نية التجارة، بل أولى؛ لأن الإيجاب يغلب على الإسقاط احتياطا (1)
لكن أجيب عن هذا: بالفرق بين ما إذا نوى القنية بمال التجارة أو نوى التجارة بمال القنية؛ لأن القنية هي الإمساك بنية القنية، وقد وجد الإمساك والنية، والتجارة هي التصرف بنية التجارة، وقد وجدت النية ولم يوجد التصرف، فلم يصر للتجارة (2)
وقد يناقش هذا الجواب: بأن هذا منازعة في محل الخلاف، فإن الخلاف في نية التجارة: هل تحتاج معها إلى شيء آخر، فغاية ما في هذا الجواب إثبات الدعوى بمجرد الدعوى.
رابعا: قالوا: ولأن ذلك أحظ للمساكين، فاعتبر كالتقويم (3)
خامسا: ولأنه نوى به التجارة، فوجبت فيه الزكاة، كما لو نوى حال البيع (4)
الراجح من هذين القولين:
بعد النظر في هذين القولين وما استدل به لكل منهما يترجح - والعلم عند الله - القول الثاني وهو: أن العرض - من الأراضي وغيرها - يصير للتجارة بمجرد النية، وأنه لا يشترط في وجوب زكاتها تملكها
__________
(1) المهذب والمجموع 6\6، المغني 4\257.
(2) المهذب والمجموع 6\6.
(3) المغني 4\257.
(4) المغني 4\257.(86/234)
بطريق المعاوضة أو غيرها، بل كيفما دخلت ملكه بطريق شرعي وجعلها للتجارة، أخذت حكم عروض التجارة ووجبت فيها الزكاة، وإنما ترجح هذا القول لقوة أدلته الأثرية والنظرية، ولأن غاية ما ذكره أصحاب القول الأول تعليلات وقياسات لا تعارض بها الأدلة، وقد وردت عليها المناقشة القوية، والله تعالى أعلم.
من ثمرة الخلاف في هذه المسألة:
1- أن من ورث أرضا أو أراضي، ونوى جعلها رأس مال للتجارة وقصد فيها طلب الربح، فإنها تجب فيها الزكاة على الراجح، من حين نواها للتجارة.
2- أن من ملك أرضا بطريق الهبة أو المنحة - كما يحصل الآن في منح الدولة الأراضي للمواطنين - فنوى مالكها جعلها للتجارة، فإن الزكاة تجب فيها على الراجح، من حين وجود تلك النية.
3- أن من اشترى أرضا لقصد الانتفاع بها، ثم نوى جعلها مال تجارة، وذلك بأن يبيعها لقصد الربح، فإنه تجب عليه فيها الزكاة - من حين نواها للتجارة - على الراجح(86/235)
وكل هذه المسائل إنما تجب فيها الزكاة إذا حال الحول على هذه الأراضي من حين نواها للتجارة، وقد ذكر أكثر الفقهاء أن حول التجارة ينقطع بموت المورث عن مال التجارة، وخالف في ذلك البلقيني من الشافعية، فقال بعدم انقطاع حول الأموال التجارية بموت المورث، إذا نوى الوارث التجارة
لكن خلافه هذا ضعيف؛ وذلك لأن الزكاة كما لها تعلق بالمال فلها أيضا تعلق بالذمة، وقد اختلفت ذمة المزكي.(86/236)
المبحث الرابع: أحوال سقوط الزكاة عن الأرض التجارية:
وفي هذا المبحث مطلبان:
المطلب الأول: سقوط الزكاة في حال كساد الأرض التجارية.
المطلب الثاني: سقوط الزكاة في حال تعثر المساهمات العقارية.
المطلب الأول: سقوط الزكاة في حال كساد الأرض التجارية:
تعتبر مسألة كساد الأراضي من المسائل كثيرة الوقوع في هذا(86/236)
العصر، لا سيما في بعض المجتمعات التي استمر فيها هبوط قيمة النقود الورقية، ولم يبق أمام كثير من الناس وسيلة لحفظ قيمة نقودهم وقوتها الشرائية سوى تحويلها إلى عقار والتربص به، وقد يطول هذا التربص حتى ربما وصل إلى عشرات السنين، والأرض في تلك الفترة تنقص قيمتها ولا تزيد، لعدم رغبة الناس في شرائها بسبب موقعها أو نحو ذلك، بل قد لا تساوي شيئا ذا بال بالنسبة لقيمتها في السابق، وهذا الوضع هو ما يعبر عنه اصطلاحا ببوار السلع أو كسادها.
بل قد يقع الكساد في المشروعات أو الشركات العقارية الكبيرة، وتبقى إدارة الشركة تتربص بالبيع زمن ارتفاع الأسعار.
هذه المسألة - فيما أحسب - من المسائل المهمة، وقد اختلفت آراء الفقهاء المعاصرين حول الزكاة في هذه الأراضي، هل تجب فيها الزكاة كل حول زمن التربص والانتظار، مع وجود الخسارة الكبيرة في قيمتها، أو لا تجب إلا إذا باعها زكاها لسنة واحدة؟
وفي نظري أنه لا بد قبل بيان حكم هذه المسألة من بيان مفهوم الكساد في الأراضي، والمدة التي تعتبر فيها الأرض التجارية كاسدة.
أما مفهوم الكساد الاصطلاحي عند أهل العلم فلا أظنه يخرج عن مفهومه اللغوي.
قال ابن منظور: "الكساد خلاف النفاق، ونقيضه، والفعل(86/237)
يكسد، وسوق كاسدة بائرة" (1)
وقال في بيان معنى البوار: "البوار: الكساد، وبارت السوق وبارت البياعات إذا كسدت، ومن هذا قيل: نعوذ بالله من بوار الأيم، أي كسادها، وهو أن تبقى المرأة في بيتها لا يخطبها خاطب، من بارت السوق إذا كسدت، والأيم التي لا زوج لها، وهي مع ذلك لا يرغب فيها أحد" (2)
ومن هنا يتبين أن معنى الكساد أو البوار هو: بقاء السلعة مدة زمنية غير مرغوب فيها إلا بقيمة زهيدة، لا تساوي قيمتها الحقيقة، وهو بهذا يختلف عن مفهوم الرخص الذي هو ضد الغلاء (3)
وعلى هذا فالكساد نوع من أنواع الخسارة التجارية، لكنها خسارة تمتد مدة زمنية يطلق بعدها على تلك السلعة هذا الاسم، ولذلك ذكر الفقهاء والاقتصاديون تقديرا زمنيا للحكم بالكساد أو البوار في السلع.
أما المدة التي يحكم فيها بأن هذه الأرض كاسدة أو بائرة، فمن خلال النظر في أقوال أهل العلم الذين ذكروا أن للكساد أثرا على العروض التجارية، يظهر أنهم قد ذكروا لذلك ضابطين:
__________
(1) لسان العرب 3\380.
(2) لسان العرب 4\86.
(3) مختار الصحاح 1\101، لسان العرب 7\40.(86/238)
الضابط الأول: تحديد مدة البوار أو الكساد بعامين.
قال سحنون من فقهاء المالكية: إن بار عامين بطل فيه حكم الإدارة (1)
ووجه ذلك: أن العام الواحد مدة للتنمية والتحريك، فإذا اتصل بذلك عام آخر ثبت بواره وحكم ببطلان حكم التجارة فيه (2)
الضابط الثاني: الرجوع إلى العادة أو العرف في تحديد مدة البوار والكساد.
وقد ذكر ذلك ابن الماجشون من علماء المالكية (3)
وهذا القول هو المتجه، وهو الذي تدل عليه أدلة الشريعة، فإن عرف الناس هو المرجع في كل ما لم يأت الشرع بتحديده، وذلك في مسائل كثيرة في الشريعة.
لكن لا بد أن يكون تقدير ذلك راجعا إلى أهل المعرفة والاختصاص فلكل سلعة ما يناسبها من الوقت لترويجها وبيعها، والحكم بكسادها وبوارها، لذا يتعين أن يكون المرجع في كساد الأراضي إلى عرف العقاريين.
أما التحديد بعامين فهو وإن كان مقبولا في بعض السلع للعلة
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ 2\125، التاج والإكليل 3\189.
(2) المنتقى شرح الموطأ 2\125.
(3) المنتقى شرح الموطأ 2\125، التاج والإكليل 3\189.(86/239)
المذكورة إلا أنه قد لا يكون مقبولا في سلع أخرى كالأراضي، لذا كان تحديد ذلك بالعرف هو المتعين.
وعلى هذا فالأراضي الكاسدة: هي تلك التي بقيت مدة طويلة - في تقدير أهل الاختصاص - لا يرغب بشرائها إلا بقيم زهيدة لا تساوي قيمتها الحقيقية.
والناظر في كتب أكثر العلماء المتقدمين من الفقهاء وغيرهم لا يجد لهذه المسألة ذكرا؛ لأن الحكم للكساد في العروض التجارية عند أكثر الفقهاء لا يختلف عن غيره، فالزكاة واجبة في عروض التجارة مطلقا، سواء ربحت أم خسرت.
وإنما تطرق لهذه المسألة فقهاء المالكية فقط، وفي مذهبهم رأيان متقابلان، وقد وقف المعاصرون من الفقهاء إزاء هذا الخلاف المالكي في كتاباتهم وفتاواهم موقفين، هما قولان في هذه المسألة، وهذا عرض لهما:
القول الأول: أن الكساد في السلع ينقلها من حكم الإدارة إلى حكم الاحتكار (التربص) ، فلا تجب فيها الزكاة إلا مرة واحدة بعد بيعها، وذهب إلى هذا القول من فقهاء المالكية ابن الماجشون، وتبعه عليه سحنون، وهو خلاف المشهور عن مالك (1)
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ 2\125، التاج والإكليل 3\189، شرح الخرشي 2\198.(86/240)
وعلى هذا القول فالأراضي الكاسدة عند تجار العقار لا تجب فيها الزكاة إلا بعد بيعها، تزكى زكاة عام واحد، وهذا القول اختاره ومال إليه جماعة من الفقهاء المعاصرين منهم الشيخ مصطفى الزرقاء (1) والشيخ يوسف القرضاوي (2) وغيرهم.
أدلة هذا القول:
أولا: أن العروض ليست من جنس ما تجب فيه الزكاة، وإنما تجب الزكاة في قيمته مع تعبيره بالتجارة، فإذا بقي ولم ينتقل بالتجارة رجع إلى حكم الادخار الذي هو أصله (3)
ومعنى هذا الاستدلال: قياس حالة الكساد في الأراضي وغيرها من السلع على تحويل النية من التجارة إلى الاقتناء والادخار، وقد نص الفقهاء على أن التاجر إذا أفرز بعض أمواله ليأخده إلى بيته لاستعمال فيه، فإن زكاته تتوقف منذ ذلك، وحالة التربص - خلال مدة التربص - تشبه هذه ما دام المتربص لا يريد بيع المال المتربص فيه، بل تركه بمعزل عن التداول إلى أجل غير محدد (4)
وهذا الاستدلال يمكن أن يجاب عنه بما ذكره بعض المالكية:
__________
(1) فتاوى مصطفى الزرقاء 135، 136.
(2) فقه الزكاة 1\335.
(3) المنتقى شرح الموطأ 2\125.
(4) فتاوى مصطفى الزرقاء 135، 136(86/241)
فقد ذكروا: أن العروض من الأراضي وغيرها مدة الكساد مال قد ثبت له حكم الإدارة بالنية والعمل، فلا يخرج عنها إلا بالنية، أو بالنية والعمل، وليس بوار العرض من نية الادخار ولا من عمله؛ لأنه كل يوم يعرضه للبيع ولا ينتظر به سوق نفاق (1)
ومعنى هذا: أن التاجر مدة الانتظار لم يغير نيته التجارية في هذه الأراضي، بل هي مرصدة للبيع، لكنه لا يريد البيع إلا بالسعر المناسب له، فلو وجد سعرا مناسبا فإنه سيبيع في أقرب فرصة، وهذا يدل على أنه قد أرصده للبيع وأعده له.
على أن انتظار السوق والتربص بالسلع واحتكارها ليس مسقطا للزكاة في العروض من الأراضي وغيرها، إلا على قول عند المالكية، وسيأتي بيان ضعفه، وأنه مخالف لدلالة النصوص العامة، كما أنه مخالف لدلالة العقل والمصلحة.
بل ذكر بعض فقهاء المالكية فرقا بين الاحتكار والبوار، قال الخرشي: "والفرق بين الاحتكار والبوار، وإن كان في كل منهما انتظار السوق، هو أن المنتظر في الاحتكار الربح الذي له بال، وفي البوار ربح ما، أو بيع بلا خسارة" (2)
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ 2\125.
(2) الخرشي 2\198.(86/242)
ثانيا: أن المال في هذه الفترة خرج من نطاق التجارة التي تنميه، والزكاة إنما هي في المال النامي فعلا أو تقديرا كالنقود، والمال في هذه الحالة أصبح غير نام، أو متوقف النماء، كالديون غير المرجوة الوفاء (1)
ويمكن أن يجاب عن هذا بأمور:
1- أنه وإن كانت الزكاة لا تجب إلا في الأموال النامية فعلا أو تقديرا، فإن هذا لا يعني أنها لا بد أن تنمو فعلا وتربح، فالتجارة كما هو معلوم معرضة للربح والخسارة، فما دام أن للعروض قيمة سوقية حقيقية، ويمكن أن تباع وتشترى، فالزكاة واجبة فيها؛ لأن الزكاة تجب في المال النامي وما له حكم النماء، سواء نمي بالفعل أم لا، وسواء ربح أم خسر.
2- أن قياس السلعة التجارية من الأراضي وغيرها في حالة الكساد على الديون غير المرجوة قياس بعيد، إذ إن الفرق ظاهر بين المقيس والمقيس عليه، فصاحب الأرض وغيرها من العروض وقت الكساد يستطيع البيع، ويمكنه تحصيل المقابل لهذه السلعة، أما في حال الدين غير المرجو فإنه لا يمكنه الوصول إلى ما بيد المدين، فهو في الحقيقة غير تام الملك، على أن مسألة زكاة الدين مسألة خلافية قد لا يسلم
__________
(1) فتاوى مصطفى الزرقاء 135، 136.(86/243)
الخصم بسقوط الزكاة فيه، فلا يستقيم القياس حينئذ، حيث إن القياس لا يصح إلا على أصل متفق عليه.
ثالثا: أن في هذا الرأي وضعا للضرر البالغ عن التاجر المتربص، ولا سيما في العقارات، حيث يكثر فيها المشترون المتربصون في عهد التضخم النقدي العام اليوم، ثم تبقى عدة سنوات وهي لم تأت بقيمتها المرجوة، ففي هذا القول عدل، كما أن فيه تيسيرا على المكلف، ودفعا للإرهاق عنه (1)
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن العدل في تتبع نصوص الشريعة، وقد أوجب الشارع على أرباب الأموال الزكاة في عروض التجارة سواء ربحت أو خسرت، وربما كانت الزكاة سببا في حصول البركة للتاجر، وسببا في زيادة الأرباح، بل ذلك مؤكد بنص الشارع فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال (2) »
قال أهل العلم في معنى الحديث أي: "ما نقصت الصدقة شيئا من مال في الدنيا بالبركة فيه، ودفع المفسدات عنه، والإخلاف عليه بما هو أجدى وأنفع وأكثر وأطيب، {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} (3)
__________
(1) فقه الزكاة د/ القرضاوي 1\335، فتاوى مصطفى الزرقاء 135، 136.
(2) أخرجه مسلم في باب استحباب العفو والتواضع 4\2001 رقم (2588) .
(3) سورة سبأ الآية 39(86/244)
أو في الآخرة بإجزال الأجر وتضعيفه، أو فيهما، وذلك جابر لأصناف ذلك النقص" (1)
أما التيسير ورفع الحرج والضرر فهذا باب واسع، لا ينبغي التساهل فيه خاصة في واجبات الدين وأركانه الثابتة، ما لم يوجد ما يدل على هذا التيسير من دلالات النصوص الخاصة، أو المصالح المتيقنة.
ثم إن التاجر يمكنه أن يتفادى الضرر بتقليب تجارته، وتحريكها وعدم احتكارها، وفي هذا مصلحة له، قد تفوق مصلحة انتظار السعر الذي يريده منها فقط، كما أن فيه مصلحة للمستهلكين، ووضعا للضرر عن عموم الناس الذين يتمكنون من شراء العقار بأسعار مناسبة دون غلاء فاحش.
وبهذا يعلم أن هذا الاستدلال قد راعى جانب الأغنياء المزكين فقط، وترك جانب الفقراء الذين لهم حق في الزكاة، كما أنه ترك جانب مصلحة العموم من أصحاب الحاجات إلى شراء العقار، ومصلحة اقتصاد الناس في تحريك هذه الأراضي وعدم ركودها، أو بقائها السنوات الطويلة بيضاء دون استفادة منها.
القول الثاني: أن الكساد أو البوار في السلع التجارية لا يغير من حكمها شيئا، ولا ينقلها عن حكم التجارة، بل تجب فيها الزكاة كل
__________
(1) فيض القدير للمناوي 5\503، الديباج على مسلم 5\522.(86/245)
حول سواء ربحت أو خسرت، وهذا القول هو المشهور عند فقهاء المالكية وقالوا: "لا ينقلها بورانها إلى حكم القنية، ولا إلى حكم الاحتكار، بل تبقى على إدارتها" (1)
وهذا القول هو مقتضى مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة
وذهب إليه جماعة من المعاصرين منهم الشيخ ابن باز (2) وابن عثيمين (3) وغيرهما.
أدلة هذا القول:
أولا: عموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في عروض التجارة ما دامت معدة للبيع، ومن ذلك حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه المتقدم «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الصدقة من الذي يعد للبيع (4) » فهذا الحديث وشواهده الكثيرة الدالة على وجوب زكاة العروض قد
__________
(1) شرح الخرشي 2\198.
(2) مجموع فتاوى ابن باز 14\162، 163.
(3) فتاوى أحكام الزكاة ص 225.
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة؟ 2\95 رقم (1562) ، والطبراني في الكبير 7\253 رقم (7029) ، والدارقطني في كتاب الزكاة. باب زكاة مال التجارة وسقوطها عن الخيل والرقيق 2\127، 128 رقم (2027) والبيهقي في السنن الكبرى كتاب الزكاة باب زكاة التجارة 4\146 رقم (7388) ، وابن حزم في المحلى 5\234، وابن عبد البر في التمهيد 17\130، كلهم من طريق جعفر بن سعد عن خبيب بن سليمان عن أبيه، وفيه زيادة عند الدارقطني في أوله، ومدار الحديث على جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، وهذا إسناد ضعيف لما يلي: 1- فيه جعفر بن سعد، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حزم: مجهول، وقال عبد الحق – في الأحكام-: ليس ممن يعتمد عليه، وقال ابن عبد البر: ليس بالقوي، وقال ابن القطان: ما من هؤلاء من يعرف حاله – يعنى جعفرا، وشيخه وشيخ شيخه – قال الذهبي: وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروى به جملة أحاديث قد ذكر البزار منها نحو المائة، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (ليس بالقوي) . ينظر الأحكام الوسطى 2\171، بيان الوهم لابن القطان 5\139، ميزان الاعتدال 1\407، تهذيب التهذيب 2\80، التقريب (941) . 2- خبيب بن سليمان ذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن حزم: مجهول، وقال عبد الحق: ليس بقوي، قال ابن حجر: وقرأت بخط الذهبي: لا يعرف، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (مجهول) . ينظر تهذيب التهذيب 3\116، تقريب التهذيب (1700) . 3- سليمان بن سمرة بن جندب: قال عنه ابن القطان: مجهول، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (مقبول) . ينظر تهذيب التهذيب 4\173، تقريب التهذيب (2569) . فهذا كلام أهل العلم بالرجال في رواة هذا الإسناد تفصيلا، وبخصوص هذا الإسناد بعينه فقد قال الحافظ الذهبي – كما في الميزان 1\408 – لما ساق جملة من الأحاديث التي رويت بهذا الإسناد: (وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم) ، ولذا قال الحافظ ابن حجر في التلخيص 2\179: (في إسناده جهالة) ، وقال في البلوغ (ص: 112) : بإسناد لين، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفي إسناده ضعف 3\69، وقال الألباني في الإرواء 3\310: (ضعيف) . وبهذا يتبين أن أكثر أهل العلم بالحديث لا يثبت هذا الحديث، أما قول النووي: (وفي إسناده جماعة لا أعرف حالهم ولكن لم يضعفه أبو داود، وقد قدمنا أن ما لم يضعفه فهو حسن عنده المجموع 6\40، وكذا قول الشنقيطي (وهذا الحديث سكت عليه أبو داود رحمه الله ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج عنده) . أضواء البيان 2\137، فإنه اعتماد على إخراج أبي داود للحديث، وسكوته عنه والاعتماد على سكوت أبي داود غير مقبول عند جماعة من أهل العلم، لأنه ثبت أن أبا داود يسكت أحيانا عما في الصحيحين وعما هو شديد الضعف. قال الحافظ ابن حجر في النكت على كتاب ابن الصلاح 1\439-444 بعد أن ذكر أن أبا داود يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها: (فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم، ويتابعه على الاحتجاج بهم بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع فيعتضد به، أو هو غريب فيتوقف فيه؟ إلى أن قال: فالصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته)(86/246)
أوجبت الزكاة على أرباب الأموال التجارية من غير تفريق بين من ربح أو خسر في تجارته، ومن غير تفريق بين زمن الرخص والغلاء في السلع
ثانيا: أن الحكم بوجوب الزكاة في الأموال التجارية قد ثبت - عند أكثر الفقهاء - بشرطين هما النية والعمل، فلا يمكن أن يسقط هذا الوجوب إلا بتخلف النية والعمل، أو تخلف النية، والتاجر الذي خسر في تجارته أو كسدت لم يغير نية الرغبة في البيع إلى شيء آخر كالاقتناء أو الاستغلال أو نحو ذلك.
وفي عرض هذا الدليل قال الباجي: "ووجه قول مالك: أن هذا مال قد ثبت له حكم الإدارة بالنية والعمل، فلا يخرج عنها إلا بالنية، أو بالنية والعمل، وليس بوار العرض من نية الادخار ولا من عمله؛ لأنه كل يوم يعرضه للبيع ولا ينتظر به سوق نفاق" (1)
ويقول الدسوقي: "الحكم للنية، لأنه لو وجد مشتريا لباع" (2)
ثالثا: قياس كساد العروض على كساد النقود، فإن الزكاة واجبة في النقد سواء غلا أو رخص ما دام له قيمة، وكذلك الحكم في
__________
(1) الفواكه الدواني 1\332
(2) حاشية الدسوقي 1\475.(86/247)
العروض من الأراضي وغيرها، فإنها تجب فيها الزكاة بحسب قيمتها كل حول غلاء ورخصا.
رابعا: أن في هذا القول مراعاة لمقاصد الشريعة والمصالح العامة، ولعل من المناسب أن أذكر طرفا من تلك المصالح على سبيل الإيجاز (1)
1- مراعاة مصلحة الفقراء وحظهم في الزكاة، وقد ذكر الفقهاء عند ترجيحهم في مسائل الخلاف التي تدور حول سقوط الزكاة أن من أسباب رجحان بعض الأقوال أن فيها مراعاة الأحظ للفقراء، وكذلك ذكر بعض الفقهاء هنا أن في إيجاب الزكاة زمن الكساد احتياطا للزكاة (2)
2- مصلحة عامة الناس، وذلك أن التاجر عندما يعلم بوجوب الزكاة عليه في هذه الأرض فإنه سيفكر بالبيع ولو بالرخص، ولو تأملنا واقع الغلاء في الأراضي لوجدنا أن من أبرز أسبابه احتكار التاجر للأراضي الخام، وتربصه غلاء الأسعار لمدة سنوات غالبا، وإدراك التاجر أن الزكاة واجبة في هذه الأرض الكاسدة، يحفزه نحو البيع، وبهذا
__________
(1) ينظر بعض ذلك في بحث: زكاة المساهمات العقارية المتعثرة، د القاسم.
(2) التاج والإكليل 3\189.(86/248)
ينتفع الناس برخص الأراضي.
3- مراعاة مصلحة التاجر، وذلك بتشغيله المال في استثمارات أخرى أكثر نفعا من هذه العروض الكاسدة، وفي ذلك تحفيز له على تحسين وضع تجارته، وتنشيط لها، ومن هنا ندرك السر في إيجاب الشارع الحكيم الزكاة في مال اليتيم؛ لما له من أثر في تحريك ماله، وتنشيط تجارته.
4- مراعاة الجوانب الاقتصادية في البلاد، وتنشيط التجارة فيها، بتحريك سوق الأراضي بتداولها وبيعها، ووضع الاستثمارات والعمران فيها، بدلا من بقائها بيضاء السنوات الطويلة.
الراجح في المسألة:
بعد عرض هذين القولين يتبين بجلاء رجحان القول بعدم اعتبار الكساد أو البوار مسقطا لوجوب الزكاة في العروض التجارية ومنها الأراضي، وذلك لأن القول باعتبار الكساد مسقطا للزكاة قول لم يستند إلى أدلة معتبرة لا شرعية ولا عقلية، بل غاية ما فيه مراعاة حال التاجر أو الغني المزكي، ومن بعض الجهات الظاهرة فقط، وهذا معارض بمصالح كثيرة للمزكي والفقير وعموم الناس، وقد سبق ذكر طرف منها في الاستدلال.(86/249)
المطلب الثاني: سقوط الزكاة في حال تعثر المساهمات العقارية:
أصبحت المساهمات العقارية المتعثرة مجالا للحديث والجدل الواسع بين كثير من المستثمرين والمساهمين، جدلا في واقع ومسببات هذا التعثر، وجدلا في طرق الحل والعلاج الممكنة، وجدلا أحيانا حول الواجب في زكاة تلك المساهمات العقارية.
ولعلي هنا أن أعالج ما يخص هذا البحث وهو قضية الزكاة في تلك المساهمات العقارية المتعثرة، وأضرب صفحا عن المسببات وعلاجها، مكتفيا بإحالة القارئ إلى بعض الكتابات المفيدة في هذا الخصوص
وقبل الدخول في صلب المسألة لا بد من تعريف المساهمات العقارية المتعثرة، وذلك بوضع ضابط فقهي يضبط به مفهوم التعثر في تلك المساهمات العقارية، والمدة التي يحكم فيها بالتعثر لهذا العقار.
أما الضابط الفقهي لمفهوم التعثر، ففي نظري أن الأولى أن يرجع فيه إلى أهل الاختصاص من العقاريين الاقتصاديين، وقد ذكر(86/250)
بعضهم أن التعثر: (هو كل توقف في مساهمة عقارية بسبب لا يعرف متى يزول)
أما ما هي فترة التعثر؟ وهل يقال بوضع مدة محددة يضبط من خلالها الحكم بالتعثر أو التوقف؟
فالحقيقة أنه لا يمكن ضبط المساهمات العقارية المتعثرة بفترة زمنية محددة؛ إلا إذا وجد في نظام الدولة ما ينص على مثل هذا فيلزم الرجوع إليه، أما إذا لم يوجد في النظام ما يبين هذا فإن الذي يتعين هو المصير إلى العرف - خاصة عرف العقاريين - في تحديد مدة التعثر في تلك الشركات التي لم يحدد نظام الدولة مدة للحكم بتعثرها؛ وإنما يلجأ إلى العرف في ذلك لاعتبار الشارع العرف حدا في كل ما لم ينص الشرع على حده.
والناظر في أحوال التعثر في الشركات العقارية يجدها تختلف باختلاف سبب التعثر، فقد يكون سبب التعثر راجعا إلى إدارة الشركة، وقد يكون السبب طرفا خارجيا كالدوائر الحكومية ذات العلاقة، كما يختلف الحال في الشركات العقارية المتعثرة بحسب وقت التعثر أحيانا، فالتعثر قد يكون قبل شراء العقار، وقد يكون بعد شرائه(86/251)
ولكل حالة من هذه الحالة مشكلاتها وملابساتها المؤثرة في أحكامها.
وإذا كان الحال كذلك فإن حكم زكاة تلك المساهمات العقارية يختلف تبعا لاختلاف الحالة التي نتج عنها التعثر، وحال المال في تلك المساهمة، ويمكن تفصيل حالات التعثر كما يلي:
الحالة الأولى: تعثر المساهمة العقارية بسبب النصب والاحتيال من إدارة الشركة:
يحدث في بعض المجتمعات بين وقت وآخر أن توجد شركات عقارية تسعى لأكل أموال الناس عن طريق الاحتيال عليهم بطرق كثيرة، تلك المساهمات العقارية التي اكتوى بنارها بعض أبناء المجتمع، حيث أودعوا أموالا طائلة، بل قد يكون بعضهم اقترض لأجل الدخول في تلك المساهمات المغرية، ولا يستفيق كثير من الناس إلا بعد فترة، عندها يدرك أن ماله قد ذهب أدراج الرياح، وأنه صار في حكم المفقود.
والمهم هنا هل تجب الزكاة في أموال المساهمين في مثل هذه الشركات العقارية؟
الحقيقة أن هذه المسألة تشبه كثيرا مسألة زكاة المال المغصوب أو المسروق، أو ما يسميه الفقهاء بالمال الضمار خاصة بعد(86/252)
التيقن من وجود النصب والاحتيال ممن أخذ المال وفتح باب المساهمة، ولذا فهي تخرج عليها وتأخذ حكمها.
وقد أختلف العلماء في وجوب الزكاة في المال المغصوب أو المسروق لكن الصحيح الراجح - إن شاء الله - أن الزكاة لا تجب في مثل هذا المال، حتى يقبضه صاحبه ويستقبل به حولا جديدا(86/253)
قال ابن حزم: (من تلف ماله، أو غصبه، أو حيل بينه وبينه، فلا زكاة عليه فيه، أي نوع كان من أنواع المال فإن رجع إليه يوما ما استأنف به حولا من حينئذ، ولا زكاة عليه لما خلا) ..... إلى أن قال: (فكان تكليف أداء الزكاة عنه من الحرج الذي قد أسقطه الله تعالى إذ يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) (2)
وعلى هذا فمن كان داخلا في مساهمة عقارية قد اتضح أنه قد غش فيها، وأنه وقع ضحية النصب والاحتيال، ولا يدري هل يرجع إليه شيء من ماله أو لا، فلا زكاة عليه في هذه الحالة، بل إذا قبض ماله ورجع إليه كله أو بعضه استقبل به حولا جديدا، كما سبق.
الحالة الثانية: تعثر المساهمة العقارية بسبب الأنظمة الحكومية:
قد يكون السبب في تعثر بعض المساهمات العقارية وتأخرها عوائق في أنظمة الدولة، وهذه الأنظمة أما أن تكون قديمة معروفة، لكن إدارة الشركة المساهمة لم تدرك كل تلك الأنظمة أو تجاوزتها، وإما أن تكون أنظمة جديدة استحدثت أو طرأت على تلك المساهمة في وقت تنفيذها، وقد يحصل ذلك أحيانا بسب وجود خصومات أو استحقاقات على ذلك العقار، وأيا كان الحال فإن المساهمة العقارية
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) المحلى 4\209(86/254)
تتوقف وتتعثر لهذا السبب سنوات، قد تزيد على الخمس في بعض الحالات، فهل تجب زكاة على تلك العقارات في مثل هذه الحالة، أو أن حول الزكاة ينقطع بسبب ذلك التعثر؟
الظاهر والله أعلم أن حول الزكاة ينقطع بهذا التعثر؛ وذلك لأن العروض لم تعد تجارية، بل هي أشبه حينئذ بعروض القنية والادخار، ومن المقرر عند أكثر الفقهاء سقوط الزكاة عمن نوى التجارة في العروض ثم تغيرت نيته إلى الاقتناء، وأنه لا يجب عليه في هذا المال شيء. (1)
والواقع أن هذه الأراضي المجمدة من قبل الجهات الحكومية وإن لم تتغير فيها نية المالك إلا أنه لا يستطيع المتاجرة بها، فالنية قد فقدت فيها رغما عنه، والنية غير الممكنة لا تفيد شيئا.
وكما يمكن قياس هذه الحالات على انقطاع حول الزكاة بتحول النية وتغيرها، فيمكن أيضا وهو أقوى في نظري قياسها على انقطاع الحول بسبب عدم القدرة على المتاجرة بالمال بسبب أن يحول أحد بينه وبين ماله، كغصب مال التجارة أو سرقته كما سبق في الحالة الأولى.
ولا شك أن هذه المساهمات المتعثرة من قبل الدولة قد حيل
__________
(1) ينظر ما تقدم ص 215(86/255)
بينها وبين أصحابها، بحيث لا يستطيع المالك ولا وكيله التصرف في هذا المال ببيع ولا غيره.
الحالة الثالثة: تعثر المساهمة العقارية بسبب مماطلة إدارة الشركة.
قد يكون تعثر بعض المساهمات العقارية ناتجا عن سوء إدارة الشركة أو خسارتها، بحيث لا يستطيع المساهم الحصول على شيء من ماله من إدارة الشركة، وإن كان يستطيع بيع نصيبه منها أحيانا، وفي نظري أن هذه الحالة يختلف فيها حكم الزكاة بحسب إمكانية القدرة على تحصيل قيمة هذه المساهمة ببيع أسهمه منها أولا.
فإن كان يستطيع المساهم البيع، يعنى بيع حصته من المساهمة ولو بخسارة، فيجب عليه في مثل هذه الحالة الزكاة كل حول، بعد معرفة القيمة السوقية لأسهمه في هذه الشركة، ذلك أن هذا التعثر أشبه ما يكون بالكساد في السلعة، وقد سبق بيان أن الراجح وجوب الزكاة فيها كل سنة. (1)
أما إن كان لا يستطيع البيع لأسهمه ولا يستطيع الحصول على النقد من إدارة الشركة بسبب المماطلة فالظاهر في مثل هذه الحالة تخريجها على مماطلة المدين لدائنه.
ووجه ذلك: أن كلا من الشركة العقارية الماطلة، والمدين
__________
(1) راجع ص 238(86/256)
المماطل قد حبس المال عنده، بحيث إن ربه لا يستطيع التصرف فيه ولا تنميته.
وفي حكم الزكاة للدين عند المدين المماطل خلاف بين أهل العلم والراجح فيه أن الدين عند المماطل لا تجب فيه الزكاة، إلا إذا قبضه صاحبه زكاه لعام واحد فقط.
وعليه فمن كانت عنده مساهمة من هذا النوع ولم يستطع بيعها، ولا الحصول على قيمتها من الشركة، عليه أن يزكي قيمة ذلك المال إذا قبضه لعام واحد فقط.
وبذلك يعلم أنه لا نستطيع أن نحكم بانقطاع حول الزكاة(86/257)
للمساهمة المتعثرة إذا كان سبب تعثرها من إدارة الشركة بسوء التصرف أو المماطلة إلا بعد التأكد من عدم القدرة على الحصول على قيمة لهذه الأسهم من غير إدارة الشركة، أي عدم القدرة على بيعها في السوق.(86/258)
الخاتمة:
الحمد لله الذي يسر وأنعم، أحمده سبحانه فهو أهل الحمد ومستحقه، وما بكم من نعمة فمن الله، من سبحانه بتمام هذا الجهد الذي أرجوه في علاه أن يجعله مباركا نافعا لعباده، مقربا إليه في جنته، وصلى الله وسلم وبارك على معلم البشرية الخير، وأنفع الناس للناس، صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فهذه خاتمة البحث، وهي كالخلاصة له، أقف مع القارئ فيها على أهم النتائج وأبرزها على وجه الإجمال:
أولا: أن وجوب الزكاة في الأراضي مرتبط ارتباطا كاملا بنية المالك لها، ولذا فإن حكم الزكاة يختلف في الأراضي المملوكة بحسب النية في ملكيتها، فقد تكون النية تجارية فحينئذ تجب الزكاة، وقد تكون النية للانتفاع بالسكن ونحوه فلا تجب، وكذلك لو كانت النية للاستغلال بالإجارة أو الزراعة ونحوها.(86/258)
ثانيا: أن من أكثر مسائل زكاة الأراضي إشكالا مسألة النية ومعناها، وقد تبين أن معنى النية التجارية في الأرض هو تحري البيع لقصد الربح، لا مجرد قصد البيع للتخلص من الأرض لعدم الرغبة فيها، وأن التردد أو عدم الجزم بالنية أو جمع نية غير التجارة معها كل ذلك يسقط حكم النية، ومن ثم يسقط الزكاة في الأرض، كما تبين أنه لا تأثير لتأجيل نية البيع ما دامت الأرض مرصدة للتجارة، والمقصود منها نماء المال، كما تبين أنه لا يشترط في نية التجارة للبيع الإعلان عنها بأي وسيلة إعلانية.
ثالثا: أن تغيير النية المقصودة من شراء الأرض بجعلها للتجارة بعد أن كانت للانتفاع، أو العكس يغير حكم الزكاة فيها، تبعا للنية المتأخرة لكن ذلك لا يجوز إذا كان المقصود منه الفرار من الزكاة، والتحايل لإسقاطها كما أنه لا يسقطها على الصحيح.
رابعا: أن اشتراط الشراء للأرض مع مصاحبة نية التجارة قد ذكره أكثر أصحاب المذاهب، إلا أنه شرط لا دليل عليه، والأصل عدم الشرط فتجب الزكاة في الأرض بمجرد جعلها للتجارة من غير نظر إلى طريقة التملك أو كون النية مصاحبة له في أول الأمر.
خامسا: أن الكساد أو الخسارة الكبيرة في الأراضي لا يخرجها عن حكم الزكاة، وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم، من السلف والخلف.
سادسا: أن حكم الزكاة في الشركات العقارية المتعثرة يختلف(86/259)
بحسب واقع الشركة المتعثرة، فتجب الزكاة في بعض حالات التعثر، وهي الحالات المشبهة لحالات الكساد، ولا تجب في بعض الحالات التي يكون المال فيها أشبه بالمفقود.
سابعا: أن القدر الواجب في زكاة الأرض هو ربع عشر قيمتها وقت إخراج الزكاة نهاية الحول فيخرج الزكاة نقودا، ويجوز أن يخرجها أراضي إذا لم يترتب على ذلك مفسدة أو ضرر بأهل الزكاة، والزكاة في الأراضي واجبة كل حول سواء كانت معروضة للتجارة كل وقت أو محتكرة ينتظر فيها المالك ربحا في المستقبل، وهذا قول أكثر أهل العلم لكن من لم يتمكن من إخراج الزكاة لعدم توفر النقد وعدم إمكانية البيع كما يحصل لبعض الشركات العقارية، فإنه يجوز تأخير الزكاة إلى وقت الإمكان وتقدر قيمتها كل سنة على حدة.
وفي الختام فإني أرى أن موضوع زكاة الأراضي من الموضوعات المشكلة التي يحتاج في طرحها إلى رؤية فاحصة، وتقدير صحيح للواقع مما يوجب على المجامع الفقهية والهيئات الشرعية ولجان الفتوى دراسة مشكلاتها، وبيان أصول الحكم فيها، حتى تخرج فيها قرارات شبه إجماعية، يعتمد عليها الناس في تجارتهم العقارية.
هذا والله أعلم وأحكم، وصلى الله وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.(86/260)
ضوابط قيم السلوك مع الله عند ابن قيم الجوزية
لفضيلة الدكتور مفرح بن سليمان بن عبد الله القوسي (1)
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
تعد (قيم السلوك مع الله) من أهم القضايا السلوكية والفكرية العقدية التي خاض فيها كثير من أصحاب التصوف البدعي،
__________
(1) أستاذ الثقافة الإسلامية المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض(86/261)
فانحرفوا بها عن المنهج الصحيح الذي جاء به الإسلام.
ويعد الإمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله - من رواد المدرسة السلفية في دراسة هذه القضية ومعالجتها وإيضاح حدودها وتحديد معالمها وفق منهج الإسلام.
ويهدف هذا البحث إلى استجلاء موقف ابن القيم رحمه الله من هذه القضية، من خلال التتبع الدقيق لما أورده من ضوابط دقيقة لهذه القضية في كتبه المتعددة، أمثال مدارج السالكين، وطريق الهجرتين، والفوائد، وروضة المحبين، وعدة الصابرين، والوابل الصيب، وإغاثة اللهفان، والرسالة التبوكية، وذلك إسهام مني:
1- في إيضاح معالم الطريق الصحيح الذي ينبغي أن يسلكه المسلم في سلوكه مع الله تعالى وكيفية عبادته له سبحانه.
2- وفي التحذير من المزالق الفكرية والسلوكية التي انحدر إليها كثير ممن جهلوا منهج الإسلام الصحيح وتأثروا بأصحاب الأفكار والمناهج المنحرفة، قياما بحق الأمانة في العلم وواجب النصيحة في الدين.(86/262)
خطة البحث:
تتكون خطة البحث من: مقدمة، وتمهيد، وسبعة مباحث، وخاتمة.
أما المقدمة: فتشتمل على بيان أهمية موضوع البحث، وأهدافه، وخطته، ومنهجه.
وأما التمهيد: فيشمل على أمرين:
الأول: ترجمة موجزة لابن قيم الجوزية.
الثاني: التعريف بمصطلحات البحث الأساسية.
وأما المبحث الأول: فهو في الإيمان بالله تعالى.
وأما المبحث الثاني: فهو في العبودية الخالصة لله تعالى.
وأما المبحث الثالث: فهو في الالتزام بالكتاب والسنة والتحاكم إليهما.
وأما المبحث الرابع: فهو في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.
وأما المبحث الخامس: فهو في تعلم العلم الشرعي.
وأما المبحث السادس: فهو في الالتزام بأداء التكاليف الشرعية.
وأما المبحث السابع: فهو في اجتناب الذنوب والمعاصي.
وأما الخاتمة: ففيها رصد لأبرز نتائج البحث العلمية.(86/263)
منهج البحث:
تقتضي طبيعة الدراسة الجمع بين المنهج الاستنباطي والمنهج التحليلي الوصفي، وذلك بالتتبع الدقيق والبحث والتنقيب عن آراء ابن القيم المتفرقة في كتبه ورسائله الكثيرة والمتعددة، وذلك في المسائل والموضوعات محل الدراسة، ثم الاجتهاد في دراستها وتحليلها وتصنيفها وردها إلى العناصر المكونة لها لاستخلاص النتائج العلمية منها.
مع عنايتي بما يلي:
1- ترقيم الآيات القرآنية وبيان سورها.
2- تخريج الأحاديث النبوية وبيان ما ذكره أهل الشأن في درجتها إذا لم تكن في الصحيحين أو أحدهما، فإن كانت كذلك اكتفيت حينئذ بتخريجهما.
3- الترجمة للأعلام الواردة أسماؤهم في البحث ممن لهم علاقة وثيقة بالبحث عدا المشهورين منهم ككبار الصحابة والأئمة الأربعة.
4- ذكر البيانات الكاملة لكل مصدر أو مرجع في الحاشية عند أول وروده في البحث من حيث بيان: عنوان الكتاب، واسم مؤلفه، واسم محققه - إن كان محققا -، وعدد الطبعة(86/264)
وتاريخها، واسم الناشر، ومكان النشر.
وبعد: فهذا جهد بشر فما كان فيه من حق وصواب فمن الله وحده، وله الحمد والثناء على توفيقه، وما كان فيه من خطأ وزلل وتقصير فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله وأتوب إليه من ذلك.
والله أسأل أن يلهمني الرشد والصواب، وأن يرزقني إخلاص النية وصلاح العمل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.(86/265)
التمهيد
أولا: ترجمة موجزة لابن قيم الجوزية(86/265)
هو الإمام الرباني والعالم والفقيه الجليل أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر أيوب بن سعد بن حريز الزرعي (1) الدمشقي الحنبلي، ولد بدمشق في اليوم السابع من شهر صفر سنة 691 هـ، ونشأ في بيت علم ودين وفضل:
فوالده أبو بكر بن أيوب، عالم جليل ورجل تقي صالح، كان قيما على المدرسة الجوزية بدمشق ولذا اشتهر بلقب (قيم الجوزية) ، كما اشتهر بها أبناؤه وذريته من بعده فيقال للواحد منهم ولا سيما إمامنا شمس الدين محمد بن أبي بكر (ابن قيم الجوزية) .
وأخوه زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي بكر إمام عالم، تتلمذ على يديه كثير من العلماء منهم الحافظ ابن رجب الحنبلي.
ولزين الدين عبد الرحمن هذا ابن فاضل هو أبو الفداء عماد الدين إسماعيل، اقتنى أكثر مكتبة عمه شمس الدين ابن القيم بعد وفاته.
وقد امتد هذا التوجه العلمي في أبناء الإمام شمس الدين بن
__________
(1) الزرعي: نسبة إلى (زرع) ، وهي قرية صغيرة من بلاد حوران، وتسمى اليوم (أزرع) ، وتقع جنوبي دمشق(86/266)
القيم، فابنه شرف الدين عبد الله، كان مفرط الذكاء ومن العلم والصلاح بمكان، تتلمذ على والده وتولى التدريس في مكانه بعد وفاته. وابنه برهان الدين إبراهيم علامة نحوي فقيه متقن، أخذ العلم عن أبيه وغيره، وأفتى ودرس وألف وناظر.
توجه ابن القيم لطلب العلم وتحصيله منذ صغره، فقد بدأ السماع من شيوخه وهو في السابعة من عمره ثم لم يزل يثابر في طلب العلم ويترقى في درجاته حتى حاز علما جما وبلغ فيه منزلة رفيعة، حيث درس علوم الشريعة وعلوم الآلة على كبار العلماء المتبحرين في العلم، أمثال: شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلبكي، وصفي الدين محمد بن عبد الرحيم الأربوي، وتقي الدين سليمان بن قدامة المقدسي، وتقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، ومجد الدين إسماعيل بن محمد الفراء الحراني، وزين الدين أيوب بن نعمة النابلسي الدمشقي.
وقد سلك ابن القيم - رحمه الله - مسالك علماء السلف في عقيدته، فقررها في عامة كتبه أحسن تقرير، ودعا إليها ورد على المخالفين لها، وبين ذلك أحسن بيان في قصيدته النونية المشهورة(86/267)
المعروفة بـ (الكافية في الانتصار للفرقة الناجية) ، ولقد كانت كتبه وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية - ولم تزل - مرجعا معتمدا في تقرير عقيدة السلف في مسائل التوحيد والغيب والنبوات وأركان الإيمان وأفعال العباد وغيرها من قضايا الاعتقاد.
وأما مذهبه الفقهي فهو مذهب الحنابلة كأسلافه وعقبه من العلماء، ووصفه بعض من ترجم له من العلماء بالمجتهد المطلق وقد امتاز - رحمه الله - في دراساته واختياراته الفقهية باتباعه للدليل وترك ما خالفه كائنا من كان قائله ومحاربته للتقليد وتشنيعه على المقلدة (1) واحترام الأئمة ومعرفة فضلهم ونصحهم لله ورسوله، واجتناب تنقصهم أو الوقيعة فيهم، مع ترك ما جانب الصواب - في نظره - من أقوالهم (2)
اشتغل بالتأليف حيث أولاه جل عنايته فجاءت مؤلفاته وافرة
__________
(1) وقد بسط الكلام في ذلك في كتابه (أعلام الموقعين) ، راجع على سبيل المثال: ج2\ص187 وما بعدها
(2) راجع: المصدر السابق، ج3\ص283، والبدر الطالع، ج2\ص143-145(86/268)
العدد كثيرة النفع قيمة المحتوى، وعلى درجة عالية من التحرير والإتقان والتأصيل.
ومن أشهر هذه المؤلفات: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، وروضة المحبين ونزهة المشتاقين، وطريق الهجرتين وباب السعادتين، وعدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، ومفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، وإغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، والفوائد، والروح، وأحكام أهل الذمة، واجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، وغيرها كثير.
أوذي رحمه الله وسجن لصدعه بالحق وإنكاره بعض ما كان شائعا في عصره من مخالفات، وتوفي ليلة الخميس في الثالث عشر من رجب سنه 751هـ، وقت أذان العشاء، وصلي عليه من الغد بعد صلاة الظهر بالجامع الأموي ثم بجامع الجراح، وقد كانت جنازته حافلة شهدها القضاة والأعيان والصالحون، وتزاحم الناس على حمل نعشه، ودفن بمقبرة الباب الصغير بدمشق عند والدته رحمهما الله تعالى.(86/269)
ثانيا: التعريف بمصطلحات البحث الأساسية:
1- القيم:
القيم في اللغة: جمع قيمة، وهي مأخوذة من الاستقامة، يقال: أقمت الشيء وقومته فقام أي استقام، ومنه قوله تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} (1) أي: مستقيمة تبين الحق من الباطل على استواء وبرهان
وجاء في القاموس المحيط: القوام: العدل وما يعاش به، والقوام: نظام الأمر وعماده وملاكه، واستقام: اعتدل
وعرفت (القيم) في الاصطلاح بتعريفات عدة لعل من أبرزها: أنها (حكم يصدره الإنسان على شيء ما مهتديا بمجموعة المبادئ والمعايير التي ارتضاها الشرع، محددا المرغوب فيه والمرغوب عنه من السلوك (2)
__________
(1) سورة البينة الآية 3
(2) علم النفس الاجتماعي – للدكتور حامد زهران، ص132، ط الرابعة 1977م، عالم الكتب – القاهرة(86/270)
إلا أنه يلاحظ على هذا التعريف أنه يجعل من القيم أحكاما وليس الأمر كذلك، بل هي صفات ومعان خيرة نستطيع من خلالها وجودا وعدما أن نحكم على الأقوال والأفعال والأشياء بالخير والشر والحسن والقبح، ومن ثم بالقبول والرد.
والأفضل في تعريف القيم في الإسلام أن يقال: (إنها صفات ذاتية في طبيعة الأقوال والأفعال والأشياء، مستحسنة بالفطرة والعقل والشرع)
- فالقيم صفات ومعان تختلف بحسب ما تنسب إليه، فقد تكون فكرية أو سلوكية أو غيرها. وهي ذاتية في الأشياء، ولذا فهي ثابتة ومطلقة لا تتغير بتغير الظروف أو باختلاف من يصدر الحكم عليها.
ومستحسنة بالفطرة والعقل والشرع، أي إن العقول والفطر جبلت على تعظيمها والميل إليها، وقد جاء الشرع بما يتفق مع الفطر السليمة والعقول المستقيمة)(86/271)
2- السلوك:
السلوك مصدر سلك طريقا، وسلك المكان وبه وفيه سلكا وسلوكا: دخل ونفذ، وسلك الشيء في الشيء وبه: أدخله. وسلك فلانا المكان: أدخله إياه. والمسلك: الطريق ومنه مسالك المياه.
والسلوك: سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسن السلوك أو سيء السلوك.
والسلوك عند ابن القيم - رحمه الله - هو سلوك الطريق إلى الله عز وجل، وذلك بتهذيب النفوس وتزكيتها وتطهير القلوب ومعالجة أمراضها، لتسعد بسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى ومعية من تحبه، فإن المرء مع من أحب.
وعليه فالمراد بقيم السلوك هنا: الصفات السلوكية الذاتية الخيرة التي يقتضيها الشرع والعقل والفطرة في صلة العبد بربه، وعبادته إياه وسلوك الطريق إليه سبحانه.
وقد جعل ابن القيم قدوته ورائده في طريقه للوصول إلى الله(86/272)
تعالى إمام المتقين محمدا صلى الله عليه وسلم، فنهج نهجه وسلك طريقه الحنيف الذي سنه لأمته، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) وسمع نداء الحق تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) فلم تغره الدنيا بزخارفها ولم تلهه بعلائقها، وأحب لقاء الله فجد واجتهد في سيره الحثيث إليه، وعني برسم معالم ذلك الطريق وتوضيح منازله ومقاماته وأحواله ووسائل السير فيه، وذلك في العديد من كتبه، ولا سيما كتابه (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين) ، الذي جاء شرحا ممتعا وافيا وسهلا ميسرا لكتاب (منازل السائرين) لأبي إسماعيل عبد الله الهروي حاول فيه ابن القيم إبراز ما يحويه هذا الكتاب من حق وخير وزيادتهما بيانا وإيضاحا، وتهذيب ما يشوبه من شطحات
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31
(2) سورة الأنعام الآية 153(86/273)
وتقويم ما فيه من هنات، وبين - رحمه الله - قيم السلوك مع الله، والتي يسميها منازل العبودية أو منازل السير إلى الله والتي من أبرزها: قيم التوبة، والإنابة، والخوف، والرجاء، والورع، والزهد، والمراقبة والإخلاص، والاستقامة، والتوكل، والصبر، والصدق، والحياء، والذكر، والمحبة، والإخبات، والمحاسبة.
ضوابط قيم السلوك مع الله عند ابن القيم:
توطئة:
يرى ابن القيم أنه لا يتأتى للسالك السير في الطريق إلى الله تعالى، ولا يصح له ذلك إلا بالالتزام بشروط عديدة والانضباط بضوابط دقيقة، يتمثل أهمها في ما يلي:
أولا: الإيمان بالله تعالى.
ثانيا: العبودية الخالصة لله تعالى.
ثالثا: الالتزام بالكتاب والسنة والتحاكم إليهما.
رابعا: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.
خامسا: تعلم العلم الشرعي.(86/274)
سادسا: الالتزام بأداء التكاليف الشرعية.
سابعا: اجتناب الذنوب والمعاصي.
وسأتناول - إن شاء الله - كل واحد من هذه الضوابط السبعة في مبحث مستقل، وذلك على النحو التالي:(86/275)
المبحث الأول: الإيمان بالله تعالى:
أول ما يجب على العبد ليصح سيره إلى الله تعالى: أن يكون مؤمنا به سبحانه، فالإيمان أساس الأعمال الصالحة وقاعدة بنيانها، (ومن أراد علو بنيانه فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه وشدة الاعتناء به، فإن علو البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه فالأعمال والدرجات بنيان، وأساسها الإيمان، ومتى كان الأساس وثيقا حمل البنيان واعتلى عليه، وإذا تهدم شيء من البنيان سهل تداركه، وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبت، وإذا تهدم شيء من الأساس سقط البنيان أو كاد. فالعارف همته تصحيح الأساس وإحكامه، والجاهل يرفع في البناء من غير أساس فلا يلبث بنيانه أن يسقط، قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1)
__________
(1) سورة التوبة الآية 109(86/275)
والأساس لبناء الأعمال كالقوة لبدن الإنسان، فإذا كانت القوة قوية حملت البدن ودفعت عنه كثيرا من الآفات، وإذا كانت القوة ضعيفة ضعف حملها للبدن وكانت الآفات إليه أسرع شيء
ويبين - رحمه الله - حقيقة هذا الأساس المتمثل بالإيمان فيقول: (وهذا الأساس أمران:
الأول: صحة المعرفة بالله وأمره وأسمائه وصفاته.
والثاني: تجريد الانقياد له ولرسوله دون ما سواه.
فهذا أوثق أساس أسس العبد عليه بنيانه، وبحسبه يعتلي البناء ما شاء) (1)
ويؤكد على أنه لا يتحقق الإيمان إلا بتضافر أربعة أمور هي:
قول القلب، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح، فنراه يقول: (حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل، والقول قسمان:
- قول القلب، وهو الاعتقاد.
- وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام.
والعمل قسمان:
- عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه.
__________
(1) المصدر السابق(86/276)
- وعمل الجوارح.
فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة.
وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق، فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة، فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب، وهو محبته وانقياده، كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول، بل ويقرون به سرا وجهرا ويقولون: ليس بكاذب ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به.
وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب، فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولا سيما إذا كان ملزوما لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم، فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح، إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت. ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان فإن الإيمان ليس مجرد التصديق، وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد (1)
__________
(1) كتاب الصلاة، ص29-30، ط الرابعة 1407هـ المكتبة القيمة – القاهرة(86/277)
ويقول أيضا: (الإيمان له ظاهر وباطن. وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته. فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن به الدماء وعصم به المال والذرية، ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف وهلاك. فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان ونقصه دليل نقصه، وقوته دليل قوته.
فالإيمان قلب الإسلام ولبه، واليقين قلب الإيمان ولبه. وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول (1)
ومدار الإيمان في نظره على أصلين اثنين:
أحدهما: التصديق بخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: طاعة أوامرهما.
ويتبع هذين الأصلين أمران هما:
رد شبهات الباطل التي توحيها شياطين الجن والإنس في معارضة الخير.
ومجاهدة النفس في دفع الشهوات التي تحول بين العبد وكمال الطاعة. (2)
__________
(1) الفوائد، ص117
(2) انظر: مفتاح دار السعادة، ص195-196، ط عام 1416هـ -1995 م دار الكتب العلمية- بيروت(86/278)
المبحث الثاني: العبودية الخالصة لله تعالى:
لا بد للسالك أن يحقق العبودية التامة لله تعالى بأن تكون صلاته ونسكه ومحياه ومماته وجميع أعماله لله لا شريك له، وأن يفرغ قلبه من عبادة غير الله ويملؤه بعبادة الله وحده، فإذا حقق ذلك قرب من الله وغمره سبحانه بالرحمة والسعادة وأفاض عليه العلم، يقول سبحانه عن موسى وفتاه {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (1) .
يقول ابن القيم عن إخلاص العبادة لله: (هو الغاية التي شمر إليها السالكون، وأمها القاصدون، ولحظ إليها العاملون ... ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول: (من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية) . وقال بعض العارفين: (لا طريق أقرب إلى الله من العبودية) (2)
ويقول أيضا: (لا بد للسالك من تكميل عبودية الله عز وجل في الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلها في محبوبات الله وكمال عبودية العبد: موافقته لربه في محبته ما أحبه، وبذل الجهد في فعله،
__________
(1) سورة الكهف الآية 65
(2) مدارج السالكين، ج1\ص326(86/279)
وموافقته في كراهة ما كرهه، وبذل الجهد في تركه. وهذا إنما يكون للنفس المطمئنة لا للأمارة ولا للوامة، فهذا كمال من جهة الإرادة والعمل.
وأما من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرته منفتحة في معرفة الأسماء والصفات والأفعال، له شهود خاص فيها مطابق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا مخالف له، فإنه بحسب مخالفته له في ذلك يقع الانحراف، ويكون ذلك قائما بأحكام العبودية الخاصة التي تقتضيها كل صفة بخصوصها، وهذا سلوك الأكياس الذين هم خلاصة العالم، والسالكون على هذا الدرب أفراد من العالم، وهذا الدرب طريق آمن أكثر السالكين في غفلة عنه، وهو أيضا طريق سهل قريب موصل، ولكنه يستدعي رسوخا في العلم ومعرفة تامة به وإقداما على رد الباطل المخالف له ولو قاله من قاله. وليس عند أكثر الناس سوى رسوم تلقوها عن قوم معظمين عندهم، ثم لإحسان ظنهم بهم قد وقفوا عند أقوالهم ولم يتجاوزوها فصارت حجابا لهم وأي حجاب.
فمن فتح الله عليه بصيرة قلبه وإيمانه حتى خرقها وجاوزها إلى مقتضى الوحي والفطرة والعقل فقد أوتي خيرا كثيرا، ولا يخاف عليه إلا من ضعف همته. فإذا انضاف إلى ذلك الفتح همة عالية فذاك السابق حقا، واحد الناس في زمانه، لا يلحق شأوه ولا يشق غباره، فشتان ما بين من يتلقى أحواله ووارداته عن الأسماء والصفات وبين من يتلقاها عن الأوضاع الاصطلاحية والرسوم أو عن مجرد ذوقه(86/280)
ووجده، إذا استحسن شيئا قال: هذا هو الحق.
فالسير إلى الله من طريق الأسماء والصفات شأنه عجب وفتحه عجب، صاحبه قد سيقت له السعادة وهو مستلق على فراشه غير تعب ولا مكدود ولا مشتت عن وطنه ولا مشرد عن سكنه {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (1) (2)
ويعقد في كتابه (مدارج السالكين) فصلا في (لزوم إياك نعبد لكل عبد إلى الموت) ، يقول فيه: (قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (3) ، وقال أهل النار {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} (4) {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} (5) واليقين هاهنا: الموت بإجماع أهل التفسير ... ، فلا ينفك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف، بل عليه في البرزخ عبودية أخرى لما يسأله الملكان: من كان يعبد؟ وما يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ويلتمسان منه الجواب. وعليه عبودية أخرى يوم القيامة، يوم يدعو الله الخلق كلهم إلى السجود فيسجد المؤمنون ويبقى الكفار
__________
(1) سورة النمل الآية 88
(2) طريق الهجرتين، ص393-394، تحقيق يوسف علي بديوي، ط الأولى 1414هـ - 1993م، دار ابن كثير دمشق
(3) سورة الحجر الآية 99
(4) سورة المدثر الآية 46
(5) سورة المدثر الآية 47(86/281)
والمنافقون لا يستطيعون السجود، فإذا دخلوا دار الثواب والعقاب انقطع التكليف هناك، وصارت عبودية أهل الثواب تسبيحا مقرونا بأنفاسهم لا يجدون له تعبا ولا نصبا. (1)
ويبين ابن القيم قيمة (العبودية الخالصة لله) ، وقدرها، فيقول: (جميع الرسل إنما دعوا إلى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) فإنهم كلهم دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته من أولهم إلى آخرهم، فقال نوح لقومه {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (3) ، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وإبراهيم. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (4) ، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (5) ، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (6) {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (7) .
__________
(1) مدارج السالكين، ج1\ص87
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة الأعراف الآية 59
(4) سورة النحل الآية 36
(5) سورة الأنبياء الآية 25
(6) سورة المؤمنون الآية 51
(7) سورة المؤمنون الآية 52(86/282)
والله تعالى جعل (العبودية) وصف أكمل خلقه وأقربهم إليه، فقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} (1) ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (2) ، وقال تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (3) ، وقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (4) ، وقال: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} (5) ، وقال عن سليمان: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (6) ، وقال عن المسيح: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} (7) ، فجعل غاية العبودية لا الإلهية كما يقول أعداؤه النصارى، ووصف أكرم خلقه عليه وأعلاهم عنده منزلة بالعبودية في أشرف مقاماته، فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (8) ،
__________
(1) سورة النساء الآية 172
(2) سورة الأعراف الآية 206
(3) سورة ص الآية 17
(4) سورة ص الآية 41
(5) سورة ص الآية 45
(6) سورة ص الآية 30
(7) سورة الزخرف الآية 59
(8) سورة البقرة الآية 23(86/283)
وقال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (1) ، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} (2) فذكره بالعبودية في مقام إنزال الكتاب عليه، وفي مقام التحدي بأن يأتوا بمثله، وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} (3) فذكره بالعبودية في مقام الدعوة إليه، وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4) فذكره بالعبودية في مقام الإسراء ... ، وجعل الله سبحانه البشارة المطلقة لعباده، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي} (5) {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (6) ، وجعل الأمن المطلق لهم، فقال تعالى: {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} (7) {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} (8) ، وعزل الشيطان عن سلطانه عليهم خاصة، وجعل سلطانه
__________
(1) سورة الفرقان الآية 1
(2) سورة الكهف الآية 1
(3) سورة الجن الآية 19
(4) سورة الإسراء الآية 1
(5) سورة الزمر الآية 17
(6) سورة الزمر الآية 18
(7) سورة الزخرف الآية 68
(8) سورة الزخرف الآية 69(86/284)
على من تولاه وأشرك به، فقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (1) ، وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} (3) ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم إحسان العبودية أعلى مراتب الدين، وهو الإحسان فقال في حديث جبريل - وقد سأله عن الإحسان-: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (4) » (5)
والعبودية المطلوبة هنا: عبودية الطاعة والمحبة، لا عبودية القهر والملك والغلبة. ذلك أن العبودية في نظر ابن القيم نوعان: عبودية عامة، وعبودية خاصة.
(فالعبودية العامة: عبودية أهل السماوات والأرض كلهم لله، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، فهذه عبودية القهر والملك، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} (6) {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} (7) {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} (8) {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} (9) {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} (10) {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (11)
__________
(1) سورة الحجر الآية 42
(2) سورة النحل الآية 99
(3) سورة النحل الآية 100
(4) رواه مسلم في صحيحه في كتاب (الإيمان) ، باب (الإيمان والإسلام والإحسان) ، ج1\ص157، ط دار الريان – القاهرة
(5) مدارج السالكين ج1\ص85-87
(6) سورة مريم الآية 88
(7) سورة مريم الآية 89
(8) سورة مريم الآية 90
(9) سورة مريم الآية 91
(10) سورة مريم الآية 92
(11) سورة مريم الآية 93(86/285)
فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم.
والعبودية الخاصة: عبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر، قال تعالى: {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} (1) ، وقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي} (2) {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) ، وقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (4) ... ، فالخلق كلهم عبيد ربوبيته. وأهل طاعته وولايته هم عبيد إلهيته.
ولا يجيء في القرآن إضافة العباد إليه مطلقا إلا لهؤلاء، وأما وصف عبيد ربوبيته بالعبودية فلا يأتي إلا على أحد خمسة أوجه:
الأول: إما منكرا، كقوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (5) .
والثاني: معرفا باللام، كقوله: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} (6) .
__________
(1) سورة الزخرف الآية 68
(2) سورة الزمر الآية 17
(3) سورة الزمر الآية 18
(4) سورة الفرقان الآية 63
(5) سورة مريم الآية 93
(6) سورة غافر الآية 48(86/286)
الثالث: مقيدا بالإشارة ونحوها، كقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} (1) .
الرابع: أن يذكروا في عموم عباده، فيندرجوا مع أهل طاعته في الذكر، كقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (2) .
الخامس: أن يذكروا موصوفين بفعلهم، كقوله: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (3) .
وإنما انقسمت العبودية إلى خاصة وعامة، لأن أصل معنى اللفظة: الذل والخضوع، يقال: طريق معبد، إذا كان مذللا بوطء الأقدام.
وفلان عبده الحب، إذا ذلله لكن أولياء الله خضعوا له وذلوا طوعا واختيارا وانقيادا لأمره ونهيه. وأعداؤه خضعوا له قهرا ورغما) (4)
وللعبودية - عند ابن القيم - مراتب بحسب العلم والعمل.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 17
(2) سورة الزمر الآية 46
(3) سورة الزمر الآية 53
(4) المصدر السابق، ج1\ص88-89(86/287)
أما مراتبها بحسب العلم فمرتبتان:
إحداهما: العلم بالله.
والثانية: العلم بدينه.
والعلم بالله سبحانه خمس مراتب: العلم بذاته، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتنزيهه عما لا يليق به.
والعلم بدينه مرتبتان:
إحداهما: دينه الأمري الشرعي، وهو الصراط المستقيم الموصل إليه.
والثانية: دينه الجزائي، المتضمن ثوابه وعقابه. وقد دخل في هذا العلم: العلم بملائكته وكتبه ورسله.
وأما مراتب العبودية بحسب العمل فمرتبتان:
مرتبه لأصحاب اليمين.
ومرتبة للسابقين المقربين.
أما مرتبة أصحاب اليمين: فأداء الواجبات، وترك المحرمات، مع فعل المباحات وبعض المكروهات، وترك المستحبات.
وأما مرتبة المقربين: فالقيام بالواجبات والمندوبات، وترك المحرمات والمكروهات، زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم، متورعين عما يخافون ضرره.
وخاصتهم قد انقلبت المباحات في حقهم طاعات وقربات(86/288)
بالنية، فليس في حقهم مباح متساوي الطرفين، بل كل أعمالهم راجحة. ومن دونهم يترك المباحات مشتغلا عنها بالعبادات، وهؤلاء يأتونها طاعات وقربات.
ولأهل هاتين المرتبتين درجات لا يحصيها إلا الله. (1)
__________
(1) المصدر السابق، ج1\ص90، بتصرف يسير(86/289)
المبحث الثالث: الالتزام بالكتاب والسنة والتحاكم إليهما:
لا بد للسالك من الالتزام بما جاء في الكتاب والسنة ليصح سيره إلى الله تعالى، وقد أكد ابن القيم على ذلك في العديد من كتبه، وعني أشد العناية، ومن ذلك أنه:
أ) أورد بعض النصوص الشرعية الدالة على وجوب اتباع الكتاب والسنة، وبين وجه دلالة كل منها على هذا الوجوب، فنراه يقول: (قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (1) ، فدل هذا على أنه إذا ثبت لله ولرسوله في كل مسألة من المسائل حكم طلبي أو خبري فإنه ليس لأحد أن يتخير لنفسه غير ذلك فيذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا لمؤمنة أصلا فدل على أن ذلك مناف للإيمان.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36(86/289)
وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (1) ، فأخبر سبحانه أن الهداية في طاعة الرسول لا في غيرها، فإنه معلق بالشرط فينتفي بانتفائه، ... فالآية نص على انتفاء الهداية عند عدم طاعته....
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) ، فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله، وافتتح الآية بندائهم باسم الإيمان المشعر بأن المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نودوا وخوطبوا به ... ، ففي ذلك إشارة إلى أنكم إن كنتم مؤمنين، فالإيمان يقتضي منكم كذا وكذا، فإنه من موجبات الإيمان وتمامه. وتحت قوله سبحانه {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (3) سر لطيف، وهو: دلالته على أن ما يأمر به رسوله تجب طاعته فيه، وإن لم يكن مأمورا به بعينه في القرآن، فتجب طاعة الرسول مفردة ومقرونة. فلا يتوهم متوهم أن ما يأمر به الرسول إن لم يكن في القرآن لا تجب طاعته فيه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته
__________
(1) سورة النور الآية 54
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة النساء الآية 59(86/290)
يأتيه الأمر من أمري فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه من شيء اتبعناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه (1) »
ثم قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) ، وهذا دليل قاطع على أنه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله إلى الله ورسوله لا إلى أحد غير الله ورسوله، فمن أحال الرد على غيرهما فقد ضاد أمر الله، ومن دعا عند النزاع إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية، فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله، ولهذا قال الله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (3) ، وهذا مما ذكرناه آنفا شرط ينتفي المشروط بانتفائه،
__________
(1) رواه أبو داود في سننه في كتاب (السنة) ، باب (في لزوم السنة) ، الحديث رقم (4604) ، ج4\ص200، ط دار إحياء السنة النبوية – القاهرة. ورواه ابن عبد البر في التمهيد، ج1\ص149-150، بتحقيق: مصطفى العلوي ومحمد البكري، ط الثانية 1402هـ - 1982م، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية. كما رواه الإمام أحمد في المسند، الحديث رقم (17174) ، ج28\ص410، بتحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين، ط مؤسسة الرسالة- بيروت، وقال محققو المسند: (إسناده صحيح ورجاله ثقات)
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة النساء الآية 59(86/291)
فدل على أن من حكم غير الله ورسوله في موارد مقتضى النزاع كان خارجا من مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر، ... وقد اتفق السلف والخلف على أن الرد إلى الله هو: الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو: الرد إليه في حياته، والرد إلى سنته بعد وفاته. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) ، أي: هذا الذي أمرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي وأولي الأمر، ورد ما تنازعتم فيه إلي وإلى رسولي خير لكم في معاشكم ومعادكم، وهو سعادتكم في الدارين، فهو خير لكم وأحسن عاقبة. فدل هذا على أن طاعة الله ورسوله، وتحكيم الله ورسوله هو سبب السعادة عاجلا وآجلا)
ب) وأورد أقوال بعض علماء الزهد والسلوك في الالتزام بالكتاب والسنة، فنراه يقول: (قال سيد الطائفة وشيخهم الجنيد بن محمد رحمه الله: (من لم يحفظ القرآن
__________
(1) سورة النساء الآية 59(86/292)
ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر؛ لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة) . وقال: (مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة) . وقال أبو حفص رحمه الله: (من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره فلا يعد في ديوان الرجال) . وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: (ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة) ....
وقال أبو يزيد لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات إلى(86/293)
أن يرتفع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة)
ولذا يقول ابن القيم: (وأهل الاستقامة منهم سلكوا على الجادة، ولم يلتفتوا إلى شيء من الخواطر والهواجس والإلهامات حتى يقوم عليها شاهدان: الكتاب والسنة) (1)
ج) وبين أن رأس الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم: (كمال التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله السالك معارضة خيال باطل يسميه معقولا، أو يحمله شبهة أو شكا، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل) (2)
وفصل في كيفية الانقياد لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والاستسلام والإذعان له، حيث ذكر أن ذلك يكون بثلاثة أمور هي:
__________
(1) إغاثة اللهفان، ص 132
(2) مدارج السالكين، ج2\ص291. وانظر: ص293(86/294)
الأول: ألا يعارض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء من المعارضات الأربعة السارية في العالم المسماة بالمعقول، والقياس، والذوق، والسياسة.
فالتعويل على المعقول هو منهج المتكلمين الذين يعارضون نصوص الشرع بمعقولاتهم الفاسدة، ويقولون: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل وعزلنا النقل.
والأخذ بالقياس هو منهج المنحرفين المنتسبين إلى الفقه الذين يقولون: إذا تعارض القياس والنص قدمنا القياس على النص.
والاعتماد على الذوق هو منهج المنحرفين من الصوفية الذين إذا تعارض عندهم الذوق والأمر قدموا الذوق ولم يعبؤوا بالأمر.
والاعتداد بالسياسة هو منهج المنحرفين الجائرين من ولاة الأمر الذين إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة قدموا السياسة ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة.
الثاني: ألا يتهم دليلا من أدلة الشرع، بحيث يظنه فاسد الدلالة أو قاصرها، أو أن غيره كان أولى منه. ومتى عرض له شيء من ذلك فليتهم فهمه، وليعلم أن الآفة منه والبلية فيه. وهذا هو واقع الأمر، فإنه ما اتهم أحد دليلا للدين إلا وكان المتهم هو الفاسد الذهن، المأفون في عقله وذهنه، فالآفة في الذهن العليل، لا في نفس الدليل. وإذا رأى السالك من أدلة الدين ما يشكل عليه أمره وينبو عنه فهمه، فليعلم أن(86/295)
تحته كنزا من كنوز العلم، وأنه لم يؤت مفتاحه بعد لكلال ذهنه.
الثالث: ألا يجد إلى خلاف النص سبيلا ألبتة، لا بباطنه ولا بلسانه ولا بفعله ولا بحاله، بل إذا أحس بشيء من الخلاف فهو كخلاف المقدم على كبيرة كالزنا وشرب الخمر وقتل النفس، بل هذا الخلاف أعظم عند الله من ذلك، وهو الذي خافه الأئمة على أنفسهم. (1)
د) وعزا إلى الإمام الشافعي رحمه الله إجماع السلف على وجوب الالتزام بنصوص الكتاب والسنة، حيث يقول: (حكى الشافعي رضي الله عنه إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد. ولا يستريب أحد من أئمة الإسلام في صحة ما قاله الشافعي رضي الله عنه. فإن الحجة الواجب اتباعها على الخلق كافة إنما هو قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وأما أقوال غيره فغايتها أن تكون سائغة الاتباع، فضلا عن أن تعارض بها النصوص وتقدم عليها عياذا بالله من الخذلان (2)
هـ) وأكد على أن اتباع ما جاء في الكتاب والسنة هو الحق
__________
(1) المصدر السابق، ج2\ص254-255 بتصرف يسير
(2) الرسالة التبوكية، ص107-108(86/296)
وصراط الله المستقيم المذكور في سورة الفاتحة، حيث يقول في معرض حديثه عن اشتمال سورة الفاتحة على الرد على جميع المبطلين من أهل الملل والنحل: (الصراط المستقيم متضمن معرفة الحق وإيثاره وتقديمه على غيره ومحبته والانقياد له والدعوة إليه وجهاد أعدائه بحسب الإمكان. والحق هو: ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما جاء به علما وعملا في باب صفات الرب سبحانه وأسمائه وتوحيده وأمره ونهيه ووعده ووعيده وفي حقائق الإيمان التي هي منازل السائرين إلى الله تعالى، وكل ذلك مسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون آراء الرجال وأوضاعهم وأفكارهم واصطلاحاتهم. فكل علم أو عمل أو حقيقة أو حال أو مقام خرج من مشكاة نبوته وعليه السكة المحمدية فهو من الصراط المستقيم، وما لم يكن كذلك فهو من صراط أهل الغضب والضلال. (1)
و) وبين حكم من استغنى عن الكتاب والسنة، فقال: (ومن ظن أنه يستغني عما جاء به الرسول بما يلقى في قلبه من الخواطر والهواجس، فهو من أعظم الناس كفرا، وكذلك
__________
(1) مدارج السالكين، ج1\ص55 - 56(86/297)
من ظن أنه يكتفي بهذا تارة وبهذا تارة، فما يلقى في القلوب لا عبرة به ولا التفات إليه إن لم يعرض على ما جاء به الرسول ويشهد له بالموافقة، وإلا فهو من إلقاء النفس والشيطان (1)
ز) وشدد في النكير على من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الآراء والأذواق والأهواء. ومما قاله بهذا الشأن قوله عن هذه الطائفة: (واعجبا لها كيف جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولم تقبل الاغتذاء بكلام رب العالمين ونصوص حديث نبيه المرفوع، أم كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ والصواب، وخفي عليها ذلك في مطالع الأنوار من السنة والكتاب؟ واعجبا كيف ميزت بين صحيح الآراء وسقيمها، ومقبولها ومردودها، وراجحها ومرجوحها، وأقرت على أنفسها بالعجز عن تلقي الهدى والعلم من كلام من كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهم الكفيل بإيضاح الحق مع غاية البيان، وكلام من أوتي جوامع الكلم واستولى كلامه على الأقصى من البيان؟ ...
__________
(1) إغاثة اللهفان، ص132(86/298)
أفيظن المعرض عن كتاب ربه وسنة رسوله أن ينجو من ربه بآراء الرجال؟ ، أو يتخلص من بأس الله بكثرة البحوث والجدال، وضروب الأقيسة وتنوع الأشكال؟ أو بالإشارات والشطحات وأنواع الخيال؟ ... ولن ينال الإنسان المطالب العالية ويخلص من الخسران المبين إلا بالإقبال على القرآن وتفهمه وتدبره واستخراج كنوزه وإثارة دفائنه، وصرف العناية إليه، والعكوف بالهمة عليه، فإنه الكفيل بمصالح العباد في المعاش والمعاد، والموصل لهم إلى سبيل الرشاد، فالحقيقة والطريقة، والأذواق والمواجيد الصحيحة كلها لا تقتبس إلا من مشكاته ولا تستثمر إلا من شجراته. (1)
ح) وحذر السالك من التحاكم إلى الأذواق والمواجيد، فقال: (الذوق والحال والوجد منشأ ضلال من ضل من المفسدين لطريق القوم الصحيحة، حيث جعلوه حاكما، فتحاكموا إليه فيما يسوغ ويمتنع، وفيما هو صحيح وفاسد، وجعلوه محكا للحق والباطل، فنبذوا لذلك موجب العلم والنصوص، وحكموا فيها الأذواق والأحوال والمواجيد، فعظم الأمر وتفاقم الفساد والشر، وطمست معالم الإيمان والسلوك المستقيم، وانعكس السير، كان
__________
(1) مدارج السالكين، ج1\ص16-18 بتصرف يسير(86/299)
إلى الله فصيروه إلى النفوس، فالناس المحجوبون عن أذواقهم يعبدون الله، وهؤلاء يعبدون نفوسهم....
ثم إنه وقع من تحكيم الذوق من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، فإن الأذواق مختلفة في أنفسها، كثيرة الألوان متباينة أعظم التباين، فكل طائفة لهم أذواق وأحوال ومواجيد بحسب معتقداتهم وسلوكهم ... ، وهذا سيد أهل الأذواق والمواجيد والكشوف والأحوال من هذه الأمة المحدث المكاشف عمر رضي الله عنه لا يلتفت إلى ذوقه ووجده ومخاطباته في شيء من أمور الدين حتى ينشد عنه الرجال والنساء والأعراب، فإذا أخبروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يلتفت إلى ذوقه ولا إلى وجده وخطابه، بل يقول: (لو لم نسمع بهذا لقضينا بغيره) ، ويقول: (أيها الناس: رجل أخطأ وامرأة أصابت) ، فهذا فعل الناصح لنفسه وللأمة رضي الله عنه، ليس كفعل من غش نفسه والدين والأمة.
وإذا وقع النزاع في حكم فعل من الأفعال أو حال من الأحوال أو ذوق من الأذواق، هل هو صحيح أو فاسد؟ وحق أو باطل؟ وجب الرجوع فيه إلى الحجة المقبولة عند الله وعند عباده المؤمنين، وهي: وحيه الذي تتلقى أحكام النوازل والأحوال والواردات منه، وتعرض عليه وتوزن به، فما زكاه منها وقبله ورجحه وصححه فهو المقبول، وما أبطله ورده فهو الباطل المردود. ومن لم يبن على هذا(86/300)
الأصل علمه وسلوكه وعمله فليس على شيء من الدين، وإنما معه خدع وغرور {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (1) .
وإذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء، هل هو الإباحة أو التحريم؟ فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته، فإن كان مشتملا على مفسدة راجحة ظاهرة، فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته، بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي" (2)
__________
(1) سورة النور الآية 39
(2) المصدر السابق، ج1\ص 374 – 375.(86/301)
المبحث الرابع: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به لا بد للسالك كذلك من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به في كل أعماله صغيرها وكبيرها، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) ، وفي هذا يقول ابن القيم مخاطبا العبد السالك: حقيقة هذا الاقتداء "التأدب بآداب رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، وتحكيمه باطنا وظاهرا، والوقوف معه حيث وقف بك، والمسير معه حيث سار بك، بحيث تجعله بمنزلة شيخك الذي قد ألقيت إليه أمرك كله سره وظاهره، واقتديت به في
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21(86/301)
جميع أحوالك، ووقفت مع ما يأمرك به فلا تخالفه ألبتة، فتجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لك شيخا وإماما وقدوة وحاكما، وتعلق قلبك بقلبه الكريم وروحانيتك بروحانيته كما يعلق المريد روحانيته بروحانية شيخه، فتجيبه إذا دعاك، وتقف معه إذا استوقفك، وتسير إذا سار بك، وتقيل إذا قال، وتنزل إذا نزل، وتغضب لغضبه، وترضى لرضاه.
وإذا أخبرك عن شيء أنزلته منزلة ما تراه بعينك، وإذا أخبرك عن الله بخبر أنزلته منزلة ما تسمعه من الله بأذنك.
وبالجملة: تجعل الرسول شيخك وأستاذك ومعلمك ومربيك ومؤدبك، وتسقط الوسائط بينك وبينه إلا في التبليغ، كما تسقط الوسائل بينك وبين المرسل في العبودية، ولا تثبت وساطة إلا في وصول أمره ونهيه ورسالته إليك" (1)
ويتابع فيقول: "وهذان التجريدان هما حقيقة شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. والله وحده هو المعبود المألوه الذي لا يستحق العبادة سواه، ورسوله المطاع المتبع المهتدى به الذي لا يستحق الطاعة سواه. ومن سواه فإنما يطاع إذا أمر الرسول بطاعته، فيطاع تبعا للأصل.
وبالجملة: فالطريق مسدودة إلا على من اقتفى آثار الرسول صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) مدارج السالكين، ج3\ص109(86/302)
واقتدى به ظاهره وباطنه. فلا يتعنى السالك على غير هذا الطريق، فليس حظه من سلوكه إلا التعب، وأعماله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (1) .
ولا يتعنى السالك على هذا الطريق، فإنه واصل ولو زحف زحفا، فأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قعدت بهم أعمالهم: قامت بهم عزائمهم وهممهم ومبايعتهم لنبيهم، كما قيل:
من لي بمثل سيرك المدلل ... تمشي رويدا وتجيء في الأول
والمنحرفون عن طريقه إذا قامت بهم أعمالهم واجتهاداتهم:
قعد بهم عدولهم عن طريقه:
فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم ... وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا
(2)
"ويقول - معتبرا - الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم أحد ثلاثة أمور لا يصح السلوك إلا بها: "إنما يصح السلوك ويسلم من الآفات والعوائق والقواطع بثلاثة أمور:
الأول: أن يكون السالك على الدرب الأعظم، الدرب النبوي المحمدي، لا على الجواد الوضعية والرسوم الاصطلاحية، وإن
__________
(1) سورة النور الآية 39
(2) المصدر السابق، ج3\ص109 – 110. وراجع: طريق الهجرتين، ص 24(86/303)
زخرفوا لها القول ودققوا لها الإشارة وحسنوا لها العبارة.
الثاني: ألا يجيب على الطريق داعي البطالة والوقوف والدعة.
الثالث: أن يكون في سلوكه ناظرا إلى المقصود (1)
ويستشهد بأقوال بعض علماء السلوك الأجلاء في هذا الضابط، فيقول: " قال الجنيد بن محمد رحمه الله: (الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم واتبع سنته ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه" (2) "وقال أحمد بن أبي الحواري رحمه الله: "من عمل عملا بلا اتباع سنة فباطل عمله" (3) وقال ابن عطاء (من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب في أوامره
__________
(1) مدارج السالكين، ج3\ص130-131
(2) المصدر السابق، ج3\ص93. وانظر: ج2\ص76، وص348، وطريق الهجرتين، ص24
(3) مدارج السالكين، ج2\ص348(86/304)
وأفعاله وأخلاقه) (1)
ويبين - رحمه الله - الفرق بين تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وإهدار أقوال العلماء وإلغائها، فيقول: "والفرق بين تجريد متابعة المعصوم صلى الله عليه وسلم وإهدار أقوال العلماء وإلغائها: أن تجريد المتابعة ألا تقدم على ما جاء به قول أحد ولا رأيه كائنا من كان، بل تنظر في صحة الحديث أولا، فإذا صح لك نظرت في معناه ثانيا، فإذا تبين لك لم تعدل عنه ولو خالفك من بين المشرق والمغرب. ومعاذ الله أن تتفق الأمة على مخالفة ما جاء به نبيها، بل لا بد أن يكون في الأمة من قال به ولو لم تعلمه، فلا تجعل جهلك بالقائل حجة على الله ورسوله، بل اذهب إلى النص ولا تضعف، واعلم أنه قد قال به قائل قطعا ولكن لم يصل إليك، هذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه، فهم دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة، ولكن لا يوجب هذا إهدار النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة أنه أعلم بها منك، فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النص أعلم به منك فهلا وافقته إن كنت صادقا، فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها
__________
(1) مدارج السالكين، ج2\ص349.(86/305)
وخالف منها ما خالف النص لم يهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم، بل اقتدى بهم، فإنهم كلهم أمروا بذلك، فمتبعهم حقا من امتثل ما أوصوا به لا من خالفهم. فمخالفتهم في القول الذي جاء النص بخلافه أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم.
ومن هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كل ما قال وبين الاستعانة بفهمه والاستضاءة بنور علمه، فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب لدليله من الكتاب والسنة، بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه يقلده به، ولذلك سمي تقليدا. بخلاف من استعان بفهمه واستضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فإنه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول، فإذا وصل إليه استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره، فمن استدل بالنجم على القبلة فإنه إذا شاهدها لم يبق لاستدلاله بالنجم معنى. قال الشافعي: (أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد) (1)
__________
(1) الروح، ص356-357.(86/306)
المبحث الخامس: تعلم العلم الشرعي
تعلم العلم الشرعي، والتفقه في أمور الدين الإسلامي، والبحث عن الدليل في مصادر التشريع الإسلامي المتفق عليها أمر ضروري للسالك في نظر ابن القيم، فهو يقوده إلى الله عز وجل على كل حال.
يقول رحمه الله: "العلم إن لم يصحب السالك من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه فسلوكه على غير طريق، وهو مقطوع عليه طريق الوصول، مسدود عليه سبل الهدى والفلاح، مغلقة عنه أبوابها. وهذا إجماع من الشيوخ العارفين، ولم ينه عن(86/307)
العلم إلا قطاع الطريق منهم ونواب إبليس وشرطه" (1)
ويقول أيضا: "إن كل حال وذوق ووجد وشهود لا يشرق عليه نور العلم المؤيد بالدليل فهو من عبث النفس وحظوظها، فلو قدر أن المتكلم إنما تكلم بلسان العلم المجرد، فلا ريب أن ما كشفه العلم الصحيح المؤيد بالحجة أنفع من حال من يخالف العلم والعلم يخالفه.
وليس من الإنصاف رد العلم الصحيح بمجرد الذوق والحال، وهذا أصل الضلالة، ومنه دخل الداخل على كثير من السالكين في تحكيم أذواقهم ومواجيدهم على العلم فكانت فتنة في الأرض وفساد كبير. وكم قد ضل وأضل محكم الحال على العلم، بل الواجب تحكيم العلم على الحال ورد الحال إليه، فما زكاه شاهد العلم فهو المقبول، وما جرحه شاهد العلم فهو المردود. وهذه وصية أرباب الاستقامة من مشايخ الطريق رضي الله عنهم كلهم يوصون بذلك، ويخبرون أن كل ذوق ووجد لا يقوم عليه شاهدان اثنان من العلم فهو باطل" (2)
"وأما الكلمات التي تروى عن بعضهم (3) من التزهيد في العلم والاستغناء عنه، كقول من قال: (نحن نأخذ علمنا من الحي الذي لا
__________
(1) مدارج السالكين، ج2\ص347.
(2) طريق الهجرتين، ص585.
(3) يعني: عن بعض أهل السلوك والتصوف.(86/308)
يموت، وأنتم تأخذونه من حي يموت) وقول الآخر - وقد قيل له: ألا ترحل حتى تسمع من عبد الرزاق؟ - (ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق من يسمع من الخلاق؟) ، وقول الآخر: (العلم حجاب بين القلب وبين الله عز وجل) ، وقول الآخر: (إذا رأيت الصوفي يشتغل ب"أخبرنا" و"حدثنا" فاغسل يدك منه) ، وقول الآخر: (لنا علم الحرف، ولكم علم الورق) ، ونحو هذا من الكلمات التي أحسن أقوال قائلها: أن يكون جاهلا يعذر بجهله، أو شاطحا معترفا بشطحه، وإلا فلولا عبد الرزاق وأمثاله، ولولا "أخبرنا" و"حدثنا" لما وصل إلى هذا وأمثاله شيء من الإسلام.
ومن أحالك على غير "أخبرنا" و"حدثنا" فقد أحالك إما على خيال صوفي أو قياس فلسفي أو رأي نفسي، فليس بعد القرآن و"أخبرنا" و"حدثنا" إلا شبهات المتكلمين وآراء المنحرفين وخيالات المتصوفين وقياس المتفلسفين، ومن فارق الدليل ضل عن سواء السبيل، ولا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة، وكل(86/309)
طريق لم يصحبها دليل القرآن والسنة فهي من طريق الجحيم والشيطان الرجيم.
والعلم: ما قام عليه الدليل، والنافع منه: ما جاء به الرسول.
والعلم خير من الحال، والعلم حاكم والحال محكوم عليه، والعلم هاد والحال تابع ... ، والحال سيف إن لم يصحبه العلم فهو مخراق في يد لاعب، والحال مركب لا يجارى، فإن لم يصحبه علم ألقى صاحبه في المهالك والمتالف، والحال كالمال يؤتاه البر والفاجر، فإن لم يصحبه نور العلم كان وبالا على صاحبه.
والحال بلا علم كالسلطان الذي لا يزعه عن سطوته وازع، والحال بلا عمل كالنار التي لا سائس لها، نفع الحال لا يتعدى صاحبه، ونفع العلم كالغيث يقع على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر ...
والعلم تركة الأنبياء وتراثهم، وأهل عصبتهم ووراثهم، وهو حياة القلوب ونور البصائر وشفاء الصدور ورياض العقول ولذة الأرواح وأنس المستوحشين ودليل المتحيرين، وهو الميزان الذي به توزن الأقوال والأعمال والأحوال، وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين، والغي والرشاد، والهدى والضلال.
به يعرف الله ويعبد، ويذكر ويوحد، ويحمد ويمجد، وبه اهتدى السالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون، ومن بابه دخل عليه(86/310)
القاصدون، به تعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام، وبه توصل الأرحام وتعرف مراضي الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب.
وهو إمام والعمل مأموم، وهو قائد والعمل تابع، وهو الصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والأنيس في الوحشة والكاشف عن الشبهة ... ، مذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قربة، وبذله صدقة، ومدارسته تعدل بالصيام والقيام، والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام.
قال الإمام أحمد رضي الله عنه: (الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه) (1) وروينا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: (طلب العلم أفضل من صلاة النافلة) ونص على ذلك أبو حنيفة رضي الله عنه.
وقال ابن وهب (كنت بين يدي مالك رضي الله عنه فوضعت ألواحي وقمت أصلي، فقال: ما الذي قمت إليه بأفضل مما قمت عنه) ذكره
__________
(1) راجع: مفتاح دار السعادة، ص63، وص84.(86/311)
ابن عبد البر وغيره ...
والعلم حجة الله في أرضه، ونوره بين عباده، وقائدهم ودليلهم إلى جنته، ويكفي في شرفه: أن فضل أهله على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وأن الملائكة لتضع لهم أجنحتها وتظلهم بها، وأن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، وحتى النمل في جحرها، وأن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير (1) " (2)
ويستشهد بأقوال بعض علماء السلف في ضرورة العلم الشرعي، فيقول: "قال معاذ بن جبل: (تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة، وأئمة تقتص آثارهم، ويقتدى بأفعالهم.
__________
(1) يشير ابن القيم هنا إلى مضامين بعض الأحاديث النبوية الواردة في بيان فضل العلم وأهله.
(2) مدارج السالكين، ج2\ص350-352. وراجع: ج2\ص263-264.(86/312)
وينتهى إلى رأيهم. ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه؛ لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم. يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، التفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل، والعمل تابع له، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء) رواه الطبراني وابن عبد البر وغيرهما" (1) "وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب (الزهد) من كلام لقمان أنه قال لابنه: (يا بني: جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل القطر". (2)
ويقول: "كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: (من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول) وقال الحسن: (العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم ما يفسده أكثر مما يصلحه) (3)
ويقول أيضا: "قال أبو عمرو بن نجيد (كل حال لا يكون
__________
(1) المصدر السابق، ج3\ص196.
(2) المصدر السابق
(3) مفتاح دار السعادة، ص85.(86/313)
عن نتيجة علم، فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه" (1)
ويعقد ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة) فصلا مطولا في فضل العلم وشرفه وبيان عموم الحاجة إليه وتوقف كمال العبد ونجاته في معاشه ومعاده عليه (2) ومما قاله فيه قوله: "إن العلم حياة ونور، والجهل موت وظلمة، والشر كله سببه عدم الحياة، والنور والخير كله سببه النور والحياة، فإن النور يكشف عن حقائق الأشياء ويبين مراتبها" (3) "وحاجة العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر، بل أعظم، وإذا فقدوا العلم فهم بمنزلة الأرض التي فقدت الغيث" (4) "وفقد العلم فيه فقد لحياة القلب والروح، فلا غنى للعبد عنه طرفة عين" (5) "والعلم من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، ولا تقوم شجرة الإيمان إلا على ساق العلم والمعرفة" (6) "وما قامت
__________
(1) مدارج السالكين، ج2/ ص350.
(2) راجع: مفتاح دار السعادة، في الصفحات: 50 – 168.
(3) المصدر السابق، ص 56. وراجع: مدارج السالكين، ج3\ص123.
(4) مفتاح دار السعادة، ص63. وراجع: ص84.
(5) المصدر السابق، ص88
(6) المصدر السابق، ص83.(86/314)
السماوات والأرض وما بينهما إلا بالعلم، ولا بعثت الرسل وأنزلت الكتب إلا بالعلم، ولا عبد الله وحده وحمد وأثني عليه ومجد إلا بالعلم، ولا عرف الحلال من الحرام إلا بالعلم، ولا عرف فضل الإسلام على غيره إلا بالعلم" (1)
وقوله أيضا: "العلم إمام العمل وقائد له، والعمل تابع له ومؤتم به، فكل عمل لا يكون خلف العلم مقتديا به فهو غير نافع لصاحبه بل مضرة عليه، كما قال بعض السلف: (من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح) . والأعمال إنما تتفاوت في القبول والرد بحسب موافقتها للعلم ومخالفتها له، فالعمل الموافق للعلم هو المقبول، والمخالف له هو المردود. فالعلم هو الميزان وهو المحك، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (2) ، قال الفضيل بن عياض (هو أخلص العمل وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يك صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، فالخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على
__________
(1) المصدر السابق، ص90.
(2) سورة الملك الآية 2(86/315)
السنة) وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (1) ، فهذا هو العمل المقبول الذي لا يقبل الله من الأعمال سواه، وهو أن يكون موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرادا به وجه الله، ولا يتمكن العامل من الإتيان بعمل يجمع هذين الوصفين إلا بالعلم، فإنه إن لم يعلم بما جاء به الرسول لم يمكنه قصده، وإن لم يعرف معبوده لم يمكنه إرادته وحده. فلولا العلم لما كان عمله مقبولا، فالعلم هو الدليل على الإخلاص وهو الدليل على المتابعة، وقد قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (2) ، وأحسن ما قيل في تفسير الآية: أنه إنما يتقبل الله عمل من اتقاه في ذلك العمل، وتقواه فيه أن يكون لوجهه على موافقة أمره. وهذا إنما يحصل بالعلم، وإذا كانت هذه منزلة العلم وموقعه علم أنه أشرف شيء وأجله وأفضله" (3)
وقوله كذلك: "ولا ريب أن العلم بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله أجل العلوم وأفضلها وأشرفها، فهو أصلها كلها، ... وهو أيضا أصل علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته. والجهل به مستلزم
__________
(1) سورة الكهف الآية 110
(2) سورة المائدة الآية 27
(3) المصدر السابق، ص85.(86/316)
للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو وتفلح به، فالعلم به سعادة العبد، والجهل به أصل شقاوته" (1)
ومن فوائد العلم الشرعي للسالك في نظر ابن القيم - بالإضافة إلى ما تقدم -:
1- أنه يهذبه ويهيئه لسلوك طريق العبودية لله عز وجل (2)
2- ويهديه إلى الغاية المقصودة له من سيره، فكم من سالك لا يعرف الغاية من سيره (3)
ويصحح همته، فأعلى الهمم همة اتصلت بالحق سبحانه، وهي همة الرسل وأتباعهم (4)
__________
(1) المصدر السابق، ص89.
(2) انظر: مدارج السالكين، ج3\ص108-109.
(3) انظر: المصدر السابق، ج3\ص110-111.
(4) انظر: المصدر السابق، ج3\ص111.(86/317)
المبحث السادس: الالتزام بأداء التكاليف الشرعية:
يجب على العبد السالك أداء ما افترضه الله عليه من عبادات شرعية كالصلاة والصيام والزكاة والحج ... ، ويرى ابن القيم أنه لا يجوز للسالك ترك فرائض أو جهاد أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر مهما بلغ من درجة القرب من الله، بل يرى أنه ينبغي عليه أن يكون(86/317)
أكثر عبادة والتزاما بأوامر الله ونواهيه كلما ترقى في درجات القرب من الله. حيث يقول رحمه الله: "كلما تمكن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم، والواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على من دونه. ولهذا كان الواجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم - بل على جميع الرسل - أعظم من الواجب على أممهم، والواجب على أولي العزم أعظم من الواجب على من دونهم، والواجب على أولي العلم أعظم من الواجب على من دونهم، وكل أحد بحسب مرتبته" (1)
ويقول أيضا: "إن العبد كلما كان إلى الله أقرب كان جهاده في الله أعظم، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (2) . وتأمل أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب في مقام؛ عظم جهادهم واجتهادهم. لا كما ظنه بعض الملاحدة المنتسبين إلى الطريق، حيث قال: (القرب الحقيقي ينقل العبد من الأحوال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة، ويريح الجسد والجوارح من كد العمل) .
__________
(1) مدارج السالكين، ج1\ص87-88.
(2) سورة الحج الآية 78(86/318)
وهؤلاء أعظم كفرا وإلحادا، حيث عطلوا العبودية وظنوا أنهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة، التي هي من أماني النفس وخدع الشيطان ...
وقد صرح أهل الاستقامة وأئمة الطريق بكفر هؤلاء، فأخرجوهم من الإسلام، وقالوا: لو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد لما سقط عنه من التكليف مثقال ذرة، أي: ما دام قادرا عليه ...
قال سري السقطي (من ادعى باطن حقيقة ينقضها ظاهر حكم فهو غالط) . وقال سيد الطائفة الجنيد بن محمد: (علمنا هذا متشبك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) . وقال إبراهيم بن محمد النصرابادي (أصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع، والتمسك بالأئمة والاقتداء بالسلف، وترك ما أحدثه الآخرون، والمقام على ما سلك الأولون) . وسئل إسماعيل بن نجيد: ما الذي لا بد للعبد منه؟ فقال: (ملازمة العبودية على السنة ودوام المراقبة) ... وقال الجنيد(86/319)
لما ذكر عنده استهانة بعض أهل المعرفة بالعبادات -: (العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رؤوس الملوك) ... فلا تصغ إلى قول ملحد قاطع للطريق في قالب عارف يقول: إن منزلة القرب تنقل العبد من الأعمال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة، وتحمل على الاستهانة بالطاعات الظاهرة، وتريحه من كد القيام بها" (1)
ويعنف - رحمه الله - على من ادعى سقوط التكاليف الشرعية عن السالك إذا ازداد قربا من الله، فيقول: "من زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه فيه التعبد، فهو زنديق كافر بالله ورسوله، وإنما وصل إلى مقام الكفر بالله والانسلاخ من دينه" (2) والتكاليف الشرعية "إنما هي قرة عين، وسرور قلب، وحياة روح، صدر التكليف بها عن حكيم حميد. فهي أشرف ما وصل إلى العبد من ربه، وثوابه عليها أشرف ما أعطاه الله للعبد" (3)
__________
(1) مدارج السالكين، ج3\ص91-94، بتصرف يسير.
(2) المصدر السابق، ج1\ص87.
(3) المصدر السابق، ج3\ص117.(86/320)
المبحث السابع: اجتناب الذنوب والمعاصي:
ولا بد للسالك كذلك من اجتناب مقارفة الذنوب والمعاصي ليصح له سيره، وذلك لأن حياة القلب إنما هي في هذا الاجتناب،(86/320)
ولما للذنوب والمعاصي من أضرار كثيرة جدا في القلب كأضرار السموم في البدن.
يقول ابن القيم: "حياة القلب بدوام الذكر وترك الذنوب، كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها (1)
ويقول: "مما ينبغي أن يعلم أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا بد أن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟ .
فما الذي أخرج الأبوين من الجنة - دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور - إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟
وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه فجعل صورته أقبح صورة، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبدل بالقرب بعدا، وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحا،
__________
(1) مدارج السالكين، ج3\ص197.(86/321)
وبالجنة نارا تلظى، وبالإيمان كفرا، وبموالاة الولي الحميم أعظم عداوة ومشاقة، وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل زجل الكفر والشرك والكذب والزور والفحش، وبلباس الإيمان لباس الكفر والفسوق والعصيان، فهان على الله غاية الهوان، وحل عليه غضب الرب تعالى فأهواه، ومقته أكبر المقت فأرداه، فصار قوادا لكل فاسق ومجرم، رضي لنفسه بالقيادة بعد تلك العبادة والسيادة ...
وما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمرت ما دمرت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم، حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟
ومن الذي رفع قوم لوط حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم جميعا، ثم أتبعهم حجارة من السماء أمطرها عليهم، فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم؟
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارا تلظى؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم فالأجساد للغرق، والأرواح للحرق؟(86/322)
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟
وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميرا؟
وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟
وما الذي بعث على بني إسرائيل قوما أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وقتلوا الرجال، وسبوا الذرية والنساء، وأحرقوا الديار ونهبوا الأموال، ثم بعثهم عليهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه وتبروا ما علوا تتبيرا؟ " (1)
ويبين - رحمه الله - قبح أثر الذنوب والمعاصي والضرر الناشئ منها، فيقول: " وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة، المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله، فمنها:
1- حرمان العلم، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور.
2- حرمان الرزق، وفي المسند «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه (2) »
__________
(1) الجواب الكافي، ص42-43، ط الأولى 1424هـ - 2003م، بدون ذكر الناشر.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند من حديث ثوبان رضي الله عنه، الحديث رقم (22386) ، ج37\ص68، وضعف محققو المسند إسناده. ورواه ابن ماجه في سننه الحديث رقم (90) ورقم (4022) ، ط مكتبة المعارف للنشر والتوزيع – الرياض. وقد ضعفه الألباني في تحقيقه لهذه السنن. كما رواه الحاكم في المستدرك في كتاب (الدعاء والتكبير) ، الحديث رقم (1814) ، ج1\ص670، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، ط الأولى 1411هـ - 1990م، دار الكتب العلمية – بيروت، وقال: ''حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه''.(86/323)
3- وحشة يجدها العاصي في قلبه وبينه وبين الله لا توازيها ولا تقارنها لذة أصلا، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة. وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة، وما لجرح بميت إيلام.
4- وحشة تحصل بينه وبين الناس، ولا سيما أهل الخير منهم، وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم ومن مجالستهم، وحرم بركة الانتفاع بهم، وقرب من حزب الشيطان بقدر ما بعد من حزب الرحمن.
5- ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهم، فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره، فإن الطاعة نور والمعصية ظلمة.
6- أن المعاصي تزرع أمثالها، ويولد بعضها بعضا، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها.
7- أن المعاصي سبب لهوان العبد على ربه. قال الحسن(86/324)
البصري: (هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم) ، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (1) . 8- أن المعاصي تورث الذل ولا بد، فإن العز كل العز في طاعة الله تعالى، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (2) 9- أنها تفسد العقل، فإن للعقل نورا، والمعصية تطفئ نور العقل ولا بد، وإذا طفئ نوره ضعف ونقص.
10- أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله، وتضعف وقاره في قلب العبد ولا بد شاء أم أبى، ولو تمكن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرأ على معاصيه.
11- أنها تذهب الحياء الذي هو مادة حياة القلب، وهو أصل كل خير. وذهابه ذهاب الخير أجمعه. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحياء خير كله (3) » (4)
__________
(1) سورة الحج الآية 18
(2) سورة فاطر الآية 10
(3) رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب (الإيمان) باب (بيان عدد شعب الإيمان) ، ج2\ص7
(4) انظر الجواب الكافي، في الصفحات: 51، 54، 55، 58، 59، 68، 69.(86/325)
ويذكر ابن القيم أضرارا وآثارا سيئة أخرى كثيرة للذنوب والمعاصي (1) ثم يقول: (وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علما، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علما، فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته) (2)
__________
(1) راجع في هذه الآثار كلا من: الجواب الكافي، ص51-120. وطريق الهجرتين، ص487-493
(2) طريق الهجرتين، ص493(86/326)
الخاتمة
أحمد الله عز وجل وأشكره وأثني عليه الخير كله على ما يسر وأعان سبحانه على إتمام هذا البحث. وفي ختامه أبين بإيجاز فيما بلي أبرز النتائج العلمية التي توصلت إليها فيه.
1- إن السلوك عند ابن القيم هو: سلوك الطريق إلى الله عز وجل، وذلك بتهذيب النفوس وتزكيتها وتطهير القلوب ومعالجة أمراضها، لتسعد بسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى ومعية من تحبه، فإن المرء مع من أحب. وإن المراد بقيم السلوك: الصفات السلوكية الذاتية الخيرة التي يقتضيها الشرع والعقل والفطرة في صلة العبد بربه، وعبادته إياه(86/326)
وسلوك الطريق إليه سبحانه.
2- تتمثل أهم ضوابط قيم السلوك مع الله عند ابن القيم في الضوابط الآتية:
أ) الإيمان بالله تعالى.
ب) العبودية الخالصة لله تعالى.
ج) الالتزام بالكتاب والسنة والتحاكم إليهما.
د) متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.
هـ) تعلم العلم الشرعي.
و) الالتزام بأداء التكاليف الشرعية.
ز) اجتناب الذنوب والمعاصي.
3- ومدار الإيمان بالله على أصلين:
أحدهما: التصديق بخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: طاعة أوامرهما.
ويتبع هذين الأصلين أمران هما:
- رد شبهات الباطل التي توحيها شياطين الجن والإنس في معارضة الخبر.
- ومجاهدة النفس في دفع الشهوات التي تحول بين العبد وكمال الطاعة.
4- إن العبودية المطلوبة من السائر إلى الله عبودية الطاعة(86/327)
والمحبة، لا عبودية القهر والملك والغلبة.
5- وللعبودية مراتب بحسب العلم والعمل.
أما مراتبها بحسب العلم فمرتبتان هما: العلم بالله، والعلم بدينه.
والعلم بالله خمس مراتب هي: العلم بذاته سبحانه، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتنزيهه عما لا يليق به.
والعلم بدينه مرتبتان هما: دينه الأمري الشرعي، وهو الصراط المستقيم الموصل إليه. ودينه الجزائي المتضمن ثوابه وعقابه.
وأما مراتبها بحسب العمل فمرتبتان هما: مرتبة لأصحاب اليمين، ومرتبة للسابقين المقربين.
6- إن الانقياد لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يكون بثلاثة أمور هي:
الأول: ألا يعارض شيئا مما جاء به الرسول بشيء من المعارضات وهي: المعقول، والقياس، والذوق، والسياسة.
الثاني: ألا يتهم دليلا من أدلة الشرع، بحيث يظنه فاسد الدلالة أو قاصرها، أو أن غيره كان أولى منه.
الثالث: ألا يجد إلى خلاف النص سبيلا ألبتة، لا بباطنه ولا بلسانه ولا بفعله ولا بحاله.
7- إن الطريق إلى الله مسدود إلا لمن اقتفى آثار الرسول صلى الله عليه وسلم واقتدى به في ظاهره وباطنه.
8- إن العلم الشرعي إن لم يصحب السالك من أول قدم(86/328)
يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه فسلوكه على كل طريق، ومسدودة عليه كل سبل الهدى والفلاح. وفقد العلم في السير إلى الله فقد لحياة القلب والروح.
9- إن من فوائد العلم الشرعي للسالك: أنه يهذبه ويهيئه لسلوك طريق العبودية لله عز وجل، ويصحح همته، ويهديه إلى الغاية المقصودة له من سيره.
10- إن من زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه فيه التعبد لله؛ فهو زنديق كافر بالله ورسوله.
11- إن من أضرار المعاصي وآثارها القبيحة ما يلي:
حرمان العلم، وحرمان الرزق، ووحشة القلب، وظلمته، وهوان العبد العاصي على الله وذلته وفساد عقله وضعف قلبه، وذهاب حيائه.
12- ونستنتج من كل ما سبق تميز منهج ابن القيم في قضية (قيم السلوك) عن مناهج أصحاب التصوف البدعي الذين زعموا أن السالك منهم إذا سما في درجة القرب من الله سقطت عنه الشرائع كلها من الصلاة والصيام والزكاة وغيرها، وحلت له المحرمات كلها من الزنا والخمر وغيرها من الفواحش
والذين فرقوا بين الحقيقة والشريعة، حيث سموا علم الشريعة(86/329)
علم الظواهر، وسموا هواجس أنفسهم وأذواقهم ومواجيدهم علم البواطن أو الحقائق، وادعوا أنهم أرباب الحقائق، وما سواهم من الفقهاء وغيرهم أرباب ظواهر وأنهم يأخذون عن الله مباشرة بدون واسطة وما سواهم يأخذون الظواهر بواسطة هي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والذين حكموا أذواقهم ومواجيدهم وأعرضوا عن العلم الشرعي معتقدين أنه يشغل السالك ويحول بينه وبين ربه واستجابوا لتلك الأذواق والمواجيد حتى أعطوها سلطة المشرع يأتمرون بأمرها وينتهون بنهيها ويقدمونها على الشرع والعلم إذا وجدوا تعارضا بينهما
والذين يتعبدون الله بغير ما شرعه سبحانه، سواء كان المتعبد به ليس مشروعا في ذاته، كتعبدهم بالرياضات والأوضاع التي رسموها بأذواقهم ومواجيدهم واصطلاحاتهم أم كان المتعبد به مشروعا(86/330)
في ذاته ولكنه ليس مشروعا في الموضع الذي يؤدونه فيه، كصلاتهم ركعتين بعد التوبة، أو كان المتعبد به مشروعا في ذاته وهم يتركونه زهدا وورعا، كقعودهم عن طلب الرزق والنكاح، اعتقادا منهم أن ذلك زهد وتقرب إلى الله عز وجل، فعطلوا سنة من سن الله في الكون.
والذين زعموا أنه يجب على السالك أن يخلو بنفسه في زاوية من الزوايا، وأن يقتصر على أداء الفرائض، وألا يفرق فكره بقراءة قرآن ولا النظر في حديث ولا التأمل في تفسير، وينقطع عن علائق الدنيا بالكلية ويفرغ قلبه منها ومن كل خاطر، مع تصفية الفكر للذكر وانتظار ما يلقيه الله بعد ذلك في قلبه، وهو ما يسمونه بالكشف، حيث ينكشف له حينئذ - كما يزعمون - أمور كثيرة لا يمكن إحصاؤها ولا استقصاؤها
والله أسأل أن يصلح أمر آخر هذه الأمة كما أصلح أمر أولها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(86/331)
فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود
لمعالي الدكتور محمد بن سعد الشويعر
شيخ ولد ونشأ وتعلم في وسط نجد، ومات والده وهو لم يبلغ سن الرشد، فنشأ تحت كفالة خاله، ووصايته عليه، فتعلم ورفع الله منزلته، وطلبه حاكم قطر للعمل عنده، فنال بعلمه وتواضعه، منزلة رفيعة عنده، وكانت له أعمال كثيرة، لم يقف فيها، عند مهمته القضائية، بل سعى في المصلحة الشرعية وفي مصالح المواطنين وبشجاعة، وكانت له اجتهادات فقهية، وفتاوى كان يراها ميسرة للناس، في زمن جد فيه أمور كثيرة لم تعرف من قبل، وألف فيها رسائل لأن قاعدته التي ينطلق منها: بأن الحكم يدور مع علته، والمبدأ الذي اتجه إليه: التيسير على الناس، بوجهة نظر يرى بها في نظرته لكل أمر تحمس له، رأيا اقتنع به، فمن هو وما هي بعض الوقفات في سيرة حياته، وما هي وجهات نظره؟
مولده ونشأته:
إنه الشيخ: عبد الله بن زيد بن عبد الله بن محمد بن راشد بن إبراهيم بن محمود، وآل محمود وآل حامد من ذرية الأمير علي بن(86/333)
حامد، الشريف الحسني ويتصل نسبه بالحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ابن عبد المطلب القرشي الهاشمي.
كان جده حامد أميرا في الأفلاج من قبل شريف مكة وأميرها الذي امتد نفوذه إلى أن أحبها، واستقر بها ومات في الأفلاج بنجد، وكان بعض أبنائه قد أعجبوا بخصب الأفلاج، ووفرة خيراتها، ثم صار بين أبنائه وبين آل شتور سكان الأفلاج فتن، فانتقلوا منها إلى حوطة بني تميم.
وقد ولد المترجم له في حوطة بني تميم سنة 1329هـ، ونشأ بها وكان والده تاجرا فتوفي، وابنه عبد الله صغير لم يبلغ سن الرشد، فكان خاله: حسن بن صالح الشثري وصيا عليه، وقد نشأ تحت رعايته وتوجيهه وكانت والدته التي تحملت تربيته امرأة صالحة تكثر الدعاء له وكانت تتمنى أن تراه عالما كبيرا، (1) وقد حفظ القرآن الكريم وهو صغير، وكان شغوفا بطلب العلم، وقد ساعده على ذلك نباهته، وقدرته على الحفظ حتى بز أقرانه، وتلقى دروسه الأولى في مسقط رأسه، حوطة بني تميم، على الشيخين: عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ،
__________
(1) ص2 عن ترجمة لسيرته من ابنه الشيخ عبد الرحمن(86/334)
والشيخ: عبد العزيز بن محمد الشثري (أبو حبيب) قاضي الحوطة (1)
كما درس على الشيخ: محمد أبو زيد الشثري، وعندما انتقل الشيخ (أبو حبيب) إلى الرين بأمر من الملك عبد العزيز انتقل معه لملازمته، والدراسة عليه، حتى بقي عنده من سن عشر إلى أربعة عشر سنة، حتى بز أقرانه وقدمه شيوخه للصلاة بالناس: القيام والتراويح، ولما يتجاوز عمره الخامسة عشرة (2) مما يدل على اعترافهم بتفوقه وجدارته.
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون الطبعة الثانية لعبد الله البسام ج4 ص120
(2) من ترجمة لحياته بقلم أحد تلاميذه الملازمين له 35 عاما(86/335)
طلبه العلم:
لقد تفرغ الشيخ عبد الله لطلب العلم الشرعي بجد، وطول نفس وصبر، فدرس وحفظ الكثير من الكتب والمتون في الفقه والحديث والنحو.
ففي الفقه: حفظ زاد المستقنع في اختصار المقنع، في الفقه الحنبلي، وحفظ كثيرا من مختصر نظم ابن عبد القوي، ونظم المفردات وغيرها من مصادر الفقه الحنبلي، فكان فقيها حنبليا، محبا لشيخ الإسلام ابن تيمية، لكنه واسع الاطلاع في المذاهب الأخرى.
وفي الحديث: حفظ بلوغ المرام في أدلة الأحكام لابن حجر رحمه الله، وألفية الإمام السيوطي في مصطلح الحديث، كما حفظ(86/335)
كثيرا من الأحاديث من مصادرها العالية عن ظهر قلب.
وفي النحو: حفظ ألفية ابن مالك، وقطر الندى لابن هشام (1) وكان الشيخ محبا للعلم - كما قال ابن بسام - لا يثنيه عن طلب العلم أهل ولا مال، فلا يكاد يسمع بعالم من العلماء في بلد من البلاد، إلا شد الرحال إليه، وترك أهله وولده، وسافر بطلب العلم، وقد كانت أولى سفراته إلى قطر، حيث قصدها طلبا للعلم، على يد الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع عام 1355هـ، وكان له من العمر ستة وعشرون عاما، وإذا علم أن وسيلة المواصلات في ذلك الوقت هي الإبل علمنا المشقة الشديدة التي قاساها في سبيل طلب العلم، لكن مما يهونها عليه أنه رحمه الله، يسير مع القوافل التي تذهب من الحوطة، إلى قطر للتجارة وللعمل في الغوص وغيره، وقد لازم الشيخ ابن مانع ثلاث سنين في قطر، ودرس عليه عددا من كتب الحديث والتفسير والفقه، كما حفظ عددا من المتون في الفقه.
وكان من أبرز طلاب الشيخ ابن مانع، في مدرسته التي استقطبت طلاب العلم في قطر، وخارجها، وقد أعجبه سرعة حفظه، وفهمه الشديد للعلم؛ يقول الشيخ أحمد ابن الشيخ محمد بن مانع - رحمه الله -: كان الشيخ ابن محمود من أبرز طلبة الوالد رحمه الله، وكان والدي يرى فيه مخايل النبوغ، فتعهده واهتم بتعليمه، وكان الشيخ ابن محمود
__________
(1) تحفة الودود تأليف عمر تهاني مختار ص29(86/336)
حريصا على العلم، سريع الحفظ حاضر البديهة، وعندما غادر والدي مكة لتسلم عمله بطلب الملك عبد العزيز، سافر الشيخ معه، ويذكر الشيخ زهير الشاويش أن الشيخ محمد بن مانع قال للشيخ علي بن عبد الله حاكم قطر في حينه، عليكم بالشيخ ابن محمود، فوالله إن ذهب أو ترك فلن تجدوا مثله (1) وقال بعض من عرفه ذلك الوقت: إنه لم يكن يترك المصحف، أو الكتاب من يده طول اليوم، وكان يقضي أغلب وقته في المسجد للدراسة، أو الاستذكار.
وفي قطر: كان يسكن عند ابن عمه: سعد بن إبراهيم آل محمود وبعد عودته من قطر، ومجيء الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع، إلى المملكة للعمل في مكة فقد رجع الشيخ عبد الله بن محمود من قطر، فلزم حلقة الشيخ: محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية في الرياض، وأخذ عنه العلم سنة كاملة (1358هـ) .
ثم صدر الأمر من الملك عبد العزيز إلى الشيخ: محمد بن إبراهيم، باختيار ثمانية من العلماء يذهبون إلى مكة للوعظ والتدريس بها، ويكونون تحت طلب الحكومة، لسد حاجة الأقاليم من القضاة، فكان الشيخ: عبد الله أحد هؤلاء الثمانية، حيث توجه إلى مكة عام
__________
(1) ص2، 3 عن ترجمة لسيرته من ابنه الشيخ عبد الرحمن(86/337)
1359هـ ومكث بها فترة للوعظ والتدريس، بالمسجد الحرام حين سفره لتولي القضاء في قطر (1)
وقد ذكر عمر تهاني مختار في كتابه عن الشيخ عبد الله بن محمود، أن من هؤلاء الثمانية: الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد، رئيس هيئة التمييز بالرياض سابقا رحمه الله، استنادا على ما جاء في رسالة الشيخ ابن محمود: مباحث التحقيق مع الصاحب الصديق، وذكر أيضا أنهم نزلوا في مسكن فسيح جميل ذي طابقين، في الحلقة بمكة ومنهم الشيخ: عبد اللطيف بن إبراهيم آل عبد اللطيف، والشيخ محمد البصيري وكلاهما من أهل شقراء، والشيخ صالح بن طاسان، والشيخ إبراهيم الزغيبي، والشيخ عبد العزيز بن مقري، والشيخ: عبد الله بن عامر. (2) وقد بان في ترجمة الشيخ: محمد بن مانع، عند عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ: أن الشيخ محمد بن مانع لما قدم الأحساء قادما من قطر عام 1358هـ، قابله عبد الله السليمان وزير المالية، فأشار عليه بالقدوم على الملك عبد العزيز بالرياض فقبل ذلك وأكرمه الملك عبد العزيز، وعينه مدرسا في الحرم المكي الشريف،
__________
(1) علماء نجد ثمانية قرون لعبد الله البسام الطبعة الثانية، 1419هـ، ج4: 122
(2) تحفة الودود في ترجمة علامة قطر عبد الله آل محمود عام 1423هـ، ص34 الحاشية(86/338)
فأقام بمكة واجتمع عليه كثير من الطلاب، يقرؤون عليه في الفقه والحديث، والنحو والفرائض، أعرف منهم الشيخ: عبد العزيز بن رشيد رئيس هيئة التمييز بالرياض، والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم الباهلي، والشيخ: ناصر بن حمد بن راشد الرئيس العام لتعليم البنات رحمه الله سابقا، والشيخ: عبد الله بن زيد بن محمود.
وقد أخذ عنه العلم قبل ذلك في البحرين وقطر خلق كثير نذكر منهم الشيخ: عبد الله الأنصاري، وعبد الله بن تركي، والحاج قاسم درويش، ومحمد الحسن الجابر، وابنه محمد، وأحمد بن يوسف الجابر، ومبارك بن نصر. (1)
وفي هذا دلالة على أن الشيخ عبد الله، أخذ عن الشيخ محمد المانع العلم في البحرين ثم في قطر ثم في مكة، وكذا عن الشيخ محمد بن إبراهيم مرتين، في الرياض، ومع أنه لم يستمر في الجلوس عند مشايخه طويلا، إلا أنه لذكائه وقوة حافظته، فإنه يستوعب كثيرا وبسرعة، وهذه موهبة من الله بانت عليه منذ حداثة سنه وأدركها منه مشايخه فكان لهم فيه نظرة خاصة.
__________
(1) مشاهير علماء نجد وغيرهم الطبعة الأولى 1392هـ بإشراف مؤسسة اليمامة بالرياض ص 270(86/339)
ثقافته واطلاعه:
يقول ابنه الشيخ عبد الرحمن: كانت حياة الشيخ طلبا متصلا للعلم منذ صغره، فقد كان منقطعا لتقلي العلم وحفظ القرآن والأحاديث والمتون المختلفة، وكانت والدته - مع أنه ابنها الوحيد - تدفعه وتدعو له، وتوافقه على السفر في سبيل العلم.
ولم يشغله عمل القضاء عن طلب العلم، لأنه شغوف بالدراسة والمطالعة، حتى يبقى العلم حيا في ذاكرته.
وتحوي أوراقه الكثير من هذه الكتابات، وهي مكتوبة على ما تيسر تناوله: كظهر رسالة أو مظروف، أو قصاصة ورق، بل إنه قد ينهض من نومه، لتسجيل فكرة أو خاطرة قبل أن ينساها.
وكانت له همة عالية وفهم كبير، وإذا اهتم بأمر لا يخلد للراحة حتى ينجزه. وقد درس فضيلته الكثير من الكتب المتعلقة بالعلوم الإسلامية المختلفة، وقد توسع كثيرا في العلوم الدينية، فلم يقتصر على معرفة مذهبه، بل تعداه إلى دراسة جميع المذاهب، واطلع على مواقع الخلاف والاتفاق بينها، ودرس كتب الملل والنحل الأخرى، مع أنه حنبلي المذهب سلفي العقيدة.
أما التفسير فقد أحاط به وبكتبه المختلفة إحاطة واسعة مع كتب الصحاح كما قرأ كثيرا من كتب التاريخ والسير، مع إلمامه(86/340)
الواسع بأيام العرب وأنسابهم وتاريخ الإسلام ورحلاته، وله إلمام واسع بالأدب والشعر، حفظا ورواية للقصائد، وأبيات الحكمة، والأمثال العربية ويستشهد بها كثيرا في أحاديثه وكتاباته.
قوة الذاكرة: لقد رزق الله الشيخ ذاكرة نادرة، وهي حلية طالب العلم فمع سرعة الحفظ فإن لديه قدرة على استرجاع ما حفظ، ومن ثم الاستشهاد بما مر عليه، أما عندما يناقش موضوعا من الموضوعات، فإنه يشير إلى الدليل والمرجع الذي يسند إليه ويحدد الفصل والصفحة التي بها الدليل، وقد شهد له أقرانه بذلك.
1- فمنهم الشيخ: عبد الله المسعري (1) رئيس ديوان المظالم السابق في المملكة العربية السعودية، الذي قال: إنني لم أعرف أحدا من العلماء لديه مثل ذاكرة الشيخ ابن محمود، فقد حفظ منظومة ابن عبد القوي عن ظهر قلب وهي لا تقل عن ستة آلاف بيت، ولم يستطع أحد من طلبة العلم القدامى أو المحدثين حفظها. وكان موسوعة علمية لا يضاهيه أحد من معاصريه، كان كلامه حكمة، سألته مرة: هل تقرأ الشعر يا شيخ؟ فرد علي: جيده لا يواتيني، ورديئه لا أواتيه. وحفظت من كلامه حكمة قال هي: (نكح الكسل التواني فولد بينهما الحرمان) .
__________
(1) من بلد الشيخ التي ولد فيها، حوطة بني تميم ومزامل له عند المشايخ(86/341)
2- وقال الشيخ عبد القادر العماري: كان رحمه الله صاحب ذاكرة سيالة، وحافظة نادرة، يحفظ النصوص والأدلة والأشعار وأقوال الأئمة، ويستحضرها بمنتهى اليسر، ومن آيات الله تعالى فيها التي تدل على التوفيق والبركة، كما أنه لما أصابه ضعف الشيخوخة، وبدأ النسيان يقتحم ذاكرته القوية لتهزمه السنون، وتغلبه سنة الله تعالى في كبار السن، أنه في أحد المجالس وكنت موجودا معه مع كثرين يشهدون بذلك: أن أخذ أحد أبنائه المصحف أمسكه ليسمع الشيخ جزءا من القرآن، فبدأ الشيخ يقرأ وهو في مرضه الذي ضعفت معه ذاكرته جدا.
وفي الأثناء دخل عدد من الناس إلى المجلس وانقطعت القراءة وطالت فترة الانقطاع، وبعد انصراف الناس، أراد الشيخ استئناف التسميع وقرأ لابنه من الموضع الذي وقف عنده وكنا نسيناه فتعجبنا من ذلك.
3- أما رجل الأعمال: عبد العزيز بن علي بن عزمان، فقد ذكر عن والده حادثة قديمة، عندما كان الشيخ عبد الله يدرس عند الشيخ أبو حبيب (الشثري) ، وكان في سن صغيرة، يقول: أخذني الشيخ أبو حبيب لزيارة الشيخ عبد الله فرحب بنا، وبدأ يعد لنا القهوة (يحمسها) ، وأعطى أبو حبيب الشيخ عبد الله، ورقة فيها منظومة من ثمانين بيتا، وأثناء ما كانت القهوة على النار استمر الشيخ عبد الله، يطالع في(86/342)
الورقة وقبل أن تفور الدلة أعاد الورقة للشيخ أبي حبيب، فقال له: (أنا أعطيك إياها لقراءتها علينا، وأنت تعيدها. فاستفتح الشيخ عبد الله بدءا بأول أبيات القصيدة، وسردها إلى أن أتى على نهايتها، يقول علي بن عزمان، فعجبنا غاية العجب، وبعد خروجنا أمسك الشيخ أبو حبيب بيدي، وقال: يا علي والله إن طالت بك الحياة، واستمر عبد الله في العلم، أن يعد له عدود - أي يحسب له حساب -.
وفعلا حدث ما توقعه فيه شيخه أبو حبيب، حتى أنه اعترف له في كثير من المناسبات بأنه سيصبح أعلم منه.
4- ويقول عبد العزيز بن عزمان: كنت أقدم القهوة في مجلس والدي لضيوفه، وفي مقدمتهم الشيخ عبد الله بن زيد بن محمود، الذي قدم من قطر، وبدأت بتقديم (الفنجال) للشيخ أبي حبيب باعتباره الأكبر سنا، ولكنه رده للشيخ ابن محمود الذي رفض بدوره أخذه، قائلا: كيف آخذه وأنت شيخي وخالي، فرده أبو حبيب قائلا: أنا شيخك وخالك، ولكن الله فضلك علي بالعلم، ومع ذلك رفض الشيخ ابن محمود أن يتقدم على شيخه في أخذ (الفنجال) (1)
__________
(1) ص 3، 4 عن ترجمة لسيرة الشيخ عبد الله من ابنه الشيخ عبد الرحمن(86/343)
توليه القضاء في قطر:
لما ترك الشيخ محمد بن مانع قطر بعدما عينه الملك عبد العزيز مشرفا ومدرسا بالحرم المكي، فقد ترك فراغا، إذ خلفه في القضاء بقطر الشيخ محمد الجابر، وما لبث أن توفي، فشعر حاكم قطر بالحاجة إلى من يملأ هذا الفراغ، يقول عبد الله بن بسام:
وفي منتصف شهر ذي الحجة من عام 1359هـ، قدم الشيخ عبد الله بن قاسم بن ثاني حاكم قطر، وبصحبته ابنه الشيخ حمد بن عبد الله، وعدد من كبار أسرة آل ثاني والأعيان إلى مكة، وبعد أداء فريضة الحج، طلبا من الملك عبد العزيز آل سعود أن يبعث معهما رجلا يصلح للقضاء والفتيا، حيث كانت قطر ذلك الوقت بدون قاض بعد أن غادرها الشيخ محمد بن مانع، وقد وقع اختيارهما على الشيخ عبد الله بن زيد بن محمود، بإيعاز من الشيخ محمد بن مانع، الذي اختاره لما رآه منه، من سعة في الاطلاع والعلم، وحلم وذكاء، وغيرها من الصفات التي تتلاءم مع مهمة القضاء بين الناس.
فصدر الأمر إليه بالتوجه معهما في نفس السنة حيث تقلد أمانة القضاء في 15 من ذي الحجة عام 1359هـ.
وقد اشتهر في قضائه بتحري العدل والنزاهة، حتى أصبح الناس(86/344)
يقصدونه من المناطق المجاورة لفض نزاعاتهم وخصوماتهم، وكان لا يفرق في قضائه بين كبير وصغير، فالجميع أمام الحق سواء، وكان قوي الشخصية، لا يهاب ولا يخشى في الله لومة لائم.
ويعتبر بحق مؤسس القضاء الشرعي في قطر، حيث وضع نظام تسجيل الأحكام، والقضايا لحفظها، ولم يكن القضاة قبله يسجلون أحكامهم، أو يفرغونها على الورق. (1)
يقول ابنه الشيخ عبد الرحمن: كانت الفترة التي تولى فيها الشيخ القضاء في بداية تكوين الدولة، وكانت أجهزة الحكومة بسيطة وقليلة وإمكانياتها محدودة، وقد مر عليها ظرف اقتصادي صعب مع انهيار سوق اللؤلؤ الطبيعي، وقد تولى الشيخ القضاء مع نشوب الحرب العالمية الثانية، التي استمرت ست سنوات، وتضررت منها دول الخليج، حيث انقطعت المؤن التي كانت تصل عن طريق البحر، وأدى ذلك إلى ازدياد نقاط التهريب، وارتفعت الأسعار إلى عشرة أضعاف أو أكثر، مما تسبب في عجز الكثيرين عن توفير الغذاء وكثر الموت بسبب الجوع والأمراض، فتصدى الشيخ في بداية عمله لكثير من المشكلات المعقدة، وقد استطاع في مدة وجيزة أن يحل كثيرا من الخلافات القبلية، وخاصة في مناطق
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون لابن بسام الطبعة الثانية 1419هـ، ج4 ص122، 123(86/345)
الشمال بحيث استقرت العلاقات بين القبائل.
وقد اشتهر في قضائه بالعدل والنزاهة، وعدم التفرقة بين الجميع، ويتناقل الناس كثيرا من المواقف التي حكم فيها لصالح الضعفاء ضد شيوخ ووجهاء (1)
وكان متحمسا للعمل متأثرا بشيخه: محمد بن مانع، ويستشيره في بعض الأمور، لما بينهما من رابطة قوية فبدأ القضاء بمحكمة شرعية واحدة، هو قاضيها ورئيسها، ومع تنظيمه للقضاء، فقد زادت المحاكم بأجهزتها وموظفيها إلى ثلاث محاكم شرعية، واستمر على منهج شيخه ابن مانع، بطبع الكتب، وتوزيعها على طلبة العلم في قطر والمملكة العربية السعودية، وغيرهما وأسس دائرة الأوقاف، ورئاسة المحاكم الشرعية عام 1380 هـ.
ثم اهتم بالتركات وأموال القصر، واستثمارها بنفسه حتى يكبروا، ولقي في ذلك عنتا ومشقة، واتهامات، لكن بان لهم صدقه وأمانته، بمواقف انتشر أثرها في قطر، فحمدوها له ودعوا له.
ومن مخافته بعدم من يقوم بهذا العمل من بعده، فقد ربطها بالأوقاف حتى يستمر هذا العمل وقد صار.
ثم حرص على توسيع عمل: دائرة الأوقاف والتركات، بعد أن ضم إليها أموال اليتامى والقصار، فجعل من صميم عمل هذه الدائرة
__________
(1) ص 4 عن ترجمة لسيرة الشيخ من ابنه عبد الرحمن(86/346)
أيضا: إنشاء المساجد وصيانتها وحفظ الأوقاف، وتتولى المحكمة الإنفاق على القاصرين، واستثمار أموالهم حتى يستمر العمل لمصالحهم بعد وفاته؛ لأنه من إخلاصه ودرايته يبحث عن الأعمال التي فيها نفع وفق مسؤولية القضاء والعلماء فينفذها، ولا يتكاسل حتى تصل إليه الأعمال فيحتار فيها، وقد ذكر أحد تلاميذه الذين رافقوه سنين طويلة نماذج من طريقته في قضائه منها:
1- كان في قضائه يساوي بين المتخاصمين، فقد كانت خصومة بين واحد من الوجهاء، ومن أعيان البلاد، وبين آخر من عامة الناس، فأمرهما أن يجلسا بجوار بعضهما في مجلس القضاء أمامه.
ثم أدلى كل واحد منهما بحجته وهما أمامه، فحكم بينهما بما شرع الله.. وهذا كثير عنده، حتى عرف بذلك مهما كان الخصمان.
وكانت له هيبة لدى كبار القوم وصغارهم، وكان له فضل إعطاء الشرع احترامه، وإلزام الناس بحدوده وحقوقه، وله فضل (بعد الله) في حماية مصالح الضعفاء، من تسلط الأقوياء، في وقت لم تتكامل أجهزة الدولة.
ويرى ابنه عبد الرحمن: بأنه خالف رأي الجمهور حول الطلاق البدعي، حيث لم يضع له اعتبارا، وله الكثير من الآراء التي تسير عليها محاكم قطر، والتي حلت الكثير من المشكلات (1)
__________
(1) ص 4 عن ترجمة لسيرة الشيخ من ابنه عبد الرحمن(86/347)
2- إذا تنازع عنده رجلان في عقار، فإنه يعدهما وقتا يخرج معهما للوقوف على العقار، ومعرفة ما عند كل من الخصمين، بل إنه لا يتورع أن يقوم معهما في الحال، حتى ينهي القضية من يومه وبقناعة.
3- كان كريما جوادا، فقد جاء إليه أناس من نجد، فقام بواجب الضيافة وأكرمهم غاية الإكرام، مع البشاشة والترحيب، فقالوا له: يا شيخ عبد الله إننا لم نجد من هو مثلك في خصالك الحميدة، وكرمك إلا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وكان قاضيا في الدلم بالخرج ذلك الوقت فرد الشيخ عبد الله قائلا: لا يا عيالي فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز خير مني وأكرم، فأنا أنفق من يسر والحمد لله، وهو ينفق من عسر وقلة ذات اليد، ولذلك فهو خير مني كرما وإحسانا، بارك الله فيه.
4- توفيت امرأة قطرية، ووراءها ورثة قصر، ولها بعض المال اليسير فقام باستثماره في العقار، وكان كل ما وراءها هو البيت الذي كانت أمهم تسكنه فقط، وكان لإحدى بناتها زوج سليط اللسان، ويجاهر بأن الشيخ ابن محمود أكل أموالهم، ولم يلتفت(86/348)
الشيخ لكلامه، حتى كبر القصر وبلغوا سن الرشد، فاستدعاهم وأخبرهم بأن جميع ما وراء أمكم بيت شعبي، وقد استثمرتها لكم، فهذه صكوك أربعة بيوت، وبين لهم مواقعها، فشكروا له هذا العمل، وقام زوج البنت ليعتذر عما بدر منه تجاه الشيخ، وأخذ ينشر في الناس أعمال الشيخ وفضائله.
