البحوث
مرويات صلاة الحاجة (جمع ودراسة) لفضيلة الدكتور عبد العزيز بن عبد الله آل حمد....... 89
حديث "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ... " (دراسة عقدية) للدكتورة سلوى بنت محمد المحمادي....... 117
العدة من الموانع المؤقتة للنكاح (دراسة فقهية) للدكتورة ليلى بنت سراج صدقة أبو العلا....... 191
الأمانة وأهمية أدائها لمعالي الدكتور محمد بن سعد الشويعر....... 257
آداب التخاطب في ضوء السنة أصول وضوابط لفضيلة الدكتور علي بن عبد الله الصياح....... 321(84/5)
صفحة فارغة(84/6)
الافتتاحية
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد لله ولي المؤمنين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين، وسيد ولد آدم أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ... أما بعد:
أيها الإخوة فإن حديثي معكم سيكون عن الأمور التالية: تحقيق ولاية الله للمؤمن، وولاية المؤمنين لربهم، وولايتهم لدينهم، وولاية بعضهم لبعض، أيها الإخوة، الله عز وجل أخبرنا في كتابه بقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) ، لنتأمل هذه الآية التأمل الصحيح وننظر أثرها في أنفسنا وهل نحن مع الصنف الأول أو الثاني، لأن كل فرد منا
__________
(1) سورة البقرة الآية 257(84/7)
مخاطب، والآيات إذا جاءت، تخاطب الجميع، فالله سبحانه أخبرنا أنه ولي للذين آمنوا وولي للمؤمنين: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (1) ، وولايته لهم أن أخرجهم من ضلالات الجهل والشرك والبدع والخرافات، فأنقذهم من الضلال وبصرهم لقبول الحق وجعلهم قابلين للحق راضين به مطمئنين إليه مقتنعين به، انشرحت صدورهم له، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (2) ، إن الظلمات متعددة، ظلمات أساسها الجهل وقلة العلم، وظلمات أساسها الشهوات والطغيان والكبر، فهدى الله أهل الإيمان إلى نور التوحيد، ليعلموا الحق من الباطل، ويميزوا الخبيث من الطيب، وتصلح قلوبهم، فصاروا هداة مهتدين، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (3) ، فولاية الله للمؤمنين هي الولاية العظيمة التي من كان من أهلها كان من المؤمنين، يقول الله عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (4) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 55
(2) سورة الزمر الآية 22
(3) سورة إبراهيم الآية 1
(4) سورة البقرة الآية 257(84/8)
أما غير المؤمنين فتولاهم الشيطان وأزاغ قلوبهم عن الهدى، وأبعدهم عن منهج الله، والله عصم أهل الإيمان من كيده، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (1) ، فلما علم الله من قلوبهم حسن القصد وحب الخير، والتطلع إليه وفقهم فأخرجهم من الظلمات إلى النور وهداهم إلى الصراط المستقيم، الذي هو صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، عصمهم بشرعه فعرفوا الحق على حقيقته والباطل على حقيقته فلم تلتبس الأمور عليهم ولم تشتبه عليهم الأحوال بل عندهم من البصيرة ما يميزون به الهدى من الضلال، فهم بالمرصاد لكل شبهة جديدة أو قديمة، ولهذا لما ظهرت البدع في القرن الأول من الهجرة وقف الصحابة منها موقف البيان، وتبرؤوا من أهلها وبينوا أخطاءهم فلم تشتبه الأمور عليهم لأن قلوبهم امتلأت بالإيمان، أما غير المؤمنين فكما قال الله تعالى عنهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} (2) ، الشيطان وليهم
__________
(1) سورة الحجر الآية 42
(2) سورة البقرة الآية 257(84/9)
وقد استحوذ عليهم، كما قال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (1) ، أخرجهم من النور والعلم والهدى، أخرجهم من الإسلام ومن تعاليم الإيمان إلى ظلمات الجهل والضلال، والشرك والبدع، جاء لقلوب فارغة، لا علم ولا هدى ولا إخلاص ولا بصيرة، بل تطور الأمور إلى أن جعلوا الباطل حقا والحق باطلا، فنعى الله عز وجل ذلك عليهم: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (2) ؛ فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء.
المؤمن الذي يتولى الله عز وجل يكون من حزب الله الفائزين، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (3) ، فالمؤمن متول لله وولايته لربه طاعته في أمره واجتنابه لنهيه وقبول شرعه والرضا به ربا ومشرعا، سامعا لله مطيعا، منفذا للأوامر مجتنبا للنواهي، متأدبا بآداب القرآن متخلقا بأخلاقه لأنها المنهج الذي يسير عليه، ومن تولى الله ظهرت ولاية الله عليه في أقواله وأعماله، يقول الله عز وجل: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (4)
__________
(1) سورة المجادلة الآية 19
(2) سورة فاطر الآية 8
(3) سورة المائدة الآية 56
(4) سورة يونس الآية 62(84/10)
{الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (1) {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) ؛ فأولياء الله حقا هم الموصوفون بهذه الصفات، فليست ولاية الله دعوى تقال وليست اكتسابا، ولكن كما قال الحسن: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني لكن ما وقر في القلوب وصدقه العمل"، فالمدعون لولاية الله ومحبته لا بد أن يبرهنوا تلك الدعوة بالعمل الصالح الموافق لشرع الله، يقول الله عز وجل " {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (3) .
المؤمن أيضا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وليه، وولاية الرسول له أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - دعا المؤمنين إلى دين الله وشرعه، فرض الفرائض وبين الواجبات، كما أمره الله وكما أراد الله، فالمؤمن وليه محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه هداه إلى الصراط المستقيم، وأوضح شرع الله وأقام حجة الله عليه حتى علم الحق من الباطل، وهو أيضا متول لرسول الله وولايته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته وامتثال أمره واجتناب نهيه والتحاكم لشريعته والرضا بها، يقبل أوامر النبي ويطمئن بها، لا يحاول تحريفها، قال تعالى:
__________
(1) سورة يونس الآية 63
(2) سورة يونس الآية 64
(3) سورة آل عمران الآية 31(84/11)
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (1) ، فما قاله المصطفى - صلى الله عليه وسلم - هو الحق، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (2) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3) ، وفي الحديث يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» ، فالسنة حاكمة على الجميع، ولقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعظمون سنته ويجلونها ويحترمونها، ويشنون الغارة على كل من أراد الوقوف أمامها، أو أراد الحط منها، أو أراد ألا يقبلها، لأنهم لا يريدون للسنة إلا أن تتلقى بالقبول والسمع والطاعة.
أيها المسلم..... إن الولاية لرسول الله تقتضي أن نعظم سنته وأن نجلها وأن ندعو للعمل بها وأن نطبقها على أنفسنا أولا في كل أحوالنا لأن أصحابه الكرام نقلوا لنا كل أحواله. صلى أنس بن مالك خلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما في المدينة ولما انصرف قال لقد ذكرني هذا الفتى صلاة محمد - صلى الله عليه وسلم -، هكذا كانوا يعظمون السنة نقلوا لنا السنة في كل تصرفاته وأحواله وفي أوامره ونواهيه لأنهم يرونها هي المنهج القويم والطريق المستقيم الذي لا غنى للناس عنه، لأن هذه السنة شقيقة القرآن.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2) سورة النجم الآية 3
(3) سورة النجم الآية 4(84/12)
والمسلم موال لدين الإسلام ومولاته للدين أولا محبته للشريعة، ويحمد الله أن وفقه الله لها وجعله من أهلها، ومن المنتسبين إليها، لا يدع لمعتد أن يستهزئ بها أو يقلل من قيمتها، أو يصفها بالجمود والرجعية والتأخير، فهي شريعة كاملة لا تحتاج لزيادة بل هي شريعة كملها ربنا عز وجل، كملها الذي يعلم مصالح العباد في الحاضر والمستقبل: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) ، يقول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) ، والمسلم سيسأل عن الشريعة في قبره بعد أن يسأل عن ربه ونبيه، فعليه أن يعتقد صلاح شأنها كما كانت في العصور الماضية، قال الإمام مالك: " لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها " وما أصلح أول هذه الأمة هو تمسكهم بالشريعة.
أيها المسلم.... إن ولاية المؤمن للمؤمنين ولاية خاصة، يقول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) إنها آية عظيمة تذكر ما
__________
(1) سورة الملك الآية 14
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سورة التوبة الآية 71(84/13)
بيننا من محبة وما بيننا من روابط وأواصر فلا صلة لنسب أو جاه أو مال، ولكنها الصلة المنبعثة من القلب المليء إيمانا، والولاية تقتضي منا المحبة، والتناصح بيننا ومحبة الخير لإخواننا والسعي لإصلاح شأننا، وأن نكون على منهج واضح وطريق مستقيم، فالإيمان في القلب لا يكفي بل لا بد أن يظهر أثره علينا في سلوكنا وتعاملنا مع إخواننا، المؤمن ولي لأخيه المؤمن لا يرضى له بالنقص ولا بالعيب ولا يفرق بين الأمة بل ينظر نظرة المحبة للجميع.
أيها الإخوة.... شريعة الإسلام دعت المسلمين إلى أسباب الوحدة، ونأت بهم عن أسباب الفرقة والشقاق يقول - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يكذبه ولا يحقره ولا يخذله (1) » فلا تظلمه في ماله وعرضه ولا تنتقص شيئا من قدره ولا تسئ الظن به، وإن أخطأ أصلحت أخطاءه، إن تجاوز الحد أوقفته عند حده لكن بضوابط الشرع، فالتعامل بين المؤمنين يكون على أساس المحبة ومحبة الخير للكل قال - صلى الله عليه وسلم -: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا: يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تردعه عن الظلم فذلك نصرك إياه (2) » ، فأخوك إن وقع الظلم عليه تنصره وتقف معه حتى ترتفع مظلمته، وإن وقع الظلم منه تقف معه حتى يرتفع الظلم منه، وحتى يعود لصوابه ورشده، إن الأخطاء ممكنة الوقوع من كل
__________
(1) صحيح البخاري الإكراه (6951) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن أبي داود الأدب (4893) .
(2) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد (3/201) .(84/14)
أحد، ولكنها في المجتمع المسلم تتقلص مع قوة الإيمان واليقين، فقد أختلف مع أخي في قضية أو وجهة نظر فهل هذا الخلاف يجعلني أقف معه موقف العداء؟ إن المؤمن حقا يسعى لتضييق شقة الخلاف والنزاع، ويسعى أن يكون المؤمنون إخوة، وأي نزاع أو اختلاف بالإمكان حله على بساط المحبة وعلى بساط: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) ، إن موقف المسلم من أخيه موقف الرحمة والمحبة لذا جاء في الحديث، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته (2) » ، إن الخلاف موجود ولكن أهل الإيمان لا تخرج خلافاتهم عن واقعهم ولا محيطهم، فيعالجونها بالحكمة والمحبة الصادقة والولاية الإيمانية التي تجمع القلوب ولا تفرقها، وتجعل المسلم يشعر بالمحبة والمودة نحو أخيه، ولنا في المؤمنين في العصور الأولى المثل الأعلى، قال شيخ الإسلام: ما كان فيمن مضى مثلهم ولن يكون فيمن يأتي مثلهم سبقونا في
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سنن أبي داود الأدب (4884) ، مسند أحمد (4/30) .(84/15)
الصحبة وسبقونا بالإيمان الصادق الذي ضربوا به أروع المثل في التآخي بينهم والتعاون بينهم. كما حذرنا ربنا من الاختلاف فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) ، فالمسلمون موقفهم موقف التناصح والتعاون والسير مع المنهج الصحيح.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم لصالح القول والعمل، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وما هي إلا ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 45
(2) سورة الأنفال الآية 46(84/16)
الفتاوى(84/16)
صفحة فارغة(84/17)
صفحة فارغة(84/18)
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية (رحمه الله)
كيفيه وجوب الزكاة، وطريقة توزيعها
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم ر. م وفقه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فبالإشارة إلى مذكرتكم رقم 1619 وتاريخ 14 \ 8 \ 1376 هـ الخاصة باستفتاء أحد سكان أمريكا المقيم في اليابان الذي اعتنق الدين الإسلامي: عن كيفية أداء الزكاة وكيفية توزيعاها.
تجدون مرفقا بهذا جوابا موضحا فيه: كيفية الوجوب، وكيفية الأداء، والله يحفظكم.
حرر في 23 \ 8 \ 1376 هـ.
الجواب: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإنه ورد علينا سؤال من رجل مقيم في اليابان، يذكر أنه اعتنق دين الإسلام منذ عشرة أشهر، وأنه لا يوجد في البلدة التي يقيم فيها مسلمون، ويسأل عن الطريقة الشرعية التي يتمكن معها من أداء(84/19)
فريضة الزكاة.
لا يخفى أن أداء الزكاة هو الركن الثالث من أركان الإسلام، وله شروط منها تمام الحول، فإذا تم الحول على المال الزكوي وجب إخراج زكاته، والأموال التي تجب فيها الزكاة أربعة أصناف:
الأول: بهيمة الأنعام، وهي: الإبل، والبقر، والغنم.
والثاني: الخارج من الأرض، من حبوب وثمار تكال وتدخر.
والثالث: النقود على اختلاف أنواعها.
والرابع: عروض التجارة.
أما بهيمة الأنعام فيجب في " الإبل" إذا كانت سائمة الحول أو أكثره وحال عليها الحول يجب في كل خمس شاة، ولا شيء فيما دون الخمس، وفي خمس وعشرين بنت مخاض - وهي ما تم لها سنة - وفي ستة وثلاثين بنت لبون - وهي ما تم لها سنتان - وفي ستة وأربعين حقة - وهي ما تم لها ثلاث سنين - وفي إحدى وستين جذعة - وهي ما تم لها أربع سنين - وفي تسعة وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان، فإذا زادت عن مائة وعشرين واحدة فثلاث بنات لبون، ثم في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
أما " زكاة البقر" فيجب في ثلاثين منها سائمة الحول تبيع أو تبيعة لكل منهما سنة، ولا شيء فيما دون الثلاثين، ويجب في أربعين(84/20)
مسنة، لها سنتان. ثم في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة.
أما " زكاة الغنم " فلا شيء فيما دون الأربعين، فإذا بلغت أربعين وحال عليها الحول وكانت سائمة الحول أو أكثره فيجب فيها شاة. ثم في كل مائة شاة، ولا شيء في الوقص - وهو ما بين الفرضين.
أما الخارج من الأرض فإذا بلغ نصابا وهو خمسة أوسق - والوسق ستون صاعا بالصاع النبوي - فيجب فيه العشر إذا كان يسقى بلا مؤنة، ونصف العشر إن كان يسقى بمؤنة كالمكائن والدالوب والناعورة ومضخات الماء ونحو ذلك.
أما النقود على اختلاف أنواعها وكذلك قيم عروض التجارة - وهي ما أعد للبيع والشراء والتكسب بزيادة الربح - فالواجب في ذلك كله إذا بلغ نصابا وهو عشرون مثقالا من الذهب أو مائتا درهم من الفضة - وزنتها مائة وأربعون مثقالا- ربع العشر. في المائة اثنان ونصف.
أما أهل الزكاة وكيفية أداء هذا السائل زكاته إلى مستحقيها فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) ، فيجب أداؤها إلى هؤلاء الأصناف الثمانية أو بعضهم، فإن كان في بلاد السائل مسلمون حقا دفعها إليهم، وإلا
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(84/21)
فيدفعها إلى أقرب فقراء المسلمين حقا في بلده. وحيث إن الصدقة في الحرمين الشريفين مضاعفة فإننا نرى أن يبعث الرجل المذكور بزكاته إلى من يفرقها في الحرمين الشريفين المكي والمدني بأن يعهد بها إلى رئيس المحكمة الشرعية بمكة ليتولى تفريقها على الفقراء بنفسه أو بنائبه، قاله ممليه الفقير إلى عفو ربه محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
حرر في 23 \ 8 \ 1376 هـ
نتائج السائمة
وأما أولاد الإبل والغنم فلا زكاة فيها بانفرادها، بل تحسب مع أمهاتها إذا كانت الأمهات قد بلغن نصابا، فإذا كان لرجل تسع من الإبل فأنتجت في آخر الحول سبعة حيران، فهذه تزكى مع أمهاتها، ويصير في الجميع ثلاثة نصب، وكذلك إذا كان للرجل مائة من الغنم فأنتجت في آخر الحول إحدى وعشرين يصير قي الجميع شاتان.
والحوار يطلق على أبي سنة عند البدو الآن، وهذا عربي كما في قوله: كما ألغيت في الدية الحوار.(84/22)
الأوقاف على الجهات العامة لا تجب فيها
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الأمير المكرم سعود بن عبد الله بن جلوي سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم رقم 691 - 1 وتاريخ 7 \ 6 \ 1377 هـ وما برفقه. وبعد تأمل ما أبداه قاضي مستعجلة الأحساء من أن الأوقاف التي على جهات عامة كالمساجد والربط والمدارس والفقراء ليس فيها زكاة، ولفته النظر إلى أن عدم جوب الزكاة فيها إذا كانت تحت يد وليها يعمرها ويأخذ غلتها، وأما إذا أجرها بأجرة معلومة متعلقة بذمة المستأجر فغلتها وما يزرعه المستأجر في أرضها ملك له، فإذا بلغ نصابا وجبت فيه الزكاة.
بعد تأمل ذلك وجد ما أبداه القاضي المذكور صحيحا يتعين شرعا العمل به، والله يحفظكم.
(ص - ف 760 وتاريخ 22 \ 6 \ 1377 هـ)(84/23)
ونحوها الموقوف على الضيف وفي أضاحي ووجوه الخير
يعلم الناظر بأني أفتيت خ. ح. ث بأن ليس عليه في وقف ح. ب الكائن في الغيل المسمى بالبديعة زكاة؛ لكونه وقفا على غير معين، بل على الضيف وفي أضاح وفي وجوه الخير، وأخبرني الثقة حمد بن الشيخ سعد بن عتيق رحمه الله بأن وقفية البديعة المذكورة أعلاه كما شرح، وأنها بإملاء العم الشيخ عبد الله وختمه، حتى لا يخفى، قاله ممليه الفقير إلى الله محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وكتبه من إملاء محمد بن علي بن عبد اللطيف، وصلى الله على محمد - 13 \ 8 \ 1374 هـ.(84/24)
الوقف على معين تجب فيه
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ص. خ. ع سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن غلة وقف تقدر بنحو مائة ألف ريال سنويا: هل تجب فيها الزكاة؟ وهل للناظر أن يستقطع الزكاة من الغلة عندما تستحصل عند رأس كل عام، ويعطيها الفقراء، أم لا؟
والجواب: الحمد لله، إن كان هذا الوقف على معينين وبلغت(84/24)
حصة كل منهم نصابا وجبت فيه الزكاة، والذي يخرجها مالكها أو وكيله بنية الزكاة، فلا تجزي بدون نية، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات (1) » وإن كان الوقف على غير معين كالموقوف على الفقراء والمساجد والمدارس والأربطة ونحو ذلك من أعمال البر فلا زكاة فيه؛ لأن من شروط الزكاة تمام الملك، والله أعلم، والسلام عليكم.
مفتي الديار السعودية
(ص - ف - 3798 - 1 في 19 - 12 - 1377 هـ) .
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(84/25)
إذا ادعى أن المواشي وقف
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم إ. م. س. ش المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن كيفية زكاة أموال الشركة التي ذكرت أنها تألفت برأس مال معلوم لمزاولة التجارة في حقل مخصوص، وصار لها ديون عند الناس لا يمكن في الغالب تحصيل الكثير منها، كما أن عليها ديونا لأناس حسب ما بينها وبينهم من معاملة ... إلخ.
والجواب: أما بالنسبة لما على الشركة من الديون فيجوز لها أن تحسم من أموالها الزكوية بمقدار ما عليها من الديون وتزكي الباقي.(84/25)
أما بالنسبة للديون التي لها عند الناس فالدين الذي على مليء باذل تزكيه الشركة إذا قبضته عن جميع السنين الماضية. أما الديون المشكوك في تحصيلها كالتي عند أناس مفلسين أو مماطلين أو جاحدين ونحوهم فلا زكاة فيها حتى تقبض، فإذا قبضت فبعض العلماء يقول: إنها تزكى لجميع السنوات الماضية، وهذا هو المشهور من المذهب، والقول الثاني: أنها تزكى لعام واحد فقط، وهو رواية عن الإمام أحمد، وبه قال الإمام مالك، وأفتى به الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وقال: إنه اختيار إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهذا هو الصواب، والله أعلم.
مفتي الديار السعودية
(ص - ف - 2305 - 1 في 23 - 8 - 1385 هـ) .
وبكل حال يقوى بأنه يزكي أكثر من سنة في حق المليء خاصة.(84/26)
الرصيد في البنك المقفل
المسألة الثانية: عن رصيد لكم في بنك مقفل من قبل الحكومة منذ سنتين، لا يستفاد منه، ولا يوثق بحصوله، ويحتمل أن البنك يفلس ويتلف الرصيد: فهل فيه زكاة؟
والجواب: لا زكاة في ذلك حتى يقبض، فإذا قبض زكي للسنين(84/26)
السابقة، وقيل: إنه يزكى لسنة واحدة، والله أعلم، والسلام عليكم.
مفتي الديار السعودية
(ص - ف - 178 - 1 وتاريخ 15 - 1 - 1389 هـ) .(84/27)
الدين لا يمنع زكاة الأموال الظاهرة
من محمد بن إبراهيم إلى فضيلة قاضي محكمة الدليمية سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد جرى الاطلاع على الاستفتاء الموجه إلينا منكم في خطابكم رقم 104 وفي 13 - 11 - 1380 هـ من أنه يوجد لديكم من الفلاحين من عليهم من الديون ما ينقص بها النصاب، ومع ذلك يكلفون بدفع زكاة ثمارهم، وتذكرون أن أمر وجوبها عليهم والحال ما ذكر مشكل عليكم، حيث إن الثمار مال ظاهر والديون خفية.
ونفيدكم أن في المذهب روايتين أقواهما وهي التي عليها العمل أن الدين لا يمنع (1) زكاة الأموال الظاهرة، وذلك لأنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر عماله بأن يستفسروا من أهل الأموال الظاهرة
__________
(1) في الأصل والمسودة: يمنع، والصواب: لا يمنع بدليل ما يأتي بعده من التعليل.(84/27)
ممن تجب عليهم الزكاة هل عليهم ديون تنقص نصابها، وكذا لم يرد عن عماله رضي الله عنهم الاستفسار من أهل الزكاة عن ذلك. وبالله التوفيق، والسلام عليكم.
(ص - ف - 146 وتاريخ 8- 2- 1382 هـ)(84/28)
هل تجب في النصاب الذي وجبت فيه
المسألة الثانية: إذا وجبت الزكاة على الرجل، فهل يلزمه إخراجها من نفس النصاب الذي وجبت فيه الزكاة، أو يجوز إخراجها من أمواله المستجدة؟
والجواب: لا يلزمه إخراجها من نفس النصاب، بل يجوز إخراجها منه أو من أي مال استجد لديه؛ بل يجوز أن يخرجها ولو من غير ماله، كما إذا أخذ دراهم من غيره قرضة أو هبة فأخرج زكاته منها فلا بأس بذلك.
(ص - ف - 1354 في 17 - 6 - 1387 هـ) .(84/28)
لا تسقط الزكاة ولو أعسر بعد وجوبها
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي نائب رئيس مجلس الوزراء المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:(84/28)
فبالإشارة إلى الأوراق الواردة بخطاب سموكم رقم 23110 وتاريخ 12 - 9 - 82 هـ حول الزكاة المطالب بها م. أ. نائب من أهالي الطوال التابعة لسامطة وقدرها خمسون صاعا، والتماسه إعفاءه منها للأسباب التي ذكرها.
وعليه فنفيد سموكم بأن الزكاة حق لله تعالى واجب شرعا، ولا بد من وفائها بشروطها، فإن كانت قد وجبت على المذكور واستقرت بذمته ثم أعسر فتبقى بذمته حتى يجد وفاءها.
وإن ادعى بأن ليس عليه زكاة أصلا لكونه لم يزرع أو لنقصان النصاب (1) أو غير ذلك فيقبل قوله، ما لم يخالف المحسوس، أو يكن هناك بينة والسلام.
(ص - ف - 1419 - 1 في 16 - 10 - 83 هـ)
__________
(1) بالأصل يكون لم يزرع والنقصان النصاب، ولعله تصحيف.(84/29)
باب زكاة بهيمة الأنعام
تعليمات هامة لعمال جباية زكاة المواشي
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي رئيس مجلس الوزراء المعظم أيده الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:(84/29)
فنشير إلى خطاب سموكم الكريم رقم 20139 في 20 \ 11 \ 78 هـ المرفق به البيانات الخاصة بأسعار المواشي الواردة إلى مقام سموكم من أمراء المقاطعات، ونعرض لسموكم حفظكم الله أنه بالنظر إلى أن أقيام المواشي تختلف بالخصب والجدب والزمان والمكان، لذلك لم نتعرض في قرارانا المرفق لوضع مقاديرها، وحيث إن عمال الجباية هم الذين يتمكنون من الاطلاع على ذلك حيث إنهم يمشون على البادية في محلاتهم، ويطلعون على أحوالهم وأماكنهم، فإننا قد ضمنا قرارنا أن تقدير الأقيام يكون على نظر أمراء العوامل وطلبة العلم المرافقين لهم بحسب الظروف التي نوهنا عنها، ونقدم لسموكم من طيه نسخة من القرار الذي اتخذناه حول التعليمات التي يجب التقيد بها واعتبارها من قبل الجباة الذين يخرجون لأخذ الزكاة، ونأمل من سموكم الأمر بطبعه وتعميمه عليهم، والتأكيد بأن يتقيدوا بما فيه من تعليمات يجب التقيد بها، ليقع أداء هذا الركن العظيم من أركان الإسلام على وجه تبرؤ به الذمة إن شاء الله، والله يحفظكم.
نص القرار
الحمد لله، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه، أما بعد:(84/30)
فهذه مهمات من أحكام زكاة المواشي وضعتها ليتمشى عليها عمال جبايتها، فأقول وبالله التوفيق:
يشترط لوجوب الزكاة عدة شروط:
منها: الحول، فلا تجب الزكاة في شيء من المواشي قبل تمام الحول، إلا النتاج فلا يشترط له تمام الحول، بل حوله حول أصله إذا بلغ أصله نصابا.
ومنها: تمام الملك، فلا تجب الزكاة في الماشية الموقوفة على غير معين كالفقراء والمساكين والضيف وبقية أعمال البر كالأضحية وغيرها.
ومنها: السوم، وهو الرعي بأن تكون سائمة الحول، فلو كانت معلوفة نصف الحول فأكثر لم تجب فيها الزكاة.
ومنها: بلوغ النصاب، وأدناه في "الإبل" خمس، فيجب فيها شاة بصفة الإبل جودة ورداءة، ولا شيء فيها إذا زادت على الخمس حتى تبلغ عشرا ففيها شاتان بصفة الإبل جودة ورداءة، ولا شيء فيما زاد على العشر سواهن حتى تبلغ خمسة عشر ففيها ثلاث شياه بصفة الإبل جودة ورداءة، وليس فيما زاد على ذلك سواهن حتى تبلغ عشرين ففيها أربع شياه بصفة الإبل جودة ورداءة، وليس فيما زاد على العشرين سواهن حتى تبلغ خمسة وعشرين فحينئذ تجب زكاتها(84/31)
من الإبل، ففي الخمس والعشرين حتى تبلغ خمسا وثلاثين بنت مخاض أنثى وهي التي تم لها سنة ودخلت في السنة الثانية، ويجزئ عنها ابن لبون ذكر وهو ما تم له سنتان ودخل في السنة الثالثة، وفي ست وثلاثين من الإبل إلى خمس وأربعين بنت لبون أنثى وهي ما تم لها سنتان ودخلت في السنة الثالثة، وفي ست وأربعين إلى ستين حقة أنثى وتسمى عند البادية " اللقيه " وهي التي تم لها ثلاث سنين ودخلت في السنة الرابعة، وفي إحدى وستين إلى خمس وسبعين جذعة وهي التي تم لها أربع سنين ودخلت في السنة الخامسة، وفي ست وسبعين إلى تسعين بنتا لبون ثنتان، وفي إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين حقتان ثنتان، وإذا بلغت الإبل مائة وإحدى وعشرين ففيها ثلاث بنات لبون ثم تستقر الفريضة فيجب في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ففي مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون ثنتان، وفي مائة وأربعون حقتان ثنتان وبنت لبون، وهكذا.
ويجب في ثلاثين من " البقر" تبيع أو تبيعة لكل منهما سنة إلى أربعين، فإذا بلغت أربعين وجب فيها مسنة وهي التي لها سنتان، ويجوز إخراج أنثى أعلى من المسنة بدلها، ولا يجزئ إخراج مسن عنها أي المسنة، وفي ستين تبيعان، ثم في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة.(84/32)
ويجب في أربعين من " الغنم" شاة إلى مائة وعشرين، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة وتسع وتسعين، فإذا زادت واحدة ففيها أربع شياه، ثم تستقر الفريضة فيجب في كل مائة شاة، ففي خمسمائة خمس شياه، وفي ستمائة ست شياه، وهكذا.
وحيث ذكرت الشاة في جميع ما تقدم فالمراد بها الأنثى من الضأن والمعز، والمجزئ من الضأن ما تم له ستة أشهر ودخلت في الشهر السابع، ومن المعز الثنية وهي ما تم لها سنة ودخلت في السنة الثانية، ولا يجزئ الذكر في إخراج زكاة الإبل والغنم إلا في موضعين: أحدهما إجزاء ابن لبون وكذا الحق والجذع عن بنت مخاض، الموضع الثاني: إذا كان النصاب كله ذكورا.
والخلطة في المواشي تصير المالين كالمال الواحد، إذا تمت الشروط من الإسلام ونحوه في المختلطين فأكثر، وبلغ مجموع ماشيتهما نصابا ومضى على خلطتهما حول كامل وجبت الزكاة فيهما إذا كانت خلطة أوصاف بأن يميز مال كل منهما عن صاحبه، أو خلطة أعيان بأن كانت ماشيتهما مشاعا بينهما، وشروط الخلطة ستة: وهي اتحاد المراح، والمسرح، والمشرب، والمحلب، والراعي، والفحل، فإذا كان لشخصين فأكثر خمس من الإبل أو أربعون شاة(84/33)
من الغنم وتمت شروط الخلطة الستة وشروط وجوب الزكاة فإنه يجزئ إخراج شاة واحدة عن إبلهم الخمس أو غنمهم الأربعين الشاه، ولا يجوز لهم التحيل في إسقاط الزكاة بأن يفرقوا الخمس من الإبل أو الأربعين من الغنم قرب وصول العامل إليهم فرارا من الزكاة فإن هذا التقسيم لا يسقط عنهم وجوبها، وكذا لا يجوز الجمع بين مفترقين لقصد الزكاة كما لو كان رجلان لكل واحد منهما أربعون شاة وليس بينهم خلطة حتى إذا قرب مجيء العامل خلطاها فكانت ثمانين، فإنه يجب حينئذ عليهما شاتان، كل واحد منهما عليه واحدة لزكاة النصاب الذي في يده، لعدم وجود الخلطة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية (1) »
تنبيه: المشروع إخراج الزكاة عينا، وأجاز بعض أهل العلم إخراج القيمة إذا كان ذلك أنفع، وحينئذ يجب على جباة الزكاة متى أخذت القيمة الاستقصاء في أخذها، ومتى تركوا شيئا منها فقد خانوا الله ورسوله وخانوا ولي أمرهم وظلموا أرباب الزكاة وغشوا أرباب الأموال وبقي ذلك في ذممهم، ولا تسقط بمضي الحول، ولا بذهاب
__________
(1) أخرجه البخاري عن أنس في (كتاب الصدقات) .(84/34)
العامل عنهم، ولا بمسامحة ولي الأمر لو سامح، نظير ما لو تركوا بعض الصلوات في عدم براءة الذمة، واستحقاق العقوبة في الدنيا والآخرة.
فيجب على أمير كل عاملة من العمال وعلى طالب العلم المرافق له وعلى الجباة ونحوهم أن يهتموا لذلك، وأن يتذكروا موقعهم أمام الله يوم القيامة، ومحاسبته إياهم على ما تولوا من هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، كما يجب عليهم بعدما يعرفون حدود عمالتهم أن يبحثوا ويحققوا عن قيمة الشاة، وعن قيمة بنت مخاض، وعن قيمة بنت لبون، وعن قيمة الحقة، وعن قيمة الجذعة من الإبل، فإن قيم المواشي تختلف باختلاف البلدان غالبا، فلها في المقاطعة الشمالية وما يليها قيمة، ولها في شمال تهامة قيمة، ولها في الحجاز وما يليه من تهامة قيمة، ولها في تهامة الجنوبية وجهة عسير وما يقاربه قيمة، ولها في أعلى نجد قيمة، ولها في أسفله قيمة، ولها في المقاطعة الشرقية قيمة، كما أنها تختلف بالخصب والجدب، والوقت الذي تعتبر القيمة فيه هو الوقت الذي تؤدى فيه الزكاة، كما يجب عليهم أداء ما قبضوه من الزكاة جميعه ويؤدوه إلى ولي الأمر أو نائبه في ذلك، ولا يغلوا فيدخلوا في عموم الوعيد في قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (1) . وعموم الأحاديث الواردة في
__________
(1) سورة آل عمران الآية 161(84/35)
التغليظ في الغلول أملاه الفقير إلى عفو الله محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(ص - م - 3510 في 2 - 12 - 1378 هـ)(84/36)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله)
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ما بلغ نصابا وحال عليه الحول ففيه زكاة (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم م. ع. ف سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 551 وتاريخ 9 \ 2 \ 1407 هـ الذي تسأل فيه: عن المبلغ الذي يمضي عليه الحول وتخرج زكاته، ثم يمضي عليه حول آخر دون أن يتصرف فيه صاحبه، هل تجب فيه الزكاة؟
وأفيدك بأنه إذا كان لدى رجل نقود من المال تبلغ نصابا، ومضى عليها حول وأخرجت زكاتها، ثم مضى عليها حول آخر وجب على مالكها أن يخرج زكاتها، وهكذا كلما مضى عليها حول ما دام
__________
(1) صدر من مكتب سماحته بتاريخ 28 - 3 - 1407 هـ.(84/37)
أنها تبلغ النصاب. وفق الله الجميع لما فيه رضاه إنه سميع مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(84/38)
المال الموضوع في البنك الإسلامي حكمه حكم غيره من الأموال
س: هناك كما هو معروف عن زكاة المال ما يدفعه المرء عما حال عليه الحول، كأموال التجارة والمحاصيل، والذهب والفضة.
ولكن نريد أن نعرف الزكاة عن نصاب من المال موضوع في بنك إسلامي هل هي النسبة نفسها، مع العلم أن نسبة الربح من هذا البنك ضئيلة؟ (1)
ج: المال الموضوع في البنك الإسلامي حكمه حكم غيره من الأموال تجب فيه الزكاة إذا حال عليه الحول مع ربحه، وهي ربع العشر في الأصل والربح.
__________
(1) نشر في (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته) ج14، ص 153.(84/38)
حكم التعامل مع البنوك بالربا وزكاتها
س: كثير من الناس يتعامل مع البنوك وقد يدخل في هذه(84/38)
المعاملات معاملات محرمة كالربا مثلا، فهل في هذه الأموال زكاة وكيف تخرج؟ (1)
ج: يحرم التعامل بالربا مع البنوك وغيرها، وجميع الفوائد الناتجة عن الربا كلها محرمة، وليست مالا لصاحبها، بل يجب صرفها في وجوه الخير إذا كان قد قبضها وهو يعلم حكم الله في ذلك، أما إن كان لم يقبضها فليس له إلا رأس ماله؛ لقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (3) ، أما إن كان قد قبضها قبل أن يعرف حكم الله في ذلك فهي له، ولا يجب عليه إخراجها من ماله؛ لقول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (4) .
وعليه زكاة أمواله التي ليست من أرباح الربا كسائر أمواله التي يجب فيها الزكاة، ويدخل في ذلك ما دخل عليه من أرباح الربا قبل العلم، فإنها من جملة ماله للآية المذكورة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في كتاب (تحفة الإخوان) لسماحته ص 153.
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 275(84/39)
حكم زكاة النقود العربية والأجنبية المجموعة على سبيل الهواية
س: رجل يهوى جمع الفلوس العربية والأجنبية هواية فقط، وهذه الفلوس منها النفيس، ومنها دون ذلك، فهل عليها زكاة إذا حال عليها الحول، أفيدونا جزاكم الله خيرا (1)
ج: تلزمه زكاتها إذا حال عليها الحول، وبلغت النصاب؛ لعموم الأدلة من الكتاب والسنة؛ لأنها في حكم النقود إذا كانت مما يتعامل به، وتقوم مقامها كالعمل الورقية. والله أعلم.
__________
(1) نشر في (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته) ج14، ص 155.(84/40)
حكم زكاة أقلام الذهب
س. أتتني هدية وهي عبارة عن أقلام من الذهب، فما حكم استعمالها؟ وهل على هذه الأقلام زكاة أم لا؟ أفيدوني أفادكم الله (1) ؟
ج: الأصح تحريم استعمالها على الذكور؛ لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرما على ذكورها (2) » وقوله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) نشر في (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته) ج14، ص 153.
(2) رواه الإمام أحمد في (أول مسند الكوفيين) حديث أبي موسى الأشعري برقم (19008) ، والنسائي (في الزينة) باب تحريم الذهب على الرحال برقم (5148) .(84/40)
في الذهب والحرير: «هذان حل لإناث أمتي حرام على ذكورهم (1) »
أما ما يتعلق بالزكاة فإن بلغت هذه الأقلام نصاب الزكاة بنفسها أو بذهب آخر لدى مالكها يكمل النصاب وجبت فيها الزكاة إذا حال عليها الحول، وهكذا إن كان عنده فضة أو عروض تجارة يكمل بها النصاب وجبت الزكاة في أصح قولي العلماء؛ لأن الذهب والفضة كالشيء الواحد.
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب اللباس، باب (لبس الحرير والذهب للنساء) برقم (3595) .(84/41)
ما يشترط لوجوب الزكاة في عروض التجارة
س: رجل يتعامل بأنواع من التجارة كتجارة الألبسة والأواني وغيرها، فكيف يخرج زكاتها (1)
ج: يجب عليه إخراج الزكاة إذا تم الحول على العروض التي عنده المعدة للتجارة، إذا بلغت قيمتها النصاب من الذهب أو الفضة؛ للأحاديث الواردة في ذلك ومنها حديث سمرة بن جندب وأبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
__________
(1) نشر في كتاب (تحفة الإخوان) لسماحته، ص 148.(84/41)
الأرض المعدة للبيع تجب فيها زكاة
س: منحتني البلدية أرض من أراضي ذوي الدخل المحدود، وذلك منذ ثلاث سنوات، وأنا أقصد في نفسي أنني سأبيعها إن أتت بقيمة مناسبة، حيث إن موقعها غير مناسب لي، والسؤال هل في هذه الأرض زكاة؟ وإذا كان فيها زكاة فهل أزكي عن ثلاث سنوات أم عن سنة واحدة؟ أفتوني بارك الله فيكم (1)
ج: إذا كنت أردت بيعها فعليك زكاة قيمتها إذا حال عليها الحول من حين عزمت على بيعها؛ لما روى أبو داود رحمه الله عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: «أمرنا رسول الله أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع (2) » وله شواهد تدل على معناه. وبالله التوفيق.
س: هل تجب الزكاة في الأرض المعدة للبيع؟ وهل تجب في المعدة للإعمار، وإذا كانت تجب فكيف تخرج زكاتها؟
ج: الأرض المعدة للتجارة تجب فيها الزكاة، والحجة في ذلك
__________
(1) نشر في (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته) ج14، ص 160.
(2) رواه أبو داود في (الزكاة) باب العروض إذا كانت للتجارة، هل فيها زكاة؟ برقم (1562) .(84/42)
الحديث المشهور عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع (1) » انتهى، ومراده بالصدقة هنا الزكاة، أما إذا كانت الأرض للقنية لا للبيع، سواء قصدها للفلاحة أو السكنى أو التأجير أو نحو ذلك فليس فيها زكاة؛ لكونه لن يعدها للبيع، والله سبحانه وتعالى أعلم، ونسأله عز وجل أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للفقه في الدين والثبات عليه والله يتولاكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
س: كيف تخرج زكاة الأرض ونحوها؟ وهل يكفي دفع الزكاة عنها عند بيعها زكاة واحدة عن عدد من السنين (2) ؟
ج: إذا كانت الأرض ونحوها كالبيت والسيارة ونحو ذلك معدة للتجارة وجب أن تزكى كل سنة بحسب قيمتها عند تمام الحول، ولا يجوز تأخير ذلك، إلا لمن عجز عن إخراج زكاتها؛ لعدم وجود مال عنده سواها، فهذا يمهل حتى يبيعها ويؤدي زكاتها عن جميع السنوات، كل سنة بحسب قيمتها عند تمام الحول، سواء كانت القيمة أكثر من الثمن أو أقل أعني الذي اشترى به الأرض أو السيارة أو البيت.
هذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم، لما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
__________
(1) سنن أبي داود الزكاة (1562) .
(2) نشر في (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته) ج14، ص 161.(84/43)
أمر بإخراج الصدقة مما يعد للبيع، ولأن أموال التجارة تقلب لطلب الربح بين أنواع العروض، فوجب على المسلم أن يخرج زكاتها كل عام، كما لو بقيت في يده نقودا، وفق الله الجميع للفقه في الدين والثبات عليه، إنه خير مسئول.(84/44)
قول المالكية في زكاة عروض التجارة قول ضعيف
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نفيد سماحتكم بأننا نمتلك بعض الأراضي في عدة مناطق مختلفة بالمملكة بمبالغ كبيرة، ولا يرغب أحد في شرائها بسبب ظروف السوق الحالية، أو بسبب موقعها، وبعضها له مدة طويلة جدا ولم تبع وندفع فيها زكاة، وقد سمعنا أن بعض المشايخ على المذهب المالكي يجيزون في هذه الحالة إعفاءها من الزكاة حتى تباع.
لذا نطلب رأي سماحتكم في هذا الموضوع، وجزاكم الله عنا وعن المسلمين جميعا خير الجزاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) .
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
__________
(1) استفتاء مقدم من ع. و. م. ع. ج، وقد صدرت الإجابة عنه من مكتب سماحته بتاريخ 1 - 2 - 1418 هـ.(84/44)
الواجب إخراج زكاتها على حسب قيمتها غلاء ورخصا ما دامت معدة للبيع، لما روى أبو داود وغيره عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع (1) » وله شاهد من حديث أبي ذر رضي الله عنه، ولأن المعنى يقتضي ذلك فإن التجارة تكون بالنقود والعروض، أما قول المالكية في هذا فهو قول ضعيف مخالف للأدلة الشرعية، والله ولي التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب العروض إذا كانت للتجارة، برقم (1562) .(84/45)
حكم زكاة الأرض التي تركت لوقت الحاجة
س: أمتلك قطعة أرض، ولا أستفيد منها، وأتركها لوقت الحاجة، فهل يجب علي أن أخرج زكاة عن هذه الأرض؟ وإذا أخرجت الزكاة هل علي أن أقدر ثمنها في كل مرة (1) ؟
ج: ليس عليك زكاة في هذه الأرض لأن العروض إنما تجب الزكاة في قيمتها، إذا أعدت للتجارة، والأرض والعقارات والسيارات
__________
(1) نشر في (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته) ج14، ص 164.(84/45)
والفرش ونحوها عروض لا تجب الزكاة في عينها، فإن قصد بها المال يعني الدراهم بحيث تعد للبيع والشراء والاتجار، وجبت الزكاة في قيمتها، وإن لم تعد كمثل سؤالك فإن هذه ليست فيها زكاة، والله ولي التوفيق.(84/46)
لا زكاة في الأراضي التي اشتريت للبناء عليها من أجل السكن أو الإيجار
س: إذا اشترى رجل قطعة أرض يريد أن يبني عليها بيتا فتأخر عن البناء حتى حال الحول، فهل فيها زكاة ?
ج: إذا كان أراد البيت للسكن ولم يرده للتجارة وإنما أراد أن يسكن فيه أو ليؤجره وينتفع بالإيجار ليستعين به في حاجاته فلا زكاة في هذه الأرض والله الموفق.
س: لدي قطعة أرض اشتريتها لغرض البناء عليها، ثم بعد مدة احتجت إلى بيعها فبعتها، فهل علي زكاة في المدة التي لم أعرضها للبيع (1) ?
ج: إذا كان الواقع ما ذكرت في السؤال فليس عليك زكاة لما
__________
(1) نشر في (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته) ج14، ص 165.(84/46)
مضى قبل البيع؛ لأن العلة المقتضية للزكاة مفقودة، وهي قصد البيع، وأنت لم تقصد البيع، فإن حال عليها الحول بعد قصد البيع فعليك زكاتها وهي ربع العشر من قيمتها عن كل سنة بعد نية البيع.(84/47)
حكم زكاة الأرض التي يتردد صاحبها في بيعها ولم يجزم بشيء
س: إذا كان لدى الإنسان قطعة أرض ولا يستطيع بناءها ولا الاستفادة منها، فهل تجب فيها زكاة (1)
ج: إذا أعدها للبيع وجبت فيها الزكاة، وإن لم يعدها للبيع أو تردد في ذلك ولم يجزم بشيء، أو أعدها للتأجير فليس عليه عنها زكاة، كما نص على ذلك أهل العلم؛ لما روى أبو داود رحمه الله عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: «أمرنا رسول الله أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع (2) »
س: الأخ ع. ع. ح. من المدينة المنورة يقول في سؤاله: لدي بيت أسكنه، ولدي أرض أحيانا أفكر في بيعها وأحيانا أفكر في بنائها مسكنا لي، فهل فيها زكاة؟ وأرجو يا سماحة الشيخ إعطائي تفصيلا
__________
(1) نشر في (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته) ج14، ص 166.
(2) سبق تخريجه ص 45.(84/47)
عن زكاة الأراضي بشكل عام، جزاكم الله خيرا؟
ج: لا زكاة في الأرض ولا في غيرها من العروض إلا إذا عزم مالكها على إعدادها للبيع، فإنه يزكي قيمتها إذا حال عليها الحول وهي نصاب، أما إذا كان المالك مترددا هل يبيعها أو لا يبيعها فإنه لا زكاة فيها حتى يجزم بنية البيع ويحول عليها الحول بعد ذلك وهي نصاب فأكثر؛ لما روى أبو داود وغيره عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع (1) » وله شاهد من حديث أبي ذر رضي الله عنه. وهو قول جمهور أهل العلم، وحكاه بعضهم إجماعا، أما إن كان العقار من بيت أو حانوت أو أرض معدا للإجارة فإن الزكاة لا تجب في أصله وإنما تجب في الأجرة إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول؛ لعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في النقدين، أو ما يقوم مقامهما من الأوراق النقدية إذا حال عليها الحول، والله ولي التوفيق.
س: لدي أرض بعيدة عن العمران وليس لي نية في البناء عليها،
__________
(1) سبق تخريجه في ص 45.(84/48)
ولم أعدها للتجارة، ولكن لو جاءني فيها مبلغ جيد من المال بعتها، فهل تجب فيها الزكاة (1) ?
ج: إذا كنت عازما على بيعها فعليك زكاة قيمتها كل سنة إلى أن تبيعها، ثم بعد البيع عليك أن تزكي الثمن كلما حال عليه الحول وهو عندك، أما إذا كنت غير جازم على البيع بل عندك تردد فليس عليك زكاة، وفق الله الجميع.
__________
(1) نشر في (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته) ج14، ص 168.(84/49)
كيفية زكاة الأراضي المعدة للبيع والتأجير
س: إذا كنت وكيلا لإحدى العوائل وقد فوضوني في كل شيء في بيع وشراء وإخراج ما يستحق إخراجه من الزكاة، وكان لهم أرض قد تحصلوا عليها من الحكومة وبقيت عندهم ينتظرون إما أن يتيسر ماء فيزرعون، أو فلوس فيعمرون، أو بيع فيبيعون، ومعلوم أن تلك الأراضي جاءت إليهم بدون مقابل وهم لم يأت في ذهنهم أنها معدة للتجارة وهم أغنياء عنها، فهل يلزم لها زكاة أو لا لكي أبرئ ذمتي (1) ?
__________
(1) استفتاء شخصي قدم لسماحته عام 1381 هـ عندما كان نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية.(84/49)
ج: باسم الله، الحمد لله، أما الأرض الأولى فليس فيها زكاة؛ لأن ملاكها لم يجزموا أنها للتجارة، والزكاة إنما تجب في العروض المعدة للبيع، كما في حديث سمرة قال: «أمرنا رسول الله أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع (1) » أخرجه أبو داود.
