغ قد تكون يراعى فيها نسبة المبالغ المراد إصدار خطاب الضمان من أجلها. خطاب الضمان حينما يكون وكالة فإن الأجرة عليه جائزة ومشروعة، لأن الأجرة على الوكالة جائزة، قد تكون الوكالة بأجر وقد تكون بدون أجر. كما أن خطاب الضمان فيما يتعلق بقيمة العمليات الأولية المتعلقة بإصداره فقط فلا غبار عليها ولا خلاف بين الناظرين في هذا الأمر من إجازتها، إنما الأمر يتعلق بالأجرة على خطاب الضمان فيما يتعلق بالمبلغ المضمون والمبالغ التي تؤخذ عليه بنسبة هذا المبلغ 1 %، 2 % أيا كانت هذه النسبة، هذا هو الموضوع، هذا هو بيت القصيد كما يقولون.(2/990)
خطاب الضمان حينما يكون بمعنى الكفالة فللفقهاء رأي محدد مدون في كتب الفقه واضح، ذلك أنهم يقررون أن الضمان تبرع وان التبرع لا يؤخذ عليه أجر، لماذا؟ لأنه من باب الواجب، الكفالة من باب الواجب، يعللون ذلك في بعض الأحيان، وأوردوا في ذلك هذه النصوص التي توضح هذا الاتجاه، منها قول الدسوقي في حاشية على الشرح الكبير للدردير قوله (وفي المعيار سئل أبو عبد الله القوري عن ثمة الجاه فأجاب بما نصه: اختلف علماؤنا في حكم الجاه، ذلك لأنهم يعتبرون الضمان نوعًا من الجاه، هذه جملة معترضة، أعود إلى قراءة النص من أوله – (وفي المعيار سئل عبد الله القوري عن ثمة الجاه فأجاب بما نصه: (اختلف علماؤنا في حكم الجاه، فمن قائل بالتحريم بإطلاق، ومن قائل بالكراهة بإطلاق، ومن قائل بالكراهة بإطلاق، ومن مفصل فيه. وأنه أن كان الجاه يحتاج إلى نفقة وتعب وسفر، فأخذ أجر مثله، فذلك جائز، وإلا حرم) قال أبو على المنياوي وهذا التفصيل هو الحق.
ومنها قال ابن عرفة: يجوز دفع الضيعة لذى الجاه، وللضرورة إن كان يحمي بسلاحه، فإن كان يحمي بجاهه فلا، لأنها ثمن الجاه، وبيان ذلك أن ثمن الجاه، إنما حرم لأنه من باب الأخذ على الواجب، ولا يجب على الإنسان أن يذهب مع كل أحد. التعليل هنا لأنه من باب الواجب، منع أخذ الأجر على الجاه لأن الجاه من باب الواجب.
ومن هذين النصين يتبين أن للمالكية –هؤلاء علماء المالكية الذين أنقل عنهم عدة أقوال عن ثمن الجاه، أحدهما بالتحريم مطلقًا، والثاني بالكراهة مطلقًا، والثالث فيه تفصيل: فإن احتاج الجاه إلى تعب ونفقة وسفر فيجوز أخذ الأجر أو أجر المثل عليه، وإن خلا من ذلك فلا يجوز. وعلى المالكية لعدم جواز الأجر على الجاه المجرد، بأن ذلك من باب أخذ الأجرة على الواجب.(2/991)
ويتفق مذهب الشافعية مع القول الثالث المفصل للمالكية عن الأجر على الضمان، قال ابن حجر الهيثمى (وكقول من حبس ظلما لمن يقدر على خلاصة وأن تعين عليه، على المعتمد: أن خلصتني فلك كذا، بشرط أن يكون في ذلك كلفة تقابل بأجرة عرفا. وعلق الشرواني على قوله: لمن يقدر عليه بقوله: أي بجاهه أو غيره، وقال تعقيبًا على لزوم أن يكون في ذلك كلفة وتعب: والمراد بالتعب، التعب بالنسبة لحال الفاعل.
ونجد ابن عابدين الحنفي في حاشيته يقرر على ما تنسب إليه فتاوى بنك فيصل الإسلامي السوداني، لم أقف على هذا النص أنا إنما أعزوه إلى هذا المصدر فتاوى بنك فيصل الإسلامي السوداني: أن عدم جواز الأجر على الضمان لأن الضامن مقرض للمضمون، فإذا شرط له الجعل مع ضمان المثل، فقد شرط له زيادة على ما أقرضه، وهو ربا.
وهنا نجد انفسنا أمام تعليل آخر وهو أن الضامن مقرض وشرط الجعل له الأجر على الضمان، زيادة على ما أقرض، وفيما عدا هذه التعليلات المختلفة لعدم جواز الأجر على الضمان فيما وقفنا عليه من أقوال الفقهاء لم نجد لهم دليلًا يعتمدون عليه من كتاب أو سنة، وإن كانوا يتفقون في ذلك اتفاقًا يشبه الإجماع.
ونعود إلى مناقشة هذه التعليلات للحكم الذي قرره الفقهاء لمنع الأجر على الضمان، ونبدأ بمسألة أن ثمن الجاه إنما هو من باب أخذ الأجرة على الواجب ونسأل: هل الجاه أو الكفالة أمر واجب على من يفعله ام أنه من أعمال التبرع؟ بداهة إنه ليس واجبًا إلا إذا تعين على شخص بعينه، وليس من هذا النوع الضمان المصرفي، إذ لا يتوقف على شخص معين أو حتى مصرف معين دون غيره. فقضية كون الضمان المصرفي من باب الواجب الذي لا يؤخذ عليه أجر غير واردة هنا.(2/992)
ثم أن قاعدة عدم أخذ الأجرة على الواجب لا نراها مطردة عند هؤلاء الفقهاء، فقد رأيناهم يجيزون أخذ الأجرة على قبول حفظ الوديعة وحفظها وإن تعينت على شخص ما، وهو من باب الواجب. جاء في مغني المحتاج للشربيني: وقضيته أن له أن يأخذ أجرة الحفظ أجرة الحرز. ومنعه الفاروقي وابن أبي عصرون، لأنه صار واجبًا عليه فأشبه سائر الواجبات، هذه هو النص والمعتمد الأول، كما هو ظاهر كلام الأصحاب. هذا هو نص الشربيني.
أفلا يصح أن يقاس الضمان على فرض أنه واجب على الوديعة الواجبة ويأخذ حكمها في جواز الأجرة عليه؟
فإذا انتقلنا إلى تعليل منع الأجرة على الضمان المنسوب لابن عابدين (من كون الضامن مقرضًا، فإذا شرط له الجعل مع ضمان المثل فقد شرط له زيادة على ما أقرض، وهذا ربا) . وجدنا أن هذا التعليل مقبول على وجه الاجمال ولكن عند التفصيل نجده لا ينطبق على خطاب الضمان الذي ينتهي بوفاء المضمون بتعهده دون حاجة إلى الضامن.
وتبقى بعد ذلك حالة واحدة يمكن أن ينطبق عليها تعليل ابن عابدين وهي حالة ماذا كان خطاب الضمان على المكشوف –غير مغطى- وتخلف المضمون عن الوفاء إلى أن قام به مصدر خطاب الضمان. ففي هذه الحالة فقط يصبح خطاب الضمان منطويًا على قرض والجعل فيه زيادة يجب منعها كما قال ابن عابدين.
وبناء على ما تقدم فيبدو لي أن خطاب الضمان يكون على الأوجه التالية:
1- خطاب الضمان المغطى وهو كفالة تجاه المضمون له، ووكالة تجاه المضمون والعبرة بالعلاقة مع المضمون في تكييف حكمه فهو إذن وكالة، والوكالة تجوز بأجر وبدون أجر، وعليه فأخذ الأجرة عليه في هذه الحالة جائز.(2/993)
2- خطاب الضمان غير المغطى المكشوف الذي يقوم بالوفاء به المضمون نفسه دون الضامن مصدّر خطاب الضمان وهذا النوع هو كفالة وليس وكالة، كما أنه ليس فيه قرض لأن مصدّره لن يدفع شيئًا من المال للمضمون له. لقيام المضمون نفسه بالوفاء، وهو ليس من العمل الواجب القيام به لعدم تعيينه على شخص أو مصرف معين، لذلك فلا يدخل تحت قاعدة منع الأجر على أداء الواجب، فيصبح أخذ الأجر عليه على اساس انه عمل في تعامل رضائي. وعلى فرض أنه تعين وأصبح واجبًا على من تعين عليه القيام به، شخصًا أو مصرفًا فإنه يمكن قياسه على الوديعة الواجبة التي يجوز أخذ الأجرة على حفظها كما وضحنا، بحيث يصبح أخذ الأجرة عليه جائزًا لأن الضامن في هذه الحالة يبذل جهدًا كبيرًا في التحري وجمع المعلومات عن صلاحية المضمون لهذا الضمان. ويتحمل عبئًا نفسيًا وذهنيًا طوال فترة سريان الضمان حتى الوفاء به، خوف الإخلاف. وبذلك كله يهيء للمضمون ويمكنه من الحصول على منفعة محققة تتمثل في بلوغ مرامه بهذا الضمان الذي قد يعود عليه بالفائدة والنفع الكثير. ولا يوجد مبرر لإهدار هذا الجهد من الضامن وما يترتب عليه من مصالح ومنافع للمضمون دون مقابل.
الرئيس:
الذي يعود عليه بالفائدة أو الذي قد لا يعود عليه بالفائدة؟
الشيخ حسن عبد الله الأمين:
اقرأ الفقرة من الأول وبذلك كله يهيء للمضمون ويمكنه من الحصول على منفعة محققة تتمثل في بلوغ مرامه بهذا الضمان الذي قد يعود عليه – أنا كاتب هذا هل قرات غير ذلك؟
الرئيس:
أنا أتابع بدون قراءة.
الشيخ حسن عبد الله الأمين:
الذي قد يعود عليه بالفائدة والنفع الكثير. ولا يوجد مبرر لإهدار هذا الجهد من الضامن وما يترتب عليه من مصالح ومنافع للمضمون دون مقابل، إذ ليس ذلك من العدل في شي، والله أعلم. على أنه يلزم أن يكون الأجر في هذه الحالة والتي قبلها مراعى فيه عدم المبالغة والمغالاة بحيث يكون في حدود المعتاد عرفًا.(2/994)
كما أنه يلزم أيضا التنبيه إلى أن المغالاة في هذا الأجر مهما بلغت، لا تدخل في نطاق الربا، لأنه ليس زيادة في عوض، وإنما هو اجر على عمل، غايته إذا تجاوز المعتاد أن يكون مكروهًا كراهة تنزيهية أو محرمًا وليس ربا بالتأكيد.
أما الحالة الثالثة التي يكون خطاب الضمان فيها مكشوفًا –غير مغطى – وتؤول مسئولية الوفاء به إلى الضامن دون المضمون. أنه يكون فيها قرضًا والجعل فيه يكون زيادة تمثل ربا، فلا يجوز. ولكن يجوز لمصدره أخذ أجرة الإصدار فقط، التكلفة الفعلية حسب ما يقدره المختصون دون الضامن نفسه المنطوي على معنى القرض.
هذا ما استطعت أن أصل إليه حتى الآن في هذا الموضوع، أرجو أن يكون فيه مساهمة لعلماء المجمع فيما يصدرونه من قرارات أو توصيات في هذا الموضوع الهام. والله نسأل أن يهدينا إلى سواء السبيل،،، والسلام عليكم ورحمة الله.
الشيخ على السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، اللهم جنبنا الزلل في القول والعمل واهدنا لما تحب وترضى.
ولا أحب أن أكرر ما قيل ولكن أن أركز على بعض النقاط. قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((الزعيم غارم)) والزعيم هو الكفيل والكفالة التي كانت غرمًا لا أدري كيف تتحول في عصرنا إلى غنم.
الأمر الآخر أن الفقهاء جميعًا يشترطون في الكفيل أهلية التبرع وهم يجمعون على أن الكفالة بعوض لا تجوز ويحرمون هذا العوض سواء كان أجرًا أم جعلًا. والذي أرجوه من مجمعنا الموقر ألا نخرج على نص ثابت أو إجماع مستقر، حتى لو كان الإجماع بغير نص وصلنا، فإن شيخ الإسلام رحمة الله أثبت أن كل إجماع فيه بيان من السنة، وأوردت هذا في البحث، قال: استقرأت مواطن الإجماع فوجدتها – كل مواطن الإجماع منصوصة. وأخذ يضرب أمثلة في المضاربة وغيرها، وهذا موجود في البحث لا أريد أن أقرأه.(2/995)
البنوك الربوية تأخذ فائدة على القروض وتأخذ فائدة على فتح الاعتماد وتأخذ فائدة هنا على ما يسمونه إقراض بالتوقيع، يسمونه هذا اقراضًا بالتوقيع. قد يحتاج عميل المصرف في بعض الأحيان إلى نوع من الاعتماد، فهنا إما أن يأتي الاعتماد العادي أو خطاب الضمان لأنه في النهاية نوع من الاعتماد، ولذلك، في الإقراض العادي يحسبون الفائدة في فتح الاعتماد. الفائدة من يوم أخذ العميل، في خطاب الضمان ينظرون إلى المبلغ المضمون، وإلى مدة المبلغ المضمون ويحسبون مبلغًا، نسبة ضئيلة مقابل المبلغ والزمن، فإذا تم الإقراض أخذوا الفائدة المعروفة.
المصارف الإسلامية عندما قامت لتطهير أموال المسلمين من الربا اتضحت الصورة أمامها بالنسبة للإقراض ولفتح الاعتماد، ولذلك فكرت في البديل الإسلامي، بالنسبة للإستقراض يبدو أن الصورة لم تكن واضحة عند بعضهم، ولذلك وجدنا من يسير مثل البنوك الربوية في جعل العمولة مقابل المبلغ والزمن، فإذا أقرض لا يأخذ ربا، ولمجرد الوعد بالإقراض يأخذ فائدة، فإذا أقرض بالفعل لا يأخذ، معناه أن الصورة غير واضحة. وبعض المصارف الإسلامية الأخرى لا تأخذ إلا ما يقابل العمل.
بالنسبة للكلام الذي نسب لابن عابدين. وكي لا يرد هذا القول إلى فتاوى بنك فيصل، أحب أن أقول أن كلام ابن عابدين مثبت وغير ابن عابدين ولذلك أقرأ هنا بعض ما يبين لماذا أجمع الفقهاء على أن الكفالة لا تجوز بأجر ولا بجعل. الإمام مالك كان يرى أن الكفالة من وجه الصدقة، الإمام الشافعي قال: الكفالة استهلاك مال لا كسب مال، وحكى عنه النووي: أن الضمان تبرع أو قرض محض. وقال الإمام النووي الضمان غرر كله بلا مصلحة وقال الكمال ابن الهمام: الكفالة عقد تبرع كالنذر. وقال الدردير. الضامن كالمسلف يرجع بمثل ما أدى. وقال ابن قدامة: الضمين والكفيل على بصيرة أنه لا حظ لهما. فاعتبر الكفالة كالنذر، ولذلك كما قلت أجمعوا على الكفيل لا بد فيه من أهلية التبرع. ثم بين ابن حزم أن الضمان استقراض، وغير ابن حزم كذلك. جاء في فتح القدير للكمال: إذا كان قضاء من جهة الذي أمر صار كما لو قال: اقض عني، ويتضمن ذلك استقراضًا منه، وفيه أيضًا. والحاصل أن الأمر في الكفالة تضمن طلب القرض إذا ذكر لفظ (عن) لأن هنا الحنفية يشترطون لفظ (عن) حتى يعوض الضامن على المضمون، وقال الكاساني: الكفالة بالأمر في حق المطلوب استقراض. إذن هنا ينصون على ذلك، ولذلك بين سبب المنع أكثر من فقيه. جاء في المغني، ذكر كلامًا للإمام أحمد والحنابلة: لو قال: اكفلني ولك كذا لم يجز؟ قال: فإذا أخذ عوضًا صار القرض جارًا للمنفعة، فلم يجز. وقال الدردير في أقرب المسالك: وعلة المنع أن الغريم أن أدى الدين لربه كان الجعل باطلًا، فهو من أكل أموال الناس بالباطل، وإن أداه الحميل لربه ثم رجع به على الغريم كان من السلف بزيادة. وقال الصاوي في شرحه: وقوله كان من السلف بزيادة، أي كان دفعه الدين وأخذه سلفًا والزيادة هي الجعل الذي أخذه. وقال: وحاصل ما في الشارح أن الجعل إذا كان للضامن فإنه يرد قولًا واحدًا. وقال ايضًا: علة المنع موجودة وهي السلف الذي جر نفعًا، وقال ابن عابدين في منحة الخالق على البحر الرائق الجزء السدس صفحة 242: الجعل باطل لأن الكفيل مقرض في حق المطلوب، وإذا شرط له الجعل مع الضمان المثل فقد شرط له الزيادة على ما أقرضه، فهو باطل لأنه ربا. هذه ناحية.(2/996)
الناحية الأخرى: أن الضمان لم يكن بعيدًا عن النشاط التجاري، وذكرت هذا أيضا في البحث (عهدة الدرك) ضمان الأسواق واجازه الأئمة ما عدا الإمام الشافعي، ضمان الأسواق المخاطرة فيه أكثر من خطاب الضمان الآن، وضمان الموزون والمكيل والمذروع …الخ. وما كان أحد يتصور أن يأخذ عن هذا أجرًا. ولذلك أخذ أجر على الضمان يعارض النص والإجماع، ولكن أخذ أجر على العمل المصاحب للضمان هذا يمكن، ثم يمكن كذلك إذا كان المصرف الإسلامي يريد أن يكون على اطمئنان، اقترحنا هنا أن يكون الغطاء النقدي وديعة استثمارية. خطاب الضمان المغطى الذي يمنع من الغطاء هو أن طالب الخطاب يعطل أمواله فلا يريد أن يضع الأموال في المصرف حتى لا تتعطل. فهنا قلنا واقترحنا على المصارف الإسلامية أن طالب إصدار الخطاب إذا كان له وديعة استثمارية يمكن أن تعتبر كغطاء للخطاب، أو يمكن أن يعتبر أي وديعة استثمارية أخرى قد يلجأ لصديق، لمعرفة، لأي أحد، وبالتالي المال لا يتعطل، فطالب إصدار الخطاب لا يتعطل ماله.
ثم الضمان المجرد هو الذي يمنع أخذ الجعل عليه فكذلك يمكن أن يدخل الضمان مع عقد آخر، يعني مثلًا صاحب رأس المال إنما يستحق الربح بالمال والضمان، في شركة الوجوه الضمان له ما يقابله، فكذلك هنا المصرف الإسلامي يمكن إذا وجد أن خطاب الضمان لمشروع يستطيع أن يدخله فيه، يمكن أن يدخل ولو بنسبة قليلة بحيث يشارك في الغنم والغرم، ويكون الضمان هنا له ما يقابله لأنه في عقد آخر، إنما الممنوع هو إذا كان الضمان مجردًا. لهذا أقترح الآتي بعد أن بحثنا هذا الموضوع والبحث أمام حضراتكم والبحث في كتاب موسع، أقترح الآتي:
أولًا: الكفالة المجردة لا أجر عليها وإنما الأجر على العمل المصاحب لها ويجوز أن يكون للضمان ما يقابله إذا دخل في عقد آخر.
ثانيًا: بالنسبة للغطاء النقدي، إذا كان للعميل حساب جار أو ودائع استثمارية فإن المصرف افسلامي يقبل جعلها غطاء نقديًا للكفالة على أن ينص على ذلك في التعاقد مع استمرار اشتراك ودائع العميل الاستثمارية في الأرباح.
هذه خلاصة والأخ الأستاذ الدكتور عبد الستار أغناني عن كثير. والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، والله أعلم بالصواب.
الرئيس:
بهذا ننتهي من استعراض ثلاثة من البحوث كنماذج لما بين يدي اصحاب الفضيلة من البحوث ونفتح المناقشة للجميع بما فيهم المشايخ الذين أعدوا بحوثًا ولم نستعرض بحوثهم، فإننا نفتح المناقشة للجميع بما فيهم المشايخ المذكورين. والشيخ زكريا.
الشيخ زكريا البري:
هذه المناقشة لا تغني عن النموذج المقدم منى.(2/997)
الرئيس:
تفضل.
الشيخ زكريا البري:
بسم الله الرحمن الرحيم، أقدم وأمهد لرأيي بهذه المقدمات الأصولية والفقهية المشتملة على القواعد التالية:
أولًا: الأصل في الأشياء ومنها العقود والشروط والتصرفات، هو الإباحة والجواز والصحة، ولا يحرم منها إلا ما يقوم الدليل الخاص على تحريمه، هذه القاعدة وهذا الأصل الذي ذهب إليه بعض الأصوليين والفقهاء المحققين والذي انطلق منه الإمام العظيم والفقيه الحنبلي المجتهد ابن تيمية، إلى حرية التعاقد والإشتراط مستندًا في دعم رأيه الذي رفع به الحرج عن المسلمين وبصفة خاصة في العصر الحاضر، الذي استحدثت فيه الحياة عقودًا وشروطًا غير مسبوقة إلى ما يأتي:
ما جاء في القرآن الكريم من الأمر بالوفاء بالعقود بصفة عامة ومن ذلك قوله – جل ثناؤه – {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} وقوله - سبحانه - {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} .
فكل عقد أو شرط في عقد، ورد به نص أو لم يرد، هو التزام وعهد من العاقدين يجب الوفاء به.
والقول بعدم جوازه وعدم صحته من غير دليل مخالفة لهذه الآيات القرآنية العامة.
ثانيًا: ما جاء في السنة النبوية الصحيحة، من الأمر بالوفاء بالوعد وبالعهد، والتحذير من الغدر، مثل قوله – عليه الصلاة والسلام – ((أربع خلال من كن فيه كان منافقًا خالصًا، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها)) .
ولو كان الأصل في العقود والشروط الحظر والمنع، إلا إذا قام الدليل الخاص على الحل، لم يذم الرسول إخلاف الوعد بهذا الإطلاق، ولم يذم الغدر بنقض العهد بصفة عامة، كما جاء في الحديث.
ثالثًا: أن التعاقد والاشتراط فيه مباح بحسب الأصل، والمباح إذا اوجبه الشخص على نفسه لغيره، صار واجبًا عليه لتعلق حق الغير به.(2/998)
بعد ذلك يقول: (أن العقود والشروط من الأفعال والمعاملات العادية ولسيت من العبادات التي لا تجوز ولا تصح إلا بالتلقي من الله جل جلاله) .
والله سبحانه وتعالى يقول {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وهذا التفصيل يعم الأفعال والتصرفات، فإذا لم يكن العقد أو الشرط حرامًا بتحريم الشارع، فإنه لا يكون باطلًا، لأن البطلان إنما يترتب على التحريم.
بعد ذلك يقول: (إن الأصل في العقود والشروط قيامها على التراضي بين العاقدين، وتترتب آثارها عليها تبعًا لهذا التراضي) .
وفي ذلك يقول الله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، ويقول في المهر {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} .
فقد أحلت الآيتان الأموال فيهما بناء على الرضى في الاية الأولى، وطيب النفس في الاية الثانية، ما لم يكن هناك دليل خاص لتحريم عقد خاص أو شرط خاص.
بعد ذلك يقول: (إن العقود والشروط التي تتم بين الناس أمور مقصودة لهم، يرون فيها مصلحتهم التي لا تلحق الضرر بغيرهم، ولولا حاجتهم إليها ما عقدوها ولا اشترطوها. فيجب رفع الحرج والضيق والعنت عن الناس يتجويزها وتصحيحها وترتيب الاثار عليها، ومنع عقد أو شرط من غير دليل شرعي – مع هذه المصلحة وتلك الحاجةللمتعاقدين –يؤدي إلى الحرج والضيق والعنت الذي رفعه الشارع الإسلامي، في مثل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} ، أي ما جعل وما شرع ما يحرج عباده كما جاء في الاية الأولى، وما يريد أن يجعل فيشرع باسمه سبحانه ما يحرج عباده وهو العليم الحكيم، الرؤوف الرحيم.
بعد ذلك يقول: (إن العقود والشروط المقترنة والمرتبطة بها لا يخلو حكمها من أحكام ثلاثة:
- الا تحل إلا بدليل خاص من كتاب أو سنة أو دليل يستند إليهما، فإذا حلت بهذه الصورة وجب الوفاء بها.(2/999)
- أو ألا تحل إلا بدليل عام.
- أو أن تحل من غير دليل عام ولا خاص، مادام لم يوجد دليل على التحريم.
والفرض الأول غير صحيح، لإجماع المسلمين في العصر الأول على وجوب الوفاء بالعقود التي عقدت في الجاهلية، مادامت لا تشمل على أمر منهي عنه، فإذا اشتملت على أمر منهي عنه صح منها ما لم يرد نهي عنه.
فقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم المال الثابت في العقود الربوية، وأبطل شرط الربا في هذه العقود، وقال: ((ربا الجاهلية موضوع)) أي أسقطه والغاه المشرع الإسلامي.
أما الفرض الثاني فإنه يشهد للحل ويترتب عليه الوفاء بكل عقد أو شرط غير منهي عنه بدليل خاص، للأمر العام بالوفاء بالعقود.
وكذلك الفرض الثالث يشهد للحل، وهذا ما أراه أيضًا.
ثم أما بعد،
انه لا يوجد في أخذ الأمر على هذا الضمان المصرفي لتنفيذ أعمال مشروعة نص محرم من كتاب أو سنة، ولا دليل محرم. فلا يوجد له نظير يقاس عليه في التحريم لاشتراكهما في علته.
ثم لا يوجد عرف صحيح يحرمه ويمنعه، ولا توجد فيه مفسدة كما لا توجد مصلحة في تحريمه بل أن المصلحة في إباحته وحله وصحته، وفي إلزام المضمون به. وإذا قيل أن بعض كتب المذاهب الفقهية قد صرحت بتحريمه فاني أقول أن الدليل الذي استندوا إليه هو أن الضمان لم يشرع إلا على سبيل التبرع، وهو صورة من صور المصادرة، لأن نفس الدعوى هي نفس الدليل كأنهم يقولون أن أخذ الأجر غير مشروع لأنه غير مشروع.
وفد زادني ثقة بهذا ما سمعته جديدا من هذه البحوث الآن، وإذا قيل أن الإمام ابن تيمية الذي ذهب إلى أن الأصل في العقود والشروط هو الإباحة والحل، قد ذهب إلى عدم جواز أخذ الأجر على الضمان، قلت: أني مع قاعدته العظيمة لقيام الأدلة عليها، ولست معه في عدم جواز أخذ الأجر على هذا الضمان إذا كان رأيه بالمنع يشمل الضمان المصرفي التجاري، للأسباب التي بينتها وأبينها.
والظاهر عندي أن هذه الفتوى المروية عنه لا تشمل الكفالات بهذه الصورة التجارية الجديدة التي تعاملت بها المصارف العامة، وتتعامل بها بعض المصارف الإسلامية.فلقد كانت الكفالة في العصور الماضية تتم ضمانا لمحتاج يستدين، وقد لا يجد من يسلفه إلا بضمان من ملئ لضعف ذمة المستدين المالية ونحو ذلك فيضمنه الغني تفريجا لكربه ورجاء لثواب الآخرة.(2/1000)
وفي مثل هذا يقول الرسول الرحيم ((من فرج عن مؤمن كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) .إما الآن فان هذه الضمانات تتم لشركات مالية كبرى، ولتجار أغنياء، ولابد في قبول العطاءات من هذه الشركات وهؤلاء الأغنياء من تقديم الضمان المصرفي.
وهذه العطاءات التي تقدمها الشركات والتجار للالتزام بأعمال معينة يتوقف قبولها –كما قلنا – على تقديم الضمانات، وهذه الأعمال تتوقف عليها تنمية المجتمع تنمية اقتصادية واجتماعية وعسكرية وسياسية بل أن البنية الأساسية للمجتمع من طرقات ومواصلات ومرافق مياه وصرف صحي وكهرباء تتصدر هذه الأعمال. وامتناع المصارف الإسلامية عن القيام بهذه الضمانات لأنها لا تستفيد منها ماليا وتجاريا يؤدي إلى لجوء المحتاجين إليها إلى البنوك الربوية في هذه الضمانات ثم في غيرها.
فإذا سادت المصارف الإسلامية –وهذه هدف أساسي لنا – استحال على هذه المصارف القيام بهذه الضمانات ما دام أخذ الأجر عليها غير مشروع لأنها إما أن تقوم بها مجانا وفي ذلك تعريض أموال المؤسسين والمساهمين فيها للضياع من غير فائدة تعود عليهم، واما أن تقوم بها باجر، ولا يرى الفقهاء جواز ذلك.
ويتعين –بناء على ذلك – القيام بهذه الضمانات وأخذ الأجر المناسب عليها من غير وكس ولا شطط ولا مغالاة، وفي ذلك كشف لمغالاة البنوك الربوية، يدعو إلى الإحجام عن التعامل معها في هذه الضمانات ثم في غيرها، وفيه من المصلحة ما فيه.(2/1001)
ولقد أفتى المتقدمون من فقهاء بعض المذاهب بعدم جواز أخذ الآجر على تحفيظ القران وإمامة الصلاة بناء على انهما يدخلأن في العبادات والطاعات التي لا يجوز أخذ الأجر المادي عليها في الدنيا، والتي يستحق فاعلها الجزاء والثواب الأوفي في الآخرة، والآخرة خير وأبقى. وقد جرى المجتمع الإسلامي على ذلك حينا من الدهر، ثم اقتضت الثورات الاجتماعية تخصيص مسلم مؤهل للقيام بهذه الأعمال بحيث يتفرغ التفرغ اللازم والمناسب لها.
ووجد المتأخرون زمانا من فقهاء هذه المذاهب نفسها أن القول بعدم جواز أخذ الأجر في ذلك وفي أمثاله مؤد إلى ضياع حفظ القران الكريم حفظا سليما، والى ترك إمامة الصلاة لمن لا يحسنها نظرا لعدم التفرغ لهذه الأعمال الدينية اشتغالا بكسب العيش فأفتوا بأخذ الأجر. وعلى ذلك جرى ويجري العمل الآن في جميع البلاد الإسلامية.
ثم إذا كان مقتضى هذا الضمان المصرفي إلزام المصرف بالمغارم التي تترتب على هذ1 الضمان، تنفيذا لالتزامه، فلم لا يكون له غنم من المضمون يؤديه للمصرف الضامن نتيجة الاتفاق والرضا به؟
ومن القواعد الفقهية العادلة أن الغرم بالغنم، جرى عليها التعليل الفقهي في مثل وجوب نفقة الفقير العاجز على قريبه الغني الموسر، مغرما في حالة فقر القريب مقابلة للمغنم بميراثه في حالة يساره.
وإذا كان الأصل منع الأجر عند بعض الفقهاء فلم لا يجوز أخذه استحسانا واستثناء من القواعد الأصلية استنادا إلى المصلحة العامة والخاصة؟ وإذا قيل أن في إمكان الضامن-كما أشار الأستاذ السالوس – أي (المصرف) والمضمون أن يشتركا في نفس العمل الذي يضمنه المصرف، قلت: أن هذا ممكن إذا رأي الطرفان مصلحتهما فيه. ولكن قد يريان أو يرى أحدهما أن المصلحة في انفراد المصرف بالضمان واستحقاق الأجر عليه، وانفراد المضمون بنتيجة العمل ربحا أو خسرا.(2/1002)
كما أن المجتمع الإسلامي كان يرى أن الوكالة عن الغير في عمل من الأعمال تكون مجانا وخدمة اجتماعية، ثم تطورت الأحوال تطورا حضاريا، ووجد المتخصصون الذين لا يقبلون الوكالة إلا بالأجر، كما في توكيل المحامي وتوكيل السمسار وكل منهما يتفرغ لهذا العمل ويكسب قوته من هذا الأجر.
بعد ذلك أرد على ما قاله العلامة أبو غدة من أن هذه واجبات فيجوز أخذ الأجر عليها، إما هذه فليست واجبات فلا يجوز أخذ الأجر عليها، أقول له يا سيدي إذا كان المنطق هو هذا فإنه إذا جاز أخذ الأجر على الواجب الديني جاز أخذ الأجر على المباح من باب أولي، وإذا قال أن هذا ليس أجرا إنما هو رزق، قلت: ما هذا؟
أقول: أن كل ما سمعته زادني ثقة بهذا الرأي ولهذا فاني رغم أنى ختمت كلمتي التي كنت أرسلتها إلى أمانة المؤتمر فان الأساتذة الأجلاء أعضاء المجمع الرائد يعلمون انه يستوي في الإثم تحريم الحلال وتحليل الحرام من غير دليل والله – سبحانه وتعالى –يقول {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
ثم أقول أيضا ومما زادني ثقة في هذا الرأي. هذا رأيي الذي اعرضه على حضراتكم، فان يكن صوابا فمن الله وبتوفيقه، وان يكن خطا فمني ومن الشيطان، استغفر الله وأتوب إليه. وأول درجات التوبة الرجوع إليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/1003)
الشيخ عبد اللطيف جناحي
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على اشرف المرسلين. اللهم لا تجري على لساني إلا صدقا ولا تجعلني أقول إلا حقا.
سيدي الرئيس، قبل أن أدخل في صلب الموضوع، أود أن اقرر بعض النقاط:
أولا: بنوكنا الإسلامية ليست صورة من البنوك الربوية، ونحن لا ننطلق من نفس المنطلقات التي ينطلقون منها، فلنا عقيدتنا التي ننطلق منها وتنبعث وتنبثق أفكارنا من أسسها، هذه حقيقة واحدة يجب أن نقرها.
ثانيا: ما كل ما يعمل في البنوك الربوية يجب أن نعمله ولسنا منافسين لهم أو مقلدين لهم، ولو دخلنا في مجال المنافسة وتفويت الأرباح علينا لطلبنا من العميل أن يستورد الخمر ويكتب عليه عصير عنب قديم.
ثالثا: المصارف الإسلامية ليست جهات تبرع، فأموال المسلمين لديها، وعليها أن تحافظ على هذه الأموال حق المحافظة. وان اضطرت إلى إصدار خطاب ضمان من غير اجر فعليها أن تبني ذلك على المصالح المشتركة التي بينها وبين العميل وليس على أساس خطاب الضمان المصدر.
رابعا: من خلال عملي واطلاعاتي المتواضعة البسيطة التي لا أستطيع أن انسبها إلى اطلاعاتكم من أقوال فقهائنا وجدت أن هناك شفافية إيمانية لدى السلف الصالح يجب أن نقف عندها إذا قالوا بالتحريم حتى ندرك سبب التحريم وتتكشف لنا الأمور ولا نستعجل في إصدار القرارات.