5- جاءته امرأة تشتكي زوجها، وأنه لم يوسع عليها في النفقة، فسأل الشيخ الزوج عما قالت؟ فأجابه قائلا: أحوالي ضعيفة وهذه قدرتي، ثم سأله عن اسمه قال: اسمي فقير، وسأل الزوجة عن اسمها فقالت: ملكة، فتبسم رحمه الله، وقال هذا سبب الخلاف، ملكة تتزوج فقيرا، لم يوافق شن طبقة، فانتهت القضية بأن تنازلت المرأة عن دعواها، بعد ما منحهم الشيخ مما أعطاه الله مساعدة لهما
6- كان فضيلته يبكر في الجلوس للقضاء قبل طلوع الشمس، طوال العام عدا أيام الجمع، ويبدأ جلسته ببحث وكتابة القضايا المعروضة أمامه في اليوم السابق، وبعد إنجازها يستدني الخصوم الذين تغص بهم قاعة المحكمة، فيبدأ بحل قضاياهم، ويجتهد في الإصلاح ما وجد لذلك سبيلا، ويساهم من ماله في الإصلاح إذا كان الخصم فقيرا.(86/349)
7- قد يتطاول عليه بعض الخصوم برفع الصوت أو التجريح، فيتحمل منهم كل ذلك بصبر، وقد رفض عدة مرات وضع شرطة لتنظم الدخول عليه، خوفا من أن يردوا صاحب حاجة أو يمنعوا سائلا، وأكثر القضايا يحلها في جلسة واحدة، ويحرص في القضايا المتعلقة بالعقار أن يخرج بنفسه لمعاينة مكان الخلاف، ويتأنى كثيرا قبل إصدار الحكم حتى يتضح له الحق والصواب، فيقضي به، وقد اشتهر بحل القضايا الصعبة، والمسائل المعقدة، حتى أصبح الناس يقصدونه من البلدان المجاورة، أو يرسلون إليه باستفساراتهم، فيرد عليها بما يشفي غليلهم، وكان له فكر ثاقب، وحكمة ودراية بأحوال الناس، وقد وضع عددا من الأسس والآراء الفقهية التي تيسر على الناس، والتي تخالف ما كان عليه عمل المحاكم في المنطقة لخبرته القضائية الواسعة.(86/350)
إخلاصه وجرأته في الحق:
كانت أجهزة الدولة في قطر، أول ما تولى الشيخ القضاء ضعيفة، إذ لم يكن هناك بلديات أو دوائر للخدمات، مما زاد العبء على جهاز المحاكم، ومع ذلك فقد نهض الشيخ بمسؤولياته خير قيام: فكان هو القاضي، والمفتي، ويلقي الدروس، ويتولى مهمة الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويشرف على المساجد والأوقاف وكفالة الفقراء والأيتام والقصر واستثمار(86/350)
أموالهم، علاوة على:
ما يتعلق بالمواطنين والخدمات، وكانوا في قطر يسمونه: أبو المساكين، وأبو اليتامى، كما اشتهر بالعدل والحزم في قضائه، علاوة على احترامه لوقت الدوام، إذ كان أول من يداوم في مكتبه وآخر من يخرج.
كما تحسس حاجة أهل البلاد، الذين لم يكن لهم دخل يكفيهم، فقام بالتوسع في توظيفهم في المساجد، فكان يعين في بعض المساجد أكبر من حاجتها، قد يصل إلى عشرة، كل ذلك من أجل المساعدة في توفير دخل للمحتاجين، وكان يصرف راتب المتوفى لورثته المحتاجين.
وقد كان أول من وضع أساس النظام الاجتماعي، عندما بدأ في إجراء مقررات للعجزة، والأيتام والفقراء من أهل البلاد.
وعندما وجد أن الحكومة قد تأخرت في إجراء خدمة توصيل المياه العذبة للقرى البعيدة عن العاصمة تولى المهمة بنفسه، وقام بالاتفاق مع عدد من المقاولين في تلك القرى لتوصيل المياه إلى كل بيت فيها بعد أن اعترض المستشار.
ولما وجد المقابر غير محترمة، ولا عناية لها فقد قام - رحمه الله - بتخصيص مقابر في كل منطقة، مع تزويدها بحاجتها من عمال ومجهزين.
ومن مواقفه الحازمة: عندما تقدم بعض التجار بطلب افتتاح(86/351)
دار للسينما في الدوحة، رد عليهم الشيخ على آل ثاني بأنه: إذا أجاز ذلك الشيخ عبد الله بن محمود فلا مانع لدي، لكن فضيلته أجابهم بحرمة ذلك، وأنه باب من أبواب الشر ودخوله للبلاد، يجب إغلاقه.
وقبل بداية الاستقلال لدولة قطر، وفي عهد الشيخ: أحمد بن علي رحمه الله، وعندما عين: حسن كامل مستشار للحكومة، أراد أن يضع قانونا للديات بحيث تكون دية الشخص المسلم على ثلاث درجات: طبقة الوجهاء والأعيان، وكبار المسؤولين، ومن يماثلهم بالدرجة الأولى، وديتهم عالية، ثم الطبقة الوسطى، ولهم دية من الدرجة الثانية، ثم الطبقة الفقيرة، أو ذات الدخل المحدود، ولهم دية من الدرجة الثالثة.
لكن فضيلة الشيخ عبد الله غضب، وتصدى لحسن كامل بقوة وثبات، وجرت مناقشة بحضور الشيخ أحمد، وبين فضيلة الشيخ لهم: أن دماء المسلمين متكافئة، يسعى بذمتهم أدناهم فانتصر هذه القضية، وبقيت دية المسلمين متساوية كما شرعها الله.
ولما كان فضيلته أول من سن في قطر نظام المساعدات للعجزة والأرامل والفقراء وغيرهم، فقد كانت أول حادثة لهذا الأمر أن رجلا عاجزا عن العمل حضر إليه مبينا أنه لا دخل له، ولا يوجد من يعوله، فكتب إلى المستشار وهو في ذلك التاريخ، إنجليزي الجنسية يدعى (جي إم هنكوك)(86/352)
فكتب إليه الشيخ بشان تقرير مساعدة شهرية للرجل، يتعيش منها ومن يكلفهم إن وجد، إلا أن المستشار رفض، فما كان من فضيلته إلا أن قرر مبلغا معينا للشخص المذكور، ثم أخذه معه في سيارته، وذهب به إلى مقر المستشار، وأدخله عليه في مكتبه، وقال له: يجب أن يصرف هذا المقرر للرجل، ولن يغادر مكتبك حتى يتم له هذا الضمان، لكون الحكومة ملزومة بذلك شرعا، لكل من هو في حالته.
وقد تم ذلك، ووافق الشيخ علي يرحمه الله، على أن يقرر لكل عاجز، أو أرملة أو يتيم، يرى فضيلته أحقيتهم للمساعدة، أن يصار إلى صرفها بالقدر الذي يقرره فضيلة الشيخ عبد الله. (1)
وله مواقف كثيرة، يقدرها له حكام قطر، ويؤيدونه فيها، لما يعلمونه من نصحه وإخلاصه وصفاء نيته ومن ذلك قصته إيصال المياه العذبة التي أوردتها في هذا البحث باختصار، حيث أجرى عقودا بتأمين المياه العذبة لكل بيت يوميا في جميع القرى، وأوضح للمستشار الذي رفض ذلك بقوله: بأن عليهم أن يشربوا من الآبار، فرد عليه بأنه حق لهم واجب على الدولة، أن تساويهم بأهل الدوحة، وشرع الله لا يفرق في الحقوق بين مواطن ومواطن، وكان ذلك في
__________
(1) من أوراق مخطوطة بعثها إلي ابنه فضيلة الشيخ عبد الرحمن، بأقلام أخص تلاميذه(86/353)
عام 1376هـ عندما تقدم له أهالي 50 مدينة وقرية في شمالية في قطر.
وكان هو أول من طبق في قطر اعتبار الطلاق بالثلاث عن واحدة، وخالف رأي الجمهور حول الطلاق البدعي، وله الكثير من الآراء التي تسير عليها محاكم قطر الآن التي حلت كثيرا من المشكلات (1)
__________
(1) من أوراق بعثها إلي ابنه معالي الشيخ عبد الرحمن رئيس المحاكم في قطر(86/354)
نماذج من شجاعته:
يقول ابنه عبد الرحمن: لقد كانت للشيخ هيبة لدى كبار القوم وصغارهم وكان له - بعد الله - فضل في إعطاء الشرع احترامه، وإلزام الناس بحدوده وحقوقه، وكان له فضل في حماية حقوق الضعفاء، من تسلط الأقوياء، خاصة في وقت لم تكن فيه أجهزة الدولة قد تكاملت بعد.
وحكام البلاد يحترمون أحكام الشرع، وإذا جاء لأحدهم قضية حول حقوق عقارية أو مالية ولم يتمكنوا من حلها عن طريق وكلائهم فكانوا يحيلونها إلى الشيخ، ويلتزمون بما يحكم به، وقد أصدر الشيخ عددا من الأحكام التي كان الخصم فيها أمير البلاد، وكان وكيله يحضر الجلسات، وقد يكون الحكم لصالح الحاكم أو لصالح خصمه.
ومما ينقل عنه، بأنه ذهب للنظر بقضية في الشمال بين أحد(86/354)
الشيوخ، وأحد المواطنين، وكان من عادته أن يقف بنفسه على موضوع النزاع قبل البت في الدعوى، ويذهب عادة بعد العصر، فلما علم الذي رفع أن الشيخ سيأتيه، أعد له العشاء كالعادة، فلما حضر الشيخ، قال له: يا شيخ ترى حضرنا لك العشاء، فقال: أنا لم آت للعشاء، وإنما لننظر دعواكم.
وبعد أن انتهى من الدعوى ركب سيارته، وعاد دون أن يتناول العشاء وبعد أيام قليلة أصدر حكمه، وكان الشيخ الذي أعد العشاء هو الخاسر في هذه القضية.
فلما رآه الشيخ بعد ذلك قال له: الآن آتيك للعشاء، وقد تعشى عنده فعلا، وقد كانت تسويته بين الخصوم تقتضي ألا يقبل دعوة أحدهما دون الآخر، كما كان يرحمه الله يرفض الهدايا، لكون القاضي يجب أن يبعد نفسه عن أي شبهة.
- ونموذج آخر: فقد طلب منه أحد حكام قطر السابقين توثيق عطاء لأحد أولاده، فسأله هل أعطيت أبناءك مثله؟ فقال: لا. فرفض الشيخ توثيق هذا العطاء، وقال: أشهد عليه غيري ثم قام من مجلسه.
- وكان رحمه الله ورعا خاصة فيما يتعلق بالمال العام، يقول الشيخ: جاسم بن علي بن جاسم، أرسلني الشيخ حمد بن عبد الله إلى الشيخ عبد الله، وطلب منه أسماء أولاده، حتى يجري لهم رواتب من الديوان، فرفض أن يعطيه أسماءهم، وقال: أولادي أنا أتكفل بهم(86/355)
- وعندما عين رحمه الله قاضيا: أمر الملك عبد العزيز بإجراء رواتب له، فعف عنه واكتفى بالراتب الذي أجرته له الحكومة القطرية.
- أما عن شجاعته في الحق، فيبين نموذجه في رده على رسالة أحد الوجهاء ممن كانت له علاقة قوية معه، بعد أن حكم ضده في قضية لصالح امرأة ضعيفة وبناتها اليتامى، ومنه قوله: (وإني لأشعر بأمر يعود عليك بالراحة، وهو أن مدحك لي لا يحملني على الحيف لك، كما أن ذمك لا يستدعيني إلى ظلمك.
ولو كان الأمر بالتخيير، وأن الحكم لا يعقبه حساب خبير، ولا عقاب قدير، لاخترت أن يكون عندك دونهم، ولن يرهقني طغيان عليك، ما نسبتني إليه من اللوم والذم، وما نسبتني إليه من الجور والظلم في خصوص هذا الحكم؛ لأن ما من أحد سلم من أذى الناس، حتى كتاب الله الموصوف بالصدق والعدل لم يسلم من الطعن) .
- وجاء عامل هندي يشكو كفيله وهو أحد الوجهاء، ويقول: إن كفيلي لم يعطني راتبي من عدة شهور، وعندما طالبته ضربني بالعصا، وأثر ضربه واضح في الهندي، وكشف ظهره، فإذا أثر الضرب بين.... فغضب الشيخ وأرسل من يطلب هذا الكفيل، وعندما حضر أدخله للمكتب الخاص ومعه العامل الهندي، وسأله عن أثر الضرب في ظهره. فلم يستطع الإنكار فتكلم عليه الشيخ بكلام شديد، وقال له: أما تخاف الله؟ كيف ستواجه ربك بمثل هذا الفعل الشنيع، وأكثر عليه(86/356)
من الكلام حتى استعد هذا بتنفيذ ما يحكم به الشيخ. فحكم عليه بدفع مبلغ كبير كتعويض عن الضرب، وعن رواتبه غير المدفوعة، وسأل العامل الهندي، أن يرضى بذلك فقبل وشكر.
- وقام بعض الوجهاء بحصر ورثة والدهم المتوفى، وأسقطوا عمدا أختا لهم مريضة، ولم يثبتوها ضمن الورثة، وعلم الشيخ بذلك فاستدعاهم ودخل معهم في مكتبه الخاص، يقول أحدهم: إن الشيخ تكلم علينا بكلام شديد، حتى قمنا نتسابق إلى الباب هاربين.
- واشتكى أحد المواطنين بأن وكيل أحد حكام قطر السابقين، يبني للحاكم عمارة، وقام بفتح مكيفات على عقار المشتكي. فطلب الشيخ الوكيل، وسمع حجته، ووقف على الموقع ثم أصدر حكمه بسد الفتحات، لكونها تؤذي الجار، واضطر الوكيل إلى تنفيذ الأمر، بعد أن راجع الحاكم، فقال له نفذ أمر الشيخ (1)
إلى جانب مواقف شجاعة، حيث لا يرضى الشيخ بالظلم بل يسعى لتطبيق عدالة الأحكام الشرعية.
__________
(1) ص 5، 6 عن ترجمة لسيرة الشيخ من ابنه الشيخ عبد الرحمن(86/357)
برنامجه لشهر رمضان:
كان الشيخ في رمضان يلقي بعد صلاة العصر درسا يحضره كبار أهل البلاد، والمصلون في ذلك المسجد، وكان درسه يتناول في(86/357)
كل يوم موضوعا في الفقه والحديث، أو التفسير لإفادة مستمعيه، ثم بعد ذلك يقوم بتدريس أولاده القرآن، حتى قرب صلاة المغرب حيث يذهب إلى منزله، ويفطر مع جلسائه، ويشاركهم في تناوله عدد من الضيوف والفقراء والمحتاجين الذين يقصدونه.
وكان رحمه الله كثير الصدقة في هذا الشهر الكريم، كما كان يؤم الناس لصلاة التراويح حيث يصلي بهم إحدى عشرة ركعة مع الوتر ويقرأ جزءا كاملا من كتاب الله الكريم (1) ثم يجلس بعد التراويح في مجلسه، حيث يقصده المهنئون بالشهر كما يقصده زواره الكثيرون، في مثل هذا الوقت خلال رمضان.
وفي العشر الأواخر كان يؤم الناس لصلاة القيام، حيث يقرأ ثلاثة أجزاء في اليوم، في ثمان ركعات مع ركوع وقيام وسجود طويل، وكان يجلس للراحة بعد الأربع الأول، حيث تدور القهوة والطيب، ويلقي موعظة في المصلين، تشتمل على فوائد عديدة.
- أما خطبة الجمعة التي يحرص على إلقائها منذ توليه القضاء، فهي درس أسبوعي يتناول فيه موضوعات إسلامية عامة من الأمور التي تهم الناس في حياتهم، وتحوي خلاصة لآراء فضيلته واجتهاداته في المسائل الشرعية.
وبعد افتتاح إذاعة قطر أصبحت خطبه مسموعة في البلدان
__________
(1) في هذا قد طبق السنة بإطالته القراءة(86/358)
المجاورة وتذاع مباشرة في ليلة السبت وقد جمعها في كتاب: (الحكم الجامعة لشتى العلوم النافعة) إذ كان له مواقف مشهودة على المنبر، والجميع يحسبون لها حسابا، وهي من الوسائل التثقيفية للناس وتعليمهم أمور دينهم كما كان مرجعا للقضاة والمستفتين. (1)
__________
(1) ص 6 عن ترجمة لسيرة الشيخ من ابنه الشيخ عبد الرحمن(86/359)
مؤلفاته:
كان الشيخ عبد الله بن محمود، محبا للخير، والسعي في مصالح المسلمين أينما كانوا، ذكيا يقرأ اختلافات العلماء، ويرجح ما فيه تيسير على الناس، حيث يرى أن الحكم يدور مع علته، ومطبقا ما جاء في كتاب الله، وما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعوة للتيسير: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (1) {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (2) حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا (3) » ولذا يلمس المتابع لمسيرة الشيخ عبد الله في قضاياه وفتاواه، وفي رسائله وخطبه وفي معالجة الأمور، أنه: يحرص على ما فيه رأفة بالضعيف، ومساعدة للمحتاج والفقير، وهذا من الإحسان الذي
__________
(1) سورة الشرح الآية 5
(2) سورة الشرح الآية 6
(3) أخرجه البخاري في كتاب العلم برقم 69، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة(86/359)
أمر الله به، في قوله الكريم: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1) .
يقول عمر تهاني مختار، في كتابه عن الشيخ عبد الله: لقد أثرى الشيخ المكتبة الإسلامية، بمجموعة قيمة من الكتب والرسائل تدل على تمكنه في العلم، وسعة اطلاعه وهمته العالية، وهي واضحة العبارة، يغلب عليه الدليل والأثر، زاخرة بالعلم الشرعي المبني على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الأئمة المرضيين، ولم تكن في شأن واحد، بل شملت شؤونا عديدة.
وقد أصدر ما يزيد على ستين مؤلفا من الكتب والرسائل (2)
وقد ذكر له ما بين رسالة ومقال (69) كما عقد فصلا لآرائه واجتهاداته، شملت 28 نوعا كتب فيها، هي ضمن رسائله ومقالاته الآنفة الذكر، إلا أنه تحدث عن كل نوع، من باب تعريف القارئ بملخص عن كل حالة (3)
والشيخ عبد الله البسام يقول: ألف الشيخ الكثير من الرسائل والكتب الهامة، والتي تتناول اجتهاداته في الأمور المستحدثة، أو نصائحه للحكام وأولياء الأمور منها:
1- يسر الإسلام في أحكام بيت الله الحرام: ويرى فيه جواز
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) تحفة الودود ص 150-133، الفصل الرابع
(3) يراجع كتابه تحفة الودود الفصل الخامس ص 135-177(86/360)
الرمي قبل الزوال.
2- تحقيق المقال في جواز تحويل المقام: بحث فيه جواز تحويل مقام إبراهيم عن مكانه حيث يضايق الطائفين.
3- مباحث التحقيق مع الصاحب الصديق، بينه وبين صديقه وزميله في الدراسة، والعمل بمكة: الشيخ: عبد العزيز الرشيد رحمه الله.
4- أحكام عقود التأمين، ومكانها في شريعة الدين، وفيه يرى: تحريم التأمين على الحياة.
5- اجتماع أهل الإسلام على دين واحد: اقترح فيه تكوين لجنة مقرها مكة، مهمتها رصد الهلال ليكون قرارها معتبرا في جميع البلاد الإسلامية.
6- رسالة الخليج في منع الاختلاط: تصدى فيها لفكرة الاختلاط، في العمل بين الجنسين، وبين ضرر ذلك.
7- التزويج بالكتابيات: وقد حذر من ذلك، وبين ضرره على الأبناء، لضعف سلطة الأب.
8- كلمة الحق في الاحتفال بمولد سيد الخلق: رد فيها على رسالة من حاول إيجاد تبرير للاحتفال بالمولد.
9- وجوب الإيمان بكل ما أخبر به القرآن، من معجزات الأنبياء، وبين أنه لا مجال للرأي في هذه الأمور.(86/361)
10- الإيمان بالقضاء والقدر: رسالة وضح فيها بالشرح الوافي، وطريقة فهم السلف الصالح في الاعتقاد بالقضاء والقدر.
11- عقيدة الإسلام والمسلمين: رسالة تناقش الإيمان بالله وتوحيده، والابتعاد عن الشركيات.
12- انحراف الشباب عن الدين: رسالة وضح فيه أسباب انحراف الشباب، وتدعو إلى توفير أنواع التعليم النافعة لهم.
13- حكمة التفاضل في الميراث، بين الذكور والإناث: وهي رد على من ينتقدون الإسلام، وبيان الحكمة في التفريق بين الجنسين.
14- حكمة إباحة تعدد الزوجات: رسالة في الرد على من ينتقد الإسلام، بإباحة تعدد الزوجات..
15- نهاية المرأة الغربية بداية المرأة العربية: رسالة للمرأة المسلمة، حتى لا تقلد المرأة الغربية، وحتى لا تنهار الأخلاق وتضيع القيم.
16- منع تصوير شخصية الرسول، وكلامه وحركاته: رسالة كتبها بمناسبة إخراج فيلم (محمد رسول الله) .
17- المسكرات والخمور: رسالة تشرح الحكم في الخمور، وبيان الأضرار وخطر الخمور على الأمة.(86/362)
18- حماية الدين والوطن من غزو أفلام الخلاعة والفتن: رسالة تبين الحكم والأضرار وما تجر إليه من انحراف وفساد في الأخلاق.
19- قضية تحديد الصداق، ومعارضة المرأة لعمر رضي الله عنه في ذلك، رسالة بين فيها القصة، وشرح رأيه في وجوب تحديد الصداق لتسهيل الزواج، والتشجيع عليه.
20- كتاب الصيام وفضل شهر رمضان: رسالة تشرح وظائف شهر رمضان، وتبين أحكامه في الإسلام.
21- الأحكام الشرعية، ومنافاتها للقوانين الوضعية: رسالة ينتصر فيها للإسلام، ووجوب تطبيق الشريعة.
22- تحريم الربا بأنواعه، وعموم مساوئه وأضراره: رسالة تشرح أنواع الربا، وأضراره على الاقتصاد والأفراد.
23- الرد بالحق الأقوى، على صاحب بوارق الهدى: رد على كتاب حاول مؤلفه أن يفسر القرآن بما يناقض بعض الآيات، مخالفا ما قاله المفسرون (1)
24- وجاء في الأوراق التي بعثها إلي ابنه، معالي الشيخ عبد الرحمن هذا القول: وقد يؤلف كتابا لمناقشة مسألة
__________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون لابن بسام الطبعة الثانية ج: 4، ص127-132 بتصرف(86/363)
مطروحة، كما حصل في فتنة المهدي في الدوحة، وكان فضيلته قد أعد بحثا في مؤتمر السنة المطهرة في الدوحة، فعدل إلى بحث حول المهدي المنتظر، فألقاه على الحضور في المؤتمر.
ثم ألف كتاب: يسر الإسلام في أحكام حج بيت الله الحرام، الذي أثار ضجة كبيرة في حينه، وطلب الملك سعود من الشيخ علي حاكم قطر إيفاد الشيخ عبد الله للرياض، لمناظرة المشايخ حول رأيه، فتم ذلك وعلى رأسهم شيخه الشيخ محمد بن إبراهيم، مفتي الديار السعودية، فحاورهم وطالبهم بالرد عليه بالدليل، ورد عليه الشيخ محمد بن إبراهيم، برسالة سميت: تحذير الناسك فيما أحدثه ابن محمود في المناسك (1)
أما هو فقد دافع عن رأيه برسالة يدافع فيها عن رأيه، طبعت فيما بعد باسم الرسالة الموجهة إلى علماء الرياض، في تحقيق القول: بجواز رمي الجمار قبل الزوال.
كما نشر بعض آرائه حول مناسك الحج، في كتاب سماه: أحكام منسك حج بيت الله الحرام.
وهذا ليس استقصاء لرسائله وبحوثه، ولكن تبيان لدوره في
__________
(1) مطبعة الحكومة بمكة المكرمة سنة 1376هـ رسالة صغيرة من القطع الصغير تقع في 54 صفحة(86/364)
معالجة ما جد في حياة المسلمين من أمور تستوجب بيان الرأي الشرعي النافع والذي به تتحصن الأمة وشبابها عن كل أمر وافد بعلاج مؤثر وميسر في التطبيق
ومع هذا لم يذكروا خطبه للجمعة التي جمعت أول مرة في كتاب، وهل زيد فيها بحياته أو بعد مماته، خاصة وأن تلك الخطب قد تكون متوفرة ضمن مكتبته الكبيرة، أو في الإذاعة القطرية، حيث كانت تنقل مباشرة منذ بدأت في البث، حتى توقف عن صعود المنبر بعدما مرض.
وقد كانت هذه الخطب ذات منهج ثابت مستقل، أثنى عليه وعليها كل من سمعها أو علم عنها، أو حضر الصلاة معه في الجمعة، لما تتعرض له من معالجة لأمور جدت في المجتمع، ليبين رأي الشرع في كل جديد، وممن أعجب بها الشيخ القرضاوي والشيخ محمد الغزالي والشيخ عثمان الصالح وغيرهم، مما بان في تأبينه رحمه الله بعد وفاته.
وقد كانت جهوده العلمية التي طبعت موضع دراسة وعناية من كثير من العلماء، فهذا الشيخ الدكتور: محمد الغزالي، في كتابه: دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين: قد أثنى على رسالته: جواز(86/365)
الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحرية.. وما فيها من تيسير على المسلمين (1)
وهذا عبد الرحمن بن يوسف الرحمة، قد جمع في كتاب صفحاته 68، كلمات في تأبين الشيخ عبد الله رحمه الله، بعد وفاته منها: كلمة مطولة للشيخ عثمان الصالح رحمه الله، الذي تحدث عن سيرته وعمله معه، عندما انتدب للمعهد الديني في قطر، الذي رعى افتتاحه الشيخ عبد الله بن محمود، وأبرز في ذلك علم الشيخ عبد الله، وحماسته وخلقه وتواضعه، وختم تلك الكلمة بقصيدة يعزي فيها قطر حكومة وشعبا بوفاة هذا العالم، وضمن ذلك السفر بكلمات لكل من: الشيخ صالح بن سعد اللحيدان، المستشار في وزارة العدل، والشيخ أ. د. يوسف القرضاوي، وعبد الرحمن الزير المستشار الإسلامي في ماليزيا، والشيخ سعيد بن عبد الواحد.
وختم ذلك السفر بكلمة موجزة من عبد الرحمن الرحمة، اقترح فيها: إنشاء مشروع خيري يحمل اسم الشيخ، ودعوة للباحثين والمهتمين بالدراسة في علوم الشريعة: بدراسة منهج الشيخ في قضائه وتدريسه، وفتاواه وفقهه، وتجميع ذلك مع خطبه.
وترجم له: حسن علي دبا في مجلة المجتمع الكويتية، ونقل
__________
(1) بحث في ست صفحات ضمن هذا الكتاب، وضمن ورقات من الشيخ عبد الرحمن المحمود ص 9-10(86/366)
آراء كثير من العلماء في الشيخ عبد الله بن محمود ومكانته العلمية، ودفاعه عن دين الله (1)
ومجلة البعث الهندي نقلت في صفحتين حزن أبي الحسن الندوي، وتعازي علماء الهند في وفاة الشيخ عبد الله (2)
إلى جانب كلمات عديدة، امتلأت بقصائد وبكلمات، تعبر عن تأثر العلماء ومحبي الشيخ العارفين لمكانته، في صحيفة الوطن الكويتية، والشرق الأوسط السعودية، وغيرها من الصحف: القطرية والعربية في كل مكان رحمه الله.
وقد منح الله الشيخ قلما سيالا رحمه الله، وقوة في التعبير، يظهر ذلك في العبارة التي يصف فيها منهجه، في مقدمة كتابه: (الحكم الجامعة) : حيث يقول: وإنني عندما أطرق موضوعا من موضوعات البحث العلمي التي يحسن التذكير بها، وبمحاسنها ومساوئها وحكمها وأحكامها، فإنني آخذ للبحث بغيتي وغاية رغبتي، مما وصل إليه فهمي وعلمي، حتى ولو طال ذيل البحث، ولن أقتصر فيه على بلغة العجلان، ورغبة العاجز الكسلان، إذ إن الناس يتفاوتون في قوة الإيراد والتعبير، وفي حسن المنطق وجمال التحبير، والعلم شجون يستدعي بعضه بعضا، ويأخذ بعضه برقاب بعض، وعدوا من
__________
(1) مجلة المجتمع الكويتية العدد 1339 شوال 1417هـ ص 38-39
(2) مجلة البعث الإسلامي العدد 6ج42، ربيع الأول عام 1418هـ ص 93-94(86/367)
عيوب الكلام وقوع النقص من القادر على التمام، ووقوع الانفصال من مواقع الاتصال) ، وقد مدحه القرضاوي في منهجه التيسير، في كلمته التأبينية وقد نبه الشيخ عبد الرحمن ضمن أوراق بعثها عن سيرة الشيخ رحمه الله ومنها:
نصيحته للحكام: فقال وكان لا يتردد في نصيحة حكام البلاد، فقد كتب في إحدى نصائحه لأحد حكام قطر السابقين قائلا: فإن من لوازم المحبة الدينية، التقدم إليكم بالنصيحة الودية، فقد أخذ الله العهد علينا بأن نناصح من ولاه الله أمرنا لأن الدين النصيحة: لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، وعسى ألا أقول شيئا إلا وعلمك يسبقني إلى القول بصحته، والاعتراف بموجبه، غير أن قولي هو من باب تنبيه الغافلين: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) ، فلا تجد في نفسك من أجله فإنك عزيز عندي والحق أعز من كل أحد، وأعوذ بالله أن أموت وأنا غاش لك أو كاتم نصيحتي عنك:
ما ناصحتك خبايا الود من أحد ... ما لم ينلك بمكروه من العدل
مودتي لك تأبى أن تسامحني ... بأن أراك على شيء من الزلل
__________
(1) سورة الذاريات الآية 55(86/368)
وكان بعض السلف يقول: لو أن لي دعوة مستجابة لصرفتها إلى السلطان؛ لأن صلاحه يترتب عليه صلاح رعيته.
أيها الأمير: إن العدل قوام الدنيا والدين، وصلاح المخلوقين، وهو الإلف المألوف، المؤمن من كل خوف، به تألفت القلوب، والتأمت الشعوب، والعدل مأخوذ من الاعتدال والاستواء، وحقيقته وضع الأمور في مواضعها، وأخذ الأموال من حلها ووضعها في محلها.
فجدير بمن ملكه الله بلاده، وحكمه على عباده، أن يكون لنفسه مالكا، ولطريق العدل والقصد سالكا، وللهوى والشهوات الخارجة عن حد الاعتدال تاركا، فإذا فعل ذلك ألزم النفوس طاعته، والقلوب محبته، وأشرق بنور عدله زمانه، وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه (1)
وأمامنا الكثير من النماذج الرائعة للنصائح التي وجهها الشيخ - رحمه الله - إلى الحكام والعلماء والطلاب، وفئات مختلفة من الناس، يجدها القارئ في رسائله ومؤلفاته، وفي خطب الجمعة ومجالسه ومراسلاته، ولو قدمت للقراء تراثا في مركز ثقافي، لكانت من مآثره الخالدة، التي يستنير بها القارئ، وتفيد الطالب والباحث ... مثلما صار لشيخه: فضيلة الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع رحمه الله، الذي قدم أبناؤه حصيلة حياته في صناديق للمركز الثقافي بمدينة الرياض
__________
(1) الورقات من ابنه ص 13(86/369)
كما يستفيد القارئ والباحث من الحصيلة العلمية المكتوبة زيادة: عن أعماله ومآثره، وتنظيمه للأعمال، واهتمامه بالمساجد، وممتلكات القصر والأيتام والأرامل، والمشروعات الخيرية المتعددة التي مر طرف منها في هذه السيرة، وهي كثيرة تستوجب الاستقصاء والدراسة.(86/370)
بعض ما قاله عارفوه:
أخذا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذكروا محاسن موتاكم (1) » فالشيخ عبد الله بن زيد آل محمود عالم قطر وقاضيها، قد ترك علما كما تركت سيرته آثارا حميدة، مع صفحات مشرقة في سيرته: كرما وعلما وخدمة للمحتاجين والأيتام، وتيسيرا للناس: في فتاواه وأحكامه ومواعظه وخطبه، فالشيخ علاوة على كونه عالما شرعيا فإنه متمكن من اللغة العربية التي هي وعاء الدين، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في فهم الدلالات، وتبسيط المعاني والتيسير في كل شأن من الشؤون على الناس.
وإن من المناسب التقاط القليل من الكثير الذي ظهر في سيرته، وما تحدث عنه الآخرون وجاء في كتاباتهم عنه: مؤبنا ومترجما.
لأن العلم: لا ينتزع انتزاعا، وإنما يذهب بموت العلماء العارفين المتمكنين، والمدركين لليسر الذي جعله الله غالبا وظاهرا على العسر، كما في سورة الانشراح، حيث قال عنها كثير من علماء السلف: (بأنه لا
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (1019) ، سنن أبي داود الأدب (4900) .(86/370)
يغلب عسر يسرين) ، ولضيق الحيز كما جاء في المثل العربي: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق ...
فسوف نورد ما يميز شخصية الشيخ عبد الله رحمه الله، في منهجه التيسيري المستند على الدليل:
1- يقول الشيخ عثمان الصالح رحمه الله: والشيخ لوعيه وحفظه وما يختزنه من الأحاديث ومعاني القرآن يخطب مرتجلا، لا يتلكأ ولا يتلعثم، في الجمعة والأعياد، ولقد حضرته، واستمعت إليه في كليهما: يعطي من اللفظ أجوده، ومن المعاني أفضلها ومن اللغة أسمكها، وكان إلى جانب هذا عليما في اللغة بصيرا بها، وفي المفردات في اللغة الفصحى، فلا أجل منه في ذلك، ولا أفصح فيها منه: معنى ولفظا. وكان للغة وآدابها مكان في وعظه وخطبه، ويحفظ من الألفاظ الأدبية، والحكم والمفردات اللغوية، والأشعار المختارة ما يجعل منه ملحا في خطبة العيد والجمعات.
وكان ندي الصوت مع جهورية الإلقاء، وله كتب ورسائل ومقالات، كلها في العقيدة الإسلامية والدين، والأدب، والنصائح، وله رسائل عدة في الأمور المحرمة: كالخمور والربا، والاختلاط والزنى، والزواج من الكتابيات والتلقيح الصناعي. ومن أهم كتبه وأثمنها - وكلها ثمينة - كتاب الإيمان بالقضاء(86/371)
والقدر، وعقيدة الإسلام والبدع ومحاربتها كالاحتفال بالمولد، ومن أهم رسائله أيضا: الإصلاح والتعديل لما وقع في اليهود والنصارى من التبديل، ووجوب ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن من معجزات الأنبياء. ورسالة واجب المتعلمين والمسؤولين في الحفاظ والمحافظة على أمور الدين.
ثم ذكر نماذج من كرمه ودعوته لمن يعرف ومن لا يعرف ممن يفد إلى قطر ويعاتب من لم يأت إليه ممن يمر بقطر
2- ويقول الدكتور وليد الطبطبائي، من كلمة نشرت في صحيفة الوطن الكويتية، نجتزئ منها قوله: وقد ترك الشيخ عبد الله أكثر من خمسين مؤلفا تضمنت حججه واجتهاداته التي جعلت منه علما متميزا متفاعلا مع العصر.
ولم يكن الشيخ ابن محمود قاضيا في قطر فحسب، بل كان فقيها وداعية في ثوب قاض، وقد تميز فقه الشيخ عبد الله باتباع الحق، والتحرر من الالتزام بالمذهب والواقعية والتجديد والميل إلى التيسير على الخلق ورفع الحرج عن الناس.
وكان فوق ذلك يصدع بالحق، ولا يخاف في الله لومة لائم،(86/372)
فقد وقف في وجه التحرر الزائف، ووقف بقسوة ضد الاختلاط في الجامعات والوزارات، ونصح الأمراء والوزراء والأعيان والمفكرين في هذه المسألة.
وقد حذر من الفساد الاجتماعي فكان من كتبه ورسائله: (المسكرات والخمور، وما يترتب عليها من الأضرار الشرور) ، و (حماية الدين والوطن من غزو أفلام الخلاعة والفتن) . ودعا الشيخ إلى الاهتمام بالتعليم العالي في بلاد المسلمين، منكرا ابتعاث الشباب للغرب، ومن كتبه: (نهاية المرأة الغربية، بداية المرأة العربية) ، كما دعا إلى نبذ القوانين الوضعية، فألف رسالة بعنوان: (الأحكام الشرعية، ومنافاتها للقوانين الوضعية) ، و (تحريم الربا بأنواعه وعموم مسائله وأضراره) ، وكان يقف بقسوة ضد مظاهر الشرك والبدع والخرافات وغير ذلك.
وقد أثارت بعض آرائه جدلا كبيرا، بين مؤيد ومعارض، رحم الله الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رحمة واسعة (1)
3- أما الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي فقد تعرض في كلمته عنه المطولة إلى خصائص فقهه فقال:
منهج الشيخ: في الفقه ووجهته في الاجتهاد، يعرف من خلال عناصر أو خصائص خمسة هي:
__________
(1) من كلمة الدكتور وليد في صحيفة الوطن الكويتية، يوم الأحد 2 مارس(86/373)
أولا: تحرره من التقليد: فقد تحرر من التقليد والعصبية المذهبية التي ابتلي بها كثير من العلماء في العصور الأخيرة.
ثانيا: النزعة الواقعية: معرفته بالواقع المعاش، وما يعانيه الناس فيه، والفقيه الحق هو من يزاوج بين الواجب والواقع، فلا يجعل كل اهتمامه فيما يجب أن يكون، بل فيما هو كائن أيضا.
ثالثا: النزعة التجديدية: نزعته إلى التجديد، فبالتجديد يحيا الدين وتحيا العلوم الشرعية، وتتجدد الحياة كلها.
ولا غرو أن لمسنا هذه النزعة، في كثير مما كتبه مخالفا المألوف، والسائد مثل ما كتبه عن: (الأضحية عن الميت) ، مؤكدا أن الأضحية إنما شرعت للحي لا للميت.
رابعا: ميله إلى التيسير: فميله إلى التيسير على الخلق ورفع الحرج عنهم، مؤمنا بأن هذا هو نهج القرآن الكريم، ونهج النبي عليه الصلاة والسلام.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم، أعظم الناس تيسيرا على أمته، في تعليمه إذا علم، وفي فتواه إذا أفتى، كما قال: «إن الله بعثني معلما ميسرا (1) » رواه مسلم، وقال: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين (2) » ، رواه البخاري وغيره، وأمر الأمة بالتيسير، فقال: «يسروا ولا تعسروا (3) » متفق عليه.
والتيسير في الفتوى يحبب الناس في الدين، وهم في حاجة إليه
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1478) ، مسند أحمد (3/328) .
(2) صحيح البخاري الوضوء (220) ، سنن الترمذي الطهارة (147) ، سنن النسائي الطهارة (56) ، سنن أبي داود الطهارة (380) ، مسند أحمد (2/239) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6125) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1734) ، مسند أحمد (3/209) .(86/374)
وخصوصا في عصرنا، الذي كثرت في مشاغل الناس، وضعفت هممهم، ووهنت عزائمهم، فما أحوجهم إلى التيسير.
ومن هنا تبنى الشيخ منهج التيسير في فقهه، وفي فتاواه وأحكامه، كما في فتواه بإخراج زكاة الفطر بقيمتها من النقود، لما فيها من منفعة الفقراء في عصرنا.
- ومثل ذلك فتواه في الانتفاع بالمقابر القديمة، إذا أصبحت في وسط البلد، وانتهى الدفن فيها من زمن وغدا الناس في حاجة إليها.
خامسا: الشجاعة الأدبية: فقد يوجد علماء متحررون في فكرهم، مشتغلون في عملهم، يسيرون وراء الدليل، لا وراء فلان أو علان من البشر.
فقد كان رحمه الله: يصدع برأيه، إذا اعتقد أنه الحق الذي وصل إليه بالدليل، لا يخاف لومة لائم فأحسبه من الذين قال الله تعالى فيهم: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} (1) (2) 4- أما الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، فقد استعرض في كلمة منه، بعد وفاة الشيخ عبد الله رحمه الله، تقع في ست (6) صفحات، بعثها إلي ابن الشيخ عبد الله، معالي الشيخ عبد الرحمن وبخط الشيخ محمد الغزالي، نشرت في كتاب: دستور الوحدة الثقافية، بين المسلمين
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 39
(2) وتراجع كلمة الشيخ يوسف القرضاوي، ضمن كتاب ابن رحمه ص 52-58 وعما ذكرنا ص 54-56(86/375)
للشيخ الغزالي، الذي استعرض فتوى الشيخ عبد الله بن محمود في: (جواز الإحرام من جدة، لركاب الطائرات والسفن البحرية) . فبعد أن أوردها كاملة قائلا: إن الحكم يدور مع علته، ولكل حادث حديث، ولن يعجز الفقه الإسلامي الصحيح، الواسع الأفق عن إخراج حكم صحيح، في تعيين ميقات يعترف به لحج هؤلاء القادمين على متون الطائرات، لكون شريعة الإسلام كفيلة بحل مشكلات العالم، لما وقع في هذا الزمان، وما سيقع بعد أعوام.
وبعد أن أورد الفتوى وتعليلها قال الغزالي رحمه الله: وفي موسم الحج كان جمهور العلماء يفتي بأنه، لا يجوز رمي الجمرات إلا بعد زوال الشمس، وهم يحتجون لذلك بفعل الرسول، مع أن مجرد الفعل لا يعطي حكم الوجوب، قد يكون دليل الندب أو الإباحة، ومع ذلك فإن المتشددين مضوا في طريقهم، وكثر القتلى في ميدان الرمي لشدة الزحام، وهم لا يبالون. ثم قال الشيخ الغزالي: ويقول الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود،(86/376)
وهو من الفقهاء المعدودين في عصرنا: (لا أدري ما الذي جعلهم يتشددون في عدم رمي الجمار، قبل الزوال أيام التشريق، وفيه حديث: «إذا رميتم - يعني جمرة العقبة - وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شيء إلا النساء (1) » .
ونقول: إن هذا في التحلل الأول، ومن طاف وسعى فقد تحلل التحلل الثاني بإباحة النساء، ولم يكن هذا الحديث دليلا في بقية أعمال الحج: وهي الرمي في كل يوم والمبيت في منى.
لكن يغلب على الناس حب التسرع في كل شيء.. والتسابق في الانصراف.. ومن جاء قاصدا الحج لا يضيره استكمال واجباته وأركانه في وقتها مثلما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذه عنه أصحابه ثم من بعدهم، والحج حدده الله لمن يريد التعجل، ولمن لا يريده والتيسير فيما لا نص فيه.
5- في تعامل العلماء فيما بينهم، يقول الإمام مالك رحمه الله: ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، وعلماء بلادنا كافة، أخذوا بهذا المنهج ففي عام 1396هـ، كان الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في قطر، واحتفى به الشيخ عبد الله بن محمود، احتفاء كبيرا في مكرمة حافلة، دعا إليها وجهاء قطر
__________
(1) سنن أبي داود المناسك (1978) ، مسند أحمد (6/143) .(86/377)
والعلماء، مما ينبئ عن وفائه وكرمه، واعترافه بالفضل لذوي الفضل.
وفي حديثه وترحيبه بالشيخ إبراهيم، قال: والدكم رحمه الله هو والدنا وله علي فضل كبير، وما حصل بيننا من خلاف في بعض المسائل، فهذا من خصائص العلماء، وكل له استدلاله ووجهة نظره.. وقديما كان الخلاف بين علماء المسلمين. وهذا لا يغير مكانته وفضله وعلمه، فهو شيخنا وعالمنا وندعو له دائما، ولا نحمل له إلا كل ود واحترام وتقدير.
هذا هو خلق الشيخ عبد الله ومنهجه العلمي رحمه الله رحمة واسعة وجمعنا به في مستقر رحمته آمين ...(86/378)
من مآثره:
مررنا بنماذج عديدة، ومواقف شجاعة للشيخ عبد الله، وكل موقف يعتبر مأثرة من مآثره العديدة، وكتبه ورسائله كذلك.. ومنها أيضا خطبه ومواقفه مع الأيتام والفقراء، وتبنى كثيرا من المشروعات الاجتماعية.
وكان من تلك اهتمامه بالتعليم، حيث كانت أولى رسائله، حول إصلاح التعليم، وهي: إدخال التعديل على مناهج الدين ومدارس التعليم التي طبعت أكثر من مرة.
يقول ابنه الشيخ عبد الرحمن: بأن الشيخ عبد الله، قام في بداية عمله بالقضاء في قطر، بتدريس عدد من طلبة العلم، الذين التفوا(86/378)
حوله، أو وفدوا إليه من خارج البلاد، لم نستطع أن نعرف إلا عددا قليلا من هؤلاء، وهم إضافة إلى أبنائه وأقاربه:
1- الشيخ: عبد الله بن إبراهيم الأنصاري.
2- الشيخ: إبراهيم بن ضعيان.
3- الشيخ: زهير الشاويش.
4- الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الشثري.
5- الشيخ: محمد بن صالح بن مطلق.
6- الشيخ: علي بن عبد الله الغانم.
7- الشيخ: عبد الرحمن بن محمد الفرحان.
8- الشيخ: إبراهيم بن عبد الرحمن آل محمود.
9- راشد بن عبد الله النعيمي.
10- مبارك بن فضالة.
11- سعود بن عبد العزيز الدليمي.
وقد رأى أن هناك حاجة لإنشاء معهد ديني، لتدريس الشباب الذين تحتاجهم البلاد، وبعض البلدان المجاورة، فاقترح على سمو حاكم البلاد في ذلك الحين، الشيخ: علي بن عبد الله آل ثاني، إنشاء معهد ديني في الدوحة، لخدمة طلبة العلم، فوافق على ذلك.
وكلف الشيخ عبد الله بن زيد بن محمود، بالإشراف عليه، وتولي شؤونه.(86/379)
وتبرز المكاتبات بين الشيخ عبد الله، وأستاذه الشيخ محمد بن مانع، بعض المعلومات حول هذا الأمر، حيث توضح تاريخ المعهد، بأنه في حدود عام 1375هـ - 1955م، وهذا عن صدور الأمر والبدء في التهيئة، إذ يحتمل أن يكون هذا المعهد قد بدأ نشاطه رسميا في السنة التالية.
وقد اختار الشيخ عبد الله لإدارته الشيخ: محمد بن سعيد بن غباش، وهو من أهالي رأس الخيمة، الذين درسوا في قطر، وكان زميلا للشيخ عبد الله في فترة الدراسة.
ثم بعده تولى الشيخ: عبد الله الأنصاري إدارة المعهد، وقد استمر المعهد في أداء رسالته وتخرج منه مجموعة من طلبة العلم، الذين أتيح لبعضهم التزود من العلم في جهات عديدة، وقد استقدم له نخبة من المدرسين.
وقد تم ضم هذا المعهد فيما بعد، إلى وزارة المعارف، وكان موقع هذا المعهد في وقف للشيخ: عبد الله بن جاسم، وهو بيت قديم كان يقع في نهاية شارع الريان، مقابل قلعة الدوحة.
وقد هدم هذا المبنى، وأنشئت على أرضه رئاسة المحاكم الشرعية، ثم استخدمه صندوق الزكاة، قبل هدمه نهائيا، ولم يقتصر اهتمامه بالتعليم في قطر، بل شمل هذا الحماس جهات أخرى، يقول أكرم خان من بشاور في باكستان: زرت الشيخ عبد الله في بيته(86/380)
بالدوحة في قطر، فسألني عن بلدي، ثم شجعني على افتتاح مدرسة دينية في بشاور، فقلت له: إني رجل عامي ولست بعالم.
فقال لي: من يتق الله يجعل له مخرجا، وعلى الله فليتوكل المؤمنون، وأعطاني مساعدة مالية كبيرة، فتحت بها مدرسة لتعليم الصغار القرآن الكريم وعلوم الدين، واللغة العربية، ثم أعطاني شهادة لجمع التبرعات، لا أزال أحتفظ بها وقد كبرت المدرسة، وزاد خريجوها على الآلاف، وذلك بفضل الله ثم بركة الشيخ عبد الله ومشورته (1)
__________
(1) ص 15-16 من سيرته عن ابنه عبد الرحمن(86/381)
وفاته:
إنها سنة الله بأن نهاية البشر على وجه الأرض الموت، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (1) {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (2) ولكل شيء سبب فقد انتابت الشيخ عبد الله آل محمود أمراض عديدة، نقلته الحكومة القطرية إلى لندن وغيرها للعلاج، ومع بلوغه سن التسعين، في حياة حافلة بالعمل والمساعي الخيرة، في صالح الضعفاء، والنصح والإخلاص مع الحكام في قطر، أدركته المنية، في ضحى يوم الخميس الثامن والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1417هـ الموافق 6 فبراير عام 1997م.
__________
(1) سورة الرحمن الآية 26
(2) سورة الرحمن الآية 27(86/381)
وقد صلي عليه في مسجده بالدوحة حيث امتلأ بجمهور كبير، يقدمهم الحكام والعلماء، وعلية أهل قطر وغيرهم.
وقد قطعت إذاعة قطر، برامجها لتذيع هذا النبأ: فقد قطر والعالم الإسلامي العالم الجليل، الفقيه المحدث والمجاهد المجتهد.
وكررت الإذاعة النبأ عدة مرات، وأذاع التلفزيون القطري الخبر، في مقدمة نشراته، كما نشرت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بيانا نعت فيه الفقيد للعالم الإسلامي.
وفي خطب الجمعة بمساجد قطر وغيرها اهتم الخطباء بالحديث عن مناقبه، وأعماله ودوره في خدمة الإسلام والمسلمين، وصلي عليه في مساجد قطر وغيرها صلاة الغائب.
وقد رئيت له منامات تبشر بخير، تغمده الله برحمته.
وقد كان رحمه الله صاحب صلة لأقاربه ومعارفه، ويحتفظ طوال حياته، ببستان في حوطة بني تميم، يأتي إليه بين وقت وآخر، ليجدد الصلة بذوي قرابته، وعارفي مكانته، ويأنس بمعارفه، ينطبق عليه قول الشاعر:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل(86/382)
ومجالسه في أي مكان مجالس علم وبحث: متحدثا، أو مجيبا لسائل أو باحثا، كما كانت مكتبته عامرة بأمهات الكتب، التي زينها بكثرة الاطلاع والبحث رحمه الله، وقد رثي بكلمات عديدة، وقصائد في العالم العربي، مما يدل على مكانته في القلوب، وآثاره المحمودة. غفر الله له آمين.
ويقول ابن بسام: وهكذا استمر المترجم له، في نفع الناس، وبقي على حالته الحميدة، حتى توفي رحمه الله، وقد كانت وفاته في قطر، وصلي عليه ودفن في قطر في شهر شوال سنة 1417هـ، وصلي عليه صلاة الغائب في المسجد الحرام بمكة رحمه الله.
كتبه: د. محمد بن سعد الشويعر
الرياض - الطائف في 2\8\1428 هـ(86/383)
حديث شريف
عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا (1) »
[رواه الإمام البخاري]
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5304) ، سنن الترمذي البر والصلة (1918) ، سنن أبي داود الأدب (5150) ، مسند أحمد (5/333) .(86/384)
بسم الله الرحمن الرحيم
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1)
آل عمران: 164
__________
(1) سورة آل عمران الآية 164(87/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
معالي الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
فضيلة الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
معالي الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(87/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة علمية دورية محكمة تصدر عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(87/3)
المحتويات
الافتتاحية لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ....... 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ....... 23
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز....... 47
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ....... 69
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء....... 83(87/4)
البحوث
أهمية دراسة التوحيد لفضيلة أ. د / محمد بن عبد الرحمن الجهني....... 97
أسباب لدفع البلاء قبل وقوعه وأسباب لرفعه بعد وقوعه للدكتورة / منيرة بنت محمد المطلق....... 163
وقفات مع آيات الإفك لفضيلة الدكتور / عبد العزيز بن عبد الله الخضيري....... 291
التوجيهات النبوية في الجهاد ونشر الإسلام لفضيلة الدكتور / الأمين محمد محمود الجكني....... 331(87/5)
صفحة فارغة(87/6)
الافتتاحية
لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
(محبة النبي صلى الله عليه وسلم)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله، إن الله جل جلاله ذكر عباده المؤمنين منته عليهم وفضله عليهم بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم، ليعرفوا قدر هذه النعمة، فيشكروا الله عليها، ويحمدوه عليها ويلتزموا ما جاء به محمد علما وعملا قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1) ، أجل إنها منة كبرى ونعمة عظمى
__________
(1) سورة آل عمران الآية 164(87/7)
لمن تدبر وتعقل.
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (1) ، فالمؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله هم الذين يستشعرون هذه المنة، ويعرفون قدر هذه النعمة حق المعرفة، {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (2) ، يعرفون حسبه، يعرفون نسبه، يعرفون صدقه، ما جرب عليه كذب، وما عرف بخيانة، ولا عثر فيه على خلق سيئ، بل هو محفوظ بحفظ الله من نشأته إلى وفاته، محفوظ بحفظ الله من كل سوء، ما عبد وثنا، وما تعاطى مسكرا، وما اقترف جريمة، بل هو معروف عندهم بالصادق الأمين، أدبه ربه فأحسن تأديبه، وعلمه فأحسن تعليمه، واختاره لهذا الأمر العظيم، لهذه الرسالة الكبرى، وربك يعلم حيث يجعل رسالته.
{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} (3) ، يتلو عليهم القرآن، فيه خبر من قبلهم، وحكم ما بينهم، ونبأ ما بعدهم، يتلو عليهم هذا القرآن الذي هو سبب لإخراجهم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والهدى، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (4) .
ويزكيهم، يزكي أخلاقهم، يزكي نفوسهم، يزكي عقولهم بطهارتها
__________
(1) سورة آل عمران الآية 164
(2) سورة آل عمران الآية 164
(3) سورة آل عمران الآية 164
(4) سورة إبراهيم الآية 1(87/8)
من الشرك قليله وكثيره، وطهارتها من رذائل الأخلاق وسفاسف الأعمال.
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} (1) ، علمهم القرآن، وعلمهم السنة، وإن كانوا من قبل مبعثه لفي ضلال مبين.
أجل، كانوا قبل مبعث محمد في غاية من الضلال، لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، يقول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مخبرا النجاشي لما سأله قال: كنا عباد أوثان، نأكل الميتة، ونشرب الخمر، ونقطع الرحم، ونأتي الفواحش، حتى بعث الله فينا محمدا صلى الله عليه وسلم، فأخرجنا الله به من الظلمات إلى النور. فهم قبل مبعثه في غاية من الضلال، قد اندرست أعلام الهدى، فليس الحق معروفا، ولكن الله أنقذ هذه الأمة بمبعث محمد.
إن مبعثه رحمة للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2) ، وكتابه نذير للعالمين {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (3) ، بعثه الله برسالة للخلق كلهم، عربهم وعجمهم،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 164
(2) سورة الأنبياء الآية 107
(3) سورة الفرقان الآية 1(87/9)
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (1) ، {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2) .
فنسخ الله به كل الشرائع، نسخ الله بشريعته كل الشرائع، وألزم الخلق طاعته، وحكم على من خرج عن شريعته بالخسارة في الدنيا والآخرة {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (4) » ، لأن الله جل وعلا ختم برسالته كل الرسالات، {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (5) .
أيها المسلم، حق محمد صلى الله عليه وسلم علينا أمور، فمن أعظم حقه الإيمان به، فمن أعظم حقه أن نؤمن به، ونصدق رسالته،
__________
(1) سورة سبأ الآية 28
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة آل عمران الآية 85
(4) صحيح مسلم الإيمان (153) ، مسند أحمد (2/350) .
(5) سورة الأحزاب الآية 40(87/10)
ونعتقد أنه عبد الله ورسوله، أرسله الله إلى الخلق كلهم، ومن حقه علينا أن نسمع ونطيع له، فإن طاعته طاعة لله، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (1) ، وطاعته سبب للهدى، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (2) . ومن حقه علينا أن نحكم سنته ونتحاكم إليها ونرضى بها، وتطمئن بها نفوسنا، وتنشرح لذلك صدورنا، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) ، وإذا أمر بأمر أو حكم بحكم نقبله، وليس لنا خيرة في ذلك، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (4) .
إن طاعته سبب لدخول الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي يدخلون الجنة، إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (5) » .
__________
(1) سورة النساء الآية 80
(2) سورة النور الآية 54
(3) سورة النساء الآية 65
(4) سورة الأحزاب الآية 36
(5) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، مسند أحمد (2/361) .(87/11)
أيها المسلم، إن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوان الإيمان، محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة الصادقة، بأن تحبه محبة فوق محبة نفسك التي بين جنبيك، قال عمر: يا رسول الله، والله إنك لأحب الناس إلي إلا نفسي، قال: «لا والله، حتى أكون أحب إليك من نفسك» ، قال: لأنت الآن أحب إلي من نفسي، قال: «الآن يا عمر (1) » . وأخبر صلى الله عليه وسلم أن محبته محبة فوق محبة الولد والوالد فقال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده (2) » . وأخبر أن العبد لا ينال كمال الإيمان حتى يحب هذا النبي محبة فوق محبة الأهل والناس أجمعين، فيقول: «لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله والناس أجمعين (3) » .
أيها المسلم، ثمرة تلك المحبة أولا: طاعة الله ومحبة الله، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (4) ، فلا ينال عبد محبة الله حتى يحب هذا النبي الكريم محبة صادقة من عميق قلبه. ومن ثمرات محبته أن المحب له يحشر معه يوم القيامة، ويلتحق به يوم القيامة، سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: «ما أعددت لها؟» قال: حب الله ورسوله، قال: «المرء مع من أحب» ، قال أنس: فما فرح المسلمون بعد الإسلام فرحهم بما قال النبي:
__________
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6632) ، مسند أحمد (5/293) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (15) ، صحيح مسلم الإيمان (44) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5013) ، سنن ابن ماجه المقدمة (67) ، مسند أحمد بن حنبل (3/207) ، سنن الدارمي الرقاق (2741) .
(3) صحيح البخاري الإيمان (15) ، صحيح مسلم الإيمان (44) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5014) ، سنن ابن ماجه المقدمة (67) ، مسند أحمد (3/278) ، سنن الدارمي الرقاق (2741) .
(4) سورة آل عمران الآية 31(87/12)
«المرء مع من أحب» (1) » ، قال أنس رضي الله عنه: فإني لأحب رسول الله وأبا بكر وعمر، وأرجو الله أن يلحقني بهم وإن قل عملي.
أيها المسلم، إن لمحبة رسول الله علامات تدل على كمال محبة المسلم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فليست المحبة له مجرد ادعاء، ولكنها حقائق واقعة باتباع سنته وتطبيقها، والسؤال عنها ومحبتها، ومحاولة تطبيق المسلم سنة رسول الله في كل عباداته وأحواله، فما بلغه من سنته من شيء إلا أخذ بها وعمل بها وطبقها وفرح بذلك، إن محبته صلى الله عليه وسلم لا تكون بغلو الغالين فيه، ولا تكون بجفاء الجافي، إن محبته صلى الله عليه وسلم اتباع ما جاء به وتحكيم شريعته، وأعظم ذلك عبادة الله وحده لا شريك له، وصرف كل أنواع العبادة لرب العالمين، وألا يصرف منها شيء لغير الله، وقد أمره الله أن يقول: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} (2) {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (3) ، وقال له: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (4) ، وحذرنا أن نغلو فيه فقال: «إياكم والغلو،
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3688) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2639) ، سنن الترمذي الزهد (2385) ، سنن أبي داود الأدب (5127) ، مسند أحمد (3/104) .
(2) سورة الجن الآية 21
(3) سورة الجن الآية 22
(4) سورة الأعراف الآية 188(87/13)
فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو (1) » ، وقال لنا: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله (2) » ، ولعن في آخر حياته اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وقال: «ولا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني أين كنتم (3) » .
هكذا أرشدنا، هو مبعوث لإقامة شرع الله، للدعوة إلى توحيد الله وإخلاص الدين له، والعبادة لا حق له ولا لغيره فيها، بل هي حق خالص لربنا جل وعلا، لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: «أجعلتني لله ندا؟! بل ما شاء الله وحده (4) » .
أيها المسلم، إن علامة محبة النبي صلى الله عليه وسلم تكون – كما سبق – باتباع سنته، والعمل بشريعته، والاقتداء به في القليل والكثير {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (5) . فالمحب له هو المعظم لسنته، العامل بها إذا بلغته، سواء في العبادات أو في المعاملات أو في كل الأحوال، يقتفي سنته، ويبحث عنها، ويسأل عنها، ويهتم بها، ويقيم لها وزنا، هكذا المؤمن المحب له صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3057) ، سنن ابن ماجه المناسك (3029) ، مسند أحمد (1/215) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد (1/24) ، سنن الدارمي الرقاق (2784) .
(3) سنن أبي داود المناسك (2042) ، مسند أحمد (2/367) .
(4) سنن ابن ماجه الكفارات (2117) ، مسند أحمد (1/283) .
(5) سورة الأحزاب الآية 21(87/14)
أيها المسلم، إن أصحابه الكرام قد أظهروا من كمال محبتهم له وحرصهم على سنته ما لا يخفى، أظهروا من محبتهم له وشفقتهم عليه وحرصهم على الاقتداء به ما جعلهم خير الخلق وأفضل الخلق على الإطلاق بعد الأنبياء عليهم السلام، فاسمع – أخي – إلى أنواع من محبتهم له تدل على قوة الإيمان به، ومحبتهم له، رضي الله عنهم وأرضاهم.
يوم أراد المهاجرة من مكة إلى المدينة أتى الصديق في الظهيرة، «فلما قيل للصديق: هذا رسول الله، قال: بأبي وأمي، ما أتي به إلا لأمر جلل، فلما دخل عليه قال: «أذن لي بالهجرة» ، فقال الصديق: الصحبة يا رسول الله؟ فقال: «نعم» ، قالوا: فبكى الصديق رضي الله عنه فرحا، تقول عائشة: وما كنت أظن الفرح يوجب البكاء بعد الذي رأيت من أبي رضي الله عنه وأرضاه» .
ومن ذلكم أن الصديق رضي الله عنه لما فطن لخطبة خطبها النبي أنها توديع لهم وإخبار بقرب أجله بكى الصديق رضي الله عنه، فخطب في آخر حياته قائلا: «إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده (1) » ، فبكى الصديق رضي الله عنه، قالوا: إن المخير هو رسول الله، وإن الصديق كان أعلمنا بذلك، رضي الله عنه وأرضاه.
ولما خطب بعد موت النبي بسنة، وأراد أن يقول: إن رسول الله
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (466) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2382) ، سنن الترمذي المناقب (3660) ، مسند أحمد (3/18) ، سنن الدارمي المقدمة (77) .(87/15)
خطبنا في هذا اليوم من العام الأول بكى رضي الله عنه، وغلبه البكاء مرارا، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، «ما أوتي عبد بعد الإسلام خيرا من العافية، فاسألوا الله العافية (1) » .
ولما حضرت أبا بكر الوفاة، قال لهم: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الاثنين، قال: إن مت مساء فلا تنتظروا بي إلى الصباح، فإن أفضل يوم أو ليلة عندي أن ألحق بمحمد فرضي الله عنه وأرضاه.
وهذا خليفته عمر رضي الله عنه، حينما طعن وعلم أنه قرب أجله قال لابنه: يا بني، إن أهم أمر علي أن أدفن بجوار محمد وصاحبه أبي بكر، فاذهب إلى عائشة فقل لها: يقرئك عمر السلام، ويستأذنك في أن يدفن بجوار محمد وصاحبه، فذهب عبد الله إليها، وإذا هي تبكي على عمر حزنا عليه، فقال: يقرئك عمر السلام، ويقول: أستأذن منك أن أدفن بجوار محمد وصاحبه، قالت: لقد كنت أعده لنفسي، وإني لأوثره على نفسي، فرجع عبد الله إلى عمر، فقيل: هذا عبد الله، فقال أسندوني، ما وراءك؟ قال: ما يسرك يا أمير المؤمنين، لقد أذنت أن تدفن بجوار محمد وصاحبه، قال: الحمد لله، إنه لأمر كان يهمني، ثم قال: يا عبد الله، إذا صليتم علي، فمروا بجنازتي إلى عائشة، فلعلها أن تكون قالته حياء مني، فإن أذنت لي وإلا فضعوني مع المسلمين، فلما صلوا عليه مروا به
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3558) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3849) ، مسند أحمد (1/11) .(87/16)
فقالت: ما كنت لآذن له حيا وأمنعه ميتا، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
وهؤلاء أنصار الإسلام الأوس والخزرج، كانت محبتهم لرسول الله محبة صادقة حقا، فلما قسم النبي غنائم حنين، ولم يعطهم ولا المهاجرين شيئا، وخص بها المؤلفة قلوبهم، وجد بعضهم في نفسه شيئا، فدعا الأنصار وقال لهم: « «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟! وعالة فأغناكم الله بي؟! ومتفرقين فألفكم الله بي» ، فكلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن، قال: «يا معشر الأنصار، أترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير وترجعون بالنبي إلى رحالكم» قالوا: نعم، قال: «المحيا محياكم، والممات مماتكم، الأنصار شعار، والناس دثار، اللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» رضي الله عنهم وأرضاهم (1) » .
ربيعة الأسلمي قدم للنبي وضوءه فقال: «يا ربيعة، سلني» فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: «أوغير ذلك؟» قال: هو ذاك، قال: «يا ربيعة، أعني على نفسك بكثرة السجود (2) » .
صحابي آخر أتى النبي قائلا: «يا رسول الله، كلما ذكرتك وأنا في بيتي، لا تطيب نفسي حتى أخرج وأنظر إليك، ولكن إذا ذكرت موتي وموتك وعلو منزلتك وأنا دون ذلك حزنت حزنا شديدا على ذلك،
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4330) ، صحيح مسلم الزكاة (1061) ، مسند أحمد (4/42) .
(2) صحيح مسلم الصلاة (489) ، سنن النسائي التطبيق (1138) ، سنن أبي داود الصلاة (1320) .(87/17)
فأنزل الله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (1) » .
أيها المسلمون، محبة المسلم لرسول الله لا تكون بغلو فيه، ولا بإطرائه، ولا برفعه عن منزلته، ولا بإحياء مولد أو أمثال ذلك مما ابتدعه المبتدعون وأحدثه الضالون، وإنما تكون باتباع سنته والعمل بشريعته والطمأنينة إليها. إن صلة المسلم بنبيه صلة دائمة، وصلة مستمرة، وصلة لا تنقطع، في كل أحواله، في كل حركاته وسكناته، فله صلة بنبيه، إن صلى فإن صلته برسول الله الاقتداء به ليحقق قوله: « «صلوا كما رأيتموني أصلي (2) » ، إن حج فصلته بنبيه: «خذوا عني مناسككم (3) » إن صام أو زكى فدائما صلته بنبيه، في أكله وشربه ونومه وبكائه وضحكه وغضبه ورضاه، في كل أحواله هو يقتدي بمحمد، ويتحرى الاقتداء به والتأسي به في القليل والكثير.
هكذا المسلم المحب له، أما محيو هذه الليلة ليلة المولد وأمثالها، فإن صلتهم صلة مبتورة، ليلة من الليالي يأتي فيها من الخرافات والبدع والضلالات ما الله به عليم، ويدعون أنهم بذلك معظمون لسنته، وهم بعيدون كل البعد عنها.
__________
(1) سورة النساء الآية 69
(2) صحيح البخاري أخبار الآحاد (7246) ، سنن الدارمي الصلاة (1253) .
(3) سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، مسند أحمد (3/318) .(87/18)
إن أصحابه الكرام، خلفاءه ثم سائر أصحابه يعلمون ليلة مولده، ويعلمون ليلة مهاجره، ويعلمون أيام انتصاره، ويعلمون ليلة موته، ويعلمون كل هذه الأمور، وما نقل عنهم شيء من هذا، وهو أحب الناس إليهم، وهم المحبون له على الحقيقة والكمال، ومع هذا ما علمنا شيئا أحدثوه، ولكنهم متبعون ومقتدون ومتأسون به، فليكن المسلمون على ذلك. هذه حقيقة المحبة، حقيقة الإيمان والاتباع، السير على ما سار عليه، وعلى ما كان عليه أصحابه والتابعون وتابعوهم السائرون على المنهج القويم والطريق المستقيم، وفي الحديث: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» ، وفيه: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » .
عباد الله، الأصل في عباداتنا أن تكون خالصة لله، وأن تكون على وفق ما دل الكتاب والسنة عليه، فكل عبادة نتعبدها لا أصل لها في سنة محمد فإنها عبادة باطلة؛ لكونها غير موافقة لسنة محمد.
وإن أصحابه الكرام أقرب الناس إليه، عاشوا معه وعرفوا هديه، وعرفوا عبادته، فكل عبادة ما تعبدوها فلنعلم أنها عبادة على غير هدى، إذ لو كانت عبادة حقا لكانوا أولى الناس بها، {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (2) .
فهم أسوتنا وقدوتنا،
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبي داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد (6/256) .
(2) سورة التوبة الآية 100(87/19)
ما نقلوا لنا عن محمد فهو الحق المقبول، وما لم ينقلوه في العبادة فالأصل أن كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله نعلم أنها مبتدعة لكونها لا دليل عليها، وإنما الحق ما وافق هديه، وكل بدعة تنشأ وتقام فلا بد أن يقابلها تعطيل لسنة من السنن.
إن المحيين لليلة المولد قد يكون قصد بعضهم خيرا لكنه لم يوفق للصواب، والغالب عليها أنها تعمر بأذكار وقصائد ودعوات باطلة، فيها دعاء للنبي، واستغاثة به، وغلو فيه، وإشراكه بالله، فهو يكره هذا ويأباه ولا يرضاه. وأحب الناس إليه من أمته من كان متبعا لسنته سائرا عليها بعيدا عن هذه البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1) ، قال بعض السلف: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) ، فالحق ما كان عليه أصحابه الكرام والتابعون لهم بإحسان، وهم المطبقون لسنته العاملون بها، جعلنا الله وإياكم من أتباعهم، إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) سورة الشورى الآية 21(87/20)
الفتاوى(87/21)
صفحة فارغة(87/22)
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية (رحمه الله)
(1002- لا يعتبر بعقود التأجير، بل بالخرص)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي رئيس مجلس الوزراء حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فبالإشارة إلى خطاب سموكم لنا برقم 1138 وتاريخ 17-1-80هـ على الأوراق الخاصة بشأن زكاة التمور في القطيف، وطلب المزارعين هناك أن تستوفى منهم على أساس عقود التأجير، للجور الذي يدعون أنه ينالهم من طريق الخرص.
ونحيط سموكم علما بأنه بعد التأمل والإحاطة بجميع ما جاء في أوراق المعاملة اتضح أنهم لا يجابون إلى هذا الطلب، بل تخرص عليهم جميع نخليهم، لأن بعث السعاة لخرص ثمار النخل ونحوها سنة ثابتة، كما جاءت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: منها الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يبعث عبد الله بن رواحه إلى يهود فيخرص عليهم النخل حين(87/23)
يطيب قبل أن يؤكل ثم يخير يهود يأخذونه بذلك الخرص أو يدفعونه إليهم بذلك الخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق (1) » . ومنها حديث عتاب بن أسيد الذي رواه الترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم (2) » ، وذكر في «المغني» أن الخرص عمل به النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بعده والخلفاء، وقال به أكثر أهل العلم. انتهى.
ولكن يجب على ولي الأمر أن يحرض الذين يتولون الخرص على عدم الظلم والزيادة؛ بل يجب أن يترك في الخرص لرب المال الثلث أو الربع لحديث سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع (3) » رواه الخمسة إلا ابن ماجه.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن الشرع جاء بهذا توسعة على رب المال لأكله هو وأضيافه وجيرانه، فإن أكل هذا المتروك فذلك، وإن لم يأكله أو بعضه أخرج زكاته.
أما استيفاء الزكاة على حسب الأجور، فهذا لا يجوز ولا أساس له في الشرع.
وأما ما ادعوه من الظلم في الخرص، فالظاهر أن العمال لا يقصدونهم بظلم؛ لأن الكل يعرف أن الظلم لا يجوز، وأن الحكومة لا ترضاه، مع أن الحكومة لا تنتدب للخرص إلا أناسا معروفين بالخبرة وتوخي
__________
(1) سنن أبي داود البيوع (3413) ، مسند أحمد (6/163) .
(2) سنن الترمذي الزكاة (644) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1819) .
(3) سنن الترمذي الزكاة (643) ، سنن النسائي الزكاة (2491) ، سنن أبي داود الزكاة (1605) ، مسند أحمد (4/3) ، سنن الدارمي البيوع (2619) .(87/24)
العدل وبراءة الذمة، لكن إن ادعى أحد الأفراد وقوع شيء من الغلط في خرص نخله، وكان الواقع يؤيد ما ادعاه قبل قوله.
وأما ما ادعوه من أخذ العشر من نخيلهم التي تسقى غرفا. فمعلوم أن الواجب شرعا في ثمرة النخيل التي تسقى غرفا نصف العشر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر الذي رواه البخاري وغيره: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر (1) » . لكن إذا كان العشر يؤخذ نصفه زكاة الباقي لأجل كونها من بيت المال فلا مانع من ذلك. وأما النخيل التي ليست فيها ثمرة فمن المعلوم أنها لا تخرص، ولا يمكن أن أحدا يخرص شيئا معدوما. والله يتولاكم، والسلام. رئيس القضاة.
(ص – ق – 91 في 10-2-1380هـ)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم وزير الدولة للشؤون المالية والاقتصادية الوطني سلمه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد جرى الاطلاع على خطابكم المرفق بمعاملة خرص زكاة مزارع «حلي» كما جرى الاطلاع على قرار رئيس محكمة القنفذة برقم 4349\3576 وتاريخ 17\11\79هـ الذي تسألون عما جاء بالمادة الثانية منه – المتضمنة أن الاستقصاء في الخرص مخالف للسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1483) ، سنن الترمذي الزكاة (640) ، سنن النسائي الزكاة (2488) ، سنن أبي داود الزكاة (1596) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1817) .(87/25)
لم تدعوا الثلث فدعوا الربع (1) » .
والجواب: إن ما ذكره صحيح لا إشكال فيه، والحديث الذي استدل به جار على قواعد الشريعة ومحاسنها، وذلك لأن الثمار ينوبها أشياء من أكل وهدية وصدقة وغير ذلك مما جرت به العادة في كل زمان ومكان، فجاءت السنة بالتخفيف عن صاحب الثمرة وأن يترك له من ثمرته مقدار ما ذكر. واتباع السنة في هذا وغيره هو المتعين على ولاة الأمر أن يفعلوه بأنفسهم، وأن يحملوا الرعية عليه. والله يحفظكم. (ص – ق – 209 وتاريخ 22-2-1379هـ)
__________
(1) سنن الترمذي الزكاة (643) ، سنن النسائي الزكاة (2491) ، سنن أبي داود الزكاة (1605) ، مسند أحمد (4/3) ، سنن الدارمي البيوع (2619) .(87/26)
(1004- إذا لم يأكل ما تركه الخارص زكاه، ويأكل أهل الزروع منها)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي نائب رئيس مجلس الوزراء حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فنشير إلى خطابنا لسموكم برقم 91 وتاريخ 10-2-1380هـ ونحيط سموكم علما أنه وردنا من وكيل وزارة المالية والاقتصاد الوطني خطاب برقم 8613-4-3-5 وتاريخ 28-4-1380هـ بشأن زكاة الحبوب والتمور في القطيف، وذكر أن المزارعين هناك يطالبون بتنزيل الثلث أو الربع من أصل الزكاة المطلوبة منهم، وذلك بناء على ما جاء في خطابنا لسموكم المنوه عنه أعلاه، والمبلغ من سموكم لإمارة(87/26)
المنطقة الشرقية برقم 3862 وتاريخ 21\2-80هـ والمعطى صورة منه مع صورة من خطابنا لوزارة المالية، وقد جاء في خطاب وكيل وزارة المالية لنا أن العادة المتبعة من القديم أن الخرص يتم على كامل حاصل الثمرة، يستثنى من ذلك ثمار النخيل التي تؤكل في أول الوقت قبل نضوجها تمرا لأنها لا تخرص عادة، ورغب منا الإفادة عما يجب اتباعه، كما وردنا منه أيضا خطاب تعقيبي برقم 10787-4-3-5 وتاريخ 24\5\1380هـ استفسر فيه عما يلزم بالنسبة لزكاة العيش والشلب (1) بناء على تعقيب مالية المنطقة الشرقية وعليه نفيد سموكم بما يلي:
1 - حيث قد استمر العمل من ولاة الأمور من القديم على أن الخرص يتم على كامل حاصل الثمرة، يستثنى من ذلك ثمار النخيل التي تؤكل في أول الوقت قبل نضوجها، فإنه لا مانع من الاستمرار على ذلك العمل؛ لأنه جار على قول بعض أهل العلم، وهو أيضا في المعنى لا يتنافى مع ما قررناه سابقا، لأننا ذكرنا أن صاحب المال إذا لم يأكل ما ترك له أو بعضه أخرج زكاته، وذلك بناء على القول الذي قدمه وصححه صاحب الإنصاف.
وقد سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما
__________
(1) الشلب: الرز، والعيش: البر – في اصطلاح أهل تلك المنطقة.(87/27)
الله عن هذه المسألة فأجاب بقوله: يؤمر الخارص بأن يدع الثلث أو الربع لأهل النخيل يأكلون ويهدون منه ويتصدقون. وبعض أهل العلم يقول يدع لأهل النخيل قدر حاجتهم، كل إنسان على قدر حاجته، فما كان يحتاجه للأكل قبل الجذاذ ويهديه لأقاربه ونحوهم أو يتصدق فلا زكاة فيه، وما عدا ذلك ففيه الزكاة. (1)
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ما معناه: إن أرجح الأقوال عنده أن يترك لصاحب الثمرة قدر ما يأكله ويخرجه رطبا باجتهاد الخارص. اهـ (2) وبهذا يتضح مستند ما جرى عليه ولاة الأمور.
لم نتعرض في خطابنا المنوه عنه أعلاه لسموكم إلا لثمرة النخل ونحوه وهو العنب. وأما الزروع من الحنطة والشلب والشعير ونحو فلا بأس أن يأكلوا منه ما جرت العادة بأكله قبل تمام الحصاد والتصفية، ولا يحتسب عليهم ذلك عند إخراج الزكاة. قال في «المغني» : لا بأس أن يأكلوا منه، يعني ما عدا النخل والعنب وما جرت العادة بأكله، ولا يحتسب عليهم. وسئل أحمد عما يأكل أرباب الزرع من الفريك، قال: لا بأس به أن يأكل منه صاحبه ما يحتاج إليه، فإذا مضى صفى الحب، أخرج زكاة الموجود كله ولم يترك منه
__________
(1) الجزء الرابع من الدرر السنية ص 308.
(2) انظر الجزء الرابع من الدرر السنية ص 308.(87/28)
شيء؛ لأنه إنما ترك لهم في الثمرة شيء لون النفوس تتوق إلى أكلها رطبة والعادة جارية به، وفي الزرع إنما يؤكل شيء يسير لا وقع له ا. هـ. والله يحفظكم، والسلام.(87/29)
(1005- أخذ الزكاة عينا من الثمار) برقيا:
جلالة الملك، مولاي أدام الله وجودكم، وصلنا برقية من خادمكم الأخ عبد المحسن بشأن زكاة التمور مضمونها كما يأتي: كتبت لنا هيئة توزيع الزكاة بما يأتي: نبدي لسموكم أننا نرى التوسعة للملاك بأن من شاء يدفع من عين ماله فله ذلك، ومن شاء يدفع عوضه نقدا فله ذلك، وذلك نظرا للرفق للمستحقين، ولا سيما في الزكاة هذه السنة تمور وسط ودوني وغير قابل للأكل فيصعب التوزيع على الفقراء مع ما يطلب المقام من المصرف والغلاف والنقل وغير ذلك، ولكون ذلك معلوما من السنة، وعليه مذهب الإمام أبي حنيفة، وهو قول قوي في مذهب الإمام أحمد ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات ونص عليه في «المغني» وصاحب «الشرح الكبير» . فنأمل موافقتكم على ذلك، وتعميد لجنة المشتريات بتقدير قيمة معتدلة للتمور من الخلاص وغيره، وتعميم ذلك. انتهى. أمركم مع العلم أن الهيئة الرئيسية تتكون من قاضي المستعجلة في الأحساء والشيخ عبد الله المبارك قاضي الظهران(87/29)
السابق ورفقائهم.
لذا أرجو أمركم بما ترونه نحو ما ذكروا أدام الله بقاءكم، مولاي. خادمكم سعود بن جلوي.
(في 9-3-75هـ)(87/30)
(برقية)
فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم اطلعوا على برقية سعود بن جلوي بشأن الزكوات، وأخبرونا عما يجيز الشرع في ذلك.
(سعود) (14-3-75هـ)
(برقية)
جلالة الملك المعظم أيده الله.
ج عدد 9144 عطفا على ما رفعه لجلالتكم الأمير سعود بن جلوي برقم 1611 بشأن الزكاة. قف. سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة الصحيحة المستفيضة أخذ الزكاة عينا، فقد درج على ذلك العلماء خلفا على سلف. ومن جاء عنهم يجوز أخذ القيمة استدلالا ببعض أحاديث فإن ذلك مقيد بقيود غير متوفرة من كل وجه في هذه المسألة.
وأيضا هذا تجويز فقط، وما درج عليه المسلمون هو شرع وفرض من عند الله بلا ريب. وأيضا «المغني، والشرح» لم ينصا عليه؛ بل حكياه رواية عن أحمد وقولا لبعض أهل العلم، ورداه، واختارا وقررا(87/30)
خلافه، واستدلا بالأدلة الجلية، وأجابا عن القول بالتجويز بما هو مسطور صحيفة 524 إلى صحيفة 528.
وأيضا لو فتح هذا الباب لأفضى إلى أن يتخذ شريعة لا تخالف، وآلت الزكاة إلى شبه الجزية، ونسيت ونسخت ومسخت تلك المقادير الشرعية والزكوات النبوية. وكم ضيع بأمثال هذه الرخص من مشروع، ووقع بجرائها في ممنوع، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لمعاذ: «خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر (1) » رواه أبو داود وابن ماجه. انتهى. حفظكم الله.
(ص – ف – 143 في 20-3-1375هـ)
__________
(1) سنن أبي داود الزكاة (1599) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1814) .(87/31)
(برقية)
فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم، الرياض
ج 143 بشأن ما ذكرتم عن الزكاة فنحن نبرأ إلى الله من مخالفة أمر الشرع، وقد أمرنا الأخ سعود بن جلوي بتطبيق ما جاء في برقيتكم. (سعود) (20547 وتاريخ 3-4-1375 هـ)(87/31)
(1006- لا دليل صحيحا صريحا على أخذ القيمة)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم ع. ح. ك، الموقر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
الجواب على استفتائكم – الحمد لله – أما أخذ القيمة في الزكاة فلا أعلم فيه دليلا صحيحا صريحا من السنة، ولهذا ذهب الجمهور(87/31)
إلى المنع من دفع القيمة، وأنها لا تجزي. وجوز ذلك أبو حنيفة رحمه الله، وإليه ميل البخاري في صحيحه، وشيخ الإسلام ابن تيمية لكنه يشترط كون ذلك أنفع، واستدل البخاري وغيره على ذلك بأدلة قوية وإن لم تكن نصا في المسألة (1)
(ص – ف -59 وتاريخ 24-1-1377هـ)
__________
(1) انظر جـ 1 باب زكاة العروض من صحيحه(87/32)
(1007- المسائل التي يجوز إخراج القيمة فيها عند ابن تيمية والبخاري)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي ورئيس الوزراء حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد جرى الاطلاع على المعاملة المحالة إلينا رفق خطاب سموكم رقم وتاريخ، المتعلقة بتعديل طريقة خرص الثمار وتوزيع زكاتها على الفقراء، المشتملة على قرار المجلس الإداري بأبها رقم 38 وتاريخ 27-10-1381هـ المتضمن ذكر الطريقة الجديدة التي يرى المجلس الأخذ بها مستقبلا، وترغبون منا إفادتكم يما يظهر لنا من رأي تجاه قرار المجلس المذكور.
وبدراستنا للقرار المشار إليه أعلاه صار لنا عليه ملاحظات(87/32)
شرعية، وأخرى إدارية؛ أما الملاحظات الشرعية فتتلخص فيما يأتي: 1 - جاء في القرار ما نصه: يخير المكلفون بين دفعها نقودا وبين دفعها عينا.
وأفيد سموكم أن جعل الخيرة لأرباب الأموال لا أصل له في الشرع؛ بل الواجب في إخراج زكاة الثمار أن تكون عينا، وهو الأصل، والنصوص في ذلك معروفة مشتهرة. ولا يجوز إخراج القيمة إلا فيما ظهرت فيه المصلحة لحظ من وجبت له، أو كان في إلزام من وجبت عليه بالعين مشقة، كأن يبيع ثمر بستانه أو زرعه فيجزؤه إخراج عشر القيمة؛ لأنه ساوى الفقير بنفسه.
ونذكر هنا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لتبيين ذلك وتتضح به بعض الصور التي يجوز إخراج القيمة فيها، جاء في (الاختيارات ص 103) ما نصه: ويجوز إخراج القيمة في الزكاة لعدم العدول عن الحاجة والمصلحة مثل أن يبيع ثمر بستانه أو زرعه فهنا إخراج الدراهم يجزؤه ولا يكلف أن يشتري تمرا أو حنطة فإنه قد ساوى الفقير بنفسه، وقد نص أحمد على جواز ذلك. ومثل أن تجب عليه شاة في الإبل(87/33)
وليس عنده شاة، فإخراج القيمة كاف ولا يكلف السفر لشراء شاة، أو أن يكون المستحقون طلبوا القيمة لكونها أنفع لهم فهذا جائز. ا. هـ.
2 - جاء في القرار تعليل مراعاة الشمول في توزيع الزكاة بأن القصد من صدور أمر جلالة الملك بتوزيع الزكاة على الفقراء هو التوسعة على فقراء الرعية.
والصحيح أن أمر الملك حفظه الله بتوزيع الزكاة على الفقراء هو تنفيذ ما اقتضاه الوجه الشرعي. كما أن تعبير المجلس في القرار بأن الزكاة مبرة ولي الأمر غير مستقيم، ومن باب تسمية الأشياء بغير أسمائها. إذ هي حق الفقراء على الأغنياء، كما جاء ذلك في الكتاب والسنة، ومن ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (1) {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (2) .
3 - جاء في القرار أن الجهة التي تتولى التحقيق في اتهامات هيئات الخرص والتوزيع هي المجلس الإداري، وأن ما صدر من ذلك المجلس من قرارات في حق من قامت التهمة حوله ينبغي أن تكون نافذة.
__________
(1) سورة المعارج الآية 24
(2) سورة المعارج الآية 25(87/34)
ونفيد سموكم أن الجهة التي تتولى النظر في هذه الاتهامات لا بد وأن تكون جهة علمية كالمحكمة، أو أن يشكل له هيئة شرعية برئاسة مندوب رئاسة القضاء وعضوية مندوبي هيئة الأمر بالمعروف ووزارة المالية والمجلس الإداري. ولا يكون قرار الهيئة نافذا حتى ينال تأييد الجهات المختصة.
4 - جاء في القرار التوصية بعدم إهمال فقراء المناطق المجدبة. ونفيد جلالتكم أنه ينبغي توزيع زكاة كل قرية على فقرائها، ومتى بقي فاضل منها وزع على فقراء ما جاورها من القرى، وكلما كانت قرية أقرب إليها كانت أولى بتوزيع الفاضل من زكاتها على فقرائها، ما لم تكن هناك مسغبة فلولي الأمر الاجتهاد في التوزيع حسبما تقتضيه المصلحة العامة.
أما الملاحظات الإدارية فقد جاء في القرار عبارتان ظاهرهما التناقض، وهما: ويعهد إليهم باستيفاء الزكاة الشرعية – والضمير راجع إلى الخراص الذين يختارهم المجلس الإداري – وبعد استحصال الزكوات من قبل المالية بواسطة محاسبه وقابض وخوي الإمارة. ووجه التناقض أن استيفاء الزكاة قد جعل إلى جهتين هما الخراص كما تشير إليه العبارة الأولى، ومندوبو المالية القابض والمحاسب، وخوي الإمارة كما تدل عليه العبارة الثانية. وهذا لا يمكن، إذ لا يصح استيفاء الزكاة ممن وجبت عليه مرتين، فلزم القول بأن سبك الكلام غير واف لوجود هذا التناقض الموهم. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى(87/35)
فالطريقة التي ذكرها المجلس ورأى الأخذ بها مستقبلا فيها شيء من التعقيد، وتكليف الدولة بأكثر مما يلزمها من نفقات جباية الزكاة وتوزيعها، والطريقة التي نراها أبسط وأقسط وأسلم من التلاعب أن يختار المجلس الإداري، أو من يمارس صلاحياته، رجلين موثوقا بهما أمانة وخبرة؛ ليقوما بخرص الثمار، وتسجيل ذلك في بيانات يرفعانها إلى جهات الاختصاص مبينا فيها مقدار الواجب من الزكاة على كل واحد ممن جرى خرص ثمارهم، ويعهد إلى قاضي كل جهة بتسجيل أسماء الفقراء المستحقين بمساعدة رئيس هيئة الأمر بالمعروف في تلك الجهة. وبعد الجذاذ والحصاد تشكل هيئة من المالية من قابض وحاسب لجباية زكاة كل قربة حسبما هو موضح في بيانات الخراص، وتوزيعها على فقرائها حسب سجلات القاضي بمشاركة القاضي والأمير ورئيس هيئة الأمر بالمعروف، ومن المستحسن جدا أن تؤخذ توقيعات الفقراء على ما استلمه كل واحد منهم. ومتى وجد فاضل من زكاة أي قرية على مستحقات فقرائها صرف إلى فقراء أقرب قرية منها، كما مر ذكره. أما استحقاق مشائخ القبائل والجباة والخراص فيصرف لهم من أصل حاصلات الزكوات كالسابق. هذا ما لزم ذكره. ونعيد إلى سموكم كامل الأوراق والله يحفظكم.
رئيس القضاة(87/36)
1008 - (تخرج من الطيب والمتوسط والرديء)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم وكيل وزارة المالية والاقتصاد الوطني الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد:
فبالإشارة إلى خطابكم رقم 16776 – 4-2 في 17\10\1375هـ المرفق به المعاملة الدائرة حول استدعاء ع. م. م. بطلبه قبول الزكاة من حاصل ثمرة كل ملك.
نفيدكم أن قد جرى درس كامل المعاملة ومن بينها إفادة مدير الأملاك والزكوات بالمنطقة الشرقية المتضمنة بأن العادة المتبعة هي استحصال ثمر طيب من عموم المكلفين ... إلخ.
والقاعدة الشرعية في استحصال الزكوات أن من لديه زكاة تمر يخرج من جميع الأنواع التي عنده؛ من المتوسط والطيب والرديء، وإن أخرجها جميعها من الطيب كان أفضل، وإن أخرجها جميعها من الوسط أجزأه، ولا يخرجها من الرديء فقط. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(ص –ف 339 في 30-7-1375هـ)(87/37)
(1009- زكاة العسل)
من محمد بن إبراهيم إلى فضيلة رئيس محكمة الباحة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
كتب لنا م. ع. ص. ز، التابع للقرى معروضه المرفق بخصوص زكاة العسل، ورأينا أن يكون الجواب له من طريقكم لإبلاغه بالفتوى هو غيره.
والجواب: المشهور من مذهب الحنابلة أن الزكاة تجب في العسل، نص عليه الإمام أحمد، وقال: أخذ عمر منهم الزكاة. فقيل له: ذلك أنهم يتطوعون به. فقال: لا بل أخذ منهم. وهذا عام في العسل الذي يؤخذ من أرض مملوكة والذي يؤخذ من موات كرؤوس الجبال، ولأنه مكيل مدخر فأشبه التمر، ولحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ في زمانه من قرب العسل من كل عشر قرب قربة من أوسطها (1) » رواه أبو عبيد والأثرم وابن ماجه.
وروى سليمان بن موسى عن أبي سيارة المتعي قال: «قلت: يا رسول الله، إن لي نحلا!! قال: "فأد العشور". قال: قلت: يا رسول الله، احم لي جبلها، فحمى لي جبلها (2) » رواه أحمد وابن ماجه. ولا تجب فيه الزكاة حتى يبلغ نصابا، ونصابه كما ذكره الفقهاء مائة وستون رطلا، وذلك عشرة أفراق على المنصوص، والفرق ستة عشر رطلا عراقية،
__________
(1) سنن أبي داود الزكاة (1600) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1824) .
(2) سنن ابن ماجه الزكاة (1823) ، مسند أحمد (4/236) .(87/38)
وهو مكيال معروف. والله أعلم.
مفتي البلاد السعودية
(ص – ف1480-1 في 26-5-1386هـ)(87/39)
(1010- لا تتكرر زكاة المعشرات ما لم تكن للتجارة)
قوله: ومن زكى ما ذكر من المعشرات مرة فلا زكاة فيه بعد، لأنه مرصود للنماء.
لا تتكرر زكاة المعشرات ولو بلغت أحوالا، لكن هذا ما لم تكن للتجارة، فإذا زرع للتجارة فإنها تقوم عند الحول، وأما أنها تزكى زكاة حبوب فلا. (تقرير)(87/39)
(باب زكاة النقدين)
(1011 الدينار، والدرهم، والجنيه)
الدينار مثقال من الذهب، وزنته بالدراهم درهم وثلاثة أسباع درهم. لكن على أصل الشيخ أن ربع الدينار هو ربع الجنيه كبر هذا أو صغر في سائر موارد ذكر الدينار، والثلاثة الأريل هي ثلاثة دراهم في سائر موارد ذكر الدرهم.
وكلامه ظاهر فيما إذا كان الجنيه مثقالا أو مثقالين. أما إذا كان مثلا واحد مثقال وواحد ستة مثاقيل، فهذا يتأمل، وملمحه أن النصوص جاءت بلفظ "دينار" "درهم" لم يعتبر فيها بالوزن.(87/39)
الجنيه الفرنجي مثقالان إلا ربعا، وكأنه ينقص شيئا قليلا " العصملي " ما حررناه لكنه في ذكر بعض مثقال ونصف (تقرير) .(87/40)
(1012- زكاة مبلغ مودع في البنك)
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ع. إ. د. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , وبعد:
فقد وصلنا استفتاؤك, وفهمنا ما تضمنه من سؤالك عن زكاة المبلغ المودع لوالدتك في البنك، ومقداره ثمانية وستون ألف ريال وكسور، ثمن نصيبها من النصف المهدوم توسعة للشارع العام من بيت والدها المتوفى، وهل يجب فيه الزكاة لأنه معد للبناء، وما مقدار الواجب فيه، علما أنه استلم المبلغ من الحكومة في 29\7\81 هـ.
والجواب: الحمد لله، نعم تجب الزكاة فيه بعد مضي حول، والواجب فيه ربع العشر عن كل عام يمضي عليه، وبالله التوفيق والسلام.
(ص – ف 479 في 11\3\هـ)(87/40)
(1013- أوراق البنكنوت)
"الخامسة" سؤالك عن (البنكنوت) هل فيها زكاة، أم أن الزكاة في الذهب والفضة.
والجواب: اختلف في أوراق البنكنوت: هل هي عروض أو فلوس، أو أثمان. وحيث إن الغالب عليها صف الأثمان فهي فرع عنها، فلا يظهر لي فيها إلا أنها كالأثمان حكما في الزكاة والربا والصرف، فتجب فيها الزكاة بشرطها.
(ص- ف \379\ في 11-3-1383هـ)(87/41)
(1014- أحسن المسالك في الأوراق أن تعتبر نقودا، وأدلة ذلك)
الأوراق هذه بعض الناس لا يرى فيها الربا في بعض صوره، كأن يوهب إياها أو تكون أثمان مبيعات فلا ينويها للتجارة، فيقول هي عروض ليست أموالا تزكى، يقول: يوم بعت عقاري بنصف مليون ما نويت التجارة – إني أتجر بنصف المليون – فيبطلون الزكاة إذا جعلوها عروضا، فيسقط حق المستحقين بهذا.
أحسن المالك في الأوراق هذه أن تكون في كل باب من أبواب الربا تعد نقودا، وفي باب الزكاة تعد نقودا.
فكل ناحية يتوفر فيها حق المستحقين ويسلم من الربا تعتبر نقودا والأشياء الأخر يعتقدها ما يعتقدها.(87/41)
فالذي يقول: إنها عروض، أو فلوس. يقول: يلزمك أن تسوغ (1) لا بد أنه سيصرفها. فلا أحسن من المسلك أن تسمى نقودا وأسلم من كل شيء، ولو طولب بالتأصيل فإنه سيذهب إلى المرجع أن له الحق أن يعطي نقودا، وهذا أصل الوضع لو يصير على المحاقة في الشرع فإنه يلزمهم، وكثير من الناس يجبن عن طلب ذلك أو يتعذر أصلها أن لها رصيدا. والذي يفعل هذا يسلم من هذه الآفات. يقال لو لم تكن نقودا.
ولا أفتى بهذا إلا بعض الجهال، فإذا جعلت عروضا والمال محبوب تركت الزكاة، إلا إذا سلك المسلك الأول وقال: أجعلها نقودا.
لا تسأل عن أمور الناس اليوم، التجارة اليوم أكثرها ليس تجارة مسلمين؛ بل تجارة نصارى أو أشباه نصارى. إذا أخذ ورق بورق مؤجل هذا الربا. (تقرير) .
__________
(1) الربا(87/42)
(1015- س: الزري في المشالح)
جـ: يذكرون فيه شيئا من الذهب. وبعضهم يقول ليس ذهبا ولكنه شيء يقرب من الذهب.(87/42)
وعلى القول بأنه ذهب فالشيء اليسير منه يجوز، والشيخ جرز مثل تركاش النشاب وأشياء يسيرة تابعة لغيرها. فعلى أصل الشيخ أن الزري يسير تابع، وكذلك أبو بكر عبد العزيز. (تقرير)(87/43)
(1016- بحث في البلاتين، وورع)
البلاتين يمكن إلحاقه بالذهب في الأحكام، جنيهه ويفوق المائة. يزيد على الذهب أكثر من المرتين، وهو أبيض، إلا أنه أكدر من الفضة؛ لكن فيه من القوة والصلابة شيء كثير، وفيه نفاسة فله ميزة، والظاهر أن ميزته نفاسته في الجوهرية، وكأنه ليس كثيرا، إذ لو كان كثيرا لكان موجودا بكثرة ينبغي البحث في أحكامه: من زكاته، ومسألة الربا فيه، ومن جواز اللبس ونحو ذلك. وكأن مسألة الجمال في اللبس ما فيه زيادة جمال، لكن فيه نفاسة.
عندي منه أسنان ولا استمريت في لبسها، فترددت في اللبس وعدمه فيما علمت، والذي صنع لي الأسنان ذكر أنه معدن.
لكن إذا كان هذه نفاسته: هل يلحق بالذهب، أو لا؟ فإنه يوجد جواهر أنفس من الذهب، ولا يلزم من ذلك أن تعطى أحكام الذهب. والله أعلم. (تقرير)(87/43)
(1017- قوله كتحلية المراكب)
ومثله الكراسي والمجالس ونحوها بل أولى.............. (تقرير)
(1018- يجوز للرجال لبس ساعة اليد ما لم تكن مذهبة)
:
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم الأستاذ ع. ف. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصلنا خطابك الذي تقول فيه: أرفع لسماحتكم أنه قد كثر القيل والقال بين بعض الزملاء في مسألة لبس الساعة في اليد، فقائل بتحريم لبسها لأنه تشبه بالنساء حيث إن موضع الزينة في أيديهن. وقائل بكراهتها للغرض نفسه، وقائل بإباحة لبسها في اليد وأنها لم تكن في شيء من التشبه، وأن الناس يلبسونها في أيديهم، وأنها لم تصنع إلا لهذا الغرض. نرجو التكرم بإفتائنا في هذه المسألة.
والجواب: - الحمد لله، لا بأس بلبس الساعة اليدوية، وليست من التشبه في شيء؛ ما لم تكن مذهبة لحديث علي رضي الله عنه: " نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التختم بالذهب، وعن لباس القسي والمعصفر" رواه مسلم. والسلام عليكم.
(ص – ف 572 في 23-6-1378هـ)(87/44)
س: ساعة الذهب للمرأة؟
جـ: ليست من الحلي، لكن إن اجتهد وقيل هي من جنس السوار، فربما لكونها مكان السوار، ولعلها إذا ساوت السوار في الزنة لا بأس بها. (تقرير)(87/45)
(1019- الخناجر الذهبية، وأسنان الذهب)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم م. ع. ت. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فجوابا على الاستفتاء الموجه منكم بتاريخ 6-8-1375هـ المتضمن السؤال عما يأتي:
1. هل يجوز لبس الخناجر الذهبية؟ 2. هل يجوز أن يركب أحد من الناس أسنانا من الذهب الخالص اضطرارا كان أو زينة؟
الجواب: الحمد لله، لا يجوز لبس الخناجر الذهبية، كما لا يجوز تذهيبها هذا التذهيب الموجود من طمسها ونحوه، وكذلك اتخاذ السن من الذهب، سواء لضرورة أو غيرها، إنما يجوز ربط السن والأسنان بالذهب فقط، هكذا صرح علماؤنا رحمهم الله، لم يذكروا فيما يتعلق بالأسنان إلا الربط فقط، ولا ريب أن الأصل في لبس الذكر الذهب هو التحريم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير: «هذان(87/45)
حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم» ، فإنه دال على تحريم الذهب على الذكور ذاتا، فمن ادعى خروج صورة من الصور من عموم هذا الحديث فعليه إقامة الدليل، فإن فعل فذاك، وإلا فحق قوله الإلغاء، وحظه التجهيل، هذا ما لزم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(87/46)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله)
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: ما نصيحتكم لرجل لا يؤدي الزكاة، لعل قلبه يلين فيرجع إلى الحق؟ (1)
ج: نصيحتي لمن بخل بها أن يتقي الله وأن يتذكر أن الذي أعطاه إياها قد ابتلاه بها، الذي أعطاه المال قد ابتلاه به، فإن شكر النعمة وأدى حقها أفلح وإن بخل بالزكاة، ولم يؤد حق هذه النعمة خسر وخاب وذاق عذاب ذلك وجزاء ذلك في قبره ويوم القيامة – نسأل الله العافية – فالمال زائل وأمره خطير وعواقبه وخيمة لمن بخل ولم يؤد زكاته، وسوف يدعه لمن بعده ويكون عليه حسابه ووزره، فالواجب على كل مسلم عنده مال أن يتقي الله ويتذكر الموقف بين يدي الله، وأنه سبحانه يجازي كل عامل بعمله وأن هذا المال بلية، كما قال عز وجل: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (2)
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة لسماحته بعد محاضرته عن (الزكاة ومكانتها في الإسلام) في الجامع الكبير بالرياض.
(2) سورة التغابن الآية 15(87/47)
وقال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (1) ، فالمال ابتلاء وامتحان، فإن شكرت الله وأديت حقه وصرفته في وجوهه أفلحت كل الفلاح، وصار نعمة في حقك، ونعم الصاحب للمؤمن هذا المال، يصل به رحمه، ويؤدي به الحقوق التي عليه، ويساهم في المشاريع الخيرية، وينفع المستضعفين ويواسيهم، فهو نعمة بحقه عظيمة، وإذا بخل به فهو بلية عليه عظيمة، وعاقبته وخيمة، فنسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية من كل سوء.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 35(87/48)
من ترك إخراج الزكاة لزمه إخراجها عما مضى من السنين
س: أنا إنسان لم أخرج الزكاة منذ أن ملكت النصاب قبل حوالي ثلاث سنوات، وقدرت أن ما أملكه بيدي أو في ذمة غيري لي هو مبلغ معين، فهل أدفع زكاة الثلاث سنوات التي مضت إذا حل الحول الثالث في هذا العام، علما بأنني قادر ومستطيع على ذلك، أم ما هو العمل؟ (1) ج: أخرج الزكاة عن الحولين الماضيين واستغفر ربك وتب إليه
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته عقب ندوة ألقيت في الجامع الكبير بعنوان «الربا وخطره»(87/48)
عما أخرت، وإذا تم الحول الثالث فأخرج زكاته، ولا تؤخر الزكاة بل عجل زكاة الحولين مع التوبة والاستغفار، فإذا تم الحول الثالث فأخرج زكاته.(87/49)
الجهل بفرضية الزكاة لا يسقطها
س: الأخ و. م. ب. من الرياض، يقول في سؤاله:
عندي مبلغ من المال منذ حوالي خمس سنوات، وهذا المبلغ يزيد وينقص، وفي هذا العام جرى حديث مع أحد الإخوة عن زكاة المال، وذكر أن أي مبلغ يملكه الإنسان وحال عليه الحول ولو كان يدخره لزواج أو شراء مسكن عليه زكاة. سماحة الشيخ: هل علي زكاة عن السنوات الماضية وأنا لا أعلم أن علي زكاة، أم أزكي هذه السنة فقط التي علمت فيها أن علي زكاة؟ أفتوني جزاكم الله خيرا. ج: عليك الزكاة عن جميع الأعوام السابقة، وجهلك لا يسقطها عنك؛ لأن فرض الزكاة أمر معلوم من الدين بالضرورة، والحكم لا يخفى على المسلمين، والزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، والواجب عليك المبادرة بإخراج الزكاة عن جميع الأعوام السابقة،(87/49)
مع التوبة إلى الله سبحانه من التأخير، عفا الله عنا وعنك وعن كل مسلم. والله الموفق.(87/50)
حكم زكاة أموال اليتامى
س: توفي رجل وخلف أموالا وأيتاما، فهل في هذه الأموال زكاة؟ وإن كان كذلك فمن يخرجها؟ (1) ج: تجب الزكاة في أموال اليتامى من النقود والعروض المعدة للتجارة وفي بهيمة الأنعام السائمة وفي الحبوب والثمار التي تجب فيها الزكاة، وعلى ولي الأيتام أن يخرجها في وقتها، فإن لم يكن لهم ولي من جهة والدهم المتوفى وجب رفع الأمر إلى المحكمة حتى تعين لهم وليا يتولى شؤونهم وشؤون أموالهم، وعليه في ذلك تقوى الله والعمل بما فيه صلاحهم وصلاح أموالهم؛ لقول الله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} (2) وقوله سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة. ويعتبر الحول في أموالهم من حين مات والدهم؛ لأنها
__________
(1) نشر في كتاب (تحفة الإخوان) لسماحته ص 150.
(2) سورة البقرة الآية 220
(3) سورة الأنعام الآية 152(87/50)
بموته دخلت في ملكهم. والله ولي التوفيق.(87/51)
إخراج الزكاة من مال الطفلة
س: إني أقوم بتربية طفلة تبلغ من العمر (5) سنوات، وإن زوجي يقوم بإعطائها بعضا من المال الذي أقوم بدوري أنا بوضعه بمصرف فيصل الإسلامي، فهل تجب الزكاة على مالها أم لا؟ ج: عليك أن تؤدي زكاة مالها؛ لأنك القائمة عليها.(87/51)
حكم إخراج الزوج زكاة زوجته من ماله
س: هل يجوز أن يخرج زوجي عني زكاة مالي، علما أنه هو الذي أعطاني المال؟ وهل يجوز إعطاء الزكاة لابن أختي المتوفى عنها زوجها وهو شاب في مقتبل العمر ويفكر في الزواج؟ أفيدوني.
ج: الزكاة واجبة عليك في مالك إذا كان عندك نصاب أو أكثر من الذهب أو الفضة أو غيرهما من أموال الزكاة، وإذا أخرجها عنك زوجك بإذنك فلا بأس، وهكذا لو أخرجها عنك أبوك أو أخوك أو غيرهما بإذنك فلا بأس، ويجوز دفع الزكاة لابن أختك مساعدة له في الزواج إذا كان عاجزا عن مؤونته. وفق الله الجميع لما يرضاه.(87/51)
س: هل يدفع الزوج زكاة حلي زوجته؟ (1)
ج: لا يلزمه الزكاة عنها، لكن إذا ساعدها بذلك ورضيت فلا بأس، وإلا فالزكاة عليها لحليها؛ لأن الأحاديث الواردة في ذلك تدل على أن الزكاة عليها لا على زوجها.
__________
(1) من برنامج نور على الدرب(87/52)
حكم نقل الزكاة من بلد إلى بلد
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، حفظه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نرجو إفادتنا بفتوى عن مدى مشروعية صرف الزكاة خارج المملكة على مصارفها الشرعية المعلومة، مثلما هو متبع داخل المملكة، مقدرين لسماحتكم ذلك، والله يحفظكم. (1)
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. بعده:
يجوز نقل الزكاة من محل المزكي «بلده» إلى بلد أخرى إذا كان ذلك لمصلحة شرعية في أصح قولي العلماء، كأن ينقلها للمجاهدين في سبيل الله، أو لفقراء أشد حاجة من فقراء بلده، أو لكونهم من قرابته؛
__________
(1) سؤال مقدم من شركة ع وم. ع. ج. وقد أجاب عنه سماحته بتاريخ 3-9-1410هـ(87/52)
لأن في ذلك جمعا بين صلة الرحم والصدقة. وفق الله الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(87/53)
س: هل يجوز إخراج الزكاة في بلد غير البلد التي أسكن فيها؟
ج: الأولى والأحوط توزيع الزكاة في البلد الذي يسكن فيها صاحب المال، وإن كان في بلد وماله في آخر فالأفضل إخراج الزكاة في محل المال لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه، لما بعثه إلى اليمن: «ادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» (1) متفق على صحته.
ولكن إذا دعت المصلحة الشرعية إلى نقل الزكاة من بلد إلى بلد،
__________
(1) رواه البخاري في (الزكاة) باب وجوب الزكاة برقم (1395) ، ومسلم في (الإيمان) ، برقم (18)(87/53)
إما لأن في البلد الأخرى أقارب فقراء، أو طلبة علم فقراء، أو أناسا قد اشتدت حاجتهم، فلا بأس بذلك في أصح قولي العلماء لأحاديث وآثار وردت في ذلك.(87/54)
س: هل يجوز نقل الزكاة من بلد إلى آخر؟
ج: الأفضل تفريق الزكاة في محل المال لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه: «فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم (1) » متفق على صحته.
ويجوز النقل لمصلحة شرعية – في أصح قولي العلماء - لأدلة كثيرة وردت في ذلك، وذلك مثل نقلها لأقارب قد اشتدت حاجتهم، أو طلبة علم تعينهم على طلبهم، أو غزاة في سبيل الله، أو نحو ذلك.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة عن الأغنياء وترد في الفقراء وبرقم (1496) ، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين برقم (19) .(87/54)
حكم شراء مواد غذائية وعينية من الزكاة وصرفها في مصارفها
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، حفظه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نحب أن نستوضح من سماحتكم عن موضوع صرف مبالغ من الزكاة لشراء مواد غذائية منوعة وعينية، كالبطانيات والملابس، وصرفها لبعض الجهات الإسلامية الفقيرة، خاصة في الحالات التي لا تتوفر المواد الغذائية بأسعار معقولة في تلك البلدان، أو تكاد تكون معدومة فيها كلية، وإن توفرت فهي بأسعار مضاعفة عن الأسعار التي تصلهم بها لو أرسلت عينا.
نرجو إفادتنا جزاكم الله خيرا بما ترونه حيال ذلك، والله يحفظكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (1)
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
لا مانع من ذلك بعد التأكد من صرفها في المسلمين، أثابكم الله
__________
(1) سؤال مقدم من ع وم. ع. ج. وقد أجاب عنه سماحته بتاريخ 6-9-1410هـ(87/55)
وتقبل منكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(87/56)
لا بأس في قبول الزكاة وصرفها لمعوقي الفقراء ممن ليس لهم من ينفق عليهم.
س: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، مفتي عام المملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء، وإدارة البحوث العلمية والإفتاء، ما رأيكم في قيام المركز المشترك لبحوث الأطراف الاصطناعية والأجهزة التعويضية وبرامج تأهيل المعوقين بصرف بعض ما يرد للمركز من صدقة وزكاة الموسرين – الذين يرغبون صرفها عن طريق المركز – في شراء أجهزة للمعوقين الفقراء؟ (1)
ج: إذا كان المعوقون فقراء ليس لهم من ينفق عليهم، فلا بأس في قبول الزكاة لهم وصرفها في حاجاتهم بواسطة وكيلهم.
__________
(1) سؤال مقدم من د\م. ح. ط. الباحث الرئيسي المشرف على المركز المشترك.(87/56)
حكم أخذ العروض في الزكاة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة صاحب السمو الملكي الأمير(87/56)
المكرم – سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض ورئيس جمعية البر بالرياض وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإشارة إلى كتاب سموكم رقم 1398 وتاريخ 15\8\1407هـ المتضمن طلبكم الإفادة عن رأيي حول أخذ العروض في الزكاة.
أفيد سموكم بأنه قد اختلف العلماء رحمهم الله في جواز أخذ العروض في الزكاة، والأرجح جواز ذلك بحسب السعر حين الإخراج سواء كان ذلك طعاما أو ملابس أو غير ذلك لما في ذلك من الرفق بأصحاب الأموال والإحسان إلى الفقراء، ولأن الزكاة مواساة فلا يليق تكليف أصحاب الأموال بما يشق عليهم، وإنما الذي عليهم أن يواسوا إخوانهم الفقراء مما لديهم. وأسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يبارك في جهود سموكم وسائر المسؤولين عن الجمعية إنه خير مسؤول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.(87/57)
إخراج زكاة العروض منها يجزئ وبالنقود أحسن وأحوط
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم: ر. م. غ. وفقه الله. (1)
سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصل إلي كتابكم الكريم المؤرخ في 5\6\1389هـ، وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من السؤال عن زكاة العروض، وهل يجزئ إخراجها منها أم يلزم إخراجها من النقود كان معلوما؟
والجواب: العروض الواجب تقويمها عند الحول بسعر الوقت فإذا بلغت النصاب وهو: مائة وأربعون مثقالا من الفضة، أو عشرون مثقالا من الذهب، أخرج زكاتها من النقود، هذا هو الأحوط والأحسن خروجا من خلاف العلماء، وإن أخرج زكاتها منها حسب القيمة الحاضرة أجزأ ذلك، في أصح قولي العلماء. والعروض هي السلع المعدة للبيع سواء كانت أراضي أو سيارات أو أقمشة أو غير ذلك من صنوف الأموال لما ورد في الحديث عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الصدقة من الذي
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته إجابة عن استفتاء مقدم من ر. م. غ. عندما كان نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية(87/58)
نعده للبيع (1) »
وفق الله الجميع للفقه في الدين وإبراء الذمة من حق الله وحق عباده، إنه خير مسؤول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب العروض إذا كانت للتجارة برقم (1564)(87/59)
حكم إخراج الزكاة عروضا عن العروض وعن النقود
س: هل يجوز إخراج الزكاة من الأقمشة؟
ج: يجوز ذلك في أصح قولي العلماء الطيب عن الطيب، والرديء عن مثله حسب القيمة، مع الحرص على ما يبرئ الذمة؛ لأن الزكاة مواساة من الغني للفقراء، فجاز له أن يواسيهم من القماش بقماش، كما يواسيهم من الحبوب والتمور والبهائم الزكوية من نفسها.
ويجوز أيضا أن يخرج عن النقود عروضا من الأقمشة والأطعمة وغيرها، إذا رأى المصلحة لأهل الزكاة في ذلك مع اعتبار القيمة، مثل أن يكون الفقير مجنونا أو ضعيف العقل أو سفيها أو قاصرا، فيخشى أن يتلاعب بالنقود، وتكون المصلحة له في إعطائه طعاما أو لباسا ينتفع به من زكاة النقود بقدر القيمة الواجبة، وهذا كله في أصح أقوال أهل العلم.(87/59)
دفع الزكاة للجمعيات الخيرية
س: هل يجوز دفع الزكاة للجمعيات الخيرية؟
ج: إذا كان القائمون عليها ثقات مأمونين يقدمون الزكاة في مصرفها الشرعي فلا بأس بدفع الزكاة إليهم لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى.(87/60)
يجب على الوكيل في توزيع الزكاة تنفيذ ما قاله موكله
س: أولا أود أن أشكر أصحاب الفضيلة المشايخ على مجهوداتهم الكبيرة في الإجابة على أسئلة المسلمين بالصراحة والوضوح التام، جزاهم الله خيرا. وأرجو الإجابة على السؤال التالي:
أحد الإخوان أعطاني زكاة ماله وطلب مني أن أرسلها إلى أشخاص في السودان بشرط أن يكونوا ملتزمين بالكتاب والسنة قولا وعملا، وألا تربطني بهم صله رحم، وأن يكونوا محتاجين ومستحقين للزكاة، ولدي أقرباء ومعارف لكن لا تتوفر فيهم هذه الشروط بالدقة التامة، والمبلغ ما زال بحوزتي، أفيدوني ماذا أفعل به؟ هل أرجعه له أو أوزعه على من أراه مستحقا له دون تطبيق شروطه؟ نرجو نشر السؤال والجواب ولكم مني جزيل الشكر وجزاكم الله خيرا.(87/60)
ج: يجب عليك أن تنفذ ما قاله موكلك في أوصاف من وكلك في دفع الزكاة إليهم، فإن لم تجد من تتوافر فيه الصفات فرد المال إلى صاحبه حتى يتولى صرفه فيمن يستحقه، وليس لك أن تتصرف فيه على غير الوجه الذي أوصاك به صاحب المال؛ لأن الوكيل مقيد بما قيده به الموكل فيما يوافق الشرع المطهر.(87/61)
س: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أنا شخص مطالب بمبلغ من المال نهاية شهر عشرة، ولا أستطيع الوفاء به في موعده كاملا، ويوجد لدي مبلغ من المال، أنا وكيل عليه وكالة شرعية، ووالدي له جزء من هذا المبلغ.
سؤالي: هل يجوز لي اقتطاع جزء من زكاة المال لأسدد به ديني؟ أفتونا وجزاكم الله عنا خير الجزاء.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فليس لك ذلك، وإنما يكون إخراج الزكاة من مالك المال، إلا إذا وكلك أبوك وشريكه في إخراج الزكاة وصرفها في غرمائك فلا بأس إذا كنت عاجزا عن تسديد حق الغرماء. أوفى الله عنك وعن كل مسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(87/61)
س: كنت فقيرا وعملت عند بعض الأغنياء، ونظرا لأمانتي لديه وضع ثقته في وأعطاني مبلغا كبيرا من زكاة ماله لكي أوزعه على فقراء المنطقة التي نعيش فيها، ووجدت نفسي محتاجا لهذا المبلغ وأخذته لنفسي، فهل علي ذنب في هذا؟ علما بأنني فقير وأحتاج لهذا المبلغ وهذا الغني يعطي الكثير من أمواله لفقراء هذه المنطقة، راجيا الإجابة؟ ج: عملك هذا لا يجوز بل هو من الخيانة، والواجب عليك التوبة إلى الله سبحانه مع غرامة المال وتسليمه للفقراء المستحقين للزكاة من المسلمين، وبالنية عن الرجل الذي وكلك، وإذا وقع مثل هذا فينبغي لك أن تخبره وتقول له أنا فقير ساعدني من زكاتك.(87/62)
حكم إعطاء الوكيل أجرة على توزيع الزكاة
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية، حفظه الله ووفقه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأرجو إفتائي على سؤالي هذا وهو: إن لدي مقدارا من المال، زكاة واجبة علي، وأريد أن أرسل منها مبلغا لإحدى البلدان لفقرائها، وأعرف رجلا غنيا في تلك البلد وأريد أن أبعث المال بواسطته ليلتمس له المحتاجين، ولكنه لن يعمل ذلك إلا بمبلغ، فهل يجوز أن أعطيه من مال الزكاة على عمله؟ وإذا حولتها له وأخذ البنك مبلغا، فهل أقتطع(87/62)
هذا المبلغ من الزكاة، أم لا بد أن أدفع ذلك من حر مالي؟ أفيدوني أثابكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
الأفضل لك أن توزع زكاتك في فقراء بلدك، وإذا نقلتها إلى بلد آخر فيها فقراء هم أشد حاجة، أو لكونهم من أقاربك وهم فقراء، فلا بأس، وإذا وكلت وكيلا في توزيع الزكاة فلا مانع أن تعطيه أجرة من غير الزكاة؛ لأن الواجب عليك توزيعها بين الفقراء بنفسك أو بوكيلك الثقة، وعليك أجرته من مالك لا من الزكاة، أما البنك فلا نرى لك أن تحولها بواسطته خشية أن يستعملها في الربا، ولكن يجب أن يكون التحويل بواسطة ثقة أمين يطمئن قلبك إلى أنه يوصلها إلى مستحقيها بأسرع وقت، والله ولي التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية عبد العزيز بن عبد الله بن باز(87/63)
حكم الدعاء عند تفريق الصدقة
س: ماذا عن الأشخاص الذين يجتمعون عند الصدقة التي يراد تفريقها عليهم، ويضعون أيديهم عليها، ويدعو أحدهم للمتصدق ويؤمن الباقون بأصوات مرتفعة؟
ج: لا تنبغي هذه الكيفية؛ لأنها بدعة، أما الدعاء للمتصدق من غير وضع الأيدي على المال المتصدق به، ومن دون اجتماع على رفع الأصوات على الكيفية المذكورة فهو مشروع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من صنع معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه» ، رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح، والله الموفق.(87/64)
حكم اعتبار ما يدفع لمصلحة الزكاة والدخل من الزكاة
س: أنا صاحب مؤسسة أقوم بدفع مبلغ وقدره 2.5% من رأس مالي إلى مصلحة الزكاة والدخل، بحجة أن هذا المبلغ يعتبر زكاة التجارة، وإذا توقفت عنه فسوف تتوقف لي مصالح كثيرة، مثل الاستقدام، وطلب أي تعديل في مستنداتي، ولهذا فأنا ملزم بدفع المبلغ، لكني قرأت في بعض الكتب أن هذا المبلغ ليس زكاة، وإنما يلزمني إخراج زكاة خلاف ما أسدده لمصلحة الزكاة والدخل، أرجو(87/64)
الإفادة؛ لأن هذا حال جميع الشركات والمؤسسات بالمملكة، وفقكم الله لما فيه الخير.
ج: ما دامت طلبت منك باسم الزكاة وأخرجتها بنية الزكاة فهي زكاة؛ لأن ولي الأمر له طلب الزكاة من الأغنياء ليصرفها في مصارفها، ولا يلزمك إخراج زكاة أخرى عن المال الذي دفعت زكاته للدولة، أما إن كان عندك أموال أخرى أو أرباح لم تخرج زكاتها للدولة فعليك أن تخرجها لمن يستحقها من الفقراء، وغيرهم من أهل الزكاة. والله ولي التوفيق.(87/65)
ذكر الأصناف الثمانية في الآية لبيان المصرف لا للترتيب
س: هل نص الآية في صرف الزكاة على الترتيب أم التخيير؟
ج: ليس ذكر الأصناف في الآية للترتيب وإنما ذلك لبيان المصرف، فلو بدأ بالمجاهدين أو بالغارمين فلا بأس، وإنما الأفضل مراعاة الأصلح في الشرع، فيقدم المزكي من تقتضي الأدلة الشرعية تقديمه حسب اجتهاده. والله ولي التوفيق.(87/65)
الفرق بين المسكين والفقير
س: من هو المسكين الذي تصرف له الزكاة؟ وما الفرق بينه وبين الفقير؟(87/65)
ج: المسكين هو الفقير الذي لا يجد كمال الكفاية، والفقير أشد حاجة منه، وكلاهما من أصناف أهل الزكاة المذكورين في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} (1) الآية. ومن كان له دخل يكفيه للطعام وللشراب وللكساء وللسكن من وقف أو كسب أو وظيفة أو نحو ذلك فإنه لا يسمى فقيرا ولا مسكينا، ولا يجوز أن تصرف له الزكاة.
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(87/66)
حكم أخذ الزكاة لمن له دخل
س: أنا موظف وأستلم راتب شهريا يصل إلى ثلاثة آلاف ريال تقريبا، وفي إحدى المناسبات سمعت أن أحد التجار يوزع صدقة فذهبت إليه وأعطاني مبلغا من المال، فهل يحل لي هذا المال؟
ج: إذا كان الراتب لا يكفيك لقضاء حاجاتك وحاجات أهلك المعتادة التي ليس فيها إسراف ولا تبذير حلت لك الزكاة، وإلا فلا. رزقنا الله وإياك الفقه في الدين وأغناك من فضله.
س: العمال الذين يفدون إلى هنا يكون مرتبهم في الغالب ضعيفا ومعيشتهم سدا للرمق وخلفهم ذرية ضعاف، فهل تحل الزكاة عليهم؟
ج: إذا عرفوا بالعجز والحاجة وأن مرتباتهم لا تسد حاجتهم وكانوا مسلمين، فمتى عرفوا بذلك فلا بأس أن يعطوا شيئا من الزكاة لسد الحاجة.(87/66)
الفقير يعطى كفايته لسنة كاملة وإذا أعطي من ليس بفقير جهلا فلا يلزم القضاء
س: يختلف تقدير الفقير الذي يعطى من الزكاة من وقت لآخر، فما هو الضابط لذلك؟ فإذا تبين للمعطي أنه وضعها في غير مستحقها، فهل يخرجها مرة أخرى؟
ج: يعطى الفقير من الزكاة قدر كفايته لسنة كاملة، وإذا تبين لدافع الزكاة أن المعطى ليس فقيرا لم يلزمه القضاء إذا كان المعطى ظاهره الفقر؛ للحديث الصحيح الوارد في ذلك، وهو: «أن رجلا ممن كان قبلنا أعطى إنسانا صدقة يظنه فقيرا، فرأى في النوم أنه غني، فقال: اللهم لك الحمد، على غني (1) » . فأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأخبر أن صدقته قد قبلت.
وقد تقرر في الأصول: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت شرعنا بخلافه، ولأنه صلى الله عليه وسلم تقدم إليه شخصان يطلبان الصدقة فرآهما جلدين، فقال: «إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب (2) » . ولأن التأكد من حاجة الفقير من كل الوجوه فيه صعوبة ومشقة، فاكتفي في ذلك بظاهر الحال، ودعوى المعطى أنه فقير إذا لم يتبين لدافع الزكاة خلاف ذلك، مع بيان الحكم الشرعي له إذا كان ظاهره القوة على الكسب للحديث المذكور.
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1421) ، صحيح مسلم الزكاة (1022) ، سنن النسائي الزكاة (2523) ، مسند أحمد (2/322) .
(2) سنن النسائي الزكاة (2598) ، سنن أبي داود الزكاة (1633) ، مسند أحمد (4/224) .(87/67)
حكم دفع الزكاة للفقير الذي له من ينفق عليه كفايته
س: ابنة عمي امرأة كبيرة في السن، وليس لها عائل سواي وإخوتي، وقد تقرر لها من الورث بعض المال، ولكنه حتى الآن لم يتم فيه شيء، فهل تستحق الزكاة أو الصدقة، علما بأنها لا تملك منزلا خاصا بها، فهي مقيمة عندي وأنا القائم بالإنفاق عليها؟ جزاكم الله خيرا.
ج: إذا كان الواقع ما ذكر فإن المذكورة لا تستحق الزكاة؛ لأنها غنية بإنفاقك عليها، وهكذا كل فقير له قريب يقوم عليه بالنفقة لا يستحق الزكاة ما دام قريبه ينفق عليه كفايته.(87/68)
تجوز الزكاة للزوجة الفقيرة تحت الغني الذي لا ينفق عليها
س: لي أخت متزوجة وحالها مستورة، فهل يجوز لي دفع جزء من زكاة مالي إليها؛ لرفع مستوى معيشتها، وإعانتها على تربية أولادها، وخاصة أن زوجها لا يهتم إلا بنفسه، وقد تعبنا في إصلاح حاله.
ج: إن كانت فقيرة، وزوجها لا ينفق عليها، وعجزتم عن إصلاح حاله، ولم يتيسر من يلزمه بذلك، فإنه يجوز إعطاؤها من الزكاة قدر حاجتها.(87/68)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ، مفتي عام المملكة العربية السعودية
س1: سؤال من المستمع أبي خالد من الرياض يقول فيه: كيف يكون المسلم محققا لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قولا وعملا واعتقادا تكون به السلامة والنجاة بإذن الله – تعالى – وبارك الله فيكم وفي علمكم؟
ج1: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله محمد أشرف الأنبياء وأشرف المرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، لقد أجاد السائل في سؤاله، ولقد أتى بسؤال ذي شأن عظيم وخير كثير، فهو بالحقيقة نشكره على طرح هذا السؤال، فهو سؤال من أهم الأسئلة، والجواب عليه من أهم الأجوبة، لأن هذا يتعلق بأصل الدين وأساس الملة، وكل ما تعلق بأصل الدين وأساس الملة كان سؤالا مهما، وكان الجواب عليه أيضا مهما، فوفقك الله أخي السائل لطرحك هذا السؤال وعرضك لهذا السؤال، وفقك الله وثبتني وإياك(87/69)
على الطريق المستقيم.
أخونا السائل يتساءل بقوله: كيف يكون العبد محققا لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله علما وعملا واعتقادا؟
نقول يا أخي: شهادة أن لا إله إلا الله هي كلمة التقوى، وهي العروة الوثقى، وهي أفضل الكلام وأعلى شعب الإيمان.
يقول صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» .
لا إله إلا الله كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، هي أحسن الحسنات وأعظمها، كلمة لا إله إلا الله، الكلمة التي يدخل بها الكافر بدائرة الإسلام، ويخرج بها الوثني من دائرة الكفر إلى دائرة الإسلام، هذه الكلمة هي الكلمة التي اجتمعت الرسل كلهم على الدعوة إليها، وما من رسول أرسله الله إلا ويفتح دعوته بلا إله إلا الله، لأنه يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وهذه هي معنى لا إله إلا الله – جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1) إذن فالرسل كلهم أوحي إليهم بلا إله إلا الله، وقال – جل وعلا – لنبيه - صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (2) فأعلمه بلا إله إلا الله مع أنه الداعي إليها،
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 25
(2) سورة محمد الآية 19(87/70)
والمنادي لها، والمناضل عنها، لكن لأهمية هذا الكلمة ولعظيم شأنها ولكبير قدرها أعلم الله نبيه بها، وبين – جل وعلا – أيضا: أن المشركين عباد الأوثان يرفضون أن يقولوا: لا إله إلا الله؛ لأن هؤلاء الوثنيين الذين بعث فيهم محمد - صلى الله عليه وسلم – عرب أهل فصاحة وبيان، يعلمون معاني الكلام وما يفيده. قال الله عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (1) {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (2) إذن فكفار قريش علموا معنى لا إله إلا الله وأن حقيقتها براءتهم من كل معبود سوى الله وإخلاص عبادتهم لله، قال – جلا وعلا – عنهم لما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم – قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (3) والعجاب عندهم أنهم فهموا من دعوة النبي توحيد الله بالعبادة، وألا يكون مع الله شريك في أي نوع من أنواع العبادة.
فيا أخي السائل: لا يكون العبد محققا لشهادة أن لا إله إلا الله علما وعملا واعتقادا إلا إذا صدق ذلك فعلم أن لا إله إلا الله وعمل بمقتضى هذا العلم، واعتقد هذا العلم، وأتى بما يدل على ثبوت ذلك العلم في قلبه بأن يكون موحدا لله: ذبحه لله، ونذره لله، ولا يدعو إلا الله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يخاف الخوف الحقيقي إلا من الله، ولا يعظم الرجاء إلا في الله، ففي قلبه تعلق بالله حبا وخوفا
__________
(1) سورة الصافات الآية 35
(2) سورة الصافات الآية 36
(3) سورة ص الآية 5(87/71)
ورجاء، فتراه معلقا أمله بالله، يعلم أن النفع والضر والحياة والموت والأرزاق كلها بيد الله – جل وعلا – يعلم أن الله محيط به وبأحواله كلها، يعلم أن الله خالقه ورازقه ومن أوجده بعد العدم، ورباه بالنعم، يعلم فضل الله عليه في حواسه كلها، يعلم عظيم نعم الله عليه.
فتحقيق معنى لا إله إلا الله، بأنه معبود حق إلا الله، وأن كل من عبد من دون الله فبالباطل عبد، لا الأنبياء ولا الملائكة ولا الصالحون والأولياء، كل أولئك لا حق لهم في العبادة، العبادة بكل أنواعها حق الله، فالدعاء إذا أردت أن تدعو ادع سميعا قريبا مجيبا بصيرا عالما قادرا على تنفيذ ما أراد، لا تدع وثنا، لا شجرا وحجرا، فالإنسان لا يدعو جنا وغائبين، لا يدعو أمواتا فارقت الأرواح الأجساد، لا يدعو من لا يسمع الدعاء ولا ينفع لو سمع.
بل أدعو من يسمع كلامي ويرى مكاني، ويعلم سري وعلانيتي أدعو من هو قادر على أن يجيب دعائي ويحقق مطلوبي {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (1) ، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) ، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (3) وأخلص الدين له فلا أجعل المخلوق شريكا في عبادته؛ لأني أعلم أن المخلوق لا يفيدني شيئا، وإنما ينفعني
__________
(1) سورة النمل الآية 62
(2) سورة غافر الآية 60
(3) سورة البقرة الآية 186(87/72)
إخلاص ديني لفاطري وخالقي، هذه الكلمة متى استقرت في القلوب، واستنارت بها الأفئدة، هذه الكلمة من لقي الله بها وكانت آخر ما يقول فإنه يدخل بفضل الله الجنة فضلا من الله ورحمة «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة (1) »
القائل لا إله إلا الله ولو ارتكب شيئا من المعاصي والمخالفات لكن مآل الموحدين والمخلصين دخول الجنة فضلا من الله وعدا صادقا وعده عباده المؤمنين «حديث» «من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من عمل (2) » .
فيا إخواني أكثروا منها وكرروها، وتلذذوا بلطفها، وذللوا ألسنتكم بها، أسأل الله أن يثبتني وإياكم عليها.
وتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله بعد الإيمان به حقا أنه عبد الله ورسوله وخاتم أنبيائه ورسله، عبدا لا يعبد ورسولا لا يكذب، بل يطاع ويتبع، يطاع فيما أمر، ويجتنب ما عنه نهى وزجر ويصدقه في كل أخباره التي أخبر بها عن رب العالمين {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4) شهادة أن محمدا رسول الله تتضمن مع الإيمان به واتباع سنته والعمل بشريعته واعتقاد أن طاعته طاعة لله ومعصيته معصية لله قال
__________
(1) سنن أبي داود الجنائز (3116) ، مسند أحمد (5/247) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3435) ، صحيح مسلم الإيمان (28) ، مسند أحمد (5/314) .
(3) سورة النجم الآية 3
(4) سورة النجم الآية 4(87/73)
تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (1) نحكمه في القليل والكثير، ونرضى بحكمه، وتطمئن به نفوسنا، وتنشرح به صدورنا قال الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) نقتدي به ونجعله إماما وقدوتنا وأسوتنا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (3) ، إذا أمرنا بأمر فلا خيار لنا في ذلك، نسمع ونطيع، وإذا نهانا عن شيء فلا خيار لنا، ننتهي ونسمع ونطيع قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (4) ، نسمع لأوامره ونطيع قال – جل وعلا -: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (5) نقدم سنته على قول كل قائل كائنا من كان، ولا نعارض سنته بآراء الرجال وأهوائهم، بل نخضع الأقوال والأعمال للناس بفعل عرضها على سنته، فما وافق سنته فهو المقبول وما خالف سنته فهو المرفوض، ونكثر من الصلاة والسلام عليه دائما وأبدا، ونعتقد أن الله منحنا على يديه الفضل الكثير والخير العظيم، ونسأل الله له الوسيلة؛ أعلى منازل الجنة، ونسأل الله أن يبلغه
__________
(1) سورة النساء الآية 80
(2) سورة النساء الآية 65
(3) سورة الأحزاب الآية 21
(4) سورة الأحزاب الآية 36
(5) سورة النور الآية 51(87/74)
تلك الوسيلة التي وعده الله إياها فنحن دائما على علاقة بسنته نتذكرها في صلاتنا وصومنا وحجنا وزكاتنا، وفي بيعنا وشرائنا، وفي أكلنا وشربنا ومنامنا ويقظتنا وكل أحوالنا، فسنته المسيطرة علينا والحاكمة علينا، ونحن بها راضون وإليها مطمئنون ومصدقون وموقنون، نسأله – جل وعلا – أن يجعلنا ممن يرد حوضه ويشرب من ذلك الحوض الكريم، نسأله أن يجعلنا ممن يلتقي به في دار كرامة الله وعفوه ورضوانه، فصلوات الله وسلامه عليه أبدا دائما إلى يوم الدين.