وأما الأراضي الأخرى المعدة للتجارة وقد تؤجر، ففيها الزكاة كل سنة، تقوم وتخرج زكاة القيمة على حسب السعر وقت التقويم، وهكذا أجرتها تجب فيها الزكاة تبعا لأصلها؛ للحديث المتقدم، ولا زكاة إلا إذا حال على الأصل الحول، وأما الأجرة فإن كانت بعد الحول ففيها الزكاة وإن كانت قبل حول أصلها وأنفقت قبل الحول أو تلفت فليس فيها زكاة.
__________
(1) سبق تخريجه في ص 45.(84/50)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: هذا سؤال من السائل سعيد من اليمن يقول فيه: هل تتحجب الأم من زوج ابنتها؟
ج: أم الزوجة من محارم زوج ابنتها فيجوز له أن يرى من أم زوجته ما يرى الرجل من محارمه مثل الوجه والكفين والرقبة والشعر ونحو ذلك.(84/51)
س: هذا سؤال من السائل بسام من السويد يقول فيه: عندي سؤال بخصوص القرض في السويد هذا القرض يعطى لمن يحصل على الإقامة في السويد وهذا القرض يبدأ تسديده بعد سنتين من تاريخ استلام القرض علما أن هذا القرض عليه فوائد، وأن الذي يرفض القرض يبدأ يشكون فيه أنه يمتلك مالا في السويد فيبدأ التدقيق عليه لماذا لم يأخذ هذا القرض أفيدونا جزاكم الله خيرا.
ج: لا يجوز بحال من الأحوال أخذ هذه القروض لأنها ضرب من أضرب الربا، والربا محرم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ولا يحل أخذه لا في بلاد المسلمين ولا في غيرها.(84/51)
س: هذا السؤال من السائل ع. ب من هولندا يقول فيه: ترشدني بما عندكم من معلومات حول زرع الأعضاء أو نقل أعضاء الإنسان، وجزاكم الله خيرا.
ج: إجابة لسؤالكم عن حكم نقل الأعضاء من الإنسان نحيطكم بأنه قد صدر القرار رقم 99 في تاريخ 6 \ 1 \ 1402 هـ من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية وهذا نصه:
الحمد لله والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته العشرين المنعقدة بمدينة الطائف ابتداء من الخامس والعشرين من شهر شوال حتى السادس من شهر ذي القعدة 1402 هـ بحث حكم نقل عضو من إنسان إلى آخر بناء على الأسئلة الواردة فيه إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وكان منها السؤال الوارد من الدكتور ن. ف المدير التنفيذي بالنيابة والمستشار والمشرف على أعمال الإدارة بمستشفى الملك فيصل التخصصي بكتابه المؤرخ في 15 \ 8 \ 1401 هـ، والسؤال الوارد من الشيخ عبد الملك بن محمود رئيس محكمة الاستئناف في نيجيريا المحالان(84/52)
إلى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء من سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بكتابيه رقم 1427 وتاريخ 16 \ 6 \ 1402 ورقم 590 \ ب وتاريخ 1 \ 5 \ 1402 هـ لعرضها على المجلس، وقد رجع المجلس إلى قراره رقم 47 وتاريخ 20 \ 8 \ 1376 هـ الصادر في حكم تشريح جثة الإنسان الميت وإلى قراره رقم 62 وتاريخ 25 \ 10 \ 1398 هـ الصادر في حكم نزع القرنية، وإلى قراره رقم 65 وتاريخ 7 \ 2 \ 1369 هـ الصادر في حكم التبرع بالدم وإنشاء بنك لحفظه، ثم استمع إلى البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء من قبل في حكم نقل دم أو عضو أو جزئه من إنسان إلى آخره، وبعد المناقشة وتداول الآراء قرر المجلس بالإجماع جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان حي مسلم أو ذمي إلى نفسه إذا دعت الحاجة إليه وأمن الخطر في نزعه أو غلب على الظن نجاح زرعه كما قرر بالأكثرية ما يلي:
1- جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان ميت إلى مسلم إذا اضطر إلى ذلك وأمنت الفتنة في نزعه ممن أخذ منه وغلب على الظن نجاح زرعه فيمن سيزرع فيه.
2- جواز تبرع الإنسان الحي بنقل عضو منه أو جزئه إلى مسلم مضطر إلى ذلك.(84/53)
وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وآله وسلم.
هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية(84/54)
س: هذا سؤال من السائل أمن مصر يقول فيه: أنا متزوج وحدث مشكلة بيني وبين زوجتي وقلت في نفسي أنت طالق ولم أتلفظ به ولم أنطق به وذهبت إلى دار الفتوى وقالوا لي إنه وقع، قلت ما الدليل قالوا لي: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (1) ووجدت اختلافا في تفسير الآية:
1- أنها منسوخة ورفع الحكم.
2- أنها محكمة مخصوصة في معنى كتمان الشهادة.
3- أنها محكمة عامة غير منسوخة وأن الله محاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه.
رجاء أفتني هل آخذ به في حديث النفس وهل الطلاق في حديث النفس يقع؟
ج: ما دام أنك لم تنطق بلسانك بلفظ الطلاق، وإنما حدثت به نفسك فلا حرج عليك في ذلك ولا يقع بذلك طلاق؛ لأن هذا من قبيل أحاديث القلب التي لا يؤاخذ عليها الإنسان، ودليل ذلك ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به
__________
(1) سورة البقرة الآية 284(84/54)
أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم (1) » رواه البخاري ومسلم.
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5269) ، صحيح مسلم الإيمان (127) ، سنن الترمذي الطلاق (1183) ، سنن النسائي الطلاق (3433) ، سنن أبو داود الطلاق (2209) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2040) ، مسند أحمد بن حنبل (2/491) .(84/55)
س: هذا سؤال من السائل ب. أمن أسبانيا يقول فيه: أنا دكتور مصري مسلم شاب مبتعث إلى أسبانيا لمدة عامين في مهمة علمية وأقيم مع عائلتي (زوجتي وطفلين) أريد أن أعرف ما حكم أكل اللحوم (عدا الخنزير طبعا) والدجاج بالنسبة لنا من الأماكن المختلفة ومحلات الوجبات السريعة، هل يحق لنا أكلها أم لا وخاصة الطفل حينما يريد أن يأكل من هذه المحلات وجزاكم الله كل خير؟
ج: يباح للمسلم أن يأكل من ذبائح أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى إذا كان المذبوح مما يحل لنا أكله في شريعتنا كبهيمة الأنعام الإبل والبقر والغنم والضأن وكالدجاج ونحو ذلك لقول الله سبحانه وتعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (1) فالله سبحانه أباح لنا الأكل من ذبائحهم فاستثنى طعامهم؛ لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله والمراد بالطعام في الآية الذبائح وإن أمكنك الاستغناء عن ذلك فهو أبرأ لذمتك وأحوط لدينك ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (3) أما غير أهل الكتاب كالمجوس والوثنيين وغيرهم
__________
(1) سورة المائدة الآية 5
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 3(84/55)
ممن لا دين له فلا يحل للمسلم أن يأكل من ذبائحهم؛ لأن الله لما استثنى حل طعام الذين أوتوا الكتاب دل ذلك على أن ما عداهم من الكفار يبقون على المنع والعموم.(84/56)
س: هذا السؤال من السائل ش. م من سويسرا يقول فيه: أنا مسلم أعيش في سويسرا لي خمسة أطفال وكلهم يذهبون إلى المدارس الحكومية تقدمت بطلب من إدارة التعليم أن تعفي أبنائي من حصة السباحة في المدرسة نظرا لما تعرفونه من عراء فاضح يتنافى مع تعاليم ديننا الحنيف، بعد مدة من الزمن تلقيت الرد من هذه الإدارة بإعفاء البنات من حصة السباحة وعدم إعفاء الأولاد بها بعلة أن البنات يوجد ما يبرر إعفاءهن من القرآن أما الأولاد فلا يوجد في القرآن ما يبرر ذلك، أرجو من حضرتكم أن تبينوا رأي الدين في السباحة المختلطة وهل يوجد فرق بين الولد والبنت في هذه المسألة علما بأن أعمار ولدي 12 و11 سنة، أفيدونا أفادكم الله وأعينونا أعانكم الله؟
ج: السباحة المختلطة بين الأطفال لها آثار سيئة على الذكور والإناث على حد سواء، وخاصة لمن هم فوق سن التمييز، فلا ينبغي لك ترك أولادك يشاركون في هذه المسابح المختلطة لأن فيها إفسادا(84/56)
لهم في أخلاقهم فهي تزرع في نفوسهم بذور الفتنة والشهوة فهي وسيلة إلى الحرام وما كان وسيلة إلى الحرام فهو حرام.(84/57)
س: هذا سؤال من السائل أ. ع. أمن فرنسا يقول فيه: أريد فتوى عن السؤال أدناه أفتى بها المجمع الفقهي مع العلم أن السؤال دقيق جدا وهو: هل يجوز لغير المسلم مس مصحف يشتمل على القرآن الكريم وترجمة أعجمية لمعاني الآيات ونسبتهما في الكتاب متساوية تقريبا أو تزيد الترجمة قليلا على القرآن في البداية والنهاية بمقدار صفحات مثل المصاحف التي تطبعها المملكة العربية السعودية؟ هل تطبق القاعدة الأصولية: إذا تعارض حاظر ومبيح قدم الحاظر على المبيح وتعتبر في المسألة نسبة القرآن قليلة جدا ومهملة النسبة مقارنة بالترجمة ككتب التفسير مثل تفسير ابن كثير والفقه مثل أحكام القرآن أم أن الكتاب بهذا الاعتبار لا يسمى أصلا مصحفا ويجوز بالتالي للحائض وغير المسلم مسه، أسأل هذا السؤال لأن مدير الشركة التي أشتغل بها يبيع المصاحف لكل الناس عبر شبكة الإنترنت؟
ج: لا حرج في أن يمس الكافر كتاب ترجمة معاني القرآن؛ لأنه ليس يقرآن وإنما هو كتاب تفسير أي تفسير لمعاني القرآن فليس له حكم القرآن، بل له حكم التفسير والتفسير يجوز أن يحمله(84/57)
المحدث والمسلم والكافر.(84/58)
س: هذا سؤال من السائل ع. ع. م المملكة العربية السعودية يقول فيه: اشتريت قطعة أرض بقيمة (70.000) ريال منذ ثلاث سنوات، وذلك كل ما أملك، ليس لدي بيت (إلا بالإيجار) ولا رأس مال (عدا سيارة أستعملها للعمل) ووظيفة أستفيد منها بمعاش شهري يعينني أنا وأسرتي، وقد سألت بعض أئمة المساجد عن وجوب الزكاة في الأرض فلم أحصل على جواب شاف حتى رأيت الفتوى بوجوبها:
1- هل أستطيع أن أدفع الزكاة على مراحل بالتقسيط حتى لا يؤثر على معيشة أهلي، مع العلم أني نويت بيعها حالما يتحسن سعرها ولكن لم أعرضها بالسوق منذ اشتريتها؟
2- أعتقد أن سعرها قد انخفض فهل أدفع الزكاة بسعر الشراء أم بالسعر الحالي ويتم تقدير سعرها للسنتين السابقتين؟
3- وهل علي شيء بسبب تأخير إخراج الزكاة للسنتين الماضيتين؟
ج: هذه الأرض التي اشتريتها ونويت بيعها عند ارتفاع سعرها تعتبر من عروض التجارة التي تجب فيها الزكاة إذا حال عليها الحول فتقومها كل سنة بما تساوي وقت الوجوب وتخرج زكاتها ربع العشر(84/58)
أي ما يعادل (2.5%) عند تمام الحول كل عام فإن تم الحول وليس عندك ما يكفي لإخراج الزكاة جاز لك تقسيطها، أما السنتان الماضيتان اللتان لم تخرج زكاتهما فإنه يجب عليك إخراج الزكاة عنهما متى تيسر لك.(84/59)
س: هذا سؤال من السائل خ. ق من سوريا يقول فيه: نحن شركة رسوم متحركة (أفلام كرتون) تعمل على إنتاج برامج ومسلسلات إسلامية هادفة ما هو الجائز وما هو المحرم في رسم كل من:
1- الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة وأتم التسليم؟
2- الملائكة المقربين؟
3- الخلفاء الراشدين؟
4- بقية الصحابة المطهرين رضوان الله عليهم أجمعين؟ وجزاكم الله خيرا.
ج: إجابة لسؤالكم عن حكم إنتاج برامج رسوم متحركة (أفلام كرتون) تتضمن صور صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نحيطكم بأنه قدر صدر القرار رقم (13) من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية وهذا نصه:(84/59)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن هيئة كبار العلماء في دورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1 \ 4 \ 1393 هـ، و17 \ 4 \ 1393 هـ. قد اطلعت على خطاب المقام السامي، رقم 44 \ 93 وتاريخ 1 \ 1 \ 1393 هـ، الموجه إلى رئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد والذي جاء فيه ما نصه:
نبعث إليكم مع هذا الرسالة الواردة إلينا من ط. م. ت مدير عام شركة ل. ف من بيروت بشأن اعتزام الشركة عمل فيلم سينمائي يصور حياة (بلال) مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونرغب إليكم بعد الاطلاع عليها عرض الموضوع على كبار العلماء لإبداء رأيهم فيهم وإخبارنا بالنتيجة، وبعد اطلاع الهيئة على خطاب المقام السامي وما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ذلك وتداول الرأي قررت ما يلي:
1- إن الله سبحانه أثنى على الصحابة وبين منزلتهم العالية ومكانتهم الرفيعة وفي إخراج حياة أي واحد منهم على شكل مسرحية أو فيلم سينمائي منافاة لهذا الثناء الذي أثنى(84/60)
الله عليهم به وتنزيل لهم من المكانة العالية التي جعلها الله لهم وأكرمهم بها.
2- إن تمثيل أي واحد منهم سيكون موضعا للسخرية والاستهزاء به ويتولاه أناس غالبا ليس للصلاح والتقوى مكان في حياتهم العامة والأخلاق الإسلامية مع ما يقصده أرباب المسارح من جعل ذلك وسيلة إلى الكسب المادي وأنه مهما حصل من التحفظ فيشتمل على الكذب والغيبة كما يضع تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم في أنفس الناس وضعا مزريا فتنتزع الثقة بأصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونخف الهيبة التي في نفوس المسلمين من المشاهدين وينفتح باب التشكيك على المسلمين في دينهم والجدل والمناقشة في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ويتضمن ضرورة أن يقف أحد الممثلين موقف أبي جهل وأمثاله ويجري على لسانه سب بلال وسب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من الإسلام ولا شك أن هذا منكر، كما يتخذ هدفا لبلبلة أفكار المسلمين نحو عقيدتهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم -.
3- ما يقال من وجود مصلحة وهي إظهار مكارم الأخلاق(84/61)
ومحاسن الآداب مع التحري للحقيقة وضبط السيرة وعدم الإخلال بشيء من ذلك بوجه من الوجوه رغبة في العبرة والاتعاظ فهذا مجرد فرض وتقدير فإن من عرف حال الممثلين وما يهدفون إليه عرف أن هذا النوع من التمثيل يأباه واقع الممثلين، ورواد التمثيل وما هو شأنهم في حياتهم وأعمالهم.
4- من القواعد المقررة في الشريعة أن ما كان مفسدة محضة أو راجحة فإنه محرم وتمثيل الصحابة على تقدير وجود مصلحة فيه، فمفسدته راجحة، فرعاية للمصلحة وسدا للذريعة وحفاظا على كرامة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يجب منع ذلك.
وقد لفت نظر الهيئة ما قاله السائل من أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه الراشدين هم أرفع من أن يظهروا صورة أو صوتا في هذا الفيلم، لفت نظرهم إلى أن جرأة أرباب المسارح على تصوير بلال وأمثاله من الصحابة إنما كان لضعف مكانتهم ونزول درجتهم في الأفضلية عن الخلفاء الأربعة فليس لهم من الحصانة والوجاهة ما يمنع من تمثيلهم وتعريضهم(84/62)
للسخرية والاستهزاء في نظرهم فهذا غير صحيح؛ لأن لكل صحابي فضلا يخصه وهم مشتركون جميعا في فضل الصحبة وإن كانوا متفاوتين في منازلهم عند الله جل وعلا، وهذا القدر المشترك بينهم وهو فضل الصحبة يمنع من الاستهانة بهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية.(84/63)
س: هذا سؤال من السائل م. م من المملكة العربية السعودية يقول فيه: أعمل محاسبا في شركة وفي بعض الأحيان أكلف من قبل الإدارة بشراء مستلزمات مكتبية أو متطلبات عاملين بالشركة وبعد الشراء والمحاسبة على السلع المشتراة ودفع القيمة المترتبة على السلع المشتراة أمنح من البائعين هدايا لمعاودة التعامل معهم على سبيل المثال اشتريت للشركة أوراقا وأقلاما مكتبية وبعد المحاسبة ودفع النقود أعطاني البائع قلما فهل هذا حرام؟ أم حلال؟ مع العلم بأن السلع المشتراة بأقل قيمة مقارنة بالأسواق؟
ج: لا يجوز لك أخذ هذه الهدايا من الشركات التي تتعاملون معها لأنها من باب الرشوة، وهدايا العمال غلول.(84/63)
س: هذا سؤال من السائل س. ش من الأردن يقول فيه: أنا أعمل موظف أمن لشركة أصحابها نصارى لفترة مؤقتة أريد الحكم بالرغم أن الأمن لشركة أخرى؟
ج: يجوز للمسلم العمل عند الكافر شريطة ألا يترتب على هذا العمل ضرر على المسلم في دينه وأن يكون عمل المسلم لدى الكافر مباحا ومشروعا في ذاته وآثاره.(84/64)
س: هذا سؤال من السائل م. ر من مصر يقول فيه: سؤالي عن أموال القصر الموضوعة في بنك ربوي تحت وصاية المجلس الحسبي، هل يأخذ القاصر بعد بلوغه سن الرشد (21 سنة) المال كله بفوائده أم يأخذ المال بدون الفوائد، وما هي الزكاة الواجبة عليه، وهل للمجمع الفقهي قرار في ذلك؟
ج: الفوائد التي تدفعها البنوك على الأموال المودعة لديها هي ربا لا يجوز أخذها بحال من الأحوال لأي غرض كان؛ لأن الله حرم الربا وتوعد عليه بأشد الوعيد ولعن النبي - صلى الله عليه وسلم - آكله وموكله وشاهديه وكاتبه، وبناء عليه فلا يجوز لمن بلغ من القصر أخذ هذه الفوائد لنفسه بل يصرفها في وجوه البر وأعمال الخير غير المساجد، وأما الزكاة الواجبة في أموالهم مدة بقائها في البنك فإن الواجب على(84/64)
الوصي إخراج الزكاة عن السنوات الماضية والقادمة فإن لم يخرجها وجب على من بلغ من القصر إخراج زكاة ماله ومقدارها ربع العشر أي اثنان ونصف في المائة (2.5%) نقدا.(84/65)
س: هذا سؤال من السائل ز. من سوريا يقول فيه: أريد أن أستفتيكم في قضية هامة ... المسألة: هل يجوز أن نوقف المنفسة التي يضعون فيها المريض المهدد بالموت في المستشفى والتي تكلف الكثير من المال فهل يجوز إزالتها بسبب انعدام المال الذي يكلف لوضع هذه المنفسة؟ مع العلم أن الطب يقول إن المريض في هذه الحالة سيموت (طبعا كله بأمر الله) بلا محالة، فهل يجوز أن نخرجه من هذه المنفسة لأسباب نقص المال لدى أهل المريض؟
ج: إجابة لسؤالكم عن حكم إزالة المنفسة التي يضعون فيها المريض المهدد بالموت في المستشفى بسبب نقص المال لدى أهل المريض، نحيطكم بأنه قد صدر القرار رقم (181) وتاريخ 12 \ 4 \ 1417 هـ من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية وهذا نصه:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا(84/65)
محمد وآله وصحبه وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الخامسة والأربعين المنعقدة في مدينة الطائف ابتداء من الثالث من شهر ربيع الآخر حتى 12 منه عام 1417 هـ، بحث حكم التبرع بالأعضاء لصالح المرضى المحتاجين لها خصوصا من الأشخاص المتوفين دماغيا بناء على ما ورد إليه من سمو أمير منطقة الرياض الأمير سلمان بن عبد العزيز الرئيس الفخري للمركز السعودي لزراعة الأعضاء بكتابه رقم (627 \ 11) وتاريخ 15 \ 6 \ 1416 هـ، ومشفوعه الكتاب المرفوع لسموه من معالي وزير الصحة برقم (621 \ 11) وتاريخ 15 \ 6 \ 1416 هـ. المتضمن التقرير المعد حول أهمية التبرع بالأعضاء وزراعتها وخاصة عند المتوفين دماغيا.
وقد اطلع المجلس أثناء البحث على قراره رقم (62) في حكم نقل القرنية من إنسان إلى آخر وإلى قراره رقم (99) في حكم نقل عضو أو جزئه من إنسان إلى آخر، كما اطلع على القرارات الصادرة من المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة بشأن نقل الأعضاء وزراعتها.(84/66)
وبعد المناقشة وتداول الرأي في الموضوع قرر المجلس أنه لا يجوز شرعا الحكم بموت الإنسان الموت الذي تترتب عليه أحكامه الشرعية بمجرد تقرير الأطباء أنه مات دماغيا حتى يعلم أنه مات موتا لا شبهة فيه تتوقف معه حركة القلب والنفس مع ظهور الأمارات الأخرى الدالة على موته يقينا؛ لأن الأصل حياته فلا يعدل عنه إلا بيقين، وبالله التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية(84/67)
س: هذا سؤال من السائل ع. ج من الفلبين يقول فيه: استشارني شخص من فاعلي الخير، وقال لي هو ينوي أن يودع المبلغ في الحساب الاستثماري لدى البنوك الربوية ومن ثم ينفق فوائدها إلى الهيئات الخيرية، فما رأي الإسلام في ذلك؟
ج: الفوائد الربوية من الأموال المحرمة حرام؛ لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ولا يحل للإنسان الإقدام على أخذ الفوائد ولا الاستمرار في أخذها بحجة أنه سينفقها على الفقراء؛ لأن الله حرم الربا مطلقا وشدد الوعيد فيه ولا تجوز الصدقة منه؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، لكن إن قبض منها شيئا فعليه أن يصرفها في
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(84/67)
المصالح العامة تخلصا منها.(84/68)
س: هذا السؤال من السائل م. أمن المملكة العربية السعودية يقول فيه: كيف يوزع الوقف إذا كان الواقف وقفه على نفسه ثم على أولاده ثم على أولاد أولاده ثم على أولاد أولاد أولاده ثم على عقبهم ونسلهم، ولا يوجد الآن إلا العقب والنسل، فهل يدخل في التوزيع أولاد البنات ولكم جزيل الشكر.
ج: أولاد البنات لا يدخلون في هذا الوقف لأن أولاد البنات لا يدخلون في مسمى الأولاد والذرية والنسل إلا بنص أو قرينة كما صرح بذلك فقهاؤنا.(84/68)
س: هذا سؤال من السائل (أع) من المملكة العربية السعودية يقول فيه: منذ حوالي ثلاثة أعوام قام كلب عن طريق الخطأ يلعق وجهي بما في ذلك فمي حيث كنت نائما ولم أكن أعلم أن الواجب أن أغسل وجهي سبع مرات إحداها بالتراب وظننت أن ذلك ينطبق على الآنية فقط وقمت بغسل وجهي بالماء مرة واحدة وبعد 3 سنوات علمت الحكم فماذا علي أن أفعل، شاكرا ومقدرا جهودكم وجزاكم الله ألف خير؟
ج: لا يجب عليك غسل وجهك سبع مرات إحداهن بالتراب(84/68)
من أثر لعق الكلب، لأن الأمر بالغسل سبع مرات خاص بالأواني، أما الثياب أو البدن فيكفي غسلها بما يزول معه أثر النجاسة.(84/69)
س: هذا سؤال من السائل هـ. ج. أيقول فيه: في حالة إتيان العيد في يوم الجمعة؛ هل يجب على من صلى العيد في الجماعة جمعة ذلك اليوم أم لا؟ وما هو الأفضل؟ وهل لي منكم الجواب مع الأدلة والمراجع؟ وهذا للاستفادة والاطمئنان ولكم جزيل الشكر سلفا؟
ج: إذا اتفق عيد في يوم جمعة سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد إلا الإمام فإنها لا تسقط عنه إلا ألا يجتمع له من يصلي به الجمعة، لما روى إياس بن أبي رملة الشامي قال «شهدت معاوية يسأل زيد بن أرقم هل شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيدين اجتمعا في يوم واحد؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد ثم رخص في الجمعة فقال: من شاء أن يصلي فليصل (1) » رواه أبو داود.
__________
(1) سنن النسائي صلاة العيدين (1591) ، سنن أبو داود الصلاة (1070) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1310) ، مسند أحمد بن حنبل (4/372) ، سنن الدارمي الصلاة (1612) .(84/69)
س: هذا سؤال من السائل أ. س من مصر يقول فيه: عن جماعة التبليغ والدعوة هناك من يقول بأنهم من الفرق ومن يقول بأنهم مبتدعون وفريق ثالث يقول إنهم جماعة دعوية يحمد مجهودها ولكن لهم مخالفات وهذا الفريق يجيز الخروج معهم ولكن بشروط مثل العلم ونية تصحيح الأخطاء التي يقعون فيها، والسؤال ما رأيكم(84/69)
في هذه الجماعة وهل يجوز الخروج معهم وجزاكم الله خيرا؟
ج: جماعة التبليغ توجد عندهم بعض المخالفات العقدية والمنهجية لا يجوز الخروج معهم ولا الانضمام إليهم إلا لمن آتاه الله العلم والبصيرة في الدين وكان مريدا لنصحهم وتوجيههم، أما العامي أو من قل تحصيله من العلم الشرعي فيخشى عليه فلا ينبغي له الخروج معهم ولا الانضمام إليهم.(84/70)
س: السائل أ. م. ع من اليمن يقول فيه: تجار جمعوا من أموال زكاتهم وعملوا جمعية وأودعوها عند تاجر يشتغل بفلوس الزكاة ثم يصرفون منها لمن أرادوا، فهل هذا مصرف من مصارف الزكاة وهل يجوز ذلك، نريد من فضيلتكم الإجابة على هذه الفتوى خطيا لكي نقنع هؤلاء الأشخاص بالجواز أو بعدمه وفقكم الله؟
ج: لا يجوز استثمار أموال الزكاة؛ لأن الاستثمار قد يفوت أو يؤخر مصالح المستحقين للزكاة، والواجب صرفها في مصارفها الشرعية المنصوص عليها.(84/70)
س: هذا سؤال من السائل ف. من المغرب يقول فيه: ما هي شروط زواج مسلم بغير مسلمة؟
ج: لا يجوز للمسلم الزواج من غير المسلمة إلا أن تكون كتابية(84/70)
محصنة يهودية أو نصرانية، ويشترط للزواج من الكتابية المحصنة ما يشترط للزواج من المسلمة.(84/71)
س: هذا سؤال من السائل ح. من الجزائر يقول فيه: أنا قاض من دولة الجزائر أريد معرفة الفتوى الشرعية بخصوص ولد الزنا إذا أقر به والده وطلب أن ينسب إليه هل يجوز ذلك طبقا لقاعدة إحياء الولد خاصة أن هذه الفئة تعاني في الجزائر من تعقيدات إدارية وتحرم من كثير من الحقوق بسبب عدم حمل وثائق الهوية للقب الأب أريد معرفة آراء الفقهاء والأقرب لتحقيق المصلحة وهل يجوز الأخذ بقول الجعفرية الذين يقولون بجواز نسبة ولد الزنا بإقرار والده؟
ج: الولد لا يثبت نسبه للواطئ إلا إذا كان الوطء مستندا إلى نكاح صحيح أو نكاح شبهة أو ملك يمين أو شبهة ملك يمين فيثبت إلى الواطئ، أما إن كان الوطء زنا فلا يلحق الولد الزاني ولا يثبت نسبه إليه.(84/71)
صفحة فارغة(84/72)
من فتاوى
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
من الفتوى رقم 6857
س: لاحظت عدة مساجد يوضع ملاصقا لها أو تحت مناراتها أماكن للوضوء وحمامات، وحيث إن من الأولى تكريم المأذنة وعدم وضعها سقفا لذلك فإنني أرجو بحث هذه الظاهرة والإفادة لنا بالحكم، لإمكانية التنبيه، حفظكم الله.
ج: إذا كان الواقع كما ذكرت من أن أماكن الوضوء والحمامات.. إلخ وضعت تحت المنارات وملاصقة لجدار المساجد فلا حرج في ذلك إذا لم يحصل على المساجد وأهلها أذى منها؛ لعدم وجود دليل شرعي يمنع من ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(84/73)
من الفتوى رقم 12281
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه.. وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفتاء المقدم لسماحة الرئيس العام من مدير أوقاف ومساجد منطقة الجوف برقم 1576 في 3 \ 9 \ 1409هـ ونصه: يقوم المواطن ح. ع. ف بإنشاء مسجد شرق حي الشلهوب بمدينة سكاكا الجوف على حسابه جزاه الله خيرا وبموجب شروط ومواصفات ومخططات وترخيص، إلا أنه عندما أراد عمل جورة الامتصاص (بيارة المسجد) طلبت منه البلدية عملها داخل حوش المسجد.
ولعلمنا بأن هذه الجورة (بيارة المسجد) لا يجوز إنشاؤها تحت أرض المسجد من الناحية الشرعية، وقد أفاد المتبرع بأنه يرغب في عمل الحفرة (البيارة) في شارع ضمن ملكهم، والبلدية تطلب إنشاءها داخل حوش المسجد، لذلك نأمل من فضيلتكم التكرم بإفادتنا عن مدى جواز عمل حفرة الامتصاص (البيارة) داخل أرض المسجد من عدمه، مع التفضل بالإحاطة بأنه قد يحدث أحيانا أن تفيض تلك البيارة فجأة مما يترتب عليه عدم طهارة الحوش والمكان الذي تفيض فيه، وفي ذلك أذى للمصلين، فضلا عما ينبعث عنها من روائح(84/74)
كريهة وتؤذيهم أيضا، وقد يستمر ذلك وقتا غير قليل ريثما يتم سحبها، بالإضافة إلى ما تتركه من آثار ومخلفات في الحوش حتى بعد سحبها مما يؤدي إلى عدم طهارة حوش المسجد الذي يمر فيه المصلون إلى داخل المسجد.
وأجابت بما يلي:
إذا كان الأمر كما ذكر فلا يجوز حفر البيارة في داخل المسجد؛ لأنها على المدى البعيد قد تتسرب النجاسة إلى المسجد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(84/75)
من الفتوى رقم 1874
س: إننا منذ سنوات في إحدى الدوائر الرسمية وقد خصص لنا إحدى صالات التوزيع في المبنى الذي نعمل فيه، نصلي فيها جماعة وقت وجودنا بالعمل، ومنذ مدة وضع في الجدار الأمامي اتجاه القبلة عدد من الصور الكبيرة لشخصيات كبيرة، وتحرجنا كثيرا من وجود هذه الصور أمامنا في الصلاة فما رأيكم في نصب الصور في(84/75)
المكان المخصص لصلاة المسلمين منذ زمن، وهل نستمر في الصلاة مع وجودها؟
الجواب: الصلاة صحيحة، ولا حرج عليهم إن شاء الله في ذلك إذا كانوا مضطرين للصلاة في المكان المذكور؛ لعدم وجود مسجد قريب منهم، ولكن يجب عليهم أن يبذلوا وسعهم مع المسئولين لإزالة الصور من هذا المكان، أو إعطائهم مكانا آخر ليس فيه صور؛ لأن الصلاة في المكان الذي فيه الصورة أمام المصلين فيه تشبه بعباد الأصنام، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة دالة على النهي عن التشبه بأعداء الله والأمر بمخالفتهم، مع العلم بأن تعليق الصور ذوات الأرواح في الجدران أمر لا يجوز، بل هو من أسباب الغلو والشرك، ولا سيما إذا كانت من صور المعظمين.
ونسأل الله للجميع التوفيق والهداية.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(84/76)
من الفتوى رقم 1619
س: ما حكم من وضع صورة إنسان أو حيوان في المسجد؟ وهل تجوز الصلاة في ذلك المسجد أم لا؟ وهل تصح الصلاة في الثوب الذي فيه صورة إنسان أو حيوان وهل يصح تزيين حجرة الدراسة أو حجرة النوم بصورة إنسان أو حيوان؟
ج: لا يجوز وضع صورة إنسان أو حيوان في المسجد، ويجب أن تزال من المسجد الذي هي فيه، ومن صلى فيه والصورة فيه فصلاته صحيحة، وعليه أن لا يجعل الصورة أمامه والإثم على من وضعها، ومن يستطيع إزالتها فلم يزلها.
وإذا صلى شخص في ثوب فيه صورة إنسان أو حيوان صحت صلاته مع الإثم، ولا يجوز أن تزين حجرة الدراسة أو حجرة النوم أو غيرهما بصورة إنسان أو حيوان.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(84/77)
من الفتوى رقم 5614
س: المحراب في المسجد هل كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ج: لم يزل المسلمون يعملون المحاريب في المساجد في القرون المفضلة وما بعدها؛ لما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين، ومن ذلك بيان القبلة وإيضاح أن المكان مسجد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(84/78)
من الفتوى رقم 2909
السؤال الأول: يقوم بعض المحسنين ببناء مساجد على نفقتهم الخاصة ويخصصون في جانب من ساحات المسجد أو من أمامه مكانا ليدفن فيه المحسن أو بعض أفراد عائلته؛ ظنا منهم أن ذلك من وسائل القربى إلى الله ويستفتون بعض العلماء فيجيزون لهم الدفن حول المسجد أو من أمامه شريطة أن يكون هناك سور حائل بين المسجد والمقبرة.(84/78)
س: ويعترض بعض الناس على إنشاء المآذن أصلا ويعتبر ذلك مخالفا للسنة وتبذيرا للمال، ويرد عليه فريق آخر بأن المآذن أصبحت معلما يشهر المسجد ويدل عليه في وسط البنايات المزدحمة المرتفعة وهي تحجب الرؤية من بعيد، والمسجد بمئذنته السامقة يشعر الكثيرين بأن المسلمين ما زالوا بخير أمام التحديات الكثيرة التي يواجهونها.
ج: لا يجوز تخصيص موضع من المسجد لدفن من بنى المسجد ولا غيره؛ لورود الأدلة الدالة على أنه لا يجوز بناء المساجد على القبور، والأصل في ذلك ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها «أن أم سلمة ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله (1) » وما رواه أهل السنن الأربع عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات
__________
(1) أخرجه أحمد: 6 \ 51، والبخاري: 1 \ 112، كتاب الصلاة، باب الصلاة في البيعة، ومسلم: 1 \ 375، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، والنسائي: 2 \ 41، كتاب المساجد، باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد.(84/79)
القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج (1) » إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضوع.
ج: لا حرج في إقامة المآذن في المساجد، بل ذلك مستحب؛ لما فيه من تبليغ صوت المؤذن للمدعوين إلى الصلاة، ويدل على ذلك أذان بلال في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - على أسطح بعض البيوت المجاورة لمسجده مع إجماع علماء المسلمين على ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أخرجه أحمد: 1 \ 229، وأبو داود: 2 \ 196، كتاب الجنائز، باب: في زيارة النساء القبور، والترمذي: 2 \ 136، كتاب الصلاة، باب: ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجد، والنسائي: 4 \ 94، كتاب الجنائز، باب: التغليظ في اتخاذ السرج على القبور، وابن ماجه: 1 \ 502، كتاب الجنائز، باب: ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور.(84/80)
من الفتوى رقم 4150
س: الصلاة في مسجد فيه قبر هل تجوز؟ اشرحوا بدقة؛ لأن البعض يستدلون بكون قبره صلى الله عليه وسلم في مسجده النبوي، إذا كان لا تجوز(84/80)
الصلاة فماذا نفعل، فهل لنا إخراج الميت حتى عظامه؟
ج: لا تجوز الصلاة في المساجد التي فيها قبر أو قبور؛ لما ثبت عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك (1) » رواه مسلم، ولما ثبت عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » ويجب على ولي أمر المسلمين أن يهدم ما بني على القبور من المساجد؛ لأنها أسست على غير التقوى، وأن ينبش من دفن في المسجد بعد بنائه، ويخرج جثته من المسجد حتى عظامه ورفاته؛ لاعتدائهم بالدفن فيه، وينقل رفاته إلى المقبرة العامة في
__________
(1) أخرجه مسلم: 1 \ 377، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، والنسائي: 2 \ 33، كتاب المساجد، باب: النهي عن اتخاذ القبور مساجد.
(2) أخرجه أحمد: 1 \ 218، 2 \ 285، 454، 518، 5 \ 204، 6 \ 34، 80، 121، 255، ومالك في الموطأ: 2 \ 892، والبخاري: 1 \ 112، 113، 2 \ 91، 106، 5 \ 139، 140، ومسلم: 1 \ 376، برقم (529 - 531) ، وأبو داود: 3 \ 553 برقم (3227) ، والنسائي: 4 \ 96 برقم (2047) ، وابن أبي شيبة: 2 \ 376، والبيهقي: 6 \ 135، 9 \ 208، وأبو عوانة: 1 \ 399، 400.(84/81)
حفرة خاصة يسوى ظاهرها كسائر القبور، وبعد ذلك لا حرج في الصلاة في المسجد المذكور؛ لزوال المحذور.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(84/82)
من الفتوى رقم 5316
س: ما حكم الإسلام في الصلاة في المسجد الذي فيه بعض القبور؛ لأن بعض الناس يقولون: يجوز؛ يستدلون بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام، ويستدلون بالآية التي في سورة الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (1) هل هذا دليل في بناء المساجد على القبور، وهل تجوز الصلاة فيها؟ إذا قلت له بناء المساجد على القبور، وقلت لهم حديث رسول الله «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » - يقول لك: هذا نزل في حق اليهود، ونحن لسنا مثلهم فهم كانوا يعبدون من فيها، ونحن لا نعبدها ولكن نتبرك بهم. أفتونا في ذلك فإن الأمر فيه اختلاف شديد، وبعض الناس يتعدى مساجد كثيرة ليذهب إلى هذا المسجد
__________
(1) سورة الكهف الآية 21
(2) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد (6/274) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(84/82)
الذي فيه الضريح ليصلي فيه، فما رأيكم في تلك الصلاة؟
ج: يحرم اتخاذ المساجد على القبور؛ لما ثبت في الحديث المتفق على صحته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » .
والنبي صلى الله عليه وسلم دفن خارج المسجد في بيت عائشة رضي الله عنها، فالأصل في مسجد الرسول أنه بني لله تعالى ولم يبن على القبر، وإنما أدخل قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتوسعة، أما قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (2) فقال الإمام ابن كثير في تفسيره: حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين:
أحدهما: أنهم المسلمون منهم.
والثاني: أهل الشرك منهم. فالله أعلم.
والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد يحذر ما فعلوا (3) » ، ففهم من هذا أن الله لم يقرهم عليه، وعلى تقدير تقريره فإن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وما دام ورد شرعنا بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد فلا تجوز الصلاة فيها ولا تصح.
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد (6/274) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) سورة الكهف الآية 21
(3) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(84/83)
أما قولهم: إن هذا في حق اليهود والنصارى، فليس بصحيح؛ لأن الأصل في الأدلة الشرعية أنها عامة، والرسول عليه الصلاة والسلام قال ذلك ليحذرنا أن نعمل مثل عملهم، ويدل على العموم ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (1) » .
وأما ما ذكرته من التبرك بالصالحين الأموات رجاء نفعهم والقرب منهم وشفاعتهم: فهذا لا يجوز، وهو من الشرك الأكبر، قال تعالى عن المشركين أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (2) ، وقال تعالى عنهم في سورة يونس: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (3)
وأما التبرك بالصالحين الأحياء فبدعة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوه فيما بينهم لا مع الخلفاء الراشدين ولا مع غيرهم، ولأنه وسيلة إلى الشرك بهم فوجب تركه، وقد يكون شركا أكبر إذا اعتقد في الصالح أنه ينفع ويضر بتصرفه، وأنه يتصرف في الكون
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(2) سورة الزمر الآية 3
(3) سورة يونس الآية 18(84/84)
ونحو ذلك، وأما ما فعله الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم من التبرك بوضوئه وشعره فهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، لما جعل الله في جسده وشعره وعرقه من البركة، ولا يلحق به غيره.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(84/85)
من الفتوى رقم 6261
السؤال الثالث عشر: هل تصح الصلاة في مسجد به ضريح ميت، والضريح مخالف للقبلة؟
ج: إذا كان القبر قد دفن بعد بناء المسجد وجب إخراج الميت من المسجد ودفنه في المقبرة العامة، وإذا كان المسجد مبنيا على القبر وجب هدم المسجد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(84/85)
من الفتوى رقم 7924
السؤال الثالث: هل ورد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه صلى في المقابر على المقابر؟
ج: أولا: لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة من الصلوات الخمس، ولا نافلة في مقبرة، ولا في مسجد فيه قبر، بل نهى عن ذلك.
ثانيا: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ميت بعدما دفن وكبر عليه أربعا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(84/86)
البحوث(84/87)
صفحة فارغة(84/88)
مرويات صلاة الحاجة
جمع ودراسة
للدكتور عبد العزيز بن عبد الله بن إبراهيم الزير آل حمد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن من أعظم ما يوفق إليه المرء بعد قيامه بأداء ما افترضه الله عز وجل عليه، حرصه على القيام بأداء النوافل والسنن الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتطبيقها في حياته، ونشرها بين عموم المسلمين ليناله خيرها وثوابها والقرب من الله تعالى. قال - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه في فضل التقرب إلى الله بفعل النوافل والطاعات: «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن(84/89)
سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه (1) »
وحينما يحرص المسلم على التزود بالأعمال الصالحة، والتقرب إلى الله بالطاعات الفاضلة، ينبغي عليه أن يتحرى ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيعمله وينشره ويدعو إليه بالتي هي أحسن بادئا بالأهم فالمهم، وما لم يثبت فإن الواجب عليه أن يوضح للمسلمين وجه عدم صحته وثبوته، إظهارا للحق ونصحا للخلق، دونما تنقص لاجتهاد من خالفه ممن سبقه من أهل العلم والفضل والدين.
وإن من السنن التي ذكرها أهل العلم وأشار إليها: (سنة صلاة الحاجة) ؛ لكنهم اختلفوا في عدد ركعاتها وصيغ دعائها، فذهب بعضهم إلى أنها ركعتان، وذهب بعضهم إلى أنها أربع ركعات، وذهب بعضهم الآخر إلى أنها ثنتا عشر ركعة.
وهذا الاختلاف جاء بناء على الأحاديث الواردة في صفتها،
__________
(1) أخرجه البخاري (ح 6137) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(84/90)
مما جعلني أدقق النظر في مرويات صلاة الحاجة، وأتحقق من ثبوتها ومن صحة سندها.
وبعد البحث والجمع والدراسة اتضح - لي - أنه ليس هناك صلاة مخصوصة بدعاء مخصوص للحاجة؛ لكن يشرع المسلم إذا انتابه شيء أو كانت له حاجة أن يكون من جملة ما يستعين به على قضائها هو الاستعانة بالصلاة؛ لقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (1) . كما سيأتي بيان ذلك في القسم الأول من هذا البحث - إن شاء الله تعالى.
__________
(1) سورة البقرة الآية 45(84/91)
أسباب اختيار الموضوع:
وقد حداني إلى الكتابة في مثل هذا الموضوع عدة أسباب، أهمها:
1- التثبت من صحة الأحاديث الواردة في صلاة الحاجة.
2- أن الأسانيد الواردة في صلاة الحاجة ليست صحيحة، بل هي ضعيفة أو شديدة الضعف؛ بل بعضها يصل إلى حد الوضع.
3- أن كثيرا من الحريصين على فعل الطاعات - وفقهم الله - يوردون هذه الأحاديث الواردة في صلاة الحاجة في مواعظهم ومقالاتهم وكتبهم على أن أسانيدها صحيحة(84/91)
ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع أن الصواب خلاف ذلك.
4- حث السلف من أهل الحديث - رحمهم الله - على اتباع الصحاح من الأحاديث والآثار، والابتعاد كل البعد عن رواية الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
5- أنني لم أر أحدا - فيما أعلم - سبقني إلى البحث في مثل هذا الموضوع.
وإذا تبين لك أخي الكريم ضعف هذه الأحاديث، فإنه لا يجوز رواية الحديث الضعيف فضلا عن العمل به، وهذا هو مذهب جمهور المحققين من أهل الحديث، قال الشيخ أحمد شاكر (1) رحمه الله: (والذي أراه أن بيان الضعف في الحديث الضعيف واجب في كل حال؛ لأن ترك البيان يوهم المطلع عليه أنه حديث صحيح ... وأنه لا فرق بين الأحكام وبين فضائل الأعمال ونحوها في عدم الأخذ بالرواية الضعيفة، بل لا حجة لأحد إلا بما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث صحيح أو حسن) والحديث في هذا الباب طويل جدا (2) ومعلوم أن الصلاة هي من جملة العبادات التي مبناها
__________
(1) انظر: شرح ألفية ابن مالك الحديث ص (94) .
(2) للاستزادة انظر كتاب: ''حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال''.(84/92)
على التوقف، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (وعلى هذا فلا ينبغي للإنسان أن يشغل نفسه بشيء لم تثبت مشروعيته ويشتغل بما هو مشروع وواضح، أقول كل الأحاديث الضعيفة في إثبات سنة من السنن لا يجوز العمل بها لأن من شرط العبادات أن تكون مشروعة وإذا كان الحديث ضعيفا لم تثبت المشروعية وعلى هذا فلا يعمل بأي حديث ضعيف في مشروعية شيء من السنن لا في صلاة ولا زكاة ولا حج ولا صوم) (1) .
وفي الختام أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الجهد، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
__________
(1) فتاوى نور على الدرب (1 \ 1610) .(84/93)
القسم الأول: أثر الصلاة في القضاء الحاجات وكشف الكربات:
رأيت من المناسب قبل الحديث عن الروايات الواردة في شأن صلاة الحاجة، أن أضع بين يدي القارئ الكريم توطئة موجزة عن أثر الصلاة في قضاء الحاجات وكشف الكربات؛ لذا أقول:
أخي المسلم: إن للصلاة منزلة عظيمة في دين الإسلام، فهي ثاني أركانه بعد الشهادتين، وهي الفيصل بين إسلام المرء وكفره،(84/93)
وقد وردت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تبين لزومها وعظم مكانتها، وليس ذا مجال ذكرها وسردها.
ولا شك أن من أعظم ما يبين فضلها ومنزلتها أن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بالاستعانة بها في أمور الدنيا، فجعلها سببا في قضاء الحاجات، ودفع الكربات، وجلب الرزق والخيرات، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (1) .
وقد أدرك ذلك المعلم الأول: محمد - صلى الله عليه وسلم -، «فكان إذا حزبه (3) »
وحينما فسر المفسرون - رحمهم الله - قوله تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (4) ذكروا أن جماع الخير في الدنيا والآخرة أن يستعين المرء بالصلاة لتكون سببا في تحصيل مقصوده ودفع همومه وكروبه، واستدلوا على ذلك بفعله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) سورة البقرة الآية 45
(2) أخرجه أبو داود في سننه (ح 1319) ، من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، وقال ابن حجر في الفتح (3 \ 172) : إسناده حسن.
(3) (2) أمر فزع إلى الصلاة
(4) سورة البقرة الآية 45(84/94)
قال ابن كثير (1) (يقول تعالى آمرا عبيده فيما يأملون من خير الدنيا والآخرة بالاستعانة بالصبر والصلاة كما قال مقاتل بن حيان في تفسير هذه الآية: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلاة ... والصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر ... قال حذيفة يعني ابن اليمان رضي الله عنهما: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر صلى (2) » .
وقال الزمخشري (3) {وَاسْتَعِينُوا} (4) على حوائجكم إلى الله {بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (5) أي بالجمع بينهما وأن تصلوا صابرين على تكاليف الصلاة محتملين لمشاقها وما يجب فيها من إخلاص القلب وحفظ النيات ودفع الوساوس ومراعاة الآداب والاحتراس من المكاره مع الخشية والخشوع، واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبار السماوات ليسأل فك الرقاب عن سخطه وعذابه، ومنه قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (6) أي واستعينوا على البلايا والنوائب بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة (7) » ،
__________
(1) تفسير ابن كثير (1 \ 88) .
(2) سنن أبي داود الصلاة (1319) ، مسند أحمد (5/388) .
(3) الكشاف (1 \ 162) .