خامسا: أنا قصتي مع خطاب الضمان قصة طويلة، كنت من مؤيدي أخذ الأجر ولكن لم آخذ الأجر لأن رقابتي الشرعية لم تسمح بذلك، ودخلت معهم في نقاش طويل ثم قلت: لأذهب وابحث عن إثباتات لادحض رأيهم، وكتبت إلى عدد من العلماء الذين أثق بأيمانهم ومنهم أخي وزميلي علي السالوس الذي جاء رده برفض أخذ الأجر فقلت: أذن يجب أن اقف وقفة. هذا التجمع تجمع آراء السلف الصالح الذين اعتبر شفافيتهم الإيمانية اكثر من شفافيتي، لابد أن يكون هناك سبب وبدأت ابحث في الموضوع ولا أستطيع أن أقول أنني أكملت البحث لحد الأن، ولكن سأسرد لكم ما توصلت إليه.(2/1004)
وجدت في سنة 82 تغير في شكل إظهار ميزانيات البنوك الأمريكية. العادة خطابات الضمان يعتبرونها من الحسابات المتقابلة، أي لا تظهر في الأصول فورا. الميزانية تقسم إلى قسمين: له وعليه، ويوضع في له مثلا عقارات أو كذا وكذا، وعليه ودائع لفلأن وعلان ويحسم، ثم تأتي الكفالات كل مسمى. حسابات متقابلة يسمونها حسابات نظامية لا تحسب على البنك إلا عند وقوعها. وإذا بعض المدققين في أمريكا قالوا لا يجب حسابات الضمان أو خطابات الضمان أن تدخل كمسؤولية هذا التغيير جعلني اقف وقفة، لماذا اصبحوا يفكرون في مسؤليتهم؟ قالوا لا هذه قاعدة للسحب، وبدأت استفسر واسألهم. وإذا بالأمر له خلفية هو صحيح ما التبس في الأمر أن نسبة أخذ الفائدة على خطابات الضمان ضئيلة جدا لا يمكن مقارنتها مع نسبة الفائدة الربوية. الفائدة الربوية 11 و12 و13 خطابات الضمان 1/8و 1/4 و 1/2 كيف تأتى ذلك؟ عبر الزمن، خطابات الضمان كونت حقيبة كبيرة من المال. لنفترض أننا كنا جميعا احتجنا إلى خطابات ضمان، كل من احتاج إلى 100 ريال خطاب ضمان، ونحن خمسون، في مائة اصبح خمسة آلاف ريال خطابات ضمان. هل الخمسة آلاف كلها ستسحب؟
لا! لدينا ناس ماليون ممكن أن يسددوا بأنفسهم أو يقوموا بالتزاماتهم. إذا كم في المائة من هذه الخطابات قد تسحب، ممكن واحد في المائة أو اثنان في المائة، إذا البنك الربوي يعزل هذا الواحد في المائة ويضعه مبلغا تحت الطلب عندما يفشل أحدنا في سدا التزاماته. هل هذا المبلغ ثمن أو لا؟ نعم لهذا المبلغ ثمن ربوي لابد أن يأخذ البنك عليه فائدة لأنه حجزه لصالح من سيفشل منا، قد يكون أنا قد يكون مليون شخص، كلما كبر البنك كلما قلت مخاطر خطابات الضمان فإذا هذه النسبة التي تؤخذ، في الحقيقة نسبة ربوية، ولكن تضائلت النسبة لا لأن المبلغ كبير ونأخذ عليه شيئا بسيطا، لا! لأن ما سيطلب قد يكون مبلغا بسيطا. وأرجو أن يكون هذا واضحا. وأنا أعتز برأي زكريا البري وإحبه حبا شديدا ولكن أود أن يسمح لي في مخالفته في هذا الرأي لا كفقيه ولكن كتلميذ من تلاميذه وابن من أبناؤه أحبه كأبي. فلذلك هي نسبة مئوية يحسبها البنك بأسس وقواعد ربوية هذه هي شكلية خطابات الضمان، وهذه هي الميكانيكية ورائها، ولكن للبحث في الموضوع لم يبحث في الميكانيكية، بحث في الشكل فقط، الشكل الظاهر، الحقيقة في بعض الأوقات قد يكون مضللا، قد لا يكون واضحا لأن ما توصل إليه خطابات الضمان توصلوا إليه عبر ما يكاد يكون قرنا فتكونت خبرة لقرن من الزمان لمائة سنة أو خمسين سنة أو ….الخ، ونحن عرفنا في مشرقنا البنوك الربوية يمكن من ستين سنة، فلننظر، وهذا ما سأحاول أن اصل إليه.(2/1005)
سأرجع قبل ستين سنة، لأرى في منطقتنا العربية والإسلامية كم كانت نسبة خطابات الضمان؟ هل كان الثمن أو كانت اثنين أو ثلاثة في المائة أو أربعة في المائة..لماذا؟ لأنه ليس لديهم ثقة في مقاولينا وتجارنا. هذه قد تلقي بعض الضوء لدى العلماء وخاصة أن النظرة كما قلت لدى بعض مدققي الحسابات في أمريكا تغيرت.
وأرجو أن أكون قد وفقت بطريقة العرض بشكل يكون واضحا وألا أكون مقصرا فيما قلت. وأشكرك يا سيدي الرئيس.
الشيخ مصطفي الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم، اخواتي الأساتذة الكرام، في الواقع أني قضيت في الماضي زمنا طويلا متحيرا في هذا الموضوع، ذلك أني كنت أرى نصوص الفقهاء في منع أخذ الأجر على الكفالة وذلك من قبل أن تشيع قضية خطابات الضمان المصرفية، ثم شاعت خطابات الضمان المصرفية، وزادني الأمر حيرة ذلك أنني كنت أجد حاجة الناس تزداد وتكثر إلى خطابات الضمان في مناسبات قانونية وأعمال رسمية وتعهدات وما إلى ذلك، ونصوص الفقهاء مانعة، لا سبيل، كما سمعتهم، لا حاجة إلى إعادة شيء منها. بهذه الكثرة أصبحت أميل إلى القول بأنه: ما مستند الفقهاء والعلل التي سمعناها إنها تؤول إلى قرض وإنها في البداية تبرع؟ كلها لم اكن أجد فيها ما يروي الغليل، ويسند موضوع المنع، لأن كثيرا من الأمور يكون البدء فيها مشروطا بشرائط وفي النهاية تكون لها أحكام أخرى، يعني في النهاية يكون الشيء حكمه بدءا شيئا ونهائيا شيئا كما هو معروف في بعض الفروع الفقهية. فكنت في حيرة في الواقع زمنا طويلا في هذا الموضوع، ثم انتهيت في فترة ما غير بعيدة إلى إزالة هذه الحيرة، بالاستقرار على التحريم ذلك أني رأيت بعد تفكير طويل والتماس العلل، رأيت فكرة جاءت كشفت لي حكمة النصوص الفقهية بالتحريم.(2/1006)
ذلك أنى قلت إذا جاز أخذ الأجر على الكفالة فان تحريم الربا يفقد حجيته. فلا يبقى هناك مجال أبدا لتعليل حكمة الربا، لماذا؟ لأننا نحرم على المقرض أن يأخذ فائدة، أو أي زيادة على مبلغ القرض، لماذا؟ لأنها ربا وهو محرم.
فكيف إذن نبرر ذلك إذا قبلنا أن الكفيل لمجرد تعرضه لأن يؤدي عن المكفول مالا في المستقبل وقد لا يؤدي، لا تقع المسئولية لمجرد هذا الالتزام وتعرضه إلى أن يؤدي عنه مالا في المستقبل سيصبح قرضا، أننا نسوغ له أخذ الأجر. ذاك المقرض الربوي الذي يدفع بالفعل ويتخلى عن جانب من ماله لمصلحة ذلك الآخر الذي يستعمل مال ذلك المقرض، نقول: لا يجوز أن يأخذ هذا المقرض زيادة عن ما اقرض، وإذا لم يقرض بالفعل ولكنه دخل تحت مسئولية تعرضه لأن يؤدي فيما بعد، وقد لا يحتاج إلى التأدية، نقول: يأخذ.هذا انكشف لي فيه تناقض إذا أقررنا جواز أخذ الأجر على الكفالة.
وزالت غمامة في فكري في الموضوع وظهرت لي حكمة اتفاق الفقهاء، وكنت اعجب لهذا الاتفاق لأنه قلما توجد مسالة فقهية ليس فيها خلافات في المذاهب والآراء بكثرة. هذه لم أجد فيها خلافات، فكنت اعجب من هذا الاتفاق فانكشفت لي بذلك الحكمة وقلت: هذا لو قبل أخذ الأجر فيه، لفقد الربا حجية تحريمه. واستقر فكري على هذا الموضوع. ولكني بقي في نفس شيء، كيف نعالج مشكلات العصر في هذا الشان ونحن نرى أن البعثات العلمية لا يمكن أن تقررها وتنفذها الحكومات إلا إذا قدم طالب البعثة خطاب ضمان مصرفي لكي يبعث للدراسوالعلم. المتعهدون لا يمكن أن يقبل منهم دخول في تعهد لأعمال حكومية ولمصالح تعميرية وإنشائية إلا إذا قدموا خطاب ضمان.
كثير من وظائف الدولة وهي أعمال عامة مشروعة إذا كان هناك فيها علاقة مالية فيها أمانة، وما إلى ذلك لا يوظف فيها الموظف إلا إذا قدم خطاب ضمان. مثلا أمين صندوق، النظم لا يمكن أن يعين أمين الصندوق في دائرة أو وزارة إلا إذا قدم خطاب ضمان. وهكذا كثير من الأعمال ربطتها النظم القائمة الحالية، ربطتها بتقديم خطابات ضمان، فكيف نعالج هذه المشكلة؟ الواقع زادني الأمر حيرة بعدما انشرح صدري في ذاك الوقت وأعطيت آراء كثيرة متعددة بالحرمة وبتوجيهها بهذا التوجيه، لكني في مواجهة المشكلة القائمة في الحياة الحاضرة والتي إذا سد فيها باب الأجر على خطابات الضمان تعطلت مصالح وتوقفت بعثات دراسية وتوقفت أعمال إنشائية ومقاولات وتعهدات ووظائف عديدة ….الخ كيف نعالج هذا؟ أن هذا مشكل يجب أن يعالج.(2/1007)
العلاج الذي أورده أخونا العزيز الكريم الدكتور السالوس بان يدخلا شركة: الضامن والمضمون له، هذا لا يمكن أن يطبق، أولا لصعوبة تطبيقه ولما ذكره الأخ الكريم الدكتور البري أن هذا قد لا يرضاه الطرفان، ولا يكون فيه مصلحتهما. أزيد على ذلك انه في بعض الحالات لا يمكن تطبيقه، هذا يمكن لما يكون خطاب الضمان لأجل ممارسة أعمال استثمارية قابلة للشركة، لكن كيف يمكن أن يدخل الضامن والمضمون في شركة مثل البعثة الدراسية التي يجب على الطالب المبعوث لكي يبعث أن يقدم خطاب ضمان، كيف يدخل معه المصرف في شركة في مثل هذا الحال، هذا ليس بحل. والواقع أني في حيرة من هذا الأمر ولكني بدأت أميل من فترة إلى أن نميز خطاب الضمان عن موضوع القرض الربوي الذي قلت: انه لو أبحنا الأجر على الضمان لفقد الربا حجيته. ظهر لي فرق يمكن أن نفرق به بين الموضوعين، وعندئذ يمكن أن يكون مثل رأي أخينا الدكتور البري أن يكون مقبولا. ذلك أن القرض الربوي هو عمل احترافي يتخذ به المرابي هذا الشان طريقا لاكتسابه الحيوي، كما يأخذ كل ذي طريق اكتسابي فرعا من فروع الاكتساب كالتجارة والصناعة …الخ، فهو احتراف لامتصاص أموال الناس بدون عمل وبدون جهد عن طريق الإقراض بالربا. أما خطابات الضمان فهي لم يعهد حتى إلى يومنا هذا انه عمل احترافي مستقل تلجا إليه البنوك أو المصارف لكي تجعل طريق اكتسابها وأرباحها من خطابات الضمان، ولا سيما أن النسبة ضئيلة التي تؤخذ على ذلك فهي لا تصلح للاحتراف، وفي الواقع ليست هي طريق احتراف اكتسابي أصيل في عمل الناس المرابين كما هو واقع، بل هي أصبحت عملا جانبيا تشبه أن تكون كما سمعتم في النصوص التي أوردها الإخوان الباحثون الدكتور عبد الستار والدكتور السالوس وغيرهم انه إذا كان الخطاب ليس مستقلا وانما هو في ضمن عقد آخر، فإنه لا يصبح مقصودا بالذات وعندئذ يجوز أخذ الأجر عليه. هذا لعله باب يمكن حل المشكلة به.(2/1008)
الرئيس:
هل يوجد خطاب ضمان مستقل؟
الشيخ مصطفي الزرقاء:
نعم البعثات أوردت خطاب ضمان مستقل، مبعوث طالب يريد أن يوفد للدراسة، لا يمكن أن يوفدوه إلا بخطاب ضمان.
الرئيس:
لكن إذا تعلق خطاب الضمان صار موجب الخطاب هو الابتعاث، كما أن موجب خطابات الضمان الأخرى هو المقاولات أو الإنشاءات أو ما جرى مجرى ذلك.
الشيخ مصطفي الزرقاء:
ليس كله.
الرئيس:
قصدي له تعلق من وجه في الابتعاث.
الشيخ مصطفي الزرقاء:
أمناء الصندوق يعينون في وظيفة مستقلة، لا يعين إلا بخطاب ضمان.
الرئيس:
سؤال سلمك الله، هل يوجد خطاب ضمان مستقل بدون أي علاقة؟
الشيخ مصطفي الزرقاء:
بدون أية علاقة، لا.
الرئيس:
لابد من موجب.
الشيخ مصطفي الزرقاء:
لابد من سبب ولا شك، داعٍ يدعو الشخص المحتاج إلى خطاب الضمان أن يطلب هذا الخطاب. المهم أنني رأيت بعد تفكير أن هناك فرقا واضحا بين عمل المرابي الذي مهنته الإقراض بالربا وبين خطاب الضمان الذي نحن رأينا أن أخذ الأجر عليه يفقد الربا حجية تحريمه، فرق بينهما. خطاب الضمان عمل جانبي دائما، عمل جانبي تمارسه المصارف، ولا سيما صورته الحاضرة في عصرنا هذا كما أشار الأستاذ الدكتور البري.
لأن صورته الحاضرة في هذا العصر وكثرة طلباته التي أوجبتها القوانين بمختلف النواحي والمناسبات جعلت منه شانا جديدا، ولذلك من الممكن أن نقول، هذا أيضا تابع للبحث والمناقشة ولا اجزم به من الأن، من الممكن أن يقال بان هذا العمل عمل جانبي في المصارف وليس مراباة محترفة كما في القروض الربوية ولا سيما انه اصبح في عصرنا الحاضر أخذ طورا جديدا لم يكن له من قبل أبدا. وارتبطت به مصالح مشروعة لأناس إذا لم يمهد لهم سبيل أخذ خطاب الضمان تتوقف مصالحهم ومنافعهم المشروعة كالبعثات الدراسية مثلا وغيرها تتوقف مصالحهم عليها واصبح خطاب الضمان لكثرته ما عادت تقدم عليه البنوك أو الجهات التي يطلب منها ولو كان هناك داع إليه لأنهم لو فتحوا الباب لكثرت الطلبات عليهم جدا ولا يمكن أن يفعلوا هذا بدون لقاء. فلذلك اصبح وجود اللقاء وهو بسيط زهيد نسبة ضئيلة، هذا هو الذي يسهل على تلك المصارف إعطاء خطاب الضمان ويمشي مصالح هؤلاء المحتاجين، وهي مصالح مشروعة لهم واصبحوا الباب أمامهم مسدود لا يستطيعون الوصول إلى هذه المصالح إلا عن طريق فتح باب أخذ هذا الأجر الضئيل على خطاب الضمان.(2/1009)
وعندئذ لا يرد ما أورده أخونا الجناحي الكريم من أن حسابات خطاب الضمان في المصارف الأجنبية، وان كانت هي في ظاهرها ضئيلة لا تهدف بالظاهر إلى الربا ولكن نظرا لأن المسؤولية لا تتحقق عليهم في كل خطاب ضمان يوجهونه ولكن تتحقق في حالات نادرة، فما يأخذونه، من المجموع الضئيل يغطي هذه المسالة، وان كانوا يحسبون هذا حسابا ربويا، نحن لا يهمنا أي طريقة من الحساب تحسبها البنوك الأجنبية، هذا لا يهمنا، وأنا كثيرا ما أفتيت. يسألني الناس، البائع يضع سعرا لسلعته فيقول كهذه بمائة نقدا وبمائة وعشر مؤجلا مثلا. فأقول لهم: هذا جائز، ونص الفقهاء عليه، ليس من عندي بل منصوص عليه، ولأن رغبات الناس تتفاوت بين أن يبيع الإنسان بنقد عاجل يأخذه ويعوض به البضاعة وبين أن يبيع بمؤجل، رغبات الناس في البيع، يعللونه الفقهاء هكذا (من تفاوت رغبات الناس في البيع) ، يقولون لي السائلون: طيب هو يحسب الزيادة الذي يريدها على أساس الفائدة، هو يأخذ كم في العادة تأخذ المصارف مثلا، أو القروض يضعون عليها فائدة سنوية، فهو لأجل الثمن المؤجل مثلا سنة يضيف مثله، أقول لهم نحن لا يهمنا طريقة حسابه اليوم التاجر بدون أن يجعل سعرين للنقد والمؤجل لو جاء فوضع بضاعته أمامه ولا يبيع إلا بنقد لو فرضنا، وهو يحسب كم يجب أن يربح، أخذ هو طريق حساب الفوائد وقال ما دام البنوك تربح مثلا نفرض 10 %، فأنا اشتريه بمائة وأبيعه بمائة وعشرة، نحن هل نقول له يحرم عليك هذا لأنك بنيت الحساب على الفوائد البنكية، لا علاقة لنا بما يبني عليه حسابه.
فتبني البنوك الأوربية والأمريكية حسابها في نسبة ما تأخذ عن خطاب الضمان كما تشاء لا يهمنا، لكن نحن إذا وجدنا أن هذا الخطاب أصبح ضرورة وفيه وفاء لحاجة الناس ومنافع مشروعة، والطريق فيه مسدود لا يمكن إلا بهذا، وهذه النسبة لا تشكل قرضا ربويا وأن الخطاب نفسه اصبح عملا جانبيا وليس هو عمل مراباة أساسي كالمضاربين الذين يجعلون طريقة كسبهم لحياتهم هو الإقراض الربوي، كل هذه الملاحظات والفروض أصبحت ولحل المشكلة أميل إلى أن يقرر جواز خطاب الضمان. وعندئذ تصبح البنوك الإسلامية يزول حرجها. والسلام عليكم وأرجو من الله سبحانه وتعالى أن يكون صوابا.(2/1010)
الرئيس:
يعني يجوز خطاب الضمان في البنوك الإسلامية فقط؟ قصدي يعني في البنوك الأخرى لا يجوز لها.
الشيخ مصطفي الزرقاء:
متى أقررناه بهذا الشكل يقر للجميع، لأن البنوك الربوية لو أرادت أن تصدر خطاب ضمان بدون اجر، هل نمنعها لأنها ربوية؟ لا، ما جاز للبنوك الإسلامية يجوز لغير الإسلامية من باب أولى.
الرئيس:
انتم قيدتم.
الشيخ مصطفي الزرقاء:
لا أقيده بالبنوك الإسلامية.
الشيخ محمد علي الزبير:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلي الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين. سماحة الرئيس سوف أكون موجزا بإذن الله.
أولا: يسمح لي أستاذي الدكتور البري أن أخالفه مخالفة صريحة في منهجيته للوصول الى الحكم والاستدلال بالطريقة التي استدل بها للوصول إلى الحكم الشرعي.
فالواقع هو أستاذنا في أصول الفقه، ولقد تعلمت منه الشيء الكثير. فليس كل عقد من العقود يمكن أن يقال انه مباح لأنه عقد مستحدث، وانما العقود تقاس وتكيف حسب العقود الموجودة قديما، ولابد أن نقيسها على العقود الموجودة في الفقه. فالواقع التكييف الشرعي كما كيفوه أساتذتنا الشيخ أبو غدة والشيخ السالوس هو تكييف صحيح: أن خطاب الضمان يمكن أن يكيف على ثلاث حالات:
الحالة الصرفة، أن يكون عقد كفالة، والكفالة كما هو مقرر في كتب الفقه لا يجوز عليها أخذ الجعل أو الأجر إذا كانت كفالة بحتة.(2/1011)
الأمر الثاني: أن يكون المبلغ مغطى، إذا كان مغطى تغطية كاملة فيجوز أخذ الأجر على ذلك بان يكون البنك وكيلا وأن يقوم بالعملية بالوكالة، والوكالة يجوز فيها الأجر، وهنا تظهر مفارقات عجيبة، لأن البنك حينما يضمن بدون تغطية لا يعطي أجرا وإذا غطى المبلغ يعطي أجرا، وهذا ما يعترض عليه كثير من البنكيين الذين يقولون إن الفتوى عجيبة في حالة الضمان البحت الغير مغطى لا يؤخذ اجر على ذلك وفي حالة التغطية تؤخذ وكالة، وفي الواقع أن التغطية هنا أيضا لابد أن نقول أن هناك نوعان من التغطية، تغطية كاملة ويمكن أن يكيف العقد على أساس وكالة بحتة، وممكن أن تكون التغطية جزئية وهذا هو الواقع في البنوك وهذا هو مدار العمل في البنوك كلها.
أن تكون التغطية جزئية وليست كلية فهناك تغطية بنسبة الربع أو 25 أو 30 % من قيمة المبلغ الذي يراد أن يصدر له خطاب الضمان.
أستاذنا البري لو أراد أن يكيف القضية تكييفا شرعيا على وجه الاستحسان لسألناه ما هو دليل الاستحسان؟ وما هو الترجيح بين الأدلة؟ على الأقل أن يكون هناك دليلان، دليل أرجح من الدليل الآخر، واستطاع أن يرجح دليلا على آخر لوجه المصلحة بالاسترسال بالمرسل فهذا مقبول أيضا. ولكن يبدو لي انه ليس هناك دليل غير العقود القديمة التي يمكن أن يكيف عليها هذا العقد المستحدث. ثم إذا كانت المصلحة أو الحاجة تنزل على أساس أنها ضرورة من الضرورات وهنا أيضا الحكم يعتمد على الضرورة ويجب أن نكيفه على الضرورة، ولكن أين الضرورة؟ ممكن أن يوجد البديل ويمكن أن توجد البدائل وممكن للاقتصاديين أن يدرسوا الموضوع ويجدوا دليلا ومخرجا لا يمكن أن نتحرج منه.
القياس على الواجبات الكفائية أيضا مع الفارق الكبير جدا لأن الواجبات الكفائية عليها يستند عماد الدين، وإذا لم تقم بها الأمة فسدت الأمة ولهذا أجازوا من هذا المخرج، ولكن هنا ضمان، مجرد ضمان مالي يمكن أن نجد عددا من اوجه البدائل. واستغرب من أستاذي الدكتور مصطفي الزرقاء بدأ بأنه استقرت عنده الحرمية كلية، وكان معنا في مجلس من المجالس وفسر لنا وجهة النظر هذه القيمة التي استكشف فيها حجية منع الربا على الأساس الذي شرحه. ولكن في آخر الأمر رجع عن القول وبرره بالمصلحة، واعتقد بأنه ليس هناك مصلحة ملحة بحيث أننا نقول انه لا يوجد بديل. فعلى البنوك الإسلامية كلها أن تحاول إيجاد المخرج، وفي اعتقادي انه ممكن أن يوجد المخرج الذي يستطيع المسلمون أن يسيروا على هديه، والله الموفق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/1012)
الشيخ أحمد البزيغ ياسين:
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه وحده نستعين، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى اله وصحبه ومن والاه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.
في الحقيقة عندي سؤال كنت أود أن أسأل فيه أستاذي وشيخي زكريا البري ولكن أستاذي الشيخ مصطفي جاوب عليه فأراحني. السؤال هو، إذا كان القرض بفائدة، وهو إنسان يدفع مالا ويأخذ عليه فائدة، هذا ربا، فكيف تكون الكفالة التي هي مجرد ورقة يصدرها البنك وهي مجرد كفالة مجردة محضة ليس فيها عمل، فكيف يكون جائزا بان يأخذ عليها فائدة؟ إذا كان الربا على النقود إذن هذا ربا على الوجاهة، أو ربا على ضمان أو ربا على كفالة. هذه لا تجوز وانتهينا إليها. ونصدر الآن كفالات في كثير من المصارف الإسلامية التي نحت هذا النحو لمجرد أن نأخذ قيمة القرطاس والورق مهما كانت الضمانة خمس دنانير، عشر دنانير، وهذه جلبت لنا مصالح كثيرة، جلبت لنا في الحقيقة مصالح كثيرة وأعمال كثيرة، ورأوا إنسانية العمل الإسلامي، وخلصنا كثيرا من الناس من أن يستغلوا من قبل المصارف الربوية، وتؤخذ عليهم أموال يجب ألا تؤخذ. إنما في الحقيقة يجب علينا أيضا أن نبين بأن تخريج أساتذتنا السالوس والصديق الضرير بأن الكفالة أو الضمان المغطى بمبلغ، في الحقيقة هذه ناحية فقهية وقاعدة فقهية أن أوكل إنسانا أن يسدد عني، وذلك وكالة يجب أن يأخذ عليها أجرا، يجب أن يكون هذا الأجر غير منسوب إلى مبلغ الكفالة. يكون الأجر محددا لنفس العمل، لنفس أخذ الأموال وتسديدها ما يكلف عليه الأجر، مجرد ما يكلف عليه المبلغ يعقد البنك لا بأس، إنما إذا كانت الأجرة ملحوظا فيها مبلغ الكفالة في النفس فيها شيء وان أفتاك الناس وأفتوك.(2/1013)
لحل أشكال الكفالة البنكية، في الحقيقة نريد أن نبين لماذا تطلب الكفالة على المقاول وخصوصا على التاجر. تطلب الكفالة للأمور التالية:
الأمر الأول: جدية المقاول، ينظر في الجدية.
الأمر الثاني: ليشرك معه شركة ثانية ذات اختصاص وحتى تعاونه في دراسة المشروع وحتى ترشده وحتى تبين ربما انه عندما يأتي إلى المصرف لأخذ الكفالة والمصرف يسأله لماذا؟ ربما يبدي له النصح، إذن أصبحت الكفالة غير مجردة. الكفالة المجردة انتهينا منها إنما الكفالة غير المجردة المصحوبة في عمل يجب أن يوضع فيها نصوص أن يوجد فيها عقد وهذا العقد يبين فيها ماذا يقوم البنك فيها من عمل، إذا كان عمل دراسة، إذا كان استلام مستحقات، إذا كان ملاحظة المشروع، أي مشروع كان فهذا عمل يستحق عليه أجرا، وأود من السادة الفقهاء أن يجلسوا مع المختصين لعمل صيغة لمثل هذه الأمور، وهذه الصيغة تتضمن كفالة وتتضمن عملا يقوم فيه البنك كوكيل عن المضمون. وهذه في الحقيقة إلى الآن ما تمت، مع العلم بان في الكثير من المؤتمرات أوصت بها ولكن انشغال الجميع عطل هذا، وتعطيل هذا فيه تعطيل لأعمال البنك.
أما ما ذهب إليه أخي الجناحي فأنا أؤيده تماما: أن الضمانات في المصارف الأجنبية وحتى تؤخذ، والاعتمادات لا تسجل لا في الأصول ولا في الخصوم وإنما تسجل بالمعادلة، ولكن نحت المصارف بعد ذلك منحى آخر، بما أنها تتحمل الغرامة جعلت نسبة معينة في الخصوم، وهذه النسبة المعينة تستثمرها ربويا. طبعا هذا لا هو من شاننا ولا هو من اختصاصنا، إلا أنها أدركت بان عليها أن تقوم بواجبها وان تخصص مبالغ تستثمر في الربا، هذا لا شان لنا به، هي ربوية من اصلها، إنما الذي يجب علينا أن نعمله: أولا: أنا انصح إخواني في المؤسسات المصرفية بما يلي:
-الكفالة المجردة المحضة أن يأخذوا عليها الأجرالفعلي "قيمة الورق والقرطاس فقط" حتى لا تلصق بنا اتهامات من الآخرين.(2/1014)
الكفالة المغطاة أيضا فيها في نفس الشيء، يجب أن يؤخذ فقط الأجرة التي يستحقها البنك على تغطية المبلغ فيما لو طلب منه ذلك وهذه نسبة بسيطة جدا لا تنسب إلى مبلغ الكفالة.
ثم الشيء الثالث الذي أنا أود أن المختصين أمثال الدكتور السالوس والأخ عبد الستار وشيخنا زكريا البري وشيخنا مصطفي الزرقاء مع المختصين في البنوك يعملون الصيغة الحقيقية للكفالة. هي كفالة تتضمنها دراسة مشاريع كاستلام مستحقات وملاحظة المشاريع، يعمل ويعرض في مجمعكم حتى ترون رأيكم شكرا، والله يحفظكم.
الشيخ أنس الزرقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم، أود التعليق بإيجاز في شأن خطابات الضمان. في الحقيقة العقبة الكبرى، لا شك أبدا أن إباحة أخذ الأجر على الضمان المطلق لا شك انه فعلا يفقدنا السند في تحريم الربا وبالتالي لا يمكن قبول فكرة أخذ الأجر على الضمان المطلق بحال من الأحوال. ولكن المشكلة الكبرى ما هو البديل؟
في الحقيقة يبدو لي أن البديل في هذه الحالة هو عين البديل الذي وافق كل علماء المسلمين المعاصرين على الأخذ به في مسألة التأمين، إلا وهو التامين التعاوني. بعبارة أخرى البديل الإسلامي في قضية خطابات الضمان وما شابهها من الكفالات التي تتطلب جهة تصدرها، هو أن تنشا مؤسسة للتكافل التعاوني، لا يربح أحد منها شيئا على الإطلاق ولكن من يحتاج إلى كفالة وتكون طبيعتها لا تنطوي على عمل استرباحي يسهل دخول مصرف إسلامي مشارك فيه أو كل الحالات المشابهة التي لا يصح فيها شرعا أن تعطي الكفالة باجر، مثل هذه الحالات ينبغي أن يكون لها مؤسسة للتكافل التعاوني بنفس منطق وأساس التأمين التعاوني. كل من يطلب مثل خطاب ضمان أو كفالة معينة يطلب منه أن يؤدي مبلغا يقدر بطريقة ما حسب احتمالات ضخامة المبلغ، حسب احتمالات الخسارة ولكن هذا المبلغ لا ينتفع منه أحد ويذهب إلى صندوق هذه المؤسسة.فهو يقول إننا نحن مستعدون أن نكفلك بشرط أن تساعدنا على أن تكفل إخوانك الآخرين الذين سيحتاجون مثلك إلى خطابات الضمان. بهذه الحالة المؤسسة تكون مؤسسة لا ربحية أن شئتم أن نسميها وقفا أي شيء من هذا القبيل، ربما حتى المؤسسات المصرفية الإسلامية تساهم في إنشائها بطريقة أو بأخرى أو أنها تبدا مثل أي شركة تأمين تعاوني بالتالي ينتفي منها الاسترباح ولا يعود ما يؤخذ من الشخص هو أجر على الكفالة وطلب أننا نعين غيرك ولا يربح أحد منها.(2/1015)
أنا لا أقول هذا إنه هو البديل الوحيد ولكنه جدير بالتأمل وأظنه من الناحية الشرعية إن شاء الله أن لا يكون عليه اعتراض جوهري.
الأن هناك حاجة كبيرة إلى وجود هذا البديل، حاجة كبيرة وهي التالية: إذا ضيقنا إمكان إصدار خطابات الضمان والكفالات بدون تغطية كاملة، إذا ضيقنا هذا. وهو الذي لا يسمح الشرع به كما قلت قبل قليل، يعني هذا لا يمكن الخلاف فيه، إذا ضيقنا وينبغي لنا أن نضيق لا تترك الشريعة مكانا غير ذلك هناك مفسدة جانبية خفية تنشا عن ذلك إذا لم يوجد البديل، وهي أنه عندما نسمح شرعا بأن تصدر خطابات الضمان المغطاة فقط، لأنها هي الوحيدة التي يمكن أن يصدروها، لن يصدر أحد إذا كان يريد الالتزام بالشريعة فنقول له: أن كان مغطى فلك أخذ اجر وان لم يكن مغطى فلا اجر لك، معناه يمتنع عن تقديمها بدون تغطية، هذا يؤدي إلى مفسدة مع أنه لابد من الالتزام به شرعا يؤدي إلى مفسدة خفية ولكنها كبيرة وهو أنه لا يستطيع الدخول في كثير من النشاطات الاقتصادية إلا الأغنياء فقط وكبار الأغنياء، لأن المناقصة التي تكون بخمسين مليون وبمائة مليون من يستطيع أن يتقدم لها، لا يستطيع أن يتقدم لها إلا من تكون ثروته أكبر من ذلك، فإذا لم نوجد البديل الإسلامي فان الالتزام بهذا الحكم الشرعي مع عدم إيجاد بديل سيؤدي إلى مفسدة أن يكون المال دولة بين الأغنياء، أكبر المشروعات وأهم المناقصات لا يمكن أن يتقدم لها إلا أكبر الأغنياء، فهذه مفسدة ولا مفر من أن نبحث عن البديل الإسلامي.(2/1016)
الأمر الأخير الذي أريد أن اذكره، هناك من يقول: هناك تناقض بين أن نقول إذا كان الضمان مغطى فيجوز أخذ الأجر وإن لم يكن هناك تغطية فلا يجوز أخذ الأجر فهذا تناقض، هذا ليس تناقضا أبدا ومن الناحية الاقتصادية سهل شرحه.
الرئيس:
يا شيخ أنس في سؤال بسيط هنا: ما هو الذي تستهدفه الجهة المضمون لها من خطاب الضمان، أليست تستهدف الاطمئنان والملاءة؟.
الشيخ أنس الزرقاء:
نعم.
الرئيس:
تستهدف الاطمئنان والملاءة للمضمون عنه الذي سيتولى العملية ويقوم بالإنشاء والتعمير أو أية عملية إنشاء كانت، لكن أحيانا خطاب الضمان غير المغطى ملاءة وهمية، وهذه هي الملاءة الوهمية، ونتيجة لهذا، هؤلاء الذين يدخلون في المقاولات تحت ستار خطاب الضمان الملاءة الوهمية والثقة الوهمية ما يلبث أن ينكسروا ويخسروا ويفشلوا في العملية، فيكون عدة أطراف نكبت هو نكب لأن البنك أخذ عليه النسبة المقررة، ومن حيث الجهة الحكومية مثلا أو الشركة الكبيرة نكبت من حيث إن المشروع فشل وأخذ في دعاوى ومطالبات وفض منازعات، ومن حيث أنه انتهى، فقصدي أن الملاءة أحيانا تكون وهمية، خطاب الضمان مظنة للملاءات الوهمية، قصدي غير المغطى.