ليس محققا لشهادة أن محمدا رسول الله من يرفض سنته ويعارض سنته ويطعن في أحكامه، ويقدم آراء الرجال عليها؛ فحري بالمسلم أن يقتدي بهذا النبي الكريم، ويحبه فوق محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.(87/75)
س2: هذا السؤال من مستمع يقول فيه: سماحة الشيخ – أثابكم الله ونفع بعلمكم -، هل هناك دليل من الكتاب أو السنة أو أقوال العلماء على أن الإمام يختم رمضان في صلاة التراويح بالختمة المعروفة، وهي الدعاء لله والشكر له؟ وما هو المستند عليه في ذلك؟ والله يحفظكم.(87/75)
ج2: يا أخي دعاء ختم القرآن دعاء توارثه المسلمون خلفا عن سلف، والإمام أحمد – رحمه الله – وهو من المعروفين باتباع السنة وآثار الصحابة والتابعين يقول: إني أدركت الناس بالحرمين؛ أدركت سفيان يختم، فذكر أنه أدرك مجموعة من الناس من علماء المسلمين في الحرمين وغيرهما يختم القرآن ويدعو بدعاء ختم القرآن، فلا ينكر منكر على ذلك، وكتب فقهاء المسلمين طافحة بذلك ويستدلون بأن مما يروى أن عند ختم القرآن دعوة لا ترد، فاجتماع الناس عند ختم القرآن فيه آثار عن السلف كابن عباس وغيره أنه يدعو أصحابه إذا أراد ختم القرآن بغير الصلاة ويقول: تحضره البركة ويستجاب الدعاء، وقالوا: إن الختم في نوافل الصلاة لا مانع منه وأن السلف فعلوه، وما دام السلف فعلوه وقالوا به فكون الإنسان يعتقد بطلان هذا أو يبدع من فعل هذا وينكر عليه، هذا خطأ إذا كنت غير مقتنع لا تفعل، لا تحضر، ولنا في السلف الصالح في ذلك من التابعين والذين قبلهم وأن الأمر – ولله الحمد – ليس أمرا حديثا، هو أمر قديم وأمر عمل به سلف الأمة، وتحدث به علماء الأمة الحريصون على اتباع السنة والبعد عن البدعة، فعلى هذا أنا لا أرى القدح في ذلك، وشيخنا عبد العزيز بن باز – رحمه الله – من المعلوم أنه أحرص الناس على السنة واتباعها، كان يحضر في المسجد ختمات القرآن ويصلي(87/76)
وراء من يختم، فلما ألف بعض الفضلاء رسالة في إبطال ختم القرآن وأراد من الشيخ أن يقرظ عليها ويقدم لها أجاب الشيخ قائلا: (بأني أحضر الختمة ولا أرى شيئا يخالف السنة، فلا أستطيع أن أقرظ شيئا أنا أحضره وعلماؤنا قبلي يحضرونه، والسلف قد ذكروه في كتبهم، فهذا يدل على أن له أصلا) فامتنع الشيخ من التقريظ على ذلك المنشور لأنه رحمه الله – يقول: لو قلنا بالبدعية لكان عمل الناس ومن أدركنا قبلنا نحكم عليه بالبدعية وخلاف الحق، وهذا أمر صعب لا يجرؤ عليه عاقل أن يسفه آراء السلف ويعتقد بدعتهم؛ لأن من قال بها علماء أجلاء فضلاء، ودعاء الختم موجود منسوب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو حري بذلك، لأنه كله آثار وأدعية مأثورة غير بدعية وليس فيها اعتداء في الدعاء، وعلى أئمة المسلمين إذا ختموا أو دعوا بختم القرآن أن يلتزموا الآداب وأن يبتعدوا عن الاعتداء في الدعاء، وإذا سلكوا هذا المسلك فأرجو أن لا حرج، ونحن نفعله كسائر الأئمة.(87/77)
س3: مستمع يقول: هل يقرأ دعاء الاستفتاح في كل ركعة من ركعات التراويح، وما توجيهكم لبعض الأئمة الذين يقتصرون على قراءة التشهد الأول في ركعات التراويح؟(87/77)
ج3: الذي يظهر أن صلاة التراويح صلاة واحدة فإذا استفتحنا بالتكبيرة الأولى فإنها تنسحب على جميع التكبيرات، فيكفينا في التسليمة الأولى والثانية والثالثة والرابعة تبعا للأولى، نكتفي بواحدة، كما أننا في صلاة الفريضة نكتفي بالاستفتاح لأول ركعة، وأما في التراويح فالمشروع للإمام أم يكمل التشهد الأخير لأن الدعاء صلب الصلاة أولى من الدعاء خارجها ولأننا في عبادة وطاعة لله فلا ينبغي لنا أن نسرع سرعة تجعلنا نترك كثيرا من السنن بل نتأنى ونكمل التشهد ونرجو من الله القبول.(87/78)
س4: هذا المستمع يقول: بعض الأئمة – هداهم الله – في رمضان يطيل الدعاء والقنوت ولا يقرأ في التراويح إلا نحوا من أربعة أوجه من المصحف، وبذلك يكون الدعاء عندهم فيه اعتداء وليس من جوامع الكلم فما رأي سماحتكم في ذلك؟
ج4: الحقيقة أن بعض الأئمة هداهم الله يخطئون في إطالة الدعاء في القنوت ويغفلون عن تدبر القرآن والاتعاظ به وقراءته بخشوع وخضوع لله تعالى فيقرؤون القرآن هذا دون تدبر لمعانيه ولا خشوع فيه والله جل وعلا يقول: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (1) فحري بنا جميعا أن نحرك الشجون بالقرآن ونقرأه بتدبر
__________
(1) سورة الحشر الآية 21(87/78)
وخشوع واعتبار واتعاظ بمواعظه وتحسين الصوت بقراءته قراءة وسطا بين الطول والقصر، لذلك فإن من الخطأ ترك السنة ما يحصل من بعض الأئمة هداهم الله من الصدود عن القرآن والإخلال بقراءته، فقد لا يقرأ إلا آيتين أو أربع آيات ونحوها يقرؤها هذا بعجلة ويقصر الركوع والسجود مما يخل بركن الطمأنينة كل ذلك لأجل أن يطيل في الدعاء فتجده يكرر الدعاء ويعيده ويتباكى ويحاول التباكي مما يؤدي إلى إطالة الوقت على المصلين وإيقاعهم في الحرج والمشقة، لا سيما كبار السن، فيسأمون الصلاة ويملون الدعاء، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل (1) » رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الألباني ونتيجة للإطالة في الدعاء نجد أنه يستغرق ثلث الوقت الذي تؤدى فيه صلاة التراويح، وقد يستغرق عند بعض المأمومين نصف وقت الصلاة بل قد يزيد على النصف عند بعضهم وهذا خلاف السنة، فهلا كانت الإطالة والبكاء والعبرات في قراءة القرآن وفي الركوع والسجود، وهذا هو الموافق للسنة والذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولنا في رسول الله الأسوة والقدوة الحسنة ومن المحاذير التي يقع فيها بعض المأمومين إضافة إلى طول الدعاء أن يدعو بدعاء مخترع لا أصل له، وقد يشتمل على طلب ما لا يمكن، أو فيه نظر، وهذا من الاعتداء في الدعاء، فبعضهم يقول: اللهم إني أطعتك فيما أمرتني به، هذه العبارة لم يقلها
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (782) ، سنن النسائي القبلة (762) ، سنن أبي داود الصلاة (1368) ، سنن ابن ماجه الزهد (4238) ، مسند أحمد (6/40) .(87/79)
أبو بكر الصديق رضي الله عنه أفضل الخلق وأتقاهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بنا والتقصير فينا والإساءة حاصلة منا.
يا إخواني، ننظر في واقعنا، هل أطعنا الله في كل ما أمرنا به؟ لا أحد منا يستطيع أن يقول: نعم، نحن نعرف أنفسنا، كل يعرف نفسه، {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} (1) ، وهل نستطع أن نقول: اجتنبنا كل ما نهيتنا عنه فاغفر لنا؟ إخواني هذه أمور لا يجوز أن تصدر منا، والله سبحانه أعلم بنا من أنفسنا، ومطلع على جميع أعمالنا وأقوالنا، لا يخفى عليه منها شيء ونحن نعرف واقع أنفسنا، وكل فرد منا يعلم أنه مقصر في واجب ومخل بواجب، أو واقع في محذور، فلنتق الله في أنفسنا ولندع بالدعاء النبوي المأثور ولنأخذه من كتب السلف السليمة مثل: رياض الصالحين في باب الأذكار، أو الأذكار النووية، أو مختصر ابن باز (تحفة الأخيار في الأوراد) فلو رجعنا إليها لاستفدنا منها فائدة عظيمة، ودعونا الله بجوامع الكلم، يا إخواني يقول أنس بن مالك - رضي الله عنه – خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان عامة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (2) » ، وإن دعا بغيرها جعلها من ضمن الدعاء، وتقول عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر فبماذا أدعو؟ فقال صلى
__________
(1) سورة القيامة الآية 14
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4522) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2690) ، سنن الترمذي الدعوات (3487) ، سنن أبي داود الصلاة (1519) ، مسند أحمد (3/101) .(87/80)
الله عليه وسلم: قولي: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني (1) » ، رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي.
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3513) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3850) ، مسند أحمد (6/171) .(87/81)
س5: هذا السؤال من مستمع يقول فيه: ما رأي سماحتكم في الدرس الذي يلقيه الأئمة والدعاء بعد تسليمة أو تسليمتين من صلاة التراويح وذلك بشكل يومي؟
ج4: أحب أن أنبه أنه لا ينبغي أن نشق على المأمومين ولا أن نكون سببا في تباطئهم عن التراويح، ما يترتب عليه قلة الجماعة، وربما تفرق الناس ولم يبق إلا العدد القليل.
وإن أردت أن تجمع بين الحسنيين، بين إتمام الصلاة وإفادة المصلين وعدم حجزهم عن أعمالهم وأغراضهم، فبعد الانصراف من الصلاة والانتهاء منها اختر قضية أو حكما من أحكام الصيام، وتكلم عنه بإيجاز، وهكذا فيما يخص المسابقات العلمية وتوزيع أوراق الجوائز ونحوها، لا تربط المصلين بها، ولا تقهر جميع المأمومين وتخضعهم للبقاء للمسابقات والمناقشات، هذه موضوعات خاصة وللناس أشغالهم وأعمالهم، ولكن تؤجلها لما بعد الصلاة، فمن أحب أن يبقى ويستفيد فذاك، ولا نربط الناس عن أشغالهم وأغراضهم.(87/81)
صفحة فارغة(87/82)
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
السؤال الأول من الفتوى رقم (6108)
س1: هنا جماعة المسلمين لا يقومون إلى الصلاة حتى يقول المؤذن: (قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة) بعد ذلك يقومون معنا ويجلسون في المسجد حتى يؤذن المؤذن ويصلون ركعتين ويجلسون حتى يقيم المؤذن الصلاة، ولا يقومون من جلوسهم حتى يقول المؤذن الذي يقيم الصلاة: (قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة) .
ج: الأمر في ذلك واسع، فلا حرج في القيام أول الإقامة أو أثناءها، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز(87/83)
الفتوى رقم 5549
س: جاء شخص عام 1393 هـ تقريبا كان يدرس في منطقة تبوك، إلى بلادنا في الربوة، وشاهد الوالدة وهي تصلي وتقوم في ركعة، وعندما سلمت قال لها: يا والدة، صلاة المرأة تختلف عن صلاة الرجل. قالت: كيف يا ولدي؟ قال: إذا كبرت المرأة تكبيرة الإحرام وركعت وسجدت تتم صلاتها من الجلوس حتى تسلم، والمرأة لا يجوز لها القيام في كل ركعة حتى ولو كانت قادرة على القيام. وبذلك اتبعت الوالدة الأسلوب الذي قال لها هذا الشخص في صلاتها من ذلك العام حتى الآن، وأنا كنت صغيرا ولم أشاهدها إلا من مدة قريبة جدا مع العلم أنها قادرة على القيام، والآن لجأت إلى الله سبحانه وتعالى ثم إليكم، أرشدونا إلى ما فيه الخير وإلى طريق الصواب، وإذا كانت صلاتها خاطئة فهل عليها شيء في السنين الماضية؟
ج: إذا كان الواقع كما ذكر فعليها التوبة والاستغفار ولا قضاء عليها، فهي معذورة بسبب الجهل والفتوى الباطلة التي اعتمدت عليها، والواجب عليها مستقبلا سؤال أهل العلم عما يشكل عليها وعدم العمل بفتاوى العوام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(87/84)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الله بن قعود عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز(87/85)
السؤال الثاني من الفتوى رقم (11317)
س2: هل الجهر في تكبيرة الإحرام واجب أم يجزئ الإسرار بالقلب فيها؟
ج2: تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة، والمأموم لا يجهر بالتكبيرة بل يكبر بحيث يسمع نفسه مع تحريك الشفتين بالتكبير، وهكذا المنفرد أما الإمام فيجهر بالتكبير والتسميع في جميع الصلوات حتى يسمع المأمومين، هذا هو المشروع بحقه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز(87/85)
الفتوى رقم (10892)
س: إذا قال الإمام في تكبيرة الإحرام: (الله أكبر) والمأمومون يقولون خلف الإمام: (الله أكبر) برفع صوتهم أما بقية تكبيرات الصلاة لا يرفعون أصواتهم بذلك، هل رفع صوت المأمومين بتكبيرات الإحرام خلف الإمام يجوز أم لا؟
ج: يشرع للإمام رفع صوته في جميع التكبيرات حتى يسمع من خلفه، وأما المأموم فالمشروع في حقه عدم رفع صوته، في التكبيرة الأولى وغيرها، وإنما يكبر بحيث يسمع نفسه فقط، بل رفع الصوت بالتكبير من المأمومين من الإحداث في الدين والمنهي عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2550) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبي داود، السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6\270)(87/86)
السؤال التاسع من الفتوى رقم (8732)
س9: هل يجوز رفع الرأس قليلا في الصلاة عند تكبيرة الإحرام وعند الدعاء والاستغفار أو لا؟
ج9: لا يجوز رفع الرأس للمصلي إلى السماء عند تكبيرة الإحرام ولا عند الدعاء لحديث: «لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء، أو لتخطفن أبصارهم (1) »
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أخرجه أحمد 3\109، والبخاري 1\181 كتاب الأذان باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة، ومسلم 2\29 باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة، وأبو داود 1\240 كتاب الصلاة باب النظر في الصلاة، والنسائي 3\7 كتاب السهو باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة، وابن ماجه 1\332 كتاب إقامة الصلاة باب الخشوع في الصلاة.(87/87)
السؤال الأول من الفتوى رقم (7527)
س1: أنا إمام مسجد جامع، والدي من العلم والمعرفة الشيء القليل، وفي يوم من الأيام قام أحد المواطنين من المرشدين وفقنا الله وإياهم بالخفجي أمام المصلين وقال: فيه كثير من الناس إذا دخل المسجد ووجد المصلين في الركوع فإنه لا بد من تكبيرتين؛ تكبيرة الإحرام ثم تكبيرة الركوع. فأجيبونا عن الصحة هل لا بد من تكبيرتين في حال الركوع، أم يدخل مهم بتكبيرة واحدة هي تكبيرة الإحرام، أثابكم الله وسدد على طريق الخير خطاكم؟
ج1: الواجب على المأموم عند الدخول في الصلاة والإمام راكع تكبيرة واحدة، وهي تكبيرة التحريم، يكبرها وهو واقف، وتدخل تكبيرة الركوع في التكبيرة الأولى، وإذا كبر تكبيرتين واحدة للدخول في الصلاة والثانية للركوع فحسن.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الله بن قعود عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز(87/88)
السؤال الثاني من الفتوى رقم (7818)
س2: إنسان دخل المسجد ووجد الإمام في الركوع، هل يلزم ذلك الشخص أن يكبر تكبيرتين، أم يكفي واحدة ويدخل مع الإمام في الركوع، أم لا بد من تكبيرتين تكبيرة الإحرام ثم تكبيرة الركوع؟
ج2: يكبر تكبيرة الإحرام وهو قائم، ثم يكبر تكبيرة الركوع، وإن اكتفى في مثل الحالة المذكورة بتكبيرة الإحرام أجزأه ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الله بن قعود عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز(87/89)
السؤال الأول من الفتوى رقم (2736)
س1: هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرفع يديه عند افتتاح الصلاة، وكذلك في الركوع وعند الرفع من الركوع وعند قيامه من الركعة الثانية بعد التحية إلى الركعة الثالثة، وهل كان يضع يده اليمنى على اليسرى؟ وهل هذه السنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهل ثبت حديث في سدل اليدين أو لا؟ أفيدونا حتى نسعى للتمسك بالسنة الصحيحة.
ج1: نعم رفع اليدين في الصلاة في المواضع المذكورة في السؤال من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لما ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:(87/89)
«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع ويقول: سمع الله لمن حمده، ولا يفعل ذلك في السجود (1) »
وفي رواية عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة (2) » الحديث. رواهما البخاري ومسلم وأبو داود، وثبت أيضا «عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم (3) » رواه البخاري والنسائي وثبت ذلك أيضا في حديث أبي حميد
__________
(1) أخرجه أحمد 2\8 والبخاري 1\177 كتاب الأذان باب رفع اليدين إذا كبر وإذا رفع، ومسلم 1\292 كتاب الصلاة باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام، وأبو داود 1\192 كتاب الصلاة باب رفع اليدين في الصلاة، والترمذي 2\35 كتاب الصلاة باب ما جاء في رفع اليدين عند الركوع، والنسائي 2\121 كتاب افتتاح الصلاة باب العمل في افتتاح الصلاة، وابن ماجه 1\279 كتاب إقامة الصلاة باب رفع اليدين إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع.
(2) رواه أحمد 2\8 والبخاري 1\177 كتاب الأذان باب رفع اليدين في التكبيرة مع الافتتاح سواء، ومسلم 1\292 كتاب الصلاة باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع، والنسائي 2\121 كتاب الافتتاح باب العمل في افتتاح الصلاة، والترمذي 2\35 كتاب الصلاة باب ما جاء في رفع اليدين عند الركوع.
(3) صحيح البخاري الأذان (706) ، صحيح مسلم الصلاة (390) ، سنن الترمذي الصلاة (255) ، سنن النسائي التطبيق (1144) ، سنن أبو داود الصلاة (722) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (858) ، مسند أحمد بن حنبل (2\134) ، موطأ مالك النداء للصلاة (165) ، سنن الدارمي (الصلاة) (1308) .(87/90)
الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما وضع اليد اليمنى على اليسرى فهو أيضا من سنن الصلاة لما رواه أحمد والبخاري عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة، قال أبو حازم: ولا أعلمه إلا ينمي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) » وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الله بن قعود عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أخرجه أحمد 5\336، والبخاري 1\178 كتاب الأذان باب وضع اليمنى على اليسرى(87/91)
السؤال السادس من الفتوى رقم (6042)
س6: جاء في سنن النسائي عن مالك بن الحويرث أنه «رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في صلاته، وإذا ركع وإذا رفع رأسه في الركوع(87/91)
وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود، يحاذي بهما فوق أذنيه (1) » فماذا تقول هنا في قوله: وإذا سجد، هل هذا يكون بعد قبض يد اليمنى على اليسرى، أم هي نفس الرفع عند الرفع من الركوع، وما درجة هذا الحديث، وهل يعمل به، إذا فعل كيف العمل به. ورد بعض الأحاديث برفع اليدين بين السجدتين وفي بعضهما نهي عن الرفع بينهما، فما وجه الجمع بينهما وما الحكم؟
ج6: سلك بعض العلماء مسلك الترجيح في ذلك، فرجحوا ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما من عدم رفع اليدين عند السجود والرفع منه، واعتبروا رواية الرفع فيهما شاذة لمخالفتها لرواية الأوثق. وسلك آخرون مسلك الجمع بين الروايات لكونه ممكنا، فلا يعدل عنه إلى الترجيح، لاقتضاء الجمع العمل بكل ما ثبت، واقتضاء الترجيح رد بعض ما ثبت وهو خلاف الأصل. وبيان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في السجود والرفع منه أحيانا وتركه أحيانا، فروى كل ما شاهد، والعمل بالأول أولى للقاعدة التي ذكرت معه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الله بن قعود عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (704) ، صحيح مسلم الصلاة (391) ، سنن النسائي التطبيق (1085) ، سنن أبي داود الصلاة (745) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (859) ، مسند أحمد بن حنبل (5\53) ، سنن الدارمي الصلاة (1251)(87/92)
السؤال الأول من الفتوى رقم (6593)
س1: ما حكم رفع اليدين بعد القيام من الركعة الثالثة، أي: عندما تنتهي من الركعتين الأوليين ثم تنهض لتأتي بالركعة الثالثة، فهل يجوز لك أن ترفع يديك في حال القيام أم لا؟ مع ذكر الدليل.
ج1: يسن رفع اليدين عند النهوض إلى الركعة الثالثة في الصلاة الرباعية والثلاثية، وذلك بعد التشهد في الركعة الثانية؛ لما رواه البخاري وغيره «أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال سمع الله لمن حمده رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه، ورفع ذلك ابن عمر رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم (1) »
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الله بن قعود عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (706) ، صحيح مسلم الصلاة (390) ، سنن الترمذي الصلاة (255) ، سنن النسائي التطبيق (1144) ، سنن أبو داود الصلاة (722) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (858) ، مسند أحمد بن حنبل (2\134) ، موطأ مالك النداء للصلاة (165) ، سنن الدارمي (الصلاة) (1308) .(87/93)
السؤال الأول من الفتوى رقم (11111)
س1: ما هي صفة تكبيرة القيام من التشهد الأول ورفع اليدين، هل يرفع يديه وهو جالس ثم يكبر وينهض قائما، أم لا يرفع يديه إلا بعد القيام، وما هو الأرجح؟
ج 1: يشرع رفع اليدين في الصلاة عند القيام من التشهد الأول مع التكبير بعد البدء في الانتقال من الجلوس إلى القيام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز(87/94)
البحوث(87/95)
صفحة فارغة(87/96)
أهمية دراسة التوحيد
لفضيلة الأستاذ الدكتور: محمد بن عبد الرحمن أبو سيف الجهني
مقدمة:
الحمد لله وحده لا شريك له، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه في خضم الدعوات المتلاحقات لتناول مناهج التعليم في بلادنا بالتعديل والتطوير والتحسين، ونحو هذه المفردات المجملة التي يراد بها حق وقد يراد بها باطل يتخفى طالبوها تحت دثار إجمالها، سمعنا بمن يطلب أن تجتمع مواد التعليم الشرعي تحت مسمى واحد هو: " الثقافة الإسلامية " يضم أقسام العلم الشرعي في منهج واحد يأخذ من كل قسم شيئا، فلا تتميز عقيدة بدراسة مختصة بها، ولا أحكام بدراسة مختصة بها، بل يجمع الدلالة عليها منهج عام يعطي – في دعوى أصحاب هذا الطلب – صورة موحدة متكاملة للثقافة الشرعية التي تتطلبها قيم المجتمع ومبادئه وولاءاته الثقافية – زعموا -
ولما قد يجور به هذا الرأي على الثوابت الأسس للديانة من تهميش وتمييع ينال من ركنيتها ويضعف قوتها، ويلفت عنها النظر الواجب إلى منزلتها، ويجرح هيبتها، ويؤسس للجراءة عليها والتخفف شيئا فشيئا من سلطانها، والتمهيد لتناسخ العلم بها، حتى يعود الناس إلى جاهلية جهلاء(87/97)
كالتي بعث الرسل إليها، ولم تكن مهمة الرسل حين بعثوا إليها إلا رد الناس إلى تلك الثوابت واستئناف تأسيسهم عليها.
لمثل هذه المخاوف الشرعية، ولما جرت عليه طريقة الشرع من حماية حمى الثوابت بسد الذرائع إلى الباطل عنها، أكتب هذه الدراسة في بيان أهمية دراسة التوحيد، فإن في طلب رفع اسم " التوحيد " عن منهج يخصه، في مواد التعليم الشرعي، حصول ما ذكر من المخاوف، إذ التوحيد شعار الملة، وهو جماع أمرها، وهو مقصدها وغايتها، فإن اختفى اسمه واقتصر فيه على رؤوس أقلام ومفردات عامة فماذا بقي من الملة؟!!
أي صورة هشة مهزوزة مختلطة المعالم لا تبدي حقيقة ولا توضح موضوعا تلك التي يعرض فيها التوحيد في منهج عام مجمل يسمى الثقافة الإسلامية؟!! كيف يكون التوحيد حين يتناوله المنهج على هذا النحو ثابتا أساسا؟!! وكيف يكون شعارا ومقصدا؟!! أي خصوصية لهذه الثقافة في مثل هذا العرض؟!! وأي منهج للأمة وأفرادها فيه؟!! وقد كتبت هذه الدراسة ملتفتا إلى هذا المقصد المذكور، وهو التذكير بأهمية دراسة التوحيد، وأن يبقى لهذا الاسم خصوصيته العليا التي لا تدافع بنزوة، ولا تداحض بأي شبهة، لينتبه كل من جرته نزوة أو شبهة إلى منزلة التوحيد التي بها جماع حياة الفرد والجماعة والخلق، وعليها مدار السعادة في الدارين، وليعلم أن التوحيد معقد الاستقامة، وأنه الثابت الأساس لأمن الحياة الإنسانية وتغيراتها، هو صمام أمانها،(87/98)
ونواة نموها، وحدود غايتها، فلا يصلح شأن التعليم قط إلا والتوحيد اسم بارز على أول وأهم مناهجه، يتغذى به طلاب العلم، ويؤسسون على مبادئه وترعاه فيهم مراحل التعليم المتتابعة تمام الرعاية. وقد رتبت الكلام في بيان أهمية دراسة التوحيد على الخطة التالية:
التمهيد: وفيه عرض لمفهوم التوحيد.
المبحث الأول: " أهمية التوحيد في ذاته "
وفيه مطالب: المطلب الأول: " كونه حق الله تعالى "
المطلب الثاني: " كونه علة خلق الخلق "
المطلب الثالث: " كونه قضية الوجود "
المبحث الثاني: " ضرورة الخلق إلى التوحيد "
وفيه مطلبان: المطلب الأول: " فطرية التأله "
المطلب الثاني: " ضرورة الخلق إلى التأله لله وحده "
المبحث الثالث: " شدة حاجة المسلمين اليوم لدراسة التوحيد "
وفيه مطالب: المطلب الأول: " الجهل الواقع بالتوحيد علما وسلوكا "
المطلب الثاني: " المشكلات العامة الحالة بالمسلمين "
المطلب الثالث: " حاجة العصر إلى التزام المسلمين بالتوحيد الحق علما وسلوكا "
وإنما رتبته على هذه الفصول لأنها فيما بدا لي أهم وجوه أهمية(87/99)
دراسة التوحيد، فإنك إذا نظرت إلى عناوين المباحث والمطالب ظهر ذلك لك، فكيف لا تكون لما له في ذاته التي تفصلها المطالب المذكورة تحت المبحث الأول أهمية عظمى لدراسته؟!!
وكيف لا تكون لما للخلق ضرورة إليه أهمية عظمى لدراسته؟!!
وكيف لا تكون – مع الانحراف الواقع في التوحيد الذي له الأهمية المذكورة، وهو ضرورة الخلق وحاجتهم – لدراسة التوحيد أهمية عظمى؟!! وكيف لا تكون لما حاجة العصر إليه غاية الحاجة أهمية عظمى لدراسته؟!! والله المستعان والموفق لحصول المقصود، وما كان صوابا فمن الله وحده، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان.
وقد استحسنت نشر هذا المحرر والأمر كما قال ابن يزيد:
في كل مستحسن عيب بلا ريب ... ما يسلم الذهب الإبريز من عيب
والحمد لله أولا وآخرا لا شريك له.
مفهوم التوحيد
التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، فهو عمل العبد، يفرد الله بطاعاته لا يشرك معه غيره ولا يتوجه قصده بها أو بشيء منها إلى غير الله.
هذا هو معنى التوحيد، وهذا المعنى هو المعبر عنه عند أهل العلم بـ " توحيد الألوهية " فلفظ التوحيد إذا أطلق من غير إضافة إنما يراد به هذا المعنى الذي هو توحيد الألوهية، وهذا المعنى إذا تحقق من العبد دل على علمه واعتقاده أن الله منفرد ذاتا وصفات وأفعالا، لا سمي له ولا كفؤ(87/100)
ولا شريك شاركه ربوبيته أو ظاهره فيها، وإنما كان التوحيد دالا على اعتقاد الموحد انفراد الله بربوبيته وكمال صفاته لاستقرار العلم فطرة وعقلا أنه لا يستحق العبادة إلا الرب – الخالق المالك المدبر – الكامل في صفاته، فالمعبود إنما يعبد لأمرين:
1 - لكونه خالق العابدين ومالكهم ومدبر أمرهم، قال الله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (1) فلا يكون إله إلا وقد خلق خلقا يعبدونه فيستقل بهم.
2 - لذاته، ولا يكون ذلك إلا إذا كان كاملا لا نقص في صفاته ولا عيب، قال إبراهيم عليه السلام لأبيه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (2) فبين أن العادم لصفات الكمال ناقص لا يمكن أن يكون معبودا وبين أن العلم بذلك فطري (3) فإذا توجه العابد بعبادته لواحد أفرده بقصده وعمله لم يتوجه إلى غيره، فقد اعتقده واحدا منفردا في خلقه وملكه وتدبيره، ومنفردا في كماله ذاتا وصفاتا. ولذلك كان الشرك بالله بقصد غيره معه في العبادة تنقصا لحظ
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 91
(2) سورة مريم الآية 42
(3) انظر درء تعارض العقل والنقل: 10\155.(87/101)
ربوبيته سبحانه، وهضما لعظمة صفاته عز وجل، ولذلك جعل الله الشرك سوء ظن به سبحانه، إذ قال: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) وسوء ظن المشرك هو ما دل عليه شركه مع الله غيره في العبادة من نسبة حظ من الربوبية وكمال الصفات إلى هذا الغير (2) وسوء الظن هذا هو الذي لأجله أخبر الله في ثلاثة مواضع من كتابه عن المشركين أنهم ما قدروا الله حق قدره.
فالتوحيد إذا أطلق فلا معنى له إلا توحيد الألوهية، وإذا قلنا " توحيد الألوهية " فهو معنى التوحيد، وتقرر هذا المفهوم ثلاثة أدلة يأخذ بعضها بحجز بعض.
الأول: دليل اللغة، فإن لفظ " التوحيد " مصدر الفعل " وحد " والواو والحاء والدال أصل في اللغة يدل على الانفراد (3)
والتوحيد تفعيل، فمعناه الإفراد، وانفراد الله في ربوبيته وكمال صفاته ذاتي ليس بتفعيل من أحد، فهو فرد في ربوبيته وكمال صفاته لا بإفراد مفرد، فالإفراد الذي يكون من العبد لله عز وجل هو توجهه له بقصده
__________
(1) سورة الفتح الآية 6
(2) انظر وجوه سوء الظن بالله في زاد المعاد 3: 288\235، وانظر إغاثة اللهفان 1: 60\61
(3) انظر معجم مقاييس اللغة 6\90(87/102)
وعمله وحده دون سواه، وهذا هو التعبد، فرجع معنى توحيد الله في اللغة إلى المعنى الذي ذكرنا، وهو إفراد الله بالعبادة.
الثاني: دليل إجماع الخلق، فالخلق مجمعون على إفراد الله بالربوبية وكمال صفاته، لم يدع أحد في الخلق أبدا شركة في ذلك، بل جميع بني آدم منذ أهبط إلى الأرض حتى اليوم على إفراد الرب بالخلق وكمال الصفات، يقول ابن تيمية رحمه الله: " وقد ذكرنا أرباب المقالات ما جمعوا من مقالات الأولين والآخرين في الملل والنحل والآراء والديانات، فلم ينقلوا عن أحد إثبات شريك مشارك له في خلق جميع المخلوقات، ولا مماثل له في جميع الصفات، بل من أعظم ما نقلوا في ذلك قول الثنوية الذين يقولون بالأصلين؛ النور والظلمة، وأن النور خلق الخير والظلمة خلقت الشر، ثم ذكروا لهم في الظلمة قولين: أحدهما أنها محدثة فتكون من جملة المخلوقات له، والثاني " أنها قديمة لكنها لم تفعل إلا الشر فكانت ناقصة في ذاتها وصفاتها ومفعولاتها عن النور " (1)
وذكر نحو ذلك الرازي أيضا (2) وهذا الإفراد في الربوبية وكمال الصفات هو الإيمان الذي أثبته الله للمشركين في قوله {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (3) ، أي: وإن أفردوا الله في ربوبيته
__________
(1) التدمرية 115\116
(2) التفسير الكبير 2\112
(3) سورة يوسف الآية 106(87/103)
وصفاته فإنهم يشركون به في العبادة، وهذا خلاف التوحيد الواجب، فدل هذا على أن التوحيد إذا أطلق ليس هو التوحيد في الربوبية والصفات، لأنه حاصل من الخلق.
الثالث: دليل مراد الشرع واستعماله، فإن هذا المعنى المذكور، وهو إفراد الله بالعبادة، هو مفهوم الشرع الذي يطلق عليه اسم التوحيد، فهو ما بعثت به الرسل، لم تأمر إلا به: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) .
وفهم المخاطبون بالرسالات هذا المفهوم من خطابها: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (2) ، وقال: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (3) ، ورد في أحد ألفاظ حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل الكتاب في اليمن «فليكن أول ما
__________
(1) سورة التوبة الآية 31
(2) سورة الأعراف الآية 70
(3) سورة ص الآية 5(87/104)
تدعوهم إلى أن يوحدوا الله (1) »
وقد فسر هذا الذي سمي في هذه الرواية توحيدا بالعبادة، ففي لفظ آخر: «فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله (2) » وفي لفظ آخر: «فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (3) » فجعل الشهادة هي معنى التوحيد. وفي رواية لحديث ابن عمر في مباني الإسلام: «بني الإسلام على خمس: على أن يوحدوا الله (4) » ... فجعل الشهادة هي التوحيد. وفي حديث عمرو بن عبسة أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما أنت؟ قال " نبي الله ". قال: آلله أرسلك؟ قال " نعم " قال: بأي شيء قال " ... وأن يوحد الله لا يشرك به شيئا (5) »
وعرف الصحابة هذا المفهوم فاستعملوه في كلامهم، في حديث جابر بن عبد الله في سياق صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " فأهل بالتوحيد «لبيك اللهم لبيك، ليبك لا شريك لك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك (6) » فجعل الإهلال بالحج لله وحده لا شريك له توحيدا، والحج من أعمال التعبد.
ومفهوم الشرع هذا لمسمى التوحيد هو الذي فهمته الأمة واتفقت على إطلاق اسم التوحيد عليه، قال الدارمي:
__________
(1) أخرجه البخاري، انظر الصحيح مع الفتح 13\347 حديث رقم 7372
(2) أخرجها البخاري، انظر الصحيح مع الفتح 13\322 حديث رقم 1458 ومسلم 1\51 حديث 31.
(3) أخرجه البخاري، انظر الصحيح مع الفتح 3\357 حديث 1496، وانظر مسلم 1\50 حديث. 29
(4) أخرجه مسلم، 1\45 حديث 19.
(5) أخرجه مسلم 1\569 حديث 832.
(6) أخرجه مسلم 2\886 حديث 1218.(87/105)
" تفسير التوحيد عند الأمة وصوابه قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له " (1)
فظهر أن معنى لفظ " التوحيد " المعهود شرعا والمعروف من إطلاقات اللغة والموافق لحال الخلق، هو " إفراد الله بالعبادة ".
__________
(1) نقض الدارمي على بشر 6(87/106)
مباحث الموضوع:
المبحث الأول: أهمية التوحيد في ذاته
التوحيد في ذاته أهم المهمات، هو أولها وآخرها، هو عنوانها وموضوعها، وما كان هذا قدره ومنزلته فلا غرو أن تكون لدراسته أهمية تليق بأهميته.
وتظهر أهمية التوحيد في ذاته في وجوه نفصل منها في المطالب الآتية:
المطلب الأول
كونه حق الله تعالى:
إن الحقوق تعظم بعظمة ما تتعلق به، وليس في الوجود أعظم ولا أكبر ولا أجل وأعز وأعلى من الله تعالى، كيف وهو موجد الوجود، فحقه أعظم وأكبر وأجل وأعز وأعلى الحقوق، وما كان له هذه العظمة فلدراسته أعظم الأهمية.(87/106)
والحق في اللغة هو الواجب، يقال: حق الشيء: وجب (1)
والتوحيد هو الواجب لله وجوبا ثابتا متأكدا لا سبيل لإنكاره، وهو الصواب الذي لا مدخل للخطأ فيه، والصحيح الذي لا تنفذ شبهة إليه، فهو حق الله لا شريك له فيه ولا ينبغي لغيره.
وتأكد وجوب التوحيد لله من جهتين:
1. فهو متأكد في ذاته لثبوته وتمكنه بإضافته إلى الله، فالله هو أهله كما قال سبحانه: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (2) ، أي: أهل لأن يتقى بعبادته وتوحيده بالعبادة، لأنه الذي لا ينبغي العبادة لأحد سواه، ولا تحق إلا له، فرجوع حق التوحيد إلى الله وتعلقه به سبحانه يجعله متأكدا في ذاته، ولذلك وصف نفسه سبحانه بأنه (الحق) والمعبودات من دونه باطل، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (3) ، وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (4) ، أي: هو المعبود بحق، الحق في العبادة له لا لغيره، كما زاده بيانا سبحانه حين ذكر أنه ينادي المشركين به يوم القيامة فيقول: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (5)
__________
(1) انظر تهذيب اللغة 3\374 ومعجم مقاييس اللغة 2
(2) سورة المدثر الآية 56
(3) سورة الحج الآية 62
(4) سورة لقمان الآية 30
(5) سورة القصص الآية 74(87/107)
ويقول: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} (1) أي: على صحة دعواكم أنهم شركاء لي، قال سبحانه إثر ذلك: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (2) ولقد أطلق الله على نفسه اسم (الحق) في مواضع من كتابه، قال سبحانه: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} (3) وقال سبحانه: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (4) ، وقال سبحانه: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} (5) ، وقال سبحانه: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (6) وقال {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} (7) ، فالله هو الحق، أي: ذو الحق وصاحبه وأهله، وكل ما عاد إليه حق، وله الحق في الأمر والنهي سبحانه وتعالى، وأن يعبد بامتثال أمره واجتناب نهيه.
وهو – أي وجوب التوحيد – متأكد في قيام الخلق ووقوعه منهم لربهم سبحانه، وذاك لأنه يوافق ما يجب أن يقع، والخلق قسمان: خلق مسخر غير مكلف، فهؤلاء موحدون لله أبدا لا ينقطع منهم توحيد الله بحال، قال الله في هذا القسم: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} (8) {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (9) ،
__________
(1) سورة القصص الآية 75
(2) سورة القصص الآية 75
(3) سورة طه الآية 114
(4) سورة النور الآية 25
(5) سورة الكهف الآية 44
(6) سورة يونس الآية 30
(7) سورة الأنعام الآية 62
(8) سورة النحل الآية 48
(9) سورة النحل الآية 49(87/108)
وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (1) ، وقال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (2) .
والقسم الآخر خلق مكلف تمكن منهم المعصية، فمنهم من يوحد الله فيوافق ما يجب أن يقع، ومنهم من يعود بحق الله إلى غيره فيخرج من حد التوحيد، ولذا لما ذكر سبحانه غير المكلفين في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} (3) عمهم من غير استثناء، فالجميع يسجد له، ثم لما ذكر بعض المكلفين قال: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} (4) فاستثنى، وهذا القسم تعاهد الله حقه فيهم، ففطرهم في أول الأمر على توحيده، كما قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (5) ثم لما أهبطهم إلى الأرض أخبر أنه لا يتركهم بلا هدى يرسله فيهم يحفظهم من الصوارف عن التوحيد
__________
(1) سورة النور الآية 41
(2) سورة الإسراء الآية 44
(3) سورة الحج الآية 18
(4) سورة الحج الآية 18
(5) سورة الروم الآية 30(87/109)
إن هم اتبعوه، قال سبحانه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (1) ثم كلما نسوا العلم وخرجوا عن الهدى بعث لهم رسله تهديهم: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) فهذا القسم من أطاع الله منهم ووحده فحصول التوحيد منه موافق لما يجب أن يقع، وهذا وجه تأكد وجوبه في عملهم به، ومن عصى الله فلم يوحده فقد قال الله فيه، كما في الآية المذكورة آنفا: {حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} (3) ، فوجوب العذاب على ترك التوحيد واستحقاق المعرض عن التوحيد العذاب هو وجه تأكد وجوب التوحيد في هذه الحال، فرجع تأكد ثبوت ووجوب التوحيد من جهة قيام الخلق به إلى وجهين:
1- موافقته لما يجب أن يقع فيمن أدى التوحيد، سواء ممن هو مسخر أو مكلف مطيع.
__________
(1) سورة طه الآية 123
(2) سورة البقرة الآية 213
(3) سورة الحج الآية 18(87/110)
2- استحقاق العذاب على تركه فيمن أعرض عنه.
وقد جاء هذا المعنى على لسان الشارع صلى الله عليه وسلم، ففي حديث معاذ بن جبل قال: «كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: " يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟! " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا (1) » فمن عبده فقد أدى الواجب عليه، وهذا حق الله عليه، ومن أعرض استحق العذاب لحق الله عليه. وإنما كان التوحيد حقا خالصا لله لأمرين فصل فيهما القرآن تفصيلا بينا، على ما سنذكر طرفا منه؛ وهذان الأمران هما:
1- أنه رب المخلوقات، خلقهم وهو يملكهم، وهو الذي يدبر شؤونهم: يسير نظام الكون، ويقدر الأحوال؛ من رزق وتكاثر وحياة وممات وسائر شأنهم دقه وجله، ويبعثهم يوم القيامة للحساب والجزاء. ومن كان هذا شأنه فالحق له على خلقه أن يعظموه حبا وذلا له سبحانه، ويوحدوه بهذا التعظيم والذل، فكما أنه خلقهم وحده لا شريك له، وملكهم له وحده لا شريك له، ويدبر أمرهم وحده لا شريك له، فحقه أن يعبد وحده لا شريك له، فالتوحيد حقه على الخلق لربوبيته لهم وحده بلا وشريك.
__________
(1) متفق عليه، البخاري مع الفتح 6\58 حديث رقم 2856، ومسلم 1\58 حديث رقم 49.(87/111)
2- أنه الكامل ذاتا وصفات وأفعالا وأسماء، كمالا مطلقا لا ذم فيه ولا نقص، ولا ند له فيه ولا سمي، ليس كمثله شيء ولا يحاط به علما وله المثل الأعلى، جل وتعالى وعز سبحانه، ومن كان هذا شأنه استحق التعظيم والتذلل، والعبادة حق له وحده، فكما أنه واحد في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه لا كفؤ له ولا مثل، فحقه أن يعبد وحده لا شريك له، فالتوحيد حقه على الخلق لذاته سبحانه.
وقد قرر القرآن هذين الأمرين من وجوه عدة، وكل أمر كثرت وجوه تقريره وتعددت طرق الدلالة عليه تأكد ثبوته تأكدا بالغا.(87/112)
أما الأمر الأول: فإن قاعدة القرآن الاستدلال للتوحيد بالربوبية وقد جاء تقرير ذلك من وجوه عدة منها: 1- استدلال الرب سبحانه بالربوبية للتوحيد والأمر به، ومن أمثلة هذا الوجه: قوله سبحانه في أول أمر ورد في المصحف: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) ، ففي الآية الأولى أمر الله الناس بعبادته وأسند ذلك إلى ما يعلمونه من ربوبيته لهم وذكر بعض أفراد ربوبيته، فأمر بالتوحيد ثم استدل له بالربوبية، وفي الآية الثانية بدأ
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة البقرة الآية 22(87/112)
بذكر أفراد ربوبيته ثم نهى عن الشرك ثم ذكر علم الخلق بربوبيته فذكر الدليل ثم أتبعه بذكر دلالته ثم أردفه بتأكيد حجة للدليل، وهي إقرار الخلق به وعلمهم إياه، قوله سبحانه: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} (1) {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} (2) فأكد التوحيد بالجملة الاسمية واستعمال " إن " التي للتأكيد وحرف " اللام " الذي للتأكيد في قوله " لواحد " ثم ذكر دليله وهو الربوبية. قوله سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (3) ففي قوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (4) ذكر الربوبية ثم ذكر لازمها وموجبها، فذكر الدليل أولا ثم ذكر مدلوله، وكذا في قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} (5) ذكر الربوبية ثم أمر سبحانه بعبادته فذكر دليل الأمر وموجبه أولا ثم أمر سبحانه، بقوله سبحانه: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (6) فذكر الدليل ثم أمر بموجبه ومدلوله، ولما كان الخطاب في هذه الآية لنبيه صلى الله عليه وسلم ورسوله إلى الناس والقدوة لأوليائه أردف الأمر بالتوحيد بالأمر بالاصطبار عليه.
__________
(1) سورة الصافات الآية 4
(2) سورة الصافات الآية 5
(3) سورة الأنعام الآية 102
(4) سورة الأنعام الآية 102
(5) سورة الأنعام الآية 102
(6) سورة مريم الآية 65(87/113)
ونحو هؤلاء الآيات كثير يطول حصره جدا.
2- استدلال الرسل بالربوبية للتوحيد والدعوة إليه: ذكر القرآن احتجاج الأنبياء بالربوبية للتوحيد والدعوة إليه، ففيه ذكر دعوة نوح عليه السلام أمر فيها قومه بقوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} (1) ، وقوله: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} (2) ، واستدل لوجوب هذا الأمر وصحته بقوله: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} (3) {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} (4) {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} (5) {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} (6) {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} (7) {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} (8) ، وفيه قول هود عليه السلام لعاد: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (9) {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} (10) {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} (11) {وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (12) فأمر بالتوحيد واستدل له، وفيه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (13) ، فأمر بالتوحيد وأقام دليله ثم كرر الأمر، فجعل الدليل واسطة بين ابتداء الأمر وتكراره، فالربوبية دليل التوحيد وموجبه، وفيه قول شعيب لقومه: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} (14) ،
__________
(1) سورة نوح الآية 3
(2) سورة نوح الآية 10
(3) سورة نوح الآية 15
(4) سورة نوح الآية 16
(5) سورة نوح الآية 17
(6) سورة نوح الآية 18
(7) سورة نوح الآية 19
(8) سورة نوح الآية 20
(9) سورة الشعراء الآية 126
(10) سورة الشعراء الآية 132
(11) سورة الشعراء الآية 133
(12) سورة الشعراء الآية 134
(13) سورة هود الآية 61
(14) سورة الشعراء الآية 184(87/114)
وقول عيسى عليه السلام: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (1) ، شعيب عليه السلام أمر بالتوحيد ثم ذكر دليله، وعيسى عليه السلام بدأ بالدليل ثم ذكر موجبه حيث أمر بالتوحيد، ووصف هذا بأنه صراط مستقيم، إذ لا يكون الرب إلا المعبود، فلا يستحق العبادة إلا الرب، فمن استدل بالربوبية للتوحيد فقد سلك طريقا معتدلا قويما موصلا إلى الله، ونحو هذا في القرآن كثير.
3- محاجة المشركين في تركهم التوحيد بالربوبية: وهذه المحاجة تظهر في ثلاثة وجوه: حجتان ونتيجة.
أما الأول فهو الاحتجاج عليهم بإقرارهم بالربوبية لله وحده، لإلزامهم بالتوحيد حقا خالصا لله، وهذا في آيات منها: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} (2) {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (3) {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (4) {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (5) {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (6) {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (7)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 51
(2) سورة النمل الآية 59
(3) سورة النمل الآية 60
(4) سورة النمل الآية 61
(5) سورة النمل الآية 62
(6) سورة النمل الآية 63
(7) سورة النمل الآية 64(87/115)
فذكر أفرادا من أفعال الربوبية وتوجه بسؤال تقريري في كل منها بقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} (1) أي: أإله مع الله فعل هذا؟! وجواب هذا السؤال ولا بد: لا، وهذا هو وجه التقرير في السؤال: علمهم بأنه ليس معه رب فعل هذا، فتتم الحجة عليهم، ويحصل الإفحام، إذ كيف تقرون بألا رب معه فعل هذا لكم ثم تجعلون معه إلها آخر تعبدونه معه؟! فكما أن ربوبية ما سواه باطلة بإقراركم وشهادتك، فألوهية ما سواه باطلة، إذ لا يصح أن يعبد من يعجز عن فعل هذا.
ولذلك ختم المحاجة بعد ظهور الحجة ووقوع الإفحام بقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (2) ، أي: هاتوا حجة تبطل هذه الحجة الظاهرة القائمة عليكم، وإلا فالزموا الحق وأذعنوا لهذه الحجة
__________
(1) سورة النمل الآية 60
(2) سورة النمل الآية 64(87/116)
وتوجهوا بالتوحيد لله.
أما الوجه الثاني فهو الاحتجاج عليهم بخلو المعبودات من دونه من شيء من صفات الربوبية، لإلزامهم بالتوحيد حقا خالصا لله، وهذا في آيات منها: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (1) {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (2) {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} (3) ، فذكر سبحانه خلو من يدعون من دونه من صفات الربوبية ثم قرر الحق {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (4) ، وهو المتصف بصفات الربوبية، فلا إله إلا الرب، وقوله: {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} (5) ، أي: منكرة للشرك مع الله الرب غيره في العبادة، وهذا احتجاج بعلمهم وإقرارهم.
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (6) فنفى أن تكون للمعبودات من دونه ربوبية على عابديها، ولذلك فهم ظالمون بوضع العبادة في غير موضعها ظلما بينا، فهم في ضلال مبين، لظهور الحق بالدليل المذكور: أن لا رب إلا الله، فمن ترك الحق البين كان ضلاله بينا {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (7) ،
__________
(1) سورة النحل الآية 20
(2) سورة النحل الآية 21
(3) سورة النحل الآية 22
(4) سورة النحل الآية 22
(5) سورة النحل الآية 22
(6) سورة لقمان الآية 11
(7) سورة النحل الآية 17(87/117)
وهذا بعد ذكر خلقه سبحانه الأرض والجبال والبحار والحيوانات والنباتات والليل والنهار والأفلاك، يحضهم سبحانه إلى الإذعان لهذه {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (1) وفي هذا السؤال تقرير أن ليس لله شركاء خلقوا كخلقه فيستحقون العبادة معه، ولذلك قال: {قُلِ اللَّهُ} (2) ، أي: قله ولن تجد مخالفا لك في ذلك، وعليه فالعبادة لله، وتوحيده بها حقه على خلقه، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (3) فأخبر سبحانه عن خلو المعبودين من دونه من أي أصل من الأصول الجامعة لاستحقاق العبادة، فلا يملكون شيئا من الخلق ملكا مستقلا، وليس لهم في شيء من الخلق ملك بالشركة، وليس لهم إعانة للخالق في الخلق والتدبير، وليس لهم على الخالق جاه يدلون به إليه بذواتهم أو مكانتهم، فتكون لهم عنده كلمة مطاعة وإن لم يأذن أو لم يرض، فحسم مادة الشرك من أصلها، وأقام أساس استحقاقه للعبادة
__________
(1) سورة الرعد الآية 16
(2) سورة الرعد الآية 16
(3) سورة سبأ الآية 22(87/118)
وحده دون سواه، فالتوحيد حقه لا حق لسواه فيه، وبعد هذا التقرير ورد قوله سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (1) ، وقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ} (2) ، قدم {وَإِنَّا} (3) على {أَوْ إِيَّاكُمْ} (4) ثم قال: {لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (5) ، فقدم {لَعَلَى هُدًى} (6) على {أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (7) لأن الهدى متعين لموحدي الله بالعبادة بعد ظهور الحجة الواضحة الحاكمة بالتعيين حتى صار للحجة معلوما علما مغنيا عن ذكره، والمعنى: إنا على هدى وإنكم لعلى ضلال مبين، لأنا وحدنا الذي يرزقنا وأشركتم به. أما الوجه الثالث فهو أن الله سفه فعل المشركين أن عبدوا من لا يتصف بصفات الربوبية الموجبة للعبادة، وهذا التسفيه نتيجة لقيام الحجة على بطلان هذا الفعل وظهورها جلية غير مدفوعة، وهذا التسفيه ورد في آيات عديدة منها: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (8) ، وقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} (9) ، {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (10) {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (11) ،
__________
(1) سورة سبأ الآية 22
(2) سورة سبأ الآية 24
(3) سورة سبأ الآية 24
(4) سورة سبأ الآية 24
(5) سورة سبأ الآية 24
(6) سورة سبأ الآية 24
(7) سورة سبأ الآية 24
(8) سورة الفرقان الآية 3
(9) سورة النحل الآية 73
(10) سورة الأعراف الآية 191
(11) سورة الأعراف الآية 192(87/119)
{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (1) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 38(87/120)
وأما الأمر الثاني، من الأمرين الذين لهما كان التوحيد حقا خالصا لله وحده: فإن الآيات في بيان استحقاق الله التوحيد لكمال ذاته وصفاته كثيرة، ودلت من وجوه عديدة منها:
1- تقرير استحقاق الله للتوحيد بذكر صفاته العلى: وهذا في آيات لا تحصى إلا بتطويل كثير، نقتصر منها على آيات سورة الحشر، قال تعالى {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3) ذكر سبحانه ألوهيته، وسبح نفسه عما يشركون، وذكر تعبد ما في السماوات والأرض له، وسرد بين ذلك صفاته سبحانه فأفرد بعضها بالذكر وأجمل
__________
(1) سورة الحشر الآية 22
(2) سورة الحشر الآية 23
(3) سورة الحشر الآية 24(87/120)
{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (1) التي استحق لها ذلك وهي دليل لهذا الاستحقاق.
2- الاستدلال بكمال الصفات للأمر بالتوحيد والدعوة إليه: ومن أمثلة هذا: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (2) ، وهذا سؤال تقرير للمعلوم من أنه ليس له سبحانه مماثل في صفاته وكماله فيستحق العبادة معه أو من دونه {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (3) {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (4) ، ذكر سبحانه الحجة لاستحقاقه التوحيد بذكر صفات من صفاته العلى وأسمائه الحسنى، وقضى بظهور الحجة وتبينها تبينا لا حاجة معه للإكراه على التوحيد، فلا يلتزمه إلا أهل الرشد والاستقامة ولا يتركه إلا أهل الغي والضلال.
3- الاستدلال بكون الناقص ذاتا وصفات لا يكون إلها وتسفيه
__________
(1) سورة الحشر الآية 24
(2) سورة مريم الآية 65
(3) سورة البقرة الآية 255
(4) سورة البقرة الآية 256(87/121)
المشركين في اتخاذهم عادم صفات الكمال إلها: وهذا شاهد ظاهر قوي لاستحقاق الله التوحيد فهو الكامل وحده كمالا مطلقا ذاتا وصفات، وهذا المعنى ورد في آيات كثيرة منها: ذكر الله قول إبراهيم عليه السلام لأبيه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (1) ، ففي هذا تقرير معلوم ظاهر غير خفي أن الناقص عادم صفات الكمال لا يكون إلها يعبد إنما تكون العبادة للسميع البصير الغني، كامل الصفات، فالتوحيد حقه.
وبنحو ما ألزم عليه السلام أباه قومه: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ} (2) {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} (3) {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} (4) {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} (5) {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} (6) {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (7) {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} (8) ، فأظهر لهم علة بطلان عبادة آلهتهم فهي لا تتكلم وهذا نقص أذعنوا للحجة فيه، وسلموا بالظلم الذي وقع منهم بوضع العبادة في غير موضعها، لكنهم رجعوا إلى علم ورثوا عن آبائهم تجاهله لا لحق بل لعادة استحكمت
على
__________
(1) سورة مريم الآية 42
(2) سورة الأنبياء الآية 62
(3) سورة الأنبياء الآية 63
(4) سورة الأنبياء الآية 64
(5) سورة الأنبياء الآية 65
(6) سورة الأنبياء الآية 66
(7) سورة الأنبياء الآية 67
(8) سورة الأنبياء الآية 68(87/122)
عمى وضلال، فكرر عليهم الحجة بعدم أهلية الناقص للعبادة، فلم يجدوا حجة ناقضة، فلجؤوا إلى البطش وإلغاء وجوده، شأن فاقد الحجة إذا أخذته العزة بالإثم، {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} (1) ، فدل سبحانه على عدم أحقية معبودهم هذا بالعبادة كونه لا يتكلم ولا يهدي، ناقص الصفات والأفعال، ومثله سواء بسواء قوله سبحانه: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} (2) {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} (3) . وقال سبحانه: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (4) ، فهذه حجة ظاهرة في أن المستحق للعبادة لا يكون إلا كاملا متصفا بصفات الكمال، لأن من عدمت فيه هذه الصفات لا يكون إلها، وقد نبه بصفتي المشي والبطش إلى نوع الصفات الفعلية، وبصفتي السمع والبصر إلى نوع الصفات الذاتية (5)
وخلاصة القول: أن التوحيد حق خالص لله عز وجل، استحقه
__________
(1) سورة الأعراف الآية 148
(2) سورة طه الآية 88
(3) سورة طه الآية 89
(4) سورة الأعراف الآية 195
(5) انظر الصواعق المرسلة 3\915(87/123)
سبحانه لذاته لكماله ذاتا وصفات وانفراده بهذا الكمال فلا شريك له فيه، ولربوبيته على خلقه وانفراده بالربوبية فهو الرب لكل ما سواه وكل شيء مربوب له.
ولهذا كان التوحيد في ذاته أهم المهمات، فليس أهم من حق يعود إلى الخالق سبحانه، فكانت دراسة التوحيد والعناية بفهمه وتحقيق العلم به ليتحقق العمل به من أهم المهمات.(87/124)
المطلب الثاني: كونه علة خلق الخلق
تقدم قريبا التنويه إلى أن الله تعالى خلق الخلق قسمين: خلق مسخر وخلق مكلف، وأوردنا آيات دالات على أن جميع الخلق المسخر يسبح لله ويسجد له ويعبده وحده لا شريك له، فالأفلاك والشجر وأمم الدواب والطير وأنواع الجمادات والبحار وكل مسخر في السماء والأرض خلقه الله عابدا له وحده يسبح له ويسجد له على نحو لا نفقهه، ثم قسم سبحانه المكلفين إلى نوعين: نوع عصمهم من أن يعصوه فهم في طاعته دائبون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ويعبدون الله لا يستحسرون عن عبادته، أي لا ينقطعون عنها أبدا، كما قال سبحانه: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} (1) ، أي: خاضعون لعبادته من غير إعراض ولا إباء، وهم في إقبالهم على عبادته سبحانه لا ينقطعون أبدا فهم دائبون عليها أبدا، وقد فصل سبحانه وجوه عدم
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 19(87/124)
انقطاعهم في قوله: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (1) ، وقوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (2) ، أي: لا يقطعهم عن عبادة الله فتور وتعب وكسل ووهن، ولا يقطعهم سأم وملل، فنفى عنهم الانقطاع بنوعيه الحسي والمعنوي، فإن الواحد منا قد يكون مقبلا على العبادة راغبا فيها لكن يقطعه عنها مع رغبته فيها تعب جسده ووهنه، وقد يكون نشيطا موفور القوة لكنه سئم وملل، أما هؤلاء فلا فتور ولا سأم، وهم الملائكة عليهم السلام. فجميع هؤلاء المخلوقات المذكورات قائمة على توحيد الله مؤدية له مسخرة له ومعصومة من مخالفته، جمعها على توحيده سبحانه وإن فرق أجناسها وأنواعها وخصائصها.
بقي النوع الثاني من المكلفين، وهم النوع الذي تمكن منه المعصية فليس هو معصوما عن أن يخرج عن الواجب عليه من توحيد الله، فقد تجتاله الصوارف فيفسق عن التوحيد، وهؤلاء هم الجن والإنس، وهؤلاء أعلن الله في كتابه أنه إنما خلقهم لعبادته لم يخلقهم لغير ذلك، فقال قولا بينا فصلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) خصهم بالذكر هنا لأنه أراد العبادة منهم شرعا، وشاء أن يكون فيهم من يعصي فلا يعبد، لا كهيئة بقية المخلوقات التي لم يشأ إمكان المعصية منها؛ إما خلقها عابدة له مسخرة
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 20
(2) سورة فصلت الآية 38
(3) سورة الذاريات الآية 56(87/125)
لذلك، أو كلفها بالعبادة تكليفا وشاء عصمتها من المعصية فلا تكون إلا مطيعة عابدة، ولذلك كان معنى قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) إلا لأمرهم بالعبادة وأطلبها منهم فيختلفون فمنهم من يطيع فأثيبه ومنهم من يعصي فأعاقبه، وهذا المعنى مذكور عن علي رضي الله عنه وعن عكرمة ومجاهد (2) ويؤيده قوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} (3) فيكون خلقهم ليبلوهم في التوحيد كما قال سبحانه في أكثر من آية في كتابه منها: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (4) وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (5) وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (6) وقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (7) ولتحقيق هذه الغاية بعث الله الرسل، وأنزل الكتب، وجعل الجزاء، وخلق له الجنة
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) انظر زاد الميسر 8\42، وتفسير البغوي 4\235، وتفسير السمعاني 5\264، وتفسير القرطبي 17\55\56.
(3) سورة التوبة الآية 31
(4) سورة هود الآية 7
(5) سورة الكهف الآية 7
(6) سورة الملك الآية 2
(7) سورة الإنسان الآية 2(87/126)
والنار، وقسم خلقه إلى أولياء وأعداء له، فأهل التوحيد هم أولياؤه أهل جنته متابعو رسله منفذو أوامره، والآخرون أعداؤه أهل النار مخاصمو رسله معرضون عن أمره. ولهذا أيضا كان التوحيد أول واجب على المكلف؛ به يدخل الإسلام وبه يخرج من الدنيا، فإذا كان التوحيد بهذه المثابة العالية والمكانة المكينة فهو أهم المهمات، ولا مهم إلا ما تعلق به، وما سواه فهباء، ومن ذا الذي لا يهتم بما خلق له، وما خاطبته الرسل به، وأنزل الله له الكتاب به، وعلى القيام به مدار الجزاء؟!! ومن كان له في ذاته هذا الشأن فلدراسته ذات الشأن.(87/127)
المطلب الثالث:
كون التوحيد قضية الوجود
هذا المطلب هو محصلة المطلبين قبله، والوجود ليس فيه إلا الخالق ومخلوقاته، ليس ثمة شيء آخر، والتوحيد هو الصلة بينهما، وما دام التوحيد بهذه المثابة هو العلاقة بين الخالق وخلقه، من أذعن لله به حصل الأمن والسعادة، ومن أعرض عنه فلا أمن ولا سعادة، وهو في الدنيا من أهل بغض الله المحجوب عنهم فضله وفي الآخرة من أهل النار أبدا، يعذب لا ينعم أبدا، ما دام التوحيد كذلك فهو قضية الوجود لا شأن في الوجود إلا شأنه، فأي أهمية تفوق أهميته؟!! وأي دراسة أحق أن تبذل إلا دراسته.
وكون التوحيد هو قضية الوجود أمر قررته النصوص في الكتاب والسنة، وشاهد ذلك في أمور.(87/127)
أولها: أن الله أعلن القطيعة بينه وبين المشركين بتسجيله سبحانه البراءة منهم في قوله: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (1) وفي الحديث القدسي: «من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (2) » فهذه براءة جازمة، وقضى سبحانه أن لا أولياء له إلا المؤمنون: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} (3) وقال: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (4) وقال نافيا الولاية عن المشركين مثبتا إياها للمؤمنين: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (5) ، فهذه القطيعة الحاصلة بين المشركين وخالقهم مرجعها.
تركهم توحيده سبحانه، والصلة الحاصلة بين المؤمنين وخالقهم مرجعها إلى توحيدهم، فالعلاقة بين الله وخلقه مدارها على التوحيد.
وقد أمر الله المؤمنين الموحدين أهل ولايته بقطع كل العلائق إلا
__________
(1) سورة التوبة الآية 3
(2) أخرجه مسلم 4\2289 حديث رقم 2985
(3) سورة البقرة الآية 257
(4) سورة آل عمران الآية 68
(5) سورة الأنفال الآية 34(87/128)
إلى العلاقة مع الله، قال صلى الله عليه وسلم: «أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعادة في الله، والحب في الله والبغض في الله (1) » فلا يرتبط الموحد بعلاقة ما إلا وحظ التوحيد هو عروتها التي عليها يعول، فلا يوالي إلا لحظ التوحيد، ولا يعادي إلا لحظ التوحيد، ولا يحب إلا لحظ التوحيد، ولا يبغض إلا لحظ التوحيد، وليس هذا في الوشائج العامة فقط بل وفي أفراد المعاملات، قال صلى الله عليه وسلم: «من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله وأنكح لله فقد استكمل الإيمان (2) » فالتوحيد هو نظام حياة المؤمن عطاؤه توحيد، ومنعه توحيد، وحبه توحيد، وبغضه توحيد، ونكاحه توحيد، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الدلالة على أن كل حركة في حياة المسلم توحيد في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين (3) » ولما قال له عمر رضي الله عنه: «يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي " قال له صلى الله عليه وسلم: " لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك " فقال عمر رضي الله عنه: " فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي " فقال
__________
(1) أخرجه أحمد 30\448 حديث رقم 8524، والطيالسي ص 101 حديث رقم 847، وابن أبي شيبة 11\41 رقم 10469، والبيهقي في الشعب 1\46 رقم 14، وانظر الصحيحة للألباني رقم 1728.
(2) أخرجه أحمد 24\383 رقم 15617 وص 399 رقم 5638، والترمذي 4\578 رقم 2521، وأبو يعلى 2\177 رقم 1483 وص 182 رقم 1498، وأبو داود 4\220 رقم 4681، والحاكم 2\164، وانظر الصحيحة رقم 380.
(3) متفق عليه، البخاري مع الفتح 1\58 رقم 15، ومسلم 1\67 رقم 44.(87/129)
النبي صلى الله عليه وسلم: " الآن يا عمر (1) » ولا معنى لحبه صلى الله عليه وسلم إلا متابعته على هديه وسنته حذو القدة بالقدة وهذا هو التوحيد فلم يكن منه صلى الله عليه وسلم إلا التوحيد، وقد نفى صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يقدم ذلك على أخصاء الخلق به ثم عمومهم، بل وأقسم على تقديمه على النفس، ففي هذا قطع العلائق حتى مع النفس إلا لله وحده، وهذا أدل شيء على أن التوحيد هو قضية الوجود، وهذا تأكد في القرآن في مواضع منها قوله سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (2) وأعظم ما أمر الله بقطع العلائق به: الشرك وأهله، وقد جعل الله البراءة من المشركين صنو التوحيد، فقال: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (3) وقد جعل الله إبراهيم عليه السلام قدوة في البراءة من الشرك وأهله فقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (4)
__________
(1) أخرجه البخاري، البخاري مع الفتح 11\523 رقم 6632.
(2) سورة التوبة الآية 24
(3) سورة الأنعام الآية 19
(4) سورة الممتحنة الآية 4(87/130)
فهذه لبراءة صارمة من المشركين وشركهم ومعبوداتهم من دون الله، وصورتها: الكفر بذلك كله أي بالمشركين وبالشرك الواقع منهم وبالمعبودات التي أشركوها مع الله، وتمكن العداوة الظاهرة بالهجران والمجاهدة والبغضاء الباطنة بسخط القلوب وبغضها، وهذه البراءة دائمة في الحياة ما دام حال المشركين على الشرك حتى يرجعوا إلى التوحيد.
وقد ضرب الله لعباده أمثلة ناصعة لتوثيق الصلة بالله بتوحيده وبالبراءة من الخارجين عن التوحيد، فهذا نوح عليه السلام يقول الله له في ابنه الذي هو ابنه من صلبه: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (1) نفي أن يكون من أهل دينه واعتقاده لأن قرابة التوحيد أقوى من قرابة النسب، وعلل هذا النفي بأنه عمل عملا غير صالح وهو الكفر والتكذيب (2) قال ابن عباس رضي الله عنهما: " لو كان من أهلك لنجيته لك كما أنجيتك ولكنه عمل غير صالح " (3) وفسر رضي الله عنه {عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (4) بقوله: " خالفه في العمل والنية " (5)
فأهل التوحيد هم أهل الموحد، وأهل الشرك ليسوا أهلا له وإن كانوا
__________
(1) سورة هود الآية 46
(2) انظر تفسير القرطبي 9\46.
(3) تفسير أبي حاتم 6\2039 رقم 10925 و 10927.
(4) سورة هود الآية 46
(5) تفسير أبي حاتم 6\2039 رقم 10925 و 10927.(87/131)
قرابته. وهذا إبراهيم عليه السلام تبرأ من أبيه الذي هو أبوه، قال الله في ذلك: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (1) وهؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم قاتلوا يوم بدر وأحد وغيرهما آباءهم وأبناءهم وقرابتهم فمنهم من قتل أباه ومنهم من قتل أخاه ومنهم من قتل خاله (2) فأنزل الله فيهم: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) فجعلهم الله حزبه وأخبر برضاه عنهم وما أعده لهم من التأييد في الدنيا والنعيم في الآخرة. فما أدل ذلك لكون التوحيد قضية الوجود!! . وقضى سبحانه ألا ولاية من مؤمن إلا لمؤمن: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (4) وقال: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} (5) وقال:
__________
(1) سورة التوبة الآية 114
(2) انظر زاد المسير 8\198.
(3) سورة المجادلة الآية 22
(4) سورة التوبة الآية 71
(5) سورة آل عمران الآية 28(87/132)
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (1) فانظر في هذه الآية كيف دلت لعنوان المطلب وتأمل في خبره سبحانه أنه إن لم تقم العلاقات بين الخلق على أساس الموالاة في التوحيد والمعاداة فيه فسيحصل من الشر والفساد الكثير مما يجمعه عدم التوحيد أو عدم وقوع كثير من أفراده وما يجر ذلك من سخط الله وعقوباته. وكما أن التوحيد أصل فروعه الطاعات، فإن صنوه " البراءة من المشركين " أصل فروعه البراءة من كل شيء لم يكن لله أو في الله، ومن حقق هذه الصلة بالله حصل ثمراتها الجليلة الهنيئة، وهي ثمرات دلت عليها النصوص ومنها: - أنه يجد حلاوة الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار (2) »
- أن من أقبل على التوحيد يحصل فرائضه ويستزيد من نوافله تسلم حركته في الحياة من كل سوء فلا يكون منه إلا خيرا لنفسه ولغيره، ففي الحديث القدسي: «ما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه
__________
(1) سورة الأنفال الآية 73
(2) متفق عليه، البخاري مع الفتح 1\60 رقم 16، ومسلم 1\66 رقم 43.(87/133)
الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته (1) »
- أن الموحد يحصل ولاية الله، ويكون وليا لله، فإن الله قد أعلن الحرب على من عاداه كما جاء في أول الحديث السابق «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب (2) » .
- أن الموحد يحصل بتوحيده حب الله إياه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أحب الله تعالى العبد نادى جبريل: إن الله تعالى يحب فلانا فأحببه فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض (3) » وزاد في رواية: «وإذا أبغض عبدا دعا جبريل: إني أبغض فلانا فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه فيبغضه أهل السماء ثم توضع له البغضاء في الأرض (4) »
فانظر إلى قوله: «يوضع له القبول في الأرض (5) » . وقوله: «توضع له البغضاء في الأرض (6) » ، الأول في أهل محبته والثاني في الآخرين، وقوله: " في الأرض " دال لما ذكرنا من أن التوحيد قضية الوجود.
__________
(1) أخرجه البخاري الصحيح مع الفتح 11\340 – 341 رقم 6502.
(2) صحيح البخاري الرقاق (6502) .
(3) متفق عليه، البخاري مع الفتح 13\461 رقم 7485، ومسلم 4\2030 رقم 2637.
(4) أخرجها مسلم 4\2030 رقم 2637.
(5) صحيح البخاري بدء الخلق (3209) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2637) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3161) ، مسند أحمد (2/413) ، موطأ مالك الجامع (1778) .
(6) صحيح البخاري بدء الخلق (3209) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2637) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3161) ، مسند أحمد (2/413، 2/514) ، موطأ مالك الجامع (1778) .(87/134)
ثم إن التوحيد مطلوب من العبد عمره كله حتى الموت، قال الله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) وقال سبحانه: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) وقال سبحانه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (3) وفي كون التوحيد واجبا على كل عبد عمره كله يعود بسلوكه فيه على نفسه وعلى علاقته بكل ما حوله ظهور وجه من وجوه كونه قضية الوجود.
وجماع القول في بيان كون التوحيد قضية الوجود في قوله سبحانه يحكي قول إبراهيم لقومه: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (5) {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (6) فأهل التوحيد هم أهل الأمن والاهتداء في الدنيا والآخرة لأنهم أهل ولاية الله، وأهل الشرك هم أهل الخوف والضلال في الدنيا والآخرة لأنهم أهل عداوة الله.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة الحجر الآية 99
(4) سورة الأنعام الآية 81
(5) سورة الأنعام الآية 82
(6) سورة الأنعام الآية 83(87/135)
هذا هو التوحيد، قضية الوجود، له أرسل الله رسله، وفيه وقعت الخصومة بين الرسل وأممهم، وفيه أبيد قوم نوح وعاد وثمود وآل فرعون، وقرون آخرون، ونصر نوح وهود وصالح وموسى وأنبياء الله والموحدون معهم، فأي أهمية أعلى منه؟! .(87/136)
المبحث الثاني: ضرورة الخلق إلى التوحيد
الخلق في ضرورة إلى التوحيد لا تستقيم حياتهم إلا به، ومن كانت ضرورته لشيء تعلقت حاجته به فإنه يهتم له وبه أعلى الاهتمام، فليس أهم مما تضطر إليه حياتك؛ ولذا فإن العلم بالضروري والبحث فيه وتقليب النظر فيه من مهمات حياتك بل من ضروراتها؛ ولذا فإن دراسة التوحيد ضرورة للعبد لضرورته إلى التوحيد. وهذان مطلبان معقودان لبيان وجه ضرورة الخلق إلى التوحيد.
المطلب الأول: فطرية التأله:
المقصود بالتأله التدين لإله بتعلق القلب وتوجهه إليه حبا ورجاء وخوفا، والتأله هو الغذاء الفطري الغريزي للروح ترجو به السكينة والطمأنينة وتطلب اللذة والسعادة، ذلك أن العبد مخلوق محدث لم يحدث نفسه ولم يحدث من غير شيء، فهو في أصله ليس فيه القدرة على إيجاد نفسه، وهو أيضا لا قدرة له أن يستقل بإحداث شيء لنفسه بعد وجوده، فلا قدرة له على إيجاد هواء ولا ماء ولا غذاء ولا نحوه مما يقوم به جنسه، ولا قدرة له على إيجاد حجارة ونحوها مما يحتاجه(87/136)
لمأواه، ولا قدرة له على إيجاد دابة له ونحوها مما يحتاجه لمركبه، وهو أيضا لا يملك علما بغده ولا قدرة له لإحداث غد ولا قدرة مستقلة لإجراء مقادير غده، وهكذا فهو في حاجة دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة لمن يوجده ويدبره، وهذا ضعف بين فيه، وهذا يجعله قلقا مضطربا مهموما منهمكا، وإنما يسكن ويهدأ ويهنأ ويتقوى من ضعف باللجوء إلى موجده ومدبره والتعلق به، والروح غذاؤها فيما يقويها، ولذلك كان التأله فطرة الخلق لا تنفك عنهم أبدا، فإن سلمت فطرته رشد تألهه فتدين للإله الحق، وإن مرضت فطرته ضل تألهه فتدين لمن يظن فيه قوته ويغتر بنفع يظنه يأتيه منه.
والعبد لا ينفك من العبودية، إن لم يعبد الله عبد غيره ولا بد، يقول ابن تيمية رحمه الله: " وكل من استكبر عن عبادة الله لا بد أن يعبد غيره، فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أصدق الأسماء: حارث وهمام (1) » فالحارث: الكاسب الفاعل، والهمام: فعال من الهم، والهم أول الإرادة، فالإنسان له إرادة دائما وكل إرادة فلا بد لها من مراد تنتهي إليه، فلا بد لكل عبد
__________
(1) ليس هذا في الصحيح بل هو من حديث ضعيف بلفظ '' وأصدقها. . . '' أخرجه أحمد 31\377 رقم 19032، وأبو داود 4\288 رقم 4950، وانظر ضعيف النسائي للألباني ص 129 رقم 233.(87/137)
من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، بل استكبر عن ذلك، فلا بد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله فيكون عبدا لذلك المراد المحبوب: إما المال وإما الجاه وإما الصور وإما ما يتخذه إلها من دون الله كالشمس والقمر والكواكب والأوثان وقبور الأنبياء والصالحين أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أربابا أو غير ذلك مما عبد من دون الله، وإذا كان عبدا لغير الله يكون مشركا، وكل مستكبر فهو مشرك، ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكبارا عن عبادة الله وكان مشركا " قال: " وقد وصف فرعون بالشرك في قوله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} (1) بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكبارا عن عبادة الله كان أعظم إشراكا بالله، لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود: مقصود القلب بالقصد الأول فيكون مشركا بما استعبده من ذلك " (2) ويقول ابن القيم " إذا كان في القلب وجدان حلاوة الإيمان وذوق طعمه أغناه ذلك عن محبة الأنداد وتأليهها، وإذا خلا القلب من ذلك احتاج إلى أن يستبدل به ما يهواه ويتخذه إلهه، وهذا من تبديل الدين وتغيير فطرة الله التي
__________
(1) سورة الأعراف الآية 127
(2) العبودية، الآية: 111(87/138)
فطر عليها عباده، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (1) أي نفس خلق الله لا تبديل له فلا يخلق الخلق إلا على الفطرة كما أن خلقه للأعضاء على السلامة من الشق والقطع لا تبديل لنفس هذا الخلق ولكن يقع التغيير في المخلوق بعد خلقه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها (2) » فالقلوب مفطورة على حب إلهها وفاطرها وتأليهه، فصرف ذلك التأله والمحبة إلى غيره تغيير للفطرة ولما تغيرت فطر الناس بعث الله الرسل بصلاحها وردها إلى حالتها التي خلقت عليها، فمن استجاب لهم رجع إلى أصل الفطرة، ومن لم يستجب لهم استمر على تغيير الفطرة وفسادها " (3)
وفي كلامهما رحمهما الله بيان أمرين: الأول أن التأله فطري غريزي، والثاني أن الله فطرهم على التأله له وحده سبحانه، وقدر سبحانه أنهم قد تتغير فطرتهم في التأله لله ولكن لا تتغير فطرتهم في لزوم التأله، فإذا غيروا ما فطروا عليه من التأله لله تألهوا لغيره ولا بد. وفي الحديث الذي أورده ابن القيم رحمه الله ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا بينا لفطرة الخلق على
__________
(1) سورة الروم الآية 30
(2) متفق عليه، البخاري مع الفتح 3\245 رقم 1385، ومسلم 4\2047 رقم 2658.
(3) إغاثة اللهفان ص 659، وانظر الفتاوى 10\134 – 135.(87/139)
التأله لله وعلى تغير هذه الفطرة.
وقد قرر الله عباده بما فطرهم عليه قال الله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (1) فأقروا بذلك واعترفوا به لأنهم فطروا على العلم به فإن الله فطرهم على الحنيفية فكيف لا يعرفون ما قررهم به ويوافقون عليه؟ فاجتمع بذلك الفطرة والميثاق.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 172(87/140)
المطلب الثاني: ضرورة الخلق إلى التأله لله وحده
لما كان التأله فطرة غريزية في العباد، وهم مفطورون بالتأله لله وحده، وكانت هذه الفطرة قد تتغير فيتألهون لغيره، فإن من أظهر ما يدل على بطلان هذا التغيير وسوأته وأنه تغيير وخلاف ما عليه الأصل اضطرار العباد للتأله لله وتعلق حاجتهم بذلك تعلقا لازما لا فكاك له، وهذه الضرورة أدل شيء على أهمية التوحيد وأهمية معرفته والعمل به والدعوة إليه وأهمية دراسته.
وقد كتب ابن تيمية رحمه الله قاعدة في توحيد الله وإخلاص الوجه والعمل له فصل فيها وجوه ضرورة الخلق وشدة حاجتهم للتأله لله عز وجل وصل بها إلى تسعة وجوه شرح في كل منها معاني جليلة ظاهرة(87/140)
الدلالة ثابتة الحجة قوية البرهان في بيان سهل مقنع (1) وأخذ ذلك عنه تلميذه ابن القيم فذكره في شيء من التهذيب وجعلها عشرة أوجه (2)
ونذكر خلاصة لذلك لا تغني كثيرا عن الوقوف على أصلها في كلام الشيخين رحمهما الله فنقول: كل مخلوق سوى الله فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ولا يتم ذلك إلا بمعرفته بما ينفعه والوسيلة إلى حصوله، ومعرفته بما يضره والوسيلة إلى دفعه. فهذه أربعة أمور ضرورية للعبد لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها: أمر مطلوب ينتفع به ووسيلة تدله عليه وتدفعه إليه، وأمر مكروه يضره، ووسيلة تدله عليه وتدفعه عنه، وإرادة العبد وحركته متعلقة بهذه الأمور لتعلق وجوده وصلاحه بها، وهو يتوجه بحبه ورجائه وخوفه إلى مصادرها، فهو يحب جلب المنفعة، ويرجو المعين على حصولها، ويخاف منعه منها، ويحب دفع المضرة، ويرجو المعين على دفعها، ويخاف إيقاعها به، وهو يتوجه إلى مصادرها بلوازم المحبة والرجاء والخوف، فيحب ويؤدي لوازم المحبة، ويرجو ويؤدي لوازم الرجاء، ويخاف ويؤدي لوازم الخوف.
وإذا كان ذلك كذلك فقد تبين أن توحيد الله وإخلاص الوجه والعمل له عبادة واستعانة هو المحقق لحاجة الخلق وضرورتهم، لأن الله هو الجامع لهذه الأمور الأربعة كلها، فهو خالق ما ينفع العبد وموجده، وهو الذي يهديه
__________
(1) انظر في الفتاوى 1\20-36
(2) انظر في إغاثة اللهفان ص 40 - 63.(87/141)
إليه ويقدر له جلبه والحصول عليه أو منعه، وهو موجد ما يضره، وهو الذي يهديه إلى العلم به ويقدر له دفعه أو وقوعه، فإذا نظرت إلى هذا علمت أن الله هو المستحق للتوجه إليه بالحب والخوف والرجاء يطلب وجهه ويرجى رضاه ويخاف سخطه، وإذا ضممت إلى هذا النظر في أن الله هو خالق العبد أولا قبل النظر في أنه خالق نفعه وضره، علمت أن العبد مفتقر إلى الله لذاته لا لأمر آخر جعله مفتقرا إليه، بل فقره لازم له لا يمكن أن يكون غير مفتقر إليه، كما أن غناء الرب وصف لازم له لا يمكن أن يكون غير غني، فهو غني بنفسه لا بوصف جعله غنيا، وفقر العبد إلى الخالق وصف له لازم في حال عدمه ووجوده، ففي حال عدمه فهو مفتقر إلى الخالق فلا يوجد إلا به سبحانه، وما دام ذلك كذلك فالله هو الذي يجب أن يكون المطلوب المقصود لذاته، ووجهه وقربه ورضاه هو المطلوب المحبوب، وعبادته هي المعينة لحصول ذلك، وعبودية ما سواه والالتفات إليه والتعلق به هو المكروه الضار، وعبادة الله هي المعينة على دفع هذا الضار المكروه، وعبادته سبحانه هو الذي يعين عليها بدلالتي التوفيق والإرشاد، ولهذا كان صلاح العبد وسعادته في تحقيق معنى قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب لكن على أكمل الوجوه والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب.
ولكن الخلق إذا فسدت فطرهم يجتالهم عن إخلاص العبادة لله إلى صرفها أو شيء منها لسواه ما يباشرونه من نفع يحصلونه من السوى أو
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5(87/142)
ضر يندفع عنهم بالسوى، فيلتفتون إلى ما يباشرونه عن خالق النفع والضر وخالق أسباب حصولها أو اندفاعها ومقدر ذلك سبحانه. وعندئذ ينبغي على العبد أن ينتبه عند طلب حصول النفع أو الضر إلى أمور:
أولها: أن الله هو الذي يعلم ما يصلح العبد وما يضره {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) هو أعلم بذلك من علم العبد لنفسه، ولا يعلم مخلوق ذلك إلا على سبيل الظن، وهو قبل ذلك لا يعلم مصلحتك حتى يعرفه الله إياها، ولا يقدر على تحصيلها لك حتى يقدره الله تعالى عليها، ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة فعاد الأمر كله لله سبحانه.
الثاني: أن الله هو النافع الضار والمخلوق ليس عنده نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا عز ولا ذل، بل الله وحده هو الذي له ملك ذلك، وإذا وقع من المخلوق من نفع أو ضر فبإذن الله وخلقه.
الثالث: أنه ليس هناك جهة تطمئن النفس بالتوجه إليها وتسكن إلا الله عز وجل الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، يده سحاء الليل والنهار الصمد السيد سبحانه، والمخلوق لا يدوم نفعه فهو في ذاته إلى عدم، وينفع في حال دون حال، وهو لا يقدر على النفع دائما ولا يقدر على كل نفع، يأتي منه نفع في شيء ويعجز عن آخر، أما الله فلا بد للعبد منه في كل حال وفي
__________
(1) سورة الملك الآية 14(87/143)
كل وقت وأينما كان فهو معه.
الرابع: أن الله غني عن العبد فهو يحسن إليه لا لمنفعة ترجع إليه سبحانه، ولا مع مضرة عليه سبحانه، ولكن رحمة وتفضلا، أما المخلوق فلا يحسن إلا لحظ نفسه، ولا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، فالخلق إنما يحسن بعضهم لبعض لحاجتهم إلى ذلك وانتفاعهم عاجلا أو آجلا، ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن أحد إلى أحد فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى الوصول إلى نفع ذلك الإحسان إما بجزاء ومعاوضة أو حتى طلب الثناء والمدح والشكر، أما الرب سبحانه فكما قال: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} (1) وقوله في الحديث القدسي: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه (2) » فاتضح مما تقدم ضرورة العباد إلى توحيد الله سبحانه بل إن حاجتهم إلى ربهم في توحيدهم إياه كحاجتهم إليه في خلقه لهم ورزقه إياهم بل أعظم، وليعلم أن حاجة العباد إلى أن يوحدوا الله لا نظير لها فتقاس عليه وأن العبد كلما كان أتم توحيدا لله كان أقرب إليه وأكثر إعزازا وتعظيما لقدره، فأسعد الخلق
__________
(1) سورة الإسراء الآية 7
(2) مسلم 4\1994 رقم 2577.(87/144)
أعظمهم عبودية لله، أما المخلوق فكما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره. " فالرب سبحانه: أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون إليه، والخلق أهون ما يكون عليهم أحوج ما يكون إليهم، لأنهم كلهم محتاجون في أنفسهم فهم لا يعلمون حوائجك، ولا يهتدون إلى مصلحتك، بل هم جهلة لمصالح أنفسهم، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم؟! فإنهم لا يقدرون عليها ولا يريدون من جهة أنفسهم فلا علم ولا قدرة ولا إرادة، والرب يعلم مصالحك ويقدر عليها ويريدها رحمة منه وفضلا وذلك صفته من جهة نفسه لا شيء آخر جعله مريدا راحما، بل رحمته من لوازم نفسه فإنه كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شيء، والخلق كلهم محتاجون لا يفعلون شيئا إلا لحاجتهم ومصلحتهم، وهذا هو الواجب عليهم والحكمة، ولا ينبغي لهم ذلك، لكن السعيد منهم الذي يعمل لمصلحة التي هي مصلحة لا لما يظنه مصلحته وليس كذلك " (1) ومصلحته التي هي مصلحته هي التوحيد وإخلاص الوجه لله، فعليه أن يهتم به علما وعملا أعظم الاهتمام.
__________
(1) الفتاوى 1/ 39 – 40.(87/145)
المبحث الثالث: شدة حاجة المسلمين اليوم لدراسة التوحيد
لمسلمون اليوم أشد ما يكونون حاجة إلى دراسة التوحيد لتحقيق صحة فهمه واستقامة السلوك عليه، فإن الجهل بمفهوم التوحيد يضرب(87/145)
أطنابه في واقع المسلمين اليوم حتى أطل على انحرافات عظيمة تفارق التوحيد وتقدح في أصله وتقطع الصلة بين التوحيد وبين تطبيق المسلمين له، وقد حلت بالمسلمين مشكلات عمتهم تطال قاصيهم ودانيهم، سببها ما قلناه من الجهل بالتوحيد، ولا حل لها إلا بالعودة إلى التوحيد الصحيح الحق، والعصر اليوم بجميع أهله في أمس الحاجة إلى دلالته على التوحيد لله وقيادته به لحل معضلاته، وليس هناك من يؤدي هذه المهمة إلا أهل التوحيد فهم الذين يدعون إليه ويدلون عليه ويحسنون القياد به. فهذه ثلاثة أمور تبرز بها شدة حاجة المسلمين لدراسة التوحيد بل وضرورة حياتهم وجماعتهم وبيضتهم إليه نفصلها في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الجهل الواقع بالتوحيد علما وعملا
لقد ركن كثير من عامة المسلمين في نواحي بلاد المسلمين في الانتساب إلى التوحيد إلى الإقرار بربوبية الله وأن يقولوا بألسنتهم " لا إله إلا الله " وأن يؤدوا الشعائر الظاهرة من صلاة وصيام وحج، ثم توجهوا بأخص خصائص العبودية لغير الله، فشائع فيهم التوجه للصالحين يدعونهم ويستغيثون بهم ويتوسلون بجاههم، فيقول أحدهم: يا سيدنا فلانا، ومولاي فلانا خذ بيدي، وكن لي كذا وادع الله لي بكذا، وأنا في حماك، وأنا بك وبالله، وأنا دخيلك، وينذرون لهم النذور فيقول أحدهم: يا سيدي فلانا إن رزقني الله كذا أجعل لك كذا، وإن تحقق كذا أو تحصلت على كذا أجعل لك كذا وأقدم لك كذا، ويذبحون لهم في مواسم يجعلونها بأسمائهم من وقت إلى وقت إذا جاء وقت موسم الولي فلان ساقوا(87/146)
الذبائح من بقر وغنم إلى ضريحه أو مشهده أو قبته يذبحونها له عنده، ويعكفون حول قبور الصالحين، ويبيتون عندها ويقيمون الحفلات والحضرات وينقلون المرضى إليها يستشفعون بالأضرحة وينادون أصحابها ويستغيثون بهم، ويتبركون بها وبالإقامة عندها الليلة والليلتين ويشدون الرحال إليها لدفع النذور وإقامة الحفلات ونحو ذلك
وهذا كله من صريح الشرك الناقض لأصل التوحيد، وإن لم يكن شركا فليس في الدنيا شرك ولا معنى للتوحيد يعرف به!! وهم يعضدون هذه الأفعال الشركية بشرك علمي قبيح فيقولون: " نحن إنما نعتقد في الصالحين الأخيار أن الله جعل لهم النفع والضر في هذه الدار وتلك الدار (1) فهم يعطون أو يمنعون وبأيديهم مفاتح غيبه، وتحت قبضتهم خزائن فضله، ينزلون الأمطار متى شاؤوا ويعافون من أحبوا ويبتلون من أبغضوا، ويهبون لمن أرادوا ذكورا أو إناثا أو يزوجونهم ذكرانا وإناثا ويجعلون من غضبوا عليه عقيما " (2) ويحلف أحدهم بالله العظيم مائة يمين كاذبا عالما وتأخذه الرعدة وأشد الخوف والهلع من الحلف بسيده فلان على كذبة فلا يحلف به إلا صادقا بارا بيمينه، وإذا انقطعوا في المغاور أو ماج بهم البحر أو حل بهم ضر نادوا: يا سيدي فلانا أنقذنا أو أدركنا أو أغثنا أو ادفع عنا.
__________
(1) أي في حال حياتهم في الدنيا وبعد موتهم في قبورهم.
(2) الشرك ومظاهره ص 107.(87/147)
وكل هذا هو صريح الشرك الأكبر المضاد للتوحيد، وهو الذي بعثت الرسل لردع أممهم عنه، إذ كان هو حال أهل الجاهلية الجهلاء، بل إن حال هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام والتوحيد أردى، فإنهم لا يخلصون العبادة لله بحال أبدا لا في رخاء ولا شدة، أما أهل الجاهلية فكانوا كما شهد الله لهم يخلصون العبادة لله وحده إخلاصا تاما في حال الشدة فلا يتوجهون إلا إليه قال الله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (1) ، وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (2) ومع كون حال هؤلاء المنتسبين إلى التوحيد على حال أهل الجاهلية سواء بسواء بل وأسوأ إلا أنهم يتبرؤون بألسنتهم من الشرك وأهله، ويدعون التوحيد جازمين جزما عنيدا، ويزعمون أنهم لم يعبدوا إلا الله، ولم يتخذوا معه آلهة كأولئك المشركين، فإنهم يقولون: لا إله إلا الله، وأولئك لا يقولونها، وأولئك يعتقدون في الجمادات ويتخذون الأصنام، ونحن لا نتوجه إلى صنم ولم نتخذ أصناما، ونحن نوحد الله في خلقه وإيجاده، وأولئك
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 65
(2) سورة يونس الآية 22(87/148)
يجعلون غير الله يماثله في الخلق في الإيجاد، فهؤلاء إنما أغرقهم في الشرك جهلهم بحقيقة التوحيد ومعناه فهم أحوج ما يكونون لدراسة التوحيد والعلم بحقيقته، أحوج ما يكونون لأن يعلموا أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة وأن إفراده بالربوبية ليس هو التوحيد الذي أرسل الله رسله به ولم يقبله من المشركين حتى يضموا إليه لازمه من إفراده بالعبادة، فهو غير كاف في حصول الإسلام وتحقق التوحيد، وهم أحوج ما يكونون إلى العلم بأن قول لا إله إلا الله باللسان ليس هو كل القول المطلوب من العبد، فإن القول المطلوب من العبد هو قول اللسان والقلب والجوارح، وهكذا القول إذا أطلق فإن المراد به قول القلب واللسان والجوارح، فإذا أريد قول اللسان فقط قيد ولم يطلق كما قال الله: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (1) فلما كان قولهم قول لسان فقط قيده به ونفى عنه ما يدخل فيه لو أطلق، وأن يعلموا أن لـ لا إله إلا الله حقوقا واجبة مشروطة لصحتها، مقررة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تقبل إلا بها وليس لقول لا إله إلا الله معنى بدونها، وأن يعلموا أنه لهذا أبى المشركون أن يقولوا لا إله إلا الله لأنهم علموا أن قولها ينقض عليهم ما هم فيه ويوجب في رقابهم البراءة منه والإقلاع عنه والتوجه بأجمع قلوبهم وأركانهم إلى الله وحده، والخلوص من الشرك، وهم أحوج ما
__________
(1) سورة الفتح الآية 11(87/149)
يكونون لأن يعلموا أنه لا فرق بين حجر ولا شجر ولا بشر في وقوع الشرك بصرف العبادة إليه من دون الله، فالجهة المستحقة للعبادة هي الله وحده بلا جنس شركة مع غيره قليلة كانت أو كثيرة، فالعبادة حقه لا يستحقها إلا هو، ويتساوى كل شيء غيره في عدم استحقاق العبادة أو شيء منها وإن تفاوتت أجناسه وأنواعه وصفاته، وأن يعلموا أن أهل الجاهلية كانوا يعبدون الأحجار والأشجار والجن والإنس والملائكة والشمس والقمر فلم يصحح الله ورسوله عبادة نوع دون نوع، وهم أحوج ما يكونون لأن يعلموا أنه لا فرق بين العبادات في وجوب إخلاصها لله فلا تصرف لغيره فكما أنه لا تكون الصلاة إلا إليه ولا يكون الصيام إلا له ولا يكون الحج إلا له فكذلك لا يكون الدعاء إلا له ولا الذبح إلا له ولا النذر إلا له، وأن يعلموا أن أهل الجاهلية كانوا يؤدون من الشعائر الظاهرة ما يخلصونه لله، فقد كانوا يؤدون الحج لله، يشدون له الرحال ويؤدون مناسكه التي بقيت من شرعة إبراهيم عليه السلام لله، ويعظمون البيت لله، ومع هذا لم يقبل الله منهم ذلك مع شركهم به في العبادات الباقيات، بل وأرسل إليهم الرسول، وأنزل فيهم كلامه يعلن براءته منهم ويسجل عليهم اسم الشرك ووصفه وجنسه.
والذين يعتقدون التوحيد على الوجه الذي وصفنا وبينا الحاجة معه إلى دراسة التوحيد تصحيح العلم به فريقان، فريق متدين بذلك يسلكه ويؤديه، وفريق يعتقده ويظنه هو التوحيد والديانة ولكنه معرض عنه يأنف(87/150)
منه يراه طقوسا بالية تليق بالعوام والبسطاء ولا تليق به، وهؤلاء هم الموسومون بالمثقفين، وهؤلاء لما كانت نظرتهم إلى الأمر على هذا النحو ألحقوا حتى الفرائض الظاهرة بالترك، فهم لا يصلون ولا يصومون ملحقين الصلاة والصوم بالأعمال الشركية التي يؤديها الناس جاعلين الباب واحدا فالجميع طقوس دينية يقبل عليها العامة والبسطاء، وهؤلاء في حاجة أيضا إلى معرفة التوحيد ودراسته لتصحيح علمهم وعملهم.
وإذا تركت هذا الجانب المظلم من الجهل المطبق بالتوحيد، والتفت إلى ما عليه المسلمون في تطبيقهم للتوحيد في سلوكهم العام، ظهرت لك جوانب عديدة يبدو فيها الجهل بمفهوم التوحيد بينا ظاهرا يعلن الحاجة الماسة لدراسة التوحيد، يبدو لك التطير ضاربا أوتاده يخيم على سلوك الناس، فهذا ينسب ضيق رزق يومه لتصبحه بكذا وكذا، والآخر ينسب سعة رزق يومه لتصبحه بكذا وكذا، وهذا يمضيه في شأنه رؤيته لكذا، والآخر يرده عن شأنه رؤيته لكذا، وهذا يتفاءل باللون الفلاني والعدد الفلاني واليوم الفلاني والشهر الفلاني، والآخر يتشاءم من اللون الفلاني والعدد الفلاني واليوم الفلاني والشهر الفلاني، ويبدو لك التعلق بالتمائم والأحراز، والاعتقاد في القلائد والأساور والخواتم على أشكالها المعينة، وألوانها المعينة، ومواضع تقلدها، ونحو ذلك من التفاصيل المدعاة لإشاعة التعلق بهذه العقائد واصطناع الهيبة لها.(87/151)
ويبدو لك نسبة الأحداث إلى النجوم والطوالع والأبراج وقراءة المستقبل والمتوقعات عليها، ويبدو لك الإقبال على السحرة والمشعوذين والتطبب بطبهم واللجوء إلى تدابيرهم لصيانة من مكروه أو دفعه أو طلبه لخصم أو نحو ذلك.
كل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الطيرة شرك (1) »
ويقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (2) »
ويقول ": «من تعلق شيئا وكل إليه (3) »
ويقول: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد (4) » ومعلوم أن السحر كفر كما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وروى صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال: «من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب (5) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (6) » والتفت إلى جانب آخر في سلوك
__________
(1) أخرجه أبو داود 4\17 رقم 3910، وابن ماجه 2\1170 رقم 3538، والترمذي 4\138 رقم 1614 وأحمد 6\213 رقم 3687.
(2) أخرجه أبو داود 4\9 رقم 3883، وابن ماجه 2\1167 رقم 3531، وأحمد 6\110 رقم 3615، والحاكم 2\216، 217 و 4\417.
(3) أخرجه الترمذي 4\352 رقم 2072، وأحمد 31\78 رقم 18781، والحاكم 216.
(4) أخرجه أبو داود 4\16 رقم 3905، وابن ماجه 2\1228 رقم 3726، وأحمد 3\454 رقم 2000 و 5\41 رقم 2840.
(5) متفق عليه، البخاري مع الفتح 2\333 رقم 846، ومسلم 1\83 رقم 71.
(6) أخرجه أحمد 15\331 رقم 9536، والحاكم 1\8.(87/152)
الناس مما يعلن بوجوب دراسة التوحيد وإشاعة تعلمه وتعليمه للجهل الحاصل به، وهو الجهل الواقع في التوكل على الله الذي هو الاستعانة التي جعلها الله قسيمة التعبد في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) وكما يقول ابن القيم: " فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده، بل حقيقة التوكل: توحيد القلب، فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول، وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل، فإن العبد متى التفت إلى غير الله أخذ الالتفات شعبة من شعب قلبه، فنقص من توكله على الله بقدر ذهاب تلك الشعبة " (2) وفي سلوك كثير من الناس جهل ظاهر بمقتضى توحيد الله في التوكل عليه سبحانه، فمن الناس من يتعلق قلبه بالأسباب، ويستفرغ لها توجهه، ويقيم عليها مقاصده، حتى إذا حصل على مطلوبه أحال ذلك إلى الأسباب، وإذا لم يحصل على المطلوب تسخط من قدر الله أو أحال ذلك إلى الحظ والبخت، وهو في هذا كله مبتدئه ومنتهاه غافل عن الله وقدرته سبحانه وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته منصرف عن التعبد له والتوجه إليه سبحانه، فهذا متوكل على غير الله، ومن الناس من يتبع هواه وإخلاد نفسه إلى البطالة والكسل، ويجمع قلبه ويستفرغ توجهه إلى حصول مطلوبه بلا سعي ولا سبب فيفرط في أمر الله له بالسعي والأخذ بالأسباب ويجعل
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) مدارج السالكين 2\120.(87/153)
عجزه وتفريطه توكلا فإذا حصل مقصوده اغتر بعجزه وتفريطه فيما أمر به وظنه توحيدا، وإذا لم يحصل مقصوده تسخط، وربما وصل به تسخطه إلى الكفر بالله والعياذ بالله، وقال: ها أنا توكلت عليه ولم يحصل لي شيء. وكلا الصنفين جاهل بحقيقة التوحيد، منقطع عنه، أما الأول فلأنه توجه برجائه وقصده إلى غير الله إما إلى علم أو مال أو شخص أو جهة، وأما الثاني فلأنه ترك ما أمره الله به ولم يخضع لشرعه ويتعبده بمراداته.
وجميع هذه المظاهر الشائعة في سلوك المسلمين الدالة على انفصام في سلوكهم عن معنى التوحيد دالة على شدة حاجتهم إلى دراسة التوحيد وأهمية ذلك.(87/154)
المطلب الثاني: المشكلات العامة الحالة بالمسلمين
مرجع هذا المطلب والمطلب الذي يليه قول الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (1) فإن الله علق الأمن والاهتداء بالتوحيد الذي لم يختلط بالشرك الناقض لأصله أو المعاصي الناقصة لكماله، فمن كان منه الأول وهو الشرك الناقض لأصل التوحيد فلا أمن له ولا اهتداء، ومن سلم توحيده من الشرك فله أصل الأمن والاهتداء ثم يكملان له ما كمل توحيده وينقص منهما ما ينقص من توحيده، والأمن والاهتداء لفظان عامان تندرج فيهما معان عدة:
فمراد بهما الأمن في الدنيا وفي الآخرة والاهتداء في الدنيا وفي
__________
(1) سورة الأنعام الآية 82(87/154)
الآخرة، ومراد بهما الأمن للجماعة وللأفراد والاهتداء للجماعة وللأفراد، والأمن يكون في النفس والمال والعرض والعقل والدين في الدنيا فأهل التوحيد آمنة نفوسهم مطمئنة ساكنة إلى ربها واثقة به، آمنة أرزاقهم طيبة هانئة مريئة لا يذوقون لباس الجوع، آمنة أعراضهم وعقولهم بحفظ الله لها بشرائعه، أمن دينهم فهو من عند ربهم وفي طاعته وعلى الصراط المستقيم، آمنون به من عذاب الله وعقوباته، وفي الجملة فهم آمنون بحياة طيبة يتحقق بها وعد الله الذي وعدهم إياه، فيقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) .
آمنون مما توعد الله به في قوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (2) وهم آمنون في الآخرة لنجاتهم من عذاب الله وتحقق تمام وعد الله في قوله في تمام آية النحل المذكورة: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) آمنون مما توعد الله به في تمام آية طه المذكورة: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (4) والاهتداء في الدنيا لأهل التوحيد يهديهم الله صراطه المستقيم، ويصور هذا
__________
(1) سورة النحل الآية 97
(2) سورة طه الآية 124
(3) سورة العنكبوت الآية 7
(4) سورة طه الآية 124(87/155)
الاهتداء كأحسن ما يكون التصوير الحديث المتقدم ذكره في هذا البحث: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها (1) » ، والاهتداء لهم في الآخرة يهديهم الله إلى غرفاتهم في الجنة وإلى ما أعده لهم فيها من صنوف النعيم، وأمن الأفراد أمن الجماعة إذ بصلاح الأفراد يصلح المجموع. ومقصود هذا المطلب بيان حاجة جماعة المسلمين إلى التوحيد لأنهم أحوج ما يكونون اليوم إلى الأمن، أن تأمن جماعتهم مما هو حال بهم من الضعف والعجز عن مقاومة العدو وتسلط الكفار عليهم بالقتل والجراح واحتلال ديارهم والتسلط على بعض مقدساتهم وإلحاق أنواع الإيذاء بهم، هذا حل بهم من خارجهم وهم أيضا أحوج ما يكونون إلى أن تأمن جماعتهم من الاختلاف والفرقة والتنافر والتباغض الواقع بينهم، وهذا حل بهم من داخلهم، والأمن من هذه المشكلات العامة لا يكون إلا بالتسليم لله بتوحيد خالص لا ظلم يتلبس به فبهذا يأمنون من تسلط العدو ويدرؤون تعديه عليهم لأنهم به ينالون ولاية الله، وقد قال سبحانه كما في الحديث القدسي المتقدم ذكره في هذا البحث: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب (2) » ، وقد وعد سبحانه من صبر لطاعته واتقاه بتوحيده ألا يضره كيد أعدائه وإن عظم فقال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (3)
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6502) .
(2) صحيح البخاري الرقاق (6502) .
(3) سورة آل عمران الآية 120(87/156)
وفي كتاب الله مثال يبين مقصودنا (1) فإن الله ذكر الحال التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته يوم الأحزاب يوم حاصرهم المشركون، قال سبحانه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ} (2) {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (3) وبين سبحانه العلاج الذي قابل به المسلمون هذه المشكلة العظيمة وحلوها به فقال: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (4) .
فالإيمان الكامل والتسليم لله ثقة به وتوكلا عليه هو حل هذه المشكلة وله كانت النتيجة لهذه المشكلة ما حكاه الله بقوله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} (5) .
فالإخلاص لله وتحقيق التوحيد له سبحانه هو حل مشكلات المسلمين المذكورة كما كان علاجا وسببا لحل مشكلة المسلمين يوم الأحزاب. وعلى نحو المثال السابق ورد قول الله عز وجل:
__________
(1) هذا المثال نبه إليه الشيخ محمد الأمين في أضواء في البيان 3\412.
(2) سورة الأحزاب الآية 10
(3) سورة الأحزاب الآية 11
(4) سورة الأحزاب الآية 22
(5) سورة الأحزاب الآية 25(87/157)
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (1) {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (2) فكانت قوة توحيدهم وإخلاصهم لله هي التي نفعتهم في هذه المشكلة العظيمة إذا قد جمع الناس لهم وجاءهم من يخوفهم ويثبطهم وكانت النتيجة أن انقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء.
فظهر بهذا أن حل مشكلات المسلمين الحالة بهم اليوم من خارجهم إنما تكون بإقامتهم التوحيد تاما صحيحا لله وحده بذلك يكفيهم الله عدوهم ومشكلاتهم وينقلبوا بنعمة من الله وفضل، وأما مشكلاتهم الحالة بهم من داخلهم فلا حل لها إلا بالاجتماع على توحيد الله وإقامة الوجه له والاعتصام بملته على الوجه الصحيح المستقيم يقول ربنا جل وعلا في ذلك: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) جاءت هذه الآية في ختام الوصايا
__________
(1) سورة آل عمران الآية 173
(2) سورة آل عمران الآية 174
(3) سورة الأنعام الآية 153(87/158)
العشر التي ابتدأها سبحانه بقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (1) وقال سبحانه آمرا عباده المؤمنين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (2) أي بدينه وتوحيده الذي بعث به رسوله، فظهر أن الالتزام بالتوحيد الصحيح المستقيم والاجتماع عليه وإقامة الوجه لله والتسليم له سبحانه هو العلاج الناجع لكل المشكلات التي يعانيها المسلمون اليوم، فبإتمامهم التوحيد لله وتحقيقهم له على الوجه المستقيم ينالون تمام ولاية الله وينقلبون بأمن واهتداء يسلمون بهما من كل مشكلة، فحاجتهم إلى التوحيد عظيمة فليدرسوه ويشتغلوا في تعلمه وتعليمه.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 151
(2) سورة آل عمران الآية 103(87/159)
المطلب الثالث: حاجة العصر إلى التزام المسلمين بالتوحيد الحق علما وعملا.
يشهد العصر تقدما عظيما في التقنيات المادية والمخترعات الصناعية حتى غدا العالم بسبب ذلك كالقرية الواحدة الصغيرة التي يعرف أهلها بعضهم بعضا لسهولة التواصل بينهم ويعرف بعضهم أحوال بعض وسائر أخباره وشأنه، لا يخفى في هذه القرية شيء، فدول العالم أصبحت كالبيوت في هذه القرية، وشعوبها كالأسر(87/159)
والقبائل في هذه البيوت (1) وكان من شأن هذا أن يوجد بين دول العالم من الأمن والتعاون والتحاب ما يكون بين أهل القرية الواحدة الصغيرة، ولكن الواقع بخلاف ذلك، فالضغائن وتوجس الدول بعضها من بعض دفع إلى تنافس لاهث بينها إلى حيازة الأسلحة القاتلة الفتاكة والتسابق إلى اختراع السلاح الأقوى تدميرا والأعلى فعالية والأسرع فتكا، وأصبح الأمن هاجسا صعب المنال، ليس ثمة طمأنينة ولا سكون بل حذر وترقب، اليد على الزناد، والنظر شاخص يمنة وشمالا، والكل يستعد لحرب عامة تدمر في أيام بل ساعات، هذا حال الدول والجماعات، أما الأفراد فالحال ذات الحال، فإن المخترعات التي تيسرت للفرد لم تبث في نفسه أمنا ولم تلبس قلبه سعادة بل أغرته بالإسراف في الرذائل والجرأة على الجرائم والافتتان بالشهوات حتى ألف قطع الوشائج الإنسانية ونقض المواثيق الروحية، فغرق في القلق والفراغ الروحي حتى وجد الأمن في أن ينتحر، وكم نقلت الأخبار عن نسب عالية مطردة في ارتفاعها لعدد المنتحرين في نواحي العالم. ولا علاج لهذا الواقع المرير إلا بالتوحيد الذي أخبر الله سبحانه أنه علق الأمن والاهتداء عليه وبه – كما تقدم بيانه في المطلب السابق – ولو أن العالم عرف هذه الحقيقة واتضحت له بينة جلية بلا شبهة لاتخذ
__________
(1) انظر الوحي المحمدي 19.(87/160)
التوحيد ضالته المنشودة يسعى إليه بكل قواه، فالعالم في حاجة ماسة إلى دلالته إلى التوحيد وقيادته به، وليس ثمة من يؤدي هذه المهمة إلا المسلمين إذ هم أهل التوحيد وهو في عهدتهم، تحمل ذمتهم مهمة تبليغه وقيادة الخلق به، ولكن حال المسلمين على الأمر الذي ذكرنا في المطلب السابق فهم أنفسهم في حاجة إلى فهم صحيح مستقيم للتوحيد وتطبيق صحيح مستقيم له، بل إن سوء حال المسلمين هو أهم الحجب المائعة من تنبه العالم إلى أن حلول أزماته في التوحيد لله رب العالمين، وإن سوء حالهم واستحواذ الجهل بحقيقة التوحيد عليهم صار حجة لمخالفيهم في عدم صلاحية دينهم فظهر بهذا شدة حاجة العصر إلى التزام المسلمين بالتوحيد الصحيح المستقيم علما وعملا ليمكن منهم نقل خير هذا إلى العالم وحل سائر معضلاته، وما دام الأمر كذلك فحاجة المسلمين إلى دراسة التوحيد وشدة العناية به تعلما وتعليما متأكدة.
فأين يذهب المطالبون بتمييع دراسة التوحيد وأصول الملة وتهميش شأنها وجعلها في حشو المقررات الدراسية؟!! وفي خاتمة هذا أنبه إلى أنه قد يعبر البعض عن حاجة العصر إلى التوحيد بحاجته إلى الإسلام، فأقول: نعم، ولكن إلى الإسلام الصرف الذي لا يلتبس بظلم الشرك والبدع المردودة، لا مجرد الإسلام الذي ضد الكفر فإننا قد بينا أن حال غالب أهله في حاجة(87/161)
إلى فهم الإسلام الصرف وتعلمه، في حاجة إلى التوحيد الذي هو أصل الإسلام ومعناه ومراده، والذي هو الحجة على من عمل بشرائع الإسلام وقارف نواقضه، كما أنه الحجة على من فهمه ولم يعمل بشرائع الإسلام، فلا إسلام بلا توحيد، والحمد لله وحده لا شريك له.
وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده.(87/162)
أسباب لرفع البلاء قبل وقوعه وأسباب لرفعة بعد وقوعه
للدكتورة: منيرة بنت محمد المطلق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (1) قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) ، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3) ، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) .
أما بعد: فقد أمرنا الله باتخاذ الأسباب النافعة الجالبة للخير والدافعة للشر مع التوكل على الله في إتمام النتائج وبالتسليم والرضا بقضائه وقدره – سبحانه – إن لم يتم المراد لأنه لا يقع للعبد من بلاء إلا بقضاء الله وقدره وعلى العبد دفعه، وإن وقع فعليه الصبر ومحاولة رفعه ويكون
__________
(1) أخرجه مسلم: 2\593.
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70(87/163)
منعه مثل الدعاء. قال صلى الله عليه وسلم: «لا يرد القدر إلا الدعاء (1) »
والأسباب جميعها من قدر الله التي جعل الله للإنسان السعي فيها، وهذا ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما خرج للشام فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام فقال بعض الصحابة: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. فقال أبو عبيدة بن الجراح «أفرار من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه " قال: فحمد الله عمر ثم انصرف (2) » .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه: 2\1334، وأحمد: 5\277، والحاكم بلفظه 1\670، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وتابعه الذهبي.
(2) أخرجه البخاري: 5\2163.(87/164)
أهمية هذا البحث: ظهرت أهمية هذا الموضوع من حيث: - تمسك بعض العوام بقول: «اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه (1) » وجعلوه حديثا فتخلوا عن فعل الأسباب الدافعة والرافعة للبلاء ومن أهمها الدعاء.
- غفلة كثير من الناس عن أسباب دفع البلاء والنقم وأسباب رفعها، وأسباب نزول النعم ودوامها.
- أن دفع البلاء أهون من رفعه.
- أن دفع البلاء ورفعه يكون باتخاذ الأسباب المشروعة لا بالذهاب إلى الكهنة والسحرة والعرافين.
__________
(1) لم أجده في كتب السنة أو الأحاديث الضعيفة والموضوعة(87/165)
منهجي في البحث:
1 - إن كثيرا من الأسباب الدافعة أو الرافعة للبلاء لها فوائد عديدة في الدنيا والآخرة، ولكن لم أذكر إلا ما يخص البحث وهو دفع البلاء ورفعه في الدنيا.
2 - إن هناك أسبابا كثيرة لدفع البلاء، وأدوية لا تحصى لرفع البلاء جاء ذكرها في الشريعة لم أوردها لأني لم أقصد الاستيعاب والحصر بل ضرب الأمثلة؛ لأنها تحتاج إلى أسفار عديدة لكثرتها.
3 - ولأن دفع البلاء أهون من رفعه أوردت أسبابا لدفع البلاء أكثر من إيراد أسباب لرفعه لأن الوقاية مقدمة على العلاج وخير منه.(87/165)
خطوات البحث: وتتكون من تمهيد وفصلين وخاتمة وفهارس.
تمهيد: معنى البلاء لغة واصطلاحا.
الفصل الأول: أسباب دفع البلاء قبل وقوعه، وفيه ثلاث عشر مبحثا هي:
المبحث الأول: عبادة الشكر.
المبحث الثاني: التقوى.
المبحث الثالث: عبادة التزود بالطاعات وترك المحرمات.
المبحث الرابع: عدم التعرض لأولياء الله.
المبحث الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المبحث السادس: الحمد باللسان عند رؤية المبتلى.
المبحث السابع: صلة الرحم والبعد عن الظلم.
المبحث الثامن: إسداء وصنع المعروف للناس.
المبحث التاسع: التحرزات الليلية.
المبحث العاشر: عبادة الاستعاذة.
المبحث الحادي عشر: استيداع العبد الله الأشياء.
المبحث الثاني عشر: الأخذ بالتوجيهات الشرعية عند رؤية الرؤى.(87/166)
المبحث الثالث عشر: حفظ الأطفال.
الفصل الثاني: أسباب رفع البلاء بعد وقوعه وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: الحبة السوداء.
المبحث الثاني: حديث «الشفاء في ثلاث (1) » .
المبحث الثالث: الصبر.
المبحث الرابع: ماء زمزم.
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5680) ، سنن ابن ماجه الطب (3491) ، مسند أحمد (1/246) .(87/167)
التمهيد: معنى البلاء في اللغة والاصطلاح:
أولا: معنى البلاء في اللغة:
البلية والبلوى والبلاء واحد، والجمع البلايا، وبلاه جربه واختبره، وقولهم: لا أبليه، أي لا أكترث له، وبلي الثوب بالكسر بلى بالقصر، فإن فتحت الباء مددته، وبلاء بالفتح والمد خلق فهو بال وبلي الميت أفنته الأرض.
والبلاء الإنعام، يقال: بلوت الرجل، وأبليت عنده، بلاء حسنا، والبلوى اسم من بلاه الله يبلوه، وأبلاه عذرا أداه إليه فقبله، وكذلك أبلاه جهده، ويقال: بالى فلان فلانا مبالاة إذا فاخره وبالاه يباليه إذا ناقصه، وبالى بالشيء يبالي به إذا اهتم به، وقيل: اشتقاق باليت من البال بال النفس وهو الاكتراث، ورجل بلو شر وبلي خير أي قوي عليه مبتلى به، وإنه(87/167)
لبلو، وبلي من أبلاء المال أي قيم عليه، وفلان بلي أسفار إذا كان قد بلاه السفر والهم ونحوهما، ولا أباليه لا أكترث له.(87/168)
ثانيا: معنى البلاء في الاصطلاح:
ذكر الطبري أن البلاء هو الامتحان والاختبار بشدائد الأمور. (1) وذكر القرطبي أن البلاء هو الامتحان والاختبار من الله للعبد، وقد يكون حسنا، وقد يكون سيئا. (2)
__________
(1) انظر جامع البيان الطبري: 2\41، 1\275.
(2) انظر الجامع لأحكام القرآن القرطبي: 1\387.(87/168)
وقد ذكر الإمام ابن القيم: أن الله سبحانه ابتلى العباد بالنعم كما ابترهم بأنواع النقم وعد ذلك كله ابتلاء، قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1) ، وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (2) ، وقال: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي} (3) {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي} (4) ، وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (5) ، وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (6) وقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (7) ، فأخبر سبحانه وتعالى أنه خلق العالم العلوي والسفلي، وقدر أجل الخلق، وخلق ما على الأرض للابتلاء والاختبار، وهذا الابتلاء إنما هو
__________
(1) سورة الأعراف الآية 168
(2) سورة الأنبياء الآية 35
(3) سورة الفجر الآية 15
(4) سورة الفجر الآية 16
(5) سورة الكهف الآية 7
(6) سورة الملك الآية 2
(7) سورة هود الآية 7(87/169)
ابتلاء صبر العباد وشكرهم في الخير والشر، والسراء والضراء، فالابتلاء من النعم من الغنى والعافية والجاه والقدرة، وهي أعظم الابتلاءين، والصبر على طاعة الله أشق الصبرين، كما قال الصحابة رضي الله عنهم: ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر، فالرب تعالى يبتلي بنعمه وينعم بابتلائه، غير أن الصبر والشكر حالتان لازمتان للعبد في أمر الرب ونهيه وقضائه وقدره لا يستغنى عنهما طرفة عين، والسؤال عن أيهما أفضل كالسؤال عن الحس والحركة أيهما أفضل، وعن الطعام والشراب أيهما أفضل، وعن خوف العبد ورجائه أيهما أفضل، فالمأمور لا يؤدى إلا بصبر وشكر، والمحظور لا يترك إلا بصر وشكر، وأما المقدور الذي يقدر على العبد من البلاء فمتى صبر عليه اندرج شكره في صبره كما يندرج صبر الشاكر في شكره، ومما يوضح هذا أن الله سبحانه امتحن العبد بنفسه وهواه وأوجب عليه جهادهما في الله في كل وقت حتى تأتي - أي نفسه - بالشكر المأمور به ويصبر عن الهوى المنهي فلا ينفك العبد عنهما غنيا كان أو فقيرا معافى أو مبتلى وهذه هي مسألة الغني الشاكر والفقير الصابر. (1)
__________
(1) انظر: عدة الصابرين ابن القيم: 1\125.(87/170)
يقول الشاعر:
قد يبتلي الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله القوم بعض القوم بالنعم
(1) فالابتلاء يكون بالخير والشر، يقول الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (2) لكن الغالب من الآيات والأحاديث أنها تقصر معنى البلاء على الشر، فمن هذه الآيات قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (3) يقول الطبري: وقوله: بشيء من الخوف يعني من الخوف من العدو، وبالجوع وهو القحط، يقول: لنختبركم بشيء من خوف ينالكم من عدوكم وبسنة تصيبكم ينالكم فيها مجاعة وشدة وتعذر المطالب عليكم فتنقص لذلك أموالكم وحروب تكون بينكم وبين أعدائكم من الكفار فينقص لها عددكم وموت ذراريكم وأولادكم وجدوب تحدث فتنقص لها ثماركم كل ذلك امتحان مني لكم واختبار مني لكم فيتبين صادقكم في إيمانه من كاذبيكم فيه ويعرف أهل البصائر في دينهم منكم من أهل النفاق فيه والشك والارتياب كل ذلك خطاب منه لأتباع رسول الله وأصحابه. (4) ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) البيت لأبي تمام انظر ديوانه: 1\314.
(2) سورة الأنبياء الآية 35
(3) سورة البقرة الآية 155
(4) جامع البيان الطبري: 1\41.(87/171)
«لا يغني حذر من قدر والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاء والبلاء ليعتلجان بين السماء والأرض (2) »
وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أحسن عاقبتي في الأمور كلها، وأجرني من خزي الدنيا وعذاب الآخرة (3) » ، قال: «من كان ذلك دعاءه مات من قبل أن يصيبه البلاء (4) »
__________
(1) أخرجه الحاكم: 1\169، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وتابعه الذهبي، والطبراني في الأوسط: 3\66.
(2) يعتلجان أي يتدافعان، تلخيص الحبير ابن حجر 4\121. (1)
(3) مسند أحمد (4/181) .
(4) أخرجه أحمد: 4\181، وابن حبان: 3\229، وقال: شعيب الأرناؤوط: '' إسناده حسن ''، والطبراني في الكبير: 3\33، والحاكم: 3\683، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 10\178: رواه أحمد والطبراني وزاد، وقال: من كان ذلك دعاءه مات قبل أن يصيبه البلاء. ورجال أحمد وأحد أسانيد الطبراني ثقات.(87/172)
الفصل الأول: أسباب دفع البلاء قبل وقوعه:
وفيه ثلاثة عشر مبحثا:
المبحث الأول: عبادة الشكر.
المبحث الثاني: عبادة التقوى.
المبحث الثالث: التزود بالطاعات وترك المحرمات.
المبحث الرابع: عدم التعرض لأولياء الله.
المبحث الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المبحث السادس: الحمد باللسان عند رؤية المبتلى.
المبحث السابع: صلة الرحم والبعد عن الظلم.(87/172)
المبحث الثامن: إسداء وصنع المعروف للناس.
المبحث التاسع: التحرزات الليلية.
المبحث العاشر: عبادة الاستعاذة.
المبحث الحادي عشر: استيداع العبد الأشياء لله.
المبحث الثاني عشر: الأخذ بتوجيه المصطفى صلى الله عليه وسلم عند رؤية الرؤى.
المبحث الثالث عشر: حفظ الأطفال
البحث:
التمهيد:
لقد جعل الله سبحانه أسبابا لدفع البلاء قبل وقوعه وأسبابا لرفعه بعد وقوعه وكما هو معلوم بالضرورة أن دفع البلاء أهون من رفعه وليس هناك مقارنة في ذلك.
عبادة الشكر:
إن شكر الله وحده والثناء عليه – سبحانه – يعتبر من العبادات والتي يشترك فيها جميع الجوارح، وهي أيضا من العبادات البدنية والمالية.(87/173)
ومعنى الشكر في اللغة:
يقول ابن منظور: (الشكر عرفان الإحسان ونشره) (1) أما الرازي فقد قال: إن (الشكر الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف. . . والشكران ضد الكفران) (2)
__________
(1) لسان العرب ابن منظور: 4\423.
(2) مختار الصحاح الرازي: 344.(87/174)
تعريف الشكر اصطلاحا:
شكر الله: ثناء عليه بنعمه وأياديه والاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع، وقيل الشكر الثناء على المحسن بذكر إحسانه، وهو أن تعلم أن النعمة من الله وحده.
وقد وردت آيات كثيرة لبيان حال الناس تجاه عبادة الشكر مع أنها من أفضل الطاعات، منها قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (1) لأن
__________
(1) سورة سبأ الآية 13(87/174)
الكثير من الناس يكون متسخطا فلا يرضى بنعمة، ولا يصبر على بلاء ولا يؤدي حق النعمة التي هو فيها بل قد يستخدمها بما حرم الله تعالى ويجحد النعم بإخفائها خوفا من العين، وقد أمر بالتحدث بها، قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده (2) » وذكر الإمام ابن القيم أن الله إذا سلب العبد النعمة ظل متسخطا على ربه، شاكيا لربه لا يصلح له على عافية ولا على ابتلاء. العافية تلقيه إلى مساخطه والبلاء يدفعه إلى كفرانه وجحود نعمته وشكايته إلى خلقه ومع هذا فلم يؤيسه – سبحانه – من رحمته بل قال في الحديث القدسي: «متى جئتني قبلتك، إن أتيتني ليلا قبلتك، وإن أتيتني نهارا قبلتك، وإن تقربت مني شبرا تقربت منك ذراعا، وإن تقربت مني ذراعا تقربت منك باعا، ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا أتيتك بقرابها مغفرة ولو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك (3) » وقد أثنى الله عز وجل على عبده نوح بكثرة الشكر فقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} (4) ابن عباس رضي الله عنه عن الشكور الذي يشكر
__________
(1) سورة الضحى الآية 11
(2) أخرجه الترمذي: 5\123، وقال: حديث حسن. وأحمد: 2\311، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
(3) أخرجه مسلم بنحوه ج 4 ص 2068، وانظر مدارج السالكين ابن القيم 1\194.
(4) سورة الإسراء الآية 3(87/175)
قال على أحواله كلها (1) وهذا كان حال نبينا صلى الله عليه وسلم الذي قال لمن تعجب من قيامه لدرجة تفطر قدماه، وقد غفر له من تقدم من ذنبه وما تأخر: «أفلا أكون عبدا شكور (2) » والمؤمن حاله بين الشكر والصبر، قال صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له (3) » لأن الله يختبر عباده دائما بالشكر ولصبر، وحياة الإنسان تمر بالأحداث التي تسبب الشكر والصبر، فالله يختبر عباده بالشدة أو الرخاء، والمؤمن الحقيقي هو الذي يحمد ربه في كل حال. لكن بعض الناس لا يصبرون على الضراء ولا يشكرون في الرخاء فقد يظن أن النعمة منه وليس من الله فلذلك لا يشكر الله على نعمه، والذي يؤمن بالله ويعرفه حق المعرفة إذا أصابته مصيبة أو نعمة يعرف أن هذا ليس إلا امتحانا، قال تعالى عن سليمان عليه السلام: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (4) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ومما يظهر الأمر ما ابتلى الله به عباده في الدنيا من السراء والضراء. وقال سبحانه: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي} (5) {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي} (6)
__________
(1) انظر روح المعاني الألوسي: 22\120.
(2) أخرجه البخاري: 1\380.
(3) أخرجه مسلم ج 4 ص 2295.
(4) سورة النمل الآية 40
(5) سورة الفجر الآية 15
(6) سورة الفجر الآية 16(87/176)
يقول الله سبحانه: إنه ليس الأمر كذلك، ليس إذا ما ابتلاه فأكرمه ونعمه يكون ذلك إكراما، وليس إذا ما قدر عليه رزقه يكون ذلك إهانة، بل هو ابتلاء في الموضعين وهو الاختبار والامتحان فإن شكر الله على الرخاء وصبر على الشدة كان كل واحد من الحالين خيرا له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن (1) » وإن لم يشكر ولم يصبر كان كل واحد من الحالين شرا له (2) ونعم الله على عباده لا تحصى لكثرتها كالحواس والصحة والمال والولد وغيرها، فلا يطاق شكرها، قال عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) ، ومع ذلك فإن الله غفور رحيم بكم لما كان منكم من تقصير في الشكر إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته، رحيم بكم أن يعذبكم عليه بعد الإنابة إليه، والتوبة فلا تبدلوا نعمة الله بالكفر. (4)
وشكر الله يكون بالقلب وذلك بنسبة النعم إلى الله وأما شكر اللسان فهو بالثناء عليه وحفظه من اللغو.
__________
(1) أخرجه مسلم ج 4 ص 2295.
(2) قاعدة في المحبة ابن تيمية: 1\156، والفتاوى الكبرى ابن تيمية: 1\262.
(3) سورة النحل الآية 18
(4) انظر: جامع البيان الطبري: 14\93.(87/177)
أما بقية الجوارح فيكون شكر الله بها عن طريق استخدامها في طاعة الله وتجنيبها المعاصي، فمثلا شكر العينين غضهما عن محارم الله تعالى، وعن عيوب الناس، وحثهما على قراءة المصحف وكتب العلم، وشكر الأذنين صرفهما عن سماع عيوب الناس، وعما لا يحل سماعه من الأغاني والمعازف وغيرها واستخدامهما بالطاعات وسماع القرآن والعلم النافع، وشكر اليدين كفهما عن أموال الناس، من شكر اليدين الإنفاق وكتابة العلم النافع واستعمالهما بما ينفع نفسه وغيره، وشكر الرجلين كفهما عن المشي في معصية الله (1) وحثهما على المشي إلى ما فيه مرضاة الله سبحانه. فجميع العبادات التي أوجبها الله علينا إنما وجبت شكرا على النعم فالله سبحانه غني عنا مغن لنا فنحن المحتاجون إليه.
__________
(1) انظر: حدائق الحقائق الرازي: 134.(87/178)
دفع الشكر للبلاء قبل وقوعه:
الحمد والشكر سبب لزيادة النعم ودفع البلاء والنقم، فالنعمة طير والشكر جناحاها، فإذا شكرت النعمة قرت وإذا كفرت فرت، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (1) فكما أن هذه الآية دليل على أن الشكر لزيادة النعم فهي دليل على أن كفر النعم سبب لزوالها لأنه سبحانه قال: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (2) ونعم الله على الناس
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 7
(2) سورة إبراهيم الآية 7(87/178)
كثيرة، فقد أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب وخلقهم في أحسن تقويم وأعطاهم الأعضاء المختلفة الوظائف من أبصار وأسماع، وكل ذلك إنعاما محضا من غير أن يسبق من العبد ما يوجب استحقاقه شيئا من نعم الله. ومقابل ذلك يجب عليهم الاستقامة على طريق الإسلام، والقيام بأوامر الله واجتناب نواهيه وهذا هو الشكر. ليكون عمل كل عضو شكرا لم أنعم عليه في ذلك، ومنها نعمة المفاصل اللينة والجوارح المنقادة التي بها يقدر على استعمالها في الأحوال المختلفة من القيام والقعود والركوع والسجود، والصلاة تشتمل على هذه الأحوال، فأمرنا باستعمال هذه النعم الخاصة في هذه الأحوال، في خدمة المنعم شكرا لهذه النعمة، وشكر النعمة فرض عقلا وشرعا، ومنها أن الصلاة وكل عبادة خدمة للرب – جل جلاله – وخدمة المولى على العبد لا تكون إلا فرضا، والعزيمة هي شغل جميع الأوقات بالعبادات بقدر الإمكان (1) ؛ لأن العبد في أوقات ليله ونهاره لا يخلو من ذنب أو خطأ أو زلة تقصير في العبادة وقد سبق إليه من الله – تعالى – من النعم والإحسان، ولو أراد أحد شكر ذلك كله لم يقدر على أداء شكر واحد منها فضلا عن أن يؤدي شكر الكل فيحتاج العبد إلى تكفير ذلك التقصير في الشكر إذ هو فرض عليه، لذا فرضت الصلوات الخمس تكفيرا لذلك (2) وكذا فإن
__________
(1) انظر: كتاب بدائع الصنائع الكاساني: 1\90.
(2) انظر: كتاب بدائع الصنائع الكاساني: 1\91.(87/179)
الصوم وسيلة إلى شكر النعمة، إذ هو كف النفس عن الأكل والشرب والجماع، وهذه من أجل النعم والامتناع عنها زمانا يبين قدرها فيحمله ذلك على قضاء حقها بالشكر وشكر النعم فرض عقلا وشرعا وإليه أشار الرب تعالى في قوله في آية الصيام: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) (2) وهناك أنواع من العبادة كالصدقة والتلاوة تعد من وسائل شكر الله تعالى (3) ولأن توفية شكر الله – تعالى – صعبة، كما تقدم لذا لم يثن – سبحانه – بالشكر على أحد من أوليائه (4) إلا على اثنين هما نوح وإبراهيم عليهما السلام، قال تعالى عن نوح عليه السلام: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} (5) ، وقال عن إبراهيم عليه السلام: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (6) (7) فعلى العبد المداومة على الشكر لا لحاجة الله إليه ولكن لينال به المزيد من فضله، فجعل كفران نعمه والاستعانة بها على مساخطه من أكبر أسباب صرفها عنه وأمره بذكره ليذكره بإحسانه فجعل نسيانه سببا لنسيان الله له
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) انظر التعليق الصبيح على مشكاة المصابيح الكاندهلوي: 2\368.
(3) المصدر السابق: 2\368.
(4) قال تعالى: (وقليل من عبادي الشكور) .
(5) سورة الإسراء الآية 3
(6) سورة النحل الآية 121
(7) انظر روح المعاني لأبي الثناء محمود الألوسي: 13\189.(87/180)
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) ، {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) لقد أمر الله العبد بسؤاله ليعطيه فلم يسأله بل أعطاه أجل العطايا بلا سؤال، فلم يقبل ولم يرض بل شكا من يرحمه إلى من لا يرحمه ويتظلم ممن لا يظلمه إلى من يظلمه (3) وذكر ابن القيم أن الشكوى نوعان: شكوى بلسان المقال، وشكوى بلسان الحال وهي أشدها، فيظهر وملابسه مهترئة مدعيا الفقر (4) ولو نظر ابن آدم لنعم الله في نفسه لشكره وما كفره، قال صلى الله عليه وسلم: «من أصبح معافى في بدنه آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا (5) »
ويؤدي المسلم شكر يومه إذا قال حين يصبح: «اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى
__________
(1) سورة الحشر الآية 19
(2) سورة التوبة الآية 67
(3) انظر: مدارج السالكين ابن القيم: 2\193.
(4) انظر: عدة الصابرين ابن القيم: 125.
(5) أخرجه ابن ماجه: 2\1387، وابن حبان: 2\446، والطبراني في الأوسط 2\230، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 10\289: رواه الطبراني ووثقوا على ضعف في بعضهم.(87/181)
شكر يومه، ومن قال ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته (1) »
__________
(1) أخرجه أبو داود: 4\318، وابن حبان: 3\143، قال ابن حجر في فتح الباري: 11\131: أخرجه أبو داود والنسائي وصححه بن حبان.(87/182)
المبحث الثاني: التقوى
التقوى من أعظم أسباب جلب السعادة ودفع البلاء، وترك التقوى سبب لكل عسير؛ لأن الله عز وجل مع المتقين.
يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (1) (2) وهو سبحانه وليهم، يقول سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (3) .
ومعنى التقوى في اللغة: هي اسم من وقى بمعنى صان وحفظ وهي بمعنى الحذر والحماية (4)
__________
(1) سورة النحل الآية 128
(2) انظر: التبيان في أقسان القرآن ابن القيم 1\37.
(3) سورة الجاثية الآية 19
(4) انظر لسان العرب ابن منظور: 15\401-403، الصحاح للجوهري: 6\2527.(87/182)
ومعنى التقوى في الاصطلاح: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: التقوى هي فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه (1) والتقوى ليست كلمة تقال باللسان، بل هي مستقرة بالقلب وتصدقها الجوارح، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " التقوى
__________
(1) مجموع الفتاوى ابن تيمية: 3\614.(87/182)
هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات " (1)
__________
(1) أخرجه مسلم: 4\1986.(87/183)
دفع التقوى للبلاء قبل وقوعه:
إن من تدبر جزاء وثواب التقوى في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم علم بأنها سبب كل خير في الدنيا والآخرة، فإذا قرأت كتاب ربك من أوله إلى آخره وجدت التقوى مفتاح كل مسرة ومغلاق كل مضرة في الدنيا والآخرة، وهي سبب لدفع البلاء، ولا تأتي البلايا والمحن والعقوبات إلا بسبب الإهمال أو الإخلال بالتقوى وإضاعتها، أو إضاعة جزء منها، التقوى لها فوائد عديدة في الدنيا والآخرة، ومن فوائدها وثمارها في الدنيا جلب الخير ودفع البلاء – بإذن الله – فهي سبب لحصول الرحمة واندفاع النقمة، يقول الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وهي سبب للفلاح والنجاح ودفع الفشل والانحطاط، يقول سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) ومن فضائل التقوى أيضا الأمن من الخوف والحزن، يقول الله تعالى: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) ، والتقوى سبب للتيسير واليسر على المتقي لربه، يقول الله تعالى:
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10
(2) سورة المائدة الآية 100
(3) سورة الأعراف الآية 35(87/183)
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} (1) {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (2) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (3) ويقول تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (4) ، وبالتقوى يندفع الفقر ويحل الرزق ذكر الله عز وجل ذلك في آيات منها: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (5) فمن أقام الدين فقد اتقاه سبحانه، يقول الطبري: وأما معنى قوله: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (6) فإنه يعني لأنزل الله عليهم من السماء قطرها فأنبتت به الأرض حبها ونباتها فأخرج ثمارها، وأما قوله: {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (7) فإنه يعني تعالى ذكره لأكلوا من بركة ما تحت أقدامهم من الأرض وذلك ما تخرجه الأرض من حبها ونباتها وثمارها وسائر ما يؤكل مما تخرجه الأرض (8) بلا كد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء بل في سرور وحبور، وقال بعضهم: معناه لكانوا في خير كما يقول القائل: هو في الخير من قرنه إلى قدمه (9) وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (10) .
__________
(1) سورة الليل الآية 5
(2) سورة الليل الآية 6
(3) سورة الليل الآية 7
(4) سورة الطلاق الآية 4
(5) سورة المائدة الآية 66
(6) سورة المائدة الآية 66
(7) سورة المائدة الآية 66
(8) جامع البيان الطبري: 5\305.
(9) انظر: جامع البيان الطبري: 5\305.
(10) سورة الأعراف الآية 96(87/184)
يقول ابن كثير: أي آمنت قلوبهم بما جاء به الرسل وصدقت به واتبعوه بفعل الطاعات وترك المحرمات لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، أي قطر السماء ونبات الأرض، وقال تعالى: {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (1) أي ولكن كذبوا رسلهم فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم (2) وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4) ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (5) (6)
يقول الشوكاني عند هذه الآية: {مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (7) قال من حيث لا يدري (8) وقال ابن
__________
(1) سورة الأعراف الآية 96
(2) تفسير القرآن العظيم ابن كثير: 2\234
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3
(5) سورة الطلاق الآية 2
(6) أخرجه الدارمي: 2\392، وقال الألباني في ضعيف الجامع الصغير 6372: ضعيف.
(7) سورة الطلاق الآية 3
(8) فتح القدير الشوكاني: 5\243.(87/185)
كثير: أي ومن يتق الله فيما أمره به وترك ما نهاه عنه يجعل له في أمره مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، أي من جهة لا تخطر بباله (1)
فالذي يتقي الله ينجيه الله عز وجل من كل كرب من كرب الدنيا والآخرة ويجعل له من كل شيء ضاق على الناس مخرجا (2)
وفي التقوى حفظ من الشيطان وشره، ودفع لوسواسه وتلبسه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (3) .
__________
(1) تفسير القرآن العظيم ابن كثير 4\380.
(2) انظر: جامع البيان الطبري: 28\138.
(3) سورة الأعراف الآية 201(87/186)
المبحث الثالث: التزود بالطاعات وترك المحرمات:
وكلما زاد العبد طاعة لله كلما ازداد بعدا عن المعاصي واقترب من الله فيكون في مأمن مما يشقيه.