(4) سورة البقرة الآية 45
(5) سورة البقرة الآية 45
(6) سورة طه الآية 132
(7) سنن أبي داود الصلاة (1319) ، مسند أحمد (5/388) .(84/95)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نعي إليه أخوه قثم رضي الله عنه وهو في سفر، فاسترجع وتنحى عن الطريق، فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (1) (2) .
وقال أبو السعود (3) (استعينوا على حوائجكم ... بالصوم ... والتوسل في الصلاة والالتجاء إليها، فإنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية من الطهارة وستر العورة وصرف المال فيهما والتوجه إلى الكعبة والعكوف على العبادة وإظهار الخشوع بالجوارح وإخلاص النية بالقلب ومجاهدة الشيطان ومناجاة الحق وقراءة القرآن والتكلم بالشهادة وكف النفس عن الأطيبين حتى تجابوا إلى تحصيل المآرب وجبر المصائب، روي أنه عليه السلام «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة (4) » .
ويوضح الإمام الشنقيطي هذا الأمر بشكل أكثر، فيقول (5) (وأما نتيجة الاستعانة بالصلاة فقد أشار لها تعالى في آيات من كتابه
__________
(1) سورة البقرة الآية 45
(2) أخرجه ابن جرير في تفسيره (1 \ 260) ، وقال ابن حجر في الفتح (3 \ 172) : إسناده حسن.
(3) إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (1 \ 98) .
(4) سنن أبي داود الصلاة (1319) ، مسند أحمد (5/388) .
(5) أضواء البيان (1 \ 35) .(84/96)
فذكر أن من نتائج الاستعانة بها النهي عما لا يليق وذلك في قوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (1) وأنها تجلب الرزق وذلك في قوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (2) ولذا «كان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة (3) » .
وقال أيضا (4) - رحمه الله -: (اعلم أن ترتيبه جل وعلا الأمر بالتسبيح والسجود على ضيق صدره - صلى الله عليه وسلم - بسبب ما يقولون له من السوء دليل على أن الصلاة والتسبيح سبب لزوال ذلك المكروه؛ ولذا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (5) .... فينبغي للمسلم إذا أصابه مكروه أن يفزع إلى الله تعالى بأنواع الطاعات من صلاة وغيرها) .
وقال المناوي كلاما نفيسا حول هذا الموضوع، فقال بعد كلام سبق (6) (فإن في الصلاة شفاء من الأمراض القلبية والبدنية، والهموم والغموم قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (7) ، ولهذا «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إليها (8) » ،
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 45
(2) سورة طه الآية 132
(3) سنن أبي داود الصلاة (1319) ، مسند أحمد (5/388) .
(4) المصدر السابق (2 \ 323) .
(5) سورة البقرة الآية 45
(6) فيض القدير (4 \ 527) .
(7) سورة البقرة الآية 45
(8) سنن أبي داود الصلاة (1319) ، مسند أحمد (5/388) .(84/97)
والصلاة مجلبة للرزق، حافظة للصحة، دافعة للأذى مطردة للداء، مقوية للقلب، مفرحة للنفس، مذهبة للكسل، منشطة للجوارح، ممدة للقوى، شارحة للصدر، مغذية للروح، منورة للقلب، مبيضة للوجه، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مبعدة للشيطان، مقربة من الرحمن، وبالجملة فلها تأثير عجيب، في حفظ صحة القلب والبدن وقواهما، ودفع المواد الرديئة عنهما، لا سيما إذا وفيت حقها من التكميل، فما استدفعت أذى الدارين واستجلبت مصالحهما بمثلها، وسرها أنها صلة بين العبد وربه، وبقدر الوصلة يفتح الخير، وتفاض النعم، وتدفع النقم) .(84/98)
القسم الثاني: الأحاديث الواردة في صلاة الحاجة:
رويت صلاة الحاجة عن جمع من الصحابة بألفاظ مختلفة، منهم: عبد الله بن أبي أوفى، وأنس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة، وابن مسعود، وعثمان بن عفان، وأبو الدرداء رضي الله عنهم، وإليك بيان ذلك بالتفصيل والدراسة:
الحديث الأول:
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كانت له إلى الله حاجة أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ فليحسن الوضوء ثم ليصل ركعتين ثم ليثن على الله وليصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم(84/98)
ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم؛ سبحان الله رب العرش العظيم؛ الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين (1) » .
تخريجه:
أخرجه الترمذي - واللفظ له - في سننه كتاب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الحاجة (1 \ 344 ح 479) - ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات (2 \ 460) - وابن ماجه في سننه كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها (1 \ 441 ح 1384) ، والحاكم في المستدرك (1 \ 320) والبيهقي في الشعب (3 \ 175) ، والبزار في مسنده (8 \ 300) وعبد المغني المقدسي في الترغيب في الدعاء (59) كلهم من طريق أبي الورقاء فائد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه مرفوعا.
دراسة إسناده:
هذا الحديث في سنده فائد بن عبد الرحمن الكوفي أبو الورقاء ضعفه جمع من المحدثين واتهمه آخرون، قال أحمد: متروك الحديث. وقال ابن معين: ضعيف ليس بثقة، وليس بشيء. وقال
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (479) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1384) .(84/99)
أبو حاتم: ذاهب الحديث ... وأحاديثه عن ابن أبي أوفى بواطيل لا تكاد ترى لها أصلا؛ كأنه لا يشبه حديث ابن أبي أوفى، ولو أن رجلا حلف أن عامة حديثه كذب لم يحنث. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة. ومرة قال: متروك الحديث، وقال الحاكم: روى عن ابن أبي أوفى أحاديث موضوعة. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وقال الذهبي: تركوه. وقال ابن حجر: متروك اتهموه.
وبناء عليه فقد ضعف سند هذا الحديث جماعة من المحدثين؛ بل عده بعضهم من الأحاديث الموضوعة، ولذا قال الترمذي بعدما أخرجه في سننه: (هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال، فائد بن عبد الرحمن يضعف في الحديث، وفائد هو أبو الورقاء) .
وممن ضعف الحديث أيضا: البزار، وبالغ ابن الجوزي فذكره في الموضوعات؛ لكن تعقبه السخاوي، فقال (1) (وقد توسع ابن الجوزي فذكر هذا الحديث في الموضوعات وفي ذلك نظر ... وفي الجملة هو حديث ضعيف جدا) .
__________
(1) القول البديع (ص 431) .(84/100)
أما قول الحاكم بعدما أخرجه في مستدركه (1) (أخرجته شاهدا، وفائد مستقيم الحديث) فمتعقب بقول أئمة الجرح والتعديل فيه بما ذكرته آنفا؛ ولذا قال الذهبي رحمه الله عقبه: (قلت: بل متروك) .
وعليه فالحديث بهذا الإسناد ضعيف جدا، والله أعلم.
__________
(1) (1 \ 320)(84/101)
الحديث الثاني
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان له إلى الله عز وجل حاجة عاجلة أو آجلة فليقدم بين يدي نجواه صدقة، وليصم الأربعاء والخميس والجمعة، ثم يدخل يوم الجمعة إلى الجامع فليصل اثنتي عشرة ركعة، يقرأ في عشر ركعات في كل ركعة الحمد مرة، وآية الكرسي عشر مرات، ويقرأ في ركعتين في كل ركعة الحمد مرة، وخمسين مرة قل هو الله أحد، ثم يجلس ويسأل الله تعالى حاجته، فليس يرده الله من حاجة عاجلة أو آجلة إلا أمضاها الله له» .
تخريجه:
أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات واللفظ له (2 \ 462) من طريق أبان بن أبي عياش. والديلمي في مسند الفردوس كما في اللآلئ المصنوعة (2 \ 41) من طريق أبي هاشم الأبلي، وفيه:(84/101)
(فليصل ركعتين يقرأ في الأولى ... ) . كلاهما (ابن أبي عياش، والأبلي) عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا.
دراسة إسناده:
هذا الحديث إسناده من كلا الطريقين ضعيف جدا، فأبان بن أبي عياش مع صلاحه إلا أنه كان سيئ الحفظ فترك، قال عمرو بن علي الفلاس، وأحمد، وابن معين، وأبو حاتم: متروك الحديث. قال أبو حاتم: كان رجلا صالحا، ولكنه بلي بسوء الحفظ. وقال ابن عدي عامة ما يرويه لا يتابع عليه وهو بين الأمر في الضعف. وقال ابن حجر: متروك.
أما أبو هاشم هذا: فهو كثير بن عبد الله الأبلي الناجي الوشاء، ضعفه الدارقطني، وقال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث. وزاد أبو حاتم: ضعيف الحديث جدا شبه المتروك. وقال النسائي: متروك الحديث.(84/102)
* وروي بنحوه - أيضا - عن أنس مرفوعا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا علي ألا أعلمك دعاء إذا أصابك ... » الحديث.
أخرجه الأصبهاني في الترغيب والترهيب (2 \ 137) بسنده فقال: أخبرنا أبو الخير بن رزا وأبو العباس الحيراني قالا: ثنا أبو الفرج البرجي ثنا محمد بن عمر بن حفص ثنا إسحاق الفيض ثنا المضاء قال: حدثني عبد العزيز عن أنس مرفوعا. فذكره.
وفيه مجاهيل، والضعف عليه بين، وأورده الشيخ الألباني في ضعيف الترغيب (1 \ 215) وقال: إسناده مظلم، فيه من لا يعرف، وانظره في الضعيفة (ح 5287) .
* وبنحوه - أيضا - عن أنس مرفوعا من دون ذكر الصلاة: (إذا طلبت حاجة.....) .
أخرجه الطبراني في الأوسط (4 \ 237) ، وأيضا في الصغير (1 \ 123) ، وأيضا في الدعاء (2 \ 1284) وقال: حدثنا جبرون بن عيسى المغربي ثنا يحيى بن سليمان الحضري المغربي ثنا عباد بن عبد الصمد أبو معمر عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا. فذكره.(84/103)
ثم قال: لا يروى عن أنس إلا بهذا الإسناد تفرد به يحيى بن سليمان.
قلت: وفي سنده عباد بن عبد الصمد، أبو معمر البصري. قال البخاري:: منكر الحديث. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث جدا منكر الحديث لا أعرف له حديثا صحيحا. وقال ابن عدي: يحدث عن أنس بالمناكير. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا يروي عن أنس ما ليس من حديثه وما أراه سمع منه شيئا فلا يجوز الاحتجاج به فيما وافق الثقات فكيف إذا انفرد بأوابد. وقال الذهبي: بصري واه.
* وروي بلفظ آخر ووجه آخر - أيضا - «عن أنس موقوفا في قصة طويلة: أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار يكنى أبا معلق، وكان تاجرا يتجر بمال له ولغيره، يضرب به في الآفاق وكان ناسكا ورعا، فخرج مرة فلقيه لص مقنع في السلاح، فقال له: ضع ما معك فإني قاتلك. قال: ما تريد إلا دمي! شأنك بالمال. قال: أما المال فلي، ولست أريد إلا دمك، قال: أما إذا أبيت، فذرني أصلي أربع ركعات. قال: صل ما بدا لك، فتوضأ ثم صلى أربع ركعات فكان من دعائه في آخر سجدة أن قال: يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعالا لما(84/104)
يريد أسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني يا مغيث أغثني - ثلاث مرار - قال: دعا بهذا ثلاث مرار، فإذا هو بفارس قد أقبل بيده حربة واضعها بين أذني فرسه، فلما بصر به اللص أقبل نحوه وطعنه فقتله، ثم أقبل إليه، فقال: قم: فقال: من أنت. بأبي وأمي، لقد أغاثني الله بك اليوم.
قال: أنا ملك من السماء الرابعة، دعوت الله بدعائك الأول فسمعت لأبواب السماء قعقعة ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة، ثم دعوت بدعائك الثالث، فقيل لي: دعاء مكروب، فسألت الله تعالى أن يوليني قتله.
قال أنس: فاعلم أنه من توضأ وصلى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء استجيب له مكروب أو غير مكروب» .
أخرجه ابن أبي الدنيا في كتابه مجابو الدعوة (ص 63) وفي الهواتف (ص14) ومن طريقة اللالكائي في (كرامات الأولياء ص 154) عن عيسى بن عبد الله التميمي عن فهير بن زياد الأسدي عن موسى بن وردان عن الكلبي - وليس بصاحب التفسير - عن الحسن عن أنس رضي الله عنه.
والحديث بهذا الإسناد فيه مجاهيل.(84/105)
الحديث الثالث:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: من كانت له إلى الله عز وجل حاجة، فليصم الأربعاء والخميس والجمعة، فإذا كان يوم الجمعة تطهر وراح إلى الجمعة فتصدق؛ قلت أو كثرت، فإذا صلى الجمعة قال: اللهم إني أسألك باسمك؛ بسم الله الرحمن الرحيم الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، وأسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، الذي ملأت عظمته السماوات والأرض، وأسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم الذي لا إله إلا هو الذي عنت له الوجوه وخشعت له الأبصار وذلت له القلوب من خشيته أن تصلي على محمد وعلى آل محمد، وأن تعطيني حاجتي وهي كذا وكذا " فإنه يستجاب له إن شاء الله، وكان يقال: (لا تعلموا هذا الدعاء سفهائكم لا يدعون به على مأثم أو قطيعة رحم) .
تخريجه:
أخرجه عبد الغني المقدسي في الترغيب في الدعاء (102) والأصبهاني في الترغيب والترهيب (2 \ 114) كلاهما من طريق إبراهيم بن سليمان أبو إسماعيل المؤدب عن سعيد بن معروف عن عمرو بن قيس عن أبي الجوزاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص(84/106)
رضي الله عنهما.
دراسة إسناده:
هذا الحديث سنده ضعيف لأن فيه سعيد بن معروف، قال عنه الأزدي: لا تقوم به حجة (1) .
__________
(1) ينظر في ترجمته: ميزان الاعتدال (3 \ 230) ، لسان الميزان (3 \ 43) .(84/107)
الحديث الرابع:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اثنتا عشرة ركعة تصليهن من ليل أو نهار، وتشهد بين كل ركعتين، فإذا تشهدت في آخر صلاتك فأثن على الله عز وجل، وصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - واقرأ وأنت ساجد فاتحة الكتاب سبع مرات، وآية الكرسي سبع مرات، وقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات، ثم قل: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك واسمك الأعظم وجدك الأعلى وكلماتك التامة، ثم سل حاجتك، ثم ارفع رأسك، ثم سلم يمينا وشمالا، ولا تعلموها السفهاء فإنهم يدعون بها فيستجاب» .(84/107)
تخريجه:
أخرجه البيهقي في الدعوات الكبير (2 \ 157 - 392) ، وابن الجوزي في الموضوعات (2 \ 464) كلاهما من طريق عمر بن هارون عن ابن جريج عن داود بن أبي عاصم عن ابن مسعود به.
دراسة إسناده:
هذا الحديث ضعيف الإسناد: ففيه عمر بن هارون البلخي كذبه غير واحد من المحدثين، واتهمه آخرون، وقال أبو نعيم: حدث عن ابن جريج بالمناكير، لا شيء. وقال الذهبي: واه. وقال ابن حجر: متروك، وكان حافظا.
وقال ابن الجوزي بعدما أورده سندا ومتنا في كتابه الموضوعات: هذا حديث موضوع بلا شك.(84/108)
الحديث الخامس:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «من صلى بعد المغرب اثنتي عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، حتى إذا كان آخر ركعة قرأ بين السجدتين بفاتحة الكتاب سبع مرات وبـ (قل هو الله أحد) سبع مرات وبآية الكرسي سبع مرار، ويقول: لا(84/108)
إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير عشر مرات، ثم سجد آخر سجدة له فيقول في سجوده بعد تسبيحه: اللهم إني أسألك بماعقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك العظيم ومجدك الأعلى وكلماتك التامة، ثم يسأل الله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كان عليه من الذنوب عدد رمل عالج وأيام الدنيا لغفر الله» يعني: له. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تعلموها سفهاءكم فيدعون بها لأمر باطل فيستجاب لهم» .
تخريجه:
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (36 \ 471) من طريق الحسن بن يحيى الخشني عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة به.
دراسة إسناده:
هذا الحديث في سنده الحسن بن يحيى الخشني ضعفه غير واحد، قال أبو حاتم صدوق سيئ الحفظ. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الحاكم أبو أحمد: ربما حدث عن مشايخه بما لا يتابع عليه(84/109)
وربما يخطئ في الشيء. وقال عبد الغني بن سعيد: ليس بشيء. وقال الدارقطني: متروك. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا يروي عن الثقات ما لا أصل له وعن المتقنين ما لا يتابع عليه وكان رجلا صالحا يحدث من حفظه، كثير الوهم فيما يرويه حتى فحشت المناكير في أخباره حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها، فلذلك استحق الترك. وقال الذهبي: واه تركه الدارقطني وغيره. وقال ابن حجر: صدوق كثير الغلط.(84/110)
الحديث السادس:
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليعلمه صلاة الحاجة، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي عز وجل في حاجتي هذه لتقضى لي، فاللهم شفعه في» .
تخريجه:
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (64 \ 93) عن أبي زكريا(84/110)
الشيرازي عن أبي الفتح نصر بن إبراهيم عن الفقيه أبي الفتح سليم بن أيوب الرازي عن أبي الحسن أحمد بن فارس بن زكريا عن أبي عبد الله أحمد بن طاهر عن أبي العباس عبد الرحمن بن محمد عن يحيى بن سعيد عن سفيان وشعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: جاء رجل.. الحديث فذكره.
دراسة إسناده:
الحديث بهذا الإسناد ضعيف، للانقطاع بين أبي عبد الرحمن السلمي وعثمان بن عفان رضي الله عنه. قال شعبة: لم يسمع من عثمان. وقال أبو حاتم: روى عنه ولا يذكر له سماعا (1) .
والحديث روي بنحوه من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه - دون ذكر لصلاة الحاجة - فقال: «إن رجلا ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت؛ فهو خير لك. قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه؛ ويدعو بهذا الدعاء: " اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك
__________
(1) ينظر: المراسيل لابن أبي حاتم (106) ، جامع التحصيل (208) ، تحفة التحصيل (171) .(84/111)
محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في (1) » .
هذا حديث رواه أبو جعفر الخطمي، واختلف عنه:
فالوجه الأول: أخرجه الترمذي في جامعه (ح 3578) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة (417) ، وابن ماجه في سننه (ح 1385) ، وأحمد في مسنده (4 \ 138) - ومن طريقه المزي في تهذيب الكمال (19 \ 359) - وابن خزيمة في صحيحه (ح 1219) ، والحاكم في المستدرك (1 \ 313 و519) ، وعبد بن حميد في المنتخب (379) ، والطبراني في الدعاء (2 \ 1289) ، والبخاري في التاريخ الكبير (6 \ 210) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق (6 \ 24) وابن أبي حاتم في العلل (2 \ 495) من طريق عثمان بن عمر.
وأخرجه الإمام أحمد في المسند (4 \ 138) ومن طريقه أبو نعيم في المعرفة (4 \ 1959) عن روح بن عبادة.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (1 \ 519) من طريق محمد بن جعفر.
كلهم: (عثمان بن عمر وروح بن عبادة ومحمد بن جعفر) عن شعبة بن الحجاج عن أبي جعفر الخطمي عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف مرفوعا.
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3578) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .(84/112)
وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (658) وأحمد (4 \ 138) ، والبخاري في تاريخه (6 \ 209) ، وابن أبي خيثمة في تاريخه (كما في التوسل ص 213) من طريق حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي به. زاد ابن أبي خيثمة: " وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك ".
والوجه الثاني: أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (660) ، والبخاري في تاريخه (6 \ 210) من طريق هشام الدستوائي.
وأخرجه الطبراني في الكبير (9 \ 30) ، وفي الصغير (1 \ 306) ، وأيضا في الدعاء (2 \ 1287) ، وأبو نعيم في المعرفة (4 \ 1959) ، والبخاري في تاريخه (6 \ 210) ، وابن أبي حاتم في العلل (2 \ 495) من طريق روح بن القاسم.
كلاهما: (هشام الدستوائي وروح بن القاسم) عن أبي جعفر الخطمي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عثمان بن حنيف.
وفي أوله أن رجلا كان يأتي إلى عثمان بن عفان يريد منه حاجة فلا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي هذا الرجل عثمان بن حنيف رضي الله عنه فأرشده بما أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الرجل الضرير ففعل، ثم ذهب إلى عثمان بن عفان فقضى حاجته.
وأخرجه مختصرا دون ذكر للقصة: الحاكم في المستدرك (1 \ 526 - 527) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (2 \ 706) ،(84/113)
والبيهقي في دلائل النبوة (6 \ 167) كلهم من طريق روح بن القاسم به.
والحديث من كلا الوجهين إسناده صحيح، ورجاله ثقات، وقد صحح الوجه الأول الترمذي وابن خزيمة، ورجحه أبو زرعة الرازي كما في العلل لابن أبي حاتم (2 \ 495) ، ونقل الطبراني في كتابه الدعاء (2 \ 1290) أن هذا أيضا هو اختيار علي بن المديني.
وصححه بالوجه الثاني: الطبراني كما في معجمه الصغير (1 \ 306) ، والبيهقي كما في الدلائل (6 \ 176) ، ورجحه ابن أبي حاتم كما في الموضع السابق.
وصححه من كلا الوجهين الحاكم في مستدركه.
والحديث صححه أيضا الألباني كما في (صحيح الجامع ح 1279 وفي التوسل ص 74) .
أما الزيادة رواها أبي خيثمة في تاريخه من طريق حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف. " وإن كانت حاجة؛ فافعل مثل ذلك ".
فهذه الزيادة لم يروها أحد ممن خرج الحديث من طريق حماد سوى ابن أبي خيثمة ثم إن الأثبات: شعبة بن الحجاج وهشاما الدستوائي قد رويا هذا الحديث عن أبي جعفر الخطمي بدون هذه الزيادة. ولعل هذه الزيادة من أوهام حماد بن سلمة، فحماد وإن(84/114)
كان ثقة في روايته إلا أن الحفاظ ذكروا له أوهاما في روايته وغرائب، قال الإمام الذهبي (1) إمام ثقة، له أو هام. وقال في موضع آخر: إمام صدوق له أوهام وغرائب. وقال في موضع آخر: ثقة صدوق يغلط وليس في قوة مالك.
__________
(1) انظر: الكاشف (1 \ 349) ، ميزان الاعتدال (2 \ 360) ، المغني في الضعفاء (1 \ 189) .(84/115)
الحديث السابع:
عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين يتمهما، أعطاه الله ما سأل معجلا أو مؤخرا» .
تخريجه:
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6 \ 442) عن محمد بن بكر عن ميمون المرائي عن يحيى بن أبي كثير عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبي الدرداء مرفوعا وفيه قصة.
دراسة إسناده:
هذا الحديث في سنده ميمون بن موسى المرائي التميمي، قال عثمان بن سعيد الدارمي: قلت ليحيى بن معين: شيخ يروي عنه البرساني يقال له ميمون أبو محمد تعرفه؟ قال: لا أعرفه.(84/115)
قال ابن عدي: وعثمان بن سعيد يسأل أبدا يحيى بن معين عمن لا يعرف فيجيبه يحيى: إني لا أعرفه. وإذا لم يعرفه يحيى يكون مجهولا.
قال الذهبي: لا يعرف. وذكره في الضعفاء.
وروي عن أبي الدرداء بلفظ آخر قال - صلى الله عليه وسلم -: «من توضأ فأحسن وضوءه ثم قام فصلى ركعتين أو أربعا - شك سهل - يحسن فيهما الذكر والخشوع ثم استغفر الله عز وجل غفر له (1) » .
أخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد 4 \ 531 وعنه الطبراني في الدعاء رقم (1848) . وفي الأوسط رقم (5022) . وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (83 \ 4) وأبو يعلى كما في المطالب العالية (4 \ 350) . والحديث أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (2 \ 278) وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير وإسناده حسن.
قلت: وهذا الحديث الثاني - وإن صح - فليس فيه ما يدل على صلاة الحاجة؛ بل غايته بيان فضل إسباغ الوضوء والصلاة، وهو أمر قد دلت عليه أحاديث كثر ليس ذا موضع بسطها، وعليه فاللفظ الأول للحديث إسناده ضعيف والله أعلم.
__________
(1) مسند أحمد (6/450) .(84/116)
حديث "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله
من المؤمن الضعيف وفي كل خير.... "
دراسة عقدية
للدكتورة سلوى بنت محمد المحمادي
ملخص البحث:
هذا البحث هو شرح لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان (1) » ، وهذا الحديث، وإن سبق شرحه قديما وحديثا، إلا أني لم أقف على من درسه دراسة عقدية تبرز ما فيه من مسائل كثيرة
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .(84/117)
تتعلق بأساس الدين وأصله، إذ فيه من المسائل العقدية الشيء الكثير؛ إذ فيه من المسائل المتعلقة بألوهية الله وربوبيته وأسمائه وصفاته، ونحو ذلك ما يؤكد الحاجة الضرورية لدراسته.
ولهذا كتبت فيه هذا البحث الذي بدأته بمقدمة ذكرت فيها أهمية وسبب اختياره، ثم كتبت تمهيدا ضمنته ذكر الحديث برواياته، ثم شرحه شرحا إجماليا مع بيان مكانته وما قاله العلماء فيه، ثم قسمت البحث إلى ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير (1) » .
المبحث الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله (2) » .
المبحث الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا (3) » .
ثم ختمته بخاتمة ذكرت فيها أهم نتائجه، ثم وضعت فهرسا لأهم المصادر والمراجع.
أسأل الله الحليم رب العرش العظيم إخلاص النية، وصلاح العمل، وصلى الله على نبينا محمد بن عبد الله وآله وسلم.
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(2) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(3) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .(84/118)
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله العلي العظيم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأصلي وأسلم على نبي الرحمة والهدى محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أما بعد:
فهذا الحديث فيه الأمر بفعل الأسباب والاستعانة بالله، وفيه التسليم لأمر الله والرضا بقدر الله سبحانه وتعالى.
ومما يدل على أهميته أن فيه وصايا أوصى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابته رضي الله عنهم، وهي وإن كانت موجهة للصحابة في ذلك الحين إلا أنها وصايا للأمة جمعاء، وإرشاد نبوي لكل من أراد النجاة في الدنيا والآخرة.
وقد اعتنى العلماء بهذا الحديث، قديما وحديثا، شرحا وتفصيلا، فتتبعت ما كتب فيه فرأيت أنه بحاجة إلى دراسة عقدية تظهر ما فيه من مسائل عظيمة تتعلق بأشرف العلوم وأجلها قدرا، وأوجبها مطلبا، وهو علم التوحيد؛ لأنه مفتاح الطريق إلى الله عز وجل، وأساس الشرائع، قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1)
__________
(1) سورة النحل الآية 36(84/119)
فإن كثيرا ممن كتب في شرح هذا الحديث اعتنى ببسط مسائله المختلفة، إلا أن التركيز على مسائله العقدية من أهم المهمات، فرأيت أن الحديث بحاجة إلى دراسة عقدية تبرز ما فيه من مسائل.
وقد بدأت البحث بمقدمة ذكرت فيها أهمية وسبب الكتابة في هذا الموضوع، ثم تمهيدا ذكرت فيه الحديث ومكانته وشرحه إجمالا.
بعد ذلك قسمت البحث إلى ثلاثة مباحث، كل فقرة في الحديث جعلتها في مبحث مستقل.
ثم ختمت هذه الدراسة بخاتمة كتبت فيها أهم ما توصلت إليه إجمالا.(84/120)
التمهيد:
* متن الحديث:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن "لو"(84/120)
تفتح عمل الشيطان (1) »
وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان (2) »
وفي رواية: عن أبي هريرة، يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، ولا تعجز، فإن غلبك أمر، فقل: قدر الله وما شاء فعل، وإياك واللو، فإن اللو تفتح عمل الشيطان (3) »
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب القدر (46) ، باب (8) في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله (4 \ 2052) .
(2) رواه ابن ماجه في سننه، المقدمة، باب (10) ، ح (79) (1 \ 31) ، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب آداب القاضي، باب فضل المؤمن القوي الذي يقوم بأمر الناس، ويصبر على أذاهم (10 \ 89) .
(3) رواه ابن ماجه في سننه، كتاب (37) الزهد، باب (14) التوكل واليقين، ح (4168) (2 \ 1395) ، والإمام أحمد في المسند (2 \ 366، 370) .(84/121)
مكانة الحديث:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا حديث عظيم - وكل أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عظيمة وشريفة -، فهو خبر نبوي عظيم بالخيرية للمؤمن القوي، وأوامر نبوية كريمة عظيمة الشأن بالحرص على كل ما ينفع الإنسان في دنياه وآخرته، والاستعانة بالله عز وجل، وعدم العجز.
وشمل الحديث أيضا توجيها نبويا كريما بصدق التوكل على الله عز وجل مع الأخذ بالأسباب وتفويض المقادير لله، والابتعاد عما يفتح على الإنسان عمل الشيطان.
وقد اشتمل هذا الحديث على مسائل عقدية تعد أصولا عظيمة من أصول الإيمان:
أحدها: أن الله سبحانه موصوف بالمحبة، وأنه يحب حقيقة.
الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها، فهو القوي، ويحب المؤمن القوي، وهو وتر يحب الوتر، وجميل يحب الجمال، وعليم يحب العلم، ونظيف يحب النظافة، ومؤمن يحب المؤمنين، ومحسن يحب المحسنين، وصابر يحب الصابرين، وشاكر يحب الشاكرين.
ومنها أن محبته للمؤمنين تتفاضل فيحب بعضهم أكثر من بعض.(84/122)
الثالث: إخلاص العبادة لله وحده، والتوكل عليه والاستعانة به، والإيمان بالقضاء والقدر.
ومما يدل على مكانته: اختيار الإمام النووي - له ليكون ضمن كتابه القيم " رياض الصالحين " ووضعه في باب المجاهدة وكان رقمه السادس في الباب والمائة من جملة الأحاديث التي بلغت (1896) حديثا، وقد قال في مقدمتها:
" فرأيت أن أجمع مختصرا من الأحاديث الصحيحة، مشتملا على ما يكون طريقا لصاحبه إلى الآخرة، ومحصلا لآدابه الباطنة والظاهرة، جامعا للترغيب والترهيب، وسائر أنواع آداب السالكين، من أحاديث الزهد، ورياضات النفوس، وتهذيب الأخلاق، وطهارات القلوب وعلاجها، وصيانة الجوارح وإزالة اعوجاجها، وغير ذلك من مقاصد العارفين " (1) .
__________
(1) رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، أبي زكريا بن شرف النووي، دار الكتاب الإسلامي، ص (3) .(84/123)
ويقول الإمام ابن القيم - عن أهمية هذا الحديث:
"إنه مما لا يستغني عنه العبد أبدا، بل هو أشد شيء إليه ضرورة وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام والعبودية ظاهرا وباطنا في حصول المطلوب وعدمه، وبالله التوفيق" (1) .
ويقول - أيضا -: " عن قوله عليه الصلاة والسلام: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجز (2) » فالدين كله ظاهره وباطنه، شرائعه وحقائقه، تحت هذه الكلمات النبوية، والله أعلم " (3) .
* شرح الحديث إجمالا:
قوله: «المؤمن القوي (4) » هو من يقوم بالأوامر، ويترك النواهي بقوة ونشاط، ويصبر على مخالطة الناس ودعوتهم، ويصبر على أذاهم. أي: القوي في إيمانه، وليس المراد القوي في بدنه؛ لأن قوة البدن ضرر على الإنسان إذا استعمل هذه القوة في معصية الله.
فقوة البدن ليست محمودة ولا مذمومة في ذاتها، إذا كان الإنسان استعمل هذه القوة فيما ينفع في الدنيا والآخرة صارت
__________
(1) شفاء العليل (1 \ 59) .
(2) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(3) مدارج السالكين، تحقيق: محمد حامد الفقي (3 \ 501) .
(4) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .(84/124)
محمودة، وإن استعان بهذه القوة على معصية الله صارت مذمومة ".
يقول الشيخ العثيمين -: " لكن القوة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن القوي (1) » أي: قوي في الإيمان، ولأن كلمة القوي تعود إلى الوصف السابق وهو الإيمان، كما تقول: الرجل القوي، أي: في رجولته، كذلك المؤمن القوي في إيمانه؛ لأن المؤمن القوي في إيمانه تحمله قوة إيمانه على أن يقوم بما أوجب الله عليه، وعلى أن يزيد من النوافل ما شاء الله، والضعيف الإيمان يكون إيمانه ضعيفا لا يحمله على فعل الواجبات وترك المحرمات فيقصر كثيرا " (2) .
وقوله: " خير " يعني خير من المؤمن الضعيف، وأحب إلى الله.
ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «وفي كل خير (3) » يعني المؤمن القوي، والمؤمن الضعيف كل منهما فيه خير.
وإنما قال: «وفي كل خير (4) » لئلا يتوهم أحد من الناس أن
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(2) شرح رياض الصالحين (1 \ 459) .
(3) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(4) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .(84/125)
المؤمن الضعيف لا خير فيه، بل المؤمن الضعيف فيه خير، فهو خير من الكافر لا شك.
وهذا الأسلوب يسميه البلاغيون: الاحتراس، وهو أن يتكلم الإنسان كلاما يوهم معنى لا يقصده، فيأتي بجملة تبين أنه يقصد المعنى المعين (1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز (2) » أي: احرص على طاعة الله تعالى، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة.
ومعنى «احرص على ما ينفعك (3) » ، " أي: اهتم بما ينفعك اهتمام الحريص الذي يحتاط كثيرا في الأمور " (4) .
وهذه الكلمة جامعة عامة: «على ما ينفعك (5) » أي: على كل
__________
(1) شرح رياض الصالحين (1 \ 459) .
(2) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(3) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(4) منهج الواردين شرح رياض الصالحين، د صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت (1 \ 112) .
(5) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .(84/126)
شيء ينفعك سواء في الدين أو في الدنيا، فإذا تعارضت منفعة الدين ومنفعة الدنيا، فإنها تقدم منفعة الدين؛ لأن الدين إذا صلح صلحت الدنيا، أما الدنيا إذا صلحت مع فساد الدين فإنها تفسد.
فقوله: «على ما ينفعك (1) » يشمل منافع الدين والدنيا، وعند التعارض تقدم مصلحة الدين.
وفي قوله: «احرص على ما ينفعك (2) » إشارة إلى أنه إذا تعارض منفعتان إحداهما أعلى من الأخرى فإننا نقدم المنفعة العليا، لأن المنفعة العليا فيها المنفعة التي دونها وزيادة، وبالعكس إذا كان الإنسان لا بد أن يرتكب منهيا عنه من أمرين منهي عنهما وكان أحدهما أشد؛ فإنه يرتكب الأخف، فالمناهي يقدم الأخف منها، والأوامر يقدم الأعلى منها (3) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «واستعن بالله (4) » أي: توكل عليه والجأ إليه، ولا تنس الاستعانة بالله ولو على الشيء اليسير.
يقول الشيخ العثيمين: " ما أروع هذه الكلمة بعد قوله: «احرص على ما ينفعك (5) » ؛ لأن الإنسان إذا كان عاقلا ذكيا فإنه يتتبع المنافع
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(2) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(3) شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (1 \ 460 - 461) .
(4) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(5) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .(84/127)
ويأخذ بالأنفع، وربما تغره نفسه حتى يعتمد على نفسه وينسى الاستعانة بالله، وهذا يقع لكثير من الناس، حيث يعجب بنفسه ولا يذكر الله عز وجل ويستعين به، فإذا رأى من نفسه قوة على الأعمال وحرصا على النافع وفعلا له، أعجب بنفسه ونسي الاستعانة بالله " (1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «واستعن بالله (2) » دلالة على أن يستعان بالله دون غيره، وأن لا يعتمد على مخلوق، فالاستعانة هي طلب العون، ولا يطلب العون من أي إنسان " إلا للضرورة القصوى، ومع ذلك إذا اضطررت إلى الاستعانة بالمخلوق فاجعل ذلك وسيلة وسببا، لا ركنا تعتمد عليه " (3) .
يقول ابن رجب: " وأما الاستعانة بالله عز وجل دون غيره من الخلق، فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصلحة، ودفع مضرة، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل فمن أعانه الله فهو المعان....، فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات " (4) .
__________
(1) المصدر السابق.
(2) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(3) المصدر السابق (2 \ 425، 453) .
(4) جامع العلوم والحكم، ص (168) .(84/128)
وقوله: " لا تعجز " - بكسر الجيم وهو الأفصح - أي لا تفرط في طلب ذلك ولا تضعف عن القيام به، ولا تكسل وتتأخر في العمل إذا شرعت فيه، بل استمر؛ لأنك إذا تركت ثم شرعت في عمل آخر، ثم تركت ثم شرعت ثم تركت ما تم لك عمل.
وكان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبدأ بالأهم الذي تحرك من أجله (1) .
وقوله: «فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا (2) » .
يعني: بعد أن تحرص وتبذل الجهد وتستعين بالله وتستمر، ثم يخرج الأمر على خلاف ما تريد فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا؛ لأن هذا أمر فوق إرادتك. أنت فعلت الذي تؤمر به، ولكن الله عز وجل غالب على أمره {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (3) .
فالإنسان إذا بذل ما يستطيع بذله، وأخلفت الأمور فحينئذ يفوض الأمر إلى الله؛ لأنه فعل ما يقدر عليه، ولهذا قال: " وإن أصابك شيء " يعني: بعد بذل الجهد والاستعانة بالله عز وجل، " فلا تقل
__________
(1) جامع العلوم والحكم، ص (168) ، ومنهل الواردين، د صبحي الصالح (1 \ 112) .
(2) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(3) سورة يوسف الآية 21(84/129)
لو أني فعلت لكان كذا وكذا ".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -: " فأمره بالحرص على ما ينفعه، والاستعانة بالله ونهانا عن العجز الذي هو الاتكال على القدر، ثم أمره إذا أصابه شيء أن لا ييأس على ما فاته، بل ينظر إلى القدر ويسلم الأمر إلى الله، فإنه هنا لا يقدر على غير ذلك كما قال بعض العقلاء:
الأمور أمران: أمر فيه حيلة، وأمر لا حيلة فيه.
فما فيه حيلة لا تعجز عنه، وما لا حيلة فيه لا يجزع منه " (1) .
وجزى الله عنا نبينا خير الجزاء، فقد بين لنا الحكمة من ذلك، حيث قال: «فإن لو تفتح عمل الشيطان (2) » ، أي: تفتح عليك الوساوس والأحزان والندم والهموم، حتى تقول: لو أني فعلت لكان كذا، فلا تفعل هكذا، والأمر انتهى ولا يمكن أن يتغير عما وقع، وهذا أمر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ".
ولهذا قال: «ولكن قل: قدر الله (3) » ، أي: هذا قدر الله أي تقدير
__________
(1) مجموع الفتاوى (8 \ 285، 320) .
(2) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(3) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .(84/130)
الله وقضاؤه، وما شاء الله عز وجل فعله {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (1) ، لا أحد يمنعه في ملكه ما يشاء، ما شاء فعل عز وجل ... .
فأنت إذا بذلت الجهد واستعنت بالله، وصار الأمر على خلاف ما تريد لا تندم، ولا تقل: لو أني فعلت لكان كذا، إذا قلت هذا انفتح عليك من الوساوس والندم والأحزان ما يكدر عليك الصفو، فقد انتهى الأمر وراح، وعليك أن تسلم الأمر للجبار عز وجل قل قدر الله وما شاء فعل (2) .
وقوله: «فإن لو تفتح عمل الشيطان (3) » : (لو) اسم إن قصد لفظها؛ أي: فإن هذا اللفظ يفتح عمل الشيطان.
وعمله: ما يلقيه في قلب الإنسان من الحسرة والندم والحزن؛ فإن الشيطان يحب ذلك، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (4) .
فإذا رضي الإنسان بالله ربا، وقال: هذا قضاء الله وقدره، وأنه لا بد أن يقع اطمأنت نفسه وانشرح صدره.
__________
(1) سورة هود الآية 107
(2) شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (1 \ 463 - 464) .
(3) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(4) سورة المجادلة الآية 10(84/131)
يقول الشيخ ابن عثيمين - " والله لو أننا سرنا على هدى هذا الحديث لاسترحنا كثيرا " (1) .
__________
(1) شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (1 \ 463 - 464) .(84/132)
المبحث الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ... (1) »
استهل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث بقوله: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير (2) » .
فمن هو المؤمن؟
المؤمن: هو الذي يؤمن بوجود الله عز وجل، وبربوبيته وبأسمائه وصفاته وبأحكامه وأخباره، وكل ما يأتي من قبله عز وجل راجيا ثواب الله، خاشيا عقابه (3) .
وهل جميع الناس سواء في الإيمان؟
لا. فالناس تتفاضل في الإيمان، فإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث بأن المؤمن القوي، فالمراد القوي في إيمانه وليس في بدنه؛ لأنه لو كان يقصد قوة البدن لم يقل - صلى الله عليه وسلم - المؤمن ولقال: جسد المؤمن أو جسم المؤمن.
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(2) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(3) شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (1 \ 396) ، ولسان العرب لابن منظور (13 \ 24) .(84/132)
قال الشيخ العثيمين: وهل يدخل في ذلك قوة البدن؟
الجواب: لا يدخل في ذلك قوة البدن إلا إذا كان في قوة بدنه ما يزيد على إيمانه أو يزيد ما يقتضيه؛ لأن " القوي " وصف عائد على موصوف وهو المؤمن؛ فالمراد: القوي في إيمانه أو ما يقتضيه، ولا شك أن قوة البدن نعمة، إن استعملت في الخير فخير، وإن استعملت في الشر فشر " (1) .
فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: المؤمن القوي - المؤمن الضعيف، لدليل قوي على أن من الناس من يكون إيمانه قويا لا يزعزعه شيء، وهناك من يكون إيمانه ضعيفا.
فالخيرية قائمة بين المؤمنين في صفة الإيمان، فمن كان إيمانه قويا فهو خير وأحب إلى الله عز وجل من المؤمن الضعيف الذي لا يقوم بواجباته على أكمل وجه، وإنما هو مقصر كثيرا.
ولئلا يتوهم أحد من الناس أن المؤمن الضعيف لا خيرية فيه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وفي كل خير " فالمؤمن الضعيف خير من الكافر لا شك في ذلك.
__________
(1) القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين (2 \ 366) .(84/133)
فإن قيل: إن الخيرية معلومة في قوله: " خير وأحب " لأن الأصل في اسم التفضيل اتفاق المفضل والمفضل عليه في أصل الوصف؟
فالجواب: أنه قد يخرج عن الأصل، كما في قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} (1) ، مع أن أهل النار لا خير في مستقرهم. كذلك الإنسان إذا سمع هذه الجملة: " خير وأحب " صار في نفسه انتقاص للمؤمن المفضل عليه، فإذا قيل: " وفي كل خير " رفع من شأنه ونظيره (2) قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (3) .
ومما يؤخذ من هذا الجزء من الحديث أمران:
الأمر الأول: إثبات زيادة الإيمان ونقصانه
أخذا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن القوي" في مقابلة " المؤمن الضعيف " فدل على أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا المجمع عليه عند أهل السنة والجماعة وهو المأثور عن الصحابة والتابعين وأتباعهم إلى عصرنا هذا، وأقوالهم منثورة في الآفاق، فلم يخل عصر ولا
__________
(1) سورة الفرقان الآية 24
(2) القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين (2 \ 367) .
(3) سورة الحديد الآية 10(84/134)
مصر من قائم بدين الله من أهل السنة والجماعة مبينا لهذا الأصل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -: " وأجمع السلف أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص " (1) .
وقال الأصبهاني -: " والإيمان قول وعمل ونية، يزيد وينقص، زيادته البر والتقوى، ونقصانه الفسوق والفجور ".
وقد بدع الأوزاعي - من زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص
__________
(1) مجموع الفتاوى (7 \ 672) .(84/135)
فقال: " الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فمن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص فهو صاحب بدعة ".
وقد احتج من قال إن الإيمان يزيد ولا يتقص بقوله: إن النقص لم يرد في القرآن الكريم بل كل ما ورد فيه زيادة.
قال تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} (1) ، وقال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (2) .
نقول له وبالله التوفيق:
1- " بثبوت هذه الآيات يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة " (3) .
2- من لازم ثبوت الزيادة ثبوت النقص عن الزائد، وعلى هذا يكون القرآن دالا على ثبوت نقص الإيمان بطريق اللزوم، كما أن السنة جاءت به صريحة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما رأيت من ناقصات عقل
__________
(1) سورة المدثر الآية 31
(2) سورة الفتح الآية 4
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، دار الفكر (1 \ 47) .(84/136)
ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن (1) » يعني: النساء.
والإيمان يزيد بالكمية والكيفية؛ فزيادة الأعمال الظاهرة زيادة كمية، وزيادة الأعمال الباطنة كاليقين زيادة كيفية (2) ؛ ولهذا قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (3) .
المخالفون في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه:
1) الوعيدية: - من الخوارج والمعتزلة - لا يقرون بزيادة
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، باب نقصان الإيمان (1 \ 86) عن ابن عمر رضي الله عنه. وأخرجه البخاري، كتاب (6) الحيض، باب (6) ترك الحائض الصوم، فتح الباري (1 \ 405) ح (304) .
(2) القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين (2 \ 737) .
(3) سورة البقرة الآية 260(84/137)
الإيمان ونقصانه، وأنه مراتب ودرجات، فالإيمان عندهم إذا ذهب بعضه ذهب كله.
أما تجويزهم زيادته فمن جهة اختلاف الناس في وجوب التكاليف في وقت وحال دون الأخرى.(84/138)
2) المرجئة القائلون بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واعتبروا زيادته في الآيات والأحاديث تجدد أمثاله.
الأمر الثاني: إثبات صفة المحبة لله تعالى:
أخذا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وأحب إلى الله " فهنا أثبت - صلى الله عليه وسلم - لله عز وجل محبة حقيقية تليق بجلاله تعالى، كما يقال ذلك في سائر الصفات.
والمحبة من صفات الله عز وجل الثابتة له بالكتاب والسنة وإجماع السلف، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (1) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 54(84/139)
وأجمع السلف على ثبوت المحبة لله تعالى يحب ويحب، فيجب إثبات ذلك حقيقة من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل (1) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -: " إن للناس في هذا الأصل العظيم ثلاثة أقوال: أحدها: أن الله تعالى يحب ويحب كما قال
__________
(1) التمثيل: هو إثبات الصفات لله ممثلا له بخلقه، المصدرين السابقين.(84/140)
تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (1) .
فهو المستحق أن يكون له كمال المحبة دون ما سواه، وهو سبحانه يحب ما أمر به، ويحب عباده المؤمنين، وهذا قول سلف الأمة وأئمتها، وهذا قول أئمة شيوخ المعرفة.
القول الثاني: أنه يستحق أن يحب لكنه لا يحب إلا بمعنى أنه يريد، وهذا قول كثير من المتكلمين ومن وافقهم من الصوفية.
القول الثالث: أنه لا يحب، ولا يحب، وإنما محبة العباد له إرادتهم طاعته، وهذا قول الجهمية ومن وافقهم من متأخري أهل
__________
(1) سورة المائدة الآية 54(84/141)
الكلام والرازي.
وقد يحاولون إيجاد مسوغ لهذا التصرف حيث يزعمون: أن المحبة لا تكون إلا بين متناسبين.
وبهذه الشبهة الفاسدة ردوا صفة من صفات الله تعالى الثابتة له وتوجب للمحب يدرك محبوبه فرحا ولذة وسرورا إلى آخر ما هنالك من الثرثرة العقيمة التي نعرفها لأهل الكلام.
والجواب عن هذه الشبهة الواهية: أن ما ذكروه من لوازم (محبة) المخلوق التي تعرف حقيقتها وحقيقة صاحبها، لا تلزم(84/142)
(محبة) الله الذي ليس كمثله شيء، الذي لا نحيط به علما ذاتا وصفة سبحانه ما أحلمه؟ ! يسمع خوض الخائضين وحذلقة المتحذلقين ثم يمهلهم، ولا يعاجلهم لعلهم يتوبون.
وأما الرد على قولهم: إن المحبة لا تكون إلا بين متناسبين، فنقول:
" المناسبة " لفظ مجمل فإنه قد يراد بها التولد والقرابة فيقال: هذا نسيب فلان ويناسبه، إذا كان بينهم قرابة مستندة إلى الولادة والآدمية، والله سبحانه وتعالى منزه من ذلك، ويراد بها المماثلة فيقال: هذا يناسب هذا أي مماثله، والله سبحانه أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، ويراد بها الموافقة في معنى من المعاني، وضدها المخالفة.