الشيخ أنس الزرقاء:
نعم جزاكم الله خيرا رأيته في بحثكم وأوافق على مضمونه الذي تفضلتم به، صحيح أن الذي يدخل دون ضمانة وهمية قد يؤول به الأمر إلى قروض ربوية فادحة ليغطي نفسه إذا خسر. ولكن وجود البديل الإسلامي ينفي ذلك لأنه سيكون في هذه الحالة له ضمان حقيقي وليس وهميا. على أية حال إذا سمحتم، الحقيقة أنني لا أدعي أن البديل الذي ذكرته بديل متكامل ولكن أرجو أن يكون جديرا بمزيد من البحث.
مسالة تثار اعتراضا على التناقض الظاهري بين أخذ الأجر على الضمان إذا كان مغطى وعدم الأخذ إذا كان بدون تغطية أقول من الناحية الاقتصادية ليس هناك تناقض على الإطلاق لأن الأجر ليس واحدا في الحالين، المعروف اقتصاديا انه لا يمكن في مجتمع تسير أحواله بدون عمليات احتكارية أن يكون الأجر واحدا في الحالين، مستحيل هذا. إذا كان مجتمع تصدر فيه كل خطابات الضمان بتغطية ويؤخذ الأجر عليها حسبما رأي العلماء انه جائز هذا الأجر سيكون أجرا ضئيلا لأنه يغطى ولا يحتاج المصرف أن يغطي إلا النفقات التي تضمن عملياته لتحويل ما قدمه من ضمان إلى مبلغ نقدي أما في حالة عدم التغطية مجتمع آخر يصدر على سبيل المقارنة الفكرية يصدر خطابات ضمان بدون تغطية سيكون أجرها أعلى بالضرورة، فالأجر ليس هو شيئا واحدا في الحالين، لذلك لا تناقض أبدا بين إباحة أخذ الأجر عند التغطية وتحريمه عند عدم التغطية من ناحية الاقتصاد لا تناقض على الإطلاق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/1017)
الشيخ على العصيمي:
بسم الله الرحمن الرحيم، بالنسبة للحلول سواء بالوكالة كما اقترح الشيخ أحمد أو بالتبرع أو بجزء من الزكاة أو بنصيب من الدولة للبنك المقرض أو هذا الحل أو ذاك، هو لا بد من حل، لا ينبغي أن يخرج الأمر من أيدينا كما خرج بعض الأمور التي ناقشناها وتركناها للعام القادم. يجب أن يكون هناك حل لكن الحل يجب أن يبحث في لجنة ضيقة من الخبراء ومن العلماء ويأتون بحل حاصل نوافق عليه، المهم حل. هذا هو الذي ينبغي أن نخرج به، واقتراح الحل من الآن واختيار الأشخاص مسئولية الرئاسة الأن، هذا هو الحل، بدلًا من الإطالة.
الرئيس:
قضية الحل، ليست هي مجرد كتابة وليست مجرد فكرة عابرة، والإنسان جالس على كرسيه. هذا لابد من النزول في ميدان المعاملات الاقتصادية والمعاملات البنكية على جميع مستوياتها وسبر أحوالها، والنزول يكون من المختصمين وبجانبهم علماء من الشريعة وإذا حصل لدينا من المختصين ولا كان بودى أن أحول هذه الكلمة، أمثال هذين الشيخين الفاضلين الشيخ أحمد البزيع والشيخ عبد اللطيف جناحى، هذين المسلمين والشيخ أنس هؤلاء المشايخ وأمثالهم من الإخوان الغيورين الذين نزلوا في ساحات الاقتصاد وعرفوا أبعاده وعرفوا الربا ومخاطره يستطيعون بحول الله من خلال ما يصدر من هذا المجمع من قرار حيال هذه القضية الواقعة، يستطيعون بحول الله أن يكونوا بديلًا، وهذا البديل إن شاء الله تعالى تجرى دراسته في أي محفل علمي من محافل المسلمين.
الشيخ محمد عبده عمر:
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.
لى ملاحظة واستفسار، أما الاستفسار فهو، هل خطابات الضمان تكون على الأفراد وعلى المؤسسات وعلى البنوك، أم على البنوك فقط؟ أو من اختصاص البنوك فقط؟ هذا استفسار لأننا لو قلنا أن خطابات الضمان خاصة بالبنوك فالواقع أنها الآن منتشرة بالمجتمعات الإسلامية. وهذا موضوع واسع جدًا ويؤدي إلى إخطار فادحة وخطيرة.(2/1018)
الملاحظة التي لي هي أن شيخنا مصطفي حفظه الله قال إنه قد توصل إلى قناعة تامة.
وفهم وحكمة اتفاق الفقهاء من عدم جواز أخذ الأجرة على الكفالة وقال إنه ما كان يعلم هذا وأنه اكتشفه وتحقق لديه، ثم رجع عن رأيه هذا وقال أن المجتمع قد ابتلى بهذه البلوى وإنه لابد من بديل إسلامي لجواز خطابات الضمان. أنا الإشكال الذي عندي هو أن كثيرًا من النقاش أو المناقشة أننا نخضعها لواقعنا، ومعلوم بأن الواقع الإسلامي معاملاته حسب ما هو عليه الآن أغلبيتها فاسدة، لا تخضع لأحكام الشريعة الإسلامية، فإذا ما ابتلينا بأي أمر من الأمور وأخضعناه لأحكام الفقه الإسلامي، إلى أين ننتهي؟ هذه ملاحظة يجب أن تأخذ في الاعتبار.
الملاحظة الثانية، هو أن الأمور التي لم يكن فيها نص لا من كتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا قياس صحيح إنما فيها اجتهادات بحتة، نناقشها بعيدًا عن الإجتهاد الأصولي. فإذا كانت المسألة ليس فيها نص من كتاب الله ولا من سنة نبيه عليه الصلاة والسلام ولا فيها إجماع، فلا بد وأن نلجأ في هذه الحالة إلى تلمس الأحكام التي تناط بها الأحكام ونفهم العلة ومناط الحكم فيها، ونفهم أيضا أن هذا القياس صحيح حتى نستنبط الحكم الفقهي الصحيح من مكانه الصحيح المتفق عليه أصوليًا. أيضا لا بد من البحث عن المصالح الحقيقية للشريعة الإسلامية، أيضا لا بد من البحث عن المقصد الصحيح من هذا الحكم الذي نتوخى الاجتهاد فيه والوصول إليه.(2/1019)
فالخلاصة أن ملاحظتي حول بعض الأمور التي نوقشت، أنها نوقشت بعيدًا عن الجانب الأصولي وعن الجانب التعليلي ومع احترامي الفائق لبعض مشايخنا أنهم لا يعللون وجه الاستدلال لا بنص ولا بإجماع ولا بقياس صحيح، وإنما هو اجتهاد واستحسان، وحتى الاستحسان لا يوضحون فيه وجه الاستحسان فضلًا عن دليل الاستحسان الخفي كما هو معروف عن الأصوليين.
الرئيس:
وجه الاستدلال لا يعلل يا شيخ
الشيخ محمد عبده عمر:
وجه الاستدلال لابد أن يعلل.
الرئيس:
ما يعرف أن وجه الاستدلال لا يعلل.
الشيخ محمد عبده عمر:
أحب أن أقول أن الأمور التي لا نص فيها لا من كتاب ولا من سنة ولا من إجماع، يجب أن يكون الاجتهاد فيها منطلقه أصوليًا، أي العودة إلى المتفق عليه بين العلماء الذي هو مصدر الاجتهاد للفقهاء. هذه مسألة.
المسألة الثانية: يجب ألا نخضع الفقه الإسلامي ونخضع الاجتهاد لما هو سائد في شعوبنا الإسلامية من معاملات فاسدة.
النقطة الثالثة هو أن يجب ألا يغلب علينا الاستحسان الذي لا وجه له من سند خفي كما هو معروف ولا علة صحيحة يقاس عليها الحكم في مجال النص. والسلام عليكم.
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأزواجه وأصحابه أجمعين.
أثيرت جملة من الشبه، في الحقيقة أنا لم أقرأ البحوث ومع الأسف فاتني منها الكثير مما كان يهمني جدًا، ولكني تعلقت بجملة من الأقوال سمعتها هنا وأردت فقط أن أدلي بدلولي في هذا المجال:
أولًا: بعض الإخوان اعترف بإتفاق الفقهاء وإجماعهم على هذه المسألة إلا أنه قال أن الإجماع لا يستند إلى دليل. والإجماع لا يحتاج إلى دليل فهو يستند حتمًا إلى دليل كما نص عليه جميع الأصوليين قالوا أن الإجماع حجة وهو يستند على حجة ولو لم يستند إلى دليل معروف فهو يستند إلى دليل خفي، لابد وأن يقوم على دليل خفي، هذه قاعدة أصولية.(2/1020)
فالإجماع حجة في حد ذاته لم يخالف في ذلك إلا النظام وطائفة قليلة لا يعتد برأيها. ولكن أريد أن أناقش هذا الإجماع، هذا الإجماع أيضا يستند إلى دليل من جملة أقوال الفقهاء. الفقهاء عللوا بعلتين كما ذكره الفقهاء المالكية خصوصًا البناني على حاشية الزرقاني وقد ذكر الأخ كلام الدردير أيضا وكلام الدسوقي، فالبناني على حاشية الزرقاني يقول (عند قول خليل لا بكجعل، أي لا يجوز الضمان بكجعل، قال لدورانه بين أكل اموال الناس بالباطل وبين قرض بزيادة القرض بمنفعة، لأن الضامن أو الكفيل إما أن يؤدي ويرجع على المضمون وحينئذ يكون هذا من باب قرض بزيادة، وإما الا يؤدي المكفول ويكون هذا من باب أكل اموال الناس بالباطل. حينئذ بزيادة. والإجماع قد يستند إلى القياس كما تعلمون وكما مشهور عند علماء الأصول، وأول إجماع استند على قياس هو إجماع الصحابة على خلافة أبي بكر رضي الله عنه قياسًا على الصلاة، كما يقوله علماؤنا وكما هو معروف لديكم.
الدليل الثاني: إذا يؤد الكفيل وأدى المضمون المال فإنه يكون من باب أكل أموال الناس بالباطل، هذا يستند إلى آية من كتاب الله {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ما معنى الباطل؟ قد يقول البعض: أن الباطل هو الحرام، ولكن هذا ليس صحيحًا فالباطل له معان عدة منها الحرام ومنها العبث، يعني أكل أموال الناس بدون مقابل، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} أي عبثا، فكلمة باطل تعني عدم المقابل وتعني الحرام أيضا، فيكون الإجماع مستندا على هذه الآية.
ثالثا: المسألة وإن لم يرد فيها نص فإن العلماء يقيسونها على النصوص الموجودة لديهم وتكون من باب المشتبهات التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم، كما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والبخاري واللفظ هنا لمسلم ((إن الحلال بين وأن الحرام بين، وبينهما أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد أستبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) وأخذت لفظ مسلم لأنه يقول وقع في الحرام أما لفظ البخاري يقول: ومن وقع في الشبهات كراع، ولا يقول: وقع في الحرام، ومعناه أن الشبهات تكون حرامًا، معناه أن الأمر إذا اشتبه علمناه ولم نعرف هل يدخل في قواعد الحلال أو قواعد الحرام فإنه يحكم له بحرمته إذا أخذناه برواية مسلم وهي قوله وقع في الحرام. طبعًا خلاف الشبهة معروف لديكم الماوردي يقول: أن الشبهة هي المكروه. وبعض العلماء يقول: إنه لا يحكم لها بحكم حتى تصنف تبعًا لأشباهها ونظائرها. لا أطيل عليكم في مسألة الشبهة فهي معروفة لديكم.(2/1021)
مسألة أثارها الإخوان وهي مسألة الضيق والحرج ومسألة الضرورة. أعتقد أننا هنا نناقش مبدأ الجواز ومبدأ الحرمة. الضرورات لها أحكامها، عندما نصل إلى الضرورة لها حكمها ويقول العلماء رضوان الله عليهم: أن الضرورة لا تجوز الفتوى بها ولا تجوز الفتيا فيها، ما معنى ذلك، معناه أن الضرورة لا يتحققها إلا من نزلت به الضرورة. كما قال سيدي عبد الله رحمه الله تعالى وصحيح العزو وقد تحقق ضرر من الضرر به تعلق ونسب ذلك إلى المسناوي وفعلًا أن البناني في حاشيته علي الزرقاني نسب ذلك الكلام للمسناوي، نسب جزءا مما ذكره سيدي عبد الله في جواز الإفتاء بالضعيف نسبه إلى المسناوي. إذن الضرورة لها حكمها وهي تتعلق بمسألة بذاتها وبعينها. إذا كان شخص قد تحققت فيه الضرورة يعني يحتاج إلى هذا الأمر، وهو في ضرورة وفي حرج، هذه قضية عينية وتختص بهذا الشخص ولا يمكن أن تكون حكمًا مطلقًا. فنحن حينئذ نريد من شيخنا المجتهد ونقصد بذلك لا إطراء ولكن نعتقد فعلًا أن للشيخ الزرقاء ملكة جيدة جدًا، ملكة قياسية واجتهادية تعجبني وأعترف بهذا. إذا كان صاحب مذهب فإننا نميل إلى مذهبه الأول، نرجح المذهب الأول ونترك المذهب الجديد كما يفعل العلماء الشافعية وحتى المالكية. فإنني أميل إلى مذهب الدكتور الزرقاء القديم والغي مذهبه الجديد لأن مذهبه القديم يستند إلى مستندات صحيحة، ومذهبه الجديد مسألة الضرورة، الضرورة نقف بها عند حدها ولا نتجاوز بها حد الضرورة وهي تتعلق بكل مسالة بذاتها وبعينها.
بعض الإخوان قاس هذه المسألة على مسألة أخذ الأجر على كتاب الله، وهذه المسألة ليست مسألة مجانية ((إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله)) لماذا أخذ به العلماء وقالوا: أخذ الأجرة على القرآن من هذا النص وإن كان بعضهم قال ذلك في باب الرقية ولكن مالكًا وغيره أخذوا من هذا النص، فالمسألة ليست مجانية وهذا قد قام بعمله والآخر لم يقم بعمل، معناه باطل أي أنه لم يقم بعمل، ليس مقابل عمل، أجر وكراء هذا مقابل عمل وهذه ليس مقابل عمل إذن فالقضية من ناحية التأصيل فيما يبدو لي والله أعلم هذا الإجماع مستنده جيد من ناحية القياس ومن ناحية النصوص وأرى الرئيس يشير بيده، وأنا موافق على تكوين لجنة لبحث البديل الإسلامي مع الاعتراف بأصل الحكم، وشكرًا والسلام عليكم.(2/1022)
الشيخ مصطفي الزرقاء:
أخواني أنا لم يكن لي مذهبان قديم وجديد، وأنا قلت بصراحة: لاني بعدما استقر رأيي وجدت أن هناك حاجات كثيرة ومصالح مشروعة إلى آخر ما ذكرت، ونظرًا لذلك رأيت انه يجب الحل وبدا لي فرق بين قرض المرابين وبين الكفالة، إنها عمل جانبي هذه من الأعمال المصرفية ولا تشكل طريقًا اكتسابيا. ولذلك هذا دعاني إلى التردد وقلت إنني لا أجزم، ذكرت هذا وقلت لا أجزم. ولكن من الممكن عندئذ أن يقبل رأي الدكتور البري ولو بتعليل آخر أنه استحسان للحاجة الملحة والتي أصحاب الحاجات المشروعة في هذا الموضوع يجدون طريقهم مسددًا ولا مخرج منه إلا بهذا، فيمكن أن تجوز. على أني أضيف أنه إذا أمكن وجود البديل مثلًا كالبديل الذي ذكره ابني الدكتور أنس أو أي بديل آخر، فأنا أقول بالحرمة متى وجد البديل وإذا لم يوجد فأنا متوقف لا أقول بإطلاق الجواز ولا أثبت على الحرمة.
الشيخ حسن عبد الله الأمين:
في الحقيقة فضيلة مولانا الشيخ عبد الله بن بيه قال أن هنالك من يرى أن الإجماع لا يكون إلا بدليل والإجماع في حد ذاته حجة. وأنا أقول ذلك لأنني قلت هذا الكلام ولكن ليس بهذه الصيغة وإنما قلت أن هذا القضية شبه إجماع بدليل أن المالكية أنفسهم لهم فيها ثلاثة أقوال وهم والشافعية لهم تعليل معين وللحنفية تعليل آخر أيدني فيه جزاه الله خيرًا الأخ الدكتور السالوس بما نقل من نصه. فأنا لم أقل أن الإجماع ليس بحجة ولا يحتاج إلى نص، وإنما قلت أن هذه القضية ليست مجمعًا عليها ولكنها شبه مجمع عليها ومتفق عليها إلى حد ما، وشكرًا.(2/1023)
الشيخ الصديق الضرير:
الواقع أن هذا الموضوع كان من أوائل ما استفسر عنه في بنك فيصل الإسلامي هيئة الرقابة الشرعية، وقد أصدرت فيه فتوى أشار إليها بعض الإخوان وأود أولًا أن أوضح حقيقة هذه الفتوى باختصار.
أولًا من حيث التكييف، الهيئة نظرت في الاستفسار واطلعت على خطابات الضمان المعروفة في السودان والتي قدمها إليها المسئولون في البنك وانتهت منها إلى تكييف لهذه العملية. اقرأه عليكم بالنص – (أول شيء أجازت خطاب الضمان من حيث هو وخلاصة التكييف أن خطاب الضمان قد يكون بغير غطاء، وهنا يكون العقد عقد كفالة كاملة من كل الوجوه ما في هذا شك. الحالة التي يكون فيها بغطاء كلي أو جزئي، هذا يكون العقد عقد وكالة وكفالة معا، وكالة بالنسبة لعلاقة البنك مع العميل، لأن الغطاء الذي وضعه كأنه يقول: له إذا طلب منك فخذ هذا المبلغ وادفعه إلى الطالب. هذا بالنسبة للجزء إذا كان كله وكالة إذا كان جزء يكون وكالة فيما وكل فيه. ويكون كفالة بالنسبة لعلاقة البنك مع الطرف الثالث حتى في هذه الحالة، في حالة وجود الغطاء فبالنسبة لعلاقة البنك مع الطرف الثالث هو كفالة دائما لأن الطرف الثالث يطالب البنك.
ثم تعرضت المسألة لأخذ الأجر فنصت على أنه لا يجوز للبنك أن يأخذ أجرًا بالنسبة للحالة الأولى لأنها كفالة، إذا كان هذا الأجر نظير خطاب الضمان المجرد، لأنه يكون في هذه الحالة قد أخذ أجرًا على الكفالة وهذا ممنوع. وأقول هنا ليس كما قال بعض الاخوة أن هذا إجماع حكاه الفقهاء، يقول الخطاب: وهذا موجود في الفتوى ولا خلاف في منع ضمان بجعل وعلل هذا لأن الشرع جعل الضمان والقرض والجاه لا يفعل ألا لله بغير عوض. فأخذ العوض عليه سحت. وقلنا هنا علل ابن عابدين المنع بأن الكفيل مقرض في حق المطلوب وإذا شرط له الجعل مع ضمان المثل فقد شرط له الزيادة على ما أقرضه، فهو باطل لأنه ربا. وصرح بأنه ربا وهو المقصود بكلمة سحت في كلام الخطاب. وعللوا هذا بأن الضمان من قبيل التبرعات كالقرض ولم يعللوه بأنه من قبيل الواجبات. فما اعترض به الأخ الأستاذ زكريا بموضوع الأمامة هو خارج عن الموضوع وقياس مع الفارق. في موضوع الإمامة، الإمام يعمل ومع ذلك في العصور الأولى منعوه مع قيامه بهذا العمل قالوا له: أده من غير أجر. فإذا أخذ أجرًا فإنه يأخذ الأجر على عمل، أما الكفيل كفالة مجردة لا يقوم باي عمل. هذا إذا كان الأجر على الكفالة المجردة هذا هو الممنوع، أما إذا كان الأجر الذي يأخذه البنك نظير ما قام به من خدمة ومصاريف خدمة فعلية ومصاريف فعلية تتطلبها إجراءات إكمال خطاب الضمان لا مانع منه شرعًا، هذا أجزناه بالنسبة للحالة التي يكون فيها غطاء، قلنا يجوز أن يأخذ البنك أجرًا في هذه الحالة التي يصدر فيها خطاب الضمان بغطاء.(2/1024)
ومعنى مغطى: أن العميل وضع المال في البنك وقال له: أده لمن يطلبه عما يطلب منك ومع ذلك لم نقل إنه يأخذ أي أجر وبأي كيفية، هو يأخذ أجرًا كما يأخذ الوكيل أجرًا والمفروض أن الوكيل يأخذ الأجر بقدر ما يؤدي من عمل، فإذا أخذ أكثر من حقه هذا موضوع آخر. هذه هي خلاصة الفتوى التي أفتينا بها وكان أيضا من ضمن الحلول التي عرضناها على البنك موضوع المشاركة أنه إذا جاء شخص يريد أن يستثمر وطلب ضمانًا من البنك ممكن يدخل معه شريك وفي هذه الحالة يصدر خطاب الضمان باعتباره شريكًا.
النقطة التي آثارها الأستاذ الزرقاء أنه يكون هناك حالات ليس فيها استثمار، أقول أنه في هذه الحال لا مخرج إلا أن يؤدي البنك الكفالة بغير أجل، الطالب المسكين الذي يرسل في بعثة وليس عنده مال لم يطلب منه البنك الإسلامي مبلغًا على كفالته إذا اطمئن إلى حسن خلقه وإلى أن سيقوم بما يلتزم به. سأذهب إلى أبعد من هذا فأقول إنه يجب على البنوك الإسلامية أن تؤدي هذا العمل بالنسبة لهؤلاء الأشخاص.
الشيخ مصطفي الزرقاء:
وهل تفعل؟
الشيخ الصديق الضرير:
نحن نقول لهم هذا ونرشدهم إلى ما يجب أن يكون، وقد فعلت. الأستاذ أحمد البزيع أخبرنا أنه أصدر حتى كفالات عادية بغير أجر وقد عادت عليهم بفائدة. وهذا أمر قد حصل، وكما قال الأخ الفاضل الدكتور عبد اللطيف يجب ألا نسير وراء البنوك الربوية ونتبعها في كل ما تفعل.(2/1025)
في عبارة ابن عابدين التي ذكرتها، أستاذنا الرزقاء حفظه الله قد شرحها شرحًا وافيًا ولا حاجة إلى المزيد عما قاله في هذا الصدد، فهي تعبر عن رأي ابن عابدين تعبيرًا كاملًا. أخونا الأستاذ حسن قال إنه لم يقف على نص ابن عابدين نحن في الفتوى لم نقل أن هذه في حاجة ابن عابدين وإنما قلنا إنها في البحر الرائق كما قال أحد الأخوة. الشيخ على السالوس اقترح أن يكون الغطاء وديعة استثمارية أو أن يقبل البنك الوديعة الاستثمارية على أنها غطاء. الوديعة الاستثمارية هي عند البنك أمانة وغالبًا ما تكون مقيدة بزمن كما هو معروف في كثير من البنوك، مدة زمنية بسنة. فهنا قد يأتي أشكال: البنك قدم خطاب الضمان وحصلت المطالبة في أثناء السنة، وقبل أن تنتهي مدة الوديعة، فإذا دفع البنك المبلغ وانتظر إلى أن يأخذ الوديعة نقع في الحرج، هو أخذ أجرًا فكأنه اقرضه وانتظره إلى أن تنتهي مدة الوديعة. فلا أرى في هذا، ثم أن هذا الشخص الذي عنده وديعة استثمارية لِمَ لا يدعها وديعة حساب جار ويسدد منه وأحب أن أقول هنا مسألة، وقفنا عليها من إخواننا في البنوك في السودان قالوا أن أكثر خطابات الضمان تكون مغطاة. ويندر أن يقبل البنك إصدار خطاب ضمان لشخص ليس عنده مال. وحتى إذا أقدم على هذا فإنه يطالبه بضمان آخر، ضمان عيني يطالب برهن لكي يستوثق، وهذا هو الواقع كما قال السيد الرئيس إنه البنك أو أي شخص عندما يكفل شخصًا آخر هو لا يكفله إلا إذا اطمأن إلى أنه سيقوم بما التزم به سواء كان متعهدًا أو رجلًا مستثمرًا، لابد أن يتأكد من هذا أولًا، لأنه حتى الأجر مهما أجزناه ومهما كان بلغ لا يمكن أن يصل إلى تعويض الخسارة التي سيقع فيها البنك إذا لم يأخذ هذه الاحتياطات ويتأكد من العميل الذي يتعامل معه. كذلك قال الشيخ على السالوس، وفي الواقع إنني لم استطع فهمه فأبحثه معه، موضوع اتصال الضمان بعقد آخر لم أتبينه. أستاذنا زكريا أوافقه على القاعدة الأصولية التي ذكرها وأحب أن أقول للأخ الفاضل الدكتور الزبير أن هذا هو الأصل ولا نحتاج في العقود المستحدثة، لا نقول لمن يدعي الحل عليك تمسكًا بالأصل، عليك أن تقيسها على عقد من العقود الصحيحة، لا نقول له إذا خالفناه هذا العقد ممنوع لكذا، لأن الأصل القائل أن العقود صحيحة ما لم يرد نص ونص بالمنع. لكن هنا الرد على الأستاذ الزرقاء أنه فيه نصوص تمنع، والنصوص هذه ليست أقوال فقهاء مجردة، هي بلغت إلى درجة الإجماع عند الفقهاء، أنا لم أر أحدًا من الفقهاء جوز أخذ الأجر على الكفالة المجردة، لم أر هذا بتانًا، حتى الذين ادعوا هذا ونقلوا لنا بعض النصوص كانت معها وأرادوا أن يقيسوها على الجاه، لو قبلنا هذا مع أن القياس على الجاه غير سليم، قالوا: لابد أن يكون مع الجاه هذا حركة فيكون الأجر نظير هذه الحركة، وهذه حتى إذا صحت حيلة لا نقبلها. المهم انه ما فيه فقيه قال: يجوز أخذ الأجر على الكفالة المجردة.(2/1026)
أستاذنا الزرقاء بعد ما بين لنا البيان الشافي الذي لو وقف عنده لأغنانا عن كل كلام لكنه عاد فنقض ما قاله وبنى كلامه في الأول على أن أخذ الأجر يعود على تحريم الربا ويفقد حجيته، هذا كله كلام صحيح لكن أراد أن يخرج الجواز بالتفرقة بين القرض الربوي أنه عمل احترافي وهذه مسالة قد تقودنا إلى مخاطر. الفوائد لو شخص يحترف الربا، هل معنى هذا أننا لا نحرم الربا إلا إذا كان الشخص الذي يعمل فيه محترفًا؟ لا أعتقد أن هذا يمكن أن يقال. مجرد أننا اقتنعنا أن العملية ربا، الأستاذ الزرقاء زاد على ذلك وقال إنها تفقد الربا حجيته، فكيف نقول بعد ذلك بجوازها؟ لا يمكن أن يكون هذا.
الرئيس:
إذًا، بقي من المشايخ اثنان: الشيخ علي تسخيري والشيخ عطا، أن سمحوا لنا بأن ننهي الموضوع لأن الأمر تقريبا فيه اتجاه عام، ولأن الآراء تكيفت هنا وسأعلن الرأي الذي اتجهت إليه الأكثرية ومن خلاله إذا كنتم مع ذلك فذاك.
الشيخ محمد عطا السيد:
بسم الله رب العالمين، اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك،،،
استجابة لرغبة الأخ رئيس الجلسة ما أحب أن أدخل في التفاصيل التي كنت أود الكلام فيها. وما أود أن أقوله وهم أنه تمحض لدينا أن هنالك شبهة إن لم تكن هنالك حرمة في موضوع أخذ الأجر على الضمان، فلا شك أن هناك شبهة قوية جدا في هذه المسألة. ونحن في السودان الآن وهو المجال الذي اتسعت فيه أعمال البنوك الإسلامية، نعلم الآن ونواجه حملة كبيرة من أعداء هذه الفكرة يقولون: أن هذه البنوك لا تختلف ينادى بهذا الكلام ويكتب عنه في الصحف، أن هذه البنوك لا تختلف عن البنوك الربوية في شئ، وحقيقة الواحد لو رجع قليلا يجد أن هذه البنوك من المبادئ الأساسية التي قامت عليها هذه البنوك الإسلامية ليس فيها فقط لإثراء المساهمين واستثمار أموالهم ولكن عليها واجبات منوطة بها نحو المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية، وهي أن هنالك عددا من الناس الضاربين في الأرض الذين لديهم أفكار تجارية قيمة ولديهم القوة للعمل، ولكن لا يملكون الأموال ولا يملكون بعض الضمانات، فلذلك أنا أرى أنه يجب على البنوك الإسلامية أقترح بناء على هذه الشبهة القوية التي قامت، أقترح إلغاء ما يؤخذ غير مصاريف الإجراءات الفعلية، ما يؤخذ على ثمن الضمان يجب أن يُلغى ذلك كبذرة طيبة من هذا المجمع نحو جمهرة المسلمين العاملين الضاربين في الأرض، وشكرًا.(2/1027)
الشيخ علي تسخيري:
شكرا سيدي الرئيس، فقط أردت أن أشير إلى أن علماء الإمامية – وأرجو الانتباه لذلك – بالإجماع يجيزون أخذ الأجرة عن الكفالة فقط أنقل هذا الرأي لتسجيله وللعلم به فقط ولا أعارض قرار المجمع في أي شيء.
الشيخ مصطفي الزرقاء
أنا لم أقل أن الربا لا يحرم إلا على المحترفين للربا. قلت: أن المراباة عادة هي احتراف، وهذا معناه أن هذا الطريق طريق القرض بفائدة يصلح أن يكون بابًا اكتسابيًا أصليًا كما يسلكه المحترفون، أما تلك فأعمال جانبية، لكن ما قلت أن الربا لا يحرم إلا على المحترفين كما فهم الأستاذ أخونا الدكتور.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد.
فإن الذي اتجهت إليه أنظار أصحاب الفضيلة على سبيل الإجمال في هذا المجمع حول خطاب الضمان بقسمية الابتدائي والإنتهائي، سواء كان من باب الوكالة أو من باب الكفالة، أي الضمان على اختلاف التعبيرين في بعض المذاهب الفقهية، هو ما يلي: -
أولًا: أن خطاب الضمان الذي اكتسب التغطية فإنه من باب الوكالة، ولهذا فإنه لا مانع من أخذ الأجر عليه بما يقابل الخدمات فقط وستصاغ هذه بالعبارة المناسبة التي تشير إلى ما تفضل به الأستاذ الفاضل الشيخ عطا حتى تزيل اللبس في المعاملة فيما هو جار في البنوك التجارية وما يقرره المجمع هنا.(2/1028)
الأمر الثاني: أن خطاب الضمان إذا لم يكن مغطى فهو من باب الضمان، والمقرر لدى فقهاء الشريعة على سبيل الإجمال أنه لا يجوز أخذ الأجرة في ذلك وان المجمع يرى أنه لا مانع كما أشار الشيخ أحمد البزيع أنه لا مانع من أخذ إذا استطعنا أن نقول أجرة رمزية. وستصاغ بالأسلوب العلمي المناسب في القرار للتكاليف التي لا ترتبط بالمدة ولا ترتبط بالبلغ. هذا مع أنه هناك فقرة أولى رئيسية وهي أن خطاب الضمان في أصله لا غبار على جوازه.
وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(2/1029)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى اله وصحبه.
قرار رقم 5
بشأن
خطاب الضمان
أما بعد:
فان مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406هـ، الموافق 22 –28 ديسمبر 1985م. بحث مسألة خطاب الضمان. وبعد النظر فيما أعد في ذلك من بحوث ودراسات وبعد المداولات والمناقشات المستفيضة تبين ما يلي:
1-ان خطاب الضمان بأنواعه الابتدائي والانتهائي لا يخلو إما أن يكون بغطاء أو بدونه، فان كان بدون غطاء، فهو: ضم ذمة الضامن إلى ذمة غيره فيم يلزم حالا أو مآلا، وهذه هي حقيقة ما يعني في الفقه الإسلامي باسم: (الضمان) أو (الكفالة) .
وان كان خطاب الضمان بغطاء فالعلاقة بين طالب خطاب الضمان وبين مصدره هي (الوكالة) والوكالة تصح بأجر أو بدونه مع بقاء علاقة الكفالة لصالح المستفيد (المكفول له) .
2-ان الكفالة هي عقد تبرع يقصد للإرفاق والإحسان، وقد قرر الفقهاء عدم جواز أخذ العوض على الكفالة، لأنه في حالة أداء الكفيل مبلغ الضمان يشبه القرض الذي جر نفعا على المقرض، وذلك ممنوع شرعا.
ولذلك فان المجمع قرر ما يلي:
أولا: أن خطاب الضمان لا يجوز أخذ الأجر عليه لقاء عملية الضمان (والتي يراعى فيها عادة مبلغ الضمان ومدته) ، سواء أكان بغطاء أم بدونه.
ثانيا: أما المصاريف الإدارية لإصدار خطاب الضمان بنوعيه فجائزة شرعا، مع مراعاة عدم الزيادة على أجر المثل، وفي حالة تقديم غطاء كلي أو جزئي، يجوز أن يراعى في تقدير المصاريف لإصدار خطاب الضمان ما قد تتطلبه المهمة الفعلية لأداء ذلك الغطاء.
والله اعلم.(2/1030)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم 1
بشأن زكاة الديون
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الثاني 1406 هـ/ 22- 28 ديسمبر 1985م.
بعد أن نظر في الدراسات المعروضة حول "زكاة الديون" وبعد المناقشة المستفيضة التي تناولت الموضوع من جوانبه المختلفة تبين:
1- أنه لم يرد نص من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يفصل زكاة الديون.
2- أنه قد تعدد ما أثر عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم من وجهات نظر في طريقة إخراج زكاة الديون.
3- أنه قد اختلفت المذاهب الإسلامية بناء على ذلك اختلافًا بينًا.
4- أن الخلاف قد انبنى على الاختلاف في قاعدة هل يعطي المال الممكن من الحصول عليه صفة الحاصل؟
وبناء على ذلك قرر:
1- أنه تجب زكاة الدين على رب الدين عن كل سنة إذا كان المدين مليئًا باذلًا.