دفع الطاعات والورع للبلاء: إن الإكثار من الطاعات وحفظ الفرائض وترك المحرمات سبب لدفع البلاء وجلب الخير والسرور ودوام الحبور، لأن حفظ الأوامر والفرائض بفعلها وعدم تركها أو التساهل بأدائها وحفظ الأدعية والأذكار بقولها، وحفظ الحدود بالوقوف عندها من أسباب حفظ الله للعبد في دنياه(87/186)
من الذنوب وعن كل أمر يكرهه ويحفظ ذريته من بعده، يقول صلى الله عليه وسلم: «يا غلام، إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف (1) »
يقول الصنعاني: المراد من قوله (احفظ الله) أي حدوده وعهوده وأوامره ونواهيه وحفظ ذلك هو: الوقوف عن أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده ألا يتجاوزها ولا يتعدى ما أمر به إلى ما نهي عنه، فيدخل في ذلك فعل الواجبات كلها من الصلاة والصيام والحج والزكاة وغيرها، وترك المنهيات كلها من الكبائر والصغائر، وقال تعالى: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} (2) ، وقال: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} (3) ، وفسر العلماء الحفيظ بالحافظ لأوامر الله، وفسر بالحفظ لذنوبه حتى يرجع منها، فأمره صلى الله عليه وسلم بحفظ الله،
__________
(1) أخرجه أحمد 1\293 والترمذي 4\667، وقال: حديث حسن صحيح. والحاكم 3\541، وأبو يعلى في مسنده: 3\84، وقال محققه حسين أسد: صحيح. وقال المحقق لكتاب ابن رجب نور الاقتباس: حديث صحيح بطرقه. 270.
(2) سورة التوبة الآية 112
(3) سورة ق الآية 32(87/187)
ويدخل فيه كل ما ذكر وتفاصيلها واسعة، وقوله: " تجده أمامك " وفي اللفظ الآخر " يحفظك " والمعنى متقارب أي تجده أمامك بالحفظ لك من شرور الدارين، يحفظه في دنياه عن غشيان الذنوب وعن كل أمر مرهوب ويحفظ ذريته من بعده، وقوله: " فاسأل الله " أمر بإفراد الله عز وجل بالسؤال وإنزال الحاجات به وحده، وأخرج الترمذي مرفوعا: «سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل (1) »
وفيه من حديث أبي هريرة مرفوعا: «من لا يسأل الله يغضب عليه (2) » وفيه: «إن الله يحب الملحين في الدعاء» ، وفي حديث آخر: «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله (3)
__________
(1) أخرجه الترمذي: 5\565، والطبراني في الكبير: 8\431، وقال الألباني في السلسة الضعيفة 1\705: ضعيف جدا.
(2) أخرجه الترمذي: 5\456، والحاكم: 1\667، وقال: صحيح الإسناد. والشهاب في مسنده: 2\145، وذكر ابن حجر في الفتح: 11\95 أن الطبراني أخرجه في الدعاء بسند رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة بقية عن عائشة مرفوعا.
(3) أخرجه النسائي في الكبرى: 5\154، وابن حبان: 3 \148، والطبراني في الأوسط: 5\230، والكبير: 10\101، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 10\150، رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير سيار بن حاتم وهو ثقة.(87/188)
إذا انقطع إذا انقطع» «وقد بايع النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم جماعة من الصحابة على ألا يسألوا الناس شيئا منهم الصديق وأبو ذر وثوبان» «وكان أحدهم يسقط سوطه أو يسقط خطم نافته فلا يسأل أحدا أن يناوله (1) » وإفراد الله بطلب الحاجات دون خلقه دل عليه العقل والسمع فإن السؤال بذل لماء الوجه وذل لا يصلح إلا لله تعالى لأنه القادر على كل شيء الغني مطلقا والعباد بخلاف هذا ففي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي: «يا عبدي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر (2) » وفي رواية أخرى بزيادة: «إني جواد
__________
(1) أخرجه أبو داود: 3\12، وابن ماجه: 2\957، وقال الألباني في سنن أبي داود: 1642: صحيح.
(2) أخرجه مسلم: 4\1994.(87/189)
ماجد أفعل ما أريد عطائي كلام وعذابي كلام إذا أردت شيئا فإنما أقول له كن فيكون (1) » وقوله: «إذا استعنت فاستعن بالله (2) » مأخوذ من قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) أي نفردك بالاستعانة فالنبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أمره أن يستعين بالله وحده في كل أموره أي إفراده بالاستعانة على ما يريده، وفي إفراده تعالى بالاستعانة فائدتان فالأولى: أن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في الطاعات، والثانية: أنه لا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المعان (4)
ومثل هذا الكلام ذهب إليه ابن رجب بقوله: معناه أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويسدده {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (5) ،
__________
(1) أخرجه الترمذي: 4 \656، وقال: هذا حديث حسن. وابن ماجه: 2\1422، وأحمد: 5\154.
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، مسند أحمد (1/308) .
(3) سورة الفاتحة الآية 5
(4) سبل السلام الصنعاني: 4\176.
(5) سورة النحل الآية 128(87/190)
قال قتادة: من يتق الله يكن معه ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام والهادي الذي لا يضل، بل كتب بعض السلف إلى أخ له: أما بعد فإن كان الله معك فمن تخاف، وإن كان عليك فمن ترجو، وهذه المعية الخاصة هي المذكورة في قوله تعالى لموسى وهارون: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (1) ، وقول موسى: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (2) فهذه المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة (3) وهذا الحفظ يشمل عمل جميع الطاعات والأذكار بفعلها وترك جميع المحرمات فإذا فعل ذلك حفظ، يقول ابن رجب: فمن حفظ الله حفظه من كل أذى. قال بعض السلف: من اتقى الله حفظ نفسه، ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه، والله غني عنه. ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطباع حافظة له من الأذى كما جرى لسفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم حين كسر به المركب وخرج إلى جزيرة فرأى الأسد فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق فلما أوقفه عليها جعل يهمهم كأنه يودعه ثم رجع عنه (4) وعكس هذا أن من ضيع الله ضيعه
__________
(1) سورة طه الآية 46
(2) سورة الشعراء الآية 62
(3) جامع العلوم والحكم ابن رجب: 188.
(4) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9\366، والذهبي في السير: 3\173.(87/191)
فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم، كما قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي.
وهذا هو النوع الأول، والنوع الثاني من الحفظ: وهو أشرف النوعين حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرمة ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان، لأن العبد حفظ نفسه فحفظه الله، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أمره أن يقول عند منامه: «إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين (1) » وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة أن يقول: «اللهم احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا ولا تطمع في عدوا ولا حاسدا (2) » فإن الله عز وجل يحفظ المؤمن الحافظ لحدود دينه ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ، وقد لا يشعر العبد ببعضها (3) وبعضها يكون معجزة أو كرامة، كما حصل من انفلاق البحر لموسى عليه السلام وقومه وانطباقه على فرعون وجنوده، وكما حصل
__________
(1) أخرجه البخاري: 5\2329.
(2) أخرجه ابن حبان: 3\214، والحاكم: 1\706، وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه
(3) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 87(87/192)
لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين حين التقى المسلمون الأعداء، فولى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فغشي الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته الشهباء، فنزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: «شاهت الوجوه) فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله عز وجل، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين (1) » وما حصل للعلاء بن الحضرمي عندما بعثه أبو بكر الصديق في جيش قبل البحرين وكانوا قد ارتدوا، فسار إليهم وبينه وبينهم البحر - يعني الرقراق - حتى مشوا فيه بأرجلهم، فقطعوا كذلك مكانا كانت تجري فيه السفن، وهي اليوم تجري فيه أيضا، فقاتلهم، وأظهره الله عليهم وبذلوا الزكاة) (2) (3) فالله عز وجل له أسماء لا تحصى، منها اسم (الحفيظ) وله معنيان
__________
(1) أخرجه مسلم: 3\1402
(2) أخرجه الطبراني في الكبير: 18\96، وانظر سير أعلام النبلاء الذهبي: 1\264
(3) انظر: جامع العلوم والحكم ابن رجب 87(87/193)
: الأول: حفظه لجميع ما يصدر من عباده؛ خيرا كان أو شرا. الثاني: حفظه لعباده من جميع ما يكرهون، وهو نوعان خاص: وعام.
العام: حفظه لجميع المخلوقات بتيسيره لها ما يقيتها وتمشي به إلى هدايته، قال تعالى {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (1) ، وهذا يشترك به الحيوانات والناس، كالهداية للمأكل والمشرب وغيره.
الخاص: وهذا لا يكون إلا لأوليائه الذين حفظوه فيحفظهم مما يضر إيمانهم أو يزلزل يقينهم من الشبه أو الفتن أو الشهوات، ويحفظهم من أعدائهم ويدفع عنهم كيد الإنس والجن: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (2) وهذا عام في دفع جميع ما يضرهم في دينهم ودنياهم (3)
فالعبد إذا حافظ على ما فرضه الله عليه من الطاعات، وحافظ على حدود الله من الكبائر والموبقات باجتنابها، وحافظ على الأذكار والتي منها (أذكار الصباح والمساء ودخول الأماكن واللبث فيها والخروج منها، وأذكار النوم والأكل واللبس) حفظه سبحانه وتعالى في دينه ونفسه وعرضه وولده وأهله وماله من كل شر، ووقاه من كل ما يكره، وحفظه من الوقوع في المعاصي، فيكون في صحة وسعادة في الدنيا والآخرة محفوظا من البلاء، فهو في سرور وحبور.
__________
(1) سورة طه الآية 50
(2) سورة الحج الآية 38
(3) انظر شرح أسماء الله الحسنى الشيخ سعيد القحطاني: 112-115(87/194)
المبحث الرابع: عدم التعرض لأولياء الله تعالى:
إن مما يدفع البلاء عدم التعرض لأولياء الله المشهود لهم بالخير، لأنه إن تعرض لهم حلت عليه العقوبة، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: «من عادى لي وليا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه (1) » إن ولي الله عز وجل يسدده سبحانه لمحبته له، فيسدد سمعه فما يسمع به إلا خيرا، وكذا بصره فلا يرى به إلا ما ينفعه في الدنيا والآخرة، ولا يتسلط عليه عدو إلا انتصر عليه؛ لتسديد الله له، ويسير بقدميه على الصراط المستقيم، قد حفظه الله من الزيغ عنه، محفوف بالحفظ بإذن الله تعالى، ومعاذ من كل شيء، فسؤاله مجاب، ودعاؤه غير محجوب، فمن اقترب منه حلت عليه النقمة بحفظ الله تعالى له. يقول ابن حجر: (فقد استحل محاربتي ... وغاية الحرب الهلاك، والله لا يغلبه غالب، فكأن
__________
(1) أخرجه البخاري: 5\2384.(87/195)
المعنى: فقد تعرض لإهلاكي إياه) (1) ويقول أيضا: (المعنى: كنت سمعه وبصره في إيثاره أمري، فهو يحب طاعتي، ويؤثر خدمتي، كما يحب هذه الجوارح. ثانيها: أن المعنى: كليته مشغولة بي فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به. ثالثها: المعنى: أحصل له مقاصده كأنه ينالها بسمعه وبصره..... إلخ. رابعها: كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله في المعاونة على عدوه. خامسها: ... حافظ له سمعه الذي يسمع به إلا ما يحل استماعه (2)
وقال الخطابي (والمعنى توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء وتيسير المحبة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصمها عن مواقعة ما يكره الله) (3) (وقال الخطابي أيضا: وقد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجاح في الطلب؛ وذلك أن مساعي الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة) (4)
__________
(1) فتح الباري ابن حجر: 11\347.
(2) انظر: المصدر السابق: 11\347.
(3) المصدر السابق: 11\347.
(4) المصدر السابق: 11\347.(87/196)
يظهر من الحديث السابق تهديد شديد من الله لأن من حاربه الله أهلكه (1) كما حصل للحجاج بن يوسف عندما قتل سعيد بن جبير الذي كان من عباد المكيين وفقهاء التابعين سنة خمس وتسعين وله تسع وأربعون سنة، ذبحه على النطع (2) صبرا (3) (4) فدعا سعيد على الحجاج، فقال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي، فعاش الحجاج بعده خمسة عشر ليلة، ووقع الأكلة (5) في بطنه، فدعا بالطبيب لينظر إليه، فنظر إليه، ثم دعا بلحم منتن فعلقه في خيط، ثم أرسله في حلقه، فتركها ساعة، ثم استخرجها وقد لزق به الدم، فعلم أنه ليس بناج. وبلغنا أنه كان ينادي بقية حياته: ما لي
__________
(1) فتح الباري ابن حجر 11\347.
(2) وهو الجلد المنفوخ، انظر: لسان العرب / ابن منظور: 8 / 357.
(3) الصبر: الإكراه، ومن حبس للقتل فقد قتل صبرا، انظر: لسان العرب / ابن منظور: 4 / 4384
(4) انظر مشاهير علماء الأمصار البستي: 82.
(5) (داء يقع في العضو فيأتكل منه) لسان العرب ابن منظور: 11\22.(87/197)
ولسعيد بن جبير! كلما أردت النوم أخذ برجلي (1)
__________
(1) انظر حلية الأولياء أبي نعيم الأصبهاني: 4\294.(87/198)
المبحث الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
المسلم مأمور بتوقي البلاء والفتن التي تقع في الدين أو ما يصيب الأبدان من أمراض أو موت أو نقص من الأموال باتخاذ الأسباب المشروعة الدافعة لذلك والمانعة له، ومن هذه الأسباب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي ميز الله تعالى به هذه الأمة دون غيرها من الأمم، فقال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) وذم بني إسرائيل بقوله: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) وحث الله سبحانه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه من سبيل الفلاح، فما من أمة كثرت موبقاتها لقلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر إلا كان ذلك إيذانا من الله بقرب هلاكها، يقول تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة المائدة الآية 79
(3) سورة آل عمران الآية 104(87/198)
أي لتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأولئك هم المفلحون، وهم خاصة الصحابة وخاصة الرواة، يعنى المجاهدين والعلماء، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} (1) (اتباع القرآن وسنتي) (2)
والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (3) » (4) فإن لم يستطع أي التغيير باليد وإزالته بالفعل لكون فاعله أقوى منه - فبلسانه، أي فليغيره بالقول وتلاوة ما أنزل الله من الوعيد عليه وذكر الوعظ والتخويف والنصيحة (فإن لم يستطع) فبقلبه بأن لا يرضى به وينكر في باطنه على متعاطيه، فيكون تغييرا معنويا؛ إذ ليس في وسعه إلا هذا (5) وهما واجبان على الكفاية على هذه الأمة، يقول شيخ
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) أورده ابن كثير في تفسيره: 1\391.
(3) أخرجه مسلم 1\69.
(4) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1\391.
(5) عون المعبود لأبي الطيب آبادي 11\330.(87/199)
الإسلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (فالدعاء إلى الله هو الدعاء إلى سبيله، فهو أمر بسبيله، وسبيله تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، وقد تبين أنهما واجبان على كل فرد من أفراد المسلمين وجوب فرض الكفاية، لا وجوب فرض الأعيان كالصلوات الخمس، بل كوجوب الجهاد والقيام بالواجبات من الدعوة الواجبة وغيرها يحتاج إلى شروط يقام بها، كما جاء في الحديث، ينبغي لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر أن يكون فقيها فيما ينهى عنه، فالفقه قبل الأمر ليعرف المعروف وينكر المنكر، والرفق عند الأمر ليسلك أقرب الطرق إلى تحصيل المقصود، والحلم بعد الأمر ليصبر على أذى المأمور المنهي؛ فإنه كثيرا ما يحصل له الأذى بذلك؛ ولهذا قال تعالى: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (1) ، وقد أمر نبينا بالصبر في مواضع كثيرة، كما قال تعالى في أول المدثر: {قُمْ فَأَنْذِرْ} (2) {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (3) {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (4) {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (5) {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} (6) {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (7) وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (8)
__________
(1) سورة لقمان الآية 17
(2) سورة المدثر الآية 2
(3) سورة المدثر الآية 3
(4) سورة المدثر الآية 4
(5) سورة المدثر الآية 5
(6) سورة المدثر الآية 6
(7) سورة المدثر الآية 7
(8) سورة الطور الآية 48(87/200)
وقال {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} (1) (2) وقال عمير بن حبيب وكان قد بايع النبي صلى الله عليه وسلم: «وإذا أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر فليوطن نفسه على الصبر على الأذى، وليثق بالثواب من الله تعالى فإنه من وثق بالثواب من الله عز وجل لم يضره مس الأذى (3) » (فإن لم يستطع أن يقوم بالواجب ولم يقم غيره به صار الجميع مستحقين العقوبة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه (4) » وقال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (5) » فلا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن ذلك جالب لمقت الله عز وجل وعذابه.
__________
(1) سورة المزمل الآية 10
(2) مجموع الفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 15\167.
(3) أخرجه الطبراني في الكبير: 17\50، والأوسط: 2\370، والبيهقي في الكبرى 10\95، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7\266: (رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله ثقات) .
(4) أخرجه أبو داود: 4\144، والترمذي: 4\467، وقال: (حديث صحيح) ، والنسائي في الكبرى: 6\338، وابن حبان: 2\465، وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد الحنبلي المقدسي في الأحاديث المختارة: 1\147: (رواه أحمد بن منيع وعبد بن حميد عن يزيد بن هارون في مسنديهما، إسناده صحيح) .
(5) أخرجه مسلم 1\69.(87/201)
ومن العقوبات التي تترتب على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
1 - اللعن من الله.
2 - السحت بالعذاب.
3 - تأمير شرار القوم.
4 - ضرب القلوب بعضها ببعض.
قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على أيدي المسيء ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم (2) » قال صلى الله عليه وسلم: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتحاضن على الخير أو ليسحتنكم (4) » قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليوشك الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعون فلا يستجاب لكم (5) » فالأمر بالمعروف
__________
(1) أخرجه أبو داود: 4\122، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7\269 (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح) .
(2) تأطرنه: (أي تعطفوه عليه) النهاية ابن الأثير 1\53. (1)
(3) أخرجه أحمد: 5 \390، والطبراني في الأوسط: 2\99، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7\266: (رواه الطبراني في الأوسط، والبزار، وفيه حيان بن علي وهو متروك، وقد وثقه ابن معين في رواية، وضعفه في غيرها) .
(4) (3) الله جميعا بعذاب أو ليؤمرن عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم
(5) أخرجه الترمذي: 4\468، وقال (حديث حسن) ، وابن ماجه: 2\1327، وأحمد: 5\391، والبيهقي في الكبرى: 10\93، وقال الألباني في سنن الترمذي 302169: (حسن) ، وفي رواية: (ليسلطن عليكم شراركم) أخرجه أحمد: 5\390، والطبراني في الأوسط: 2\99، 5\388.(87/202)
والنهي عن المنكر يدفع العذاب، والتقاعس عنه يوجب غضب الله عز وجل، ومعلوم أن من أسباب رفع البلاء الدعاء، لكن من تهاون بالأمر بالمعروف فحل به البلاء فإن دعاءه لرفع هذا البلاء محجوب، يقول السيوطي: «قبل أن تدعو فلا يستجاب لكم (1) » أي قبل أن ينزل عليكم البلاء بسبب المعاصي. وفيه إشعار أنه لا بد للعلماء أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وإلا فهم أيضا شركاء في الوزر) (2)
(لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون على بصيرة، وله شروط، وعلى درجات) (3)
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراتبه، يقول الإمام النووي (وأما صفة النهي ومراتبه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: «فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه (4) » فقوله صلى الله عليه وسلم: (فبقلبه) معناه فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر، ولكنه هو
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2169) .
(2) شرح سنن ابن ماجه السيوطي: 289.
(3) انظر مجموع الفتاوى ابن تيمية: 32\22، 35\32، 14\472.
(4) أخرجه مسلم 1\69.(87/203)
الذي في وسعه، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وذلك أضعف الإيمان (1) » معناه والله أعلم: أقله ثمرة، قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الحديث أصل في صفة التغيير، فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به؛ قولا كان أو فعلا، فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه أو يأمر من يفعله وينزع الغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمره إذا أمكنه، ويرفق في التغيير جهده بالجاهل وبذي العزة الظالم المخوف شره؛ إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله، كما يستحب أن يكون متولي ذلكم من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى، ويغلظ على المتمادي في غيه والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر أغلاظه بأشد مما غيره لكون جانبه محميا عن سطوة الظالم، فإن غلب على
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبي داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد (3/10) .(87/204)
ظنه أن تغييره بيده يسبب أشد منه من قتله أو قتل غيره بسببه، كف يده، واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف، فإن خاف أن يسبب قوله مثل (ما تسببه يده) فبقلبه وكان في سعة، وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله تعالى، وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان، ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، وليرفع ذلك إلى من له الأمر إن كان المنكر من غيره أو يقتصر على تغييره بقلبه. هذا هو فقه المسألة، وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين، خلافا لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال وإن قتل ونيل منه كل أذى.
هذا آخر كلام القاضي رحمه الله. قال إمام الحرمين رحمه الله: ويسوغ لآحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح) (1) وإلى ذلك ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: (ترك الإنكار باليد أو بالسلاح إذا كان فيه مفسدة راجحة على مفسدة المنكر) (2)
فالواجب على العبد (أن يفرق بين ما يفعل الإنسان ويأمر به ويبيحه وبين ما يسكت عن نهي غيره عنه وتحريمه عليه، فإذا كان من المحرمات ما لو نهى عنه حصل ما هو أشد تحريما منه لم ينه عنه ولم يبحه أيضا؛ ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه، ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم: 1\25.
(2) مجموع الفتاوى ابن تيمية: 35\32.(87/205)
من فعل المحرمات وترك واجب - أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب) (1)
__________
(1) المصدر السابق: 14\472.(87/206)
المبحث السادس: الحمد باللسان عند رؤية المبتلى:
لقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم – المسلم إلى ما يدفع عنه البلاء النازل بأحد من الناس، فقال: «من رأى صاحب بلاء، فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير مما خلق تفضيلا - إلا عوفي من ذلك البلاء كائنا ما كان، ما عاش (1) » والابتلاء في الحديث شامل لما يصيب البدن والدين وأن أشد البلاء على الناس الابتلاء في الدين، لأن المسلم إذا أصابه بلاء في بدنه فصبر كان خيرا له، وإن لم يصبر فإن إثمه لا يصل إلى إثم المصيبة في الدين، يقول المباركفوري (صاحب بلاء) أي: مبتلى في أمر بدني كبرص وقصر فاحش أو طول مفرط أو عمى أو عرج أو اعوجاج يد ونحوها، أو ديني بنحو فسق وظلم وبدعة وكفر وغيرها. «الحمد الله الذي عافاني مما ابتلاك به (2) » فإن العافية أوسع من البلية لأنها مظنة
__________
(1) أخرجه الترمذي: 5\493، وابن ماجه: 5\12812، والطبراني في الأوسط: 5\283، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (رواه الترمذي باختصار، رواه البزار والطبراني في الصغير والأوسط بنحوه، وإسناده حسن) ، وقال الإمام ابن القيم في جلاء الأفهام: 1\78: (إسناده حسن) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3431) .(87/206)
الجزع والفتنة، وحينئذ تكون محنة أي محنة «والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف (1) » «وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا (2) » أي في الدين والدنيا والقلب والقالب «إلا عوفي من ذلك البلاء (3) » أي لم ير أحد صاحب بلاء، فقال: الحمد لله الذي عافاني إلخ، إلا عوفي من ذلك البلاء.. «كائنا ما كان (4) » أي حال كون ذلك البلاء أي بلاء كان «ما عاش (5) » أي مدة بقائه في الدنيا (6) ولكن بعض الناس إذا رأى المبتلى سواء كان في دينه أو بدنه استهزأ به وقام يعدد معاصيه ومعايبه ومثالبه وما ابتلي به في دينه ودنياه. فيقع ذلك بأنفسهم أو ذريتهم، وكانوا بعافية من ذلك لو حمدوا الله عز وجل وكفوا عن الاستهزاء والتنقيص للغير.
__________
(1) جزء من حديث أخرجه مسلم: 4\2052.
(2) سنن الترمذي الدعوات (3432) .
(3) سنن الترمذي الدعوات (3431) .
(4) سنن الترمذي الدعوات (3431) .
(5) سنن الترمذي الدعوات (3431) .
(6) تحفة الأحوذي المباركفوري: 9\275.(87/207)
المبحث السابع: صلة الرحم والبعد عن الظلم:
ومما يدفع البلاء البعد عن قطيعة الرحم وظلم الخلق: فالواجب على الإنسان أن يدفع البلاء عن نفسه بالأسباب المشروعة والتي منها البعد عن البغي وقطيعة الرحم لأن الله حرم ذلك، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33(87/207)
والبغي هو: الظلم والعدوان على الخلق، سواء كان باللسان أو اليد أو الرجل أو غيرها من الجوارح، قال ابن كثير: (أما البغي فهو العدوان على الناس) (1) فعلى الإنسان أن يوطن نفسه بالقيام بالعدل حتى تستقيم أموره. يقول شيخ الإسلام: (ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم (2) » فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة؛ وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق) (3) (فإن الباغي مصرعه وخيم، والعدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، وإنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالعدل) (4) لذلك
__________
(1) تفسير القرآن العظيم ابن كثير: 1\583، وانظر: تفسير الجلالين المحلي والسيوطي: 1\167.
(2) أخرجه الترمذي بلفظ: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله في الدنيا عقوبته مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة - من البغي وقطيعة الرحم) وقال: (حديث حسن صحيح) ، وأبو داود: 4\276، وابن ماجه: 2\1408، وابن حبان: 2\2000 وقال شعيب الأرناؤوط: (إسناده صحيح) والحاكم: 2\388، وقال: (صحيح الإسناد ولم يخرجاه) ، وتابعه الذهبي.
(3) الاستقامة ابن تيمية: 2\247، وانظر تلبيس الجهمية ابن تيمية: 1\137.
(4) الصفدية ابن تيمية: 2\327.(87/208)
فعاقبة الظلم تحيط بالظالم، إما بنفسه أو ولده أو ماله أو عرضه. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن البغي يصرع أهله، وإن على الباغي تدور الدوائر) ويشهد لهذا قوله تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (1) قال ابن عباس: إنا نجد في كتاب الله: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (2) ويجري على الألسنة أيضا: من حفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيه، قال الشاعر:
قضى الله أن البغي يصرع أهله ... وأن على الباغي تدور الدوائر
ومن يحتفر بئرا ليوقع غيره ... سيوقع في البئر الذي هو حافر
(3)
يقول الزهري: (ما بقي أحد من قتلة الحسين إلا عوقب في الدنيا، فهذا ممكن، وأسرع الذنوب عقوبة البغي، والبغي على الحسين من أعظم البغي) (4) وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم (5) » وفي
__________
(1) سورة يونس الآية 23
(2) سورة فاطر الآية 43
(3) كشف الخفاء العجلوني: 2\321.
(4) منهاج السنة النبوية ابن تيمية: 4 \560.
(5) أخرجه الترمذي بلفظ: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله في الدنيا عقوبته مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة - من البغي وقطيعة الرحم) وقال: (حديث حسن صحيح) ، وأبو داود: 4\276، وابن ماجه: 2\1408، وابن حبان: 2\2000 وقال شعيب الأرناؤوط: (إسناده صحيح) والحاكم: 2\388، وقال: (صحيح الإسناد ولم يخرجاه) ، وتابعه الذهبي.(87/209)
رواية (امرئ) وسبب تخصيص البغي وقطيعة الرحم بتعجيل العقوبة لصاحبهما ما نراه في قول شيخ الإسلام: (إن ما كان من الذنوب يتعدى ضرره فاعله عجلت لصاحبه العقوبة في الدنيا تشريعا وتقديرا، ولهذا قال: (ما من ذنب أحرى أن تعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم) لأن تأخير عقوبته فساد لأهل الأرض بخلاف ما لا يتعدى ضرره فاعله، فإنه قد تؤخر عقوبته) (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنب) ما نافية ومن زائدة للاستغراق (أجدر) أي أحرى أن يعجل الله (صلة) أجدر على تقدير الباء أي بتعجيله سبحانه (لصاحبه) أي لمتركب الذنب (العقوبة) مفعول يعجل (مع ما يدخر) بتشديد الدال المهملة وكسر الخاء المعجمة أي مع ما يؤجل من العقوبة له أي لصاحب الذنب (من البغي) أي من بغي الباغي وهو الظلم أو الخروج على السلطان.. ومن تفضيلية (وقطيعة الرحم) أي ومن قطع صلة ذوي الأرحام (2) فالمسلم العاقل يبتعد عن قطيعة الرحم ويترك الظلم لأن عقوبته عاجلة، فكيف إذا انضم إلى ذلك دعاء المظلوم عليه فيحل به العذاب، قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده (3) »
__________
(1) الصارم المسلول ابن تيمية: 2 \456.
(2) تحفة الأحوذي المباركفوري: 7\181.
(3) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب الدعاء بظهر الغيب 2 \ 89، والترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في دعوة الوالدين 4 \ 277، وابن ماجه في الدعاء، باب دعوة الوالد ودعوة المظلوم 2 \ 1270، وأحمد في المسند 2 \ 517، وسنده صحيح من حديث أبي هريرة.(87/210)
وروى أبو يعلى أن عمر رضي الله عنه بعث رجالا يسألون عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه – بالكوفة، فكانوا لا يأتون مسجدا من مساجد أهل الكوفة إلا قالوا خيرا أو أثنوا خيرا، حتى أتوا مسجدا من مساجد بني عبس (1) فسألوا، فقال رجل منهم: أما إذ نشدتمونا بالله فإنه كان لا يعدل في القضية ولا يقسم بالسوية ولا يسير بالسرية، فقال سعد: اللهم إن كان كاذبا فأعم بصره وأطل عمره وعرضه للفتن، فكان بعد يتعرض للإماء في السكك، فإذا سئل: كيف أنت؟ يقول: كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد) .
ودعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا، قال صلى الله عليه وسلم: «دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه (2) » ومن البغي تتبع عورات الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه
__________
(1) اسم القبيلة التي ينسب إليها عنترة العبسي، وهي بنجد. انظر: معجم البلدان الحموي 4\78.
(2) أخرجه أحمد: 2\367، وابن أبي شيبة في مصنفه: 6\48 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 10\158: (رواه أحمد والبزار بنحوه، وإسناده حسن) وكذلك قال المنذري في الترغيب: 13\130، والعجلوني 1\488، وابن حجر في الفتح 3\360.(87/211)
من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته (1) » ودعوة المظلوم مستجابة ليس بينها وبين الله حجاب.
فالمسلم الذي يريد حماية عرضه والحريص على العافية في دينه وبدنه وولده وماله عليه أن يكف عن أعراض الناس.
ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن من أسباب البغي الحسد والبغض؛ لأنه يكره أولا فضل الله على المحسود، ثم ينتقل البغض إلى صاحب النعمة (2) فإذا أنعم الله على أخيك نعمة فلك فيه حالتان، إحداهما: أن تكره تلك النعمة وتحب أو تسعى لزوالها، وهذه الحالة تسمى حسدا.
الثانية: ألا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها له، ولكنك تريد لنفسك مثلها، فهذا يسمى غبطة، فالأول حرام على كل حال إلا نعمة على كافر أو فاجر وهو يستعين بها على تهييج الفتنة وإفساد ذات البين وإيذاء العباد، فهذه لا يضرك كراهتك لها ولا محبتك زوالها فإنك لم تحب زوالها من حيث هي نعمة، بل من حيث هي آلة للفساد. ووجه تحريم الحسد مع ما علم من الأحاديث أنه تسخط لقدر الله تعالى وحكمته في تفضيل بعض عباده على بعض؛ ولذا قيل:
__________
(1) أخرجه أبو داود: 4\270، وأحمد: 4\420، وأبو يعلى في المسند: 3\237 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 8\87: (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير ميمون بن عجلان وهو ثقة) وقال أيضا في مجمع الزوائد 8\93. (رواه أبو يعلى ورجاله ثقات) .
(2) انظر: أمراض القلوب ابن تيمية: 1\22، ومجموع الفتاوى: 10\126.(87/212)
ألا قل لمن كان لي حاسدا ... أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فعله ... لأنك لم ترض لي ما وهب
(1) (2)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يسلم منهن أحد؛ الطيرة، والظن، والحسد. قيل: فما المخرج منهن؟ قال: إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ (3) » أي (إذا حسدتم) ، أي تمنيتم
__________
(1) أورده القرطبي في تفسيره: 5\251، والعجلوني في الكشف: 1\431. وهو لمنصور الفقيه.
(2) سبل السلام الصنعاني: 4 \349-350.
(3) أخرجه الطبراني في الكبير: 3\228، والمحاملي في الأمالي: 1 \321، وابن أبي الدنيا 227، وأورده ابن كثير في تفسيره: 4\214، بلفظ: (ثلاث لازمات لأمتي ... فإذا حسدت فاستغفر الله) وقال ابن حجر في فتح الباري: 10\213. (هذا مرسل أو معضل، لكن له شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه البيهقي في الشعب وأخرج ابن عدي بسند لين عن أبي هريرة رفعه: (إذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا) وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء رفعه (لن ينال الدرجات العلاء من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر تطيرا) . ورجاله ثقات، إلا أنني أظن أن فيه انقطاعا، وله شاهد عن عمران بن حصين، وأخرجه البزار في أثناء الحديث بسند جيد، وأخرج أبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان عن ابن مسعود رفعه (الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل) وقوله: (وما منا إلا) من كلام ابن مسعود أدرج في الخبر، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 8\78 (رواه الطبراني، وفيه إسماعيل بن غيث الأنصاري وهو ضعيف، وقال المناوي في الفيض / 1\33، 3\304 (وقال الهيثمي: فيه موسى بن محمد بن حاطب، لا أعرفه، وبقية رجاله ثقات) . وذكر شاكر الشريف محقق الداء والدواء للإمام ابن القيم ص45 أنه من مرتبة الحسن لغيره.(87/213)
زوال نعمة الله على من أنعم عليه فلا تبغوا، أي لا تتعدوا وتفعلوا بمقتضى التمني، فمن خطر له ذلك فليبادر إلى استكراهه كما يكره ما طبع عليه من حب المنهيات. وقدم الإعلام بدواء الحسد على ما بعده اهتماما لشدة البلاء به؛ لأن الإنسان غيور حسود بالطبع، فإذا نظر إلى ما أنعم الله به على غيره حملته الغيرة والحسد على الكفران والعدوان، وقد تضمن الحديث أن الخصال الرذائل مركوزة في جبلة الإنسان إما بالعقل أو بالشرع (1) ويقول الحسن البصري (ما من آدمي إلا وفيه الحسد، فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شيء) (2) لأن الحسد مغروس في قلوب الناس، لكن القوي من تغلب عليه ولم يعمل به، فلم يصب بعينه المحسود، ولم
__________
(1) انظر فيض القدير المناوي: 1\330.
(2) فتح الباري ابن حجر: 10\482.(87/214)
يتسلط ويتطاول عليه بلسانه ويحاول منع الخير عنه، ولم يبطش به بيده، فلعل الله يرحمه ويدفع عنه الأذى في الدنيا والآخرة. وروي عنه صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم حسود، ولا يضر حاسدا حسده ما لم يتكلم باللسان أو يعمل باليد (1) » وقال: «كل بني آدم حسود، وبعض الناس أفضل في الحسد من بعض، ولا يضر حاسدا حسده ما لم يتكلم باللسان أو يعمل باليد (2) » وإنما
__________
(1) وفي رواية: (لا يخلو جسد من حسد، أو ما خلا جسد) أورده السخاوي في المقاصد الحسنة 1\579 وقال: (حديث (ما خلا جسد من حسد) لم أقف عليه بلفظه، ولكن معناه عند أبي موسى المديني في نزهة الحفاظ له من طريق خلف بن موسى العمي عن أبيه عن قتادة عن أنس رفعه (كل بني آدم حسود، وبعض أفضل في الحسد من بعض، ولا يضر حاسدا حسده ما لم يتكلم باللسان أو يعمل باليد) وسنده ضعيف، وهو عندنا أيضا مسلسل بجماعة يسمون خلفا في علوم الحديث للحاكم وبعلو فوائد إسحاق الصابوني، ولابن أبي الدنيا في ذم الحسد له بسند ضعيف، وكذا أخرجه ابن أبي الدنيا أيضا من وجه آخر مرسلا ضعيف، وللطبراني من حديث حارثة بن النعمان نحوه، وقد بسطت الكلام عليه فيما كتبته من شرح الترمذي) والعجلوني في الكشف: 2\511، 2\243، والقارئ في المصنوع: 1\160، 1/431.
(2) أورده السخاوي في المقاصد الحسنة 1\579 وقال: حديث (كل بني آدم حسود، وبعض أفضل في الحسد من بعض، ولا يضر حاسدا حسده ما لم يتكلم باللسان أو يعمل باليد) وسنده ضعيف وهو عندنا أيضا مسلسل بجماعة يسمون خلفا في علوم الحديث للحاكم، وبعلو في فوائد إسحاق الصابوني ولابن أبي الدنيا في ذم الحسد له بسند ضعيف، وكذا أخرجه ابن أبي الدنيا أيضا من وجه آخر مرسلا ضيعف، وللطبراني من حديث حارثة بن النعمان نحوه، وقد بسطت الكلام عليه فيما كتبته من شرح الترمذي) والهندي في كنز العمال 3\186 وقال أحمد العزي في الجد الحثيث 1\197: (وسنده ضعيف وفي الباب غيره) .(87/215)
كان كل آدمي حسودا لأن الفضل يقتضي الحسد بالطبع، فإذا نظر الإنسان إلى من فضل عليه في مال أو علم أو غيرهما لم تملكه نفسه عن أن يحسده، فإن بادر بكفها انكف، وإلا سقط في مهاوي الهلكة ولا يفقد شخص الإصابة بالحسد إلا إذا فقد الخير أجمع؛ ولذلك قال بعض الشعراء:
إن العرانين (1) تلقاها محسدة ... ولا ترى للئام الناس حسادا
(2)
وقال أبو تمام
وذو النقص في الدنيا بذي الفضل مولع
(3) وقال البحتري
لا تحسدوه فضل رتبته التي ... أعيت عليكم وافعلوا كفعاله
(4) ونبه بهذا الحديث على أن سبب الحسد خبث النفس، وأنه داء جبلي مزمن قل من يسلم منه (5) لكن المسلم إن وقع له الخاطر بالحسد فدفعه
__________
(1) (عرانين) أي: رؤساء الناس لسان العرب ابن منظور: 1\332.
(2) الحماسة البصرية صدر الدين علي بن الحسن البصري: 1\141، والبيت لعمر بن لجأ التيمي.
(3) ديوان أبي تمام: 583.
(4) محاضرات الأدباء 1 \317.
(5) انظر فيض القدير المناوي: 5\16.(87/216)
وجاهد نفسه في دفعه فلا إثم عليه، بل لعله مأجور في مدافعة نفسه. فإن سعى في زوال نعمة المحسود فهو باغ وإن لم يسع ولم يظهره لمانع العجز، فإن كان بحيث لو أمكنه لفعل فهو مأزور، وإلا فلا وزر عليه؛ لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانية، فيكفيه في مجاهدتها ألا يعمل بها ولا يعزم على العمل بها، فإن كان بحيث لو ألقى الأمر إليه ورد إلى اختياره لسعى في إزالة النعمة فهو حسود حسدا مذموما، وإن كان تزعه التقوى عن إزالة ذلك فيعفى عنه ما يجده في نفسه من ارتياحه إلى زوال النعمة عن محسوده مهما كان كارها لذلك من نفسه بعقله ودينه، وفي الزواجر لابن حجر الهيتمي أن الحسد مراتب، وهي: الأولى: إما محبة زوال نعمة الغير وإن لم تنتقل إلى الحاسد، وهذا غاية الحسد.
الثانية: محبة انتقال النعمة إليه.
الثالثة: محبة انتقال مثلها إليه. وهذا الأخير هو المعفو عنه من الحسد(87/217)
إن كان في الدنيا والمطلوب إن كان في الدين (1) وعليه حمل ما رواه الشيخان (2) من حديث ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار (3) » وقد أخبر – الرسول صلى الله عليه وسلم – أن القوي هو الذي يستطيع السيطرة على مشاعره ويملك زمام نفسه، فقال: «ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب (4) » فلا يتمادى في حسد أخيه وأذيته، فإن المتأذي هو الحاسد لا غير، سواء من ناحية دينه أو دنياه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب (5) » وهو أول ذنب عصي الله به، فكانت نتيجة ذلك خروج آدم من الجنة وطرد إبليس من رحمة الله والجنة، وكذلك لا يغيب عن البال أن أول قتيل من ذرية آدم كان بسبب الحسد، فهو أول ذنب في
__________
(1) انظر الزواجر ابن حجر المكي: 1\112.
(2) أخرجه البخاري: 6 \2737، مسلم: 1\558.
(3) انظر: سبل السلام الصنعاني: 4\350.
(4) أخرجه البخاري: 10\518، ومسلم 4\2014.
(5) أخرجه أبو داود: 4\276، وابن ماجه: 2\1408، وقال العراقي في المغني عن حمل الأسفار 1\32 (أبو داود من حديث أبي هريرة، وقال البخاري: لا يصح، وهو عند ابن ماجه من حديث أنس بإسناد ضعيف، وفي تاريخ بغداد بإسناد حسن) .(87/218)
السماء، وأول ذنب في الأرض، ثم لا ننسى عاقبة الباغي في الدنيا كما سبق في الحديث
فالرسول - صلى الله عليه وسلم – يحذر من الحسد بلفظ: «إياكم والحسد (1) » لأنه قلق النفس من رؤية النعمة على الغير، وهو اعتراض على الحق ومعاندة له، ومحاولة لنقص ما فعله وإزالة فضله عما أهله له، ومن ثم قال: «فإن الحسد يأكل الحسنات (2) » أي يذهبها ويحرقها ويمحو أثرها «كما تأكل النار الحطب (3) » أي اليابس لأنه يفضي بصاحبه إلى اغتياب المحسود وشتمه، وقد يتلف ماله أو يسعى في سفك دمه وكل ذلك مظالم يقتص منها في الآخرة ويذهب في عوض ذلك حسنات.
قال الغزالي الحاسد جمع لنفسه بين عذابين؛ لأن حسده على نعمة الدنيا وكان معذبا بالحسد، وما قنع بذلك حتى أضاف إليه عذابا في الآخرة، فقصد محسوده، فأصاب نفسه وأهدى إليه حسناته، فهو صديقه وعدو نفسه، وربما كان حسده سبب انتشار فضل محسوده، فقد قيل:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب نشر العود
(4)
__________
(1) سنن أبي داود الأدب (4903) .
(2) سنن أبي داود الأدب (4903) .
(3) سنن أبي داود الأدب (4903) .
(4) البيت لأبي تمام، أورده العجلوني في الكشف: 1\431، وانظر: مرآة الجنان اليافعي: 2\127.(87/219)
فهو في هم، ومحسوده في راحة، قال الحسن: (ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد؛ نفس دائم، وحزن لازم، وعبرة لا تنفد) فأنى له الراحة النفسية أو الجسدية، يقول الأحنف بن قيس (خمس، هن كما أقول؛ لا راحة لحسود، ولا مروءة لكذوب، ولا وفاء لمملوك، ولا حيلة لبخيل، ولا سؤدد لسيئ الخلق) (1) فالحاسد جاحد، لا يرضى بقضاء، ولا يقنع بعطاء (وفي بعض الكتب الإلهية: الحاسد عدو نعمتي) (2) وقد قال عبد الله بن مسعود: (لا تعادوا نعم الله، قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله. يقول الله تعالى في بعض الكتب: (الحسود عدو نعمتي، متسخط، غير راض) (3) فحتى يندفع البلاء عن المسلم عليه أن يبتعد عن الحسد وأن يصل رحمه ولا يظلم أحدا، كائنا من كان، وعلى أية حال، وأن يحسن للناس وبالأخص جيرانه، ويعامل الخلق معاملة حسنة من
__________
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: 5\273.
(2) انظر: كشف الخفاء العجلوني: 1\431.
(3) أورده القرطبي في تفسيره: 5\251.(87/220)
أجل أن يحل عليه الخير والرزق بإذن الله من مال وولد وصحة وطول عمر، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «صلة الرحم وحسن الجوار وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار (1) » وقال أيضا: «من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه (3) » وفي رواية: «لا يزيد في العمر إلا الصلة (4) » وصلة الرحم تكون في الزيارة، وحضور المناسبات، ومنها اجتماع العائلة والتي من خلالها يتم التعرف على أفرادها وتلمس حاجاتهم وحل مشاكلهم والاطمئنان على المرضى منهم، فمن خلالها ينبع التكافل المادي لسد حاجات أفرادها ورفعة مستواهم من الناحية المادية. وليحذر المسلم من القطيعة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله (5) » وفي زماننا الحاضر كثرت قطيعة الرحم، فقد أصبح الناس مشغولين في حياتهم وكثرة همومهم، فتباعدت القلوب لتباعد الأبدان؛ لذا علينا الحذر من اتباع الشيطان والوقوع في القطيعة والتمادي في ذلك، فيقتدي بالآباء الأبناء، فصلة الرحم سبب لكثرة الرزق وطول العمر،
__________
(1) أخرجه أحمد 9\159، وقال ابن حجر في الفتح: 10\417 (وعند أحمد بسند رجاله ثقات) .
(2) أخرجه البخاري: 5\2232.
(3) انظر لسان العرب ابن منظور: 1\166. (2)
(4) أخرجه الشهاب في مسنده: 1\93 رقم 100.
(5) أخرجه مسلم: 4\1981.(87/221)
وكذلك حسن الخلق والبعد عن الظلم، وقد ذكر المناوي أن البغي من الكبر، وقطيعة الرحم من البغي، والتي تكون بالإيذاء والصد أو الهجر، وجميعها من الكبائر، ودل على ذلك الوعيد الشديد؛ قال صلى الله عليه وسلم: «الرحم شجنة (2) » أما قطيعتها بترك الإحسان فليس بكبيرة، وفيه تنبيه على أن البلاء بسبب القطيعة في الدنيا لا يدفع بلاء الآخرة (3) وعقوبة الظلم لا تأتي فقط من ظلم الإنسان، بل حتى ظلم الحيوان يجر إلى العقوبة في الدنيا كما قد يجر إلى العقوبة بالآخرة، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: «أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، فلم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض (4) » وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم «أن امرأة من بني إسرائيل باغية غفر لها؛ لأنها سقت كلبا كان يأكل الثرى من شدة العطش، فشكر الله لها وغفر لها (5) »
__________
(1) أخرجه البخاري: 5\2223.
(2) (1) فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته
(3) انظر فيض القدير: 5\478.
(4) أخرجه البخاري: 3\1205، ومسلم 4\2110.
(5) أخرجه البخاري: 3\1279، ومسلم: 4\1761.(87/222)
المبحث الثامن: إسداء وصنع المعروف للناس:
لقد حث الإسلام على تفريج الكروب وإسداء المعروف؛ لما فيه من التوسيع على المسلمين وهو يدل على التكاتف والتآزر، وللمعروف فضائل كثيرة في الدنيا والآخرة، ومن فضائله في الدنيا أنه يقي صاحبه مصارع السوء فيختم له بخاتمة حسنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن صنائع المعروف تقي مصارع السوء (1) » والمعروف هو ما يسديه العبد لأخيه من خير، فيقيه مصارع السوء أي يحفظ منها، وقد ينقطع الثناء على فاعل ذلك، لكنه لا ينقطع بينه وبين ربه (2) فصانع المعروف يختم له بخاتمة حسنة، ومن يختم له بذلك يكون عند موته بأحسن حال.
__________
(1) أخرجه الحاكم: 1 \213، وقال: (لم يخرجاه فإنه يذكر في الشواهد) والطبراني في الكبير: 8 \261، والأوسط: 1\289، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 3\115 (رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن) .
(2) انظر فيض القدير المناوي: 2\457، 3\576.(87/223)
المبحث التاسع: التحرزات الليلية:
لقد بين لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بعض التحرزات الليلية والتي تحفظ النفس والولد والمال، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا كان جنح الليل (1) أو أمسيتم فكفوا صبيانكم؛ فإن الشياطين تنتشر حينئذ فإذا ذهبت ساعة من الليل، فخلوهم، فأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله؛ فإن
__________
(1) أخرجه البخاري: 5\213، ومسلم: 3\1595.(87/223)
الشيطان لا يفتح بابا مغلقا، وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم (1) واذكروا اسم الله ولو أن تعرضوا عليها شيئا، وأطفئوا مصابيحكم» وفي رواية قال همام: وأحسبه قال: «ولو بعود يعرضه (2) » وفي رواية: «وأجيفوا الأبواب وأكفتوا صبيانكم في العشاء؛ فإن للجن انتشارا وخطفة (5) » وفي رواية أخرى: «فإن الشيطان لا يكشف إناء فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودا ويذكر اسم الله فليفعل؛ فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم (7) » وفي رواية «ربما جرت الفتيلة فأحرقت أهل البيت (8) » لقد أمرنا الرسول بأخذ بعض الاحتياطات التي
__________
(1) (خمروا آنيتكم، التخمير: التغطية) غريب الحديث ابن سلام: 1\239.
(2) أخرجه البخاري: 5\2320.
(3) قوله (أكفتوا صبيانكم أي ضموهم إليكم واحبسوهم في البيوت) غريب الحديث ابن الجوزي: 2/ص294.
(4) (قوله أجيفوا الأبواب أي أغلقوها) غريب الحديث ابن الجوزي: 1 \11. (3)
(5) قوله (أكفتوا صبيانكم أي ضموهم إليكم واحبسوهم في البيوت) غريب الحديث ابن الجوزي: 2/ص294. (4)
(6) أخرجه مسلم: 3\1594.
(7) (الفويسقة الفأرة) مختار الصحاح الرازي: 211. (6)
(8) أخرجه البخاري: 5\2320.(87/224)
تدفع عنا البلاء، وقد بين وقته، فقال: «إذا كان جنح الليل أو أمسيتم (1) » (والمعنى إقباله بعد غروب الشمس، يقال: جنح الليل واستجنح: حان جنحه أو وقع.. (أو) أول الليل) (2) فإذا كان ذلك فلا ترسلوا مواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء (3) فإن الشياطين تنبعث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء، والحكمة في انتشارهم حينئذ أن حركتهم في الليل أمكن منها لهم في النهار، لأن الظلام أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وكذلك كل سواد (4)
__________
(1) أخرجه مسلم: 3\1595.
(2) فتح الباري ابن حجر: 6\341.
(3) (فحمة الليل سواده) المصباح المنير أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي: 2\464.
(4) انظر فتح الباري ابن حجر: 6\341.(87/225)
والاحتياطات التي ذكرها - صلى الله عليه وسلم - هي:
1 - إغلاق الأبواب، وقد ورد بالحديث: (أغلقوا) و (أجيفوا) ومعنى أجيفوا بالجيم والفاء أي أغلقوها، تقول: أجفت الباب إذا أغلقته، زاد في الرواية الماضية: (وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله؛ فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا) (1) لكن بعض الناس لا يتقيد بذلك؛ لذا يرى كثرة تسلط الشياطين على الناس بكثرة الأمراض العضوية والنفسية.
2 - ربط الأسقية.
3 - تغطية الآنية: (قوله «خمروا الآنية» أي غطوها) (2) والحكمة من تغطية الآنية وربط السقاء قد يتضح بعضها من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غطوا الإناء وأوكوا السقاء؛ فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء - إلا نزل فيه من ذلك الوباء (3) »
وعن الليث بن سعد أنه قال: «فإن في السنة يوما ينزل فيه وباء وزاد
__________
(1) انظر فتح الباري ابن حجر: 6\356.
(2) انظر فتح الباري ابن حجر: 6\357.
(3) أخرجه البخاري: 5\2131، ومسلم: 3 \1596 واللفظ له.(87/226)
في آخر الحديث: قال الليث: فالأعاجم عندنا يتقون ذلك في كانون الأول (1) » يقول السيوطي: (ذكر العلماء للأمر بالتغطية فوائد: منها: الفائدتان اللتان وردتا في هذه الأحاديث، وهما: صيانته من الشيطان؛ فإن الشيطان لا يكشف غطاء ولا يحل سقاء، وصيانته من الوباء الذي ينزل في ليلة من السنة، والفائدة الثالثة صيانته من النجاسة والقاذورات، والرابعة صيانته من الحشرات والهوام) (2)
4 - إطفاء المصابيح والسرج، وإطفاء النار بالبيت. عن أبي موسى رضي الله عنه قال: احترق بيت بالمدينة على أهله من الليل، فحدث بشأنهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذه النار إنما هي عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم (3) » وكم روح ذهبت ضحية الإهمال وعدم الحيطة بإبقاء النار وعدم إطفائها عند النوم، وخاصة في المخيمات، والأفضل الأخذ بهذه الأسباب مع التوكل على الله (لأن الفويسقة) وهي الفأرة، ربما جرت الفتيلة. قال النووي: هذا عام يدخل فيه نار السراج وغيره، وأما القناديل المعلقة فإن خيف بسببها حريق دخلت في ذلك، وإن حصل الأمن منها كما هو الغالب فلا بأس بها لانتفاء العلة، وقال القرطبي: جميع أوامر هذا الباب من باب الإرشاد إلى المصلحة، ويحتمل أن تكون للندب، ولا سيما في حق
__________
(1) أخرجه مسلم: 3\1596.
(2) شرح سنن ابن ماجه السيوطي: 244.
(3) أخرجه البخاري: 5 \2319، ومسلم 3\1596.(87/227)
من يفعل ذلك بنية امتثال الأمر) (1) ويفعل جميع ما سبق مع ذكر اسم الله وهي البسملة؛ تبركا بالاسم، ودفعا للشيطان.
5 - إمساك الصبيان والمواشي. لقد أمر صلى الله عليه وسلم بكفت الصبيان وضمهم، والمعنى: امنعوهم من الحركة في ذلك الوقت، قوله عند المساء في هذا الباب: «إذا جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم (2) » قوله «فإن للجن انتشارا وخطفة (3) » بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة والفاء، في الرواية الماضية «فإن الشياطين تنتشر، فإذا ذهبت ساعة من الليل فخلوهم (4) » وسبب مسك الصبيان والمواشي بالذات في تلك الساعة يقول (ابن الجوزي) لأن النجاسة التي تلوذ بها الشياطين موجودة معهم غالبا، والذكر الذي يحرز منهم مفقود غالبا، والشياطين عند انتشارهم يتعلقون بما يمكنهم التعلق به؛ فلذلك خيف في ذلك الوقت) (5) وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الخروج ليلا إذا هدأت الرجل بقوله: «إذا سمعتم نباح الكلاب ونهاق الحمير من الليل فتعوذوا بالله؛ فإنها ترى ما لا ترون، وأقلوا الخروج إذا هدأت الرجل فإن الله عز وجل يبث في ليلة من
__________
(1) فتح الباري ابن حجر: 6\356.
(2) صحيح البخاري الأشربة (5623) ، صحيح مسلم الأشربة (2012) .
(3) صحيح البخاري بدء الخلق (3316) ، صحيح مسلم الأشربة (2012) ، سنن أبي داود الأشربة (3733) ، مسند أحمد (3/388) .
(4) المصدر السابق: 6\356.
(5) المصدر السابق: 6\341.(87/228)
خلقه ما شاء (1) » لكن ما يحدث الآن عكس ما أمر به، بل لا يحلو للناس الخروج إلا ليلا للهو والمرح، ويهملون أطفالهم، ويفسحون المجال أمامهم للعب وقت انتشار الشياطين؛ لذلك نرى كثرة الأمراض النفسية والجسدية بين الناس كبارا وصغارا، وجميع هذه التحرزات السابقة لدفع الأذى عموما، وتدفع الشيطان خاصة.
6 - ألا يبيت الرجل وحده.
7 - ألا يسافر الرجل وحده: فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوحدة وهو أن يبيت الرجل وحده أو يسافر وحده (2) قال صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم، ما سار راكب بليل وحده (3) » قوله ما أعلم أي الذي أعلمه من الآفات التي تحصل من ذلك السفر منفردا (4) (وقيده بالراكب والليل لأن الخطر بالليل أكثر؛ فإن انبعاث الشر فيه أكثر والتحرز منه أصعب، ومنه قولهم: الليل أخفى للويل، وقولهم: أعذر الليل؛ لأنه إذا أظلم كثر فيه الغدر، لا سيما إذا كان راكبا؛ فإنه أخوف، ووجل المركوب (من النفور) من أدنى شيء بخلاف الراجل. ويمكن التقييد بالراكب ليفيد أن الراجل ممنوع بطريق الأولى، ولئلا يتوهم أن
__________
(1) أخرجه أحمد: 3\306 وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3184) (صحيح) ..
(2) أخرجه أحمد: 2\91، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 8\104: (رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح) .
(3) أخرجه البخاري: 3\1092
(4) انظر فتح الباري: 6\138.(87/229)
الوحدة لا تطلق على الراكب كما لا يخفى) (1) والنهي عن سفر الواحد لا يختص بالليل، إنما يشمل النهار لقوله صلى الله عليه وسلم: «الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب (2) »
فحري بالإنسان أن يدفع البلاء عن نفسه ويحرص على ذلك ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ عن طريق الأخذ بالأسباب المشروعة، التي بينها لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) تحفة الأحوذي المباركفوري: 5\260.
(2) أخرجه الترمذي: 5\193 (وقال: حسن صحيح) وأبو داود: 3\36، والحاكم: 2 \112، وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وشاهده حديث أبي هريرة، صحيح على شرط مسلم) .(87/230)
المبحث العاشر: عبادة الاستعاذة بالله:
إذا استعاذ المسلم بالله، فقد أمن البلاء؛ لأنه اعتصم والتجأ واستجار بعظيم، فلا قدرة لمخلوق مهما كانت قوته على أذيته وإلحاق الأذى به أو بمن عوذه، والاستعاذة من العبادات اللفظية الظاهرة مع يقين القلب بها، ومعناها يتضح فيما يأتي:(87/230)
معنى الاستعاذة في اللغة:
العوذ الالتجاء كالعياذ والمعاذ والتعوذ والاستعاذة (1)
معنى الاستعاذة في الاصطلاح:
قال ابن كثير:
(الاستعاذة هي: الالتجاء إلى الله، والالتصاق بجانبه من كل ذي شر، والعياذ: يكون لدفع الشر، واللياذ لطلب الخير) ، وهي: التوجه والاعتصام بالله (2) وأعوذ بمعنى الاستجارة بجناب الله عز وجل مما أخاف منه، أو الاستعانة، أو الاستغاثة ويذكر المقريزي: أن سورة الفلق والناس أعظم عوذة في القرآن، وقد جاءت الاستعاذة بهما وقت الحاجة، وهو حين سحر (3) النبي صلى الله عليه وسلم (4) قال صلى الله عليه وسلم عنهما: «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما (5) » وقال صلى الله عليه وسلم: «يا عقبة، أعلمك خير سورتين قرئتا: قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، يا عقبة، اقرأهما كلما نمت وقمت؛ ما سأل سائل ولا استعاذ مستعيذ
__________
(1) انظر مختار الصحاح الرازي: 461.
(2) انظر: البداية العيني: 2\217.
(3) الحديث الوارد في ذلك أخرجه البخاري: 5\2174، ومسلم: 4\177.
(4) انظر: تجريد التوحيد المقريزي: 9.
(5) أخرجه النسائي في المجتبى: 8 \251، رقم 5432، والنسائي في السنن الكبرى: 4\438، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1104: (صحيح) .(87/231)
بمثلهما (1) » و (تقال بعد صلاة الفجر والمغرب ثلاث مرات) وبعد الصلوات الأخرى مرة واحدة (2) وعند النوم ثلاثا مع سورة الإخلاص) (3)
ومما ورد عنه صلى الله عليه وسلم – أيضا من صيغ الاستعاذة: «أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده (4) » أما متى تقال، وكم تقال من مرة؟ وأين تقال؟ فقد بين المصطفى بأن المسلم يستعيذ بالله وحده لدفع الأذى والبلاء عنه.
ويتعوذ بذلك ثلاث مرات (5) صباحا ومساء «وكان عبد الله بن عمر يعلمها من بلغ من ولده ومن لم يبلغ منهم، كتبها في صك، ثم علقها في
__________
(1) أخرجه: أبو داود: 2\394، والنسائي في الكبرى: 4\438، وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مجموعة الحديث: 1\484: (حسن) .
(2) أخرجه مسلم: 4\2723.
(3) أخرجه البخاري: 4\1916.
(4) أخرجه أبو داود: 4\218، والترمذي: 5\541، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود: 2\47 (صحيح)
(5) أخرجه ابن جبان: 3\299، والنسائي في الكبرى: 2\152 وأنها تقال ثلاث مرات صباحا ومساء.(87/232)
عنقه (1) » ومعناها (أعوذ بكلمات الله التامات الكاملات التي لا يدخلها نقص، وقيل: النافعة الشافية، وقيل: المراد بالكلمات هذا القرآن) (2)
وأنواع المتعوذ منه عام وخاص: فيتعوذ بالله من كل شر، ومن أشياء مخصوصة بعينها جاء بالشريعة التعوذ بالله منها.
أما أين تقال؟ فإن المسلم يقولها عند نزوله أي منزل، سواء كان منزله أو في السيارة أو غيرها، فقد يكون معناه الجلوس واللبث، قال صلى الله عليه وسلم: «من نزل منزلا، ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق - لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك (3) » ؛ لأنه استعاذ بالله وحده فهو رب الفلق ورب الناس ملك الناس إله الناس خالق كل شيء ومالكه، الذي لا تنبغي الاستعاذة إلا به، ولا يستعاذ بأحد من خلقه، بل هو الذي يعيذ المستعيذين، ويعصمهم ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره، وقد أخبر تعالى في كتابه عمن استعاذ من الإنس بخلق مثلهم وهم الجن أن استعاذته بهم زادتهم طغيانا فزادوا المستعيذ بهم رهقا، فقال حكاية عن مؤمن الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (4) (5) وقد تعوذ صلى الله
__________
(1) أخرجه الترمذي: 5\541، وقال: (حسن غريب) ، والحاكم 1\733، وقال: (حديث صحيح الإسناد متصل) .
(2) الديباج على صحيح مسلم السيوطي: 6\64.
(3) أخرجه مسلم: 4\2080.
(4) سورة الجن الآية 6
(5) غاية الأماني محمود شكري الألوسي: 2\305.(87/233)
عليه وسلم بالله من البلاء فقال: «اللهم إني أعوذ بك من الحرق والغرق، ومن التردي، وأن يتخبطني الشيطان عند الموت (1) » وقال: «اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء (2) » يقول السيوطي: (من سوء القضاء وهو شامل له في الدين والدنيا والبدن والمال والأهل، وقد يكون في الخاتمة، نسأل الله السلامة، ومن درك الشقاء أي ما يدرك من شقاء في دنياه وآخرته، ومن شماتة الأعداء هي فرح العدو ببلية تنزل بعدوه، ومن جهد البلاء هي الحالة الشاقة) (3) وجهد البلاء كل ما أصاب المرء من شدة ومشقة وما لا طاقة له بحمله، ودرك الشقاء يكون في أمور الدنيا وفي أمور الآخرة، وكذلك سوء القضاء عام في النفس والمال والأهل والولد والخاتمة والمعاد، شماتة الأعداء فرحهم ببلية تنزل بالمعادي (4) وقال: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن ومن ضلع الدين وغلبة الرجال (5) » وقال: «أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك (6) » وأعظم نعمة على
__________
(1) أخرجه أبو داود: 2\192: والنسائي في المجتبى: 8\252، والحاكم: 1\712، وقال: (صحيح الإسناد ولم يخرجاه) .
(2) أخرجه البخاري بنحوه: 5\2343، والنسائي في الكبرى: 4\444.
(3) الديباج على صحيح مسلم السيوطي: 6\63.
(4) انظر: فتح الباري ابن حجر: 11\149.
(5) أخرجه البخاري: 3\1509.
(6) أخرجه مسلم: 4\2097.(87/234)
العبد هي الدين؛ فليلتجئ إلى الله قائلا: أعوذ بالله من زوال نعمتك أي نعمة الإسلام والإيمان ومنحة الإحسان والعرفان، وتحول عافيتك بضم الواو المشددة أي انتقالها من السمع والبصر وسائر الأعضاء، والفرق بين الزوال والتحول أن الزوال: يقال في شيء كان ثابتا في شيء ثم فارقه، والتحول: تغير الشيء وانفصاله عن غيره، فمعنى زوال النعمة ذهابها، وتحول العافية إبدال الصحة بالمرض والغنى بالفقر، وفي بعض نسخ الكتاب: وتحويل عافيتك من باب التفعيل (1)
ويتضح مما سبق أن الاستعاذة بالله تدفع البلاء الذي لم ينزل، فهو سبحانه الدافع للبلاء والرافع له سبحانه. يقول ابن حجر: (ولا خلاف في مشروعية الفزع إلى الله تعالى والالتجاء إليه في كل ما وقع وما يتوقع) (2)
__________
(1) انظر: عون المعبود الطيب آبادي: 4\283.
(2) فتح الباري ابن حجر: 10\197.(87/235)
المبحث الحادي عشر: أن يستودع العبد ربه الأشياء:
ومما يدفع البلاء عن النفس والأشياء استيداع الخالق لها؛ لأن الله هو الحافظ الحفيظ الذي إذا استودعه عبده شيئا حفظه، سواء كان نفسه أو ولده أو ماله، أو حفظه لكتاب الله أو العلوم أو الدين عموما، أو أي شيء يريد حفظه ويخشى هلاكه، يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا استودع الله شيئا حفظه.... (1) » أي الذي إذا استحفظ وديعة لا تضيع، فإنه تعالى إذا استودع شيئا حفظه، وأصل الوديعة التخلي عن الشيء وتركه، وإذا تخلى العبد عن الشيء وتركه لله واستحفظه إياه، فقد تبرأ من الحول والقوة، فبذلك يحصل له الحفظ والعصمة، ويندب لكل من المتوادعين أن يقول للآخر ذلك، وأن يزيد المقيم: زودك الله التقوى وغفر ذنبك ووجهك للخير حيثما كنت (2) ويتأكد هذا الاستيداع عند السفر فيودع المقيم المسافر لمظنة الهلاك، فيحفظه الله عز وجل بهذه الكلمات العظيمة، وصيغتها نراه في قوله صلى الله عليه وسلم: «أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك (3) »
__________
(1) أخرجه النسائي: 6\131، وأحمد: 2\87، وابن حبان: 6\410، وقال شعيب الأرناؤوط: (إسناده قوي) ، والحاكم: 1\610، وقال: (صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) .
(2) انظر: فيض القدير المناوي: 1\502.
(3) أخرجه ابن ماجه: 3\943، وأحمد: 2\358، والنسائي في الكبرى: 5\251، وقال العراقي في المغني عن حمل الأسفار: 1\554: (رواه ابن ماجه، والنسائي في اليوم والليلة بإسناد حسن) وقال المناوي في فيض القدير: 1\502 (وقال الترمذي: صحيح غريب، وتبعه المصنف فرمز لصحته، ورواه عنه النسائي أيضا، فما أوهمه صنيع المصنف من تفرد هذين غير سديد.(87/236)
وفي رواية: «أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه (1) » فإن هذا الدعاء فيه التبرؤ من الحول والقوة إلا بالله؛ يقول ابن رجب: (إن الله عز وجل يحفظ المؤمن الحافظ لحدود دينه، ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ، وقد لا يشعر العبد ببعضها) (2)
__________
(1) أخرجه: ابن ماجه: 2\943، وأحمد: 2\403، وابن حبان: 6\401، والنسائي في الكبرى: 3\168، والبيهقي في السنن: 6\173. وقال البوصيري في مصباح الزجاجة: 3\168 (هذا إسناد فيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف، لكن لم ينفرد به ابن لهيعة، فقد رواه النسائي في عمل اليوم والليلة عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن الليث وسعيد بن أبي سعيد كلاهما عن الحسن بن ثوبان به، ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده من طريق ابن لهيعة به) . وقال المناوي في فيض القدير: 1\502: (رمز المصنف لحسنه، وفيه هشام بن عمار وقد سبق بيانه، وابن لهيعة وقد ضعفوه، لكنه متماسك وحديثه حسن، وموسى بن وردان أورده الذهبي في الضعفاء وقال: ضعفه ابن معين) .
(2) جامع العلوم والحكم ابن رجب: 187.(87/237)
المبحث الثاني عشر: الأخذ بالتوجيهات الشرعية عند رؤية الرؤى السارة والمحزنة:
لقد وجه صلى الله عليه وسلم أمته لما فيه خيرها من جلب خير أو دفع شر، ومن الأمور الشرعية التي تدفع البلاء موقف المسلم من الرؤى، والرؤى تنقسم إلى قسمين: الرؤيا الحسنة والرؤيا السيئة، وللمسلم في كل منهما موقف يخصه:(87/237)
1 - أما ما يخص الرؤيا الحسنة فيستحب للرائي:
أ - أن يحدث بها، فقد ثبت بالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به (1) » لبيان نعمة الرب على العبد، فهذا من شكر النعم التي تدخل تحت قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (2) .
بـ - ألا يخبر بها إلا من يحب؛ قال صلى الله عليه وسلم: «فلا يحدث بها إلا من يحب (3) » فيكون ذا مودة له فلا يكيد له ولا يحسده، ويذكر الحافظ ابن حجر بأن تقييد الإخبار بالرؤيا الحسنة لمن يحب لأنه إذا حدث بالرؤيا الحسنة من لا يحب قد يفسرها له بما لا يحب؛ إما بغضا وإما حسدا، فقد تقع على تلك الصفة أو يتعجل لنفسه من ذلك حزنا ونكدا، فأمر بترك تحديث من لا يحب (4) قال الله تعالى عن يعقوب: إنه قال ليوسف عليهما السلام: {قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (5) يقول ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا التي
__________
(1) أخرجه البخاري: 6\2582.
(2) سورة الضحى الآية 11
(3) أخرجه البخاري: 6\2582.
(4) انظر فتح الباري ابن حجر: 12\431.
(5) سورة يوسف الآية 5(87/238)
تعبيرها خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه تعظيما زائدا بحيث يخرون له ساجدين إجلالا واحتراما وإكراما، فخشي يعقوب عليه السلام أن يحدث بهذا المنام أحدا من إخوته فيحسدونه على ذلك، فيبغون له الغوائل حسدا منهم له؛ ولهذا قال له: لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا، أي يحتالوا لك حيلة يردونك فيها) (1) ؛ لأن كل صاحب فضل ونعمة محسود، فإذا عرف عدوه عن هذه الرؤيا الحسنة حسده (فعمل الحيلة على إفسادها وربما يكون هذا سببا في زوال النعمة، والأولى والأفضل ألا يحدث بها إلا عالما أو ناصحا، فالعالم يدله على تفسيرها ويؤولها له على الخير مهما كانت، والناصح يرشده إلى ما ينبغي، ويعينه عليه (2)
وسبب النهي عن التحدث بها هو الخوف من البغي على صاحب الرؤيا قبل أن توجد، فإذا وجدت فيتحدث بها من باب شكر النعم؛ يقول ابن كثير: (ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر، كما ورد في حديث: «استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها؛ فإن كل ذي نعمة محسود (3) »
__________
(1) تفسير القرآن العظيم ابن كثير: 2\470.
(2) انظر شرح النووي على صحيح مسلم: 15\17، والجامع لأحكام القرآن القرطبي: 4\3356.
(3) أخرجه الروياني في مسنده عن معاذ: 2\427، وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه: (أنه حديث منكر، لا يعرف له أصل، وفيه حسين بن علوان) ، وقد قال ابن عدي: (عامة أحاديثه موضوعة) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 8\195 رواه الطبراني في الثلاثة وفيه سعيد بن سلام العطار، وقال العجلي: لا بأس به، وكذبه أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات، إلا أن خالد بن معدان لم يسمع من معاذ) ، وذكر العجلوني أيضا في الكشف: 1\135 أن الخلعي ذكره في فوائده عن علي رفعه، وقال: (ويستأنس له بما أخرجه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا: (إن لأهل النعم حسادا فاحذروهم) .(87/239)
جـ - لا يخبر بها إلا العالم بتأويلها؛ لأن الرؤيا تقع على حسب ما يعبرها المعبر، فلا يسأل إلا من اتصف بصفات منها العلم والنصح والإحسان، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الرؤيا تقع على ما تعبر، ومثل ذلك رجل رفع رجله، فهو ينتظر متى يضعها، فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا عالما أو ناصحا (1) » «فالرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت (2) » قال: وأحسبه قال: «ولا يقصها إلا على واد أو ذي رأي (3) »
وفي رواية: «ولا يحدث بها إلا حبيبا أو لبيبا (4) » ؛ لأن العالم يؤول بها له على الخير مهما أمكنه ذلك، وأما الناصح فإنه يرشد إلى ما ينفعه، ويعينه عليه، وأما اللبيب وهو العارف بتأويلها فإنه يعلمه بما يؤول عليه في ذلك، أو يسكت، وأما الحبيب فإنه إن عرف خيرا قاله، وإن جهل أو شك سكت (5) لأنه يعلم أنها إذ عبرت وقعت على الرائي يعني يلحقه حكمها،
__________
(1) أخرجه الحاكم: 4\433 وقال: (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي وصححه الألباني في الصحيحة: 1\24.
(2) سنن الترمذي الرؤيا (2278) ، سنن أبي داود الأدب (5020) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3914) ، مسند أحمد (4/10) ، سنن الدارمي الرؤيا (2148) .
(3) أخرجه أبو داود: ج4 ص305، وابن ماجه: ج2\1288، وابن حبان، ج13 ص415، قال الألباني في سنن أبي داود: 5020 (صحيح) .
(4) أخرجه الترمذي: 9\132، وقال: حديث حسن صحيح.
(5) انظر: فتح الباري ابن حجر: 12\369، وتحفة الأحوذي المباركفوري: 6\129.(87/240)
قال في النهاية (1) «الرؤيا على رجل طائر، ما لم تعبر (2) » أي لا يستقر تأويلها حتى تعبر، يريد أنها سريعة السقوط إذا عبرت، كما أن الطير لا يستقر في أكثر أحواله، فكيف ما يكون على رجله؟ ومنه الحديث: «الرؤيا لأول عابر (3) » «وهي على رجل طائر (4) » .. أراد على رجل قدر جار وقضاء ماض من خير أو شر «والرؤيا لأول عابر (5) » يعبرها أي أنها إذا احتملت تأويلين أو أكثر فعبرها من يعرف عبارتها وقعت على ما أولها وانتفى عنها غيره من التأويل، وقال السيوطي: والمراد أن الرؤيا هي التي يعبرها المعبر الأول، فكأنها كانت على رجل طائر، فسقطت ووقعت حيث عبرت، وأحسبه أي النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أي لا تعرض رؤياك إلا على واد) بتشديد الدال أي محب لأنه لا يستقبلك في تفسيرها إلا بما تحب، أو ذي رأي، أي: عاقل أو عالم، قال الزجاج: معناه ذو علم بعبارة الرؤيا، فإنه يخبرك بحقيقة تفسيرها أو بأقرب ما يعلم منه (6) وقال الألباني: (والحديث صريح بأن الرؤيا تقع على مثل ما تعبر، ولذلك أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نقصها إلا على ناصح أو عالم؛ لأن المفروض فيهما أن يختارا أحسن المعاني في تأويلها فتقع على وفق ذلك، لكن مما لا ريب فيه أن ذلك
__________
(1) في غريب الحديث
(2) سنن الترمذي الرؤيا (2278) ، سنن أبي داود الأدب (5020) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3914) ، مسند أحمد (4/10) ، سنن الدارمي الرؤيا (2148) .
(3) أخرجه ابن ماجه: 2\1288، وأبو يعلى في مسنده: 7\158، وقال ابن حجر في فتح الباري: 12\432: (هو حديث ضعيف، فيه يزيد الرقاشي، ولكن له شاهد أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه بسند حسن، وصححه الحاكم عن أبي رزين رفعه) .
(4) سنن الترمذي الرؤيا (2279) ، سنن أبي داود الأدب (5020) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3914) ، مسند أحمد (4/12، 4/13) ، سنن الدارمي الرؤيا (2148) .
(5) سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3915) .
(6) انظر: عون المعبود الطيب آبادي: 12\248.(87/241)
مقيد بما إذا كان التعبير مما تحتمله الرؤيا ولو على وجه وليس خطأ محضا، وإلا فلا تأثير له حينئذ، والله أعلم.
وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام البخاري في كتاب التعبير من صحيحه بقوله: باب من يروي الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب (1) ثم ساق حديث (الرجل الذي رأى في المنام ظلة وعبرها أبو بكر الصديق) ، ثم قال: فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أصبت أم أخطأت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصبت بعضا وأخطأت بعضا (2) »
د - يستبشر بها مع كتمانها إلا على من يحب، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأى رؤيا حسنة فليبشر ولا يخبر إلا من يحب (3) »
هـ - يحمد الله تعالى عليها: قال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليحدث بها (4) » لأن الرؤى الحسنة والصالحة نعمة وفضل من الله.
2 - فيما يخص الرؤيا المكروهة:
قد يرى المسلم ما يزعجه في منامه وينغص عليه حياته، فحتى لا تقع الرؤيا السيئة التي رآها عليه التمسك بآداب الرؤيا التي جاءت بالسنة، فقد أخبر الرسول أنها لا تضره، فقد كان أبو سلمة يرى الرؤيا فيصيبه الهلع منها
__________
(1) صحيح البخاري: 6\4582.
(2) أخرجه البخاري: 6\4582.
(3) أخرجه مسلم: 4\1772.
(4) صحيح البخاري التعبير (7045) ، سنن الترمذي الدعوات (3453) ، مسند أحمد (3/8) .(87/242)
حتى لقي أبا قتادة فذكر ذلك له، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلما يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثا، وليتعوذ بالله من شرها؛ فإنها لن تضره (1) » وفي رواية (قال: «إن كنت لأرى الرؤيا أثقل علي من جبل، فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث فما أباليها (2) » وفي رواية أن أبا سلمة قال: (إن كنت لأرى الرؤيا تمرضني، قال: فلقيت أبا قتادة، فقال: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب، فلا يحدث بها إلا من يحب، وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثا، وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها، ولا يحدث به أحدا فإنها لن تضره (3) » وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كانت امرأة من أهل المدينة له زوج يتاجر (ويسافر) فكانت ترى رؤيا كلما غاب عنها زوجها، وقلما يغيب إلا تركها حاملا فتأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: إن زوجي خرج فتركني حاملا، فرأيت فيما يرى النائم أن سارية بيتي انكسرت وأني ولدت غلاما أعور، فقال
__________
(1) أخرجه البخاري: 6\2582 ومسلم: 4\1771.
(2) أخرجه البخاري: 6\2582.
(3) أخرجه البخاري: 6 \2582، ومسلم: 4\1772.(87/243)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير، يرجع زوجك عليك إن شاء الله تعالى صالحا، وتلدين غلاما برا) ، فكانت تراها مرتين أو ثلاثا، كل ذلك تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ذلك لها فيرجع زوجها وتلد غلاما، فجاءت يوما كما كانت تأتيه ورسول الله صلى الله عليه وسلم غائب، وقد رأت تلك الرؤيا، فقلت لها: عم تسألين رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أمة الله؟ فقالت: (رؤيا كنت أراها فآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله عنها فيقول خيرا، فيكون كما قال، فقلت: فأخبريني ما هي؟ قالت: حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرضها عليه كما كنت أعرض، والله ما تركتها حتى أخبرتني، فقلت: والله لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك وتلدين غلاما فاجرا، فقعدت تبكي، فقال: ما لها يا عائشة؟ فأخبرته الخبر وما تأولت لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة إذا عبرتم المسلم الرؤيا فاعبروها على الخير؛ فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها) فمات والله زوجها، ولا أراها إلا ولدت غلاما فاجرا (1) »
__________
(1) أخرجه الدارمي: 2\174، وقال ابن حجر في الفتح: 12\432: (وعند الدارمي بسند حسن) . وقال محقق سنن الدارمي: 2\175 فواز زمرلي: (وفي سنده محمد بن إسحاق، وقد عنعن) .(87/244)
فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم عدة أشياء من أجل دفع شر هذه الرؤيا المكروهة، وهي:
أولا: أن يتعوذ بالله من شرها ثلاثا.
ثانيا: يتعوذ بالله من شر الشيطان ثلاثا.(87/244)
ثالثا: يبصق على يساره ثلاثا؛ قال صلى الله عليه وسلم: «فليبصق على يساره حين يهب من نومه ثلاثا (1) » أو ينفث، قال صلى الله عليه وسلم: «الحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلما يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من شرها فإنها لن تضره (2) »
رابعا: يتحول من جنبه الذي كان عليه: قال صلى الله عليه وسلم: «وليتحول عن جنبه الذي كان عليه (3) »
خامسا: لا يتحدث بها. ولا يذكرها لأحد أصلا ولا يحدث بها حتى لا تقع (4)
سادسا: لا يفسرها لنفسه، بل يحاول نسيانها تماما فلا يفكر بها ولا يحاول تأويلها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأى أحدكم الرؤيا الحسنة فليفسرها، وليخبر بها، وإذا رأى الرؤيا القبيحة فلا يفسرها، ولا يخبر بها (5) »
__________
(1) أخرجه البخاري: 6\2582.
(2) أخرجه البخاري: 6\2582 ومسلم: 4\1771.
(3) أخرجه مسلم: 4\1772.
(4) انظر فتح الباري ابن حجر: 12\371.
(5) أخرجه ابن عبد البر في التهميد (1-287-288) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3\414) .(87/245)
سابعا: يصلي: قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل (1) »
ثامنا: يقرأ آية الكرسي: وقراءة آية الكرسي لم ترد في السنة، لكن بعض العلماء استنتج ذلك من بعض الأحاديث منهم النووي، يقول ابن حجر: ورأيت في بعض الشروح ذكر قراءة آية الكرسي، ولم يذكر لذلك مستندا، فإن كان أخذه من عموم قوله في حديث أبي هريرة «ولا يقربنك الشيطان (2) » فيتجه، وينبغي أن يقرأها في صلاته المذكورة.
فأما الاستعاذة بالله من شرها فواضح، وهي مشروعة في كل أمر يكره. وأما الاستعاذة من الشيطان فلما وقع في بعض طرق الحديث أنها منه، وإنما يخيل بها لقصد تحزين الآدمي والتهويل عليه كما تقدم. وأما التفل فقال عياض: أمر به طردا للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة تحقيرا له
__________
(1) أخرجه مسلم بلفظ: 4\1773 (فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ولا يحدث بها الناس) .
(2) أخرجه البخاري ج2/ص812.(87/246)
واستقذارا، وخصت به اليسار؛ لأنها محل الأقذار ونحوها. قلت: والتثليث للتأكيد، وقال القاضي أبو بكر بن العربي فيه إشارة إلى أنه في مقام الرقية ليتقرر عند النفس دفعه عنها؛ وعبر في بعض الروايات البصاق إشارة إلى استقذاره.. قال عياض: وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفث المباشر للرقية المقارن للذكر الحسن، كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء.. قلت: لكن المطلوب في الموضعين مختلف؛ لأن المطلوب في الرقية التبرك برطوبة الذكر كما تقدم، والمطلوب هنا طرد الشيطان وإظهار احتقاره واستقذاره.. فإنها لا تضره، فمعناه أن الله جعل ما ذكر سببا للسلامة من المكروه والمترتب على الرؤيا، كما جعل الصدقة وقاية للمال، انتهى. وأما الصلاة فلما فيها من التوجه إلى الله، ولأن في التحرم بها عصمة من الأسواء، وبها تكمل الرغبة وتصح الطلبة لقرب المصلي من ربه، ثم سجوده. وأما التحول فللتفاؤل بتحول من تلك الحال التي كان عليها. قال النووي: وينبغي أن يجمع بين هذه الروايات كلها ويعمل بجميع ما تضمنته، فإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها بإذن الله تعالى كما صرحت به الأحاديث. قلت: لم أر في شيء من الأحاديث الاقتصار على واحدة، نعم، أشار المهلب إلى أن الاستعاذة(87/247)
كافية في دفع شرها، وكأنه أخذه من قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (1) {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) فيحتاج مع الاستعاذة إلى صحة التوجه ولا يكفي إمرار الاستعاذة باللسان، وقال القرطبي في المفهم (3) الصلاة تجمع ذلك كله لأنه إذا قام فصلى تحول عن جنبه وبصق ونفث عند المضمضة في الوضوء، واستعاذ قبل القراءة، ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه، فيكفيه الله شرها بمنه وكرمه، وورد في صفة التعوذ من شر الرؤيا أثر صحيح ... عن إبراهيم النخعي قال: «إذا رأى أحدكم في منامه ما يكرهه فليقل إذا استيقظ: أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسله، من شر رؤياي هذه أن يصبني فيها ما أكره في ديني ودنياي (4) » وورد في الاستعاذة من التهويل في المنام ما أخرجه مالك قال: بلغني
__________
(1) سورة النحل الآية 98
(2) سورة النحل الآية 99
(3) وورد هذا الكلام أيضا في كتاب الجامع لأحكام القرآن: 9\128
(4) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: 6\183، ومعمر بن راشد في الجامع: 11\214(87/248)
أن خالد بن الوليد قال: يا رسول الله، إني أروع في المنام، فقال: «قل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر غضبه وعذابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون (1) » (2)
__________
(1) أخرجه الترمذي: 5\541، وقال: (حديث حسن) ، والطبراني في الكبير: 1\74.
(2) فتح الباري ابن حجر: 12\371.(87/249)
المبحث الثالث عشر: حفظ الأطفال مما يضرهم:
لم يغفل الرسول صلى الله عليه وسلم ما يحفظ الأطفال صغارا، فتحفظ بإذن الله أجسادهم ونفسياتهم كبارا، فيشبوا سليمي الجسد والحواس سليمة نفوسهم من الانحراف. وما يشاهد من كثرة الأمراض الجسدية والنفسية هذه الأيام إنما هو بسبب غفلة الناس عن وسائل حفظهم وحفظ أطفالهم التي وردت في السنة الشريفة، ومن هذه الوسائل:(87/249)
1 - اختيار الوالدين الصالحين قبل تكوين الطفل:
لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الأسس التي تبنى عليها الأسرة الصالحة المؤهلة لتربية الأجيال المسلمة، ومن هذه الأسس اختيار الزوج الصالح والزوجة الصالحة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض (1) » وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع؛ لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك (2) »
2 - البسملة والذكر والدعاء قبل تكوين خلق الطفل: قال صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا – فقضي بينهما ولد، لم يضره شيطان أبدا (3) » أي لم يضره بمس ولا بزيغ.
3 - الأذان في أذن المولد اليمنى والإقامة في اليسرى: لقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «أذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه
__________
(1) أخرجه ابن ماجه: ج1/ص632، والترمذي: ج3\394- 395، وقال: (هذا حديث حسن غريب) ، والحاكم: ج2/ص179، وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) .
(2) أخرجه البخاري: ج5/ ص1958، ومسلم ج2/ص1086.
(3) أخرجه البخاري: 1\65، ومسلم: 2\1058.(87/250)
اليسرى (1) » في رواية: «من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى، لم تضره أم الصبيان (3) »
4 - تحنيك المولود والتبريك عليه: فقد «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم (4) » وفي رواية: «فيدعو لهم بالبركة (5) » وقد بينت بعض الأحاديث نوع التمر الذي يحنك فيه، فقد
__________
(1) أخرجه أبو داود: 4\328، والترمذي: 4 \97 وقال: (حديث حسن صحيح) وأحمد: 6\391، والحاكم: 3\197، وقال: (صحيح الإسناد ولم يخرجاه) ، والبيهقي في السنن: 9\305، والشعب: 6 \389، والطبراني في الكبير: 1\315-3\30-31، والأوسط: 9\102 والبزار في مسنده 9\325، وأورده ابن تيمية في الكلم الطيب: 111.
(2) أخرجه أبو يعلى في مسنده: 12\150، والديلمي في الفردوس 3\632، وأورده الصنعاني في سبل السلام 4 \100، والشوكاني في نيل الأوطار: 5\230، وقال: حكى في البحر استحباب ذلك عن الحسن البصري، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير 4\149: قد روي مرفوعا، أخرجه ابن السني من حديث الحسين بن على بلفظ: (من ولد له مولود) الحديث، وانظر حاشية المحقق في الكلم الطيب ص 111، فقد قال الألباني: موضوع، رواه ابن السني بسند فيه متهمان بالوضع، والثالث ضعيف، ذكروا في الحديث، ورواه البيهقي من حديث الحسن بن علي، وهو هاهنا عن الحسين، وكذلك ذكره النووي في الأذكار. وراجع سلسلة الأحاديث الضعيفة.
(3) (2)
(4) أخرجه مسلم: 1\237.
(5) أخرجه أبو داود: 3\106 وقال الألباني في الكلم الطيب: 111: (إسناده صحيح على شرط الشيخين) .(87/251)
ذكر أبو طلحة أنه حمل وليده وأتى به الرسول، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم «بعجوة من عجوة المدينة فلاكها في فيه حتى ذابت، ثم قذفها في في الصبي، فجعل الصبي يتلمظها (2) » وفي رواية: (عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما «أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة قالت: فخرجت ... فأتيت المدينة، فنزلت قباء فولدت بقباء، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة
__________
(1) أخرجه البخاري: 5\2082، ومسلم: 4\271.
(2) (1) قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظروا إلى حب الأنصار التمر، فمسح وجهه وسماه عبد الله(87/252)
فمضغها، ثم تفل في فيه فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له وبرك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام ففرحوا به فرحا شديدا؛ لأنهم قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم، فلا يولد لكم (1) »
والتمر من أفضل ما يدخل الجوف لفائدته بالذات للكبد، وقد شبه ابن حجر المولود بالصائم الذي يفطر على الرطب والتمر (2)
5 - اختيار الاسم الحسن للمولود: ويلاحظ في ذلك:
أ - نوع الاسم: فالاسم الحسن مما يجلب السرور لحامله والتفاؤل لغيره. فعلى الوالد أن يسميه بالأسماء الحسنة، لا السيئة التي تجعله يتحاشى ويخجل من ذكر اسمه أمام الغير؛ فإن الأسماء لا تباع ولا تشترى، فهي بلا ثمن. فعن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطير، ويعجبه الاسم الحسن (3) » وقد سمى ابن الزبير (4) وابن طلحة (5) بعبد الله لأنه أحب الأسماء إلى الله
__________
(1) أخرجه البخاري: 5\2081.
(2) انظر فتح الباري ابن حجر: 3\588.
(3) أخرجه أحمد: 1\257، وابن حبان: 13\140، وقال الألباني في صحيح أبي داود: 2\742 (صحيح) .
(4) أخرجه مسلم: 3\1690.
(5) أخرجه مسلم: 3\1690.(87/253)
ب - وقت التسمية: يستحب أن يسمى المولود يوم سابعه، قال صلى الله عليه وسلم: «الغلام مرتهن (2) تذبح عنه يوم سابعه ويحلق رأسه ويسمى يوم السابع» يسمى عند أول مولده لتسميته صلى الله عليه وسلم ابن الزبير (3) وابن طلحة (4) بعبد الله وغيرهما عند مولدهم.
6 - حلق رأس المولود وإراقة الدم عنه: لقد ورد في الحديث السابق حلق رأس المولود والعق عنه، ولقد عق صلى الله عليه وسلم عن الحسن، وقال لفاطمة «احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة (5) » وفي رواية: «أمر أن يماط عن رؤوسهما الأذى (6) » وإطلاقه حلق الرأس يشمل الأنثى،
__________
(1) أخرجه البخاري 5\2082، وابن ماجه: 2\1056، والترمذي: 4\101، والحاكم: 4\264 واللفظ له.
(2) (1) بعقيقته (عقيقته.. الشعر الذي يولد فيه) مقاييس اللغة 4\4.
(3) أخرجه مسلم: 3\1690.
(4) أخرجه البخاري: 5\2082، ومسلم: 3\1689.
(5) أخرجه الترمذي 4\99 وقال: (حديث حسن، وغريب غير متصل) ، والحاكم: 4\265.
(6) أخرجه الحاكم: 4\264، والبيهقي في الكبرى: 9\303، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 4\58: (رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح.(87/254)
واستدل بقوله: (يذبح عنه ويسمى ويحلق) بالواو وعلى عدم اشتراط الترتيب، وأميطوا: أزيلوا، ومعنى (الأذى) أي شعر رأسه وما عليه من قذر طاهر أو نجس ليخلف الشعر شعر أقوى منه ولأنه أنفع للرأس مع ما فيه من فتح مسام الرأس ليخرج البخار بسهولة، وفيه تقوية حواسه (1) أما العقيقة فتذبح عنه يوم سابعه، وفيه دليل على أن وقت العقيقة سابع الولادة، وأنها لا تشرع قبله ولا بعده، وقيل: تجزي في السابع الثاني والثالث، فقد أخرج البيهقي «العقيقة لسبع ولأربعة عشرة ولإحدى وعشرين (2) » (3)
7 - ختان المولود: لقد شرع الختان لما فيه من دفع المضرة والأذى عن الصبي، والآن غير المسلمين اتجهوا نحو الختان لما رأوا فائدته للصحة، «وقد ختن صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين يوم السابع من ولادتهما (4) » يقول المباركفوري: " وإذا قلنا بالصحيح استحب أن يختن في
__________
(1) انظر: فيض القدير المناوي: 4\416.
(2) أخرجه البيهقي في الكبرى: 9\303 بلفظه، وقال الألباني في سنن الترمذي: 1522: صحيح.
(3) انظر: عون المعبود الطيب أبادي: 8 \28.
(4) أخرجه الطبراني في الأوسط: 7\12، والصغير 2\122، والبيهقي في السنن: 8\324، وانظر الذرية الطاهرة: 1\76، وتنوير الحوالك: 1\128، وتحفة المحتاج 2 \497، وخلاصة البدر المنير: 2\329، ونيل الأوطار: 1\138، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 4\59: رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.(87/255)
اليوم السابع من ولادته وهل يحسب يوم الولادة من السبع أو يكون سبعة سواه فيه وجهان أظهرهما يحسب (1)
8 - حفظ الصبيان من اللعب في المساء: لقد مر تفصيله في المبحث التاسع من هذا الفصل.
إيراد الأدلة الخاصة بالتحرزات الليلية ومن ضمنها حفظ الصبيان: وقد ذكر الإمام ابن القيم أن سبب منع الأطفال من اللعب تلك الساعة أن الليل إذا أقبل يكون محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة وفيه تنتشر الشياطين؛ لأن الليل هو محل الظلام، وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن أكثر من تسلطها بالنهار؛ لأن سلطان الشياطين إنما يكون في الظلمات والمواضع المظلمة وعلى أهل الظلمة؛ لذلك أمر سبحانه بالاستعاذة من شر الليل والقمر إذا وقب (2)
9 - تربية الولد تربية حسنة: لا بد من الاهتمام بهذا الأمر لحفظه وحفظ دينه بإذن الله، قال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه (3) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من حق الولد على والده أن يحسن أدبه وتعليمه (4) »
__________
(1) تحفة الأحوذي: 2\28، وانظر نيل الأوطار: 1\138.
(2) انظر التفسير القيم الإمام ابن القيم جمع أويس الندوي: 560، الحسد لولوة المفلح: 40.
(3) أخرجه البخاري: 1\456.
(4) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: 6\403، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8\47: رواه البزار وفيه عبد الله بن سعيد المقبري المقبري وهو متروك.(87/256)
10 - العدل بين الأولاد: لقد كان السلف يعدلون بين البنين حتى في القبلة فكيف بما عداها لأن الجور وعدم العدل يورث الضغينة بينهم، فينمو الصبي وقد امتلأت نفسه بالحقد والبغض لأقرب الناس إليه فكيف بالبعيد عنه، وهذا من الجور المنهي عنه، قال النعمان بن بشير «إن أمه بنت رواحة (2) »
__________
(1) أخرجه مسلم: 3\1243.
(2) (1) سألت أباه بعض الموهوبة من ماله لابنها فالتوى بها سنة ثم بدا له فقالت: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وهبت لابني، فأخذ بيدي وأنا يومئذ غلام فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أم هذا بنت رواحة أعجبها أن أشهدك على الذي وهبت لابنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بشير، ألك ولد سوى هذا؟ قال: نعم، فقال: أكلهم وهبت له مثل هذا؟ قال: لا، قال: فلا تشهدني إذا، فإني لا أشهد على جور(87/257)
11 - تركهم أغنياء غير محتاجين: فعن عامر بن سعد عن أبيه قال: «عادني النبي صلى الله عليه وسلم عام حجه الوداع من مرض أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قال: فأتصدق بشطره؟ قال: لا، الثلث يا سعد، والثلث كثير، فإنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس (1) »
وحتى لا يشبوا على الفقر والحاجة وإراقة ماء الوجه بالسؤال. يقول ابن حجر قوله: " عالة " أي فقراء.... قوله: " يتكففون الناس " أي يسألون الناس بأكفهم، يقال: تكفف الناس واستكف، إذا بسط كفه للسؤال، أو سأل ما يكف عنه الجوع، أو سأل كفا كفا من الطعام، وقوله في أيديهم أي بأيديهم، أو سألوا بأكفهم وضع المسؤول في أيديهم (2)
12 - الرفق في جميع الأمور وخصوصا مع الأطفال ورحمتهم: إن الرفق مطلوب بكل أمر وشيء، ومع الوالدين، ومع الناس، فكيف بهؤلاء الضعفاء؟ فقد قال صلى الله عليه وسلم ذاكرا أن الرفق يكون في كل شيء وأنه يزينه، وإذا فقده كان عيبا ونقصا وشينا: «إن الرفق لم يكن في شيء
__________
(1) أخرجه البخاري: 3\1431.
(2) فتح الباري ابن حجر: 5\366.(87/258)
إلا زانه ولم ينزع من شيء إلا شانه (1) » وكيف لا يكون زينا والله يحبه، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله (2) » والرفق سبب لجلب الخير ودفع البلاء، يقول صلى الله عليه وسلم: «من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار (3) » والرفق فضل من الله يتفضل به على من يشاء من عباده ويكون خيرا لهم، يقول صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة ارفقي فإن الله إذا أراد بأهل بيت خيرا دلهم على باب الرفق (4) » ومن يفقده يفقد الخير ويحل محله الشر، يقول صلى الله عليه وسلم: «من يحرم من الرفق يحرم الخير (5) » لأن الله عز وجل من أسمائه الرفيق فهو يحب الرفق ويعطي عليه: «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف (6) »
وقد وردت أحاديث تبين الرفق بالطفل ورحمته من حمله وتقبيله.
__________
(1) أخرجه مسلم: 4\2004.
(2) أخرجه البخاري: 6\2539.
(3) أخرجه أحمد 9\159، وقال ابن حجر في الفتح: 10\417 (وعند أحمد بسند رجاله ثقات) .
(4) أخرجه أحمد: 6\104، وقال الألباني في الصحيحة: 523: صحيح.
(5) أخرجه مسلم: 4\2003.
(6) أخرجه أبو داود: 4\254، وأحمد 4\87، وقال الألباني في سنن أبي داود: 4807: صحيح.(87/259)
قال أبو قتادة: «خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص (2) » قال أبو هريرة رضي الله عنه: «قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي (4) » وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقبلون الصبيان فما نقبلهم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟! (5) » ويقول ابن حجر شارحا هذه الأحاديث: " وأمامة بنت أبي العاص هي ابنة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة وهو رحمة الولد وولد الولد ومن شفقته صلى الله عليه
__________
(1) أخرجه البخاري: 5\2235.
(2) (1) على عاتقه فصلى فإذا ركع وضعها وإذا رفع رفعها
(3) أخرجه البخاري: 5\2235.
(4) (3) جالسا فقال الأقرع إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا قط فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " من لا يرحم لا يرحم
(5) أخرجه البخاري: 5\2235.(87/260)
وسلم ورحمته لأمامة أنه كان إذا ركع أو سجد يخشى عليها أن تسقط فيضعها وكأنها كانت لتعلقها به لا تصبر في الأرض فتجزع من مفارقته فيحتاج أن يحملها إذا قام واستنبط منه بعضهم عظم قدر رحمة الولد لأنه تعارض حينئذ المحافظة على المبالغة في الخشوع والمحافظة على مراعاة خاطر الولد فقدم الثاني ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لبيان الجواز. قوله: «من لا يرحم لا يرحم (1) » أي الذي يفعل هذا الفعل لا يرحم " (2)
13 - ألا يضرب الطفل دون سن العاشرة من العمر: لأنه لم يرد في الشريعة أمر بضرب الأطفال على شيء إلا على الصلاة الركن الثاني من أركان الإسلام فهي من أعظم الأعمال بعد الشهادة، ومع ذلك لا يضرب الطفل على تركها قبل سن العاشرة وبعد أن يكرر الأمر عليه بصلاتها خمس مرات باليوم لمدة ثلاث سنوات، قال صلى الله عليه وسلم: «مروا صبيانكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر (3) » فكيف يضرب الطفل على أمر من أمور الدين يأتي بعدها بالمرتبة أو على أي شيء آخر من أمور الدنيا فالله الله في الرفق بهم وضبط الأعصاب وعدم الغضب عند التعامل معهم فقد تضرب الأم طفلها لأنه كسر شيئا من الآنية أو غيرها فهل تكسر نفس ابنها؟ أيهما
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5997) ، صحيح مسلم الفضائل (2318) ، سنن الترمذي البر والصلة (1911) ، سنن أبي داود الأدب (5218) ، مسند أحمد (2/514) .
(2) فتح الباري ابن حجر: 10\429.
(3) أخرجه أبو داود: 1\133، وقال الألباني في إرواء الغليل 298: صحيح. وأحمد 2\180، والحاكم: 1\311، والدارقطني: 1\230.(87/261)
أغلى عندها؟(87/262)
وعند إرادة ضرب الطفل فوق سن العاشرة على المؤدب ملاحظة أن:
أ - يكون الضرب للتأديب لا للانتقام كما يشاهد من بعض الناس.
ب - يرفق بالطفل أثناء الضرب ولا يضرب بما يسبب عاهة.
ج - لا يضرب الوجه، نعم عليه أن يتجنب الضرب في بعض المواضع التي قد يتسبب الضرب فيها بعاهة أو موت فلا يضربه فيها ومنها الوجه، فعن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب على الوجه وعن الوسم في الوجه (1) » لأن الوجه مقر الحسن والجمال فهو لطيف يجمع المحاسن لشرف أعضائه فهو يجمع الحواس، فإن أكثر ما يقع الإدراك به من أعضائه فيخشى من ضربه أن تبطل أو تتشوه كلها أو بعضها، والشين فيها فاحش لظهورها وبروزها بل لا يسلم إذا ضربه غالبا من شين (2) والآن الدراسات الغربية تتحدث الآن عن ضرب الوجه وتذكر أنه يسبب العقد النفسية.
__________
(1) أخرجه مسلم: 3\1673، وفي رواية: '' إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه '' أخرجه أبو داود: 4\167، وقال الألباني في سنن أبي داود: 4493 '' صحيح '' وفي رواية: '' إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه ''، أخرجه أبو داود: 2\902، وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد 130\174:: '' صحيح ''
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن القرطبي: 5\167، فتح الباري ابن حجر: 5\184.(87/262)
14 - الدعاء للطفل بالخير: فعلى الوالد أن يدعو للأطفال بخيري الدنيا والآخرة من الحفظ والعافية والتسديد، فقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: «أن دعاء الوالد لولده مستجاب (1) »
15 - تعويذ الأطفال: ينبغي للمسلم تعويذ بنيه، إذا نزل منزلا يعوذهم وفي الصباح والمساء كما مر في التعويذ (2) فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين يقول: «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، ثم يقول: هكذا كان يعوذ إبراهيم ابنيه إسماعيل وإسحاق (3) »
والأفضل أن يكون هذا التعويذ صباحا ومساء وأن يكون ثلاث مرات (4)
16 - عدم الدعاء على الأطفال، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم، وذكر منها دعوة الوالد على ولده (5) » ، فالواجب على الوالد أن يتقي ربه في ولده فلا يدعو عليه بما يسبب للولد ووالده المضايق والشدائد، فإن أول من يحزن لحال الولد الوالد قبل ولده ودعوة الوالد
__________
(1) أخرجه بن ماجه 2\1270، والبيهقي في الكبرى: 10\201، وقال الألباني في صحيح الجامع الصغير 3032: حسن.
(2) أخرجه ابن جبان: 3\299، والنسائي في الكبرى: 2\152 وأنها تقال ثلاث مرات صباحا ومساء.
(3) أخرجه الترمذي: 4\396، وقال: هذا حديث حسن صحيح. والحاكم 3\183، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وابن حبان 3\292.
(4) أخرجه ابن جبان: 3\299، والنسائي في الكبرى: 2\152 وأنها تقال ثلاث مرات صباحا ومساء.
(5) سنن الترمذي الدعوات (3448) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3862) ، مسند أحمد (2/523) .(87/263)
مستجابة حتى ولو كان الولد صالحا، فقد دعت أم الراهب العابد جريج على ابنها وهي المرأة العادية، ومن عامة الناس على العابد الراهب فاستجيبت دعوتها (1) وقال فضيلة الشيخ سعيد بن مسفر القحطاني - وفقه الله -: " أخبرني رجل من الناس بقصة حصلت له، قال: كان عندي ولد بار بي وفي أحد الأيام أتى إلي ابني ونحن نريد أن ننام، فقال: يا أبت، أنا قد تعبت من المذاكرة، وأريد أن أخرج قليلا وأعود للبيت بعد نصف ساعة، فقال الأب: يا ولدي لا تخرج الله يهديك، الناس نيام وأنت قد لبست ثوب النوم، فقال الابن: سوف أخرج بثوب النوم وأعود، فقال الأب: لا، فلم يراجعه الابن لأنه بار وطيب، ثم ذهب ورأته أمه فقالت: ماذا بك؟ قال: طلبت من أبي أن أخرج قليلا، فأبى، فذهبت الأم إلى الأب وقالت: ولدنا طيب وفيه خير، دعه يذهب ويرجع، ومع الضغوط وافق الأب وقال: دعيه يخرج الله لا يرده، يقول: قلت ذلك وأنا لست بصادق، وكأنها خرجت من فمي وباب السماء مفتوح، يقول: ذهب الولد ومضت ساعة، وساعة ونصف، وساعتان ولم يأت الولد، أذن الفجر ولم يأت، فصار قلبي فيه مثل طعنة الرمح، وعرفت أنها الدعوة، يقول الأب: ثم صليت ورجعت إلى البيت ولم يأت ابني، فذهبت للشرطة فاتصلوا بالأجهزة، وقالوا: هناك حوادث ووفيات اذهب للمستشفى، فذهبت وفتحوا الثلاجة وإذا ابني آخر
__________
(1) أخرجه البخاري: 3\1268، ومسلم: 4\1976.(87/264)
واحد قد مات بعد حادث، وهو بثوب نومه، فأخرجناه وصلينا عليه ودفناه، وعرفت عندها أنني أنا السبب دعوت فاستجيبت دعوتي " (1)
17 - قول " ما شاء الله " على الأولاد والمال: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنعم الله على عبد نعمة من مال أو أهل أو ولد فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فيرى فيها آفة دون الموت " وقرأ: (3) » بقدرتك وقوتك، ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع ومحقه فلا يستطيع على شيء منه (4) لأنه لا قدرة ولا قوة للإنسان على حفظ بدنه وماله أو دفع شيء عنها إلا بالله (5) ويقول الشوكاني: إن ذلك تحضيض له على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله إن شاء أبقاها،
__________
(1) من عجائب الدعاء خالد الربعي: 83، 84.
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط: 6\126، والصغير: 1\352، وقال: لا يروى هذا الحديث عن أنس إلا بهذا الإسناد، تفرد به عمر بن يونس. والبيهقي في الشعب: 4\90 و 124، والبغدادي في موضع أوهام الجمع والتفريق: 2\439، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد: 10\140، وقال: رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه يونس بن تميم وهو ضعيف. ثم قال: وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: '' من أنعم الله عليه بنعمة فأراد بقاءها فليكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله ''، رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد الرحمن بن خالد بن نجيح، وهو ضعيف. وابن كثير في التفسير 3\85، وقال: قال الحافظ أبو الفتح الأزدي: عيسى بن عون عن عبد الملك بن زرارة عن أنس، لا يصح حديثه. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع: 5\86.
(3) سورة الكهف الآية 39 (2) {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}
(4) انظر: الجامع لأحكام القرآن القرطبي: 10\406.
(5) انظر تفسير البغوي: 3\163، وزاد المسير: 5\144.(87/265)
وإن شاء أفناها، وعلى الاعتراف بالعجز وأن ما تيسر له من عمارتها إنما هو بمعونة الله لا قوته وقدرته، قال الزجاج: لا يقوى أحد على ما في يده من ملك ونعمة إلا بالله، ولا يكون إلا ما شاء الله ثم لما علمه الأمان وتفويض الأمور إلى الله سبحانه " (1) لأن الله هو المنعم والمعطي فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه سبحانه (2) فالأمور التي تحفظ الولد بإذن الله وتدفع عنه البلاء كما مر ذكرها هي: اختيار الأب الصالح فقد قال - صلى الله عليه وسلم - «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه (3) » والأم ذات الدين، قال صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك (4) » والبسملة والذكر والدعاء قبل تكوين خلق الطفل، والأذان في أذن المولود اليمنى والإقامة في اليسرى، وتحنيكه والتبريك عليه عند ولادته، واختيار الاسم الحسن له، وحلق رأسه ذكرا كان أم أنثى، وختان الصبي، وحفظ الأطفال من اللعب في المساء، وتربيتهم تربية حسنة، والعدل بينهم، وتركهم أغنياء غير محتاجين، والرفق بهم ورحمتهم، وألا يضربهم دون سن العاشرة من العمر، وأن يكثر الوالد من الدعاء لولده بالخير ويحرص على تعويذهم وعدم الدعاء عليهم.
__________
(1) فتح القدير، للشوكاني 3\287، وانظر أبي السعود: 5\223، والبيضاوي: 3\105.
(2) انظر: مجموع الفتاوى ابن تيمية: 14\341.
(3) أخرجه: ابن ماجه ج 1 ص 632، والترمذي ج 3 ص 395، وقال: هذا حديث حسن غريب.
(4) أخرجه البخاري: ج 5 ص 1958، ومسلم ج 2 ص 1086.(87/266)
الفصل الثاني: أسباب رفع البلاء بعد وقوعه:
وفيه أربعة مباحث هي:
المبحث الأول: الحبة السوداء.
المبحث الثاني: الشفاء في ثلاث.
المبحث الثالث: الصبر.
المبحث الرابع: ماء زمزم.(87/267)
صفحة فارغة(87/268)
تمهيد:
إذا أصاب المسلم البلاء فله رفعه بالأسباب المشروعة والتداوي بعد وقوعه – بإذن الله - ويستيقن أن الله تعالى هو الشافي، يقول تعالى عن نبيه إبراهيم أنه قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (1) ، وقد أباح الله عز وجل التداوي بأنواع الأدوية لكن بشرط أن تكون حلالا، قال صلى الله عليه وسلم: «تداووا عباد الله فإن الله سبحانه لم يضع داء إلا وضع معه شفاء إلا الهرم (2) » ومن أعظم التداوي والاستشفاء من الأمور الحسية والمعنوية القرآن الكريم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (3) ، وقال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} (4) .
فهذه الآية تبين أن القرآن سبب للشفاء من مرض الشبهات والكفر والشرك والنفاق، وشفاء للمرض العضوي من سل أو غيره
__________
(1) سورة الشعراء الآية 80
(2) أخرجه أبو داود: 4\3، والنسائي في الكبرى 4\134، وقال الألباني في صحيح ابن ماجه 2\252: حسن صحيح. وأخرج البخاري بلفظ: '' ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء '' 5\2151.
(3) سورة يونس الآية 57
(4) سورة التوبة الآية 14(87/269)
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (1) ، وقد خصه الله عز وجل بأنه شفاء ورحمة وهدى للمؤمنين، يقول الله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2) .
المبحث الأول: الحبة السوداء:
قد ذكر صلى الله عليه وسلم أن الحبة السوداء شفاء من كل مرض وداء، قالت عائشة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن هذه الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا من السام. قلت: وما السام؟ قال: الموت (3) » وفي رواية: «إن في الحبة السوداء (4) » ذكر الإمام ابن القيم أن قوله: " شفاء من كل داء " مثل قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (5) أي كل شيء يقبل التدمير ونظائره (6)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 82
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) أخرجه البخاري: 5\21545.
(4) أخرجه مسلم: 4\1735.
(5) سورة الأحقاف الآية 25
(6) زاد المعاد ابن القيم: 4\297.(87/670)
طرق التداوي بالحبة السوداء:
هناك طرق كثيرة للتداوي بالحبة السوداء، منها ما ذكر ابن أبي عتيق بقوله: «عليكم بهذه الحبيبة السوداء، فخذوا منها خمسا أو سبعا فاسحقوها ثم اقطروها في أنفه بقطرات زيت في هذا الجانب وفي هذا الجانب (1) » ومن هذه الطرق أيضا ما ذكر عن الصحابة وبعض التابعين، ومنه ما ذكر عن أهل الطب، يقول الإمام ابن حجر عن تداوي الصحابة وأهل الطب بها: وهذا الذي أشار إليه ابن أبي عتيق (2) ذكره الأطباء في علاج الزكام العارض معه عطاس كثير وقالوا: تقلى الحبة السوداء ثم تدق ناعما ثم تنقع في زيت ثم يقطر منه في الأنف ثلاث قطرات، وظاهر سياقه أنها موقوفة عليه (3) ويحتمل أن تكون عنده مرفوعة.
وعن عبد الله بن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن هذه الحبة السوداء فيها شفاء (4) » الحديث، وفي لفظ: «قيل وما الحبة السوداء، قال " الشونيز " قال: وكيف أصنع بها قال: " تأخذ إحدى وعشرين حبة
__________
(1) أخرجه البخاري: 5\2153.
(2) هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.
(3) أي: بن أبي عتيق.
(4) أخرجه البخاري: 5\2154، ومسلم: 4\1736.(87/271)
فتصرها في خرقة ثم تضعها في ماء ليلة فإذا أصبحت قطرت في المنخر الأيمن واحدة وفي الأيسر اثنتين فإذا كان من الغد قطرت في المنخر الأيمن اثنتين وفي الأيسر واحدة، فإذا كان اليوم الثالث قطرت في الأيمن واحدة وفي الأيسر اثنتين (1) » ويؤخذ من ذلك أن معنى كون الحبة السوداء شفاء من كل داء أنها لا تستعمل في كل داء صرفا بل ربما استعملت مفردة، وربما استعملت مركبة، وربما استعملت مسحوقة وغير مسحوقة، وربما استعملت أكلا وشربا وسعوطا وضمادا وغير ذلك (2)
__________
(1) أخرجه الترمذي: 4\402، وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي 6\163، قال المناوي: إسناده صحيح.
(2) فتح الباري ابن حجر 10\145، وانظر تحفة الأحوذي المباركفوري 6\163.(87/272)
المبحث الثاني حديث: «الشفاء في ثلاث (1) » : ومن الأدوية النافعة أيضا العسل، والحجامة، والكي، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهى أمتي عن الكي (2) » وفي هذه الرواية خص هذه الأدوية بالمنفعة دون غيرها فدل على فائدتها العظيمة.
أولا: العسل: ومن هذه الأدوية العسل، قال تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} (3)
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5681) ، سنن ابن ماجه الطب (3491) ، مسند أحمد (1/246) .
(2) أخرجه البخاري 5\2151، مسلم 5\2152.
(3) سورة النحل الآية 69(87/272)
يقول ابن كثير: " شفاء للناس أي في العسل شفاء للناس أي من أدواء تعرض لهم، قال بعض من تكلم: لو قال فيه الشفاء للناس لكان دواء لكل داء، ولكن قال: فيه شفاء للناس، أي يصلح لكل أحد من أدواء باردة فإنه حار والشيء يداوى بضده " ومنافع العسل لا تكاد تحصى فمن أراد الاستزادة فليرجع للكتب التي كتبت وألفت عنه وحوله.(87/273)
ثانيا الحجامة: الحجامة تشفي جميع الأمراض يقينا بإذن الله، كضغط الدم، والسكر، والسرطان، وأمراض القلب، والدم والكلية والرئة والجلطات والعقم ... إلخ؛ فلقد اكتشفت الأبحاث الطبية هذا العلاج الأكيد للأمراض المستعصية، فقد أجرى الحجامة فريق طبي مكون من 15 طبيبا من كلية الطب بجامعة دمشق لأكثر من 300 شخص اعتمد فيها على أخذ عينات من الدم الوريدي قبل وبعد الحجامة، وبعد إخضاع هذه العينات لدراسات مخبرية كاملة تم التوصل إلى نتائج مذهلة، لوحظ فيها اعتدال في ضغط الدم والنبض وانخفاض في كمية السكر في الدم، وارتفاع عدد الكريات الحمر بشكل طبيعي، وارتفاع في عدد الكريات البيض، وزيادة عدد الصفيحات الدموية، كما لوحظ اعتدال شوارد الحديد بالدم، واعتدال السعة الرابطة بين الحجامة وانخفاض كمية الشحوم الثلاثية في الدم،(87/273)
وانخفاض الكوليسترول عند الأشخاص المصابين بارتفاعه فكيف لا تكون هذه النتائج لهذا العلاج.
وقد حث المصطفى على الحجامة وبين أنها من الأدوية النافعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهى أمتي عن الكي (1) » وفي هذه الرواية حصر هذه الأدوية بالمنفعة دون غيرها فدل على فائدتها العظيمة.
يقول الخطابي: انتظم هذا الحديث على جملة ما يتداوى به الناس، وذلك الحجم يستفرغ به الدم وهو أعظم الأخلاط والحجم أنجحها شفاء عند هيجان الدم ... (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «إن في الحجم شفاء (3) » وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط
__________
(1) أخرجه البخاري 5\2151، مسلم 5\2152.
(2) فتح الباري ابن حجر 10\139، وانظر المفهم شرح صحيح مسلم مخطوطة القرطبي 89/أ.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: 5\58: وصححه الألباني في صحيح الجامع: 2128.(87/274)
البحري (2) » وقال: «لا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة (4) » ، وفي رواية قال: «إن أفضل ما تداويتم به الحجامة أو هو من أمثل دوائكم (5) » وفي رواية: «خير ما تداويتم به الحجامة (6) » وقال: أخبرني جبريل: «أن الحجم أنفع ما تداوى به الناس (7) » ويتبين من الأحاديث السابقة أن الحث على الحجامة أتى على ألفاظ منها خير، أنفع، أفضل، ويدل ورودها مترادفة على عظيم نفعها. لكن هل يوجد موانع للحجامة؟ لا يوجد إطلاقا؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن في الحجم شفاء (8) »
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5696) ، صحيح مسلم المساقاة (1577) ، سنن الترمذي البيوع (1278) ، مسند أحمد (3/182) .
(2) (1)
(3) صحيح البخاري الطب (5696) ، صحيح مسلم المساقاة (1577) ، مسند أحمد (3/107) .
(4) (3) وعليكم بالقسط
(5) أخرجه مسلم: 3\1204، وفي رواية: '' إن أفضل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري، ولا تعذبوا صبيانكم بالغمز ''.
(6) أخرجه أحمد: 3\107، والنسائي في الكبرى: 4\376، وصححه الألباني في صحيح الجامع 3323
(7) أخرجه النسائي في الكبرى: 4\376، والحاكم: 4\222، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وصححه الألباني في صحيح الجامع 218.
(8) أخرجه ابن أبي شيبة: 5\58، وأورده الهندي في الكنز: 10\7، وصححه الألباني في صحيح الجامع 218.(87/275)
وما كان أحد يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا في رأسه إلا قال: «احتجم ولا وجعا في رجليه إلا قال: اخضبهما - بالحناء» - " (1)
والحجامة تناسب حتى مرضى السكري والناعور " سيلان الدم " فلا يمنعون من الحجامة، وقد تستخدم الحجامة كوقاية وعلاج من الأمراض، والدليل حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مررت ليلة أسري بي بملء من الملائكة إلا قالوا: يا محمد مر أمتك بالحجامة (2) » وفي رواية: «عليك يا محمد بالحجامة (3) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «واحتجموا لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم (5) » .
__________
(1) أخرجه أبو داود: 4\4، وأحمد 6\462، وقال الألباني في الصحيحة 2059: صحيح.
(2) أخرجه الترمذي: 4\390، وقال: هذا حديث حسن غريب. وصححه الألباني في صحيح الجامع 5671، وصحيح ابن ماجه 2819.
(3) أخرجه أبو داود: 4\4، والترمذي: 4\391، والحاكم: 4\233، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: 2818.
(4) أخرجه ابن ماجه: 2\1153، والحاكم: 4\235، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(5) يتبيغ: يتهيج انظر مختار الصحاح الرازي: 28 (4)(87/276)
مواضع الحجامة:
الهامة: فقد «احتجم النبي صلى الله عليه وسلم بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه (1) »
الأخدعين: قال ابن منظور: إنهما عرقان في الرقبة خلف الأذنين.
وقال أيضا: إنهما عرقان في جانبي العنق (2)
الكاهل: ومكانه أعلى الظهر ما بين الكتفين (3)
فقد «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين والكاهل، وكان يحتجم لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين (4) »
فعن علي قال: «نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بحجامة الأخدعين والكاهل (5) »
ظاهر القدمين، والموضع معروف لفعله صلى الله عليه وسلم (6)
__________
(1) أخرجه مسلم: 2\862.
(2) انظر لسان العرب ابن منظور: 8\66.
(3) انظر مختار الصحاح الرازي: 242.
(4) أخرجه أبو داود: 4\4، والترمذي: 4\390، وقال: هذا حديث حسن غريب. والحاكم: 4\234 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(5) أخرجه ابن ماجه: 2\1152، وأورده الهندي في الكنز: 10\37، وقال الكناني في مصباح الزجاجة 4\62: هذا إسناد ضعيف. وله شاهد من حديث أنس رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي، وقال: حسن.
(6) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه: 4\187.(87/277)
أوقات الحجامة:
في حال الصحة، تستحب في السابع عشر، أو التاسع عشر، أو الحادي والعشرين من الشهر العربي، والدليل حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد الحجامة فليتحر سبعة عشر، أو تسعة عشر، أو إحدى وعشرين، لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله (1) » أما في حال المرض فتعمل في أي وقت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا هاج بأحدكم الدم فليحتجم، فإن الدم إذا تبيغ بصاحبه يقتله (2) »
وكان الإمام أحمد – رحمه الله – يحتجم في أي وقت هاج به الدم، وفي أي ساعة كانت. ولا يعني ذلك أنها لا تعمل في الأيام المستحبة (17 و 19 و 21) من الشهر العربي، وإنما المقصود أنها تعمل مباشرة عند وجود المرض، كما دل عليه الحديث السابق ذكره: «إذا هاج بأحدكم الدم (3) » .. "، وتستحب أن تعمل في الأيام المستحبة أيضا، خصوصا إذا لم يزل المرض بالكلية. وتوجد الحجامة الآن في كثير من المراكز الصحية حيث النظافة والتعقيم والعناية الصحية، والأفضل أن يستخدم السعوط بعد الحجامة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم: «احتجم وأعطى الحجام أجره واستعط (4) » وأفضل السعوط القسط.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه: 2\1153، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: 2824.
(2) أخرجه أبو يعلى في مسنده: 1\386، وصححه الألباني في الصحيحة: 2747.
(3) أخرجه أبو يعلى في مسنده: 1\386، وصححه الألباني في الصحيحة: 2747.
(4) أخرجه البخاري: 5\2154، ومسلم: 3\1205.(87/278)
ثالثا: الكي: انتظم الحديث: «الشفاء في ثلاث (1) » .. " على جملة ما يتداوى به الناس وذلك الحجم يستفرغ به الدم وهو أعظم الأخلاط، والحجم أنجحها شفاء عند هيجان الدم، وأما العسل فهو مسهل للأخلاط البلغمية ويدخل في المعجونات ليحفظ لتلك الأدوية قواها ويخرجها من البدن، وأما الكي فإنما يستعمل في الخلط الباغي الذي لا تنحسم مادته إلا به لهذا جعل من أسباب الشفاء وإنما نهى عنه وكرهه لما فيه من الألم الشديد والخطر العظيم، ولهذا العرب تقول في أمثالها آخر الدواء الكي، وقد كوى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ (2) وغيره، واكتوى غير واحد من الصحابة (3) ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم حصر الشفاء في هذه الثلاثة، فإن الشفاء قد يكون في غيرها إنما نبه على أصول العلاج، والكي آخر العلاج لإخراج ما يتعسر إخراجه من الفضلات، وإنما نهى عنه مع إثباته الشفاء فيه لكونهم كانوا يرون حسم المادة بطبعه فكرهه لذلك، فقد كانوا يبادرون إليه قبل حصول الداء لظنهم أنه يمنع الداء فيتعجل الذي يكتوي التعذيب بالنار لأمر مظنون، وهو لا يتفق له ذلك المرض
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5680) ، سنن ابن ماجه الطب (3491) ، مسند أحمد بن حنبل (1/246) .
(2) أخرجه أحمد: 3\363، وقال الألباني في سنن أبي داود 4866: صحيح.
(3) منهم خباب بن الأرت رضي الله عنه أخرجه أحمد 5\110، والترمذي 3\32، وقال: حديث حسن صحيح.(87/279)
الذي يقطعه الكي، والجمع بين كراهته واستعماله له ألا يتركه مطلقا ولا يستعمله مطلقا بل يستعمل عند تعيينه طريقا إلى الشفاء مع مصاحبة اعتقاد أن الشفاء بإذن الله تعالى(87/280)
المبحث الثالث: الصبر:
الصبر سبب من أسباب رفع البلاء والنصر على الأعداء، والصابر على البلاء يحوز على رضا الرحمن وعلى الفرج والخروج من مضايقه.
معنى الصبر في اللغة هو: الحبس (1)
معنى الصبر في الاصطلاح:
يقول ابن القيم: حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوها (2) والعبد دائما بين الشكر والصبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان
__________
(1) انظر لسان العرب ابن منظور: 4\438.
(2) عدة الصابرين ابن القيم: 27.(87/280)
خيرا له (1) »
يقول شيخ الإسلام عند قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي} (2) {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي} (3) فالجواب يقول: ما كل من وسعت عليه أكرمته، ولا كل من قدرت عليه أكون قد أهنته، بل هذا ابتلاء، ليشكر العبد على السراء ويصبر على الضراء، فمن رزق الشكر والصبر كان كل قضاء يقضيه الله خيرا له كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له (4) » فالمؤمن يصبر على البلاء ولكن لا يسأل الله الصبر قبل وقوع البلاء. قال صلى الله عليه وسلم لرجل سمعه يقول: «اللهم إني أسألك الصبر، فقال: لقد سألت الله البلاء، فسله العافية (5) » لكن عند وقوع الضيق والشدة يسأل العبد ربه الصبر على ما ابتلي به، قال تعالى:
__________
(1) أخرجه مسلم: 4\2295.
(2) سورة الفجر الآية 15
(3) سورة الفجر الآية 16
(4) الفتاوى الكبرى ابن تيمية: 1\262، وانظر مدارج السالكين ابن القيم: 1\80.
(5) أخرجه الترمذي ج 5 ص 541، وقال: هذا حديث حسن.(87/281)
{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (1) {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} (2) وإفراغ الصبر هنا: الصب أي اصبب (3) يقول الإمام الطبري عند تفسيره هذه الآية: وأما قوله: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} (4) فإنه يعني أن طالوت وأصحابه قالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} (5) يعنى أنزل علينا صبرا، وقوله: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} (6) يعني وقو قلوبنا على جهادهم لتثبت أقدامنا فلا ننهزم عنهم {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (7) الذين كفروا بك فجحدوك إلها وعبدوا غيرك، واتخذوا الأوثان أربابا: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} (8) يعني تعالى ذكره بقوله: فهزم طالوت وجنوده أصحاب جالوت، وقتل داود جالوت وفي هذا الكلام متروك ترك ذكره اكتفاء بما ظهر منه عليه، وذلك أن معنى الكلام: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (9) فاستجاب لهم ربهم
__________
(1) سورة البقرة الآية 250
(2) سورة البقرة الآية 251
(3) العين الفراهيدي: 4\408.
(4) سورة البقرة الآية 250
(5) سورة البقرة الآية 250
(6) سورة البقرة الآية 250
(7) سورة البقرة الآية 250
(8) سورة البقرة الآية 251
(9) سورة البقرة الآية 250(87/282)
فأفرغ عليهم صبره وثبت أقدامهم ونصرهم على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله ولكنه ترك ذكر ذلك اكتفاء. قوله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} (1) على أن الله قد أجاب دعاءهم الذي دعوه به، ومعنى قوله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} (2) قتلوهم بقضاء الله وقدره (3)
فالعبد إذا ابتلي بأمر يصبر فقد قال صلى الله عليه وسلم: «اعلم أن مع الصبر النصر، واعلم أن مع الكرب الفرج، واعلم أن مع العسر اليسر (4) » وأمر سبحانه وتعالى بالاستعانة بالصبر، فالذي يصبر يكون الله معه، ومن كان الله معه كان التوفيق حليفه في الدنيا والآخرة، يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (5) وقد بشر الله عز وجل الصابر فقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (6) والصابر يأخذ أجره بدون عد أو حساب، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (7) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 251
(2) سورة البقرة الآية 251
(3) جامع البيان الطبري: 4\408.
(4) أخرجه الحاكم: 3\623، وقال: روى الحديث بأسانيد عن ابن عباس غير هذا. والطبراني في الكبير: 11\123، والشهاب في مسنده: 1\435.
(5) سورة البقرة الآية 153
(6) سورة البقرة الآية 155
(7) سورة الزمر الآية 10(87/283)
فإن جزاء الصابر المسترجع على مصيبته عظيم، يقول الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (1) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (2) فالمسلم الذي يطيع أمر الله فيسترجع عند حلول المصيبة يكون له ثلاث خصال من الله تعالى:
1 - الصلاة عليه وهو الثناء من الله والأمن من العذاب.
2 - رحمة من الله تشمله.
3 - تحقيق سبيل الهدى له (3) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " نعم العدلان ونعمت العلاوة {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (4) فهذه العلاوة وهي ما توضع بين العدلين وهي زيادة في الحمل، وقد أورد مسلم حديثا عن فضل الاسترجاع، وأن الله يبدل المصاب الذي يسترجع خيرا مما فقد.
عن أم سلمة أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها. قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها
__________
(1) سورة البقرة الآية 156
(2) سورة البقرة الآية 157
(3) انظر جامع البيان الطبري: 2\43، وتفسير القرآن العظيم ابن كثير: 1\198.
(4) سورة البقرة الآية 157(87/284)
فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة (2) »
__________
(1) أخرجه مسلم: 2\631.
(2) (1) يخطبني له، فقلت: إن لي بنتا وأنا غيور، فقال: أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة(87/285)
المبحث الرابع ماء زمزم:
ومما يستشفى به ماء زمزم: فماء زمزم ليست كغيرها من المياه بل خصها الله عز وجل بمزايا منها تحقيق الغرض الذي شربت من أجله، قال صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له (1) » وذلك لبركتها، وأنها تغني عن الطعام، وهي سبب لدفع البلاء وللشفاء، يقول صلى الله عليه وسلم: «إنها مباركة، إنها طعام طعم (2) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «إنها مباركة إنها طعام طعم وشفاء
__________
(1) أخرجه ابن ماجه: 2\1018، وقال الألباني: في صحيح ابن ماجه 2\183: صحيح.
(2) أخرجه مسلم: 4\1919.(87/285)
سقم (1) » فماء زمزم شفاء لكل الأسقام وهي من أنجع الأدوية للحمى، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «الحمى من فيح جنهم فبردوها بالماء، أو قال بماء زمزم، شك همام (2) » (3) ويقوي أن المقصود في هذا الحديث ماء زمزم ما أخرج البيهقي بقوله: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل ماء زمزم في الأداوي والقرب فكان يصب على المرضى ويسقيهم (5) » وكانت أسماء بنت الصديق ترش على بدن المحموم من الماء بين يديه وثوبه فيكون ذلك من باب النشرة المأذون بها، والصحابي ولا سيما مثل أسماء التي هي ممن كان يلازم بيت النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالمراد من غيرها، ولعل هذا هو السر في إيراد البخاري لحديثها عقب
__________
(1) أخرجه الطبراني في الصغير 1\186، والطيالسي في مسنده 61، وقال سعيد بن وهف في الدعاء: إسناده صحيح. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3\286: رواه البزار والطبراني في الصغير ورجال البزار رجال الصحيح.
(2) هو أبو عبد الله همام بن يحيى بن دينار الأزدي مولى بني عوذ من أهل البصرة يروي عن الحسن، وقتادة روى عنه ابن المبارك وأهل البصرة، مات سنة ثلاث أو أربع وستين ومائة في شهر رمضان. انظر: طبقات الشافعية الكبرى أبو بكر بن أحمد ابن قاضي شهبة 10\408، والأنساب 4\256.
(3) البخاري: 3\1191.
(4) أخرجه الترمذي: 1\284، والبيهقي: 5\202، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة: 2\572.
(5) إناء صغير من جلد يتخذ للماء، لسان العرب ابن منظور: 4\25. (4)(87/286)
حديث ابن عباس المذكور وهذا من بديع ترتيبه (1) وهناك أدوية كثيرة ذكرها المصطفى صلى الله عليه وسلم مثل القسط، والسنا (2) والثفاء.... فمن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتب الطب في كتب الأحاديث، أو زاد المعاد للإمام ابن القيم، أو المنهل الروي في الطب النبوي لابن طولون وغيرها.
__________
(1) فتح الباري ابن حجر: 10\17.
(2) نبت يتداوى به، مختار الصحاح: 134.(87/287)
الخاتمة
الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات
وبعد: لقد أمرنا الله بالتسليم والرضا بقضائه وقدره – سبحانه -، فعلينا أن نؤمن بأن ما يقع للعبد من بلاء إنما هو بقضاء الله وقدره وعلى العبد دفعه، وإن وقع فعليه الصبر ومحاولة رفعه، ويكون منعه باتخاذ الأسباب المانعة له مثل الدعاء. قال صلى الله عليه وسلم: «لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه (1) » فالدعاء يرد القضاء بإذن الله، والبر من أسباب جلب النعم، والذنوب من أسباب وقوع البلاء مع التوكل على الله في رفع البلاء.
ومعلوم أن دفع البلاء أسهل من رفعه بعد أن يقع، فعلى المسلم الحرص على أسباب دفعه.
ومن أسباب دفع البلاء قبل وقوعه: الشكر والتقوى والتزود بالطاعات، وترك المحرمات، وعدم التعرض لأولياء الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحمد باللسان عند رؤية المبتلى، وصلة الرحم، والبعد عن الظلم، وإسداء وصنع المعروف للناس، والأخذ بالمتحرزات الليلية والاستعاذة واستيداع الله الأشياء والأخذ بتوجه المصطفى صلى الله عليه وسلم عند رؤية الرؤى وحفظ الأطفال.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه: 2\1334، وأحمد 5\277، والحاكم بلفظه 1\670، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وتابعه الذهبي.(87/288)
ومن أسباب رفع البلاء بعد وقوعه:
التداوي بما أباح الله من الأدوية والتي منها العسل والحجامة والكي والحبة السوداء وماء زمزم، ومن هذه الأسباب أيضا الصبر على البلاء.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(87/289)
صفحة فارغة(87/290)
وفقات مع آيات الإفك
للدكتور: عبد العزيز بن عبد الله بن عبد العزيز الخضيري
الحمد لله حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. . أما بعد:
فإن آيات الإفك قد شغلت حيزا من سورة النور امتد على مدى عشر آيات بدءا من الآية الحادية عشرة وقد اشتملت هذه الآيات على معان عظيمة وحكم بليغة ودلالات جليلة؛ حيث صورت ذلك الحدث الخطير في حياة الأمة في تلك المرحلة الحرجة من مراحل تكوينها وتناولت بالنقد والتحليل أبعاد ذلك الحدث وأسبابه الحقيقية الخفية، ووضعت الأسس العقدية والتشريعية للتعامل معه، وأرست القيم الاجتماعية التي(87/291)
يجب أن تسود في مثل تلك الظروف، ونبهت إلى خطورة بعض التصرفات الخاطئة وما ينشأ عنها من الآثار السلبية على الفرد والمجتمع.
وفي هذا البحث وقفات مع هذه الآيات؛ نتفيأ فيها ظلالها، وننهل من معين هداياتها، ونستضيء بنور إشراقاتها، وننتفع بما فيها من المعاني العظيمة والحكم البليغة والأحكام النافعة، أسأل الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه والناظر فيه، وأن يرزق الإخلاص في القول والعمل والعصمة من الزلل، إنه جواد كريم.
الوقفة الأولى:
مع سبب النزول:
ورد في سبب نزل هذه الآيات حديث طويل، أسوقه بتمامه لأنه يمثل مع آيات الإفك محور هذا البحث وأساسه، ولأن فيه من الدروس والعبر ما ينبغي أن يوقف عنده وأن يستفاد منه.
ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه؛ فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها (1) فخرج فيها سهمي
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4141) ، صحيح مسلم التوبة (2770) ، سنن أبي داود النكاح (2138) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2347) ، مسند أحمد (6/198) .(87/292)
فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أنزل الحجاب، فكنت أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه. قالت: وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه! وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن (1) ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة (2) من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، وكان
__________
(1) لم يهبلن: أي لم يكثر عليهن اللحم - انظر: النهاية في غريب الحديث 5\240.
(2) العلقة - بضم العين وسكون اللام: القليل من الطعام. انظر: فتح الباري 8\460.(87/293)
رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول. قالت: فهلك في من هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول. قالت عائشة: فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك! وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت حين نقهت فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع (1) وكان متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف (2) قريبا من بيوتنا. قالت: وأمرنا أمر العرب الأول في البرية قبل الغائط، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا. قالت: فانطلقت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح! فقلت لها: بئس ما قلت!
__________
(1) المناصع: أماكن معروفة بالمدينة من ناحية البقيع - انظر: فتح الباري 1\249.
(2) الكنف: جمع كنيف، وهو المرحاض - انظر: القاموس المحيط 1099.(87/294)
أتسبين رجلا شهد بدرا؟ فقالت: أي هنتاه! أولم تسمعي ما قال؟ قالت: وقلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك. قالت: فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما. قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: يا أمتاه، ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها! قالت: فقلت: سبحان الله! أولقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة، حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي! قالت: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي (1) يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله. قالت: فأما أسامه فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه، فقال أسامه: أهلك، ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا قط أغمصه (2) أكثر من أنها جارية حديثة
__________
(1) استلبث الوحي: استبطأه - انظر: النهاية في غريب الحديث 4\224.