والمناسبة بهذا الاعتبار ثابتة، فإن أولياء الله تعالى يوافقونه فيما يأمر به فيفعلونه وفيما يحبه فيحبونه، وفيما نهى عنه فيتركونه، وفيما يعطيه فيصيبونه، والله وتر يحب الوتر، جميل يحب الجمال، عليم يحب العلم، نظيف يحب النظافة، محسن يحب المحسنين، مقسط(84/143)
يحب المقسطين، إلى غير ذلك من المعاني، بل هو سبحانه يفرح بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض الهالكة إذا وجدها بعد اليأس، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته كما ثبت ذلك في الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أريد بالمناسبة هذا وأمثاله فهذه المناسبة حق وهي من صفات الكمال، فإن من يحب صفات الكمال أكمل ممن لا فرق عنده بين صفات النقص والكمال، وإذا قدر موجودان أحدهما يحب العلم والصدق والعدل والإحسان ونحو ذلك، والآخر لا فرق عنده بين هذه الأمور وبين الجهل والكذب والظلم ونحو ذلك لا يحب هذا ولا يبغض هذا، كان الذي يحب تلك الأمور أكمل من هذا ".(84/144)
المبحث الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم - «احرص على ما ينفعك واستعن بالله (1) » :
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «احرص على ما ينفعك (2) » هذه الكلمة الجامعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - يجب على الإنسان أن يجعلها نبراسا له في عمله الديني والدنيوي.
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(2) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .(84/144)
فالحرص: يعني بذل الجهد لنيل ما ينفع من أمر الدين أو الدنيا.
وأفعال العباد بحسب السبر والتقسيم لا تخلو من أربع حالات:
1- نافعة، وهذه مأمور بها.
2- ضارة، وهذه محذر منها.
3- فيها نفع وضرر.
4- لا نفع فيها ولا ضرر، وهذه لا يتعلق بها أمر ولا نهي، لكن الغالب أن لا تقع إلا وسيلة إلى ما فيه أمر أو نهي، فتأخذ حكم الغاية، لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.
فالأمر لا يخلو من نفع أو ضرر؛ إما لذاته أو لغيره، فحديثنا العام قد لا يكون فيه نفع ولا ضرر، لكن قد يتكلم الإنسان، ويتحدث لأجل إدخال السرور على غيره فيكون نفعا ولا يمكن أن نجد شيئا من الأمر والحوادث ليس فيها نفع ولا ضرر، إما ذاتي، أو عارض، إنما ذكرناه لأجل تمام السبر والتقسيم.
والعاقل يشح بوقته أن يصرفه فيما لا نفع فيه ولا ضرر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو(84/145)
ليصمت (1) »
وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «احرص على ما ينفعك (2) » دليل على وجوب الابتعاد عن الضار؛ لأن الابتعاد عنه انتفاع وسلامة (3) .
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «واستعن بالله (4) » الواو تقتضي الجمع، فتكون الاستعانة مقرونة بالحرص، والحرص سابق على الفعل؛ فلا بد أن تكون الاستعانة مقارنة للفعل من أوله (5) .
وهي بمعنى: اطلب من الله المعونة على العبادة وجميع أمورك، كأن تقول عند شروعك بالعمل: اللهم أعني، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، أو بلسان الحال وهي أن تشعر قلبك أنك محتاج إلى الله سبحانه وتعالى أن يعينك على هذا العمل، أو طلب العون بها جميعا، والغالب أن من استعان بلسان المقال فقد استعان بلسان الحال.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب (1) الإيمان، باب (19) الحث على إكرام الجار (1 \ 68) ، وأخرجه البخاري في كتاب (78) الأدب، باب (84) حق الضيف (فتح الباري 10 \ 531) .
(2) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(3) القول المفيد على كتاب التوحيد (2 \ 367 - 368) .
(4) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(5) المصدر السابق.(84/146)
والاستعانة لغة:
مصدر استعان وهو من العون بمعنى المعاونة والمظاهرة على الشيء، يقال: فلان عوني أي معيني وقد أعنته، والاستعانة طلب العون، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (1) .
والعون: الظهير على الأمر، الواحد والاثنان والجمع والمؤنث فيه سواء. وقد حكي في تكسيره أعوان، والعرب تقول: إذا جاءت السنة جاء معها أعوانها، يعنون بالسنة: الجدب. وبالأعوان: الجراد والذئاب والأمراض، وتقول: أعنته إعانة واستعنته واستعنت به فأعانني وتعاونوا على واعتونوا: أعان بعضهم بعضا، وتعاونا: أعان بعضنا بعضا، والمعونة: الإعانة، ورجل معوان حسن المعونة، وكثير المعونة للناس وكل شيء أعانك فهو عون لك كالصوم عون على العبادة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 45(84/147)
والاستعانة اصطلاحا:
عرفها ابن تيمية - بقوله: " الاستعانة: طلب العون من الله والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه " (1) .
وعرفها الإمام محمد بن عبد الوهاب بقوله: " سؤال الله الإعانة وهو التوكل والتبري من الحول والقوة " (2) .
وجاء في تفسير السعدي أن الاستعانة هي: " الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع، ودفع المضار مع الثقة به في تحصيل ذلك ".
ويؤكد هذا التعريف قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) .
هذه الآية العظيمة التي يتلوها المسلم في كل ركعة من ركعات صلواته، وهي آية من سورة الفاتحة التي هي " أعظم السور في القرآن ".
__________
(1) مجموع الفتاوى (1 \ 103) .
(2) تفسير الفاتحة، محمد بن عبد الوهاب، مكتبة الحرمين، الرياض، ط3، 1409 هـ ص (52) .
(3) سورة الفاتحة الآية 5(84/148)
ومعنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) أي: نخصك وحدك يا إلهنا بالعبادة والاستعانة، وذلك لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، فإنه يقول: نعبدك ولا نعبد غيرك، ونستعين بك، ولا نستعين بغيرك، أي نوحدك ونطيعك خاضعين، ونطلب منك وحدك المعونة على عبادتك وعلى جميع أمورنا.
" والقيام بعبادة الله تعالى والاستعانة به هما الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور فلا سبيل إلى النجاة إلا القيام بهما، وإنما تكون العبادة عبادة إذا كانت مأخوذة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقصودا بها وجه الله، فبهذين الأمرين تكون عبادة، وذكر الاستعانة
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5(84/149)
بعد العبادة مع دخولها فيها، لاحتياج العبد في جميع عبادته إلى الاستعانة بالله تعالى، فإنه إن لم يعنه الله لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر واجتناب النواهي " (1) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -:
" من ظن أنه يطيع الله بلا معونة، كما يزعم القدرية
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير الكريم المنان (1 \ 15) .(84/150)
والمجوسية فقد جحد قدرة الله التامة ومشيئته النافذة، وخلقه لكل شيء، ومن ظن أنه إذا أعين على ما يريد، ويسر له ذلك كان محمودا سواء وافق الأمر الشرعي أو خالفه، فقد جحد دين الله وكذب بكتبه ورسله ووعده ووعيده، واستحق من غضبه وعقابه أعظم مما يستحق الأول " (1) .
فعلى العبد في حال فعله السبب: " أن يستعين بالله وحده دون كل ما سواه، ليتم له سببه وينفعه، فيكون اعتماده على الله تعالى في
__________
(1) مجموع الفتاوى (8 \ 74) .(84/151)
ذلك؛ لأنه تعالى هو الذي خلق السبب والمسبب، ولا ينفعه سبب إلا إذا نفعه الله به، فيكون اعتماده في فعل السبب على الله تعالى، ففعل السبب سنة، والتوكل على الله توحيد، فإذا جمع بينهما؛ تم له مراده بإذن الله ".
والاستعانة تجمع أصلين:
1- الثقة بالله.
2- الاعتماد عليه (1) .
وقد سوى ابن القيم بين التوكل والاستعانة وقال في تعريفهما: " التوكل والاستعانة، حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله تعالى، والإيمان بتفرده بالخلق، والتدبير والضرر والنفع، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه الناس فيوجب له هذا اعتمادا عليه (واستعانة به) وتفويضا إليه، وطمأنينة به، وثقة به، ويقينا بكتابته لما توكل عليه فيه واستعان به عليه، وأنه ملي به، ولا
__________
(1) مدارج السالكين لابن القيم (1 \ 75) .(84/152)
يكون إلا بمشيئته شاء الناس ذلك أم أبوه " (1) .
والإنسان محتاج إلى الله في كل حال، قال ابن رجب: " العبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عز وجل، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه....، ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به، فصار مخذولا ... ، وهو كذلك في أمور الدنيا عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه جميعا إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول، وهذا هو تحقيق معنى قول العبد: " لا حول ولا قوة إلا بالله "، فإن المعنى لا تحول للعبد من حال إلى حال ولا قوة له على ذلك إلا بالله. وهذه كلمة عظيمة وصفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها كنز من كنوز الجنة " (2) ؛ إذ قال - عليه الصلاة والسلام - لأحد الصحابة: «قل لا
__________
(1) المصدر السابق (1 \ 82) .
(2) جامع العلوم والحكم، ص (168) .(84/153)
حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة (1) »
يقول ابن حجر: " تسمى هذه الكلمة كنزا؛ لأنها كالكنز في نفاسته، وصيانته عن أعين الناس ... لأن معنى (لا حول) لا تحويل للعبد عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله....، وحاصله أن المراد أنها من ذخائر الجنة، أو من محصلات نفائس الجنة " (2) .
ويقول النووي: " قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى، واعتراف بالإذعان له...." (3) .
فهي كلمة عظيمة تتضمن اعتراف العبد بأنه لا تحول له من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بإعانة الله وحده، فالاستعانة لا تطلب من أي إنسان إلا عند الضرورة، وفيما يقدر عليه فقط، وإذا اضطر العبد للاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه، فعليه أن يجعل ذلك وسيلة وسببا، لا ركنا يعتمد عليه، وإنما الركن الأصيل الذي
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب (80) الدعوات، باب (50) الدعاء إذا علا عقبة، فتح الباري، (11 \ 187) ح (6384) .
(2) فتح الباري (11 \ 188، 500 - 501) .
(3) صحيح مسلم بشرح النووي (17 \ 26) .(84/154)
يعتمد عليه في الدعاء والسؤال والاستعانة هو الله وحده لا شريك له، كما أن على العبد إذا احتاج إلى الاستعانة بالمخلوق كحمل صندوق مثلا، ألا يشعر نفسه أن هذه الاستعانة كاستعانته بالخالق، وإنما عليه أن يشعر أنها كمعونة بعض أعضائه لبعض، كما لو عجز عن حمل شيء بيد واحدة فإنه يستعين على حمله باليد الأخرى.
وعلى هذا فالاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه، كالاستعانة ببعض الأعضاء، فلا ينافي ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فاستعن بالله " فإذا وقع العبد في مكروه وشدة فلا بأس أن يستعين بمن له قدرة على تخليصه، أو الإخبار بحاله بعد الاستعانة بالله تعالى، ولا يكون هذا شكوى للمخلوق، فإنه من الأمور العادية، التي جرى العرف باستعانة الناس بعضهم ببعض، ولهذا قال يوسف عليه السلام للذي ظن أنه ناج من الفتيين (1) {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} (2) ، والمصيبة العظيمة والخطر الجسيم فيمن يسأل أو يستعين بأصحاب القبور، أو غيرهم ممن يسمون بالأولياء والصالحين، سواء أكانوا أمواتا أم أحياء،
__________
(1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (2 \ 461) .
(2) سورة يوسف الآية 42(84/155)
فيسألهم ويستعين بهم فيما لا يقدرون عليه من جلب نفع أو دفع ضر أو رزق ولد، أو دخول الجنة، أو النجاة من النار، ونحو ذلك مما هو واقع في بعض البلاد، فإن هذا شرك بالله تعالى، إذ هو وحده القادر على كل شيء، وما دونه من نبي أو ولي لا يملك لنفسه جلب الخير أو دفع الشر إلا بإذنه سبحانه وتعالى، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (1) .
فهذه الآية تبين جهل من يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعوه لحصول نفع، أو دفع ضر، فإنه ليس بيده شيء من الأمر، ولا ينفع من لم ينفعه الله، ولا يدفع الضر عمن لم يدفعه الله عنه، ولا له من العلم إلا ما علمه الله، ويقول سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (2) {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} (3) {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} (4) .
هذه صفة كل مدعو ومعبود من دون الله، فإنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} (5) الذي بلغ في
__________
(1) سورة الأعراف الآية 188
(2) سورة الحج الآية 11
(3) سورة الحج الآية 12
(4) سورة الحج الآية 13
(5) سورة الحج الآية 12(84/156)
البعد حد النهاية، حيث أعرض عن عبادة النافع الضار، الغني المغني، وأقبل على عبادة مخلوق مثله أو دونه ليس بيده من الأمر شيء، بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب، ولهذا قال: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} (1) ، فإن ضرره في العقل والبدن، والدنيا والآخرة معلوم، {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} (2) أي: لبئس هذا المعبود والقرين الملازم على صحبته، فإن المقصود من المولى والعشير حصول النفع، ودفع الضرر، فإذا لم يحصل شيء من هذا إنه مذموم ملوم (3) .
وجاء في الحديث الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم -: « ... إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله (4) »
يقول ابن دقيق العيد في شرح هذا الجزء من الحديث:
__________
(1) سورة الحج الآية 13
(2) سورة الحج الآية 13
(3) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (3 \ 348 - 349) .
(4) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب (59) ، ح (2516) ، والإمام أحمد (1 \ 293 - 303) وأخرجه الطبراني في الكبير، ح (1298) ، وأبو نعيم في الحلية (1 \ 314) وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع الصغير، (2 \ 1318) ، ح (7957) .(84/157)
" أرشده إلى التوكل على مولاه وألا يتخذ ربا سواه، ولا يتعلق بغيره في جميع أموره ما قل منها وما كثر، وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (1) ، فبقدر ما يركن الشخص إلى غير الله بطلبه أو بقلبه أو بأمله فقد أعرض عن ربه بمن لا يضره ولا ينفعه، وكذلك الخوف من غير الله ".
فالمسلم مطالب بالاستعانة بالله في فعل المأمورات، واجتناب المنهيات.
يقول ابن تيمية عند تفسير قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) .
" وكل واحد من العبادة والاستعانة دعاء، وإذا كان قد فرض علينا أن نناجيه وندعوه بهاتين الكلمتين في صلاة، فمعلوم أن ذلك يقاضي أنه فرض علينا أن نعبده وأن نستعينه ... ، كما أمر بهما في قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (3) ، والأمر له أمر لأمته، وأمره بذلك في أم القرآن، وفي غيرها، لأمته؛ ليكون فعلهم ذلك طاعة
__________
(1) سورة الطلاق الآية 3
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة هود الآية 123(84/158)
وامتثالا لأمره، لا تقدما بين يدي الله ورسوله.....، وإلى هذين الأصلين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصد في عبادته وأذكاره ومناجاته، مثل قوله في الأضحية: «اللهم هذا منك ولك وإليك (1) » ؛ فإن قوله: " منك " هو معنى التوكل والاستعانة، وقوله: " لك " هو معنى العبادة ".
وقال في موضع آخر: " فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة، كما أمرنا أن نقول في صلاتنا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) " فهاتان الكلمتان قد قيل إنهما تجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء " (3) .
ويذكر ابن القيم أن آية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (4) متضمنة لأجل الغايات وأفضل الوسائل، فأجل الغايات عبوديته، وأفضل الوسائل إعانته، فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجل الوسائل ... ، وقد
__________
(1) رواه أبو داود، كتاب الضحايا، باب ما يستحب من الضحايا، ح (2795) .
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) دقائق التفسير لابن تيمية (1 \ 212) .
(4) سورة الفاتحة الآية 5(84/159)
اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد، وهما توحيد الربوبية وتوحيد الإلوهية، وتضمنت التعبد باسم الرب، واسم الله، فهو يعبد بألوهيته ويستعان بربوبيته، ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته ... ، وهو المنفرد بإعطاء ذلك كله لا يعين على عبادته سواه ولا يهدي سواه " (1) .
كما أن العبد مطالب بالصبر والاستعانة بالله تعالى عند وقوع المصائب والابتلاءات، ولهذا قال يعقوب عليه السلام عند وقوع مصيبته: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (2) ، ولما قال أهل الإفك ما قالوا في عائشة قالت: " والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (3) ، فبرأها الله مما قالوا ".
وعندما هدد فرعون موسى وقومه: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (4) .
__________
(1) كتاب الصلاة وحكم تاركها لابن القيم ص (104) .
(2) سورة يوسف الآية 18
(3) سورة يوسف الآية 18
(4) سورة الأعراف الآية 128(84/160)
فجاء الأمر على خلاف ما أراد فرعون؛ إذ أعزهم الله وأذله، وأرغم أنفه، وأغرقه وجنوده (1) .
وأخبر الله تعالى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه لما كذبه قومه: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (2) ، أي: والله المستعان عليكم فيما تقولون وتفترون من التكذيب والإفك (3) .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعو في قنوته بقوله: " اللهم إنا نستعينك، ونؤمن بك ونتوكل عليك ".
ولما بشر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان بالجنة، مع بلوى تصيبه، قال رضي الله عنه: " اللهم صبرا، أو الله المستعان ".
ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه خطبة الحاجة، وهي: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ... (4) » الحديث
__________
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم (2 \ 381 - 382) .
(2) سورة الأنبياء الآية 112
(3) انظر: المصدر السابق (3 \ 324) .
(4) رواه أبو داود، كتاب النكاح، باب في خطبة النكاح، ح (2118) ، والترمذي في النكاح، ح (1105) ، والنسائي في الجمعة، باب كيف الخطبة، (3 \ 105) ، وابن ماجه في النكاح، باب خطبة النكاح، ح (1892) ، وانظر: صحيح ابن ماجه (1 \ 319) ح (153) . .(84/161)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -: " وتستحب هذه الخطبة في افتتاح مجالس التعليم، والوعظ والمجادلة، وليست خاصة بالنكاح " (1) .
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده، وقال: «يا معاذ إني والله لأحبك فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك (2) »
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ويقول: «رب أعني، ولا تعن علي (3) » الحديث
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (18 \ 287) .
(2) رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب الاستغفار، ح (1522) ، والنسائي في السهو، باب: نوع آخر من الدعاء، (3 \ 53) ، وأحمد في المسند (5 \ 245) . وانظر: صحيح الكلم الطيب، ح (115) ، وصحيح الجامع الصغير (2 \ 1320) ح (2063) .
(3) رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل إذا أسلم، ح (1510) ، والترمذي في كتاب الدعوات، باب في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ح (3546) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وانظر: صحيح سنن الترمذي (3 \ 461) ، ح (3551) ، وصحيح سنن ابن ماجه (2 \ 324) ح (3830) .(84/162)
ولقد لاحظنا فيما سبق أن الإمام ابن القيم سوى بين التوكل والاستعانة، وذلك لأن كلا منهما يجمع أصلين.
فالاستعانة كما رأينا تجمع بين أصلين وهما:
أ - الثقة بالله.
ب - الاعتماد عليه.
والتوكل أيضا يلتئم من هذين الأصلين (الثقة بالله والاعتماد عليه) .
وقد اقترن التوكل (الاستعانة) بالعبادة في القرآن الكريم في مواضع عديدة منها:
1- قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) .
2- قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (2) .
3- قول الله تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (3) .
4- قوله سبحانه: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (4) .
5- قوله عز وجل - حكاية عن المؤمنين -: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (5) .
6- وقوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (6) {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} (7)
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة هود الآية 123
(3) سورة هود الآية 88
(4) سورة الرعد الآية 30
(5) سورة الممتحنة الآية 4
(6) سورة المزمل الآية 8
(7) سورة المزمل الآية 9(84/163)
فهذه ستة مواضع جمع فيها القرآن الكريم بين الأصلين وهما: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) أي بين العبادة والاستعانة أو ما في معناها وهو التوكل (2) .
ومن الملاحظ أن العبادة مقدمة على الاستعانة، ولذلك أسباب عديدة أشار إليها ابن القيم وغيره من العلماء، فقال ابن القيم: " وتقديم العبادة على الاستعانة لما يلي:
1- لأن العبادة غاية العباد التي خلقوا لها؛ لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) .
2- لأن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (4) متعلق بألوهيته سبحانه، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) متعلق بربوبيته.
3- لأن تقديم العبادة على الاستعانة يتناسب مع تقديم اسم " الله " على لفظ " الرب " المذكورين في أول السورة.
حيث إن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (6) قسم الرب، فكان من الشطر الأول، الذي هو ثناء على الله تعالى لكونه أولى به، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (7) قسم
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) انظر: مدارج السالكين (1 \ 75 - 76) .
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة الفاتحة الآية 5
(5) سورة الفاتحة الآية 5
(6) سورة الفاتحة الآية 5
(7) سورة الفاتحة الآية 5(84/164)
العبد، فكان من الشطر الذي له، وهو {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (1) إلى آخر السورة.
4- لأن العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة من غير عكس، فكل عابد لله عبودية تامة، مستعين، ولا ينعكس الأمر، لأن صاحب الأعراض والشهوات قد يستعين به على شهواته، فكانت العبادة أكمل وأتم، ولهذا كانت قسم المولى عز وجل.
5- لأن الاستعانة جزء من العبادة من غير عكس (تقدم الكل على الجزء) .
6- لأن الاستعانة طلب منه سبحانه وتعالى، والعبادة طلب له فقدم ما هو له على ما هو منه.
7- لأن العبادة لا تكون إلا من مخلص، والاستعانة تكون من مخلص ومن غير مخلص، ومن ثم قدم ما هو محض الإخلاص.
8- لأن العبادة حق الله الذي أوجبه على العبد والاستعانة طلب العون على العبادة، وذلك بيان لصدقته التي تصدق بها عليك، وأداء حقه أهم من التعريض لصدقته (فكان ذلك من باب تقديم الأهم على المهم) .
9- لأن العبادة شكر لنعمته عليك، والله يحب أن يشكر، والإعانة
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 6(84/165)
فعله بك وتوفيقه لك، فإن التزمت عبوديته، ودخلت تحت رقها أعانك عليها، فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة له من الله أعظم، ومن ثم فإن تقديم العبادة تقديم للسبب على المسبب.
10- ولأن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (1) لله، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) به والذي له مقدم على ما به، لأن ما له متعلق بمحبته ورضاه والذي (يكون) به متعلق بمشيئته وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته، إذ الكون كله متعلق بمشيئته كذلك، والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار والطاعات والمعاصي، والمتعلق بمحبته طاعاتهم وإيمانهم، فالكفار أهل مشيئته والمؤمنون أهل محبته، ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا، وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته.
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة الفاتحة الآية 5(84/166)
الاستعانة الإيمانية والاستعانة الشركية:
يقول ابن تيمية: إن العبد مجبول على أن يقصد شيئا ويريده ويستعين به بشيء ويعتمد عليه في تحصيل مراده، وهذا المستعان به على قسمين وهما:
القسم الأول: ما يستعان به لنفسه فيكون هو الغاية الذي يعتمد عليه العبد ويتوكل عليه، ويعتضد به، ليس عنده فوقه غاية في الاستعانة.
والقسم الثاني: ما يكون تبعا لغيره بمنزلة الأعضاء مع القلب، والمال مع المالك، والآلات مع الصانع.
والناظر في أحوال الخلق يجد أن النفس لا بد لها من شيء تثق به، وتعتمد عليه في نيل مطلوبها هو مستعانها سواء كان ذلك هو الله أم غيره، وإذا كان المستعان غير الله فقد يكون عاما وهو الكفر كمن عبد غير الله مطلقا أو سأل غير الله مطلقا. وقد يكون خاصا في المسلمين ممن غلب عليهم حب المال أو حب شخص أو حب الرياسة أو غير ذلك بحيث يعتمد عليها ويستعين بها، وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة، وصلاح العبد في عبادة الله واستعانته به، ومضرته وهلاكه وفساده في عبادة غير الله والاستعانة بما سواه،(84/167)
وتوحيد الله وإخلاص الدين له في عبادته واستعانته في القرآن كثير جدا؛ بل هو قلب الإيمان، وأول الإسلام وآخره، وهذا هو دين الإسلام العام الذي بعث به جميع الرسل، فلا يصرف لغير الله شيء من أنواع العبادة والاستعانة، إذ أن أنواع العبادة متعلقة كلها بألوهيته، والاستعانة متعلقة بربوبيته، والله رب العالمين لا إله إلا هو، ولا رب لنا غيره، لا ملك ولا نبي ولا غيره.
تقسيم الناس بحسب الاستعانة:
يرى ابن القيم - أن الناس بحسب العبادة والاستعانة أربعة أقسام:
القسم الأول: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، وهذا أجل الأقسام وأفضلها.
القسم الثاني: أهل الإعراض عن العبادة والاستعانة به في مرضاته إن سأله أحدهم واستعان به، فعلى حظوظه وشهواته لا على مرضاة ربه وحقوقه وهؤلاء شر البرية.(84/168)
القسم الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة أو باستعانة ناقصة وهؤلاء صنفان:
1- القدرية القائلون بأن الله قد فعل بالعبد جميع مقدروه من الألطاف وأنه لم يبق في مقدروه إعانة له على الفعل، إذ قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها وتعريف الطريق وإرسال الرسل وتمكينه من الفعل، ولم يبق بعد هذا إعانة مقدورة يسأله إياها.
2- من لهم عبادات وأوراد، ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة، فهؤلاء وأولئك لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير بحسب استعانتهم وتوكلهم، ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم، ولو توكل العبد على الله حق توكله (واستعان به حق استعانته) في إزالة جبل عن مكانه وكان مأمورا بإزالته لأزاله.
القسم الرابع: هم أولئك الذين يشهدون تفرد الله بالنفع والضر، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولم يدر مع ما يحبه ويرضاه، ومع ذلك توكل عليه واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه، فقضيت له وأسعف بها سواء أكانت مالا أو جاها عند الخلق، وهؤلاء لا عاقبة لهم ولا يعدوا ما أعطوه أن يكون من جنس الملك الظاهر(84/169)
والأموال التي لا تستلزم الإسلام فضلا عن الولاية والقرب من الله تعالى (1) .
__________
(1) مدارج السالكين (1 \ 78 - 82) ، ونضرة النعيم (2 \ 230 - 231) .(84/170)
المبحث الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم - «ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا (1) » :
وفي رواية: " ولا تعجزن " النون نون التوكيد الخفيفة.
ففي هذا القول من النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن العجز وذمه، والعجز مذموم شرعا وعقلا (2) .
والعجز ضد القدرة وهو القصور عن فعل الشيء (3) .
وهو نوعان:
1- تقصير في الأسباب، وعدم الحرص عليها.
2- تقصير في الاستعانة بالله، وترك تجريدها (4) .
لذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه بقوله: " لا تعجز " بعد أمره للمؤمن
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(2) فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد (2 \ 769) .
(3) المفردات، ص (325) .
(4) مدارج السالكين (3 \ 501) .(84/170)
بالحرص على ما ينفعه في دنياه وآخرته، ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه: أمره أن يستعين بالله ليجتمع له مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) ، فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله تعالى ولا يتم إلا بمعونته، فأمره أن يعبده وأن يستعين به، فالحريص على ما ينفعه المستعين بالله، ضد العاجز، فهذا إرشاد له قبل رجوع المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده ومصدرها منه ومردها إليه، فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان:
الأولى: حالة عجز وهي مفتاح عمل الشيطان فيلقيه العجز إلى " لو " ولا فائدة في " لو " هنا، بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عما الشيطان، فنهاه - صلى الله عليه وسلم - عن افتتاح عمله بهذا المفتاح.
الثانية: النظر إلى القدر وملاحظته وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد، فلن يبق له ههنا أنفع من شهود القدر ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجود المقدور، وإذا انتفت امتنع وجوده. فلهذا قال: «قل قدر الله وما شاء فعل (2) » فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .(84/171)
حالة حصول مطلوبه وحال فواته.
فهذا الحديث العظيم يوجب الإيمان بالقضاء والقدر، وهو الركن السادس من أركان الإيمان، والإيمان به يتضمن الإيمان بمراتبه الأربعة وهي:
المرتبة الأولى:
الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه تعالى قد علم جميع خلقه قبل أن يخلقهم، وعلم أرزاقهم وأقوالهم وأعمالهم، وجميع حركاتهم وسكناتهم، وإسرارهم وعلانياتهم ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل النار، قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (1) ، وقال: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (2) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق للجنة أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم. وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم (3) »
__________
(1) سورة الحشر الآية 22
(2) سورة الطلاق الآية 12
(3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب (46) القدر، باب (6) معنى كل مولود يولد على الفطرة..، (4 \ 2050) ح (2662) .(84/172)
ولما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين (1) »
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - في هذا الحديث: "أي الله يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر لو بلغوا، ثم إنه جاء في حديث إسناده مقارب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان يوم القيامة فإن الله يمتحنهم، ويبعث إليهم رسولا في عرصة القيامة، فمن أجابه أدخله الجنة، ومن عصاه أدخله النار» ، فهنالك يظهر فيهم ما علمه الله سبحانه، ويجزيهم على ما ظهر من العلم، وهو إيمانهم وكفرهم، لا على مجرد العلم " (2) .
المرتبة الثانية:
الإيمان بأن الله تعالى قد كتب جميع ما سبق به علمه أنه كائن،
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب (82) القدر، باب (3) الله أعلم بما كانوا عاملين، (فتح الباري 11 \ 493) ح (6597) ، ومسلم، كتاب (46) القدر، باب (6) معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال المشركين الكفار وأطفال المسلمين، ح (2659) .
(2) مجموع الفتاوى (4 \ 246) .(84/173)
وفي ضمن ذلك الإيمان باللوح والقلم، قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (1) . وقال سبحانه: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} (2) . وقال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - «ما من نفس منفوسة، إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار. وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة (4) »
المرتبة الثالثة:
الإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهما متلازمتان من جهة ما كان وما سيكون، ولا ملازمة بينهما من جهة ما لم يكن ولا هو كائن، فما شاء الله تعالى فهو كائن بقدرته لا محالة، وما لم يشاء الله تعالى لم يكن لعدم مشيئة الله إياه لا لعدم قدرة الله عليه، تعالى الله عن ذلك، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} (5) .
ومن أدلة هذه المرتبة: قوله - عز من قائل -: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (6)
__________
(1) سورة يس الآية 12
(2) سورة الحج الآية 70
(3) سورة فاطر الآية 11
(4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب (65) التفسير، باب تفسير سورة (والليل إذا يغشى) ، (فتح الباري 8 \ 709) ح (4948) ، ومسلم، كتاب (46) القدر، باب (1) كيفية خلق الآدمي..، (4 \ 2039) ح (2646) .
(5) سورة فاطر الآية 44
(6) سورة الإنسان الآية 30(84/174)
وقوله تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) ، وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن. كقلب واحد. يصرفه حيث يشاء (3) » ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم مصرف القلوب. صرف قلوبنا على طاعتك (4) »
المرتبة الرابعة:
الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء وأنه ما من ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا بينهما إلا والله خالقها وخالق حركاتها وسكناتها، لا خالق غيره ولا رب سواه.
قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (5) .
وقال سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (6) .
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} (7)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 39
(2) سورة يس الآية 82
(3) صحيح مسلم القدر (2654) ، مسند أحمد (2/168) .
(4) أخرجه مسلم، كتاب (46) القدر، باب (3) تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، ح (2654) .
(5) سورة الزمر الآية 62
(6) سورة فاطر الآية 3
(7) سورة الروم الآية 40(84/175)
وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (1) .
وعن حذيفة رضي الله عنه مرفوعا: «إن الله يصنع كل صانع وصنعته (2) »
والإيمان بالقدر نظام التوحيد، كما أن الإيمان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره هي نظام الشرع، ولا ينتظم أمر الدين ويستقيم إلا لمن آمن بالقدر وامتثل للشرع، فمن نفى القدر زاعما منافاته للشرع فقد عطل الله عن علمه وقدرته، وجعل العبد مستقلا بأفعاله خالقا لها، فأثبت مع الله تعالى خالقا، بل أثبت أن جميع المخلوقين خالقون، ومن أثبت القدر محتجا به على الشرع، نافيا عن العبد قدرته واختياره فقد نسب إلى الله تعالى إلى الظلم، وليعلم أن الله سبحانه وتعالى الذي أمرنا بالإيمان بالقضاء والقدر، أمرنا بالعمل والأخذ بالأسباب، فقال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (3) ، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له (4) »
__________
(1) سورة الصافات الآية 96
(2) أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد، ص (73) ، وابن أبي عاصم في السنة (357، 358) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، (4 \ 181) ، ح (1637) .
(3) سورة التوبة الآية 105
(4) رواه مسلم، كتاب (46) القدر، باب (1) كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، ح (2648) .(84/176)
وفي هذا رد على المتخاذلين، المستسلمين لأهوائهم وشهواتهم، محتجين بتقدير الله تعالى ذلك عليهم، فعلى المسلم أن يحرص على حسن الإتباع لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مع إخلاص العمل لله تعالى، وسلامة العقيدة، والاجتهاد بالأخذ بالأسباب، والسعي وبذل الجهد، فمن ترك الأسباب محتجا بالقدر فقد عصى الله تعالى وخالف شرعه. والمؤمنون حقا يؤمنون بالقدر خيره وشره، وأن الله خالق أفعال العباد، وينقادون للشرع أمره ونهيه، ويحكمونه في أنفسهم سرا وجهرا، وأن للعباد قدرة على أعمالهم، ولهم مشيئة وإرادة، وأفعالهم تضاف إليهم حقيقة، وبحسبها كلفوا، وعليها يثابون ويعاقبون، ولكنهم لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله عليها، ولا يشاؤون إلا أن يشاء الله (1) .
قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري: " قد جرى القلم بأمره عز وجل في اللوح المحفوظ بما يكون من بر أو فاجر، يثني على من عمل بطاعته من عبيده، ويضيف العمل إلى العباد ويعدهم عليه الجزاء العظيم، ولولا توفيقه لهم ما عملوا ما استوجبوا به منه الجزاء {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (2) . وكذا ذم قوم عملوا بمعصيته، وتوعدهم على العمل بها وأضاف العمل إليهم بما
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (8 \ 449، 459) ، وأعلام السنة المنشورة، ص (139 - 141) .
(2) سورة الحديد الآية 21(84/177)
عملوا، وذلك بمقدور جرى عليهم، {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (1) (2) .
وثبت في الحديث الصحيح «أن رجلا قال: يا رسول الله! فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟ قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير قال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له (3) »
فلا بد من الإيمان بأن كل ما يصيب العبد مما يضره وينفعه في دنياه فهو مقدر عليه، وأنه لا يمكن أن يصيبه ما لم يكتب له ولم يقدر عليه، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعا، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) ، يعني: أن من أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب، واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقينا صادقا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرا منه، روى ابن كثير عن ابن عباس أنه قال - في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (5) - يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم
__________
(1) سورة النحل الآية 93
(2) الشريعة، ص (152) .
(3) سبق تخريجه، ص (176) .
(4) سورة التغابن الآية 11
(5) سورة التغابن الآية 11(84/178)
أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه (1) .
يقول ابن دقيق العيد: " هذا هو الإيمان بالقدر، والإيمان به واجب، خيره وشره، وإذا تيقن المؤمن هذا، فما فائدة سؤال غير الله والاستعانة به " (2) .
ومما يجب أن يعلم أن القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد، والحرص على العمل الصالح وحسن الاتباع، ولهذا لما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بسبق المقادير وجريانها وجفوف القلم بها، قال بعضهم: «أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: اعملوا فكل ميسر (3) » ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} (4) {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (5) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (6) .
" فالله سبحانه وتعالى قدر المقادير وهيأ لها أسبابا، وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد، وقد يسر كلا من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة، فهو مهيأ له ميسر له؛ فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشد اجتهادا في فعلها
__________
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم، (4 \ 375) .
(2) شرح الأربعين حديثا النووية، ص (55) .
(3) سبق تخريجه، ص (176) .
(4) سورة الليل الآية 5
(5) سورة الليل الآية 6
(6) سورة الليل الآية 7(84/179)
والقيام بها، وأعظم منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه، وقد فقه هذا كل الفقه من قال من الصحابة لما سمع أحاديث القدر: ما كنت أشد اجتهادا مني الآن " (1) .
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجز (2) »
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه لما قيل له: «أرأيت دواء نتداوى به ورقى نسترقيها هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله (3) » يعني: أن الله عز وجل قدر الخير والشر وأسباب كل منهما (4) .
والأسباب وإن عظمت إنما تنفع إذا لم يعارضها القدر والقضاء، فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئا، بل لا بد أن يمضي الله ما كتب في اللوح المحفوظ من الموت والحياة، وعموم المصائب التي تصيب
__________
(1) أعلام السنة المنشورة، ص (134) .
(2) رواه مسلم في كتاب (46) القدر، باب (8) في الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، (4 \ 2052) ، ح (2664) .
(3) رواه ابن ماجه، كتاب الطب، باب: ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، والترمذي، كتاب الطب، باب ما جاء في الأدوية، ح (2065) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(4) انظر أعلام السنة المنشورة، ص (134) .(84/180)
الخلق من خير وشر، فكلها قد كتب في اللوح المحفوظ، صغيرها وكبيرها، " وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول، بل تذهل عنه أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير " (1) .
ولهذا جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه (2) »
وقد علل النبي - صلى الله عليه وسلم - نهيه عن قول " لو "؛ إذ أخبر أنها تفتح عمل الشيطان، وهذا لا شك فيه؛ لما فيها من التأسف على ما فات والتحسر، ولوم القدر، وذلك ينافي الصبر والرضى؛ والصبر واجب، والإيمان بالقدر فرض، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3) {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (4) .
__________
(1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص (121، 718) .
(2) رواه الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشره، ح (2144) ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (2 \ 446) ، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، (2439) .
(3) سورة الحديد الآية 22
(4) سورة الحديد الآية 23(84/181)
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ". وقال الإمام أحمد: " ذكر الله الصبر في تسعين موضعا من القرآن ".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - وذكر الحديث بتمامه - ثم قال في معناه: " لا تعجز عن مأمور ولا تجزع عن مقدور، ومن الناس من يجمع كلا الشرين، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحرص على النافع والاستعانة بالله، والأمر يقتضي الوجوب، وإلا فالاستحباب، ونهى عن العجز وقال: «إن الله يلوم على العجز (1) » والعاجز ضد: الذين هم ينتصرون "، فالأمر بالصبر والنهي عن العجز مأمور به في مواضع كثيرة، وذلك لأن الإنسان بين أمرين:
- أمر أمر بفعله، فعليه أن يفعله ويحرص عليه ويستعين بالله ولا يعجز.
- وأمر أصيب به من غير فعله فعليه أن يصبر عليه ولا يجزع منه ".
__________
(1) سنن أبي داود الأقضية (3627) ، مسند أحمد (6/25) .(84/182)
ثم قال: -: " فإن الإنسان ليس مأمورا أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم فاصبر عليه، وارض وسلم، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (1) ، ولهذا قال آدم لموسى: «أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ ! فحج آدم موسى (2) » لأن موسى قال له: «لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة (3) » ؟ ! " فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله لها لأجل كونها ذنبا، وأما كونه لأجل الذنب - كما يظنه طوائف من الناس - فليس مرادا بالحديث، فإن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس " (4) .
فالقدرية الذين ينكرون القدر يكذبون بهذا الحديث؛ لأن من عادة أهل البدع أن ما خالف بدعتهم إن أمكن تكذيبه كذبوه، وإلا
__________
(1) سورة التغابن الآية 11
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب القدر، باب: تحاج آدم وموسى عند الله، فتح الباري (11 \ 505) ، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى (4 \ 2042 - 2043) .
(3) سنن أبي داود السنة (4702) .
(4) مجموع الفتاوى (8 \ 178 - 179) .(84/183)
حرفوه، ولكن هذا الحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -: " إن هذا من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعاتب؛ فموسى لم يحتج على آدم بالمعصية التي هي سبب الخروج، بل احتج بالخروج نفسه " (2) .
ومن اعترض على القدر، فإنه لم يرض بالله ربا، ومن لم يرض بالله ربا، فإنه لم يحقق توحيد الربوبية، والواجب أن ترضى بالله ربا، ولا يمكن أن تستريح إلا إذا رضيت بالله ربا تمام الرضا، وكأن لك أجنحة تميل بها حيث مال القدر (3) .
ويفهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن ما لا قدره للإنسان فيه بعد بذله قصارى جهده واستعانته بالله عز وجل، فله أن يحتج عليه بالقدر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل (4) » ، وأما الذي يمكنك فليس لك أن تحتج بالقدر.
ومعنى قوله: " قدر الله " أي: هذا الذي وقع قدر الله وليس إلي، أما الذي إلي فقد بذلت ما أراه نافعا كما أمرت، وهذا فيه
__________
(1) انظر: القول المفيد على شرح كتاب التوحيد، (2 \ 374) .
(2) مجموع الفتاوى، (10 \ 160، 505) ، (11 \ 259) .
(3) انظر: القول المفيد على شرح كتاب التوحيد (2 \ 365) .
(4) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .(84/184)
التسليم التام لقضاء الله عز وجل، وأن الإنسان إذا فعل ما أمر به على الوجه الشرعي؛ فإنه لا يلام على شيء، ويفوض الأمر إلى الله.
قوله: " وما شاء فعل " جملة مصدرة بـ " ما " الشرطية، و" شاء ": فعل الشرط، وجوابه: " فعل " أي: ما شاء الله أن يفعله فعله؛ لأن الله لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (1) .
ولكن يجب أن نعلم أنه سبحانه وتعالى لا يفعل شيئا إلا لحكمة، خفيت علينا أو ظهرت لنا، وبهذا التقرير نفهم أن المشيئة يلزم منها وقوع المشاء، ولهذا كان المسلمون يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وأما الإرادة ووقوع المراد؛ ففيه تفصيل: فالإرادة الشرعية لا يلزم منها وقوع المراد، وهي التي بمعنى المحبة، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} (2) ، بمعنى يحب، ولو كانت بمعنى يشاء لتاب الله على جميع الناس.
والإرادة الكونية يلزم منها وقوع المراد (3) كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (4)
__________
(1) سورة الرعد الآية 41
(2) سورة النساء الآية 27
(3) انظر: القول المفيد على شرح كتاب التوحيد (2 \ 371 - 372) ، وشرح رياض الصالحين (1 \ 464) .
(4) سورة البقرة الآية 253(84/185)
وفي الرواية الثالثة (1) للحديث قرن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين قوله: «احرص على ما ينفعك (2) » بقوله وإياك واللو فالإشارة هنا إلى محل " لو " المذمومة وهي نوعان:
أحدهما: في الحال ما دام فعل الخير ممكنا فلا يترك لأجل فقد شيء آخر، فلا تقول: لو أن كذا كان موجودا لفعلت كذا. مع قدرته على فعله ولو لم يوجد ذاك، بل يفعل الخير ويحرص على عدم فواته.
والثاني: من فاته أمر من أمور الدنيا فلا يشغل نفسه بالتلهف عليه، لما في ذلك من الاعتراض على المقادير وتعجيل تحسر لا يغني شيئا ويشتغل به عن استدراك ما لعله يجدي، فالذم راجع فيما يؤول في الحال إلى التفريط وفيما يؤول في الماضي إلى الاعتراض على القدر، وهو أقبح من الأول، فإن انضم إليه الكذب فهو أقبح مثل قول المنافقين: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} (3) ، وقولهم: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} (4) ، وكذا قولهم: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} (5)
__________
(1) انظر: ص (121) من البحث.
(2) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(3) سورة التوبة الآية 42
(4) سورة آل عمران الآية 167
(5) سورة آل عمران الآية 168(84/186)
ثم قال: وكل ما في القرآن من " لو " التي هي كلام الله تعالى كقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} (1) ، وقوله: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (2) ، ونحوهما فهو صحيح لأنه تعالى عالم به.... (3) .
ويستفاد من هذا الجزء من الحديث ما يلي:
1- أن الشريعة جاءت بتكميل المصالح وتحقيقها؛ لقوله: «احرص على ما ينفعك (4) » ، فإذا امتثل المؤمن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو عبادة وإن كان ذلك النافع أمرا دنيويا.
2- أنه لا ينبغي للعاقل أن يمضي جهده فيما لا ينفع؛ لقوله: «احرص على ما ينفعك (5) » .
3- أنه لا ينبغي للإنسان الصبر والمصابرة؛ لقوله: «ولا تعجز (6) » ، فإن قال قائل: العجز ليس باختيار الإنسان، فالإنسان قد يصاب بمرض فيعجز، فكيف نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمر لا قدرة لإنسان عليه؟ أجيب: بأن المقصود بالعجز هنا التعاون والكسل من فعل الشيء؛ لأنه هو الذي في مقدور الإنسان.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 154
(2) سورة النساء الآية 78
(3) انظر: فتح الباري لابن حجر، (13 \ 230) .
(4) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(5) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(6) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .(84/187)
4- أن ما لا قدرة للإنسان فيه فله أن يحتج عليه بالقدر، لقوله: «ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل (1) » وأما الذي يمكنك، فليس لك أن تحتج بالقدر.
5- أن للشيطان تأثيرا على بني آدم؛ لقوله: «فإن لو تفتح عمل الشيطان (2) » وهذا لا شك فيه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (3) »
فقال بعض أهل العلم: إن هذا يعني الوساوس التي يلقيها في القلب فتجري في العروق.
وظاهر الحديث: أن الشيطان نفسه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهذا ليس ببعيد على قدرة الله عز وجل، كما أن الروح تجري مجرى الدم، وهي جسم، إذا قبضت تكفن وتحنط وتصعد بها الملائكة إلى السماء.
ومن نعمة الله أن للشيطان ما يضاده، وهي لمة الملك، فإن للشيطان في قلب ابن آدم وللملك لمة، ومن وفق غلبت
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(2) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(3) أخرجه البخاري، كتاب (33) الاعتكاف، باب (11) زيارة المرأة زوجها في اعتكافه، ح (2038) ، (فتح الباري 4 \ 281) ، ومسلم في السلام، باب: بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة.. (4 \ 1712) .(84/188)
عنده لمة الملك لمة الشيطان، فهما دائما يتصارعان نفسا مطمئنة ونفسا أمارة بالسوء، وأما النفس اللوامة فهي وصف للنفسين جميعا.
6- الإرشاد إلى الكلام الحسن بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «قل قدر الله وما شاء فعل (1) » .
7- حسن تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قرن النهي عن قول: "لو" ببيان علته؛ لتتبين حكمة الشريعة، ويزداد المؤمن إيمانا وامتثالا. (2) .
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .
(2) القول المفيد على شرح كتاب التوحيد (2 \ 375 - 377) .(84/189)
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ... وبعد:
الإبحار مع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتلذذ بما فيه من معان عظيمة لشأن لا ينتهي، إنما خلصت إلى أن في:
1- هذا الحديث خبرا نبويا عظيما بخيرية المؤمن القوي والضعيف، وإن كان القوي خيرا وأحب إلى الله عز وجل.
2- تضمن الحديث أوامر نبوية كريمة عظيمة الشأن منها:(84/189)
- الحرص على كل ما ينفع الإنسان في دنياه وآخرته.
- الاستعانة بالله عز وجل وعدم العجز مع صدق التوكل على الله عز وجل، بعد الأخذ بالأسباب، وتفويض المقادير لله سبحانه وتعالى.
- النهي عن قول: " لو " المذمومة التي تفتح عمل الشيطان.
3- أثبت الحديث أن الله عز وجل موصوف بصفة المحبة.
4- وصف ابن القيم لهذا الحديث بقوله: " إن الدين كله ظاهره وباطنه، شرائعه وحقائقه تحت هذه الكلمات النبوية " والله أعلم.
5- ثناء الشيخ ابن عثيمين - على هذا الحديث وإخباره بأننا لو سرنا على هدي هذا الحديث لاسترحنا كثيرا.
6- في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل (1) » ؛ أعظم وقاية ضد القلق النفسي وسائر الهواجس والاضطرابات النفسية التي يشتكي منها كثير من الناس حتى سماها بعضهم بمرض العصر. فمن آمن بهذا الحديث اطمأن قلبه وانشرح صدره وعلم أن كل ذلك بقضاء الله وقدره، وأنه خير له فيبتعد عن التضجر والزفرات والحسرات.
7- وجوب تربية الناس وتعليمهم الإيمان بالقضاء والقدر، وعدم الاعتراض عليه بل التسليم والانقياد لأمر الله.
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه الزهد (4168) ، مسند أحمد (2/370) .(84/190)
العدة من الموانع المؤقتة للنكاح
دراسة فقهية
الدكتورة ليلى بنت سراج صدقة أبو العلا (1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله. قال تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) .
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3) .
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) .
__________
(1) أستاذ مساعد بقسم الدراسات الإسلامية، تخصص الفقه المقارن.