2- أنه تجب الزكاة على رب الدين بعد دوران الحول من يوم القبض إذا كان المدين معسرًا أو مماطلًا.(2/1031)
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم 2
بشأن
زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من 10 – 16 ربيع الثاني 1406هـ/ 22 – 28 ديسمبر 1985م.
بعد أن استمع المجلس لما أعد من دراسات في موضوع "زكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية".
وبعد أن ناقش الموضوع مناقشة وافية ومعمقة، تبين:
أولًا: أنه لم يؤثر نص واضح يوجب الزكاة في العقارات والأراضي المأجورة.
ثانيًا: أنه لم يؤثر نص كذلك يوجب الزكاة الفورية في غلة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية.
ولذلك قرر:
أولًا: أن الزكاة غير واجبة في أصول العقارات والأراضي المأجورة.
ثانيًا: أن الزكاة تجب في الغلة وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم القبض مع اعتبار توفر شروط الزكاة، وانتفاء الموانع.
والله أعلم(2/1032)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم 3
بشأن
أجوبة استفتاءات المعهد العالمي للفكر
الإسلامي بواشنطن
أما بعد:
فإن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من 10 – 16 ربيع الثاني 1406هـ/ 22 – 28 ديسمبر 1985م.
إذ ألف لجنة من أعضاء المجمع للنظر في الأسئلة الواردة من المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن.
وبعد التأمل فيما قدم في الأمر من إجابات تبين منها:
- إن الإجابات قد صيغت بطريقة مختصرة جدًا لا يحصل معها الاقتناع وقطع دابر الخلاف أو الرفض.
- أنه لا بد من قيام المجمع بإزاحة الإشكالات الحاصلة لإخواننا المسلمين في الغرب.
قرر:
1- تكليف الأمانة العامة بإحالة هذه الأسئلة على من تراه من الأعضاء أو الخبراء لإعداد إجابات معللة عن تلكم الأسئلة مستندة إلى الأدلة الشرعية، وأقوال من تقدم من فقهاء المسلمين وإبرازها في صورة مقنعة بينة.
2- تكليف الأمانة العامة برفع ما تتحصل عليه إلى الدورة الثالثة.
والله أعلم(2/1033)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم 4
بشأن القاديانية
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الثاني 1406 هـ / 22 – 28 ديسمبر 1985م.
بعد أن نظر في الاستفتاء المعروض عليه من "مجلس الفقه الإسلامي في كيبتاون بجنوب أفريقيا " بشأن الحكم في كل من (القاديانية) والفئة المتفرعة عنها التي تدعى (اللاهورية) من حيث اعتبارهما في عداد المسلمين أو عدمه، وبشأن صلاحية غير المسلم للنظر في مثل هذه القضية.
وفي ضوء ما قدم لأعضاء المجمع من أبحاث ومستندات في هذا الموضوع عن (مرزا غلام أحمد القادياني) الذي ظهر في الهند في القرن الماضي وإليه تنسب نحلة القاديانية واللاهورية.
وبعد التأمل فيما ذكر من معلومات عن هاتين النحلتين وبعد التأكد من أن (مرزا غلام أحمد القادياني) قد ادعى النبوة بأنه نبي مرسل يوحى إليه وثبت عنه هذا في مؤلفاته التي ادعى أن بعضها وحي أنزل عليه وظل طيلة حياته ينشر هذه الدعوى ويطلب إلى الناس في كتبه وأقواله الاعتقاد بنبوته ورسالته، كما ثبت عنه إنكار كثير مما علم من الدين بالضرورة كالجهاد.
وبعد أن اطلع المجمع (أيضًا) على ما صدر عن (المجمع الفقهي بمكة المكرمة) في الموضوع نفسه.
قرر ما يلي:
1- إن ما ادعاه (مرزا غلام أحمد القادياني) من النبوة والرسالة ونزول الوحي عليه إنكار صريح لما ثبت من الدين بالضرورة ثبوتًا قطعيًا يقينيًا من ختم الرسالة والنبوة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا ينزل وحي على أحد بعده، وهذه الدعوى من (مرزا غلام أحمد القادياني) تجعله وسائر من يوافقونه عليها مرتدين خارجين عن الإسلام، وأما (اللاهورية) فإنهم كالقاديانية في الحكم عليهم بالردة، بالرغم من وصفهم (مرزا غلام أحمد القادياني) بأنه ظل وبروز لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
2- ليس لمحكمة غير إسلامية، أو قاض غير مسلم، أن يصدر الحكم بالإسلام أو الردة، ولا سيما فيما يخالف ما أجمعت عليه الأمة الإسلامية من خلال مجامع علمائها، وذلك لأن الحكم بالإسلام أو الردة، لا يقبل إذا صدر عن مسلم عالم بكل ما يتحقق به الدخول في الإسلام، أو الخروج منه بالردة، ومدرك لحقيقة الإسلام أو الكفر، ومحيط بما ثبت في الكتاب والسنة والإجماع: فحكم مثل هذه المحكمة باطل.
والله أعلم(2/1034)
قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة
القرار الثاني
بشأن
التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الثامنة المنعقدة بمقر رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 28 ربيع الآخر 1405 هـ إلى يوم الاثنين 7 جمادى الأولى 1405 هـ الموافق 19 – 28 يناير 1985 م، قد نظر في الملاحظات التي أبداها بعض أعضائه حول ما أجازه المجمع في الفقرة الرابعة من البند الثاني في القرار الخامس المتعلق بالتلقيح الصناعي وطفل الأنابيب الصادر في الدورة السابعة المنعقدة في الفترة ما بين 11 – 16 ربيع الآخر 1404 هـ ونصها:
"إن الأسلوب السابع الذي تؤخذ فيه النطفة والبويضة من زوجين وبعد تلقيحهما في وعاء الاختبار تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى للزوج نفسه، حيث تتطوع بمحض اختيارها بهذا الحمل عن ضرتها المنزوعة الرحم".
يظهر لمجلس المجمع أنه جائز عند الحاجة وبالشروط العامة المذكورة، وملخص الملاحظات عليها:
"إن الزوجة الأخرى التي زرعت فيها لقيحة بويضة الزوجة الأولى قد تحمل ثانية قبل انسداد رحمها على حمل اللقيحة من معاشرة الزوج لها في فترة متقاربة مع زرع اللقيحة ثم تلد توأمين ولا يعلم ولد اللقيحة من ولد معاشرة الزوج، كما لا تعلم أم ولد اللقيحة التي أخذت منها البويضة من أم ولد معاشرة الزوج كما قد تموت علقة أو مضغة أحد الحملين ولا تسقط إلا مع ولادة الحمل الآخر الذي لا يعلم أيضًا أهو ولد اللقيحة أم حمل معاشرة ولد الزوج، ويوجب ذلك من اختلاط الأنساب لجهة الأم الحقيقية لكل من الحملين والتباس ما يترتب على ذلك من أحكام، وإن ذلك كله يوجب توقف المجمع عن الحكم في الحالة المذكورة".
كما استمع المجلس إلى الآراء التي أدلى بها اطباء الحمل والولادة الحاضرين في المجلس والمؤيدة لاحتمال وقوع الحمل الثاني من معاشرة الزوج في حاملة اللقيحة واختلاط الأنساب على النحو المذكور في الملاحظات المشار إليها.
وبعد مناقشة الموضوع وتبادل الآراء فيه قرر المجلس سحب حالة الجواز الثالثة المذكورة في الأسلوب السابع المشار إليها من قرار المجمع الصادر في هذا الشأن في الدورة السابعة عام 1404 هـ بحيث يصبح قرار المجلس المشار إليه في موضوع التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب على النحو التالي:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في الدراسة التي قدمها عضو المجلس مصطفى أحمد الزرقاء حول التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب، الأمر الذي شغل الناس وكان من أبرز قضايا الساعة في العالم، واستعرض المجلس ما تحقق في هذا المجال من إنجازات طبية توصل إليها العلم والتقنية في العصر الحاضر، لإنجاب الأطفال من بني الإنسان والتغلب على أسباب العقم المختلفة المانعة من الاستيلاد.(2/1035)
وقد تبين للمجلس من تلك الدراسة الوافية المشار إليها أن التلقيح الاصطناعي بغية الاستيلاد (بغير الطريق الطبيعي وهو الاتصال الجنسي المباشر بين الرجل والمرأة) يتم بأحد طريقتين أساسيتين:
- طريقة التلقيح الداخلي، وذلك بحقن نطفة الرجل في الموضع المناسب من باطن المرأة.
- وطريق التلقيح الخارجي بين نطفة الرجل وبويضة المرأة في أنبوب اختبار في المختبرات الطبية، ثم زرع البويضة الملقحة (اللقيحة) في رحم المرأة.
ولابد في الطريقتين من انكشاف المرأة على من يقوم بتنفيذ العملية.
وقد تبين لمجلس المجمع الفقهي من تلك الدراسة المقدمة إليه في الموضوع ومما أظهرته المذاكرة والمناقشة، أن الأساليب والوسائل التي يجري بها التلقيح الاصطناعي بطريقيه الداخلي والخارجي لأجل الاستيلاد هي سبعة أساليب بحسب الأحوال المختلفة، للتلقيح الداخلي فيها أسلوبان، وللخارجي خمسة من الناحية الواقعية، بقطع النظر عن حلها أو حرمها شرعًا، وهي الأساليب التالية:
في التلقيح الاصطناعي الداخلي
الأسلوب الأول:
أن تؤخذ النطفة الذكرية من رجل متزوج وتحقن في الموضع المناسب داخل مهبل زوجته أو رحمها حتى تلتقي التقاء طبيعيًا بالبويضة التي يفرزه مبيض زوجته، ويقع التلقيح بينهما ثم العلوق في جدار الرحم بإذن الله، كما في حالة الجماع، وهذا الأسلوب يلجأ إليه إذا كان في الزوج قصور لسبب ما عن إيصال مائة في المواقعة إلى الموضع المناسب.
الأسلوب الثاني:
أن تؤخذ نطفة من رجل وتحقن في الموضع المناسب من زوجة رجل آخر حتى يقع التلقيح داخليًا، ثم العلوق في الرحم كما في الأسلوب الأول، ويلجأ إلى هذا الأسلوب حين يكون الزوج عقيمًا لا بذرة في مائه، فيأخذون النطفة الذكرية من غيره.(2/1036)
في طريق التلقيح الخارجي
الأسلوب الثالث:
أن تؤخذ نطفة من زوج، وبويضة من مبيض زوجته، فتوضعا في أنبوب اختبار طبي بشروط فيزيائية معينة، حتى تلقح نطفة الزوج بويضة زوجته في وعاء الاختبار، ثم بعد أن تأخذ اللقيحة بالانقسام والتكاثر تنقل في الوقت المناسب من أنبوب الاختبار إلى رحم الزوجة نفسها صاحب البويضة، لتعلق في جداره وتنمو وتتخلق ككل جنين، ثم في نهاية مدة الحمل الطبيعية تلد الزوجة طفلًا أو طفلة وهذا هو طفل الأنبوب الذي حققه الإنجاز العلمي الذي يسره الله، وولد به إلى اليوم عدد من الأولاد ذكورًا وإناثًا، وتوائم، تناقلت أخبارها الصحف العالمية ووسائل الإعلام المختلفة.
ويلجأ إلى هذا الأسلوب الثالث عندما تكون الزوجة عقيمًا بسبب انسداد القناة التي تصل بين مبيضها ورحمها (قناة فالوب) .
الأسلوب الرابع:
أن يجرى تلقيح خارجي في أنبوب الاختبار بين نطفة مأخوذة من زوج، وبويضة مأخوذة من مبيض امرأة ليست زوجته (يسمونها متبرعة) ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته.
ويلجأون إلى هذا الأسلوب عندما يكون مبيض الزوجة مستأصلًا أو معطلًا ولكن رحمها سليم قابل لعلوق اللقيحة فيه.
الأسلوب الخامس:
أن يجري تلقيح خارجي في أنبوب اختبار بين نطفة رجل وبويضة من امرأة ليست زوجة له (يسمونهما متبرعين) ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة أخرى متزوجة، ويلجأون إلى ذلك حينما تكون المرأة المتزوجة التي زرعت اللقيحة فيها عقيما بسبب تعطل مبيضها، ولكن رحمها سليم وزوجها عقيم ويريدان ولدًا.(2/1037)
الأسلوب السادس:
أن يجرى تلقيح خارجي في وعاء الاختبار بين بذرتي زوجين، ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة تتطوع بحملها.
ويلجأون إلى ذلك حين تكون الزوجة غير قادرة على الحمل لسبب في رحمها ولكن مبيضها سليم منتج، أو تكون غير راغبة في الحمل ترفها، فتتطوع امرأة أخرى بالحمل عنها.
- هذه هي أساليب التلقيح الاصطناعي الذي حققه العلم لمعالجة أسباب عدم الحمل.
وقد نظر مجلس المجمع الفقهي فيما نشر وأذيع أنه يتم فعلًا تطبيقه في أوربا وأمريكا من استخدام هذه الإنجازات لأغراض مختلفة، منها تجاري ومنها ما يجري تحت عنوان (تحسين النوع البشري) ومنها ما يتم لتلبية الرغبة في الأمومة لدى نساء غير متزوجات أو نساء متزوجات لا يحملن بسبب فيهن، أو في أزواجهن، وما أنشئ لتلك الأغراض المختلفة من مصارف النطف الإنسانية التي تحفظ فيها نطف الرجال بصورة تقانية تجعلها قابلة للتلقيح بها إلى مدة طويلة، وتؤخذ من رجال معينين أو غير معينين تبرعًا أو لقاء عوض، إلى آخر ما يقال إنه واقع اليوم في بعض بلاد العالم.(2/1038)
النظر الشرعي بمنظار الشريعة الإسلامية
هذا وإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بعد النظر فيما تجمع لديه من معلومات موثقة، مما كتب ونشر في هذا الشأن، وتطبيق قواعد الشريعة الإسلامية ومقاصدها لمعرفة حكم هذه الأساليب المعروضة وما تستلزمه، قد انتهى إلى القرار التفصيلي التالي:
أولًا: أحكام عامة:
(أ) أن انكشاف المرأة المسلمة على غير من يحل بينها وبينه الاتصال الجنسي لا يجوز بحال من الأحوال إلا لغرض مشروع يعتبره الشرع مبيحًا لهذا الانكشاف.
(ب) أن احتياج المرأة إلى العلاج من مرض يؤذيها، أو من حالة غير طبيعية في جسمها تسبب لها إزعاجًا، يعتبر ذلك غرضًا مشروعًا يبيح لها الانكشاف على غير زوجها لهذا العلاج، وعندئذ يتقيد ذلك الانكشاف بقدر الضرورة.
(جـ) كلما كان انكشاف المرأة على غير من يحل بينها وبينه الاتصال الجنسي مباحًا لغرض مشروع، يجب أن يكون المعالج امرأة مسلمة إن أمكن ذلك، وإلا فامرأة غير مسلمة، وإلا فطبيب مسلم ثقة وإلا فغير مسلم بهذا الترتيب.
ولا تجوز الخلوة بين المعالج والمرأة التي يعالجها إلا بحضور زوجها أو امرأة أخرى.(2/1039)
ثانيًا: حكم التلقيح الاصطناعي:
1- أن حاجة المرأة المتزوجة التي لا تحمل، وحاجة زوجها إلى الولد، تعتبر غرضًا مشروعًا يبيح معالجتها بالطريقة المباحة من طرق التلقيح الاصطناعي.
2- أن الأسلوب الأول (الذي تؤخذ فيه النطفة الذكرية من رجل متزوج ثم تحقن في رحم زوجته نفسها في طريقة التلقيح الداخلي) هو أسلوب جائز شرعًا بالشروط العامة الآنفة الذكر، وذلك بعد أن تثبتت حاجة المرأة إلى هذه العملية لأجل الحمل.
3- أن الأسلوب الثالث (الذي تؤخذ فيه البذرتان الذكرية والأنثوية من رجل وامراة زوجين أحدهما للآخر، ويتم تلقيحهم خارجيًا في أنبوب اختبار، ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة نفسها صاحبة البويضة) هو أسلوب مقبول مبدئيًا في ذاته بالنظر الشرعي، لكنه غير سليم تمامًا من موجبات الشك فيم يستلزمه ويحيط به من ملابسات فينبغي أن لا يلجأ إليه إلا في حالات الضرورة القصوى، وبعد أن تتوافر الشرائط العامة الآنفة الذكر.
4- وفي حالتي الجواز الاثنتين يقرر المجمع أن نسب المولود يثبت من الزوجين مصدري البذرتين، ويتبع الميراث والحقوق الأخرى ثبوت النسب، فحين يثبت نسب المولود من الرجل والمرأة يثبت الإرث وغيره من الأحكام بين الولد ومن التحق نسبه به.
5- وأما الأساليب الأخرى من أساليب التلقيح الاصطناعي في الطريقين الداخلي والخارجي مما سبق بيانه فجميعها محرمة في الشرع الإسلامي لا مجال لإباحة شيء منها، لأن البذرتين الذكرية والأنثوية فيها ليستا من زوجين، أو لأن المتطوعة بالحمل هي أجنبية عن الزوجين مصدر البذرتين.
هذا، ونظرًا لما في التلقيح الاصطناعي بوجه عام من ملابسات حتى في الصورتين الجائزتين شرعًا، ومن احتمال اختلاط النطف أو اللقائح في أوعية الاختبار، ولاسيما إذا كثرت ممارسته وشاعت، فإن مجلس المجمع الفقهي ينصح الحريصين على دينهم أن لا يلجأوا إلى ممارسته إلا في حالة الضرورة القصوى، وبمنتهى الاحتياط والحذر من اختلاط النطف أو اللقائح.
هذا ما ظهر لمجلس المجمع الفقهي في هذه القضية ذات الحساسية الدينية القوية من قضايا الساعة، ويرجو الله أن يكون صوابًا، والله سبحانه وتعالى أعلم وهو الهادي إلى سواء السبيل وولي التوفيق.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا والحمد لله رب العالمين.(2/1040)
[توقيع]
[توقيع]
نائب الرئيس
رئيس مجلس المجمع الفقهي
د. عبد الله عمر نصيف
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
متوقف في الأولى والثالثة أما بقية الصور الأربعة فلا خلاف في تحريمها
الأعضاء
[توقيع] [توقيع]
محمد بن جبير عبد الله عبد الرحمن البسام صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
محمد بن عبد الله بن سبيل مصطفى أحمد الزرقاء محمد محمود الصواف
متوقف في جواز الأسلوب الثالث(2/1041)
القرار الرابع
حول موضوع التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في موضوع التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب الموجود على جدول أعماله لهذه الدورة، واستعرض البحث الأصلي المفصل الذي أعده وقدمه بعض أعضاء المجلس حول هذا الموضوع في دورة سابقة، ونظر أيضًا فيما استقصاه أعضاء آخرون من كتابات جديدة حوله، وتدارس المجلس، في ضوء جميع المعلومات التي تجمعت لديه في هذا الموضوع من جميع جوانبه وأبعاده.
وبعد المداولة رأى المجلس أن هذا الموضوع شديد الحساسية من الناحية الشرعية، وذو أبعاد كثيرة، وله نتائج خطيرة وانعكاسات على حياة الأسرة والأوضاع الاجتماعية والأخلاقية في مختلف صوره وطرائقه التي قيل إنها تجرى اليوم في البلاد الأجنبية، كما أن له ارتباطات متشعبة في النظر الشرعي بأحكام من أبواب شتى فيما يتعلق بالحل والحرمة، وقواعد الاضطرار والحاجة، وقواعد النسب والشبهة، وفراش الزوجية، ووطء الحامل من الغير، وبأحكام العدة واستبراء الرحم، وحرمة المصاهرة، ثم بأحكام العقوبات في الإسلام من حد أو تعزير ارتكب فيه ما لا يجوز شرعًا من صور التلقيح الداخلي في المرأة، أو التلقيح الخارجي في الأنبوب الاختباري ثم الزرع في الأرحام، إلى غير ذلك من الاعتبارات التي تجعل هذا الموضوع الخطير في حاجة إلى مزيد من الدرس والتمحيص، ولاسيما بعد الكتابات الجديدة التي نشرها حوله أطباء متتبعون فتحوا بها أبوابًا من الشك على بعض وقائعه.
لذلك قرر مجلس المجمع الفقهي إرجاء البت فيه إلى الدورة القادمة ليتمكن من استيعاب أوسع وتمحيص أكثر في مختلف جوانبه واحتمالاته وأبعاده، وليأتي الرأي الفقهي فيه أبعد عن الابتسار، وأقرب إلى الصواب في معرفة حكم الشريعة الإسلامية بإذن الله تعالى، والله هو الموفق.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(2/1042)
[توقيع]
رئيس مجلس المجمع الفقهي
عبد الله بن حميد
[اعتذر لمرضه]
نائب الرئيس
محمد علي الحركان
الأعضاء
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
عبد العزيز بن عبد الله بن باز محمد محمود الصواف صالح بن عثيمين
[توقيع] [تخلف عن الحضور] [توقيع]
محمد بن عبد الله بن السبيل مبروك العوادي محمد الشاذلي النيفر
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
مصطفى أحمد الزرقاء عبد القدوس الهاشمي محمد رشيدي
[تخلف عن الحضور] [توقيع] [تخلف عن الحضور]
أبو الحسن علي الحسني الندوي أبو بكر محمود جومي حسنين محمد مخلوف
[توقيع] [تخلف عن الحضور] [توقيع]
محمد رشيد قباني محمود شيت خطاب محمد سالم عدود
[مقرر المجمع الفقهي الإسلامي]
محمد عبد الرحيم الخالد(2/1043)
القرار الخامس
حول
التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم وبعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي قد نظر في الدراسة التي قدمها عضو المجلس مصطفى أحمد الزرقاء حول التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب، الأمر الذي شغل الناس وكان من أبرز قضايا الساعة في العالم، واستعرض المجلس ما تحقق في هذا المجال من إنجازات طبية توصل إليها العلم والتقنية في العصر الحاضر، لإنجاب الأطفال من بني الإنسان والتغلب على أسباب العقم المختلفة المانعة من الاستيلاد.
وقد تبين للمجلس من تلك الدراسة الوافية المشار إليها أن التلقيح الاصطناعي بغية الاستيلاد (بغير الطريق الطبيعي وهو الاتصال الجنسي المباشر بين الرجل والمرأة) يتم بأحد طريقين أساسيين:
- طريقة التلقيح الداخلي، وذلك بحقن نطفة الرجل في الموضع المناسب من باطن المرأة.
- وطريق التلقيح الخارجي بين نطفة الرجل وبويضة المرأة في أنبوب اختبار في المختبرات الطبية، ثم زرع البويضة الملقحة (اللقيحة) في رحم المرأة.
ولابد في الطريقين من انكشاف المرأة على من يقوم بتنفيذ العملية.
وقد تبين لمجلس المجمع الفقهي من تلك الدراسة المقدمة إليه في الموضوع ومما أظهرته المذاكرة والمناقشة أن الأساليب والوسائل التي يجرى بها التلقيح الاصطناعي بطريقيه الداخلي والخارجي لأجل الاستيلاد هي سبعة أساليب بحسب الأحوال المختلفة، للتلقيح الداخلي فيها أسلوبان، وللخارجي خمسة من الناحية الواقعية، بقطع النظر عن حلها أو حرمها شرعًا، وهي الأساليب التالية:
في التلقيح الاصطناعي الداخلي
الأسلوب الأول:
أن تؤخذ النطفة الذكرية من رجل متزوج وتحقن في الموقع المناسب داخل مهبل زوجته أو رحمها حتى تلتقي النطفة التقاءً طبيعيًا بالبويضة التي يفرزها مبيض زوجته، ويقع التلقيح بينهما ثم العلوق في جدار الرحم بإذن الله، كما في حالة الجماع، وهذا الأسلوب يلجأ إليه إذا كان في الزوج قصور لسبب ما عن إيصال مائه في المواقعة إلى الموضع المناسب.(2/1044)
الأسلوب الثاني:
أن تؤخذ نطفة من رجل وتحقن في الموضع المناسب من زوجة رجل آخر حتى يقع التلقيح داخليًا، ثم العلوق في الرحم كما في الأسلوب الأول، ويلجأ إلى هذا الأسلوب حين يكون الزوج عقيمًا لا بذرة في مائه، فيأخذون النطفة الذكرية من غيره.
في طريق التلقيح الخارجي
الأسلوب الثالث:
أن تؤخذ نطفة من زوج، وبويضة من مبيض زوجته، فتوضعا في أنبوب اختبار طبي بشروط فيزيائية معينة، حتى تلقح نطفة الزوج بويضة زوجته في وعاء الاختبار، ثم بعد أن تأخذ اللقيحة بالانقسام والتكاثر تنقل في الوقت المناسب من أنبوب الاختبار إلى رحم الزوجة نفسها صاحبة البويضة، لتعلق في جداره وتنمو وتتخلق ككل جنين، ثم في نهاية مدة الحمل الطبيعية تلده الزوجة طفلًا أو طفلة وهذا هو طفل الأنبوب الذي حققه الإنجاز العلمي الذي يسره الله، وولد به إلى اليوم عدد من الأولاد ذكورًا وإناثًا وتوائم، تناقلت أخبارها الصحف العالمية ووسائل الإعلام المختلفة.
ويلجأ إلى هذا الأسلوب الثالث عندما تكون الزوجة عقيمًا بسبب انسداد القناة التي تصل بين مبيضها ورحمها (قناة فالوب) .
الأسلوب الرابع:
أن يجرى تلقيح خارجي في أنبوب الاختبار بين نطفة مأخوذة من زوج، وبويضة مأخوذة من مبيض امرأة ليست زوجته (يسمونها متبرعة) ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته.
ويلجأون إلى هذا الأسلوب عندما يكون مبيض الزوجة مستأصلًا أو معطلًا ولكن رحمها سليم قابل لعلوق اللقيحة فيه.
الأسلوب الخامس:
أن يجرى تلقيح خارجي في أنبوب اختبار بين نطفة رجل وبويضة من امرأة ليست زوجة له (يسمونهما متبرعين) ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة أخرى متزوجة.
ويلجأون إلى ذلك حينما تكون المرأة المتزوجة التي زرعت اللقيحة فيها عقيمًا بسبب تعطل مبيضها، لكن رحمها سليم وزوجها عقيم ويريدان ولدًا.
الأسلوب السادس:
أن يجرى تلقيح خارجي في وعاء الاختبار بين بذرتي زوجين، ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة تتطوع بحملها.
ويلجأون إلى ذلك حين تكون الزوجة غير قادرة على الحمل لسبب في رحمها ولكن مبيضها سليم منتج، أو تكون غير راغبة في الحمل ترفهًا، فتتطوع امرأة أخرى بالحمل عنها.(2/1045)
الأسلوب السابع:
هو السادس نفسه إذ كانت المتطوعة بالحمل هي زوجة ثانية للزوج صاحب النطفة، فتتطوع لها ضرتها لحمل اللقيحة عنها.
وهذا الأسلوب لا يجرى في البلاد الأجنبية التي يمنع نظامها تعدد الزوجات، بل في البلاد التي تبيح هذا التعدد.
- هذه هي أساليب التلقيح الاصطناعي الذي حققه العلم لمعالجة أسباب عدم الحمل.
وقد نظر مجلس المجمع الفقهي فيما نشر وأذيع أنه يتم فعلًا تطبيقه في أوربا وأمريكا من استخدام هذه الإنجازات لأغراض مختلفة، منها تجاري ومنها ما يجرى تحت عنوان (تحسين النوع البشري) ومنها ما يتم لتلبية الرغبة في الأمومة لدى نساء غير متزوجات أو نساء متزوجات لا يحملن لسبب فيهن، أو في أزواجهن، وما أنشئ لتلك الأغراض المختلفة من مصارف النطف الإنسانية التي تحفظ فيها نطف الرجال بصورة تقانية تجعلها قابلة للتلقيح بها إلى مدة طويلة، وتؤخذ من رجال معينين أو غير معينين تبرعًا أو لقاء عوض، إلى آخر ما يقال إنه واقع اليوم في بعض بلاد العالم المتمدن.(2/1046)
النظر الشرعي لمنظار الشريعة الإسلامية
هذا وإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بعد النظر فيما تجمع لديه من معلومات موثقة، مما كتب ونشر في هذا الشأن، وتطبيق قواعد الشريعة الإسلامية ومقاصدها لمعرفة حكم هذه الأساليب المعروضة وما تستلزمه، قد انتهى إلى القرار التفصيلي التالي:
أولًا: أحكام عامة:
(أ) أن انكشاف المرأة المسلمة على غير من يحل بينها وبينه الاتصال الجنسي لا يجوز بحال من الأحوال إلا لغرض مشروع يعتبره الشرع مبيحًا لهذا الانكشاف.
(ب) أن احتياج المرأة إلى العلاج من مرض يؤذيها، أو من حالة غير طبيعية في جسمها تسبب لها إزعاجًا، يعتبر ذلك غرضًا مشروعًا يبيح لها الانكشاف على غير زوجها لهذا العلاج، وعندئذ يتقيد ذلك الانكشاف بقدر الضرورة.
(جـ) كلما كان انكشاف المرأة على غير من يحل بينها وبينه الاتصال الجنسي مباحًا لغرض مشروع، يجب أن يكون المعالج امرأة مسلمة إن أمكن ذلك، وإلا فامرأة غير مسلمة، وإلا فطبيب مسلم ثقة وإلا فغير مسلم بهذا الترتيب.
ولا تجوز الخلوة بين المعالج والمرأة التي يعالجها إلا بحضور زوجها أو امرأة أخرى.
ثانيًا: حكم التلقيح الاصطناعي:
1- إن حاجة المرأة المتزوجة التي لا تحمل، وحاجة زوجها إلى الولد، تعتبر غرضًا مشروعًا يبيح معالجتها بالطريقة المباحة من طرق التلقيح الاصطناعي.
2- أن الأسلوب الأول (الذي تؤخذ فيه النطفة الذكرية من رجل متزوج ثم تحقن في رحم زوجته نفسها في طريقة التلقيح الداخلي) هو أسلوب جائز شرعًا بالشروط الآنفة الذكر، وذلك بعد أن تثبت حاجة المرأة إلى هذه العملية لأجل الجمل.
3- أن الأسلوب الثالث (الذي تؤخذ فيه البذرتان الذكرية والأنثوية من رجل وامرأة زوجين أحدهما للآخر، ويتم تلقيحهما خارجيًا في أنبوب اختبار، ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة نفسها صاحبة البويضة) هو أسلوب مقبول مبدئيًا في ذاته بالنظر الشرعي، لكنه غير سليم تمامًا من موجبات الشك فيما يستلزمه ويحيط به من ملابسات فينبغي أن لا يلجأ إليه إلا في حالات الضرورة القصوى، وبعد أن تتوافر الشرائط العامة الآنفة الذكر.(2/1047)
4- أن الأسلوب السابع (الذي تؤخذ فيه النطفة والبويضة من زوجين وبعد تلقيحها في وعاء الاختبار تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى للزوج نفسه، حيث تتطوع بمحض اختيارها بهذا الحمل عن ضرتها المنزوعة الرحم) يظهر لمجلس المجمع أنه جائز عند الحاجة وبالشروط العامة المذكورة.
5- وفي حالات الجواز الثلاثة يقرر المجمع أن نسب المولود يثبت من الزوجين مصدر البذرتين، ويتبع الميراث والحقوق الأخرى ثبوت النسب، فحين يثبت نسب المولود من الرجل والمرأة يثبت الإرث وغيره من الأحكام بين الولد ومن التحق نسبه له.
أما الزوجة المتطوعة بالحمل عن ضرتها (في الأسلوب السابع المذكور) فتكون في حكم الأم الرضاعية اللمولود لأنه اكتسب من جسمها وعضويتها أكثر مما يكتسب الرضيع من مرضعته في نصاب الرضاع الذي يحرم به ما يحرم من النسب.
6- وأما الأساليب الأربعة الأخرى من أساليب التلقيح الاصطناعي في الطريقين الداخلي والخارجي مما سبق بيانه فجميعها محرمة في الشرع الإسلامي لا مجال لإباحة شيء منها، لأن البذرتين الذكرية والأنثوية فيها ليستا من زوجين، أو لأن المتطوعة بالحمل هي أجنبية عن الزوجين مصدر البذرتين.
هذا، ونظرًا لما في التلقيح الاصطناعي بوجه عام من ملابسات حتى في الصور الجائزة شرعًا، ومن احتمال اختلاط النطف أو اللقائح في أوعية الاختبار، ولاسيما إذا كثرت ممارسته وشاعت، فإن مجلس المجمع الفقهي ينصح الحريصين على دينهم أن لا يلجأوا إلى ممارسته إلا في حالة الضرورة القصوى، وبمنتهى الاحتياط والحذر من اختلاط النطف أو اللقاح.
(انظر القرار الثاني من الدورة الثامنة ص 150) .(2/1048)
هذا ما ظهر لمجلس المجمع في هذه القضية ذات الحساسية الدينية القوية من قضايا الساعة، ويرجو من الله أن يكون صوابًا، والله سبحانه أعلم وهو الهادي إلى سواء السبيل وولي التوفيق.
[توقيع]
[توقيع]
نائب الرئيس
رئيس مجلس المجمع الفقهي
د. عبد الله عمر نصيف
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
متوقف في جميع الأحوال الثلاث لما في جوازها من الخطر أما الأحوال الأربع الأخرى فلا شك في تحريمها
الأعضاء
[توقيع] [توقيع]
محمد بن جبير عبد الله عبد الرحمن البسام صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
محمد بن عبد الله بن سبيل مصطفى أحمد الزرقاء محمد محمود الصواف
متوقف في جواز الأسلوب الثالث(2/1049)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
قرار رقم 5
بشأن
أطفال الأنابيب
أما بعد،
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الثاني 1406 هـ / 22 – 28 ديسمبر 1985م.
إذ استعرض البحوث المقدمة من السادة الفقهاء والأطباء الذين عرضوا موضوع "أطفال الأنابيب" من جانبيه الفقهي والفني الطبي، ناقش ما قدم من دراسات وافية، وما أثير من جوانب مختلفة لاستيضاح الموضوع.
وإذ تبين له أن الموضوع يحتاج إلى مزيد من الدراسة طبيًا وفقهيًا، وإلى مراجعة الدراسات والبحوث السابقة، واستيفاء التصور من جميع جوانبه.
قرر:
1- تأجيل البت في هذا الموضوع إلى الدورة القادمة للمجمع.
2- يعهد لفضيلة الشيخ الدكتور بكر أبو زيد –رئيس المجمع- بإعداد دراسة وافية في الموضوع تلم بكل المعطيات الفقهية والطبية.