(2) أغمصه: أعيبه - انظر: القاموس المحيط 806.(87/295)
السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله! قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي وهو على المنبر، فقال: يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي؟ والله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما يدخل على أهلي إلا معي! قالت: فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك؛ فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك! قالت: فقام رجل من الخزرج - وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه، وهو سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج. قالت: وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية - فقال لسعد: كذبت لعمر الله! لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل! فقام أسيد بن حضير - وهو ابن عم سعد - فقال لسعد بن عبادة: كذبت، لعمر الله لنقتلنه! فإنك منافق تجادل عن المنافقين. قالت: فثار الحيان - الأوس والخزرج - حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر.
قالت: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، وسكت. قالت: فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم! قالت: وأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوما لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي! فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي! قالت:(87/296)
فبينما نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فسلم ثم جلس. قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء. قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: أما بعد، يا عائشة، إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه. قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة! فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم عني فيما قال! فقال أبي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم! فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال! قالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم! فقلت - وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرا: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به؛ فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقونني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني! فوالله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف حين قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (1) . ثم تحولت واضطجعت على فراشي، والله يعلم أني حينئذ بريئة، وإن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء (2) حتى إنه ليتحدر منه العرق مثل الجمان وهو في يوم شات - من ثقل القول
__________
(1) سورة يوسف الآية 18
(2) البرحاء: شدة الكرب من ثقل الوحي - انظر: النهاية في غريب الحديث 1\113.(87/297)
الذي أنزل عليه. قالت: فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: يا عائشة، أما الله فقد برأك! قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه! فقلت: والله لا أقوم إليه؛ فإني لا أحمد إلا الله عز وجل! قالت: وأنزل الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} (1) العشر الآيات، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات براءتي. قالت: فقال أبو بكر الصديق - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال! فأنزل الله: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، قال أبو بكر الصديق: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي! فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال لزينب: ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري! والله ما علمت إلا خيرا. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني (3) من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع. قالت: وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك» .
__________
(1) سورة النور الآية 11
(2) سورة النور الآية 22
(3) تساميني: أي تعاليني وتفاخرني وتطاولني في الحظوة عنده - انظر: النهاية في غريب الحديث 2\405.(87/298)
الوقفة الثانية:
مع المناسبات:
المناسبة في اللغة: المقاربة، والمشاكة، والمجانسة. وفي الاصطلاح: الرابطة بين شيئين بأي وجه من الوجوه. وهي في كتاب الله(87/298)
تعالى: علاقة الآية أو السورة بما قبلها وما بعدها. وقد اختلف أهل العلم في حكم التماس المناسبة بين الآيات والسور على قولين رئيسيين؛ أولهما: أن ذلك جائز، بل مطلوب لأهميته في فهم مقاصد القرآن وتذوق نظمه وإدراك معانيه والكشف عن أسراره ووجوه إعجازه.
قال أبو بكر بن العربي في سراج المريدين: " ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني - علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله لنا فيه، فلما لم نجد له حملة ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه ". (1) وقال الرازي: " علم المناسبات علم عظيم أودعت فيه أكثر لطائف القرآن وروائعه، وهو أمر معقول، إذا عرض على العقول تلقته بالقبول ". (2) وهذا القول هو الذي درج عليه أكثر المفسرين قديما وحديثا، فمنهم المقل ومنهم المكثر، ومنهم المصرح بالمناسبة ومنهم الذاكر لمضمونها من غير تصريح. وقد قسموا البحث فيها إلى أقسام مختلفة ووجوه متعددة، فذكروا المناسبة بين اسم
__________
(1) انظر: البرهان 1\36، الإتقان 2\108.
(2) انظر: البرهان 1\35، 36، مباحث في التفسير الموضوعي 60.(87/299)
السورة وموضوعها، والمناسبة بين آياتها، والمناسبة بين الآية وفاصلتها، والمناسبة بين فاتحة السورة وخاتمتها - كل ذلك في إطار السورة الواحدة، وذكروا أيضا المناسبات بين السور المتعددة فجعلوها أقساما؛ منها: المناسبة بين فاتحة السورة وفاتحة ما قبلها، والمناسبة بين فاتحة السورة وخاتمة ما قبلها، والمناسبة بين مضمون السورة ومضمون ما قبلها، والمناسبة بين خاتمة السورة وفاتحة ما قبلها، والمناسبة بين خاتمة السورة وخاتمة ما قبلها.
والقول الثاني: أن البحث في المناسبة غير جائز، بل هو تكلف محض وبعد عن الواقعية؛ لأن القرآن بآياته وسوره المسرودة في المصحف العثماني نزل مفرقا في حوادث مختلفة وأوقات متباينة، لا مطابقة بين أسباب نزولها وترتيبها.
قالوا: فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعا أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخرا وتأخر ما أنزله الله متقدما، فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن، بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة، وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمرته وأحقر فائدته. (1)
قال العز بن عبد السلام: " يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط، ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك
__________
(1) انظر: فتح القدير 1\72، 73.(87/300)
يصان عن مثله حسن الحديث فضلا عن أحسنه، فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض ". (1) والذي يترجح هو جواز القول بالمناسبة، أما ما احتج به المانعون من كون القرآن نزل مفرقا على حسب الوقائع فلا ينفي وجود المناسبة بين آياته وسوره، فإن التنجيم حالة متوسطة بين الجمع الأول في اللوح المحفوظ والجمع الثاني الموافق له والحاصل بأيدي الصحابة بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، قال الزركشي: قال بعض مشايخنا المحققين (2) قد وهم من قال لا يطلب للآي الكريمة مناسبة؛ لأنها على حسب الوقائع المتفرقة، وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلا وعلى حسب الحكمة ترتيبا، فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما في الكتاب المكنون، مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، وحافظ القرآن العظيم لو استفتي في أحكام متعددة أو ناظر فيها أو أملاها لذكر آية كل حكم على ما سئل، وإذا رجع إلى التلاوة لم يتل كما أفتى ولا كما نزل مفرقا، بل كما أنزل جملة إلى بيت العزة. (3) وقال الدكتور محمد عبد الله دراز عن تنزيل الآيات والسور وعن جمعها: إنها إن كانت بعد تنزيلها قد جمعت عن تفريق، فلقد كانت في تنزيلها مفرقة عن جمع؛ كمثل بنيان كان قائما
__________
(1) انظر: الإتقان 2\108.
(2) سماه السيوطي بالشيخ ولي الدين الملوي - انظر: الإتقان 2\108.
(3) النبأ العظيم: 154، 155.(87/301)
على قواعده، فلما أريد نقله بصورته إلى غير مكانه قدرت أبعاده ورقمت لبناته، ثم فرق أنقاضا، فلم تلبث كل لبنة منه أن عرفت مكانها المرقوم، وإذا البنيان قد عاد مرصوصا يشد بعضه بعضا كهيئته أو ل مرة ".
ومع رجحان هذا القول - فإن البحث في المناسبة مزلة قدم ومظنة الخطأ، ولهذا أرى وجوب تقييد القول بها بشرطين أساسيين؛ أولهما: عدم التكلف في إظهار المناسبة، فإن بدت جلية واضحة يدعهما السياق والسباق وتشهد لها القرائن قلنا بها، وإلا وجب التوقف وتفويض الأمر إلى الله. والآخر: عدم القطع بأن هذه المناسبة المذكورة هي مراد الله تعالى من جعل هذه الآية بعد هذه الآية أو جعل هذه السورة بعد هذه السورة، بل نقول إن هذا هو ما أدانا إليه الاجتهاد والنظر وغلبة الظن، والله أعلم بأسرار كتابه.
وإذا تقرر هذا وحاولنا أن نلتمس المناسبة بين آيات الإفك وما قبلها، فإنه يمكن القول أن هذه الآيات ترتبط بما قبلها ارتباطا وثيقا؛ حيث ذكر قبلها قذف المحصنات وحكمه، ثم عقب بذكر نوع من أنواعه وهو قذف الرجل لزوجته، فناسب بعد ذلك أن تذكر حادثة الإفك تنفيرا وتمثيلا على خطورة أمر القذف وعظم الآثار المترتبة عليه في حق المقذوف وأهله والمجتمع ككل.(87/302)
الوقفة الثالثة:
مع معنى الإفك:
الإفك: بالهمزة والفاء والكاف، قال ابن فارس: أصل واحد يدل(87/302)
على قلب الشيء وصرفه عن جهته، يقال: أفك الشيء وأفك الرجل إذا كذب، وأفكت الرجل عن الشيء إذا صرفته عنه، قال الله تعالى {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} (1) .
وقال الراغب: الإفك كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب مؤتفكة، وقوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (2) أي: يصرفون عن الحق في الاعتقاد إلى الباطل، ومن الصدق في المقال إلى الكذب، ومن الجميل في الفعل إلى القبيح. ومنه قوله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} (3) . ورجل مأفوك: مصروف عن الحق إلى الباطل - قال الشاعر (4)
فإن تك عن أحسن المروءة ... مأفوكا ففي آخرين قد أفكوا
يقول: إن لم توفق للإحسان فأنت في قوم قد صرفوا عن ذلك أيضا.
وقال الزمخشري: وائتفكت الأرض بأهلها انقلبت، وإذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض، وهي الرياح المختلفات المهاب. ورجل أفاك: كذاب. ومن المجاز: أرض مأفوكة مجدودة من المطر والنبات، وسنة آفكة.
وقال الدامغاني: الإفك بمعنى الكذب، كقوله تعالى:
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 22
(2) سورة التوبة الآية 30
(3) سورة الذاريات الآية 9
(4) هو عمرو بن أذينة كما في اللسان 1\166.(87/303)
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} (1) . والإفك الصرف، كقوله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} (2) . والإفك التقليب، كقوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} (3) . وفي اللسان: أفك يأفك وأفك يأفك - إذا كذب. والإفك الكذب، والأفيكة الكذبة العظيمة. والأفك بالفتح مصدر قولك أفكه عن الشيء يأفكه صرفه عنه وقبله، والأفاك: الذي يأفك الناس؛ أي يصدهم عن الحق بباطله. والمؤتفكات: مدائن لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام، سميت بذلك لانقلابها بالخسف. (4)
وباستعراض هذه الأقوال لأهل اللغة يتبين أن للإفك ثلاثة معان؛ هي: الكذب، والصرف، والتقليب. ولفظ الإفك في الآيات متضمن لهذه المعاني اللغوية الثلاثة؛ فإنه كذب محض وصرف للكلام عن وجهه وقلب للحقائق. قال الشوكاني: الإفك أسوأ الكذب وأقبحه، وهو مأخوذ من أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه، فالإفك هو الحديث المقلوب. (5)
وتوجيه انقلابه في عدول القائلين به عما يجب لعائشة رضي الله عنها من الثناء والمدح لفضلها ومكانتها وقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وصفها بهذه الفعلة الشنيعة والتهمة العظيمة.
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 11
(2) سورة الذاريات الآية 9
(3) سورة النجم الآية 53
(4) لسان العرب 1\166.
(5) فتح القدير 4\12.(87/304)
الوقفة الرابعة:
مع دوافع الإفك
واجهت الدعوة الإسلامية منذ ظهورها صراعا قويا مع الباطل وأهله، وتنوع هذا الصراع ليشمل الجبهتين الداخلية والخارجية، ومع ضراوة المعركة وشدتها على الجبهة الخارجية التي تزعمها مشركو مكة ومن سار في دربهم، إلا أن الخطر كان أعظم مع العدو المستخفي المندس في المجتمع المدني والذي أظهر الإيمان تقية وحفاظا على المكتسبات المادية والمعنوية مع عداوته الباطنية للدعوة وصاحبها صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، إنه الخطر الذي مثله المنافقون على الجبهة الداخلية زرعا للفتنة وإيقاظا لدعاوى الجاهلية وتشويها للحقائق، وإرجافا وتخويفا وإثارة للشكوك والشبهات، وسعيا للفساد والإفساد، حتى قال الله تعالى فيهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (1) . وحديث الإفك جولة من جولات تلك المعركة الداخلية التي شنها المنافقون ضد الدعوة الإسلامية وأهلها، وقد قصدوا من ذلك تحقيق أهداف عدة؛ منها:
أ. الطعن في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ تشويها للدعوة وأصحابها وتنفيرا منها، ويؤيد هذا قول ابن أبي حين رأى صفوان بن المعطل آخذا بزمام ناقة عائشة: امرأة نبيكم باتت مع
__________
(1) سورة المنافقون الآية 4(87/305)
رجل! (1) وهذا صريح في أن مقصوده الأعظم من الفرية كان النيل من الدعوة وصاحبها صلى الله عليه وسلم.
ب. القدح في المكانة الخلقية للدعوة الإسلامية.
جـ. إشعال نار الفتنة داخل المجتمع الإسلامي، وذلك ببعث حمية الجاهلية وإثارة المشاعر العدائية بين الأوس والخزرج، وهو الأمر الذي كاد أن يتحقق لولا تدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنازعة التي كانت بين السعدين وتهدئته للفريقين (2) وقد تقدم ذلك في سب النزول، ومن هنا نعلم أن حديث الإفك لم يكن مقصورا على عائشة رضي الله عنها ولا خاصا بها، وإنما كان موجها في المقام الأول إلى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الدعوة التي جاء بها. ولا يزال هذا المنهج العدائي للمنافقين ومن وراءهم من أعداء الإسلام هو السائد مع اختلاف الأزمنة والأمكنة؛ إذ يحرصون على النيل من أعراض الدعاة والمصلحين ورميهم بالزور والإفك والبهتان وتلفيق التهم لهم، وإشاعة الدعايات المغرضة ضدهم، فما أشبه الليلة بالبارحة!
وإذا كان المنافقون يحرصون على المعركة الأخلاقية فلأنهم يجبنون عن المواجهة الميدانية والتي أثبت الواقع فشلهم وعجزهم فيها، ثم إن تلك المعركة هي التي توافق ما في نفوسهم من الحسد والكبر
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي 12\132.
(2) انظر: تفسير سورة النور 22، حديث الإفك 156.(87/306)
والطغيان الذي يشتعل في قلوبهم ويستعر فيها، ولأنهم أيضا يعيشون انحطاطا خلقيا وانهزاما نفسيا لا يملكون معه إلا أن يصموا به أهل التقوى والعفة والطهارة، فإنهم لما فقدوا عزتهم وطهارة أعراضهم كبر عليهم أن يروا غيرهم خيرا منهم.(87/307)
الوقفة الخامسة:
مع الأحكام الشرعية:
يستفاد من آيات الإفك وما ورد في سبب نزولها أحكام عدة؛ منها:
1. أن القذف جريمة عظيمة وفعلة شنيعة تترك أثرها على المقذوف وعلى أهله وعلى من يحيط بهم، وتهدد ترابط المجتمع ووحدته، وتوغر الصدور، وتسبب العداوة والبغضاء، ولأجل هذا حرم الإسلام القذف بدون بينة وعد ذلك من كبائر الذنوب، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) * {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) * {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (3) ، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات - وعد منها: قذف المحصنات
__________
(1) سورة النور الآية 23
(2) سورة النور الآية 24
(3) سورة النور الآية 25(87/307)
الغافلات المؤمنات (1) »
2. يشترط لصحة القذف إقامة البينة؛ وهي أربعة شهداء كلهم يصف الزنا بحقيقته المعروفة، فإن لم يقدر القاذف على ذلك استحق حد القذف، واشتراط هذا العدد من الشهداء خاص بحد الزنا دون غيره؛ إذ لا يشترط هذا العدد في شيء آخر من الحدود أو الحقوق البدنية أو المالية.
3. تحريم القذف بدون بينة ولو كان القاذف صادقا؛ لقوله عز وجل: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (2) ، فمن قذف وعجز عن إقامة البينة فهو في حكم الله كاذب ولو كان في نفس الأمر صادقا، ويلزمه لتمام توبته من القذف أن يكذب نفسه أمام الناس، لأن براءة عرض المقذوف لا تحصل إلا بذلك. فإن قيل: كيف يكذب نفسه وهو صادق؟ فالجواب أن يقال: إن الكذب نوعان؛ كذب سببه كون المخبر به مخالفا للواقع، وهو قسمان: عمد وخطأ؛ فالعمد ظاهر، والخطأ كقوله صلى الله عليه وسلم: «كذب أبو السنابل (3) » حين أفتى بغير الصواب. والنوع الثاني: كذب سببه كون المخبر به لا يجوز الإخبار به وإن كان مطابقا للواقع، كخبر القاذف المنفرد برؤية الزنا فإنه كاذب عند الله تعالى. (4)
__________
(1) أخرجه البخاري 3\1017 ح 2615، ومسلم 1\92 ح 89.
(2) سورة النور الآية 13
(3) مسند أحمد (1/447) .
(4) انظر: مدارج السالكين 1\371.(87/308)
4. اختلف أهل العلم هل حد النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الإفك على ثلاثة أقول؛ أولها: أنه لم يحد أحدا منهم، لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو بينة، ولم يتعبده الله أن يقيمها بإخباره عنها، كما لم يتعبده بقتل المنافقين وقد أخبره بكفرهم.
قال القرطبي منكرا هذا القول: وهذا فاسد مخالف لنص القرآن؛ فإن الله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (1) ؛ أي على صدق قولهم {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (2) . (3)
والقول الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم حد أهل الإفك؛ عبد الله بن أبي، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش. وفي ذلك قال شاعر: (4)
لقد ذاق حسان الذي كان أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح
وابن سلول ذاق في الحد خزية ... كما خاض في إفك من القول يفصح
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم ... وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا
وعزا الصنعاني إلى الحاكم في الإكليل أن النبي صلى الله عليه وسلم حد عبد الله بن أبي من جملة القذفة. (5)
__________
(1) سورة النور الآية 4
(2) سورة النور الآية 4
(3) انظر: مدارج السالكين 1\371، تفسير القرطبي 12\134.
(4) وانظر: سبل السلام 4\34.
(5) وانظر: سبل السلام 4\34.(87/309)
والقول الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد عبد الله بن أبي، وحد الباقين - وهذا هو المشهور عند أهل العلم، وهو الراجح، لقول عائشة رضي الله عنها: «لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم (1) » . ووقع عند أبي داود تسميتهم: حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش. (2)
وقد ذكر أصحاب هذا القول أعذارا في تركه صلى الله عليه وسلم إقامة الحد على ابن أبي، مع أنه كان رأس أهل الإفك؛ فقيل: لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة، وهو منافق خبيث ليس أهلا لذلك، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة فيكفيه ذلك عن الحد. وقيل: بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه. وقيل: الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو ببينة، وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد، فإنه إنما كان يذكره بين أصحابه ولم يشهدوا عليه، ولم يكن يذكره بين المؤمنين. وقيل: حد القذف حق لآدمي لا يستوفى إلا بمطالبته، وعائشة لم تطالب به ابن أبي. وقيل: بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته، كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارا، وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم عن الإسلام؛ فإنه
__________
(1) أخرجه أبو داود 4\162 ح 4474، والترمذي 5\336 ح 3181، وابن ماجه 2\857 ح 2567، والإمام أحمد 6\35 ح 24112.
(2) انظر: سنن أبي داود 4\162 ح 4475.(87/310)
كان مطاعا فيهم رئيسا عليهم، فلم تؤمن إثارة الفتنة في حده. قال ابن القيم: ولعله ترك لهذه الوجوه كلها (1)
5. أجمع أهل العلم على أن من سب عائشة رضي الله عنها ورماها بما رميت به بعد أن برأها الله عز وجل بهذه الآيات فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن. (2) قال الإمام مالك رحمه الله: من سب أبا بكر وعمر أدب، ومن سب عائشة قتل؛ لأن الله تعالى يقول: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) ، فمن سب عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل. (4)
أما قذف بقية أمهات المؤمنين فاختلف العلماء فيه على قولين، والصحيح أن ذلك كفر لما فيه من النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن في عرضه، وذلك كفر. قال الآلوسي: وظاهر هذه الآية كفر قاذف أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن؛ لأن الله عز وجل رتب على رميهن عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين، والذي ينبغي أن يعول الحكم عليه بكفر من رمى إحدى أمهات المؤمنين بعد نزول الآيات وتبين أنهن طيبات، سواء استباح الرمي أم قصد الطعن برسول الله صلى الله عليه وسلم أم لم يستبح ولم يقصد، وأما
__________
(1) زاد المعاد: 510.
(2) انظر: تفسير ابن كثير 3\276.
(3) سورة النور الآية 17
(4) انظر: تفسير القرطبي 12\137.(87/311)
من رمى قبل فالحكم بكفره مطلقا غير ظاهر، والظاهر أنه يحكم بكفره إن كان مستبيحا أو قاصدا الطعن به عليه الصلاة والسلام، كابن أبي لعنة الله تعالى؛ فإن ذلك مما يقتضي إمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يحكم بكفره إن لم يكن كذلك، كحسان ومسطح وحمنة، فإن الظاهر أنهم لم يكونوا مستحلين ولا قاصدين الطعن بسيد المرسلين، وإنما قالوا ما قالوا تقليدا فوبخوا على ذلك توبيخا شديدا. (1)
6. دل قوله تعالى {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} (2) على أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه الخبر المحتمل وإن شاع وانتشر إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا. (3)
7. قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) ، في هذه الآية دليل على أن كبائر الذنوب سوى الشرك لا تحبط العمل الصالح؛ لأن هجرة مسطح بن أثاثة من عمله الصالح
__________
(1) روح المعاني 18\127، وانظر: تفسير ابن كثير 3\276، حديث الإفك 339.
(2) سورة النور الآية 12
(3) انظر: تفسير القرطبي 12\135.
(4) سورة النور الآية 22(87/312)
وقذفه لعائشة من الكبائر، ولم يبطل هجرته، بل أثبتها الله له. (1)
8. دلت الآيات على أن الإنسان يؤاخذ على عمل القلب إذا اطمأن إليه ورغب فيه وتمنى حصوله، فقد رتب عز وجل العذاب الدنيوي والأخروي على مجرد محبة شيوع الفاحشة، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (2) ، والمحبة عمل قلبي، ونظير هذا في الدلالة على هذا الحكم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) ، فتوعد بالعذاب الأليم على مجرد الإرادة وهي عمل قلبي، ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه (4) » فعلل الحكم بالحرص وهو عمل قلبي.
فإن قيل: أليس قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم (5) » ؟ وهذا صريح في العفو عن
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي 12\138، أضواء البيان 6\162.
(2) سورة النور الآية 19
(3) سورة الحج الآية 25
(4) أخرجه البخاري 1\20 ح 31، ومسلم 4\2214 ح 2888.
(5) أخرجه البخاري 5\2020 ح 4968، ومسلم 1\116 ح 127.(87/313)
عمل القلب ما لم يقترن بعمل يصدقه أو حديث عنه. فالجواب أن يقال: إن هذا الحديث محمول على ما كان قبيل الوسوسة العارضة، فيكون عمل القلب بهذا على قسمين؛ قسم يثبت في القلب ويميل إليه صاحبه ويرغب في حصول مقتضاه - فهذا يحاسب عليه، وقسم هو من قبيل الوساوس الطارئة والخواطر العارضة التي لا يعمل الإنسان بمقتضاها ولا يذكرها لغيره، بل يسارع إلى طردها والإعراض عنها، فهذا معفو عنه. وبهذا التقسيم تجتمع الأدلة.(87/314)
الوقفة السادسة:
مع الآداب والتوجيهات:
أدب الله تعالى في هذه الآيات عباده المؤمنين بآداب عظيمة وتوجيهات سامية يتحقق بها مجتمع الأخوة الإسلامية وتسود بها قيم التآلف والتحاب، فيصير المؤمنون لحمة واحدة يسعدون جميعا ويألمون جميعا، يحنو بعضهم على بعض، ويذب بعضهم عن بعض، فهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له بقية الجسد بالحمى والسهر.
لقد أمرهم عز وجل إذا سمعوا مؤمنا يقذف بسوء لا يعرف به بأمور أربعة؛ أولها: إحسان الظن بالمقذوف، بأن يظن به خيرا وبعدا عن التهمة ومواطن الريبة، قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} (1) ؛ أي قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم،
__________
(1) سورة النور الآية 12(87/314)
فإن كان لا يليق بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأحرى، وقد قيل إنها نزلت في أبي أيوب الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما حين قالت له: يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قال: نعم، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا، والله ما كنت لأفعله! قال: فعائشة والله خير منك. (1) هذا الذي عليه أكثر المفسرين في تفسير الآية. وقال بعضهم: معنى " بأنفسهم " أي بأهل دينهم؛ لأن المؤمنين كنفس واحدة، وعلى هذا يكون المعنى: ظن المؤمنون والمؤمنات بإخوانهم خيرا - والمعنيان جائزان يحتملهما ظاهر اللفظ.
والثاني: دفع التهمة عنه باللسان، وهذا قدر زائد على الأمر الأول المقتصر على العمل القلبي، ودليله قوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} (2) * {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (3) ، وبمقتضى ذلك يلزم سامع الإفك أن يذب عن عرض أخيه وأن ينكر على المتكلم، وأن يطالبه بالبينة.
والثالث: عدم التحدث بالأمر المذكور؛ لقوله تعالى:
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير 3\273، تفسير القرطبي 12\135
(2) سورة النور الآية 12
(3) سورة النور الآية 13(87/315)
{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (1) .
ولا يضر ما علق بالنفس من ذلك كالوسوسة ونحوها ما لم يتفوه به أو يذكره لأحد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم (2) » .
والرابع: أنه يلزم من قام بذهنه شيء من الأمر المذكور فتكلم به أن لا يكثر منه ولا يشيعه ويذيعه، بل يسارع إلى التوبة والإقلاع، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (3) ، قال ابن كثير: أي يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح.
إن من شأن التخلق بهذه الآداب الفاضلة أن يقطع دابر الفتنة وأن يدرأ أسباب العداوة، وأن يقطع الطريق أمام المغرضين الساعين بين المؤمنين بالفساد والإفساد.
__________
(1) سورة النور الآية 16
(2) سنن النسائي الطلاق (3434) ، سنن أبي داود الطلاق (2209) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2040) .
(3) سورة النور الآية 19(87/316)
الوقفة السابعة:
مع الآثار المترتبة على الإفك:
قصد المنافقون بإشاعة حديث الإفك الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة وآل أبي بكر وصفوان بن المعطل رضي الله عنهم، بل والمجتمع الإسلامي كله والدعوة التي يقوم عليها ويؤمن بها، لكن كيد المنافقين هذا انقلب عليهم،(87/316)
فترتب على هذه الفرية العظيمة وما نتج عنها آثار إيجابية لخصت في قوله عز وجل: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (1) ، قال ابن كثير رحمه الله: " {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} (2) " أي يا آل أبي بكر، " {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (3) " أي في الدنيا والآخرة؛ لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة، وإظهار شرف لهم باعتناء الله تعالى بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حيث أنزل براءتها في القرآن العظيم. (4)
وإذا أردنا أن نذكر الآثار الإيجابية لحديث الإفك فلا شك أن من أبرزها ما يلي:
1. الابتلاء والاختبار وما يترتب عليه من الأجر والمثوبة عند الصبر والاحتساب، ولا شك أن هذا هو موقف عائشة رضي الله عنها ومن معها ممن ابتلي بهذا الأمر وهذه المحنة الشديدة، حتى بقوا فيها شهرا كاملا، لكن الله تعالى تلطف فكشف الغمة فاكتسبوا بذلك الرفعة والمثوبة، وظهرت كرامتهم وعزتهم ومكانتهم. (5)
2. إظهار شرف عائشة رضي الله عنها بتبرئة الله عز وجل لها بقرآن يتلى إلى قيام الساعة، ولهذا قال لها ابن عباس رضي الله عنهما وهي في سياق الموت: أبشري! فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحبك، ولم يتزوج بكرا
__________
(1) سورة النور الآية 11
(2) سورة النور الآية 11
(3) سورة النور الآية 11
(4) تفسير ابن كثير 3\272.
(5) انظر: حديث الإفك 225.(87/317)
غيرك، ونزلت براءتك من السماء. (1) وحين تفاخرت هي وزينب رضي الله عنهما قالت: أنا التي نزل عذري في كتاب الله حين حملني صفوان بن المعطل على الراحلة. (2)
3. تقرير مدافعة الله تعالى عن أوليائه المؤمنين ودفع الشرور عنهم، وفي هذا تسلية وتثبيت لكل مؤمن ومؤمنة، فالله عز وجل يحفظ عباده ويدرأ عنهم الشرور ويقيهم كيد أعدائهم ويكلؤهم وينصرهم، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (3) ، وقال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (4) .
4. موعظة المؤمنين بتقرير حرمة أعراضهم، ووجوب صيانتها من كل ما يقدح فيها، وفي مقدمة ذلك القذف الذي هو طعن في عرض المسلم وتلويث لسمعته وافتراء عليه.
5. تنبيه المؤمنين إلى مكائد العدو المستتر المندس بينهم، العدو الذي يظهر لهم أنه منهم وهو في الحقيقة عدوهم الأكبر، إنهم المنافقون الذين لا يألون جهدا في إفساد المجتمع وتقويض دعائمه وتفكيك أواصره وبث روح العداوة والبغضاء والفرقة بين أفراده، لقد تضمنت هذه الآيات تحذير
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير 3\272.
(2) انظر: تفسير ابن كثير 3\272.
(3) سورة الحج الآية 38
(4) سورة الزمر الآية 36(87/318)
المؤمنين من الانخداع بهذا العدو وحمل أفكاره ونشرها والدعوة إليها دون وعي للأخطار العظيمة المترتبة عليها، فهل يعي المؤمنون في كل عصر هذا الدرس فيأخذوا حذرهم ممن ينتسب إليهم وهو يحمل فكر غيرهم؟ !(87/319)
الوقفة الثامنة:
مع موقف عائشة رضي الله عنها:
يبتلي الله تعالى عباده بالأقدار المؤلمة ليعلم صدقهم وقوة إيمانهم، ويتفاضل البلاء بحسب قوة الإيمان، وفي حديث الإفك كان الابتلاء في حق عائشة رضي الله عنها عظيما؛ فقد رميت بالزور والبهتان، وهو أمر عظيم في حق من نشأ في معدن العفاف والطهر وموئل الكرامة والشرف، ولهذا كانت رضي الله عنها تبيت الليالي الطويلة مدة شهر كامل لا يرقأ لها دمع ولا تكتحل بنوم، وأبواها المشفقان يظنان أن البكاء فالق كبدها.
لقد بلغت قوة الإيمان بالصديقة بنت الصديق مبلغا عظيما، فالتجأت إلى ربها عز وجل وفوضت أمرها إليه، وهي تعلم أنه سيبرئها ويبطل كيد المنافقين الذين أرادوا النيل منها ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صح عنها قولها: ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (1) . وقولها رضي الله عنها: وأنا والله أعلم أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها. إنه موقف
__________
(1) سورة يوسف الآية 18(87/319)
المؤمن الصادق الواثق بربه المتوكل عليه، وهو موقف ينبئ أيضا عن تواضع واحتقار للنفس مع ما هي عليه رضي الله عنها من الشرف والفضيلة والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الإنسان ليعجب من مواقفها العظيمة مع حداثة سنها؛ إذ لم يكن يتجاوز عمرها حينئذ الثالثة عشرة ومع هذا تثبت في المحنة وتصبر وتحتسب، وتفوض الأمر إلى الله وتتواضع له، فيكون جزاؤها التبرئة بقرآن يتلى إلى قيام الساعة تشريفا لها وجزاء على تمام توكلها وتفويضها.
إنها التربية الصالحة التي تلقتها في بيت الصديق أولا، ثم في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - تربية تقوم دعائمها على تصحيح العقيدة وتجريد التوحيد وصدق الاعتماد على الله تعالى، مع تحمل المسؤولية والاعتماد على النفس، تلك التربية العظيمة التي جعلت جارية حديثة السن تقف موقفا يعجز عنه كثير من رجال اليوم، فما أحوجنا إلى أخذ العبرة من ذلك الدرس والاستفادة منه بتربية أولادنا على مثل تلك القيم الفاضلة والأخلاق النبيلة؛ إذن لسلمنا من كثير من السلبيات التي يعاني منها شباب اليوم، وفي مقدمتها ضعف الإيمان والانهزام النفسي والعجز عن تحمل المسؤولية والقيام بأعباء الحياة.(87/320)
الوقفة التاسعة:
مع الذي تولى كبره:
أكثر أهل العلم على أن الذي تولى كبر الإفك - أي تولى ابتداءه وجمعه ونشره وإذاعته - هو عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، وقال بعض أهل العلم: المراد به حسان بن ثابت. قال ابن كثير: وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على إيراد ذلك لما كان لإيراده كبير فائدة؛ فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعره، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هاجهم وجبريل معك (1) » .
والحديث الذي أشار إليه ابن كثير هو حديث مسروق، قال: «دخلنا على عائشة رضي الله عنها وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعرا يشبب بأبيات له، وقال:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل (2)
فقالت له عائشة: لكنك لست كذلك! قال مسروق: فقلت لها: لم تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله تعالى {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3) ؟ فقالت: وأي عذاب أشد من العمى؟ قالت له: إنه كان
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3213) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2486) ، مسند أحمد (4/303) .
(2) أخرجه البخاري 4\1523 ح 3915.
(3) سورة النور الآية 11(87/321)
ينافح " يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»
والصحيح من هذين القولين هو الأول؛ لأمرين:
أولهما: أن حديث مسروق وإن كان في صحيح البخاري إلا أنه ليس فيه تصريح بأن المراد حسان بن ثابت؛ إذ يحتمل أن يكون المراد به أن حسانا قد خاض في الإفك، لا أنه الذي تولى كبره. ويؤيد هذا قول عائشة رضي الله عنها في سبب النزول: " وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول " (1) وكذا ما رواه عروة عن عائشة رضي الله عنها «قالت: عبد الله بن أبي ابن سلول (3) » وهذا تصريح منها في النص عليه.
والآخر: أن الله تعالى توعد في هذه الآية من تولى كبره بالعذاب العظيم، وهو شامل للعذاب الأخروي بلا شك، وهذا يمنع أن يكون المراد حسانا لأنه حد حد القذف، والحد مكفر للذنب كما في حديث عبادة بن الصامت، وفيه: «ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارته (4) »
__________
(1) راجع سبب النزول ص (5) (292) .
(2) أخرجه البخاري 4\1774 ح 4472.
(3) سورة النور الآية 11 (2) {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ}
(4) أخرجه البخاري 3\1413 ح 3679، ومسلم 3\1333 ح 1709.(87/322)
الوقفة العاشرة:
مع خطر شيوع الفاحشة:
قال الله تعالى في هذه الآيات: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في(87/322)
الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون} (1) ، وهذا وعيد شديد لكل من أحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وقد فسر ذلك إما بمحبة شيوع الكلام السيئ عن المؤمنين أو بمحبة شيوع فاحشة الزنا وشمولها كل من اتصف بصفة الإيمان، ولا منافاة بين التفسيرين.
ويؤخذ من الآية أن من أعظم ما تندفع به الفاحشة استغراب الناس لها واستنكارهم إياها وعدم الفهم لها؛ لأنها إذا شاعت وانتشرت هان أمرها واجترأ الناس عليها، ومصداق هذا ما نراه في الشرق والغرب من انتشار الفواحش وكثرتها، مع أن بعض شرائعهم تحرم ذلك، وبهذا يمكن القول أن عدم شيوع الفاحشة من المقاصد الشرعية المعتبرة؛ لأنه صمام أمان يحول دون استهانة الناس بها. (2)
إن كثيرا من المنكرات التي عمت البلدان الإسلامية - كنزع الحجاب، والمجاهرة بالفسق وشرب الخمور، واختلاط الرجال بالنساء، وما نشاهده ونسمعه عبر وسائل الإعلام من تعر ومجون وبعد عن الخلق القويم - إنما يعود بالدرجة الأولى إلى شيوع تلك المنكرات وانتشارها بين الناس من غير نكير حتى صارت هي المعروف وما خالفها من الحق هو المنكر.
__________
(1) سورة النور الآية 18
(2) انظر: تفسير الطبري 18\100، تفسير القرطبي 12\137، تفسير ابن كثير 3\2750(87/323)
الوقفة الحادية عشرة:
مع معاني (لولا) :
تستعمل " لولا " في كتاب الله تعالى على أحد معان ثلاثة؛ أولها: أن تكون حرف امتناع لوجود، وهو أكثر معانيها، وحينئذ يليها الاسم، كقوله تعالى في هذه الآيات: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) ، فامتنع وقوع العذاب بالخائضين في الإفك لوجود فضل الله تعالى ورحمته. وقد يحذف الجواب لدلالة الكلام عليه، كقوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) ؛ إذ التقدير: لعاجلكم بالعقوبة.
والثاني: أن تكون للتحضيض، وحينئذ يليها الفعل ولو تقديرا، كقوله تعالى هنا: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (3) ؛ أي: هلا جاؤوا بأربعة شهداء يشهدون على صحة ما قالوا! وقوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} (4) ؛ فإن التقدير: هلا ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا إذ سمعوه! وإنما قدم الظرف على عامله اهتماما بمدلوله.
__________
(1) سورة النور الآية 14
(2) سورة النور الآية 20
(3) سورة النور الآية 13
(4) سورة النور الآية 12(87/324)
والثالث: أن تكون للعرض ويليها الفعل أيضا، كقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (1) ، والفرق بينه وبين التحضيض أن العرض طلب بأدب ولطف والتحضيض طلب بشدة وعنف.
__________
(1) سورة المنافقون الآية 10(87/325)
الوقفة الثانية عشرة:
مع فائدة بلاغية:
قال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} (1) ، ذكر الأفواه هنا لا شك أن له فائدة، وإلا فإن من المعلوم أن القول لا يكون إلا بالفم، وقد ذكر العلماء لذلك فائدتين؛ أولاهما: التأكيد - أي: تأكيد تلفظهم بهذا القول وتلبسهم به، ويكون هذا بمنزلة قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (2) ، وقول القائل: رأيت بعيني، وسمعت بأذني - فكل ذلك للتأكيد. (3)
والأخرى: الدلالة على أن حديث الإفك إنما هو مختص بالأفواه من غير أن يكون واقعا في الخارج معتقدا في القلوب، قال
__________
(1) سورة النور الآية 15
(2) سورة الأنعام الآية 38
(3) انظر: تفسير القرطبي 12\136.(87/325)
الزمخشري معبرا عن هذا المعنى: فإن قلت ما معنى قوله {بِأَفْوَاهِكُمْ} (1) والقول لا يكون إلا بالفم؟ قلت: معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب فيترجم عنه اللسان، وهذا الإفك ليس إلا قولا يجري على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب، كقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (2) . (3)
وهذا القول فيه وجاهة، لكن ينبغي أن يخصص بمن خاض في حديث الإفك من المؤمنين، أما المنافقون فلا شك أن ما تلفظت به ألسنتهم معبر ومترجم عما في قلوبهم، فيكون الصحيح في حقهم هو القول الأول وهو إرادة تأكيد تلفظهم وتكلمهم بهذا الحديث.
__________
(1) سورة النور الآية 15
(2) سورة آل عمران الآية 167
(3) الكشاف 3\54.(87/326)
الوقفة الثالثة عشرة:
مع صلة الرحم:
جاء في سبب النزول قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال! فأنزل الله: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، قال أبو بكر الصديق: بلى، والله إني
__________
(1) سورة النور الآية 22(87/326)
لأحب أن يغفر الله لي! فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا! (1)
إن لصلة الرحم في شرع الله منزلة عظيمة ومزية شريفة، وقد تكاثرت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب رعايتها والتحذير من قطعها والتفريط فيها، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة. قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذاك لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا إن شئتم (3) »
والإحسان إلى الأرحام والأقارب مشروع بجميع وجوهه وصوره، شامل لزيارتهم وتفقد أحوالهم والإنفاق عليهم عند الحاجة، وقضاء مصالحهم، وتعليم جاهلهم، واحترام كبيرهم، والذب عن أعراضهم، وتحمل زلاتهم - ولا يسقط هذا الحق ولو بدرت منهم إساءة، ولهذا جاء في الحديث «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي! فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك (4) » .
__________
(1) راجع ص 298.
(2) أخرجه البخاري 5\2232 ح 5641، ومسلم 4\1980 ح 2554.
(3) سورة محمد الآية 22 (2) {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}
(4) أخرجه مسلم 4\1982 ح 2558، والإمام أحمد 2\300 ح 7979.(87/327)
وكثير من الناس لا يصل من أرحامه إلا من وصله ولا يحسن إلا لمن أحسن إليه، وليست هذه هي الصلة الحقيقية المأمور بها، قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها (1) » .
إن صلة الأرحام قد خف ميزانها عند كثير من الناس اليوم، لا سيما مع الطفرة المادية التي عمت المجتمع فنسيت الحقوق وأهملت الواجبات حتى صار الأرحام أغرابا لا يعرف بعضهم بعضا إلا في المناسبات العامة والمواسم الجامعة، فحري بالأمة أن تعود إلى كتاب ربها عز وجل وإلى هدي نبيه صلى الله عليه وسلم كي يتحقق المجتمع الفاضل وتسود روح الألفة والمودة، ويعود الناس إخوانا متحابين كما أراد الله تعالى لهم.
__________
(1) أخرجه البخاري 5\2233 ح 5645، وأبو داود 2\133 ح 1697، والترمذي 4\316 ح 1908، والإمام أحمد 2\163 ح 6524.(87/328)
الوقفة الرابعة عشرة:
مع الاستشارة:
للاستشارة قدر كبير وأهمية عظيمة في الوصول إلى سداد الرأي وصواب القرار، ولهذا كانت من صفات العقلاء وسمات الفضلاء حرصا على إصابة الحق ومجانبة الزلل، وقديما قيل: ما خاب من استخار، وما ندم من استشار.
وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين لتخلقهم بهذا الخلق العظيم، فقال عز وجل: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (1) ، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة
__________
(1) سورة الشورى الآية 38(87/328)
أصحابه فقال عز وجل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (1) ، وقد امتثل عليه الصلاة والسلام لذلك مع أنه أكمل الناس عقلا وأصوبهم رأيا، فكان كثيرا ما يقول لأصحابه: «أشيروا علي أيها الناس (2) » وفي حادثة الإفك استشار صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد في أمر عائشة رضي الله عنها (3) وهما في منزلة أولاده، بل أسامة في منزلة أحفاده؛ فإن أباه زيد بن حارثة كان يسمى قبل تحريم التبني زيد بن محمد، وما ذلك إلا ليعلم الناس أهمية الاستشارة وفضلها.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة فالذي ينبغي في حق المسلم أن يحرص على الاستشارة في أموره كلها وألا يتفرد بالرأي، لا سيما فيما لا خبرة له فيه، فإن ذلك أدعى إلى إصابة الحق ومجانبة الخطأ، ولا شك أن أمرا ينظر فيه اثنان أو ثلاثة أحرى بأن يكون صوابا من تفرد واحد بالنظر فيه.
ويجب أن يكون المستشار ثقة أمينا حكيما مجربا - ولو امرأة، وقد ثبت في الصحيح «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من مكاتبة قريش في صلح الحديبية أمر أصحابه أن ينحروا ويحلقوا، فلم يقم منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاثا، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا نبي الله، أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) انظر: صحيح البخاري 4\1531 ح 3944.
(3) راجع سبب النزول ص 292.(87/329)
بدنك وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك؛ نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل يحلق بعضهم بعضا (1) » .
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو من هو عقلا وفضلا - لا يجد غضاضة في أن يعرض أمر الأمة على امرأته ثم يأخذ بقولها ويعمل بمشورتها، فأين من هذا الخلق الكريم من جعل النساء من سقط المتاع فلا يقيم لهن وزنا ولا يرى لهن رأيا حتى في الأمور التي هن بها أدرى وعليها أقدر!
وبعد. . فهذا جهد مقل، حاولت فيه - متفيئا ظلال هذه الآيات الكريمات - أن أقف عند دلالاتها وأحكامها وهداياتها بحسب ما يقتضيه الحال والمقام من الاختصار وعدم الإطالة، فما كان من صواب فمن الله، وما كان من غيره فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) أخرجه البخاري 2\978 ح 2581.(87/330)
التوجيهات النبوية في الجهاد ونشر الإسلام
للدكتور: الأمين محمد محمود الجنكي
التمهيد:
الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فإن لفظ الدين والإسلام يشمل جميع الأمور من الأركان والعبادات في مختلف شؤون الحياة، ففي القرآن الكريم الدعوة إلى الإسلام، والإخلاص لله والعبادات المفروضة الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاملات والجنايات والحدود، وأسباب القوة وطرق الدعوة وأحكام الجهاد، والتيسير، والحث على الأخلاق الحسنة، والآداب الحميدة، والتحذير من الأخلاق السيئة، وكذلك في السنة كما في الصحيحين والسنن، مع كتب الأدب والرقاق والطب. فجميع هذه الكتب هي في الواقع تفسير لمعنى (الإسلام والدين) وهذا يعني أن كل ما في هذه الكتب هو من العبادات.
وقد حاولت من خلال هذا البحث استخلاص أهم التوجهات النبوية المستفادة من السنة النبوية التي هي جزء من الدعوة التي جاء وأمر بها نبينا صلى الله عليه وسلم، ويجب على كل مسلم أن يدرك أنه معني بها، ولو بامتثاله وتخلقه بهذه الأخلاق النبوية، كما يتناول البحث الأسس والأحكام التي سلكها وحث عليها النبي صلى الله عليه وسلم لما فيه المصلحة من قوة الإسلام والمسلمين، ونشر(87/331)
الإسلام بصورة يتعمق فيها الإسلام من نفوس وقلوب الناس، مستندا في ذلك على أهم المصادر التي تناولت مواضيع الجهاد والجزية والموادعة، وحاولت قدر المستطاع أن أقتصر على الأبواب الأحاديث الجامعة التي قد يندرج فيها ما يتصل بها من أحكام ومعان.
أسأل الله تعالى التوفيق والعفو عن كل خطأ وتقصير. وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
وقد جعلت هذا البحث من تمهيد وثلاثة مباحث.
وكل منها يتضمن مطالب، وذلك على النحو التالي:
* المبحث الأول
حقيقة الجهاد وآدابه ومبادئه.
* المبحث الثاني
القواعد في القتال
* المبحث الثالث
الأحكام والآداب أثناء وبعد القتال
فهرس المصادر
فهرس المحتويات.(87/332)
المبحث الأول
حقيقة الجهاد وآدابه
المطلب الأول: حقيقتة وآدابه
لقد اهتم العلماء – رحمهم الله تعالى – بهذا الجانب فألفوا المصنفات التي لم تترك شاردة ولا واردة إلا وأشارت إليها إما صراحة وإما تلميحا.
وهذا ما نجده في صحيحي البخاري ومسلم في كتاب الجهاد والسير، وكذا في كتب السنن، (1) بعضهم يسميه كتاب الجهاد، كما عند البخاري، والبعض الآخر بكتاب الجهاد والسير، كما عند مسلم، وبعضهم أفرد للجهاد كتابا، وللسير كتابا آخر كما صنع النسائي، وجمعوا كل ما يتصل بهذا الباب
وموضوع الجهاد يتصل بالدعوة، والحقوق والأمانة، والفقه، ويتصل بالمعاملات قبل القتال وأثناءه، وبعده، وأحكام الأسرى والفيء والأنفال، والغنائم، وتقسيم الخمس، وأحكام المعاهدات من أمان وهدنة وصلح وعقد ذمة، وأحكام البغاة، والخوارج، والمرتدين، والمحاربين.
إن الإسلام حيث شرع هذه الأحكام والآداب قد حقق وقصد بذلك مصالح كثيرة لجميع خلق الله تعالى.
* منها: ضبط الأمور، وجعلها كما أراد الله تعالى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لا يأتي إلا بالخير كله.
__________
(1) البخاري، 6\3 (56) ، مسلم، الصحيح بشرح القاضي، إكمال المعلم، 6\28.(87/333)
* منع أصحاب الأهواء، والأحقاد من استغلال هذا الأمر في الإسراف وإهلاك الناس باسم الإسلام، أو لمجرد الاختلاف معهم، فالإسلام شرع الأحكام في قتال من لا يؤمنون بأركان الإسلام، ودلت السنة على الوعيد لمن قاتل مسلما شهد الشهادتين، فكيف بمن هو أصلا ولد ونشأ عليها؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص كل الحرص على دعوة الناس والصبر على إظهار إجابتهم.
* المصالح الكثيرة ومنها تشجيع الناس على الدخول في الإسلام من خلال عملهم وإدراكهم بأن الإسلام لا يهمه بالدرجة الكبيرة المسارعة إلى قتال الناس، والتعرض لهم أو لأعراضهم أو ممتلكاتهم، وحتى إذا ما حدث هناك لقاء فإن المسلمين يخضعون لأوامر وأحكام وآداب صادرة من الشارع الحكيم، وقد يعاقب من يخالف هذه الأحكام.
وقد روى البخاري حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مثل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة (1) »
قال الحافظ: فيه إشارة إلى اعتبار الإخلاص.
وشبه حال الصائم القائم بحال المجاهد في سبيل الله في نيل ثواب في كل حركة وسكون؛ لأن المراد من الصائم القائم من لا يفتر ساعة عن
__________
(1) البخاري، 6\6 (ح2787) ، مسلم، الصحيح مع إكمال المعلم، 6\289 (ح1778) .(87/334)
العبادة فأجره مستمر، وكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته بغير ثواب، كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) .
وعند البخاري أيضا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مؤمن يجاهد في سيبل الله بنفسه وماله (2) »
قال الحافظ: في رواية الحاكم «أي الناس أكمل إيمانا» وكأن المراد بالمؤمن من قام بما تعين عليه القيام به، ثم حصل هذه الفضيلة، وليس المراد من اقتصر على الجهاد وأهمل الواجبات العينية، وحينئذ فيظهر فضل المجاهد لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى، ولما فيه من النفع المتعدي، وإنما كان المؤمن المعتزل يتلوه في الفضيلة؛ لأن الذي يخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام، فقد لا يفي هذا بهذا، وهو مقيد بوقوع الفتن (3)
وهذا يدل بوضوح على أن الجهاد عبادة وطريق دعوة، ولا بد أن يكون المجاهد عارفا بحقيقة الجهاد الذي هو في سبيل الله، ولأن من كمال الإيمان امتثال الواجبات الأخرى من الأحكام والآداب وخاصة المتصلة بالجهاد.
من أهم التوجيهات النبوية في السيرة النبوية ما يستفاد من قول وفعل
__________
(1) سورة التوبة الآية 120
(2) البخاري، 6\6 (ح2786) .
(3) الفتح، 6\6.(87/335)
النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الدعوة ونشرها وخاصة بعد الهجرة وبدء الجهاد.
لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة المجاهد، وهدفه، وهو ما ثبت في الحديث عن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (1) »
وفي الحديث ذم الحرص على الدنيا، وعلى القتال لحظ النفس في غير الطاعة (2)
ويفهم من جواب النبي صلى الله عليه وسلم أن كل إنسان ينبغي عليه أن يحاسب نفسه ويكون على بينة من أمره في إرادته للجهاد.
كما يفهم أيضا أن المجاهد الحقيقي الصادق هو الذي عرف حقيقة الإسلام والإيمان، وتعلم الأحكام، وخاصة فيما يتعلق بالجهاد، وتفقه في مشروعيته وشروطه وآدابه وضوابطه حسب ما جاء في الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة، واقتدى بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته، ووصاياه لأصحابه في السرايا والبعوث.
فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقصدون من الجهاد الحرص على الدنيا ومتاعها، ولا يطمعون إلى الحظوظ النفسية.
ولهذا لم يقاتلوا إلا بعد الإنذار، والدعوة والصبر لعل أن يسمعوا أذانا، أو تحصل استجابة، ولم يفاجئ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأعداء إلا إذا تيقنوا أن العدو قد استعد وعزم على الاعتداء كما في بني المصطلق.
__________
(1) البخاري، 6\28 (ح2810) ، مسلم مع إكمال المعلم، 6\327 (ح1904) [149] .
(2) الفتح، 6\29.(87/336)
وهذا الاستعداد من العدو يشير إلى أن الدعوة والإنذار قد وصلته وبلغته وعلم بها.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تركوا الغنائم الكثيرة من الذرية وحتى الأموال كما في غنائم بني المصطلق بعد أن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث.
وكما في غزوة حنين لما جاؤوا مسلمين ومستشفعين برضاع النبي صلى الله عليه وسلم في ديارهم ومن نسائهم، فترك لهم نصيبه وحث أصحابه على أن يفعلوا مثله ففعلوا رضي الله عنهم.
وقد أخرج البخاري باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم، وذكر فيه حديث أبي هريرة في قدوم الطفيل بن عمرو الدوسي، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهد دوسا (1) » .
وقوله (ليتألفهم) من فقه المصنف إشارة منه إلى الفرق بين المقامين وأنه صلى الله عليه وسلم كان تارة يدعو عليهم كما في باب الدعاء على المشركين بالهزيمة، ويكثر أذاهم فيدعو عليهم بأن تطيش عقولهم وترعد أقدامهم عند اللقاء فلا يثبتوا، ولا يستقر لهم قرار.
والحالة الثانية، حيث تؤمن غائلتهم ويرجى تألفهم (2)
__________
(1) صحيح البخاري الدعوات (6397) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2524) ، مسند أحمد (2/502) .
(2) البخاري، 6\105، 106، 107، (ح2937) .(87/337)
المطلب الثاني: الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأثرها:
لقد بين الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم طريق الدعوة وأمره باتباعه من أول ظهور الإسلام قال تعالى:(87/337)
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1) .
قال القرطبي: هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة، فهي محكمة في جهة العصاة من الموحدين، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين. وقد قيل: إن من أمكنت معه هذه الأحوال من الكفار ورجي إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة (2) والله أعلم.
وهذا هو الأساس في نشر الإسلام، وهو أول قواعد وأحكام الجهاد، وأصدق دليل على ذلك حديث بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا وأبا موسى إلى اليمن، حيث قال لهما: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا (3) »
قال القاضي – رحمه الله تعالى – فيه ما يجب الاقتداء به من التيسير في الأمور، والرفق بالناس، وتحبيب الإيمان إليهم، وترك الشدة والتنفير لقلوبهم، لا سيما فيمن كان قريب العهد به.
وقد ثبت في البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، يدفعه عظيم
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) الجامع، 10\200.
(3) صحيح مسلم، 6\37 (ح1733) .(87/338)
البحرين إلى كسرى.
وأورد البخاري هذا الحديث في الترجمة المستفادة من الحديث حيث قال: باب دعوة اليهود والنصارى، وعلى ما يقاتلون عليه؟
وما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، والدعوة قبل القتال (1) والمراد بالدعوة أي إلى الإسلام. ولا شك أن الدعوة قد وصلت إلى الملوك قبل إرسال النبي صلى الله عليه وسلم كتبه إليهم، ومع ذلك لم يبدأهم بالقتال، وإنما سلك الطريق الأصلح والأسلم والأيسر، وهو الحكمة والموعظة الحسنة، كما يظهر من ألفاظ الحديث: عظيم البحرين.
وفي الحديث أيضا: «وكتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتابه إليه مع دحية الكلبي، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر (2) »
قال الحافظ: وفي الحديث الدعاء إلى الإسلام بالكلام والكتابة، وأن الكتابة تقوم مقام النطق. وفيه إرشاد المسلم إلى الكافر.
وفي الحديث المطول عند البخاري بعد وصول الكتاب لقيصر، ثم استحضاره لأبي سفيان، وفيه: من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين
__________
(1) البخاري، 6\108 (ح2939) ، صحيح مسلم مع إكمال المعلم، 6\117 (ح1773) .
(2) البخاري: 6\109 (ح2940) .(87/339)
{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (1) .
هذا هو الأصل والحق في الدعوة وهو الذي فيه الخير والمصلحة؛ لأن الحكمة من الجهاد هو إدخال الناس في الخير، وتحقيقه لهم، وليس الهدف هو استغلال الجهاد لأمور دنيوية وحظوظ شخصية.
ومما يوضح الحرص على جعل الأولوية في الدعوة بالحكمة والصبر ما ثبت في البخاري يوم خيبر، حين أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الراية لعلي رضي الله عنه، فقال علي: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. فقال: «على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم (2) »
هذا هو الوحي والشرع، والأسوة الحسنة، وفيه كل الخير، وما خالفه ليس فيه إلا الشر.
وهذا مع يهود خيبر الذين لا يجهل أحد ما قاموا به من مؤامرات ودسائس، وتعاون مع قريش والمنافقين، وحتى بعد إخراجهم من المدينة جعلوا من خيبر مركزا لمحاربة النبي صلى الله عليه وسلم وإضعاف المسلمين. ومع هذا كله لم يستعجل النبي صلى الله عليه وسلم في مهاجمتهم، بل ولم يطمع في ذريتهم وأموالهم وسفك دمائهم، بل كان يرجو أن يسمع أذانا أو استجابة، وهذه من أحكام وآداب الجهاد التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم تعليمها لأمته.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 64
(2) البخاري، 6\111 (ح2942) ، و 144 (ح3009) .(87/340)
ويستفاد من الحديث أيضا مراقبته صلى الله عليه وسلم لعماله ونوابه وسؤالهم، والتأكد من معرفتهم وإدراكهم للقيام بما أرسلوا من أجله، وليس الأمر فقط هو تأميرهم وإرسالهم ليتصرفوا حسب اجتهادهم. وهذا يتفق مع ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى خيبر فجاءها ليلا، وكان إذا جاء قوما بليل لا يغير عليهم حتى يصبح (1) » .
قال الحافظ: رحمه الله تعالى: في الحديث الأخذ بالأحوط في أمر الدعاء؛ لأنه كف عنهم في تلك الحالة مع احتمال ألا يكون ذلك على الحقيقة. (2)
__________
(1) البخاري، 6\111 (ح2945) .
(2) الفتح/ 6\122.(87/341)
المطلب الثالث: متى وفي حق من يشرع الجهاد؟
لقد استمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ملتزمين بالصبر والعفو والصفح، ولم يحاولوا مقاتلة المعتدين والظالمين إلا بعد أن جاء الإذن من الله تعالى، وذلك في قوله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (1) .
وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة والسبب والهدف من الأمر بقتال الناس كما قال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام،
__________
(1) سورة الحج الآية 39(87/341)
وحسابهم على الله (1) » والحديث معروف مشهور عند المسلمين. ومثله حديث «بني الإسلام على خمس (2) »
وهذا من رحمة الله تعالى أن يسر الخول في الإسلام بهذا القول، ويحرم على الإنسان أن يعتدي على غيره بحجة أنها قالها نفاقا أو خوفا، كما أنه لا يحق للإنسان بما يراه أن يكفر المسلم من أجل أن يسوغ ويبيح قتاله؛ لأن قتاله بسبب أمر دنيوي أخف من قتاله بسبب ديني لاختلاف الحكم في الحكم في الحالتين، ولعظم وشناعة تكفير من يؤمن بالأركان التي حددها الشرع وجعلها الحصن المنيع للإنسان.
__________
(1) البخاري، 1\75 (225) ، ومسلم، 1\242 (20) .
(2) البخاري، 1\49 (8) .(87/342)
المطلب الرابع: حرص الإسلام وإيثاره للسلم والعافية:
من الأدلة والبراهين على أن الإسلام يدعو إلى السلم والصلح ما ورد في الأحاديث من النهي عن تمني لقاء العدو، كما أخرجه البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية ... (1) »
قال ابن بطال: حكمة النهي أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر، وهو نظير سؤال العافية من الفتن، وقد قال الصديق: لأن أعافي فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر.
وقال غيره: إنما نهي عن تمني لقاء العدو لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على النفوس والوثوق بالقوة وقلة الاهتمام بالعدو، وكل ذلك
__________
(1) البخاري، (6\156 (ح3025) ، سنن سعيد بن منصور، 2\203 (2518) .(87/342)
يباين الاحتياط والأخذ بالحزم.
وقيل: يحمل النهي على ما إذا وقع الشك في المصلحة أو حصول الضرر، وإلا فالقتال فضيلة وطاعة (1)
ويؤيد الأول تعقيب النهي بقوله «وسلوا الله العافية (2) » وأخرج سعيد بن منصور من طريق يحيى بن أبي كثير مرسلا «لا تمنوا لقاء العدو، فإنكم لا تدرون عسى أن تبتلوا بهم (3) »
وذكر القاضي نحو هذه المعاني، وزاد: لا تتمنوا لقاءه على حالة يشك في غلبته لكم، أو يخاف منه أن يستبيح الحريم، أو يذهب الأنفس والأموال، أو يدرك منه ضرر (4)
ويؤخذ من الحديث الإشارة بالدعاء إلى وجوه النصر عليهم. ولسعيد ابن منصور من طريق أبي عبد الرحمن الحبلي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا نحوه، لكن بصيغة الأمر عطفا على قوله «وسلوا الله العافية: فإن بليتم بهم فقولوا: اللهم ... (5) » فذكره وزاد: «وغضوا أبصاركم واحملوا عليهم على بركة الله (6) » وفي الحديث استحباب الدعاء عند اللقاء والاستنصار، ووصية المقاتلين بما فيه صلاح أمرهم، وتعليمهم بما يحتاجون إليه، وسؤال الله تعالى بصفاته الحسنى وبنعمه السالفة، ومراعاة نشاط النفوس لفعل
__________
(1) الفتح، 6\156.
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (3024) ، سنن أبي داود الجهاد (2631) .
(3) سنن سعيد بن منصور، 2\204 (2519) ، الفتح، 6\156-157.
(4) إكمال المعلم، 6\43.
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (3024) ، سنن أبي داود الجهاد (2631) .
(6) سنن سعيد، 2\205 (2521) .(87/343)
الطاعة، والحث على سلوك الأدب وغير ذلك (1)
__________
(1) الفتح، 6\157.(87/344)
المطلب الخامس: وجود الإمام وطاعته:
لقد جاءت النصوص مؤكدة على ضرورة وجود الأمير، مع الأمر بالطاعة إلا إذا أمر بمعصية.
والمقصود بالأمير، القائم بشؤون الناس، والذين هم الجمهور، والأكثرية الساحقة من الأمة. وقد أمر القرآن الكريم بطاعة أولي الأمر؛ لما في ذلك من المصالح العامة وقوة الأمة، كما قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) .
روى البخاري حديث: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. ومن يطع الأمير فقد طاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا، وإن قال بغيره فإن عليه منه (2) » وقوله: (إنما الإمام جنة) بضم الجيم أي سترة؛ لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويكف أذى بعضهم عن بعض في أموالهم وأنفسهم، فهو ستر لهم وحرز لهم من ذلك. والمراد بالإمام كل قائم بأمور الناس، والله أعلم (3)
وقال القاضي: أي أنه كالساتر وكالترس لمنعه وحمايته بيضة
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) البخاري، 6\116 (ح2957) .
(3) الفتح، 6\116.(87/344)
المسلمين، واتقائهم بمكانه نظرة عدوهم، وهو معنى قوله: (يقاتل من ورائه) (1)
قال: ولا يجوز الخروج على الإمام العدل بالاتفاق. وجمهور أهل السنة من أهل الحديث والفقه، أنه لا يخلع بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه ونصحه، والصبر عليه؛ لأن ما تؤدي الفتنة إليه من الخروج أشد (2)
__________
(1) إكمال المعلم، 6\249.
(2) إكمال المعلم، 6\246-247.(87/345)
المطلب السادس: التحذير من التنازع ووجوب التطاوع:
ذكر البخاري باب ما يكره التنازع والاختلاف في الحرب، وروى فيه الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن وقال: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا (1) »
والأمر بترك التنازع مطلوب في جميع الأوقات وخاصة في أحوال الحرب والاتفاق والتطاوع واللين من أهم أسباب القوة في المجتمع في السلم وفي الحرب كما قال تعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) .
الريح: يعني الحرب كما قال قتادة ورواه عبد الرزاق، والفشل: الجبن (3)
__________
(1) البخاري، 6\162 (3038) .
(2) سورة الأنفال الآية 46
(3) البخاري، 6\162، تفسير عبد الرزاق، 1\260 القسم الأول.(87/345)
وثبت في السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أرسل جيشا، ثم أرسل مددا وعونا، أمر الأميرين بأن يتطاوعا. وهذه إشارة نبوية للمسلمين عامة أصدقاء وأقرباء وعامتهم - أن يتطاوعوا، والأفضل والأصلح هو الذي يقتدي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ويمتثل أمره ووصيته كما فعل أبو عبيدة.(87/346)
المطلب السابع: بر الوالدين من الجهاد:
ذكر البخاري في الصحيح باب الجهاد بإذن الأبوين، وأورد فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال: (أحي والداك؟) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد (1) »
قوله: (ففيهما فجاهد) أي خصصهما بجهاد النفس في رضاهما. ويؤخذ منه أن كل شيء يتعب النفس يسمى جهادا.
وفيه أن بر الوالدين قد يكون أفضل من الجهاد. وأن المستشار يشير بالنصيحة المحضة. ولمسلم وسعيد بن منصور عن عبد الله بن عمرو، في نحو هذه القصة قال: «ارجع إلي والديك فأحسن صحبتهما (2) » ولأبي داود، وابن حبان من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو: «ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما (3) » وفي حديث أبي سعيد عند أبي داود بلفظ: «ارجع
__________
(1) البخاري، 6\140 (ح3004) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي، 16\104، كتاب البر والصلة، سنن سعيد بن منصور، 2\232 (2335) .
(3) سنن أبي داود، 3\38 (2528) ، الإحسان، 1\326 (424) ، سنن سعيد، \131 (2332) .(87/346)
فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما (1) » وصححه ابن حبان
قال جمهور العلماء: يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين (2) ؛ لأن برهما فرض عين عليه، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا إذن.
ويشهد له ما أخرجه ابن حبان من طريق أخرى عن عبد الله بن عمرو «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أفضل الأعمال، قال: (الصلاة) قال: ثم مه؟ قال: (الجهاد) قال: فإن لي والدين، فقال: (آمرك بوالديك خيرا) . فقال: والذي بعثك بالحق نبيا لأجاهدن ولأتركهما، قال: (فأنت أعلم (3) » وهو محمول على جهاد فرض العين توفيقا بين الحديثين. وفي الحديث فضل بر الوالدين وتعظيم حقهما وكثرة الثواب على برهما (4)
والتفاصيل في كتاب الأدب (5)
__________
(1) سنن أبي داود الجهاد (2530) .
(2) الفتح، 6\140، شرح مسلم للنووي، 16\104، روضة الطالبين، 7\413.
(3) الإحسان، 3\111 (1719) .
(4) الفتح، 6\141.
(5) الفتح، 10\400، باب البر والصلة (ح5972) .(87/347)
المبحث الثاني
التوجيهات النبوية قبل القتال
المطلب الأول: حث الإسلام على إعداد العدة:
وذكر البخاري في كتاب الجهاد: باب التحريض على الرمي، وقول الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (1)
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60(87/347)
لمح البخاري بما جاء في تفسير القوة في هذه الآية أنها الرمي.
وهو عند مسلم من حديث عقبة بن عامر، ولفظه: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر ألا إن القوة الرمي (2) » ثلاثا
ولأبي داود، وابن حبان من وجه آخر عن عقبة بن عامر رفعه: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله. فارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا.... (3) » الحديث، وفيه: «ومن ترك الرمي بعد علمه رغبة عنه فإنها نعمة كفرها (4) » ولمسلم من وجه آخر عن عقبة رفعه: «من علم الرمي، ثم تركه فليس منا أو فقد عصى (5) » ورواه ابن ماجه بلفظ: «فقد عصاني (6) »
قال القرطبي: إنما فسر القوة بالرمي، وإن كانت القوة تظهر بإعداد غيره من آلات الحرب لكون الرمي أشد نكاية في العدو، وأسهل مؤنة، لأنه قد يرمي رأس الكتيبة فيصاب فينهزم من خلفه (7) وروى مسلم عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه (8) » .
__________
(1) الصحيح مع الإكمال، 6\346 (1917) ، سنن سعيد 2\170 (2448) .
(2) سورة الأنفال الآية 60 (1) {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}
(3) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1637) ، سنن النسائي الخيل (3578) ، سنن أبي داود الجهاد (2513) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2811) ، مسند أحمد (4/148) ، سنن الدارمي الجهاد (2405) .
(4) سنن سعيد، 2\171 (2450) .
(5) الصحيح، 6\347 (1919) .
(6) أخرجه ابن ماجه في كتاب الجهاد، حديث 2804.
(7) الفتح، 6\91.
(8) صحيح مسلم الإمارة (1918) ، مسند أحمد (4/157) .(87/348)
قال القاضي: فيه جواز المناضلة والمسابقة بالسهام والحض على ذلك، وألا يترك ذلك، وإن استغنى عنه بما كفى الله من الفتح على الأعداء وظهور الدين، ومثله جواز اللعب بالسلاح والمثاقفة وإجراء الخيل وأشباه هذا.. إذ في كل ذلك التمرن والاستعداد، ومعاهدة الجسم، ورياضة الأعضاء بها (1) ثم ذكر البخاري في هذا الباب حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: مر الرسول صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون، وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارموا بني إسماعيل ... ارموا معكم كلكم (2) »
ينتضلون: بالضاد المعجمة أي يترامون، والتناضل الترامي للسبق، ونضل فلان فلانا إذا غلبه.
قوله: (وأنا معكم كلكم) بكسر اللام، ووقع في مرسل عروة أخرجه السراج: (وأنا مع جماعتكم) والمراد بالمعية معية القصد إلى الخير. ويستفاد منه حسن أدب الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث: التنويه بذكر الماهر في صناعته ببيان فضله وتطييب قلوب من هم دونه. وفيه حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته بأمور الحرب. وفيه الندب إلى اتباع خصال الآباء المحمودة، والعمل بمثله (3) والحديث يدل على أنه يجب على المسلمين التعلم والبحث في شتى السباب، وخاصة السهلة الميسورة التي يمكن تنفيذها والقيام بها لرد المعتدي وحماية المجتمع والأمة، ومن ذلك التخطيط والعمليات التي تؤثر فيه وتسبب له
__________
(1) صحيح مسلم مع إكمال المعلم، 6\346، 347 (1918) .
(2) البخاري، 6\91 (ح2899) .
(3) الفتح، 6\92(87/349)
القلق والاضطراب.(87/350)
المطلب الثاني: الاستعداد قبيل القتال:
ذكر ابن إسحاق أن الله تعالى أنزل في شأن أحد ستين آية من آل عمران: - (وفيها صفة ما كان في يومهم ذلك ... ) (1) وروى ابن أبي حاتم من طريق المسور بن مخرمة قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: أخبرني عن قصتكم يوم أحد قال: اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجدها {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} (2) (3) وتدل الآيات على أحداث غزوة أحد منذ بدايتها وقبل القتال، وتوضح الوقت الذي خرج فيه النبي صلى الله عليه وسلم أي من بيته ومدينته، وحتى وصوله إلى ساحة القتال، حيث قام بأهم مراحل القتال وهو الاستعداد، وتوزيع الجيش والاستفادة من بعض المواقع لتعزيز قوة المسلمين.
قوله: (غدوت) أي خرجت أول النهار. و (تبوئ المؤمنين) أي تنزلهم، وأصله من المآب والمباءة وهو المرجع (4)
والمقاعد: جمع مقعد، والمراد به مكان القعود، رواه الطبري عن قتادة ومجاهد والسدي (5) وعند البخاري «تبوئ: تتخذ معسكرا (6) » وهو
__________
(1) سيرة ابن هشام، 2\160.
(2) سورة آل عمران الآية 121
(3) تفسير ابن أبي حاتم، خ \121 (1874) . والآيات 121-154.
(4) معاني القرآن للزجاج، 1\465، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 4\184.
(5) التفسير، 4\69.
(6) البخاري، 8\207.(87/350)
تفسير أبي عبيدة للآية، قال: أي تتخذ لهم مصاف ومعسكرا (1) وذكر ابن إسحاق عن شيوخه، وموسى بن عقبة عن ابن شهاب، وأبو الأسود عن عروة تفاصيل أحد، وفيها أنه صلى الله عليه وسلم صف أصحابه بأصل أحد وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وعهد إليهم ألا يتركوا منازلهم ...
وكان وضع الرماة من أهم الأمور التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم قبيل القتال للاستفادة من قلة أصحابة وكثرة عدوه، ولمواجهة الفرسان والخيالة، ولمراقبة ما يحدث في الميدان من خلال كونهم في مكان مرتفع، ويعتبر كالحصن.
كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم عليهم أميرا، وذلك يتطلب ألا يقوموا بأي تحرك أو ترك للمكان إلا بإذن الأمير، وهذا يعتبر أيضا من القواعد العسكرية، وهي أن كل جماعة أسندت إليها مهمة من المصلحة تأمير أمير عليها يكون أهلا لمعالجة الأمور التي تطرأ وتواجهه. وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أهمية وجود الرماة على الجبل، وأنه من أسباب السيطرة على زمام الأمور في المعركة، ولهذا وضع عددا يعتبر ليس بالقليل بالنسبة لعدد المسلمين الإجمالي، كما حثهم على البقاء، وحذرهم من ترك المكان مهما كانت الأمور، وبشرهم بأنهم سيظهرون وينتصرون إذا لم يبرحوا المكان.
كما رواه الطبري عن السدي وغيره في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} (2) والمراد
__________
(1) مجاز القرآن، 1\103.
(2) سورة آل عمران الآية 152(87/351)
بالوعد قوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستظهرون عليهم فلا تبرحوا من مكانكم حتى آمركم) (1)
ومن طريق آخر عن السدي: بلفظ: (إنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم) (2)
ومعنى (تحسونهم) أي تقتلونهم، وتستأصلونهم. وهو قول أبي عبيدة (3) وقد أخرج البخاري حديث البراء، وفيه: «وجعل الرماة على جبل عينين الذي أصبح يعرف بجبل الرماة، وعين عبد الله بن جبير أميرا لهم (4) »
وقد ذكر ابن إسحاق ما يوضح بعض الأمور التي أرادها النبي صلى الله عليه وسلم من وجود الرماة على الجبل، حيث قال لهم صلى الله عليه وسلم: (انضحوا الخيل عنا بالنبل؛ لا يأتونا من خلفنا) (5)
وفي رواية عند البخاري: «لا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا (6) » وفي رواية عنده أيضا عن زهير: «حتى أرسل لكم، وإن رأيتموهم ظهروا علينا (7) » وفي رواية عنده أيضا عن زهير: «حتى أرسل لكم، وإن رأيتمونا تخطفنا الطير (8) » وفي حديث ابن عباس الذي رواه أحمد والطبراني والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع، ثم قال لهم: «احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل
__________
(1) تفسير الطبري، 4\124، الدر المنثور، 2\344.
(2) تفسير الطبري، 4\125.
(3) مجاز القرآن، 1\104.
(4) البخاري، 7\364 (ح4067) ، و 8\227 (ح4561) .
(5) سيرة ابن هشام، 2\65.
(6) صحيح البخاري المغازي (4043) .
(7) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، حديث 2812، وأبو داود في كتاب الجهاد، حديث 2288، وأحمد في أول مسند الكوفيين، حديث 17853.
(8) 6\162 (3039) .(87/352)
فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا (1) »
ولا شك أن هذا أبلغ وأوفى في بيان الأمر بالثبات، كما أنه يشير إلى احتمال حدوث الأمرين معا، وقد تحقق ذلك، كما في الآية الكريمة.
استخدام الوسائل المناسبة:
لقد حث الإسلام على الاجتهاد في تحصيل أسباب القوة، ومن الوسائل التي كانت موجودة في العهد النبوي وما بعده:
حفر الخندق، وكان ذلك في غزوة الأحزاب لاجتماع قريش وحلفائها على مهاجمة المسلمين في المدينة، وكانوا في عشرة آلاف، وبعد المشاورة فيما يجب فعله، فأشار سلمان رضي الله عنه بحفر الخندق، فأصبحت تسمى أيضا بهذا الاسم، وذلك في شوال سنه خمس (2)
وذكر أصحاب المغازي، منهم أبو معشر أن سلمان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقا علينا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة من جهة شمالها، وعمل فيه بنفسه ترغيبا للمسلمين، فسارعوا إلى عمله حتى فرغوا منه، وجاء المشركون فحاصروهم (3)
__________
(1) المسند، 1\287 مطولا، المعجم الكبير، 10\366 (10766) ، المستدرك، 2\296.
(2) طبقات ابن سعد، 2\66، دلائل البيهقي، 3\394، عيون الأثر، 2\79.
(3) مغازي الواقدي، 2\445، تاريخ الطبري، 3\44، المغازي للذهبي، 251.(87/353)
المطلب الثالث: المشاورة:
لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أمته كل ما من شأنه أن يوصلهم إلى أصوب وأسلم الأمور، ويبعدهم عن الأخطاء التي قد تحدث، وخاصة في(87/353)
المجال العسكري الذي يكون الخطأ فيه له أثر كبير في زيادة الشهداء، وحدوث خسارة كبيرة في الجيش.
ولهذا كان من أهم التوجيهات النبوية في جميع الجوانب ومنها العسكرية - تأسيس قاعدة الشورى. وخصص العلماء بابا في هذا الجانب وهو باب المشاورة في الحرب (1)
ومما يدل على أهمية الشورى في الجانب العسكري أنه في غزوة بدر الكبرى والتي هي أول غزوة حدث فيها مواجهة بين المسلمين وقريش، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه عدة مرات في شأن هذه الغزوة:
المرة الأولى: في المدينة قبل الخروج لاعتراض التجارة أثناء رجوعها من الشام محملة بالأموال (2)
الثانية: بعد الخروج والوصول إلى وسط الطريق بين المدينة وبدر في أمر القتال.
الثالثة: في شأن الأسرى وقتلهم أو فدائهم
الدعاء قبل القتال: (الحدث)
__________
(1) مجمع الزوائد، 5\322، السنن الكبرى للنسائي، 8\5.
(2) صحيح مسلم، 12\124، البداية والنهاية، 3\263، تفسير ابن أبي حاتم، ص 451 (282) .(87/354)
قد ورد في الأحاديث عن ابن عباس، وعن علي، وعن ابن مسعود، وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر نظر إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم، فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته: «اللهم لا تخذلني، اللهم لا تتركني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك (1) »
واشتد النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء والإلحاح والتضرع، حتى سقط الرداء عن منكبه، فجاء أبو بكر رضي الله عنه، وأعاده وألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (2)
قال الخطابي: لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقويه قلوبهم (3)
وقال السهيلي: ومن السنة أن يكون الإمام وراء الجيش لأنه لا يقاتل معهم، فلم يكن ليريح نفسه، فتشاغل بأحد الأمرين وهو الدعاء. (4)
وهذا يعني أنه في حال حدوث الشر على المسلمين ومن ذلك مواجهة المعتدين - يشرع للجميع أن يتضرعوا لله تعالى بالنصر وزوال الشر.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، حديث 2699، وأحمد كتاب مسند بني هاشم، حديث 2885، وليس فيه اللهم لا تخذلني، اللهم لا تتركني.
(2) سورة الأنفال الآية 9
(3) أعلام الحديث، 3\1702، شرح الحديث (831) .
(4) الروض الأنف، 3\47.(87/355)
المطلب الرابع: آداب الإسلام عند تحتم الجهاد:
تحريم الإسلام قتل النساء والأطفال ومن في حكمهم من المستضعفين والعزل:
أخرج الإسماعيلي من طريق جعفر الفريابي عن علي عن سفيان، وكان الزهري إذا حدث بهذا الحديث قال: وأخبرني ابن كعب بن مالك عن عمه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث إلى ابن أبي الحقيق نهى عن قتل النساء والصبيان (1) »
وعن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن للرهط بقتل سلام بن أبي الحقيق قال لهم: «لا تقتلوا وليدا، ولا امرأة (2) » وهذا الحديث أخرجه أبو داود بمعناه من وجه آخر عن الزهري. وذكر البخاري حديث ابن عمر في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان (3) وقال مالك والأوزاعي: لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان، أو تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا معهم النساء والصبيان لم يجز رميهم ولا تحريقهم.
وقد أخرج ابن حبان في حديث الصعب زيادة في آخره: «ثم نهى عنهم يوم حنين» .
__________
(1) الفتح 6\148.
(2) الصحابة لأبي نعيم، 2\1002 (2560) ، مجمع الزوائد، 5\318.
(3) البخاري، 6\148 (ح3014) .(87/356)
وهي مدرجة في حديث الصعب، وذلك بين في سنن أبي داود، فإنه قال في آخره: قال سفيان: قال الزهري: «ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن قتل النساء والصبيان (1) »
ويؤيد كون النهي في غزوة حنين ما ورد في حديث رياح بن الربيع، فقال لأحدهم: «الحق خالدا، فقل له: لا تقتل ذرية ولا عسيفا (2) » .
والعسيف - بمهملتين وفاء - الأجير وزنا ومعنى. وخالد أول مشاهده مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح، وفي ذلك العام كانت غزوة حنين.
قال الثوري والأوزاعي: لا يقتل العسيف، ولا الحراث، ولا صاحب الصومعة، ولا الشيخ المسن (3)
وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر قال: «لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة أتي بامرأة مقتولة فقال: ما كانت هذه تقاتل، ونهى (4) » فذكر الحديث. ونحوه عند الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد في النهي عن قتل النساء والصبيان، وأنهما لمن غلب (5)
وأخرج أبو داود في المراسيل عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة بالطائف فقال: «ألم أنه عن قتل النساء، من صاحبها؟) فقال رجل: أنا يا رسول الله، أردفتها، فأرادت أن تصرعني فتقتلني، فقتلتها، فأمر بها أن توارى» .
وذكره الهيثمي عن ابن عباس، وعزاه لأحمد والطبراني (6) ويحتمل
__________
(1) السنن، 3\123، 124 (2672) .
(2) سنن أبي داود الجهاد (2669) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2842) ، مسند أحمد (4/179) .
(3) معالم السنن للخطابي، 3\123، روضة الطالبين، 7\444.
(4) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، حديث 2791، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، حديث 3279، والترمذي في كتاب السير، حديث 1494، وأبو داود كتاب الجهاد، حديث 2294، وابن ماجه في كتاب الجهاد، حديث 2831، ومالك في كتاب الجهاد، حديث 857.
(5) ذكره الهيثمي في المجمع، 5\321، الفتح، 6\148، 149.
(6) مجمع الزوائد، 5\319.(87/357)
في هذا التعدد، والذي جنح إليه غيرهم الجمع بين الحديثين. وهو قول الشافعي والكوفيين، وقالوا: إذا قاتلت المرأة جاز قتالها.
قال القاضي: أجمع العلماء على الأخذ بهذا الحديث في ترك النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا، واختلفوا إذا قاتلوا. (1)
وقال ابن حبيب من المالكية: لا يجوز القصد إلى قتلها إذا قاتلت، إلا إن باشرت القتل وقصدت إليه، قال: وكذلك الصبي المراهق. ويؤيد قول الجمهور ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث رياح بن الربيع وهو بكسر الراء والتحتانية التميمي قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فرأى الناس مجتمعين، فرأى امرأة مقتولة فقال: (ما كانت هذه لتقاتل (2) »
فإن مفهومه أنها لو قاتلت لقتلت. واتفق الجميع كما نقل ابن بطال وغيره على منع القصد إلى قتل النساء والولدان، أما النساء فلضعفهن، وأما الولدان فلقصورهم عن فعل الكفر، ولما في استبقائهم جميعا من الانتفاع بهم إما بالرق أو بالفداء فيمن يجوز أن يفادى به (3)
وفي سنن سعيد بن منصور: النهي عن قتل العسيف والوصيف (4)
__________
(1) إكمال المعلم، 6\48.
(2) سنن أبي داود، 3\121، 122 (2669) ، السنن الكبرى للنسائي، 8\26، 27 (8571، 8572) ، موارد الظمآن 398 (1656) ، الإحسان، 7\140 (4769) ، سنن سعيد، 2\238 (2623) .
(3) الفتح، 6\148.
(4) السنن، 2\239 (2628) ، والوصيف هو العبد.(87/358)
المطلب الخامس: الالتزام بالنظام:
قد ذكر البخاري باب استئذان الرجل الإمام، لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} (1) إلى آخر الآية.
ومعنى الترجمة استئذان الفرد من الرعية من الإمام وهو الأمير - في الرجوع أو التخلف عن الخروج أو نحو ذلك.
قال ابن التين: هذه الآية احتج بها الحسن على أنه ليس لأحد أن يذهب من العسكر حتى يستأذن الأمير. وهذا عند سائر الفقهاء كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم. والذي يظهر أن الخصوصية في عموم وجوب الاستئذان، وإلا فلو كان ممن عينه الإمام، فطرأ له ما يقتضي التخلف أو الرجوع فإنه يحتاج إلى الاستئذان (2) وقد أورد البخاري في هذا الباب حديث جابر في خروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة وفي الرجوع منها؛ تخلف بسبب ضعف جمله الذي لا يكاد يسير، ولحوق النبي صلى الله عليه وسلم به وتبريكه على الجمل حتى قام وسار مع الإبل، ثم قصة بيع الجمل للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: فقال جابر: «فبعته إياه على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة، قال: فقلت: يا رسول الله، إني عروس، فاستأذنته فأذن لي، فتقدمت الناس إلى المدينة ... وفيه سبب زواج جابر ثيبا (3) »
__________
(1) سورة النور الآية 62
(2) الفتح، 6\121.
(3) البخاري، 6\121 (ح2967) .(87/359)
المطلب السادس: أهمية اللواء:
قال الطبري: في حديث علي أن الإمام يؤمر على الجيش من يوثق بقوته وبصيرته ومعرفته.
وقال المهلب: وفي حديث الزبير أن الراية لا تركز إلا بإذن الإمام؛ لأنها علامة على مكانه، فلا يتصرف فيها إلا بأمره (1) وفي هذه الأحاديث: استحباب اتخاذ الألوية في الحروب، وأن اللواء يكون مع الأمير، أو من يقيمه لذلك عند الحرب.
كما في حديث أنس في غزوة مؤتة، وفيه: أخذ الراية زيد بن حارثة فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب (2) الحديث ... شرحه في المغازي.
التورية والحفاظ على أسرار الجيش:
وقد ذكر البخاري باب من أراد غزوة فورى بغيرها، وأخرج فيه حديث كعب بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها، حتى كانت غزوة تبوك، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا، واستقبل غزو عدو كثير، فجلى للمسلمين أمره ليتأهبوا أهبة عدوهم، وأخبرهم بوجهه الذي يريد (3) » ومعنى (ورى) أي ستر، وتستعمل في إظهار شيء مع إرادة غيره، وأصله من الورى بفتح ثم سكون، وهو ما يجعل وراء الإنسان، لأن من ورى بشيء كأنه جعله وراءه.
__________
(1) الفتح، 6\127.
(2) الفتح، 6\127-128.
(3) البخاري، 6\113 (ح2948) .(87/360)
وقيل: هو في الحرب: أخذ العدو على غرة (1)
__________
(1) الفتح، 6\113.(87/361)
المطلب السابع: المفاجأة والمباغتة:
كما حدث في غزوة بني المصطلق وتسمى (المريسيع) وهم بطن من خزاعة، وهذا الموقع قريب من الفرع من جهة الساحل. (1) وكانت هذه الغزوة في شعبان سنة خمس
وثبت في الصحيح في كتاب العتق عن ابن عمر ما يدل على أنه أغار عليهم حين غفلة منهم، ولفظه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تستقي على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم (2) » الحديث (3)
ومع أنه ورد في كتب السير أن النبي صلى الله عليه وسلم صف أصحابه للقتال، لكن الأثبت هو الذي في الصحيح، مع إمكان الجمع (4) وهذا الحديث في الإغارة عليهم وهم غافلون قد رواه مسلم عن ابن عون عن نافع (5) واستدل به نافع على نسخ الأمر بالدعاء إلى الإسلام قبل القتال (6)
واختلف العلماء في الدعوة قبل القتال، وملخصه أن من لم تبلغه الدعوة
__________
(1) البلدان لياقوت، 5\118، معجم ما استعجم للبكري، 4\1220.
(2) صحيح البخاري العتق (2541) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1730) ، سنن أبي داود الجهاد (2633) .
(3) 5\170 (ح2541) .
(4) الفتح، 7\431.
(5) صحيح مسلم بشرح النووي، 12\35.
(6) الفتح، 5\171.(87/361)
يجب في حقه الدعوة أولا، ولا يفاجأ. وأما من بلغته الدعوة بأي وسيلة فلا يشرع في حقه الدعوة (1)
__________
(1) الفتح، 6\108، إكمال المعلم، 6\29، الفقه الإسلامي وأدلته، 6\419.(87/362)
المطلب الثامن: الخدع في الحرب:
ذكر البخاري باب الحرب خدعة، وأورد الأحاديث عن أبي هريرة وعن جابر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحرب خدعة (1) »
وقوله: (خدعة) بفتح المعجمة وبضمها مع سكون المهملة فيهما وبضم أوله وفتح ثانيه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل هذه البنية كثيرا لوجازة لفظها، ويعطي معناها أيضا الأمر باستعمال الحيلة مهما أمكن ولو مرة وإلا فقاتل؛ فكانت مع اختصارها كثيرة المعنى.
ومعنى (خدعة) بالإسكان أنها تخدع أهلها. وأصل الخدع: إظهار أمر وإضمار خلافه. وفيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب، والندب إلى خداع الكفار، وأن من لم يتيقظ لذلك لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه (2)
قال النووي: واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن، إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يجوز. قال ابن العربي: الخداع في الحرب يقع بالتحريض وبالكمين ونحو ذلك. وفي الحديث الإشارة إلى استعمال الرأي في الحرب، بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة، ولهذا وقع الاقتصار على ما يشير إليه بهذا الحديث. ذكر
__________
(1) البخاري، 6\157، 158، (ح3028 و 29 و 33) .
(2) الفتح، 6\158.(87/362)
الواقدي أن أول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم «الحرب خدعة (1) » في غزوة الخندق (2)
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3030) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1739) ، سنن الترمذي الجهاد (1675) ، سنن أبي داود الجهاد (2636) ، مسند أحمد (3/308) .
(2) 6\158.(87/363)
المطلب التاسع: الكذب في الحرب:
ذكر البخاري هذه الترجمة وأورد فيها حديث جابر في قصة قتل كعب ابن الأشرف، وقول محمد بن مسلمة لكعب «إن هذا الرجل - يعنى النبي صلى الله عليه وسلم - قد عنانا وسألنا الصدقة ... (1) » وفيه قول محمد بن مسلمة للنبي صلى الله عليه وسلم: «ائذن لي أن أقول، قال: قل (2) »
وهذا يدخل فيه الإذن في الكذب تصريحا وتلويحا. وقد جاء من ذلك صريحا ما أخرجه الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعا: (لا يحل الكذب إلا في ثلاث: تحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس) (3)
قال النووي: اتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب، وكيف أمكن الخداع، إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل، وقد صح في الحديث جواز الكذب في ثلاثة أشياء، أحدها في الحرب. والظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة، لكن التعريض أولى (4)
وقال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه وليس للعقل فيه مجال، ولو كان تحريم الكذب
__________
(1) البخاري، 6\159 (ح3031) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، حديث 3358، وأبو داود كتاب الجهاد، حديث 2387.
(3) الفتح، 6\159.
(4) شرح مسلم، 12\45، إكمال المعلم للقاضي، 6\42.(87/363)
بالعقل ما انقلب حلالا. (1)
__________
(1) الفتح، 6\159.(87/364)
المبحث الثالث
التوجيهات والآداب أثناء وبعد القتال
المطلب الأول: التعرض لأموال العدو:
أثناء القتال قد تكون هناك ضرورة لبعض الإجراءات لتدمير بعض الحصون والبساتين (1)
وقد ذكر البخاري (باب حرق الدور والنخيل) وأورد فيه حديث جرير في إحراقه لذي الخلصة، وحديث ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير (2) » وذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو، وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور، واحتجوا بوصية أبي بكر لجيوشه ألا يفعلوا شيئا من ذلك. وأجاب الطبري بأن النهي محمول على القصد لذلك، بخلاف ما إذا أصابوا ذلك في خلال القتال، كما وقع في نصب المنجنيق على الطائف، وهو نحو ما أجاب به في النهي عن قتل النساء والصبيان، وبهذا قال أكثر أهل العلم، ونحو ذلك القتل بالتغريق.
وقال غيره: إنما نهى أبو بكر جيوشه عن ذلك؛ لأنه علم أن تلك البلاد ستفتح، فأراد إبقاءها على المسلمين. والله أعلم (3) وقال القاضي:
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته، 6\423.
(2) البخاري، 6\154 (ح3020، 3021) ، مسلم، 6\51 (1746) .
(3) الفتح، 6\155.(87/364)
والمشهور من مذهبنا جواز قطعها إذا لم يرج مصيرها للمسلمين، وكان قطعها يضر العدو ويؤذيه. (1)
__________
(1) إكمال المعلم، 6\51، روضة الطالبين، 7\445.(87/365)
المطلب الثاني: الثبات أثناء القتال:
وقد دل القرآن الكريم على هذا الأمر لأهميته، كما قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) .
والثبات يكون أكثر ضرورة حين يشعر الجيش بقوة خصمه أو تحدث مفاجآت، فيكون الثبات من أهم أسباب النصر.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 45(87/365)
المطلب الثالث: الحفاظ على العتاد:
ومن أسباب الحفاظ على العتاد عدم استخدامه بصورة واسعة مكثفة وعشوائية بدون التأكد من تحقيق وإصابة هدفه.
وقد وصف الله تعالى المؤمنين يوم بدر بقوله تعالى {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) أي قليلو العدد والعدة بالنسبة إلى كثرة عدد وعتاد أعدائهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدرك هذا الأمر فأمر أصحابه بأخذ التدابير والاحتياطات اللازمة كما رواه البخاري وغيره عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الخزرجي الساعدي قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «إذا أكثبوكم - يعنى أكثروكم - فارموهم، واستبقوا نبلكم (2) » ومعنى
__________
(1) سورة آل عمران الآية 123
(2) البخاري، 7\306 (ح3984) ، و6\91 (ح2900) .(87/365)
«إذا أكثبوكم (1) » أي: إذا قربوا ودنوا منكم، وهذا هو المعتمد (2)
وفي رواية أبي داود «يعني غشوكم (3) » وهو أشبه بالمراد، ويؤيده ما وقع عند ابن إسحاق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه ألا يحملوا على المشركين حتى يأمرهم، وقال: (إذا أكثبوكم فانضحوهم عنكم بالنبل) (4) وكثب بفتحتين وهو القرب. وقال ابن فارس: أكثب الصيد: إذا أمكن من نفسه. فالمعنى إذا قربوا منكم فأمكنوكم من أنفسهم فارموهم (5) وقوله: (واستبقوا نبلكم) فعل أمر بالاستبقاء، وهو طلب الإبقاء إلى أن تحصل المصادمة، فارموهم ببعض نبلكم لا بجميعها. والذي يظهر أن المراد بالأمر بتأخير الرمي حتى يقربوا منهم، أي أنهم إذا كانوا بعيدا لا تصيبهم السهام غالبا، وإن أصابت فلا تؤثر التأثير المقصود، فالمعنى استبقوا نبلكم في الحالة التي إذا رميتم بها لا تصيب غالبا ولا تؤثر، وإذا صاروا إلى الحالة التي يمكن فيها الإصابة والتأثير غالبا فارموا (6) وفي لفظ الحديث عند البخاري في الجهاد: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا: «إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل (7) »
__________
(1) البخاري، 7\306 (ح3984) ، و6\91 (ح2900) .
(2) النهاية، 4\151، لسان العرب، 1\702، الفتح، 7\306.
(3) سنن أبي داود بشرح الخطابي، 3\118 (ح2663) ، الدلائل للبيهقي، 3\70.
(4) سيرة ابن هشام، 1\625.
(5) مجمل اللغة، 2\779.
(6) الفتح، 7\306-307.
(7) البخاري، 6\91 (ح2900) .(87/366)
وفي رواية له: «ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم (1) » . فظهر أن معنى الحديث: الأمر بترك الرمي والقتال حتى يقربوا؛ لأنهم إذا رموهم على بعد قد لا تصل إليهم وتذهب في غير منفعة، وإلى ذلك الإشارة بقوله: «واستبقوا نبلكم (2) » وعرف بقوله: «ولا تسلوا السيوف (3) » ... أن المراد بالقرب المطلوب في الرمي قرب نسبي بحيث تنالهم السهام لا قرب قريب بحيث يلتحمون معهم.
والنبل: بفتح النون وسكون الموحدة جمع نبلة، ويجمع أيضا على نبال، وهي السهام العربية اللطاف (4)
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (3985) ، سنن أبي داود الجهاد (2664) ، مسند أحمد (3/498) .
(2) صحيح البخاري المغازي (3984) ، سنن أبي داود الجهاد (2663) ، مسند أحمد (3/498) .
(3) سنن أبي داود الجهاد (2664) .
(4) الفتح، 6\92.(87/367)
المطلب الرابع: الاعتناء بالأسرى، وإطلاقهم بدون فداء:
ذكر البخاري في صحيحه باب الكسوة للأسارى. قال الحافظ: أي بما يواري عوراتهم، إذ لا يجوز النظر إليها. وأورد حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما كان يوم بدر أتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم له قميصا، فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه (1)
وقوله: (يقدر عليه) بضم الدال، وإنما كان ذلك لأن العباس كان بين الطول، وكذلك كان عبد الله بن أبي (2) مما يؤكد أن الإسلام لا يقصد من الجهاد سفك الدماء واسترقاق الناس وإذلالهم أو أخذ أموالهم، فعل النبي صلى الله عليه وسلم من خلال عزمه على إطلاق أسارى بدر بدون فداء. كما ثبت في
__________
(1) البخاري، 6\144 (3008) .
(2) الفتح، 6\144.(87/367)
البخاري عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له (1) »
قال ابن بطال: هذا يدل على أن للإمام أن يمن على الأسارى بغير فداء خلافا لمن منع ذلك. (2) وخير مثال لكرم النبي صلى الله عليه وسلم منه على ثمامة بن أثال كما رواه مسلم عن أبي هريرة، وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أطلقوا ثمامة (3) » فانطلق واغتسل، وأسلم ... وذهب إلى مكة معتمرا، وقال لقريش: ولا، والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم (4)
قال القاضي: فيه دليل على صحة يقينه وعلو همته، وأنه لم يسلم على القسر، والقهر وإنما من اختياره وطيب نفسه (5) وشبيه بهذا الإكرام ما حدث بعد فتح مكة، ومن ذلك منه على أهل مكة الذين آذوه بكل أنواع الأذى وكذلك آذوا أصحابه، ومع ذلك قال لهم: «من دخل داره فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن (6) » ولا يذكر التاريخ أبدا أن أحدا أكرم مخالفيه وخصومه بهذا الإكرام، وزادهم بإعطائهم الأموال مع المؤلفة قلوبهم. ومن ذلك منه صلى الله عليه وسلم على هوازن، وتحلله من المسلمين.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء قد جاؤونا تائبين، وإني قد
__________
(1) البخاري، 6\243 (ح3139) .
(2) الفتح، 6\243.
(3) صحيح البخاري المغازي (4372) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1764) ، سنن أبي داود الجهاد (2679) .
(4) مسلم، 6\98، 99 (1764) .
(5) إكمال المعلم، 6\99.
(6) صحيح مسلم، 6\140 (1780) .(87/368)
رأيت أن أرد إليهم سبيهم ... (1) » فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله لهم (2)
هذه أخلاق الأنبياء والصحابة الذين هم أعظم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن همهم القتل والمال ومتاع الدنيا، بل كانوا يعلمون حقيقة الدنيا ويفقهون معاني الإسلام ويحرصون على إدخال الناس فيه.
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2308) ، سنن أبي داود الجهاد (2693) ، مسند أحمد (4/327) .
(2) البخاري، 6\236 (ح3131) .(87/369)
المطلب الخامس: إيثار النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، ومنهم: أهل الصفة والأرامل والمساكين (1)
من أخلاقه وصفاته صلى الله عليه وسلم أنه يكسب المعدوم، ومن المعاني لهذا اللفظ أنه يجهد ويعمل؛ ليكسب ويفيد غيره، وهذا قبل النبوة، أما بعدها، فإن الأموال التي خص الله تعالى بها نبيه من الأنفال والخمس والفيء فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخص بها نفسه، بل كان يؤثر بها غيره، وخاصة ضعفاء المسلمين.
ويفهم من هذا أن الجهاد لا يقصد منه بالدرجة الأولى جمع الأموال وأخذها من المقاتلين، ثم الاستفادة منها بصورة شخصية ذاتية، وإنما كان الأمر إن تحتم الجهاد الشرعي من وقوع ظلم واعتداء من غير المسلمين الذين لم يدخلوا في الإسلام أصلا، أو دخلوا فيه ولكنهم جحدوا ركنا، وحصلت غنائم، فالأولى بالمسلم أن يستفيد من هذا المغنم، ويشارك في مساعدة إخوانه الآخرين وخاصة الضعفاء، كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يفعل وهو قدوتنا وأسوتنا في كل العبادات والأحكام والآداب وجميع شؤون الحياة. وقد روى سعيد بن منصور في سننه حديث معاذ بن جبل قال: الغزو
__________
(1) البخاري، 6\215، (باب 6) .(87/369)
غزوان، غزو يلتمس فيه وجه الله. وغزو لا يلتمس فيه وجه الله، فرياء وسمعة، وشقاق ومعصية.
وروى مطولا عن ابن عمر قال: للناس في الغزو جزءان؛ فجزء خرجوا يكثرون ذكر الله ... وأما الجزء الآخر فخرجوا ولم يذكروا الله ... (1)
__________
(1) السنن، 2\126، 127-128 (2323، 2324) .(87/370)
المطلب السادس: إيثار المؤلفة وغيرهم بالأموال:
هم من أسلم ونيته ضعيفة، أو كان يتوقع بإعطائه إسلام نظرائه. والمراد بقوله: (وغيرهم) أي غير المؤلفة ممن تظهر له المصلحة في إعطائه.
والمقصود بالأموال: أي من الخمس ومال الخراج والجزية والفيء (1) وقد روى البخاري حديث أنس في إعطاء المؤلفة يوم حنين (2) وحديث الأعرابي الذي جذب رداء النبي صلى الله عليه وسلم، فضحك صلى الله عليه وسلم، ثم أمر له بعطاء (3)
قال الحافظ: في هذه الأحاديث وفي معناها: ذم الخصال السيئة وهي البخل والكذب والجبن، وأن إمام المسلمين لا يصلح أن يكون فيه خصلة منها. وفيه ما كان في النبي صلى الله عليه وسلم من الحلم وحسن الخلق وسعة الجود، والصبر على جفاة الأعراب، ومن كمال خلقه أنه صلى الله عليه وسلم كان يضحك ويسر مقابل جفائهم وغلظتهم. وفيه جواز وصف المرء نفسه بالخصال الحميدة عند الحاجة كخوف ظن أهل الجهل به خلاف ذلك، ولا يكون من
__________
(1) الفتح، 6\252.
(2) (ح3147) .
(3) 6\251 (3148 و 3149) .(87/370)
الفخر المذموم (1)
__________
(1) الفتح، 6\254.(87/371)
المطلب السابع: أحكام الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب:
من سماحة الإسلام والدلائل على كماله اشتماله على الأحكام الخاصة بين المسلمين فيما بينهم، وحتى مع المسلمين الذين هم في حكم البغاة والمحاربين والخارجين، حيث نجد أن الإسلام تناول الأحكام الخاصة بهذه الأمور، وجاء في السنة المشرفة بيان وتفسير الآيات الكريمة المبينة لكيفية التعامل معهم، والحدود لما يترتب على فسادهم.
كما اشتمل الإسلام على الأحكام الخاصة بغير المسلمين، وهذا يشير إلى سنة الله تعالى وحكمته في خلقه وعباده وملكه، ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا. وجميع الأحكام في الإسلام لها حكمة، وتهدف إلى مصلحة العباد، المسلمين وغير المسلمين.
فالزكاة في حق المسلم تطهير للمسلم ولماله، وبركة عليه، وعلى رزقه، ونماء له، وتوجب الرحمة والعفو من الله تعالى، وتدخل في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالسكينة والطمأنينة. والزكاة تعليم للإنسان الأخلاق الحسنة من الكرم والبذل والجود في وجوه الخير، المذكورة في آية الصدقات. وكذلك عامة الأمور الخيرية.
والجزية في الغالب ليست عقابا وظلما لغير المسلمين. بل هي عدل من الله تعالى، حيث لم يكره أحدا في الدين وهو نص الآية الكريمة،(87/371)
والأحاديث الصحيحة في عرض الإسلام أو الجزية أو الحرب، ومقابل البقاء على دينه يؤخذ منه مقدار يسير، ولا يكلف ما لا يطيق. وقد روى سعيد بن منصور في السنن عدة أحاديث في العدل في أهل الذمة والصلح، وتحريم أخذ زيادة على ما تم عليه الصلح (1)
وكان عمر رضي الله عنه يراقب عماله ويحذرهم من تكليف الناس ما لا يطيقون، أو تكليف الأرض نفسها ما لا تطيق، وما لا يتناسب مع غلاتها وإنتاجها؛ لأن ذلك ظلم وينشئ الأحقاد، ويشجع على التربص بالإسلام والمسلمين، ويمنع من الدخول في الإسلام، وهذا خلاف ما أراده الله تعالى من أن الحكمة من خلقهم عبادته والإيمان بما أمرهم به.
ومن الحكمة في الجزية هو تشجيع الناس على البقاء في أرض المسلمين، ومخالطتهم للاطلاع على محاسن الإسلام مما يكون سببا في الدخول فيه ولو قل، وهذا يعني أن الجزية هي في الواقع وسيلة للدعوة وليست مصلحة دنيوية.
وهذا ربما نسترشد به إلى أن المسلمين الذين يعيشون في بلاد غير المسلمين يجب عليهم التخلق بالأخلاق الحسنة التي قد تشجع الناس إلى سؤالهم عن دينهم مما يؤدي إلى دخولهم في الإسلام، بعيدا عن التنطع والغلو الذي قد يسيء إلى الإسلام أكثر مما يحسن إليه.
وقول البخاري: الجزية والموادعة ... فيه لف ونشر مرتب؛ لأن الجزية مع أهل الذمة، والموادعة مع أهل الحرب. والجزية من جزأت الشيء إذا قسمته، ثم سهلت الهمزة.
__________
(1) السنن، 2\231 (2602، 2603) .(87/372)
وقيل من الجزاء؛ أي أنها جزاء تركهم ببلاد الإسلام، أو من الإجزاء؛ لأنها تكفي من توضع عليه في عصمة دمه. (1)
والموادعة المتاركة، والمراد بها متاركة أهل الحرب مدة معينة لمصلحة (2) كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش في صلح الحديبية. وعن يد أي عن طيب نفس (3)
وقد اختلف العلماء فيمن يلحق بأهل الكتاب في الجزية من العرب والمجوس
ويتفاوت مقدار الجزية، وأقله عند الجمهور دينار لكل سنة. وخصه الحنفية بالفقير، وأما المتوسط فعليه ديناران، وعلى الغني أربعة. وهو موافق لأثر مجاهد كما دل على عليه حديث عمر. وعند الشافعية أن للإمام أن يماكس حتى يأخذها منهم، وبه قال أحمد.
وروى أبو عبيد عن عمر أنه بعث عثمان بن حنيف بوضع الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين، وأربعة وعشرين، واثني عشر. وهذا على حساب الدينار باثني عشر. وعن مالك لا يزاد على الأربعين، وينقص منها عمن لا يطيق. وهذا محتمل أن يكون جعله على حساب الدينار بعشرة (4)
__________
(1) تهذيب اللغة، 11\147.
(2) الفتح، 6\259، الفقه الإسلامي وأدلته، 6\437.
(3) الفتح، 6\259.
(4) الفتح، 6\260.(87/373)
وقال العلماء: الحكمة في وضع الجزية أن الذل الذي يلحقهم ويحملهم على الدخول في الإسلام مع ما في مخالطة المسلمين من الاطلاع على محاسن الإسلام. وهذا يشير إلى أنها في نفس الوقت هي وسيلة دعوة، فإن اشتملت على العدل والشفقة كان لها أثر طيب، وفيه المصلحة للإسلام والمسلمين.
واختلف في سنة مشروعيتها: فقيل في سنة ثمان، وقيل سنة تسع. وفيه حديث مسروق عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال: خذ من كل حالم دينارا، أو عدله من المعافر، ثياب تكون باليمن. أخرجه أصحاب السنن، وصححه الترمذي والحاكم.
واختلف السلف في أخذها من الصبي فالجمهور لا. على مفهوم حديث معاذ، وكذا لا تؤخذ من شيخ فان ولا زمن، ولا امرأة ولا مجنون، ولا عاجز عن الكسب، ولا أجير، ولا من أصحاب الصوامع والديارات في قول. والأصح عند الشافعية الوجوب على من ذكر آخرا (1) ومما يدل على شدة اعتناء الإسلام بهذه الأمور اشتمال مصادر كتب الحديث على تخصيص أجزاء منها كما في صحيح البخاري، كتاب الخمس والجزية والموادعة (2) وصحيح مسلم وسنن أبي داود (3) والسنن لسعيد بن
__________
(1) الفتح، 6\260، معالم السنن للخطابي، 3\428، الفقه الإسلامي وأدلته، 6\444.
(2) 6\257 (58) .
(3) 3\427.(87/374)
منصور، والجهاد لابن المبارك، وكتاب الخراج لأبي يوسف، والأموال لأبي عبيد، والسنن الكبرى للنسائي، وغيرها(87/375)
المطلب الثامن: الوفاء لأهل الذمة:
من سماحة الإسلام وعدله رعايته لأهل الذمة، وقد حفظ الإسلام لكل الناس حقوقهم، وفي مقدمتها الأمن والأمان لهم. وحرم الإسلام الاعتداء على غير المسلمين المقيمين في ديار الإسلام وأوصى بهم المصالح العامة، وفي مقدمتها مصلحة الإسلام لأنه بالعدل قد يدخل الناس في الإسلام، وقد أوصى عمر رضي الله عنه من سيخلفه بقوله: «أوصيكم بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفون إلا طاقتهم (1) » وفي رواية: «ورزق عيالكم (2) »
قال الحافظ: ويستفاد من الحديث ألا يؤخذ من أهل الجزية إلا قدر طاقتهم.
قال المهلب: وفيه الحض على الوفاء بالعهد، وحسن النظر في عواقب الأمور، والإصلاح لمعاني المال وأصول الاكتساب (3) ومن مظاهر سماحة الإسلام وعدله بالإضافة إلى ترك غير المسلمين على أديانهم
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3052) .
(2) البخاري، 6\169 (3052) و 267 (3162) .
(3) الفتح، 6\267.(87/375)
مقابل مقدار من المال، نهي الإسلام عن الاعتداء عليهم بأي صورة من الصور حتى في الحق الذي شرعه الله تعالى، يؤخذ منهم مقدار حسب الاستطاعة، ويعفي الضعفاء ومن في حكمهم. فكيف بالأمور الأخرى التي هي من متطلبات الحياة ومن أسباب العيش في أمن ورخاء حسيا ومعنويا.
وجاء في السنة الوعيد لمن قتل معاهدا ظلما وجرما وبغير حق شرعي كما في حديث عبد الله بن عمرو عند البخاري وغيره، وأنه لا يجد رائحة الجنة (1)
لقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا عظيما في الوفاء بالعهد والحرص على الإسلام من أي عمل قد يستغله الأعداء والحاقدون، وينشرون حوله الدعاية السيئة عن الإسلام.
كما ورد في عزمه لإخراج اليهود، لم يفاجئهم، ولم يضيق عليهم. كما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بينما نحن في المسجد خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (انطلقوا إلى يهود) فخرجنا حتى جئنا بيت المدارس فقال: (أسلموا تسلموا، واعلموا أن الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن يجد منكم بماله شيئا فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله (2) »
وقوله: (فمن يجد منكم ... ) من الوجدان، أي يجد مشتريا، أو من الوجد أي المحبة أي يحبه، والغرض أن منهم من يشق عليه فراق شيء من ماله مما يعسر تحويله فقد أذن له في بيعه (3) وذكر البخاري باب الموادعة
__________
(1) البخاري، 6\269 (ح3166) ، السنن الكبرى للنسائي، 8\78 (8689-8691) .
(2) البخاري، 6\270 (3167، 6944، 7248) .
(3) الفتح، 6\271.(87/376)
والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره، وإثم من لم يف بالعهد. وأورد فيه قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (1) . ومعنى جنحوا: أي طلبوا السلم ومالوا إليه (2) وهذه الآية دالة على مشروعية المصالحة مع المشركين، ومعنى الشرط في الآية أن الأمر بالصلح مقيد بما إذا كان الأحظ للإسلام المصالحة، أما إذا كان الإسلام ظاهرا على الكفر، ولم تظهر المصلحة في المصالحة فلا؛ لأن المقصود من الصلح هو دفع الشر والخطر، فيجوز بأي وسيلة، وهذا باتفاق العلماء (3)
وفي هذا الباب ذكر البخاري حديث سهل بن أبي حثمة في قصة قتل عبد الله بن سهل في خيبر، وكانت يومئذ صلحا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عقله ووداه من عنده (4)
وإنما وداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده استئلافا لليهود وطمعا في دخولهم الإسلام، مع كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبطل دم المسلم المقتول، وتطييبا لقلوب أهله (5) وتعليما لأمته على الآداب التي من الأولى أن يتخلقوا بها من استئلاف واستئناس جميع الناس، أما المسلم فتوثيقا للأخوة الإسلامية، وأما غير المسلم فمن أجل جلبه للإسلام وتحبيبه إليه، فما كان الرفق في شيء إلا زانه وأصلحه، وما كانت القسوة والغلظة في شيء إلا شانته وأفسدته.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 61
(2) تفسير ابن كثير، 2\322.
(3) الفقه الإسلامي وأدلته، 6\438.
(4) البخاري، 6\275 (3173) .
(5) الفتح، 6\276.(87/377)
واختلف العلماء في أصل المسألة وهي مصالحة وموادعة المسلمين أهل الحرب على مال. وخلاصة الأقوال أنه لا بأس بالمصالحة على غير شيء. أما على مال فلا يستحسن إلا في حالة مخافة اصطلام المسلمين لقوة وكثرة العدو وعدته؛ لأن ذلك من معاني الضرورات، وكذلك إذا أسر المسلم فلم يطلق إلا بفدية جاز (1)
ولا شك أن هذا يدل على سماحة الإسلام وتيسيره على المسلمين بأن أجاز لهم عند الضرورة القصوى الأخذ بالرخص، وخاصة في موضوع المواجهة مع الأعداء.
وهذا من رحمة الله تعالى بعباده، فالأولى بالإنسان أن يكون رحيما بأخيه، كما أن هذه السماحة هي من مقاصد الشريعة التي تميزها عن الشرائع الأخرى. ومن ذلك الموادعة في الجهاد فإنه لا حد لها معلوم لا يجوز غيره، بل ذلك راجع إلى رأي الإمام بحسب ما يراه الأحظ والأحوط للمسلمين (2) وهذه الآية {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (3) مرتبطة بالآية التي بعدها {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} (4) .
فإن في هذه الآية إشارة إلى أن احتمال طلب العدو للصلح خديعة لا يمنع من الإجابة إذا ظهر للمسلمين، بل يعزم ويتوكل على الله سبحانه (5)
__________
(1) الفتح، 6\276.
(2) الفتح، 6\282.
(3) سورة الأنفال الآية 61
(4) سورة الأنفال الآية 62
(5) الفتح، 6\277.(87/378)
المطلب التاسع: تحريم الإسلام للغدر في حق جميع الناس:
وكما حرم الإسلام الظلم حتى مع أهل الذمة، لأن العدل قد يكون وسيلة من وسائل الدعوة وطريقا لدخولهم في الإسلام، فإن من عدالة الإسلام أيضا أنه حرم الغدر، وهذا قد ترجم له البخاري في باب إثم من عاهد ثم غدر. وأوضح الحافظ أن الغدر حرام باتفاق، سواء كان في حق المسلم أو الذمي.
وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كيف أنتم إذا لم تجتبوا دينارا ولا درهما؟ فقيل له: وكيف ترى ذلك كائنا يا أبا هريرة؟ قال: إني والذي نفس أبي هريرة بيده، عن قول الصادق المصدوق، قالوا: عم ذلك؟ قال: تنتهك ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فيشد الله عز وجل قلوب أهل الذمة فيمنعون ما في أيديهم (1) »
قوله: (إذا لم تجتبوا) من الجباية بالجيم والموحدة، وبعد الألف تحتانية، أي لم تأخذوا من الجزية والخراج شيئا.
(تنتهك) بضم أوله أي تتناول بما لا يحل من الجور والظلم.
(فيمنعون ما في أيديهم) أي يمتنعون من أداء الجزية (2)
قال الحميدي: أخرج مسلم معنى هذا الحديث من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه «منعت العراق درهمها وقفيزها (3) » وساق الحديث بلفظ الفعل الماضي، والمراد به ما يستقبل مبالغة في الإشارة إلى تحقق وقوعه.
__________
(1) البخاري، 6\280 (3180) .
(2) الفتح، 6\280.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي، 18\20، الفتن (33) ، باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل ذهب، مسند أحمد، 2\262، سنن أبي داود، 3\426 (3035) .(87/379)
ولمسلم عن جابر أيضا مرفوعا «يوشك أهل العراق ألا يجتبى إليهم بعير، ولا درهم) ، قالوا: مم ذلك؟ قال: (من قبل العجم يمنعون ذلك (1) »
وفيه علم من أعلام النبوة، والتوصية بالوفاء لأهل الذمة لما في الجزية التي تؤخذ منهم من نفع المسلمين، وفيه التحذير من ظلمهم، وأنه متى وقع ذلك نقضوا العهد فلم يجتب المسلمون منهم شيئا فتضيق أحوالهم. والإنذار بما سيكون من سوء العاقبة وأن المسلمين سيمنعون حقوقهم في آخر الأمر، وكذلك وقع (2)
قال النووي: وذكر في منع الروم ذلك بالشام مثله، وهذا قد وجد في زماننا في العرق، وهو الآن موجود، وقيل: لأنهم يرتدون في آخر الزمان فيمنعون ما لزمهم من الزكاة وغيرها. وقيل: معناه أن الكفار الذين عليهم الجزية تقوى شوكتهم في آخر الزمان فيمتنعون مما كانوا يؤدونه من الجزية والخراج وغير ذلك. (3)
وهناك فرق بين ارتدادهم، أو منعهم من دفع الجزية ولم يكن في ذلك ظلم أو تكليف لما لا يطيقون، وبين الحال إن كانت تؤخذ منهم زيادة على ما تم الصلح عليه أو فيه مشقة عليهم، حيث إن نظرتهم للإسلام والمسلمين تختلف باختلاف الحالين.
وقد أثبتت الأحداث والتجارب أن مآل الغدر مذموم، ومقابل ذلك
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، 18\38، كتاب الفتن (67) ، صحيح مسلم مع إكمال المعلم، 8\458، ومسند أحمد، 3\317.
(2) الفتح، 6\280.
(3) شرح مسلم، 18\20، 21.(87/380)
الوفاء، وهو ممدوح، كما حدث لقريش لما نقضت العهد، صارت الغلبة عليهم، وزاد قهرهم بفتح مكة. كما في حديث سهل بن حنيف في الصلح وأنه كان فتحا (1) مع كراهية بعض المسلمين للصلح في أول الأمر، ثم تبين لهم أن رأي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح والوفاء به أتم وأحمد من رأيهم في المناجزة. كما أن الوفاء يقتضي جواز صلة القريب، ولو كان على غير دين الواصل، كما في حديث أسماء بنت أبي بكر لما قدمت عليها أمها وهي مشركة في عهد الصلح، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن تصلها (2) وقد ختم البخاري كتاب الجهاد وكتاب الجزية والموادعة بحديث أنس، وحديث ابن عمر رضي الله عنهم أنه ينصب لكل غادر لواء
قال العلماء: يفهم من الأحاديث أن الغادر يعامل بنقيض قصده بنصب لوائه عند أسفله زيادة في فضيحته وذمه من أهل الموقف. وفي الحديث غلظ تحريم الغدر، لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير، ولأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء.
وقال عياض: المشهور أن هذا الحديث ورد في ذم الإمام إذا غدر في عهوده لرعيته أو لمقاتلته أو للإمامة التي تقلدها والتزم القيام بها، فمتى خان فيها أو ترك الرفق فقد غدر بعهده. وقيل: المراد نهي الرعية عن الغدر
__________
(1) البخاري، 6\281 (3182) .
(2) البخاري، 6\281 (3183) .(87/381)
بالإمام فلا تخرج عليه ولا تتعرض لمعصيته لما يترتب على ذلك من الفتنة، والصحيح الأول (1)
قال الحافظ: ولا مانع من حمل الخبر على أعم من ذلك. (2)
__________
(1) إكمال المعلم، 6\41، شرح مسلم للنووي، 12\44.
(2) الفتح، 6\284.(87/382)
الخاتمة:
من خلال تتبع هذا البحث يمكن استخلاص أهم النتائج التي تضمنها، وهي:
* كمال هذا الدين الحنيف واشتماله على الأحكام والآداب في جميع جوانب الحياة، ومن ذلك الجهاد ونشر الإسلام، فهو عبادة كسائر العبادات لها ضوابط وأسس وقواعد يجب مراعاتها.
* اهتمام علماء المسلمين بالتأليف في هذا الجانب ودلالة ذلك على أهميته.
* تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على بيان المجاهد الذي يقاتل في سبيل الله.
* أن الإمام مسؤول عن أفعال رعيته وأتباعه وأنه يجب عليه توجيههم وتعليمهم أحكام وآداب الجهاد حتى لا يقع الفساد وسفك الدماء بغير حق.
* أن الأولوية في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والصبر واستنفاد مختلف السبل قبل القتال.(87/382)
* مراقبة ومتابعة الإمام لعماله ونوابه والتأكد من التزامهم بالأحكام الشرعية في الجهاد ومعاتبة من يخالفها.
* رحمة الإسلام وتحريمه قتال النساء والأطفال وكبار السن.
* متى وفي حق من يشرع الجهاد.
* النهي عن تمني لقاء العدو وسؤال الله العافية وحمد الله عليها.
* أهمية ومكانة الإمام وضوابط طاعته والتحذير من التنازع.
* تعدد صور الجهاد وأن منه بر الوالدين.
* الحث على الأخذ بأسباب القوة والعدة قبيل القتال وأثناءه وبعده.
* أهمية ومنزلة الدعاء في جميع الأحوال وخاصة عند الشدائد.
* ضرورة الحفاظ على أسرار الجيش وأثر المفاجأة.
* مشروعية التورية والخدع في الحرب.
* حق الإمام في اختيار الطريق المناسب مع الأسرى حسب المصلحة العامة للإسلام والمسلمين.
* تقديم النبي صلى الله عليه وسلم الإنفاق على الفقراء والأرامل والمساكين.
* إيثار المؤلفة قلوبهم بالأموال.
* عدل الإسلام وفرضه مقدارا يسيرا على أهل الذمة.
* تحريم قتل المعاهد أو الغدر به أو ظلمه بأي وجه.(87/383)
حديث شريف
عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر: «يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلى من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر (1) » [رواه الإمام البخاري]
__________
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6632) ، مسند أحمد بن حنبل (5/293) .(87/384)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (1)
(سورة النساء الآية 93)
__________
(1) سورة النساء الآية 93(88/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
معالي الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
فضيلة الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
معالي الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(88/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة علمية دورية محكمة تصدر عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(88/3)
المحتويات
الافتتاحية لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ....... 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ....... 23
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز....... 31
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ....... 39
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء....... 49(88/4)
البحوث
موقف علماء الدعوة من الرجئة لفضيلة د. عبد الله بن محمد بن عبد العزيز السند....... 59
ركائز منهج السلف في الدعوة إلى الله لفضيلة الدكتور / عبد الله بن محمد المجلي....... 147
أثر الفتوى في تأكيد وسطية الأمة لمعالي الشيخ / عبد الله بن محمد بن سعد آل خنين....... 225
مراعاة جلب المصالح ودفع المفاسد في السنة لفضيلة الدكتور / محمد بن عبد الله القناص....... 265
المنهج العلمي والخلقي عند سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز لفضيلة الدكتور. عبد الله بن محمد العمرو....... 327(88/5)
الافتتاحية
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
البيوع المنهي عنها
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، من حكمة الرب جل وعلا أن جعل الناس يحتاج بعضهم إلى بعض في تبادل مصالحهم الدنيوية، فليس الإنسان وحده قادرا أن يستوفي كل حاجياته بمفرده دون مساعدة من الآخرين، بل لا بد أن يكون عنده ما يحتاج غيره إليه، وعند غيره ما يكون هو محتاجا إليه.
ولهذا أحل الله البيع والتجارة، قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) ؛ لأن في حل البيع والتجارة تبادل المنافع بين العباد، والله حكيم عليم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة النساء الآية 29(88/7)
وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الكسب أفضل؟ قال: «عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور (1) » فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيع المبرور من أفضل المكاسب، ومعنى البيع المبرور أن يكون هذا البيع بيعا نافعا، وفي سلعة نافعة، لا تشتمل على حرام، ولا على غش ولا على ظلم، ولا على ضرر، ولا تسبب عداوة وبغضاء بين الناس.
فالتجارة والبيع من طرق الكسب الحلال التي أباحها الإسلام، وقد بين الله في كتابه ونبينا - صلى الله عليه وسلم - في سنته أحكام البيع والشراء وأحكام الاتجار في الأموال، وأنواع الكسب الحلال، كما بين أنواع الكسب الحرام، وكذلك البيوع المحرمة التي كسبها كسب حرام.
الترغيب في الكسب الحلال:
وقد رغب نبينا - صلى الله عليه وسلم - في اكتساب الحلال، وحذر من اكتساب الحرام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال:، وقال:، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورواته ثقات، وصححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب ح (1690) .
(2) رواه مسلم في صحيحه ح (1015) .
(3) سورة المؤمنون الآية 51 (2) {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}(88/8)
حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك (1) »
إن المؤمن الصادق يسير في أحواله كلها على وفق ما دل عليه كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فمن هذا المنطلق يكون تحركه في جميع أموره، وفي جميع معاملاته، ينظم حياته وفق تعاليم دينه، ودينه مصدر توجيه له نحو الخير والهدى.
ومن ذلك حبه للدنيا لا يحمله على جمع المال بالطرق المحرمة وأكل الحرام؛ لأنه على يقين أن الكسب الطيب وإن قل فهو بركة في الحاضر والمستقبل، وأن المكاسب الخبيثة وإن كثرت فمآلها إلى المحق والعقوبة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (2) ونبينا - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال:، وقال:، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك (5) »
إذا فأكل الحرام بالتجارة المحرمة لا خير فيه وإن كثر، ولذا جاء في
__________
(1) سورة البقرة الآية 172 (3) {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}
(2) سورة المائدة الآية 100
(3) رواه مسلم في صحيحه ح (1015) .
(4) سورة المؤمنون الآية 51 (3) {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
(5) سورة البقرة الآية 172 (4) {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}(88/9)
الحديث: «إن التجار يحشرون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وصدق (1) »
__________
(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان ح (4848) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (1458) .(88/10)
صور البيوع المنهي عنها:
ومن هنا جاء الإسلام ببيان البيوع المحرمة لكي يكون المسلم على بينة من أمرها، فيتجنبها، ويتجنب أكل مكاسبها الخبيثة.
فجاء تحريم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام، فعن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوم فتح مكة فقال: «إن الله حرم عليكم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام (1) »
1 - أما الخمر فإنه أم الخبائث الذي دل الكتاب والسنة على تحريمه، وأجمع المسلمون إجماعا قطعيا لا خلاف فيه أن الخمر حرام، يحرم تعاطيه وشربه وبيعه، فلا يليق بمسلم أن يقدم على بيعها بأي وسيلة كانت قريبة أم بعيدة، ولهذا جاء في الحديث: «لعن الله في الخمر عشرة: لعن الخمرة وشاربها وساقيها وعاصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها والمشتراة إليه والمشتراة له وآكل ثمنها (2) » فجعل كل أولئك ملعونين لأنهم أعوان على الباطل بأي وسيلة كانت.
إذا فلا يرضى مسلم أن يكون جزء من تجارته خمرا، ولا يرضى مسلم أن يعين على ذلك، ولا يرضى أن يؤجر أماكن ليباع فيها الخمر،
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه ح (2121) ، ومسلم في صحيحه ح (1581) .
(2) رواه الترمذي في سننه ح (1295) ، وصححه الألباني في صحيح الترمذي.(88/10)
ولا يرضى أن يكون سمسارا ووسيطا في بيع الخمر، ولا يرضى أن يحمله لغيره، إن المؤمن الحقيقي يمنعه إيمانه الصادق عن هذه الخبيثة بأي وسيلة كانت، فلا يرضى بها لا من قريب ولا من بعيد، ولو علم أن أي مكان يستأجر منه أو أي فندق يستأجر منه أنه يباع فيه الخمر لامتنع عن ذلك مهما كانت المغريات.
والمسلم الذي علم تحريم الخمر وتحريم بيعه سيعلم حقا أن المخدرات بكل أنواعها أشد تحريما؛ لكونها أشد ضررا من الخمر، فبيعها والاتجار بها أمر محرم شرعا، يمتنع عنه المسلم الذي يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا رسولا.
ثم هو أيضا يمتنع عن بيع أنواع التبغ؛ لأنه يعلم أنه ضرر محض لا خير فيه، وشر وبلاء لا خير فيه، فالاتجار به حرام، والمال الناتج منه حرام بأي وسيلة كانت، فلا يؤجر محلا لمن يبيع ذلك، ولا يتعامل معه ولا يتخذه شريكا له، ويحتاط على مكاسبه من أن تدنسها تلك القاذورات الخبيثة.
2 - وحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر بيع الميتة التي حرمها الله في كتابه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (1) ، فيحرم بيعها لأنها نجسة، والله تعالى يقول: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (2) .
3 - وحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيع الخنزير، ذلك الحيوان القذر الذي هو قذر ونجس ومؤذ ومسبب لآفات صحية وأخلاقية، حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة الأنعام الآية 121(88/11)
علينا بيعه؛ لأن الله حرمه في كتابه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} (1) .
4 - كما حرم بيع الأصنام التي تعبد من دون الله على هيأتها، كذلك بيع الصلبان وما يجري مجراه، كل ذلك حرمه علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجمع المسلمون على تحريمها.
5 - ومما جاء تحريمه في السنة بيع الأحرار، كما جاء في الحديث القدسي، يقول الله جل وعلا: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجراء فأوفى منهم ولم يعطهم حقهم (2) » فهؤلاء الثلاثة الله خصمهم يوم القيامة، ثانيهم رجل باع حرا فأكل ثمنه؛ ذلك أن الأصل في آدم وذريته الحرية، فإن الله خلق آدم وذريته أحرارا، وإنما الرق في الشريعة إنما جاء عقابا في حق من دعي إلى الخير فأبى، وقاوم دعوة الحق فاسترق عقوبة له على جرمه، وإلا فالأصل حرية البشر، وسلب حريات البشر أمر مخالف للشرع.
لقد كان الرق في الإسلام عقوبة، ومع ذلك جعل طرقا كثيرة لإزالته، فجعل عتق الرقبة في كفارة قتل الخطأ، وكفارة الظهار، وكفارة الجماع في رمضان، وكفارة اليمين، ورغب في العتق ورتب عليه الثواب الجزيل.
ولما استرق المسلمون الأرقاء في صدر الإسلام الأول استرقوهم
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) رواه البخاري في صحيحه ح (2114) .(88/12)
بالطريق الشرعي، ولكنهم عاملوهم معاملة طيبة، فعلموهم وثقفوهم وفقهوهم وربوهم تربية صالحة، حتى كان منهم أئمة الهدى وحملة الشريعة وخطباء المنابر والقضاة وحملة السنة والكتاب، فصاروا أعلام هدى على أيدي الرعيل الأول.
ولقد كان المستشرقون يلمزون الإسلام بالرق ويتهمونه بكبت الحرية، وهذا اتهام باطل وظالم، بل العالم المتحضر اليوم يرتكب الرق بأبشع أنواعه، ففي الحروب التي تقام في هذه العصور ويؤخذ فيها الأطفال ذكورا وإناثا، وتقام أسواق لأجلهم، لا لمصلحة ذات الأطفال، ولكن لأمور إجرامية أخرى، إما لنزع أعضائهم، أو تهيئتهم للإجرام والإفساد نعوذ بالله من ذلك، فالرق الجديد رق يشتمل على الظلم والعدوان استحلوا به الأرقاء، استحلوا به استرقاق أولئك الصغار، وفي البلاد التي يغلب فيها الجهل والفقر يحاول أولئك استغلال نهب أولئك الأطفال وبيعهم والتحكم في مصيرهم، وهذا من أبشع الظلم والعدوان.
6 - ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب وأخبر أن ثمنه خبيث فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن ثمن الكلب خبيث (1) » وقال: «إذا جاء يطلب ثمنه فاملأ كفيه ترابا (2) » فالكلب لأجل خبثه حرم - صلى الله عليه وسلم - بيعه، فهو لا مالية له في الإسلام، كما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيع أي حيوان لا منفعة فيه، «سئل
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه ح (1568) .
(2) رواه مع الجزء الأول من الحديث أحمد في مسنده 1\278.(88/13)
جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن بيع الكلب والسنور، فقال: زجر عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم (1) » .
7 - وحرم الإسلام علينا الاتجار بالبغاء، وجعله كسبا خبيثا، ولذا قال الله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، كان بعض العرب يجعل إماءه أجيرات للبغاء؛ ليكتسبوا من وراء بغائهن المال، فحرم الله ذلك ونهى عنه لأنه مكسب خبيث ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث (3) » فنهى عن ثمن الكلب ونهى عن كسب البغاء، كل ذلك حماية لمال المسلم من أن تكون مصادره مصادر سوء ومصادر دناءة وخسة، فليرتفع المسلم إلى أن تكون مصادر ماله مصادر طيبة حلالا نظيفة، بعيدا عن هذه الشبهات والنقائص.
ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البيوع المشتملة على الغرر والظلم والعدوان، وما يسبب نزاعات بين الناس.
8 - فنهى - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر، قال أبو هريرة رضي الله عنه: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر (4) » والغرر هو الخداع، بأن يكون أحد الطرفين لا يدري عن حقيقة السلعة، فلا يعلم ذاتها ولا يعلم أوصافها
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه ح (1569) .
(2) سورة النور الآية 33
(3) رواه مسلم في صحيحه ح (1568) .
(4) رواه مسلم في صحيحه ح (1513) .(88/14)
ولا يراها، وإنما يشتري مجهولا يعلم حالته، فربما ندم على فعله إذا اطلع عليه، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وأراد من المسلم أن يكون صادقا في تعامله، صادقا في تجارته، حتى يكون مؤمنا حقا، فإن الإيمان ليس مجرد أداء للفرائض لكنه مع أداء للفرائض لا بد من صدق في المعاملات، الدين المعاملة، فالمؤمن الحقيقي صاحب الإيمان الصادق لا تراه غاشا ولا مخادعا، ولا خائنا ولا كذابا، لا يحدثك فيكذبك، ولا تأتمنه فيخونك، ولا تثق به فيغشك، بل هو مترفع عن كل هذه الدنايا.
ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أنواع من البيوع كان أهل الجاهلية يتبايعون بها.
9 - وكانوا في جاهليتهم ربما قالوا مجرد ما يلمس الإنسان السلعة فهي له بكذا، فجاء النهي عن ذلك، كما في الحديث: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الملامسة والمنابذة (1) » فليس مجرد اللمس أو النبذ إليه قد يستحق البيع بل لا بد من اطلاع المشتري على عين ما اشترى، أهو حقيقة أم لا، حتى تكون المكاسب طيبة، وتكون القلوب مطمئنة، وتنقطع أسباب القطيعة والعداوة والبغضاء بين الناس.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه ح (2039) ، ومسلم في صحيحه ح (3874) .(88/15)
10 - وكانوا في جاهليتهم يبيعون الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فكان ذلك يؤدي إلى النزاع والخلاف، فنهى - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع ونهى المشتري، وقال: «أرأيت إذا منع الله(88/15)
الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه (1) »
11 - ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن بيع أنواع مما يجري فيه الربا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء (2) »
12 - ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النجش فقال: «لا تناجشوا (3) » قال العلماء: النجش الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أن يزيد الإنسان في سلعة تباع لا يريد شراءها، ولكن يزيد إما لينفع البائع أو يضر المشتري، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وقال: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض (4) » وقال: «إذا استنصحك أخوك فانصح له (5) » فلا يجوز أن ترفع ثمن سلعة أنت لا تريد شراءها، أو ترفعها لأجل أن يربح البائع ويضر المشتري، أو كونك شريكا من طريق خفي، تظهر أنك أحد من يسومها بينما أنت تريد أن تغرر بذلك الذي يشتري، كل هذا مما حرمه الشرع علينا.
13 - وحرم علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع بعضنا على بيع بعض، أو أن يشتري أحدنا على شراء الآخر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ولا يبع بعضكم على
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه ح (2086) .
(2) رواه مسلم في صحيحه ح (1584) .
(3) رواه البخاري في صحيحه ح (2033) ، ومسلم في صحيحه ح (1413) .
(4) رواه مسلم في صحيحه ح (1255) .
(5) رواه مسلم في صحيحه ح (2162) دون لفظ (أخوك) .(88/16)
بيع بعض (1) » فإذا رأيت أخاك قد سام سلعة وتوجه الآخر إليك فإياك أن ترفع السلعة لتبيع على بيعه، وإياك أن تضع من الثمن لتفسد عليه، دع أخاك وشأنه ولا تبع على بيعه، دعه إذا باع أن يربح ما يسر الله له، أما إن تتدخل في بيعه فتقول للمشتري: أنا أبيعك بأقل من هذا، فهذا لا يجوز، أو تقول للبائع: أنا أشتري منك بأكثر من ذلك، فلا يجوز إلا إذا تنازل أخوك عن ذلك البيع.
14 - ونهانا رسول الله عن الغش فيما بيننا وأمرنا أن تكون بيوعنا كلها واضحة جلية لا غدر ولا خيانة فيها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا (2) » فالغاش ليس من المسلمين لأنه يهدد اقتصادهم، كما أن القاتل حامل السلاح يهدد أمنهم، فكل منهم يخدع المسلمين ممن يغش في البيوعات والذي يخدع الناس، والذي يضع الشعارات غير الشعار الحقيقي، والذي يزيف، والذي يؤخر السلعة التي لها زمن ينتهي إليه ثم يخرجها والحال أنها ضارة وأن زمن البقاء قد مضى، كل أولئك يعتبرون غاشين لإخوانهم المسلمين، خادعين لهم، ماكرين بهم، ومكاسبهم مكاسب خبيثة.
المسلم في معاملاته يتقي الله فلا يعين على معصية ولا يعين على ظلم ولا يعين على عدوان، يتحرى المكاسب الطيبة وإن قلت، ويترفع
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه ح (2043) ، ومسلم في صحيحه ح (1412) .