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71(84/191)
أما بعد فالحمد لله الذي خلق الأزواج وجعل بينهما مودة ورحمة، وجعل سبحانه عقد النكاح هو جواز سفر الوصول للعلاقة الصحيحة بين الجنسين القائمة على مرضاة الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فالنكاح عقد شرعي بين امرأة ورجل أجنبي عنها قبله يباح بموجبه ما كان محرما قبله على كلا الزوجين به تستباح الفروج، وتترتب بموجبه حقوق وواجبات على كلا الزوجين.
ولا يقع النكاح شرعيا إلا بوجود أركانه وتحقق شرائطه وانتفاء موانعه المؤبدة أو المؤقتة ومن موانع النكاح المؤقتة كون المرأة معتدة من الغير لقوله تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (1) .
وهذا يشمل جميع أنواع المعتدات.
__________
(1) سورة البقرة الآية 235(84/192)
وقد اتفق العلماء على أن النكاح لا يجوز في العدة (1) .
لأن من أركانه الزوجين الخاليين من الموانع (2) .
وعليه فمن حقوق الزوج التي تناط بزوجته هي العدة، وهي فترة تتربص فيها المرأة وتمنع من النكاح، لفترة محددة لذلك كانت من الموانع المؤقتة للنكاح.
جاء في الشرح الممتع في بداية شرح كتاب العدد (3) " هذا الكتاب من أهم أبواب الفقه، لأنه ينبني عليه مسائل كثيرة من المواريث، وصحة النكاح وغير ذلك ".
ولما لتحديد هذه الفترة من أهمية في الفقه الإسلامي ولما يترتب عليها من أحكام أردت بعون الله عز وجل الوقوف عليها وجمع شتاتها في ثنايا بحثي هذا سائلة المولى عز وجل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم وأن يجنبني فيه الزلل والخطأ وهوى النفس وقد سميته "العدة من الموانع المؤقتة للنكاح دراسة فقهية "
قسمت هذا البحث إلى مقدمة وفصل تمهيدي في التعريف بمفردات البحث ثم ثلاثة فصول جاءت مرتبة على النحو التالي:
__________
(1) انظر: بداية المجتهد 2 \ 47، البحر الرائق 4 \ 139، شرح منتهى الإرادات 3 \ 35.
(2) انظر: الروض المربع 1 \ 767.
(3) للشيخ ابن عثيمين 13 \ 312.(84/193)
الفصل الأول: الأصل في وجوب العدة وحكمها وأحكامها وحكمة مشروعيتها.
الفصل الثاني: أقسام المعتدات وأحكام كل منها.
الفصل الثالث: مسائل متفرقة ومتعددة في العدة.
ثم ذيلته بخاتمة تتضمن أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث.
منهج البحث:
حرصت على اتباع المنهجية المتبعة في البحوث العلمية ومنها:
1- عزوت الآيات إلى سورها.
2- عزوت الأحاديث إلى مظانها، فما كان منها في الصحيحين اكتفيت بالعزو إليهما، وما كان في غيرهما اجتهدت في تسطير حكم العلماء عليه.
3- عزوت الآراء الفقهية لمظانها من كتب الفقهاء المعتمدة في كل مذهب وإن تعذر الوصول لرأي المذهب من خلال كتبه عزوتها إلى كتب الفقه المقارن كالمجموع للنووي، والمغني لابن قدامة.
4- أسقطت ما يتعلق بعدة الأمة لندرتها في زماننا، ولأن المسائل فيها خلافية تطيل البحث وتعدد فروعه.(84/194)
5- حاولت الترجيح بين الآراء الفقهية عند تعددها معتمدة على أدلة كل فريق واعتبارات أخرى.
6- استدعت طبيعة البحث في مدة الحمل ذكر آراء أهل التخصص من الأطباء للفصل في أقصى مدة الحمل لتعدد الآراء الفقهية حولها.(84/195)
الفصل التمهيدي:
في التعريف بمفردات البحث:
أولا: تعريف النكاح:
لغة: يطلق النكاح في اللغة على عدة معان:
أصل النكاح الوطء وقد يكون العقد وقيل للتزوج نكاح لأنه سبب للوطء المباح (1) .
شرعا: له تعريف في كل مذهب من المذاهب نفصيلها كالآتي:
عند الحنفية (2) عقد وضع لتملك المتعة بالأنثى قصدا.
عند المالكية (3) عقد لحل تمتع بأنثى غير محرم وغير مجوسية وغير أمة كتابية بصيغة لقادر محتاج أو راج نسلا.
__________
(1) لسان العرب 2 \ 626، مادة ''نكح''، القاموس المحيط 1 \ 254 مادة ''نكح''.
(2) انظر: شرح فتح القدير 3 \ 99.
(3) انظر: بلغة السالك 1 \ 347.(84/195)
عند الشافعية (1) عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج.
عند الحنابلة (2) عقد يعتبر فيه لفظ إنكاح أو تزويج في الجملة جاء في الشرح الممتع (3) " هو أن يعقد على امرأة بقصد الاستمتاع بها، وحصول الولد، وغير ذلك من مصالح النكاح ".
ثانيا تعريف العدة:
لغة: العدد: جمع عدة وهي مصدر الإحصاء للعدد.
عدة المرأة أيام أقرائها وأيام إحدادها على الزوج، وإمساكها عن الزينة شهورا كانت أو أقراء. أو وضع حمل حملته من زوجها. وأصل ذلك مأخوذ من العدة، وهو الإحصاء والاسم العدد (4) .
شرعا: لها تعريف في كل مذهب من المذاهب الفقهية. تفصيلها كالآتي:
عند الحنفية (5) تربص يلزم المرأة عند زوال النكاح المتأكد بالدخول أو ما يقوم مقامه من الخلوة والموت.
__________
(1) انظر: حاشيتا قليوبي وعميرة: 3 \ 206.
(2) انظر: الروض المربع: 2 \ 763.
(3) 12 \ 5.
(4) انظر: القاموس المحيط 1 \ 324، مادة (عدد) ، لسان العرب مادة (عدد) 3 \ 281.
(5) البحر الرائق 4 \ 138.(84/196)
وهي اسم لأجل ضرب لانقضاء ما بقي من آثار النكاح (1) .
عند المالكية (2) مدة منع النكاح لفسخه أو موت الزوج أو طلاقه وهي المدة التي جعلت دليلا على براءة الرحم (3) .
عند الشافعية (4) اسم لمدة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها أو للتعبد أو لتفجعها على زوجها.
فإذا كانت بمدخول بها من يجوز حبلها، كانت تعبدا واستبراء وإن كانت في غير مدخول بها من وفاة كانت تعبدا محضا (5) .
عند الحنابلة (6) التربص المحدد شرعا.
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع: 3 \ 190.
(2) انظر: الفواكه الدواني 2 \ 61، مواهب الجليل 4 \ 140.
(3) انظر: حاشية الدسوقي 2 \ 468، ومواهب الجليل 4 \ 140.
(4) انظر: مغني المحتاج 3 \ 384.
(5) انظر: كتاب العدد من الحاوي الكبير 1 \ 112.
(6) انظر: شرح منتهى الإرادات 3 \ 216، الروض المربع 2 \ 899.(84/197)
ثالثا: تعريف المانع:
لغة: المنع: أن تحول بين الرجل وبين الشيء الذي يريده وهو خلاف الإعطاء.
والمانع: من صفات الله عز وجل (1) .
وموانع النكاح هن المحرمات في النكاح لأن من أركان النكاح الزوجات الخاليات من الموانع.
والمحرمات في النكاح قسمان:
محرمات إلى الأبد.
محرمات إلى أمد.
والمرجع في التحريم والتحليل إلى الكتاب والسنة.
فالموانع: هي المحرمات في النكاح أي ما يمنع صحة النكاح، لأن الزوجين اللذين فيهما موانع وجودهما كالعدم فنكاح المعتدة إذا تزوجت قبل نهاية عدتها غير صحيح (2) .
__________
(1) انظر: لسان العرب 8 \ 343، مادة (منع) .
(2) انظر: الشرح الممتع 12 \ 36.(84/198)
الفصل الأول
الأصل في وجوب العدة وحكمها وأحكامها والحكمة من مشروعيتها
أولا: الأصل في وجوب العدة: الكتاب، السنة، الإجماع.
أ) الكتاب: قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) حددت الآية عدة من تحيض من النساء.
وقال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (2) حددت الآية عدة الآيسة والصغيرة وعدة الحامل.
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (3) حددت الآية عدة المتوفى عنها زوجها.
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) سورة الطلاق الآية 4
(3) سورة البقرة الآية 234(84/199)
ب) السنة:
قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها ألبتة «اعتدي في بيت ابن أم مكتوم (1) »
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا (2) »
ج) الإجماع:
جاء في المغني (3) " وأجمعت الأمة على وجوب العدة في الجملة وإنما اختلفوا في أنواع فيها ".
ثانيا: حكم العدة:
اتفق العلماء على أن النكاح لا يجوز في العدة (4) لأن العدة من
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الطلاق، باب: المطلقة ثلاثا لا نفقة لها، رقم (1480) ، أمرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ لأنها تأمن عنده من نظر غيره، وهي مأمورة بغض بصرها عنه، انظر: صحيح مسلم بشرح النووي 12 \ 97.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الطلاق، باب: تحد المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرا، رقم (5334، 5335) ، مسلم، كتاب الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدة الوفاة رقم (1486) .
(3) 11 \ 194.
(4) انظر: بداية المجتهد 2 \ 47، البحر الرائق 4 \ 139، شرح منتهى الإرادات 3 \ 35.(84/200)
الموانع المؤقتة للنكاح.
ولأن من أركان النكاح الزوجين الخاليين من الموانع (1) .
وتلزم العدة كل امرأة حرة أو أمة أو مبعضة بالغة أو صغيرة يوطأ مثلها إما
أ) بفراق زوجها بعد خلوته بها وقدرته على وطئها لأن هذا يجري مجرى الدخول ولو مع ما يمنعه من الوطء (2) .
ب) أو بموت الزوج (3) .
ثالثا: أحكام العدة
أحكام العدة كثيرة منها:
1- لا يجوز نكاح المعتدة.
2- يحرم التصريح بخطبة المعتدة في وفاة أو من طلاق رجعي أو بائن، ويباح التعريض بخطبة المعتدة من وفاة والبائن بطلاق.
3- تحريم الخروج من البيت لبعض المعتدات دون بعض.
__________
(1) انظر: الروض المربع 1 \ 767.
(2) انظر: بدائع الصنائع 3 \ 191، الروض المربع 2 \ 900.
(3) انظر: الروض المربع 2 \ 900.(84/201)
4- وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها وهذا لا خلاف بين الفقهاء فيه، وقد اختلفوا في وجوبه على المطلقة ثلاثا والبائن.
5- ثبوت نسب ولدها لزوجها إذا وضعته خلال مدة الحمل (1) مع الاختلاف في أكثر مدة الحمل بين الفقهاء.
6- وجوب النفقة على الحامل المطلقة واحدة أو ثلاثا، والنفقة على المعتدة في طلاق رجعي، ولا يجب على المطلقة ثلاثا، أما السكنى فهي واجبة على كل مطلقة مدخول بها.
رابعا: حكمة مشروعية العدة:
ما لا يخفى أن المولى عز وجل لم يشرع حكما من الأحكام إلا وله حكم عظيمة وفوائد جمة.
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 3 \ 204 وما بعدها.(84/202)
ومن حكم العدة:
(1) التيقن من براءة الرحم قبل نكاح المرأة من زوج ثان حتى لا يؤدي ذلك إلى اختلاط الأنساب.
(2) التعبد لله بتطبيق شرعه في تربص المتوفى عنها زوجها، وفي ذلك رفع لقدر الزوج وإظهار شرفه، لذلك وجبت عدة الوفاة على الصغيرة التي لا يجامع مثلها والكبيرة (الآيسة) وغير المدخول بها. وذلك مقابل إيجاب وثبوت المهر والميراث.
(3) أما حكمة عدة الطلاق الرجعي فحتى يتمكن الزوج فيها من الرجعة وهو حق للزوج، ووجوب ملازمتها لبيتها وهو حق لله، وحتى لا يضيع نسب الولد وهذا حق له، ولقيام الزوج بالنفقة على زوجته وهو حق لها (1) .
__________
(1) انظر: زاد المعاد 5 \ 591.(84/203)
الفصل الثاني
أقسام المعتدات وأحكام كل منها
سبقت الإشارة إلى أنه يحرم نكاح المرأة المعتدة حتى تتم عدتها وتحل بعدها للأزواج، وقد قسم العلماء المعتدات حسب حالاتهن إلى ثلاثة أقسام:
أولا: معتدة بالقروء:
وهي من فارقها زوجها حيا وهي من ذوات الأقراء لصريح قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) .
والقرء من الألفاظ المشتركة بين الطهر والحيض، لذلك اختلفت كلمة العلماء في المراد به (2) والخلاف ليس لفظيا فقط بل مترتباته كثيرة، فمن قال: إن المراد به الحيض اشترط لعدة المرأة ثلاث حيضات كاملات بعد الطلاق وعليه فلا تحسب الحيضة التي طلقت فيها بلا خلاف بين أهل العلم في ذلك.
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) انظر: تفصيل ذلك في اللغة: كتاب العدد من الحاوي الكبير: 1 \ 114 وما بعدها.(84/204)
ومن قال: إن المراد به الطهر فلا يشترط لعدة المرأة ثلاث أطهار إذا طلقت في طهر.
وعليه فتختلف مدة العدة بين هذه وتلك وكلاهما من ذوات الأقراء، أما المراد بالقرء فللعلماء فيه قولان:
القول الأول:
هو الحيض وهو مروي عن الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة (1) والصحيح عند الإمام أحمد وهو مذهب الحنفية
__________
(1) انظر: زاد المعاد 5 \ 532 - 533، المغني 11 \ 199، المجموع 18 \ 132.(84/205)
وتفسير القروء بالحيض مستقر معلوم مستفيض (1) وأدلتهم في ذلك (2) .
1- أن الأصل الاعتداد بالحيض، فإن لم يكن فبالأشهر قال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (3) .
والمبدل - الحيض - هو الذي يشترط عدمه لجواز إقامة البدل - الأشهر - مقامه، والمبدل هو الحيض فكان هو المراد من القرء.
2- ظاهر النص في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (4) .
أن العدة ثلاثة، فمن جعل معنى القروء الطهر لم يوجب ثلاثة لأنه يحسب لها الطهر الذي طلقت فيه ولو بقي منه
__________
(1) انظر: زاد المعاد 5 \ 540.
(2) انظر: بتوسع في الأدلة والتعليق عليها ومناقشتها زاد المعاد 5 \ 536 وما بعدها.
(3) سورة الطلاق الآية 4
(4) سورة البقرة الآية 228(84/206)
جزء يسير، وهذا يخالف ظاهر النص، ومن جعل معناه الحيض فاشترط له ثلاثة كاملة وهذا الموافق للنص.
3- قوله - صلى الله عليه وسلم -: «دعي الصلاة أيام أقرائك (1) »
والصلاة لا تترك إلا في الحيض، لذلك استعمل لفظ القروء هنا بمعنى الحيض وهو أصل ما تنقضي به العدة، ولفظ القرء لم يستعمل في الشرع إلا للحيض، وحمله في الآية على ذلك متعين (2) .
4- قوله - صلى الله عليه وسلم -: «طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان (3) »
وفيه تصريح بأن القروء هو الحيض.
وقد أمرت عائشة رضي الله عنها بريرة أن تعتد ثلاث حيض.
__________
(1) أخرجه أبو داود كتاب الطهارة، باب من قال تغتسل من طهر إلى طهر حديث رقم (297) وللحديث روايات كثيرة مشتركة المعنى.
(2) انظر: زاد المعاد 5 \ 541، المغني 11 \ 200.
(3) ابن ماجه كتاب الطلاق باب في طلاق الأمة وعدتها 2 \ 671 - 672، رقم 2079، 2080.(84/207)
5- ما يدل على الاستبراء هو الحيض، والاستبراء من حكم العدة. والطهر بعد الطلاق لا يدل على براءة الرحم فلا يجوز إدخاله في العدة الدالة على البراءة (1) .
القول الثاني:
هو الطهر وذلك عند الشافعية (2) والمالكية (3) ورواية للحنابلة (4) وهو مروي عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم.
وأدلتهم.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (5) .
__________
(1) انظر: زاد المعاد 5 \ 544، بدائع الصنائع 3 \ 194، المغني 11 \ 202.
(2) انظر: المجموع 1 \ 130، والأم 5 \ 191، 224، كتاب العدد من الحاوي الكبير 1 \ 113.
(3) انظر: حاشية الدسوقي 2 \ 469، الفواكه الدواني 2 \ 61، بداية المجتهد 2 \ 75.
(4) انظر: المغني 11 \ 199.
(5) سورة الطلاق الآية 1(84/208)
أي لوقت عدتهن كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (1) أي: في يوم القيامة، فدل على أنه وقت العدة.
2- أمره - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يراجع ابن عمر زوجته والحديث الوارد في ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مره فليراجعها. ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلق لها النساء (2) »
وهنا قد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - القرء بالطهر بأن جعله زمان العدة والطلاق؛ لأن الطلاق المأمور به في الطهر فوجب أن يكون الطهر هو العدة دون الحيض (3) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 47
(2) البخاري، كتاب الطلاق، باب وقوله تعالى: (ياأيها النبي إذا طلقتم النساء) رقم (5251) ، مسلم، كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها رقم الحديث (1471) .
(3) انظر: كتاب العدد من الحاوي الكبير 1 \ 141، المغني 11 \ 199.(84/209)
وفي رواية أخرى: «طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مره فليراجعها قلت: تحتسب. قال: أرأيته إن عجز واستحمق (1) » ؟
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «حسبت على تطليقة (2) »
وقد جمع بين الدليلين في الآتي:
قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (3) أي في وقت عدتهن، وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية بهذا التفسير بحديث ابن عمر رضي الله عنهما حين أمره - صلى الله عليه وسلم - أن يطلق زوجته وهي طاهر لأن تلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء وهي الطهر الذي بعد الحيضة، ولو كان القرء هو الحيض كان طلاقها قبل العدة لا في العدة وفي هذا تطويل عليها كما لو طلقها في الحيض (4) .
يستعمل القرء عند العرب بمعنى الحبس (5) .
__________
(1) أخرجه البخاري كتاب الطلاق /باب مراجعة الحائض رقم الحديث (5333) .
(2) أخرجه البخاري كتاب الطلاق باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق رقم (5252) ، مسلم كتاب الطلاق باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها رقم الحديث (1471) .
(3) سورة الطلاق الآية 1
(4) انظر: زاد المعاد 5 \ 546 - 547.
(5) انظر: زاد المعاد 5 \ 548، وقد نقله عن الشافعي في أن القروء هو الطهر.(84/210)
وهو الجمع، فيكون القرء زمان الطهر أولى به فإنه حينئذ يجتمع الحيض، وإنما يخرج بعد جمعه (1) .
وقد رد الفريق الأول على أدلة الفريق الثاني بالآتي:
1- قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) معناه لاستقبال عدتهن ومعلوم أنها إذا طلقت طاهرا استقبلت العدة بالحيض، ولو كانت الأقراء الأطهار، لكانت السنة أن تطلق حائضا لتستقبل العدة بالأطهار فالعدة التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تطلق لها النساء هي أن تطلق طاهرا لتستقبل عدتها بعد الحيض (3) .
2- أما كون تحريم طلاق الحائض خشية التطويل عليها فلا يسلم عند جميع الفقهاء بل العلة في التحريم لأنه طلقها في وقت رغبته عنها (4) .
__________
(1) انظر: المرجع السابق 5 \ 558.
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) انظر: زاد المعاد 5 \ 562.
(4) انظر: المرجع السابق 5 \ 263.(84/211)
الراجح:
القول الأول القائل بأن معنى القروء الحيض لا الطهر لذهاب أكابر الصحابة رضوان الله عليهم إليه ومنهم الخلفاء الراشدون، وقد رجحه وصوبه جمع من العلماء.(84/212)
ثانيا: معتدة بالشهور وهي:
1- كل من تعتد بالمدة فارقت زوجها حيا إذا لم تكن ذات قروء لصغر أو إياس أو ارتفاع حيض ولم تدر سببه. قال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (1) .
2- المتوفى عنها زوجها ولم تكن حاملا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (2) .
صرحت الآية بالمدة المطلوبة وهي أربعة أشهر وعشر وذلك
__________
(1) سورة الطلاق الآية 4
(2) سورة البقرة الآية 234(84/212)
في حق كل امرأة ولا يشترط كونها مدخولا بها أو كبيرة لأن الموت ينتهي به العقد فتستقر به الأحكام في التوارث والمهر والعدة (1) .
من السنة:
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا (2) »
والشهر قد يكون ثلاثين يوما وقد يكون تسعا وعشرين يوما لما ورد في السنة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آلى من نسائه وكانت انفكت رجله، فأقام في مشربة له تسعا وعشرين. ثم نزل فقالوا: يا رسول الله، آليت شهرا، فقال: الشهر تسع وعشرون (3) »
أما حد الإياس ففيه اختلاف بين الناس وأفضل ما يقال فيه ما نقله ابن القيم عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن اليأس يختلف باختلاف النساء وليس له حد يتفق فيه النساء (4) .
ومراعاة لاحتياط فالأولى اعتبار العدة بالأيام أي تعتد بتسعين
__________
(1) انظر: زاد المعاد 5 \ 589، بدائع الصنائع 3 \ 192، الفواكه الدواني 2 \ 63.
(2) أخرجه البخاري: كتاب الطلاق، باب تحد المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرا، رقم (5334) .
(3) أخرجه البخاري: كتاب الطلاق، باب قوله تعالى: للذين يؤلون من نسائهم رقم الحديث (5289) .
(4) انظر: زاد المعاد 5 \ 584.(84/213)
يوما من الطلاق، ومائة وثلاثين يوما من الوفاة (1) .
وهناك من عده بالأهلة؛ لأن الأشهر في الشرع بالأهلة قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) .
فإذا كان الطلاق في أول الهلال اعتدت بثلاثة أشهر بالأهلة، وإن كان الطلاق في أثناء الشهر اعتدت بقية الشهر ثم اعتدت شهرين بالأهلة ثم يضاف من الشهر الرابع ما تتم به ثلاثون يوما مع ما اعتدت به الشهر الأول (3) وتحسب العدة من الساعة التي فارقها زوجها فيها، فلو فارقها نصف الليل أو نصف النهار، اعتدت من ذلك الوقت إلى مثله، هذا قول أكثر أهل العلم (4) .
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 3 \ 196، البحر الرائق 4 \ 142.
(2) سورة البقرة الآية 189
(3) انظر: المجموع 18 \ 141.
(4) انظر: المغني 11 \ 208.(84/214)
ثالثا: معتدة بالحمل:
تنقضي عدة الحامل بوضع الحمل مطلقا ولو بعد ساعة من مفارقة زوجها لها حيا أو ميتا، مطلقة بائنة كانت أو رجعية (1) حرة أو أمة مسلمة أو كتابية (2) هذا على الراجح من أقوال أهل العلم (3) استنادا على قول الحق عز وجل: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (4) .
وقد انقسمت آراء الفقهاء في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها إلى فريقين:
الفريق الأول:
القائل بأن عدة الحامل أقصى الأجلين من وضع الحمل أو التربص أربعة أشهر وعشرا والمقصود بأبعد الأجلين أنها إذا وضعت حملها قبل مضي أربعة أشهر وعشر تبقى معتدة حتى انقضائها، أما إذا
__________
(1) انظر: زاد المعاد 5 \ 527، المغني 11 \ 194.
(2) انظر: الفواكه الدواني 2 \ 62 - 63.
(3) انظر: الروض المربع 2 \ 902، مختصر اختلاف الفقهاء 2 \ 392 - 393.
(4) سورة الطلاق الآية 4(84/215)
مضت أربعة أشهر وعشر ولم تضع حملها تنتظر حتى وضع الحمل (1) وهذا القول مروي عن عدد من الصحابة.
أدلة هذا الرأي من الكتاب:
الجمع بين عموم آيتين في كتاب الله: الأولى: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (2) وفيها بيان لعدة المتوفى عنها زوجها.
الثانية: قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (3) وفيها انقضاء العدة بوضع الحمل.
والجمع بين الآيتين أنها إذا تربصت أقصى الأجلين عملت
__________
(1) انظر: نيل الأوطار 7 \ 88، المجموع 18 \ 149.
(2) سورة البقرة الآية 234
(3) سورة الطلاق الآية 4(84/216)
بمقتضى الآيتين (1) وإن عملت بآية وضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة والجمع أولى من الترجيح (2) .
من المعقول:
في الآيتين عمومان ولا يمكن تخصيص عموم إحداهما بخصوص الأخرى، ولكن يمكن دخول بعض الصور في عموم الآيتين بمعنى إعمال للعموم في مقتضاه، فإذا اعتدت المتوفى عنها زوجها الحامل أقصى الأجلين دخل أدناهما في أقصاهما (3) .
الفريق الثاني:
القائل بأن عدة المتوفى عنها زوجها تنقضي بوضع الحمل ولو كان الزوج على مغتسله.
وإليه ذهب جمهور الصحابة ومن بعدهم والأئمة الأربعة.
__________
(1) انظر: أحكام القرآن للجصاص 1 \ 415، زاد المعاد 5 \ 530، بدائع الصنائع 3 \ 197.
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3 \ 175.
(3) انظر: بحث حقوق المتوفى في التشريع الإسلامي 709.(84/217)
3 أدلة هذا الرأي من الكتاب:
عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1) في كل من مات عنها زوجها، أما قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (2) (3) خاصة فيمن مات زوجها وهي حامل فتنقضي عدتها بوضع الحمل والخاص أولى في الاعتبار من العام.
من السنة:
روت أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن امرأة من أسلم يقال لها: سبيعة كانت تحت زوجها، توفي عنها وهي حبلى، فخطبها أبو السنابل بن بعكك، فأبت أن تنكحه، فقال: والله ما يصلح أن تنكحيه حتى تعتدي آخر الأجلين. فمكثت قريبا من عشر ليال ثم نفست، ثم جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: انكحي (4) »
__________
(1) سورة البقرة الآية 234
(2) سورة الطلاق الآية 4
(3) انظر: تفسير فتح القدير 1 \ 248، زاد المعاد 5 \ 529، المغني 11 \ 228.
(4) أخرجه البخاري: كتاب الطلاق، باب '' وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن '' رقم الحديث (5318) ، ومسلم كتاب الطلاق باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل رقم الحديث (1485) .(84/218)
وهذا صريح في انقضاء العدة بالوضع وفيه دليل صريح على أن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها تنقضي بوضع الحمل وإن كان لدون أربعة أشهر وعشر (1) .
من الآثار:
قول ابن مسعود رضي الله عنه: " إذا وضعت المتوفى عنها زوجها فقد حلت ".
وقوله رضي الله عنه: " تجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة " (2) .
والمراد بالتغليظ أبعد الأجلين من وضع الحمل أو أربعة أشهر وعشر، والمراد بالرخصة وضع الحمل قبل مضي أربعة أشهر وعشر.
وعليه فآية وضع الحمل مخصصة لآية الاعتداد بالأشهر ومبينة للمراد منها (3) وتخصيص عموم آية وضع الحمل بآية الاعتداد بالأشهر تخصيص عموم بلا دلالة فلا يعمل به (4) أما عموم آية: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (5)
__________
(1) انظر: فتح الباري 9 \ 474.
(2) سنن النسائي كتاب الطلاق باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها 6 \ 197.
(3) انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي 3 \ 17، زاد المعاد 5 \ 532.
(4) انظر: أحكام القرآن، للجصاص 3 \ 458.
(5) سورة البقرة الآية 234(84/219)
فهو مخصص بآية: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (1) (2) .
وحديث ابن عمر أنه سئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها وهي حامل، فقال: " إذا وضعت حملها فقد حلت " (3) .
من الإجماع:
فقد أجمع أهل العلم في جميع الأمصار على أن المتوفى عنها زوجها الحامل أجلها وعدتها تنقضي بوضع الحمل (4) .
من المعقول:
إن وضع الحمل يدل على براءة الرحم من الحمل بيقين ومن حكم مشروعية العدة التحقق من براءة الرحم من الحمل (5) فتنقضي
__________
(1) سورة الطلاق الآية 4
(2) انظر: نيل الأوطار 7 \ 89.
(3) أخرجه مالك في الموطأ كتاب الطلاق /باب عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا رقم 1247.
(4) انظر: المغني 11 \ 227.
(5) انظر: المغني 11 \ 228، بدائع الصنائع 3 \ 187، الفواكه الدواني 2 \ 62.(84/220)
عدتها بوضع الحمل كالمطلقة (1) .
الرد على أدلة الفريق الأول:
(1) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (2) عامة في المتوفى عنها زوجها ما عدا الحامل فقد خرجت بقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (3) .
(2) آية العدة بوضع الحمل مخصصة لآية الاعتداد بالأشهر (4) .
(3) صريح حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في انقضاء عدة الحامل بوضع الحمل. والصريح أولى بالاعتبار من غيره.
الراجح:
القول الثاني القائل بأن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها تنقضي بوضع الحمل لقوة أدلة القائلين به وضعف أدلة القول الأول،
__________
(1) انظر: المغني 11 \ 228.
(2) سورة البقرة الآية 234
(3) سورة الطلاق الآية 4
(4) انظر: نيل الأوطار 7 \ 89.(84/221)
إضافة لأن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها قد تكون أكثر من عدة غير الحامل وذلك إذا توفي عنها زوجها وهي في بداية حملها منه والله أعلم.
ومع المعتدة بالحمل نقف وقفتين:
أولا: الحمل الذي تنقضي به العدة.
ثانيا: مدة الحمل.
وتفصيل الوقفة الأولى ما يلي:
الحمل الذي تنقضي به العدة:
عند عامة العلماء تنقضي العدة بوضع ما تبين فيه خلق إنسان ولو خفيا، وإذا ولدت ولدا وفي بطنها آخر لم تنقض العدة حتى تلد الآخر (1) أما إذا كان الحمل علقة فوضعتها المرأة فلا تنقضي به
__________
(1) انظر: الفواكه الدواني 2 \ 62.(84/222)
العدة بإجماع جمهور الفقهاء.
أما ما عدا ذلك فقد وردت اختلافات الفقهاء فيها على النحو التالي:
عند الحنفية: (1) شرط انقضاء العدة أن يكون ما وضعته المرأة قد استبان خلقه أو بعض خلقه، فإن لم يستبن بأن أسقطت علقة أو مضغة لم تنقض العدة لاحتمال أن يكون واحتمال ألا يكون فيقع الشك في وضع الحمل، والعدة لا تنقضي بالشك.
عند المالكية (2) إن أسقطت الزوجة سقطا لم يتبين شيء من خلقه سواء كان علقة أو مضغة أو عظما أو دما إذا ثبت عند النساء من أنه شيء يستقين أو يكون منه ولد فإنه تنقضي به العدة.
عند الشافعية (3) والحنابلة (4) : إذا ألقت المرأة بعد فرقة زوجها
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 3 \ 196، البحر الرائق 4 \ 147.
(2) انظر: بلغة السالك 1 \ 461.
(3) انظر: المجموع 18 \ 127 - 128، كتاب العدد من الحاوي الكبير 1 \ 279 وما بعدها.
(4) انظر: المغني 11 \ 230 - 231، شرح منتهى الإرادات 3 \ 218.(84/223)
شيئا لم يخل أن يكون ما بان فيه هو الشكل الآدمي من الرأس واليد والرجل فهذا تنقضي به العدة بلا خلاف أو أن يكون ما ألقته:
نطفة أو دما؛ فهذا لا يتعلق به شيء من الأحكام؛ لأنه لم يثبت أنه ولد لا بالمشاهدة ولا بالبينة.
2- أن تلقي مضغة لم يتبين فيها الخلقة، فشهد أربع ثقات من النساء القوابل أن فيه صورة الآدمي فتنقضي به العدة عند بعض الشافعية والحنابلة (1) .
3- إذا ألقت مضغة لا صورة فيها ولم تشهد القوابل أنه مبتدأ خلق آدمي فلا تنقضي به العدة؛ لأنه لم يثبت كونه ولدا ببينة ولا مشاهدة فأشبه العلقة، ولا تنقضي العدة بوضع ما قبل المضغة بحال سواء كان نطفة أو علقة، سواء قيل إنه مبتدأ خلق آدمي أو لم يقل (2) .
4- أن تضع مضغة لا صورة فيها ولم تشهد القوابل بأنها
__________
(1) عند الشافعية وأحمد قولان في انقضاء العدة به. انظر: المجموع 18 \ 128.
(2) انظر: المجموع 18 \ 128.(84/224)
مبتدأ خلق آدمي فهذا لا تنقضي به العدة.
وأقل ما تنقضي به العدة من الحمل أن تضعه بعد ثمانين يوما منذ أمكنه وطؤها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له اكتب عمله، ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة (1) »
ولا تنقضي العدة بما دون المضغة فوجب أن تكون بعد الثمانين، فأما ما بعد الأربعة أشهر فليس فيه إشكال لأنه ينكس في الخلق الرابع (2) .
وعليه فيشترط في الحمل الذي تنقضي به العدة:
(1) أن يتبين فيه خلق الإنسان.
(2) أن يكون منسوبا شرعا إلى من له العدة. (3) وهذا يتحدد حسب مدة الحمل ويأتي تفصيلها في الوقفة الثانية.
__________
(1) أخرجه البخاري كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة رقم (3208) .
(2) انظر: المغني 11 \ 231.
(3) انظر: الشرح الممتع 13 \ 339.(84/225)
أما تفصيل الوقفة الثانية ما يلي:
مدة الحمل: هناك أقل مدة للحمل وأكثر مدة للحمل وأغلب مدته، أما أقل مدة للحمل فقد اتفق الفقهاء على أن أقل مدة للحمل ستة أشهر وقد سبق القرآن الكريم إلى ذلك بتقرير أقل مدة للحمل الذي يعيش بعد الولادة وهي عند الفقهاء والأطباء (1) ستة أشهر (2) قمرية وتجدر الإشارة هنا إلى ما قاله صاحب كتاب تطور الجنين وصحة الحمل من اعتماد التقويم القمري للحساب الدقيق لمدة الحمل جاء ذلك في قوله (3) " وقد بينت المؤلفات الأجنبية لعلم الجنين أن التقويم القمري (الهجري) أفضل في تقدير عمر الجنين وزمن ولادته من التقويم الميلادي، ووضعت جميع جداولها على التقويم القمري (الهجري) والشهر القمري إما تسع وعشرون ليلة أو ثلاثون ليلة جاء ذلك نصا في قول المصطفى عليه الصلاة
__________
(1) انظر: الطب النبوي والعلم الحديث 3 \ 364، مع الطب في القرآن الكريم 25.
(2) الشهر في اللغة: معناه القمر، قال ابن الأثير: الشهر الهلال. انظر: لسان العرب مادة (شهر) .
(3) ص 410.(84/226)
والسلام: «الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين (1) »
والمدة مستنبطة من قول الحق عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) .
والثلاثون شهرا هي مدة الحمل والفصال معا، وقوله عز من قائل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (3) مع قوله سبحانه وتعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (4) .
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا (1970) .
(2) سورة الأحقاف الآية 15
(3) سورة البقرة الآية 233
(4) سورة لقمان الآية 14(84/227)
وهذه مدة الفصال فقط - فالباقي من الثلاثين ستة أشهر وهي أقل مدة الحمل. أخرج الحاكم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيره قوله تعالى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (1) قال: " إذا حملته تسعة أشهر أرضعته واحدا وعشرين شهرا، وإن حملته ستة أشهر أرضعته أربعة وعشرين شهرا " ثم قرأ (2) {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (3) .
روي أن عمر رضي الله عنه أتي بامرأة وقد ولدت لستة أشهر فهم برجمها، فبلغ ذلك عليا رضي الله عنه فقال: " ليس عليها رجم، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فأرسل إليه فسأله فقال: " قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (4) وقال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (5) فستة أشهر حمله لا حد عليها أو قال " لا رجم عليها"، فخلى عمر عنها.
وقد استنتج الإمام علي رضي الله عنه من هذا الاستدلال إلحاق المولود لستة أشهر بأبيه (6) .
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 15
(2) انظر: المستدرك على الصحيحين 2 \ 163، قال الحاكم: '' صحيح الإسناد ''.
(3) سورة الأحقاف الآية 15
(4) سورة البقرة الآية 233
(5) سورة الأحقاف الآية 15
(6) انظر: تفسير القرآن العظيم 4 \ 169.(84/228)
جاء في كتاب العدد من الحاوي في تفصيل هذه المدة قوله (1) " ولا تخلو هذه المدة من أربعة أحوال:
إما أن تكون جامعة لأقلهما، أو لأكثرهما، أو لأكثر الحمل وأقل الرضاع، أو لأقل الحمل وأكثر الرضاع. فلم يجز أن تكون جامعة لأقلهما؛ لأن أقل الرضاع غير محدد، ولم يجز أن تكون جامعة لأكثرهما لزيادتهما على هذه المدة، ولم يجز أن تكون جامعة لأكثر الحمل وأقل الرضاع؛ لأن أقله غير محدد، فلم يبق إلا أن تكون جامعة لأقل الحمل وأكثر الرضاع ".
وعلى ذلك فانقضاء أقل مدة الحمل والوضع بعده يثبت كافة الأحكام الخاصة بذلك وهي المدة التي قرر لأطباء إمكانية حياة الجنين بعدها، أما الولادة قبل هذه الفترة تسمى إسقاطا والجنين غير قابل للبقاء حيا فيها - إلا بإذن الله تعالى - أما الولادة بعد هذه المدة تسمى خداجا والخديج من يولد بعد ستة أشهر وقبل تمام
__________
(1) 1 \ 351.(84/229)
تسعة أشهر وهذا المولود قابل للحياة ولكنه يحتاج إلى عناية خاصة - والله أعلم - (1) .
أقصى مدة الحمل:
الفراش جهة من جهات النسب المجمع عليها، والنسب يحتاط لإثباته ما أمكن، والنكاح يثبت به الفراش، ومطلق الفراش ينصرف إلى الصحيح (2) فالزوجة تحت الزوج فراش والولد يلحق بصاحب الفراش إلا أن ينفيه باللعان قال - صلى الله عليه وسلم -: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر (3) »
__________
(1) انظر: مع الطب في القرآن الكريم 25، الطب النبوي والعلم الحديث 3 \ 364، مشكلة الإجهاض 10.
(2) انظر: زاد المعاد 5 \ 368.
(3) رواه البخاري، كتاب الفرائض، باب الولد للفراش (6749) .(84/230)
وقد اختلف الفقهاء في تحديد أقصى مدة الحمل؛ وذلك لأن تقدير هذه المدة لا توقيف فيها ولا اتفاق (1) وعليه فلا دليل من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة على التحديد الدقيق لهذه المدة.
وكل ما احتاج إلى حد أو تقدير إذا لم يتقدر بشرع ولا لغة كان مقداره بالعرف والوجود كالحيض والنفاس ومدة الحمل (2) .
أشهر آراء الفقهاء في أقصى مدة الحمل:
الرأي الأول:
أكثر مدة الحمل سنتان، وذلك عند الحنفية (3) ورواية للحنابلة (4) .
أدلة الرأي الأول:
1- قول عائشة رضي الله عنها " ما تزيد المرأة في الحمل على سنتين، ولا قدر ما يتحول ظل عود المغزل ".
__________
(1) انظر: المغني 7 \ 477.
(2) انظر: كتاب العدد من الحاوي 1 \ 320، شرح الزركشي على متن الخرقي 3 \ 470.
(3) انظر: بدائع الصنائع 3 \ 212، المبسوط 6 \ 44، مجمع الأنهر 1 \ 474، البحر الرائق 4 \ 147.
(4) انظر: المغني 7 \ 477.(84/231)
هذه الرواية عن مجهولة واختلفت الأقوال فيها:
ذهب صاحب بدائع الصنائع إلى (1) أنها رضي الله عنها قالت ذلك سماعا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن هذا باب لا يدرك بالرأي والاجتهاد ولا يظن بها أنها قالت ذلك جزافا أو تخمينا فتعين السماع.
أما صاحبة كتاب الآثار المترتبة على الطلاق (2) فترجع قول أم المؤمنين رضي الله عنها إلى أنه " رأي بناء على ما شاهدته أو سمعته من أحوال النساء، ولم يكن بناء على السماع من رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذه المدة وهي السنتان وإن كانت لا تدرك بالعقل ولكن يمكن معرفتها عن طريق المشاهدة أو الإخبار عنها.
وأبعد ما تكون عن قول الرسول عليه الصلاة والسلام ".
2- ما روي أن عمر رضي الله عنه أثبت نسب ولد المرأة التي غاب عنها زوجها سنتين ثم قدم فوجدها حاملا، فهم عمر برجمها فقال له
__________
(1) 3 \ 211.
(2) ص 277 بتصرف يسير.(84/232)
معاذ: إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فتركها حتى ولدت ولدا قد نبتت ثنياه يشبه أباه، فلما رآه قال: " ولدي ورب الكعبة " فإنما هو بقيام الفراش ودعوى الرجل نسبه.
الرأي الثاني: أكثر مدة الحمل أربع سنوات وذلك عند الشافعية وظاهر مذهب الحنابلة ورأي عند المالكية (1) .
وعليه فلو أتت المرأة بولد لأربع سنين فما دونها من يوم طلاقها أو موت زوجها ولم تكن تزوجت ولا وطئت ولا انقضت عدتها بالقروء أو الاستبراء ولا بوضع الحمل فإن الولد لاحق بالزوج والعدة منقضية به (2) .
__________
(1) انظر: شرح منح الجليل 2 \ 380، القوانين الفقهية 157، شرح الزركشي على متن الخرقي 3 \ 470.
(2) انظر: مغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة في الأحكام 138، شرح الزركشي 3 \ 471.(84/233)
أدلة الرأي الثاني:
1- قول الإمام مالك بن أنس بعد أن ذكر له قول عائشة رضي الله عنها " ما تزيد المرأة في الحمل على سنتين، ولا قدر ما يتحول ظل عود المغزل ".
فقال " سبحان الله. من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة صدق، وزوجها رجل صدق وحملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة تحمل كل بطن أربع سنين ".
السؤال الذي يطرح نفسه: أين مدة الرضاع عند هذه المرأة التي ولدت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل أربع سنوات ثم تلد وهكذا ... ؟
فقد تكون لم تر الحيض خلال فترة الرضاع، أو انقطع عنها الدم لسبب آخر ثم حملت قبل أن تراه، فحكم على كامل المدة أنها مدة حمل، وقد تكون حالة نادرة وليست عامة - والله أعلم بالصواب -.
2- عدة من ارتفع حيضها وهي من ذوات الأقراء ولا تدري(84/234)
ما سببه أربع سنوات حتى يتيقن براءة رحمها ثم تعتد بثلاثة أشهر وهو قول للشافعي (1) .
ولا يخفى ما في هذا من تطويل للعدة بغير حاجة لذلك، وفيه ضرر على الزوجين؛ الزوج بإيجاب النفقة عليه لزوجته طوال هذه المدة، والزوجة بمنعها من الزواج طوال هذه المدة أيضا.
إضافة إلى أن المرأة قد ينقطع حيضها لسبب غير الحمل.
3- عدة امرأة المفقود أربع سنوات ثم تعتد عدة المتوفى عنها زوجها، وهذا قضاء عمر وعثمان رضي الله عنهما أخذ به الإمام أحمد وتابعه ابن تيمية (2) وهذا حتى يتيقن براءة رحمها من الحمل.
4- أن ما لا نص فيه يرجع فيه إلى الوجود وقد وجد الحمل لأربع سنوات (3) .
الرأي الثالث: أكثر الحمل خمس سنين (4) وهذا هو المشهور
__________
(1) انظر: المجموع 18 \ 136.
(2) انظر: مجموع الفتاوى 20 \ 576.
(3) انظر: كتاب العدد من الحاوي 1 \ 320، شرح الزركشي 3 \ 471.
(4) انظر: مواهب الجليل 4 \ 151، بداية المجتهد 2 \ 93، القوانين الفقهية 157.(84/235)
عند المالكية، وروي عن مالك سبع سنين (1) .
أدلة الرأي الثالث: لم أقف عليها ولكن قد يكون قد وجد هذا - والله أعلم -.
الرأي الرابع: أكثر مدة الحمل تسعة أشهر، وذلك عند الظاهرية (2) وبعض فقهاء المذاهب (3) .
أدلة الرأي الرابع:
1- أن غالب مدة الحمل تسعة أشهر (4) وندرت الزيادة عليها.
2- لأن المطلقة ذات الأقراء إذا ارتفع حيضها، ولم تدر ما سببه تعتد سنة، تسعة أشهر منها لتعلن براءة رحمها من الحمل؛ لأن هذه غالب مدته ثم تعتد عدة الآيسات ثلاثة أشهر. هذا مذهب مالك (5) وأحد قولي الشافعي (6) ومذهب
__________
(1) انظر: القوانين الفقهية 157.
(2) انظر: المحلى 10 \ 285.
(3) انظر: بداية المجتهد 2 \ 93، القوانين الفقهية 156، المغني 7 \ 477.
(4) انظر: بداية المجتهد 2 \ 93، القوانين الفقهية 156.
(5) انظر: بداية المجتهد 2 \ 93.
(6) انظر: المجموع 18 \ 135.(84/236)
الحنابلة (1) وقد اختاره ابن قدامة (2) وشيخ الإسلام ابن تيمية (3) وهو مروي عن عمر رضي الله عنه ولا مخالف له من المهاجرين والأنصار (4) وذلك في قوله رضي الله عنه " أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعت حيضتها فإنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حمل فذلك، وإلا اعتدت بعد التسعة أشهر بثلاثة أشهر ثم حلت ".
جاء في المحلى (5) فهذا عمر - رضي الله عنه -لا يرى الحمل أكثر من تسعة أشهر ".
أمر عمر رضي الله عنه من انقطع دمها أن تنتظر تسعة أشهر حتى يستبين حملها ولم يصرح فيه بأن هذه أقصى مدة الحمل
__________
(1) انظر: المغني 7 \ 447.
(2) انظر: اختيارات ابن قدامة الفقهية 3 \ 313.
(3) انظر: مجموع الفتاوي 34 \ 21، تيسير الفقه الجامع للاختيارات الفقهية لابن تيمية 2 \ 842.
(4) انظر: المغني 7 \ 466، مجموع الفتاوى 34 \ 21.
(5) 10 \ 217.(84/237)
بل أمرها بذلك لأن هذه غالب مدته، ولو كانت التسعة أشهر هي أقصى مدته لبينها أو لحسب معها الحيضتين السابقتين للانقطاع، كما أن الله عز وجل حدد للصغيرة والآيسة ثلاثة أشهر وهي ليست أقصى مدة الحمل فهما لا تحملان أصلا، وللمتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا وهي أيضا ليست أقصى مدة الحمل (1) .
3- التسعة أشهر هي أيضا عدة للمستحاضة - وهي التي جهل حيضها - وذلك عند الإمام أحمد (2) ومالك (3) والظاهرية (4) وما ذلك إلا لأن هذه هي غالب مدة الحمل.
وأرى أن هذا الاستدلال لا أصل له ولم أقف عليه فيما تيسر لي مراجعته من كتب الفقهاء.
الرأي الراجح:
وبعد هذا الاستعراض لآراء الفقهاء وأدلتهم في تحديد أقصى مدة
__________
(1) انظر: ثبوت النسب 65.
(2) انظر: المغني 7 \ 466.
(3) انظر: الموطأ 2 \ 583.
(4) انظر: المحلى 10 \ 271.(84/238)
الحمل فأنتهي من حيث ابتدأت بأن المتفق عليه أن تحديد هذه المدة لا توقيف فيه ولا اتفاق (1) وما اعتمده الفقهاء من تحديد استند إلى وقائع جزئية لا تفيد تقديرا صحيحا وعاما لأقصى مدة الحمل، وكأنما ارتكزت آراؤهم عليه هو انقطاع حيض المرأة وهو في الغالب علامة حملها وقد تطول فترة الانقطاع ثم يحصل بأمر الله الحمل دون أن ترى المرأة الدم فتبني مدة الحمل على خطأ واشتباه ظنا أن مدة الانقطاع مضافا إليها مدة الحمل الحقيقية كلها مدة للحمل (2) .
وتبقى غالب مدة الحمل تسعة أشهر، وإنما بنى فقهاؤنا الأجلاء أحكامهم على ما ثبت وجوده وقد وجد من تعدت بحملها التسعة أشهر فوجب اعتباره لما يترتب عليه من الأحكام الشرعية. وهذا لا يعني الوقوف عندما توصلوا إليه وعدم الاستفادة من التسهيلات العلمية والطبية المتاحة؛ بل إن الرجوع والاستناد إلى أصحاب التخصص في تحديد مدة الحمل أصبح لزاما خصوصا عند الاختلاف والتعارض في تحديده لأن الحمل ومدته أساس ومناط لكثير من الأحكام الشرعية ولنا أخيرا النظر بعين أصحاب التخصص
__________
(1) انظر: المغني 7 \ 477.