3- توجيه الأمانة ما يصل إليها إلى جميع الأعضاء قبل انعقاد الدورة القادمة بثلاث أشهر على الأقل.
والله أعلم(2/1050)
قرار رقم 6
بشأن
بنوك الحليب
أما بعد:
فان مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 1 – 16 ربيع الثاني 1406 هـ /22 – 28 ديسمبر 1985م
بعد ان عرض على المجمع دراسة فقهية، ودراسة طبية حول بنوك الحليب
وبعد التأمل فيما جاء في الدراستين ومناقشة كل منهما مناقشة مستفيضة شملت مختلف جوانب الموضوع تبين:
1- أن بنوك الحليب تجربة قامت بها الأمم الغربية. ثم ظهرت مع التجربة بعض السلبيات الفنية والعلمية فيها فانكمشت وقل الاهتمام بها
2- أن الإسلام يعتبر الرضاع لحمة كلحمة النسب يحرم به ما يحرم من النسب بإجماع المسلمين. ومن مقاصد الشريعة الكلية المحافظة على النسب، وبنوك الحليب مؤدية إلى الاختلاط أو الريبة.
3- أن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفر للمولود الخداج أو ناقصي الوزن أو المحتاج إلى اللبن البشرى في الحالات الخاصة ما يحتاج إليه من الاسترضاع الطبيعي، الأمر الذي يغني عن بنوك الحليب
وبناء على ذلك قرر:
أولا: منع إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي.
ثانيا: حرمة الرضاع منها
والله أعلم(2/1051)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم 7
بشان
أجهزة الإنعاش
أما بعد:
فان مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من 10 -16 ربيع الثاني 1406 هـ / 22 – 28 ديسمبر 1985م
بعد أن نظر فيما قدم من دراسات فقهية وطبية في موضوع " أجهزة الإنعاش "
وبعد المناقشات المستفيضة، وإثارة متنوع الأسئلة، وخاصة حول الحياة والموت نظراَ لارتباط فك أجهزة الإنعاش بانتهاء حياة المنعش.
ونظرا لعدم وضوح كثير من الجوانب.
ونظرا لما قامت به جمعية الطب الإسلامي في الكويت من دراسة وافية لهذا الموضوع، يكون من الضروري الرجوع إليها.
قرر:
أولا: تأخير البت في هذا الموضوع إلى الدورة القادمة للمجمع.
ثانيا: تكليف الأمانة العامة بجمع دراسات وقرارات مؤتمر الإسلامي في الكويت وموافاة الأعضاء بخلاصة محددة واضحة له.
والله أعلم(2/1052)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم 1
بشأن
استفسارات البنك الإسلامي للتنمية
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406 هـ/22-28 ديسمبر 1985م.
بعد استماعه إلي عرض البنك الإسلامي للتنمية لجملة من الاسئلة والاستفسارات قصد الإفتاء بشأنها.
وبعد استماعه إلي تقرير اللجنة الفرعية التي تألفت أثناء الدورة من أصحاب الفضيلة الأعضاء الذين تقدموا بردود عن المسائل المستفسر عنها ومن انضم إليهم.
ولكون الموضوع يحتاج إلي دراسة أوسع وأكمل تقتضى الاتصال بالبنك وتداول النظر معه في مختلف جزئياته في لجنة مكونة من طرفه.
وبناء على ذلك قرر:
1- إرجاء هذا الموضوع للدورة القادمة.
2- مطالبة البنك بتقديم تقرير من هيأته العملية الشرعية.
والله أعلم..(2/1053)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم 2
بشأن
التأمين وإعادة التأمين
أما بعد:
فإن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الثاني 1406 هـ/22 – 28 ديسمبر 1985م.
بعد أن تابع العروض المقدمة من العلماء والمشاركين في الدورة حول موضوع "التأمين وإعادة التأمين".
وبعد أن ناقش الدراسات المقدمة.
وبعد تعمق البحث في سائر صوره وأنواعه، والمبادئ التي يقوم عليها والغايات التي يهدف إليها.
وبعد النظر فيما صدر عن المجامع الفقهية والهيئات العلمية بهذا الشأن.
قرر:
1 – أن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد. ولذا فهو حرام شرعا.
2 – أن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون. وكذلك الحال بالنسبة لإعادة التأمين القائم على أساس التأمين التعاوني.
3 – دعوة الدول الإسلامية للعمل على إقامة مؤسسات التأمين التعاوني، وكذلك مؤسسات تعاونية لإعادة التأمين، حتى يتحرر الاقتصاد الإسلامي من الاستغلال ومن مخالفة النظام الذي يرضاه الله لهذه الأمة.
والله أعلم.(2/1054)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم 3 بشأن
حكم التعامل المصرفى بالفوائد
وحكم التعامل بالمصارف الإسلامية
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406هـ، الموافق 22-28 ديسمبر 1985 م.
بعد أن عرضت عليه بحوث مختلفة في التعامل المصرفي المعاصر.
وبعد التأمل فيما قدم ومناقشته مناقشة مركزة أبرزت الآثار السيئة لهذا التعامل على النظام الاقتصادي العالمي، وعلى استقراره خاصة في دول العالم الثالث.
وبعد التعامل فيما جره هذا النظام من خراب نتيجة إعراضه عما جاء في كتاب الله من تحريم الربا جزئيًا وكليًا تحريمًا واضحًا بدعوته إلى التوبة منه، إلى الإقتصار على استعادة رؤوس أموال القروض دون زيادة ولا نقصان قل أو كثر، وما جاء من تهديد بحرب مدمرة من الله ورسوله للمرابين.
قرر:
أولًا: أن كل زيادة أو فائدة على الدين الذى حل أجله وعجز عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة (أو الفائدة) على القرض منذ بداية العقد: هاتان الصورتان ربا محرم شرعًا.
ثانيًا: أن البديل الذى يضمن السيولة والمساعدة على النشاط الاقتصادي حسب الصورة التى يرتضيها الإسلام – هو التعامل وفقًا للأحكام الشرعية.
ثالثًا: قرر المجمع التأكيد على دعوة الحكومات الإسلامية إلى تشجيع المصارف التى تعمل بمقتضى الشريعة الإسلامية، والتمكين لإقامتها في كل بلد إسلامى لتغطى حاجة المسلمين كيلا يعيش المسلم في تناقض بين واقعه ومقتضيات عقيدته.
والله أعلم(2/1055)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى اله وصحبه.
قرار رقم 4
بشأن
توحيد بدايات الشهور القمرية
أما بعد:
فان مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من10 - 16 ربيع الثاني 6 140 هـ /22 - 28 ديسمبر1985م. بعد أن استعرض البحوث المقدمة إليه من الأعضاء والخبراء حول توحيد بدايات الشهور القمرية.
وبعد أن ناقش الحاضرون العروض المقدمة في الموضوع مناقشة مستفيضة واستمعوا لعديد من الآراء حول اعتماد الحساب في إثبات دخول الشهور القمرية.
قرر:
ا - تكليف الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بتوفير الدراسات العلمية الموثقة من خبراء أمناء في الحساب الفلكي والأرصاد الجوية.
2 - تسجيل موضوع توحيد بدايات الشهور القمرية في جدول أعمال الجلسة القادمة لاستيفاء البحث فيه من الناحيتين الفنية والفقهية الشرعية.
3 - تكليف الأمانة العامة باستقدام عدد كاف من الخبراء المذكورين وذلك لمشاركة الفقهاء في تصوير جوانب الموضوع كلها تصويرا واضحا يمكن اعتماده لبيان الحكم الشرعي.
والله أعلم(2/1056)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى اله وصحبه.
قرار رقم 5
بشأن
خطاب الضمان
أما بعد:
فان مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406هـ، الموافق 22 –28 ديسمبر 1985م. بحث مسألة خطاب الضمان. وبعد النظر فيما أعد في ذلك من بحوث ودراسات وبعد المداولات والمناقشات المستفيضة تبين ما يلي:
1-ان خطاب الضمان بأنواعه الابتدائي والانتهائي لا يخلو إما أن يكون بغطاء أو بدونه، فان كان بدون غطاء، فهو: ضم ذمة الضامن إلى ذمة غيره فيم يلزم حالا أو مآلا، وهذه هي حقيقة ما يعني في الفقه الإسلامي باسم: (الضمان) أو (الكفالة) .
وان كان خطاب الضمان بغطاء فالعلاقة بين طالب خطاب الضمان وبين مصدره هي (الوكالة) والوكالة تصح بأجر أو بدونه مع بقاء علاقة الكفالة لصالح المستفيد (المكفول له) .
2-ان الكفالة هي عقد تبرع يقصد للإرفاق والإحسان، وقد قرر الفقهاء عدم جواز أخذ العوض على الكفالة، لأنه في حالة أداء الكفيل مبلغ الضمان يشبه القرض الذي جر نفعا على المقرض، وذلك ممنوع شرعا.
ولذلك فان المجمع قرر ما يلي:
أولا: أن خطاب الضمان لا يجوز أخذ الأجر عليه لقاء عملية الضمان (والتي يراعى فيها عادة مبلغ الضمان ومدته) ، سواء أكان بغطاء أم بدونه.
ثانيا: أما المصاريف الإدارية لإصدار خطاب الضمان بنوعيه فجائزة شرعا، مع مراعاة عدم الزيادة على أجر المثل، وفي حالة تقديم غطاء كلي أو جزئي، يجوز أن يراعى في تقدير المصاريف لإصدار خطاب الضمان ما قد تتطلبه المهمة الفعلية لأداء ذلك الغطاء.
والله اعلم.(2/1057)
استفتاء المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن
بسم الله الرحمن الرحيم
صاحب السماحة
الشيخ الجليل الأستاذ: محمد الحبيب ابن الخوجة حفظه الله
لا يخفى على سماحتكم أن أمريكا الشمالية يعيش اليوم فيها ما يربو على ثلاثة ملايين من المسلمين كثيرون منهم قد استوطن أجدادهم وآباؤهم هذه البلاد منذ خمسين عامًا تزيد قليلًا أو تنقص. وبعضهم هداهم الله إلى الإسلام حديثًا وكانوا قبل ذلك على النصرانية أو اليهودية أو الوثنية أو الإلحاد. كما أن هناك آلافًا من الطلاب المسلمين يفدون إلى هذه البلاد للدراسة في جامعاتها المختلفة. وفي أوربا وأمريكا الجنوبية أعداد أخرى من هؤلاء المسلمين إن لم تزد عن أعدادهم في أمريكا الشمالية فلا تقل كثيرًا عنها، ولهذا النوع من المجتمعات خصائص وتأثيرات على من يعيشون فيها بشكل أو بآخر سلبيًا أو إيجابيًا، وبالتالي فإن للأقليات المسلمة حاجات فقهية وأسئلة قل أن يثار مثلها في بلاد المسلمين أو البلدان التي يشكل المسلمون فيها أغلبية كبيرة. ولندرة الفقهاء في هذه الأماكن وقصور الكثيرين منهم عن مستوى الفتوى، وتسرع البعض وقلة تثبته، أو ضعف فهمه لمدارك الفقهاء ومناحي مذاهبهم فقد تحول كثير من تلك المسائل إلى وسائل اختلاف، وإثارة منازعات بين المسلمين جعلتهم في وضع سيئ ينذر بعواقب وخيمة أقلها تفرق قد يؤدي إلى ذوبانهم في البيئات التي يعيشون فيها ثم نسيان انتمائهم إلى الإسلام والمسلمين لا قدر الله ذلك.
وبما أن الفتاوى الفردية، أو الفتاوى التي لا تقترن بالاستدلال والتعليل قليلة الأثر في هذه البيئات ونحوها فقد حرصنا على أن نجمع أهم المسائل التي تكثر إثارتها، وتشتد حاجة المسلمين إلى الوصول إلى القول الفصل فيها لنضعها بين أيديكم، ونحصل على أجوبة شافية عنها تقطع مادة الجدل والنقاش وتبصر المسلمين بأمور دينهم.. فنرجو التفضل بإيلاء هذه المسائل ما تستحقه من العناية وإجابتنا عنها لتوعية الدعاة وأئمة المساجد والمسلمين على أحكامها والإسهام في تقليل عوامل الفرقة والاختلاف بين المسلمين.
وتجدون سماحتكم شفع خطابنا هذا ثبتًا بتلك المسائل وفقكم الله ورعاكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
د. طه جابر العلواني
مدير الأبحاث والدراسات
وعضو المجمع الفقهي بجدة
د. طه جابر العلواني(2/1058)
المسائل التي يكثر تساؤل المسلمين عنها
في أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا
1- ما حكم التجنس بالجنسية الأجنبية أمريكية كانت أو أوروبية. علمًا بأن معظم الذين قبلوا التجنس بهذه الجنسيات أو يعتزمون الحصول عليها يؤكدون أنهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم قد أوذوا واضطهدوا في بلادهم الأصلية بالسجن أو التهديد ومصادرة الأموال وغيرها.
وبعضهم يرى أنه ما دامت الأحكام الشرعية والحدود معطلة في بلاده الأصلية فأي فرق بين أن يحمل جنسية ذلك البلد الذي اضطهده والبلد الذي اختار أن يستوطن فيه وفي كليهما لا تطبق الأحكام الشرعية، ولا تقام الحدود وهو في بلد مهجره مصانة حقوقه الشخصية دمه وماله وعرضه ولا يمكن سجنه أو تهديده إلا إذا فعل ما يستوجب ذلك؟
2- لولادة الأبناء وتنشئتهم في أمريكا وأوروبا ونحوها من بلاد غير المسلمين مساوئ ومخاطر، وبعض المحاسن، واحتمال اكتسابهم من عادات أبناء النصارى واليهود الكثير احتمال قائم –خاصة- في حالة انشغال الوالدين أو وفاة أحدهما أو كليهما. مع ملاحظة أن كثيرًا من الناس هنا على الدوام يذكرون بأن أبنائهم في بعض البلدان الإسلامية التي كانوا يقيمون فيها يتعرضون لاحتمالات الردة باعتناق الشيوعية واللادينية أو نحوها من الأفكار الإلحادية التي تروج لها حكومات بعض البلدان الإسلامية وتدخلها في برامج التعليم والتوجيه العام، وتضطهد من يرفضها؟
ويؤكد المستوطنون –هنا- من المسلمين أنه لم يطلب من أحدهم أن يغير دينه، أو أنه وجه نحو دين آخر، وذلك لضعف الاهتمام بالناحية الدينية هنا.
3- ما حكم زواج المسلمة بغير المسلم خاصة إذا طمعت في إسلامه بعد الزواج حيث تدعي مسلمات كثيرات أنه لا يتوفر لهن الأكفاء من المسلمين في غالب الأحيان، وأنهن مهددات بالانحراف، أو يعشن في وضع شديد الحرج؟
4- ما حكم استمرار الزوجية والمعاشرة بين زوجة دخلت الإسلام وبقي زوجها على الكفر ولها منه أولاد تخشى عليهم الضياع والانحراف، ولها طمع في أن يهتدي زوجها إلى الإسلام فيما إذا لم يكن هناك طمع في إسلامه، ولكنه يحسن معاشرتها وتخشى لو تركته ألا تعثر على زوج مسلم؟
5- ما حكم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين، حيث لا يسمح بالدفن خارج المقابر المعدة لذلك، ولا توجد مقابر خاصة بالمسلمين في معظم الولايات الأمريكية والأقطار الأوربية؟(2/1059)
6- ما حكم بيع المسجد (إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه) فكثيرًا ما يشتري المسلمون منزلًا ويحولونه مسجدًا فإذا انتقلت غالبية المسلمين من المنطقة لظروف العمل هجر المسجد أو أهمل، وقد يستولي عليه آخرون، ومن الممكن بيعه واستبداله بمسجد يؤسس في مكان فيه مسلمون، فما حكم هذا البيع أو الاستبدال؟ وإذا لم تتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر فما أقرب الوجوه التي يجوز صرف ثمن المسجد فيها؟
7- كثيرات من بنات المسلمين ونسائهم تدعوهن ظروف العمل أو الدراسة إلى السفر إلى ولايات أخرى (أبعد من مسافة القصر) بالطائرة أو غيرها من وسائل السفر، بدون محرم، ومن غير رفقة من نسوة تعرفهن أو يعرفنها غير رفقة المسافرين والمسافرات عادة فما حكم هذا السفر؟
8- بعض النساء أو الفتيات تضطرهن ظروف العمل اوالدراسة إلى الإقامة بمفردهن، أو مع نسوة غير مسلمات، فما حكم هذه الإقامة؟
9- كثيرات من النساء –هنا- يذكرن أن أقصى ما بإمكانهن ستره من أجسادهن هو ما عدا الوجه والكفين بعضهن تمنعهن جهات العمل أو الدراسة من ستر رؤوسهن وأعناقهن، فما أقصى ما يمكن السماح بكشفه من أجزاء جسم المرأة بين الأجانب في محلات العمل أو الدراسة؟
10- يضطر كثير من الطلاب المسلمين إلى العمل في هذه البلاد لتغطية نفقات الدراسة والمعيشة لأن كثيرًا منهم لا يكفيه ما يرده من ذويه مما يجعل العمل ضرورة له لا يمكن أن يعيش بدونه. وكثير منهم لا يجد عملًا إلا في مطاعم تبيع الخمور أو تقدم وجبات فيها لحم الخنزير من المحرمات فما حكم عمله في هذه المحلات؟
11- ما حكم بيع المسلم للخمور والخنازير، أو صناعة الخمور وبيعها لغير المسلمين؟ علمًا بأن بعض المسلمين في هذه البلدان قد اتخذوا من ذلك حرفة لهم.
12- هناك كثير من الأدوية تحوي كميات مختلفة من الكحول تتراوح بين 1 % و25 % ومعظم هذه الأدوية من أدوية الزكام واحتقان الأنف والحنجرة والسعال وغيرها من الأمراض السائدة. وتمثل هذه الأدوية الحاوية للكحول ما يقارب 95 % من الأدوية في هذا المجال مما يجعل الحصول على الأدوية الخالية من الكحول عملية صعبة أو متعذرة، فما حكم تناول هذه الأدوية؟
13- هناك الخمائر والجلاتين توجد فيها عناصر مستخلصة من الخنزير بنسب ضئيلة جدًا فهل يجوز استعمال هذه الخمائر والجلاتين؟
14- يضطر معظم المسلمين إلى إقامة حفلات الزفاف لبناتهم في مساجدهم وكثيرًا ما يتخلل هذه الحفلات رقص وإنشاد أو غناء، ولا تتوفر لهم أماكن تتسع لمثل هذه الحفلات فما حكم إقامة مثل هذه الحفلات في المساجد؟
15- بعض الحكومات النصرانية (خاصة في أمريكا الجنوبية) تفرض على رعاياها التسمي بالأسماء النصرانية، وتضع قوائم بأسماء اختارتها للأطفال ذكورًا وإناثًا ولا تسمح بتسجيل المواليد بأسماء تختار من غير هذه القوائم، فما حكم تسمي المسلمين بهذه الأسماء، وما الحلول التي تقترحونها في هذه الأحوال؟(2/1060)
16- ما حكم زواج الطالب أو الطالبة المسلمة زواجًا لا ينوى استدامته بل النية منعقدة عنده على إنهائه بمجرد انتهاء الدراسة والعزم على العودة إلى مكان الإقامة الدائم، ولكن العقد يكون –عادة- عقدًا عاديًا وبنفس الصيغة التي يعقد بها الزواج المؤبد، فما حكم هذا الزواج؟
17- ما حكم ظهور المرأة في محلات العمل أو الدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبيها وتكتحل؟
18- بعض المسلمات يجدن حرجًا في عدم مصافحتهن للأجانب الذين يرتادون الأماكن التي يعملن أو يدرسن فيها، فيصافحن الأجانب دفعًا للحرج. فما حكم هذه المصافحة؟
وكذلك الحال بالنسبة لكثير من المسلمين الذين تتقدم إليهم نساء أجنبيات مصافحات، وامتناعهم عن مصافحتهن يوقعهم في شيء من الحرج على حد ما يذكرون ويذكرون؟
19- ما حكم استئجار الكنائس أماكن لإقامة الصلوات الخمس أو صلاة الجمعة والعيدين، مع وجود التماثيل وما تحتويه الكنائس عادة. علمًا بأن الكنائس –في الغالب- أرخص الأماكن التي يمكن استئجارها من النصارى بدون مقابل؟
20- ما حكم ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى وما يقدمونه من طعام في مطاعمهم مع عدم العلم بالتسمية عليها؟
21- كثير من المناسبات العامة التي يدعى المسلمون لحضورها تقدم فيها الخمور ويختلط فيها النساء والرجال، واعتزال المسلمين لبعض هذه المناسبات قد يؤدي إلى عزلهم عن بقية أبناء المجتمع، وفقدانهم لبعض الفوائد، فما حكم حضور هذه الحفلات من غير مشاركة لهم في شرب الخمر أو الرقص أو تناول الخنزير؟
22- بعض الأقطار في شمال أوروبا يقصر فيها الليل كثيرًا ويطول فيها النهار كثيرًا، حيث تصل ساعات الصيام في بعض هذه البلدان إلى عشرين ساعة أو تزيد، وكثير من المسلمين يجدون مشقة زائدة في الصيام. فهل يجوز اللجوء –في هذه البلدان- إلى التقدير، وما نوع التقدير الذي يمكن اعتماده إذا كان جائزًا، وهل يكون التقدير بساعات الصيام في مكة أو بساعات النهار في أقرب البلدان اعتدالًا، أو بماذا؟
وإذا لم يكن ذلك جائز فهل يعتبر هذا النوع من المشقة من المشاق التي يجب على المسلم احتمالها والصبر عليها مع احتمال الضرر، وهل يجب عليه أن يترك عمله في شهر الصيام إذا لم يكن بمقدوره الصيام إلا بترك العمل من قبيل ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب.(2/1061)
23- في كثير من الولايات الأمريكية وكذلك الأقطار الأوربية تصعب أو تتعذر رؤية هلال رمضان أو شوال، والتقدم العلمي الموجود في كثير من هذه البلدان يمكن من معرفة ولادة الهلال بشكل دقيق بطريق الحساب، فهل يجوز اعتماد الحساب في هذه البلدان؟
وهل تجوز الاستعانة بالمراصد وقبول قول الكفار المشرفين عليها علمًا أن الغالب على الظن صدق قولهم في هذه الأمور؟
ومما يجدر بالملاحظة أن اتباع المسلمين في أمريكا وأوروبا لبعض البلدان الإسلامية المشرقية في صيامها أو إفطارها قد أثار بينهم اختلافات كثيرة، غالبًا ما تذهب بأهم فوائد الأعياد، وتثير مشكلات شبه دائمة، وفي الأخذ بالحساب ما قد يقضي على هذا في نظر البعض أو يكاد؟
24- ما حكم عمل المسلم في دوائر وزارات الحكومة الأمريكية أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة، خاصة في مجالات هامة كالصناعات الذرية أو الدراسات الاستراتيجية ونحوها؟
25- ما حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها علمًا بأن هذا هو جزء من عمله في الشركة الموظفة له، وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل؟
26- كثير من العائلات المسلمة يعمل رجالها في بيع الخمور والخنزير وما شابه ذلك، وزوجاتهم وأولادهم كارهون لذلك علمًا بأنهم يعيشون بمال الرجل، فهل عليهم من حرج في ذلك؟
27- ما حكم تبرع المسلم فردًا كان أو هيئة لمؤسسات تعليمية أو تنصيرية أو كنيسة؟
28- ما حكم شراء منزل السكنى، وسيارة الاستعمال الشخصي، وأثاث المنزل بواسطة البنوك والمؤسسات التي تقرض ربحًا محددًا على تلك القروض لقاء رهن تلك الأصول، علمًا بأنه في حالة البيوت والسيارات والأثاث عمومًا، يعتبر البديل عن البيع هو الإيجار بقسط شهري يزيد في الغالب عن قسط الشراء الذي تستوفيه البنوك؟(2/1062)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم 3
بشأن
أجوبة استفتاءات المعهد العالمي للفكر
الإسلامي بواشنطن
أما بعد:
فإن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني من 10 – 16 ربيع الثاني 1406هـ/ 22 – 28 ديسمبر 1985م.
إذ ألف لجنة من أعضاء المجمع للنظر في الأسئلة الواردة من المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن.
وبعد التأمل فيما قدم في الأمر من إجابات تبين منها:
- إن الإجابات قد صيغت بطريقة مختصرة جدًا لا يحصل معها الاقتناع وقطع دابر الخلاف أو الرفض.
- أنه لا بد من قيام المجمع بإزاحة الإشكالات الحاصلة لإخواننا المسلمين في الغرب.
قرر:
1- تكليف الأمانة العامة بإحالة هذه الأسئلة على من تراه من الأعضاء أو الخبراء لإعداد إجابات معللة عن تلكم الأسئلة مستندة إلى الأدلة الشرعية، وأقوال من تقدم من فقهاء المسلمين وإبرازها في صورة مقنعة بينة.
2- تكليف الأمانة العامة برفع ما تتحصل عليه إلى الدورة الثالثة.
والله أعلم(2/1063)
استفسارات حول الطائفة القاديانية
فضيلة القاضي محمد تقي عثماني
قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى فضيلة العلامة المحقق الشيخ الحبيب ابن الخوجه، حفظه الله تعالى ورعاه الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
فإن الطائفة القاديانية، كما تعرفون، من الفرق الزائغة المنحرفة التي لا تألوا المسلمين خبالًا، وقد صدرت من معظم البلاد الإسلامية فتاوى العلماء في تكفيرهم، وفي الأخير أدخلت حكومة باكستان تعديلًا في دستورها، قررت فيه أن هذه الطائفة من الأقليات غير المسلمة، وذلك في سنة 1974م، ثم اتبعته في العام الماضي بقانون يمنعهم من استعمال المصطلحات الإسلامية "كالمساجد" و"الأذان" و"الخلفاء الراشدين" و"الصحابة" و"أمهات المؤمنين" وما إلى ذلك، كما قررت رابطة العالم الإسلامي في قرارها الصادر سنة 1973م أنها فرقة كافرة منحرفة.
وبعد هذا كله، فإن هذه الطائفة قد رفعت إلى المحكمة العالية بكيب تاون من جنوب أفريقيا، قضية ضد المسلمين، أن المسلمين يحكمون عليهم بالكفر، ويمنعونهم من الصلاة في مساجدهم وعن دفن موتاهم في مقابرهم، وطلبوا من المحكمة أن يصدر حكمًا ينهى المسلمين عن كل ذلك ويقرر أنهم مسلمون.
وكانت المحكمة قد أصدرت في مبدأ الأمر حكمًا على المسلمين بأن لا يمنعوا القاديانيين من دخول مساجدهم إلى أن تبلغ القضية نهايتها فرفع المسلمون طلبًا إلى المحكمة بإلغاء هذا الحكم وأن لا يمنع المسلمون من وضعهما السابق إلى أن تبت المحكمة بالحكم في القضية، فسافرنا من باكستان –ونحن عشرة رجال- إلى جنوب أفريقيا - لنساعد إخواننا المسلمين هناك، والحمد لله الذي رزقنا النجاح في هذه المرحلة الابتدائية، وقد ألغت المحكمة حكمها السابق بعد سماع دلائل الفريقين، وكانت القاضية إذ ذاك امرأة نصرانية سمعت دلائلنا بكل عناية وإصغاء.
ثم رفع المسلمون طلبًا آخر، أن الحكم بكفر القاديانيين وإسلامهم، إنما هو أمر ديني بحت، لا ينبغي لمحكمة علمانية أن تتدخل فيها، بعد ما أجمع سائرالمسلمين في بقاع الأرض أن أتباع مرزا علام أحمد كلهم خارجون عن ملة الإسلام، ولم يبق هذا الأمر بعد ذلك موضوع نقاش أو جدال.(2/1064)
وإن هذا الطلب رفع إلى قاض يهودي، وأنكم تعرفون أن القاديانيين لهم مركز في إسرائيل، ولهم مع اليهود صلات قوية، وزادت الضغث على الإبالة أن هذا القاضي اليهودي يعد من فرقهم المبتدعة التي أخرجها الأرتودكسيون عن دائرتهم، فبطبيعته كان ميالًا إلى مواساة القاديانيين، فحكم في جواب هذا الطلب خلاف المسلمين، وقال في حكمه: إن المحكمة العلمانية هي المصدر الوحيد الذي يستطيع أن يحكم في هذه المسألة الدينية حكمًا لا يتأثر بعواطف العصبية المذهبية، فيجب عليها أن تتدخل في هذا الأمر وتبت فيه برأي غير منحاز.
فاضطر المسلمون بعد هذا الحكم أن يعرضوا أمام المحكمة دلائل تكفير القاديانيين من الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.
وقد طلب القاديانيون من المسلمين إثبات أن علماء المسلمين في جميع البلاد الإسلامية يعتبرون القاديانية كفرًا، وذكروا للمحكمة أنه ليس هناك في العالم الإسلامي مجلس يمثل علماء جميع الدول الإسلامية، حتى يقال: إن المسلمين أجمعوا على ذلك.
وفي هذا الصدد يحتاج المسلمون في هذه القضية إلى فتوى من مجلس دولي للعلماء يمثل جميع البلاد الإسلامية، ولاشك أن مجمع الفقه الإسلامي هو أعظم ما وجد حتى الآن من المجالس في هذا الشأن، فيريد المسلمون في جنوب أفريقيا إن يصدر المجمع فتوى يصرح بتكفير أتباع مرزا غلام أحمد القادياني ليكون سندًا لهم عند دعواهم الإجماع على ذلك.
وإن هذه القضية ستشرع المحكمة في سماعها للخامس من شهر نوفمبر هذا العام، ونرجو انعقاد مجلس المجمع قبله، فمن المناسب جدًا أن يصدر المجمع فتوى من قبل مجلسه العام في جلسته القادمة.
وإني، نظرًا إلى أهمية الموضوع، قد سودت هذه الفتوى، لتكون ورقة عمل لشعبة الإفتاء أولًا، وللمجلس ثانيًا.
فالمرجو أن ترسلوا هذه الفتوى إلى جميع الأخوة الأعضاء، كورقة عمل للجلسة القادمة، وأرجو أن الإخوة الأعضاء نظرًا إلى أهمية الموضوع، يسامحون عن عدم دخول هذا الموضوع في اللائحة التي أعدتها شعبة التخطيط.
وأرجو أيضًا أن تخبروني عن وصول هذه الرسالة، وإدخال الموضوع في لائحة الجلسة القادمة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[توقيع]
(محمد تقي العثماني)(2/1065)
بسم الله الرحمن الرحيم
استفتاء
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
إن طائفة القاديانية التي تسمي نفسها "الأحمدية" تتبع في أمور دينها رجلًا اسمه مرزا غلام أحمد القادياني، وأن مرزا غلام أحمد القادياني رجل ولد في قاديان، قرية من قرى الهند، وادعى أنه نبي مرسل من الله سبحانه، وأنه بروز لسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن نبوته لا تنافي كون رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ثم إن هذا الرجل لم يكتف بادعاء النبوة، بل ادعى أنه أفضل من سائر الأنبياء السابقين، وأنه هو المسيح الموعود الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بنزوله في آخر الزمان، وأن كتاباته مليئة بمثل هذه الدعاوى، وبإهانة عدة من الأنبياء عليهم السلام، وصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن عدة مقتبسات مترجمة من مكتبه مجموعة على سبيل المثال في ضميمة "ألف" من هذا الاستفتاء.
وأن أتباع مرزا غلام أحمد القادياني ينقسمون إلى فرقتين:
1- الفرقة القاديانية: وهي التي تؤمن بنبوة مرزا غلام أحمد القادياني، بكل معنى الكلمة، وتكفر كل من لم يؤمن بنبوته، وتسمى زوجته "أم المؤمنين" وأتباعه الذين بايعوا على يده "صحابة" وخلفاؤه "الخلفاء الراشدين".
2- الفرقة اللاهورية: وهي التي تؤمن بأن مرزا غلام أحمد القادياني هو المسيح الموعود، وأنه المجدد للقرن الرابع عشر، وأن جميع ما كتبه في مؤلفاته حق يجب اتباعه، وأنه كان ينزل عليه وحي يجب تصديقه واتباعه، وأن كل من يكذب مرزا غلام أحمد القادياني أو يكفره فهو كافر.
غير أنهم يقولون: إن مرزا غلام أحمد لم يكن نبيًا بمعناه الحقيقي، وإنما كانت نبوته ظلية أو مجازية، وكان وحيه وحي ولاية، دون وحي نبوة، وأن مجرد عدم الإيمان بمرزا غلام أحمد القادياني لا يكفر الإنسان، ولكن يكفره الاعتقاد بكذبه، أو كفره.
وإن كلتا الفرقتين من أتباع مرزا غلام أحمد القادياني متفقتان في أمور:
1- أن مرزا علام أحمد القادياني هو المسيح الموعود الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بنزوله في آخر الزمان.
2- أنه كان ينزل عليه وحي يجب على جميع الناس تصديقه واتباعه.
3- أنه كان ظلًا وبروزًا للنبي صلى الله عليه وسلم نفسه في آخر الزمان.
4- أنه كان محقًا في جميع دعاويه، وفي كل ما تكلم به، أو كتبه في مؤلفاته.
5- كل من كذبه في دعاويه، أو كفره فهو كافر.(2/1066)
ولذلك اتفق علماء الهند وباكستان على كفر مرزا غلام أحمد القادياني وكلتا الفرقتين من أتباعه، منذ نحو خمسين عامًا، ووافقهم على ذلك علماء البلاد الإسلامية الأخرى، حتى صدر قرار من رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة سنة 1973م بتكفيرهم بإجماع 144 منظمة من المنظمات الإسلامية في سائر بقاع الأرض، ثم صدر في باكستان تقنين دستوري أعلن بكفر كلتا الفرقتين من القاديانيين، وبذلك حكمت المحكمة العالية في باكستان، وحدث مثل ذلك في ماليزيا، وقد رفع هؤلاء القاديانيون الآن قضية ضد المسلمين في المحكمة العالية من كيب تاون، جنوب أفريقيا، وطلبوا منها أن تعلن بإسلامهم وبتخطئة من يكفرهم.
فنرجو من أصحاب الفضيلة أعضاء مجمع الفقه الإسلامي الإجابة عن الأسئلة التالية:
1- هل يعد مرزا غلام أحمد القادياني بعد ادعاء نبوته من المسلمين أو يحكم بكفره وارتداده.
2- هل الفرقة القاديانية من أتباعه مسلمة، أو كافرة؟
3- هل الفرقة اللاهورية من أتباعه مسلمة، أو كافرة؟
4- هل يجوز لمحكمة علمانية أن تحكم بإسلام رجل أو بكفره؟ ولئن حكمت فهل ينفذ حكمها على المسلمين؟
وندعو الله سبحانه أن يسدد خطاكم في سبيل نشر الدعوة الإسلامية.