(2) رواه مسلم في صحيحه ح (101) .(88/17)
عن الدنايا والخبائث وإن كثرت، خوف الله يسيطر عليه، يقينه بلقاء الله يحول بينه وبين الحرام، كم ترى من عباد الله من إن نظرت إلى مظهره أعجبك، وإن سمعت كلامه أعجبك، وإن رأيت أعماله التطوعية أعجبتك، ولكن في معاملات الدنيا ومصالحها يذهب هذا التقوى كأنه ما كان شيء، فلا صدق ولا أمانة ولا وفاء ولا وضوح، ولكن غش وخداع، كم من الناس سولت لهم أنفسهم فاستحلوا الحرام بتأويلات باطلة، يعهد إليه شراء أمور العامة فلا يوقع عقد الشراء إلا أن يكون له نصيب من الثمن، بل قد يزيد الثمن زيادة باهظة لأجل مصلحته التي يأخذها، وكم يراد أن يستأجر منه فلا يوافق هذا المستأجر إلا أن يعطى ثمنا باهظا، وكم من حيل وخداع وتأويلات إبليسية يتمسك بها هؤلاء فيذهب دينهم والعياذ بالله، يتساهلون بالحرام والمكاسب الحرام، وما يعلمون أنها سبب لقسوة القلب، وإضعاف لجانب التقوى.
والتقي حقا من اتقى الله في سره وعلانيته، من اتقى الله في صلاته وبيعه، من اتقى الله في زكاته وتعامله، من اتقى الله في صومه وبيعه وشرائه، من كان خوف الله مسيطرا عليه في كل أحواله، يهمه المال الطيب النافع، أما الأموال المحرمة فمهما تنوعت مكاسبها فإن موقفه منها موقف الحذر الخائف من الله.
لا يشارك مع أقوام يرى منهم تساهلا في الربا والحرام، وتهاونا في الأمور، يبتعد عنهم مهما كان الحال، يربأ بدينه من أن يخدعه المغرورون،(88/18)
ويغرر به الجاهلون، ويزين له أهل الباطل، والله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1) ، وفي الحديث: «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن حلال أم من حرام (2) »
فالمسلم الذي يعلم أنه ملاق ربه وأن الله سائله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه يقف متأملا يقدم رجلا ويؤخر أخرى، وينظر في عواقب الأمور ومآلاتها، ولا تهمه الدنيا المنكرة الزائلة، بل مراقبته لربه فوق هذا كله.
كم من متساهل بالمرافق العامة ومتهاون بها ومدع ملكها وهي ليست ملكا له، ومسطر عليها صكوكا وهي ليست له، وكم وكم ...
إن المسلم حيال كل الأمور يجب أن يعلم أن الله سائله عن كل درهم دخل عليه، هل هذا من حلال أم من حرام، وليتق العبد ربه وليحاسب نفسه قبل الحساب يوم قدومه على الله وليحذر من مصاحبة أقوام لا يبالون بالمكاسب، حلال هي أم حرام، يسخرون لم قال لهم: هذا حرام، يسخرون لم يقول لهم: هذا لا يجوز، يستهزئون لمن يقول لهم: اتقوا المكاسب الخبيثة، يقولون: أنت في غفلة، وأنت في انعزال، وأنت لا تعرف الحياة، وأنت لا تعرف الأحوال، أما يعلم هؤلاء أن الله جل وعلا مطلع على سرائرنا، وعالم بأحوالنا، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) رواه البخاري في صحيحه ح (1977) .
(3) سورة البقرة الآية 235(88/19)
نسأل الله تعالى أن يكفينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه، ونسأله تعالى أن يجعل فيما أباح لنا غنى عما حرم علينا، وأن يطهر مكاسبنا من الخبائث، ومن الربا والحرام، وأن يجعلها طيبة تعيننا على طاعته، ونتقرب بها إليه، إنه على كل شيء قدير.(88/20)
الفتاوى(88/21)
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتى الديار السعودية (رحمه الله)
(1023 - التختم بالذهب، ونصيحة فيه) :
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم سعود بن عبد العزيز، أيده الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: -
حفظكم الله؛ حيث قد عمت البلوى بالتختم بالذهب، وذلك أمر محرم شرعا، ولا يسع السكوت عليه، فقد كتبنا في ذلك نصيحة نرفقها لكم بكتابنا هذا، مؤملين بعد الاطلاع الأمر بنشرها وتعميمها للناس عسى أن ينفع الله بها. والسلام عليكم ورحمة الله.
(ص - م - دوسيه 14 - 11 في 23 - 6 - 1375هـ)
(النصيحة)
من محمد بن إبراهيم إلى من يراه من إخواننا المسلمين، رزقني الله وإياهم القيام بما أوجبه علينا من الدين، ومن علينا جميعا بتحليل حلاله وتحريم حرامه طاعة لله ولرسوله سيد المرسلين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد بلغني بل تحققت أنه يوجد من لعب عليه الشيطان فزين له التختم بالذهب، وعدم المبالاة بالوعيد الشديد والتغليظ الأكيد فيه.
فتعين علي أن أبين لهم النصوص الشرعية الثابتة في ذلك عن(88/23)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الدالة على غلظ تحريم التختم بالذهب، براءة للذمة، ونصيحة للأمة، فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس القسي والمعصفر، وعن تختم الذهب، وعن قراءة القرآن في الركوع (1) » رواه مسلم. وعن عبد الله بن عباس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه، فقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده، فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذ خاتمك فانتفع به. قال: لا والله، لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) » رواه مسلم: وعن أبي موسى الأشعري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها (3) » رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: إنه حديث حسن صحيح. «وعن أبي سعيد أن رجلا قدم من نجران إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه خاتم من ذهب، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أنت جئتني وفي يدك جمرة من النار (4) » رواه النسائي. وعن أبي أمامة أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس حريرا ولا ذهبا (5) » رواه أحمد ورواته ثقات. وعن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرم الله عليه شربها في الجنة، ومن مات من أمتي وهو يتحلى بالذهب حرم الله عليه لباسه في الجنة (6) » رواه أحمد ورواته ثقات ورواه الطبراني.
فهذا أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعضها نهيه الصريح عن التختم بالذهب المفيد لتحريمه على الذكور، وفي بعضها الوعيد الشديد الدال على تغليظ تحريمه. فالناصح لنفسه من يعظم نهي الله ورسوله
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2078) ، سنن الترمذي الصلاة (264) ، سنن النسائي التطبيق (1042) ، سنن أبي داود اللباس (4044) ، سنن ابن ماجه اللباس (3602) ، مسند أحمد (1/92) ، موطأ مالك النداء للصلاة (177) .
(2) صحيح مسلم اللباس والزينة (2090) .
(3) سنن الترمذي اللباس (1720) ، سنن النسائي الزينة (5148) ، مسند أحمد (4/392) .
(4) سنن النسائي الزينة (5188، 5206) ، مسند أحمد (3/15) .
(5) مسند أحمد (5/261) .
(6) صحيح البخاري الأشربة (5575) ، صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن النسائي الأشربة (5674) ، سنن أبي داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3373) ، مسند أحمد (2/209) ، موطأ مالك الأشربة (1597) ، سنن الدارمي الأشربة (2090) .(88/24)
بالمبادرة إلى اجتناب محارمه، وهذا من أوجب الواجبات؛ بل هاهنا واجب فوق هذا الواجب وهو قيام المسلمين لله بإنكار هذا المنكر وغيره من سائر المنكرات، وإن كان هذا الواجب يختلف باختلاف الناس، فيجب على أرباب العلم والمقدرة والنفوذ أكثر مما يجب على غيرهم من بيان الحق في ذلك، والمنع من ارتكاب المحارم، والحيلولة بين من استولت عليهم الشهوات وبين شهواتهم التي حرم الله ورسوله، وأن يقوم المسلمون لله مثنى وفرادى ويتفكروا فيما ألم بهم مما طغى سيل طوفانه حتى اجترف أصول الغيرة لله من قلوبهم إلا من شاء الله، وأن يعتصموا بحبل الله جميعا في بذل الأسباب في الحصول على دواء هذا الداء العضال بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على ما توجبه الشريعة، من غير تقصير في ذلك، ولا تجاوز للحد الشرعي فيما هنالك. وأن يأخذوا على أيدي سفهائهم من قبل أن يعاقبوا على ترك هذا الفرض العظيم بقسوة القلوب، وعدم الاكتراث من معضلات المعاصي والذنوب. فإذا قام المسلمون بهذا الواجب منحهم الله في علومهم وأفهامهم ودنياهم ودينهم وآخرتهم ما يحبون. وإن أعرضوا عنه والعياذ بالله فإنهم لا يزالون في نقص في علومهم وأفهامهم ودنياهم ودينهم وسفال وتعثر في شتى مساعيهم.
اللهم أرنا وإخواننا المسلمين الحق حقا ووفقنا لاتباعه، وأرنا الباطل باطلا وأعنا على اجتنابه، إنك على كل شيء قدير. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
حرر في 21 - 6 - 1375هـ
(ص \ف 259 في 21 \ 6 \ 75هـ)(88/25)
(1024 ـ التختم بالفضة) :
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم عبد الله بن ناصر بن حمد سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: -
فقد جرى الاطلاع على استفتائك عن لبس الرجل خاتم الذهب، وما أشرت إليه من أن بعض الجهال يلبسه مع ما فيه من التشبه بالنساء.
والجواب: الحمد لله. إن كان الخاتم من الفضة فقد اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتما من فضة. وإن كان من الذهب فقد ثبت في الأحاديث الصريحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حرم الذهب على الرجال من أمته، ونهاهم عن استعماله، وغلظ في ذلك بقوله وفعله، وإليك بعض الأحاديث الواردة في ذلك:
1 - عن علي رضي الله عنه قال: «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريرا فجعله في يمينه، وذهبا فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي (1) » رواه أبو داود والنسائي.
2 - وعن عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من مات من أمتي وهو يتحلى بالذهب حرم الله عليه لباسه في الجنة (2) » رواه أحمد والطبراني ورواته ثقات.
3 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه، وقال: يعمد أحدكم إلى
__________
(1) سنن النسائي الزينة (5144) ، سنن أبي داود اللباس (4057) ، سنن ابن ماجه اللباس (3595) ، مسند أحمد (1/115) .
(2) مسند أحمد (2/209) .(88/26)
جمرة من نار فيطرحها في يده. فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذ خاتمك وانتفع به. فقال: لا، والله لا آخذه، وقد طرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) » رواه مسلم.
4 - وعن أبي سعيد رضي الله عنه: «أن رجلا قدم من نجران إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه خاتم من ذهب، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: إنك جئتني وفي يدك جمرة من نار (2) » رواه النسائي. وفي معنى ذلك جملة أحاديث تركناها اختصارا، وهي تدل على تحريم لبس الرجل خاتم الذهب، ونحوه كدبلة الخطوبة، وسلسلة الذهب، والسوار، وساعة الذهب ونحوها، وقد عد ذلك من كبائر الذنوب والعياذ بالله.
وأما التشبه بالنساء فهذا محذور آخر، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال " وفي رواية: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء (3) » رواه البخاري.
فيا عجبا لمن يؤمن بالله ورسوله ثم يتجرأ على ما حرم عليه تحريما صريحا فيرتكبه مخالفة وعدم مبالاة وتقليدا للأعاجم والجهال {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (4) . والسلام عليكم.
(ص ـ ف 839 في 3 - 4 - 1385هـ)
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2090) .
(2) سنن النسائي الزينة (5188) ، مسند أحمد (3/15) .
(3) صحيح البخاري الحدود (6834) ، سنن الترمذي الأدب (2785) ، سنن أبي داود الأدب (4930) ، سنن ابن ماجه النكاح (1904) ، مسند أحمد (1/365) ، سنن الدارمي الاستئذان (2649) .
(4) سورة آل عمران الآية 8(88/27)
(1025 - دبلة الخطوبة: من ذهب، أو فضة ـ للرجل والمرأة)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم عبد الرزاق محبوب صديقي المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: -
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن " دبلة الخطوبة " التي ظهرت في هذه الآونة الأخيرة، إذا أراد الرجل الزواج من مخطوبته قدم لها دبلة " يعني خاتما " مكتوب عليها اسمه. كما أنها تقوم بتقديم دبلة له مكتوب عليها اسمها. ويقال: إن هذه الدبلة الذهب، وتسأل عن حكم ذلك.
والجواب: - الحمد لله. أولا: لا يخفى أن هذا الشيء لم يكن معهودا لدى الناس في هذه البلدان، وإنما تسربت هذه العوائد من بعض البلدان المجاورة، ولا ينبغي الانصياع معهم وتقليدهم التقليد الأعمى بكل ما يأتون به سواء كان غثا أو سمينا، مع أن هذا من قسم الغث الذي لا خير فيه ولا نفع يعود على الزوج ولا على الزوجة منه.
ثانيا: إن كانت هذه الدبلة التي يلبسها الرجل من الفضة، فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتما من فضة، وقد اتخذه - صلى الله عليه وسلم - لمصلحة شرعية، وكتب عليه اسمه " محمد رسول الله " فمحمد سطر أسفل، ورسول سطر وسط، والله سطر أعلاه. وأخذ العلماء من هذا أنه يجوز للرجل اتخاذ الخاتم من الفضة.(88/28)
ثالثا: أما إن كانت الدبلة من الذهب، فما كان منها في حق النساء فإن الشارع الحكيم أباح للنساء التحلي بما جرت به عادتهن، لأن المرأة خلقت ضعيفة ناقصة محتاجة إلى جبر نقصها بالتحلي والتبهي والتجمل للزوج، قال الله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (1) فيباح لها التحلي بما جرت به عادة نساء زمانها ولو كثر.
وما كان من ذلك في حق الرجال فقد ثبت في الأحاديث الصريحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم الذهب على الرجال من أمته، ونهاهم عن استعماله، وغلظ في ذلك بقوله وفعله.
فمما ورد من قوله حديث علي رضي الله عنه قال: «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريرا فجعله في يمينه وأخذ ذهبا فجعله في شماله ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي (2) » . رواه أبو داود والنسائي، وفي الباب أحاديث كثيرة تركناها اختصارا. ومما ورد من فعله حديث ابن عباس «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه، وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيطرحها في يده، فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذ خاتمك وانتفع به، فقال: لا آخذه وقد طرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) » ، رواه مسلم.
__________
(1) سورة الزخرف الآية 18
(2) سنن النسائي الزينة (5146) ، سنن أبي داود اللباس (4057) ، سنن ابن ماجه اللباس (3595) ، مسند أحمد (1/115) .
(3) صحيح مسلم اللباس والزينة (2090) .(88/29)
وبما ذكرنا يظهر حكم لباس " دبلة الخطوبة " والتفصيل فيما إذا كانت من ذهب أو فضة، والفرق بين دبلة الرجل ودبلة المرأة.
والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(ص ف 1982 - 1 في 22 \ 7 \ 1385 هـ)(88/30)
(1026 - تحلي الرجال بالجواهر) :
ثم التحلي بالجواهر كعقود اللؤلؤ ونحو ذلك تحتاج إلى يسير من الذهب فطائفة من العلماء يسهلون فيه، وقد أباحه الشيخ إذا كان يسيرا تابعا، وآخرون يمنعونه مطلقا، ويستدلون بحديث أبي داود «نهى - صلى الله عليه وسلم - عن مثل الخرر بصيصة (1) » عين الجرادة. فإذا ثبت فيه إما أن يحمل على منفرد؛ فإنه فرق بين التابع، والمستقل.
والله أعلم: العلة لا توجد في غير ذات الذهب من الجواهر (1) ، تقرير
__________
(1) مسند أحمد (4/227) .(88/30)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله)
مفتي عام المملكة العربية السعودية
الديون التي لم يحصل عليها صاحبها
لا تمنع من دفع الزكاة إليه إذا كان فقيرا
شيخنا الفاضل \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، حفظه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
يوجد موظفون في الكويت غير كويتيين، قد أنهيت عقودهم وخدماتهم، فبقيت لهم حقوق مالية عند الدولة، ولا يستطيعون استلامها إلا عند مغادرة البلاد، وهم لا يستطيعون مغادرة البلاد لعدم وجود جوازات سفر، ولعدم رغبتهم بالذهاب إلى العراق؛ لما يخشونه على أنفسهم ودينهم وأعراضهم، وهم الآن في أحوج ما يكونون إلى المساعدة المالية؛ لأنهم فقراء جدا، فهل يستحقون الأموال الزكوية والصدقات، علما بأن حقوقهم صعبة المنال؟ وما الواجب على لجان الزكاة في الكويت تجاههم؟ وجزاكم الله خيرا.
وعليكم السلام، بعده: إذا كان الواقع عن المذكورين هو ما ذكرتم فإنه لا مانع من مساعدتهم من الزكاة؛ لفقرهم وحاجتهم، والديون التي لهم عند الدولة لا تمنعهم من الزكاة؛ لعدم حصولهم عليها. وفق الله الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(88/31)
حكم دفع الزكاة إلى الفقير
المسلم إذا كان لديه بعض المعاصي
سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
س: يوجد هنا داخل الرياض بعض الأقرباء الفقراء والمستحقين للزكاة، ولكن توجد عندهم بعض المنكرات (كالدش) وعدم المحافظة على الصلاة مع الجماعة، فهل يجوز دفع الزكاة لهم؟ أفتونا مأجورين.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
يجوز دفع الزكاة إلى الفقير المسلم وإن كان لديه بعض المعاصي، ولكن التماس الفقراء المعروفين بالخير والاستقامة أولى وأفضل، ومن كان لا يصلي لا يعطى من الزكاة؛ لأن ترك الصلاة كفر أكبر وإن لم يجحد وجوبها في أصح قولي العلماء؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (1) » أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه - وأخرج أهل السنن الأربع بإسناد صحيح عن بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر (2) » أما من جحد وجوبها
__________
(1) رواه مسلم في (الإيمان) باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم (82) .
(2) رواه الترمذي في (الإيمان) باب ما جاء في ترك الصلاة برقم (2621) ، وابن ماجه في (إقامة الصلاة والسنة فيها) باب ما جاء فيمن ترك الصلاة برقم (1079) .(88/32)
فهو كافر بالإجماع وإن صلى؛ لأنه بفعله ذلك مكذب لله سبحانه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - والله ولي التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(88/33)
حكم دفع الزكاة للعاجز عن الزواج
س: شاب مستقيم يريد أن يتزوج، ولا شك أنه يحتاج إلى المساعدة لاستكمال أمر الزواج، فهل يجوز لي أن أعطيه من الزكاة لمساعدته على أمر زواجه؟
ج: يجوز دفع الزكاة لهذا الشاب، مساعدة له في الزواج إذا كان عاجزا عن مؤونته.(88/33)
حكم تسديد ديون المعسرين من الزكاة
سماحة الوالد العلامة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أتقدم إلى سماحتكم بهذا الخطاب، لأفيد سماحتكم بأنه - ولله الحمد - قد تمت الموافقة السامية على افتتاح جمعية خيرية في ثرمداء، فجزى الله خادم الحرمين خير الجزاء، ووفقه وأيده، وحيث إنها وضعت لخدمة المحتاجين، ومن المحتاجين يا سماحة الشيخ أولئك المدينون الذين لا يجدون ما يسددون للغرماء، وقد رأى مجلس الإدارة أن تقوم الجمعية بالتسديد للغرماء من الزكاة الواردة إليها دون أن تعطيها(88/33)
للمحتاج نفسه، ونحن نطلب الفتوى من سماحتكم عن ذلك، وهو: هل يجوز أن تسدد الجمعية للغرماء مباشرة عن المعسرين دون أن تعطي المعسرين أنفسهم؟ وجهونا أثابكم الله للحكم الشرعي في هذا، سدد الله خطاكم ووفقكم لكل خير.
الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
لا حرج في أن تقوم الجمعية بتسديد الدين عن المعسرين بدون إذنهم في أصح قولي العلماء، وإن أخذت إذنهم أو وكلوا من يقوم مقامهم في قبض الزكاة من الجمعية وتسليمها لأهل الدين فهو حسن، وفيه خروج من الخلاف. والمشروع للجمعية أن تتحرى في ذلك الأشد حاجة من الفقراء الموجودين في البلد والغارمين، حتى ينال كل منهم نصيبه. سدد الله خطا القائمين على الجمعية، وبارك في جهودهم، وضاعف مثوبتهم،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(88/34)
سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، حفظه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
إشارة لخطابكم رقم 2197\1 وتاريخ 15\10\1411هـ عن موضوع الدين المترتب على الأخ الشيخ \ع. ي. ب. شيخ مشايخ إحدى القبائل، بسبب مصروفاته على معهد الصديق بمنطقة الخدرة، وبناء ملحقات للمعهد، ومنها المسجد الجامع.
نأمل إفادتنا هل يجوز إعطاء المذكور شيئا من الزكاة لسداد الدين المترتب عليه، نتيجة الصرف على المعهد ومشروعاته العمرانية المذكورة بخطابكم؟ والله يحفظكم.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
لا مانع من إعطائه من الزكاة لقضاء دينه؛ لكونه من الغارمين المذكور في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ} (1) الآية. وفق الله الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(88/35)
حكم إسقاط الدين عمن
لم يستطع الوفاء واحتسابه من الزكاة
س: أنا تاجر وأملك عقارات، ولدي بعض الشقق السكنية المعدة للإيجار، ويتقدم بعض المستأجرين الذين لا يستطيعون الإيفاء بحق الإيجار لضعف قدرتهم على تسديد المبلغ، فهل يجوز لي أن أنقص لهم من قيمة الإيجار من حساب الزكاة الذي لدي؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا (1) .
ج: ليس لك أن تسقط من زكاتك ما يقابل تخفيض السعر لهم؛ لأنك والحال ما ذكر لم تؤد الزكاة، وإنما جعلتها رفدا لمالك. وفق الله الجميع.(88/36)
س: إذا كان لك دين عند مريض أو فقير معسر فهل لك أن تسقطه عنه من الزكاة؟ (1)
ج: لا يجوز ذلك؛ لأن الواجب إنظار المعسر حتى يسهل الله له الوفاء، ولأن الزكاة إيتاء وإعطاء، كما قال الله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (1) وإسقاط الدين عن المعسر ليس إيتاء ولا إعطاء، وإنما هو إبراء، ولأنه يقصد من ذلك وقاية المال لا مواساة الفقير.
لكن يجوز أن تعطيه من الزكاة من أجل فقره وحاجته، أو من أجل غرمه، وإذا رد عليك ذلك أو بعضه من الدين الذي عليه فلا بأس إذا لم يكن ذلك عن مواطأة بينك وبينه ولا شرط، وإنما هو فعل ذلك من
__________
(1) سورة البقرة الآية 43(88/36)
نفسه. وفق الله الجميع للفقه في الدين والثبات عليه.(88/37)
س: لي أخ مدين لي بمبلغ من المال، ولا يستطيع سداده في الوقت الحالي؛ لأن عليه بعض الالتزامات، كتقسيط السيارة وإيجار الشقة، وراتبه يكاد لا يكفي لمعيشته. فهل يجوز لي إعفاؤه من بعض الدين زكاة عن مالي؟ (1)
ج: بسم الله والحمد لله، لا يجوز إسقاط الدين عن أحد من الناس بنية الزكاة، ولكن يجب إنظار المعسر، وإن أعطيته من زكاتك لحاجته فلا بأس، أما الدين فلا يجوز إسقاطه عن الزكاة عن أخيك ولا عن غيره؛ لأن الزكاة بذل للمال لمستحقه وليست إبراء من الديون. وفق الله الجميع.(88/37)
حكم دفع الزكاة لمنكوبي المجاعة في الصومال
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة صاحب السمو الملكي الأمير المكرم سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض ورئيس الهيئة العليا لجمع تبرعات البوسنة والهرسك (لجنة منكوبي المجاعة في الصومال) وفقه الله لكل خير (1)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
__________
(1) نشر في (جريدة العالم الإسلامي) العدد (1304) بتاريخ 15 - 21 رمضان 1413هـ.(88/37)
فجوابا لبرقية سموكم الكريم رقم 1607\6 وتاريخ 9\3\1413هـ بشأن رغبة سموكم الإفادة عن إمكانية دفع الزكاة لمنكوبي المجاعة في الصومال.
أفيد سموكم بأنه لا مانع من دفع الزكاة إلى الفقراء منهم؛ لأنهم مسلمون في الجملة، ومن قد يوجد منهم من غير المسلمين فهو من المؤلفة قلوبهم المستحقين للزكاة.
رحم الله حالهم، وجمع شملهم على الخير، وأصلح قادتهم وضاعف لخادم الحرمين ولسموكم الأجر والمثوبة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(88/38)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
س: شخص يقول إنه يعمل في صيدلية في أحد المستشفيات الحكومية، ويقوم بأخذ بعض الأدوية لبعض من يطلب منه ذلك بعد الاستئذان من المشرف على الصيدلية، وهو يقصد مساعدة الآخرين واحتساب الأجر، علما بأن النظام يكون لمن له ملف في المستشفى، ولكن هناك عدم التزام بذلك حتى من قبل مدير المستوصف، وكذلك مدير الصيدلية، وهناك من يقول إن التعليم والصحة مجان في هذه الدولة المباركة؟
ج: الأولى أن نتبع النظام، وألا يصرف الصيدلي دواء إلا بعد إذن المسؤول، وألا تكون المسألة نهبا، بل نسير فيها على النظام؛ لأنه إذا اتبع النظام؛ فإن الأمر سينتفع به الجميع، وما دام الدولة – ولله الحمد - تصرف الدواء مجانا؛ فلنسلك الطريق المناسب، وأما إن هذا يشفع لهذا، وذا يشفع لهذا، وقد يعطي أكثر مما يستحق فهذا لا يجوز.(88/39)
س: هل يأثم من يترك أبناءه وأعمارهم 13 سنة ونحوها، يصلون الفجر في البيت في أكثر الأيام؟
ج: يحاول أمرهم بالصلاة في المسجد، وترغيبهم فيه، وحثهم على الصلاة في المسجد، واستصحابهم معه، لكن بحكمة اليوم يحملهم على فرض وعلى فرضين حتى يعتادوا عليها، ويحاول بقدر الإمكان(88/39)
تحبيبهم بالمسجد، واستصحابهم معه والرفق بهم، لعل الله أن يفتح على قلوبهم.(88/40)
س: غالبية النساء يلبسن الملابس مثل التنورة والبلوزة، وتكون ضيقة قليلا ليست شفافة، ولا قصيرة، فما حكم هذه الملابس؟ وبماذا تنصحون النساء بالنسبة للألبسة؟
ج: ينبغي للمسلمة أن تتقي الله في لباسها، وأن يكون لباسها لباسا ساترا، وليس شفافا ولا ضيقا يبين حجم الجسم يعني يكون فضفاضا، وتتقي الله فيما تلبس، وتحذر من اللباس الفاتن سواء خرجت للرجال، وحتى بالمجتمعات النسائية ربما تصاب بعين ما من عيون الحاسدات والحاقدات، فالتستر والتحشم خير لها في دينها ودنياها فهو من أسباب وقارها وهيبة الناس لها، وعدم جرأة الفساق والأراذل عليها.(88/40)
س: هنالك هجمة شرسة على الإمام محمد بن عبد الوهاب، ويسمون أتباعه بالوهابية؛ فما رأي سماحتكم في هؤلاء؟
ج: هذه الهجمة ليست وليدة اليوم بل هي من القدم كل من دعا إلى الله، وإلى توحيد الله، وإلى تحكيم شرع الله، وإلى العمل بسنة رسول الله، وعلى اقتفاء آثار الخلفاء الراشدين والصحابة المهديين والتابعين وتابعيهم، من فعل ذلك قالوا: وهابي، جعلوا الوهابية رمزا لكل من استقام على الطريق المستقيم، وهذه من كرامة الله لهذه الدعوة، وإلا فالشيخ – رحمه الله - ما دعا لمذهب له، ولا إلى رأي له، ولا إلى(88/40)
دين جديد، إنما دعا إلى القرآن والسنة فقط، وإلى مذهب السلف الصالح أهل السنة والجماعة، ولم ينسبها أحد من علماء الدعوة إلى الشيخ، ولم ينسبها الشيخ إلى نفسه بل كان يقول: هذا كتاب الله، هذه سنة رسول الله، لا أقل ولا أكثر.(88/41)
س: هل يجوز استخدام قصص الأنبياء من الإنجيل والتوراة وغيرها من كتب الإسرائيليات؟
ج: الله جل وعلا يقول: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (1) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (3) ، وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} (4) ، فالقصص في القرآن مغن عن غيره، لا نحتاج إلى التوراة، ولا إلى الإنجيل، ولا إلى أي كتاب، نؤمن بأنها حقا أنزلها الله على الأنبياء لكن الله أغنانا بالقرآن وقصصه عن كل الكتب السماوية فهو المهيمن عليها والناسخ لها، هذا القرآن هو القصص الحق، قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} (5) ، فينبغي أن نأخذ
__________
(1) سورة يوسف الآية 1
(2) سورة يوسف الآية 2
(3) سورة يوسف الآية 3
(4) سورة هود الآية 49
(5) سورة آل عمران الآية 62(88/41)
العظة والاعتبار من هذا الكتاب العزيز، وأما الكتب السابقة فقد انتهى دورها ولم يعد لها مجال؛ لأن الله جل وعلا جمع معانيها كلها في القرآن؛ فأصبح القرآن المهيمن عليها، وأصبح القرآن عوضا عنها كلها، فنكتفي بالقرآن وقصصه وأخباره.(88/42)
س: لي والدان كبيران في السن الأب عمره خمس وسبعون سنة، والأم سبعون سنة، وإذا قمت بعمرة ووهبت ثوابها إليهما وهما على قيد الحياة، هل يصل إليهما هذا الثواب والأجر؟
ج: إن أمكنهم الذهاب إلى مكة، وأمكنك وأعانك الله أن تذهب بهما؛ فهذا من البر بهما، والعمل الصالح، وإن تعذر الذهاب بهما؛ لكبرهما، أو مرضهما، وعدم قدرتهما على الاعتمار؛ فاعتمر عن الأب مرة، وعن الأم أخرى، أو عن الأم، ثم عن الأب؛ وجزاك الله خيرا، أما هبة ثواب العمرة الواحدة لهما جميعا فلا أصل له، فلا يجوز ذلك.(88/42)
س: أنا شاب في مقتبل العمر وأعمل في المجال الطبي، وأضطر أن ألبس البدلة والبنطال، والغالب على شعر رأسي البياض، أي الشيب؛ فهل يجوز لي الصبغ بالسواد، وهل الحديث جنبوه السواد خاص باللحية فقط، أفيدوني أحسن الله إليكم؟
ج: من العلماء من يمنع السواد، ويقول السنة تغيير الشيب بالحناء والكتم، وكل لون غير اللون الأسود، فلا يجوز تغيير الشيب بالسواد، ويدل لذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أتي بأبي قحافة والد أبي بكر رضي الله(88/42)
عنهما يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا فقال - صلى الله عليه وسلم - «غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد (1) » أخرجه الإمام مسلم، وليس هذا خاصا به، بل له ولغيره، كما أنه ليس خاصا بشعر اللحية بل يشمل شعر الرأس.
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2102) ، سنن النسائي الزينة (5076، 5242) ، سنن أبي داود الترجل (4204) ، سنن ابن ماجه اللباس (3624) ، مسند أحمد (3/338) .(88/43)
س: ما تفسير قول الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (1) .
ج: هذه آية هود، قال الله تعالى في النار: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} (2) {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (3) . فقوله تعالى: {دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (4) . هذا الاستثناء فهم بعض العلماء منه أن النار يمكن أن يأتي عليها وقت تفنى فيه؛ لأن الله تعالى قال: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (5) ؛ فهذا الاستثناء يدل على أن النار يمكن أن يأتيها وقت تفنى فيه؛ لأنه علق بقاءها بمشيئته سبحانه، بخلاف الجنة: فإنه قال تعالى فيها: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (6) ، فقال تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (7) ، لكن قال سبحانه بعدها: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (8) ، فدل ذلك على أن الاستثناء هنا لا محل له، لقوله بعده {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (9) ،
__________
(1) سورة هود الآية 107
(2) سورة هود الآية 106
(3) سورة هود الآية 107
(4) سورة هود الآية 107
(5) سورة هود الآية 107
(6) سورة هود الآية 108
(7) سورة هود الآية 108
(8) سورة هود الآية 108
(9) سورة هود الآية 108(88/43)
أي غير مقطوع مما يفهم منه أن الاستثناء هنا غير مقصود، فيكون نعيم أهل الجنة نعيما دائما، كما قال جل وعلا: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} (1) ، ولكن بعضا من أهل العلم يقولون: إن أهل النار مخلدون فيها أبدا، ويدل لذلك قول الله جل وعلا: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (2) . وقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (3) . وقوله تعالى: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (4) ، فالآيات واضحة الدلالة في أن الخلود مستمر في النار، نسال الله لنا ولكم العافية.
__________
(1) سورة الكهف الآية 108
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة المائدة الآية 72
(4) سورة الأعلى الآية 13(88/44)
س: النبي – عليه الصلاة والسلام - بعث إلى الثقلين يدعو إلى التوحيد، ويحذر من الشرك، لكن الرسل الذين قبله، هل بعثوا إلى الجن، أم للجن أنبياء منهم بعثوا إليهم، حفظكم الله؟
ج: الجمهور على أن الرسل كلهم من البشر، من بني الإنسان ومن الرجال فقط، ومن أهل المدائن والأمصار لا من أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة والجهل عليهم، قال الحسن البصري – رحمه الله -: لم يبعث الله نبيا من أهل البادية قط ولا من النساء ولا من الجن: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} (1) .
__________
(1) سورة يوسف الآية 109(88/44)
فالرسل من بني آدم، لكن الجن بلغتهم الدعوة لما دعا الأنبياء الإنس، والله سبحانه وتعالى بلغ دعوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الجن كما قال جل وعلا: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (1) ، وقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (2) {قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) .
__________
(1) سورة الجن الآية 1
(2) سورة الأحقاف الآية 29
(3) سورة الأحقاف الآية 30(88/45)
س: هل سيلحق بالناس الذين يدخلون الجنة من يحبونهم ممن دخل النار، أي هل من الممكن إخراج المحبوبين من النار حيث إن جميع مطالب أهل الجنة تلبى؟
ج: تلبى مطالب أهل الجنة في حدود ما شرع الله، وتقبل شفاعتهم فيمن رضي الله عنه وأذن له، لكن أن يدخل المشركون الجنة فلا. المشرك قال الله تعالى عنه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (1) . فلا يشفع الشافعون إلا في الموحدين
__________
(1) سورة المائدة الآية 72(88/45)
الذين عظمت ذنوبهم وخطاياهم لكنهم موحدون لم يخرجوا من ملة الإسلام، هؤلاء يمكن الشفاعة فيهم، يقول الله تعالى لملائكته: أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله ومن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، أما المشركون العابدون غير الله الكافرون بالله فهؤلاء لا يرحمهم أحد، ولا يشفع فيهم أحد، قال الله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} (1) {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (2) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 50
(2) سورة الأعراف الآية 51(88/46)
س: ما الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر من حيث التعريف والأحكام؟
ج: هناك فرق: فالشرك الأكبر عبادة غير الله مع الله، وإشراك غير الله مع الله فيما هو حق لله وحده، والشرك الأصغر: دون ذلك كالحلف بغير الله، وكالحلف بالكعبة، والحلف بالنبي، ونحو ذلك، والرياء، فالشرك الأصغر أهون من الأكبر، والشرك الأكبر ينقل من الملة، ويوجب الخلود في النار، والشرك الأصغر لا ينقل من الملة، ولا يوجب الخلود في النار بمشيئة الله تعالى، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه.(88/46)
س: ما معنى شهادة أن لا إله إلا الله؟
ج: معناها أن تشهد أن الله وحده هو المستحق للعبادة وحده؛ وأن لا معبود بحق إلا الله، لأن كل معبود سوى الله فهو معبود بالباطل، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} (1) .
__________
(1) سورة لقمان الآية 30(88/47)
س: عندما أغتسل بماء مقروء فيه هل من الإهانة لكلام الله أن أترك الماء يجري مع المجاري، أكرمكم الله؟
ج: الأفضل للإنسان إذا استحم بماء مقروء فيه من القرآن أن يجعله في وعاء خاص، ويريقه في مكان طاهر خارج دورات المياه، هذا أكمل وأفضل وأحوط.(88/47)
س: إذا مر رجل بين يدي المصلي، ولم يستطع المصلي رده وذلك لسرعة مروره فهل يقطع صلاته؟
ج: النبي - صلى الله عليه وسلم - أولا حذر ونهى عن المرور بين يدي المصلي وسترته، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه (1) » متفق عليه، قال أبو النضر أحد رواة الحديث: لا أدري قال أربعين يوما، أو شهرا، أو سنة، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان (2) » أخرجه الإمام
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (510) ، صحيح مسلم الصلاة (507) ، سنن الترمذي الصلاة (336) ، سنن النسائي القبلة (756) ، سنن أبي داود الصلاة (701) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (945) ، مسند أحمد (4/169) ، موطأ مالك النداء للصلاة (365) ، سنن الدارمي الصلاة (1417) .
(2) صحيح البخاري بدء الخلق (3275) ، صحيح مسلم الصلاة (505) ، سنن النسائي القسامة (4862) ، سنن أبي داود الصلاة (700) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (954) ، مسند أحمد (3/63) ، موطأ مالك النداء للصلاة (364) ، سنن الدارمي الصلاة (1411) .(88/47)
مسلم، بمعنى دافع قدر الاستطاعة لكن إذا فلت منك ومر بسرعة تحمل هو الإثم، ولا شيء عليك لكن شريطة أن تكون هناك سترة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، أما إذا صلى من غير سترة فأنت والمار كلاكما آثمان.(88/48)
من فتاوى
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
قبض اليدين وإرسالهما في الصلاة
إرسال اليدين في الصلاة(88/49)
السؤال السادس من الفتوى رقم (181)
س6: هل تصح صلاة المرسل يده في الصلاة، وهل يصح الاقتداء به وبمن يقبض يديه، وهل الإرسال يكفر الإنسان، وهل قبض اليد بعد الركوع أولى أم الإرسال، وأي ذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
ج6: السنة وضع اليد اليمنى على اليسرى لما روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: " كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى " وفي رواية لمسلم «ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى (1) »
__________
(1) مسلم 1 \301 برقم (401) ، وأبو داود 1 \589 برقم (963) ، والنسائي 2 \126 برقم (889) ، وابن خزيمة 1 \243 برقم (480) .(88/49)
وقد وردت أحاديث وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى من طرق متعددة، فمن ذلك ما أخرجه الترمذي وابن ماجه عن قبيصة بن هلب عن أبيه، قال الترمذي بعد إخراجه: حديث حسن، وعند ابن عبد البر في التمهيد والاستذكار عن غطيف بن الحارث، وعند الدارقطني عن حذيفة بن اليمان، وعن أبي الدرداء عند الدارقطني مرفوعا، وعند ابن أبي شيبة مرفوعا، وعند أحمد والدارقطني عن جابر، وعند أبي داود عن عبد الله بن الزبير، وعند البيهقي عن عائشة وقال: صحيح، وعند الدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة، وعند أبي داود عن الحسن مرسلا، وعنده أيضا عن طاوس مرسلا، وعند النسائي وابن ماجه عن ابن مسعود، قال ابن سيد الناس: رجاله رجال الصحيح، قال الحافظ في الفتح: إسناده حسن، وقال الترمذي في جامعه بعد سياقه لحديث قبيصة عن أبيه: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة، ورأى بعضهم أن يضعها فوق السرة، ورأى بعضهم أن يضعها تحت السرة، وكل ذلك واسع عندهم. انتهى كلام الترمذي (1)
إذا تقرر أن السنة هي وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى فإذا صلى شخص وهو مرسل يديه فصلاته صحيحة؛ لأن وضع اليمنى على اليسرى ليس من أركان الصلاة ولا من شروطها ولا من واجباتها، وأما
__________
(1) سنن الترمذي 2 \32، 33 برقم (252) .(88/50)
اقتداء من يضع يده اليمنى على اليسرى بمن يرسل يديه فصحيح، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من قال من المتفقهة أتباع المذاهب أنه لا يصح الائتمام بمن يخالفه إذا فعل أو ترك شيئا يقدح في الصلاة عند المأمومين فمقالته توقعه في مذاهب أهل الفرقة والبدعة من الروافض والمعتزلة والخوارج الذين فارقوا السنة ودخلوا في الفرقة والبدعة ... ) ، قال: (ولهذا آل الأمر ببعض الضالين إلى أنه لا يصلي خلف من ترك الرفع أول مرة، وآخر لا يصلي خلف من يتوضأ من المياه القليلة، وآخر لا يصلي خلف من لا يتحرز من يسير النجاسة المعفو عنه، إلى أمثال هذه الضلالات التي توجب أيضا أنه لا يصلي أهل المذهب الواحد بعضهم خلف بعض، ولا يصلي التلميذ خلف أستاذه، ولا يصلي أبو بكر خلف عمر، ولا علي خلف عثمان، ولا يصلي المهاجرون والأنصار بعضهم خلف بعض ... ) ، قال: (ولا يخفى على مسلم أن هذه مذاهب أهل الضلال وإن غلط فيها بعض الناس) ، وقال أيضا: (وقد اتفق سلف الأمة من الصحابة والتابعين على صلاة بعضهم خلف بعض مع تنازعهم في بعض فروع الفقه وفي بعض واجبات الصلاة ومبطلاتها، ومن نهى بعض الأمة عن الصلاة خلف بعض لأجل ما يتنازعون فيه من موارد الاجتهاد فهو من جنس أهل البدع والضلالة) انتهى المقصود.
وإذا صلى شخص مرسلا يديه في حال قيامه فقد ترك سنة وتارك(88/51)
السنة ليس بكافر.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي(88/52)
السؤال السادس من الفتوى رقم (949)
س6: نسأل عن حكم إرسال اليدين أو قبضهما بوضع إحداهما على الأخرى؟
ج6: سبق أن ورد إلى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - سؤال مشابه لهذا السؤال فنكتفي بإجابته لتكون إجابة على السؤال وفيما يلي نص الإجابة:
السنة وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى لما روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى (1) » وفي رواية لمسلم: «ثم وضع يده اليمنى على ظهر يده اليسرى (2) » . وقد وردت أحاديث وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى من طرق متعددة فمن ذلك ما أخرجه الترمذي وابن ماجه عن
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (707) ، مسند أحمد بن حنبل (5\336) ، موطأ مالك النداء للصلاة (378) .
(2) صحيح مسلم الصلاة (401) ، مسند أحمد (4/319) ، سنن الدارمي الصلاة (1357) .(88/52)
قبيصة بن هلب عن أبيه قال الترمذي بعد إخراجه: حديث حسن. وعن ابن عبد البر في التمهيد والاستذكار عن غطيف بن الحارث وعند الدارقطني عن حذيفة بن اليمان، وعن أبي الدرداء عند الدارقطني مرفوعا وابن أبي شيبة مرفوعا، وعند أحمد والدارقطني عن جابر، وعند أبي داود عن عبد الله بن الزبير، وعند البيهقي عن عائشة وقال: صحيح. وعند الدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة، وعند أبي داود عن الحسن مرسلا، وعنده أيضا عن طاوس مرسلا، وعند النسائي وابن ماجه عن ابن مسعود، قال ابن سيد الناس: رجاله رجال الصحيح، قال الحافظ في الفتح: إسناده حسن، وقال الترمذي في جامعه بعد سياقه لحديث قبيصة بن هلب عن أبيه: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة، ورأى بعضهم أن يضعها فوق السرة، ورأى بعضهم أن يضعها تحت السرة، وكل ذلك واسع عندهم انتهى كلام الترمذي.
إذ تقرر أن السنة هي وضع اليمنى على اليسرى فإذا صلى شخص وهو مرسل يديه فصلاته صحيحة؛ لأن وضع اليد اليمنى على اليسرى ليس من أركان الصلاة ولا من شروطها ولا من واجباتها. وأما اقتداء من يضع يده اليمنى على اليسرى بمن يرسل يديه فصحيح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من قال من المتفقهة أتباع المذاهب أنه لا يصح الائتمام بمن يخالفه إذا فعل أو ترك شيئا يقدح في الصلاة عند المأمومين فمقالته توقعه في مذاهب أهل الفرقة والبدعة من الروافض والمعتزلة والخوارج الذين فارقوا السنة ودخلوا في الفرقة والبدعة) .(88/53)
قال: (ولهذا آل الأمر ببعض الغالين إلى أنه لا يصلي خلف من ترك الرفع أول مرة وآخر لا يصلي خلف من يتوضأ من المياه القليلة، وآخر لا يصلي خلف من لا يتحرز من يسير النجاسة المعفو عنه، إلى أمثال هذه الضلالات التي توجب أيضا أنه لا يصلي أهل المذهب الواحد بعضهم خلف بعض، ولا يصلي التلميذ خلف أستاذه، ولا يصلي أبو بكر خلف عمر، ولا علي خلف عثمان، ولا يصلي المهاجرون والأنصار بعضهم خلف بعض) ، قال: (ولا يخفى على المسلم أن هذا من مذاهب أهل الضلال وإن غلط فيه بعض الناس. وقال أيضا: وقد اتفق سلف الأمة من الصحابة والتابعين على صلاة بعضهم خلف بعض مع تنازعهم في بعض فروع الفقه، وفي بعض واجبات الصلاة ومبطلاتها، ومن نهى بعض الأمة عن الصلاة خلف بعض لأجل ما يتنازعون فيه من موارد الاجتهاد فهو من جنس أهل البدع والضلالة) انتهى المقصود.
وإذا صلى شخص مرسلا يديه في حال قيامه فقد ترك سنة وتارك السنة ليس بكافر.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي(88/54)
السؤال الثاني من الفتوى رقم (1257)
س2: بعض العلماء يسدل في الصلاة، وبعضهم يقبض، وبعض من يقبض لا يصلي وراء من يسدل، وبعض من يسدل لا يصلي وراء من يقبض فأفتونا بذلك؟
ج2: ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان يضع يده اليمنى على يده اليسرى في الصلاة فريضة أو نافلة (1) » وبهذا قال جمهور الفقهاء وهو الصواب، وكره مالك ذلك في الفريضة للاعتماد، وأجازه في النافلة وذكر أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد في كتابه المقدمات أن وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة من مستحبات الصلاة، وقال: ومعنى كراهية مالك له أن يعد من واجبات الصلاة ا. هـ، ومع ذلك فاقتداء من يسدل بمن يقبض واقتداء من يقبض بمن يسدل كلاهما صحيح باتفاق العلماء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الله بن قعود عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أخرجه أحمد 5 \226، ومسلم 1 \301 كتاب الصلاة باب وضع اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الإحرام، وأبو داود 1 \201 كتاب الصلاة باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، والترمذي 2 \32 كتاب الصلاة باب ما جاء في وضع اليمين علي الشمال في الصلاة، والنسائي 2 \26 كتاب الافتتاح باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وابن ماجه 1\266 كتاب إقامة الصلاة باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة.(88/55)
السؤال الأول من الفتوى رقم (1275)
س: (أ) المسلمون في المدينة يمنعون الناس عن قبض اليدين في الصلاة في مسجدهم الجامع هل يجوز لأهل السنة ترك القبض ليصلوا في مسجدهم أم يتركوا مسجدهم ويصلون في بيوتهم منفردين مع قبض اليدين؟
(ب) مسلم وضع يده على صدره وهو يصلي ومسلم آخر يصلي مسدل اليدين أيهما أحسن؟
ج: وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة فوق الصدر حال القيام فيها من سنن الصلاة، فينبغي لمن تيسر له ذلك أن يحرص عليه رجاء الأجر والثواب في اتباع هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكن إن اعترض عليه المصلون بالمسجد وخشي أن تحدث فتنة من وضع يده اليمنى على اليسرى في الصلاة وأن ينشأ عن ذلك ضرر ترك القبض أرسل يديه اتقاء للفتنة والضرر، ولا يجوز له أن يتخلف عن الجماعة ويصلي في بيته ما دام الإمام لا يعرف عنه ما يوجب كفره؛ لأن الصلاة مع الجماعة في المسجد فرض على الصحيح، وبهذا يعرف أن من يصلي واضعا يده اليمنى فوق اليسرى فوق صدره خير وأحسن صلاة ممن يصلي مرسلا يديه إلى جنبيه مع كون صلاتهم جميعا صحيحة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز(88/56)
البحوث(88/57)
موقف علماء الدعوة من المرجئة
لفضيلة د. عبد الله بن محمد بن عبد العزيز السند
الحمد لله، وبعد، فقد عنيت الدراسة بإظهار موقف علماء الدعوة من أحد أهم الفرق المخالفة لأهل السنة، وهي فرقة المرجئة، وتحقيقا لذلك جاءت الدراسة في تمهيد وأربعة فصول، فأما التمهيد فهو في بيان المراد بمصطلح علماء الدعوة الذين تناولتهم الدراسة، وأنهم أولئك العلماء الذين حملوا لواء الدعوة التي أحيا معالمها الإمام محمد بن عبد الوهاب حتى نهاية القرن الرابع عشر، وفي الفصل الأول التعريف بالمرجئة، ونشأتها، وفرقها، وتحرر ذلك في مباحث ثلاثة، المبحث الأول: التعريف بالمرجئة، وفيه أنهم القائلون بإخراج العمل عن الإيمان، والمبحث الثاني: نشأة الإرجاء، وفيه أنه ظهر في عهد أواخر الصحابة، والمبحث الثالث: فرق المرجئة، وفيه بيان منزلة المرجئة بين الفرق الثلاث والسبعين، وأنها من الفرق الأصول، ثم ذكر عدد فرق المرجئة، الذين جاء ذكرهم عند علماء الدعوة، وفي الفصل الثاني آراء المرجئة في مسائل الإيمان، وسيقت هذه الآراء من خلال أربعة مباحث، المبحث الأول: مسمى الإيمان عند المرجئة، وفيه عرض لمقالة أشهر فرق المرجئة، وهم مرجئة الفقهاء، وجهمية المرجئة، والكرامية، وفيه إبطال ما ذهبت إليه المرجئة من تعليق الكفر بزوال التصديق، والمبحث الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه عند المرجئة، وفيه شرح اتفاقهم على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأصلهم(88/59)
البدعي الذي أدى إلى هذه المقالة، وهي أن الإيمان شيء واحد لا يتبعض، والمبحث الثالث: حكم الاستثناء عند المرجئة، وفيه حكاية اختلافهم في ذلك بين قائل بالتحريم بناء على دعوى أن الإيمان شيء واحد، ولا يصح الشك فيه، وبين قائل بالوجوب، ومأخذه في ذلك القول بالموافاة، وهي ما مات عليه الإنسان، والمبحث الرابع: مرتكب الكبيرة عند المرجئة، وأن المشهور عندهم هو أنه مؤمن كامل الإيمان؛ بناء على أن الإيمان شيء واحد، وهذا قول فقهاء المرجئة وجهميتهم، وذهبت الواقفة منهم إلى التوقف في حال مرتكب الكبيرة، فقد يعذب وقد يغفر له، وبعض غلاة المرجئة ينسب إليه التكذيب بالعقاب بالكلية، وأنه لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الإيمان طاعة، ثم جاء الفصل الثالث: نقض حجج المرجئة، وفيه عرض لأشهر حججهم، الأولى منها نصوص الوعد، وقد بسط القول جدا في إبطال ما فهموه من هذه النصوص، وفي الحجة الثانية نقض قولهم أن الإيمان شيء واحد إذا ذهب بعضه ذهب كله، وفي الحجة الثالثة نقض استدلالهم على مذهبهم باللغة، وفي الحجة الرابعة نقض اعتمادهم على دعوى المجاز، وفي الفصل الرابع: حكم المرجئة عند علماء الدعوة، وفيه ما جاء من ذم للمرجئة في النصوص وعند السلف، وبيان متى يحكم بكفر مقالتهم، والفرق بين تكفير المقالة وتكفير القائل، ثم جاءت الخاتمة متضمنة أهم نتائج الدراسة من مخالفة المرجئة للحق، وجهود العلماء في إبطال مذهبهم، ودور علماء الدعوة في هذا الباب امتدادا لما عليه الأئمة المتقدمون.(88/60)
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، ثم أما بعد:
فإن الرد على المخالفين في أصول الاعتقاد من الأمور المتحتمات على من من الله عليهم بالعلم والهدى، واتباع السنة، ويتأكد الأمر إن كانت المخالفة متعلقة بما علق الله تعالى به السعادة والشقاوة، والإسلام والكفر، والإيمان والنفاق، وإن من أحق من تبين مخالفته، ويكشف غلطه أهل الإرجاء، فإن مقالتهم من أسوأ ما وقع في الإيمان، فقد تركت الدين رقيقا، وجرأت عليه الجاهلين، ولما كان لعلماء الدعوة من جهود مهمة في هذا الباب، فقد رغبت في إبرازها للأسباب التالية:
أولا: الأهمية التي يستحقها هذا الموضوع، كما تقدم الإيماء إليه.
ثانيا: أن عامة ما حرره علماء الدعوة في هذه المسائل مخبأ في بطون المجاميع والمصنفات، وإظهار ذلك للناظرين مما يخدم العلم، وييسر على الباحثين الوقوف عليه، فيوفر الجهد، ويحفظ الوقت.
ثالثا: أن إظهار موقف علماء الدعوة من المرجئة، ونقضهم لمقالة الإرجاء هو في الحقيقة نصرة للحق، وإحياء للسنة، وإماتة للبدعة.
هذا بعض أهم ما دفعني لإعداد هذا البحث، وقد دارت مسائله في تمهيد، وأربعة فصول:(88/61)
تمهيد: في بيان المراد بعلماء الدعوة.
الفصل الأول: التعريف بالمرجئة، ونشأتها، وفرقها. وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: التعريف بالمرجئة.
المبحث الثاني: نشأة الإرجاء.
المبحث الثالث: فرق المرجئة.
الفصل الثاني: آراء المرجئة في مسائل الإيمان. وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: مسمى الإيمان عند المرجئة.
المبحث الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه عند المرجئة.
المبحث الثالث: الاستثناء في الإيمان عند المرجئة.
المبحث الرابع: مرتكب الكبيرة عند المرجئة.
الفصل الثالث: نقض حجج المرجئة.
الفصل الرابع: حكم المرجئة عند علماء الدعوة.
الخاتمة: ثم فهرس للمراجع التي تم النقل عنها أو الإحالة إليها فحسب.
هذه هي خطة البحث، وأما منهج إعداده، فيتلخص فيما يلي:
1 - عزو الآيات القرآنية إلى سورها.
2 - تخريج الأحاديث، فما كان منها في الصحيحين أو أحدهما اقتصرت على تخريجها منه، وإلا خرجته من مسند الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربع، فإن لم أجده فيها وهو قليل خرجته مما تيسر من كتب السنة، والتخريج يكون لأول مرة يرد فيها الحديث، فما كان مهملا من ذلك فمعناه أنه سبق تخريجه.
3 - المقصود من البحث هو إظهار ما حرره علماء الدعوة عن المرجئة،(88/62)
ونقضهم لمقالة الإرجاء، ولذا اكتفيت بما جاء عنهم أو نقلوه عن غيرهم، ولم أخرج عن هذا الشرط إلا في النادر، وبقدر ما يخدم البحث، وقيدت في الحواشي جملة من المراجع لمن رام التوسع والتوثيق.
4 - إذا قلت الإمام أو إمام الدعوة، فهو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.
وأخيرا فهذا هو جهد المقل، وقد بذل الباحث ما وسعه، والله الموفق سبحانه، وهو الغفور الرحيم، والحمد لله رب العالمين.(88/63)
تمهيد في بيان المراد بعلماء الدعوة
يقع هذا المصطلح (علماء الدعوة) على أولئك العلماء الذين حملوا لواء الدعوة السلفية التي أحيا معالمها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، واشتهر هذا الوصف عند أتباع الدعوة، بحيث صار علما على كل من انضم تحت لواء الدعوة.
ولما كانت دعوة الإمام بدأت في النصف الثاني من القرن الحادي عشر (1) وكان أتباعها قد كثروا على مر السنين، وتباعد الأقطار، فإن دائرة هذا البحث ستتناول ما في المصنفات المطبوعة من كتاب ورسالة - حسب الجهد والطاقة - لكل ما جاء عن علماء الدعوة في القطر النجدي موطن الدعوة، من بدايتها حتى نهاية القرن الرابع عشر الهجري عن الإرجاء وأهله.
__________
(1) انظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره 43 - 45.(88/63)
الفصل الأول: التعريف بالمرجئة، ونشأتها، وفرقها.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: التعريف بالمرجئة.
المبحث الثاني: نشأة الإرجاء.
المبحث الثالث: فرق المرجئة.(88/65)
المبحث الأول: التعريف بالمرجئة
نقل الشيخ حسن بن حسين بن الإمام عن ابن القيم رحمه الله ما حكاه حرب صاحب الإمام أحمد في شرح مذهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة، فكان مما جاء فيه: (ومن زعم أن الإيمان قول بلا عمل، فهو مرجئ، ومن زعم أن الإيمان هو القول، والأعمال شرائع، فهو مرجئ، ومن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص، فقد قال بقول المرجئة، ومن لم ير الاستثناء في الإيمان، فهو مرجئ، ومن زعم أن إيمانه كإيمان جبريل والملائكة، فهو مرجئ، ومن زعم أن المعرفة تقع في القلب وإن لم يتكلم بها، فهو مرجئ)
وجاء في التوضيح قول ابن عيينة رحمه الله: (المرجئة يسمون ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم) (1)
وذكر الشيخ حسين ابن غنام رحمه الله أن اسم المرجئة مأخوذ من الإرجاء، بمعنى التأخير (2) يقال: أرجأه إذا أخره، قال تعالى:
__________
(1) التوضيح 97، وقول ابن عيينة رواه عبد الله في السنة 1\347 - 348 رقم 745.
(2) راجع: معجم مقاييس اللغة 2\495، ولسان العرب 1\83، والقاموس المحيط51، ومختار الصحاح 98 - 99.(88/67)
{قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} (1) أي: أمهله، وأخره
ولقبت المرجئة بذلك؛ لأنهم يرجون العمل عن الاعتقاد، أي يؤخرون عنه.
وقيل: سموا بذلك؛ لأنهم يقولون: لا تضر مع الإيمان المعصية، كما لا تنفع الطاعة مع الكفر
وابن غنام رحمه الله متابع للشهرستاني، لكنه اقتصر على قولين من أربعة أقوال حكاها الشهرستاني في سبب التسمية بالإرجاء (2)
والحاصل مما تقدم أن وصف الإرجاء يقع على من أخر العمل عن الإيمان، فأخرجه منه، واكتفى بالقول، أو بالمعرفة، أو جعل ترك الفرائض كسائر المعاصي، وما يتبع ذلك من أغلاط في مسائل الإيمان من منع زيادته ونقصانه، أو عدم الاستثناء فيه تعليلا بالشك، أو إن إيمان الصالحين والطالحين سواء، ونحو ذلك مما سيأتي تفصيله في موضعه من هذه الدراسة بعون الله تعالى.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 111
(2) انظر: الملل والنحل 1\137.(88/68)
المبحث الثاني: نشأة الإرجاء
ذكر إمام الدعوة رحمه الله نقلا عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه كلما تأخر عصر النبوة كثر التفرق والاختلاف، ولهذا لم تحدث في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه بدعة ظاهرة، فلما قتل تفرقوا، وحدثت بدعتان: بدعة الخوارج، وبدعة الروافض.
ثم في إمارة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وعبد الملك بن مروان حدثت بدعة المرجئة، والقدرية.
ثم لما كان في آخر عصر التابعين حدثت بدعة الجهمية، وبدعة المشبهة (1)
ويقول صاحب التوضيح: وهذه المسائل أعني مسائل الإيمان والإسلام والكفر والنفاق مسائل عظيمة جدا، فإن الله عز وجل علق بهذه الأشياء السعادة والشقاوة، واستحقاق الجنة والنار، والاختلاف في مسمياتها وقع في هذه الأمة.
وهو كخلاف الخوارج للصحابة، حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في دائرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار، واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم.
ثم حدث بعد خلاف المعتزلة: خلاف المرجئة، القائلين إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان (2)
__________
(1) انظر: مسائل لخصها الإمام 168 - 169، وراجع: منهاج السنة 6\231.
(2) التوضيح 127، وراجع: شرح الأصبهانية 2\589 - 590 (145ت مخلوف) ، وجامع العلوم والحكم 1\114.(88/69)
وذكر الشيخ محمد بن عبد اللطيف رحمه الله أن أول بدعة حدثت بدعة الخوارج، ثم خرجت المعتزلة، ثم تتابعت البدع وكثرت، كبدعة القدرية، والمرجئة، والجهمية، وغير ذلك من البدع (1)
ومن النقول المتقدمة الكاشفة عن زمن ظهور المرجئة ونشأة الإرجاء يتبين أنها سبقتها بدعتا الخوارج والمعتزلة، وأنها تزامن ظهورها مع بدعة القدرية في عصر صغار الصحابة، كعبد الله بن الزبير رضي الله عنه، الذي مات مقتولا سنة 73هـ (2) في زمن عبد الملك بن مروان المتوفى سنة 86 هـ (3)
والقدرية التي تزامن ظهورها مع بدعة الإرجاء هم القدرية الأولى، وهم النفاة المنكرون للقدر، الذين يعظمون الأمر والنهي، والوعد والوعيد، فهم يلتقون مع المرجئة من جهة التقابل (4)
__________
(1) انظر: الدرر السنية 14\316.
(2) انظر: البداية والنهاية 12\177.
(3) انظر: البداية والنهاية 12\376، 396.
(4) راجع: منهاج السنة 3\82، والفتاوى 17\446.(88/70)
المبحث الثالث: فرق المرجئة
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة (1) »
__________
(1) رواه أحمد 14\124 رقم 8396، 19\241 - 242 رقم 12208، وأبو داود: كتاب السنة، باب شرح السنة 5\4 - 6 رقم 4596، 4597، والترمذي: كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة 5\25 - 26 رقم 2641، 2642، وابن ماجه: باب افتراق الأمم 2\1321 رقم 3991، 3992، وهو كما يقول شيخ الإسلام: ''صحيح مشهور في السنن والمسانيد''. الفتاوى 3\345، وانظر: قرة عيون الموحدين 19.(88/70)
وقد اختلفت أنظار علماء الدعوة في أصول هذه الفرق الثلاث والسبعين، مع تتابعهم على عد المرجئة واحدة من تلك الفرق الأصول.
فالشيخ عبد الله بن الإمام يرى أن أصول هذه الفرق هم: الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية (1)
وعند الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن أن أصولها ست فرق: الروافض، والخوارج، والمرجئة، والجهمية، والقدرية، والجبرية.
وأن كل فرقة من هذه الفرق تشعبت على اختلاف نحلهم ومللهم، وتشعب آراؤهم وأهوائهم (2)
ويقول الشيخ حسين ابن غنام: والحاصل أن الفرق الكبار من أمة الإجابة ثمان: الأولى فرقة الحق أهل الإسلام والإيمان، والمعتزلة، والشيعة، والمرجئة، والجبرية، والخوارج، والنجارية، والمشبهة، فهؤلاء الذين سلكوا أقبح المناهج (3)
وما ذهب إليه الشيخ عبد الله موافق لما جاء عن بعض السلف، كعبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط رحمهما الله تعالى من أن أصول الثنتين
__________
(1) انظر: الدرر السنية 10\243، ومجموعة الرسائل 1\195، وانظر: منهاج التأسيس 216.
(2) انظر: الدرر السنية 12\548، وانظر منها أيضا 13\422.
(3) العقد الثمين 225.(88/71)
والسبعين فرقة هي أربع: الخوارج، والروافض، والمرجئة والقدرية
هذا من حيث كون المرجئة من الفرق الأصول التي تعود إليها سائر الفرق، وأما من حيث تصنيف علماء الدعوة لفرق المرجئة نفسها، فلم يكن هذا من مقصدهم أثناء حديثهم عن مقالة المرجئة، وإنما يأتي ذكر لبعض هذه الفرق ضمن شرحهم لغلط المرجئة في بعض مسائل الإيمان، ولا يستثنى من ذلك حسبما وقفت عليه سوى الشيخ حسين ابن غنام الذي صنف المرجئة إلى خمس فرق، وذلك في قوله: وقد افترقوا خمس فرق:
اليونسية: أصحاب يونس النميري، قالوا: الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع، ولا يضر مع ذلك ترك الطاعات
والعبدية: قبحهم الله وقبح مقالتهم
والغسانية: أصحاب غسان الكوفي، يقولون: إن الله فرض الحج، ولا ندري(88/72)
أهذه الكعبة أم غيرها؟ وبعث محمدا ولا ندري أهو الذي بالمدينة أو غيره؟ (1)
والثوبانية: أصحاب أبي ثوبان المرجئ
والتومنية: أصحاب أبي معاذ التومني، ومن مقالاتهم: أن السجود للصنم ليس كفرا، بل علامة على الكفر وتبعهم ابن الرواندي وبشر المريسي قبحهم الله تعالى (2)
والناظر في هذا الشرح يعلم أنه تلخيص شديد لما ذكره الشهرستاني أثناء عرضه مقالة المرجئة الخالصة (3) مع أن ابن غنام رحمه الله قد خالفه في أمرين:
__________
(1) راجع عنهم: مقالات الإسلاميين 1\221، والفرق بين الفرق 203، والملل والنحل 1\13.
(2) العقد الثمين 231.
(3) انظر: الملل والنحل 1\138 - 141.(88/73)
أولا: أنه عد المرجئة من أصول الفرق، بينما الشهرستاني لا يرى ذلك (1)
ثانيا: أنه جعل المرجئة هي هذه الفرق الخمس فحسب، وعند الشهرستاني أن هذه الخمس إنما هي المرجئة الخالصة
هذا ما أمكن الوقوف عليه من حديث علماء الدعوة عن أصول الفرق، وموقع المرجئة من ذلك، ثم إن الناظر يجد في أثناء بحوثهم لمسائل الإيمان والرد على المخالفين حديثا عن فرق عديدة تدخل في دائرة الإرجاء، منها:
مرجئة الفقهاء (2) ومتكلمي المرجئة (3) والجهمية (4) والأشعرية (5) والواقفة (6) والكرامية (7)
وسيأتي بعون الله تعالى تفصيل ما قالوه عن هذه الفرق عند شرح مقالة المرجئة في مسمى الإيمان.
__________
(1) انظر: الملل والنحل 1\6.
(2) انظر: مسائل لخصها الإمام 136 - 137، والدرر السنية 1\111، 2\66، والرسائل الشخصية 122.
(3) انظر: مسائل لخصها الإمام 136 - 137.
(4) انظر: مصباح الظلام 113، 162، 249، والدرر السنية 1\490.
(5) انظر: الدرر السنية 1\490، 11\354، 356، 13\401، ومصباح الظلام 113.
(6) انظر: مسائل لخصها الإمام 136 - 137.
(7) انظر: مصباح الظلام 162، 249، والسيف المسلول 109.(88/74)
الفصل الثاني: آراء المرجئة في مسائل الإيمان.
وفيه أربعة مباحث.
المبحث الأول: مسمى الإيمان عند المرجئة.
المبحث الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه عند المرجئة.
المبحث الثالث: الاستثناء في الإيمان عند المرجئة.
المبحث الرابع: مرتكب الكبيرة عند المرجئة.(88/75)
المبحث الأول: مسمى الإيمان عند المرجئة
يدخل ضمن وصف الإرجاء فرق متعددة سبق تعداد ما ذكره علماء الدعوة منها (1) وهنا شرح علماء الدعوة لمقالة المرجئة في مسمى الإيمان، مع ملاحظة ما سبق التنبيه عليه من أن البحث في ذلك عند علماء الدعوة اقتصر على ما يحقق الرد على المخالفين في مسألة الإيمان، ولذلك سيدور الحديث هنا عن مسمى الإيمان عند الفرق التالية:
__________
(1) في مبحث فرق المرجئة.(88/77)
أولا: مرجئة الفقهاء.
جاء التصريح بهذه التسمية عند إمام الدعوة (1) ويسمون أيضا فقهاء المرجئة (2) ومنهم أبو حنيفة ومن تبعه، وهم ينازعون السلف فيمن قال، ولم يفعل (3) ويرون أن الأعمال ليست من الإيمان.
فهم يخرجون أعمال الجوارح من الإيمان، وإن كانوا مع ذلك يقولون بالتغليظ في الأعمال (4)
يقول إمام الدعوة: «وبسبب الغفلة عن التجزي غلط أبو حنيفة وأصحابه في زعمهم أن الأعمال ليست من الإيمان»
__________
(1) انظر: الدرر السنية 1\111.
(2) انظر: مسائل لخصها الإمام 136.
(3) انظر: مسائل لخصها الإمام 136.
(4) انظر: فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 1\245، 246.(88/77)
وهم يخرجون أيضا عمل القلب من الإيمان، فقد نقل إمام الدعوة عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله: «وعند الجهمية الإيمان مجرد تصديق القلب لا عمله (1) وعند فقهاء المرجئة: قول اللسان، مع التصديق، وعلى القولين: أعمال القلوب ليست من الإيمان عندهم» (2)
والحاصل مما تقدم أن مسمى الإيمان عند هؤلاء هو قول القلب، وقول اللسان، وليس منه عمل القلب، ولا عمل الجوارح.
__________
(1) كذا في مسائل، وفي المنهاج: «مجرد تصديق القلب وعلمه» .
(2) انظر: مسائل لخصها الإمام 137، وراجع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في: منهاج السنة 5\278 - 288.(88/78)
ثانيا: جهمية المرجئة.
هذا الوصف وإن لم أقف عليه عند علماء الدعوة، لكنهم ذكروا قول من يقول إن الإيمان مجرد التصديق، كالجهمية، والأشعرية، وكلهم يشملهم وصف جهمية المرجئة
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: «ومن أهل البدع: المرجئة، الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق، وإنه شيء واحد لا يتفاضل» (1)
__________
(1) الدرر السنية 1\490.(88/78)
والمرجئة هنا هم جهمية المرجئة، خلافا لمرجئة الفقهاء، والكرامية، وإن كان الجميع يقول إن الإيمان لا يتفاضل.
وقد أفاد الشيخ عبد اللطيف في موضع آخر، ومثله الشيخ عبد الرحمن بن قاسم أن القول بأن الإيمان هو التصديق هو قول الجهمية
كما أفاد الشيخ عبد الرحمن بن حسن أنه قول الأشاعرة (1) وكما هو معلوم أنهم متفقون على هذا، فإن الأشاعرة قد أخذوا مقالتهم في الإيمان عن جهم بن صفوان.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: «وكل صاحب بدعة لا يألف إلا كتب من هو مثله، كالأشاعرة، فإنهم لا يألفون من التفاسير وغيرها إلا تفاسير من هو مثلهم في المعتقد، ممن يؤولون النصوص، ويصرفها عن مدلولها اللائق بجلال الله وعظمته، ويخالف أهل السنة في الإيمان، وحكمة الرب تعالى، ويقول بالجبر، وهذه البدع أخذوها عن أتباع جهم بن صفوان» (2)
ثم إن جهما ومن تبعه متفقون على أن النطق بالشهادتين للقادر عليه ليس شرطا في الحكم بالإسلام (3)
__________
(1) انظر: فتح المجيد 468، وقرة عيون الموحدين 53، والدرر السنية 13\401.
(2) الدرر السنية 11\354.
(3) انظر: الدرر السنية 1\181.(88/79)
وإن كان بعض من تابعه في الإيمان قد يخالفه في هذه المسألة، ويجعل القول والعمل من شرائط الإيمان.
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله بعد كلام له: مذهب الجهمية القائلين بأن الإيمان هو التصديق، ولم يدخلوا التلفظ والعمل في مسماه.
وبعضهم قال: هي شرائط، وليست من المسمى.
وكلام أهل السنة في تبديعهم، وتضليلهم، وتفسيقهم معروف مشهور
ويقول: «وقد شنع سلف الأمة وأئمتها على من قال: إن الإيمان هو التصديق، وبدعوه، وضللوه، وذكروا لقوله من اللوازم المكفرة ما لا يتسع له هذا الجواب» (1)
والحاصل من العرض المتقدم عن مذهب جهمية المرجئة في مسمى الإيمان يتبين أنهم يرونه مجرد تصديق القلب، وليس منه عمل القلب، ولا قول اللسان، ولا عمل الجوارح.
ومنهم من يجعل القول أو العمل من شرائط الإيمان، بمعنى أن من لم
__________
(1) مصباح الظلام 215.(88/80)
يأت به لا يكون مؤمنا، وهذا في الحقيقة لا يخرج عن مقالة الجهمية؛ لأنهم يتفقون على أن كفر من كانت هذه حاله راجع لزوال التصديق من قلبه.
وفي بطلان هذه الدعوى، وهي تعليق الكفر بزوال التصديق ينقل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله: «وهذا أمر خالفوا به الحس، والعقل، والشرع، وما أجمع عليه طوائف بني آدم السليمي الفطرة، وجماهير النظار» .
فإن الإنسان قد يعرف أن الحق مع غيره، ومع ذلك يجحد ذلك؛ لحسده إياه، أو لطلب علوه عليه، أو لهوى النفس، ويحمله ذلك الهوى أن يعتدي عليه، ويرد ما يقول بكل طريق، وهو في قلبه يعلم أن الحق معه.
وعامة من كذب الرسل يعلم أن الحق معهم، وأنهم صادقون؛ لكن إما لحسدهم، وإما لإرادتهم العلو والرياسة، وإما لحبهم دينهم الذي كانوا عليه، وما يحصل لهم به من الأغراض، كأموال ورياسة وصداقة وغير ذلك، فيرون في اتباع الرسل ترك الأهواء المحبوبة إليهم، أو حصول أمور مكروهة إليهم، فيكذبونهم ويعادونهم، فيكونون من أكفر الناس، كإبليس وفرعون، مع علمهم بأنهم على الباطل، والرسل على الحق.
ولهذا لا يذكر الكفار حجة صحيحة تقدح في صدق الرسل، وإنما يعتمدون على مخالفة أهوائهم، كقولهم لنوح: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (1) ومعلوم أن اتباع الأرذلين لا يقدح في صدقه (2)
__________
(1) سورة الشعراء الآية 111
(2) مصباح الظلام 212 - 213، وهو في الفتاوى 7\191.(88/81)
وأما ما أشار إليه الشيخ عبد اللطيف من اللوازم الباطلة المترتبة على مقالة جهمية المرجئة في مسمى الإيمان، فمما أورده علماء الدعوة منها أن يكون إبليس، وفرعون وقومه، واليهود، والذين عرفوا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسول الله كما يعرفون أبناءهم مؤمنين مصدقين، وقد قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} (1) أي يعتقدون أنك صادق {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (2) ، والجحود لا يكون إلا بعد معرفة الحق، وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (3) ، وقال موسى لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} (4) ، وقال تعالى عن اليهود: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (5) .
ولما جاء النفران اليهوديان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسألاه عما دلهما على نبوته، فقالا: نشهد أنك نبي، فقال: فما يمنعكما من اتباعي؟ قالا: إن داود دعا أن
__________
(1) سورة الأنعام الآية 33
(2) سورة الأنعام الآية 33
(3) سورة النمل الآية 14
(4) سورة الإسراء الآية 102
(5) سورة البقرة الآية 146(88/82)
لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود
فهؤلاء أقروا بألسنتهم إقرارا مطابقا لمعتقدهم أنه نبي، ولم يدخلوا بهذا التصديق والإقرار في الإيمان؛ لأنهم لم يلتزموا طاعته، والانقياد لأمره.
ومن هذا كفر أبي طالب، فإنه عرف حقيقة المعرفة أنه صادق، وأقر بذلك بلسانه، وصرح به في شعره، ولم يدخل بذلك في الإسلام.
والحاصل أن المعرفة بالحق لا تستلزم الإيمان ولا العمل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - «والفرج يصدق ذلك أو يكذبه (1) » فجعل التصديق عمل الفرج ما تمناه القلب، والتكذيب تركه لذلك، وهذا صريح في أن التصديق لا يصح إلا بالعمل
وقبل ختم مقالة جهمية المرجئة في مسمى الإيمان ينبه على رجوع إمام الأشاعرة أبي الحسن الأشعري عن هذه المقالة، وإعلانه متابعة الإمام أحمد.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن: «وممن خالفهم - يعني الأشاعرة -
__________
(1) رواه البخاري: كتاب الاستئذان، باب زنى الجوارح دون الفرج 11\28 رقم 6243، ومسلم 16\315 رقم 2657.(88/83)
أبو الحسن الأشعري في كتبه الإبانة، والمقالات، والرسائل، وصرح بأنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل في إثبات الصفات، والإيمان، وغير ذلك من أصول الدين» (1)
وقد نقل الشيخ عبد اللطيف كلام الأشعري في المقالات، ومنه قوله حاكيا ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة: «ويقرون أن الإيمان قول وعمل» .
ثم ختم ذلك بقوله: «فهذه جملة ما يأمرون به، ويعتقدونه، ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب»
وأما في الإبانة، فقد نقل كلامه الشيخ سليمان بن سحمان، ومنه قوله: «قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا عز وجل، وسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل - نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته - قائلون، ولما
__________
(1) الدرر السنية 11\356.(88/84)
خالف قوله مخالفون» (1)
__________
(1) الضياء الشارق 197 - 198، وهو في: الإبانة عن أصول الديانة 34 - 35.(88/85)
ثالثا: الكرامية.
يقول إمام الدعوة شارحا مقالتهم في مسمى الإيمان: «ابن كرام وأتباعه يقولون: إن الإيمان قول باللسان من غير عقيدة القلب، مع أنهم يوافقون أهل السنة أنه مخلد في النار، فذكر أنه لا بد مع النطق بتصديق القلب» (1)
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: «ولم يقل أحد إن الإيمان مجرد اللفظ من غير عقيدة القلب وعلمه وتصديقه، ومن غير عمل بمدلول الشهادتين، وما سمعت أن أحدا قاله إلا طائفة من المتكلمين من الكرامية؛ نازعوا الجهمية في قولهم: إن الإيمان هو التصديق فقط، وقابلوا قولهم بأنه مجرد الإقرار فقط، والقولان مردودان عند الأمة»
فالإيمان عند الكرامية مجرد قول، دون تصديق، أو عمل، لكنهم مع ذلك يحكمون على من لم يأت بالتصديق بالخلود في النار، فوافقوا أهل السنة في الحكم
__________
(1) الدرر السنية 1\111.(88/85)
هذه هي مقالة أشهر فرق المرجئة في مسمى الإيمان كما جاءت عند علماء الدعوة، وهي مقالة مبنية على حجج بسببها وقع القوم في الغلط في مسألة الإيمان، وقد كان لعلماء الدعوة جهد بارز في نقض ما احتجوا به على مقالتهم، وهو ما سيتناوله الفصل الثالث من هذا البحث بعون الله تعالى.(88/86)
المبحث الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه عند المرجئة
مما اتفق عليه المرجئة أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وفي ذلك يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: «ومن أهل البدع: المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق، وإنه شيء واحد لا يتفاضل» (1)
وقد نقل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن (2) عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله: وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهذا ممنوع.
وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله، لم يبق منه شيء.
ثم قالت الخوارج والمعتزلة: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله،
__________
(1) الدرر السنية 1\490، وراجع: الفتاوى 6\479.
(2) في مصباح الظلام 592 - 593.(88/86)
وهو الإيمان المطلق، كما قال أهل الحديث.
قالوا: فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء، فيخلد في النار.
وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تذهب الكبائر، وترك الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان؛ إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء، فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر.
ونصوص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تدل على ذهاب بعضه وبقاء بعضه، كقوله: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان (1) » (2)
فإذا اتفاق المرجئة على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص مبني على هذا الأصل البدعي، وهو أن الإيمان شيء واحد، يستوي فيه البر والفاجر، وهذا الأصل سيأتي بعون الله إبطاله في فصل نقض حجج المرجئة.
__________
(1) رواه الترمذي في الجامع: كتاب صفة جهنم، باب آخر أهل النار خروجا وآخر أهل الجنة دخولا: 7\263 رقم 2601، ونحوه عند مسلم 3\73 رقم 193.
(2) الفتاوى 7\223، ونقله الشيخ عبد اللطيف في: مصباح الظلام 592 - 593.(88/87)
المبحث الثالث: حكم الاستثناء في الإيمان عند المرجئة
وجه سؤال للشيخ حمد بن عتيق عن حكم الاستثناء في الإيمان، فقام رحمه الله بسياق كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة، والمتضمن(88/87)
بيان مقالة المرجئة في هذه المسألة، وأنهم في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه لا يجوز الاستثناء في الإيمان.
والقائلون بذلك هم المرجئة الفقهاء، والجهمية، ونحوهم ممن يجعل الإيمان شيئا واحدا، يعلمه الإنسان من نفسه، كالتصديق بالرب، ونحو ذلك مما في قلبه.
فيقول: أحدهم: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني قرأت الفاتحة، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك عندهم، فهذا هو مستندهم في منع الاستثناء (1)
ولأجل ذلك أحدثوا بدعة السؤال عن الإيمان، فيقول أحدهم: أمؤمن أنت؟
ومرادهم تصحيح معتقدهم أن الإيمان شيء واحد، لا يتعدد، وقد فطن أئمة السنة لمقصدهم، فصاروا يكرهون الجواب، أو يفصلون فيه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد كان أحمد وغيره من السلف مع هذا يكرهون سؤال الرجل غيره: أمؤمن أنت؟ ويكرهون الجواب؛ لأن هذا بدعة أحدثها المرجئة؛ ليحتجوا بها لقولهم، فإن الرجل يعلم من نفسه أنه ليس بكافر، بل يجد قلبه مصدقا لما جاء به الرسول، فيقول: أنا مؤمن، فلما علم السلف مقصودهم صاروا يكرهون
__________
(1) انظر: هداية الطريق 193 - 194، 196، والدرر السنية 1\551 - 552، 555، وراجع: الفتاوى 7\429.(88/88)
السؤال، ويفصلون الجواب.
وهذا لأن لفظ الإيمان فيه إطلاق وتقييد، فكانوا يجيبون بالإيمان المقيد، الذي لا يستلزم أنه شاهد لنفسه بالكمال، ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقول: أنا مؤمن، بلا استثناء، إذا أراد ذلك، لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل، ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء (1)
__________
(1) الفتاوى 7\448، وهو في: هداية الطريق 195، والدرر السنية 1\553 - 554.(88/89)
المذهب الثاني: أنه يجب الاستثناء في الإيمان.
وقال به كثير من المتأخرين من الكلابية وغيرهم، وهو قول طائفة من أهل الحديث (1)
ومع اشتراكهم في القول بوجوب الاستثناء في الإيمان، إلا أنهم مختلفون في مأخذ الوجوب:
فمأخذ المتكلمين هو أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنا وكافرا باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه.
فهذا هو مأخذ هؤلاء ممن يريد أن ينصر ما اشتهر عند أهل السنة والحديث من قولهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ويريد مع ذلك أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود منه، وإنما يشك في المستقبل (2)
وهذا مخالف لمأخذ الموجبين للاستثناء من أهل السنة الذين بنوه
__________
(1) انظر: هداية الطريق 194، 196، والدرر السنية 1\552، 555، والفتاوى 7\429 - 430.
(2) انظر: هداية الطريق 194، والدرر السنية 1\552، والفتاوى 7\430.(88/89)
على أن الإيمان المطلق يتضمن فعل الأوامر، وترك المحرمات، فقول الرجل لنفسه أنا مؤمن فيه تزكية لنفسه بإتيانه بهذا الإيمان المطلق (1)
وقال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله في أثناء نقله كلام شيخ الإسلام ابن تيمية لقول القائلين بوجوب الاستثناء من المتكلمين: " فالمرجئة والجهمية يحرمون الاستثناء في الحال والمآل، وهؤلاء (2) يبيحونه في المآل، ويمنعونه في الحال (3)
والمرجئة الذين يبيحون الاستثناء في المآل، ويحرمونه في الحال هم الكرامية، وكثير من الأشاعرة، منهم الباقلاني، والجويني.
وذهب الأشعري، وابن فورك، ونسب إلى الأكثرين من الأشاعرة إلى أنه يستثنى في الحال والمآل (4)
هذا ما عليه المرجئة في حكم الاستثناء في الإيمان، وأما عامة أهل السنة فإنهم يرون جواز الاستثناء وتركه؛ بناء على مأخذ المستثني، فمن أراد خوف سوء الخاتمة، أو علق الأمر بمشيئة الله تعالى، أو خشي من تزكية النفس بإتيانه بالإيمان المطلق، فإنه يستثني في الإيمان، وأما من جزم بإتيانه بتصديق القلب، أو بالإيمان المقيد الذي لا يستلزم كمال الإيمان، فإنه لا يستثني والله أعلم.
__________
(1) راجع المبحث السابق.
(2) يعني القائلين بالوجوب في الاستثناء من المتكلمين.
(3) هداية الطريق 194، والدرر السنية 1\552.
(4) راجع: الفتاوى 7\437 - 441، وشرح المقاصد 5\216، وشرح الإرشاد 280.(88/90)
المبحث الرابع: مرتكب الكبيرة عند المرجئة
الكبيرة هي ما توعد عليه بغضب، أو لعنة، أو رتب عليه عقاب في الدنيا، أو عذاب في الآخرة (1)
والمشهور عند المرجئة في مرتكب الكبيرة أنه مؤمن كامل الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء، وإن كان معرضا للوعيد، مستحقا للعقاب
وهذا المعتقد عند المرجئة في مرتكب الكبيرة مبني على أصلهم البدعي أن الإيمان شيء واحد، ومن ثم فهو باق على حاله لا يتغير بارتكاب المعصية (2)
وهذه المقالة قال بها من سلك سبيل الإرجاء من الجهمية، والفقهاء
وقد خالف في هذا فريق من المرجئة، يسمون الواقفة، وأشهر من
__________
(1) انظر: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 2\54، والتوضيح 75، وفتح المجيد 418.
(2) انظر: التوضيح 129، ومصباح الظلام 592 - 593، وراجع: الفتاوى 7\223، 403.(88/91)
يمثلهم القاضي أبو بكر الباقلاني الأشعري، وهؤلاء يقولون: لا نعلم أن أحدا من أهل القبلة من أهل الكبائر يدخل النار، بل يجوز أن يدخلها جميع الفساق، ويجوز أن لا يدخلها أحد منهم، ويجوز دخول بعضهم.
ويقولون: من أذنب وتاب لا نقطع بقبول توبته، بل يجوز أن يدخل النار، فهم يقفون في هذا كله، ولهذا سموا الواقفة
وينسب إلى بعض المرجئة التكذيب بالعقاب بالكلية، وأنه لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة
وقد اعتمد المرجئة على ما جاء من نصوص الوعد (1) وحملوا ما يقابلها من نصوص الوعيد على أن المقصود منها الزجر والوعيد دون حقيقة النفي (2)
هذه هي جملة مخالفات المرجئة في مسألة الفاسق، وهي متعلقة باسمه وحكمه، وبموقفهم من نصوص الوعد والوعيد.
فأما احتجاجهم بنصوص الوعد، ودعواهم أن الإيمان شيء واحد،
__________
(1) انظر: الدرر السنية 13\74، 225، ومسائل لخصها الإمام 136 - 137.
(2) انظر: التوضيح 130، 131.(88/92)
فسيأتي بعون الله نقض ذلك في فصل مستقل أثناء نقض حججهم.
وأما تسميتهم لمرتكب الكبيرة باسم الإيمان، ودعواهم أنه كامل الإيمان، فإن هذا مخالف لما دلت عليه النصوص من أن مرتكب الكبيرة لا يسلب عنه اسم الإيمان على الإطلاق، ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وعلى هذا يدل الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة
ثم إن توقف الواقفة من المرجئة في قبول توبة التائب مخالف لما دلت عليه النصوص، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب (1) » وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر (2) » وغير ذلك من النصوص الدالة على أن الذنب والوعيد لا يلحق من تاب توبة نصوحا
__________
(1) رواه مسلم 6\334 رقم 934.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 10\300 رقم 6160، والترمذي في الجامع: 9\192 رقم 3531، وابن ماجه في السنن: 2\438 رقم 4307.(88/93)
وقد تواترت النصوص على أن من أهل الكبائر من يدخل النار، ويمكثون فيها على قدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن برة (1) » وفي لفظ «شعيرة (2) » وفي لفظ «ذرة (3) » وفي لفظ «حبة خردل من إيمان (4) »
وأما دعوى المرجئة أن الوعيد في النصوص محمول على الزجر دون الحقيقة، فهو من التأويلات المستكرهة التي تخرج هذه النصوص عن ظاهرها والمقصود منها، وهو خلاف ما عليه أهل الحق من إبقائها على ظاهرها، وتأويلها تأويلا لا يخرجها عن مقصودها، مع الجمع بينها وبين غيرها مما يفيد القطع بأن الموحد لا يخلد في النار
__________
(1) رواه مسلم 3\73 رقم 193.
(2) رواه مسلم 3\60 رقم 191.
(3) رواه مسلم 3\73 رقم 193.
(4) رواه البخاري: كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال 1\91 رقم 22، ومسلم 3\45 رقم 184.(88/94)
وتحقيق المسألة فيمن نفي عنه الإيمان من المسلمين هو أن النفي يراد به نفي كمال الإيمان الواجب؛ لتركه بعض ما وجب عليه، أو فعله بعض ما حرم عليه، ويبقى معه من الإيمان ما يجعله في دائرة الإسلام، ويكون تحت المشيئة(88/95)
الفصل الثالث: نقض حجج المرجئة
اعتمد المرجئة في نصرة مقالتهم على حجج رأوها دالة على مطلبهم في إخراج العمل من الإيمان، وحصول النجاة لمن أتى بالقول فقط، ومن الحجج التي ذكرها علماء الدعوة عنهم ما يلي:
الحجة الأولى: نصوص الوعد.
احتج المرجئة بنصوص الوعد التي فهموا منها حصول الإيمان لمن جاء بالقول حتى ولو لم يعمل(88/95)
ومن هذه النصوص التي ظاهرها أن من أتى بمجرد القول حرم على النار حديث عتبان رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله (1) » وحديث أنس ومعاذ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، إلا حرمه الله على النار (2) » وحديث عبادة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، حرم الله عليه النار (3) »
ووردت نصوص ظاهرها أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة، كحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل (4) » وحديث أبي
__________
(1) رواه البخاري في مواضع منها: كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت رقم 425، ومسلم 5\223 رقم 33.
(2) رواه مسلم 1\328 رقم 32.
(3) رواه مسلم 1\315 رقم 29.
(4) رواه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) : 6\546 - 547 رقم 3435، ومسلم 1\312 رقم 28.(88/96)
هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله عبد بهما غير شاك فيهما، فيحجب عن الجنة (1) » وحديث معاذ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة (2) » وكما في حديث البطاقة الذي رواه عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، ثم يقول الله تبارك وتعالى له: أتنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا يا رب، فيقول عز وجل: ألك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل، فيقول: لا يا رب، فيقول عز وجل: بلى، إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول عز وجل: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة (3) » ونحو ذلك من النصوص
__________
(1) رواه مسلم 1\308 رقم 27.
(2) رواه أحمد 36\363 رقم 22034، وأبو داود: كتاب الجنائز، باب في التلقين 3\486 رقم 3116.
(3) رواه الإمام أحمد في المسند 11\571 رقم 6994، والترمذي في الجامع: كتاب الإيمان، باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله 7\295 رقم 2641، وابن ماجه في السنن: كتاب الزهد، باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة 2\448 رقم 4355.(88/97)
ولا ريب أن مسألة نصوص الوعد والوعيد كما يقول إمام الدعوة مسألة كبيرة (1) ولذا كانت من آكد المسائل التي اهتم بها علماء الدعوة، وكشفوا الحق فيها، خاصة أن أهل البدع والمخالفين جعلوها تكأة لنبز أهل الدعوة بأنهم خوارج ومن ثم كثرت تقريرات علماء الدعوة على كلمة التوحيد، وبيان متى تكون منجية لقائلها، حتى صار ذلك علما عليهم، إذ أنتجوا في ذلك بحوثا حافلة، وتحقيقات متينة.
وليس البحث هنا في تقييد ما حرروه حول كلمة التوحيد، فإن هذا باب واسع، وإنما القصد عرض نقضهم لهذه الحجة الإرجائية بعون الله تعالى.
فمما بينه علماء الدعوة في ذلك أن هذه الحجة جاءت في مقابلة قول الوعيدية بتكفير أهل الذنوب استدلالا بنصوص الوعيد، فجاء المرجئة فاحتجوا بنصوص الوعد (2)
والحق وسط بين هذين الطرفين، والواجب إعمال النصوص كلها، فإن «الذي يجب العلم به أن كل ما قاله الرسول حق يجب الإيمان به، ولو لم يعرف الإنسان معناه، وفي القرآن آيات الوعد والوعيد كذلك، وأشكل الكل على كثير من الناس من السلف ومن بعدهم» (3)
__________
(1) انظر: الدرر السنية 2\130، والفتاوى ضمن القسم الثالث من مؤلفات الشيخ الإمام 50.
(2) انظر: الدرر السنية 13\74، 225، ومسائل لخصها الإمام 136 - 137.
(3) الفتاوى، ضمن القسم الثالث مؤلفات الشيخ الإمام 44 - 45، وانظر منه 53.(88/98)
والقاعدة أن كل كلام أطلق في الكتاب والسنة، فلا بد أن يبين المراد منه، والأحكام المترتبة على أصله وفرعه (1)
وإذا الأمر كذلك، فإن قول من يقول إن الكلمة تكفي " قول من لا يفرق بين دين المرسلين ودين المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، فإن المؤمنين يقولونها، والمنافقون يقولونها، لكن المؤمنون يقولونها مع معرفة قلوبهم بمعناها، وعمل جوارحهم بمقتضاها، والمنافقون يقولونها من غير فهم لمعناها، ولا عمل بمقتضاها.
فمن أعظم المصائب وأكبر الجهل من لا يعرف الفرق بين الصحابة والمنافقين (2)
__________
(1) انظر: التوضيح 130.
(2) الدرر السنية 2\46 والرسائل الشخصية 138، وانظر: منهاج التأسيس 77، 268، والسيف المسلول 121.(88/99)
يقول إمام الدعوة رحمه الله: دين الإسلام ليس مجرد المعرفة، فإن إبليس وفرعون يعرفونه، وكذلك اليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وإنما الإسلام هو العمل بذلك، والحب والبغض، وترك موالاة الآباء والأبناء في هذا
فمجرد معرفة الحق لا تستلزم الإيمان ولا العمل (1) فإن فرعون
__________
(1) انظر: تيسير العزيز الحميد 536.(88/99)
وإبليس كفار مع إقرارهم؛ لعنادهم وتركهم العمل
وكذلك أبو طالب، واليهود يجزمون بصدق الرسول، ولكنهم لم يسلموا له، فكفروا (1)
والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، مع أنهم يقولون لا إله إلا الله، بل ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، بل ويصومون ويحجون ويجاهدون، وهم مع ذلك تحت آل فرعون في الدرك الأسفل من النار.
وكذلك ما قص الله سبحانه عن بلعام، وضرب له مثلا بالكلب، مع ما معه من العلم، فضلا عن الاسم الأعظم (2)
وعالم بعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عباد الأوثان (3) .
فكلمة التوحيد لها لفظ ومعنى، ولكن الناس فيها - كما يقول إمام الدعوة - ثلاث فرق:
فرقة نطقوا بها وحققوها، وعلموا أن لها معنى، وعملوا به، ولها نواقض فاجتنبوها.
__________
(1) انظر: الدرر السنية 1\105 - 106، والرسائل الشخصية 16، 19، وحاشية كتاب التوحيد 291.
(2) راجع: تفسير القرآن العظيم 2\293 - 296.
(3) الدرر السنية 1\96 - 98، والرسائل الشخصية 96 - 97.(88/100)
وفرقة نطقوا بها في الظاهر، فزينوا ظواهرهم بالقول، واستبطنوا الكفر والشك.
وفرقة نطقوا بها، ولم يعملوا بمعناها، وعملوا بنواقضها، فهؤلاء {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (1) .
فالفرقة الأولى هي الناجية، وهم المؤمنون حقا، والثانية هم المنافقون، والثالثة هم المشركون (2)
ولما سئل الإمام رحمه الله عن معنى قول وهب بن منبه لمن سأله: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟
قال وهب: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك
قال إمام الدعوة: «مراده الرد على من ظن دخول الجنة بالتوحيد وحده دون أعمال»
__________
(1) سورة الكهف الآية 104
(2) الدرر السنية 2\113، وانظر: الرسائل الشخصية 182 - 183، والضياء الشارق 591.(88/101)
ويقول الشيخ عبد الله بن الإمام تعليقا على فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في قتال التتار، وأنهم يقاتلون على أنهم كفار مع تلفظهم بالشهادتين:(88/101)
«فتبين لك أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال، وأنهم يقاتلون قتال كفر وخروج عن الإسلام، كما صرح به في آخر الفتوى بقوله: وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته، بل خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة. انتهى» (1)
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله: «ومجرد التلفظ بهما لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعا» (2)
وقال على حديث عبادة «من شهد أن لا إله إلا الله (3) » إلى أن قال - صلى الله عليه وسلم -: «أدخله الله الجنة على ما كان من العمل (4) » : أي من تكلم بهذه الكلمة عارفا لمعناها، عاملا بمقتضاها باطنا وظاهرا، كما دل عليه قوله {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (5) ، وقوله: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (6) .
أما النطق بها من غير معرفة لمعناها، ولا عمل بمقتضاها، فإن ذلك غير نافع بالإجماع.
__________
(1) سيأتي سياق الفتوى قريبا.
(2) تيسير العزيز الحميد 192.
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3435) ، صحيح مسلم الإيمان (29) ، سنن الترمذي الإيمان (2638) .
(4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3435) ، صحيح مسلم الإيمان (28) .
(5) سورة محمد الآية 19
(6) سورة الزخرف الآية 86(88/102)
وفي الحديث ما يدل على هذا، وهو قوله: (شهد) ، إذ كيف يشهد وهو لا يعلم؟ ومجرد النطق بشيء لا يسمى شهادة به (1)
__________
(1) تيسير العزيز الحميد 53، وانظر منه 58، وفتح المجيد 65.(88/103)
وقال الشيخ سليمان على حديث علي «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى (1) » وفيه أن الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ المراد بها الدعوة إلى الإخلاص بها، وترك الشرك، وإلا فاليهود يقولونها، ولم يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إليها بينهم وبين من لا يقولها من مشركي العرب، فعلم أن المراد من هذه الكلمة هو اللفظ بها، واعتقاد معناها، والعمل به، وذلك هو معنى قوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (2) ، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} (3) ، وذلك هو معنى قوله «ثم ادعهم إلى الإسلام» الذي هو الاستسلام لله تعالى، والانقياد له بفعل التوحيد، وترك الشرك.
__________
(1) رواه البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب 7\87 رقم 3701، ومسلم 15\254 رقم 2406.
(2) سورة آل عمران الآية 64
(3) سورة الرعد الآية 36(88/103)
ثم قال: وحاصله أنهم إذا أجابوا إلى الإسلام، الذي هو التوحيد، فأخبرهم بما يجب عليهم بعد ذلك من حق الله تعالى في الإسلام، من الصلاة والزكاة والصيام والحج، وغير ذلك من شرائع الإسلام الظاهرة وحقوقه، فإن أجابوا إلى ذلك، فقد أجابوا إلى الإسلام حقا، وإن امتنعوا عن شيء من ذلك، فالقتال باق على حاله إجماعا.
فدل على أن النطق بكلمتي التوحيد دليل العصمة، لا أنه عصمة، أو يقال: هو العصمة لكن بشرط العمل.
يدل على ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (1) الآية، ولو كان النطق بالشهادتين عاصما لم يكن للتثبت معنى، يدل على ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا} (2) ، أي عن الشرك وفعلوا التوحيد، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (3) فدل على أن القتال يكون على هذه الأمور.
(4) وفيه أن لله تعالى حقوقا في الإسلام من لم يأت بها لم يكن مسلما، كإخلاص العبادة له، والكفر بما يعبد من دونه (5)
__________
(1) سورة الحجرات الآية 6
(2) سورة التوبة الآية 5
(3) سورة التوبة الآية 5
(4) انظر أيضا: الدرر السنية 10\309-310، ومجموعة الرسائل 2\1\121، 4\31-32، 5\670-671.
(5) تيسير العزيز الحميد 109 - 111، وانظر مثله في: إبطال التنديد 47، وحاشية كتاب التوحيد 64.(88/104)
وقال أيضا على حديث «من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل (1) » اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث علق عصمة المال والدم بأمرين:
الأول: قول لا إله إلا الله. الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله.
فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لا بد من قولها والعمل بها.
قال المصنف - يعني إمام الدعوة -: وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع التلفظ بها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم دمه وماله حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أجلها، ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع (2)
قلت - القائل الشيخ سليمان -: وقد أجمع العلماء على معنى ذلك، فلا بد في العصمة من الإتيان بالتوحيد، والتزام أحكامه، وترك الشرك، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (3) والفتنة هنا: الشرك (4) فدل على أنه إذا وجد الشرك فالقتال باق بحاله، كما
__________
(1) رواه مسلم 1\293 رقم 23.
(2) كتاب التوحيد، ضمن القسم الأول من مؤلفات الشيخ الإمام 26.
(3) سورة الأنفال الآية 39
(4) راجع: تفسير القرآن العظيم 2\341.(88/105)
قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (1) وقال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، فأمر بقتالهم على فعل التوحيد، وترك الشرك، وإقامة شعائر الدين الظاهرة، فإذا فعلوها خلي سبيلهم، ومتى أبوا عن فعلها، أو فعل شيء منها، فالقتال باق بحاله إجماعا، ولو قالوا لا إله إلا الله.
وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - علق العصمة بما علقها الله به في كتابه، كما في الحديث (3) وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله (4) »
وفي الصحيحين عنه قال: لما توفي رسول الله، وكفر من كفر من
__________
(1) سورة التوبة الآية 36
(2) سورة التوبة الآية 5
(3) يعني الحديث المتقدم.
(4) رواه مسلم 1\291 رقم 21.(88/106)
العرب، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه، إلا بحقه، وحسابه على الله» ، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق (1) » . لفظ مسلم.
فانظر كيف فهم صديق الأمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد مجرد اللفظ بها من غير التزام لمعناها وأحكامها، فكان ذلك هو الصواب، واتفق عليه الصحابة، ولم يختلف فيه منهم اثنان، إلا ما كان من عمر حتى رجع إلى الحق، وكان فهم الصديق هو الموافق لنصوص القرآن والسنة.
وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوه عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله (2) » فهذا الحديث كآية براءة، بين فيه ما يقاتل عليه الناس ابتداء، فإذا فعلوه وجب الكف عنهم إلا
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7285) ، صحيح مسلم الإيمان (21) ، سنن الترمذي الإيمان (2606) ، سنن النسائي تحريم الدم (3978) ، سنن أبي داود الجهاد (2640) ، مسند أحمد (2/529) .
(2) رواه البخاري: كتاب الإيمان، باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) 1\95 رقم 25، ومسلم 1\293 رقم 22.(88/107)
بحقه، فإن فعلوا بعد ذلك ما يناقض هذا الإقرار والدخول في الإسلام وجب القتال حتى يكون الدين كله لله.
بل لو أقروا بالأركان الخمسة وفعلوها، وأبوا عن فعل الوضوء للصلاة ونحوه، أو عن تحريم بعض محرمات الإسلام، كالربا أو الزنا أو نحو ذلك، وجب قتالهم إجماعا، ولم تعصمهم لا إله إلا الله، ولا ما فعلوه من الأركان.
وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، وأنه ليس المراد منها مجرد النطق(88/108)
ويقول صاحب التوضيح: «ومن عرف وحقق معنى الشهادتين اللذين هما رأس الإسلام وقوامه، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم شهد بهما، لزمه العمل بمقتضاهما قولا وفعلا واعتقادا، وترك المنافي لهما قولا وفعلا واعتقادا» (1)
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن: «وقد قيدت لا إله إلا الله في الأحاديث الصحيحة بقيود ثقال لا بد من الإتيان بجميعها، قولا، واعتقادا، وعملا، فمن ذلك:
__________
(1) التوضيح 40، وانظر منه 88.(88/108)
حديث عتبان الذي في الصحيح: «فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله (1) » ، وفي حديث آخر «صدقا من قلبه (2) » «خالصا من قلبه (3) » «مستيقنا بها (4) » «غير شاك (5) » .
فلا تنفع هذه الكلمة قائلها إلا بهذه القيود إذا اجتمعت له، مع العلم بمعناها ومضمونها (6)
ويقول: فلا إله إلا الله هي كلمة الإسلام، لا يصح إسلام أحد إلا بمعرفة ما وضعت له ودلت عليه، وقبوله، والانقياد للعمل به
__________
(1) صحيح البخاري الأطعمة (5401) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (33) .
(2) رواه البخاري: كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا 1\272 رقم 128.
(3) رواه البخاري: كتاب العلم، باب الحرص على الحديث 1\233 رقم 99.
(4) رواه مسلم 1\324، 327 رقم 31.
(5) صحيح مسلم الزكاة (987) ، سنن أبي داود الزكاة (1658) ، مسند أحمد (2/262) .
(6) الدرر السنية 2\243 - 244، وانظر: حاشية كتاب التوحيد 28.(88/109)
ويقول الشيخ عبد الله أبا بطين: فمن قال لا إله إلا الله بصدق ويقين أخرجت من قلبه كل ما سوى الله محبة وتعظيما وإجلالا ومهابة وخشية وتوكلا، فلا يصير في قلبه محبة لما يكرهه الله، ولا كراهة لما يحبه، وهذا حقيقة الإخلاص، الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم - «من قال لا إله إلا الله مخلصا(88/109)
من قلبه دخل الجنة، أو حرم الله عليه النار (1) »
وقيل للحسن البصري: إن ناسا يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة؟
فقال: من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها [أدخلته الجنة]
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: «حديث البطاقة شاهد لكلام شيخنا، وأنه لا اعتبار بالأعمال إذا عدم التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله، وأن رجحان الموازين لا يحصل إلا بتحقيق التوحيد والصدق والإخلاص في هذه الشهادة، وأن المشرك لا يقام له وزن» ، ثم قال:
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند 36\381 - 382 رقم 22060، والحميدي في المسند 1\362 رقم 373.(88/110)
قال شيخ الإسلام تقي الدين في الكلام على حديث البطاقة: إن صاحب البطاقة أتى بهذه الشهادة بصدق وإخلاص ويقين، ولم يأت بما يخالفها ويضعفها، والصدق والإخلاص واليقين في هذا التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص مكفر للذنوب، لا يبقى معه ذنب، كما أن اجتناب الكبائر مكفر للصغائر (1) (2)
__________
(1) انظر: الفتاوى 10\734 - 735، وسيأتي تحقيق شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه المسألة.
(2) مصباح الظلام 598 - 600.(88/110)
وأما ما جاء عن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في تحقيقه لهذه المسألة، فمنه بيانه أن الإيمان لا بد فيه من اعتقاد الجنان، وإقرار اللسان، وعمل الأركان، وأن العلماء جهلوا من اقتصر في تعريف مسماه على أحد هذه الثلاثة (1)
وقال: لا ينازع مسلم في أنه لا بد أن يكون بالقلب، فإنه لم يصدق ويعلم ويؤثر ما دلت عليه لا إله إلا الله، ويعمل بقلبه العمل الخاص، كالمحبة والإنابة والرضا والتوكل والخشية والرغبة والرهبة، فإن لم يحصل منه هذا بالكلية، فهو منافق.
ولا بد من الإقرار، فإنه إذا لم يقر بلسانه، كافر تجري عليه أحكام الكفار، بلا نزاع.
وكذلك العمل بالجوارح لا بد منه، فلا يكون مسلما إلا إذا ترك عبادة الطاغوت، وتباعد عنه، وعمل لله بمقتضى شهادة الإخلاص، من تسليم الوجه له، واجتناب الشرك، قولا وعملا، وترك الخضوع والسجود والذبح والنذر لغير الله، وإخلاص الدين في ذلك كله لله،..، فإذا اختل أحد هذه الثلاثة اختل الإسلام وبطل، كما دل عليه حديث جبريل لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام والإيمان والإحسان، فبدأ في تعريف الإسلام بالشهادتين، ولا شك أن العلم والقول والعمل مشترط
__________
(1) مصباح الظلام 202، وانظر منه 219، 237، 238.(88/111)
في صحة الإتيان بهما
ولما ذكر ابن القيم رحمه الله أن من شعب الإيمان ما يزول الإيمان بزواله، كالشهادتين (1)
قال الشيخ عبد اللطيف معلقا: ومن المعلوم أن المقصود زوال حقيقة الشهادتين علما، وعملا، أو قولا، لا زوال مجرد القول واللفظ (2)
ويقول رحمه الله: أصل الإسلام وقاعدته: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي أصل الإيمان بالله وحده، وهي أفضل شعب الإيمان.
وهذا الأصل لا بد فيه من العلم، والعمل، والإقرار، بإجماع المسلمين.
ومدلوله: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من عبادة ما سواه، كائنا من كان، وهذا هو الحكمة التي خلقت لها الجن والإنس، وأرسلت لها الرسل، وأنزلت بها الكتب، وهي تتضمن كمال الذل والحب، وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم، وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين
__________
(1) انظر: الصلاة وحكم تاركها 50.
(2) مصباح الظلام 535.(88/112)
ويقول: ومجرد الإتيان بلفظ الشهادة من غير علم بمعناها، ولا عمل بمقتضاها، لا يكون به المكلف مسلما، بل هو حجة على ابن آدم، خلافا لمن زعم أن الإيمان مجرد الإقرار، كالكرامية، ومجرد التصديق كالجهمية.
وقد أكذب الله المنافقين فيما أتوا به وزعموه من الشهادة، وأسجل على كذبهم، مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة بأنواع التأكيدات، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (1) ، فأكدوا بلفظ الشهادة، وإن المؤكدة، واللام، وبالجملة الاسمية، فأكذبهم، وأكد تكذيبهم بمثل ما أكدوا به شهادتهم، سواء بسواء، وزاد التصريح باللقب الشنيع، والعلم البشع الفظيع.
وبهذا تعلم أن مسمى الإيمان لا بد فيه من التصديق والعمل.
ومن شهد أن لا إله إلا الله وعبد غيره، فلا شهادة له، وإن صلى وزكى وصام، وأتى بشيء من أعمال الإسلام، قال تعالى لمن آمن ببعض الكتاب ورد بعضا: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (2) ، وقال تعالى:
__________
(1) سورة المنافقون الآية 1
(2) سورة البقرة الآية 85(88/113)
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (1) الآية، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (2)
ويقول: وكل من عقل عن الله يعلم علما ضروريا أن المقصود من الشهادتين ما دلتا عليه من الحقيقة والمعنى، وما اشتملتا عليه من العلم والعمل، وأما مجرد اللفظ من غير علم بمعناهما، ولا اعتقاد لحقيقتهما، فهذا لا يفيد العبد شيئا، ولا يخلصه من شعب الشرك وفروعه قال تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (3) ، وقال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (4) ، فالإيمان بمعناهما، والانقياد له لا يتصور ولا يتحقق إلا بعد العلم (5)
__________
(1) سورة النساء الآية 150
(2) سورة المؤمنون الآية 117
(3) سورة محمد الآية 19
(4) سورة الزخرف الآية 86
(5) مصباح الظلام 161(88/114)
ويقول الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله على حديث: «أدخله الله(88/114)
الجنة على ما كان من العمل (1) » : أي من شهد أن لا معبود بحق إلا الله، وقام بوظائف هذه الكلمة،..، وليس المراد أن الإنسان إذا شهد بهذا من غير عمل بمقتضاه يحصل له دخول الجنة، بل المراد به الشهادة لله بالتوحيد، والعمل بما تقتضيه شهادة أن لا إله إلا الله من الإخلاص، وما تقتضيه شهادة أن محمدا عبده ورسوله من الإيمان به، وتصديقه، واتباعه (2)
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله: القول لا ينفع إلا مع علم القلب وإيمانه، ويقينه، والأعمال المصدقة لذلك (3)
ثم قال معلقا على حديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (4) » :
كل من عقل عن الله علم علما ضروريا أن المقصود من الشهادتين ما دلتا عليه من الحقيقة والمعنى، وما اشتملتا عليه من العلم والعمل.
وأما مجرد اللفظ من غير علم بمعناهما، ولا اعتقاد لحقيقتهما، فلا يفيد القائل شيئا، ولا يخلصه من شعب الشرك، بل يكونان حجة عليه" (5) ثم قال:
وقد قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - محمد {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (6) بدأ بالعلم قبل القول والعمل؛ لأن القول لا ينفع إلا مع
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3435) ، صحيح مسلم الإيمان (28) .
(2) إبطال التنديد 28.
(3) السيف المسلول 112.
(4) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7285) ، صحيح مسلم الإيمان (20) ، سنن الترمذي الإيمان (2607) ، سنن النسائي تحريم الدم (3975) ، سنن أبي داود الزكاة (1556) ، مسند أحمد (2/529) .
(5) السيف المسلول 114.
(6) سورة محمد الآية 19(88/115)
علم القلب وإيمانه ويقينه، والأعمال تصدق ذلك أو تكذبه، فإذا تكلم بها العبد عالما بمعناها، عاملا بمقتضاها باطنا وظاهرا، بصدق وإخلاص ويقين نفعته.
وأما النطق بها من غير معرفة لمعناها، ولا عمل بمقتضاها من نفي الشرك، وإخلاص القول، والعمل لله وحده، فغير نافع بإجماع المسلمين (1)
وهكذا في نقول كثيرة عن علماء الدعوة تدور حول هذا المعنى وهو أن القول لا يكفي بدون العمل.
وهذا الذي قرره هؤلاء الأعلام مطابق لما قرره الأئمة من قبلهم، وقد اهتموا رحمهم الله بنقل ذلك، ومما نقلوه:
__________
(1) السيف المسلول 119.(88/116)
قول أبي سليمان الخطابي رحمه الله في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (1) » ، قال: «معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم يقاتلون، ولا يرفع عنهم السيف»
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7285) ، صحيح مسلم الإيمان (20) ، سنن الترمذي الإيمان (2607) ، سنن النسائي تحريم الدم (3975) ، سنن أبي داود الزكاة (1556) ، مسند أحمد (2/529) .(88/116)
ويقول القاضي عياض رحمه الله: «اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بذلك مشركو العرب، وأهل الأوثان، ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دعي إلى الإسلام، وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفى في عصمته بقوله لا إله إلا الله، إذ كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الآخر: «وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة (1) »
وقال النووي رحمه الله: ولا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما جاء في الرواية الأخرى «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به (2) »
__________
(1) رواه مسلم 1\293 رقم 22.
(2) الفواكه العذاب 73، والدرر السنية 10\317، وتيسير العزيز الحميد 121، وفتح المجيد 135، نقلا عن المنهاج شرح صحيح مسلم 1\286.(88/117)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما سئل عن قتال التتار مع نطقهم الشهادتين: كل طائفة ممتنعة من التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم أو غيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه،(88/117)
وإن كانوا ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم.
قال: فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء أو الأموال، أو الخمر، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام أحكام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها التي يكفر بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء.
قال: وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة، بل هم خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة (1)
وقال رحمه الله في بحث حافل ساقه: اعتنى جمع من علماء الدعوة بنقله مطولا ومختصرا، منهم الشيخ سليمان بن عبد الله بعد إيراده لبعض نصوص الوعد قال
__________
(1) مجموع الفتاوى 28\502 - 503 باختصار.(88/118)
ومن أحسن ما قيل في معناه ما قاله شيخ الإسلام وغيره أن " هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيدة؛ [لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خالصا من قلبه (1) » ، «غير شاك فيها (2) » ، بصدق ويقين، فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى، بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحا، فإذا مات على تلك الحالة نال ذلك] فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة.
[وتواترت بأن كثيرا] ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار، أو أكثرهم، ثم يخرج منها [وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون، ويسجدون لله]
__________
(1) صحيح البخاري العلم (99) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5850) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (555) ، سنن الترمذي الصلاة (400) ، سنن النسائي القبلة (775) ، مسند أحمد (3/189) ، سنن الدارمي الصلاة (1377) .(88/119)
وتواترت الأحاديث بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (1)
ولكن جاءت مقيدة بالإخلاص واليقين، وبموت عليها، فكلها مقيدة بهذه القيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين، ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عند الموت، فيحال بينه وبينها.
وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليدا أو عادة، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء، كما في الحديث الصحيح «فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته (2) » وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم.
ثم قال شيخ الإسلام: وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين، [ومات على ذلك امتنع أن تكون سيئاته راجحة على حسناته، بل كانت حسناته راجحة فيحرم على النار؛ لأنه إذا] (3) قالها العبد بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرا على ذنب، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، [وأخوف عنده من كل شيء] (4) فلا يبقى في قلبه حينئذ إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما
__________
(1) تقدم بعضها.
(2) رواه البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 13\264 رقم 7287.
(3) ما بين قوسين ليس في تيسير العزيز الحميد، ولا فتح المجيد، ولا الدرر السنية.
(4) ما بين قوسين ليس في تيسير العزيز الحميد، ولا فتح المجيد، ولا الدرر السنية.(88/120)
أمر الله، فهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كان له ذنوب، فهذا الإيمان، وهذه التوبة، وهذا الإخلاص، وهذه المحبة، وهذا اليقين، وهذه الكراهة لا يتركون له ذنبا إلا محي عنه كما يمحي النهار الليل.
فإن قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأصغر والأكبر، فهذا غير مصر على ذنب أصلا، فيغفر له، ويحرم على النار.
وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة، فيحرم على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه.
وهذا خلاف من رجحت سيئاته على حسناته، ومات [مصرا] على ذلك، فإنه يستوجب النار.
وإن كان قال: لا إله إلا الله، وخلص بها من الشرك الأكبر، لكنه لم يمت على ذلك، بل قالها وأتى بعدها بسيئات رجحت على هذه الحسنات، فإنه في حال [قولها كان مخلصا، لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك، بخلاف المخلص المستيقن فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على(88/121)
سيئاته] ولا يكون مصرا على سيئة، فإن مات قبل ذلك دخل الجنة.
ولكن بعد ذلك قد يأتي بسيئات راجحة، ولا يقولها بالإخلاص واليقين المانع من جميع السيئات، ومن الشرك الأكبر والأصغر، بل يبقى معه الشرك الأصغر، ويأتي بعد ذلك بسيئات تنضم إلى ذلك الشرك، فترجح سيئاته، فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف بسبب ذلك قول: لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص في القلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي، أو النائم، أو من يحسن صوته بآية من القرآن يختبر بها، من غير ذوق طعم ولا حلاوة، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل قد يأتون بعدها بسيئات تنقص ذلك الصدق واليقين الضعيف، وقد يقولونها من غير يقين وصدق تام، ويموتون على ذلك، ولهم سيئات كثيرة [تمنعهم من دخول الجنة، وإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها، وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح، وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غيره، واطمأن إلى الباطل، واستحلى الرفث، ومخالطة أهل الباطل، وكره مخالطة أهل الحق، فمثل هذا إذا قالها، قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدقه عمله.(88/122)
كما قال الحسن: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر(88/122)
في القلوب، وصدقته الأعمال، فمن قال خيرا وعمل خيرا قبل منه، ومن قال خيرا وعمل شرا لم يقبل منه (1) وقال بكر بن عبد الله المزني: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام، ولا صلاة، ولكن شيء وقر في قلبه.
فمن قال لا إله إلا الله، ولم يقم بموجبها، بل اكتسب مع ذلك ذنوبا وسيئات، وكان صادقا في قولها، موقنا بها، لكن له ذنوبه أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، رجحت هذه السيئات على هذه الحسنة، ومات مصرا على الذنوب، بخلاف من يقولها بيقين وصدق تام، فإنه لا يموت مصرا على الذنوب]
فالذي قالها بيقين وصدق تام: إما أن لا يكون مصرا على سيئة أصلا، أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته.
والذين دخلوا النار قد فات فيهم أحد الشرطين:
إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافي للسيئات، أو لرجحانها على الحسنات.
أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، فيضعف لذلك صدقهم، ويقينهم، فلم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين يمحو سيئاتهم أو يرجح حسناتهم
__________
(1) رواه ابن بطة بنحوه في: الإبانة الكبرى 2\805 رقم 1093، 1094.(88/123)
ويقول شيخ الإسلام أيضا: ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والانقياد، ويتضمن الإخلاص، من قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} (1) ، فلا بد في الإسلام من الاستسلام لله وحده، وترك الاستسلام لما سواه، وهذه حقيقة قولنا: لا إله إلا الله، فمن استسلم لله ولغيره فهو مشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته، وقد قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (2)
ويقول ابن القيم رحمه الله في طبقات الناس في حال الطبقة السابعة عشر: والإسلام هو توحيد الله، وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان برسوله، واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافرا معاندا، فهو كافر جاهل، فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال
__________
(1) سورة الزمر الآية 29
(2) سورة غافر الآية 60(88/124)
غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارا، فإن الكافر من جحد توحيد الله تعالى، وكذب رسوله، إما عنادا أو جهلا وتقليدا لأهل العناد، فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند، فهو متبع لأهل العناد، وقد أخبر الله تعالى في القرآن في غير موضع بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار، وأن الأتباع مع متبوعيهم (1)
__________
(1) الدرر السنية 11\480 - 481، ومنهاج التأسيس 224، نقلا عن طريق الهجرتين 676.(88/125)
ويقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة.
فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه، ولسانه، وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت، أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية، فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه، أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيما وإجلالا ومهابة وخشية وتوكلا، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه ولو كانت مثل زبد البحر، وربما قلبتها حسنات، فإن هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم، فلو وضع منه ذرة على جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات (1)
__________
(1) نقله الشيخ سليمان في تيسير العزيز الحميد 75، وهو مختصر من جامع العلوم والحكم 2\416 - 417.(88/125)
ويقول البقاعي رحمه الله: لا إله إلا الله، أي انتفى انتفاء عظيما أن(88/125)
يكون معبودا بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان، والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف (1)
وبهذا التحقيق الحافل من هؤلاء الأعلام يتبين الموقف الحق من كلمة التوحيد ونصوص الوعد، وأنها مقيدة بقيود ثقال لا بد من الإتيان بها جميعا، قولا، واعتقادا، وعملا، وأن لا يأتي قائلها بعد بما يخالفها ويضعفها (2)
فلا إله إلا الله ليست باللسان فقط، بل لا بد للمسلم إذا لفظ بها أنه يعرف معناها بقلبه (3) ثم لا بد له إذا عرف معناها من العمل به، لا مجرد العلم، فهذا هو الإسلام واتباع ملة الأنبياء: العلم بذلك، والعمل به، لا مجرد العلم (4)
وهذه هي حقيقة الإسلام، وهي أن يسلم العبد بقلبه وجوارحه لله تعالى، وينقاد له بالتوحيد والطاعة، كما قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (5) ، وقال تعالى:
__________
(1) نقله في: فتح المجيد 68 - 69، وقرة عيون الموحدين 25، والدرر السنية 2\218، 357.
(2) انظر: تيسير العزيز الحميد 72، والدرر السنية 2\243، ومصباح الظلام 600.
(3) الدرر السنية 2\129.
(4) الدرر السنية 13\253.
(5) سورة البقرة الآية 112(88/126)
{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (1) .
وإحسان العمل لا بد فيه من الإخلاص، ومتابعة ما شرعه الله ورسوله (2)
فالإسلام ليس بمجرد الدعوى والتلفظ بالقول، وإنما معناه: الانقياد لله بالتوحيد، والخضوع، والإذعان بالربوبية والإلهية دون كل ما سواه (3)
ومن قال كلمة التوحيد صدقا ويقينا وإخلاصا، لا بد أن تكون حسناته راجحة على سيئاته
وهذا المعنى الجليل لكلمة التوحيد يندرج فيه كل من قالها، كصاحب البطاقة وغيره
وأيضا ثمت جواب آخر، وهو أن كلمة التوحيد قد تنفع من قالها عند الموت إذا كان عارفا لمعناها، معتقدا له في هذه الحال، وإن لم يعمل به؛ إذ لا يمكن عند الموت إلا ذلك، ولا بد مع ذلك من شهادة أن محمدا رسول الله.
__________
(1) سورة لقمان الآية 22
(2) انظر: الدرر السنية 2\254 - 255، ومجموعة الرسائل 2\6 - 7.
(3) الدرر السنية 2\264.(88/127)
وهذا مثل ما لو كان من أبي طالب لما عرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - قولها، فإنه لو قالها في تلك الحال، معتقدا ما دلت عليه من النفي والإثبات، لنفعته ودخل بها الإسلام
وكذلك صاحب البطاقة قد يتناوله هذا الجواب أيضا، فإن الأعمال بالخواتيم
ويندرج في ذلك أيضا من قيل فيه: لم يعمل خيرا قط، كعتقاء الرحمن الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه وكالذي قتل مائة نفس، وقالت الملائكة فيه: لم يعمل خيرا قط (1)
فإن هذا النوع محمول على أنه لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد، كما في بعض الروايات
__________
(1) رواه مسلم 17\131 رقم 2766.(88/128)
أو يحمل على عدم تمكنه من أداء ما افترض الله عليهم، بل بمجرد أدنى إيمان في قلبه وشهادته بلسانه خرمته المنية، أو هو معذور بالجهل (1)
والمقصود أن النصوص المحكمة قد قضت بأن لا بد من العمل للنجاة من النار، فلا تعارض بمتشابه يتعلق به من في قلبه زيغ، وهذه الأجوبة أحدها كاف في نقض احتجاج المرجئة بنصوص الوعد، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) انظر: التوضيح 105 - 106، والدرر السنية 10\245 - 246، مجموعة الرسائل 1\196.(88/129)
الحجة الثانية من حجج المرجئة: أن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله.
بنى المرجئة على هذا الأصل إخراج العمل من الإيمان، فإن مرتكب الكبيرة مقصر في العمل، والإيمان لا يتجزأ، ولا يتبعض، بل هو شيء واحد، إذا ذهب بعضه ذهب كله، فلو كان العمل من الإيمان للزم منه تكفير أهل الذنوب، وهذا قول الخوارج (1)
يقول إمام الدعوة: وأما كون لا إله إلا الله تجمع الدين كله،
__________
(1) انظر: مصباح الظلام 587 - 588.(88/129)
وإخراج من قالها من النار إذا كان في قلبه أدنى مثقال ذرة، فلا إشكال في ذلك.
وسر المسألة: أن الإيمان يتجزأ، ولا يلزم إذا ذهب بعضه ذهب كله، بل هذا مذهب الخوارج.
فالذي يقول: الأعمال كلها من لا إله إلا الله، فقوله الحق، والذي يقول: يخرج من النار من قالها وفي قلبه من الإيمان مثقال ذرة، فقوله الحق.
السبب: ما ذكرت لك من التجزي، وبسبب الغفلة عن التجزي غلط أبو حنيفة وأصحابه في زعمهم أن الأعمال ليست من الإيمان (1)
وقد نقل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن (2) عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله: وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهذا ممنوع.
وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله، لم يبق منه شيء.
ثم قالت الخوارج والمعتزلة: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهو الإيمان المطلق، كما قال أهل الحديث.
قالوا: فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء، فيخلد في النار.
__________
(1) الدرر السنية 2\66، والرسائل الشخصية 122، وراجع: الإيمان الأوسط 7\510 - 511.
(2) في مصباح الظلام 592 - 593.(88/130)
وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تذهب الكبائر، وترك الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان؛ إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء، فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر.
ونصوص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تدل على ذهاب بعضه وبقاء بعضه، كقوله: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان (1) »
فهذه الشبهة مبنية على كون الإيمان شيئا واحدا، وأنه يلزم من زوال بعضه زواله كله.
وكلا الأمرين باطل، فلا الإيمان شيء واحد، ولا يلزم من زوال بعضه زوال كله.
فأما كون الإيمان شعبا وأجزاء، فهو منطوق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وستون شعبة، أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (2) » وعلى هذا المعنى تواردت نصوص الكتاب والسنة، وهو مما انعقد عليه إجماع السلف.
__________
(1) الفتاوى 7\223.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان 1\67 رقم 9، ومسلم 1\63 رقم 35.(88/131)
يقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: والإيمان الشرعي: قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح(88/131)
وأما كون الإيمان لا يلزم من زوال بعضه زواله كله؛ فلأن أجزاء الشيء تختلف شرعا وطبعا، فبعض هذه الأشياء قد يكون شرطا في البعض الآخر، وبعضها قد لا يكون شرطا فيه، وبحسب الشيء يكون حكمه على المركب (1) وهذا ما لم تفهمه الوعيدية ولا المرجئة، فإنهم ظنوا أن زوال أي شيء من شعب الإيمان يلزم منه زواله كله، وهذا ما خالفهم فيه أهل السنة، إذ عندهم أن الإيمان يمكن ذهاب بعضه، وبقاء بعضه (2) ولا يزول كله إلا بترك أصله الذي هو شهادة لا إله إلا الله، والالتزام بمعناها، والعمل بمقتضاها، وأما بقية الشعب التي هي دون الأصل والأركان، فلا يكفر بتركها إلا من يكفر بالذنوب كالخوارج (3)
وأما من ترك واجبا، أو فعل محرما، كما هو حال مرتكب الكبيرة، فإنه لا يستقيم إيمانه، لا أنه لا يصح (4)
__________
(1) انظر: التوضيح 116، والدرر السنية 12\451 - 452، وراجع: الإيمان الأوسط 7\517 - 520.
(2) انظر: مصباح الظلام 595، وتقدم قريبا قول شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا ما تدل عليه النصوص.
(3) انظر: مصباح الظلام 534.
(4) انظر: مصباح الظلام 111.(88/132)
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في تحقيقه لهذه المسألة: الإيمان أصل له شعب متعددة، كل شعبة منها تسمى إيمانا، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.(88/132)
فمنها: ما يزول الإيمان بزواله إجماعا، كشعبة الشهادتين، ومنها: ما لا يزول بزواله إجماعا، كترك إماطة الأذى عن الطريق.
وبين هاتين الشعبتين شعب متفاوتة، منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق ويكون إليها أقرب، والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالف للنصوص، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها.
وكذلك الكفر أيضا ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام.
وفرق بين من ترك الصلاة، أو الزكاة، أو الصيام، أو أشرك بالله، أو استهان بالمصحف، وبين من يسرق، ويزني، أو يشرب، أو ينهب، أو صدر منه نوع موالاة، كما جرى لحاطب.
فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام، أو سوى بين شعب الكفر في ذلك، فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء.
الأصل الثالث: أن الإيمان مركب من قول وعمل.
والقول قسمان: قول القلب، وهو: اعتقاده، وقول اللسان، وهو: التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب، وهو: قصده، واختياره، ومحبته، ورضاه، وتصديقه، وعمل الجوارح، كالصلاة، والزكاة، والحج، والجهاد، ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة.(88/133)
فإذا زال تصديق القلب، ورضاه، ومحبته لله، وصدقه، زال الإيمان بالكلية.
وإذا زال شيء من الأعمال، كالصلاة، والحج، والجهاد، مع بقاء تصديق القلب وقبوله، فهذا محل خلاف:
هل يزول الإيمان بالكلية إذا ترك أحد الأركان الإسلامية، كالصلاة، والحج، والزكاة، والصيام، أو لا يزول؟ وهل يكفر تاركه أو لا يكفر؟ وهل يفرق بين الصلاة وغيرها أو لا يفرق؟
فأهل السنة مجمعون على أنه لا بد من عمل القلب، الذي هو محبته، ورضاه، وانقياده.
والمرجئة تقول: يكفي التصديق فقط، ويكون به مؤمنا.
والخلاف في أعمال الجوارح هل يكفر أو لا يكفر؟ واقع بين أهل السنة.
والمعروف عند السلف: تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج(88/134)
والقول الثاني: أنه لا يكفر إلا من جحدها.
والثالث: الفرق بين الصلاة وغيرها.
وهذه الأقوال معروفة.
وكذلك المعاصي والذنوب التي هي فعل المحظورات فرقوا بينها بين ما يصادم أصل الإسلام وينافيه، وما دون ذلك، وبين ما سماه الشارع كفرا، وما لم يسمه.
هذا ما عليه أهل الأثر المتمسكون بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها
وقال رحمه الله في موضع آخر عند قول ابن القيم رحمه الله: ولما كان الإيمان أصلا له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيمانا، فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة والحج والصيام، والأعمال الباطنة، كالحياء والتوكل، والخشية من الله، والإنابة إليه، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق، فإنه شعبة من شعب الإيمان.
وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها، كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها، كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتا عظيما، منها ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى، ويكون إليها أقرب (1)
__________
(1) الصلاة وحكم تاركها 49 - 50.(88/135)
علق الشيخ عبد اللطيف على كلام ابن القيم هذا بقوله: بل شيخنا – يعني إمام الدعوة – رحمه الله لم يكفر إلا بترك العمل بشهادة أن لا إله إلا الله، وباتخاذ الآلهة والأنداد مع الله، وقد نص في هذه العبارة المنقولة أن الشعب منها ما يزول الإيمان بزواله كالشهادتين، وهذه هي مسألة النزاع، فإن من شهد لله بالوحدانية، ولم يلتزم ذلك، ولم ينقد لمقتضاه لا يكون مؤمنا.
وكذلك شهادة أن محمدا رسول الله لا بد فيها من التزام ما جاء به من الإيمان بالله وتوحيده، وإلا فلا تنفعه هذه الشهادة، ولا يسمى شاهدا قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (1) ، فأكذبهم في زعمهم؛ لأنهم لم يعملوا بمقتضى الشهادة، بل خالفوها بالعمل والاعتقاد (2)
وذكر رحمه الله أن الباطل عند الخوارج هو التكفير بالذنوب، وأما التوحيد الذي هو شهادة أن لا إله إلا الله، فإنه «لا ينازع مسلم في أنه لا بد أن يكون بالقلب، فإنه لم يصدق ويعلم ويؤثر ما دلت عليه لا إله إلا الله، ويعمل بقلبه العمل الخاص، كالمحبة والإنابة والرضا والتوكل والخشية والرغبة والرهبة، فإن لم يحصل منه هذا بالكلية، فهو منافق» .
__________
(1) سورة المنافقون الآية 1
(2) مصباح الظلام 531 - 532، وانظر: الدرر السنية 12\259.(88/136)
ولا بد من الإقرار، فإنه إذا لم يقر بلسانه، كافر تجري عليه أحكام الكفار، بلا نزاع.
وكذلك العمل بالجوارح لا بد منه، فلا يكون مسلما إلا إذا ترك عبادة الطاغوت، وتباعد عنه، وعمل لله بمقتضى شهادة الإخلاص، من تسليم الوجه له، واجتناب الشرك، قولا وعملا، وترك الخضوع والسجود والذبح والنذر لغير الله، وإخلاص الدين في ذلك كله لله، ...
فإذا اختل أحد هذه الثلاثة اختل الإسلام وبطل، كما دل عليه حديث جبريل لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام والإيمان والإحسان، فبدأ في تعريف الإسلام بالشهادتين.
ولا شك أن العلم والقول والعمل مشترط في صحة الإتيان بهما، وهذا لا يخفى على من شم رائحة العلم، وإنما خالف الخوارج فيما دون ذلك من ظلم العبد لنفسه، وظلمه لغيره من الناس، وأما الديوان الأكبر، وهو ظلم الشرك، فلا خلاف بين أهل السنة والخوارج في التكفير بالشرك الأكبر، بعد قيام الحجة الرسالية (1)
ثم نقل رحمه الله قول شيخ الإسلام ابن تيمية في نفي مشابهة قول أهل السنة لقول الخوارج، وأن الذي ينبغي أن يعرف أن القول الذي لم يوافق الخوارج والمعتزلة عليه أحد من أهل السنة هو القول بتخليد أهل الكبائر في النار.
__________
(1) مصباح الظلام 590، وانظر: الدرر السنية 1\523.(88/137)
فإن هذا القول من البدع المشهورة، وقد اتفق الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد في النار أحد ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
واتفقوا أيضا على أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - يشفع فيمن يأذن الله له بالشفاعة فيه من أهل الكبائر من أمته، ففي الصحيحين عنه أنه قال: «لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة (1) » (2)
__________
(1) أخرجه: مسلم 2\59 رقم 199.
(2) مصباح الظلام 591 - 592، وكلام شيخ الإسلام في: الفتاوى 7\222 - 223.(88/138)
الحجة الثالثة: اللغة.
من حجج المرجئة في إخراج العمل من الإيمان اللغة، ووجه ذلك عندهم أن الإيمان في اللغة هو التصديق، فكذلك هو في الشرع (1)
وعلى فرض التسليم بذلك فإن التصديق في اللغة أيضا ليس مجرد اعتقاد، بل يكون في القول والعمل.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن في جواب هذه الشبهة: " من المعلوم عقلا وشرعا أن نية الحق تصديق، والعمل به تصديق، وقول
__________
(1) انظر: التوضيح 114، 124، 129، وراجع: الفتاوى 7\121، 289، وشرح الطحاوية 2\470 - 471.(88/138)
الحق تصديق، فليس لأهل البدع ما ينافي قول أهل السنة والجماعة، ولله الحمد والمنة.
قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (1) ، أي فيما عملوا به في هذه الآية من الأعمال الظاهرة والباطنة.
وشاهده في كلام العرب: قولهم: حملة صادقة (2)
فالإيمان لو كان مجرد تصديق دون انقياد، لكان إبليس، وفرعون وقومه، وقوم صالح، واليهود والذين عرفوا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسول الله كما يعرفون أبناءهم، وأبو طالب، مؤمنين، والله تعالى قد حكى كفرهم مع اعترافهم وتصديقهم (3)
ولما جاء النفر من اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسألوه عما دلهم على نبوته، فقالا: نشهد أنك نبي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «فما يمنعكما عن اتباعي» ؟ ، قالا: إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك تقتلنا يهود.
__________
(1) سورة البقرة الآية 177
(2) فتح المجيد 469، وانظر: مسائل لخصها الإمام 11، وراجع: الفتاوى 7\293.
(3) انظر: التوضيح 114، وراجع الكلام على الحجة الأولى في تقرير كفر هؤلاء.(88/139)
فهؤلاء قد أقروا بألسنتهم إقرارا مطابقا لمعتقدهم أنه نبي، ولم يدخلوا بهذا التصديق والإقرار في الإيمان؛ لأنهم لم يلتزموا طاعته، والانقياد لأمره (1) فعلم أن التصديق كما يكون في القلب يكون كذلك في الأقوال وفي الأعمال (2)
__________
(1) انظر: التوضيح 114، وراجع ما تقدم في مسمى الإيمان عند المرجئة.