(2) انظر: الطفل في الشريعة الإسلامية 49، الطب النبوي والعلم الحديث 3 \ 364 – 366.(84/239)
- الأطباء - في مدة الحمل.
فللأطباء في تحديد أقصى مدة الحمل آراء تتلخص في الآتي:
1- المدة الحقيقية للحمل ستة وستون ومائتا يوم يحدد تاريخ بدء آخر حيضة حاضتها المرأة الحامل ثم يضاف إليها تسعة أشهر وتسعة أيام وذلك موعد الولادة بالتقريب، قد يزيد أياما أو قد ينقص عنها، ولا تزيد أكثر مدة الحمل عند الأطباء عن شهر بعد ذلك.
2- غالب مدة الحمل إحدى وثمانون ومائتا يوم أو اثنان وثمانون ومائتا يوم، ابتداء من أول يوم لآخر حيض قبل الحمل. وهذه عشرة أشهر قمرية (1) .
3- تمام تسعة أشهر أو سبعون ومائتا يوم هي أقصى مدة للحمل (2) .
4- غالب مدة الحمل أربعون أسبوعا (3) هناك نسبة قليلة من
__________
(1) انظر: المرأة في سن الإخصاب وسن اليأس 89.
(2) انظر: مع الطب في القرآن 25، الطب النبوي والعلم الحديث 3 \ 364.
(3) انظر: المرأة في سن الإخصاب وسن اليأس 89.(84/240)
النساء - ثلاثة بالمائة - من يلدن في الأسبوع الرابع والأربعين أي في مدة أقصاها عشرة أشهر.
وعليه فأقصى مدة للحمل تنحصر بين الأسبوع الثامن والثلاثين إلى الأسبوع الأربعين وهذا ما يعادل بالأيام ستة وستين ومائتي يوم إلى ثمانين ومائتي يوم قد تزيد هذه المدة أياما أو قد تنقص أياما، إلى أن تصل حدها الأقصى في النادر عند بعض النساء وهو أربع وأربعون أسبوعا.
واختلافهم اليسير صدر عن صعوبة تحديد وقت ابتداء الحمل تحديدا دقيقا، وهو يحصل غالبا بعد اليوم الرابع عشر من آخر حيضة حاضتها الحامل.
وأخيرا فمن فضل الله علينا أنه من علينا وكفانا مؤنة البحث والتحديد لمدة الحمل بما يسره عز وجل من إمكانيات علمية وطبية(84/241)
كفلت لنا التحديد وبدقة متناهية والرجوع إلى الأطباء وأهل التخصص عند الاختلاف في ذلك أمر هام وضرورة ملحة.(84/242)
الفصل الثالث
مسائل متفرقة ومتعددة في العدة
(1) المطلقة رجعيا يتوفى عنها زوجها قبل انقضاء عدتها:
اتفق الفقهاء جميعهم على أن المطلقة رجعيا يتوفى عنها زوجها قبل انقضاء عدتها استأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا لعموم وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1) ، ولأن العدة هنا للتعبد، وموت الزوج يوجب عدة (2) والمطلقة رجعيا زوجة
__________
(1) سورة البقرة الآية 234
(2) مختصر الخرشي 4 \ 144 - 145.(84/242)
حكما يلحقها طلاق زوجها وترثه إذا توفي عنها وتنتقل من عدة المطلقة لعدة المتوفى عنها زوجها ولو حصلت الوفاة قبل تمام عدتها بيوم واحد (1) أما غير المدخول إن مات عنها زوجها فتعتد تعبدا (2) .
(2) المتوفى عنها زوجها البائن في صحة زوجها:
لم تنتقل عن عدة الطلاق لأنها ليست زوجة حقيقة ولا حكما فالزوجية قد زالت بالإبانة فتبقى عدة الطلاق على حالها لأنها أجنبية منه (3) وهذا مذهب مالك (4) والشافعي (5) ورأي الحنفية (6)
__________
(1) انظر: بلغة السالك 1 \ 465.
(2) انظر: الروض المربع 2 \ 900.
(3) انظر: أحكام المتوفى في التشريع الإسلامي 703، المغني 11 \ 226.
(4) انظر: المجموع 18 \ 152.
(5) انظر: الأم 5 \ 198، المجموع 18 \ 152.
(6) انظر: البحر الرائق 4 \ 149.(84/243)
والحنابلة (1) أما مذهب أبي حنيفة (2) ورأي للحنابلة (3) تعتد أطول الأجلين كما لو طلقها في مرض موته.
والراجح: القول الأول لانقطاع النكاح بالبينونة والله أعلم.
(3) المتوفى عنها زوجها البائن في مرض موت زوجها:
تعتد الأطول من عدة وفاة وطلاق لأنها (أ) مطلقة فوجب عليها عدة الطلاق، (ب) وارثة فتجب عليها عدة الوفاة.
ويندرج أقلهما في أكثرهما.
فإرثها هنا مقابل عدتها عدة الوفاة فحقها في الإرث يثبت مقابل تأديتها لحقه وهي العدة (4) ويلزمها عدة الطلاق لأنها بائن في النكاح فهي ليست زوجة له (5) .
__________
(1) انظر: شرح منتهى الإرادات 3 \ 219.
(2) انظر: شرح فتح القدير 4 \ 142، رد المحتار 3 \ 513، مجمع الأنهر 1 \ 467.
(3) انظر: المغني 11 \ 226.
(4) انظر: أحكام المتوفى في التشريع الإسلامي 706، المغني 11 \ 225.
(5) انظر: المغني 11 \ 225.(84/244)
وهذا عند أبي حنيفة ومحمد ونص في مذهب أحمد (1) .
أما عند مالك والشافعي (2) وأبي يوسف (3) فعدتها عدة طلاق دون عدة الوفاة لأنه مات وليست زوجة له، لأنها بائن من النكاح فلا تكون منكوحة (4) .
(4) عدة المستحاضة غير المميزة:
سنة فإنها تعتد بالأقراء لا بالأشهر، لأن الدم المميز بعد طهر تام يعد حيضا (5) .
(5) من ارتفع حيضها ولم تدر سبب رفعه:
اختلف الفقهاء فيها على عدة أقوال:
__________
(1) انظر: المغني: 11 \ 225، شرح منتهى الإرادات 3 \ 219.
(2) انظر: المجموع 18 \ 152 - 153، المغني 11 \ 225.
(3) انظر: مختصر اختلاف الفقهاء 2 \ 394، شرح فتح القدير 4 \ 142 - 143.
(4) انظر: المغني 11 \ 225.
(5) انظر: الفواكه الدواني 2 \ 62.(84/245)
القول الأول: عند مالك وأحد قولي الشافعي (1) ومذهب أحمد (2) عدتها سنة، تسعة أشهر كغالب مدة الحمل فإن لم يظهر حمل حكم ببراءة الرحم، وثلاثة أشهر كعدة الآيسات ولا تنقضي العدة بعود الحيض بعد المدة لانقضاء عدتها (3) .
وهذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار.
القول الثاني:
عند الشافعي في أحد قوليه (4) عدتها أربع سنين لأنها أكثر مدة الحمل، ثم تعتد عدة الآيسات ثلاثة أشهر، وذلك حتى تتيقن براءة رحمها من الحمل باعتدادها أكثر مدة الحمل.
__________
(1) انظر: الأم 5 \ 195، المجموع 11 \ 135.
(2) انظر: المغني 11 \ 195، 11 \ 214 - 215، زاد المعاد 5 \ 584، شرح منتهى الإرادات 3 \ 221.
(3) انظر: الروض المربع 2 \ 906، شرح منتهى الإرادات 3 \ 221.
(4) انظر: الأم 5 \ 195، المجموع 18 \ 136.(84/246)
القول الثالث:
عند أبي حنيفة (1) وقول للشافعي (2) تعتد أبدا حتى تحيض أو تبلغ سن الإياس فتعتد ثلاثة أشهر.
وذلك لأن العدة بالأشهر بعد اليأس فلا تعتد بها قبله، ولإمكانية عودة الدم إليها.
الراجح:
ما ذهب إليه أصحاب القول الأول؛ لأن المقصود من العدة معرفة براءة الرحم وعادة ما تحصل في السنة، والتطويل أكثر من ذلك فيه ضرر على المرأة يمنعها من الزواج، وعلى الرجل بإيجاب السكن والنفقة عليه (3) إضافة إلى أن العلم الحديث يسر أمر معرفة براءة الأرحام فلله الحمد والمنة.
(6) عدة امرأة المفقود (4)
إذا كانت غيبته غير منقطعة بحيث يعرف خبره فهذا ليس
__________
(1) انظر: رد المحتار 3 \ 508، مجمع الأنهر 1 \ 465، بدائع الصنائع 3 \ 195.
(2) انظر: الأم 5 \ 195، المجموع 18 \ 135، 139.
(3) انظر: الاختيارات الفقهية 3 \ 313.
(4) المفقود هو من انقطع خبره. انظر: حاشية الدسوقي 2 \ 479.(84/247)
لامرأته أن تتزوج بإجماع أهل العلم (1) .
أما إذا غاب وانقطع خبره فهذا له حكمان:
أ- إن كان ظاهر غيبته الهلاك تتربص أربع سنين من فقده وهذا عند أحمد (2) والمالكية (3) وأضافوا ثم تعتد أربعة أشهر وعشرا.
ب- إن كان ظاهر غيبته السلامة فاختلف الفقهاء في ذلك: عند الإمام أحمد تتربص تسعين سنة من ولادته ثم تعتد أربعة أشهر وعشرا، لأن الظاهر أنه لا يعيش أكثر من هذا العمر (4) .
وعند مالك والشافعي في القديم تتربص أربع سنين ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا واحتجوا بحديث عمر رضي الله عنه في المفقود (5) .
__________
(1) انظر: المغني 11 \ 247، المجموع 11 \ 158.
(2) انظر: الروض المربع 2 \ 907، المغني 11 \ 248، شرح منتهى الإرادات 3 \ 222.
(3) انظر: حاشية الدسوقي 2 \ 479.
(4) انظر: الروض المربع 2 \ 907، المغني 11 \ 247 - 248، شرح منتهى الإرادات 3 \ 222.
(5) انظر: المغني 11 \ 247، المجموع 18 \ 159، كتاب العدد من الحاوي 1 \ 766.(84/248)
وعند الشافعي في الجديد تتربص حتى تعرف موته أو طلاقها (1) .
والراجح:
جاء في الشرح الممتع (2) " الصحيح أننا لا نقدر ذلك بما ذكره الفقهاء، وأن الأمر في ذلك راجع إلى اجتهاد القاضي في كل قضية بعينها، فربما تكون أربع سنين كثيرة يغلب على الظن أنه مات قبل ذلك، وربما تكون قليلة بحسب الحال ".
(7) عدة المختلعة
للفقهاء في ذلك قولان:
القول الأول: عدتها عدة طلاق. وهذا مذهب مالك (3) والشافعي (4) وأحمد في المشهور عنه وصححه ابن قدامة في المغني (5) .
وأدلتهم في ذلك: 1- قوله تعالى:
__________
(1) انظر: المجموع 18 \ 159.
(2) 13 \ 373.
(3) انظر: المغني 11 \ 195.
(4) انظر: الأم 5 \ 181.
(5) انظر: المغني 11 \ 195 - 196.(84/249)
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) .
2- ولأنها فرقة بعد الدخول في الحياة الزوجية فهي كعدة الطلاق.
3- عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - في عدة الأمة «طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان (2) »
وقول ابن عمر رضي الله عنهما: " عدة المختلعة عدة المطلقة " (3) .
القول الثاني: عدتها حيضة. وذلك في رواية عن أحمد وبه قال أكثر أهل العلم (4) .
وأدلتهم في ذلك:
1- «اختلعت امرأة ثابت بن قيس فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عدتها حيضة (5) »
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) أخرجه أبو داود كتاب الطلاق /باب في سنة طلاق العبد رقم (2189) .
(3) أخرجه مالك في الموطأ كتاب الطلاق /باب طلاق المختلعة رقم (1192 - 1193) .
(4) انظر: المغني 11 \ 195.
(5) ابن ماجه كتاب الطلاق باب في عدة المختلعة رقم (2058) . ونص ذلك: اختلعت الربيع بنت معوذ بن عفراء من زوجها فجاءت عثمان فسألت ماذا علي من العدة. فقال: لا عدة عليك، إلا أن يكون حديث عهد بك، فتمكثين حتى تحيضين حيضة. قال: وإنما نتبع قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مريم المغالية. وكانت تحت ثابت بن قيس، فاختلعت منه.(84/250)
2- قضاء عثمان رضي الله عنه بذلك (1) .
وقد رد الفريق الأول على أدلة الفريق الثاني بما يلي:
1- حديث امرأة ثابت مرسل وفيه راو ضعيف (2) .
2- قضاء عثمان رضي الله عنه يخالفه قضاء غيره من الصحابة (3) .
الراجح: القول الثاني لقوة أدلة القائلين به. " والله أعلم ".
(8) عدة المطلقة قبل الخلوة والدخول:
نص القرآن الكريم على عدم إيجاب العدة على المطلقة قبل الخلوة والدخول قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (4) .
__________
(1) وذلك في حق الربيع بنت معوذ، أخرجة ابن ماجه كتاب الطلاق /باب عدة المختلعة رقم (2058) .
(2) انظر: اختيارات ابن قدامة الفقهية 3 \ 292، المغني 11 \ 196.
(3) انظر: المغني 11 \ 196.
(4) سورة الأحزاب الآية 49(84/251)
النكاح في الآية يطلق على العقد، وهو يطلق في الحقيقة على الوطء، وقد كنى عن الوطء بالملامسة (1) .
وقد أجمعت الأمة على أن المطلقة قبل المسيس لا عدة عليها لتيقن براءة رحمها (2) .
واختلف الفقهاء فيمن فارقها زوجها بعد الخلوة وقبل المس على قولين:
القول الأول:
تجب العدة عليها وهذا عند أبي حنيفة (3) والشافعي في القديم (4) ومذهب أحمد (5) وبه قال عدد من الصحابة (6) .
__________
(1) انظر: المجموع 18 \ 125.
(2) انظر: المجموع 18 \ 624.
(3) انظر: بدائع الصنائع 3 \ 191، رد المحتار 3 \ 54.
(4) انظر: الأم 5 \ 197، المجموع 18 \ 126، كتاب العدد من الحاوي 1 \ 370.
(5) انظر: المغني 11 \ 197.
(6) انظر: المغني 11 \ 197، المجموع 18 \ 126.(84/252)
وأدلتهم في ذلك:
1- قضاء الخلفاء الراشدين أن من أرخى سترا أو أغلق بابا فقد وجب المهر ووجبت العدة.
2- لأنه عقد على المنافع فالتمكين فيه يجري مجرى الاستيفاء في الأحكام المتعلقة كعقد الإجارة (1) .
3- التمكين في الخلوة وارد، وينعدم التمكين بعدم الخلوة، والخلوة أقيمت مقام الدخول التي فيها حق الله وحق الله يحتاط في إيجابه (2) .
القول الثاني:
لا تجب العدة عليها وهو قول الشافعي في الجديد (3) .
والدليل على ذلك صريح نص القرآن الكريم قال تعالى:
__________
(1) انظر: اختيارات ابن قدامة 3 \ 27، المغني 11 \ 198.
(2) انظر: بدائع الصنائع 3 \ 191.
(3) انظر: المجموع 18 \ 126، كتاب العدد من الحاوي 1 \ 371، المغني 11 \ 197 - 198.(84/253)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (1) في عدم إيجاب العدة على المطلقة قبل المس فأشبهت من لم يخل بها.
الراجح:
أرى - والله أعلم - ترجيح القول الأول لوضوح أدلة القائلين به، ولأنه الأولى والأحوط ودليل القول الثاني صريح في عدم إيجاب العدة على المطلقة قبل الدخول والخلوة فقط. والله أعلم.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 49(84/254)
الخاتمة:
تتضمن أهم النتائج:
الحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات تكمل المكرمات وقد تم التوصل في نهاية المطاف إلى نتائج تتلخص في الآتي:
1- الحمل من الموانع المؤقتة للنكاح ولا تنقضي عدة الحامل إلا بوضع الحمل مع الاختلاف فيما إذا وضعت المتوفى عنها زوجها حملها قبل مضي أربعة أشهر وعشر أم بعد ذلك.
لأن الأصل في عدة الوفاة الأشهر ولا تنتقل عن هذا الأصل إلا إذا كانت حاملا.(84/254)
2- وضع الحمل أصل العدد؛ لأن العدة وضعت لاستبراء الرحم ولا شيء أدل على براءة الرحم من وضع الحمل (1) .
3- العبرة في العدة بالمرأة، لأن العدة منها، وفي الطلاق بالزوج لأن الطلاق منه (2) .
4- أصل وجوب العدة إنما هو للدلالة على براءة الرحم (3) وقد تكون تعبدا في المتوفى عنها زوجها.
5- عدة المتوفى عنها زوجها غير الحامل أربعة أشهر وعشر، وإنما جعلت كذلك لأن الأربعة يتحرك فيها الحمل وزيدت العشر لاحتمال نقص الشهر أو تأخر الحركة (4) .
6- الاستفادة من التسخيرات الإلهية العلمية في تحديد مدة الحمل وبراءة الرحم منه.
7- يحرم نكاح المعتدة حتى تنقضي عدتها سواء كانت عدة وفاة أو عدة طلاق.
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 3 \ 201، المجموع 18 \ 127.
(2) انظر: الفواكه الدواني 2 \ 61.
(3) انظر: مواهب الجليل 4 \ 141.
(4) انظر: الفواكه الدواني 2 \ 63 - 64.(84/255)
صفحة فارغة(84/256)
الأمانة وأهمية أدائها
لمعالي الدكتور محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين: الأمناء على تبليغ الرسالة، والأمناء في نشر دين الله في أرض الله، وفق أمر الله الكريم، في القرآن الكريم، وعلى مسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحثه على تبليغ شرع الله في عباد الله، قولا باللسان، وقدوة في العمل، وجهادا بالنفس والمال، واهتماما بنقل الأمانة، وتحقيق دورها في نقل سنته، بعد بذل جهودهم رضي الله عنهم بحفظ القرآن، وجمعه خوفا عليه بعد ما قتل في الحروب بعض حفاظه.
والأمناء على تأدية الدور في جميع ما استحفظوا عليه، بأداء الشهادة في قولهم - لما قال لهم: «فما أنتم قائلون عني؟ نشهد أنك قد أديت الرسالة، وبلغت الأمانة، ونصحت الأمة، فرفع -صلى الله عليه وسلم-(84/257)
أصبعه قائلا: اللهم فاشهد.... اللهم فاشهد، اللهم فاشهد (1) »
فكانوا خير القرون بعده، باهتمامهم في أداء الأمانة، وترسم خطاه عليه الصلاة والسلام: عبادة مع الله، وتعاملا مع الناس، وحرصا على المواثيق، وصدقا في المواعيد، ودعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة ... حتى ضربوا النموذج الأمثل، في الحرص على الأمانة وأدائها.
وبعد: فما أجمل تعاليم الإسلام، وما أحسن آدابه، فهو يهذب النفوس، ويغير الطباع، ويدعو لترابط المجتمع، وأداء الحقوق وغير ذلك من الصفات الحميدة.
وما من شأن من شؤون الحياة، إلا وقد جعلت هذه التعاليم، والتوجيهات الكريمة: من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة، آدابا هي المثالية، عندما يتخلق بها الفرد، وتحرص على تطبيقها الجماعة، بإخلاص وصدق، لأن التخلق بها يبرز وراءه: المجتمع المثالي: أمنا ورخاء، وصيانة للحرمات، ومكافحة للجريمة، مع ما تشوق إليه البشرية، في أي موقع كانت.
وعندما خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في حجة الوداع، في أمته واعظا ومبلغا ومركزا على أمور، منها الأمانة: على الدماء والأموال
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - برقم: (1218) كاملا.(84/258)
والأعراض، والوصاية بالنساء خيرا، لأنها أمانة عظيمة في أعناق الرجال.. {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1) .
فما ذلك إلا أن التساهل فيها يجر إلى أمور عديدة: سواء في الأمور التعبدية مع الله سبحانه، فضلا عن آثارها في المجتمع: أفرادا وجماعات.
فقد قال له - صلى الله عليه وسلم -، واحد من الصحابة: يا رسول الله: كأنها خطبة مودع، فأوصنا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «تركت فيكم: كتاب الله وسنتي، لن تضلوا ما تمسكتم بهما (2) »
وما ذلك إلا أن الأمانات إذا أديت على حقيقتها، وفق ما أمر الله في كتابه، وما حث عليه رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - من تأكيدات لأهمية الأمانة، وأدائها ... فإن النفوس سوف تعف، ويرضى كل فرد بما قسم الله، ويعم العدل والهدوء، ويكون على كل نفس بشرية: رقابة ذاتية، ومحاسبة دقيقة، وغيرها من الصفات الحميدة، التي بها يترابط المجتمع، وتنعدم الجريمة ... وينام كل فرد آمنا مطمئنا، وترفع الأقفال عن البيوت والمتاجر، مع العدل والإنصاف.. استجابة لأمر
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) يراجع في هذا كتب الحديث والسيرة، وتاريخ ابن كثير، عن هذه الخطبة البليغة.(84/259)
الله جل وعلا، الذي فهمه المسلمون الأوائل، وخاصة في القرون الثلاثة المفضلة، يقول سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا سمعت في كتاب الله يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك، فما وراءها إما خيرا تؤمر به، أو شرا تنهى عنه.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير الأمناء من البشر، وجبريل عليه السلام هو أمين الله على وحيه، وفي فتح مكة وتطهيرها من أدران الشرك، دعا عليه الصلاة والسلام بعثمان بن طلحة، خازن وحامل مفتاح الكعبة، فأخذه منه ودخلها وأزال ما فيها من أرجاس الجاهلية، وبعد ذلك تكلم والمفتاح بيده، وعمه العباس يتطلع إلى أن يعطيه إياه، حتى يحوز على أكبر قدر من المكانة، فلم يحابه أو يقدمه على غيره - عليه الصلاة والسلام -.
بل دعا بعثمان بن طلحة، وأعطاه المفتاح، قائلا: «خذوه خالدة تالدة، وتلا ما جاءه من وحي الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (2) . (3) »
__________
(1) سورة الأنفال الآية 27
(2) سورة النساء الآية 58
(3) ينظر تفسير ابن كثير، سورة المائدة، الآيات (1 - 5) .(84/260)
وما انتشار الإسلام، إبان القرون الثلاثة المفضلة، وما بعدها إلا عندما ترسموا خطى الصحابة في الصدق وحسن التنفيذ، في كثير من مواقع المعمور من الأرض، والتي لم تبلغها جيوش المسلمين، عندما امتدت شرقا وغربا، في أرض الله لنشر دين الله، في عباد الله، امتثالا لرسالة الدعوة التي حملهم الله حق تبليغها، في مواطن كثيرة، من مصدري التشريع في دين الإسلام.. وما حصلت المصلحة الكبيرة إلا ثمرة من ثمار حرصهم على أداء الأمانة، على وجهها الذي شرعه الله، وسار عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي هو قدوتهم في العمل، وحسن الاستجابة في البيان.
وهذا من أبرز اهتماماتهم بأداء الأمانة، تطبيقا في النفوس، وقدوة صالحة في الحديث، وصدقا في التعامل مع الآخرين، ووفاء بالمواثيق والمواعيد، وغير ذلك من الصفات التي تتوق إليها القلوب الصافية، وتتطلع إليها النفوس البشرية عامة، لما فيها من صلاح وإصلاح.
نموذج ذلك ما جاء في: المناظرة الكبرى، بين الشيخ رحمة الله الهندي، والدكتور القسيس " فندر " ومعه القسيس: فرنج "، حيث انهزما أمام مناظرته لهما، لأن دين الله يعلو، ولا يعلى عليه.(84/261)
وقد جاء في مقدمة تلك المناظرة، عن دخول الإسلام في الهند الغربية، وبخاصة ساحل " مليبار " هذا القول: أما التجار فكان أغلبيتهم من العرب، الذين يفدون إلى السواحل الهندية الغربية، وبخاصة " ساحل مليبار " حاملين معهم بضاعتي: الدين والدنيا.. وكان الإسلام ينتشر على أيديهم بكل بساطة، بين الشعوب الوثنية.
ووسيلة التجارة من أسبق الوسائل وأسهلها في الدعوة إلى الله، وما زال لها الأثر الفعال في انتشار الإسلام في العالم، وفي هضبة " الدكن " الهندية.
فإن التاجر بصدقه وأمانته وحسن معاملته وأخلاقه، ومحافظته على أداء شعائر دينه، بانتظام وطهارة، يبعث في نفوس الذين يتعاملون معه، حب هذا الدين.
وقد اعترف القس " ورنز " فقال: ومن المحقق أن التاجر المسلم، يبث في هؤلاء الوثنيين، مع بضاعته التجارية، دينه الإسلامي، وحضارته الراقية.
ثم لعل إصهار كثير من التجار المسلمين، لأهل الهند، واستقرارهم بينهم، كان له الأثر الفعال، في إدخال كثير من العائلات الهندوكية، في دين الإسلام (1) لأن التاجر المسام صادق وأمين، يحرم عليه دينه
__________
(1) المناظرة الكبرى بين الشيخ رحمة الله والدكتور '' فندر '' ص 19 - 20 المصدر السابق.(84/262)
الكذب، والخيانة، ثم بين المؤرخون: أن كثيرا من كبار " البراهمة " في الهند، وأصحاب المناصب في تلك الديار، دخلوا الإسلام عن قناعة، حتى إن أحد "راجاوات - أي حكام " الهند، في ذلك الوقت، أسلم وذهب إلى الحج، وفي طريق عودته توفي، فوجدت معه وصية إلى نوابه في المقاطعات، يأمرهم بإكرام المسلمين، وتشجيع الدعوة، وتسهيل مهمتهم، وكان ذلك من الأسباب في بناء المساجد في ديارهم، وأشهرها مسجد البابري (1) .
ومثل هذا كثير في أرض الله، حيث اهتدى كثير من البشر إلى دين الله الحق، بما رأوه من المسلمين بأفريقيا أيضا، في أخلاقهم وأمانتهم، وصدقهم وحسن تعاملهم، من صفات جذبتهم إلى دين الله سبحانه، وجدوها في أي شأن من شؤونهم: دينيا ودنيويا، يلمس هذا كل من يتتبع أخبار بيت الله الحرام في كل عام، فقد حج هذا العام 1428 هـ، مجموعة من القساوسة الأفارقة، الذي جذبهم للإسلام، ما فيه من صفات نبيلة، وما يحث عليه من أمانة كجزء من الصفات الحميدة فيه، التي يجدونها مفقودة عندهم (2) .
__________
(1) يراجع في هذا كتاب الدكتور عبد المنعم النمر: تاريخ الإسلام في الهند.
(2) يراجع في هذا جرائد المملكة حج عام 1428 هـ والمقابلات المتعددة مع ضيوف خادم الحرمين الشريفين.(84/263)
ومع الهجمة الشرسة على الإسلام في الآونة الأخيرة، نجد واحدا من الأخبار أيضا، نشرته الصحف، في حج هذا العام 1428 هـ يفيد أن خمسة من شيوخ القبائل في " تشاد " ممن كانوا ضمن ضيوف خادم الحرمين الشريفين في الحج، ينبئ عن دخولهم بقبائلهم الإسلام.
وبعدما وصلوا إلى مكة المكرمة، وشاهدوا الكعبة المشرفة، لم يتمالكوا أنفسهم من البكاء رقة وخشوعا لله. وعلى لسان رجل آخر من إحدى الدول الإفريقية: بأنه قد دخل الإسلام من قبيلته دفعة واحدة (40000) أربعون ألفا. وهذا من فضل الله، وبما يؤديه الداعية الأمين المخلص من دور.
إذ يلاحظ أن كل من أسلم، ومن أي ملة كان، يؤثر في من حوله، لإعجابهم: بأمانته وصدقه، ومحافظته على شعائر دينه، ولتغير طباعه.. بعدما اعتنق هذا الدين، وتأدب بآدابه.
وما ذلك إلا لما يرى عليهم، من آثار تعاليم الإسلام السمحة: من حفظ للأمانة، والتحلي بالصفات الحميدة، ومنها حفظ الحقوق، التي تعلي من مكانة من يحرص على حسن الأداء، ثم بما برز على صفات كل مسلم، من رغبة في التعامل الحسن، والاهتمام بالتوجيهات التي تحث على الخير والنفع سواء للفرد أو الجماعة والمجتمع.(84/264)
ويلمس ذلك في آيات من القرآن الكريم، تحث على الأمانة، وتخاطب القلوب المتفتحة، وتحرك الأذهان الصافية.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد حمله ربه أمانة التبليغ: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1) .
وأمته من بعده تحمل هذه الأمانة ... فواجب على كل فرد من أمته، مواصلة المسيرة، لكمالها ولأنها خاتم الرسالات، وقد ألقى هذا العبء العظيم، على أمته - كل بحسب قدرته واستطاعته، بقوله الكريم: «بلغوا عني ولو آية (2) »
ويخاطب الله رسوله الكريم، في أهمية هذا التبليغ، لأنه من أهم المهمات، بهذا النداء التوجيهي، في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (3) .
والرسالات من أكبر الأمانات، لأنها تبليغ عن الله، ولإنقاذ البشر من المهالك، فقد حمل الله سبحانه، آخر رسالة، {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (4)
__________
(1) سورة المائدة الآية 67
(2) أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث رقم (3202) .
(3) سورة المائدة الآية 67
(4) سورة آل عمران الآية 110(84/265)
وهي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بصفات ملازمة لأمانة التبليغ، {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) .
فالمخاطب الأمة، لكن رسول الله قدوتهم، وأكرمهم عند ربه، وأكثرهم أتباعا، بما تحمل من ثقل التبليغ، فكان يحذر أمته من التهاون في واجب أمانة التبليغ: الخاصة لدين الله، وأمانة أداء العامة، في كل أمر من الأمور الدينية والدنيوية، ووعده ربه بالنصر، والعصمة من الناس، وأن يعتمد على خالقه ولا يخافهم.
فاستجاب، وصعد الصفاء، وصدع في الناس، منذرا ومخوفا.
وما ذلك إلا أن نشر دين الله في البشرية كلها أمانة، يجب أن يتحملها ويؤديها كل فرد مسلم، إبراء للذمة، ولتقوم الحجة.
علاوة على الجماعات، الذين عليهم السعي في أدائها بقدر الاستطاعة، حتى يخف عنهم حمل المسألة، إذ كل فرد على ثغر من ثغور الإسلام، يجب عليه أن يقف حارسا أمينا، يقظا ليدافع - بقدرته - كل من يحاول النيل من هذا الكيان، ويحمي الجانب الذي هو فيه،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110(84/266)
لئلا يدخل معه عدو متربص، يريد المساس بجوهر هذا الدين، كما جاء في الحديث الشريف، الذي أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كلكم راع ومسئول عن رعيته، فالإمام راع، ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع، وهو مسؤول عن رعيته (1) » ، قال: هؤلاء من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحسب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والرجل في مال أبيه راع، ومسؤول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته (2) »
وهذا يعضد ما جاء في الأثر: " كل منكم على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله ".
وتكبر مسؤولية الأمانة، بحسب قدرة الإنسان، وما تحت يده، فقد جاء في آية من سورة الزخرف: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (3) ، تأكيد شامل للأمانة، للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وأهمية تأديتها، في إبلاغ شرع الله، ولأمته من بعده. كل بحسب مسؤوليته وقدرته،
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2751) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبي داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد (2/121) .
(2) ينظر جامع الأصول لابن الأثير، تحقيق الأرناؤوط: 4: 50 وما بعدها الطبعة الأولى 1390 هـ - 1970 م.
(3) سورة الزخرف الآية 44(84/267)
وموقعه في مجتمعه، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (1) .
فكان الأمر بأداء الأمانة في تبليغ شرع الله، في هذه الآية مؤكدا، وملزما للأمة بمواصلة المسيرة، جيلا بعد جيل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لانقطاع الوحي من السماء، بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن تبقى في الأمة أمانة الدعوة والتبليغ متواصلة، حيث يبعث الله للأمة، على رأس كل قرن، من يجدد الدين.. وتحت هذه المسؤولية، المناطة بمن له قدرة علمية، أو بغيرها بحسب الأحوال في كل وقت وموقف.
فإن القادرين سيحاسبون عن هذه المهمة في أداء الأمانة إذا أهملوها، لاعتبار ذلك واجبا عظيم المسألة، لما في النص، من تأكيد بعد تأكيد، حسب حروف التوكيد وأدواته.
وعلماء البلاغة يقولون: زيادة المبني زيادة في تمكين المعنى.
إذ ستنشر صحائف الأعمال، في يوم الميعاد، ويتم النقاش من كل فرد هل أدى دوره في الأمانة، كل بحسب حاله وموقعه، وهل وفى بما ألزم به: أخذا وعطاء، من أمانة التبليغ، أولا فيما يتعلق بحق الله، ثم فيما يتعلق بحقوق المخلوقين.
__________
(1) سورة البقرة الآية 286(84/268)
وهل عرف قدر الأمانة حق المعرفة، وأداها كما يجب الأداء.. حيث إن صحائف الأعمال كما قال سبحانه: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (1) .
ولعل من أبسط الأمور التي يتساهل فيها كثير من الناس أمانة الكلمة، وأمانة النظرة، وأمانة اللسان، وأمانة السمع.. وأمانة حق الجار، وحق الأمر بالمعروف - وهو مهم جدا - وغيرها من الأشياء التي يتهاون بها بعضهم.
لأن كل من رئي على خطأ أو معصية، ولم ينصح برفق ولين، سوف يتعلق أمام الله في ذلك الموقف بعنق من عرف ذلك عنه، ولم يحاول تقويم اعوجاجه، فيبوء بالحجة، إن لم يكن لديه ما يدفعها، ويرفع الملامة عنه، سواء كان عالما، أو جارا، أو صديقا، أو قريبا ... أو غيرهم.
ومن هذا يجب أن ندرك: أن كثيرا من أمم الأرض: قديما وحديثا.. منذ أشرقت أنوار الرسالة المحمدية من مكة المكرمة - أشرف البقاع عند الله، وأحبها عند رسوله - صلى الله عليه وسلم - وحتى اليوم ما حرصت: أفرادا وجماعات، على الارتباط بدين الإسلام: عقيدة
__________
(1) سورة الكهف الآية 49(84/269)
وعملا، وحماسة، وامتثالا، ثم دعوة إليه باللين والرفق، ونموذجا في التعامل، وصدقا وأمانة، بعدما وقرت بشاشته في القلوب، إلا من إعجاب تلك الأمم بطبائع أبناء المسلمين الوافدين عليهم.
فرحم الله أولئك الرجال، الذين نقلوا وبأمانة صورة الإسلام، الذي هو الدين الحق، الذي أطلقه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، يقول سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} (1) .
وهذا الدين: الإسلام لا يقبل سبحانه من المخلوقين غيره: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2) . وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) (4) كيف لا يحوز المكانة العالية، من قلوب من دخل فيه، ويتحمسون لبيان محاسنه، بأمانة وصدق ووفاء، وهو الدين الذي اختاره الله جل وعلا لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما كان ليختار سبحانه إلا الأكمل والأحسن، يقول سبحانه، في آخر آية نزلت في يوم الحج الأكبر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث اعترف أحد اليهود أمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بأنها لو نزلت علينا معاشر
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) سورة آل عمران الآية 19
(3) سورة آل عمران الآية 85
(4) سورة المائدة الآية: 3، ويراجع تفسيرها عند ابن كثير والسيوطي والقرطبي.(84/270)
اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فلما سئل ما هي قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) (2) .
فأولئك الرجال الذين فهموا بعمق، وحسن تطبيق، دلالة هذه الآيات، اتصلوا بأفراد وجماعات في أصقاع الأرض، مع تجارتهم وتعاملهم، ترافقهم صفات هذا الدين: صدقا في الحديث، وتعاملا حسنا، وأمانة في أداء الحقوق كاملة وفي وقتها، ومحافظة على أداء الشعائر الدينية، بانتظام وطهارة، وحسن مظهر، وحفظا للمواعيد والمواثيق، وغيرها من الخصال التي تشوق إليها النفوس، ويتحقق بها، أمان القلوب، وأمان المجتمع، والأمان على المال والعرض والأبدان.
فدخلت هذه الخصال قلوبهم، ورغبوا في دين هذه قيمه ومبادئه، دخلوا فيه طواعية، وبأمانة ممن نقل إليهم: خصالا عاينوها، وتعاملا أنسوا به، ووفاء في الحقوق، وبركة في النتائج.
وفي هذا رد عملي على من قال: إن الإسلام لم ينتشر إلا بحد السيف، والقوة، بل يرد هذه المقالة: إبقاء المسلمين لأهل الكتاب، ومن شاكلهم على دينهم بدون إكراه، ولا مضايقات لا يمسهم شيء،
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة آل عمران الآية: 85 ويراجع تفسيرها عند ابن كثير في تفسيره، وعن مكان ويوم النزول.(84/271)
ما داموا لم يخونوا، ولم يرفعوا راية ضد الإسلام، أو يعينوا عدوا على المسلمين.
يوضح ذلك ما جاء في معاملة أبي عبيدة بن الجراح: أمين هذه الأمة " حسب تسمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له، لأهل الشام بعد فتح دمشق.
وما جرى بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكبير قساوسة بيت المقدس، بعدما استلم منه المفاتيح لبيت المقدس، وأكل طعامه، ولما طلب منه أن يصلي في كنيستهم "كنيسة القيامة" فإنه تنحى عنها، وصلى في خارجها، قائلا: " أخشى أن يغلبكم عليها المسلمون ".
ولا زال مسجد عمر هذا، وباسمه أيضا، عند بابها، شاهدا على حرص قادة وعلماء ووجهاء الإسلام والمسلمين على رعاية الأمانة في أهل الكتاب، والمحافظة عليهم، امتثالا لأمر الله جل وعلا: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (1) .
وإن كان طرأ على المسجد المذكور شيء، فمن خيانة اليهود، واعتداءاتهم.
بل توج ذلك عمر رضي الله عنه، لما دخل دمشق مع أبي عبيدة: بالشروط العمرية التي زادت عن أربعين شرطا، وطبعت حديثا في رسالة مستقلة، ليتميز بها الكتابي عن المسلم في المظهر، لكي يعرفوا
__________
(1) سورة الكافرون الآية 6(84/272)
ويؤدي كل منهم دوره ومهمته.. مما كان سببا في دخول كثير منهم الإسلام بطواعية، وبحسن اختيار، ولا إكراه.
بل زاد عمر رضي الله عنه في الإحسان إليهم لما رأى رجلا مسنا، أنهكته الأيام، فعجز عن العمل، ليؤدي ما عليه، فأمر رضي الله عنه بإعطائه من بيت المال ما يكفيه، قائلا: من حقه أن يعطى كفايته من بيت مال المسلمين، في كبره وعجزه، ما دام وفى بما عليه في قدرته، وهذا من حق الأمانة والعهد.
وغير هذا من صفات، هي النموذج الذي ترنو إليه قلوب البشر، وتركت آثارا في عقلاء أهل الكتاب على مر العصور، نأخذ مثالا من عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -، عندما تولى الخلافة، فقد جاء إليه وفد من إحدى المدن الرومانية، يشكون مسلمة بن عبد الملك، قائد الجيوش الإسلامية هناك، الذي استباح بلدتهم، ولم يسبق منه إنذار بدعوتهم للإسلام، ويمهلهم ثلاثة أيام، كما هي تعاليم هذا الدين، أخذا من حديث معاذ بن جبل لأهل اليمن، ومن وصايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقادة السرايا والجيوش، كما في سيرة ابن هشام ".
فقد سبى وقتل.. فغضب عمر بن عبد العزيز يرحمه الله، وكتب(84/273)
لمسلمة بالخروج من بلدتهم، وإعادة ما أخذ منهم، ودية قتلاهم، ثم توجيه الدعوة إليهم بالإسلام أو الجزية، وإمهالهم ثلاثة أيام، فإن أجابوك، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم.
وهذا من عمر رضي الله عنه تأكيد لحق الأمانة في الدعوة لدين الله، وفق ما رسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لمن يبعثهم في الغزوات، والسرايا، وهناك أحاديث، وردت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الموضوع، هي من وصاياه عليه الصلاة والسلام للمجاهدين في سبيل الله، حتى تكون الدعوة إلى الله على بصيرة، وبأمانة بلغهم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذها تطبيقا وعملا من بعدهم، بالتبعية والامتثال، كما حصل في غزوة بني المصطلق.
وهذا مما أخذه عمر بن عبد العزيز، على مسلمة، بعد ما عزله: بالعتاب والمناقشة، حتى يؤصل الاسترشاد في النفوس، بهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العمل والأمانة.
فلما فعل مسلمة ما أمره به أمير المؤمنين: عمر بن عبد العزيز، ودعا الرومان للإسلام، وأمهلهم ثلاثا، أو الجزية، أجابوه، وحقنوا الدماء، وحفظت الأموال.(84/274)
وما واظب المسلمون على هذا الخلق الحميد، الذي ترك انعكاسا متميزا، في قلوب من يتعاملون معهم، إلا أن الأمانة التي حثهم عليها دينهم، وأدوها التزاما وعملا، كانت صفة طيبة، وذات أثر عند الآخرين، وأعجبوا بها، لأنها من عند الله، وأمر بها رسوله الكريم، لما يرون في الامتثال بها من أهمية كبيرة، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (1) .
يقول واحد من كبار المستشرقين، في مؤتمر الاستشراق التاسع، الذي عقد في القدس، في مطلع العام الميلادي المنصرم، مع إرهاصات الحرب العالمية الأولى، ضد الخلافة الإسلامية العثمانية: لو طبق المسلمون تعاليم دينهم، وأدوا في ذلك الأمانة، التي أمروا بها، كما عمل أسلافهم، لانقادت أوروبا للإسلام بطواعية.
إنهم بمثل هذه المقولة يدركون - بما درسوه عن الإسلام - صفات السمو والرفعة في هذا الدين، ومنها الأمانة، فكان من وصاياهم، بذل الجهد في مباعدة أبناء الإسلام عنها بالتساهل، وعدم الالتزام، حتى يخف ميزان الإسلام من قلوبهم، وليعملوا جهدهم، في محاربة تلك الصفات، حتى لا تنتشر في مجتمعهم،
__________
(1) سورة النساء الآية 58(84/275)
فيميل أبناء ملتهم للإسلام.
أما أبناء المسلمين، وخاصة عندما يختلطون بهم، فإنهم يسعون لبث الشبهات، وتسهيل المغريات، ليتخلوا عن كنوز دينهم في السلوك والعادات، وعدم الالتزام، تقليدا بدون هدف، فتضيع عندهم الأمانة التي هي أول ما يفقد من الدين، ثم بعد انفتاح الباب، تتوالى المصائب، ولا عاصم من ذلك، إلا من عصمه الله، والأرض لن تخلو من أهل الخير، الحريصين على الثبات والعمل.
يقول - صلى الله عليه وسلم -، مخبرا عما سيحصل لأمته، عندما يتكاثر عليها الأعداء: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن (1) »
ثم أخبر في حديث آخر بأن المهابة تنزع من قلوبهم، ولا يزيل ذلك إلا العودة إلى الدين، والتمسك بخصاله الحميدة: عملا ودعوة، ومنها الأمانة التي عليها مدار كثير من الأعمال.
__________
(1) أخرجه الإمام البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء: كتاب ما ذكر عن بني إسرائيل برقم: 3456، ومسلم برقم: 2669.(84/276)
لذا يجب أن يدرك كل مسلم، أن الأمانة على مكانتها وأهمية تطبيقها، فإنها: صفة مدح ترتسم وساما على جبين كل مؤمن، فترفع قدره، وتثبت إيمانه ... فيعتز بها، حيث عظم الله منزلة المؤمنين بحرصهم واهتمامهم، على آدائها على وجهها الحق، وبالمحافظة على كل خصلة عمل له ارتباط بالأمانة لأن الله عظم منزلة المؤمنين الملتزمين بالأمانة: عملا واعتقادا.
والعهد وثيق الصلة بالأمانة، كما أن الإيمان مقترن بالأمانة، يقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (1) .
هذا في باب المدح، الذي تقوى به النفوس، ويدفعها للمزيد، والمحافظة على خصلة الأمانة.. وما يتعلق بها.
أما الترهيب، من التساهل فيها وإضاعتها، فقد جاء في كتاب الأحاديث المختارة، مما لم يخرجه البخاري، ومسلم، في صحيحيهما، للعلامة الشيخ ضياء الدين: محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن المقدسي، الحنبلي دراسة وتحقيق د. عبد الملك بن دهيش: حديث بالسند إلى المغيرة بن زياد الثقفي، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له،
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 8(84/277)
ولا دين لمن لا عهد له (1) » والعهد من الأمانات.
وتأتي الأمانة في كثير من الأوامر الشرعية، مقترنة بالإيمان، فهما متلازمان، وما ذلك إلا أن صفة الأمانة مع كون اشتقاقهما اللغوي واحدا، لا تتأصل إلا في جذور الأفئدة الطيبة المؤمنة، ولا تستقر إلا في سويداء القلوب، المطمئنة الطاهرة، المستنيرة بنور القرآن الكريم، والحريصة فهما واستيعابا، ثم تطبيقا وعلما، للسنة المطهرة.
__________
(1) ينظر هذا الكتاب 7: 223 - 224 برقم 2661، 2663 الطبعة الأولى 1413 هـ - 1993 م مكتبة النهضة الحديث بمكة.(84/278)
حفظ الأعراض:
لئن كانت قد عصفت بالمسلمين في الصدر الأول عاصفة وقع فيها من وقع، إما عن حسن نية من الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم، أو خبث طوية من بعض الوافدين على المدينة - من غير الصحابة رضي الله عنهم - الذين يحملون نزعات وغايات، وبعض الشبهات التي وقع فيها من وقع، كما يمر بالأفراد والجماعات، في كل زمان ومكان مثلها أو أقل منها ضررا.
هذه العاصفة تعتبر أول فتنة، في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أبرز ضحاياها: الخليفة الراشد الثالث: عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبعض(84/278)
الصحابة الأخيار، فإن من الأمانة: قديما وحديثا عدم الدخول فيما شجر بينهم، وعدم تكرار الحديث: تحليلا وتفسيرا.
فقد فسره بعضهم من باب التلبيس على الصحابة وغيرهم - بمنظرهم المخالف لما ارتسم في مخيلة علماء الإسلام، الذين سكتوا عن الخوض فيها، حفظا للأعراض، وتورعا ومهابة، وإجلالا للرعيل الأول، وهم الصحابة خير هذه الأمة، وقالوا عمن شارك: كل منهم مجتهد، فرضي الله عن مصيبهم، وغفر الله لمن أخطأ منهم.
وقد ندم واعتزل بعضهم، بما ينير الدرب للآخرين. للابتعاد عن الأمور المشتبهة بعدما أقدموا على سفك دم حرام، فيه وعيد من الله ورسوله.
ولم يتعرضوا للصحابة، بقدح، ولا للعمل بتأييد.. وهذا من أمانة حفظ اللسان، وأمانة الذب عن أعراض الجيل الأول، لأنهم خير القرون من بعده - صلى الله عليه وسلم -، ومن أمانة السكوت عن الفتنة «لأن من رد عن عرض أخيه، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة (1) »
وجاء عند أبي داود، حديث عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حمى مؤمنا من منافق، بعث الله له ملكا
__________
(1) أخرجه الترمذي عن أبي الدرداء مرفوعا، وحسنه: ينظر كشف الخفاء للعجلوني الطبعة الثالثة عام 1352 هـ ج 2: 250.(84/279)
يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، حتى يخرج مما قال (1) »
وبين فينة وأخرى يأتي من ينبش هذا الموضوع، إرضاء لأهل الأهواء، ولمن يحب الإثارة في التلبيس والكذب والدس، في تاريخ الإسلام، وبوقا أصحاب الغايات التي تتكرر من آن لآخر، ليفسروا الوقائع كما يحلوا لهم، وفق تحليل المستشرقين للوقائع. من زاوية الدس في تاريخ الإسلام، باسم الدراسة التحليلية، وإعادة قراءة التاريخ، ومثلهم من يخوضون في أعراض: علماء وقادة الإسلام، بما يريدون، لما فيه من إرضاء لأولئك المستشرقين.. .
لكن الله سبحانه وتعالى يقيض رجالا يدافعون، وينقضون تلك الشبهات، ويذبون عن أعراض أسلافنا، وهم كثير بحمد الله، في كل زمان ومكان.