ويوفقكم لما فيه خير الإسلام والمسلمين
[توقيع]
نظيم محمد
رئيس مسلمي جودثل كونسل(2/1067)
ضميمة "الف"
دعوى النبوة
1- يقول في "دافع البلاء" هو الإله الحق الذي أرسل رسوله في قاديان (1)
2- يقول في "نزول المسيح" أنا رسول ونبي، أي أنني باعتبار الظلية الكاملة مرآة فيها انعكاس كامل للصورة المحمدية والنبوة المحمية (2)
3- وقال في تتمة "حقيقة الوحي": "والذي نفسي بيده إنه أرسلني وسماني نبيًا" (3)
4- وقال في "أيك غلطى كا ازاله" "إن زهاء مائة وخمسين بشارة من الله وجدتها صادقة إلى وقتنا هذا، فلماذا أنكر اسمي نبيًا ورسولًا، وبما أن الله هو الذي سماني بهذه الأسماء، فلماذا أردها، أو لماذا أخاف غيره؟ " (4)
5- وقال في هامش "حقيقة الوحي": "إن اله تعالى جعلني مظهرًا لجميع الأنبياء ونسب إلي أسماءهم، أنا آدم، أنا شيث، أنا نوح، أنا إبراهيم، أنا إسحاق، أنا إسماعيل، أنا يعقوب، أنا يوسف، أنا عيسى، أنا موسى، أنا داود، وأنا مظهر كامل لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي أنا محمد وأحمد ظليًا (5)
6- وقال في صحيفة "بدر": "دعواي أنني رسول ونبي " (6)
7- وقال في "نزول المسيح": "إن الأنبياء وإن كثروا إلا أنني لست أقل منهم في المعرفة" (7)
8- وكذلك كان اعتقادي أولًا: "أين أنا من المسيح ابن مريم؟ فإنه نبي ومن المقربين، فلو ظهر أمر دل على فضلي اعتبرته فضيلة جزئية، ثم تتابع علي الوحي كالمطر، فجعلني لا أستقر على هذه العقيدة، وخاطبني بالنبي صراحة بحيث إنني نبي من ناحية ومن الإسلام من ناحية أخرى.. وأومن بوحيه الطاهر كما أومن بجميع وحي الله الذي جاء قبلي، وأنا مطيع لوحي الله تعالى، ومادام لم يأتني منه علم كنت أقول كما قلت في الأول، ولما جاءني منه علم قلت خلاف ذلك (8)
9- لاشك أن عقيدة المرزا المتنبي الذي مات عليها: أنه نبي، وقد جاء ذلك في خطابه الأخير الذين نشر في يوم وفاته في جريدة "أخبار عام"وصرح فيه ما يلي: "أنا نبي حسب حكم الله ولو جحدته أكون آثمًا، وإذ سماني الله نبيًا فكيف يمكن لي جحوده، وأنا على هذه العقيدة حتى أرحل عن هذه الدنيا" (9) كتب هذا الخطاب في 23 مايو 1908م ونشر في 26 مايو في "أخبار عام"وفي ذلك اليوم مات المرزا المتنبي.
10- أنا هو النبي خاتم الأنبياء بروزيًا بموجب آية: {وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} وسماني الله محمدًا وأحمد، في "براهين أحمدية" قبل عشرين عامًا، واعتبرني وجود محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، ولذا لم يتزلزل ختم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بنبوتي، لأن الظل لا ينفصل عن أصله، ولانني محمد ظليًا، ولذا لم ينفذ ختم النبوة، لأن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لم تزل محدودة على محمد، أي بقي محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا لا غير، أعني لما كنت محمدًا صلى الله عليه وسلم بروزيًا، وانعكسات الكمالات المحمدية مع النبوة المحمدية في اللون البروزي في مرآتي الظلية، فأي إنسان منفرد ادعى النبوة على حياله (10)
__________
(1) ص 11 الطبعة الثالثة، قاديان 1946م
(2) في الهامش (ص 3) الطبعة الأولى، قاديان 1909م
(3) (ص68) طبعة قاديان سنة 1934م
(4) (ص8) طبعة قاديان سنة 1901م
(5) (ص 72) طبعة قاديان سنة 1934م
(6) 5 مارس 1908م، و "حقيقة النبوة" (1 – 272) ذيل رقم 3
(7) (ص 97) الطبعة الأولى، قاديان سنة 1909م
(8) "حقيقة الوحي" (ص 149 و 150) طبعة قاديان سنة 1934م
(9) "أخبار عام" 26 مايو 1908م، و"حقيقة النبوة" (ص 271) لمرزا محمود و "مباحثة راولبندي" (ص 136)
(10) (ص 10 و 11) طبع ربوة(2/1068)
11- يقول ابن المتنبي الأوسط – مرزا بشير أحمد القادياني-: هذا الذي يظن بعض الناس أن النبوة الظلية والبروزية من أدنى أنواع النبوة، إنما هو خداع النفس ولا حقيقة له، لأنه لابد للنبوة الظلية أن يستغرق صاحبها في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم حتى ينال درجة: "صرت أنا أنت وأنت أنا" وفي هذه الحالة يرى هو أن الكمالات المحمدية تنزل على نفسه في صورتها العكسية، ثم يزداد هذا القرب حتى يلبس رداء النبوة المحمدية، وعندئذ يقال له: النبي الظلي، وإذا كان الظل يقتضي أن يكون صورة كاملة لأصله وعليه إجماع جميع الأنبياء، فعلى الأحمق الذي يرى نبوة المسيح الموعود الظلية من أدنى أنواع النبوة أن ينتبه ويفكر في أمر إسلامه، لأنه هجم على شأن النبوة هي تاج سائر النبوات، ولا أفهم لماذا يتعثر الناس في نبوة المسيح الموعود؟ ولماذا يراه الناس نبوة ناقصة؟ فإني أرى أنه كان نبيًا ظليًا لبروزه للنبي صلى الله عليه وسلم ومكانة هذه النبوة الظلية العالية.
ومن الواضح أن الأنبياء في العصور الماضية لم يكونوا يجمعون –بالضرورة- كل الكمالات التي جمعت في محمد صلى الله عليه وسلم، بل كل نبي كان يعطى من الكمالات حسب عمله واستعداه قلة أوكثرة، إلا أن المسيح الموعود أعطي النبوة عندما اكتسب جميع الكمالات المحمدية، واستحق أن يقال: "النبي الظلي" فالنبوة الظلية لم تؤخر قدم المسيح الموعود بل قدمتها إلى الأمام، إلى أن أقامته جنبًا إلى جنب مع النبي صلى الله عليه وسلم (1)
__________
(1) "كلمة الفصل" و "ريويو آف ريليجنز" مارس وأبريل 1915م(2/1069)
مسودة الجواب المقترح
محمد تقي العثماني
عضو القسم الشرعي للمحكمة العليا باكستان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله خاتم النبيين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
1 و 3 – إن نصوص القرآن والسنة مطبقة على أن النبوة والرسالة قد انقطعت بعد بعثة النبي الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن كل من ادعى النبوة بعده صلى الله عليه وسلم فهو كاذب خارج عن ملة الإسلام، وأن هذه العقيدة من المبادئ الأساسية التي لا تقبل أي تأويل أو تخصيص، فإنها ثابتة بنصوص القرآن الكريم والواضحة البينة المراد، والأحاديث النبوية المتواترة القطعية، يقول لله سبحانه وتعالى:
{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] .
وهناك أحاديث متواترة أكثر من مائة تثبت هذه العقيدة القطعية، نذكر منها على سبيلا المثال ما يلي:
أ- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، وأنا خاتم النبيين)) . (1)
ب –عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول)) (2)
جـ – عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقتل فئتان، فيكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة، ولا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريبًا من ثلاثين، كلهم يزعم انه رسول الله)) (3) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء، ومسلم في الفضائل، ج 2 ص 248
(2) رواه البخاري في كتاب الأنبياء ج 1 ص 491: ومسلم في كتاب الأمارة، وأحمد في مسنده ج 2 ص 297
(3) رواه البخاري ومسلم وأحمد(2/1070)
وعلى أساس هذه النصوص القطعية قد اجتمعت الأمة الإسلامية على أن كل من ادعى النبوة والرسالة أو بأنه ينزل عليه وحي يجب اتباعه كحجة شرعية، فإنه كافر خارج عن الملة.
يقول القاضي عياض رحمه الله تعالى في الشفاء (ص 362 طبع الهند) ، "لأنه أخبر أنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده وأخبر عن الله تعالى أنه خاتم النبيين، وأجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره أن مفهومه المراد به دون تأويل ولا تخصيص، ولا شك في كفر هؤلاء الطوائف كلها قطعًا إجماعيًا وسمعًا" يقول الشيخ علي القاري في شرح الفقه الأكبر ص 202:
"ودعوة النبوة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم كفر بالإجماع ".
ولم يفرق هذه النصوص القطعية ولا الإجماع المنعقد على هذه العقيدة بين دعوى النبوة التشريعية وغير التشريعية، فكل منهما كفرلا مجال له في الإسلام.
وبما أن مرزا غلام أحمد القادياني قد ادعى لنفسه النبوة والرسالة كما هو ظاهر من مقتبسات كتبه المذكورة في ضميمة "الف" من الاستفتاء، فإنه كافر خارج عن الإسلام، وأما ما تأول به من أن نبوته ظل لنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذا التأويل لا يفيد في هذا الصدد شيئًا، وذلك لوجهين:
الأول: أننا قد ذكرنا أن عقيدة ختم النبوة لا تقبل أي تأويل أو تخصيص، ولذلك أبدًا عن تأويل يتأول به، ولا دليل يعتمد عليه، وإنما حكمت بكفره وخروجه عن الإسلام بمجرد ادعائه النبوة، ولذلك قاتل الصحابة رضي الله عنهم مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وطليحة بن خويلد المتنبئين الذين كان عندهم تأويل ما يدعونه من النبوة والرسالة.
والوجه الثاني: النبوة الظلية أو البروزية التي تأول بها المتنبي القادياني ليست في زعمه نبوة دون نبوة الأنبياء الآخرين، وإنما هي نبوة تفوق درجة على نبوة جميع الأنبياء بني إسرائيل فإن هذه النبوة كما يزعمها المتنبي القادياني لا يعطاها أي أحد من الناس، حتى يجوز جميع فضائل سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجمع بين جميع أوصاف كماله، بحيث يصبح ظهورًا ثانيًا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، ولذلك ادعى هذا المتنبي الكذاب في كتابه "ايك غلطى كا ازاله" (ص 10 و 11) :
"وسماني الله محمدًا وأحمد في "براهين أحمدية" قبل عرين عامًا، واعتبرني وجود محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، ولذا لم يتزلزل ختم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بنبوتي، لأن الظل لا ينفصل عن أصله، ولأنني محمد ظليًا، ولذا لم ينفض ختم النبوة، لأن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لم تزل محدودة على محمد، أي بقي محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا لا غير، أعني لما كنت محمدًا صلى الله عليه وسلم بروزيًا وانعكست الكمالات المحمدية مع النبوة المحمدية في اللون البروزي في مرآتي الظلية، فأي إنسان منفرد ادعى النبوة على حياله؟ "
ويقول ابنه مرزا بشير أحمد القادياني في كتابه "كلمة الفصل" وريويو آف ريلجينز مارس أبريل، 1915م:
"ومن الواضح أن الأنبياء في العصور الماضية لم يكونوا يجمعون بالضرورة –كل الكمالات التي جمعت في محمد صلى الله عليه وسلم، بل كل نبي كان يعطى من الكمالات حسب عمله واستعداده قلة وكثرة إلا أن المسيح الموعود (يعني به مرزا غلام أحمد القادياني) أعطي النبوة عندما اكتسب جميع الكمالات المحمدية، واستحق أن يقال له "النبي الظلي" فالنبوة الظلية لم تؤخر قدم المسيح الموعود (يعني المتنبي القادياني) قبل قدمتها إلى الأمام، إلى أن أقامته جنبًا إلى جنب مع النبي صلى الله عليه وسلم.(2/1071)
يقول ابنه وخليفته الثاني مرزا بشير الدين محمود:
"فالنبوة الظلية والبروزية ليست نبوة بسيطة، لأنها لو كانت كذلك لما قال المسيح الموعود (يعني المتنبي القادياني) في أحد أنبياء بني إسرائيل، اتركوا ذكر ابن مريم فغلام أحمد خير منه.
( [القول الفصل] ص 16، طبع ضياء الإسلام، قاديان 1915م) .
وصرح بذلك القاضي ظهور الحق اكمل، وكان مدير المجلة القاديانية "ريويو آف ريليجنز" في أبياته التي نشرت في صحيفة "بدر" 25 أكتوبر 1916م:
"إن محمدًا قد نزل فينا ثانيًا، وهو أعلى شأنًا من الأول، من كان يريد رؤية محمد، فلينظر غلام أحمد في قاديان".
وقد أعلن هذا الرجل نفسه في مجلة "الفضل" القاديانية المعروفة (22 أغسطس 1916م) أنه عرض هذه الأبيات على مرزا غلام أحمد القادياني، فأثنى عليه بقوله جزاك الله، وأخذها إلى بيته، وذكرهذا الرجل أنه قد استلهم مفهوم هذه الأبيات من "الخطبة الإلهامية" للقادياني التي قال فهيا:
"الحق أن روحانية عليه السلام في آخر الألف السادس –أعني في هذه الأيام- أشد وأقوى من تلك الأعوام، ولذلك لا تحتاج إلى الحسام ولا إلى حزب المحاربين، ولذلك اختار الله سبحانه لبعث المسيح الموعود (بعني به القادياني نفسه) عدة من مئات كعدة ليلة البدر من هجرة سيدنا خير الكائنات لتدل تلك العدة على مرتبة كمال تام من مراتب الترقيات، وهى أربع مائة بعد الألف من خاتم النبيين.
(الخطبة الإلهامية ص 47 طبع الجمعية الأحمدية لاهور) .
فتبين من هذه المقتبسات أن النبوة الظلية كما يزعمها القادياني وأتباعه، نوع من النبوة يفوق نبوة سائر أنبياء بني إسرائيل، بل هو أقوى وأكمل من نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم –والعياذ بالله العظيم- فادعاؤه مثل هذه النبوة كفر صريح لا شبهة في كونه منافيًا للنصوص القطعية الدالة على أنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبت أن مرزا غلام أحمد القادياني وأتباعه القاديانيين خارجون عن ملة الإسلام دون أي شك وتردد.
3- لما ثبت أن مرزا غلام أحمد القادياني كافر خارج عن ملة الإسلام بسب ادعائه النبوة، فإن كل من يصدقه في دعاويه ويعتبره إمامًا في الدين يجب إطاعته واتباعه، فإنه كافر أيضًا، فضلًا عن اعتباره المسيح الموعود والمهدي والمجدد، وبما أن ااطائفة اللاهورية من أتباع مرزا غلام أحمد القادياني المتنبي تعتبره المسيح الموعود والمهدي والمجدد، أنه كان ينزل عليه وحي يجب اتباعه، فحكمها في الخروج عن الإسلام كحكم الطائفة القاديانية سواء بسواء، وإن الدراسة الدقيقة لمعتقدات هذه الطائفة اللاهورية، تدل على أنه ليس هناك فرق أساسي بين معتقدات الطائفتين، وإنما هو فرق لفظي إنما نشأ لأسباب أساسية.(2/1072)
وتوضيح لذلك أنه لم يكن هناك أي فرق بين الطائفتين في حياة مرزا غلام أحمد القادياني ولا في عهد خليفته الأول حكيم نور الدين، وكان جميع أتباع مرزا غلام أحمد القادياني خلال هذه المدة الطويلة يلقبونه نبيًا ورسولًا، وبقي محمد علي اللاهوري (رئي الطائفة اللاهورية) برهة من الزمن رئيس تحرير لمجلة ريويو آف ريليجنز، ولم يزل في كتاباته في تلك المجلة يلقب مرزا غلام أحمد القادياني نبيًا ورسولًا، ويعترف له بجميع صفات النبوة دون أي فرق بينه وبين أتباع مرزا الآخرين، فيقول مثلًا:
"مهما يفسر المخالف، إلا أننا قائلون: إن الله قادر على أن يخلق نبيًا ويختار صديقًا.. والذي بايعناه (أي المرزا) كان صادقًا، وكان رسول الله المختار المقدس".
(مجلة "الفرقان" يناير 1942 م نقلًا عن جريدة "الحكم" 18 يوليو 1908م) .
وقد نشرت صيحفة الجماعة اللاهورية "بيغام صلح" بيانًا عن الجماعة اللاهورية كلها، وهذا نصه:
"نحن نرى حضرة المسيح الموعود والمهدي المعهود نبي هذا العصر ورسوله ومنقذه".
(بيغام صلح 16 أكتوبر 1913م بحوالة "الفرقان" يناير 1942م) .
ولكن عندما توفي الخليفة الأول حكيم نور الدين، واختار كثير من الناس مرزا بشير الدين خليفته الثاني، حدث هناك نزاع سياسي بين محمد علي اللاهوري ومرزا بشير الدين محمود، واعتزل محمد علي اللاهوري عن الجماعة القاديانية، وأسس هناك جماعته، وأصدر من قبلها قرارًا وهذا نصه:
"إنا نجيز اختيار مرزا بشيرالدين محمود كأمير لمجرد أن يبايع غير الأحمديين باسم أحمد، ويدخله في السلسة الأحمدية، ولكن لا نرى أن الحاجة إلى أن يبايعه الأحمديون ثانيًا.. وليس للأمير أن يتصرف في حقوق رئيس الجمعية الأحمدية وامتيازاته التي منحها له حضرة المسيح الموعود، واختاره لنفسه ثانيًا".
(الفرقان يناير 1942م نقلًا عن "بيغام صلح" 24 مارس 1914م)
قد تبين من هذا القرار أن الجماعية اللاهورية لم يكن لها أي اعتراض على الجماعة القاديانية ولم ير مرزا بشيرالدين غير أهل للخلافة، وإنما كان النزاع في أن تفوض كل الاختيارات إلى الجماعة اللاهورية لا إلى الخليفة.
وبناء على هذا الخلاف السياسي لما بدأت الجماعة القاديانية تضطهد الجماعة اللاهورية في مجالات الحياة، اضطرت الجماعة اللاهورية إلى اكتساب عطف المسلمين، وبدأوا يقولون إنهم لا يرون مرزا غلام أحمد القادياني نبيًا، بل يعتبرونه المسيح الموعود والمهدي والمجدد من غير أن يعلن برجوعه من كتاباته السابقة.
والحق أن تقولهم هذا ليس إلا حيلة لفظية، فإن الجماعة اللاهورية تقصد من لفظ المسيح الموعود والمهدي والمجدد، عين ما تقصده الجماعة القاديانية من لفظ النبي الظلي و"البروزي" وهذا محمد علي اللاهوري يقول في كتابه "النبوة في الإسلام" وقد ألفه بعد انفصال جماعته عن الجماعة القاديانية:
"إن المسيح الموعود في كتاباته السابقة واللاحقة قرر أصلًا واحدًا، وهو أن باب النبوة مسدود، غير أن نوعًا من النبوة يمكن الحصول عليه، ولا نقول: إن باب النبوة مفتوح، بل نقول إن باب النبوة مسدود، غير أن نوعًا من النبوة مازال باقيًا ويستمر إلى يوم القيامة، ولا نقول: إنه يمكن لشخص أن يصير نبيًا، بل نقول إن نوعًا من النبوة يمكن الحصول عليه عن طريق اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي سمي بالمبشرات في مكان، وبالنبوة الجزئية في مكان آخر، وبالمحدثية في موضع، وبكثيرة المكالمة في موضع آخر، ومهما تغيرت الأسماء فقد تقررت علامته، وهي أنه يحصل باتباع الإنسان الكامل محمد صلى الله عليه وسلم، وبالفناء في الرسول، وهو مستفاض من النبوة المحمدية، وهو نور المصباح النبوي، وليس شيئًا مستقلًا بل هو ظل"
(النبوة في الإسلام ص 158) .(2/1073)
أليس هذا تلاعب بالألفاظ لبيان فلسفة الظل والبروز التي سبق ذكرها في عبارات الجماعات القاديانية؟ فإن كان الأمر كذلك –وهو كذلك- فهل يبقى هناك فرق بين الجماعة القاديانية والجماعة اللاهورية؟ ثم إن هذا ليست عقيدة محمد علي فحسب، بل هي عقيدة الجماعة اللاهورية كلها، فقد صرح مندوب الجماعة اللاهورية في المناقشة التي جرت بين الفريقين في راولبندي، وقد نشرها الفريقان على نفقتهما قائلًا:
إن حضرته –المرزا- ظل كامل من ظلال النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك سميت زوجته – "بأم المؤمنين" – وهذا أيضًا مرتبة ظلية".
واعترف أيضًا قائلًا:
إن حضرة المسيح الموعود ليس نبيًا، غير أن نبوة محمد علي صلى الله عليه وسلم انعكست عليه"
(مباحثة راولبندي ص 196) .
وكل هذه العقائد يؤمن بها الجماعة اللاهورية حتى اليوم، وقد تبين من هذا أن الخلاف بين الجماعتين هو خلاف لفظي فقط، فالجماعة اللاهورية وإن كانت تسمى المرزا بلقب "المسيح الموعود" و"المجدد" غير أنها تعني من هذه الكلمات نفس المعنى التي تعنيه الجماعة القاديانية من ألفاظ "النبي الظلي" و"البروزي" أو "النبي غير التشريعي" أو "النبي من الأمة".
ولا فرق بين الطائفتين، من حيث إن كلتيهما تعتقدان أن مرزا غلام أحمد القادياني المتنبئ كان ينزل عليه وحي "يجب اتباعه على سائر الناس، وأن جميع ما كتبه أو ادعاه في كتاباته حق، يجب إطاعته على كل مسلم، بل يصرح محمد علي اللاهوري في مقدمة كتابه "النبوة في الإسلام" أن الطائفة اللاهورية أشد إيمانًا بالمرزا غلام أحمد بالنسبة إلى الطائفة القاديانية، فيقول مخاطبًا الطائفة القاديانية:
"إنكم بجعله – أي المرزا- نبيًا كاملًا، لا تعترفون له برتبة أعلى مما نعترف به نحن، بجعل نبوته جزئيًا، والحق أننا نؤمن بوجوب اتباع وحيه إلى حد مساو لما تؤمنون، بل إننا نؤمن به عملًا، أكثر مما تؤمنون به".
(النبوة في الإسلام، ص 23 طبع لاهور 1915م)(2/1074)
وأما المسألة الثانية التي تدعى الطائفة اللاهورية أنها تمتاز فيها عن الطائفة القاديانية هي مسألة تكفير المسلمين، فتدعي الطائفة اللاهورية أنها لا تكفر مسلمًا لا يؤمن بمرزا غلام أحمد القادياني، بينما الطائفة القاديانية تكفر جميع المسلمين الذين لا يؤمنون به، والحقيقة أنه لا فرق بين الطائفتين عملًا من هذا الجهة أيضًا، لأن الطائفة اللاهورية تقول: لا نفكر من لم يؤمن بمرزا، ولكن نكفر من "كذبه" أو "كفره" وظاهر أن كل من لا يؤمن بمرزا غلام أحمد فإنه يكذبه في دعاويه، ولا يوجد على وجه الأرض من لا يؤمن بمرزا بعد علم بدعاويه ثم يزعمه صادقًا ولا يكذبه، فهناك بين العارفين بمرزا غلام أحمد قسمان لا ثالث لهما، إما المؤمنون به، وإما المكذبون إياه، وكل من يكذب بمرزا غلام أحمد فهو كافر عند الطائفة اللاهورية فيقول محمد علي الللاهوري في كتابه "رد تكفير أهل القبلة".
"إن حضرة المسيح الموعود لم يعتبر إنكاره أو إنكار دعواه سببًا للكفر وإنما جعل سب التكفير هو أنه كفره مفتريًا، فعاد عليه الكفر بناء على الحديث الذي يرد الكفر على المكفر إذا لم يكن هو كافرًا".
ويضيف إلى ذلك قائلًا:
لأن المكفر والمكذب متساويان معنى، أي من يكفر المدعي –المرزا- ومن يكذبه متساويان معنى أي كلاهما يكفرانه فلذلك كلاهما داخلان في الكفر في ضوء هذا الحديث".
(رد تكفير أهل القبلة ص 29 و 39 طبع 1926م)(2/1075)
ومن هذه الجهة فإنه لا فرق بين الطائفتين من أتباع المرزا في مسالة التكفير أيضًا، وبعد إثبات ما ذكرنا فإنه يوجد في الطائفة اللاهورية أسباب تالية يكفي كل واحد منها في تكفيرهم.
1- لقد ثبت قطعًا أن مزا غلام حمد ليس هو المسيح الذي وعد به عند قرب الساعة، وأن الاعتراف بكونه ذلك المسيح تكذيب للقرآن الكريم، والسنة المتواترة وإجماع الأمة، ولما كانت الطائفة اللاهورية تؤمن بأن المرزا هو المسيح الموعود فإنها كافرة خارجة عن الإسلام.
2- قد ثبت قطعًا أن مرزا غلام أحمد القادياني ادعى النبوة في تقولاته وكتاباته، وأهان الأنبياء عليهم السلام وفضل نفسه على جميع الأنبياء، فلا يبقى مسلمًا من اعتبره إمًاما في دينه.
3- سبق أن ذكرنا أن الجماعة اللاهورية تعتقد أن مرزا غلام أحمد القادياني ظل وبروز للنبي صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله وأن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قد انعكست فيه، وبهذا الاعتبار يصح إطلاق النبوة عليه، وأن هذه العقيدة لا تسعها دائرة الإسلام أبدًا.
4- وعلاوة على دعوى النبوة، فإن مؤلفات مرزا غلام أحمد القادياني مليئة بالكفريات الأخرى وإن الجماعة اللاهورية تؤمن بجميع هذه الكفريات وتعتبر كتب هذا المتنبئ حجة واجبة الإطاعة، فتشارك مرزا غلام أحمد القادياني في جميع كفرياته.
4- السؤال الرابع:
أن كون رجل مسلمًا أو كافرًا يتوقف على عقائده وأفكاره، وإن هذه المسألة مسألة عقيدية وكلامية بحتة، ولا يجوز أن يتدخل فيها رجل ليس له معرفة بعلم القرآن والسنة ولا يجوز "لمحكمة علمانية " أن تحكم في هذه المسألة الدينية الخالصة، ولاسيما بعد ما بت المسلمون في مسألة إسلام القاديانيين برأي انعقد الإجماع عليه، فلو حكمت محكمة علمانية بحكم مضاد لما أجمعت عليه الأمة الإسلامية لن يقبل حكمها في ذلك شرعًا، وأن رأيها في ذلك لا يوازي حبة خردل.
والله سبحانه وتعالى أعلم
وعلمه أحكم وأتم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(2/1076)
قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة
القرار الثالث
حكم القاديانية والانتماء إليها
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فقد استعرض مجلس المجمع الفقهي موضوع الفئة القاديانية التي ظهرت في الهند في القرن الماضي (التاسع عشر الميلادي) والتى تسمى أيضًا (الأحمدية) ودرس المجلس نحلتهم التي قام بالدعوة إليها مؤسس هذه النحلة مرزا غلام أحمد القادياني 1876م مدعيًا أنه نبي يوحى إليه، وأنه المسيح الموعود، وأن النبوة لم تختم بسيدنا محمد بن عبد الله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم (كما هي عليه عقيدة المسلمين بصريح القرآن العظيم والسنة) ، وزعم أنه قد أنزل عليه، وأوحى إليه أكثر من عشرة آلاف آية، وإن من يكذبه كافر، وأن المسلمين يجب عليهم الحج إلى قاديان، لأنها البلدة المقدسة كمكة والمدينة، وأنها هي المسماة في القرآن بالمسجد الأقصى كل ذلك مصرح به في كتابه الذي نشره بعنوان (براهين أحمدية) وفي رسالته التي نشرها بعنوان (التبليغ) .
واستعرض مجلس المجمع أيضًا أقوال وتصريحات ميرزا بشير الدين بن غلام أحمد القادياني وخليفته، ومنها ما جاء في كتابه المسمى (آينية صداقت) من قوله "إن كل مسلم لم يدخل في بيعة المسيح الموعود (أي والده مرزا غلام أحمد القادياني) سواء سمع باسمه أو لم يسمع فهو كافر وخارج عن الإسلام (الكتاب المذكور صفحة 35) وقوله أيضًا في صحيفتهم القاديانية (الفضل) فيما يحكيه هو عن والده غلام أحمد نفسه إنه قال: "إننا نخالف المسلمين في كل شيء: في الله، فى الرسول، في القرآن، في الصلاة، في الصوم، في الحج، في الزكاة وبيننا خلاف جوهري في كل ذلك" (صحيفة) الفضل في 30 من تموز/ يوليو 1931م.
وجاء أيضًا في الصحيفة نفسها (المجلد الثالث) ما نصه "إن ميرزا هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم " زاعمًا أنه هو مصداق قول القرآن حكاية عن سيدنا عيسى عليه السلام (ومبشرًا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد) "كتاب إنذار الخلافة ص 21"، واستعرض المجلس أيضًا ما كتبه ونشره العلماء والكتاب الإسلاميون الثقات عن هذه الفئة القاديانية الأحمدية لبيان خروجهم عن الإسلام خروجًا كليًا.(2/1077)
وبناء على ذلك اتخذ المجلس النيابي الإقليمي لمقاطعة الحدود الشمالية في دولة باكستان قرارًا في عام 1974 بإجماع أعضائه يعتبر فيه الفئة القاديانية بين مواطني باكستان أقلية غير مسلمة، ثم في الجمعية الوطنية (مجلس الأمة الباكستاني العام لجميع المقاطعات وافق أعضاؤها بالإجماع أيضًا على اعتبار فئة القاديانية أقلية غير مسلمة.
يضاف إلى عقيدتهم هذه ما ثبت بالنصوص الصريحة من كتب مرزا غلام أحمد القادياني نفسه ومن رسائله الموجهة إلى الحكومة الإنكليزية في الهند التي يستدرها ويستديم تأييدها وعطفها من إعلانه تحريم الجهاد، وأنه ينفي فكرة الجهاد ليصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية المستعمرة في الهند لأن فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهال المسلمين تمنعهم من الإخلاص للإنكليز، ويقول في هذا الصدد في ملحق كتابه (شهادة القرآن) الطبعة السادسة ص 17 ما نصه ((أنا مؤمن بأنه كلما ازداد أتباعي وكثر عددهم قل المؤمنون بالجهاد لأنه يلزم من الإيمان بأني المسيح أو المهدي إنكار الجهاد) تنظر رسالة الأستاذ الندوي نشرة الرابطة ص 25.
وبعد أن تداول مجلس المجمع الفقهي في هذه المستندات وسواها من الوثائق المفصحة عن عقيدة القاديانيين ومنشئها وأسسها وأهدافها الخطيرة في تهديم العقيدة الإسلامية الصحيحة وتحويل المسلمين عنها تحويلًا وتضليلًا، قرر المجلس بالإجماع اعتبار العقيدة القاديانية المسماة أيضًا بالأحمدية عقيدة خارجة عن الإسلام خروجًا كاملًا، وأن معتنقيه كفار مرتدون عن الإسلام، وأن تظاهر أهلها بالإسلام إنما هو للتضليل والخداع، ويعلن مجلس المجمع الفقهي أنه يجب على المسلمين حكومات وعلماء وكتابًا ومفكرين ودعاة وغيرهم مكافحة هذه النحلة الضالة وأهلها في كل مكان من العالم وبالله التوفيق.
[توقيع]
[توقيع]
نائب الرئيس
الرئيس
محمد علي الحركان
عبد الله بن حميد
الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي
رئيس مجلس القضاء الأعلى
في المملكة العربية السعودية
الأعضاء
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
عبد العزيز بن عبد الله بن باز محمد محمود الصواف صالح بن عثيمين
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة الإرشاد في المملكة العربية السعودية
[توقيع] [توقيع]
محمد بن عبد الله السبيل محمد رشيد قباني
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
مصطفى الزرقاء محمد رشيدي عبد القدوس الهاشمي الندوي
[سافر قبل التوقيع]
أبو بكر جومي(2/1078)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم 4
بشأن القاديانية
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الثاني 1406 هـ / 22 – 28 ديسمبر 1985م.
بعد أن نظر في الاستفتاء المعروض عليه من "مجلس الفقه الإسلامي في كيبتاون بجنوب أفريقيا " بشأن الحكم في كل من (القاديانية) والفئة المتفرعة عنها التي تدعى (اللاهورية) من حيث اعتبارهما في عداد المسلمين أو عدمه، وبشأن صلاحية غير المسلم للنظر في مثل هذه القضية.
وفي ضوء ما قدم لأعضاء المجمع من أبحاث ومستندات في هذا الموضوع عن (مرزا غلام أحمد القادياني) الذي ظهر في الهند في القرن الماضي وإليه تنسب نحلة القاديانية واللاهورية.
وبعد التأمل فيما ذكر من معلومات عن هاتين النحلتين وبعد التأكد من أن (مرزا غلام أحمد القادياني) قد ادعى النبوة بأنه نبي مرسل يوحى إليه وثبت عنه هذا في مؤلفاته التي ادعى أن بعضها وحي أنزل عليه وظل طيلة حياته ينشر هذه الدعوى ويطلب إلى الناس في كتبه وأقواله الاعتقاد بنبوته ورسالته، كما ثبت عنه إنكار كثير مما علم من الدين بالضرورة كالجهاد.
وبعد أن اطلع المجمع (أيضًا) على ما صدر عن (المجمع الفقهي بمكة المكرمة) في الموضوع نفسه.
قرر ما يلي:
1- إن ما ادعاه (مرزا غلام أحمد القادياني) من النبوة والرسالة ونزول الوحي عليه إنكار صريح لما ثبت من الدين بالضرورة ثبوتًا قطعيًا يقينيًا من ختم الرسالة والنبوة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا ينزل وحي على أحد بعده، وهذه الدعوى من (مرزا غلام أحمد القادياني) تجعله وسائر من يوافقونه عليها مرتدين خارجين عن الإسلام، وأما (اللاهورية) فإنهم كالقاديانية في الحكم عليهم بالردة، بالرغم من وصفهم (مرزا غلام أحمد القادياني) بأنه ظل وبروز لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
2- ليس لمحكمة غير إسلامية، أو قاض غير مسلم، أن يصدر الحكم بالإسلام أو الردة، ولا سيما فيما يخالف ما أجمعت عليه الأمة الإسلامية من خلال مجامع علمائها، وذلك لأن الحكم بالإسلام أو الردة، لا يقبل إذا صدر عن مسلم عالم بكل ما يتحقق به الدخول في الإسلام، أو الخروج منه بالردة، ومدرك لحقيقة الإسلام أو الكفر، ومحيط بما ثبت في الكتاب والسنة والإجماع: فحكم مثل هذه المحكمة باطل.