(2) انظر: مسائل لخصها الإمام 11، وفتح المجيد 400.(88/140)
الحجة الرابعة: المجاز.
أشار بعض علماء الدعوة إلى اعتماد المرجئة في إخراجهم العمل من الإيمان على دعوى المجاز.
يقول الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله: وكذلك في الإيمان، فجمهور الناس في هذه الأزمان يقولون: الإيمان هو التصديق.
ويقولون: الأعمال ليست من الإيمان، وإن سميت إيمانا في بعض الأحاديث، فعلى سبيل المجاز (1)
ووجه احتجاجهم بالمجاز أن المجاز يصح نفيه، فإن علامة المجاز صحة نفيه (2) وعليه فالأعمال إن كانت من الأعمال مجازا، فيصح الإيمان بدونها.
فأما دعواهم المجاز، فجوابه كما قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: «من زعم أن إطلاق الإيمان على الأعمال الظاهرة مجاز، فقد
__________
(1) الدرر السنية 12\174، وراجع: الفتاوى 7\87.
(2) انظر: الفتاوى 3\219.(88/140)
خالف الصحابة، والتابعين، والأئمة» (1)
ووجه هذه المخالفة أن لفظ الإيمان حيث أطلق في الكتاب والسنة دخلت فيه الأعمال، وإنما يدعى خروجها منه عند التقييد، فالحقيقة هي دخول الأعمال في الإيمان، لا العكس
وبإبطال هذه الحجة ينتهي القول في حجج المرجئة التي أوردها علماء الدعوة في مصنفاتهم حسبما تم الوقوف عليه، والله تعالى أعلم.
__________
(1) مجموعة الرسائل 2\2\49.(88/141)
الفصل الرابع: حكم المرجئة عند علماء الدعوة
جاءت أحاديث فيها ذم المرجئة، منها حديث «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة، والقدرية (1) » وحديث «صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة: المرجئة، والقدرية (2) » وحديث «صنفان من أمتي لا يردون علي الحوض: القدرية، والمرجئة (3) »
__________
(1) رواه الترمذي: كتاب القدر، باب ما جاء في القدر 6\321 رقم 2150، وابن ماجه: المقدمة، باب في الإيمان 1\13 رقم 50، وابن أبي عاصم في السنة 2\655 رقم 980، وابن بطة في الإبانة الكبرى 2\905 رقم 1272.
(2) رواه: ابن أبي عاصم في السنة 2\654 رقم 979، وابن بطة في الإبانة الكبرى 2\884 رقم 1220.
(3) رواه ابن أبي عاصم في السنة 2\655 رقم 982، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 4\142 رقم 1157.(88/141)
ولا ريب أن هذا وعيد شديد لأصحاب هذه البدع، بيد أن أنظار العلماء قد اختلفت في صحة ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لا، والذي يراه الشيخ عبد الله بن الإمام أنها لا تثبت
وعلى كل، فإن البدع مذمومة شرعا، واختلاف أهلها من الاختلاف المذموم، ومن ذلك بدعة الإرجاء، وأهلها من أهل الأهواء
وقد جاء ذمها على لسان السلف، فقد " أنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكارا شديدا، وممن أنكر ذلك على قائله، وجعله قولا محدثا سعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وقتادة، وأيوب السجستاني، والنخعي، والزهري، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم.
وقال الثوري: رأي محدث أدركنا الناس على غيره.
وقال الأوزاعي: كان من مضى من السلف لا يعرفون الإيمان إلا العمل (1)
ومع هذا فإن الذم والتحذير من البدعة شيء، والحكم على قائلها بالكفر شيء آخر، ولذلك نجد الشيخ عبد الله بن الإمام يقول: " الذي عليه المحققون من العلماء أن أهل البدع، كالخوارج، والمرجئة، والقدرية، والرافضة، ونحوهم، لا يكفرون؛ وذلك لأن الكفر لا يكون
__________
(1) انظر التوضيح 122، وراجع: جامع العلوم والحكم 1\104.(88/142)
إلا بإنكار ما علم من الدين بالضرورة، ثم قال:
«ولا تختلف نصوص أحمد أنه لا يكفر المرجئة، فإن بدعتهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع» (1)
فهذا في حق مرجئة الفقهاء، وأما من قال إن الإيمان مجرد المعرفة أو التصديق، فإن السلف اشتد نكيرهم على أهل هذه المقالة، ومنهم من كفر من قال بها
ويذكر الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله أن المشهور في مذهب الحنابلة، والصحيح منه، هو تكفير المجتهد الداعي إلى القول بخلق القرآن، ونفي الرؤية، ونحو ذلك.
__________
(1) الدرر السنية 10\243، 244 - 245، ومجموعة الرسائل 1\195، وانظر: الضياء الشارق 383، 384.(88/143)
قال المجد رحمه الله: الصحيح أن كل بدعة كفرنا فيها الداعية، فإنا نفسق المقلد فيها، كمن يقول بخلق القرآن، أو أن علم الله سبحانه مخلوق، أو أسماءه مخلوقة، أنه لا يرى في الآخرة، أو يسب الصحابة، أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد، ونحو ذلك، فمن كان عالما في شيء من هذه البدع، يدعو إليه، ويناظر عليه، فهو محكوم بكفره، نص أحمد على(88/143)
ذلك في مواضع. انتهى.
فتبين أن الصحيح من المذهب تكفيره، ولم يعذرهم بالجهل
وحصول الاختلاف في تكفير بعض الفرق والطوائف مبني كما يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله على أن بعض أقوالهم قد يبقى معه أصل الإيمان، والتوحيد المانع من الكفر المخرج عن الملة، فمن كفر بعضهم، فهو يحتج بالنصوص المكفرة لهم من الكتاب والسنة، ومن لم يكفر فحجته أن أصل الإسلام الثابت لا يحكم بزواله إلا لحصول مناف لحقيقته، مناقض لأصله، فالعمدة استصحاب الأصل وجودا وعدما (1)
ومبني أيضا على التفريق بين المسائل الخفية والمسائل الظاهرة الجلية، ففي المقالات الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر، والإرجاء، ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء، فإن بعض أقوالهم تتضمن أمورا كفرية، من رد أدلة الكتاب والسنة المتواترة، فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفرا، ولا يحكم على قائله بالكفر؛ لاحتمال وجود مانع الجهل، وعدم العلم بنقض النص، أو
__________
(1) انظر: مصباح الظلام 522.(88/144)
بدلالته، فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها.
وأما الأمور الظاهرة، أو ما يعلم من الدين بالضرورة، فهذا لا يتوقف في كفر قائله، بعد بلوغ الحجة، ووضوح المحجة
فمرد الأمر على هذا راجع للقاعدة الكلية في باب التكفير عند أهل السنة والجماعة، وهي وجوب توفر الشروط وانتفاء الموانع في تكفير المعين، والله أعلم.(88/145)
الخاتمة
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على خير خلقه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ثم أما بعد:
ففي خاتمة هذا البحث يقف الناظر على جملة من الحقائق المهمة، منها:
أولا: ما حبا الله تعالى به أئمة السلف ومن تابعهم على قول الحق، ورد الباطل، ونقض حججه وشبهه، دون محاباة أو مداهنة، مع الإنصاف والعدل.
ثانيا: أن مقالة الإرجاء جاءت مقابلا لمقالة التكفير، فصارا طرفي نقيض، والحق هو في إعمال النصوص جميعا، فبه تأتلف الأقوال، وتتحقق الوسطية.(88/145)
ثالثا: أن مخالفة المرجئة جرأت الجهلة على الدين، وصار من لا بصيرة له إذا علم بمقالتهم يحسب أنه من الذين يحسنون صنعا، فإنه من القائلين لا إله إلا الله، وبها حاز كمال الإيمان في زعمه، وما علم أن كلمة التوحيد لا بد لها من قيود ثقال لا ينجو قائلها إلا بتحقيقها.
رابعا: أن على أهل العلم دورا مهما في رد الناس إلى المعتقد الحق، ولو تعرضوا للبلاء، فإن العاقبة للمتقين.
خامسا: أن ما حرره علماء الدعوة من ردود على المرجئة لا يخرج عما جاء عن الأئمة المتقدمين، فهو يخرج من مشكاة واحدة.
سادسا: ثمت فرق بين الحكم على المقالة، والحكم على قائلها، فمع حصول الذم للمرجئة، والتحذير من بدعتها، فإن الحكم على أهلها مقيد بتوفر الشروط، وانتفاء الموانع.
سابعا: أن المقالات المبنية على أصول بدعية، تؤدي دائما إلى نتائج باطلة، ولوازم فاسدة تنادي بضعفها وبطلانها.
هذا وأسأل الله تعالى أن يتقبل هذا العمل، وأن يجعله خالصا لوجهه، وأن ينفع به، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(88/146)
ركائز منهج السلف في الدعوة إلى الله
لفضيلة الدكتور عبد الله بن محمد المجلي
المقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد:
فلما كانت الدعوة إلى الله تعالى وتبليغ دين الإسلام من أعظم الأعمال الصالحة وأفضل القربات النافعة كان لا بد في أدائها والقيام بها السير على المنهج المشروع والمسلك المتبوع الذي يعتمد على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بفهم سلف الأمة المهديين وأئمتها المرضيين.
وتشتد الحاجة لمعرفة المنهج السليم والطريق القويم في الدعوة إلى الله تعالى في هذا الزمن الذي اختلطت فيه المفاهيم واضطربت فيه الأفكار وتضاربت فيه الآراء عند كثير من الناس فوقعت من بعضهم ممارسات وتطبيقات - زعموها دعوية - جانبوا فيها الصواب وارتكبوا فيها المحذور من الأقوال والأفعال، وكان من أظهر عواقبها الوخيمة(88/147)
وآثارها السيئة على الأمة؛ الفرقة والاختلاف بين مجتمعات المسلمين والتي كانت سببا للفشل والإخفاق في عدد من مجالات الحياة بينهم، وصدق الله العظيم حيث يقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1)
ولن تتخلص مجتمعات المسلمين من حالها التي هي عليها بعد توفيق الله تعالى إلا بوجود دعوة صادقة صحيحة قائمة على الأصول والقواعد الشرعية التي كان عليها سلف الأمة الصالحون وأئمة الدين والهدى أهل العلم والبصيرة والاستقامة وحسن السيرة، ومن جاء بعدهم ممن سار على نهجهم واقتفى أثرهم والتزم طريقهم.
وإن هذا البحث جهد علمي يسعى لتقديم إضاءات نافعة بإذن الله تعالى تسهم في تحديد معالم المنهج السديد والمسلك القويم في الدعوة إلى الله تعالى.
ويحاول – بعون الله – تزويد المعنيين بأمر الدعوة – دارسين وممارسين – ببعض المفاهيم والمنطلقات والقواعد المبنية على الدليل الشرعي والتي لا بد منها في أي عمل دعوي رشيد.
ويقوم هذا البحث في منهجه العلمي على: الاستقراء، والاستنباط، والتحليل للنصوص الشرعية بما يخدم قضية البحث وموضوعه الذي هو بعنوان: (ركائز منهج السلف الصالح في الدعوة إلى الله تعالى) .
وينقسم إلى مبحثين: أولهما يتناول التعريفات والمفاهيم
__________
(1) سورة الأنفال الآية 46(88/148)
لمصطلحات البحث ومفردات عنوانه.
والثاني: يتكون من مطالب خمسة يتضمن كل واحد منها الحديث بالتفصيل عن ركيزة من ركائز المنهج والتي هي: العلم، والاستقامة، والحكمة، وسلامة الأساليب، والصبر.
والله تعالى الموفق والمعين وهو المسؤول سبحانه أن يجعل هذا الجهد مسددا، وخالصا لوجهه، ونافعا لكاتبه وقارئه، ومثريا للميدان العلمي في تخصصه.(88/149)
المبحث الأول: تعريفات ومفاهيم
يحسن الحديث قبل الدخول في تفصيلات البحث أن نعرف تعريفا موجزا بمفردات عنوانه وهي الركائز، والمنهج، والسلف الصالح، والدعوة إلى الله.
فالركيزة: ما يرتكز عليه الشيء حتى يكون ثابتا مستقرا (1) ونعني بها هنا: القواعد التي يقوم عليها العمل الدعوي وتحكمه وتضبطه حتى يكون سديدا.
والمنهج: في اللغة كالنهج وهو الطريق البين الواضح (2) وهو في الاصطلاح الدعوي: مجموعة القواعد والأصول الدعوية الثابتة التي لا تتغير بتغير الظروف والأحوال.
__________
(1) انظر: لسان العرب \ ابن منظور (بيروت: دار الفكر: ط1: 1410) 5\356.
(2) انظر: القاموس المحيط \ الفيروزآبادي (بيروت: مؤسسة الرسالة: ط2: 1407) 266.(88/149)
وهو يختلف عن الأسلوب في الاصطلاح الدعوي، إذ الأسلوب: هو مجموعة الممارسات والتطبيقات الدعوية المتنوعة والمتغيرة بتغير الظروف والأحوال.
فالمنهج الدعوي أصول ثابتة وقواعد مستقرة لا مجال للاجتهاد فيه، أما الأسلوب الدعوي فممارسات وتطبيقات معنوية أو حسية يمكن الاجتهاد فيه بشرط عدم الخروج على القواعد الشرعية.
أما تعريف السلف في اللغة فهو: كل من سبق في الزمان وتقدم وانقضى
وفي الاصطلاح: هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعون وأتباع التابعين ومن جاء بعدهم من أئمة الدين وأعلام الملة الذين ساروا على منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاعتقاد والقول والعمل ولم يخالفوا في شيء من ذلك
وهؤلاء هم السلف الصالح وأهل السنة والجماعة، وهم الجماعة،(88/150)
وهم الطائفة المنصورة، وهم الفرقة الناجية، وهم أهل الحديث، وأهل الأثر، وهم أهل السنة وهم الغرباء إلى غير ذلك من أوصافهم التي جاءت نصوص السنة بكثير منها، ومن ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام «لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون (1) » وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الافتراق «والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة (2) » وقوله عليه الصلاة والسلام «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس، أو يصلحون ما أفسد الناس (3) »
ولكونهم يجتمعون على الحق، ولأنهم أهل اتباع لا ابتداع وأهل اجتماع لا افتراق فمنهجهم وطريقتهم أسلم وأعلم وأحكم، فالخير كل الخير في
__________
(1) صحيح البخاري \ كتاب الاعتصام بالسنة: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم – لا تزال طائفة من أمتي \ 667، وصحيح مسلم \ كتاب الإمارة: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم – لا تزال طائفة من أمتي \ 3544.
(2) سنن ابن ماجه \ كتاب الفتن: باب افتراق الأمم \ 3982، وسنن أبي داود \ كتاب السنة: باب شرح السنة \ 3981 (صححه الألباني: صحيح سنن ابن ماجه: 3226) .
(3) صحيح مسلم \ كتاب الإيمان: باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا \ 209، ومسند الإمام أحمد \ أول مسند المدنيين: حديث عبد الرحمن بن سنة \ 16094 وهذا لفظه.(88/151)
اقتفائها والسير عليها، والاقتداء بهم، ولزوم منهجهم وسبيلهم قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) ، وقال سبحانه: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (2) .
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلال (3) »
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحسن الحديث كتاب الله عز وجل وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة النساء الآية 115
(3) سنن الترمذي \ كتاب العلم: باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة \ 2600، وسنن أبي داود \ كتاب السنة: باب في لزوم السنة \ 3991 (صححه الألباني: صحيح سنن الترمذي: 2157.(88/152)
محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (1) »
ونقل الآجري عن محمد بن الحسين قوله: (علامة من أراد الله عز وجل به خيرا سلوك هذه الطريق كتاب الله عز وجل وسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنن أصحابه رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان رحمة الله تعالى عليهم، وما كان عليه أئمة المسلمين في كل بلد ... ) (2)
وقال ابن أبي العز الحنفي: (فيجب على كل مسلم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصا الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم، يهدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم؛ إذ كل أمة قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - علماؤها شرارها إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم فإنهم خلفاء الرسول في أمته والمحيون لما مات من سننه، بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق وبه نطقوا، وكلهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء الحديث بخلافه فلا بد له في تركه من عذر، وجماع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله. والثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول، الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ، فلهم
__________
(1) صحيح مسلم \ كتاب الجمعة: باب تخفيف الصلاة والخطبة \ 1435.
(2) الشريعة \ الآجري (الرياض: دار السلام: ط1: 1413) 24.(88/153)
الفضل علينا والمنة بالسبق وتبليغ ما أرسل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلينا وإيضاح ما كان منه يخفى علينا فرضي الله عنهم وأرضاهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) (2)
أما تعريف الدعوة: ففي اللغة فلها معان كثيرة منها: الحث والحض والطلب والنداء والدعاء والرجاء والرغبة
وفي الاصطلاح هي: قيام المكلفين بتبليغ الإسلام للناس وإقامته بينهم بطرق مشروعة.
ويقوم منهج السلف الصالح في الدعوة على ركائز خمس هي: العلم، والاستقامة، والحكمة، وسلامة الوسائل والأساليب الدعوية، والصبر
وفيما يلي بيان كل واحد منها:
__________
(1) سورة الحشر الآية 10
(2) شرح العقيدة الطحاوية \ علي الحنفي (مرجع سابق) 503.(88/154)
المبحث الثاني: ركائز المنهج
المطلب الأول: العلم
العلم من الألفاظ التي يصعب تعريفها تعريفا دقيقا حتى قيل إنه مستغن عن التعريف، ومما عرف به: أنه إدراك الشيء على ما هو عليه، وقيل: زوال الخفاء من المعلوم، وقيل: علمه يعلمه علما عرفه حق المعرفة. وهو ضد الجهل ونقيضه
وللعلم منزلة عالية، ومقام رفيع، فبالعلم يفوق الإنسان غيره، ويسبق من سواه، ويتقدم على من عداه، و (العلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأفضل ما طلب وجد فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب؛ لأن شرفه يثمر على صاحبه، وفضله ينمي على طالبه. قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1) فمنع المساواة بين العالم والجاهل لما قد خص به العالم من فضيلة العلم.... وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الناس أبناء ما يحسنون. وقال مصعب بن الزبير: تعلم العلم فإن
__________
(1) سورة الزمر الآية 9(88/155)
يكن لك مال كان لك جمالا، وإن لم يكن لك مال كان لك مالا. وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: يا بني تعلموا العلم فإن كنتم سادة فقتم، وإن كنتم وسطا سدتم، وإن كنتم سوقة عشتم. وقال بعض الحكماء: العلم شرف لا قدر له، والأدب مال لا خوف عليه (1)
والعلم أنواع كثيرة وفق عدد من التصنيفات في مقدمتها العلم بأمور الدين والشريعة وهو الذي نعنيه هنا ونركز عليه لصلته بموضوعنا، فهذا العلم كما تدل عليه النصوص الشرعية وأقوال سلف الأمة: هو تركة الأنبياء وتراثهم، وأهله عصبتهم ووراثهم، وهو حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض العقول، ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين، وهو الميزان الذي توزن به الأقوال والأفعال والأحوال، وهو الحاكم والمفرق بين الشك واليقين، وبين الغي والرشاد والهدى والضلال، به يعرف الله ويعبد ويذكر ويوحد، وهو الصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والأنيس في الوحشة، والكاشف عن الشبهة، والغنى الذي لا فقر على من ظفر بكنزه، والكنف الذي لا ضيعة على من أوى إلى حرزه، مذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قربة، وبذله صدقة، ومدارسته عبادة، وهو حجة الله في أرضه، ونوره بين عباده، وقائدهم ودليلهم إلى جنته، ومدنيهم من كرامته، ويكفي في شرفه أن فضل أهله على العباد كفضل القمر ليلة
__________
(1) أدب الدنيا والدين \ الماوردي (بيروت: دار إحياء العلوم: ط1: 1408) ص62 - 63.(88/156)
البدر على سائر الكواكب، وكفضل سيد المرسلين على أدنى الصحابة منزلة، وأن الملائكة تضع لهم أجنحتها وتظللهم بها، وأن العالم يستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في البحر وحتى النملة في جحرها، وأن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير(88/157)
أدلة فضل العلم:
وأدلة فضل العلم ومكانته في الكتاب والسنة كثيرة جدا منها: أن الله تعالى أمر أعلم العباد وأكملهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يسأله الزيادة من العلم دون غيره لشرفه فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (1) ، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يدعو بزيادة العلم النافع؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علما، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من عذاب النار (2) »
وأخبر تعالى عن رفعة أهل العلم وتقدمهم على غيرهم في قوله تعالى:
__________
(1) سورة طه الآية 114
(2) سنن الترمذي \ كتاب الدعوات: باب في العفو والعافية \ ح3523، وسنن ابن ماجه \ كتاب المقدمة: باب الانتفاع بالعلم والعمل \ ح247 (صححه الألباني: صحيح سنن الترمذي: 2845) .(88/157)
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1) .
ونفى تعالى التسوية بين من يعلم وبين من لا يعلم فقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) .
والعلماء هم أكثر الناس خشية لله لكمال معرفتهم به يقول تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (3) .
والعلم يسبق العمل، ولا عمل صائب إلا بعلم كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (4) .
والعلم النافع يبقى نفعه مستمرا لصاحبه بعد موته فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة؛ إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (5) »
والتفقه في الدين خير عظيم لأهله فعن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (6) »
__________
(1) سورة المجادلة الآية 11
(2) سورة الزمر الآية 9
(3) سورة فاطر الآية 28
(4) سورة محمد الآية 19
(5) صحيح مسلم \ كتاب الوصية: باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته \ ح3084، وسنن النسائي \ كتاب الوصايا: باب فضل الصدقة عن الميت \ ح3591.
(6) صحيح البخاري \ كتاب العلم: باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين \ ح69، وصحيح مسلم \ كتاب الزكاة: باب النهي عن المسألة \ ح1721.(88/158)
والسعي في طلب العلم فيه أجر عظيم وفضل كبير فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة (1) »
وعن قيس بن كثير قال قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء رضي الله عنه وهو بدمشق فقال ما أقدمك يا أخي، فقال: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أما جئت لحاجة؟ قال: لا، قال: أما قدمت لتجارة؟ قال: لا، قال: ما جئت إلا في طلب هذا الحديث، قال: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء؛ إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر (2) »
ومن وصايا عبد الله بن مسعود قوله: (اغد عالما أو متعلما أو
__________
(1) صحيح مسلم \ كتاب الذكر والدعاء: باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن والذكر \ ح4867، وسنن الترمذي \ كتاب العلم: باب فضل طلب العلم \ ح2570.
(2) سنن الترمذي \ كتاب العلم: باب فضل الفقه على العبادة \ ح2606، وسنن أبي داود \ كتاب العلم: باب الحث على طلب العلم \ ح2157 (صححه الألباني: صحيح سنن الترمذي: 2159) .(88/159)
مستمعا، ولا تكن الرابع فتهلك) (1) فهذه النصوص وغيرها تدل على فضل العلم وأهميته.
__________
(1) سنن الدارمي \ كتاب المقدمة: باب ذهاب العلم \ 248.(88/160)
درجات العلوم:
والعلوم ليست على درجة واحدة في الحكم والفضل وإنما هي تتفاوت فمن العلوم ما يكون تعلمه فرض عين، وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه اعتقاده وفعله إلا به، كأصول الإيمان وفروع الشريعة الواجبة ككيفية الوضوء، والصلاة، ونحوهما مما يحتاج إليه العبد في إقامة دينه وإخلاص عمله لله تعالى ومعاشرة عباده.
ومنها ما تعلمه فرض كفاية، وهو تحصيل ما لا بد للناس منه في إقامة جميع أمور دينهم من فروع العلوم الشرعية وتفصيلاتها مما هو دون الأول، ومما لا بد للناس منه في قيام دنياهم وانتظام معايشهم من علوم الطب والصناعات والزراعة وغيرها.
ومن العلوم ما تعلمه محرم على تفاوت في درجات التحريم كعلم السحر والشعبذة والتنجيم، وكل ما كان تعلمه سببا في الفساد والشر فتعلمه ممنوع شرعا(88/160)
وكل ما لا يحرم تعلمه ولا ينشط على الشر ولا يثبط عن الخير فمباح تعلمه ويؤجر صاحبه إن شاء الله إذا حسنت نيته وقصد نفع عباد الله.(88/161)
العلم الدعوي:
(ولما كانت الدعوة إلى الله من أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه) (1)
ولذلك جعل الله تعالى الدعوة بعد التفقه في الدين كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (2) .
والعلم وإن كان مطلوبا لكل أحد فهو في حق الداعية ألزم وأوجب إذ لا يمكن قيام دعوة صحيحة من دون علم، وبدونه تتحول الدعوة إلى دعوة فاسدة ضالة قائمة على الجهل والهوى وتقود إلى الفتنة والفساد والضلال قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} (3) .
ويعد القائم بالدعوة من دون علم من القائلين على الله وعلى رسوله بغير علم وقد قال تعالى فيهم: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (4) ،
__________
(1) انظر: مفتاح دار السعادة \ ابن القيم (مرجع سابق) 1\154.
(2) سورة التوبة الآية 122
(3) سورة الأنعام الآية 119
(4) سورة الأنعام الآية 144(88/161)
وحذر تعالى من ذلك بقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) ، وفي قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (2) .
وحذر من ذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (3) »
والعلم الذي يجب أن يكون عليه الداعية حال دعوته ينقسم إلى ثلاثة أقسام (4)
أ - العلم بموضوع الدعوة ومضمونها: فلا يتحدث الداعية إلا في أمر يعلمه، ولديه معرفة كافية بطبيعته وبحقيقته ومشروعيته وأدلته.
ب - العلم بكيفية الدعوة وطريقتها: بمعنى أن يكون الداعية على علم ومعرفة بمنهج الدعوة وبالأساليب والوسائل المناسبة التي يجب أن
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) سورة الإسراء الآية 36
(3) صحيح البخاري \ كتاب العلم: باب إثم من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - \ 107، وصحيح مسلم \ كتاب المقدمة: باب تغليظ الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - \ 4.
(4) انظر: رسالة في الدعوة إلى الله \ محمد بن عثيمين (مصر: مكتبة الربانيين: د0ت) 21.(88/162)
يسلكها في دعوته من حيث مشروعيتها وكيفية استخداماتها والظروف المحيطة بذلك.
ج - العلم بالمدعوين: وهم جمهور الدعوة فيعرف الداعي أصناف المدعوين وطبائعهم وظروفهم وأحوالهم ومستوياتهم العلمية والاجتماعية ليختار لهم من الأساليب أنجعها ومن الطرق أنفعها ومن الموضوعات أنسبها. ويدل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) . والبصيرة بمعناها العام هي العلم والفهم فتتناول هذه الأمور الثلاثة في حق الداعية.
كما يدل على ذلك تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل رضي الله عنه هذه الأنواع الثلاثة كلها لما بعثه إلى اليمن داعيا؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام له: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك فأعلمهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب (2) »
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) صحيح البخاري \ كتاب الزكاة: باب: أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء ... \1496، وصحيح مسلم \ كتاب الإيمان: باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام \ 27.(88/163)
فقوله عليه الصلاة والسلام (أهل كتاب) إخبار منه عليه الصلاة السلام بحال المدعوين وطبيعتهم.
وذكره التوحيد والإقرار برسالته والصلاة والزكاة وتجنب الظلم وتحري العدل بيان لموضوعات الدعوة.
والترتيب بين تلك الموضوعات من حيث البدء بالأهم منها فما دونه يدل على كيفية الدعوة وطريقتها.
وهناك أدلة أخرى تشير إلى أهمية هذه الأمور الثلاثة وضرورتها للداعية وتدل عليها، كما في قصة سليمان عليه السلام مع الهدهد في دعوة ملكة سبأ إذ تضمنت القصة ما يدل على العلم بحال المدعو في قوله تعالى عن خبر الهدهد لسليمان عليه السلام: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} (1) {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} (2) {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} (3) .
وتضمنت ما يدل على العلم بموضوع الدعوة في قوله تعالى: {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} (4) {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (5) {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (6) .
__________
(1) سورة النمل الآية 22
(2) سورة النمل الآية 23
(3) سورة النمل الآية 24
(4) سورة النمل الآية 29
(5) سورة النمل الآية 30
(6) سورة النمل الآية 31(88/164)
وتضمنت ما يدل على العلم بأساليب الدعوة ووسائلها في قوله سبحانه: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} (1) ، وفي قوله تعالى: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2) .
أما الأدلة على كل واحد منها فهي كثيرة جدا، من ذلك في مجال كيفية الدعوة حديث أبي موسى - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أموره قال: «بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا (3) »
وقوله عليه الصلاة والسلام لأبي موسى ومعاذ رضي الله عنهما حينما بعثهما إلى اليمن «يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا (4) »
وبالجملة فإن على الداعية أن يكون على قدر كبير من العلم والمعرفة وسعة الثقافة واستيعاب الأمور وفهمها بما ينعكس على شخصيته ودعوته.
__________
(1) سورة النمل الآية 28
(2) سورة النمل الآية 37
(3) صحيح مسلم \ كتاب الجهاد والسير: باب الأمر بالتيسير وترك التنفير \ 3262.
(4) صحيح البخاري \ كتاب الجهاد والسير: باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب \ 2811، وصحيح مسلم \ كتاب الإيمان: باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير \ 3263.(88/165)
المطلب الثاني: الاستقامة:
وهي لزوم المنهج الحق والمسلك السديد والعمل الرشيد، وهي عمل القلب بالاعتقاد السليم وعمل اللسان بالقول الرشيد وعمل الجوارح بالفعل السديد إخلاصا لله ورغبة في ثوابه واتباعا لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهي كذلك تطبيق ما علمه المسلم من أمور دينه فهي العمل الصالح الذي هو ثمرة العلم النافع
ولهذا جاء الأمر بالاستقامة كثيرا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام آمرا له وللمؤمنين بالاستقامة وناهيا لهم عن ضدها، وهو الطغيان، الذي يعني مجاوزة الحدود في كل شيء {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) .
وأمر الله - عز وجل - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر الناس بالاستقامة فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} (2) .
__________
(1) سورة هود الآية 112
(2) سورة فصلت الآية 6(88/166)
وأمر الله - جل وعلا - بها موسى وهارون - عليهما السلام - في قوله سبحانه: {فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1) ، وبين سبحانه وتعالى الجزاء العظيم والفضل الكبير للاستقامة في قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) ، وفي قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (4) {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (5) ، وفي قوله تعالى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} (6) {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} (7) .
وبالاستقامة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوصي أصحابه ويأمرهم بها، فعن سفيان بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: «قل آمنت ثم استقم (8) » وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أنه لن ينجو أحد
__________
(1) سورة يونس الآية 89
(2) سورة الأحقاف الآية 13
(3) سورة الأحقاف الآية 14
(4) سورة فصلت الآية 30
(5) سورة فصلت الآية 31
(6) سورة الجن الآية 16
(7) سورة الجن الآية 17
(8) صحيح مسلم \ كتاب الإيمان: باب جامع أوصاف الإسلام \ ح55.(88/167)
منكم بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته (1) » .
وعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن (2) »
فالمطلوب الاستقامة وهي السداد، فإن لم يقدر فالمقاربة وهي دونها، فإن نزل عن المقاربة فما بقي إلا الضياع والتفريط (3)
والاستقامة كلمة آخذة بمجامع الدين كله وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد وهي تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات (4)
كما أنها تعني لزوم المنهج الوسط بإخلاص وهو الطريق المستقيم الذي لا غلو فيه ولا جفاء ولا إفراط ولا تفريط، إذ الشيطان حريص على إغواء بني آدم بطريقين مهلكين هما طريق الإفراط وطريق التفريط
__________
(1) صحيح البخاري \ كتاب الرقاق: باب القصد والمداومة على العمل \ ح5986، وصحيح مسلم \ كتاب صفة القيامة والجنة والنار: باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله \ 5043.
(2) سنن ابن ماجه \ كتاب الطهارة وسننها: باب المحافظة على الوضوء \ 273 (صححه الألباني: صحيح سنن ابن ماجه: 224) .
(3) انظر مدارج السالكين \ ابن القيم (مصر: دار الحديث: د0ت) 2\109.
(4) انظر المرجع السابق 2\110.(88/168)
يقول الإمام ابن القيم: (والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيرا وهما الاقتصاد في الأعمال والاعتصام بالسنة، فإن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره فإن رأى فيه داعية للبدعة وإعراضا عن كمال الانقياد للسنة أخرجه عن الاعتصام بها، وإن رأى فيه حرصا على السنة وشدة طلب لها لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها، فأمره بالاجتهاد والجور على النفس ومجاوزة حد الاقتصاد فيها، قائلا له: إن هذا خير وطاعة والزيادة والاجتهاد فيها أكمل فلا تفتر مع أهل الفتور ولا تنم مع أهل النوم، فلا يزال يحثه ويحرضه حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها فيخرج عن حدها، كما أن الأول خارج عن هذا الحد، فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر، وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم وصيامهم مع صيامهم وقراءتهم مع قراءتهم، وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة، لكن هذا إلى بدعة التفريط والإضاعة والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف.
وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة وهي الإفراط، ولا يبالي بأيهما ظفر: زيادة أو نقصان، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «يا عبد الله بن عمرو إن لكل عامل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنة أفلح، ومن كانت فترته إلى بدعة خاب وخسر (1) » قال له ذلك حين أمره بالاقتصاد في العمل، فكل الخير في اجتهاد باقتصاد وإخلاص مقرون بالاتباع كما قال بعض الصحابة: (اقتصاد في سبيل
__________
(1) رواه أحمد في كتاب المكثرين مسند عبد الله بن عمرو حديث 6664.(88/169)
وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة) . فاحرصوا أن تكون أعمالكم على منهاج الأنبياء عليهم السلام وسنتهم، وكذلك الرياء في الأعمال يخرجه عن الاستقامة والفتور والتواني يخرجه عنها أيضا (1)
وبما أن الاستقامة هي العمل الصالح الذي هو ثمرة العلم النافع فإن المسلم إذا تعلم وعمل حصل على الخير كله والفضل والإحسان والزكاء في الدنيا والآخرة قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) ، والعمل بالعلم هو منهج سلف الأمة الأخيار وأئمتها الأبرار، فقد روى الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن زيد بن خالد الجهني، قال: حدثنا من كان يقرئنا القرآن من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أنهم كانوا يقترئون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل (3) »
__________
(1) المرجع السابق 2\112 - 113 (باختصار) .
(2) سورة فصلت الآية 33
(3) مسند الإمام أحمد \ باقي مسند الأنصار: حديث رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - \ 23482 (إسناده حسن: المسند بتحقيق الأرناؤوط: 38\466) .(88/170)
استقامة الداعي:
ولا يكون الداعية ذا شأن كبير وتأثير بالغ في الناس بدعوته ما لم يكن مستقيما على أمر ربه ملتزما بما يدعو إليه من الخير قدوة صالحة(88/170)
لمدعويه في الخير، لأنه يدعو حينئذ بحاله قبل مقاله وبسلوكه قبل كلامه
واستقامة الداعية على الحق وعمله بما يعلم من الزاد الذي يتقوى به في دعوته ومن الأسباب القوية المعينة له على القيام بها ومواصلتها واستمرارها، وترك الداعية للاستقامة والعمل الصالح من أسباب فشله ونفور الناس منه ومن دعوته والإعراض عنها وتركها، فلسان حالهم ومقالهم: كيف يدعونا إلى أمر لا يعمل به؟ فلو كان خيرا لسبقنا إليه، هذا فضلا عن كون ترك العمل بالعلم مذموما شرعا ومحذرا منه في القرآن والسنة؛ يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) ، وقال تعالى عن بعض بني إسرائيل ذما لهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (3) ، ووصف الله تعالى من حمل التوراة ولم يحملها بالعمل بها بوصف منفر، فقال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (4) .
__________
(1) سورة الصف الآية 2
(2) سورة الصف الآية 3
(3) سورة البقرة الآية 44
(4) سورة الجمعة الآية 5(88/171)
قال ابن كثير: (يقول تعالى ذاما لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها ثم لم يعملوا بها، مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا، أي كمثل الحمار إذا حمل كتبا لا يدري ما فيها، فهو يحملها حملا حسيا ولا يدري ما عليه، وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه حفظوه لفظا ولم يتفهموه، ولا عملوا بمقتضاه، بل أولوه وحرفوه وبدلوه، فهم أسوأ حالا من الحمير لأن الحمار لا فهم له وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (1) ، وقال تعالى هاهنا {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2) .
وأخبر تعالى عن الذي لم ينفعه علمه فلم يعمل به، واصفا إياه بالغواية فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} (3) {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (4) .
واستعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من العلم الذي لا ينفع وهو الذي لا يقود صاحبه إلى العمل الصالح؛ ففي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان
__________
(1) سورة الأعراف الآية 179
(2) سورة الجمعة الآية 5
(3) سورة الأعراف الآية 175
(4) سورة الأعراف الآية 176(88/172)
يقول: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها (1) »
وجاء في حديث عند البخاري عن أسامة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «يجاء بالرجل فيطرح في النار فيطحن فيها كما يطحن الحمار برحاه، فيطوف به أهل النار فيقولون: أي فلان، ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمر بالمعروف ولا أفعله وأنهى عن المنكر وأفعله (2) » فكيف يسوغ لداعية أن يدعو لأمر وهو على خلافه وينهى عن شيء وهو مرتكب له، وهذا بلا شك هو الازدواجية المذمومة التي تعني التناقض بين الأقوال وبين الأعمال، وبين التنظير وبين التطبيق، ومعلوم أن تلك الازدواجية من أعظم القوادح في شخصية الإنسان أيا كان فضلا عن أن يكون داعية إلى الله.
__________
(1) صحيح مسلم \ كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل \ 4899.
(2) صحيح البخاري \ كتاب الفتن: باب الفتنة التي تموج كموج البحر \ 6569.(88/173)
المطلب الثالث: الحكمة:
أصل الحكمة في اللغة: المنع يقال (حكمت) عليه بكذا إذا منعته من خلافه فلم يقدر على الخروج من ذلك، و (الحكمة) – بالفتح - للدابة ما أحاط بحنكيها من حبل ونحوه سميت بذلك لأنها تذللها لراكبها حتى تمنعها الجماح ونحوه، ومنه اشتقاق (الحكمة) لأنها تمنع(88/173)
صاحبها من أخلاق الأرذال ... و (أحكمت) الشيء، بالألف: أتقنته، (فاستحكم) هو صار كذلك (1) (ورجل حكيم إذا كان ذا حجى ولب وإصابة رأي) (2)
وتأتي الحكمة بمعنى العدل والعلم والحلم والإتقان والضبط، ومن معانيها في القرآن الكريم: النبوة والقرآن والسنة
وتعرف في الاصطلاح بأنها: (إصابة الحق بالعلم والعقل) وكذلك بأنها: (الإصابة في القول والفعل) وكذلك بأنها: (معرفة الحق والعمل به) وبأنها: (وضع الشيء في موضعه) وبأنها: (فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي)
وكلها معان متقاربة، فالحكمة محورها على الفكر القويم والقول الرشيد والعمل السديد.
قال النووي: (وأما الحكمة ففيها أقوال كثيرة مضطربة، قد اقتصر كل من قائليها على بعض صفات الحكمة، وقد صفا لنا منها أن الحكمة
__________
(1) انظر: المصباح المنير \ أحمد الفيومي (بيروت المكتبة العصرية: ط2: 1418) 79.
(2) التفسير الكبير \ الرازي (بيروت: دار إحياء التراث العربي: ط1: 1415) 3\59.(88/174)
عبارة عن العلم المتصف بالأحكام، المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى، المصحوب بنفاذ البصيرة وتهذيب النفس، وتحقيق الحق، والعمل به، والصد عن اتباع الهوى والباطل، والحكيم من له ذلك) (1)
والحكمة خير كثير ونعمة كبرى يمتن الله بها على من يشاء من عباده ويشرفهم بها ويرفع قدرهم ويعلي شأنهم وذلك لآثارها العظيمة وثمارها الجليلة، وصاحب الحكمة محمود عند الله وعند الخلق، كما قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) .
ولعظم شأن الحكمة امتن الله تعالى بها على خير خلقه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى: « {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (3) » .
ووصف الله وحيه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة فقال تعالى: « {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} (4) » .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (مؤسسة قرطبة: 1412) 2\38.
(2) سورة البقرة الآية 269
(3) سورة النساء الآية 113
(4) سورة الإسراء الآية 39(88/175)
وامتن الله تعالى بها على أنبيائه عليهم السلام، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (1) .
والحكمة هي مما تفضل الله به على الخليل إبراهيم عليه السلام وآله، كما جاء في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} (2) .
وامتن الله تعالى بها على نبيه عيسى عليه السلام، فقال تعالى: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (3) ، وقال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (4) ، وهي حقيقة دعوته عليه السلام لبني إسرائيل، يقول
__________
(1) سورة آل عمران الآية 81
(2) سورة النساء الآية 54
(3) سورة المائدة الآية 110
(4) سورة آل عمران الآية 48(88/176)
تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (1)
وأكرم الله تعالى بها نبيه داود عليه السلام كما في قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (2) .
كما أكرم بها سليمان عليه السلام فقال تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (3) .
وشرف بها تعالى العبد الصالح لقمان في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (4) .
والحكمة هي مما دعا به الخليل عليه السلام ربه لهذه الأمة كما جاء في قوله سبحانه: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (5) .
__________
(1) سورة الزخرف الآية 63
(2) سورة البقرة الآية 251
(3) سورة ص الآية 20
(4) سورة لقمان الآية 12
(5) سورة البقرة الآية 129(88/177)
والحكمة التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - من أعظم نعم الله على هذه الأمة، قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (1) .
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) ، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (3) ، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (4) .
والحكمة من أعظم ما يغبط عليها من رزقها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها (5) »
__________
(1) سورة البقرة الآية 151
(2) سورة البقرة الآية 231
(3) سورة آل عمران الآية 164
(4) سورة الجمعة الآية 2
(5) صحيح البخاري \ كتاب العلم: باب الاغتباط بالعلم والحكمة \ 73.(88/178)
ولعظم شأن الحكمة دعا بها النبي الكريم لابن عباس رضي الله عنهما، فعن ابن عباس قال: ضمني النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صدره وقال: «اللهم علمه الحكمة (1) »
وقال البخاري: والحكمة الإصابة في غير النبوة (2)
وفي سنن الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «دعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤتيني الله الحكمة مرتين (3) »
ومن وجدت عنده مظاهر الحكمة فهو حري بأن يصاحب ويرافق، فعن أبي خلاد - وكانت له صحبة - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيتم الرجل قد أعطي زهدا في الدنيا وقلة منطق فاقتربوا منه فإنه يلقي الحكمة (4) »
ولأهمية الحكمة وضرورتها فالمسلم مطالب بالبحث عنها وتحصيلها والتقاطها أيا كان مصدرها، لأنه الأحق بها من غيره والأجدر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها (5) »
__________
(1) صحيح البخاري \ كتاب المناقب: باب ذكر مناقب ابن عباس رضي الله عنهما \ 3473.
(2) صحيح البخاري \ كتاب المناقب: باب ذكر مناقب ابن عباس رضي الله عنهما \ 3473.
(3) سنن الترمذي \ كتاب المناقب: باب مناقب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما \ 3759 (صححه الألباني: صحيح سنن الترمذي: 3003) .
(4) سنن ابن ماجه \ كتاب الزهد: باب الزهد في الدنيا \ 4091.
(5) سنن الترمذي \ كتاب العلم: باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة \ 2611، وسنن ابن ماجه \ كتاب الزهد: باب الحكمة \ 4159.(88/179)
ومعنى: (ضالة المؤمن) ، أي: مطلوبه.
و (فهو أحق بها) ، أي: الأولى بقبولها..)
وهي مما يتواصى به السلف والخلف، فعن السكن بن عمير قال: سمعت وهب بن منبه يقول: يا بني عليك بالحكمة فإن الخير في الحكمة كله، وتشرف الصغير على الكبير والعبد على الحر، وتزيد السيد سؤددا، وتجلس الفقير مجالس الملوك (1)
__________
(1) سنن الدارمي \ كتاب المقدمة: باب التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله \ 391.(88/180)
أنواع الحكمة وأسباب تحصيلها:
والحكمة نوعان
الأولى: الحكمة العلمية النظرية، وهذه مرجعها إلى العلم والإدراك والفهم، وهي العلم النافع.
الثانية: الحكمة العملية، وهذه مرجعها إلى فعل الحق والعدل والصواب، وهي العمل الصالح.
ويدل على هذين النوعين ما أخبر الله به عن إبراهيم عليه السلام(88/180)
بقوله سبحانه: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} (1) ، وهي الحكمة العلمية، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (2) ، وهي الحكمة العملية.
وما أخبر به عن موسى عليه السلام بقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} (3) وهي تدل على الحكمة العلمية {فَاعْبُدْنِي} (4) ، وهي تدل على الحكمة العملية.
وقال عن عيسى عليه السلام إنه قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} (5) الآية، وهي تدل على الحكمة النظرية، ثم قال: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي} (6) وهو الحكمة العملية.
وما أخبر به عن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (7) وهي الحكمة العلمية، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (8) وهي الحكمة العملية.
وما أخبر به سبحانه عن جميع الأنبياء في قوله تعالى:
__________
(1) سورة الشعراء الآية 83
(2) سورة الشعراء الآية 83
(3) سورة طه الآية 14
(4) سورة طه الآية 14
(5) سورة مريم الآية 30
(6) سورة مريم الآية 31
(7) سورة محمد الآية 19
(8) سورة محمد الآية 19(88/181)
{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} (1) وهي الحكمة العلمية، ثم قال: {فَاتَّقُونِ} (2) وهي الحكمة العملية.
قال الرازي: (.. واعلم أن الحكمة لا يمكن خروجها عن هذين المعنيين، وذلك لأن كمال الإنسان في شيئين: أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، فالمرجع بالأول: إلى العلم والإدراك المطابق، وبالثاني: إلى فعل العدل والصواب.) (3)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله (والحكمة حكمتان: علمية وعملية فالعلمية: الاطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقا وأمرا، قدرا وشرعا.
والعلمية كما قال صاحب المنازل: وهي وضع الشيء في موضعه، قال: وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى: أن تعطي كل شيء حقه ولا تعديه حده ولا تعجله عن وقته ولا تؤخره عنه.
لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها شرعا وقدرا ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعداها، ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر، كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاث بأن تعطي كل مرتبة حقها الذي أحقه الله لها بشرعه وقدره ولا تتعدى بها حدها فتكون
__________
(1) سورة النحل الآية 2
(2) سورة النحل الآية 2
(3) التفسير الكبير \ الرازي (مرجع سابق) 3\58.(88/182)
متعديا مخالفا للحكمة، ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة ولا تؤخرها عنه فتفوتها، وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعا وقدرا، فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض وتعدي الحق: كسقيها فوق حاجتها بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد وتعجيلها عن وقتها: كحصاده قبل إدراكه وكماله.
وكذلك ترك الغذاء والشراب واللباس: إخلال بالحكمة وتعدي الحد المحتاج إليه؛ خروج عنها أيضا وتعجيل ذلك قبل وقته إخلال بها، وتأخيره عن وقته إخلال بها ... فكل نظام الوجود مرتبط بهذه الصفة وكل خلل في الوجود، وفي العبد فسببه الإخلال بها، فأكمل الناس أوفرهم منها نصيبا، وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال: أقلهم منها ميراثا ... ) (1)
وكما أن الحكمة من الصفات الفطرية التي يمن الله بها على من يشاء من عباده فإنها في الوقت ذاته يمكن أن تكتسب وتنمى من خلال أسباب تحصيلها وسبل تنميتها، والتي منها:
1 - العلم؛ وأساسه وأهمه العلم بالكتاب والسنة، ثم سائر العلوم النافعة التي تثري الثقافة وتزيد المعرفة وتوسع الأفق وتنمي الإدراك وتطور الفكر.
2 - الحلم، وهو ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، أو (هو
__________
(1) مدار السالكين \ ابن القيم (مرجع سابق) 2\499 (بتصرف) .(88/183)
الطمأنينة عند سورة الغضب) (1) فلا يستفز طالب الحكمة بقول أو فعل مثير، وهو خصلة رشيدة وسط بين خصلتين ذميمتين هما الغضب والبلادة (2)
3 - الأناة، وهي التثبت والتروي والتبصر في الأمور وعدم العجلة فيها (3) ومن رزق هذه الصفة كانت سببا من أسباب انضباط تصرفاته وحسن تدبيره، وهي خصلة رشيدة وسط بين خصلتين ذميمتين هما العجلة والتباطؤ (4)
والحلم والأناة خصلتان عظيمتان تدلان على عقل راجح ورأي سديد وتصرف سليم ولذلك مدح بها النبي الكريم أشج عبد القيس فعن زارع، وكان في وفد عبد القيس، قال: «لما قدمنا المدينة فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجله قال،: وانتظر المنذر الأشج حتى أتى عيبته فلبس ثوبيه ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «إن فيك خلتين يحبهما الله؛ الحلم والأناة» ، قال: يا رسول الله: أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: «بل الله جبلك عليهما» قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله (5) »
__________
(1) التعريفات \ الجرجاني (مرجع سابق) 126.
(2) انظر: موسوعة أخلاق القرآن (بيروت: دار الرائد العربي: 1407) 1\183.
(3) القاموس المحيط (مرجع سابق) 1628.
(4) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها \ الميداني (دمشق: دار القلم: 1413) 2\367.
(5) صحيح مسلم \ كتاب الإيمان: باب الإيمان بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - \ 24، وسنن أبي داود \ كتاب الأدب: باب في قبلة الرجل \ 4548 واللفظ له.(88/184)
قال النووي: (وأما الحلم فهو العقل، وأما الأناة فهي التثبيت وترك العجلة وهي مقصورة، وسبب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك له ما «جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته ولبس أحسن ثيابه ثم أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقربه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: تبايعون على أنفسكم وقومكم؟ فقال القوم: نعم. فقال الأشج: يا رسول الله إنك لم تزاول الرجل عن شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، ونرسل من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا ومن أبى قاتلناه. قال: صدقت، إن فيك خصلتين» .. الحديث. قال القاضي عياض: فالأناة تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل، والحلم هذا القول الذي قاله الدال على صحة عقله، وجودة نظره..) (1)
4 - الخبرات والتجارب، وهي المهارات والمعارف التي يكتسبها الشخص من خلال ما يمر به من مواقف وأحداث في حياته، فهذه يجب أن تستثمر وتستخلص منها العبر والدروس ويستفاد منها في الأحوال المستجدة.
5 - مصاحبة الحكماء ومجالستهم من العلماء والدعاة وأهل الخبرة والتجربة ليستنير بفكرهم ويسترشد بطريقتهم وينهل من معارفهم
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (مرجع سابق) 1\189.(88/185)
ويتعلم من تجاربهم.
ولا شك أن من يرزق الحكمة ويوفق لها قد حاز على خير عظيم وفضل كبير، قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 269(88/186)
الحكمة الدعوية:
والحكمة من أعظم الركائز وأهمها التي تقوم عليها الدعوة إلى الله، ولهذا أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو بها في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1)
والحكمة في المفهوم الدعوي لا تقتصر على الكلام اللين، أو أسلوب الترغيب وحده، أو التودد والتلطف دوما فحسب، بل هي تشمل ذلك وغيره وحقيقتها أن توضع هذه الأمور وغيرها من التصرفات الحميدة والأساليب الجميلة وتستخدم في مواضعها المناسبة لها، فالرفق واللين يستخدمان في موضعهما والحزم والقوة يستخدمان في موضعهما المناسب لهما.
والحكمة لا تعني بأي حال من الأحوال الضعف والخور والجبن
__________
(1) سورة النحل الآية 125(88/186)
ولا تعني كذلك العنف والقسوة والشدة دون مبرر شرعي. يقول الشنقيطي رحمه الله: (واعلم أن الدعوة إلى الله بطريقين: طريق لين وطريق قسوة؛ أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه، فإن نجحت هذه الطريق فبها ونعمت وهو المطلوب، وإن لم تنجح تعينت طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده وتقام حدوده وتمتثل أوامره وتجتنب نواهيه، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} (1) ، ففيه الإشارة إلى إعمال السيف بعد إقامة الحجة، فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب، والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) (2)
والداعية الحكيم هو الذي يقوم بالدعوة على بصيرة ويبلغها بكل ثقة ويؤديها بكل دقة وإتقان فيضع الأمور في نصابها ويقدرها حق قدرها.
فمن الحكمة ألا يدعو الداعي إلا بعلم ومعرفة وأن يكون هدفه في دعوته ابتغاء مرضاة الله وتعبيد الناس لله رب العالمين، وأن يترفع عما في أيدي الناس وأن يحب الخير لهم ويحسن إليهم، وأن يعرض (عن اللغو، وهو الكلام العبث الذي لا فائدة فيه، إذ لا ينبغي للعاقل أن يشغل سمعه
__________
(1) سورة الحديد الآية 25
(2) أضواء البيان \ الشنقيطي (بيروت: عالم الكتب: د0ت) 2\175.(88/187)
ولبه بما لا جدوى له وبالأولى يتنزه عن أن يصدر منه ذلك) (1)
ومن الحكمة في منهج الدعوة: التدرج في الدعوة، ومراعاة الأولويات فيها، والبدء بالأهم فما دونه، والعناية بالأصول قبل الفروع ويدل على ذلك ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب (2) »
__________
(1) التحرير والتنوير \ ابن عاشور (تونس: دار سحنون: 1997) 20\145.
(2) صحيح البخاري \ كتاب الزكاة: باب: أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء ... \1496، وصحيح مسلم \ كتاب الإيمان: باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام \ 27.(88/188)
ومن الحكمة في موضوعات الدعوة: اختيار الموضوع المناسب للمدعو، كما هو الحال في دعوة موسى وهارون عليهما السلام لفرعون؛ حيث كانت حال فرعون ظلم بني إسرائيل وإيذاءهم واضطهادهم والتضييق عليهم، فكان موضوع دعوتهما له بعد التوحيد رفع الظلم عن بني إسرائيل وترك الطغيان، وهذا ما يناسب حاله، يقول تعالى:(88/188)
{فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} (1) ، وقال تعالى لموسى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (2) {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} (3) {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (4) {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} (5) {فَكَذَّبَ وَعَصَى} (6) {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} (7) {فَحَشَرَ فَنَادَى} (8) {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (9) {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} (10) {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} (11) .
وكذلك الحال في دعوة لوط عليه السلام لقومه، حيث دعاهم بعد التوحيد إلى ترك الفاحشة التي كانت شائعة بينهم، فكان موضوع الدعوة مناسبا لحالهم، وهذا من الحكمة، يقول تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} (12) {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ} (13) {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (14) {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (15) {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (16) {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} (17) {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} (18) .
وكذلك الحال في دعوة شعيب عليه السلام لقومه، حيث دعاهم بعد التوحيد إلى إيفاء الكيل والميزان وعدم بخس الناس حقوقهم، وهذا هو المناسب لحالهم، يقول تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} (19) {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (20) {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} (21)
__________
(1) سورة طه الآية 47
(2) سورة النازعات الآية 17
(3) سورة النازعات الآية 18
(4) سورة النازعات الآية 19
(5) سورة النازعات الآية 20
(6) سورة النازعات الآية 21
(7) سورة النازعات الآية 22
(8) سورة النازعات الآية 23
(9) سورة النازعات الآية 24
(10) سورة النازعات الآية 25
(11) سورة النازعات الآية 26
(12) سورة الشعراء الآية 160
(13) سورة الشعراء الآية 161
(14) سورة الشعراء الآية 162
(15) سورة الشعراء الآية 163
(16) سورة الشعراء الآية 164
(17) سورة الشعراء الآية 165
(18) سورة الشعراء الآية 166
(19) سورة هود الآية 84
(20) سورة هود الآية 85
(21) سورة هود الآية 86(88/189)
ومن الحكمة في الدعوة اختيار الوقت المناسب لعرضها واستغلال الفرص المناسبة والظروف المواتية لتبليغها، وتجنب الأوقات والأحوال التي لا تتهيأ النفوس فيها للاستماع والاستيعاب، ويدل على ذلك ما جاء في قوله تعالى عن موسى وفرعون والسحرة: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} (1) فاختيار ضحوة ذلك اليوم الذي يجتمع فيه الناس في مكان مكشوف ليرى كل الناس المناظرة الحاسمة (2) هو عين الحكمة وكانت نتيجة المواجهة الحكيمة بعد توفيق الله أن تحول السحرة الكفرة الفجرة إلى مؤمنين أتقياء بررة، ويدل على ذلك أيضا ما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا (3) » ومما يدل على ذلك أيضا ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (حدث الناس كل جمعة مرة
__________
(1) سورة طه الآية 59
(2) انظر: محاسن التأويل \ القاسمي (بيروت: مؤسسة التاريخ العربي: 1415) 5\105.
(3) صحيح البخاري \ كتاب العلم: باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم \ 66، وصحيح مسلم \ كتاب صفة القيامة والجنة والنار: باب الاقتصاد في الموعظة \ 5047.(88/190)
فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرار، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك، يعني لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب) (1)
__________
(1) صحيح البخاري \ كتاب الدعوات: باب ما يكره من السجع في الدعاء \ 5862.(88/191)
ومن الحكمة في الدعوة عدم تأخير البيان عن وقته، وقول الحق في الظرف الذي يستدعي قوله فيه كما في قصة مؤمن آل فرعون الذي قال الحق واعترض على فرعون في تهديده بقتل موسى عليه السلام: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (1) .
ومن الحكمة الدعوية في مجال المدعوين: معرفة الداعي للمدعو من حيث طبيعته ومستواه وإمكاناته وظروفه وأحواله، واختيار المدعو المناسب لقدرات الداعية وإمكاناته، وظروفه، والتعامل مع المدعو بما يناسب أحواله وطبائعه ومراعاة مدارك المدعوين وعقولهم وإنزال الناس منازلهم، ويدل على ذلك ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود
__________
(1) سورة غافر الآية 28(88/191)
رضي الله عنه أنه قال: «ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة (1) »
وأيضا ما روته عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل الناس منازلهم (2) » وعنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنزلوا الناس منازلهم (3) »
__________
(1) صحيح مسلم \ كتاب المقدمة: باب النهي عن الحديث بكل ما سمع \ 5.
(2) صحيح مسلم \ كتاب المقدمة: 1 \ 6.
(3) سنن أبي داود \ كتاب الأدب: باب في تنزيل الناس منازلهم \ 4202.(88/192)
ومن الحكمة الدعوية في مجال الأساليب والوسائل: اختيار الأسلوب والوسيلة التي تناسب الموضوع وتناسب المدعو، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} (1) ... ، وهذا من الحكمة.
ومنها عدم التصريح بصاحب الخطأ والاكتفاء بالخطأ حينما لا تدعو الحاجة الشرعية لذلك، كما في قوله عليه الصلاة والسلام كثيرا: «ما بال أقوام (2) » ، مثل ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فخطب فحمد الله ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 46
(2) صحيح البخاري الأدب (6101) ، صحيح مسلم الفضائل (2356) ، مسند أحمد (6/181) .(88/192)
أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية (1) » ومثله ما ثبت عن أنس أن نفرا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني (2) »
إن الحكمة هي الضابط المهم لتصرفات الداعية وتعامله مع المدعوين. وهي من أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها الداعية في جميع مراحل دعوته قبل الدعوة وأثناءها وبعدها.
__________
(1) صحيح البخاري \كتاب الأدب: باب من لم يواجه الناس بالعتاب \5636.
(2) صحيح مسلم \كتاب النكاح: باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه \2487.(88/193)
المطلب الرابع: سلامة الأساليب والوسائل الدعوية
سبق تعريف الأسلوب أما الوسيلة فهي الأداة الناقلة للمضمون والأسلوب، وهناك من يرى أنهما بمعنى واحد، ولكل من الوسائل والأساليب أهمية بالغة في الدعوة إلى الله لأنها الطريق الذي تنقل به المضامين الدعوية ويتوصل بها إلى المدعو بل لا يمكن القيام بالدعوة إلا عن طريقها ولذلك اعتبرت ركنا من أركان الدعوة التي هي: الداعي، والمدعو، والمضمون، والوسيلة، والأسلوب.(88/193)
وكلما كانت الوسائل والأساليب الدعوية قوية ومناسبة كان تأثيرها أبلغ وأنفع، ولذلك لا بد من الاهتمام بها والعناية بمعرفتها وإتقان استخدامها.
وترتبط الوسائل والأساليب بالأهداف والغايات والمقاصد ارتباطا وثيقا، فكلما كانت الأهداف والغايات سليمة صحيحة، فالواجب أن تكون الوسائل والأساليب كذلك، ولذلك فنظرية الغاية تبرر الوسيلة نظرية مرفوضة في الرؤية الشرعية، فالإسلام يرفض هذه النظرية الفاسدة، ويوجب على الإنسان مشروعية الوسائل، فمن راعى مقاصد الشرع دون وسائله فقد أخذ ببعض الدين وترك الآخر، والله تعالى يقول: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (1) ، ومخالفة الشرع في باب الوسائل كمخالفته في باب المقاصد، وقال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) ، فقوله: {عَنْ أَمْرِهِ} (3) عام، لأن النكرة المضافة تفيد العموم، فيشمل أمره في باب الوسائل، وفي باب المقاصد أيضا، والثابت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يوصي المجاهدين بالوصايا الأخلاقية حتى مع الأعداء كنهيه عن
__________
(1) سورة البقرة الآية 85
(2) سورة النور الآية 63
(3) سورة النور الآية 63(88/194)
الغدر وعن قتل النساء والشيوخ والصبيان) (1)
والأصل في الوسائل والأساليب الدعوية الحل والإباحة بشرط ألا يكون فيها مخالفة شرعية؛ إذ الأساليب والوسائل لهما حكم الغايات والأهداف، والدعوة هدفها شريف ومشروع فكذلك يجب أن تكون أساليبها ووسائلها سليمة ليس فيها ما يخالف الشرع المطهر
فالداعية له حرية اختيار ما يتاح له من الأساليب والوسائل المباحة شرعا والمناسبة لإمكاناته وقدراته والمناسبة لموضوع دعوته ولجمهورها.
__________
(1) قواعد الوسائل في الشريعة الإسلامية \مصطفى مخدوم (ط1: 1420) 299.(88/195)
أنواع الأساليب الدعوية
وتنقسم الأساليب الدعوية إلى نوعين:
الأول: الأساليب القولية: وهي كل أساليب التبليغ بالقول كالخطبة، والمناظرة، والمحاضرة، والندوة، والمقالة، والرسالة، وتأليف الكتب، ونحوها ولكل واحدة منها خصائصها وسماتها وتطبيقاتها وأساليبها الخاصة بها.
والثاني: الأساليب الفعلية: وهي كل أساليب التبليغ بالفعل كالقدوة الحسنة والجهاد، وإنكار المنكر باليد، والهجر، ونحو ذلك ولكل(88/195)
واحدة من هذه خصائصها وسماتها وضوابطها وتطبيقاتها وأساليبها الخاصة بها.
وقد جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة ذكر عدد كبير من الأساليب والوسائل الدعوية، ومما يدل على الأساليب القولية ما جاء في قوله تعالى عن استخدام الموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) . وقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (2) ، وعن أسلوب الرفق واللين ما جاء في قوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (3) {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (4) ، وما جاء في قوله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (5) ، وعن أسلوب المناظرة ما جاء في قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (6) .
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة العنكبوت الآية 46
(3) سورة طه الآية 43
(4) سورة طه الآية 44
(5) سورة آل عمران الآية 159
(6) سورة البقرة الآية 258(88/196)
وعن أسلوب القوة والشدة في موضعه ما جاء في قوله تبارك وتعالى عن إبراهيم حين اشتد عناد قومه {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} (1) {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (2) .
ومن الأساليب الدعوية ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام في طريقة تغيير المنكر: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (3) »
ومنها ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام لأبي موسى ومعاذ رضي الله عنهما في أسلوب التبشير والتيسير والتحذير من التنفير والتعسير: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا (4) »
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال: «بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا (5) »
أما الأساليب الدعوية الفعلية فمنها أسلوب القدوة الحسنة ومما يدل عليه قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (6) ، وقوله تعالى عن إبراهيم:
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 66
(2) سورة الأنبياء الآية 67
(3) صحيح مسلم \كتاب الإيمان: باب كون النهي عن المنكر من الإيمان \70.
(4) صحيح البخاري \ كتاب الجهاد والسير: باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب \ 2811، وصحيح مسلم \ كتاب الإيمان: باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير \ 3263.
(5) صحيح البخاري \ كتاب الجهاد والسير: باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب \ 2811، وصحيح مسلم \ كتاب الإيمان: باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير \ 3263.
(6) سورة الأحزاب الآية 21(88/197)
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (1) ، وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (2) .
وعن التغيير باليد كأسلوب فعلي من أساليب الدعوة إلى الله له وقته ما جاء في قصة الخليل حين كسر الأصنام حيث يقول الله تعالى عنه: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} (3) {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} (4) ، ويقول سبحانه: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} (5) {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} (6) {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} (7) .
وعن الجهاد كأسلوب فعلي من أساليب الدعوة إلى الله له ضوابطه وآدابه يقول الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (8) .
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 4
(2) سورة الممتحنة الآية 6
(3) سورة الأنبياء الآية 57
(4) سورة الأنبياء الآية 58
(5) سورة الصافات الآية 91
(6) سورة الصافات الآية 92
(7) سورة الصافات الآية 93
(8) سورة التوبة الآية 73(88/198)
وغير ذلك كثير في نصوص القرآن الكريم والسنة التي تدل على نوعي الأساليب الدعوية.(88/199)
الوسائل الدعوية
أما الوسائل فهي كثيرة تتجدد مع كل عصر وتتنوع في كل زمن، ومنها: المنبر وهو المكان المرتفع الذي يرقى عليه الخطيب أو المتحدث ليسمع الناس ما يقول، وقد اتخذه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن أبي حازم قال: «أتى رجال إلى سهل بن سعد يسألونه عن المنبر، فقال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فلانة امرأة قد سماها سهل: " أن مري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أجلس عليهن إذا كلمت الناس، فأمرته يعملها من طرفاء الغابة ثم جاء بها فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها فأمر بها فوضعت فجلس عليه (1) »
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما «أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه، فإن لي غلاما نجارا، قال: إن شئت، قال: فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة قعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر الذي صنع فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت تنشق، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أخذها فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت، قال: بكت على ما كانت تسمع من الذكر (2) »
__________
(1) صحيح البخاري \كتاب البيوع: باب النجار \1952.
(2) صحيح البخاري \كتاب البيوع: باب النجار \1953.(88/199)
وعن عائشة قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قال: ينافح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما يفاخر أو ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) »
ومن الوسائل الدعوية: الكتب ذاتها، والرسائل نفسها، واتخاذ الخاتم، وإرسال الرسل، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابا أو أراد أن يكتب فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتابا إلا مختوما، فاتخذ خاتما من فضة نقشه محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده، فقلت لقتادة: من قال نقشه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أنس (2) »
وعن أنس «أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم (3) »
وعن أنس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي
__________
(1) سنن الترمذي \كتاب الأدب: باب ما جاء في إنشاد الشعر \2773، (صححه الألباني: صحيح سنن الترمذي: 2282) .
(2) صحيح البخاري \كتاب العلم: باب ما يذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم \63.
(3) صحيح مسلم \كتاب الجهاد والسير: باب كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك الأرض \3323.(88/200)
فقيل: إنهم لا يقبلون كتابا إلا بخاتم، فصاغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتما حلقته فضة ونقش فيه محمد رسول الله (1) »
وكتب سليمان عليه السلام كتابا إلى ملكة سبأ يتضمن دعوتها إلى الله وأرسله مع الهدهد بعد أن أخبره بخبرها مع قومها من عبادة غير الله كما في قوله تعالى عن ذلك {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} (2) {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} (3) {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} (4) {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} (5) {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} (6) {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} (7) {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (8) {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (9) {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} (10) {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} (11) {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (12) {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (13) .
__________
(1) صحيح مسلم \كتاب اللباس والزينة: باب في اتخاذ النبي - صلى الله عليه وسلم – خاتما \3904.
(2) سورة النمل الآية 20
(3) سورة النمل الآية 21
(4) سورة النمل الآية 22
(5) سورة النمل الآية 23
(6) سورة النمل الآية 24
(7) سورة النمل الآية 25
(8) سورة النمل الآية 26
(9) سورة النمل الآية 27
(10) سورة النمل الآية 28
(11) سورة النمل الآية 29
(12) سورة النمل الآية 30
(13) سورة النمل الآية 31(88/201)
ومن الوسائل ذات الانتشار الواسع والتأثير البالغ في العصر الحاضر والتي يمكن استخدامها في الدعوة إلى الله: وسائل الاتصال الحديثة من صحف ومجلات وإذاعة وتلفزيون وإنترنت ونحوها، والتي غزت البر والبحر والجو ووصلت إلى كل مكان، فلا يكاد يخلو منها بيت مدر ولا وبر، وقدمت المعلومة في قوالب مشوقة ومثيرة ومؤثرة بدرجة كبيرة
واستخدام الداعية لوسائل الدعوة وأساليبها يجب أن يكون وفق الحكمة وفي إطارها، بمعنى أن تستخدم الوسائل والأساليب المناسبة للداعي وللمضمون وللمدعو بما يحقق بإذن الله أعلى درجات التأثير والإقناع وهداية المدعو للفلاح والرشاد والسعادة في الدنيا والآخرة.(88/202)
المطلب الخامس: الصبر:
الصبر في اللغة: الحبس والكف والمنع، ومنه: قتل فلان صبرا إذا أمسك وحبس، ومنه قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (1) (2)
__________
(1) سورة الكهف الآية 28
(2) انظر: مدارج السالكين \ابن القيم (مرجع سابق) 2\162.(88/202)
ومن تعريفاته في الاصطلاح: حبس النفس عن الجزع والتسخط وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن التشويش، ومن تعريفاته أيضا: حبس النفس على ما تكره ابتغاء مرضات الله
ويعرف بأنه: حبس النفس وحملها على ما تكره (من فعل الطاعة وترك المعصية) 1 (1)
وقال ابن العربي: (قال القاضي: الصبر مقام عظيم من مقامات الدين، وهو حبس النفس عما تكرهه من تسريح الخواطر، وإرسال اللسان، وانبساط الجوارح على ما يخالف حال الصبر ... ) (2)
والصبر من خصائص النفس الإنسانية وله قيمة كبيرة وأهمية بالغة، وليس هو من الفضائل الثانوية أو المكملة بل هو ضرورة لازمة للإنسان أيا كان ليرقى ماديا ومعنويا ويسعد فرديا واجتماعيا فلا ينتصر دين ولا تنهض دنيا إلا بصبر، فالصبر ضرورة دنيوية كما هو ضرورة دينية، فلا نجاح في
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن \السعدي (بيروت: مؤسسة الرسالة: ط1: 1416) 57.
(2) أحكام القرآن \ابن العربي (مرجع سابق) 4\1656.(88/203)
الدنيا ولا فلاح في الآخرة إلا بصبر، في الدنيا لا تتحقق الآمال ولا تنال المقاصد ولا يؤتي عمل أكله إلا بصبر فمن صبر ظفر والصبر مفتاح الفرج والنصر مع الصبر، وبالصبر ينال المسلم الأجر الأخروي التام الذي لا حد له ولا حصر {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1) ، وبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (2) . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (خير عيش أدركناه بالصبر) (3)
والصبر خصلة فطرية ومكتسبة فأصل الصبر موجود عند كل أحد على تفاوت فيه، وهو قابل للتحصيل والتنمية والزيادة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ومن يتصبر يصبره الله (4) »
(والصبر إما بدني كتحمل المشاق بالبدن فعلا كتعاطي الأعمال الشاقة، أو احتمالا كالصبر على الضرب الشديد. وإما نفسي وهو أعظم كالصبر عن شهوة الفرج والبطن وغيرهما من مشتهيات الطبع.)
__________
(1) سورة الزمر الآية 10
(2) سورة السجدة الآية 24
(3) صحيح البخاري \كتاب الرقائق: باب الصبر عن محارم الله.
(4) صحيح البخاري \كتاب الزكاة: باب الاستعفاف عن المسألة \1376، وصحيح مسلم \كتاب الزكاة: باب فضل التعفف والصبر \1745.(88/204)
(وليس الصبر الممدوح صاحبه أن يكون الرجل قوي الجسد على الكد والعمل ... ولكن أن يكون للنفس غلوبا، وللأمور متحملا، ولجأشه عند الحفاظ مرتبطا) (1)
والصبر واجب بإجماع الأمة وهو نصف الإيمان فإن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر
وهو الجامع لكثير من الصفات الحميدة والأخلاق الفاضلة التي تقوم على حبس النفس ومنعها عن كل ما لا ينبغي فعله، وتوطينها وتعويدها وقسرها على ما ينبغي فعله من المحامد والمكارم كالعفة، والحلم، وكظم الغيظ، وكتمان السر، والزهد، والقناعة وغيرها من الأخلاق الكريمة والسجايا الحميدة التي مدارها على الصبر ... (2)
__________
(1) أدب الدنيا والدين \الماوردي (مرجع سابق) 406.
(2) انظر: تفسير البحر المحيط \أبو حيان الأندلسي (بيروت: دار الكتب العلمية: ط1: 1413) 1\624.(88/205)
فضل الصبر
ولهذا جاءت أدلة شرعية كثيرة من الكتاب والسنة تأمر بالصبر وتحث عليه بأوجه متعددة منها (1)
__________
(1) انظر: مدارج السالكين \ابن القيم (مرجع سابق) 2\159 - 162.(88/205)
الأول: الأمر به صراحة، كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (1) . وقوله سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (2) ، وقوله جل وعلا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) . وقوله عز وجل: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (4) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ومن يتصبر يصبره الله (5) »
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمرأة السوداء التي كانت تصرع فسألته أن يدعو لها: «إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، فقالت: إني أتكشف فادع الله ألا أتكشف، فدعا لها (6) »
وأمر - صلى الله عليه وسلم - الأنصار رضي الله تعالى عنهم بأن يصبروا على الأثرة التي يلقونها بعده حتى يلقوه على الحوض (7)
__________
(1) سورة البقرة الآية 153
(2) سورة البقرة الآية 45
(3) سورة آل عمران الآية 200
(4) سورة النحل الآية 127
(5) صحيح البخاري \كتاب الزكاة: باب الاستعفاف عن المسألة \1376، وصحيح مسلم \كتاب الزكاة: باب فضل التعفف والصبر \1745.
(6) صحيح البخاري \كتاب المرضى: باب فضل من يصرع من الريح /5220، وصحيح مسلم \كتاب البر والصلة والآداب: باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن \4673.
(7) صحيح البخاري \كتاب المساقاة: باب القطائع /2203.(88/206)
وأمر عليه الصلاة والسلام بالصبر عند المصيبة وأخبر: أنه إنما يكون عند الصدمة الأولى، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الصبر عند الصدمة الأولى (1) »
الثاني: النهي عن ضده كما في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (2) . وقوله سبحانه: {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} (3) فإن تولية الأدبار: ترك للصبر والمصابرة، وقوله جل جلاله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (4) فإن إبطالها ترك الصبر على إتمامها، وقوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} (5) فإن الوهن من عدم الصبر.
الثالث: الثناء على الصبر ذاته ووصفه بأنه خير وأنه من عزائم الأمور، وربطه بالإيمان والعمل الصالح، وأنه ضياء وارتباط النصر به كما في قوله سبحانه: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (6) ، وقوله تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (7) ، وقوله تعالى {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (8)
__________
(1) صحيح البخاري \الجنائز: باب الصبر عند الصدمة الأولى \1219، وصحيح مسلم \كتاب الجنائز: باب الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى \1534.
(2) سورة الأحقاف الآية 35
(3) سورة الأنفال الآية 15
(4) سورة محمد الآية 33
(5) سورة آل عمران الآية 139
(6) سورة النحل الآية 126
(7) سورة النساء الآية 25
(8) سورة آل عمران الآية 186(88/207)
وقوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (1) ، وقوله تعالى: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (2) ، وقوله سبحانه {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (3) .
وفي الحديث: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له (4) »
وقال عليه الصلاة والسلام: «ما أعطي أحد عطاء خيرا له وأوسع من الصبر (5) »
وأخبر النبي في الحديث الصحيح: «أن الصبر ضياء (6) »
__________
(1) سورة الشورى الآية 43
(2) سورة لقمان الآية 17
(3) سورة آل عمران الآية 17
(4) صحيح مسلم \كتاب الزهد والرقائق: باب المؤمن أمره كله خير \5318.
(5) صحيح البخاري \كتاب الزكاة: باب الاستعفاف عن المسألة \1376، وصحيح مسلم \كتاب الزكاة: باب فضل التعفف والصبر \1745.
(6) صحيح مسلم \كتاب الطهارة: باب فضل الوضوء \328، وسنن الترمذي \كتاب الدعوات: باب منه \3439.(88/208)
وقال عليه الصلاة والسلام: «واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثير، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا (1) »
الرابع: الثناء على أهله ووصفهم بأفضل الأوصاف وأكملها وأنهم المنتفعون بالآيات والعبر وأنهم خيار الناس كما في قوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (2) ، وكما في قوله تعالى لموسى: {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (3) ، وقوله سبحانه في أهل سبأ: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (4) ، وقوله عز وجل في سورة الشورى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (5) {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (6) ، وعن يحيى بن وثاب عن شيخ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلم إذا كان مخالطا الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط
__________
(1) مسند أحمد \ومن مسند بني هاشم: مسند عبد الله بن عباس \2803 (إسناده صحيح: المسند بتحقيق الأرناؤوط: 5\19) .
(2) سورة البقرة الآية 177
(3) سورة إبراهيم الآية 5
(4) سورة سبأ الآية 19
(5) سورة الشورى الآية 32
(6) سورة الشورى الآية 33(88/209)
الناس ولا يصبر على أذاهم (1) »
الخامس: بيان عاقبة الصبر وثمرته وفوائده والجزاء المترتب عليه في الدنيا والآخرة، وهذا كثير جدا في القرآن والسنة، فمن ذلك قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (2) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (3) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (4) ، وقوله سبحانه {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} (5) ، وقوله تعالى {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (6) ، وقوله جل وعلا {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} (7) ، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} (8) ، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (9) ،
__________
(1) سنن الترمذي \كتاب صفة القيامة والرقائق والورع: باب منه \2431، وسنن ابن ماجه \كتاب الفتن: باب الصبر على البلاء \4022 (صححه الألباني: صحيح سنن ابن ماجه: 3257) .
(2) سورة البقرة الآية 155
(3) سورة البقرة الآية 156
(4) سورة البقرة الآية 157
(5) سورة الرعد الآية 22
(6) سورة الرعد الآية 24
(7) سورة المؤمنون الآية 111
(8) سورة الفرقان الآية 75
(9) سورة القصص الآية 54(88/210)
وقوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) ، وقوله تعالى {قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2) ، وقوله تبارك وتعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (3) ، وقوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (4) وقوله عز وجل: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} (5) {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} (6) ، وقوله جل وعلا: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (7) ، وقوله سبحانه: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (8) ، وقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (9) ،
__________
(1) سورة النحل الآية 96
(2) سورة الزمر الآية 10
(3) سورة فصلت الآية 35
(4) سورة القصص الآية 80
(5) سورة الإنسان الآية 12
(6) سورة الإنسان الآية 13
(7) سورة آل عمران الآية 146
(8) سورة آل عمران الآية 120
(9) سورة الأعراف الآية 137(88/211)
وقوله جل وعلا: {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (1) ، وقوله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (2) .
وعن أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه، قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر. أو كلمة نحوها (3) »
__________
(1) سورة يوسف الآية 90
(2) سورة السجدة الآية 24
(3) سنن الترمذي \كتاب الزهد: باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر \2247 (صححه الألباني: صحيح سنن الترمذي: 1894) .(88/212)
أقسام الصبر
ويقسم بعض العلماء الصبر إلى أقسام ثلاثة (1) هي:
1. الصبر على طاعة الله.
2. الصبر عن معصية لله.
3. الصبر على أقدار الله المؤلمة.
__________
(1) انظر: مدارج السالكين \ابن القيم (مرجع سابق) 2\63.(88/212)
قال الإمام ابن القيم: (فالأولان: صبر على ما يتعلق بالكسب، والثالث: صبر على ما لا كسب للعبد فيه ... والأولان أكمل من الثالث ... ونقل ابن القيم عن ابن تيمية قوله: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب له فيها ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر وأما صبره عن المعصية: فصبر اختيار ورضى ومحاربة للنفس ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة فإنه كان شابا وداعية الشباب إليها قوية وعزبا ليس له ما يعوضه ويرد شهوته وغريبا والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكا والمملوك أيضا ليس وازعه كوازع الحر والمرأة جميلة وذات منصب وهي سيدته وقد غاب الرقيب وهي الداعية له إلى نفسها والحريصة على ذلك أشد الحرص ومع ذلك توعدته إن لم يفعل: بالسجن والصغار ومع هذه الدواعي كلها صبر اختيارا وإيثارا لما عند الله وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسب.
وكان يقول: الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل، فإن مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من(88/213)
مفسدة وجود المعصية (1)
وكذلك كان صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام على ما نالهم في الله باختيارهم، وفعلهم ومقاومتهم قومهم أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلائه وامتحانه بما ليس مسببا عن فعله وكذلك كان صبر إسماعيل الذبيح وصبر أبيه إبراهيم عليهما السلام على تنفيذ أمر الله أكمل من صبر يعقوب على فقد يوسف (2)
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: (فهو ثلاثة أقسام: صبرها على طاعة الله حتى تؤديها، وعن معصية الله حتى تتركها، وعلى أقدار الله المؤلمة حتى تتخطاها. فالصبر هو المعونة العظيمة على كل أمر، فلا سبيل لغير الصابر أن يدرك مطلوبه وخصوصا الطاعة الشاقة والمستمرة، فإنها مفتقرة أشد الافتقار إلى تحمل الصبر، وتجرع المرارة الشاقة، فإذا لازم صاحبها الصبر، فاز بالنجاح، وإن رده المكروه والمشقة عن الصبر والملازمة عليها، لم يدرك شيئا وحصل على الحرمان وكذلك المعصية التي تشد دواعي النفس ونوازعها إليها وهي محل قدرة العبد فهذه لا يمكن تركها إلا بصبر عظيم، وكف لدواعي قلبه ونوازعها لله تعالى، واستعانة بالله على العصمة منها، فإنها من الفتن الكبار، وكذلك البلاء الشاق، خصوصا إن استمر، فهذا تضعف معه
__________
(1) المرجع السابق: 2\163.
(2) المرجع السابق: 2\176.(88/214)
القوى النفسانية والجسدية، ويوجد مقتضاها، وهو التسخط، إن لم يقاومها صاحبها بالصبر لله، والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والافتقار على الدوام، فعلمت أن الصبر محتاج إليه العبد بل مضطر إليه في كل حالة من أحواله..) (1)
ويحدد الإمام الماوردي للصبر ستة أقسام فيقول ما ملخصه: واعلم أن الصبر على ستة أقسام، وهو في كل قسم منها محمود، فأول أقسامه وأولاها: الصبر على امتثال ما أمر الله تعالى به، والانتهاء عما نهى الله عنه، لأن به تخلص الطاعة وبها يصح الدين وتؤدى الفروض ويستحق الثواب.
والقسم الثاني: الصبر على ما تقتضيه أوقاته من رزية قد أجهده الحزن عليها، أو حادثة قد كده الهم بها، فإن الصبر عليها يعقبه الراحة منها، ويكسبه المثوبة عنها، فإن صبر طائعا وإلا احتمل هما لازما، وصبر كارها آثما.
والقسم الثالث: الصبر على ما فات إدراكه من رغبة مرجوة، وأعوز نيله من مسرة مأمولة فإن الصبر عنها يعقب السلو منها، والأسف بعد اليأس خرق.
والقسم الرابع: الصبر فيما يخشى حدوثه من رهبة يخافها، أو يحذر حلوله من نكبة يخشاها فلا يتعجل هم ما لم يأت، فإن أكثر الهموم كاذبة، وإن الأغلب من الخوف مدفوع.
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن \السعدي (مرجع سابق) 57.(88/215)
والقسم الخامس: الصبر فيما يتوقعه من رغبة يرجوها، وينتظر من نعمة يأملها، فإنه إن أدهشه التوقع لها، وأذهله التطلع إليها انسدت عليه سبل المطالب واستفزه تسويل المطامع فكان أبعد لرجائه وأعظم لبلائه، وإذا كان مع الرغبة وقورا وعند الطلب صبورا انجلت عنه عماية الدهش، وانجابت عنه حيرة الوله، فأبصر رشده وعرف قصده.
والقسم السادس: الصبر على ما نزل من مكروه أو حل من أمر مخوف، فبالصبر في هذا تنفتح وجوه الآراء، وتستدفع مكائد الأعداء، فإن من قل صبره عزب رأيه، واشتد جزعه، فصار صريع همومه، وفريسة غمومه (1)
وهذه الأقسام الستة هي في حقيقتها مجالات الصبر التي لا تخرج عن الأقسام الثلاثة السابقة، وهي أنواع مرتبطة ببعضها لا ينفك أحدها عن الآخر.
ولا شك في أن الصبر من أشق الأشياء على النفوس ويعظم أمره ويزيد أجره كلما كان الداعي إليه أكبر وأعظم و (هذا الباب ينقسم فيه الصبر إلى قسمين أحدهما بحسب قوة الداعي إلى الفعل الثاني بسهولته على العبد، فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمران كان الصبر عنه أشق وإن فقدا معا يعني قوة الداعي وسهولته سهل الصبر عنه وإن وجد أحدهما وفقد الآخر سهل الصبر من وجه دون آخر فمن لا داعي له إلى قتل النفس والسرقة وشرب الخمر وأكل الحشيشة وأنواع الفواحش ولا هو
__________
(1) أدب الدنيا والدين \الماوردي (مرجع سابق) 406 - 409.(88/216)
سهل عليه فصبره عنه من أيسر شيء وأسهله، ومن اشتد داعيه إلى ذلك وسهل عليه فعله فصبره عنه أشق شيء عليه، ولهذا كان صبر السلطان عن الظلم، وصبر الشباب عن الفاحشة، وصبر الغني عن تناول اللذات والشهوات، منزلتهم عند الله منزلة عظيمة عالية منيعة لا يصل إليها إلا من صبر مثل صبرهم، وكذلك من صبر على موت أولاده وأبويه وأقاربه وأصحابه ونحوهم وهو مع ذلك صابر محتسب يأمر أهله بالصبر وينهاهم عن لطم الخدود وشق الجيوب وعن كلام ما لا يجوز لهم شرعا، فهذا له من الثواب الجزيل والأجر العظيم ما لا يعلمه إلا الله.... ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عجب ربك من شاب ليست له صبوة (1) » وفي الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (2) »
ولذلك استحق هؤلاء السبعة أن يظلهم في ظله لكمال صبرهم
__________
(1) مسند الإمام أحمد \مسند الشاميين: حديث عقبة بن عامر الجهني \1737 (حسن لغيره: المسند بتحقيق الأرناؤوط: 28\600) .
(2) صحيح البخاري \كتاب الأذان: باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد \620، وصحيح مسلم \كتاب الزكاة: باب فضل إخفاء الصدقة \1712.(88/217)
ومشقته على نفوسهم، فصبر الملك على العدل مع قدرته على الظلم والانتقام من رعيته، وصبر الشاب على عبادة الله ومخالفة هواه، وصبر الرجل على ملازمة المسجد، وصبر المتصدق على إخفاء الصدقة حتى عن شماله مع قدرته على الرياء، وصبر المدعو إلى الفاحشة مع جمال الداعي، وصبر المتحابين في الله في اجتماعهما وانفرادهما، وصبر الباكي من خشية الله على كتمان ذلك عن الناس، فهذه الأمور فيها مشقة على النفوس، فالصبر عليها بتوفيق الله وفضله وإحسانه صبر جميل عظيم.
ولما كان الداعي في حق - بعض - الناس ضعيفا، ولم يصبروا مع تمكنهم من الصبر كان عقوبتهم عند الله تعالى أشد من عقوبة غيرهم كالشيخ الزاني والملك الكذاب والفقير المختال، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: ملك كذاب، والعائل المستكبر، والشيخ الزاني (1) »
وإنما كانوا أشد عقوبة من غيرهم لسهولة التصبر عن هذه المحرمات عليهم ولضعف دواعيها في حقهم فكان تركهم الصبر عنها دليلا على تمردهم على الله تعالى وعتوهم عليه (2)
__________
(1) صحيح مسلم \كتاب الإيمان: باب غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية \156.
(2) انظر: تسلية أهل المصائب \ محمد المنبجي (بيروت: دار الكتب العلمية: ط1) 148-150.(88/218)
صبر الدعوة:
والداعية محتاج إلى أنواع الصبر كلها في حياته العامة شأنه شأن عموم المسلمين، وفي حياته الدعوية خاصة مما نستطيع أن نسميه بصبر الدعوة وهو الصبر الذي تقدم به أولو العزم من الرسل على غيرهم من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وذلك لأن الدعوة مهمة شاقة ورسالة كبيرة طريقها محفوف بالعقبات، ومجالها مليء بالصعوبات، وصاحبها معرض للمحن والابتلاءات، فهي تحتاج إلى عزيمة قوية وإرادة صلبة ويقين راسخ، يقول الشنقيطي: (فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسنادا مطلقا إلا لمن جمع بين العلم والحكمة والصبر على أذى الناس، لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل وأتباعهم، وهو مستلزم للأذى من الناس لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة وأغراضهم الباطلة، ولذا قال العبد الصالح لقمان الحكيم لولده فيما قص الله عنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (1) ، ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لورقة بن نوفل: " أومخرجي هم؟ " يعني قريشا، أخبره ورقة أن هذا الدين الذي جاء به لم يأت به أحد إلا عودي، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ما ترك الحق لعمر صديقا (2)
__________
(1) سورة لقمان الآية 17
(2) أضواء البيان \الشنقيطي (مرجع سابق) 2\174.(88/219)
فلهذا جاءت آيات تأمر النبي الكريم عليه الصلاة والسلام صراحة بالصبر حين الدعوة وعلى تبعاتها كما في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} (1) ، وقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (2) {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (3) {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} (4) {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (5) ، وقوله تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (6) ، وقوله عز وجل: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (7) بعد أمره بالدعوة وعبادات أخر، وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} (8) ، وقوله عز وجل: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (9) ، وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (10) ، وقوله تعالى:
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 35
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة النحل الآية 126
(4) سورة النحل الآية 127
(5) سورة النحل الآية 128
(6) سورة يونس الآية 109
(7) سورة المدثر الآية 7
(8) سورة غافر الآية 77
(9) سورة الروم الآية 60
(10) سورة الإنسان الآية 24(88/220)
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (1) ، وقوله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (2) ، وقوله سبحانه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (3) ، وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} (4) ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (5) ، وقوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (6) .
إن الداعية مطالب بأن يتحلى بالصبر ويلتزم به في كل أحواله وأموره قبل دعوته وفي أثنائها وبعد أدائها، فقبل دعوته بالصبر على تصحيح النية والإخلاص وعقد العزم على توفية المأمور به وتجنب دواعي الرياء والسمعة والاستعداد لها بالعلم والعمل والأساليب المناسبة.
__________
(1) سورة المزمل الآية 10
(2) سورة ص الآية 17
(3) سورة الكهف الآية 28
(4) سورة طه الآية 130
(5) سورة الأنعام الآية 34
(6) سورة هود الآية 49(88/221)
وحال دعوته بأن يلازم الصبر عند دواعي التقصير والتفريط، ويلازم سلامة النية وحضور القلب ويصبر على ممارسة الدعوة وفق الضوابط الشرعية والقواعد المرعية.
وبعد الدعوة يصبر عن الإتيان بما يبطل عمله من العجب والغرور والتكبر إذا نجحت دعوته، أو الضجر والسخط والتصرفات غير السوية مع المدعوين إذا لم تحقق دعوته نتائجها المرجوة.
ويجب على الداعية أن يجاهد نفسه على الصبر ويروض نفسه عليه ويتحرى أسباب حصوله ويتجنب الآفات المعيقة له من العجلة والغضب وشدة الحزن والضيق والكآبة واليأس.
وإذا كان الداعية صابرا في دعوته نال راحة البال وطمأنينة القلب وقوة اليقين والمضي في دعوته دون أن يصرفه صارف أو يمنعه مانع، أما إذا فقد الصبر فإنه يضعف ويفتر عن القيام بالدعوة.(88/222)
الخاتمة
قد تبين مما سبق الركائز التي يقوم عليها منهج السلف الصالح في الدعوة إلى الله تعالى وهي:
1 - العلم بأنواعه الثلاثة: العلم بموضوع الدعوة، والعلم بكيفيتها، والعلم بجمهورها.
2 - الاستقامة وذلك بلزوم الداعية للمعتقد السليم. الفكر القويم، والقول الرشيد، والعمل السديد.
3 - الحكمة التي تضبط العمل الدعوي، وتجعله متقنا متوازنا، مسددا غير مضطرب ولا متهور.
4 - الوسائل والأساليب الدعوية التي يجب أن تكون شرعية تناسب العمل الدعوي الشريف، وتتواكب مع أهدافه السامية، وغاياته النبيلة.
5 - الصبر على تبعات الدعوة إذ هي عمل شاق يحتاج إلى جهد كبير في الغالب، وقد يخالف أهواء بعض المدعوين فربما نال الداعية بسبب ذلك شيء من الأذى وواجه بعض العقبات التي يحتاج معها إلى الصبر في كل أحواله وأوقاته.
ولا بد من اجتماع هذه الركائز الخمس في الداعية الذي يروم المنهج السديد ويتطلع للنجاح الكبير في دنياه وأخراه، وهذا ما يجب أن يتواصى به الدعاة دوما. هذا فيما يتعلق بالمجال العملي.(88/223)
أما في المجال العلمي فإن الحاجة لا تزال قائمة لإجراء المزيد من البحث والدراسة في منهج الدعوة لتقديم ما يعين على نجاح العمل الدعوي وتحقيق الخير والفلاح للأمة بإذن الله تعالى.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(88/224)
أثر الفتوى في تأكيد وسطية الأمة
لمعالي الشيخ: عبد الله بن محمد بن سعد آل خنين
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ـ.
أما بعد:
فالفتوى لسان الشرع، والقائم بها موقع للشريعة على أفعال المكلفين، وأهلها ـ أي: المفتون ـ موقعون عن الله، وهم حملة الشرع ويرجع الناس إليهم في الحلال والحرام وغيرهما من أحكام الإسلام، يقول الله ـ تعالى ـ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) فالعلماء واجبة طاعتهم واتباعهم فيما يقررونه من أحكام مستفادة من الكتاب والسنة؛ فإنهم ورثة الأنبياء (2) وقد روى كثير
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) الموافقات في أصول الشريعة 1\244 ـ 246، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام 25.(88/225)
ابن قيس قال: كنت جالسا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء، إني جئتك من مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما جئت لحاجة، قال: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر (1) »
__________
(1) أخرجه أبو داود واللفظ له 3\317، باب الحث على طلب العلم، وأخرجه الترمذي 5\48، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، وقال: ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة، وليس هو عندي بمتصل، هكذا حدثنا محمود بن خداش بهذا الإسناد، وإنما يروى هذا الحديث عن عاصم بن رجاء ابن حيوة، عن الوليد بن جميل، عن كثير بن قيس، عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أصح من حديث محمود بن خداش، ورأي محمد بن إسماعيل هذا أصح، وأخرجه ابن ماجه 1\81، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، وأخرجه أحمد 5\196، وأخرجه ابن حبان 1\289، وقد ذكره البخاري في: '' صحيحه '' بغير إسناد 1\37، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل.(88/226)
وخطر الفتوى عظيم على المفتي والمستفتي، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه (1) »
فـ: " الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل؛ لأن المفتي وارث الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم " (2) والمفتون هم: " من دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء " (3)
ولأهمية الفتوى في تأكيد وسطية الأمة فقد جرى تناوله في هذا البحث، وانتظم في مقدمة وتمهيد وسبعة مباحث وخاتمة، وبيانها كما يلي:
__________
(1) أخرجه أبو داود واللفظ له 3\321، باب التوقي في الفتيا، وأخرجه ابن ماجه 1\20، باب اجتناب الرأي والقياس، وأخرجه الحاكم 1\184، كتاب العلم، 1\215، وقال: '' هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ''، وأخرجه أحمد 2\321، وأخرجه البيهقي 10\116، كتاب آداب القاضي، باب إثم من أفتى أو قضى بالجهل.
(2) المجموع شرح المهذب 1\73.
(3) إعلام الموقعين عن رب العالمين 1\9، وانظر: 4\89 من المرجع نفسه.(88/227)
المقدمة:
التمهيد، وفيه بيان الوسطية في اللغة والاصطلاح.
المبحث الأول: أثر الفتوى في إقامة الدين بين المسلمين.
المبحث الثاني: أثر الفتوى في التصدي للغلو.
المبحث الثالث: أثر الفتوى في التصدي للجفاء.
المبحث الرابع: الوسطية في الفتوى.
المبحث الخامس: أثر الفتوى في انتظام أحوال المستفتي على الشرع.
المبحث السادس: أثر الفتوى في محافظة المجتمع المسلم على هويته الإسلامية.
المبحث السابع: أثر الفتوى في رسوخ الأمن في المجتمع الإسلامي.
الخاتمة، وفيها ملخص البحث.
سدد الله الخطا، ووفق للإخلاص في القول والعمل، وتقبل صالح الأعمال، وغفر سيئها لنا، ولوالدينا، وأهلينا، ولمشايخنا، ولمن له فضل علينا، ولجميع المسلمين، وأصلح عقبي، وبارك فيهم، ووفقهم لكل خير وسداد فيما يصلح دينهم ودنياهم، ويخدم أمتهم ومجتمعهم، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.(88/228)
التمهيد:
بيان الوسطية في اللغة والاصطلاح
الوسطية في اللغة:
كلمة تقوم على ثلاثة حروف: الواو، والسين، والطاء، وهي تطلق في اللغة على معان، هي (1)
1ـ العدل الخيار:
فالوسط من كل شيء أعدله، ومنه قوله ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (2) أي: عدولا خيارا، وقوله ـ تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} (3) ، و {أَوْسَطُهُمْ} (4) هنا بمعنى أعدلهم.
2ـ ما بين الطرفين:
فوسط الشيء: نصفه مما بين طرفيه، ومنه قوله ـ تعالى ـ: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} (5) {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} (6) أي: صرن في الوسط بين الطرفين، وقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} (7)
__________
(1) مقاييس اللغة 6\108، مادة (وسط) ، القاموس المحيط 893، معجم ألفاظ القرآن الكريم 2\1177.
(2) سورة البقرة الآية 143
(3) سورة القلم الآية 28
(4) سورة القلم الآية 28
(5) سورة العاديات الآية 4
(6) سورة العاديات الآية 5
(7) سورة المائدة الآية 89(88/229)
أي: وسط ليس بالنفيس ولا الرديء مما يطعمه الناس أو يلبسونه عرفا.(88/230)
المراد بوسطية الأمة في الاصطلاح الشرعي:
أوسط الناس خيارهم وعدولهم ممن تمسكوا بهدي الكتاب والسنة من غير إفراط ولا تفريط، فتركوا سبيل الجفاء، ولم يميلوا إلى سبيل الغلو، وهم كما ذكر عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ (ت: 101هـ) في كتابه الذي كتبه إلى أحد عماله وأوصاه فيه بلزوم طريق من سلف ثم قال: " فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر، وقد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم " (1)
وكما قال ابن القيم (ت: 751هـ) : " وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد " (2)
__________
(1) أخرجه أبو داود 4\203، كتاب السنة، باب لزوم السنة.
(2) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين 2\496.(88/230)
وبذلك كانت الأمة كلها (وسطا) ، أي: عدولا خيارا بين الأمم كلها عبدوا الله على يقين من أمرهم على وفق هدى ربهم وسنة نبيهم من غير ميل إلى أي الاتجاهين المذمومين: الجفاء أو الغلو.
ثم: " وسطية الإسلام من أبرز خصائصه، وهي بالتبع من أبرز خصائص أمة الاستجابة، قال ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (1) ولذلك نجد الإسلام يقدم المنهج الوسط في كل شأن من شؤون الحياة، ولا يكتفي بهذا، بل يحذر من المصير إلى أحد الانحرافين الغلو والتقصير " (2) والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة 26.(88/231)
المبحث الأول:
أثر الفتوى في إقامة الدين بين المسلمين:
إقامة الدين والمحافظة عليه جلبا للمصلحة ودفعا للمفسدة أحد الضروريات التي جاء الشرع بالمحافظة عليها (1)
والإسلام هو دين الأمة المسلمة التي تدين به، وهو خاتم الأديان، ورسولها خاتم الرسل، والإسلام نظام الأمة، وعليها عصبتها واجتماع كلمتها وانتظام أحوالها في شؤونها كلها، وأحكامه جارية على الفرد والأسرة والمجتمع والدولة.
والإسلام عقيدة وعبادة وشريعة تشمل كافة المعاملات والأنكحة والجنايات والجزاءات وأحكام القضاء والتقاضي وعلاقة الدولة بالفرد والمجتمع، وعلاقة الدولة المسلمة بغيرها من الدول والأمم الأخرى، وهو مع ذلك جهاد، وأمر بمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن منكر إذا ظهر فعله، فما من حركة ولا سكون يدعى إلا والشريعة حاكمة عليه إفرادا وتركيبا، يقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) والأمة في حاجة إلى الفتوى لإقامتها على منهج الله - تعالى -، وإذا لم يكن بد من الأطباء في المجتمع لطب الأبدان ليقضوا على المرض وأسبابه أو مداواته لتخف
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في كتاب: '' المقاصد العامة للشريعة الإسلامية '' 203 ـ 270.
(2) سورة المائدة الآية 3(88/232)
وطأته على المريض ولا يمكن لغير الأطباء أن يحلوا محل الأطباء في مراجعة كتب الطب لمعالجة أنفسهم أو غيرهم، فمن باب أولى ألا يطب الناس في عباداتهم ومعاملاتهم ومناكحاتهم وكافة أحوالهم الشرعية إلا أهل الفتوى، يقول ابن تيمية (ت: 728هـ) : " والشرع طب القلوب، والأنبياء أطباء القلوب والأديان " (1) فكما أن الإنسان إذا ترك من غير علاج فإن المرض يؤذيه أو يهلكه فكذا إذا ترك من غير إفتاء ولا توجيه في شؤون عباداته ومعاملاته وأنكحته وغيرها فإنه يضل ويهلك، فكان لا بد للمجتمع من الفتوى وأهلها لإقامة دين الله في المجتمع الإسلامي حماية للعقيدة وإيضاحا للشريعة، وقد أمر الله - عز وجل - بتفقه طائفة من الأمة لينذروا قومهم وليفقهوهم في دينهم، يقول الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (2) يقول ابن القيم (ت: 751هـ) : " حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية فوق حاجتهم إلى كل شيء، ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها، ألا ترى أن أكثر العالم يعيشون بغير طبيب " (3)
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 34\210.
(2) سورة التوبة الآية 122
(3) مفتاح دار السعادة 2\2.(88/233)
المبحث الثاني:
أثر الفتوى في التصدي للغلو:
الغلو في اللغة:
كلمة تقوم على ثلاثة حروف: الغين واللام والحرف المعتل، وهي كما يقول ابن فارس (ت: 395هـ) : " أصل صحيح في الأمر يدل على ارتفاع ومجاوزة قدر " (1)
فيقال: غلا الرجل في الأمر: إذا جاوز حده، وغلا في الأمر غلوا: جاوز فيه الحد (2)
__________
(1) مقاييس اللغة 4\387، مادة (غلو) .
(2) مقاييس اللغة 4\387، مادة (غلو) ، القاموس المحيط 1700، مختار الصحاح 480.(88/234)
والمراد بالغلو شرعا: تجاوز العبد حده نحو الشدة مما يخرجه عن موجب النصوص الشرعية في اعتقاد أو عمل
والغلو منهي عنه كما قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَهْل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (1)
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن عبد الوهاب (ت: 1233هـ) :
__________
(1) سورة الآية(88/234)
" وأهل الكتاب هنا هم اليهود والنصارى، فنهاهم عن الغلو في الدين، ونحن كذلك، كما قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) (هود: ???) (2)
وقد روى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة العقبة وهو على راحلته: «هات، القط لي، فلقطت له حصيات هن حصى الخذف، فلما وضعتهن في يده قال: بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (3) »
فجعل الزيادة في صفات الحصى التي ترمى بها الجمرة من الغلو،
__________
(1) سورة هود الآية 112
(2) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد 265.
(3) أخرجه النسائي في المجتبى 5\268، كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، واللفظ له، وأخرجه ابن ماجه 2\1008، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، وأخرجه أحمد 1\215، 347، وأخرجه ابن حبان 9\183، كتاب الحج، باب الوقوف بعرفة والمزدلفة والدفع منهما، وأخرجه ابن خزيمة 4\274، كتاب المناسك، باب التقاط الحصى لرمي الجمار من المزدلفة والبيان أن كسر الحجارة لحصى الجمار بدعة لما فيه من إيذاء الناس وإتعاب أبدان من يتكلف كسر الحجارة توهما أنه سنة، وأخرجه الحاكم 1\637، وصححه، وأخرجه البيهقي 5\127، كتاب الحج، باب أخذ الحصى لرمي جمرة العقبة وكيفية ذلك، وأخرجه ابن أبي شيبة 3\248.(88/235)
وهكذا كل زيادة في عمل فوق الحد المشروع (1) كما دل على تعميمه - صلى الله عليه وسلم - في بقية الحديث من قوله: «وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (2) »
وقد بوب ابن خزيمة (ت: 311هـ) في: " صحيحه " (3) بقوله: " باب قدر الحصى الذي يرمى به الجمار، والدليل على أن الرمي بالحصى الكبار من الغلو في الدين، وتخويف الهلاك بالغلو في الدين ".
وملامح الغلو تظهر فيما يلي:
1ـ الاعتقاد:
وذلك بالجنوح إلى أمر خارج عن نصوص الكتاب والسنة نحو التشديد، كالتكفير بالذنب، والخروج على الولاة - كما هو مذهب الخوارج (4)
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13 \278.
(2) أخرجه النسائي في المجتبى 5\268، كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، واللفظ له، وأخرجه ابن ماجه 2\1008، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، وأخرجه أحمد 1\215، 347، وأخرجه ابن حبان 9\183، كتاب الحج، باب الوقوف بعرفة والمزدلفة والدفع منهما، وأخرجه ابن خزيمة 4\274، كتاب المناسك، باب التقاط الحصى لرمي الجمار من المزدلفة والبيان أن كسر الحجارة لحصى الجمار بدعة لما فيه من إيذاء الناس وإتعاب أبدان من يتكلف كسر الحجارة توهما أنه سنة، وأخرجه الحاكم 1\637، وصححه، وأخرجه البيهقي 5\127، كتاب الحج، باب أخذ الحصى لرمي جمرة العقبة وكيفية ذلك، وأخرجه ابن أبي شيبة 3\248.
(3) 4 \276.
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 19 \151، تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد 365، 275.(88/236)
وأهل السنة لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله (1) ويرون صحة الولاية لكل بر وفاجر، ولا يرون الخروج عليه ما لم يظهر منه كفر بواح عليه من الله برهان لا يحتمل التأويل وليست المعصية مما يكفر به (2)
وإذا كان التكفير بالذنب والخروج على الولاة من الغلو فكيف إذا أدى تكفير المسلم إلى استحلال دماء رجال وأموالهم من مسلمين ومستأمنين، وذلك بالقتل وهدم المنشآت العامة والصناعية عامة وخاصة بالتفجير أو غيره، فكل ذلك ضلال في الاعتقاد، وبغي على الولاة والعباد.
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية 355، 360.
(2) شرح صحيح مسلم 12 \229، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13 \8.(88/237)
2ـ الأحكام العملية:
ويتحقق الغلو فيها بأحد ثلاثة أمور، هي
أـ إلزام النفس أو الآخرين بما لم يوجبه الله ـ عز وجل ـ عبادة وترهبا مما يخالف المشروع في نوافل العبادات، وذلك كما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب ـ رضي الله عنها ـ عن تكليف نفسها بالعبادة فوق الطاقة، فعن أنس ـ رضي(88/237)
الله عنه ـ قال: «دخل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد (1) »
وليس من الغلو ـ كما يقول ابن المنير ـ: " طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل " (2)
كما أنه ليس من الغلو التزام شخص رأيا فيه الحزم والتحوط لدينه مما تتقبله النصوص الشرعية وتشهد له إذا كان الاجتهاد فيه سائغا، أو أخذ به عن تقليد لعالم مجتهد موثوق في دينه وعلمه (3)
ب ـ تحريم الطيبات التي أباحها الله ـ تعالى ـ إذا كان تحريمها على وجه التعبد، كتحريم أكل اللحم والفواكه، كما في قوله تعالى:
__________
(1) متفق عليه، فقد أخرجه البخاري واللفظ له 1\386، كتاب الكسوف، باب ما يكره من التشديد في العبادة، وأخرجه مسلم 1\541، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك.
(2) نقلا عن: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 1\94.
(3) الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة 85ـ86.(88/238)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (1) {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (2) (المائدة: ?? \8?) ، وليس من الغلو ترك المشتبهات في مطعم ونحوه.
جـ ـ ترك الإنسان ما يحتاجه من ضروراته، مثل الأكل والشرب والنوم والنكاح، كما في الحديث الذي رواه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ يقول: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني (3) »
ومن هنا تتضح وظيفة المفتي في سلوك منهج الوسطية والاعتدال في الفتوى، فيرد شارد الأمة نحو الغلو إلى طريق الجادة والصواب
__________
(1) سورة المائدة الآية 87
(2) سورة المائدة الآية 88
(3) متفق عليه، فقد أخرجه البخاري واللفظ له 5\1949، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، وأخرجه مسلم 2\1020، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم.(88/239)
بالتزام هدي الكتاب والسنة، فلا اعتقاد إلا بما جاء في كتاب الله ـ عز وجل ـ وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا تكفير إلا بما جاء كذلك فيهما، ولا إلزام بحكم ولا سلوك إلا بما ألزم به الكتاب والسنة، فلا تحريم للطيبات ولا ترك للضرورات التي يحتاجها الإنسان من نكاح وطعام وشراب ونوم.(88/240)
المبحث الثالث:
أثر الفتوى في التصدي للجفاء:
الجفاء في اللغة:
كلمة تقوم على ثلاثة حروف: الجيم، والفاء، والحرف المعتل، وهي كما يقول ابن فارس (ت: 395هـ) : " أصل واحد يدل على نبو الشيء عن الشيء ... وكذلك كل شيء إذا لم يلزم شيئا يقال: جفا عنه يجفو ... والجفاء: خلاف البر، والجفاء: ما نفاه السيل، ومنه: اشتقاق الجفاء " (1)
والمراد بالجفاء شرعا: الميل إلى طرف التفريط بالتساهل وترك أوامر الله ـ عز وجل ـ والإعراض عنها أو إتيان ما نهى الله ـ عز وجل ـ عنه، سواء أكان ذلك في الاعتقاد أو العمل، فهو قصور دون بلوغ
__________
(1) مقاييس اللغة 1\465.(88/240)
الوسطية بالجنوح إلى التقصير.
والله ـ عز وجل ـ قد أمر بالتمسك بدينه، كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) ، ويقول تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ففي الآيتين وجوب التمسك بما أمر الله ـ عز وجل ـ به وعدم التفريط في ذلك.
وكذا السنة جاءت بما جاء به الذكر الحكيم، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم (3) »
ومخالفة ذلك بالتفريط في هدي الكتاب والسنة جفاء منهي عنه، يقول الله ـ تعالى ـ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (4) .
ففي الآية الأمر بالتمسك بهدي الكتاب والسنة حتى يلقى الإنسان ربه وهو غير مفرط في حقه.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) أخرجه البخاري 6\2658، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(4) سورة الحجر الآية 99(88/241)
ويقول تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} (1) ، فهو نهي للإنسان عن ترك طاعة ربه بعد القيام بها.
وحذر الله ـ عز وجل ـ من الإعراض عن أوامره وإتيان نواهيه كما في قوله ـ تعالى ـ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) .
__________
(1) سورة النحل الآية 92
(2) سورة النور الآية 63(88/242)
وتظهر ملامح الجفاء فيما يلي:
1ـ الاعتقاد:
وذلك بالجنوح إلى أمر خارج عن نصوص الكتاب والسنة نحو الجفاء مما يؤدي إلى التفريط في فعل المأمور به أو المنهي عنه في مسائل الاعتقاد، وذلك كالمرجئة الذين ينفون دخول العمل في مسمى الإيمان، ويقولون: يكفي الإنسان لأن يكون مسلما مجرد تصديقه بالقلب أو نطقه بالشهادتين ولو لم يعمل مع تمكنه من العمل، ويقولون بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب أصلا، بل من صدق بقلبه فهو مؤمن كامل الإيمان (1)
وإنما قادهم إلى ذلك التمسك بنصوص الوعد مما فيها وعد الله عباده الموحدين بدخول الجنة والنجاة من النار أو بالمغفرة والرحمة
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 1\110.(88/242)
والعفو مع عمل السيئات، مثل قول الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) ، ثم صاروا مع هذا إلى تأويل نصوص الوعيد، ومن تأويلاتهم أن من كفره الشارع فإنما كفره لعدم معرفته بالله ولانتفاء تصديق القلب بالله - عز وجل -، وكذا أولوا نصوص الوعيد بأنه إنما قصد بها تخويف الناس لينزجروا عما نهوا عنه، وليس للوعيد حقيقة تنطبق عليها (2)
وأهل الوسط (أهل السنة والجماعة) قالوا: إن الإيمان قول واعتقاد وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فلا بد من التصديق بالقلب والقول والعمل (3)
__________
(1) سورة الزمر الآية 53
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 19\150، التكفير في ضوء السنة النبوية 14.
(3) شرح العقيدة الطحاوية 373، 379، تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد 118، 121.(88/243)
2ـ الإعراض والتساهل في الأمور العملية مأمورا بها أو منهيا عنها:
فمن أعرض أو تساهل عن القيام بما أمر الله ـ عز وجل ـ به أو فعل ما نهى الله ـ عز وجل ـ عنه فقد جفا في دين الله ـ عز وجل ـ، وذلك دركات بعضها أعظم من بعض، منها: الإصرار على الصغائر وفعل الكبائر، مثل: ترك الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج، أو الإعراض عن شيء من أحكام الإسلام من الترخص الذي يجفو بصاحبه عن(88/243)
الامتثال، ناهيك عمن يقع في ذلك تحت تبريرات فاسدة، كمن يبرر للاختلاط والسفور، ومعارضة آيات المواريث بتسوية المرأة بالرجل مما جعل لها فيه النصف من نصيب الرجل، ويطعن في شرعية تعدد الزوجات، ومن ينادي بإباحة الربا بحجة الضرورة، ويجوز أكل الخنزير بحجة أن المحرم منها كان خنازير سيئة التغذية، ويسوغ الحكم بغير ما أنزل الله، أو يفتي بجواز زواج الكافر من المسلمة، وغير ذلك من وجوه الجفاء والانحراف نحو التفريط في شريعة الله ودينه، فمن كانت غايته أن يأخذ بالسهل من الأمور وموافقة الأهواء وتقليد الأمم غير الإسلامية من غير نظر في دلالة كتاب ولا سنة على وفق قواعد الاستنباط الصحيح؛ فإن ذلك يؤدي إلى الانسلاخ من الأحكام والابتعاد عن الشرع والتهاون في مسائل الحلال والحرام في المطاعم والمشارب والمعاملات المالية والمناكح وغيرها مدعيا أن لا حرج في الدين والأخذ بالمقاصد دون الدلالات الجزئية ـ فقد أخطأ وضل السبيل، فلا يجوز أن تعارض الصرائح بدلالات متوهمة، ولا أن تنقلب الوسائل غايات أو أن تتغلب الوسائل على الغايات.
وقد اشتدت وطأة الجفاء في هذا الزمان، فصار الأعداء يخططون لإيقاع الأمة فيه، وانجفل معهم أقلام وإعلام في أرض الإسلام تجر الأمة إلى الجفاء جرا، وخطر ذلك على الفرد والأمة عظيم؛ لأنه يخرجها عن وسطيتها ويجعلها رهينة الجفاء، فتصبح الأمة في وضع(88/244)
فاسد، فيكون الإسلام لديها اسما ورسما بلا حقيقة، وذلك من أعظم الشر والفساد في الدين والدنيا. والواجب على المفتي حمل الناس على الوسطية باتباع أحكام الكتاب والسنة أمرا ونهيا وإباحة في اعتقاد أو عمل وحملهم عن الجفاء بالتمسك بهدي الكتاب والسنة.(88/245)
المبحث الرابع:
الوسطية في الفتوى:
الوسطية أصل من أصول الفتوى يلتزمها المفتي عند التصدي للإفتاء، فمقصد الشارع أن يكون سلوك المسلم تبعا لما جاء به، فيجب أن يتجه المفتي حيث اتجه الدليل وذلك هو منهج الوسط والاعتدال، فلا يذهب مذهب التشديد وقد رخص الشارع في المسألة بالتيسير، ولا يجنح إلى الانحلال وقد أمر الشرع بما فيه العزم، فالمفتي يخرج المستفتي من داعية هواه إلى طلب مرضاة مولاه " فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق، أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك ـ أيضا ـ؛ لأن المستفتي إذا ذهب مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة. وهو مشاهد، وإذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلك " (1) وليست مشقة مخالفة الهوى أو
__________
(1) الموافقات في أصول الشريعة 4\259، وانظر: 2\153، 4\141.(88/245)
مشقة استثقال النفوس للتكاليف من موجبات الترخيص " واتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها، وإن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى، وإن الشريعة حمل على التوسط لا على مطلق التخفيف، وإلا لزم ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ومخالف للهوى، ولا على مطلق التشديد، فليأخذ الموفق في هذا الموضوع حذره؛ فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه " (1) " كما إن الشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد " (2) وبعض الناس: " يقول: إن الاختلاف رحمة، وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه أكثر المسلمين، ويقول له: لقد حجرت واسعا، وملت بالناس إلى الحرج وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك، وهذا القول خطأ كله، وجهل بما وضعت له الشريعة " (3) " ... ثم ذلك الخلاف قد يكون قولا ضعيفا فيتولد من ذلك القول الضعيف الذي أخطأ فيه بعض الجاهلين: تبديل الدين وطاعة الشيطان، ومعصية رب العالمين، فإذا انضافت الأقوال الباطلة إلى الظنون الكاذبة وأعانتها الأهواء الغالبة فلا تسأل عن تبديل الدين بعد ذلك والخروج عن جملة الشرائع بالكلية " (4) ؛ " لأن الحنيفية السمحة إنما
__________
(1) الموافقات في أصول الشريعة 4\259ـ260.
(2) الموافقات في أصول الشريعة 4\145.
(3) الموافقات في أصول الشريعة 4\142.
(4) إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان 2\146.(88/246)
فيها السماح مقيدا بما هو جار على أصولها وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها " (1) والمفتي: " لا يحل له أن يتخير بعض الأقوال بمجرد التشهي والأغراض من غير اجتهاد، ولا أن يفتي به أحدا " (2) ومن فعل ذلك: " فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه " (3) " ومقصود الشريعة إخراج المكلف من داعية هواه حتى يكون عبدا لله، وتخييره يفتح له باب اتباع الهوى، فلا سبيل إليه البتة " (4) " فالذي يتلمس التخفيفات ويتتبع مواطن الرخص ورفع الحرج بعيدا عن الغاية الحقيقية من تمام العبودية وخالص الخضوع والطاعة لله وحده والسعي في جلب المصالح ودرء المفاسد، وإنما غايته أن يأخذ بالسهل من الأمور ـ قد يؤدي إلى الانسلاخ من الأحكام والابتعاد عن الشرع والتهاون في مسائل الحلال والحرام في المطاعم والمشارب والمعاملات المالية وغيرها مدعيا أن لا حرج في الدين، فقد أخطأ وضل السبيل، فلا يجوز أن تنقلب الوسائل غايات أو أن تتغلب الوسائل على الغايات " (5)
__________
(1) الموافقات في أصول الشريعة 4\145.
(2) الموافقات في أصول الشريعة 4\140.
(3) الموافقات في أصول الشريعة 4\141.
(4) الموافقات في أصول الشريعة 4\262.
(5) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية لابن حميد 14.(88/247)
" فالمفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال " (1) بل يتبع الدليل ويتجه معه أنى اتجه فذلك عمل الراسخين في العلم (2) و " لا خيرة لأحد المخلوقين مع قضاء الله عز وجل {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (3) (4)
والوسطية في الفتوى تقتضي العمل بما جاء الشرع فيه بالتيسير ورفع الحرج؛ لأنه ـ سبحانه ـ أعلم بخلقه وأدرى بما يصلحهم: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (5) .
ومما جاءت به الشريعة من التيسير ورفع الحرج: المسح على الخفين بدلا من غسل القدمين، والتيمم لعادم الماء أو العاجز عن استعماله، والقصر والجمع عند السفر وغيره مما ثبت في الكتاب والسنة.
كما ثبت نهي الإنسان عن التشديد على نفسه في مواضع، منها:
1ـ ترك الطيبات من الرزق والزينة التي أخرج الله لعباده، يقول الله
__________
(1) الموافقات في أصول الشريعة 4\358.
(2) الموافقات في أصول الشريعة 2\87، 3\77، قواعد التفسير 2\768.
(3) سورة الأحزاب الآية 36
(4) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 654 (تحقيق: الدقر) .
(5) سورة الملك الآية 14(88/248)
تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (1) ، ويقول: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (2) .
2ـ أنه - صلى الله عليه وسلم - رد عثمان بن مظعون عن التبتل، فقد روى سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال: «رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا (3) »
والتبتل: ترك الزواج والإعراض عما أباح الله من الاستمتاع بالأزواج انقطاعا للعبادة (4)
3ـ إطالة الإمام الصلاة على المأمومين، فعن أبي مسعود الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ قال: «قال رجل: يا رسول الله، إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رأيته غضب
__________
(1) سورة المائدة الآية 87
(2) سورة المائدة الآية 32
(3) متفق عليه، فقد أخرجه البخاري 5\1952، كتاب النكاح، باب ما يكره من التبتل والخصاء، وأخرجه مسلم واللفظ لهما 2\1020، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 9\118، سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام 4\177.(88/249)
في موضع كان أشد غضبا منه يومئذ، ثم قال: يا أيها الناس، إن منكم منفرين، فمن أم الناس فليتجوز؛ فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة (1) » وفي حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا صلى أحدكم للناس فليخفف؛ فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء (2) »
4ـ وأمر - صلى الله عليه وسلم - بالاقتصاد في عمل الطاعات، فقد روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة (3) »
__________
(1) متفق عليه، فقد أخرجه البخاري واللفظ له 1\46، كتاب العلم، باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، 1\248، كتاب الجماعة والإمامة، باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود، 1\249، وباب من شكا إمامه إذا طول، 5\2265، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله، 6\2217، كتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان، وأخرجه مسلم 1\340، كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام.
(2) متفق عليه، فقد أخرجه البخاري واللفظ له 1\248، كتاب الجماعة والإمامة، باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء، وأخرجه مسلم 1\340، كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام.
(3) أخرجه البخاري 1 \23، كتاب الإيمان، باب الدين يسر.(88/250)
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «دخل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد (1) »
وعلى هذا فالتيسير في الفتوى يكون إما في الأخذ برخص الشرع الثابتة بأدلتها، مثل المسح على الخفين، وأكل الميتة للمضطر، وإما بالاستمتاع بالطيبات والزينة التي أباحها الله، وإما في أعمال التطوع بألا يفعل ما يشق على نفسه كما في حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ الأنف ذكره، أو بالنهي عما يشق على الآخرين مما لو فعله منفردا لم ينه عنه ـ كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا صلى أحدكم للناس فليخفف؛ فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء (2) » وإما في النهي عن مجاوزة المشروع مثل النهي عن التبتل، وإما في الأحكام التي فيها تخيير بما يناسب المستفتي (3) مثل: التخيير في فدية الأذى من قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (4) بأن يدل المفتي المستفتي على ما هو أرفق به منها.
__________
(1) متفق عليه، فقد أخرجه البخاري واللفظ له 1\386، كتاب الكسوف، باب ما يكره من التشديد في العبادة، وأخرجه مسلم 1\541، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك.
(2) متفق عليه، فقد أخرجه البخاري واللفظ له 1\248، كتاب الجماعة والإمامة، باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء، وأخرجه مسلم 1\340، كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام.
(3) مباحث في أحكام الفتوى 69.
(4) سورة البقرة الآية 196(88/251)
كما تكون مراعاة التيسير عند الاقتضاء في إعمال المخارج الفقهية عند موجبها كما يكون عندما تستدعي الحال تهوين الأمر على المستفتي للمصلحة كحال أهل الوسوسة الذين يعظمون على أنفسهم في الطهارة وغيرها، فيسهل عليه الأمر لإخراجه من وسوسته بما لا مخالفة فيه للنص، وكذا التائب الذي استولى عليه القنوط، فيوسع عليه بما يزيل عنه ذلك من رحمة الله وعفوه (1)
وقد يعمل المفتي في خاصة نفسه بما فيه الحيطة مما لو تركه لم يكن عليه إثم فلا يشدد على المستفتي لأجل الاحتياط ما دام الطريق الآخر من العمل جائزا غير محرم ولا مكروه إلا أن يكون ذلك منه على وجه النصيحة لمن يحتمل ذلك أو يطلبه، يقول الإمام مالك (ت: 179هـ) : " لا يكون العالم عالما حتى يعمل في خاصة نفسه بما لا يلزمه الناس ولا يفتيهم به مما لو تركه لم يكن عليه إثم " (2)
كما يكون التشديد في الفتوى حينما تقتضي الحال تهويل الأمر على السائل فيشدد عليه المفتي زجرا له، كمن جاء يستفتي للتحيل على فعل معصية فيشدد عليه في الزجر عنها، أو تكون حال المستفتي تقتضي ذلك.
__________
(1) مباحث في أحكام الفتوى 74.
(2) أخرجه الخطيب البغدادي بسنده في: الفقيه والمتفقه 2\161.(88/252)
فمن الأول: من جاء يسأل: هل للقاتل عمدا توبة ـ وكان ذلك قبل الفعل ـ، فيبين له عظم هذا الذنب وأن فاعله قد أتى كبيرة من كبائر الذنوب ويعظم عليه ذلك، ويصرفه عن الجواب بقبول التوبة؛ لأن ذلك مما يحمله على التساهل في إتيان هذا الذنب العظيم.
وقد أخرج البيهقي في: " سننه " (1) في: " باب أصل تحريم القتل في القرآن " عن سعيد بن منصور قال: حدثنا سفيان بن عيينة قال: " كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له، وإذا ابتلي رجل قالوا له: تب ".
ومن الثاني: «أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المباشرة للصائم فرخص له، وأتاه آخر فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، وإذا الذي نهاه شاب (2) »
قال الخطيب البغدادي (ت: 463هـ) : " وإذا رأى المفتي من المصلحة عندما تسأله عامة أو سوقة أن يفتي بما له فيه تأويل وإن كان لا يعتقد ذلك، بل لرد السائل وكفه ـ فعل " (3)
__________
(1) 8 \16.
(2) أخرجه أبو داود واللفظ له 2\312، كتاب الصوم، باب كراهيته للشاب، وأخرجه ابن ماجه 1\539، كتاب الصيام، باب ما جاء في المباشرة للصائم، وأخرجه البيهقي 4\231، كتاب الصيام، باب كراهية القبلة لمن حركت القبلة شهوته.
(3) الفقيه والمتفقه 2\192.(88/253)
ولا شك أن هذا باب عظيم يحتاج فيه المفتي إلى ملكة قادرة ويقظة وافرة ودربة مساعدة وتقوى من الله وإعانة عاضدة مع ما يحصله المفتي من علم وخبرة.(88/254)
المبحث الخامس:
أثر الفتوى في انتظام أحوال المستفتي على الشرع:
الإنسان خلق لعبادة الله ـ عز وجل ـ كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (2) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (3) ، والعبادة فعل المأمورات شرعا، وترك المنهيات في جميع شؤون الحياة، يقول الشافعي (ت: 204هـ) : " الناس متعبدون بأن يقولوا ويفعلوا ما أمروا به، وينتهوا إليه لا يجاوزونه؛ لأنهم لم يعطوا أنفسهم شيئا، إنما هو عطاء الله، فنسأل الله عطاء مؤديا لحقه وموجبا لمزيده " (4)
والمسلم يجد في الفتوى طريقا إلى معرفة أحكام دينه، وهو مأمور بالالتزام بأحكام الشرع والاعتصام بها تصحيحا لعقيدته وعبادته ومعاملاته ومناكحاته وكافة تعاملاته وطلبا لمرضاة الله ـ عز وجل ـ ببراءة ذمته من واجبها والفوز بالنعيم يوم القيامة.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الذاريات الآية 57
(3) سورة الذاريات الآية 58
(4) الرسالة 486.(88/254)
يقول الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (1) .
ويقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} (2) وحبل الله هو الكتاب والسنة.
ويقول: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (3) ويقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4) .
ويقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5) فدلت هذه الآيات على وجوب التزام المسلم بهدي الكتاب والسنة والتحذير من مخالفتهما، والفتوى التزام بمقتضاهما ومن خالفها فقد خالفهما.
ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم (6) »
واتباع المسلم هدي الكتاب والسنة فوز وفلاح بانتظام أحواله على
__________
(1) سورة المائدة الآية 92
(2) سورة آل عمران الآية 103
(3) سورة الأعراف الآية 3
(4) سورة الحشر الآية 7
(5) سورة النور الآية 63
(6) أخرجه البخاري 6\2658، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(88/255)
الشرع واطمئنان يرتسم على نفسه ومحياه، ومخالفتهما شقاء عليه في الدنيا والآخرة (1) يقول الله ـ تعالى ـ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (2) {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (3) {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} (4) {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (5) {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (6) قال ابن عباس رضي الله عنهما: " ضمن الله لمن اتبع القرآن ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (7) (8)
وقال ابن كثير (ت: 774هـ) في قوله ـ تعالى: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (9) : " أي: ضنكا في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء؛ فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبه يتردد، فهذا ضنك المعيشة " (10)
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 3\177.
(2) سورة طه الآية 123
(3) سورة طه الآية 124
(4) سورة طه الآية 125
(5) سورة طه الآية 126
(6) سورة طه الآية 127
(7) سورة طه الآية 123
(8) أخرجه ابن أبي شيبة 7\136.
(9) سورة طه الآية 124
(10) تفسير القرآن العظيم 3\177.(88/256)
وفي الآخرة يحشر أعمى جزاء وفاقا، فقد صد عن هدي الكتاب والسنة وعميت بصيرته عن الاستنارة بهما، يقول الله - تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (1) يقول ابن كثير في تفسير قول الله - تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} (2) أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك» (3)
فكم لمنهج الوسطية في الفتوى من أثر إيجابي في انتظام أحوال المستفتي على الشرع والحياة السعيدة له في الدنيا والآخرة.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 97
(2) سورة طه الآية 125
(3) تفسير القرآن العظيم 3\178.(88/257)
المبحث السادس:
أثر الفتوى في محافظة المجتمع المسلم على هويته الإسلامية:
الإسلام هو دين الأمة، وهو عقيدة وعبادة وأحكام وآداب تشمل المعاملات والأنكحة والجزاءات والقضاء، والإنسان في كافة أحواله ونشاطاته من آداب اللباس والأكل وغيرهما، فالإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر بالقلب وصدقته الجوارح، والتزام الأمة المسلمة(88/257)
بهدي الكتاب والسنة يجعلها في انسجام مع دينها ومحافظة على هويتها.
وقد كانت حياة المسلمين وشخصية الأمة المسلمة بارزة في عقيدتها وعباداتها وفي حياتها الاجتماعية، وفي نشاطها الاقتصادي، وفي الحكم والتقاضي وجميع تشريعاتها.
والفتوى من وراء ذلك تسدده وتؤيده، فمتى كانت الفتوى على وفق النهج الصحيح ملتزمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم جارية على سنن الاستنباط السليم على طريقة السلف الصالح كان لها الأثر الإيجابي في محافظة المجتمع الإسلامي على هويته، ولا زال العلماء الربانيون الملتزمون بالنهج القويم يسددون مسيرة الأمة ويصححون ما عسى أن يقع فيها من انحرافات تبعا لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وسائر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد حذر الفقهاء من التساهل في الفتوى على غير سنن الشرع، وحذروا من المفتي الماجن الذي يفتي بهواه، وما ذلك إلا لضرر ذلك وخطره على الفرد والأمة، وكم في الأمة اليوم ممن يسعى بفتاواه الخارجة عن منهج الوسطية إلى إخراج الأمة من تميزها والتزامها بدينها علم ذلك أم لم يعلمه، كحال فتاوى الغلو ممن يكفرون مجتمعات المسلمين، أو ينشرون البدع فيها، أو كمن يجفو أو يفرط بفتواه خضوعا للواقع المنحرف وتبريرا للشعور بالنقص، كحال أصحاب فتاوى(88/258)
الإرجاء في الإيمان ممن يقولون: إن العمل ليس من الإيمان، بل يكفي فيه مجرد التصديق بالقلب والنطق باللسان فقط ولو مع التمكن من العمل، والأعمال عندهم شرط كمال فيه فقط وليست منه وكحال الذين يهونون مسائل الحكم بغير ما أنزل الله أو يسوغون تعلم السحر والرجوع إلى السحرة بحجة حل السحر بسحر مثله ضرورة أو يسوغون بفتاواهم بقاء المحتل الأجنبي في بلاد المسلمين، ومن يبررون للمجتمعات الإسلامية الاختلاط والسفور، ومعارضة آيات المواريث بتسوية المرأة بالرجل في الميراث مما جعل الله لها فيه النصف من نصيب الرجل، ومنع تعدد الزوجات، وإباحة الخنزير بحجة أن المحرم كانت خنازير سيئة التغذية، وكفتاوى تحليل الربا(88/259)
بحجة الضرورة، وكل ذلك إفك من القول وزور (1)
فهذه الفتاوى وأشباهها ممن يقوم المفتون فيها بالدور السلبي بمخالفة الكتاب والسنة وسلب الأمة من هويتها الإسلامية، وإخراجها من وسطيتها التي أراد الله لها.
فكان للفتاوى الملتزمة هدي الكتاب والسنة أثرها الإيجابي في محافظة الأمة على هويتها الإسلامية بالتزامها بالوسطية على نحو ما سلف ذكره.
__________
(1) مباحث في أحكام الفتوى 153-156.(88/260)
المبحث السابع:
أثر الفتوى في رسوخ الأمن في المجتمع الإسلامي:
لقد خلق الله الإنسان وكرمه، يقول الله - تعالى -: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (1) وقد جعل الله اجتماع الإنسان بغيره وحاجته إليه مما لا يمكن دفعه، وعند اجتماع الإنسان بغيره يحتاج إلى الانتظام وحسن التعايش والطمأنينة على حقوقه، فلا يعتدي أحد على أحد، في عرض أو مال أو دم، كما تصان الحقوق العامة مما شرعه الله - عز وجل - لانتظام أحوال المسلمين وحسن تعايشهم وسلامة مجتمعهم، وتحقيق ذلك هو
__________
(1) سورة الإسراء الآية 70(88/260)
الأمن الذي هو مطلب لكل أمة، وقد جاء القرآن الكريم والسنة المشرفة ببيان أهمية الأمن، ففي دعاء إبراهيم - عليه السلام - ربه قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} (1) ، وامتن الله - تعالى - على أهل البلد الحرام بالأمن فقال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} (2) ، وعن سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطمي عن أبيه - وكانت له صحبة - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا (3) »
فالصحة في الأبدان، والأمن في الأوطان من أعظم النعم على الإنسان.
وأمن المجتمع يتحقق بحراسة الدين وسياسة الدنيا به، وذلك يدور على حفظ الضروريات الخمس من الدين والعقل والنفس والعرض والمال في جانب الوجود بتزكيتها وترقيتها، وفي جانب العدم بحمايتها من الفناء والزوال.
والفتاوى الرشيدة الملتزمة بمنهج الوسطية في الفتوى والتي تنطق بما نطق به الكتاب والسنة على وفق منهج السلف الصالح تدعم هذا الاتجاه
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 35
(2) سورة القصص الآية 57
(3) أخرجه الترمذي 4\574، وقال: «هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مروان بن معاوية» ، وأخرجه ابن ماجه واللفظ لهما 2\1387، كتاب الزهد، باب القناعة، وأخرجه ابن حبان 2\445.(88/261)
وتقويه، فيذعن الجميع لنداء الحق ويسعى لتحقيقه، ولا يجترئ على مخالفته، وإذا وجد من زلت به القدم عن تهاون وكسل أو ضعف متعمد فإن عين الولاية عليه مقومة عن طريق الاحتساب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقرير الحقوق وإقامة الحدود وفق هدي الكتاب والسنة، فتجد لدى أبناء المجتمع الواحد عفة في القول وأمانة في المعاملة، وإقامة لفرائض الدين، واحتراما للحقوق، وصلة في الروابط الاجتماعية، والمراقبة الذاتية لكل فرد في المجتمع من قبل نفسه، واستنكارا للفاحشة، واستحياء من ترك الفرائض وامتناعا عن مقارفة الجريمة، والاكتفاء بما أحل الله لهم، والامتناع عما حرم الله عليهم، وبذلك يحقق المجتمع العبودية لله، وينتشر الأمن بين أفراده، ويحسن التعايش بينهم، وينعم بالأمن في ربوع أوطانهم، يقول الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) .
__________
(1) سورة النور الآية 55(88/262)
الخاتمة:
بعد الانتهاء من هذا البحث في الفتوى ألخص أبرز أحكامه في النقاط التالية:
1- أن الإسلام دين الوسطية والاعتدال، والوسطية منهج بارز في أحكامه، وهو يؤكد على أمة الإجابة الالتزام بهدي الكتاب والسنة، وهي معيار الوسطية، فمن التزم بهما على منهج السلف فقد سلك مسلك الوسط.
2- يحذر الإسلام أمته من الانحراف نحو التشدد في الاعتقاد أو العمل، فالتشدد في الاعتقاد مثل التكفير بالذنب - كما هو منهج الخوارج، والتشدد في العمل مثل ترك الإنسان ما هو من ضروراته في الأكل والنكاح والنوم، أو تحريم الطيبات التي أباحها الله، أو إلزام النفس أو الغير بما لم يوجبه الله - عز وجل -.