وقد وقع نظري على كلام للشيخ: محمد الغزالي - رحمه الله - سخر قلمه لما رأى رؤوسا للفتنة، بدأت تبرز في وقته، في كتابات: عبد الرحمن الشرقاوي، وروايات: جرجي زيدان، وما صارا يلبسان فيه، لأغراض في النفوس، مما لا يحكي تاريخا إسلاميا محترما كما جاء في كلام الشيخ محمد الغزالي، لأن:
__________
(1) ينظر جامع الأصول لابن الأثير، تحقيق الأرناؤوط بيروت عام 1392 هـ - 1972 م ج 8: 449.(84/280)
الأول: يساري: جعل الإسلام وتاريخه، مصبوغين باللون الأحمر، والتفكير المادي وخان أمانة النقل، في تحليله للحوادث، سوقا لخدمة هذا الغرض.
والثاني: صليبي ينفث ضغائنه على الإسلام بلؤم في كتاباته ورواياته.
ليرد عليهما فيما أورداه من مغالطات وافتراءات، يجددها أصحاب الأهواء، ويعيد صداها في كل وقت من يتبنون فكرهم، ويريدون نشر شبهاتهم، نقلا لآراء من وراء تلك الافتراءات، ليرضوهم بكونهم ينقلون رجع أصدائهم، كنموذج لما يتجدد على الساحة، بين آونة وأخرى.
والشيخ الغزالي - رحمه الله -، بما لديه من غيرة، هو واحد من علماء هذا العصر، الذين سخروا علمهم وأقلامهم، كجزء من الأمانة، للدفاع عن الإسلام، وتفنيد الشبهات الوافدة وما أكثرها: حمية وغيرة.
ولنا معه عودة، بعد المرور بنماذج من جهود السابقين، في رعاية هذه الأمانة، ليعرف القارئ والمستمع: الشبه بين الليلة(84/281)
والبارحة، وما أكثرها.
لقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، الذي جاء فيه: «بأنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في حديقة بني فلان، والباب علينا مغلق، وفي استفتاح الرجل الثالث، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ينكت الأرض بعود، قال عليه الصلاة والسلام، يا عبد الله بن قيس - وكان هذا هو اسم أبي موسى الأشعري -: قم فافتح له الباب، وبشره بالجنة على بلوى تصيبه. قال: فقمت ففتحت الباب، فإذا أنا بعثمان بن عفان، فأخبرته بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: الله المستعان، وعليه التكلان ثم دخل فسلم وقعد (1) »
هذه المصيبة التي حلت بعثمان، ونسج حولها المستشرقون روايات وشبهات، تعتبر باب فتنة، انكسر ولم يغلق، نشأ عنه نحل، وملل، وتبناها أناس أضاعوا أمانة الكلمة، وفتحت بابا للفتن، وتعدد الطوائف، ذات النزعات والغايات ضد الإسلام، ووحدة المسلمين، ببث الفرقة، واختلاف الكلمة ونشر الأكاذيب.
فاهتم علماء الإسلام للتفنيد وبذل الجهد، لتعرية أصحاب
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب نكت العود في الماء والطين حديث رقم (6216) ، وأسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير إصدار كتاب الشعب القاهرة معه 1984 م، ج 3: 586 - 587.(84/282)
الأهداف، ودحض تلك الشبهات، في حماسة لأداء الأمانة، في تصحيح المسار وحماية الأعراض، ومن أولئك الكثيرين - بحمد الله - شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلاميذه وأحمد بن حنبل، وابن حزم، والشهرستاني، في كتبهم وغيرهم في ردودهم.... ومحاولاتهم كشف ما وراء أقاويلهم.
تلك التعددية التي برزت لأول مرة في تاريخ الإسلام، ثم بدأت دائرتها تتسع، أوقد جذوتها، أناس وفدوا للمدينة لمآرب وغايات خفية، وسعوا جاهدين لإشعال نار الفتنة والفرقة، في المجتمع الإسلامي، ولا يريدونها أن تنطفئ. ممتطين راحلة الخيانة في الكلمة: سواء كانوا من جلدتنا ويتسمون بأسمائنا، أو كانوا متصفين بصفات وأعمال من فضحهم الله في سورة التوبة.
إن أعداء الإسلام لا يكلون ولا يملون - كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عجبت لأهل الباطل وتصلبهم لباطلهم، ولأهل الحق، ونكوصهم عن حقهم (1) .
إلا أن تلك الأمور، التي تأتي في معرض الحق، ويراد بها
__________
(1) تراجع سيرة عمر رضي الله عنه، في سير أعلام النبلاء للذهبي، القسم الخاص بالخلفاء الراشدين.(84/283)
الباطل، تبرز وتظهر بثوب جديد، وأكاذيب تقلب الحقائق، وتغلف بكساء يراد منه تغيير الاسم، مع أن الجوهر واحد.
فيهيئ الله - في كل مكان وزمان - من يتحمس للدفاع وتفنيد تلك الأمور، المراد منها التلبيس، وصرف الأمانة العلمية، عن مسارها الصحيح، حتى يبرزوها لنظر قاصري الاطلاع، براقة تتمشى مع الواقع، الذي هدف إليه صاحب الشبهة، ويسميها دراسة تاريخية جديدة، أو تنقية التاريخ والحوادث.
فيقيض الله من يشعر بأمانة الدفاع، ونقض الشبهات، من أمة الإسلام لينبري للدفاع - ذلك أن أمة الإسلام لا تزال بخير، ما دامت النوايا طيبة، والعقيدة التي عليها مدار الأعمال سليمة، ومحبة دين الله صادقة في القلوب، فإن الغيرة تتحرك بالعلم، أداء لأمانة المدافعة، ورد الشبهات، والله سبحانه هو المعين، لقوله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) .
فالشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - لما رأى هجوما شديدا على المسلمات التاريخية، في تراث الإسلام، مما يراد طمسه أو مسخه، باسم الدراسة التاريخية، أو القراءة الجديدة للتاريخ، نتج عنها هجوم شديد، وقلب للحقائق، فتحمس في الرد، وقال: إن أعداء
__________
(1) سورة البقرة الآية 282(84/284)
الإسلام، يريدون تحويل الهزائم العسكرية للإسلام، إلى انسحاب عام من كل ميدان، بل إلى اندحار شامل، يقطع يومنا عن الأمس الزاهر، ويجعل المسلمين أمما متقطعة، ذات اليمين وذات الشمال، كذلك يريد الغزو الثقافي، وبهذا يتحرك في الصحف وسائر مجالات الإعلام، ولكننا لهم بالمرصاد.
ونحن نعلم أن أمة سلخت أكثر من أربعة عشر قرنا، وهي تحمل رسالة كبيرة، لا بد أن يكون لها سلبيات وإيجابيات، وهزائم وانتصارات، لكن هذا لا يقدح في تاريخها، ولا جهود رجالها.
ولذا فإن دراستنا للتراث، بل لعلها جزء من الغيبوبة، التي نالت منا ولا تزال.
ولقد كنا إلى أمد بعيد، نحارب الاستعمار الثقافي، الذي يريد اقتلاعنا من جذورنا، ويشدنا إلى ملل ونحل، لا نعرفها ولا نريد أن نعرفها.
حتى فوجئنا بمن يغوص في تراثنا، ليحرف الأمانة العلمية، ويحرف الكلم عن مواضعه، ويبرز لنا سلفنا الأول، أقزاما ملتاثين، أو سباعا تتهاوش على أعراض الدنيا، ومآربها الخسيسة.
ومن ثم يمكن الالتواء بزمامنا، كي نقلد أو نلحق بفلسفة(84/285)
أخرى ونستبدل بوحي الله، هوس أهل الأرض.
هكذا يرى الغزالي بصفة عامة: الغزو الثقافي وحملته، الذين ضيعوا الأمانة لينساقوا مع فكر وتحليلات أعداء الإسلام، في رغبتهم هدم قاعدته الأساس، ثم يوضح دوره في الرد عليهم بقوله: وقد حاولت في أحد كتبي تجفيف المنابع التي ترشح بالحقد، وتفيد أعداء الإسلام وحدهم.
ولما كانت دراسة الماضي، تقع للعبرة لا للتجريح، وللبناء لا للهدم، فإن أئمة الفقه والتاريخ، والتوجيه العام قالوا، عما حصل من فتنة: دماء طهر الله أيدينا منها، فلا نلوث أفواهنا بها، وقد حكت كثرة المسلمين: بأن فلانا أصاب، وفلانا أخطأ، وكان ذلك عن اجتهاد، يعرف علام الغيوب، ما وراءه من قصد، وسيحكم بينهم في اللقاء الأخير.
فيجب أن نقف حيث وقفوا، فكيف يأتي من ينبش الماضي، ويفسر وقائعه على هواه، ألا يكون الأجدر به دراسة ما يثير الدهشة، بكون المدينة أصبحت مفتوحة، لمن هب ودب: من المجوس واليهود، وأتباع الملل التي اجتاحها الإسلام، فإذا هم يملكون في(84/286)
داخلها، حرية الكيد والفتك، وإذا بثلاثة من الخلفاء بعد أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، يقتلون كأنهم ذهبوا ضحايا أحقاد شخصية، أو ثورات محلية - يعني: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهم جميعا.
ورغم أن العرب في تاريخهم الطويل يمقتون الغدر، فإن الإسلام هذب طباعهم، وحرم: دماءهم وأموالهم وأعراضهم، عليهم يومهم ذلك: وهو يوم الحج الأكبر، في بلدهم وهي مكة، في شهرهم وهو شهر ذي الحجة، ومن الأشهر الحرام.
ثم يطلب تحليلا عن بعض الوقائع، التي عصفت بالمجتمع المدني في ذلك الوقت، فيقول:
بل كيف يقتل مجوسي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتلك السهولة، وكيف يزعم أحد اليهود أنه وجد مقتله في التوراة.
وكيف قتل سعد بن عبادة زعيم الأنصار، قبل أن يقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم يشاع أن الجن، هم الذين قتلوه.
وكيف اقتحمت وفود مجلوبة من أقاصي البلاد، دار الهجرة، وأصبحت سيدة الشارع الإسلامي، وصاحبة السطوة فيه، لتقتل الخليفة الثالث، بكل هدوء.
أليس ظاهرا أن اليهود والمجوس، تظاهروا على ارتكاب(84/287)
جرائمهم، في جو البراءة السائد بين المسلمين.
ثم يحكم بأن وقائع عندنا حافلة بالعجائب، وهي كتب تحتاج إلى أمناء يستخلصون الحق، بالنزاهة وتحري الأصوب، وتنقيته من الشوائب والأهواء، ومن دس أعداء ديننا، الذين يسعون جاهدين في تشويهه، ورميه وقادة الإسلام وعلماءه، بما ينقص قدرهم ويحط من مكانتهم ونحمد الله أن في المجتمع كثيرا، أمثال الغزالي حمية وحماسة.
وحتى لا يكون العارفون والحاملون للإرث الشرعي، مقصرين وسائرين في منحدر أهل الكتاب، في تضييعهم الأمانة في المأخذ والتأدية، حيث بين سبحانه وتعالى: أن منهم فئتين: ضعيفة الإيمان، ومن يدعي لنفسه الإيمان.
ومعلوم عند العلماء: أن الإيمان ليس بالتحلي والتمني، وإنما هو اعتقاد في القلب، وعمل بالجوارح، وقول باللسان.. فلا بد من تحقيقه على هذه الصور الثلاث.
يقول جل وعلا عن أهل الكتاب: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (1) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 75(84/288)
فهم بهذه الآية الكريمة فئتان: واحدة تتهاون بالأمانة، ولا ترى لها حرمة، ولا تؤدي إلا بالمتابعة والملاحقة، والخوف من البشر، وليس من الله، ولا بوازع عقدي، فمن خان الأمانة أو تهاون بها من المسلمين فهو شبيه بهم.
والثانية: فيرجى من أصحابها، إذا سمعوا الذكر، وبانت لهم حقيقة الرسالة، وما فيها من مخاطبة للضمائر التي تزن الأمور، أن ترعوي لدين الله الحق.
ويؤخذ مقياس هذا الإيمان: بأركانه الستة، بالأمانة والمحافظة عليها، أداء أو خيانة أو جحدانا، وما ذلك إلا أن الأمانة، التي بين الله سبحانه ثقلها، وأثرها في مواطن متعددة من الكتاب الكريم، وأكد هذه المكانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بفعله ودعوته.
فقد بين سبحانه، ثقلها في سورة الأحزاب، وحث على أهمية أدائها، وجعلها مقرونة بالإيمان، الذي هو عقيدة مع الله، ودعامة كبرى يرتكز عليها دين الإسلام، وركن أصيل من أركان هذه العقيدة، حتى لا يخف ميزانها في القلوب.. ومن ثم في التعامل.
وهذا ما يخشاه ويخافه العاقل، أن يتساهل بعضهم، في حق(84/289)
الأمانة في أي شأن، لما وراء ذلك من أضرار بالمصالح الفردية والجماعية، في أمور الدين، قبل النتائج الدنيوية.
إذ مع ما وهب الله سبحانه، السماوات والأرض والجبال، من قوة وشدة في التحمل، وعظمة في الخلقة، إلا أن هذه الكائنات، قد تبرأت أمام خالقها من الأمانة، وأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، مخافة من عقاب الله الشديد، لمن قصر في أداء هذا الدور العظيم، وهذا ما يجب أن يدركه في هذا الزمان كثير من الناس، ممن استهوتهم الدنيا ببريقها، وبدؤوا يستخفون بالأمانة، ويفتون أنفسهم بأن الحلال ما حل في يدك.
ولأن الإنسان الضعيف في قدراته، والضعيف في جسمه، والعاجز عن حمل صخرة صغيرة في جبل، قد كلف نفسه فوق طاقتها، ليحمل هذه الأمانة، ذات المسؤولية الكبيرة، والثقل الذي تبرأ منه، أعظم مخلوقات الله - المعهودة عندنا - وكما هو ظاهر لنا بالمقاييس، وثابت ذهنيا وعقليا عند البشر.
ولم تهن الأمانة في بعض القلوب، إلا لأن الشيطان، رانت وساوسه على قلوبهم، واستزلهم ببعض ما كسبوا، تبين هذه المقارنة بمفهوم حديث، رواه الإمام أحمد رحمه الله، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مضمونه: «أن الله سبحانه لما خلق الجبال، قالت الملائكة يا رب(84/290)
هل هناك خلق أعظم من الجبال؟ قال: نعم الحديد، قالت: يا رب وهل هناك أعظم من الحديد؟ قال: نعم النار، قالت: يا رب وهل هناك أعظم من النار؟ قال: نعم الماء، قالت: يا رب وهل هناك أعظم من الماء؟ قال: نعم الريح، قالت: يا رب وهل هناك أعظم من الريح؟ قال: نعم ابن آدم يتصدق بيمينه يخفيها عن شماله (1) » ، وهذا من الأمانة التي يزداد أجرها، كلما أديت بخفية.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، حديث رقم (11805) ، والترمذي كتاب التفسير، باب: ومن سورة المعوذتين، حديث رقم (3291) .(84/291)
مداخل الأمانة:
والأمانة ليست أمانة المال المستودع، ولا العرض الذي يتعامل به الناس: بيعا وشراء، ومداينة واستيداعا، ولا أخلاقا يتحصل عليها الفرد، ليكسب بها محمدة، أو ثناء عند الآخرين، أو تكون بدافع شخصي، ينال به أرباحا مادية أو معنوية.
بل هي أوسع دائرة، وأعظم أثرا.
فمن ذلك الأمانة السرية في جميع الأعمال: فإن من أعمال بني آدم، الذين يريدون بها وجه الله، استجابة وأجرا، هذه الأمانة التي لا تبرز أمام الآخرين، إلا عرضا ... مطلب صاحبها رضى ربه حتى(84/291)
ترتفع مكانته عنده سبحانه، لأنه بادر بإخفائها، وأداء حقها في وقتها، مراقبة لأمر الله سبحانه، وخوفا من عقابه، قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها، وما ذلك إلا أن الأمانة كلما استقرت في الوجدان، ظهر أثر العمل، وحسن الأداء، بالدافع من القلب، لأداء الجوارح: تعظيما لله في حق الأمانة عند الأداء.
أما إذا خف ميزان الأمانة، عند بعض الناس وعدم المبالاة بحقها، جحودا لمكانتها، متجاهلا أو متهاونا بعقاب الله، فإن هذا دليل على ضعف الوازع الإيماني، الذي إن لم يتدارك المرء نفسه، قبل فوات الأوان، فإنه يخشى عليه، من العاقبة السيئة.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وثق رابطة الأمانة بالدين، الذي هو مهمة الإنسان في هذه الحياة، والسر الذي خلق من أجله، وهو عبادة الله سبحانه، والمحافظة على الأمانة، جزء من عبادة الله في نفسه، وفيما حوله، وما تحت يده؛ امتثالا لأمر الله، ومحافظة في الأداء.
وما جاء في شرع الله، قد بثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمته: قدوة في العمل، وإيضاحا للأمة، وحثا على حسن الأداء.
ألم يقل - صلى الله عليه وسلم - في الحج: «خذوا عني مناسككم (1) » .
وفي الصلاة: «صلوا كما رأيتموني أصلي (2) » .
وفي التبليغ: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب (3) » .
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، مسند أحمد (3/318) .
(2) صحيح البخاري أخبار الآحاد (7246) ، سنن الدارمي الصلاة (1253) .
(3) سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .(84/292)
وفي الدعوة: «بلغوا عني ولو آية. فرب مبلغ أوعى من سامع (1) » .
والمنطلق في ذلك ما بينه رب العزة والجلال، في سورة الذاريات، عن المهمة من خلق الله سبحانه: الجن والإنس، حيث قال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (3) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (4) .
ومن هذه المهمة: أبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مكانة الأمانة من الدين الحق: وهو الإسلام الذي لا يقبل الله من الثقلين دينا غيره، وهو من خصوصية أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأكرمهم الله به ورفع منزلتهم به بين الأمم، فصاروا كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (5) .
وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ليست مقتصرة على العرب وحدهم، ولكن كل من انقاد للإسلام، وامتثل أوامره، واجتنب نواهيه، فهو من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ... ويستحق مكانته بالخيرية، بحسب نيته وعمله.
والمتمعن في التاريخ الإسلامي ورجاله، يدرك الدور الذي أداه الأعاجم، والأمانة التي تفانوا في الاهتمام بها: في العلوم وحفظ السنة، والدفاع عن دين الله، والصدق والأمانة في الحفاظ على
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1741) ، مسند أحمد (5/49) .
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة الذاريات الآية 57
(4) سورة الذاريات الآية 58
(5) سورة آل عمران الآية 110(84/293)
مكتسبات الإسلام، وصيانتها.
وفي هذا الحديث، الذي جاء بطرق متعددة، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، جاء هذا النص: «أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة - وفي رواية - وآخره الصلاة» . يعني: بأن آخر ما تفقدون من الدين الصلاة " (1) .
وهذا إنذار لكل مسلم، عن أهمية وعظم الأمانة، ومكانتها من عقيدة المسلم، وعدم التساهل فيها، لأن شيئا فقد أوله، حري بالتهاون أن يفقد آخره تدريجيا، وبذلك يضيع الدين من الإنسان، ويهلك بضياع الأمانة: اعتقادا وعملا.
وهذا ما يحرص عدو الله، إبليس عليه في تثبيط الناس عنه: كسلا ثم تهاونا فاستمراء، ثم الترك بالكلية، ويعاونه على ذلك، أعوانه من الإنس والجن: الإنس بالتسويف والأماني والتهوين بمكانة الأمانة، والجن من المردة والأبالسة، بالوسوسة والآمال، والعاقل يدرك: أن من ضل وغوى، لا يتهنى إلا بجر الآخرين إلى المنحدر الذي أوصلتهم إليه: الاستهانة بالأمانة، والتمادي في إهمال دورها.
والصلاة من الأمانات المستحفظ عليها الإنسان، بالنية الصادقة،
__________
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني برقم: 1739 نشر دار المعارف بالرياض.(84/294)
وإسباغ الوضوء، والطمأنينة في الركوع والسجود، وسائر الأركان، والواجبات والشروط، المرتبطة بهذه العبادة، التي مدح الله الخاشعين فيها، فقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (1) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (3) .
ولم يقتصر الأمر بالثناء على الرجال الخاشعين، بل حتى النساء شريكات، في حسن أداء هذه الأمانة، والإثابة عليها، عندما ذكر سبحانه عشر صفات، من حرص عليها محافظة وأداء، كسب ما أعد الله لهم من مغفرة وأجر عظيم، فقال تعالى: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} (4) الآية.
ذلك أن الأمانات المتعددة، التي حمل الإنسان نفسه ثقلها، يجب عليه الحرص بمراعاتها، ووضعها أمام عينيه، ماثلة في كل لحظة، ليراعيها ويحوطها بالاهتمام والعناية، كما يهتم بما يتعلق به، أو أكثر من مراعاة أمانة الأمور الثمينة عنده: من نقد ومتاع ونفائس، وعروض وأمور أثيرة عند أصحابها، كما يقولون: " بأن المال وزين الروح ".
فإذا كانت هذه الأمور النفيسة، والغالية في ثمنها، لا يضيعها في مفهوم البشر إلا السفهاء، وشرار الخلق، ومن يحكم بجنونهم،
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 1
(2) سورة المؤمنون الآية 2
(3) سورة المؤمنون الآية 3
(4) سورة الأحزاب الآية 35(84/295)
حيث يحجر عليهم.
فكيف يهون على هذا الإنسان أن يقصر في الأمانات مع الآخرين، حقوقا وودائع، ومع الله سبحانه، شرائع وعبادات فلا يؤدي حقها، ولا يصون أمانتها وثقلها.
إن حق الله أولى بالأداء، وأهم في الرعاية والمحافظة.. .
ولا مبرر لذلك إلا غلبة الهوى، وتسليم النفس الأمارة بالسوء القيادة.. فقادت صاحبها إلى الاستهانة بالحرمات، التي عظمها الله، وفي مقدمتها: الأمانة أيا كان نوعها.. والشاعر يقول:
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
ومن هانت عنده شرائع الله، واستخف بالحرمات، فمن باب أولى أن تهون عنده الأمانة، بمفهومها العام، لأنها مرتبطة بتقوى الله سبحانه، ومراقبته في السر والعلن، ولا يتساهل في الأمانة إلا من قدم شهوات نفسه، على أمر الله وأمر رسوله، فالنفس في حاجة للمجاهدة، وكبح جماحها، حتى لا تستسلم لما تميل إليه من ربح عاجل، نتج عن أكل حقوق الآخرين: ضعفاء لا يستطيعون المدافعة، وأيتام لا يدركون حقوقهم، ونساء يستغل ضعفهن، وعدم قدرتهن. فتضيع الأمانة مع أثرة النفوس، وغلبة الهوى، وحب الاستعلاء والشهوات، وغير ذلك من أمور تدخل تحت سقف الشهوات،(84/296)
المقدمة على أمر الله، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
والنفس بطبيعتها تميل للأمور العاجلة، ولا يكبح جماحها، إلا الانقياد لأمر الله، وحمايتها بالوازع الإيماني، الذي هو حصن قوي، يردعها عن الاستسلام للشهوات، التي في مقدمتها ضياع الأمانة، والانقياد للهوى، وعاجل المتاع من الدنيا، يقول سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (1) .
وهذه الأصناف بعد العبادات، جزء مما يدخل تحت سقف ضياع الأمانة، والتهاون فيها: طمعا أو تعديا، وفي عرض شرع الله للأمانة، يقول تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (2) .
وهذا أمر جازم، بأهمية المحافظة على الأمانة لثقلها، والدور الواجب رعايته بشأنها، سواء لنفسه بالظلم والانصراف عن طريق الحق، الذي أمره الله به، أو مع الآخرين كبرت الأمانة، أو صغرت بحسب الإنسان، ومن يتعامل معه، والشاعر يقول:
والظلم من شيم النفوس وإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 14
(2) سورة الأحزاب الآية 72(84/297)
فالمسلم العارف ما له وما عليه، هو الذي يرعى هذه الأمانة، في علاقته بغيره، سواء في داخل بيته: مع أهله وولده، أو من يرتبط بهم في العمل، لأن الله حرم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرما حتى لا يتظالموا.
وعن هذا الدور، في المكانة للأمانة ورعايتها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عن أمين السر، حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا «أن الأمانة نزلت، في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة، قال: ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها المجل كحجر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرا، وليس فيه شيء، ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله، فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، حتى يقال للرجل: ما(84/298)
أجلده ما أظرفه ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ثم قال: ولقد أتى علي زمان، وما أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلما ليردنه علي دينه، وإن كان نصرانيا أو يهوديا، ليردنه علي ساعيه، وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانا وفلانا (1) »
ومن الأمانة: المحافظة على عصمة دماء المستأمنين، والمعاهدين، وأهل الذمة: في أموالهم وتحريم الاعتداء عليهم، استجابة لأمر الله سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (2) .
وعدم الوفاء لهم ما داموا على العهد، مستقيمين يتنافى مع مكانة الأمانة التي أمر الله بها ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذه الأحاديث:
1- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما (3) » أخرجه البخاري في كتاب الجزية والموادعة،
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة، حديث رقم (6497) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة من بعض القلوب. . حديث رقم (143) ، وينظر في هذا الحديث كاملا: جامع الأصول لابن الأثير، تحقيق الأرناؤوط الطبعة الأولى عام 1392 هـ - 1972 م، 11: 3 - 5.
(2) سورة التوبة الآية 4
(3) صحيح البخاري الجزية (3166) ، سنن النسائي القسامة (4750) ، سنن ابن ماجه الديات (2686) ، مسند أحمد بن حنبل (2/186) .(84/299)
باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم (1) .
كما جاء أيضا في باب الديات: باب من قتل ذميا بغير جرم (2) .
2- وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قتل معاهدا في غير كنهه، حرم الله عليه الجنة (3) » .. أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في الوفاء للمعاهد وحرمة ذمته (4) .
3- وفي رواية النسائي كتاب القسامة، باب تعظيم قتل المعاهد، جاءت بنص: «من قتل رجلا من أهل الذمة، لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما (5) »
4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا من قتل نفسا معاهدة، له ذمة الله، وذمة رسوله، فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا» ... أخرجه الترمذي في كتاب الديات، باب من يقتل نفسا معاهدة، وقال: حديث صحيح (6) .
5- وعن صفوان بن سليم، عن عدة من أبناء الصحابة، عن
__________
(1) رقم: 3166.
(2) برقم: 6914.
(3) سنن النسائي القسامة (4747) ، سنن أبي داود الجهاد (2760) ، سنن الدارمي السير (2504) .
(4) رواية أبي داود برقم: 2760.
(5) سنن النسائي ب 8: 24 - 25.
(6) برقم: 1403.(84/300)
آبائهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا من ظلم معاهدا، أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة (1) » ... أخرجه أبو داود في كتاب الخراج والفيء، باب في تفسير أهل الذمة (2) .
6- وأخرج أبو داود أيضا، في كتاب الخراج عن العرباض بن سارية رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله لم يحل لكم، أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب، إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم، إذا أعطوا الذي عليهم (3) »
وغير هذا من النصوص الشرعية، وأقوال العلماء، ما داموا لم يرفعوا راية ضد الإسلام وأهله، ولم ينقضوا عهدا مبرما معهم، أو يعلنوا العداء للإسلام ونبيه، قولا أو فعلا.
فإذا كان هذا لأهل الكتاب، فما بالك بأصحاب الفكر الضال، والآراء المنحرفة، وقتل الأبرياء، وتدمير الممتلكات، وترويع الآمنين، والتسلط على العلماء: إيذاء وتهديدا، وحفاظ الأمن، والقيادات في الدولة ... وتكفيرهم.. إن ذلك من خيانة الأمانة، ومن إيذاء المؤمنين بغير ما اكتسبوا.. فهذا زيادة عن كونه بعيدا عن الأمانة،
__________
(1) سنن أبي داود الخراج والإمارة والفيء (3052) .
(2) برقم: 3058.
(3) المصدر السابق.(84/301)
ففيه خروج على ولي الأمر، وإيذاء لجماعة المسلمين، يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (1) .
وقد عرف العلماء الأمانة، تعريفا دقيقا: بأنها كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله، ومن المكلف كذلك وألزم، ويرى ابن عباس: بأن الأمانة هي الفرائض التي أمروا بها، ونهوا عنها، وقال أبو بكر بن العربي: المراد بالأمانة في هذا الحديث: الإيمان، وتحقيق ذلك فيما ذكر من رفعها: أن الأعمال السيئة، لا تزال تضعف الإيمان، حتى إذا تناهى الضعف، لم يبق أثر للإيمان، وهو التلفظ باللسان، والاعتقاد الضعيف في ظاهر القلب، فشبهه بالأثر في ظاهر البدن، وكنى عن ضعف الإيمان بالنوم، وضرب له مثلا، لزهوق الإيمان عن القلب، حالا بزهوق الحجر عن الرجل، حتى يقع في الأرض.
والأمانة أماكنها كثيرة جدا، ومنافعها واسعة وذات أثر، إذا أديت على وجهها، وعديدة حيث تأتي في كل شأن من شؤون الحياة، ويتعدى نفعها إذا أحسن أداؤها، ويستشري ضررها وينتشر بالعدوى،
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 58(84/302)
إذا استهين بها، وخف ميزانها لدى بعض الناس، فهي مرتبطة بالإنسان ومصالحه، وبدينه الذي هو عصمة أمره وعقيدته، وإن اهتمام الإنسان بها، وحرصه على الوفاء بها: رغبة فيما عند الله، واستجابة لأمره سبحانه، واتباعا لتبليغ رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - لهو أمر بالغ الأهمية، لأن مادتها ودلالتها، تكررت في كتاب الله الكريم، وفي سنة رسول الله، مرات عديدة، مؤكدة، وغير مؤكدة، والبلاغيون يقولون: زيادة المبنى، زيادة في تمكين المعنى.
- فمن أمانة جوارح الإنسان: اللسان بعدم إفشاء الأسرار، التي اؤتمن صاحبه عليها، كما جاء في حديث روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عندما قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كف عليك هذا (1) » . فقال: يا رسول الله أنحن مؤاخذون بما نقول؟ فأجابه الصادق الأمين بقوله: «ثكلتك أمك يا معاذ، هل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم (2) »
وأمانة الأعمال الدنيوية، منها الشخصي والتجاري، ومنها الأعمال الرسمية، التي فيها أسرار جهة العمل، سواء كانت الدولة: عسكريا وأمنيا وعلميا، أو الشركات والأفراد، وما يقع تحت السمع
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم: 2616، وابن ماجه برقم 3973، وأحمد في مسند الأنصار برقم: 21511.
(2) أخرجه الترمذي برقم: 2616، وابن ماجه برقم 3973، وأحمد في مسند الأنصار برقم: 21511.(84/303)
واليد، أو البصر وغير ذلك ... مما يتعلق بالأمن والمجتمع والأسر، وخصوصيات الأفراد والبيوت.. وكل ما له رابطة بالدولة وأمنها، وسلامتها، أو الجهة التي اؤتمن الشخص عليها.
فالإنسان يجب أن يكون أمينا على أسرار عمله: أهليا أو حكوميا، وأن يتعهد بعدم إفشاء ما تحت نظره، وما تناله يده، عن أي شيء يلتقطه الآخرون منه، فيعتبر الإفشاء به، ولو كان في نظره بسيطا، فإن له أثرا بالغا بولاة الأمر، وبالعاملين لمصالح البلاد والعباد.
وفي العمل الأهلي الخاص، فقد يضر به، في مجالات متعددة: حسدا ومنافسة ومبالغة في الإضرار، وما ذلك إلا أن كلمة تتفوه بها، أو معلومات يتحدث عنها العامل، ولو رأى ذلك الأمر بسيطا، لا يعبأ به في عفويته ... .
هذا الأمر من التهاون بالأمانة، وعدم كتمانها سرا، قد يعتبر ضررا كبيرا، على صاحب العمل، وقد يبنى عليها أمور بالغة الخطورة، مما دفع الجهات كثيرة الحساسية في عملها الدقيق، أن تجعل شعار موظفيها ثلاث كلمات تبرز أمام الجميع، لتأكيد خطورة ما قل من الأمانة، وهي: ما رأيت، وما سمعت، وما علمت. وهذا الرمز في غاية الكتمان، والمحافظة على الأمانة.
ويجب ألا يستهان بهذا، ولا يستصغرن الإنسان، في الأمانة،(84/304)
أمرا مهما تضاءل في ذهنه، فإن الطفيف عنده، لقطة عند الطرف الآخر، ثمينة، يبنون عليها جسورا عديدة، هذا من أهم الأمانات الأمنية، وهو من طاعة الله، وطاعة رسوله، وطاعة ولي الأمر، ومعظم النار من مستصغر الشرر.
فقد تنفصم عرى الحياة الزوجية، في أمر أفضى به رجل لامرأته، أو امرأة لزوجها لأنه لم يكتم، وقد تفلس شركة، أو يغلق متجر، بنفس السبب، وقد تتضرر دول، بمعرفة العدو هذا السر ... .
فقد قالت بنت نبي الله شعيب عليه السلام، عن موسى عليه السلام، كلمة، رغبته في أن يستأجره، ويزوجه ابنته، وهي ما لاحظته عليه من أمانة غض النظر فقالت: {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (1) (2) .
وسمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أبا عبيدة بن الجراح: أمين هذه الأمة، بقوله الكريم برواية سالم عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لكل أمة أمينا، وأمين هذه الأمة، أبو عبيدة بن الجراح (3) »
وممن روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في أمانة أبي عبيدة: أبو بكر
__________
(1) سورة القصص الآية 26
(2) سورة القصص الآية: 26، ويراجع تفسير ابن كثير، وما جاء في هذه الآية.
(3) أخرجه البخاري برقم: 3744 في مناقبه. ومسلم برقم: 2419 في فضائل الصحابة.(84/305)
الصديق، وابن مسعود وحذيفة، وخالد بن الوليد، وأنس وعائشة، ولعل أمانته جاءت من ورعه، وزهده وقوة إيمانه، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال لأصحابه: أتمنى أن هذه الدار، مملوءة مثل أبي عبيدة بن الجراح.
فقد دخل عليه في بيته بالشام، رضي الله عنهما: فلم يجد فيه إلا سيفه وترسه ورحله، وهو مضجع على طنفسة رحله، متوسدا الحقيبة، فقال له: ألا اتخذت ما اتخذ أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا يبلغني المقيل (1) .
وأمانة المجالس وما يدور فيها، من أحاديث ولو كانت عابرة: في إفشائها ضياع للمصالح، وفتح لباب الحزازات التي قد تسبب الكراهية، وفتح باب القيل والقال، والغيبة، والنميمة التي هي الحالقة، والحسد، والبغضاء، الذي يأكل الحسنات، مع الآثار السيئة التي لا تخفى على العقلاء، ولذا كانت تقال هذه الكلمة: المجالس بالأمانات.
أما أمانة العبادات، فهي أمور بين الخالق والمخلوق، ودقيقة وذات حساسية، ولا يقويها ويمكنها، إلا الإيمان الراسخ، وتقوى الله: التي هي مراقبته سبحانه في السر والعلن، فإذا قوي الإيمان، اهتم
__________
(1) حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني في نشر دار أم القرى بالقاهرة ج 1 ص 101 - 102.(84/306)
صاحبه بالأمانة: طاعة لله، ووفاء بحقها: محافظة وتطبيقا.
ومع الخلل الذي يطرأ على الإيمان، ومكانته من قلب صاحبه، فإنها تهون عليه الأمانة، فيضيعها: سواء في الصلاة والمحافظة عليها، أو في الوضوء والخشوع في الصلاة، أو الزكاة وأداء حق الله لأهلها المستحقين، أو الصوم في شهر رمضان: وفاء وعقيدة وتمسكا سرا وجهرا، فقد اختصه الله سبحانه له: «فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي (1) »
كما أن المرتبة الثالثة، من مراتب العقيدة: الإحسان وقد عرفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في حديث جبريل المشهور: «قال أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (2) » وهذا من المنازل الكبيرة في أمانة العقيدة، وعبادة الله، على الوجه الذي يرضيه جل وعلا.
ولذا يستشهد طلبة العلم، على الإنسان، وهو يؤدي عباداته التي فرضها الله عليه، حتى تكون الأمانة، مراقبا الله في أدائها، بقول الشاعر
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله عنك بغافل ... ولا أن ما يخفى عليه يغيب
__________
(1) رواه البخاري ومسلم، في فضل الصوم.
(2) أخرجه: البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث رقم (50) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام والإحسان، حديث رقم (9) .(84/307)
فقد يقوم في الصف للصلاة رفيقان، حرصا على الحضور والمبادرة، فأحدهما يرجع ظافرا مقبولة عبادته، لأنه أداها بأمانة وصدق، بعد أن اهتم بالأمانة، في جميع أموره ... وقمن أن يستجاب له. أما الآخر فأنى يستجاب لدعائه، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وذكر فيه: «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك (1) »
وأما أمانة العهود والمواثيق، سواء كانت بين الأفراد في التعامل والمعاملات والمداينات، حتى تستقيم الحياة بين الناس، وتحفظ الحقوق: هانئة هادئة، مع الوفاء والمراعاة، لهذه العهود والمواثيق، فإنه لا بد من الاهتمام بأمانتها: بيعا وشراء، وتعاملا ووفاء، بشروط ما تم الاتفاق عليه، بدقة وأمانة، وتوثق كتابة وشهودا، خوفا من النسيان، وعدم الكتمان أو إخفاء العيوب، الذي يدخل في الغش.
أو كانت في الحرف المتنوعة، والاستصناع، ومراعاة لحدود البيع والشراء، وحسن التعامل، بلا غش ولا خيانة، ولا ضرر ولا ضرار، ولا احتكار للأقوات والأرزاق، ولا غير ذلك مما يدور في فلك المجتمع، بحسب ما تمليه تلك المواثيق على الإنسان ومعاشه،
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة: برقم: 1015، والترمذي في تفسير القرآن برقم: 2989.(84/308)
وعلى ما يتعامل به حيوانات وزراعات، وغير هذا مما يدخل تحت الوفاء بما تم الاتفاق عليه، دون اعتلاء أو اعتداء ... حفظا للمواثيق المبرمة، وانتظاما في التعامل، وفقا لما يحدد من التزامات على كل طرف: بين الدول والجماعات، أو الأفراد، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلمون على شروطهم (1) » ، «ويسعى بذمتهم أدناهم (2) »
هذا فضلا عن أمانة المال، والنفائس المتنوعة المحببة للنفوس، التي جعلها الله زينة للإنسان، لأن النفوس تميل وتشتهي ذلك، ومع الشح والطمع، تهون الأمانة، لدى بعض النفوس الضعيفة، باتباع الشهوات، وحب الأثرة، مما يطغى على الأحاسيس، ويضعف الوازع الإيماني لتتحرك النفس الأمارة بالسوء، وتنقاد للرغبات، التي يتعاون فيها: الشيطان والهوى والنفس، فتتم السيطرة على إرادة الإنسان، ومن ثم تضيع الأمانة، بعد التساهل في أدائها تدريجا وتسويفا، ليقع في إثم الاستهانة بالأمانة، لأن من يهن يسهل الهوان عليه.
فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جالسا مع أصحابه يحدثهم، كما روى البخاري رحمه الله بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بينما رسول الله في
__________
(1) جزء من حديثين الأول: المسلمون على شروطهم. أخرجه الترمذي في الصلح برقم: 152، وأبو داود برقم: 3594، والثاني: ويسعى بذمتهم أدناهم. أخرجه النسائي في القاسمة برقم: 4734، وأبو داود في الديات برقم: 4530.
(2) جزء من حديثين الأول: المسلمون على شروطهم. أخرجه الترمذي في الصلح برقم: 152، وأبو داود برقم: 3594، والثاني: ويسعى بذمتهم أدناهم. أخرجه النسائي في القاسمة برقم: 4734، وأبو داود في الديات برقم: 4530.(84/309)
مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه، قال: أين السائل عن الساعة؟ قال الأعرابي: ها أنا يا رسول الله. قال: إذا ضيعت الأمانة، فانتظروا الساعة. قال السائل كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أوسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة (1) »
وما ذلك إلا أن الساعة، التي لا تقوم إلا على شرار الخلق، من علامات اقتراب وقوعها: أن يضيع المجتمع بأسره الأمانة، ولا يزال في هذه الأمة، مجال للخير واسعا، ما دامت الأمانة تجد رعاية واهتماما، ومحافظة ودعوة إلى التعاون في سبيل الوفاء بالأمانات، والإنكار على من يتهاون بها.
وما ذلك إلا أن الأمانة من الإيمان، الذي مر بنا تعريفه بأنه: تصديق بالقلب، وعمل بالجوارح، وقول باللسان، ولا بد من تلازم هذه الأمور الثلاثة، حيث يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فإذا أضيعت الأمانة، فسدت الأمم، وتعدى القوي على الضعيف، وكثر الاستهانة بحقوق الآخرين عامة وخاصة، وبذلك تنعدم الثقة بين
__________
(1) ينظر جامع الأصول لابن الأثير تحقيق الأرناؤوط عام 1392 هـ - 1972 الطبعة الأولى 1: 321.(84/310)
الناس، ويقل عمل الخير والإحسان.
ومتى قوي الإيمان في القلب بقوة الوازع السلطاني، الذي يحرك الله به العلماء والدعاة، لإنكار المنكرات، وتقوية القلوب بالإيمان، فإن صاحبه يحرص على جذب الجوارح للأعمال الصالحة، المحببة عند الله، وعند الناس، فيغير الله بالنية الصادقة، المجتمع من حال إلى حال، كما جاء في الحديث الصحيح: «ألا وإن في الجسد، مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب (1) »
فالنفوس الخيرة، مع صلاح المضغة، تندفع إلى ما يفيد ويسعد به المجتمع، ليعف بعضهم عما بأيدي الآخرين: رجالا ونساء، ويحمدون الله على ما هيأ لهم، بعد مجاهدتهم النفوس، وكبح جماحها عن الطمع، وتنمية جانب الخير، وبذا تكبر مكانة الأمانة، ليحف الأمن جوانب المجتمع، الذي يزدهر، وينمو في المال، وتنتشر الألفة بين أبنائه في تعاملهم، لأن الاقتصاديين يقولون: رأس
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه حديث رقم (52) ، ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، حديث رقم (1599) ، وأورده ابن ماجه في سننه عن النعمان بن بشير تحقيق محمد مصطفى الأعظمي الطبعة الثانية 1404 هـ - 1974 م 2: 375 برقم 4032.(84/311)
المال جبان لا ينمو إلا مع توفر الأمن، ثم الأمانة، التي بصدقها في التعامل، يحوطهم الله بعنايته ورحمته ... ينزل في أعمالهم وأموالهم البركة والنماء، ويصبح المال آمنا يستفيد منه طبقات الأمة لأن الله حذر من الاحتكار بقوله الكريم: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (1) .
ولأن كل فرد متى حاسب نفسه، ووازن فيها المكاسب بين عامل الخير، والانحراف إلى الشر، فإنه يرعى حق الأمانة: بين العبد وربه: مراقبة وتقوى، وذلك بأداء ما افترض الله عليه، والاتجاه لما يحبه الله، واجتناب ما عنه نهى، وبذا مع هذا المؤشر، نرى حق الأمانة، فيما بينه وبين من يتعامل معهم: من أهل وولد، وجار وصاحب، أو من تربطه مسؤولية العمل، أو الصداقة أو مع الآخرين، أيا كانوا، ستقوى بلا شك رابطة الأمانة معهم: تأثرا وتأثيرا، ويعظم شأنها: أداء وحفظا واهتماما، لأن عامل الخير مع الناس، من عوامل الوفاء بالأمانة.
بل سوف تمتد مسؤولية الأمانة، مع الحيوانات والطيور، بحسن الولاية، والإحسان إليهن لأن الله محسن يحب المحسنين، ولا يرضى الإساءة في التعامل، مع كل نفس رطبة: لا إهمالا ولا إطعاما ولا سوء ولاية.
__________
(1) سورة الحشر الآية 7(84/312)
وفي قصة المرأة التي دخلت النار في هرة، حبستها ومنعتها من الطعام والشراب، حتى ماتت، لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض، شاهد على ذلك.
فهذا الجزاء الذي أدخل هذه المرأة النار، جاء من ضياع الأمانة، وسوء الولاية كما هو نص الحديث.
ولئن اختلف المفسرون، وشراح الحديث، في مفهوم الأمانة بالتعريف الشامل، أو حصرها في جانب حدده بعضهم دون جانب، فإن جميع الدلالات تلك، التي جاءت عند ابن كثير رحمه الله وغيره، تلتقي في المفهوم العام للأمانة، مع الحقيقة الشرعية، في مفهوم الأمانة، وما يجب في أدائها، والمحافظة عليها، من حيث التعريف والتعظيم بما عظمه الله شرعا.
وجاء تعظيم الأمانة، لأن حملها ثقيل، والوفاء به أمر مشروع، ويؤصل ذلك ما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من تخويف وعقاب، لمن يتهاون في أداء حقها، لما وراء ذلك من نكال أخروي أليم: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (1) .
__________
(1) سورة الكهف الآية 49(84/313)
وقد قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: عبارة مجملة، تبين أنه لا منافاة بين تخصيص كل تعريف، من التعاريف التي جاءت عنده، أو عند غيره، بدلالة معينة، حول خصوصية الأمانة، كمن قال: إنها في غسل الجنابة، أو في الوضوء، أو في محافظة المرأة على موطن العفة، أو في الأمانات المالية أو المادية، أو في عرض من الأعراض المختلفة، أو في فلتات اللسان بالأسرار ذات الخصوصية، التي ينبني عليها ضرر بالفرد أو الجماعة، أو يحدق بالأمة بأسرها.
سواء مما ذكرنا، أو لم نذكره، لشمول الأمانة على كل ما يدور حول الإنسان: وهذه العبارة في قوله: فإن كل الأقوال التي أوردها السلف من هذه الأمة لا منافاة بينها، ولا تخصيص كل تعريف من التعاريف، التي جاءت بدلالة معينة، حول خصوصية الأمانة. كمن قال إنها في غسل الجنابة، أو في الوضوء، أو في المال والجواهر، كما مر أو في غير ذلك.
فإن كل الأقوال، لا تضارب بينها، بل هي متفقة، وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر، والحذر من النواهي، في الإخلال بشرط الأمانة، الذي بينه الله للجبال، والسماوات والأرض، وهو: إن قام بذلك أثيب، وإن تركه عوقب، فأخافهم ذلك، وقبلها الإنسان،(84/314)
على ضعفه وجهله، وظلمه لنفسه، إلا من وفقه الله (1) .
ولعلنا نأتي بمثل محسوس في هذا، ويقع في حياة الناس كثيرا، من تساهل البسطاء من الناس، والجاهلين بمسؤولية الأمانة حيث يقعون في المصيدة، ولا ينفعهم الندم، لأنهم لم يمتحنوا إيمان ودين من تساهلوا معه، ليعرفوا محك الإيمان من قلوبهم، إذ طالما كفل إنسان شخصا في دين أو أي نوع من التعاملات الدنيوية: كفالة غرم، أو كفالة حضور، مما يقود الكافل عند هروب، أو تمرد من كفل، ليقاضيه صاحب الحق، الذي ضمنه عند الجهات الشرعية، فتلزمه المحكمة، بأداء ما كفل، أو بجزاء أكبر عندما يعجز عن الوفاء، وعليه أن يبحث عن المكفول، وهذا من ضياع الأمانة، التي خانها هذا الصاحب، وجازى المعروف بالإساءة، ولم يرع المترتب عليه من حق، حمله غيره، لذهاب الورع الديني، والتقوى في قلبه.
وهذا ما يسميه بعضهم من فساد الزمان، ولكن الزمان لا يفسد، وإنما الذي يفسد من فيه، عندما يستهينون بشرع الله، في كل أمر، ومنها الأمانة، التي هي أول ما يفقد من الدين، كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول الشاعر:
نعيب زماننا والعيب فينا ... وما لزماننا عيب سوانا
__________
(1) تفسير ابن كثير، كتاب الشعب: 3 \ 522.(84/315)
بل كانت الأمانة في كثير من الأوامر الشرعية، التي هي حق الله، ولا مطالب لها من البشر، وإنما هو ثواب أو عقاب من الله، في يوم المعاد، حين لا ينفع الندم، كما مر في حكاية الآدمي، الذي يطالب بأداء أمانة ضيعها في الدنيا، فيقول: كيف أؤديها، وقد انتهت الدنيا وما فيها، فتصور له كهيأتها التي يعرفها، ليحملها ويؤديها، وهو في نار جهنم، فإذا صعد بها تدحرجت عند بلوغ النهاية، وهوت في قعر جهنم، وهكذا يستمر معها صعودا ونزولا، إلى ما شاء الله، وما ذلك إلا تصوير محسوس، من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبيان لثقل الأمانة، التي عظم الله شأنها، ليحذرها كل مؤمن (1) .