والله أعلم(2/1079)
استفسارات
من البنك الإسلامي للتنمية – جدة
بسم الله الرحمن الرحيم
يسر البنك الإسلامي للتنمية أن يضع أمام المجمع الفقهي الإسلامي الموقر بعض الاستفسارات برجاء أن تكون موضع عناية أصحاب السماحة والفضيلة أعضاء المجمع، وهي تتعلق بما يلى:
أولا: عمليات القروض التي يقدمها البنك الإسلامي للتنمية لمشروعات البنية الأساسية في الدول الأعضاء بالبنك وبدون فوائد. والمبلغ المقطوع الذي يتقاضاه البنك مقابل خدماته لتغطية مصاريفه الإدارية.
والقروض التي يقدمها البنك الإسلامي للتنمية للدول الأعضاء لتمويل مشروعات البنية الأساسية هي قروض طويلة الأجل إذا تتراوح مدة الوفاء بين خمسة عشر وثلاثين عاما. والتزاما بأحكام الشريعة الإسلامية فإن البنك لا يتقاضى فوائد على تلك القروض. غير أنه بناء على ما نصت عليه اتفاقية تأسيسه يتقاضى البنك رسم خدمة لتغطية نفقاته الإدارية.
وقد رأى البنك أن يتم تحديد رسم الخدمة في ضوء التكلفة الإدارية الفعلية التي سوف يتحملها البنك في تقويم المشروعات التي يمولها وأيضا تكلفة متابعة تنفيذها، ولما كان من الصعوبة بمكان تحديد وضبط التكلفة الإدارية الفعلية التي يتحملها البنك في كل مشروع من المشروعات التي يمولها على حدة لذا فإن البنك لحد الآن وإلى أن يصبح من الممكن عمليا تحديد التكلفة الإدارية التي يتحملها في كل مشروع على حدة على وجه الدقة يكتفى بإجراء تقدير تقريبي لتكاليف الخدمة الإدارية والتي رأى أنها تتراوح بين 2.5 و3 في المائة حسب حالة المشروع وظروفه. وبناء على ذلك فإن البنك – في حدود النسبة التقريبية المذكورة – يتقاضى مبلغا مقطوعا يلتزم المقترض بالوفاء به لتغطية هذه التكاليف الإدارية.(2/1080)
ثانيا: عمليات الإيجار التي يقوم بها البنك الإسلامي للتنمية لتمويل شراء ثم إيجار وسائط النقل مثل ناقلات البترول. والبواخر أو لتمويل شراء ثم إيجار معدات وأجهزة لمشروعات صناعية لصالح الدول الأعضاء.
وطبقا للأسلوب المعمول به في البنك يتم الإيجار على الأسس التالية:
(أ) بعد التحقق من الجدوى الفنية والمالية للمشروع الذي ينظر البنك في المساهمة في تمويله عن طريق الإيجار يبرم البنك اتفاقية مع الجهة القائمة على المشروع (المستأجر) ويفوض البنك بموجبها إلي تلك الجهة التعاقد باسمه مع الموردين على شراء المعدات المطلوبة (والتي يتم تعيينها وتحديد تكلفتها التقديرية في الاتفاقية) ويقوم البنك وفقا لما يتم إبرامه من عقود مع الموردين بدفع قيمة المعدات مباشرة للموردين في الآجال التي تحددها تلك العقود.
(ب) تقوم الجهة المستفيدة (المستأجر) نيابة عن البنك باستلام المعدات وفحصها للتأكد من سلامتها ومطابقتها للمواصفات المتعاقد عليها ثم تقوم بالإشراف على تركيبها – متى كان التركيب لازما – للتأكد من أن ذلك يتم بطريقة سليمة حسبما تم التعاقد عليه مع الموردين.
(ج) بناء على المعلومات المتوافرة لدى الجهة القائمة على المشروع وتقديرات الفنيين بها وبالبنك تحدد الاتفاقية الفترة الزمنية اللازمة لتنفيذ عملية شراء المعدات وتركيبها حتى تصبح صالحة لاستيفاء المنفعة المقصودة منها. وبناء على ذلك تنص الاتفاقية على موعد بدء الإجارة بحيث يقع ذلك بعد انتهاء الفترة المقدرة لكي تصبح المعدات محل الإيجار صالحة لاستيفاء المنفعة المقصودة منها.(2/1081)
(د) أثناء مدة الإجارة يقوم المستأجر بدفع الأقساط المحددة في عقد الإجارة (أي الاتفاقية الخاصة بالإيجار) كما يلتزم بصيانة المعدات والحفاظ عليها والتأمين عليها لصالح البنك.
(هـ) يلتزم البنك بموجب هذه الاتفاقية بأن يبيع المعدات للمستأجر بثمن رمزى متى انتهت المدة ودفع المستأجر كل الأقساط المتفق عليها وتم وفاؤه بجميع التزاماته الأخرى بموجب الاتفاقية.
ثالثا: عمليات البيع لأجل التي يقوم بها البنك لشراء وبيع معدات وأجهزة لمشروعات صناعية لصالح الدول الأعضاء بالإضافة إلي عمليات الإيجار بدأ البنك مؤخرا في استعمال أسلوب البيع لأجل كوسيلة إضافية لتمويل شراء ثم بيع المعدات والأجهزة التي تحتاجها المشروعات الصناعية في الدول الأعضاء حيث يقوم البنك بتوكيل الجهة الراغبة في هذه المعدات والأجهزة بالتعاقد بشرائها باسمه ونيابة عنه ويقوم البنك بدفع ثمنها مباشرة للمورد ويتم الاتفاق مع المورد بأن يتم شحنها مباشرة للجهة الراغبة في شرائها في الدولة العضو المعنية. وبعد أن تقوم تلك الجهة باستلامها بصفتها وكيلا عن البنك، يقوم البنك ببيع المعدات لها بثمن يزيد عن ثمن شرائها، على أن يتم دفع هذا الثمن على إسقاط في مدة تتراوح بين ثلاث وعشر سنوات.
رابعا: عمليات تمويل التجارة الخارجية بين الدول الأعضاء التي يقوم بها البنك الإسلامي للتنمية مستخدما أسلوب بيع المرابحة – مع الأجل والتقسيط – وذلك لتوفير المواد الوسيطة لاحتياجات الدول الأعضاء.
والأصل في عمليات التجارة الخارجية أن تطلب إحدى الدول الأعضاء بالبنك شراء سلعة ذات صبغة تنموية فيقوم البنك الإسلامي للتنمية بشرائها بعد دراسة الطلب والموافقة عليه ثم بيعها لها. ويقوم البنك لتحقيق ذلك بإبرام اتفاقية يكون أطرافها بالإضافة إلي البنك الجهة المستفيدة في الدولة المعنية وجهة أخرى في تلك الدولة يعينها البنك بموجب الاتفاقية وكيلا عنه في شراء السلعة المطلوبة ثم بيعها بعد استلامها للجهة المستفيدة بالثمن الذي حدده البنك وهو ثمن الشراء الذي دفعه البنك للموردين وفقا للعقود التي أبرمها الوكيل نيابة عنه مع زيادة ربح يقرره البنك، ويغلب في اتفاقيات التجارة الخارجية أن يكون الوكيل الذي يعينه البنك كفيلا أيضا بأداء ثمن إعادة البيع المستحق على المستفيد.
خامسا: النظر في تقرير اجتماع بعض علماء الشريعة والخبراء في المصارف هذا الاجتماع الذي انعقد في مقر البنك الإسلامي بجدة وبدعوة منه في العاشر من ربيع الأول عام 1399 هـ. وكان الغرض من الاجتماع النظر في حكم الشريعة في الفوائد المتجمعة من إيداع البنك الإسلامي للتنمية أمواله في المصارف بالدول الأجنبية (مرفق صورة من التقرير) .(2/1082)
وفي ضوء التوصيات الواردة في تقرير العلماء الأفاضل قرر مجلس محافظي البنك تخصيص خمسين في المائة (50) للاحتياطي الخاص وذلك من مجموع المبالغ المتحصلة من ودائع البنك لدى المصارف العاملة في الأسواق الدولية والاحتياطي الخاص المشار إليه مخصص لمواجهة ما قد يطرأ على انخفاض قيمة أرصدة البنك نتيجة لتذبذب العملات المودعة بها تلك الأرصدة من العملات، كما قرر المجلس أن تخصص الخمسين في المائة الأخرى لأغراض المعونة الخاصة.
وبناء على قرار مجلس المحافظين صارت هذه المعونة تقدم لأغراض هي:
(أ) التدريب والبحوث التي تهدف إلي مساعدة وإرشاد الدول الأعضاء في تعديل مسار نشاطها الاقتصادي والمالي والمصرفي بما يتواءم وأحكام الشريعة الإسلامية. ولتحقيق ذلك تم إنشاء المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بجدة منذ عام 1401 هـ (1981م) وهو الآن يقوم بأداء رسالته في مجالي البحوث والتدريب.
(ب) توفير وسائل الإغاثة في شكل السلع والخدمات المناسبة لتقدم للدول الأعضاء والمجتمعات الإسلامية في حالة التعرض للكوارث أو المحن.
(ج) توفير المساعدات المالية للدول الأعضاء من أجل دعم وتأييد القضايا الإسلامية.
(د) تقديم المساعدة الفنية للدول الأعضاء.(2/1083)
تقرير عن اجتماع بعض علماء الشريعة والخبراء في المصارف بمقر البنك الإسلامي للتنمية بجدة في العاشر من ربيع الأول 1399 هـ
للنظر في حكم الشريعة الإسلامية في الفوائد المتخصصة للبنك في المصارف الأجنبية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجه.
أولا: واجه البنك الإسلامي للتنمية بعض المشكلات التي تحتاج إلي حلول متفقة مع الشريعة الإسلامية ومن بينها مشكلة فوائد ودائع البنك في المصارف الأجنبية. ولقد نهج البنك المنهج الإسلامي السديد، حيث طرح هذه المشكلة التي واجهته على بعض علماء الشريعة الإسلامية لبيان الحكم الشرعي الذي يطبق في هذه المشكلة ... ثم عهد إلي فضيلة الأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء الأستاذ بكلية الشريعة بالجامعة الأردنية – بيان عدد من العلماء في العالم الإسلامي من المتخصصين في الشريعة الإسلامية والخبرة المصرفية طالبا منهم الحضور في هيئة اجتماع محدود بصفة شورى عملية لمناقشة موضوع هذه الدراسة، والانتهاء إلي بيان الحكم الشرعي.(2/1084)
ثانيا: في الساعة العاشرة من صباح يوم الأربعاء العاشر من شهر ربيع الأول 1399هـ (الموافق 7/2/1979م) انعقد اجتماع الهيئة المدعوة بمقر البنك الإسلامي للتنمية بجدة. وقد ضم الاجتماع السادة:
1- الدكتور حسن علي أحمد الشاذلي مصري وكيل كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر (القاهرة)
2- الدكتور سامي حمود أردني رئيس البنك الإسلامي الأردني (عمان)
3- الشيخ صالح الحصين سعودي مستشار بديوان مجلس الوزراء
4- الشيخ عبد الرحمن شيبان جزائري عضو المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر
5- الشيخ عبد الله بن سلميان بن سبع سعودي القاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة
6- الشيخ محمد برهان الدين هندي أستاذ الحديث والتفسير بدار العلوم لندوة العلماء (الهند)
7- الإمام محمود محمد علي الهاشمي عراقي من علماء البحث
8- الأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء سوري كلية الشريعة – الجامعة الأردنية (عمان)
واعتذر عن عدم الحضور السادة:
الشيخ أبو بكر جومر
عن اليوم الأول وناب عنه الشيخ محمد برهان الدين
الشيخ أحمد حمانى
وأناب عنه الشيخ عبد الرحمن شيبان
الشيخ محمد باقر الصدر
وأناب عنه الشيخ محمود الهاشمى(2/1085)
وبعد افتتاح الاجتماع بتلاوة آيات من كتاب الله تعالى ابتدأ الحديث الدكتور أحمد محمد علي مرحبا بالمجتمعين، ثم اختار المجتمعون الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي لإدارة جلسات الاجتماع، وفي خلال جلستين متتاليتين في اليوم نفسه (10/3/1399هـ) ألقيت الكلمات والبحوث التالية: كلمة السيد الأستاذ الدكتور أحمد محمد علي رئيس البنك الإسلامي للتنمية الذي بين أهداف البنك والأسس التي قام عليها، والمشكلة التي واجهته وهي (الفوائد المتراكمة لحساب البنك الإسلامي للتنمية في المصارف الأجنبية) (مرفق رقم1) .
1- دراسة الأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء (مرفق رقم 2) .
2- بحث سماحة الإمام أحمد علي الشافعي (مرفق رقم 3) .
3- بحث فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن سبع (مرفق رقم 4) .
4- بحث الدكتور سامي حمود (مرفق رقم 5) .
5- بحث الأستاذ الشيخ عبد الرحمن شيبان (مرفق رقم 6) .
6- بحث فضيلة الشيخ محمد برهان الدين (مرفق رقم 7) .
7- بحث السيد الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي (مرفق رقم 8) .
8- بحث فضيلة الشيخ صالح الحصين (مرفق رقم 9) .
ثالثا: وفي صباح يوم الخميس الحادي عشر من ربيع الأول 1399 هـ (الموافق 8 فبراير 1971م) اجتمع المتشاركون في هذه الندوة، وحضر الاجتماع سماحة الشيخ حسن علي أبو الحسن الندوي، وأتم المجتمعون مداولاتهم ومناقشاتهم في ضوء الدراسة والبحوث المقدمة في هذا الموضوع، وانتهوا إلي اقرار التوصيات التالية بالإجماع:
(أ) التأكيد من أن إيداع البنك الإسلامي للتنمية أمواله لدى البنوك الأجنبية لا يلجأ إليه إلا في حالة الضرورة وبقدر ما تزول به دون اعتبار هذا الأسلوب الاستثماري طريقا مناسبا بالنظر الشرعي لتحقيق أي مورد للبنك الإسلامي للتنمية.(2/1086)
وبناء على ذلك فإن المشاركين في هذا الاجتماع يرون مواصلة سعي البنك الإسلامي للتنمية في سبيل التخلص من إيداع أمواله لدى البنوك الربوية وذلك بمتابعة الوسائل التي يسلكها حاليا لهذه الغاية، والبحث عن وسائل أخرى على ذلك.
(ب) الاحتفاظ بالفوائد المتجمعة في الحساب الخاص المنفصل عن موارد البنك لإنفاقها في مصالح المسلمين، مثل إعانة فقرائهم في الدول الأعضاء وغير الأعضاء، وإعانة الجماعات الإسلامية في الدول غير الأعضاء لتمكنهم من المحافظة على مقومات شخصيتهم الإسلامية وحقوقهم المشروعة.
هذا وإن المشاركين في هذا الاجتماع – إذ يقدرون للأستاذ الدكتور أحمد محمد علي رئيس البنك، وللسادة المديرين التنفيذيين، جهودهم المبرورة لارساء قواعد العمل التأسيسي في هذه المؤسسة المصرفية الدولية على أسس الشريعة الإسلامية – يسألون العلي القدير أن يكتب لهم دوام التوفيق ويأخذ بأيديهم ويجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون. والله الموفق والهادي إلي سواء السبيل.
11 من ربيع الأول 1399 هـ.
8 من فبراير 1979م.
ملحق استفسارات
البنك الإسلامي للتنمية
بسم الله الرحمن الرحيم
أولا: يقدم البنك الإسلامي للتنمية قروضا طويلة الأجل للدول الأعضاء من أجل تمويل مشروعات البنية الأساسية فيها، ويتقاضي بالإضافة إلي المبلغ المقرض رسوم خدمة سنوية مقطوعة تتراوح بين 2.5-3 في المائة حسب حالة المشروع وظروفه، وتبعا لمقدار المبلغ المقرض بحيث ترتفع تلكم النسبة وتنخفض ضمن الحد المذكور بنسبة طردية مع كثرة المبلغ المقرض وقلته وطول المدة وقصرها.
ويلاحظ:
(أ) أن الغاية من إلزام المستقرض برسوم الخدمة توفير المبالغ الكافية لتغطية النفقات الإدارية للبنك.
(ب) وأنها لا تقدر في كل قرض على حسب نفقاته الإدارية الفعلية على الخصوص، وإنما تقدر افتراضا منذ بداية القرض بصورة إجمالية تقريبية مقطوعة بالنظر إلي مجموع القروض.(2/1087)
ثانيا: يضاف إلي فقرة (د) من (ثانيا) ما يلي:
لا يحتمل المؤجر ما يأتي:
-أي ضرر أو خسارة تنشأ بطريق مباشر أو غير مباشر عن التأخير في تسليم المعدات أو تركيبها إذا كانت تحتاج إلي التركيب أو عن الفشل في تسليمها أو اتخاذ الترتيبات اللازمة لتركيبها بطريقة مرضية وكل التكاليف والمصاريف وأي مبالغ أخرى يتكبدها فيما يتصل بأي مطالبات يقوم بها بموجب ذلك.
-تبعة كل المخاطر التي تتعرض لها أي من المعدات من تاريخ تسليمها له.
- التأمين، إن لم يقم به مقام المؤجر على حساب المستأجر.
-تبعة أي عيب فيها أو ضرر أو نفقات أو عدم كفاية، وعليه في هذه الحالة دفع أقساط الإيجار المستحقة، مع تحمل كل التكاليف والمصاريف ونفقة المبالغ والاستبدال والاستهلاك والتلف ... الخ.
-إذا زاد ثمن الشراء عن مبلغ مقدر يتعهد المستأجر بأنه سيقوم بتأدية المبالغ الإضافية المطلوبة.
-إذا لحقت بالمعدات خسارة شاملة حقيقية أو خسارة شاملة حكمية بسبب ضياعها أو سرقتها أو تلفها لدرجة تجعل تكاليف إصلاحها تفوق قيمتها أو لأي سبب آخر تنتهي هذه الاتفاقية.
وفي هذه الحالة يكون من حق المؤجر أقساط الإيجار المستحقة في مواعيدها المبينة في اتفاقية الإيجار.
ثالثا: يتعامل البنك مع الدول الأعضاء بعقود بيع لأجل مركبة على النحو التالي:
(أ) يوكل البنك الجهة الراغبة بمعدات وأجهزة معينة بشراء تلكم السلع للبنك، ويكون العميل نائبا عن البنك في إجراء العقد وقبض المبيع.(2/1088)
(ب) يلتزم الطرفان بعد إكمال العقد وتحقق القبض من قبل العميل بصفته وكيلا عن البنك بأن يتعاقد فور ذلك على بيع تلكم الأعيان من مالكها (وهو البنك) لوكيله وهو (العميل) بثمن مؤجل يزيد على الثمن المسمى في العقد (بنسبة مئوية يتفق عليها) وذلك في مواعدة بالبيع تقارن الوكالة الأولي.
(ج) يعتبر قبض المبيع من قبل الوكيل (وهو العميل) في عقد الشراء السابق نائبا مناب قبضه له بموجب عقد البيع اللاحق، ولا يحتاج إلي تجديد تقابض.
(د) يكون ضمان المبيع (بمعنى تحمل تبعة الهلاك والنقصان والعيب ونحوها) في مسؤولية المشترى بمجرد تسلمه على سبيل النيابة عن البنك في قبضه من الجهة المصدرة ولا يلحق البنك من ضمان ذلك المبيع البتة.
رابعا: يتعامل البنك مع الدول الأعضاء بعقد من نوع جديد سماه أسلوبا من بيع المرابحة وهو كما يلي:
(أ) تطلب الجهة الراغبة بالسلعة (ذات الصفة التنموية) من البنك شراء سلعة معينة منضبطة بالأوصاف المطلوبة لا يملكها البنك وقت الطلب ولا يحوزها بأية صفة.
(ب) بناء على ذلك يقوم البنك بشراء تلك السلعة، ويفوض وكيلا عنه في قبضها في بلد الجهة الراغبة بها (يكون شخصا ثالثا غير الطالب) .
(ج) بعد أن يقبض الوكيل المبيع، يفوض البنك نائبه المشار إليه ببيع هذه السلعة من طالبها بثمن مؤجل يزيد عن الثمن الذي اشتراها به ثم بتسليمها للمشتري الذي طلبها بعد أخذ كفيل بالمال منه يضمن ذلك الثمن، أو قيام ذلك الوكيل البائع بضمان الثمن لموكله البنك، فيقوم الوكيل بالنيابة عن البنك في إبرام هذه العقود وتنفيذها.
(د) يقارن طلب الجهة الراغبة بالسلعة وموافقة البنك على هذه المعاملة في البداية التزام بطريق المواعدة من الطرفين تنفيذ ما سبق.
خامسا: يقوم البنك بإيداع قسم من أمواله في بعض البنوك الأجنبية ويتقاضى من هذه البنوك الربا المقرر فيها. ثم تقسم هذه الزيادة الربوية نصفين:
(أ) يتفق شطرها (50 %) منها في بعض المصالح التي يراها البنك (أشير إليها في ص4 من أصل الاستفسار) .
(ب) يضاف شطرها الثاني (50 %) إلي أموال البنك كاحتياطي مخصص لمواجهة ما قد يطرأ من انخفاض على قيمة أرصدة البنك نتيجة تذبذب العملات المودعة بها تلك الأرصدة.(2/1089)
تقرير
لجنة استفسارات البنك الإسلامي للتنمية
10-16 ربيع الثاني 1406هـ-28 ديسمبر 1985م
ملحق رقم (2)
ب. د/1-2/1406هـ (1985)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
إنا نهنئ القائمين على البنك الإسلامي للتنمية بتصميمهم على تطبيق شرع الله في معاملاتهم المالية وحرصهم على الرجوع إلي أهل الاختصاص للاطمئنان على سلامة سيرهم في الحدود التي يرضى عنها الله.
كما ننوه بما جاء في مقدمة السؤال من التزام البنك عدم تقاضى فوائد على القروض وأن أجر النفقات "الكتابة والدراسة والمتابعة" تقع على المدين.
وبناء على ذلك فالسؤال الموجه هو أنه هل يمكن تحديد مبلغ مقطوع من أول العقد محسوب على أساس من نسبة معينة من رأس المال قدرها فيما بين 2.5 % و3 % يلتزم المدين بدفعها مقابل تلكم الخدمات نظرا لعدم تمكن البنك من تحديد التكلفة الإدارية لكل مشروع على انفراد.
وجوابا على ذلك فإن الآية القرآنية الواردة في سورة البقرة: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} صرحت بأن كل زيادة طفيفة كانت أو كثيرة هي ربا محرمة. كما أن تحايل المدين على رب الدين لينقص من رأس مال السلف هو حرام أيضا، روى أبو داود عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: ((ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون)) .(2/1090)
يقول القرطبي: "فردهم تعالى مع التوبة إلي رؤس أموالهم وقال لهم: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} .
ومعنى هذا أن كل زيادة هي محرمة وهي في تقدير الإسلام بمقاييسه الحق: "ظلم".
ومن قواعد الشريعة أن الشك في المماثلة هو كتحقيق التفاضل وفي تقدير الخدمات كما أسلفنا بنسبة معينة كل سنة من رأس المال، زيادة محققة يتقاضاها البنك وإن سماها أجرا وذلك:
1- أن ربطها بنسبة رأس المال لا مبرر له لأن ما يتطلبه الدين من حيث الوثائق والقيام على الاستخلاص – وتقديم وصولاته لا تختلف بمستوى النسبة بين دين ودين، فجعله واحدا أمارة على أن العملية غير قائمة على العدل.
2- أن جعل النسبة واحدة بين السنة الأولي وما لحقها من السنوات، هو أمر آخر لا نرى له وجها إذ أن السنة الأولي كما جاء في نص السؤال تشمل الدراسة وما تبعها أما في السنوات اللاحقة فلم يبق من الأعمال إلا الاستخلاص أو المراقبة – فإجراؤها على قياس واحد هو أمر غير مقبول. ولذا فإن على البنك أن يعمل على ضبط نسبة أكثر دقة وتعبيرا على تحديد النفقات موزعة على أنواع الخدمات التي يقوم بها.
السؤال الثاني: بشأن عمليات الإيجار والتي يقوم بها البنك:
تنحل هذه الصفقة بعد التأمل فيها إلي أربعة عقود:
1- عقد توكيل.
2- عقد بيع أول.
3- عقد إجارة.
4- عقد بيع ثان.
العقد الأول: عقد بيع قد يكون على شيء حاضر ولا إشكال فيه وقد يكون على شيء غائب على الخيار لا على البت إذ أن المؤسسة التي باعت المعدات بمسؤولية عن تسليم المبيع طبق المواصفات المتفق عليها. وإذا لم تتوفر فللمشتري رفض الصفقة.(2/1091)
يقول الخطاب عاطفا لما يجوز وغائب ولو بلا وصف على خياره بالرؤية أن لم يبعد كخرسان من افريقيا وبيع الغائب على مذهب ابن القاسم جائز ما لم يتفاحش. ج4 ص297.
العقد الثاني: عقد توكيل: وهو عقد صحيح إذا توافرت فيه كل الأركان.
العقد الثالث: عقد إجارة طويلة الأمد.
وعقد الإجارة لمدة طويلة جائز. قال في المدونة: ويجوز شراء سلعة إلي عشر سنين أو عشرين وإجارة العبد عشر سنين. (الحطاب ج4 ص389) .
لكن لا يحتمل المستأجر قيمة التأمين وإنما للمؤجر أن يوكل الجهة المستفيدة (المتسأجر) بالقيام بالتأمين ودفع أقساطه نيابة عن البنك.
العقد الرابع: بيع المعدات بعد انتهاء المدة إلي المكترى بثمن رمزي وهذا العقد فيه ناحيتان:
الناحية الأولي: اجتماع عقد بيع وعقد إجارة. وهذا أمر مختلف فيه، يقول الحطاب أن الإجارة مع البيع ليست بفاسدة بل يجوز اجتماعهما والخلاف في كونه على إطلاقه أو فيما إذا كان المبيع غير المؤاجر عليه.
ولما كانت المسألة غي مجمع عليها فإنه اعتماد قول القائل بجواز اجتماع عقد الإجارة والبيع في شيء واحد (ج5 ص396) .
ويقول ابن رشد: واختلفوا في اجتماع البيع والإجارة فأجازه مالك ومنعه الشافعي البداية (ج2 ص225) .
أما الناحية الثانية فهي أن هذا البيع غير معلوم العوضين إذ أن المثمن غير معلوم الصفة يوم بيعه، والأجل بعيد. ولا يجوز بيع شيء بعيد الأجل إذا كان معينا كقضية الحال، وإنما يجوز ذلك فيما كان في الذمة فقط.
يقول الحطاب: وإنما يجوز تأخير السلعة ولو إلي عشر سنين إذا كانت السلعة مضمونة في الذمة على شروط السلم. وأما إذا كانت معينة فلا يجوز تأخيرها أكثر من ثلاثة أيام _ج4 ص389) .
والحل الشرعي أن يلتزم البنك بهبة المعدات للمكترى عند انتهاء الأجل وخلاص كل المستحقات ويحرر هذا العقد على انفراد.
والسؤال الثالث: البيع إلي أجل:
إن هذا الذي بسطه البنك في السؤال هو بيع العينة عند المالكية.
قال في المقدمات: والممنوع من العينة أن يقول له: اشتر سلعة كذا بكذا وأنا أربحكم فيها كذا أو أبتاعها منك بكذا.
وقال في التنبيهات: الحرام الذي هو ربا صراح أن يراوض الرجل الرجل على ثمن السلعة التي يساومه فيها ليبيعها منه إلي أجل ثم على ثمنه الذي يشتريها به منه بعد ذلك نقدًا أو يراوضه على ربح السلعة التي يشتريها له من غيره فيقول:؟ أنا أشتريها على أن تربحني فيها كذا أو للعشرة كذا. قال ابن حبيب: فهذا حرام. وكذا لو قال: اشترها لي وأنا أربحك وإن لم يسم ثمنا. قال: وذلك كله ربا ويفسخ هذا وليس فيه إلا رأس المال آهـ. مواهب الجليل (ج4 ص405) .
أما عند غير المالكية فالحنابلة والحنفية يمنعون هذا العقد أيضا ولا يسمونه عينة. وأما الشافعية والإمامية فإنهم يجيزون هذا العقد ولا ينظرون إلا إلى الصورة الظاهرة التي هي عبارة عن بيع إلي أجل بثمن محدد يدفع أقساطا ولا مانع منه.(2/1092)
السؤال الرابع: بشأن عمليات تمويل التجارة الخارجية بين الدول الأعضاء التي يقوم فيها البنك على أساس بيع المرابحة.
إن هذا العقد هو شبيه بسابقه، إلا انه ينحل إلي ثلاثة عقود:
1- عقد بيع صاحب البضاعة، والبنك الإسلامي.
2- عقد وكالة مع اشتراط الضمان.
3- عقد بيع بين البنك الإسلامي والجهة المستفيدة.
العقد الأول: هو عقد جائز متى توفرت فيه شروط البيع وأركانه المعروفة.
العقد الثاني: جائز أيضا، ويجوز للموكل أن يشترط الضمان على الوكيل.
العقد الثالث: هو نظير ما جاء في السؤال الثالث واختلاف المذاهب فيه.
السؤال الخامس:
إن ما جاء في فتوى السادة العلماء عن الفائدة الربوية التي تجمعت من الإيداعات هي الحق الذي نقول به.
أما تصرف البنك الإسلامي في هذه الأموال بتخصيص نصفها للاحتياطي فيجب التوقف في هذا التصرف، ذلك أن الاحتياطي إذا كان لا بد منه للبنك فيكون تخصيص هذا الجزء له تحصين البنك لعمله بالفوائض الربوية وهو لا يجوز، نظير دفع الإنسان أموال زكاته للفقير الذي تلزمه نفقته. أما إذا كان الاحتياطي غير ضروري لسير البنك فلا بد من تقرير وجه صرفه إلي الجهات العامة التي جاءت في الفتوى.
والله أعلم.(2/1093)
الشيخ محمد المختار السلامي الشيخ حجة الإسلام محمد علي تسخيري
الشيخ د. عبد الله إبراهيم الشيخ هارون خليف جيلي
الشيخ عبد الله بن عبد العزيز آل محمود القاضي محمد تقي عثماني
الشيخ دوكورى بوبكر الشيخ محمد عبده عمر
جدة في: 14/4/1406هـ الموفق 26/12/1985م.
وقد أجاب عن هذه الاستفسارات جمع من الأعضاء الموقرين هم أصحاب الفضيلة:
الشيخ محمد عبد الرحمن والقاضي محمد تقى العثماني والشيخ محمد عبده عمر والشيخ محمد المختار السلامى والأستاذ تجاني صابون محمد والدكتور بوبكر دوكورى والشيخ محمد على التسخيري والدكتور عبد الله إبراهيم والشيخ هارون خليف جيلي.
وللتوقف في كثير من النقاط التي تحتاج إلي استبيان البنك واستيضاحه بشأنها أرجئ النظر في هذا الموضوع وصدر بشأنه القرار التالي:(2/1094)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم 1
بشأن
استفسارات البنك الإسلامي للتنمية
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الثاني 1406 هـ/22-28 ديسمبر 1985م.
بعد استماعه إلي عرض البنك الإسلامي للتنمية لجملة من الاسئلة والاستفسارات قصد الإفتاء بشأنها.
وبعد استماعه إلي تقرير اللجنة الفرعية التي تألفت أثناء الدورة من أصحاب الفضيلة الأعضاء الذين تقدموا بردود عن المسائل المستفسر عنها ومن انضم إليهم.
ولكون الموضوع يحتاج إلي دراسة أوسع وأكمل تقتضى الاتصال بالبنك وتداول النظر معه في مختلف جزئياته في لجنة مكونة من طرفه.
وبناء على ذلك قرر:
1- إرجاء هذا الموضوع للدورة القادمة.
2- مطالبة البنك بتقديم تقرير من هيأته العملية الشرعية.
والله أعلم..(2/1095)
مشرُوع لمنهج سير عمل المجلس
ومناقشاته وإدارة جلساته
بعد دراسته وتعديله من قبل ممثلي شعب المجلس
في اجتماعهم يومي 2 و 3 رجب 1406 هـ
12 و 13 / 3/1986 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين، وبعد
فقد اجتمعت اللجنة المشكلة من مجلس المجمع لوضع مشروع منهج لسير عمل المجلس ومناقشاته وإدارة جلساته، بحضور كامل أعضائها واتفقت على ضرورة مراعاة القواعد التالية:
أولًا: ضرورة الالتزام بالنظام الأساسي للمجمع واللائحة التنفيذية التزامًا كاملًا، وتوصى اللجنة بتوزيعها على الأعضاء في ملفات خاصة، ليطلعوا عليها ويتقيد الجميع بها.
ثانيًا: في الأمور والأعمال التي تسبق اجتماعات المجلس:
1- استكمال دراسة الموضوعات المطروحة على جدول أعمال المجلس عن طريق إعداد الأعضاء والخبراء بحوثًا كافية فيها مستوفية للشروط العلمية المعروفة.
2- أن يقدم الباحثون خلاصات علمية محررة لبحوثهم ترفق بالبحوث.
3- ضرورة إعداد ورقة عمل تقدم خلاصة عن جميع البحوث التي قدمت في الموضوع الواحد.
4- تبذل الأمانة وسعها في جمع المواد ذات العلاقة بالموضوع المعروض على المجمع والتي تم بحثها سابقًا في مجامع أو مؤتمرات أو ندوات علمية، في أي مكان من العالم، وتجري الأمانة العامة الاتصالات اللازمة لتحقيق ذلك أولًا بأول.(2/1096)
5- تتولى الأمانة العامة تزويد الأعضاء بكل ما يتعلق بموضوعات جدول الأعمال من بحوث وملخصات وأوراق عمل قبل شهرين على الأقل من اجتماع المجلس.
6- في نهاية كل دورة تحدد الموضوعات التي ستبحث في الدورة التالية بقرار من المجلس بناء على اقتراح من شعبة التخطيط.
7- يقدم كل عضو اقتراحاته مرفقة بما يبين عناصر الموضوع الأساسية والأسباب الداعية إلى بحثه بخصوص الموضوعات التي يرغب أن يتولى المجمع دراستها إلى شعبة التخطيط عن طريق الأمانة العامة
8- عند ترشيح شعبة التخطيط بعض الموضوعات لتبحث في دورة ما لابد أن ترفق بكل عنوان ورقة عمل تبين عناصره الأساسية بحيث يتضح المقصود منه.