3- يحذر الإسلام أمته من الانحراف نحو التفريط والتساهل بالإعراض عن أحكام الإسلام أو التساهل فيها في الاعتقاد أو العمل، فالجفاء في الاعتقاد كحال المرجئة الذين يقولون بأن الإنسان يكفيه في الإيمان مجرد التصديق أو النطق بالشهادتين من غير عمل ولو مع تمكنه من القيام بالعمل.
والجفاء في العمل بالإعراض عن القيام بالأمور العملية من الصلاة والصيام والحج، أو بالسفور والاختلاط وغيرها من ترك أحكام(88/263)
الإسلام أو التساهل فيها، ناهيك عمن يدعو إلى فساد الأمة وإفلاسها من قيمها الدينية كما في دعاة السفور والاختلاط وغيرهما من مظاهر الجفاء.
4- على المفتي الالتزام في فتاواه بمنهج الوسط والاعتدال للمحافظة على وسطية الأمة في دينها وهوية مجتمعها المسلم، ورسوخ الأمن فيه واطمئنان أفراده والتزامهم بأحكام الشرع.
وبعد، فقد انتهيت من تحرير هذا البحث حسب الجهد والطاقة يوم الخميس الرابع عشر من شهر جمادى الأولى عام ثمانية وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.(88/264)
مراعاة جلب المصالح ودفع المفاسد في السنة
دراسة من خلال الاستنباط في فتح الباري
لفضيلة الدكتور محمد بن عبد الله القناص
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وترجيح خير الخيرين وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما(88/265)
وقد اعتنى الحافظ ابن حجر - رحمه الله - (ت: 852 هـ (في كتابه «فتح الباري» بالاستنباط من النصوص الحديثية فيما يشهد لقاعدة جلب المصالح وتكميلها وتقديم الأهم فالأهم منها، ودفع المفاسد وتقليلها، وقد رأيت الإلمام بهذه الاستنباطات وجمعها في هذا البحث للأسباب التالية:
1 - أن هذه الاستنباطات القيمة متناثرة في تضاعيف «فتح الباري» ، وهو كتاب كبير يصعب على المطالع فيه الإلمام بها، والوقوف عليها، وجمعها في بحث يسهل الرجوع إليها، والاستفادة منها.
2 - يبرز هذا البحث السنة العملية التطبيقية في مراعاة جلب المصالح،(88/266)
ودرء المفاسد، بحيث يقف القارئ على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في مراعاته لجلب المصالح، ودفع المفاسد.
3 - يتجلى في هذا البحث عناية العلماء بالاستنباط من السنة النبوية فيما يعود إلى قاعدة جلب المصالح ودفع المفاسد، وهذه الاستنباطات القيمة ترسخ ملكة الفهم لدى المتفقه في السنة؛ فتقوده إلى استنباط المزيد فيما يعود إلى هذه القاعدة وغيرها من خلال النصوص الحديثية الأخرى.
ومن المعلوم أن المصالح قد تتعارض مع مصالح أخرى أو مع مفاسد، والمفاسد قد تتعارض مع بعضها أو مع مصالح أخرى، وقد ظهر من خلال استقراء الاستنباط من النصوص الحديثية في «فتح الباري» أن الاستنباط من النصوص الحديثية فيما يرجع إلى هذه القاعدة يتفرع إلى أربع قواعد، وقد جعلت لكل قاعدة مبحثا، ثم أوردت تحت كل مبحث الأحاديث التي استنبط منها الحافظ ما يشهد لهذه القاعدة، مع بيان موضع الشاهد ووجه الاستنباط، وقد أثبت لفظ البخاري في الأحاديث المستشهد بها، والمباحث الأربعة هي كما يلي:
المبحث الأول: تحصل أعظم المصلحتين بترك أدناهما.
المبحث الثاني: تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة.
المبحث الثالث: تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة.
المبحث الرابع: احتمال أخف المفسدتين بدفع أعظمهما.
وختمت البحث بخاتمة تتضمن أهم النتائج التي توصلت إليها، ثم(88/267)
ذيلت البحث بفهارس فنية، وأسميت هذا البحث: «مراعاة جلب المصالح ودفع المفاسد في السنة دراسة من خلال الاستنباط في فتح الباري» .
هذا وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا العمل خالصا لوجه، نافعا لعباده، وما كان فيه من صواب فمن الله، وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله التواب الرحيم.
وكتبه
د\محمد بن عبد الله القناص
أستاذ الحديث المشارك في كلية الشريعة
وأصول الدين - جامعة القصيم
غرة ذي القعدة 1428 هـ(88/268)
تمهيد
لعل من المناسب أن أتحدث في هذا التمهيد عن ترجمة موجزة للحافظ ابن حجر، وتعريف موجز بكتابه «فتح الباري» ؛ لأن موضوع هذا البحث يتناول ما ذكره الحافظ ابن حجر من الاستنباط من أحاديث الجامع الصحيح لقاعدة «مراعاة جلب المصالح ودفع المفاسد» في كتابه «فتح الباري» .
أولا: ترجمة موجزة للحافظ ابن حجر:
الحافظ ابن حجر أشهر من أن يعرف به، وقد توسع في ترجمته عدد من العلماء والباحثين وهذه ترجمة موجزة له فهو: أحمد بن(88/269)
علي بن محمد، أبو الفضل، شهاب الدين، الكناني الشافعي المصري الحافظ الإمام المعروف بابن حجر العسقلاني، وابن حجر نسبة إلى أحد أجداده كان يلقب بذلك - على الأرجح -، ويقال له: العسقلاني؛ لأن أجداده من عسقلان.
ولد الحافظ ابن حجر في شعبان سنة 773 هـ، ومات أبوه وله من العمر أربع سنوات، وكانت أمه قد ماتت قبل ذلك أيضا، ونشأ في رعاية وصيه زكي الدين الخروبي (ت 787 هـ) أحد كبار التجار في مصر، وأكمل حفظ القرآن الكريم وله تسع سنين، وحفظ مجموعة من المتون في فنون شتى وهو صغير، ثم تدرج في طلب العلم، فاهتم أولا بالأدب والتاريخ، ثم حبب إليه علم الحديث.
وأخذ العلم عن أئمة كبار مثل: زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي (ت 806 هـ) ، وسراج الدين أبو حفص عمر بن رسلان البلقيني (ت 805 هـ) ، وسراج الدين عمر بن علي بن أحمد المعروف بابن الملقن (804 هـ (، واشتغل بالتصنيف فأكثر منه جدا، وقد زادت مؤلفاته على مائة وخمسين مصنفا، ومن أشهرها: «فتح الباري شرح صحيح البخاري» ، و «تهذيب التهذيب» ، و «تقريب التهذيب» ، و «لسان الميزان» ، و «الإصابة في تمييز الصحابة» ، و «الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة» ، و «نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر» ، وشرحها، وغير ذلك.
وعرف بأسلوبه العلمي الرصين، وقدرته على تلخيص المعلومات(88/270)
ونقدها، ومع جودة كتبه، فقد كان يقول كما ذكر تلميذه السخاوي (ت 902 هـ) : «لست راضيا عن شيء من تصانيفي؛ لأني عملتها في ابتداء الأمر، ثم لم يتهيأ لي من يحررها معي، سوى: «شرح البخاري» ، و «مقدمته» ، و «المشتبه» ، و «التهذيب» ، و «لسان الميزان» ، وأما سائر المجموعات فهي كثيرة العدد واهية العدد، ضعيفة القوى، ظامئة الروى
وكانت وفاته في ذي الحجة سنة 852 هـ، وازدحم الناس في الصلاة عليه وتشييعه، رحمه الله رحمة واسعة.(88/271)
ثانيا: تعريف موجز بكتاب «فتح الباري» :
كتاب «فتح الباري» هو أجل شروح صحيح البخاري، وأوفاها، وأفضلها، وهو أشهر مصنفات الحافظ ابن حجر، وأكثرها نفعا وفائدة، قال عنه مصنفه: «لولا خشية الإعجاب لشرحت ما يستحق أن يوصف به هذا الكتاب، لكن لله الحمد على ما أولى، وإياه أسأل أن يعين على إكماله منا وطولا» .(88/271)
وكان الابتداء في تأليفه في أوائل سنة سبع عشرة وثمانمائة، والانتهاء منه في أول يوم من رجب سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة سوى ما ألحق فيه بعد ذلك، فلم ينته إلا قبيل وفاة ابن حجر بيسير.
ووضع ابن حجر مقدمة جليلة لفتح الباري اسماها «هدي الساري» تحدث فيها عن الجامع الصحيح للبخاري ومنزلته بين كتب السنة، ومنهج البخاري في صحيحه، وذكر الأحاديث المنتقدة فيه، والإجابة عليها، وذكر الرجال الذين تكلم فيهم من رجال البخاري، والإجابة عن ذلك، وتحدث عن التعليق في صحيح البخاري وسببه، ووصل ما فيه من تعليق على سبيل الاختصار، وضبط فيها الكلمات الغريبة والأسماء المشكلة الواردة في أحاديث الجامع الصحيح، وختم المقدمة بتحرير عدد أحاديث الجامع الصحيح، وبترجمة وافية للإمام البخاري.
وعقب فراغه من المقدمة شرع في الشرح، وأطال فيه النفس، وكتب منه قطعة قدر مجلد، ثم خشي الإسهاب وألا يستطيع إكمال الشرح، فابتدأ في شرح متوسط.
وقد اعتنى الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في شرحه بالصناعة الحديثية والفقهية، وبيان معاني الألفاظ وضبطها وإعرابها، والأحكام والفوائد المستفادة من الأحاديث، والمباحث الأصولية، والنكات الأدبية والبلاغية، وامتاز بجمع طرق الحديث، وذكر رواياته في كتب السنة الأخرى، وتوسع في ذكر الشواهد والأحاديث الواردة في الباب، وحكم على كثير من أسانيدها، وطريقته في الأحاديث المكررة أنه يشرح في كل موضع ما يتعلق بالباب، وما ترجم له البخاري، ويحيل القارئى إلى المواضع الأخرى التي استكمل فيها شرح الحديث.(88/272)
ولما كمل فتح الباري تصنيفا ومقابلة، عمل مصنفه - رحمه الله - وليمة عظيمة لهذه المناسبة في يوم السبت ثامن شعبان سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، وكان يوما مشهودا حضره وجوه الناس من العلماء والمشايخ وطلبة العلم وغيرهم.
وقد عظم الانتفاع بكتاب «فتح الباري» ، وتداوله العلماء، وأصبح مرجعا لا يستغنى عنه، واستفاض الثناء عليه، حتى إن العلامة محمد بن علي الشوكاني (ت 1255 هـ) لما طلب منه أن يشرح الجامع الصحيح للبخاري قال: «لا هجرة بعد الفتح» (1) وصرح كثير من العلماء أن فتح الباري ليس له نظير من شروح البخاري
__________
(1) ينظر: فهرس الفهارس (1\338) .(88/273)
المبحث الأول
تحصيل أعظم المصلحتين بترك أدناهما
عبر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في كتابه «فتح الباري» من خلال استنباطه من الأحاديث عن هذه القاعدة بعبارات متنوعة منها:
1 - تحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما (1)
2 - الإتيان بأعظم المصلحتين إذا لم يمكنا معا (2)
3 - تقديم أهم المصلحتين (3)
4 - إذا تزاحمت مصلحتان قدم أهمهما (4)
5 - تقديم الأهم فالأهم من الأمور المتعارضة (5)
6 - الأمران إذا تعارضا بدئ بأهمهما (6)
7 - ترك بعض المصالح لمصلحة راجحة أو أرجح (7)
وقد استنبط الحافظ من سبعة أحاديث ما يشهد لهذه القاعدة وهذه
__________
(1) فتح الباري (1\325) .
(2) فتح الباري (1\329) .
(3) فتح الباري (3\14) .
(4) فتح الباري (9\123) .
(5) فتح الباري (1\81، 2\529، 3\359، 3\448، 6\266) .
(6) فتح الباري (3\448، 6\483) .
(7) فتح الباري (6\17) .(88/274)
الأحاديث هي:
الحديث الأول: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين (1) »
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة «تحصل أعظم المصلحتين بترك أدناهما» فقال: «قال ابن دقيق العيد: لم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصحابة ولم يقل لهم لم نهيتم الأعرابي؟ بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة وهو.... تحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما» (2)
ووجه الاستدلال من الحديث لهذه القاعدة ظاهر، ويتلخص في أن ترك الأعرابي يتم بوله في المكان الذي بال فيه، وعدم قطع بوله، لئلا
__________
(1) كما في الإحسان ح (1399) ، والأعرابي: واحد الأعراب، وهو الذي يسكن البادية، ينظر: اللسان، عرب، (1\586) ، والسجل: بفتح المهملة وسكون الجيم، قيل: هو الدلو ملأى ولا يقال لها ذلك وهي فارغة، وقيل: السجل دلو واسعة، وقيل: الدلو الضخمة، ينظر: النهاية (2\343) ، اللسان، سجل، (11\325) ، والذنوب - بفتح الذال وضم النون -: الدلو المملوءة ماء، وقيل الدلو العظيمة، وهريقوا: أي صبوا عليه، ينظر: النهاية (2\171) ، اللسان، ذنب (1\389) .
(2) فتح الباري (1\325) .(88/275)
يحصل له الضرر وتتنجس ثيابه ومواضع أخرى من المسجد مصلحة أكبر، ويعارضها مصلحة أخرى أدنى منها وهي زجر الأعرابي وأمره بقطع البول والخروج من المسجد؛ لئلا تزيد النجاسة في المسجد، فقدمت المصلحة الأولى وهي أكبر، قال ابن الملقن (ت: 804 هـ) : «وفيه مصلحتان: الأولى: أنه لو قطع عليه بوله تضرر، وأصل التنجيس قد حصل؛ فكان احتمال زيادة أولى من إيقاع ضرر به، الثانية: أن التنجس قد حصل في جزء يسير من المسجد فلو أقاموه في أثناء بوله لتنجست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد» (1)
وسوف يأتي الاستشهاد بالحديث لقاعدة «احتمال أخف المفسدتين بدفع أعظمهما» (2)
__________
(1) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1\698) .
(2) ينظر: ص (32) .(88/276)
الحديث الثاني: حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: «رأيتني أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - نتماشى، فأتى سباطة قوم خلف حائط فقام كما يقوم أحدكم فبال، فانتبذت منه فأشار إلي فجئته فقمت عند عقبه حتى فرغ (1) »
__________
(1) أخرجه البخاري ح (225) ، ومسلم ح (273) ، وأبو داود (24) ، والترمذي ح (13) ، والنسائي ح (18، 26) ، وابن ماجه ح (305) وأحمد (5\382) ح (23289) ، والسباطة: بضم السين المهملة وتخفيف الموحدة هي الموضع الذي يرمى فيه التراب والأوساخ وما يكنس من المنازل، وقيل هي الكناسة نفسها، ينظر: النهاية (2\335) ، اللسان، سبط، (7\308) ، وانتبذت: يعني تنحيت، ينظر: النهاية (5\6) ، المغرب (2\282) .(88/276)
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة «تحصل أعظم المصلحتين بترك أدناهما» ، فقال: «يستفاد من هذا الحديث.... الإتيان بأعظم المصلحتين إذا لم يمكنا معا، وبيانه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل الجلوس لمصالح الأمة، ويكثر من زيارة أصحابه وعيادتهم، فلما حضره البول وهو في بعض تلك الحالات لم يؤخره حتى يبعد كعادته؛ لما يترتب على تأخيره من الضرر، فراعى أهم الأمرين وقدم المصلحة في تقريب حذيفة منه؛ ليستره من المارة، على مصلحة تأخيره عنه إذ لم يمكن جمعهما» (1)
ويتلخص من كلام الحافظ – رحمه الله – أن التباعد عند قضاء الحاجة مصلحة، ويحصل بها التستر عن أعين الناس، وقد كان هذا من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن لما كان التباعد في بعض الحالات يفوت مصلحة الجلوس للاشتغال بمصالح الأمة، والإكثار من زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ترك مصلحة التباعد لتقديم مصلحة أكبر،
__________
(1) فتح الباري (1\329)(88/277)
واستعاض عن التباعد بتقريب حذيفة - رضي الله عنه - منه، واختار السباطة لأنها رخوة يتخللها البول (1) ويمكن أن يضاف إلى ما سبق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك لبيان الجواز.
قال ابن الملقن: «لم يبعد - صلى الله عليه وسلم - لأجل شغله بأمور المسلمين، فلعله طال عليه المجلس حتى حصره البول ولم يمكنه التباعد كعادته، وأراد السباطة لدمثها وإنما استدناه - صلى الله عليه وسلم - عن أعين الناس ليستتر به عنهم» (2)
__________
(1) ينظر: فتح الباري (1\330) .
(2) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1\630) .(88/278)
الحديث الثالث: حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبح قال: «قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم» وذلك في رمضان
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة «تحصل أعظم المصلحتين بترك أدناهما» ، فقال: «وفيه تقديم أهم المصلحتين» (1)
ووجه ما ذكره الحافظ – رحمه الله – من تقديم أهم المصلحتين
__________
(1) فتح الباري (3\14) .(88/278)
هو أن اجتماع الصحابة رضي الله عنه في المسجد، وصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم في تلك الليالي المباركة مصلحة ظاهرة، ولكن تعارضها مصلحة أخرى أكبر، وهي أن تبقى الصلوات المفروضة على حالها لا يزاد عليها؛ لئلا تعجز عنها الأمة، وهو - صلى الله عليه وسلم - رؤوف رحيم بأمته، وقد راجع ربه عز وجل حين فرضت الصلاة خمسين صلاة حتى استقرت على خمس صلوات(88/279)
وسوف يأتي الاستشهاد بالحديث لقاعدة «تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة» (1)
__________
(1) ينظر ص (28) .(88/280)
الحديث الرابع: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم، فقال رجل: يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج؟ فقال: اخرج معها (1) »
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة «تحصل أعظم المصلحتين بترك أدناهما» ، فقال: «قال النووي: وفي الحديث تقديم الأهم فالأهم من الأمور المتعارضة، فإنه لما عرض له الغزو والحج رجح الحج؛ لأن امرأته لا يقوم غيره مقامه في السفر معها، بخلاف الغزو، والله أعلم» (2)
وما ذكره الحافظ عن الإمام النووي (ت: 676 هـ) – رحمهما الله – ظاهر الدلالة لتقديم أهم المصلحتين، وذلك أن خروج هذا الرجل
__________
(1) أخرجه البخاري ح (1862) ، ومسلم ح (1341) ، وابن ماجه ح (2900) ، وأحمد (1\222) ح (1934) ، وقوله في الحديث: إلا مع ذي محرم: المحرم بفتح الميم، هو زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب كأبيها أو أخيها، أو بسبب مباح من مصاهرة أو رضاع، ويشترط في المحرم أن يكون بالغا عاقلا. ينظر: فيض القدير (6\398) ، القاموس الفقهي ص (87) .
(2) فتح الباري (4\78) ، وينظر: شرح النووي على مسلم (9\110) .(88/280)
للجهاد في سبيل الله مصلحة ظاهرة، ولكن عارض هذه المصلحة مصلحة أهم، وهي صحبة هذا الرجل لمرأته التي خرجت للحج، وليس معها محرم، ولا يقوم غيره مقامه في السفر معها، بخلاف الغزو الذي يوجد من يسد مكانه.(88/281)
الحديث الخامس: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان رجل في بني إسرائيل يقال له: جريج يصلي، فجاءته أمه فدعته فأبى أن يجيبها، فقال أجيبها أو أصلي ثم أتته فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات وكان جريج في صومعته فقالت امرأة: لأفتنن جريجا فتعرضت له فكلمته، فأبى فأتت راعيا فأمكنته من نفسها، فولدت غلاما فقالت: هو من جريج، فأتوه وكسروا صومعته فأنزلوه وسبوه، فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام؟ قال الراعي: قالوا: نبني صومعتك من ذهب قال: لا إلا من طين (1) »
__________
(1) أخرجه البخاري ح (2482) ، ومسلم ح (2550) ، وأحمد (2\307) ح (8057) ، وابن حبان كما في الإحسان (6489) ، المومسات: جمع مومسة بضم الميم وسكون الواو وكسر الميم بعدها مهملة وهي الزانية ينظر: كتاب العين (7\322) ، اللسان، ومس (6\258) ، شرح النووي لصحيح مسلم (16\105) ، فتح الباري (6\481) ، والصومعة بفتح المهملة وسكون الواو هي البناء المرتفع المحدد أعلاه، ووزنها فوعلة من صمعت إذا دققت لأنها دقيقة الرأس، ينقطع فيه الرهبان للعبادة، ينظر: اللسان، صمع (8\206) ، القاموس ص (954) ، فتح الباري (6\480) .(88/281)
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة «تحصل أعظم المصلحتين بترك أدناهما» ، فقال: «في الحديث أن الأمرين إذا تعارضا بدئ بأهمهما» (1)
ووجه الدلالة لما ذكره الحافظ – رحمه الله – أن جريجا تعارض عنده أمران ومصلحتان هما: إجابته لأمه حين دعته، واستمراره في صلاته فكان عليه أن يجيب أمه ويقطع صلاته لا سيما وقد تكررت دعوتها له مرات وصلاته تطوع، ولكنه قدم المصلحة الأدنى وهي استمراره في صلاته وترك إجابة أمه، فلذلك ابتلي بأن الله سبحانه وتعالى أجاب دعاء أمه حين دعت عليه بأن لا يمت حتى يرى وجوه المومسات، ولكنه بصدق إيمانه وتقواه وإخلاصه جعل الله له مخرجا حيث أنطق هذا الصبي وهو في المهد بتكذيب المرأة البغي التي اتهمته بأنه زنا بها.
قال القرطبي (ت: 656 هـ) : قوله: «يا رب أمي وصلاتي (2) » قول يدل على أن جريجا - رضي الله عنه - كان عابدا، ولم يكن عالما، إذ بأدنى فكرة يدرك أن صلاته كانت ندبا، وإجابة أمه كانت عليه واجبة، فلا تعارض يوجب عليه إشكالا، فكان يجب عليه تخفيف صلاته أو قطعها، وإجابة أمه،
__________
(1) فتح الباري (6\483) ، وينظر: شرح النووي على مسلم (16\108) .
(2) قوله: «يا رب أمي وصلاتي» هذا لفظ مسلم.(88/282)
لا سيما وقد تكرر مجيئها إليه، وتشوقها واحتياجها لمكالمته(88/283)
الحديث السادس: حديث جابر - رضي الله عنه - قال: «هلك أبي وترك سبع أو تسع بنات فتزوجت امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تزوجت يا جابر؟ قلت: نعم قال: بكرا أم ثيبا؟ قلت: ثيبا قال: هلا جارية تلاعبها وتلاعبك أو تضاحكها وتضاحكك؟ قلت: هلك أبي فترك سبع أو تسع بنات فكرهت أن أجيئهن بمثلهن فتزوجت امرأة تقوم عليهن قال: فبارك الله عليك (1) »
__________
(1) أخرجه البخاري ح (5367) ، ومسلم ح (715) ، والترمذي ح (1100) ، وابن ماجه ح (1860) ، وأحمد (3\308) ح (14345) .(88/283)
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة «تحصل أعظم المصلحتين بترك أدناهما» ، فقال: «يؤخذ منه أنه إذا تزاحمت مصلحتان قدم أهمهما، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صوب فعل جابر، ودعا له لأجل ذلك» (1)
ووجه ما ذكره الحافظ – رحمه الله – هو أن جابرا تعارض عنده أمران ومصلحتان، الأولى: أن يتزوج بكرا، وهذا أفضل في حقه، لأن النفس تميل إلى الزواج بالبكر، والثانية: أن يتزوج ثيبا وهذا أفضل بالنسبة لأخواته كي تقوم بمصالحهن، وقد آثر جابر - رضي الله عنه - هذه المصلحة على المصلحة الأخرى، وقد صوب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله هذا، وجاء في رواية عند البخاري: «فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن ولكن امرأة تمشطهن وتقوم عليهن قال: أصبت (2) »
قال القاضي عياض (ت: 544 هـ) : «وقول جابر في اعتذاره عن زواج الثيب ما ذكر من قيامها على أخواته، وتصويب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك له، ما هو الأولى من إيثار مصلحة الحال والنفس والآل على شهواتها ولذاتها» (3)
وقال القرطبي: «وهذا الحديث يدل على فضل عقل جابر، فإنه
__________
(1) فتح الباري (9\123) .
(2) أخرجه البخاري ح (4052) .
(3) إكمال المعلم (4\674) .(88/284)
راعى مصلحة صيانة أخواته وآثرها على حق نفسه، ونيل لذته، ولذلك استحسنه منه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: بارك الله لك، وقال له خيرا، وفيه ما يدل على جواز قصد الرجل من الزوجة القيام له بأمور وبمصالح ليست لازمة لها في الأصل، ولا يعاب من قصد شيئا من ذلك» (1)
__________
(1) المفهم (4\215) .(88/285)
الحديث السابع: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل (1) »
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «تحصل أعظم المصلحتين بترك أدناهما» ، فقال: «في الحديث ترك بعض المصالح لمصلحة راجحة أو أرجح أو لدفع مفسدة» (2)
__________
(1) أخرجه البخاري ح (2797) ومسلم ح (1876) ، والنسائي ح (3098) ، وابن ماجه ح (2753) ، وأحمد (2\496) ح (10446) ، والسرية: طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة، تبعث إلى العدو، وجمعها: سرايا، سموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري: النفيس، وقيل: سموا بذلك لأنهم ينفذون سرا وخفية، ينظر: النهاية (2\363) ، اللسان، سرى، (14\377) ، هدي الساري ص (131) .
(2) فتح الباري (6\17) .(88/285)
وهذا الاستنباط الذي ذكره الحافظ ظاهر، وهو أن خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - مع كل سرية تقاتل في سبيل الله مصلحة، ولكن عارضها مصلحة أهم، وهي أنه يوجد من المسلمين من لا تطيب نفوسهم بالتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يحملهم عليه، فترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الخروج في بعض السرايا مراعاة لهم وشفقة ورحمة بهم.
قال القاضي عياض: «قوله: لولا أن أشق على المؤمنين ما بقيت خلاف سرية، فيه رفقه - صلى الله عليه وسلم - بأمته ورأفته بهم، وأنه يترك من أعمال البر؛ لئلا يتكلفوه هم فيشق عليهم» (1)
وقال النووي: «قوله: «والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله (2) » ، فيه: ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الشفقة على المسلمين والرأفة بهم، وأنه كان يترك بعض ما يختاره للرفق بالمسلمين، وأنه إذا تعارضت المصالح بدأ بأهمها» (3)
__________
(1) إكمال المعلم (6\296) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2797) ، سنن النسائي الجهاد (3152) ، موطأ مالك الجهاد (1012) .
(3) شرح النووي على مسلم (13\22) .(88/286)
المبحث الثاني
تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة
عبر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في كتابه «فتح الباري» من خلال استنباطه من الأحاديث عن هذه القاعدة بعبارات متنوعة منها:
1 - تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة (1)
2 - احتمال المفسدة الخفيفة لتحصيل المصلحة الكبيرة (2)
3 - ترجيح المصلحة الراجحة على المفسدة (3)
وقد استنبط الحافظ من أربعة أحاديث ما يشهد لهذه القاعدة، وهذه الأحاديث هي:
الحديث الأول: حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: «أقبلت راكبا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف وأرسلت الأتان ترتع فدخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي (4) »
__________
(1) فتح الباري (1\172) .
(2) فتح الباري (3\512) .
(3) فتح الباري (5\7) .
(4) أخرجه البخاري ح (76) ، ومسلم ح (504) ، وأبو داود ح (715) ، والترمذي ح (337) ، والنسائي ح (752) ، وابن ماجه ح (947) ، وأحمد (1\219) ح (1891) ، وحمار أتان: هي الأنثى من الحمر، ينظر: النهاية (1\21) ، اللسان، أتن (13\6) ، هدي الساري ص (74) ، وناهزت الاحتلام: أي قاربت، والمراد بالاحتلام: البلوغ الشرعي، ينظر: النهاية (5\135) ، اللسان، نهز، (5\421) ، فتح الباري (1\171) ، إلى غير جدار: أي إلى غير سترة، وترتع: أي تأكل ما تشاء، وقيل تسرع في المشي، يقال: رتعت الماشية ترتع رتعا ورتوعا أكلت ما شاءت وجاءت وذهبت في المرعى، ينظر: اللسان، رتع، (8\112) ، فتح الباري (1\171) ، تاج العروس (5\347) .(88/287)
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة» فقال: «فيه جواز تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة؛ لأن المرور مفسدة خفيفة، والدخول في الصلاة مصلحة راجحة» (1)
وما ذكره الحافظ – رحمه الله – ظاهر، وقد بين وجه الاستدلال من الحديث على ذلك، وسبقه ابن الملقن – رحمه الله – إلى هذا الاستنباط فقال: «فيه احتمال بعض المفاسد لمصلحة أرجح منها، فإن المرور أمام المصلين مفسدة، والدخول في الصلاة وفي الصف مصلحة راجحة، فاغتفرت المفسدة للمصلحة الراجحة من غير إنكار» (2)
__________
(1) فتح الباري (1\172) .
(2) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (3\318) .(88/288)
الحديث الثاني: حديث سالم بن عبد الله بن عمر قال: «كتب عبد الملك إلى الحجاج أن لا يخالف ابن عمر في الحج، فجاء ابن عمر - رضي الله عنه - وأنا معه يوم عرفة حين زالت الشمس فصاح عند سرادق الحجاج(88/288)
فخرج وعليه ملحفة معصفرة فقال: ما لك يا أبا عبد الرحمن، فقال: الرواح إن كنت تريد السنة، قال: هذه الساعة، قال: نعم، قال: فأنظرني حتى أفيض على رأسي ثم أخرج، فنزل حتى خرج الحجاج فسار بيني وبين أبي فقلت: إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة وعجل الوقوف، فجعل ينظر إلى عبد الله، فلما رأى ذلك عبد الله قال: صدق (1) »
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة» فقال: «فيه احتمال المفسدة الخفيفة، لتحصيل المصلحة الكبيرة، يؤخذ ذلك من مضي ابن عمر إلى الحجاج وتعليمه» (2)
وما ذكره الحافظ ظاهر وهو أن ابن عمر – رضي الله عنهما - مضى إلى الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد عرف عنه الظلم والجور، وسفك الدماء، وهذا فيه مفسدة خفيفة، وذلك لتحصيل مصلحة راجحة، وهي أن يرشد ابن عمر - رضي الله عنهما - الحجاج إلى مناسك الحج
__________
(1) أخرجه البخاري ح (1660) والنسائي ح (3005) ، وفي الكبرى ح (3984) ، ومالك في الموطأ (1\399) ، وقوله في الحديث: سرادق الحجاج: السرادق هو كل ما أحاط بشيء من حائط أو مضرب أو خباء، ينظر: النهاية (2\359) ، اللسان، سردق، (10\157) ، ملحفة: اللحاف والملحف والملحفة اللباس الذي فوق سائر اللباس، وكل شيء تغطيت به فقد التحفت به. ينظر: تهذيب اللغة (5\69) ، اللسان، لحف، (9 \314) .
(2) فتح الباري (3\512) .(88/289)
وأحكامه وسننه، حتى يسير بالناس في حجهم وفق ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمر عبد الملك بن مروان الحجاج ألا يخالف ابن عمر في مناسك الحج.(88/290)
الحديث الثالث: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من أمسك كلبا فإنه ينقص كل يوم من عمله قيراط إلا كلب حرث أو ماشية (1) » . قال ابن سيرين، وأبو صالح: عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إلا كلب غنم أو حرث أو صيد (2) » ، وقال أبو حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كلب صيد أو ماشية (3) »
__________
(1) صحيح البخاري المزارعة (2322) ، صحيح مسلم المساقاة (1575) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4290) ، سنن أبي داود الصيد (2844) ، سنن ابن ماجه الصيد (3204) ، مسند أحمد (2/425) .
(2) صحيح البخاري المزارعة (2322) ، صحيح مسلم المساقاة (1575) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4290) ، سنن أبي داود الصيد (2844) ، سنن ابن ماجه الصيد (3204) ، مسند أحمد (2/473) .
(3) أخرجه البخاري ح (2322) ، ومسلم ح (1575) ، وأبو داود ح (2837) ، والترمذي ح (1490) ، والنسائي ح (4289) ، وابن ماجه ح (3204) ، وأحمد (2\425) ح (9489) ، وأخرج البخاري ح (5481) ، ومسلم ح (1574) ، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو ضاريا نقص من عمله كل يوم قيراطان.» ، والقيراط: بكسر فسكون جمع: قراريط، وهو نصف دانق، والدرهم: ستة دوانق، فيكون القيراط: نصف سدس درهم، ومقداره في المساحة: جزء من أربعة وعشرين جزءا، والمراد أنه مقدار من الثواب معلوم عند الله تعالى، وقد فسر في الحديث بأنه مثل جبل أحد، واختلف في القيراطين المذكورين هنا، هل هما كالقيراطين المذكورين في الصلاة على الجنازة واتباعها؟ فقيل بالتسوية، وقيل اللذان في الجنازة من باب الفضل، واللذان هنا من باب العقوبة، وباب الفضل أوسع من غيره، ينظر: النهاية (4\42) ، اللسان، قرط، (7\374) ، الفتح (5\7) .(88/290)
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة» فقال: «فيه ترجيح المصلحة الراجحة على المفسدة، لوقوع استثناء ما ينتفع به مما حرم اتخاذه» (1)
وما ذكره الحافظ – رحمه الله – ظاهر وهو أن استثناء اتخاذ كلب الماشية والصيد والحرث مع ما فيه من المفسدة، لكنها احتملت لمصلحة أرجح، وهي حاجة الناس إلى هذا النوع من الكلاب؛ لكي ينتفعوا بها في الحراسة والصيد.
وقد يقاس على المنصوص ما تدعو الحاجة إلى اتخاذه مثل الكلاب البوليسية المدربة في الوقت الحاضر، لما فيها من المنفعة، قال الحافظ ابن عبد البر (463 هـ) : «ويدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر اتخاذها لجلب المنافع ودفع المضار قياسا» وقال الحافظ ابن حجر: «والأصح عند الشافعية إباحة اتخاذ الكلاب لحفظ الدرب إلحاقا للمنصوص بما في معناه كما أشار إليه ابن عبد البر» (2)
__________
(1) فتح الباري (5\7) .
(2) فتح الباري (5\7) .(88/291)
الحديث الرابع: حديث أنس - رضي الله عنه - قال: «كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مناديا(88/291)
ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها فجرت في سكك المدينة (1) »
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة» فقال: «القصد بالإراقة كان لإشاعة تحريمها، فإذا اشتهر ذلك كان أبلغ فتحتمل أخف المفسدتين لحصول المصلحة العظيمة الحاصلة من الاشتهار» (2)
وهذا الاستباط الذي ذكره الحافظ - رحمه الله - ظاهر، وهو أن إراقة الخمر في طرق المدينة حين حرمت فيه مفسدة خفيفة؛ لأن هذا يؤدي إلى اتساخ طرق المدينة وتنجيسها على القول بنجاسة الخمر ولكن احتملت
__________
(1) أخرجه البخاري ح (2464) ، ومسلم ح (1980) ، وأبو داود ح (3665) ، والنسائي ح (5541) ، وأحمد ح (3\227) ، ح (13400) ، والفضيخ: بفاء وضاد معجمتين وزن عظيم: شراب يتخذ من البسر المفضوخ: أي المشدوخ من غير أن تمسه النار. ينظر: النهاية (3\453) ، اللسان، فضخ، (3\45) ، فتح الباري (10\38) .
(2) فتح الباري (10\39) .(88/292)
من أجل إشاعة التحريم وانتشاره، وقد سبق الحافظ إلى هذا المهلب بن أبي صفرة (ت: 435 هـ) حيث نقل عنه الحافظ في موضع آخر فقال: «قال المهلب: إنما صبت الخمر في الطريق للإعلان برفضها وليشهر تركها، وذلك أرجح في المصلحة من التأذي بصبها في الطريق»
وقد ذكر الحافظ - رحمه الله - احتمالا آخر في إراقتها، فقال: ويحتمل أنها إنما أريقت في الطرق المنحدرة بحيث تنصب إلى الأسربة والحشوش أو الأودية فتستهلك فيها، ويؤيده ما أخرجه ابن مردويه من حديث جابر بسند جيد في قصة صب الخمر قال: «فانصبت حتى استنقعت في بطن الوادي» (1)
__________
(1) فتح الباري (10\39)(88/293)
المبحث الثالث
تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة
عبر الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في كتابه «فتح الباري» من خلال استنباطه من الأحاديث عن هذه القاعدة بعبارات متنوعة منها:
1 - ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة (1)
2 - دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة (2)
3 - تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة (3)
4 - مراعاة ترك المفسدة أولى (4)
5 - ترك المصلحة خوف المفسدة (5)
وقد استنبط الحافظ من خمسة أحاديث ما يشهد لهذه القاعدة، وهذه الأحاديث هي:
الحديث الأول: حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين بابا شرقيا
__________
(1) فتح الباري (1\225) .
(2) فتح الباري (2\143) .
(3) فتح الباري (3\275) .
(4) فتح الباري (2\200، 5\113، 11\269) .
(5) فتح الباري (10\231) .(88/294)
وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم (1) »
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة» ، فقال: «خشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غير بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك، فيستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، وترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه» (2)
وقال في موضع آخر: «وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة، وأنهما إذا تعارضا بدئ بدفع المفسدة، وأن المفسدة إذا أمن وقوعها عاد استحباب عمل المصلحة» (3)
وما ذكره الحافظ – رحمه الله – ظاهر وهو أن نقض الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم مصلحة، ولكن عارضها مفسدة، وهي أن العرب لقرب عهدهم بالجاهلية، وصعوبة قبولهم لتغيير الكعبة عما كانت عليه فقد يحصل لهم فتنة، ويظنون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا؛ ليتفرد بالفخر والمجد، فترك النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أولى، لأجل تأليف القلوب
__________
(1) أخرجه البخاري ح (1586) ، ومسلم ح (1333) ، والترمذي ح (875) ، والنسائي ح (2900) ، وابن ماجه ح (2955) ، وأحمد (6\102) ، ح (24753) ، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» .
(2) فتح الباري (1\225) .
(3) فتح الباري (3\448) .(88/295)
والخشية من الفتنة، ونفور الناس بسبب قرب عهدهم بالشرك والكفر.
وقد توارد الأئمة على ذكر هذا الاستنباط من الحديث، فترجم عليه البخاري بقوله: «باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه» (1)
قال القاضي عياض: «في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا ترك بعض الأمور التي يستصوب عملها إذا خيف تولد ما هو أضر من تركه، واستلاف الناس على الإيمان» (2)
وقال النووي: «في هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها: إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبا، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيما، فتركها - صلى الله عليه وسلم -» (3)
وقد روي أن هارون الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بناه الحجاج من الكعبة، وأن يرده إلى بنيان ابن الزبير فقال له: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين ألا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد
__________
(1) البخاري مع الفتح (1\224) .
(2) إكمال المعلم بفوائد مسلم (4\428) .
(3) شرح النووي على مسلم (9\89) .(88/296)
منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس
قال ابن حجر - بعد أن أورد كلام الإمام مالك -: «وهذا بعينه خشية جدهم الأعلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فأشار على ابن الزبير لما أراد أن يهدم الكعبة ويجدد بناءها بأن يرم ما وهى منها، ولا يتعرض لها بزيادة ولا نقص، وقال له: لا آمن أن يجيء من بعدك أمير فيغير الذي صنعت» (1)
__________
(1) ينظر: فتح الباري (3\448) ، والخبر في الملحق من أخبار مكة للفاكهي (5\229) .(88/297)
الحديث الثاني: حديث زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر - رضي الله عنه - فقلت له: «ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشأم فاختلفت أنا ومعاوية في: قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان - رضي الله عنه - يشكوني، فكتب إلي عثمان أن اقدم المدينة فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذاك لعثمان فقال لي إن شئت تنحيت فكنت قريبا فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمروا علي حبشيا لسمعت وأطعت (2) »
__________
(1) أخرجه البخاري ح (1406، 4660) ، والنسائي في الكبرى ح (11154) ، والربذة: موضع بينه وبين المدينة ثلاثة مراحل من طريق العراق، وتقع في الشرق، إلى الجنوب من بلدة الحناكية (مائة كيلو عن المدينة) وتبعد الربذة شمال مهد الذهب على مسافة (150) كيلا، وهي اليوم خراب. ينظر: معجم ما استعجم (1\633) ، معجم البلدان (3\27) ، فتح الباري (11\262) ، معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية ص (135) ، المعالم الأثيرة في السنة والسيرة ص (125) .
(2) سورة التوبة الآية 34 (1) {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(88/297)
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة» ، فقال: «فيه تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة؛ لأن في بقاء أبي ذر بالمدينة مصلحة كبيرة من بث علمه في طالب العلم، ومع ذلك فرجح عند عثمان دفع ما يتوقع من المفسدة من الأخذ بمذهبه الشديد في هذه المسألة، ولم يأمره بعد ذلك بالرجوع عنه؛ لأن كلا منهما كان مجتهدا» (1)
ووجه ما ذكره الحافظ – رحمه الله – ظاهر وهو أن عثمان - رضي الله عنه - رغب من أبي ذر - رضي الله عنه - أن يتنحى عن المدينة؛ لئلا يحصل ببقائه فتنة بين الناس؛ بسبب رأيه في مسألة الكنز، حيث كان أبو ذر - رضي الله عنه - يرى وجوب بذل ما زاد عن الكفاية وإنفاقه في سبيل الله، مع العلم أن الآية الكريمة قد جاء بيانها في الحديث النبوي، وهو أن المال الذي أديت زكاته فليس بكنز، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه – يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية
__________
(1) فتح الباري (3\275) .(88/298)
إلى آخر الآية (2) »
وأخرج البخاري بسنده عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - «فقال أعرابي: أخبرني عن قول الله: قال ابن عمر رضي الله عنهما: من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال (4) »
__________
(1) أخرجه البخاري ح (1403) ، ومسلم ح (987) ، وأبو داود ح (1655) ، وابن ماجه ح (1786) ، وأحمد (2\355) ح (8646)
(2) سورة آل عمران الآية 180 (1) {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
(3) أخرجه البخاري ح (1404)
(4) سورة التوبة الآية 34 (3) {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(88/299)
الحديث الثالث: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والجلوس على الطرقات فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها قال: فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها قالوا: وما حق الطريق؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر (1) »
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة» ، فقال: «يؤخذ منه أن دفع
__________
(1) أخرجه البخاري ح (2465) ، ومسلم ح (2121) ، وأبو داود ح (4782) ، وأحمد (3\36) ح (11327) .(88/299)
المفسدة أولى من جلب المصلحة، لندبه أولا إلى ترك الجلوس مع ما فيه من الأجر لمن عمل بحق الطريق، وذلك أن الاحتياط لطلب السلامة آكد من الطمع في الزيادة» (1)
وما ذكره الحافظ – رحمه الله – ظاهر وقد بين وجه الدلالة من الحديث للقاعدة، وقد بسط غير واحد من الأئمة هذا الاستنباط من الحديث، قال الطبري (ت: 321 هـ) : «فيه الدلالة على الندب إلى لزوم المنازل التى يسلم لازمها من رؤية ما يكره رؤيته، وسماع ما لا يحل له سماعه، مما يجب عليه إنكاره، ومن معاونة مستغيث يلزمه إعانته، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما أذن فى الجلوس بالأفنية والطرق بعد نهيه عنه، إذا كان من يقوم بالمعاني التى ذكرها عليه السلام» (2)
وقال القرطبي: «وهذا الحديث إنكار للجلوس على الطرقات، وزجر عنه، لكن محمله على ما إذا لم ترهق إلى ذلك حاجة كما قالوا: ما لنا من ذلك بد نتحدث فيها، لكن العلماء فهموا أن ذلك المنع ليس على جهة التحريم، وإنما هو من باب سد الذرائع، والإرشاد إلى الأصلح، ولذلك قالوا: إنما قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتذاكر ونتحدث، أي: نتذاكر العلم والدين، ونتحدث بالمصالح والخير، ولما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم ذلك، وتحقق
__________
(1) فتح الباري (5\113) .
(2) ينظر: شرح ابن بطال (6\589 - 590) .(88/300)
حاجتهم إليه أباح لهم ذلك، ثم نبههم على ما يتعين عليهم في مجالسهم تلك من الأحكام» (1)
__________
(1) المفهم (5\486) .(88/301)
الحديث الرابع: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من بني زريق يقال له: لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال: يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة، وجف طلع نخلة ذكر قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان، فأتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناس من أصحابه، فجاء فقال يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء، أو كأن رءوس نخلها رءوس الشياطين قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: قد عافاني الله، فكرهت أن أثور على الناس فيه شرا، فأمر بها فدفنت (1) »
__________
(1) '' أخرجه البخاري ح (5763) ، ومسلم ح (2189) ، والنسائي في الكبرى ح (7569) ، وابن ماجه ح (3545) ، وأحمد (6\57) ح (24345) ، قوله: أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه: أي أجابني بما سألته عنه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الله سبحانه وتعالى أن يطلعه على حقيقة ما هو فيه لما اشتبه عليه من الأمر. ينظر: فتح الباري (10\228) . قوله: مطبوب: أي مسحور، يقال: طب الرجل: بالضم: إذا سحر، ينظر: تهذيب اللغة (13\302) ، النهاية (3\110) ، اللسان، طبب (1\553) ، فتح الباري (10\228) ، مشط: هو الآلة المعروفة التي يسرح بها شعر الرأس واللحية، مشاطة: الشعر الذي سقط من الرأس إذا سرح بالمشط، وكذا من اللحية، قوله: وجف طلع نخلة ذكر: هو الغشاء الذي يكون على الطلع ويطلق على الذكر والأنثى. ينظر: تهذيب اللغة (11\318) ، النهاية (4\334) ، اللسان، مشط، (7\402) ، قوله: بئر ذروان: - بفتح الذال المعجمة وسكون الراء - هي بئر في منازل بني زريق، كأن ماءها نقاعة الحناء: أي أن لون ماء البئر لون الماء الذي ينقع فيه الحناء، يعني أحمر، قوله: كأن رءوس نخلها رءوس الشياطين: وفي رواية: «فإذا نخلها الذي يشرب من مائها قد التوى سعفه كأنه رءوس الشياطين» ، قوله: أثور على الناس، في رواية: «أثير» قال الحافظ: «هما بمعنى» . ينظر: فتح الباري (10\231) . ''(88/301)
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة» ، فقال: قوله في الحديث: «يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: قد عافاني الله فكرهت أن أثور على الناس فيه شرا فأمر بها فدفنت» ، قال النووي: خشي من إخراجه وإشاعته ضررا على المسلمين، من تذكر السحر وتعلمه ونحو ذلك؛ وهو من باب ترك المصلحة خوف المفسدة»(88/302)
وما نقله الحافظ عن النووي – رحمهما الله – ظاهر الدلالة للقاعدة، وقد بين فيما نقله عن النووي وجه الاستدلال، وقد أشار إلى هذا القاضي عياض فقال: قوله: «كرهت أن أثير على الناس شرا: يريد – والله أعلم – يثير عليهم شرا بإخراجها واطلاع بعضهم عليها، وتعلم السحر وعمله لمن يراها، فأمر بدفن البئر، أي ردمها» (1)
وقال القرطبي: «قوله: فأمرت بها فدفنت: أي البئر، يعني أنها ردمت على السحر الذي فيها، لما يخاف من ضرر السحر، ومن ضرر ماء ذلك البئر» (2)
__________
(1) إكمال المعلم (7\91) .
(2) المفهم (5\573) .(88/303)
الحديث الخامس: حديث عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال: «قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم (1) » وذلك في رمضان.
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة:
__________
(1) أخرجه البخاري ح (1129) ، ومسلم ح (761) ، وأبو داود ح (1368) ، والنسائي ح (1604) ، وأحمد (6\177) ح (25485) .(88/303)
«تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة» ، فقال: «في الحديث: ترك بعض المصالح لخوف المفسدة» (1)
ووجه ما ذكره الحافظ – رحمه الله – ظاهر، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك مصلحة الصلاة بأصحابه في المسجد لخوف مفسدة، وهي خشية أن تفرض عليهم الصلاة بالليل فيعجزوا عنها.
قال القاضي عياض: «تركه عليه السلام الخروج والتجميع ليس بنسخ.... بل للعلة التي ذكرها من خشية الفريضة عليهم فيعجزوا عنها، لا سيما على القول إنها كانت عليه هو فريضة، فخشي عليه السلام إن داموا عليها أن تفرض عليهم رفقا بهم» (2)
وقال النووي: «في الحديث: ترك بعض المصالح لخوف مفسدة أعظم من ذلك.... لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان رأى الصلاة في المسجد مصلحة لما ذكرناه، فلما عارضه خوف الافتراض عليهم تركه لعظم المفسدة التي تخاف من عجزهم وتركهم» (3)
__________
(1) فتح الباري (3\14) .
(2) إكمال المعلم (3\114) .
(3) شرح النووي على مسلم (6\41، 69) .(88/304)
المبحث الرابع
احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما.
عبر الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في كتابه «فتح الباري» من خلال استنباطه من الأحاديث عن هذه القاعدة بعبارات متنوعة منها:
1 - دفع أشد المفسدتين بأخفهما (1)
2 - جواز دفع أغلظ الضررين بأخفهما (2)
3 - دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما (3)
4 - ارتكاب أخف المفسدتين إذا استلزم إزالة أشدهما (4)
5 - ارتكاب أخف الضررين لذهاب أشدهما (5)
6 - ارتكاب أخف المفسدتين بترك أثقلهما (6)
7 - جواز ارتكاب أخف الضررين (7)
8 - اختيار أخف المفسدتين وأيسر الأمرين (8)
وقد استنبط الحافظ من ثمانية أحاديث ما يشهد لهذه القاعدة، وهذه
__________
(1) فتح الباري (1\329) .
(2) فتح الباري (8\422) .
(3) فتح الباري (1\325) .
(4) فتح الباري (5\191) .
(5) فتح الباري (8\468) .
(6) فتح الباري (9\462) .
(7) فتح الباري (10\431) .
(8) فتح الباري (13\11) .(88/305)
الأحاديث هي:
الحديث الأول: حديث سعيد بن جبير قال: «إنا لعند ابن عباس في بيته إذ قال سلوني قلت: أي أبا عباس جعلني الله فداءك بالكوفة رجل قاص يقال له نوف يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل فقال لي: قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: موسى رسول الله عليه السلام قال: ذكر الناس يوما حتى إذا فاضت العيون، ورقت القلوب ولى فأدركه رجل فقال: أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا، فعتب عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، قيل: بلى، قال: أي رب فأين؟ قال: بمجمع البحرين.... الحديث، وفيه: «حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغارا تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل هذا الساحل الآخر عرفوه فقالوا عبد الله الصالح.... لا نحمله بأجر، فخرقها ووتد فيها وتدا قال موسى: أخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئا إمرا، قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا؟ كانت الأولى نسيانا والوسطى شرطا، والثالثة عمدا، قال: لا تؤاخذني بما نسيت، ولا ترهقني من أمري عسرا لقيا غلاما فقتله (1) »
ذكر الحافظ - رحمه الله - في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما» ، فقال: «وأما
__________
(1) أخرجه البخاري ح (4726) ، ومسلم ح (2380) ، والترمذي ح (3149) ، وأحمد (5\116) ح (21147) ، تماريت: أي تجادلت، ينظر: اللسان، مرا، (15\275) .(88/306)
من استدل به على جواز دفع أغلظ الضررين بأخفهما، والإغضاء على بعض المنكرات مخافة أن يتولد منه ما هو أشد، وإفساد بعض المال لإصلاح معظمه كخصاء البهيمة للسمن وقطع أذنها لتتميز، ومن هذا مصالحة ولي اليتيم السلطان على بعض مال اليتيم خشية ذهابه بجميعه فصحيح، لكن فيما لا يعارض منصوص الشرع، فلا يسوغ الإقدام على قتل النفس ممن يتوقع منه أن يقتل أنفسا كثيرة قبل أن يتعاطى شيئا من ذلك، وإنما فعل الخضر ذلك لاطلاع الله تعالى عليه» (1)
ووجه ما ذكره الحافظ ظاهر وهو أن الخضر عليه السلام خرق السفينة، وهذه مفسدة لكنه قصد بذلك دفع مفسدة أكبر وهي خوف ذهاب السفينة كلها، حيث يوجد ملك في طريقهم يستولي على السفن غصبا كما قال سبحانه وتعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (2) ، وفي رواية عند البخاري: «وقرأ ابن عباس أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا (3) » فيكون تصرف الخضر حكيما حيث ارتكب أخف الضررين، وهو إفساد جزء من السفينة لدفع أعظم الضررين، وهو أخذ السفينة من قبل الملك الذي وراءهم، ويقال هذا أيضا في قتل الغلام، فقتله مفسدة، ولكن الخضر
__________
(1) فتح الباري (8\422) .
(2) سورة الكهف الآية 79
(3) أخرجه البخاري ح (3401) .(88/307)
ارتكب هذه المفسدة لدفع مفسدة أكبر وهي خشية أن يضل الغلام أبويه، ويصرفهما عن الدين، وفي رواية مسلم: «وأما الغلام فطبع يوم طبع كافرا (1) » ... وقد فعل الخضر ذلك بأمر الله تعالى قال سبحانه وتعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم ح (2380) .
(2) سورة الكهف الآية 82(88/308)
الحديث الثاني: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين (1) »
ذكر الحافظ – رحمه الله - في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما» ، فقال: «قال ابن دقيق العيد: لم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصحابة ولم يقل لهم لم نهيتم الأعرابي؟ بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما»
__________
(1) أخرجه البخاري ح (220) ، ومسلم ح (284) ، وأبو داود ح (383) ، والترمذي ح (147) ، والنسائي ح (56) ، وابن ماجه ح (529) ، وأحمد (2\282) ح (7786) ، وابن خزيمة ح (297) وابن حبان كما في الإحسان ح (1399) .(88/308)
ووجه ما نقله الحافظ عن ابن دقيق العيد ظاهر، وهو أن ترك الأعرابي يستمر في بوله في المسجد مفسدة لما فيه من زيادة التنجيس، وتركه على هذا العمل المحرم الذي لا يليق بالمسجد لكنها احتملت لدفع مفسدة أكبر، وهي الضرر الذي يحصل بقطع بوله، وما يحصل من تنجيس ثيابه ومواضع أخرى من المسجد.
قال الحافظ في موضع آخر: «وإنما تركوه يبول في المسجد لأنه كان شرع في المفسدة فلو منع لزادت إذ حصل تلويث جزء من المسجد، فلو منع لدار بين أمرين: إما أن يقطعه فيتضرر، وإما أن لا يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه أو ثوبه أو مواضع أخرى من المسجد» (1)
وقال ابن الملقن: «فيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما، لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن زجره» (2)
__________
(1) فتح الباري (1\323) .
(2) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1\698) .(88/309)
الحديث الثالث: حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام وقية فأعينيني فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا ذلك عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن(88/309)
يكون الولاء لهم فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرت عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق ففعلت عائشة ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق (1) »
__________
(1) أخرجه البخاري ح (2168) ، ومسلم ح (1504) ، وأبو داود ح (3925) ، والترمذي ح (1256) ، والنسائي ح (3448) ، وأحمد (6\33) ، ح (24099) ، قال الحافظ في الفتح (1\551) : «حديث عائشة هذا في قصة بريرة، أخرجه البخاري في مواضع أخرى من البيوع والعتق وغيرهما، واعتنى به جماعة من الأئمة فأفردوه بالتصنيف» . كاتبت: فاعلت من الكتابة التي هي العقد، وإما من معنى الإلزام كما في قوله تعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) ، كأن السيد ألزم نفسه عتق العبد عند الأداء، والعبد ألزم نفسه المال الذي كاتب عليه. ينظر: النهاية (4\148) اللسان، كتب، (1\698) أهلي: المراد بالأهل هنا سادتها، والأهل في الأصل الآل، أواق: جمع: أوقية – بضم الهمزة، وتشديد التحتانية – أربعون درهما بالاتفاق، ووقع في بعض نسخ مسلم «وقية» بغير ألف وهي لغة، والجمهور على إثبات الألف، ينظر: تهذيب اللغة (9\375) ، اللسان، وقى (15\401) ، فتح الباري (3\310) . فأعينيني: بصيغة الأمر للمؤنث من الإعانة، وفي رواية «فأعيتني» بصيغة الخبر الماضي من الإعياء، والضمير للأواقي، أي أعجزتني عن تحصيلها، وهو متجه المعنى. ينظر: فتح الباري (5\190) . الولاء: بفتح الواو والمد، وأصله من الولى وهو القرب والدنو، وحقيقة الولاء: حق ثبت بوصف هو الإعتاق، فلا يقبل النقل إلى الغير بوجه من الوجوه؛ لأن ما ثبت بوصف يدوم بدوامه، ولا يستحقه إلا من قام بذلك الوصف، فكما أن الأبوة والجدودة لا تنقل، كذلك الولاء، ويترتب على الولاء أن المعتق وهو السيد يرث من المعتق. ينظر: النهاية (5\227) ، اللسان، ولى (15\405) ، الفتح (5\167) . أعتق: العتق في الشرع إزالة الرق عن آدمي تقربا إلى الله تعالى، مأخوذ من قولهم: عتق الفرس: إذا سبق ونجا، وعتق الفرخ: إذا طار، والعبد بالعتق يتخلص ويذهب. ينظر: النهاية (3\179) ، اللسان، عتق، (10\234) ، فتح الباري (5\146) .(88/310)
ذكر الحافظ - رحمه الله - في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما» ، فقال: «يستفاد منه ارتكاب أخف المفسدتين، إذا استلزم إزالة أشدهما» (1)
ووجه ما ذكره الحافظ – رحمه الله – هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لعائشة – رضي الله عنها – أن تشترط لهم الولاء، وهو لا يصح لهم، لأن الولاء لا يباع ولا يوهب وفي ظاهر هذا الاشتراط إيهام لهم أن لهم الولاء، وهذه مفسدة احتملت من أجل خشية أن يحجم موالي بريرة عن بيعها إذا علموا أن الولاء ليس لهم، وفي هذا تأخير لعتقها وحريتها، والشارع يتشوف إلى العتق.
__________
(1) فتح الباري (5\191) .(88/311)
لكن هذا الاستنباط فيه نظر، فقد اختلف العلماء في توجيه قوله صلى الله عليه وسلم: «واشترطي لهم الولاء (1) » ، ولهذا قال الحافظ – رحمه الله – بعد ذكره الاستنباط للقاعدة: «وتعقب بأنه استدلال بمختلف فيه على مختلف فيه» (2)
والذي يظهر والله أعلم أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «واشترطي لهم الولاء» التنبيه على أن ذلك لا ينفعهم ولا يفيدهم شيئا، وأن مثل هذا اشتهر ولا يخفى على أهل بريرة، حيث تقرر في الشرع أن الولاء لمن أعتق، ولهذا جاء في رواية: «اشتريها وأعتقيها ودعيهم يشترطون ما شاءوا ... (3) » واشتد نكيره - صلى الله عليه وسلم - عليهم بقوله «ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق (4) » ، وقد توسع الحافظ في بيان توجيهات الأئمة لقوله صلى الله عليه وسلم: «واشترطي لهم الولاء (5) »
__________
(1) صحيح البخاري الشروط (2729) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن الترمذي البيوع (1256) ، سنن النسائي الطلاق (3451) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(2) فتح الباري (5\191) .
(3) أخرجه البخاري ح (2565) .
(4) صحيح البخاري الشروط (2729) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن النسائي الطلاق (3451) ، سنن أبي داود العتق (3929) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) ، مسند أحمد (6/213) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) .
(5) فتح الباري (5\190) ، وينظر: زاد المعاد (5\146) .(88/312)
الحديث الرابع: حديث عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله منه...... الحديث بطوله، وفيه: ... «وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله(88/312)
عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة فقال: «يا بريرة هل رأيت فيها شيئا يريبك؟ فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها قط، أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن العجين فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا.... (1) »
قال الحافظ: «قوله: «وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير (2) » هذا الكلام الذي قاله علي
__________
(1) أخرجه البخاري ح (2661) ، ومسلم ح (2770) ، والترمذي ح (3180) ، وأحمد (6\194) ح (25664) ، وقول بريرة: أمرا أغمصه عليها: أي أعيبها به، وأطعن به عليها. ينظر: النهاية (3\386) ، اللسان، غمص (7\61) ، فتح الباري (8\470) ، والداجن: الشاة التي تألف البيت ولا تخرج إلى المرعى، وقيل هي كل ما يألف البيوت مطلقا شاة أو طيرا. ينظر: النهاية (2\102) ، القاموس المحيط ص (1541) ، اللسان، دجن، (13\147) ، فتح الباري (8\470) ، فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول: قال الخطابي: «أي طلب من يعذره منه، أي ينصفه منه، يقول: من يعذرني من فلان ... ويتأول ذلك على وجهين: أحدهما: من يقوم بعذره فيما يأتيه إلي من المكروه، والوجه الآخر: من يقوم بعذري إن عاقبته على سوء فعله» .، وقيل: معنى من يعذرني: من ينصرني وينتقم لي منه، ينظر: أعلام الحديث (2\1311) ، النهاية (3\196) ، اللسان، عذر (4\545) ، فتح الباري (8\470) .
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7369) ، صحيح مسلم التوبة (2770) ، سنن أبي داود النكاح (2138) ، مسند أحمد (6/198) .(88/313)
حمله عليه ترجيح جانب النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى عنده من القلق والغم بسبب القول الذي قيل، وكان - صلى الله عليه وسلم - شديد الغيرة، فرأى علي أنه إذا فارقها سكن ما عنده من القلق بسببها إلى أن يتحقق براءتها فيمكن رجعتها، ويستفاد منه ارتكاب أخف الضررين لذهاب أشدهما» (1)
ووجه ما ذكره الحافظ - رحمه الله - ظاهر، وهو أن عليا - رضي الله عنه - أشار على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخف الضررين حسب اجتهاده ورأيه، وهو أن يفارق عائشة - رضي الله عنها - وذلك من أجل أن يدفع ما حل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الغم والقلق بسبب القول الذي قيل فيها، ولكن علي - رضي الله عنه - لم يجزم بذلك.
قال أبو محمد بن أبي جمرة (695 هـ) : «لم يجزم علي بالإشارة بفراقها؛ لأنه عقب ذلك بقوله: «وسل الجارية تصدقك» ففوض الأمر في ذلك إلى نظر النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه قال: إن أردت تعجيل الراحة ففارقها، وإن أردت خلاف ذلك فابحث عن حقيقة الأمر إلى أن تطلع على براءتها، لأنه كان يتحقق أن بريرة لا تخبره إلا بما علمته، وهي لم تعلم من عائشة إلا البراءة المحضة» (2)
وقال النووي: «رأى علي أن ذلك هو المصلحة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتقد ذلك لما رأى من انزعاجه، فبذل جهده في النصيحة، لإرادة
__________
(1) فتح الباري (8\468) .
(2) ينظر: فتح الباري (8\468) .(88/314)
راحة خاطره صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك أهم من غيره» (1)
__________
(1) شرح النووي على مسلم (17\108) ، وينظر: فتح الباري (8\468) .(88/315)
الحديث الخامس: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: «ذكر المتلاعنان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عاصم بن عدي في ذلك قولا ثم انصرف، فأتاه رجل من قومه فذكر له أنه وجد مع امرأته رجلا فقال عاصم: ما ابتليت بهذا الأمر إلا لقولي، فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي وجد عليه امرأته، وكان ذلك الرجل مصفرا قليل اللحم، سبط الشعر، وكان الذي وجد عند أهله آدم خدلا كثير اللحم، جعدا قططا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم بين فوضعت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجد عندها، فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما فقال رجل لابن عباس في المجلس هي التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو رجمت أحدا بغير بينة لرجمت هذه فقال ابن عباس: لا تلك امرأة كانت تظهر السوء في الإسلام (1) »
__________
(1) أخرجه البخاري ح (5316) ، ومسلم ح (1497) ، والنسائي ح (3470) ، ابن ماجه ح (2560) ، وأحمد (1\335) ح (3106) ، قوله: المتلاعنان: جاء في رواية «التلاعن» ، والمراد ذكر حكم الرجل يرمي امرأته بالزنا فعبر عنه بالتلاعن باعتبار ما آل إليه الأمر بعد نزول قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء) الآية، قوله: «فقال عاصم بن عدي في ذلك قولا» المراد به قوله في حديث آخر: «أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل» ، قوله: فأتاه رجل: هو عويمر بن عمرو، وكانت تحته بنت عاصم أو بنت أخيه، فلذلك أضاف ذلك إلى نفسه بقوله: ما أبتليت بهذا الأمر إلا لقولي، وقوله: إلا بقولي: أي بسؤالي عما لم يقع، كأنه قال: فعوقبت بوقوع ذلك في آل بيتي، قوله: قليل اللحم: أي نحيف الجسم، آدم: أي لونه قريب من السواد، خدلا: أي ممتلئ الساقين، ينظر: النهاية (2\14) ، الللسان، خدل، (11\201) ، فتح الباري (9\455) ، قططا: بفتح القاف والمهملة بعدها مثلها هذا هو المشهور، وقد تكسر الطاء الأولى، والمراد به شدة جعودة الشعر، ويطلق في وصف الرجل ويراد به الذم يقال جعد اليدين وجعد الأصابع أي بخيل، ينظر: النهاية (4\81) ، اللسان، قطط، (7\380) ، فتح الباري (6\486) .(88/315)
ذكر الحافظ – رحمه الله - في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما» ، فقال: «فيه ارتكاب أخف المفسدتين بترك أثقلهما، لأن مفسدة الصبر على خلاف ما توجبه الغيرة مع قبحه وشدته أسهل من الإقدام على القتل الذي يؤدي إلى الاقتصاص من القاتل، وقد نهج له الشارع سبيلا إلى الراحة منها إما بالطلاق وإما باللعان» (1)
ووجه ما ذكره الحافظ - رحمه الله – ظاهر، وهو أن من وجد مع امرأته رجلا أمر بالصبر وألا يقدم على القتل، وهذا فيه مفسدة لأنه خلاف ما توجبه الغيرة، ولكن احتملت هذه المفسدة من أجل دفع مفسدة أكبر، وهي أن الزوج إذا قتل فسوف يقتل قصاصا، وكان الحكم
__________
(1) فتح الباري (9\462) .(88/316)
الشرعي على من قذف امرأته أن يطلب منه أن يقيم البينة أو يجلد حد القذف ثم جعل الشارع سبيلا لمن قذف امرأته وهو اللعان، ويحصل به تفريق مؤبد بين الزوجين، وقد جاء في حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن عويمرا جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين (1) »
__________
(1) أخرجه البخاري ح (5259) ، ومسلم ح (1492) .(88/317)
الحديث السادس: حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «أترون(88/317)
هذه طارحة ولدها في النار؟!» قلنا: لا وهي تقدر على أن لا تطرحه فقال: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها» (1) »
ذكر الحافظ - رحمه الله - في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما» ، فقال: «في الحديث جواز ارتكاب أخف الضررين، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينه المرأة عن إرضاع الأطفال الذين أرضعتهم مع احتمال أن يكبر بعضهم فيتزوج بعض من أرضعته المرأة معه، لكن لما كانت حالة الإرضاع ناجزة، وما يخشى من المحرمية متوهم اغتفر، قلت: ولفظ الصبي بالتذكير في الخبر ينازع في ذلك» (2)
وهذا الاستنباط الذي ذكره الحافظ ابن حجر – رحمه الله – ظاهر، وهو أن إقرار المرأة أن ترضع من وجدته من السبي مع احتمال أن يكبر هؤلاء الأطفال ويحصل بينهم تزاوج مفسدة، لكنها احتملت من أجل مفسدة أكبر منها، وهي أن ترك اللبن يحتبس في ثدي المرأة يضر بها، ولكن يرد على هذا الاحتمال أنها كانت ترضع صبيانا، وظاهر اللفظ
__________
(1) أخرجه البخاري ح (5999) ، ومسلم ح (2754) ، والبيهقي في الشعب (12\442) ح (6729) ، والسبي: النهب وأخذ الناس عبيدا وإماء، والسبية: المرأة المنهوبة فعيلة بمعنى مفعولة وجمعها السبايا. ينظر: معجم مقاييس اللغة (3\130) ، النهاية (2\340) ، اللسان، سبى، (14\367) .
(2) فتح الباري (10\431) .(88/318)
أنهم ذكور، ولهذا قال الحافظ متعقبا هذا الاستنباط الذي ذكره: «قلت: ولفظ الصبي بالتذكير في الخبر ينازع في ذلك» . ولكن يرد على ما ذكره الحافظ أن المحرمية تنتشر أيضا في فروعهم، ويحتمل التزاوج فيما بينهم، فيبقى الاحتمال، لكن قد يقال إن إرضاعها لأولئك الأطفال قد لا يكون تاما، والرضاع المحرم هو خمس رضعات معلومات، لحديث عائشة رضي الله عنها - أنها قالت: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن (1) »
__________
(1) أخرجه مسلم (1452) .(88/319)
الحديث السابع: حديث عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد قال: أخبرني جدي قال: «كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، ومعنا مروان قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق يقول: «هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش» فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة، فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت، فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا بالشأم فإذا رآهم غلمانا أحداثا قال لنا، عسى هؤلاء أن يكونوا منهم قلنا أنت أعلم (1) »
__________
(1) أخرجه البخاري ح (7058) ، والنسائي في الكبرى كما في التحفة (10\313) ، وأحمد (2\324) ح (8287) ، وابن حبان كما في الإحسان ح (6713) والبيهقي في الدلائل (6\464 – 465) ، وقوله: هلكة أمتي: المراد بالأمة هنا أهل ذلك العصر، ومن قاربهم، لا جميع الأمة إلى يوم القيامة، غلمة: جمع غلام، يقال للصبي حين يولد إلى أن يحتلم غلام، وقد يطلق على الكبير: غلام، ينظر: النهاية (3\382) ، اللسان، غلم، (12\439) ، فتح الباري (13\9) ، وأخرج البخاري ح (120) بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاءين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم» . وقد حمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفا على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة. ينظر: فتح الباري (1\216) .(88/319)
ذكر الحافظ – رحمه الله - في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما» ، فقال: «قال ابن بطال: وفي هذا الحديث أيضا حجة لما تقدم من ترك القيام على السلطان ولو جار، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أعلم أبا هريرة بأسماء هؤلاء، وأسماء آبائهم ولم يأمرهم بالخروج عليهم مع إخباره أن هلاك الأمة على أيديهم؛ لكون الخروج أشد في الهلاك، وأقرب إلى الاستئصال من طاعتهم، فاختار أخف المفسدتين وأيسر الأمرين» (1)
وهذا الاستنباط الذي نقله الحافظ ابن حجر عن ابن بطال واضح
__________
(1) فتح الباري (13\11) ، وينظر: شرح ابن بطال (10\10) .(88/320)
الدلالة، وهو أن سكوت أبي هريرة عن الإخبار عن هؤلاء الغلمة مفسدة، لكن أبا هريرة - رضي الله عنه - خشي من الإخبار بهم الخروج عليهم، فيحصل مفسدة أكبر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بالخروج عليهم، ومن المعلوم أن في الخروج على أئمة الجور من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم.
قال القرطبي: «وهؤلاء الأغيلمة كان أبو هريرة - رضي الله عنه - يعرف أسماءهم وأعيانهم، ولذلك كان يقول: لو شئت قلت لكم: هم بنو فلان، وبنو فلان، لكنه سكت عن تعيينهم مخافة ما يطرأ من ذلك من المفاسد» (1)
وقد دلت الأحاديث المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف، وترك الخروج عليهم ما أقاموا الصلاة في الناس
__________
(1) المفهم (7\254) .(88/321)
قال الإمام أحمد (ت: 241 هـ) : «والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر ومن ولي الخلافة، فاجتمع الناس عليه، ورضوا به» وقال الإمام الطحاوي (ت: 321 هـ) : «ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة» (1) وقال ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية (792 هـ (: «وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا فلأنه يترتب على الخروج عن طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور» (2)
__________
(1) العقيدة الطحاوية ص (47) .
(2) شرح العقيدة الطحاوية (2\543) .(88/322)
وقال ابن بطال (ت: 449 هـ) : «وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء. . ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح» (1) وقال شيخ الإسلام (ت: 728 هـ) : «استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة؛ للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم» (2) وقال: «وإن ما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الصبر على جور الأئمة، وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وإن من خالف ذلك متعمدا أو مخطئا لم يحصل بفعله صلاح بل فساد» (3) وقال أيضا: «إن الملك الظالم لا بد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه، وقد قيل: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام، وإذا قدر كثرة ظلمه فذاك ضرر في الدين، كالمصائب تكون كفارة لذنوبهم، ويثابون عليها، ويرجعون فيها إلى الله، ويستغفرونه، ويتوبون إليه، وكذلك ما يسلط عليهم من العدو. . ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتال من يقاتل على الدين الفاسد من أهل البدع كالخوارج، وأمر بالصبر على جور الأئمة، ونهى عن
__________
(1) شرح صحيح البخاري لابن بطال (10\8) .
(2) منهاج السنة (4\529) .
(3) منهاج السنة (4\531) .(88/323)
قتالهم والخروج عليهم» (1)
__________
(1) مجموع الفتاوى (14\268) .(88/324)
الحديث الثامن: حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: «رأيتني أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - نتماشى فأتى سباطة قوم خلف حائط فقام كما يقوم أحدكم فبال، فانتبذت منه، فأشار إلي فجئته، فقمت عند عقبه حتى فرغ (1) »
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة «احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما» ، فقال: «يستفاد من هذا الحديث دفع أشد المفسدتين بأخفهما. . . . . وبيانه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل الجلوس لمصالح الأمة، ويكثر من زيارة أصحابه وعيادتهم، فلما حضره البول وهو في بعض تلك الحالات لم يؤخره حتى يبعد كعادته، لما يترتب على تأخيره من الضرر، فراعى أهم الأمرين وقدم المصلحة في تقريب حذيفة منه، ليستره من المارة على مصلحة تأخيره عنه، إذ لم يمكن جمعهما» (2)
وهذا الاستنباط الذي ذكره الحافظ – رحمه الله – ظاهر، وهو أن ترك الابتعاد عند إرادة البول فيه ارتكاب مفسدة، ولكنها احتملت مراعاة لما هو أشد منها، وهو حبس البول فإن هذا يضر بالبدن، وقد سبق الكلام على هذا الحديث تحت قاعدة: «تحصل أعظم المصلحتين بترك أدناهما» (3)
__________
(1) أخرجه البخاري ح (225) ، ومسلم ح (273) ، وأبو داود (24) ، والترمذي ح (13) ، والنسائي ح (18، 26) ، وابن ماجه ح (305) ، وأحمد (5\402) ح (23289) .
(2) فتح الباري (1\329) .
(3) ينظر: ص (10) .(88/324)
خاتمة
أحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأود في ختام هذا البحث أن أذكر أهم النتائج التي توصلت إليها:
1 - تضمن هذا البحث الاستشهاد من السنة المطهرة لأصل مراعاة المصالح ودفع المفاسد من خلال الاستنباط في «فتح الباري» ، وجملة الأحاديث التي استدل بها للأصل السابق: أربعة وعشرون حديثا، وهي مقسمة إلى ما يأتي:
أ - سبعة أحاديث استدل بها لقاعدة «تحصل أعظم المصلحتين بترك أدناهما» .
ب - أربعة أحاديث استدل بها لقاعدة «تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة» .
ج - خمسة أحاديث استدل بها لقاعدة «تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة» .
د - ثمانية أحاديث استدل بها لقاعدة «احتمال أخف المفسدتين بدفع أعظمهما» .
2 - يبرز هذا البحث عناية الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في كتابه «فتح الباري» بالاستنباط من السنة المطهرة لأصل مراعاة المصالح ودفع المفاسد.
3 - يتجلى في هذا البحث ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وسيرته من(88/325)
التخلق بأخلاق القرآن والتأدب بآدابه، واتباع الوحي المبارك، وقد اشتمل على مراعاة المصالح ودفع المفاسد، وتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان.
4 - يوصي الباحث بأهمية ترسيخ ملكة الاستنباط من السنة لدى الناشئة وطلبة العلم الشرعي، فيما يعود لقاعدة مراعاة المصالح ودفع المفاسد وغيرها من الفروع والأصول والمقاصد الشرعية، والقضايا المعاصرة، والنوازل الحادثة، والمسائل المستجدة، والاقتداء بعلماء هذه الأمة الذين بذلوا جهودا كبيرة في استنباط الأحكام الشرعية، والفوائد المتنوعة من نصوص الكتاب والسنة.
والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وصلواته وسلامه الأطيبان الأتمان الأكملان على سيدنا محمد خير خلقه أجمعين.(88/326)
المنهج العلمي والخلقي عند سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
لفضيلة الدكتور: عبد الله بن محمد العمرو (1)
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فتبرز أهمية المنهج باعتباره الطريق المأمون الموصل إلى علم صحيح، فسائر العلوم لا سبيل إلى تحصيلها إلا من خلال مناهجها الصحيحة، ولا يعد المرء عالما ما لم يسلك منهجا علميا سليما يحقق به معلوماته وموضوعاته.
وبفقد المنهج أو انحرافه يضل الفهم، وتتحكم الأهواء، ويقع الضلال، كما جرى لكثير من الفرق المنتسبة للإسلام والتي ضلت بسبب الخلل في المناهج التي اعتمدتها في الوصول إلى المعرفة.
وإذا كانت المناهج تختلف باختلاف العلوم؛ فلكل علم منهجه الذي يلائمه، فإن هذا البحث يتجه إلى الحديث عن المنهج في تحصيل العلم الشرعي، وذلك من خلال دراسة منهج أحد أئمة الدين من
__________
(1) الأستاذ بقسم الثقافة الإسلامية - كلية الشريعة بالرياض - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.(88/327)
المعاصرين، وهو سماحة الشيح عبد العزيز بن عبد الله بن باز – رحمه الله تعالى – وذلك بالكشف عن منهجه العلمي الذي سار عليه في تحصيله العلمي، ومنهجه الخلقي الذي ارتضاه واستقام عليه في بيانه للعلم وتبليغه له.(88/328)
أسباب اختيار الموضوع:
أهمية المنهج العلمي والخلقي في ضبط حركة الفكر، وتسديد وجهته، وتوجيه السلوك والارتقاء به.
ما يحصل بسبب غياب المنهج العلمي والخلقي، أو التفريط في الأخذ بهما من ضلال في الفكر، وانحراف في السلوك.
وقد جاء اختيار العلامة الشيخ ابن باز – رحمه الله تعالى – بالحديث عن المنهج العلمي والخلقي عنده لأمور أهمها ما يأتي:
1 - أنه سار على منهج سلف الأمة، في مصادرهم وطريقتهم في الاستدلال؛ حيث اعتمد نصوص الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة، وأخذ بما قرره العلماء من قواعد الاستدلال؛ برد المتشابه إلى المحكم، والمجمل إلى المبين، والجمع بين نصوص الوعد والوعيد والنفي والإثبات، والعموم والخصوص، ومراعاة الناسخ والمنسوخ ونحو ذلك.
2 - معايشته للعديد من التقلبات السياسية والفكرية والاجتماعية التي مرت على العالمين العربي والإسلامي في القرن الرابع عشر الهجري وشطر من الخامس عشر– فلقد شهد أحداثا جساما، منها الجهاد العسكري ضد الاحتلال في أكثر من قطر، واجتياح الدعوات القومية والشيوعية(88/328)
والحركات التغريبية لكثير من البلاد العربية والإسلامية، والحروب التي قامت بين بعض الدول العربية والإسلامية، مع ما صاحب ذلك كله من مواقف متفاوتة، وتوجهات متباينة.
3 - أنه خلف تراثا علميا وفكريا ضخما، توزع بين الأسفار المكتوبة والأشرطة المسموعة، في العقيدة والفقه والحديث، وغيرها من أبواب العلم، وكانت له فيها نظراته المتميزة، واختياراته المسددة، وتعليقاته القيمة.
4 – قيامه – رحمه الله - بما أوجبه الله على أهل العلم من قول الحق وعدم كتمانه، وتصديه للدعوة إلى الله، وتبليغ شرعه، والدفاع عن دينه على مدى عقود من الزمن، فجاهد بلسانه وقلمه، ووقف في وجه الدعوات الهدامة والاتجاهات المنحرفة، وشارك في معالجة كثير من القضايا المستجدة، وتكلم وكتب معلما للجاهلين، ومصححا للمخطئين، ومناقشا للمجتهدين، ورادا على المعاندين، كل ذلك وفق منهج خلقي متميز وثابت، يجمع بين الاجتهاد في بيان الحق، والرحمة بالخلق والنصح لهم.(88/329)
الدراسات السابقة:
كتب عن سماحة الشيخ – رحمه الله – العديد من الكتب والرسائل، إلا أن عامتها متجهه إلى الحديث عن سيرته الذاتية، وأعماله العلمية والدعوية، ومنها: الإنجاز في ترجمة الإمام عبد العزيز بن باز لفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن يوسف الرحمة، والإبريزية في التسعين البازية، لفضيلة الشيخ الدكتور حمد بن إبراهيم الشتوي، وكتاب عبد العزيز بن باز عالم(88/329)
فقدته الأمة لمعالي الدكتور محمد بن سعد الشويعر، ولذا فإن جوانب كثيرة من سيرته لا تزال بحاجة إلى الدراسة والبيان، والكشف من سماتها المتميزة، ومنها المنهج العلمي والخلقي عند سماحته والذي هو موضوع هذا البحث.(88/330)
هدف البحث:
يهدف البحث إلى إبراز المنهج العلمي والخلقي الذي سار عليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله تعالى – في حياته العلمية تحصيلا وعطاء، والذي كان له بالغ الأثر في رسوخ قدمه في العلم، وعلو شأنه فيه، وسعة انتفاع الناس به وبما صدر عنه.
ورسم منهج يسير عليه طالب العلم الشرعي – في تحصيله وتبليغه - يترسم فيه خطى الراسخين في العلم من خلال نموذج معاصر ومتميز هو سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله تعالى -.(88/330)
خطة البحث:
وتشمل بعد المقدمة، مبحثين، وخاتمة، هي على النحو الآتي:
المبحث الأول: المنهج العلمي في الاستمداد والاستدلال.
أولا: الاستمداد من الكتاب والسنة.
ثانيا: اعتماد النصوص الصحيحة في الاستدلال.
ثالثا: اتباع منهج سلف الأمة في فهم النصوص.
رابعا: الأخذ بالقواعد والأصول في الاستنباط.(88/330)
المبحث الثاني: المنهج الخلقي في التبليغ والبيان.
أولا: الصدق والإخلاص.
ثانيا: النصح.
ثالثا: الوضوح.
رابعا: القوة في الحق مع الرفق واللين.
خامسا: التواضع.
سادسا: القدوة.
ثم الخاتمة، وفيها أهم نتائج البحث.(88/331)
منهج البحث:
اعتمدت في هذا البحث منهجا يقوم على ركيزتين هما:
1 - التأصيل: وذلك بالرجوع في تقرير المسائل وبيانها إلى نصوص الكتاب والسنة، وفهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين، وأئمة الدين من علماء المسلمين.
2 - الوصف والتحليل: وذلك بعرض آراء الشيخ – رحمه الله - في الموضوعات محل الدراسة، مع الاجتهاد في استخلاص المنهج العلمي والخلقي الذي سار عليه الشيخ من خلال ما صدر عنه من مؤلفات ورسائل.
هذا وقد حرصت في هذا البحث على الإيجاز، ولذا أكتفي بذكر(88/331)
بعض الشواهد لتقرير المسألة محل البحث، وأشير إلى غيرها من الشواهد ومواضعها.
والله تعالى أسأل التوفيق والتسديد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(88/332)
نبذة موجزة عن حياة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
هو عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله آل باز، ولد بمدينة الرياض في ذي الحجة سنة 1330 هـ، وكان بصيرا ثم أصابه المرض في عينيه، فضعف بصره بسبب ذلك، ثم ذهب بالكلية في عام 1350 هـ.
بدأ الدراسة منذ الصغر وحفظ القرآن الكريم قبل البلوغ ثم بدأ في تلقي العلوم الشرعية والعربية على أيدي كثير من علماء الرياض، من أشهرهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ - رحمه الله -.
اشتغل في القضاء ثم التدريس، ثم عين نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ثم رئيسا لها.
ثم رئيسا عاما لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وفي سنة 1414 من الهجرة اختير لمنصب المفتي العام للمملكة، ورئيس هيئة كبار العلماء، ورئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء إلى وفاته سنة 1420هـ.(88/332)
كان له – رحمه الله - مشاركة فاعلة في كثير من المجالس العلمية والإسلامية، وله عدد من المؤلفات والرسائل.
توفي الشيخ في السابع والعشرين من محرم، سنة عشرين وأربع مائة وألف من الهجرة، بالطائف، ودفن بمكة المكرمة.
وقد كانت جنازته حافلة، شهدها الولاة والعلماء، وجمع عظيم من الناس، رحمه الله وأعلى منزلته(88/333)
المبحث الأول: المنهج العلمي في الاستمداد والاستدلال.
التعريف:
المنهج: الطريق، قال ابن فارس: «النهج: الطريق الواضح، ونهج لي الأمر: أوضحه، وهو مستقيم المنهاج. والمنهج: الطريق - أيضا - والجمع المناهج» (1)
ويقال: نهج الطريق: سلكه، ونهجت الطريق أبنته وأوضحته، واستنهج طريق فلان: إذا سلك مسلكه (2)
__________
(1) معجم مقاييس اللغة (5\361) ، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر، ط2، سنة 1399هـ.
(2) انظر: ابن منظور، لسان العرب 2\383.(88/333)
فخلاصة معانيه في اللغة: أنه الطريق الواضح، والمستقيم، سواء كان حسيا أو معنويا.
والمنهج في الاصطلاح: «وسيلة محددة توصل إلى غاية معينة» (1) هذا بوجه عام.
وفي الجانب المعرفي والفكري هو «خطة منظمة لعدة عمليات ذهنية أو حسية بغية الوصول إلى كشف حقيقة أو البرهنة عليها» (2)
وبالجملة فالمنهج الطريق الواضح المنظم في التفكير أو الاستدلال أو العمل، الموصل إلى غاية معينة، وهو يختلف باختلاف العلوم، والمبادئ، والغايات.
وبإضافته إلى العلم، والذي هو: إدراك الشيء بحقيقته (3) يمكن تعريف المنهج العلمي بأنه: حركة العقل وفق قواعد محددة، بهدف الوصول إلى معرفة صحيحة.
ويتمثل المنهج العلمي في الاستمداد والاستدلال في الأخذ بالقواعد والأصول التي تسدد حركة الإنسان الفكرية، وتمكنه من الوصول إلى معرفة صحيحة تقوم على أساس الدليل والبرهان.
__________
(1) مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسفي ص 195، عالم الكتب، بيروت، ط1 سنة 1399هـ.
(2) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
(3) الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن ص343 دار المعرفة – بيروت.(88/334)
ونصوص الكتاب والسنة هي أساس العلم ومنبعه؛ فلا سبيل إلى العلم بالله تعالى وشرعه وما يجب له إلا من خلالها، كما أن من المتعين فهم نصوص الكتاب والسنة وفق مراد الله تعالى منها، لا بحسب الأهواء أو الظنون، ولذا كان من الأصول المعتبرة، لزوم الاعتصام بالكتاب والسنة، وفهم نصوصهما وفق فهم سلف الأمة.
كما أن من ركائز المنهج العلمي الأخذ بقواعد الاستنباط والترجيح والاجتهاد، للسلامة من الزلل والاختلاف والتناقض.
وسيكون الحديث - في هذا المبحث - عن هذه القواعد والأصول، مع بيان مدى اعتبارها عند سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله تعالى -.(88/335)
أولا: الاستمداد من الكتاب والسنة
الكتاب والسنة هما أساس الإسلام، ومصدر عقائده وعباداته وتعاليمه وآدابه، وقد جاءت النصوص دالة على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة، والصدور عنهما، والرد إليهما عند التنازع، فمن ذلك:
1 – قول الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) .
2 – وقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) .
والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الرد إليه
__________
(1) سورة آل عمران الآية 132
(2) سورة النساء الآية 59(88/335)
في حياته، وإلى ما صح من سننه بعد موته
3 – وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (1) »
4 – وعن المقدام بن معد يكرب – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه (2) »
__________
(1) أخرجه مسلم في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (رقم 867) واللفظ له، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، ط1 سنة 1400هـ. وأبو داود في السنة، باب لزوم السنة (5\15) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية، مصر، والترمذي في العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة، واجتناب البدع، وابن ماجه في المقدمة، باب اجتناب البدع والجدل (1\17) ، دار الحديث، القاهرة. .
(2) أخرجه أبو داود في السنة، باب في لزوم السنة (رقم 4604) . والترمذي في العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - (رقم 2664) ، وابن ماجه في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رقم 12) ، وأحمد (4\131، 132) ، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن ابن ماجه (1\7) .(88/336)
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان: «وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم، اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه ولا ذوقه ولا قياسه ولا وجده، فإنه ثبت عنهم بالبراهين القطعيات، والآيات البينات، أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم»
والرد إلى الكتاب والسنة يؤدي إلى ائتلاف الخلق واجتماعهم وانقيادهم لأمر واحد، بالإضافة إلى اتصاف هذا الاجتماع والائتلاف بالصدق في حقيقته لموافقته للشرع، أما الرد إلى العقل فيحيل الخلق إلى شيء لا سبيل إلى ثبوته ومعرفته واتفاق الناس عليه لتفاوتهم في العقول واختلافهم في الآراء
ولقد سار العلامة ابن باز – رحمه الله – على هدي سلف الأمة؛(88/337)
فاعتمد الكتاب والسنة في أقواله واختياراته وفتاواه، فكان يستنبط منهما، ويقف عند حدودهما، ولا يلتفت إلى ما خالفهما ولا إلى من خالفهما كائنا من كان.
كما كان يوازن بين الأقوال المختلفة على ضوئهما، فيرجح ما وافقهما، ويرد ما خالفهما، هذا منهجه الذي ارتضاه ودأب عليه وعني بتقريره والدعوة إليه والترغيب فيه.
قال – رحمه الله -: «أجمع العلماء قديما وحديثا على أن الأصول المعتبرة في إثبات الأحكام، وبيان الحلال والحرام هي كتاب الله العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم سنة رسول الله – عليه الصلاة والسلام – الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، ثم إجماع علماء الأمة.
واختلف العلماء في أصول أخرى أهمها القياس، وجمهور أهل العلم على أنه حجة إذا استوفى شروطه المعتبرة، والأدلة على هذه الأصول أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر» (1)
ثم شرع رحمه الله في بيان الأدلة على وجوب اتباع الكتاب والسنة، والتمسك بهما، والاستقامة عليهما، والوقوف عند حدودهما (2)
__________
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1\211) .
(2) المرجع السابق (1\211 – 221) .(88/338)
ويؤكد – رحمه الله – أن نصوص الكتاب والسنة تضمنت بيان الحق، وإيضاح سبله ومناهجه، والدعوة إليه بأوضح عبارة، وأكمل بيان، وأقوى حجة، بينت ذلك وأرشدت إليه بالأدلة النقلية والعقلية، ولذا تخضع لها القلوب، وتطمئن لها النفوس، وتنشرح لها الصدور (1) كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (2) .
ومن الواجب على كل مسلم: «الانقياد التام لقول الله تعالى، وقول رسوله، وتقديمهما على قول كل أحد، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة» (3) وهو مقتضى العبودية لله، والشهادة بالرسالة لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - (4)
كما أن من المتعين رد ما تنازع فيه الناس واختلفوا فيه، إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (5) .
«ففي عرضها على هذا الميزان العظيم تمحيصها، وبيان حقها من باطلها، ورشدها من غيها، وهداها من ضلالها، وبذلك ينتصر الحق
__________
(1) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4\60 – 67) .
(2) سورة يونس الآية 57
(3) ابن باز، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1\77) .
(4) المرجع السابق (1\79) .
(5) سورة النساء الآية 59(88/339)
وأهله، ويندحر الباطل وأهله» (1)
فأقوال الناس، وأعمالهم، وسائر تصرفاتهم يجب أن تعرض على الكتاب والسنة.
والشيخ – رحمه الله – يتابع سلف الأمة في إجلال السنة، والتمسك بها، والاحتجاج بها، ويقرر أنها محفوظة بحفظ الله تعالى لها، وأنها تضمنت أحكاما استقلت في بيانها، يقول رحمه الله: «ولا شك أن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحي منزل، فقد حفظها الله كما حفظ كتابه، وقيض لها علماء نقادا، ينفون عنها تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين، ويذبون عنها كل ما ألصقه بها الجاهلون والكذابون والملحدون، لأن الله سبحانه جعلها تفسيرا لكتابه العزيز، وبيانا لما أجمل فيه من الأحكام، وضمنها أحكاما أخرى لم ينص عليها الكتاب العزيز، كتفصيل أحكام الرضاع، وبعض أحكام المواريث، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، إلى غير ذلك من الأحكام التي جاءت بها السنة الصحيحة ولم تذكر في كتاب الله العزيز» (2)
وإذا كان من الناس من يزعم الاكتفاء بالقرآن والاحتجاج به دون السنة، «فقد ضل ضلالا بعيدا، وكفر كفرا أكبر، وارتد عن الإسلام بهذا المقال، فإنه بهذا المقال وبهذا الاعتقاد يكون قد كذب الله ورسوله، وأنكر ما أمر الله به ورسوله، وجحد أصلا عظيما من أصول الإسلام قد
__________
(1) ابن باز، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4\62) .
(2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1\216) . وانظر: المرجع نفسه (8\138) .(88/340)
أمر الله بالرجوع إليه، والاعتماد عليه، والأخذ به، وأنكر إجماع أهل العلم وكذب به وجحده» (1) فمن لم يتبعه - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يؤمن بكتاب الله ولم ينفذ أوامره، إذ كتاب الله أمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحذر من مخالفته (2)
ويؤكد – رحمه الله – أن الاعتصام بالكتاب والسنة سبب للحياة الطيبة الحميدة، والمتضمنة طمأنينة القلب، وانشراح الصدر، وراحة الضمير، كما أن في الاستجابة لله ورسوله، والاستقامة على ذلك قولا وعملا العز والكرامة والنجاة في الدنيا والآخرة (3) كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) ، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (5) .
«وأما من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام واشتغل عنهما بغيرهما فإنه لا يزال في العذاب والشقاء، في الهموم والغموم والمعيشة الضنك، وإن ملك الدنيا بأسرها، ثم ينتقل إلى ما هو أشد وأفظع، وهو عذاب النار» (6) كما قال تعالى:
__________
(1) المرجع السابق (8\132) .
(2) المرجع السابق (9\181) .
(3) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1\236، 306) (5\99) .
(4) سورة النحل الآية 97
(5) سورة المنافقون الآية 8
(6) ابن باز، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5\98) .(88/341)
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (1) {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (2) ، وقال عز من قائل: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (3) .
__________
(1) سورة طه الآية 123
(2) سورة طه الآية 124
(3) سورة السجدة الآية 21(88/342)
ثانيا: اعتماد النصوص الصحيحة في الاستدلال
لما كان من الأصول المعتمدة عند أهل السنة والجماعة الاعتصام بالكتاب والسنة، والوقوف عند حدودهما، والرد إليهما عند التنازع – كما تقدم -، وحيث إن السنة تتفاوت باعتبار وصولها إلينا؛ فمنها المتواتر ومنها الآحاد والآحاد منها المقبول ومنها المردود، فإن الواجب الاعتماد على الأحاديث المقبولة وهي الصحيحة والحسنة – وأما الضعيفة والموضوعة فلا يجوز الاستدلال بها أو الاعتماد عليها في الأحكام الشرعية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فالواجب أن يفرق بين الحديث(88/342)
الصحيح والحديث الكذب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة. فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عموما ولمن يدعي السنة خصوصا» (1)
ويقول أيضا: «ولا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحة ولا حسنة» (2)
ولقد اعتمد الشيخ ابن باز هذا الأصل العظيم، فعني بتمحيص مرويات الحديث، ودعا إلى اعتماد الأحاديث الصحيحة في الاستدلال، والرد إليها عند التنازع (3) وبين أنه لا يجوز مخالفتها، أو معارضتها برأي أو هوى، أو قياس، يقول الشيخ – رحمه الله تعالى -: «وإذا صحت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تجز معارضتها بقول أحد من الناس ولا فعله كائنا من كان، ووجب على المؤمن اتباعها والتمسك بما دلت عليه، ورفض ما خالفه، كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) (5)
ويقول أيضا: «وأما من علم الأحاديث الصحيحة. . فلا عذر له في
__________
(1) مجموع الفتاوى (3\380) .
(2) المرجع السابق (1\250) .
(3) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (6\106) ، (9\177) .
(4) سورة الحشر الآية 7
(5) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4\217 – 218) .(88/343)
مخالفتها، ومتى خالف العبد الأحاديث الصحيحة الصريحة اتباعا للهوى، أو تقليدا لأحد من الناس استوجب غضب الرب ومقته، وخيف عليه من زيغ القلب وفتنته، كما حذر الله سبحانه من ذلك في قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) ، وفي قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (2) ، وقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} (3) (4)
وإذا كان طوائف من أهل الكلام ومن سلك سبيلهم، يرون أن أخبار الآحاد لا تقبل في العقائد، لأنها لا تفيد القطع واليقين، وأن العقائد لا بد فيها من اليقين، فردوا بهذه الشبهة كثيرا من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
فإن هذا الذي ذهب إليه أهل الكلام خلاف ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن سلك سبيلهم من الأئمة، الذين يأخذون بكل ما
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) سورة الصف الآية 5
(3) سورة التوبة الآية 77
(4) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4\218) .(88/344)
صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، دون تفريق بين الآحاد وغيره، ودون تفريق بين العمل والاعتقاد.
يقول الخطيب البغدادي: «وعلى العمل بخبر الواحد كان كافة التابعين ومن بعدهم من الفقهاء الخالفين في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار لذلك ولا اعتراض عليه، فثبت أنه من دين جميعهم وجوبه، إذ لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه فيه» (1)
وقال ابن عبد البر: «وكلهم – يعني أهل الفقه والأثر – يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها ويجعلها شرعا ودينا يعتقده، وعلى ذلك جماعة أهل السنة»
وما سار عليه سلف الأمة من الأخذ بحديث الآحاد والاحتجاج به، هو ما يختاره الشيخ ابن باز – رحمه الله – ويعتمده ويدعو إليه، وفي هذا يقول: «متى صح السند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب الأخذ به مطلقا، ولا يشترط في ذلك أن يكون متواترا أو مشهورا أو مستفيضا أو بعدد كذا من الطرق، بل يجب أن يؤخذ بالسنة ولو كانت من طريق واحدة
__________
(1) الكفاية في علم الرواية ص72 دار الكتب الحديثة، القاهرة ط2.(88/345)
متى استقام الإسناد وجب الأخذ بالحديث مطلقا بسند واحد أو بسندين أو بثلاثة أو بأكثر، سواء سمي الخبر متواترا أو خبر آحاد، لا فرق في ذلك، كلها حجة يجب الأخذ بها، مع اختلاف ما تقتضيه من العلم الضروري، أو العلم النظري، أو الظني» (1)
__________
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (9\190) .(88/346)
ثالثا: اتباع سلف الأمة في فهم النصوص
من القواعد المقررة عند أهل السنة والجماعة أنهم يعتمدون تفسير الصحابة – رضي الله عنهم – وفهمهم للنصوص، لأنهم «حضروا التنزيل، وفهموا كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، واطلعوا على قرائن القضايا، وما خرج عليه الكلام من الأسباب والمحامل التي لا تدرك إلا بالحضور، وخصهم الله تعالى بالفهم الثاقب، وحدة القرائح، وحسن التصرف، لما جعل الله فيهم من الخشية والزهد والورع، إلى غير ذلك من المناقب الجليلة، فهم أعرف بالتأويل، وأعلم بالمقاصد. .»
وقد أثنى الله عز وجل على السابقين من الصحابة، وعلى كل من تبعهم بإحسان، وجعل اتباعهم بإحسان سبيلا إلى رضوانه، فقال تعالى:(88/346)
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) وتوعد – سبحانه – بالنار وسوء المصير من اتبع سبيلا غير سبيلهم، فقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (2) .
ويلحق بالصحابة – رضي الله عنهم -، أعيان التابعين لهم بإحسان، وأتباعهم من أئمة الدين ممن شهد له بالإمامة، وعرف عظم شأنه في الدين (3)
ولقد سار الشيخ ابن باز – رحمه الله – متابعا سلف الأمة في فهمهم النصوص الشرعية وتفسيرها في مسائل الاعتقاد وغيرها، ويؤكد أن ما قرروه وارتضوه مقدم على ما يقوله غيرهم، لأن الله تعالى خاطب عباده بما يفهمونه، ويعقلون مراده منه، والصحابة – رضي الله عنهم – هم «أعلم الأمة بمراد الله عز وجل في كتابه، فعليهم نزل، وهم أول من
__________
(1) سورة التوبة الآية 100
(2) سورة النساء الآية 115
(3) انظر: السفاريني، لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية 1\20، المكتب الإسلامي، بيروت.(88/347)
خوطب به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول - صلى الله عليه وسلم - علما وعملا، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل» (1) وكذا التابعون أعلم بمعاني كلام الله ورسوله، وهم أعرف بمراد الله من كلامه ممن بعدهم (2)
وشواهد متابعته – رحمه الله – سلف الأمة في فهم النصوص أكثر من أن تحصر، بل هو منهجه العام الذي سار عليه وارتضاه في سائر ما صدر عنه، فمن ذلك قوله: إن من الإيمان بالله «الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى الواردة في كتابه العزيز، والثابتة عن رسوله الأمين، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، بل الواجب أن تمر كما جاءت بلا كيف، مع الإيمان بما دلت عليه من المعاني العظيمة التي هي أوصاف الله – عز وجل – يجب وصفه بها على الوجه اللائق به من غير أن يشابه خلقه في شيء من صفاته، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) ، وقال عز وجل: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (4) ، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعهم بإحسان» (5)
__________
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3\406) ، وانظر (3\66) .
(2) المرجع السابق (3\55) .
(3) سورة الشورى الآية 11
(4) سورة النحل الآية 74
(5) ابن باز، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1\17) .(88/348)
وكل من خالف أهل السنة فيما اعتقدوا في باب الأسماء والصفات فإنه يقع ولا بد في مخالفة الأدلة النقلية والعقلية، مع التناقض الواضح في كل ما يثبته وينفيه (1)
وينكر – رحمه الله – على من يقول: إن السلف يفوضون الأمر في الصفات إلى الله عز وجل، وأن طريقتهم بذلك هي الأسلم (2) فيقول: «ليس الأسلم تفويض الأمر في الصفات إلى علام الغيوب؛ لأنه سبحانه بينها لعباده وأوضحها في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم -، ولم يبين كيفيتها، فالواجب تفويض علم الكيفية لا علم المعاني، وليس التفويض مذهب السلف بل هو مذهب مبتدع مخالف لما عليه السلف الصالح.
وقد أنكر الإمام أحمد – رحمه الله – وغيره من أئمة السلف على أهل التفويض، وبدعوهم لأن مقتضى مذهبهم أن الله سبحانه خاطب عباده بما لا يفهمون معناه ولا يعقلون مراده منه، والله سبحانه وتعالى يتقدس عن ذلك، وأهل السنة والجماعة يعرفون مراده سبحانه بكلامه، ويصفونه بمقتضى أسمائه وصفاته، وينزهونه عن كل ما لا يليق به عز وجل، وقد علموا من كلامه سبحانه ومن كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه موصوف بالكمال المطلق في جميع ما أخبر به عن نفسه، أو أخبر به عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -» (3) ثم أطال - رحمه الله - في النقول عن السلف في بيان ذلك وتقريره (4)
__________
(1) المرجع السابق (1\18) .
(2) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3\54) .
(3) المرجع السابق (3\55) .
(4) انظر: المرجع السابق (3\55 – 58) .(88/349)
- ومن ذلك: بيانه لمعنى الإيمان وحقيقته في نصوص الشرع، وفق ما أجمع عليه سلف الأمة من أنه قول وعمل، يزيد وينقص وفي هذا يقول – رحمه الله -: «ومعلوم أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. ولأهل السنة عبارة أخرى في هذا الباب وهي: أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وكلتا العبارتين صحيحة، فهو قول وعمل؛ يعني قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، وهو قول وعمل واعتقاد؛ قول باللسان، وعمل بالجوارح، واعتقاد بالقلب، فالجهاد في سبيل الله، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وسائر الأعمال المشروعة كلها أعمال خيرية، وهي من شعب الإيمان التي يزيد بها الإيمان وينقص بنقصها عند أهل السنة والجماعة؛ وهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأتباعهم بإحسان» (1)
وهذا الذي ذهب إليه هو – كما تقدم – قول أهل السنة والجماعة، وهو خلاف قول الفرق الضالة؛ من الخوارج والمعتزلة والمرجئة – الجهمية منهم والكرامية – الذين اتفقوا على أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وأنه لا يجتمع في القلب الواحد إيمان ونفاق، ولا يكون في أعمال العبد الواحد شعبة من الكفر وشعبة من الإيمان.
ثم اختلفوا بعد ذلك في حقيقة الإيمان ومحله، فمنهم من يقول: الإيمان محله القلب، ومنهم من يضيف إليه إقرار اللسان، ومنهم من
__________
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5\35) .(88/350)
يقول: الإيمان محله القلب واللسان والجوارح، ولكنه فعل كل واجب وترك كل محرم، ويذهب الإيمان كله بترك الواجب أو فعل المحرم، كالخوارج والمعتزلة.
والحق أن كل طاعة هي شعبة من الإيمان أو جزء منه، والإيمان يكمل باستكمال شعبه وينقص بنقصها. ولكن منها ما يذهب الإيمان كله بذهابه، ومنها ما ينقص بذهابه، كما دلت على ذلك النصوص، واتفق عليه سلف الأمة.
- ومن ذلك: تقريره – رحمه الله – لمذهب أهل السنة والجماعة في مرتكب المعصية والكبيرة ما لم يستحلها، وأنه عاص وناقص الإيمان، ولكن لا يكفر بذلك كفرا أكبر، يقول – رحمه الله -: «ارتكاب الكبائر كالزنى وشرب الخمر وقتل النفس بغير حق وأكل الربا والغيبة والنميمة وغير ذلك من الكبائر يؤثر في توحيد الله وفي الإيمان ويضعفه، ويكون ضعيف الإيمان، لكن لا يكفر بذلك. . . إذا كان لم يستحل هذه المعصية» (1)
ويدل على هذا القول أن الله تعالى شرع تأديب أهل المعاصي وتعزيرهم بإقامة الحدود عليهم، كحد الزنى وحد السرقة، ولو كان الزنى ردة لوجب قتله، وكذا السارق لا يقتل بل تقطع يده، فدل ذلك على أن هذه المعاصي ونحوها ليست ردة ولا كفرا، ولكنها ضعف في الإيمان ونقص فيه
__________
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (7\40) .(88/351)
وأما حكم من مات على شيء من الكبائر ولم يتب منها فهو تحت مشيئة الله إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه على قدر معاصيه، ثم يكون مآله إلى الجنة (1) لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) .
وقد خالف الخوارج والمعتزلة أهل السنة والجماعة في هذه المسألة؛ فالخوارج تكفر بالمعاصي والكبائر، وتجعله مخلدا في النار إذا مات على ذلك ولم يتب، والمعتزلة تقول: إنه في منزلة بين المنزلتين – فلا نسميه كافرا يعني الكفر الأكبر، ولكن يخلد في النار إذا مات عليه
وكلتا الطائفتين قد ضلت عن السبيل، وخالفت نصوص الكتاب والسنة، ومذهب أهل السنة والجماعة (3)
أما المعتزلة فقد ضلوا بسبب أنهم قرروا أصولا عقلية سلفا، ثم حملوا ألفاظ القرآن عليها، وأولوها بما يوافق ما عندهم من مقررات سابقة، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا أئمة المسلمين، لا في رأيهم ولا في تفسيرهم (4)
__________
(1) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (7\40) ، وأيضا (6\47 - 48) .
(2) سورة النساء الآية 48
(3) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (7\41) .
(4) انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى (13\358) .(88/352)
وأما الخوارج فبدعتهم «إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب، إذ كان المؤمن هو البر التقي؛ قالوا: فمن لم يكن برا تقيا فهو كافر، وهو مخلد في النار» (1)
وهكذا فقد أوجب نأي الفرق عن فهم نصوص الكتاب والسنة وفق فهم سلف الأمة أن يقعوا في صنوف من الأخطاء والضلالات؛ فتارة بإضفاء صفة الغموض والعسر على قضايا الاعتقاد حتى لم تعد سهلة الإدراك يسيرة الفهم، رغم أنها خطاب الله تعالى لسائر خلقه على اختلاف مداركهم وتفاوت قدراتهم، وتارة بتفسير حقيقة الإيمان بالتصديق القلبي المجرد من قول اللسان وعمل الأركان، مما مهد لطوائف كثيرة من المسلمين ترك العمل، والتفلت من الطاعات والواجبات.
وتارة بحمل الناس على مسالك الشدة والغلظة بالتكفير بالمعاصي، واستحلال الدماء المعصومة، إلى غير ذلك من صور الانحراف والضلال.
وإذا كان من الناس من يزعم أن التقيد بفهم السلف للنصوص من شأنه تعطيل العقل، أو البعد عن الواقع (2) فإن في هذا غلوا في النظرة، ومجافاة للحقيقة.
__________
(1) المرجع السابق (13\30) .
(2) انظر: حسن حنفي، التراث والتجديد (ص182) ، القاهرة، سنة 1980م.(88/353)
وذلك لأن التزام فهم السلف لما جاءت به النصوص هو السبيل لتحقيق العلم الصحيح بها وفهمها وفق مراد الشارع منها، بعيدا عن مسالك التأويل المنحرف لها والشطط في بيانها.
فالله تعالى إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر فيه (1) كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) ، وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (3) ، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن (4) وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (5) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإن الرسول لما خاطبهم (يعني الصحابة) بالكتاب والسنة عرفهم ما أراد بتلك الألفاظ، وكانت معرفة الصحابة لمعاني القرآن أكمل من حفظهم لحروفه، وبلغوا تلك المعاني إلى التابعين أعظم مما بلغوا حروفه. .» (6)
ولما أعرض طوائف من الناس عن الأخذ بالنصوص وفق فهم
__________
(1) ابن تيمية، مجموع الفتاوى (13\283) .
(2) سورة ص الآية 29
(3) سورة محمد الآية 24
(4) ابن تيمية، مجموع الفتاوى (13\332) .
(5) سورة يوسف الآية 2
(6) مجموع الفتاوى (17\353) .(88/354)
سلف الأمة وقع بينهم الاختلاف والافتراق والتنازع؛ مع دعوى كل فرقة أنها على الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مع ما صاحب ذلك من تأويل للنصوص بما يتفق مع مذهبها، ففسدت بذلك عقائد الناس وعباداتهم، وشاعت فيهم الضلالات والبدع.
ثم إن التقيد بفهم السلف في المسائل العقدية والقضايا الغيبية، وهي أخبار صادقة، وحقائق يقينية ثابتة، وكذا في مناهج العبادة وطرقها وهي لا تتغير ولا تتبدل باختلاف العصور والبيئات ليس فيه ما يمنع من إعمال العقل والبحث والنظر في ميادين المعرفة المختلفة، فعالم الشهادة ميدان مفتوح أمام الإنسان للتفكير والإبداع، وذلك بأن يتوجه إلى تدبر آيات الله في الأنفس والآفاق، ويتعرف على سنن الله في خلقه، وأن يجتهد في تسخير الكون المحيط به لمنفعته، كما أمر الله تعالى بذلك ودعا إليه، قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (1) ، وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) ، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (3) .
ولقد وقف التابعون ومن تبعهم بإحسان عند فهم الصحابة – رضي الله
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 20
(2) سورة يونس الآية 101
(3) سورة الأعراف الآية 185(88/355)
عنهم – للنصوص فلم يمنعهم ذلك من معايشة واقعهم، ومعالجة مستجداته، وحسن الانتفاع بمعطيات عصورهم وبيئاتهم، بل والتفاعل مع الثقافات الأخرى، واستثمار إيجابياتها النافعة، والبناء عليها، مع كشف زيف السلبيات الضارة فيها لوقاية الإنسان من آثارها السيئة على سعادته الدنيوية والأخروية(88/356)
رابعا: الأخذ بالقواعد والأصول في الاستنباط
تمثل قواعد الاستنباط موازين مستقيمة تسدد حركة العقل، وتضبط الاجتهاد، ويؤدي الأخذ بها إلى الوصول إلى نتائج صحيحة ومقبولة.
وبغياب هذه الأصول والقواعد يكون الإدراك غير سالم من التأثر بالأهواء وغيرها من المؤثرات التي تجعل تفكير المرء جائرا، ينأى عن الحق، ويبعد عن الصواب، ولا يسلم غالبا من الاختلاف والتناقض. وقواعد الاستنباط متنوعة؛ منها ما يتعلق بدلالة الألفاظ، وخواص اللفظ من عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، ومنطوق ومفهوم،. . . ومن قواعده «يثبت الحكم في جميع ما يتناوله العام حتى يقوم دليل التخصيص» ، «والمطلق يجب العمل به على إطلاقه إذا لم يكن هناك قيد يقيده» .
ومن قواعد الاستنباط ما يتعلق برفع التعارض بين الأدلة التي يوهم ظاهرها التعارض، بالجمع أو الترجيح، أو نسخ المتقدم من النصوص بالمتأخر منها.(88/356)
ومنها ما يتعلق بتنزيل الوقائع على القواعد العامة؛ كالمصالح المرسلة، ورفع الحرج، وجلب المصالح ودرء المفاسد، ونفي الضرر وارتكاب أخف الضررين، والنظر في المآلات، وسد الذرائع إلى غير ذلك من الأصول والقواعد الضابطة للاستدلال والاستنباط.
وإذا عدنا إلى الشيخ ابن باز – رحمه الله – فإننا نجده يسير على خطى الراسخين في العلم في الالتزام بقواعد الاستنباط والاستدلال، وأول ذلك بيانه أنه يتابع الإمام أحمد في الأصول التي سار عليها، وفي هذا يقول: «مذهبي في الفقه هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – وليس على سبيل التقليد، ولكن على سبيل الاتباع في الأصول التي سار عليها.
أما مسائل الخلاف فمنهجي فيها هو ترجيح ما يقتضي الدليل ترجيحه، والفتوى بذلك سواء وافق مذهب الحنابلة أم خالفه، لأن الحق أحق بالاتباع، وقد قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) (2)
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4\166) ، وانظر (8\38) .(88/357)
وأصول الإمام أحمد تشمل القواعد التي اعتمدها في الاستمداد والاستنباط، وقد بين الإمام ابن القيم أصول مذهب الإمام أحمد فقال:
وكان فتاويه مبنية على خمسة أصول:
أحدها: النصوص، فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولا من خالفه كائنا من كان. .
الأصل الثاني: ما أفتى به الصحابة، فإذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها.
الأصل الثالث: إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم.
الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده – الباطل ولا المنكر، ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به، بل الحديث الضعيف – عنده – قسيم الصحيح، وقسم من أقسام الحسن.
الأصل الخامس: القياس، إذا لم يكن عنده نص ولا قول الصحابة أو أحد منهم، ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى القياس فاستعمله(88/358)
للضرورة. .» (1)
وإذا كان الشيخ ابن باز يختار اتباع الإمام أحمد في الأصول التي سار عليها، فإن هذا في الجملة، وإلا فإن الشيخ – رحمه الله تعالى – يذهب إلى قول جمهور أهل العلم في عدم الاحتجاج بالمرسل وفي هذا يقول: «والمرسل ليس بحجة عند جماهير أهل العلم كما نقل عنهم الإمام أبو عمر ابن عبد البر في كتابه التمهيد، هذا لو لم يوجد في السنة الصحيحة ما يخالفه. .» (2)
وأيضا فإن الحديث الحسن لغيره، والذي هو القسم الرابع من أقسام الحديث المقبول – وهو من الضعيف المقبول عند أحمد – يرى الشيخ ابن باز عدم الأخذ به في الأصول؛ ومراده عدم الجزم بالإيجاب أو التحريم بناء عليه، بل غاية ذلك أن يحمل ما جاء في الحديث الحسن لغيره من الأمر على الاستحباب، وما جاء فيه من النهي على الكراهة، وذلك لأن الأصل – كما يقول الشيخ – في الحديث الحسن لغيره الضعف ولكن تقوى بنحوه، فيستأنس به، ولكن لا يعتمد عليه في
__________
(1) ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين (1\29 – 32) ، مختصرا.
(2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4\261) .(88/359)
الإيجاب أو التحريم (1)
ثم هو بعد ذلك يؤكد لزوم الأخذ بقواعد الاستدلال والاستنباط للوصول إلى الحق، وحتى لا تضل الأفهام، أو تميل مع الأهواء وزخرف القول، يقول الشيخ – رحمه الله -: «قد أجمع علماء المسلمين – من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا – على أن الاجتهاد محله المسائل الفرعية التي لا نص فيها، أما العقيدة والأحكام التي فيها نص صريح من الكتاب أو السنة الصحيحة، فليست محلا للاجتهاد، بل الواجب على الجميع الأخذ بالنص وترك ما خالفه، وقد نص العلماء على ذلك في كل مذهب من المذاهب المتبعة، ثم الاجتهاد – حيث جاز – إنما يكون من أهل العلم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذين لهم قدم راسخ في معرفة أصول الأدلة الشرعية، وأصول الفقه والحديث، ولهم باع واسع في معرفة اللغة العربية» (2)
ولذا فإن واجب العامة وأشباههم أن يسألوا أهل العلم، وأن يتحروا من هو أقرب إلى السداد والاستقامة، ليرشدهم إلى الحق الموافق لشرع الله تعالى (3) وأما أن يجتهد وهو لا يستطيع ذلك فهذا من الأغلاط الكبيرة (4)
__________
(1) انظر: ابن باز – شرح بلوغ المرام – باب الوضوء، حديث رقم (55) ، في الأشرطة المسجلة.
(2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1\116 - 117) . وانظر (7\128 – 129) .
(3) انظر: المرجع السابق (2\312) .
(4) انظر: المرجع السابق (7\234) .(88/360)
وأما عن التزام الشيخ ابن باز بقواعد الاستدلال والاستنباط في فتاويه ومؤلفاته وسائر ما صدر عنه؛ فتقيده بنصوص الكتاب والسنة وتقديمها على غيرها أظهر من أن يستدل له، وأما ما لا نص فيه فهو يجتهد في بيان مأخذ الحكم والأصل أو القاعدة التي صدر عنها فيما يختاره ويفتي به، ومن شواهد ذلك ما يلي:
- اختياره تحريم تعليق التمائم من القرآن بناء على قاعدة «سد الذرائع» وقاعدة: «يثبت الحكم في جميع ما يتناوله العام حتى يقوم دليل التخصيص» ، يقول – رحمه الله -: «وأما إذا كانت [التميمة] من القرآن، أو من دعوات معروفة طيبة، فهذه اختلف فيها العلماء؛ فقال بعضهم: يجوز تعليقها، ويروى هذا عن جماعة من السلف، جعلوها كالقراءة على المريض (1)
والقول الثاني: أنها لا تجوز، وهذا هو المعروف عن عبد الله بن مسعود، وحذيفة رضي الله عنهما وجماعة من السلف والخلف، قالوا: لا يجوز تعليقها ولو كانت من القرآن، سدا للذريعة، وحسما لمادة الشر، وعملا بالعموم؛ لأن الأحاديث المانعة من التمائم أحاديث عامة لم تستثن شيئا والواجب الأخذ بالعموم، فلا يجوز شيء من التمائم
__________
(1) المرجع السابق (7\234) .(88/361)
أصلا، لأن ذلك يفضي إلى تعليق غيرها والتباس الأمر» (1)
- وبناء على قاعدة «سد الذرائع» أيضا، يرى تحريم الاختلاط بين البنين والبنات في المراحل الابتدائية؛ سدا لذريعة المعصية والفساد، وفي هذا يقول: «ولا شك أن اجتماعهم في المرحلة الابتدائية كل يوم وسيلة لذلك [يعني الوقوع في الفاحشة] ، كما أنه وسيلة للاختلاط فيما بعد ذلك من المراحل.
وبكل حال فاختلاط البنين والبنات في المراحل الابتدائية منكر لا يجوز فعله، لما يترتب عليه من أنواع الشرور، وقد جاءت الشريعة الكاملة بوجوب سد الذرائع المفضية للشرك والمعاصي، وقد دل على ذلك دلائل كثيرة من الآيات والأحاديث. . ويكفي ما يجري في الدول المجاورة وغيرها من الفساد الكبير بسبب الاختلاط» (2)
__________
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1\51) ، وانظر (5\306) .
(2) المرجع السابق (4\245 – 246) .(88/362)
- وعند حديث الشيخ ابن باز عن أدلة وجوب الحجاب وتحريم السفور، ومنها قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (1) ، يعتمد القواعد الأصولية في الاستدلال فيقول: «فإذا كان الوجه هو أصل الزينة – بلا نزاع – في النقل والعقل، فإن الله جلت قدرته حرم على المرأة إبداء شيء من زينتها، وهذا عموم لا مخصص له من الكتاب
__________
(1) سورة النور الآية 31(88/362)
والسنة، ولا يجوز تخصيصه بقول فلان أو فلان، فأي قول من أقوال الناس يخصص هذا العموم مرفوض؛ لأن عموم القرآن الكريم والسنة المطهرة لا يجوز تخصيصه بأقوال البشر، ولا يجوز تخصيصه عن طريق الاحتمالات الظنية، أو الاجتهادات الفردية، فلا يخصص عموم القرآن إلا بالقرآن، أو بما يثبت في السنة المطهرة، أو بإجماع سلف الأمة، ولذلك نقول: كيف يسوغ تحريم الفرع وهو الزينة المكتسبة، وإباحة الأصل وهو الوجه الذي هو الزينة الأساسية»(88/363)
- وفي باب التعبد، يعتمد الشيخ – رحمه الله – القاعدة العامة: «الأصل في العبادات الحظر، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله» فلا يجوز فيها القياس، لأنها لا تثبت إلا بالنص من كلام الله عز وجل، أو من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1) ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) »
وقد بنى الشيخ على هذه القاعدة:
حرمة سؤال الله تعالى بحق أوليائه، أو بجاه أوليائه، أو بحق النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بجاهه، فهو «بدعة – عند جمهور أهل العلم – ومن وسائل الشرك؛ لأن الدعاء عبادة، وكيفيته من الأمور التوقيفية، ولم يثبت عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على شرعية أو إباحة التوسل بحق أو جاه أحد من الخلق، فلا يجوز للمسلم أن يحدث توسلا لم يشرعه الله سبحانه» (4)
__________
(1) سورة الشورى الآية 21
(2) أخرجه البخاري ومسلم، البخاري في الصلح، باب إذا اصطلحوا على جور من الصلح مردود، ومسلم في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، رقم (1718) .
(3) أخرجه مسلم في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، رقم (1718) .
(4) ابن باز، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5\325) .(88/364)
ومما بناه على القاعدة السابقة – أيضا – عدم مشروعية إهداء ثواب القرب إلى غيره؛ من صلاة أو تلاوة أو ذكر. .، فلا يشرع من ذلك إلا ما دلت النصوص على جوازه، وهي: «الصدقة عن الأموات وغيرهم، والدعاء لهم، والحج عن الغير ممن قد حج عن نفسه، وهكذا العمرة عن الغير ممن قد اعتمر عن نفسه، - إذا كان المحجوج عنه والمعتمر عنه ميتا أو عاجزا لهرم أو مرض لا يرجى برؤه – وهكذا قضاء الصوم عمن مات وعليه صيام، فكل هذه العبادات قد صحت بها الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (1)
ولا شك أن الأخذ بهذه القاعدة الجليلة من شأنه أن يقطع سبل البدع، ويوصد أبوابها، ويصون عبادة المسلم من أن يشوبها ما يكون سببا في حبوطها، ويلحقها بالبدع المحدثة.
- كما يظهر اعتماد الشيخ القواعد الأصولية عند حديثه عن الجهاد وفضله وأحكامه ومراحله، فيذكر أن الجهاد في الإسلام كان على أطوار ثلاثة:
«الطور الأول: الإذن للمسلمين في ذلك من غير إلزام، كما في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (2) .
الطور الثاني: الأمر بقتال من قاتل المسلمين، والكف عمن كف
__________
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5\361 – 362) ، (8\361) .
(2) سورة الحج الآية 39(88/365)
عنهم، وفي هذا النوع نزل قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (1) ، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (2) ، في قول جماعة من أهل العلم.
الطور الثالث: جهاد المشركين مطلقا وغزوهم في بلادهم، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؛ ليعم الخير أهل الأرض، وتتسع رقعة الإسلام، ويزول من طريق الدعوة دعاة الكفر والإلحاد.
وهذا الذي استقر عليه أمر الإسلام، وتوفي عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله فيه قوله عز وجل: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (3) ، وقوله سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (4) (5)
وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن الطور الثاني؛ وهو القتال لمن قاتل المسلمين والكف عمن كف عنهم قد نسخ؛ لأنه كان في حال
__________
(1) سورة البقرة الآية 256
(2) سورة البقرة الآية 190
(3) سورة التوبة الآية 5
(4) سورة الأنفال الآية 39
(5) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (18\73 – 75) مختصرا، وانظر: 131 – 132.(88/366)
ضعف المسلمين، فلما قويت شوكتهم أمروا بالقتال مطلقا
ولكن الشيخ ابن باز يختار أن الحكم باق ويعمل به عند الحاجة إليه، كما في حال ضعف المسلمين وعدم استطاعتهم القتال ابتداء فيقاتلون من قاتلهم، ويكفون عمن كف عنهم، ويبين وجه اختياره فيقول: «وهذا القول أظهر وأبين في الدليل لأن القاعدة الأصولية أنه لا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الأدلة، والجمع هنا غير متعذر» (1)
وبعد هذا، فقد كان لاعتماد الشيخ ابن باز – رحمه الله – قواعد الاستنباط وأصوله القويمة بالغ الأثر فيما تمتعت به فتاويه وترجيحاته من الوضوح، وقوة الاستدلال، وسلامة المنهج، فجاءت بعيدة عن التناقض والاختلاف، سليمة من الظنون والأهواء – وإن كان كسائر إخوانه من أهل العلم غير معصوم – مما جعلها محل تقدير العلماء وموضع قبولهم.
__________
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (18\133) . وانظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم (2\323) .(88/367)
المبحث الثاني: المنهج الخلقي في التبليغ والبيان.
التعريف:
الخلق: الدين والطبع والسجية (1) ويطلق على صفات النفس
__________
(1) ابن منظور: لسان العرب، والفيروزآبادي: القاموس المحيط، كلاهما باب القاف، فصل الخاء.(88/367)
الباطنة، قال ابن الأثير، وابن منظور: «وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها، بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة»
وفي الاصطلاح عرف الغزالي الخلق بأنه: «هيئة راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلا وشرعا سميت تلك الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقا سيئا» (1)
وقيل في تعريفه: «إنه صفة مستقرة في النفس - فطرية أو مكتسبة - ذات آثار في السلوك محمودة أو مذمومة» (2)
وأما المنهج الخلقي فمقتضاه الأخذ بأصول الأخلاق والاستقامة عليها في النفس ومع الآخرين، وعدم الحيدة عنها في مختلف الأحوال والظروف.
ويتمثل المنهج الخلقي في التبليغ والبيان في الأخذ بالمثل والفضائل التي تزكو بها النفس، وتتهذب بها الأخلاق، فيعيش المسلم في كنفها نقي السريرة، سليم الصدر، محبا للخير، باذلا للمعروف، ينصر الحق، وينشر الفضائل، ويغار على الحرمات.
__________
(1) الغزالي: إحياء علوم الدين (3\53) .
(2) عبد الرحمن حبنكة الميداني: الأخلاق الإسلامية وأسسها (1\7) ، دار القلم، دمشق ط1 سنة 1399هـ.(88/368)
وأهم هذه الفضائل؛ الصدق، والإخلاص، والنصح، والقوة في الحق مع الرفق في البيان، والوضوح، والتواضع، والقدوة، وهي فضائل خلقية واسعة الأثر إلا أن الحديث عنها سيكون من خلال صلتها بالحياة العلمية، وأثرها في استنهاض همة العالم ليقوم بمسؤولياته، وتبليغ ما يحمله من العلم.
والحديث في هذا المبحث هو عن تلك الفضائل السابقة، مع بيان مدى تمثل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله تعالى – لها، وسيره وفق مدلولاتها.(88/369)
أولا: الصدق والإخلاص
يعرف الصدق بأنه مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معا، وأصله في القول، ويستعمل في الاعتقاد، كقولهم صدق ظنه، وفي أعمال الجوارح، نحو صدقوا القتال
والصدق رأس الفضائل، وأساس مكارم الأخلاق، أمر الله به في كتابه، وأثنى على المتصفين به، فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (1) ، وحث عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنه الباعث على كل خير والموصل إلى منازل الأبرار، فقال عليه الصلاة
__________
(1) سورة التوبة الآية 119(88/369)
والسلام: «عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا (1) »
والصدق دليل الاستقامة وعنوان الفلاح، ومتى عرف المرء بالصدق وثق الناس بقوله، وانتفعوا بنصحه، وارتفع بينهم قدره.
وأما الإخلاص فحقيقته أن يعمل الإنسان العمل لا يريد به إلا وجه الله، ولا ينتظر من غيره جزاء ولا شكورا
والإخلاص شرط لقبول الأعمال وترتب الثواب عليها، «فالأعمال الصالحة كلها إذا وقعت من المرائين فهي باطلة لفقدها الإخلاص الذي لا يكون العمل صالحا إلا به» (2) قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (3) ، قال
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم، البخاري في الأدب، باب قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) رقم (6094) ، ومسلم في البر والصلة، باب قبح الكذب، وحسن الصدق وفعله، رقم (2606، 2607) .
(2) ابن سعدي، القواعد والأصول الجامعة ص28.
(3) سورة الكهف الآية 110(88/370)
ابن كثير – رحمه الله –: «قوله: (فليعمل عملا صالحا) ما كان موافقا لشرع الله، (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) وهو الذي يراد به وجه الله - عز وجل - لا شريك، وهذان ركنا العمل المتقبل، لا بد أن يكون خالصا لله عز وجل، صوابا على شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (1)
ولقد كان لهذين الخلقين شأن كبير عند الشيخ ابن باز – رحمه الله -؛ تمثلا لهما، ودعوة إليهما، وترغيبا فيهما، وبيانا لأثرهما فيمن استقام عليهما.
فعند حديثه عن مسؤولية طالب العلم في مجتمعه، يؤكد لزوم أخذه بهذين الخلقين، لأنه يبلغ عن الله تعالى أمره ونهيه، وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - سنته، ولذا يجب أن يكون قصد سعيه وجه الله والدار الآخرة، لا حمد الناس، ولا مراءاتهم، ولا عرضا من الدنيا (2) كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) .
كما يتعين عليه الصدق في الأقوال والأعمال، وفي التبليغ والبيان، فلا يكتم شيئا مما علم، ولا يقول على الله بغير علم (4)
ومتى استقام طالب العلم على هذين الخلقين كان له بالغ الأثر فيمن يتصل به، وتعاظم انتفاع الناس بما صدر عنه.
__________
(1) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم (3\103) .
(2) ابن باز، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4\236 – 237) .
(3) سورة فصلت الآية 33
(4) ابن باز، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (7\223 – 227) .(88/371)
يقول الشيخ رحمه الله: «وإنما يتم هذا الفضل ويحصل هذا الخير ويتضاعف بالصبر والإخلاص والصدق، فمن ضعف صبره، أو ضعف صدقه، أو ضعف إخلاصه لا يستقم مع هذا الأمر العظيم، ولا يحصل به المطلوب كما ينبغي، فالمقام يحتاج إلى إخلاص؛ فالمرائي ينهار ولا يثبت عند الشدائد، ويحتاج إلى صبر فذو الملل والكسل لا يحصل به المقصود على التمام. . .» (1)
ويقول: «فالداعي إلى الله سبحانه الصادق المخلص له البشرى بالخير، والعزة والكرامة وحسن العاقبة» (2)
وأما عن تمثله لهذين الخلقين الكريمين؛ أما الصدق فلا يعرف سواه، لا مع الكبير ولا مع الصغير، لا في المحبوب ولا في المكروه، كما كان – رحمه الله – صريحا في قوله، وفي رده، وفي جوابه. . وكان لا يرضى بديلا عن الصدق والوضوح مهما كان الأمر. (3)
وأما الإخلاص فأمره إلى الله تعالى، ولكن غاية ما هنالك أن تظهر أماراته، ويلمس أثره، ومن علاماته في العالم؛ تعظيمه لنصوص الشرع، وتحريه للسنن قولا وعملا، واتباعه مناهج سلف الأمة في العقيدة والعبادة والأخلاق والسلوك، والاجتهاد في تبليغ العلم ونشره، والدعوة
__________
(1) المرجع السابق (3\114) .
(2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (7\239) .
(3) انظر: حمد بن إبراهيم الشتوي، الإبريزية في التسعين البازية ص30 – 31.(88/372)
إلى الله عز وجل، والنصح للمؤمنين، ومحبة الخير للناس كافة، والصدع بكلمة الحق، ومدافعة الباطل، والرد على دعاته، والبذل الواسع في ذلك، والاستعلاء على حظوظ الدنيا وشهواتها.
ولقد كان للشيخ ابن باز – رحمه الله – القدح المعلى، والحظ الوافر من ذلك كله، كما بلغ غاية بعيدة المنال في محبة القلوب له، وثناء الناس عليه، وحمدهم لأعماله ومساعيه، وثقتهم بعلمه ونصحه، وتلقيهم بالقبول ما صدر عنه، وليس – رحمه الله – بمعصوم، ولكن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.(88/373)
ثانيا: النصح
النصح والنصيحة كلمة جامعة يعبر بها عن: إرادة الخير للمنصوح له وهي عماد الدين وقوامه، فعن تميم الداري – رضي الله عنه – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدين النصيحة» قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) »
وقد بين العلماء معنى النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ومنه يتضح أنها ذات شقين:
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، رقم (55) .(88/373)
أحدهما: يتعلق بالنفس؛ وذلك بحملها على ما توجبه النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
والآخر: يتعلق بالناس، بأداء حقوقهم، ودعوتهم وتوجيههم إلى مقتضى النصيحة في ذلك كله، وهو ما يحصل به كمال التبليغ والبيان.
والنصح للناس – أئمتهم وعامتهم – هو هدي الأنبياء والمرسلين وخواص المؤمنين، كما قال الله تعالى عن نوح عليه الصلاة والسلام: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) ، وقال تعالى عن هود عليه السلام: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} (2) ، وقال تعالى عن صالح عليه السلام: {يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} (3) ، وقال تعالى عن شعيب عليه السلام: {وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} (4) .
وعن جرير بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: «بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم (5) »
__________
(1) سورة الأعراف الآية 62
(2) سورة الأعراف الآية 68
(3) سورة الأعراف الآية 79
(4) سورة الأعراف الآية 93
(5) متفق عليه، أخرجه البخاري في الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: الدين النصيحة، رقم (57) ، ومسلم في الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، رقم (56) .(88/374)
وقال بكر بن عبد الله المزني: «ما فاق أبو بكر – رضي الله عنه – أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصوم ولا بصلاة، ولكن بشيء كان في قلبه» . قال: «الذي في قلبه الحب لله عز وجل، والنصيحة في خلقه» (1)
والنصح للخلق متى اقترن به كمال العلم، وكمال البيان، فإن الدعوة والتبليغ يقعان على أتم وجه وأكمله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: «وأما الأمور الإلهية، والمعارف الدينية فالرسول أعلم الخلق بها، وأرغبهم في تعريف الخلق بها، وأقدرهم على بيانها وتعريفها، فهو فوق كل أحد في العلم والقدرة والإرادة، وهذه الثلاثة بها يتم المقصود، ومن سوى الرسول إما أن يكون في علمه بها نقص أو فساد، وإما ألا تكون له إرادة فيما علمه من ذلك، فلم يبينه إما لرغبة وإما لرهبة، وإما لغرض آخر، وإما أن يكون بيانه ناقصا ليس بيانه البيان عما عرفه الجنان» (2)
ومن ينظر في تراث الشيخ ابن باز – رحمه الله – ويتعرف على سيرته، يجد عنايته التامة بقاعدة النصيحة، وحرصه الشديد على القيام بهذه الفريضة العظيمة، حيث أمضى عامة عمره في التعليم والإفتاء، والتأليف، والدعوة إلى الله، ونشر محاسن الدين، والذب عنه، إلى غير ذلك من أعمال الخير والبر.
__________
(1) ابن رجب، جامع العلوم والحكم ص71.
(2) مجموع الفتاوى (13\136) .(88/375)
ويمكن إجمال منهجه في النصيحة من خلال القواعد الآتية:(88/375)
الأولى:
تقديمه لما هو أهم وألزم مما جاءت به الشريعة، في البيان والدعوة، ولذا كان في أغلب محاضراته ومخاطباته، وما يلقيه من كلمات يتجه إلى تقرير مسائل العقيدة، وبيانها، وتفصيل القول فيها، والتحذير مما يضادها، وهو في هذا مقتف أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، وسالك سبيله القويم «فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه الله بدأ بالنهي عن أعظم أدواء المجتمع، وهو الشرك بالله سبحانه، فلم يزل - صلى الله عليه وسلم - من حين بعثه الله يحذر الأمة من الشرك ويدعوهم إلى التوحيد إلى أن مضى عليه عشر سنين، ثم أمر بالصلاة، ثم ببقية الشرائع، وهكذا الدعاة بعده عليهم أن يسلكوا سبيله، وأن يقتفوا أثره، بادئين بالأهم فالأهم» (1)
وإذا كان الشيخ – رحمه الله – يقرر أنه: «إذا كان المجتمع مسلما ساغ للداعي أن يدعو إلى الأهم وغيره، بل يجب عليه ذلك حسب طاقته؛ لأن المطلوب إصلاح المجتمع المسلم وبذل الوسع في تطهير عقيدته من شوائب الشرك ووسائله، وتطهير أخلاقه مما يضر المجتمع ويضعف إيمانه» (2)
ولذا لم يغفل الشيخ – رحمه الله – جوانب الشريعة الأخرى، فكتب الرسائل والمختصرات الواضحة في بيان أحكام الصلاة والزكاة
__________
(1) ابن باز، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1\321) .
(2) المرجع السابق، الصفحة نفسها.(88/376)