9- تعد الدراسات والبحوث المقدمة إلى المجمع من الأعضاء والخبراء إعدادا علميًا مستوفي وبخاصة فيما يلي:
(أ) المذاهب الفقهية وأدلتها.
(ب) تخريج الأحاديث النبوية.
(جـ) عزو الأقوال لأصحابها.
(د) التوثيق الكامل للمعلومات من مصادرها المعتمدة.
(هـ) بيان الباحث لوجهة نظره ما أمكن في الموضوع المطروح مدعومة بالدليل.(2/1097)
10- تقدم البحوث والدراسات إلى الأمانة العامة في الوقت الذي تحدده ولها أن لا تعرض ما ورد متأخرًا منها.
11- تتولى الأمانة العامة استعراض البحوث المقدمة من الخبراء لعرض ما هو مناسب منها على المجلس.
12- ضرورة دعوة الأمانة العامة عددا كافيا من الخبراء المختصين في الموضوعات المطروحة للبحث عند الحاجة.
13- إعداد مشروع جدول الأعمال من الأمانة العامة بحيث تتناسب الموضوعات المطروحة مع أوقات الجلسات.
14- تنظم اجتماعات المجلس بحيث لا يحرم أعضاء الشعب واللجان –حين عقد جلساتها الخاصة – من الاشتراك في المناقشات العامة، فيجري تخصيص أوقات مناسبة لاجتماعات الشعب واللجان، وأوقات مناسبة لاجتماعات المجلس.
ثالثًا: في الأمور والأعمال التي تراعى أثناء اجتماعات المجمع:
15- جلستا الافتتاح والاختتام تنظمها الأمانة العامة حسب الأعراف المتبعة
16- يجرى في الجلسة الأولى المغلقة التحقق من العضوية والتأكد من اكتمال النصاب.
17- تقوم الأمانة العامة بتسجيل الجلسات وكتابتها وفق الأعراف المتبعة.
18- التأكيد على التمييز بين الجلسات العلنية والمغلقة وفق ما نصت عليه المادة السابعة من النظام الأساسي.
19- يعين مقرر عام لكل دورة ومقرر لكل موضوع من الموضوعات المطروحة في الدورة باختيار رئيس المجمع والأمين العام.
20- بعد أن يقر المجلس جدول الأعمال لا يجوز إجراء أي تغيير عليه إلا بموافقة المجلس.(2/1098)
21- تقسيم أوقات الجلسات بحيث يخصص وقت لكل بحث، ووقت للتعقيب والمناقشة.
22- تقوم رئاسة الجلسة في نهاية كل جلسة بتقديم خلاصة عن حصيلة النقاش وما توصل إليه المجلس.
23- تتكون لجنة الصياغة من المقرر العام للدورة بالإضافة إلى اثنين من اعضاء المجمع يعينهما المجلس، وتستعين اللجنة بمقرري الموضوعات في صياغة القرارات.
24- تصدر قرارات المجمع بالإجماع أو بأكثرية ثلثي الأعضاء الحاضرين وللمخالف من الأعضاء أن يسجل مخالفته في محاضر الجلسات وكذلك المتوقف وتعلن قرارات المجمع بدون إشارة إلى الإجماع أو الأكثرية.
التاريخ: الخميس 14 ربيع الثاني 1406 هـ / 26 /12 /1985.
أعضاء اللجنة
الشيخ عمر جاه د. طه جابر العلواني د. عبد السلام البعادي
الشيخ محمد هشام برهاني د. عبد الستار أبو غدة د. عبد الله إبراهيم
انتهي بحمد الله وحسن عونه طبع أعمال المؤتمر الثاني لمجمع الفقه الإسلامي بجدة (10- 16 ربيع الثاني 1406/ 22- 28 ديسمبر 1985)(2/1099)
من تقرير حول ندوة "البركة"
الثانية التي انعقدت بتونس
من 11-14 صفر 1405هـ
1- مداولات الجلسة العامة:
دار النقاش أولًا حول توصيف خطاب الضمان هل هو كفالة أولًا. رأي البعض أن خطاب الضمان غير الكفالة لأن الكفيل يحل محل المكفول في الوفاء بالتزاماته بينما البنك الذي يقدم خطاب الضمان إلى مقاول مثلا لا يطلب منه أن يقوم بالأعمال المطلوبة من المقاول.
ورد آخرون بأن الكفالة يمكن أن تكون محدودة ولا يشترط أن يحل الضامن محل المكفول في كل أعماله.
ثم نوقشت مسألة استحقاق البنك مقدم خطاب الضمان لأجر. فأكد البعض ما سبق أن قيل (4-ب) من أن الضمان أخذ في عصرنا هذا صورا تختلف عما عرفه الفقهاء حينما وصفوه بأنه عقد تبرع. لذلك لا يرى هؤلاء مانعًا من أخذ البنك الإسلامي أجرًا عند تقديم خطاب الضمان.
وقال آخرون بأن خطاب الضمان كفالة وهي تبرع وكون العميل هو الذي لا يخرجها عن طبيعتها تلك. وقالوا إنه يجوز للبنك أخذ أجر شريطة أن لا يزيد عن التكلفة الحقيقية للخدمات المقدمة. أما مسألة الغطاء في خطاب الضمان فقد قيل أن البنك الذي يصدر خطاب ضمان غير مغطى يعتبر كفيلًا. أما إذا كان خطاب الضمان مغطى بالكامل فإن البنك له صفتان: هو وكيل بالنسبة للعميل طالب الضمان، وهو كفيل في علاقته مع الطرف الثالث المستفيد من خطاب الضمان. ويصح أخذ أجره في حالة التغطية لكون البنك وكيلًا.(2/1100)
2- السؤالان المقدمان إلى لجنة العلماء.
السؤال الثامن:
هل يجوز للبنك الإسلامي أخذ عوض مقابل عمله المتمثل في إصدار خطاب الضمان المصرفي إما على أساس الأجر باعتبار أن هذا العمل توكيل مطلق لدفع مبلغ معين أو على أساس الوجاهة نظرًا لما يتمتع به البنك من ملاءة.
الفتوى:
تبين بعد المداولة في السؤال أن موضوع خطاب الضمان المصرفي يحتاج إلى مزيد من البحث ودراسة الواقع الذي يجرى عليه العمل في البنوك الإسلامية.
السؤال الثاني عشر:
هل يجوز للبنك الإسلامي الذي دفع له مبلغ نقدي لخطاب الضمان أن يستثمره بموافقة المودع مضاربة بنفس الشروط التي يستثمر بها للمودعين.
الفتوى:
يجوز للبنك الإسلامي أن يستثمر بالمضاربة المبلغ المودع لديه غطاء لخطاب الضمان الذي يصدره بنفس الشروط التي يستثمر بها للمودعين.(2/1101)
من تقرير حَول ندوة البركة الثانية
التي انعقدت بتونس
حول خطاب الضمان المغطى – وخطاب الضمان المكشوف – وأن الأول وكالة يصح أخذ الأجرة عنها، والثاني لا يصح أخذ الأجرة عنها.
قال الخطاب: أن في هذا شيئًا من عدم الاستقامة في المنطق والتطبيق العملي لا يخفي، فمن يضع غطاء أخذ منه أجر، ومن لم يضع غطاء لا يؤخذ منه؟ والواقع أنه ليس هناك شيء من عدم الاستقامة في المنطق، عند التأمل المتأني في تكييف العلاقة الشرعية بين خطاب الضمان المغطى، والآخر المكشوف، حيث يقع الضمان في الأول على الغطاء لا على البنك وإنما دور البنك هنا هو دور الوكيل في هذه الحال، ومن حق الوكيل شرعًا أن يتقاضى أجرة على القيام بعمل الوكالة، أما الكفالة فإن الضمان فيها يقع على البنك. ودوره هنا دور المقرض، فأخذ الأجرة في هذه الحالة يمثل زيادة على القرض وهو حرام ومن هنا كان الفرق بينهما – والكفالة –المالية قيل فيها معنى التبرع والمتبرع لا يطلب مقابلًا، وقيل فيها معنى المعاوضة، بدليل أنه يرجع بما يؤدي، وكلا الأمرين غير الأجرة.
ويتساءل الخطاب: لماذا لا نبحث عن مخرج آخر وهو عقد الوجاهة مثلًا، ولكن هل الوجاهة شيء غيرالكفالة على وجه التبرع؟.
إن أخذ البنك وديعة استثمارية عامة أو خاصة مقابل إصداره خطاب الضمان غير المغطى ربما يمثل ضمانًا لما يمثله خطاب الضمان غير المغطي من مالية، ومن هنا يكون جائزًا، وربما يمثل منفعة مشترطة لما يمثله خطاب الضمان غير المغطى من مالية، وهو في معنى القرض فيكون قرضًا جر نفعًا، وكل قرض جر نفعًا فهو حرام.
كما تقول القاعدة الفقهية العامة، (الحديث: كل قرض جر نفعًا فهو حرام) الذي لم يثبت صحته.
قال في المغني: وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود، أنهم نهوا عن قرض جر منفعة، وربما دخل هذا الصنيع في إطار النهي عن بيع وسلف.
قال ابن قدامة: وإن شرط في القرض أن يؤجره داره. أو يبيعه شيئًا أو أن يقرضه المقترض مرة أخرى لم يجز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن بيع وسلف، ولأنه شرط عقدًا في عقد فلم يجز كما لو باعه بشرط أن بيعه لآخر داره.
وربما يرجح التفسير الثاني، أن الوديعة لا تظل جامدة كضمان وإنما تستخدم للحصول على منفعة منها، ربما لصاحبها في المقام الأول وللبنك في المقام الثاني.(2/1102)
خطاب الضمان المصرفي ومدى جواز أخذ الأجر عليه (1)
مقدمة الموضوع:
- يعتبر خطاب الضمان المصرفي حالة من الحالات التي اختلف فيها الآراء لدى مختلف البنوك الإسلامية بين المجيزين والمانعين والمتوقفين في المسألة بانتظار القول الواضح والصريح.
- وقد جاء اللبس في الغالب بسبب الاسم المعطي للعملية، وهو، الضمان ومعناه اللغوي – الكفالة – وتعتبر الكفالة في النظر الفقهي أنها ضم ذمة. وقد اختلفت الآراء الفقهية في مفهوم هذا الضم من حيث كونه مقتصرًا على المطالبة فقط أم أن الضم يشمل الدين كذلك.
فقد جاء في كتاب الهداية شرح بداية المبتدي للميرغيناني في ذلك (قيل هي (أي الكفالة) ضم الذمة إلى الذمة في المطالبة، وقيل في الدين والأول اصح) (راجع الجزء الثالث، صفحة (70) الطبعة الأولى – المطبعة الخيرية 1326هـ –مصر) .
وجاء في شرح فتح القدير كتعقيب على ما قاله صاحب الهداية أنه (لا يثبت الدين في ذمة الكفيل خلافًا للشافعي ومالك وأحمد في رواية) ثم قال الشارح مقررًا (ولكن المختار ما ذكرنا أنه في مجرد المطالبة لا الدين) (راجع فتح القدير لابن الهمام وتكملته لشمس الدين أحمد المعروف بقاضي زاده طبعة المكتبة التجارية الكبرى – مصر) .
__________
(1) مقدمة لندوة البركة الثالثة للاقتصاد الإسلامي المنعقدة في استنبول 9 – 12 محرم 1406 = 23 – 26 أيلول (سبتمبر) 1985(2/1103)
- ويتبين من هذه الشروح والآراء الفقهية أن الكفالة المبحوثة فيها عند الفقهاء هي كفالة التوثيق المبنية على وجود دين في ذمة تنضم إليها ذمة أخرى في الاستعداد للمطالبة والالتزام بالوفاء.
- وأن مفهوم الضم بين الذمتين يتطلب التوافق في الالتزام. فالمدين بالمال مثلًا، يقدم كفيلًا ليلتزم كفيله بالدفع في الموعد الذي يستحق فيه الأداء وكذلك الملتزم بالقيام بعمل أو باحضار شخص يوم المحاكمة مثلًا، فإن الكفيل يلتزم بأن تقوم بذات العمل أن يحضر ذات الشخص.
- فهل تنطبق هذه الخصائص على خطاب الضمان المصرفي تمامًا حتى يقال أن خطاب الضمان المصرفي هو كفالة وتسري عليه ما تسري على الكفالة من أحكام؟
ولو فرضنا أن خطاب الضمان المصرفي هو كفالة حقًا، وأن الكفالة التي بحثها الفقهاء الأقدمون تعتبر عملًا من أعمال التبرع لا يستحق فاعلها أجرًا، فهل يستمر هذا الحكم ساريا رغم اختلاف الظروف والأحوال مع أنه اجتهاد فقهي بحسب ما رآه الفقهاء –رحمهم الله- وفقًا لظروف زمانهم؟ وهذا الاجتهاد ليس قرآنًا محفوظًا ولا سنة مروية، ولكنه رأي يمكن أن يعارض بمثله وأن يتغير بتغير زمانه.
فما هو الموقف الذي نراه بخصوص هذه المعاملة المصرفية المستجدة؟
أولًا – هل خطاب الضمان المصرفي كفالة بحسب مفهومها الفقهي..؟(2/1104)
- يستطيع الناظر المتجرد في خطاب الضمان المصرفي أن يميز بين الكفالة الخالصة الي تتعلق بضمان دين ثابت في الذمة في الحال أو المآل وبين خطاب الضمان المصرفي الذي هو توكيل بدفع مبلغ معين لمستفيد معين عندما يطلب ذلك المستفيد المذكور في الخطاب سواء كان هناك دين مستحق ام لم يكن هناك أي دين.
- ولعل أهم ما يوضح هذه المسألة يتمثل في دراسة خطاب الضمان المصرفي الذي لا تختلف نصوصه كثيرًا بين بنك وآخر في معظم عقود المقاولات ودخول المناقصات، حيث تتمثل صيغته المبسطة بالعبارات التالية:
(نموذج لخطاب ضمان مصرفي)
إلى: الجهة الوسيطة.
من: بنك كذا (البنك المصدر لخطاب الضمان)
بناء على طلب السيد / السادة …………………………………………………………………
نتعهد بأن ندفع لكم فور تسلمنا أول مطالبة منكم مبلغًا وقدره
……………………………………………………………………………………………..
على أن نتسلم مطالبتكم في أو قبل تاريخ ……………………………………………………..
وتفضلوا بقبول احترامنا
عن بنك كذا
……………………(2/1105)
- وتتضمن القواعد المصرفية أن صدور خطاب الضمان بهذا الشكل يعطي المستفيد (المضمون له) حقًا مباشرًا تجاه البنك للمطالبة بقيمة الخطاب كلها أو جزء منها، كما أن هذا الحق لا يتأثر بأي طلب أو ادعاء قد يقدمه طالب الخطاب يتعلق بعدم تحقق أي التزام في ذمته للمستفيد. وهذا هو الأساس الذي يختلف فيه خطاب الضمان أي التزام في ذمته للمستفيد. وهذا هو الأساس الذي يختلف فيه خطاب الضمان المصرفي عن الكفالة بحسب مفهومها الفقهي.
- ذلك أن من الواضح أن الكفالة العادية هي عقد تابع، ومعنى العقد التابع أن وجوده مرتبط بوجود دين أو التزام في ذمة المكفول. فإذا ثبت أنه ليس هناك دين فإن الكفالة لا تعود صالحة للمطالبة. وبناء على ذلك فإن الكفيل من حقه أن يثبت عدم تحقق الدين لأنه يدفع عن نفسه عناء التعرض للمطالبة والالتزام بالوفاء.
وإذا كان موضوع الكفالة هو قيام بعمل ما، فإن الكفيل يستطيع أن يدفع عن نفسه المطالبة إذا قام بالعمل الذي بنيت عليه الكفالة، مثل إحضار شخص معين أو إزالة اعتداء على ملك الغير. فهل تنطبق هذه الخصائص على خطاب الضمان المصرفي حتى يقال أن خطاب الضمان المصرفي هو كفالة بمفهومها الفقهي المعروف.؟
- إن المقرر في القواعد الفقهيية أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني، وتطبيقا على هذه القاعدة فإنه لو استعمل لفظ الهبة في مبادلة مال بمال فإنه يطبق على هذه العلاقة حكم البيع لأن الهبة هي المال المدفوع بلا عوض، فإذا كان هناك مقابل المال انتقل الوضع من اللفظ إلى المبنى وأصبح الحكم هو البيع الذي هو مبادلة مال بمال.(2/1106)
- وإن ما ينطبق على هذه الصورة من إنقلاب الهبة إلى البيع يمكن أن يطبق على خطاب الضمان المصرفي الذي استعمل فيه لفظ الضمان ظاهرًا رغم أن الحكم فيه أنه كوكيل يدفع مبلغًا معينًا لشخص معين وذلك بشرط معلق على تقديم المطالبة من ذلك الشخص المسمى.
- وإن ما يرجح في نظرنا هذا الوصف هو المفارقات التالي: -
1- أن خطاب الضمان والذي هو توكيل بدفع مبلغ محدد بشرط معلق على مطالبة المستفيد يعطي لذلك المستفيد المسمى في الخطاب حقًا مباشرًا تجاه البنك المصدر ولا يسقط هذا الحق أو يتأثر بسقوط التزام طالب خطاب الضمان أو انتهائه أو إثبات الوفاء بما تعهد به.
أما الكفالة فإنها عقد تابع والعقد التابع يدور مع المتبوع وجودًا وعدمًا. فإذا أثبت الكفيل أن مكفوله غير مدين فإن كفالته تسقط تبعًا لذلك وهذا يخالف واقع العمل في خطاب الضمان المصرفي حيث لا يملك البنك أن يناقش العلاقة القائمة بين المستفيد وطالب إصدار الخطاب.
2- أن المبلغ الذي يدفعه الكفيل في الكفالة العادية يعتبر وفاء للدين المضمون ويحتمل بعد ذلك أن يعود الدافع على من دفع عنه إذا كانت الكفالة قد تمت بطلب من المكفول، وهذا بخلاف الوضع في خطاب الضمان المصرفي حيث يكون المبلغ المدفوع من البنك بمثابة تأمين مدفوع باسم طالب الخطاب ولكنه ليس وفاء وإنما هو أداء تحت الحساب، فإذا ثبت أن ذمته ليست مشغولة فإنه يسترد المبلغ المدفوع عنه، كما أن البنك يرجع في جميع الأحوال على طالب الخطاب بما يدفعه عنه.(2/1107)
3- أن الكفيل في الكفالة المالية مخير بين أن يقوم بالعمل الذي كلفه أو أن يدفع المال وكان الأصل لو أن البنك يضم ذمته إلى ذمة المقاول في المقاولة أن يكون هناك إلزام بأن يقوم البنك بإكمال البناء الذي تعهد به المقاول على سبيل المثال.
ولكن الحال في خطاب الضمان المصرفي مختلف جدًا، فقد يكون التزام المقاول أعلى أو أقل كثيرًا من خطاب الضمان ولا يملك البنك أي حق في أن يعرض إنجازما هو منسوب من نقص في المقاولة.
4- أن من الثابت أن المطالبة بالدفع في الكفالة لا تتحقق إلا في موعد استحقاق الدين أو الالتزام لأنها مرتبطة به من الأساس، أما في خطاب الضمان المصرفي فإن المطالبة بالدفع ليس لها علاقة بموعد تحقق الالتزام على طالب خطاب الضمان وذلك لأن خطاب الضمان له أجل ممتد من يوم إصداره إلى يوم انتهاء الحق في المطالبة به، ويملك المستفيد الذي يصدر له خطاب الضمان أن يطالب البنك بالدفع من أول يوم سواء كانت له تجاه طالب الخطاب التزامات مستحقة أم لم تكن.
5- فإذا كان خطاب الضمان المصرفي ليس عقدًا تابعًا كالكفالة ولكنه التزام ناتج عن توكيل تعلق به حق الغير يتضمن دفع مبلغ معين من النقود خلال مدة محددة إذا طالب بها شخص معين فإن معنى هذا أننا أمام نوع خاص من الوكالة، وبما أن الوكالة من الأعمال التي يمكن أن تقابل بالعوض فإن العمولة التي يتقاضاها البنك لقاء إصداره خطاب الضمان المصرفي تعتبر بمثابة الأجر في أي عمل من أعمال الوكالة وأما كون العمولة محسوبة بالنسبة المئوية 1 % مثلًا، فإن ذلك لا علاقة له بالمديونية لأن العرف قد جرى على حساب الأجر بنسبة من قيمة العمل كالمحامي والسمسار أو الدلال.
- هذا مع ملاحظة واجب البنك الإسلامي بأن لا يخلط بين إصدار خطاب الضمان المصرفي والإقراض، فإذا كان هناك خطاب صادر فالعمل شرعي والعمولة كأجر جائزة، أما إذا تمت المطالبة بخطاب الضمان فإن المبلغ المدفوع يصبح دينًا في ذمة طالب الخطاب وعندها لا يجوز للبنك أن يتقاضى أي رسم أو عمولة مهما كان الاسم والمسمى لأن وجود عنصر المديونية يجعل الربا قائمًا في كل زيادة مأخوذة فوق قدر الدين.(2/1108)
- وتبقى نقطة أخيرة جديرة بالإشارة لبيان التناقض الذي وقع فيه بعض القائلين من إخواننا العلماء بأن خطاب الضمان المصرفي هو كفالة لا يجوز فيها الأجر إلا إذا قدم طالب الخطاب غطاء نقديًا كاملًا حيث يصبح العمل كأنما هو توكيل بدفع المال، وبما أن الوكالة تقبل الأجر فيكون للبنك أن يتقاضى أجرًا على خطاب الضمان المصرفي المدفوعة قيمته بالكامل، أما خطاب الضمان غير المغطى فلا يجوز فيه دفع الأجر.
- وهكذا نكون أمام تناقض واضح وذلك أن من يدفع ما عليه من التزام سلفًا وبكامل القيمة المحتملة التحقق يكون عليه أن يدفع فوق ذلك عمولة وأجرًا، أما من لا يدفع شيئًا فإن البنك يتبرع له بالضمان مجانًا.
- ومع علمنا بإستحالة هذا المطلب من الناحية العملية لأن من يملك المال لا يكون أصلًا بحاجة إلى خطاب الضمان، إلا أن هذا القول واضح في تناقضه – مع كامل الاحترام للعلماء الذين قالوا به -، ذلك أن التوكيل بأداء مبلغ معين من النقود يصح أن يكون بناء على دفع مسبق كأن أقول لك: خذ هذه الألف دينار وادفعها إلى فلان، أو أن يكون الأمر مبنيًا على وعد بالدفع اللاحق كأن أقول لك: ادفع لفلان مئة دينار وسأدفعها لك فور قيامك بهذا، فاي فرق بين العملين من ناحية التوكيل بالأداء؟
هل يمكن أن يقول لنا أحد أن القبض المسبق شرط في التوكيل في الأداء وأن الوكالة كالتبرع الذي يشترط فيه القبض لإتمامه …؟
إننا لا نظن أحدًا يطبق على الوكالة هذا الشرط بلا سند أو دليل.
ثانيًا: إذا سلمنا جدلًا بأن خطاب الضمان المصرفي كفالة حقًا وأنها من أعمال التبرعات كما قال الفقهاء القدبمون فهل يمتنع انقلاب العمل من التبرع إلى المعاوضة.
- إن الملاحظ في الفقه أن أعمال التبرعات محكومة بالعرف وليس بالنص، ودليلنا على ذلك انقلاب العديد من أعمال التبرعات إلى أعمال تؤدي بالأجر في عهود الفقهاء الذين لم يروا ما يحول دون هذا التحول الذي تتطلبه الظروف.(2/1109)
- فقد كانت إمامة الصلاة والأذان وتعليم القرآن مثلًا من أعمال التبرعات التي انقلبت تدريجيًا إلى أعمال تؤدي بالأجر بعد أن أصبح الإمام والمؤذن والمعلم بحاجة إلى المال الذي يستحقونه لقاء حبسهم أنفسهم عن العمل.
- كذلك كانت الضيافة من أعمال التبرع فكان الضيف يحل على الرحب والسعة آكلًا وشاربًا ونائمًا في بيت مضيفه دون أجر يدفعه، ولكننا نجد الفنادق هذه الأيام تؤوي الناس بالأجر وتؤكلهم بالثمن، وما من فقيه قال بأنه لا يجوز أخذ الأجر على النوم ولا دفع الثمن على الطعام إذا كان الوافد ضيفًا وإلا لأغلقت الفنادق أبوابها من الصباح الباكر.
- وإذا كانت الكفالة التي لا يجوز فيها أخذ الأجر هي الكفالة الشخصية المبنية على الشهامة أو دفع الكرب عن الناس، فإن الضمان المصرفي ليس فيه من هذا المعنى شيء لأنه عمل يؤدي لفئة من رجال الأعمال الذين يعملون في قطاعات العمل الكبير من بناء وإنشاء، وهم لا يطلبون شفقة ولا إحسانًا ولكن يطلبون خدمة تيسر لهم أعمالهم ومعاملاتهم وفق اللوائح والقوانين المطبقة عليهم.
ثالثًا: هل يجوز شرعًا إجبار الناس على قبول ما لا يرتضون من المشاركات دون أن يكونوا بحاجة إلى ذلك.؟
- ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى القول بأن الحل في خطاب الضمان المصرفي هو أن يدخل البنك شريكًا مع المقاول قياسًا على شركة الوجيه مع الخامل.
- وهذا الاتجاه مع غرابته في الواقع الذي يحياه الناس من ناحية ومع استحالة تطبيقه عمليًا في مختلف الأحوال التي يستخدم فيها خطاب الضمان يعتبر بحسب نظرنا خروجًا على قاعدة التراضي في العقود التي يقوم عليها الأساس الشرعي لاحترام سلطان أفراده في الفقه الإسلامي.
- فإذا كانت علة النهي عن بيعتين في بيعة مبنية على مظنة القبول بإحدى البيعتين على غير رضا، فهل يجوز لقائل أن يتصيد حاجة المقاول لخطاب الضمان المصرفي بمبلغ 1 % من قيمة المقاوله لكي يفرض عليه المشاركة في هذه المقاولة كلها وما يتبع ذلك من كشف للأسرار والأرقام والحسابات.
- فإذا كان المقصود لدى بعض العلماء الذين رأوا ذلك هو تجنب أخذ الأجرعلى خطاب الضمان المصرفي فإنهم ومن حيث لا يدرون قد فتحوا بابًا أشد ضررًا للاستغلال الذي قد يتعرض له المقاول من جانب البنك الذي يفرض عليه مشاركته في المقاولة التي يتقدم لها بخبرته وعمله وماله. فأين المشاركة التي يقدمها البنك إذا لم تكن هناك حاجة إلى الجهد ولا إلى المال؟
الا تعتبر المشاركة المفروضة من أجل التقدم بطلب خطاب الضمان المصرفي اعتداء على حرية أفراده التي ضمن سلامتها الإسلام.(2/1110)
خلاصة القول
يستخلص مما سلف بيانه ما يلي: -
1- أن الإصرار على القول بأن خطاب الضمان المصرفي هو كفالة بمفهومها الفقهي القديم ينطوي على تحميل لهذا العقد بما لا يحتمل للأسباب التالية: -
(أ) أن الكفالة عقد تابع والتزام ملحق بالأصل، وأما خطاب الضمان المصرفي فإنه عقد مستقل والتزام البنك فيه منفصل عن التزام طالب الخطاب، لذلك فإن خطاب الضمان يكون أقرب للوكالة بأداء مبلغ معين من النقود عند تحقق شرط المطالبة به.
(ب) أن الكفالة عقد قائم على التبرع إبتداء والمعاوضة انتهاء إذا كانت بناء على طلب المكفول. وهذا بخلاف الحال في خطاب الضمان حيث أن نية التبرع ليست قائمة لا في الحال ولا في المآل.
(جـ) أن الكفالة تعطي الكفيل حق الخيار في أن يقوم بعمل المكفول أو يدفع المبلغ المطلوب وهذا بخلاف الحال في خطاب الضمان المصرفي حيث لا يملك البنك مثل هذا الخيار. وكل ما عليه هو أن ينفذ التوكيل بالدفع نظرًا لتعلق حق الغير به.
2- أن آراء بعض العلماء المطروحة لإيجاد حل لمشكلة الإصرار على وصف خطاب الضمان المصرفي بأنه كفالة يوجد في واقع الأمر مشكلتين بدلًا من المشكلة الواحدة..
(أ) فإذا قال البنك لعميلة أن يدفع كامل قيمة الخطاب (100 %) ليأخذ منه أجرًا فوق ذلك فإن البنك لا يجد عميلًا واحدًا يرضى بهذا التناقض حيث سيناقش البنك بأن يصدر له خطاب الضمان دون غطاء ودون أجر.
(ب) وإذا اراد البنك أن يجبر عملية على مشاركته في أعمال دون رغبة أو حاجة من ذلك العميل فإنه قد يدفعه بذلك إلى اللجوء إلى البنوك غير الإسلامية وما يتبع ذلك من استسهال للربا. فيكون الحال هنا كمن تبقى شبة بحسب ما يظن ليوقع الناس في الحرام الصريح.
ذلك أن أقوال الفقهاء هي آراء واجتهادات، وإن الاجتهاد يعارض بمثله، أما ما حرمه الله في كتابة وسنة نبيه فلا مجال للإجتهاد فيه بل هو خضوع وتسليم، فكيف يجوز للبعض أن يتمسك بشبهة الاجتهاد الفقهي حتى لو أدى الأمر إلى دفع الناس إلى تجاوز حدود ما أنزل الله.
إن المسألة تتطلب النظر المؤمن المتبصر بالعواقب والنتائج وإن الله يهدي من يشاء.(2/1111)
3- أن العمولة التي يتقاضاها البنك في حالة إصداره خطاب الضمان هي أجر على العمل الذي يقوم به طالما أنه لا توجد علاقة الدائنية والمديونية التي هي ركن من أركان تحقق الربا في الديون (وجود دين وزيادة مشروطة يدفعها المدين للدائن) فإن الأجر يمكن أن يكون مقطوعًا بمبلغ محدد بالمقدار مثل عشرة دنانير أو مائة ريال أو أن يكون مبلغًا محددًا بالنسبة مثل 1 % أو 2 % حيث لا عبرة بالنسبة التي هي طريقة للمحاسبة طالما لم تكن هناك علاقة بين دائن ومدين، وهذا كله بشرط أن يتم الأجر وحسابه على العمل الذي يقع قبل تحقق شرط الدفع أو المطالبة بالأداء، وأما ما يتم بعد الدفع أو المطالبة فلا يجوز للبنك الإسلامي أن يأخذ أي أجر سواء كان محددًا بمبلغ مقطوع أو بنسبة مئوية لأن تحقق الركن الأول للربا وهو عنصر المديونية يمنع الأجر أو ما هو في حكمه حيث تدخل شبهة الربا وعلى البنك الإسلامي أن يتقي الشبهات بابعد ما يستطيع.
هذا هو ما هداني إليه الله من القول في هذه المسألة وهو اجتهاد يحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب. وإننا نتعامل مع رب كريم يعطي حتى لمن يخطئ في اجتهاده اجرًا واحدًا ويثيب المصيب بأجرين، وإن أقل القليل من رحمة الله الكريم لكفيل بأن يغمر القلب المؤمن بالنعمة والهناء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(2/1112)
القسم الثالث
تَقريرْ اجْتماع ممثلي شعب المجلس
2 - 3 رجب 1406هـ / 12 – 13 مارس 1986 م.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى به وسار على دربه إلى يوم الدين. وبعد
1-فقد عقد اجتماع لممثلي شعب مجلس المجمع للإعداد للدورة الثالثة للمجمع التي ستعقد في مطلع العام القادم.
وقد تم هذا الاجتماع بحمد الله وتوفيقه في الفترة بين 2 – 3 رجب 1406هـ الموافق 12 – 13 مارس 1986م.
2-وترأس هذا الاجتماع معالي رئيس المجمع الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد وحضره معالي الأمين العام للمجمع الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة، وكل من:
-فضيلة الدكتور عبد السلام داود العبادي مساعد رئيس المجلس
-فضيلة الشيخ عبد العزيز محمد عيسى رئيس شعبة الإفتاء
-فضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور رئيس شعبة التخطيط والترجمة
-فضيلة الدكتور إبراهيم بشير الغويل مقرر شعبة التخطيط والترجمة
-فضيلة الدكتور محمد ميكو مقرر شعبة الإفتاء
-فضيلة الدكتور محمد شريف أحمد مقرر شعبة الدراسات والبحوث
-فضيلة الدكتور عجيل جاسم النشمى عضو مكتب المجلس
-فضيلة القاضي محمد تقى عثماني عضو مكتب المجلس
-سعادة السفير سيدي محمد يوسف جيري عضو مكتب المجلس
-فضيلة الدكتور روحان مباي عضو مكتب المجلس
-فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي عضو
-فضيلة الشيخ خليل محي الدين الميس عضو
-فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود الجندي عضو
-فضيلة الدكتور محمد مصطفي شلبي عضو
-فضيلة الدكتور عمر جاه عضو
-فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غده عضو
-سعادة السفير التيجاني الهدام عضو
3-افتتح الاجتماع بآيات من الذكر الحكيم ثم ألقى رئيس المجمع كلمة رحب فيها بالمشاركين وشكر الأمانة العامة على خطتها في دعوة ممثلي الشعب لحضور هذا الاجتماع تجميعًا واختصارًا(2/1113)
4-وفي الجلسة الأولى ثم إقرار جدول الأعمال كما قدمتها الأمانة العامة:
1- عرض نشاطات المجمع بعد الدورة الثانية للمجلس.
2- موضوعات الدورة الثالثة.
3-المشاريع العلمية.
(أ) إحياء التراث:
- إعداد قائمة بالمحققين الذين يمكن تكليفهم بتحقيق الكتب الفقهية المقررة من قبل شعبة التخطيط.
- تعيين لجنة علمية لتقويم التحقيقات.
(ب) مدونة أدلة الفقه الشرعي من القرآن والسنة وأقوال الصحابة
- معلمة القواعد الفقهية.
(جـ) الموسوعة الفقهية:
- تحديد موضوعاتها.
- المستكتبون.
- لجنة المراجعة العلمية.
4-مشروع المنهج لسير عمل ومناقشات وإدارة جلسات المجلس.
5- ما يستجد من أعمال.
5- تم اختيار الدكتور عبد السلام داود العبادي نائب رئيس المجمع مقررًا لهذا الاجتماع.
6- عرض معالي الأمين العام النشاطات التي قام بها المجمع بعد الدورة الثانية للمجلس وحتى انعقاد اجتماع ممثلي شعب المجلس هذا.
وبعد أن أنجز معالي الأمين العام عرضه أشاد المشاركون في الإجتماع بجهد الأمانة وتوجهوا بالشكر والتقدير لمعالي الأمين لما بذل من جهد وأتم من إنجازات.(2/1114)