وقد مدح الله سبحانه المؤمنين وأعلى منازلهم، بحرصهم على أداء الأمانة، وتورعهم عن أخذ ما فيه شبهات، رعاية لحقها: أداء ومحافظة وتوعية، ومن أهمها أموال اليتامى وغيرهم المستحفظ عليها، ومثلا يحتذى، بوازع إيماني، وبتقوى الله فيما بينه، وبين الآخرين، فقال جل وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (2) ، بعدما أثنى الله عليهم سبحانه، بأداء أمانة التكليف، بأمور عديدة جاءت
__________
(1) يراجع في هذا، تفسير ابن كثير، وتفسير السيوطي، لآية الأمانة في آخر سورة الأحزاب.
(2) سورة المؤمنون الآية 8(84/316)
في أول السورة، وغيرها من كتاب الله، وعلى لسان رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -.
فقد حدث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أربع إذا كن فيك، فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة مطعم (1) »
وحدث أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الخازن المسلم الأمين، الذي يعطي ما أمر به، فيعطيه كاملا موفرا طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به، أحد المتصدقين (2) » وهذا من الاهتمام بالأمانة، والسعي فيها.
أما رواية النسائي فهي قوله: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (3) » . وقال: «الخازن الأمين، الذي يعطي ما أمر به، طيبا به نفسه، أحد المتصدقين (4) »
وفي مجال التدرج، في مهاوي خيانة الأمانة، والاستمراء تعمدا في هذا العمل الرذيل، يأتي حديث أورده، ابن ماجه في سننه، بتحقيق الدكتور: محمد مصطفى الأعظمي، في الطبعة الثانية، عام
__________
(1) أخرجه أحمد 2: 177، برقم 6652، والبيهقي في شعب الإيمان 4: 321 برقم 5258 وغيرهما.
(2) هذه رواية البخاري ومسلم وأبي داود.
(3) صحيح البخاري الأدب (6027) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد (4/409) .
(4) يراجع في الروايتين جامع الأصول لابن الأثير: 1: 324.(84/317)
1404 هـ - 1984 م، وبسنده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله عز وجل، إذا أراد أن يهلك عبدا، نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء، لم تلقه إلا مقيتا ممقتا، فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا، نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة، لم تلقه إلا خائنا مخونا، فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا، نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة، لم تلقه إلا رجيما ملعونا، فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعونا، نزعت منه ربقة الإسلام (1) » نعوذ بالله من ذلك.
ومن حرص الصحابة، ثم التابعين على سلامة دينهم وعملهم، فإنهم يتابعون الأوامر الشرعية ليعملوا ويطبقوا، أخذا من المقولة: رحم الله من سأل، وانتهى إلى ما سمع، فقد أخرج أبو داود في باب البيوع، أن يوسف بن ماهك، وهو تابعي مكي رحمه الله، قال: كنت أكتب لفلان، نفقة أيتام كان وليهم، فغالطوه بألف درهم، فأداها إليهم، فأدركت لهم من أموالهم مثيلها، قال: قلت له: اقبض الألف الذي ذهبوا به منك.
قال: حدثني أبي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أد الأمانة إلى
__________
(1) سنن ابن ماجه الطبعة الثانية والمحقق حائز على جائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية 2: 393 برقم: 4103.(84/318)
من ائتمنك ولا تخن من خانك (1) » أخرجه أبو داود (2) .
ولا تزال أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بخير، ما حرصت على الأمانة، وأكثروا السؤال عنها، حتى تبرأ الذمم ولا ينحدروا على الهاوية، وفق الحديث السابق حتى يبقى حبلهم موصولا فيها - بحمد الله - إلى قيام الساعة.
ولما كان كتاب الله عز وجل، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيهما: النهي عن التعدي، سواء باليد في حقوق الآخرين، أو باللسان، في الدعاء، والتجاوز.. فإن من الأمانة: الوسطية في الدعاء: فلا جفاء ولا غلو.
والله الهادي إلى سواء السبيل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1264) ، سنن أبي داود البيوع (3535) ، مسند أحمد (3/414) .
(2) 2: 260 في البيوع، ينظر جامع الأصول لابن الأثير تحقيق الأرناؤوط 1389 هـ - 1969 م: 1 \ 323.(84/319)
صفحة فارغة(84/320)
أدب التخاطب في ضوء السنة
أصول وضوابط
للدكتور علي بن عبد الله الصياح (1)
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وبعد:
فإن التخاطب مع الناس فن وقل ومن يبرع فيه (2) وهو يحصل بأمرين: بالعلم، والعقل، وبقدر النقص فيهما يكون النقص في أدب التخاطب، فحصول الأمرين هو الحكمة التي قال الله عنها
__________
(1) أستاذ الحديث وعلومه المشارك، قسم الثقافة الإسلامية، كلية التربية، جامعة الملك سعود.
(2) ولذا أصبحت تقام له دورات تدريبية على مستوى العالم برسوم مالية وأحيانا تكون مرتفعة السعر!! .(84/321)
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) ، وخطابك دليل على شخصيتك ومن أجمل العبارات التي قرأتها في ذلك قول الإمام الزاهد يحيى بن معاذ: " القلوب كالقدور في الصدور تغلي بما فيها، ومغارفها ألسنتها فانتظر الرجل حتى يتكلم فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه؛ من بين حلو وحامض، وعذب وأجاج، يخبرك عن طعم قلبه اغتراف لسانه ".
والتخاطب حاجة ضرورية للمرء في يومه وليلته لا بد له منه، ولذا كان على العاقل أن يتعلم من أدب التخاطب وفنونه ما يصل به إلى قلوب الناس مراعيا فقه الكلمة، وخطورة اللفظ، وحفظ المنطق، وكم من صداقات قامت بسبب حسن الأدب في التخاطب، وبالمقابل كم من عداوات قامت بسبب سوء الأدب في التخاطب.
وأهم مصادر تعلم أدب التخاطب وأعلاها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ففيهما أصول وآداب التخاطب مما يحقق المحبة والمودة والإخاء في المجتمع المسلم.
والحق أني لما أخذت أقرأ في السنة النبوية متلمسا هذه الآداب ...
__________
(1) سورة البقرة الآية 269(84/322)
وجدت نفسي بين كنوز ثرية مغفول عنها من قبل كثير من المسلمين - للأسف! -.. فأنت واجد في السنة النبوية:
أدب التخاطب مع الكفار ... والمقاصد في ذلك! .
أدب التخاطب مع النساء ... والضوابط في ذلك! .
أدب التخاطب مع الصغار ... والمناحي التربوية في ذلك! .
أدب التخاطب مع عموم الناس مع اختلاف طبائعهم وطرق تفكيرهم! .
أبرز الألفاظ والأساليب النبوية في التخاطب مع الآخرين ... ومراعاة الأحوال والمناسبات.
ومع المقارنة بين ما تقدم وبين حال الناس الآن يظهر للمتأمل أن هناك بعدا من قبل كثير من الخاصة فضلا عن العامة (1) في التحلي بهذه الآداب وأن هناك ضرورة لنشر مثل هذه الآداب المستمدة من السنة النبوية وإقامة دورات تدريبية لمثل هذه الآداب الاجتماعية الرائعة.
__________
(1) يظهر هذا من المجادلات والحوارات بأنواعها المرئية والمسموعة والمكتوبة!! .(84/323)
وإن الغفلة عن إبراز هذه الجوانب من خلال السنة النبوية سوف تجعل كثيرا من الناس يهرع إلى العلوم الغربية طلبا لهذه المعارف والآداب! .
وكل من أنصف علم أنه لا يوجد في ثقافة من الثقافات القائمة الآن من يعنى بهذه الجوانب الاجتماعية مثل عناية الدين الإسلامي من خلال المصدرين الأصليين: الكتاب والسنة.
ولما تقدم رأيت أهمية الكتابة في هذا الموضوع بهذا البحث الموسوم بـ " أدب التخاطب في ضوء السنة النبوية - أصول وضوابط - ".
والذي يتكون من:
المقدمة، وهي هذه -.
تمهيد وفيه: معنى التخاطب وعناية السلف بهذا الأدب في مؤلفاتهم الحديثية.
أصول وضوابط في أدب التخاطب من خلال السنة النبوية، وفيه عدة مباحث:
المبحث الأول: بدء المخاطبة والكلام بالسلام.
المبحث الثاني: لين الكلام وطيبه وانتقاء الألفاظ والجمل الحسنة عند مخاطبة الناس.
المبحث الثالث: اجتناب الكلام الفاحش والألفاظ السيئة.(84/324)
المبحث الرابع: استشعار مسؤولية الكلمة وخطورتها.
المبحث الخامس: مراعاة المخاطبين.
المبحث السادس: مراعاة أسلوب عرض الخطاب.
الخاتمة: وفيها أبرز نتائج البحث، وتوصيات مقترحة.
وبعد فهذا " جهد المقل والقدر الذي واتاه {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (1) ، وإليه سبحانه وتعالى السؤال أن يجعل ذلك خالصا لوجهه الكريم، مقتضيا رضاه، وألا يجعل العلم حجة على كاتبه في دنياه وأخراه، وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبنا وتعم الوكيل " (2)
__________
(1) سورة الطلاق الآية 7
(2) مقتبس من مقدمة العلائي لكتابه '' نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد '' (ص 36) .(84/325)
تمهيد:
وفيه معنى التخاطب وعناية المؤلفين في الحديث النبوي بأدب التخاطب في مؤلفاتهم الحديثية.
معنى التخاطب:
التخاطب مصدر خطب يخطب مخاطبة وتخاطبا قال الراغب: " والمخاطبة والتخاطب المراجعة في الكلام، ومنه: الخطبة والخطبة(84/325)
لكن الخطبة تختص بالموعظة، والخطبة بطلب المرأة قال تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} (1) ، وأصل الخطبة: الحالة التي عليها الإنسان إذا خطب نحو الجلسة والقعدة، ويقال من الخطبة: خاطب وخطيب، ومن الخطبة الخاطب لا غير، والفعل منها خطب. والخطب: الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب، قال تعالى: {فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ} (2) ، {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} (3) ، وفصل الخطاب: ما ينفصل به الأمر من الخطاب " (4) .
عناية المؤلفين في الحديث النبوي بأدب التخاطب في مؤلفاتهم الحديثية:
إن نظرة في كتب السنة والحديث لتبين بوضوح عناية الأئمة والعلماء بهذا الأدب الرفيع، وبيانه للناس، والغالب أن الأئمة يذكرون أدب التخاطب وما يتعلق به في كتاب يعقدونه بعنوان " كتاب الأدب " أو كتاب الاستئذان، أو كتاب السلام.
ففي أصح كتاب بعد كتاب الله " صحيح البخاري " نجد أن كتاب الأدب حوى:
* " باب طيب الكلام ".
__________
(1) سورة البقرة الآية 235
(2) سورة طه الآية 95
(3) سورة الحجر الآية 57
(4) معجم مفردات ألفاظ القرآن (ص 152) .(84/326)
* " باب ما ينهى من السباب واللعن ".
* باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير.
* باب الغيبة.
* باب النميمة من الكبائر.
* باب ما يكره من التمادح.
* باب من لم يواجه الناس بالعتاب.
* باب قول الرجل مرحبا.
* باب قول الرجل للرجل اخسأ.
وغيرها من الأبواب التي تتضمن آدابا راقية في أدب التخاطب.. وقد تفنن الإمام البخاري في كتابه " الأدب المفرد " في وضع تراجم رائعة تتعلق بأدب التخاطب يغفل عنها كثير من الناس منها:
باب: لا يسمي الرجل أباه، ولا يجلس قبله، ولا يمشي أمامه.
باب: هل يكني أباه؟
باب: لا تقل قبح الله وجهك.
باب: يبدأ الكبير بالكلام والسؤال.
باب: إذا لم يتكلم الكبير هل للأصغر أن يتكلم؟
باب: إن السلام يجزئ من الصرم.
باب: قول الرجل: إني كسلان.(84/327)
باب: قول الرجل: يا بني، لمن أبوه لم يدرك الإسلام.
وغيرها كثير.
وكذلك الإمام مسلم بن الحجاج في كتابه الصحيح عقد كتابا " للسلام " وكتابا بعنوان " كتاب البر والصلة والآداب "، وكذلك كتابا بعنوان " كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها " ذكر فيه جملة من الألفاظ المنهي عن التلفظ بها.
وكذلك الحال في بقية كتب السنة والحديث.. بل ألفت كتب مفردة في العناية بجوانب من آداب المخاطبة مثل كتاب " الصمت وآداب اللسان: لابن أبي الدنيا.
والحديث عن عناية السلف بهذا الأدب يحتاج إلى توسع ليس هذا محله، بل ربما الإشارة فقط إلى هذا الجانب يستوعب البحث كاملا! فلعل ما تقدم يفتح الطريق لدراسة علمية معمقة عن هذا الجانب عند المحدثين يتم من خلالها استقراء الكتب والنظر في التراجم والتبويبات ومن ثم الخروج بنتائج دقيقة ومؤصلة لهذا الأدب من كتب الحديث النبوي.
وأما جهود المعاصرين في بيان أدب التخاطب فقد تنوعت نظرا لتنوع وسائل المعارف وتبليغ العلم في العصر الحديث واتخذت عدة طرق فمنها:(84/328)
الكتب والبحوث والمقالات المقروءة، فنجد أن هناك كنبا متنوعة الجوانب ألفت في بيان أدب التخاطب منها كتاب " أدب التخاطب" لمصطفى العدوي وكتاب " فقه الكلمة ومسئوليتها في القرآن والسنة "، لمحمد عوض ورسالة علمية بعنوان " آفات اللسان كما وردت في الكتب الستة من حديث سيد الأنام " لمحمد بابكر وكتاب " معجم المناهي اللفظية" لبكر أبو زيد (1) .
الوسائط التعليمية أو ما يسمى بالملتميديا: وذلك من خلال وسائل الإعلام الحديثة من أشرطة وبرامج مرئية وهذه كثيرة ومتنوعة،
__________
(1) دار العاصمة، 1996، ط 3، السعودية.(84/329)
وليس هذا موضع ذكرها واستقصائها.
وللمزيد من الاطلاع على هذه الجهود يمكن مراجعة هذا الرابط على الشبكة العالمية:
http: www. heartsactions.com ref bto. htm
وخلال بحثي عن دراسات سابقة في هذا الموضوع لفت نظري قلة البحوث الأكاديمية في " عناية السنة النبوية بأدب التخاطب والكلام " وما يتعلق به من مباحث بالرغم من أن السنة النبوية- المصدر الثاني للتشريع - تحوي كنوزا ثرية في هذا الباب والغفلة عنها قد تورث جفاء في الطبع، وسوءا في الخلق، ونقصا في المحبة والمودة وهذه من أكبر عوامل التفكك في المجتمع المسلم، وكثيرا من هذه المظاهر نراها في واقعنا المعاصر من قبل كثير من الناس بل ومن بعض الخاصة والله المستعان! .
أصول وضوابط في أدب التخاطب من خلال السنة النبوية:
غير خاف أن هذا الموضوع من السعة والتشعب بمكان ولذا كان التفصيل فيه والخوض في دقائقه وتفريعاته لا يناسب هذا البحث المبني على الدقة والإيجاز، ومن هنا بدا لي أن أذكر أصولا وضوابط ووسائل ترجع إليها مقاصد السنة النبوية في باب أدب التخاطب مع الإشارة إلى أهمية هذا الأصل وما يدخل تحته من(84/330)
مسائل ومباحث وأنواع وذكر ما يتيسر من أمثلة وأدلة تدل عليه من غير توسع.(84/331)
المبحث الأول: بدء المخاطبة والكلام بالسلام:
من تأمل في السنة النبوية رأى أن هناك عناية خاصة بموضوع السلام والحث على إفشائه، ومن هنا عني أئمة الحديث بهذا الأدب فعقدوا كتبا وأبوابا عديدة لبيان الأحاديث الواردة في السلام؛ وممن عقد كتابا خاصا للسلام الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه، والإمام مالك بن أنس في الموطأ، وقد ذكر الإمام البخاري في صحيحه كثرا من مباحث السلام في كتاب " الاستئذان " وكذلك في كتابه " الأدب المفرد " وكذلك الإمام أبو داود في سننه ذكر في كتاب الأدب " أبواب السلام " وكذلك بقية أصحاب الكتب الحديثية نثروا أحاديث السلام في أبواب متفرقة من كتبهم.
وقد أحصى الدكتور: عبد العزيز الجاسم في بحثه الموسوم بـ " السلام وأهميته في السنة النبوية" (1) الأحاديث الصحيحة والحسنة الواردة في السلام فبلغت أربعين حديثا، ولابن القيم في كتابه النفيس " زاد المعاد " (2) فصول نفيسة تتعلق بالسلام وأحكامه كاد أن يستوعب
__________
(1) نشر في مجلة البحوث الإسلامية، العدد رقم (59) عام 1420 هـ.
(2) زاد المعاد (2 \ 406 - 428) .(84/331)
الأحاديث الواردة في السلام بسياق جميل أخاذ لا يمل من قرأه، وقال الإمام النووي في كتابه " الأذكار": " واعلم أن أصل السلام ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وأما أفراد مسائله وفروعه فأكثر من أن تحصر، وأنا أختصر مقاصده في أبواب يسيرة إن شاء الله تعالى " (1) ثم ساق هذه الأبواب.
فمن الأحاديث العظيمة الواردة في هذا الأصل:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم (2) »
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام قال: اذهب فسلم على أولئك - نفر من الملائكة جلوس - فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك. فقال السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله (3) »
__________
(1) الأذكار ص (255) .
(2) أخرجه: مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإيمان، وأن إفشاء السلام سبب لحصولها (رقم: 194) .
(3) أخرجه: البخاري، كتاب الاستئذان، باب بدء السلام (رقم 6227) ، ومسلم، كتاب الجنة، باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير (رقم 7163) .(84/332)
3- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف (1) »
4- عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع: بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ونصر الضعيف، وعون المظلوم، وإفشاء السلام، وإبرار المقسم (2) »
وأنبه أنه ستأتي في البحث أحاديث أخرى في السلام ولكن لاستنباط دلالات متنوعة تتعلق بأدب التخاطب.
وفي النصوص المتقدمة فوائد عديدة منها:
- أن السلام من محاسن الإسلام فإن كل واحد من المتلاقيين يدعو للآخر بالسلامة من الآفات والشرور وبالرحمة والبركة الجالبة لكل خير ويتبع ذلك من البشاشة وألفاظ التحية
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الاستئذان، باب السلام للمعرفة وغير المعرفة (رقم 6236) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام (رقم 160) .
(2) أخرجه: البخاري، كتاب الاستئذان، باب إفشاء السلام (رقم 6235) وهذا لفظه، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء (رقم 5388) .(84/333)
المناسبة ما يوجب التآلف والمحبة ويزيل الوحشة والتقاطع (1) .
- أن يبدأ المسلم أخاه عند اللقاء والكلام بالسلام، فهي التحية العظيمة للمسلمين في الدنيا والآخرة، وأنها أولى من التحيات الأخرى التي انتشرت بين المسلمين مثل " صباح الخير " و" أهلا وسهلا" فضلا عن التحية باللغات الأجنبية.. نعم إذا بدأ بالسلام فلا مانع أن يعقبه بما شاء من هذه الألفاظ والتراحيب.
- أن إفشاء السلام ونشره من موجبات دخول الجنة.
- أنه علامة على تواضع المسلم ولينه وحسن خلقه.
__________
(1) انظر: بهجة قلوب الأبرار للشيخ عبد الرحمن السعدي (ص 113) .(84/334)
المبحث الثاني: لين الكلام وطيبه وانتقاء الألفاظ والجمل الحسنة عند مخاطبة الناس:
ويدخل تحت هذا الأصل كل كلام حسن طيب، كما أمر الله عز وجل في قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (1) ، وقوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) .
قال ابن القيم: " كان يتخير في خطابه ويختار لأمته أحسن الألفاظ وأجملها، وألطفها، وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء والغلظة
__________
(1) سورة البقرة الآية 83
(2) سورة الإسراء الآية 53(84/334)
والفحش " (1) وقال أيضا: " وأصل هذا الباب: قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} (2) فالشيطان ينزغ بينهم إذا كلم بعضهم بعضا بغير التي هي أحسن، فرب حرب وقودها جثث وهام، أهاجها القبيح من الكلام " (3) .
فمن الأحاديث العظيمة الواردة في هذا الأصل:
1- عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة (4) »
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والكلمة الطيبة صدقة (5) »
3- عن أبي هريرة قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا طيرة (6) وخيرها الفأل قيل: يا رسول الله وما الفأل؟ قال: الكلمة
__________
(1) زاد المعاد (2 \ 352) .
(2) سورة الإسراء الآية 53
(3) الطرق الحكمية (ص 43) .
(4) أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب طيب الكلام (رقم 6023) ، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة (رقم 2349) .
(5) أخرجه: البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر (رقم 2891) ، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أم اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (رقم 2335) وهو جزء من حديث طويل.
(6) أخرجه: البخاري، كتاب الطب، باب الفأل (رقم 5755) ، ومسلم، كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم (رقم 5798) .(84/335)
الصالحة يسمعها أحدكم»
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه - مرفوعا: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت (1) »
5- وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من صنع إليه معروفا فقال لفاعله: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء (2) »
ففي هذه النصوص جملة من الفوائد منها:
- أن الأصل في الكلام ومخاطبة جميع الناس أن يكون بكلام حسن طيب.
- يدخل في الكلام الحسن: الصدق والعدل في القول، وبذل
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان (رقم 6475) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير وكون ذلك كله من الإيمان (رقم 173) .
(2) أخرجه: الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باب ما جاء في الثناء بالمعروف (رقم 2035) ، وقال: حديث حسن صحيح. وقد وردت بمعناه أحاديث عديدة ينظر الترغيب والترهيب للمنذري، الترغيب في شكر المعروف ومكافأة فاعله والدعاء له وما جاء فيمن لم يشكر ما أولي إليه (2844) .(84/336)
السلام، وتشميت العاطس، والنصيحة برفق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم وغيرها كثير مما لا يمكن حصره مما دلت على أفراده أحاديث كثيرة مشهورة في كتب الحديث لا يتسع المقام لذكرها.
- للكلمة الطيبة أثر كبير في نشر المحبة والمودة في المجتمع؛ يقول سيد قطب في قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) على وجه الإطلاق وفي كل مجال. فيختاروا أحسن ما يقال ليقولوه: بذلك يتقون أن يفسد الشيطان ما بينهم من مودة. فالشيطان ينزغ بين الإخوة بالكلمة الخشنة تفلت، وبالرد السيئ يتلوها فإذا جو الود والمحبة والوفاق مشوب بالخلاف ثم بالجفوة ثم بالعداء، والكلمة الطيبة تأسو جراح القلوب، تندي جفافها، وتجمعها على الود الكريم {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} (2) يتلمس سقطات فمه، وعثرات لسانه، فيغري بها العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه. والكلمة الطيبة تسد عليه الثغرات، وتقطع عليه الطريق، وتحفظ حرم الأخوة آمنا من نزغاته ونفثاته " (3) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 53
(2) سورة الإسراء الآية 53
(3) في ظلال القرآن (4 \ 2234) .(84/337)
- أن المتكلم بكلام طيب مثل المتصدق بالمال.
- يحسن بالمسلم أن يعود لسانه الكلام الحسن كي يكون عادة له وسجية.
يبقى أن ننظر هل راعى المسلمون في خطابهم وكلامهم هذا الأصل العظيم؟
وهل فكر المسلم بأثر الكلمة التي سوف يتلفظ بها؟
وهل راعى الخاصة من أهل العلم في محاوراتهم ومناقشاتهم العلمية هذا الأدب النبوي الرفيع؟ كم ترى من بعض الخاصة من يتهجم على أخيه ويشنع عليه بألفاظ لا يليق رميها على آحاد الناس فضلا عن أهل العلم والفضل من أجل خلاف حول مسألة علمية قابلة للاجتهاد والأخذ والرد، فأين هؤلاء عن هذا الهدي النبوي الشريف؟ !(84/338)
المبحث الثالث: اجتناب الكلام الفاحش والألفاظ السيئة:
ويدخل تحت هذا الأصل النهي عن الكذب، والقذف، والسب واللعن والشتم والغيبة والنميمة، والسخرية من الآخرين، والتشدق في الكلام وتكلف السجع، والألفاظ المنهي عنها، والعبارات الموهمة المجملة التي تحتمل حقا وباطلا، واجتناب الكلمات والألفاظ الأعجمية، وتسمية الأشخاص عند نقدهم من غير حاجة ضرورية، وأشد من ذلك كله تكفير المسلم ورميه بالنفاق.(84/338)
قال ابن القيم: " والأقوال التي ذكرها الله في كتابه الكريم أكثر من أن تعد كالقول الخبيث، والقول الباطل، والقول عليه بما لا يعلم القائل، والكذب، والافتراء، والغيبة، والتنابز بالألقاب، والتناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وتبييت ما لا يرضى من القول، وقول العبد بلسانه ما ليس في قلبه، وقوله ما لا يفعله، وقول اللغو، وقول ما لم ينزل الله به سلطانا، والقول المتضمن للمعاونة على الإثم والعدوان، وأمثال ذلك من الأقوال المسخوطة والمبغوضة للرب تعالى التي كلها قبيحة لا حسن فيها ولا أحسن " (1) .
فمن الأحاديث العظيمة الواردة في هذا الأصل:
(1) عن أنس رضي الله عنه قال: «لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشا ولا لعانا ولا سبابا كان يقول عند المعتبة: ما له ترب جبينه (2) »
(2) عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي (3) »
__________
(1) السماع لابن القيم (ص 20) .
(2) أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن (رقم 6046) .
(3) أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب لا يقل خبثت نفسي (رقم 6179) واللفظ له، ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب كراهة قول الإنسان خبثت نفسي (رقم 5878) .(84/339)
(3) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم (1) »
(4) عن مسروق قال: قالت عائشة - رضي الله عنها -: " صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فخطب فحمد الله ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية (2) »
(5) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله
__________
(1) أخرجه: مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي من قول هلك الناس (رقم 6683) ، قال ابن الأثير: '' فهو أهلكهم يروى بفتح الكاف وضمها: فمن فتحها كانت فعلا ماضيا، ومعناه أن الغالين الذين يؤيسون الناس من رحمة الله يقولون: هلك الناس أي استوجبوا النار بسوء أعمالهم فإذا قال الرجل ذلك فهو الذي أوجبه لهم لا الله تعالى أو هو الذي لما قال لهم ذلك وآيسهم حملهم على ترك الطاعة والانهماك في المعاصي فهو الذي أوقعهم في الهلاك، وأما الضم فمعناه: أنه إذا قال لهم ذلك فهو أهلكهم أي أكثرهم هلاكا وهو الرجل يولع بعيب الناس ويذهب بنفسه عجبا ويرى له عليهم فضلا ''. النهاية في غريب الأثر (5 \ 268) .
(2) أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب (رقم 6101) واللفظ له، ومسلم، كتاب الفضائل، باب علمه - صلى الله عليه وسلم - بالله تعالى وشدة خشيته (رقم 6109) .(84/340)
- صلى الله عليه وسلم -: «أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه (1) »
(6) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر (2) »
(7) عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: «بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: خذوا ما عليها ودعوها؛ فإنها ملعونة (3) » . قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد
ففي هذه النصوص جملة من الفوائد:
- عناية النبي - صلى الله عليه وسلم - بتربية الأمة على اختيار الألفاظ الحسنة
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال (رقم 6104) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان حال الإيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر، واللفظ له (رقم 216) .
(2) أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن (رقم 6044) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي - صلى الله عليه وسلم - سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (رقم 221) .
(3) أخرجه: مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها (رقم 6604) .(84/341)
الطيبة، واجتناب الألفاظ القبيحة والسيئة، قال ابن القيم تعليقا على الحديث رقم (2) «نهى أن يقول الرجل خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي (1) » ، سدا لذريعة اعتياد اللسان الكلام الفاحش، وسدا لذريعة اتصاف النفس بمعنى هذا اللفظ؛ فإن الألفاظ تتقاضى معانيها وتطلبها بالمشاكلة والمناسبة التي بين اللفظ والمعنى، ولهذا قل من تجده يعتاد لفظا إلا ومعناه غالب عليه، فسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذريعة الخبث لفظا ومعنى " (2) وقال أيضا: " فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفظ " الخبث " لبشاعته، وأرشدهم إلى العدول إلى لفظ هو أحسن منه، وإن كان بمعناه تعليما للأدب في المنطق، وإرشادا إلى استعمال الحسن، وهجر القبيح من الأقوال، كما أرشدهم إلى ذلك في الأخلاق والأفعال " (3) .
- خطورة رمي الناس بما ليس فيهم وترتيب الوعيد الشديد على ذلك، وكذلك التعميم في الخطاب أو التسمية لغير الحاجة الضرورية.
- ويجتنب في الخطاب الكلمات التي تحمل معنى التهويل والتعظيم.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6180) ، صحيح مسلم الألفاظ من الأدب وغيرها (2251) ، سنن أبي داود الأدب (4978) .
(2) إعلام الموقعين (3 \ 361) .
(3) الطرق الحكمية (ص 43) .(84/342)
- الناس ينفرون من الشخص سليط اللسان، أو الفظ الغليظ، أو المتعصب المتنطع، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1) وكلما كان المرء لين الحديث، بعيدا عن الجدال ينتقي الكلمات اللطيفة والأجوبة الرفيقة، ويقابل الإساءة بالإحسان كلما كان محبوبا مقبولا لدى الآخرين.
- إن الأدب في الخطاب لا يقتصر على الإنسان بل يتعدى إلى الحيوان فلا يجوز لعنه أو سبه فتأمل عناية الإسلام بضبط لسان المسلم والصرامة في ذلك.. فأين نحن عن هذه الآداب العظيمة؟ ! .
تنبيهان:
- تفنن أئمة الحديث في كتبهم في التعبير عن هذا الأصل من خلال الكتب والأبواب التي عقدوها في مصنفاتهم، فقد عقد الإمام مسلم بن الحجاج في كتابه الصحيح كتابا بعنوان " الألفاظ من الأدب وغيرها " ذكر فيه جملة من الألفاظ المنهي عن التلفظ بها، وكذلك الإمام أبو داود في سننه عقد بابا بعنوان " حفظ المنطق" وكذلك الإمام البيهقي
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159(84/343)
في كتابيه " شعب الإيمان " (1) و"الآداب" (2) .
- للدكتور بكر أبو زيد كتاب كبير بعنوان " معجم المناهي اللفظية " عني فيه بجمع الألفاظ المنهي عنها وقد قال في مقدمة كتابه " فهذا باب من التأليف جامع لجملة كبيرة من الألفاظ، والمقولات، والدائرة على الألسن قديما، وحديثا، المنهي عن التلفظ بها؛ لذاتها، أو لمتعلقاتها، أو لمعنى من ورائها، كالتقيد بزمان، أو مكان، وما جرى مجرى ذلك من مدلولاتها "
__________
(1) (11 \ 201) .
(2) (ص 425) .(84/344)
المبحث الرابع: استشعار مسؤولية الكلمة وخطورتها:
وردت أحاديث كثيرة تبين خطورة الكلمة وأهمية أن يراقب المسلم ألفاظه وكلماته وفي هذا تربية عملية للمسلم أن يتنبه لخطابه مع الآخرين وأن يزن كلامه وعباراته.
فمن الأحاديث العظيمة الواردة في هذا الأصل:(84/344)
1- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد من المشرق والمغرب (1) »
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم (2) »
3- وعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة (3) »
4- وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدث: «أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك (4) »
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان (رقم 6477) ، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب حفظ اللسان (رقم 7482) .
(2) أخرجه: البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان (رقم 6478) .
(3) أخرجه: البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان (رقم 6474) .
(4) أخرجه: مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى (رقم 2621) .(84/345)
وفي النصوص المتقدمة فوائد عديدة منها:
- أن جميع ما يتكلم به المرء مسجل عليه ومحفوظ حتى " الكلام المباح" - على الصحيح من قول العلماء - لعموم قول الله تعالى -: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (1) فيكتب الملكان كل ما ينطق به الإنسان، وأما النية الباعثة له، فلا اطلاع لهما عليها، فالله يتولاها. والله أعلم.
- أن أعظم البلاء على العبد في الدنيا اللسان والفرج فمن وقي من شرهما فقد وقي أعظم الشر.
- أن على من أراد النطق بكلمة أن يتدبرها بنفسه قبل نطقه فإن ظهرت مصلحة تكلم بها وإلا أمسك (2) ومن جميل كلام ابن القيم: " وأما اللفظات؛ فحفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة؛ بأن لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر: هل فيها ربح أو فائدة أم لا؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر: هل تفوت بها كلمة هي أربح منها فلا يضيعها بهذه؟ " (3) .
- أنه ربما اقترن بالكلمة من الصدق والإخلاص والصفاء
__________
(1) سورة ق الآية 18
(2) عمدة القاري (23 \ 110) .
(3) الجواب الكافي (ص: 379) .(84/346)
وحسن النية ما يجعلها سببا - على قلتها - للمغفرة والرضوان، والعكس كذلك (1) .
- خطورة التعالي على الناس في الخطاب والتكبر والتجبر وعدم احتقار المسلم مهما كان ومهما عمل.
- عدم الحكم على الناس بالجنة أو النار إلا ما دل الدليل عليه.
تنبيهان:
1- للسلف في هذا الباب آثار عجيبة وأخبار جميلة تدل على قوة تمسكهم بهذا الأدب النبوي الرفيع من ذلك قول شداد بن أوس رضي الله عنه: " ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها " (2) وقال ابن دقيق العيد: " ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلا إلا أعددت لذلك جوابا بين يدي الله تعالى " (3) وإذا أردت المزيد من أخبار السلف في هذا الباب فراجع كتاب " الصمت" لابن أبي الدنيا " باب قلة الكلام والتحفظ في النطق"، وسترى ما يطول منه عجبك، وتعرف قدر نفسك والله المستعان.
__________
(1) ينظر للفائدة: مجموع الفتاوى (10 \ 735) .
(2) أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده (4 \ 123) ، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (22 \ 412) .
(3) فتح المغيث للسخاوي (1 \ 93) .(84/347)
2- للإمام ابن القيم كتابات بديعة جدا تتعلق باللسان وحفظه مناسبة لهذا الأصل، ولولا خشية الطول لذكرت فصولا رائعة من كلامه المبثوث في عدد من كتبه من أنفسها ما جاء في كتابه " الجواب الكافي": " (379 - 389) ، ومما قال رحمه الله: " ومن العجب: أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر، ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالا ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب؛ وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول. وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر فيما رواه مسلم في صحيحه - ثم ذكر الحديث رقم 4 - فهذا العابد الذي قد عبد الله ما شاء أن يعبده أحبطت هذه الكلمة الواحدة عمله كله. وفي حديث أبي هريرة نحو ذلك، ثم قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته " (1)
__________
(1) الجواب الكافي (ص 381) .(84/348)
المبحث الخامس: مراعاة المخاطبين:
من تأمل سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وسيرته رأى أن خطابه - صلى الله عليه وسلم - يختلف باختلاف المخاطبين وأحوالهم وبيئاتهم وطرائق تفكيرهم، كل وما يناسبه وينفعه، وقد استفاد من هذا الهدي الصحابة رضوان الله عليهم ففي الأثر الصحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ " (1) وفي الأثر الآخر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " (2) .
وقد رأيت بعد تأمل لكثير من نصوص السنة النبوية أن مراعاة المخاطبين تكون من نواح عدة:
مراعاة سن المخاطب:
ولذا تجد في مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - للصغار من المزاح والمداعبة والكلمات المناسبة محاولة لإدخال السرور في قلوبهم ما يناسب عقولهم وسنهم، ومن النصوص الواردة في ذلك:
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا (رقم 127) .
(2) أخرجه: مسلم، في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع (ص 14) .(84/349)
1- حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «إن كان النبي عليه السلام ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير، ما فعل النغير (1) »
2- وحديث أم خالد بنت خالد. قالت: «أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي وعلي قميص أصفر. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنه سنه قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة. فزبرني أبي. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعها. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي (3) »
3- وحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - «أنه كان يمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمر بصبيان فسلم عليهم (4) »
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب الانبساط إلى الناس (رقم 6129) ، ومسلم، كتاب الآداب، باب جواز تكنية من لم يولد له وكنية الصغير (رقم 5622) والنغير طائر صغير.
(2) أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب من ترك صبية غيره حتى تلعب به أو قبلها أو مازحها (رقم 5993) . - وقوله: '' أبلي وأخلقي '': العرب تطلق ذلك وتريد الدعاء بطول البقاء للمخاطب بذلك، أي أنها تطول حياتها حتى يبلى الثوب ويخلق. فتح الباري لابن حجر (16 \ 378) .
(3) قوله سنه سنه: هي بالحبشية حسن. (2)
(4) أخرجه: البخاري، كتاب الاستئذان، باب التسليم على الصبيان (رقم 6247) ، ومسلم، كتاب السلام، باب استحباب السلام على الصبيان (رقم 5665) .(84/350)
4- وحديث سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بشراب، فشرب منه، وعن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: والله، يا رسول الله، لا أوثر بنصيبي منك أحدا. قال: فتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يده (1) »
5- وحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خلقا، فأرسلني يوما لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرجت حتى أمر على صبيان، وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس أذهبت حيث أمرتك (2) ؟ قال: قلت: نعم، أنا ذاهب يا رسول الله. قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين، ما علمته قال لشيء صنعته: لم
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الأشربة، باب هل يستأذن الرجل من عن يمينه في الشرب ليعطي الأكبر (رقم 5620) ، ومسلم، كتاب الأشربة، باب استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما عن يمين المبتدئ (رقم 5292) .
(2) أخرجه: مسلم، كتاب الفضائل، باب حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - (رقم 6015) .(84/351)
فعلت كذا وكذا؟ أو لشيء تركته: هلا فعلت كذا وكذا؟»
وأنبه أن هناك عددا من البحوث عنيت بتعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الصغار والجوانب التربوية في ذلك.
مراعاة ديانة المخاطب:
الناظر في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - يلحظ أن الأصل في مخاطبة الكفار حسن الكلام ولينه إلا عند الحاجة وهذا في الحقيقة تطبيق لقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (1) ، وقوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (2) ، مع وجود بعض الأحكام الخاصة بأدب التخاطب مع الكفار كما سيأتي، فمن النصوص المهمة في هذا الباب:
1- حديث عائشة رضي الله عنها: «أن يهود أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: عليكم ولعنكم الله وغضب الله عليكم. قال: مهلا يا عائشة عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش قالت أولم تسمع ما قالوا؟ قال:
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 46
(2) سورة طه الآية 44(84/352)
أولم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في (1) »
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال «لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه (3) »
3- عن أنس - رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم (4) »
4- عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يك سيدكم، فقد أسخطتم ربكم عز وجل (5) »
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحشا ولا متفحشا (رقم 6030) .
(2) أخرجه: مسلم، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم (رقم 5661) .
(3) قال النووي: '' لا يترك للذمي صدر الطريق '' شرح صحيح مسلم (14 \ 147) . (2)
(4) أخرجه: البخاري، كتاب الاستئذان، باب كيف الرد على أهل الذمة السلام (رقم 6258) ، ومسلم، - الموضع السابق - (رقم5652) .
(5) أخرجه: أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب لا يقول المملوك ربي وربتي (رقم 4977) ، وأحمد في المسند (5 \ 346) ، و'' البخاري''، في (الأدب المفرد) (رقم 760) ، وإسناده صحيح.(84/353)
وفيما تقدم جملة من الفوائد منها:
- أن الأصل في مخاطبة الكفار حسن الكلام والرفق إلا عند الحاجة والمصلحة.
- أنهم لا يبدؤون بالسلام وقد اختلف أهل العلم في ذلك لاختلافهم في دلالة الحديث وهل هو وارد في قضية خاصة أو هو حكم عام قال ابن القيم: " والظاهر أن هذا حكم عام.. وقد اختلف السلف والخلف في ذلك فقال أكثرهم: لا يبدؤون بالسلام وذهب آخرون إلى جواز ابتدائهم كما يرد عليهم روي ذلك عن ابن عباس، وأبي أمامة وابن محيريز رضي الله عنهم، وهو وجه في مذهب الشافعي رحمه الله لكن صاحب هذا الوجه قال يقال له: السلام عليك فقط بدون ذكر الرحمة وبلفظ الإفراد وقالت طائفة: يجوز الابتداء لمصلحة راجحة من حاجة تكون له إليه أو خوف من أذاه أو لقرابة بينهما، أو لسبب يقتضي ذلك يروى ذلك عن إبراهيم النخغي، وعلقمة. وقال الأوزاعي: إن سلمت فقد سلم الصالحون وإن تركت فقد ترك الصالحون ".(84/354)
بيان كيفية الرد عليهم إذا سلموا وهو قول: وعليكم، غير أن ابن القيم نبه على مسألة في قوله: " فلو تحقق السامع أن الذمي قال له: " السلام عليكم " لا شك فيه، فهل له أن يقول: وعليك السلام، أو يقتصر على قوله: " وعليك "؟ فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام، فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان وقد قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (1) فندب إلى الفضل، وأوجب العدل.
ولا ينافي هذا شيئا من أحاديث الباب بوجه ما، فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بالاقتصار على قول الراد " وعليكم " بناء على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم، وأشار إليه في حديث عائشة رضي الله عنها فقال «ألا ترينني قلت: وعليكم، لما قالوا السام عليكم؟ (2) » ثم قال: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم (3) » والاعتبار وإن كان لعموم اللفظ فإنما يعتبر عمومه في نظير المذكور، لا فيما يخالفه.
قال تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} (4) فإذا زال هذا السبب وقال الكتابي: سلام عليكم ورحمة الله، فالعدل في التحية يقتضي أن يرد عليه نظير سلامه. وبالله التوفيق " (5) .
__________
(1) سورة النساء الآية 86
(2) صحيح البخاري الأدب (6030) ، صحيح مسلم السلام (2165) .
(3) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6926) ، صحيح مسلم السلام (2163) ، مسند أحمد (3/218) .
(4) سورة المجادلة الآية 8
(5) أحكام أهل الذمة (1 \ 67) .(84/355)
- النهي عن تسويد الكفار ونحوه من ألفاظ التقدير قال ابن القيم: " وأما أن يخاطب بسيدنا، ومولانا، ونحو ذلك؛ فحرام قطعا، وفي الحديث المرفوع: «لا تقولوا للمنافق سيدنا فإن يكن سيدكم فقد أغضبتم ربكم ... (1) »
- وجملة القول أنه يراعى في مخاطبة الكفار المصالح والمفاسد ولابن القيم كلام جميل في هذا يقول فيه: " ومدار هذا الباب وغيره ما تقدم على المصلحة الراجحة، فإن كان في كنيته وتمكينه من اللباس وترك الغيار والسلام عليه أيضا ونحو ذلك تأليفا له ورجاء إسلامه وإسلام غيره كان فعله أولى كما يعطيه من مال الله لتألفه على الإسلام، فتألفه بذلك أولى.
وقد ذكر وكيع عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كتب إلى رجل من أهل الكتاب: " سلام عليك ". ومن تأمل سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في تأليفهم الناس على الإسلام بكل طريق تبين له حقيقة الأمر، وعلم أن كثيرا من هذه الأحكام التي ذكرناها من الغيار وغيره تختلف باختلاف الزمان والمكان والعجز والقدرة والمصلحة والمفسدة. ولهذا لم يغيرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا
__________
(1) المرجع السابق (1 \ 248) .(84/356)
أبو بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه وغيرهم. «والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأسقف نجران: أسلم يا أبا الحارث» ، تأليفا له واستدعاء لإسلامه، لا تعظيما له وتوقيرا " (1) .
1- مراعاة جنس المخاطب هل هو ذكر أو أنثى:
لا شك أن طبيعة المرأة تختلف عن طبيعة الرجل من أوجه عدة كما قال تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} (2) ولذا عني الإسلام بتشريع ما يصلح لكل واحد منهما وفق طبيعته، ومن ذلك آداب المخاطبة مع النساء سواء كن زوجات أو قريبات أو أجنبيات ومن تأمل في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - يجد الآداب الراقية في ذلك في ذلك فهو مع زوجاته وبناته يحادثهن، ويمازحهن، ويشاورهن، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي (3) » ولذا عني الباحثون بدراسة أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أزواجه وبناته ومن النصوص الواردة في هذا المعنى:
1- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام، قلت: وعليه السلام
__________
(1) المرجع السابق.
(2) سورة آل عمران الآية 36
(3) أخرجه: الترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب فضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - (رقم 3895) وقال: حسن غريب صحيح، والدارمي في سننه (رقم 2265) .(84/357)
ورحمة الله قالت: وهو يرى ما لا نرى (1) »
2- ومن ذلك جلسوه صلى الله عليه وسلم مع عائشة وسماعه حديث أم زرع الطويل وقوله لها في آخر الحديث: «كنت لك كأبي زرع لأم زرع (2) »
3- عن عائشة قالت: «اجتمع نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلم يغادر منهن امرأة: فجاءت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: مرحبا بابنتي فأجلسها عن يمينه. أو عن شماله. ثم إنه أسر إليها حديثا فبكت فاطمة. ثم إنه سارها فضحكت أيضا. فقلت لها: ما يبكيك؟ فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن. فقلت لها حين بكت: أخصك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحديثه دوننا ثم تبكين؟ وسألتها عما قال فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا قبض سألتها فقالت: إنه كان حدثني
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفا (رقم 6201) ، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل عائشة رضي الله تعالى عنهما (رقم 6304) وفيه ملاطفة الزوجة عند ذكر اسمها.
(2) أخرجه: البخاري، كتاب النكاح، باب حسن المعاشرة مع الأهل (رقم 5189) ، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة باب ذكر حديث أم زرع (رقم 6305) .(84/358)
أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل عام مرة. وإنه عارضه به في العام مرتين. ولا أراني إلا قد حضر أجلي. وإنك أول أهلي لحوقا بي. ونعم السلف أنا لك. فبكبت لذلك ثم إنه سارني. فقال: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين. أو سيدة نساء هذه الأمة؟ فضحكت لذلك (1) »
وأما النساء الأجنبيات فقد حددت الشريعة من خلال الأدلة التفصيلية من القرآن الكريم ومن السنة النبوية ومن خلال الأصول العامة والآداب والقواعد الشرعية التي ينبغي مراعاتها عند مخاطبة النساء، وقد قال تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (2) ، وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (3) .
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الاستئذان، باب من ناجى بين يدي الناس ومن لم يخبر بسر صاحبه فإذا مات أخبر به (رقم 6285) . ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة بنت النبي عليها الصلاة والسلام، واللفظ له (رقم 6314) .
(2) سورة الأحزاب الآية 32
(3) سورة الأحزاب الآية 53(84/359)
والمتأمل في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - يرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلم على النساء ويسلمن عليه، ويحادثهن فيما يحتجنه من سؤال أو علم أو مشكلة أو غير ذلك، مما يدل على أن الأصل جواز مخاطبة الرجل النساء الأجنبيات بالضوابط الشرعية من خلال الأدلة المتقدمة ومن النصوص الواردة في مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء الأجنبيات:
- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال: «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى، أو فطر، إلى المصلى، فصلى ثم انصرف، فقام فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة. فقال: أيها الناس، تصدقوا، ثم انصرف فمر على النساء. فقال: يا معشر النساء، تصدقن فإني أراكن أكثر أهل النار. فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر(84/360)
النساء. فقلن له: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن بلى، قال فذاك نقصان عقلها، أوليست إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم؟ قلن بلى. قال: فذاك من نقصان دينها، ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما صار إلى منزله، جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه. فقيل: يا رسول الله، هذه زينب تستأذن عليك. فقال: أي الزيانب؟ فقيل: امرأة ابن مسعود. قال: نعم، ائذنوا لها، فأذن لها. فقالت: يا نبي الله إنك أمرتنا اليوم بالصدقة، وكان عندي حلي فأردت أن أتصدق، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم. فقال - صلى الله عليه وسلم - صدق، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم (1) »
- وفي حديث أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: «ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره، قالت فسلمت عليه. فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب. فقال: مرحبا بأم هانئ. فلما فرع من
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب (رقم 1462) وهذا لفظه، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات (رقم 243) .(84/361)
غسله، قام فصلى ثماني ركعات، ملتحفا في ثوب واحد، فلما انصرف قلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي أنه قاتل رجلا قد أجرته: فلان بن هبيرة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ. قالت أم هانئ: وذاك ضحى (1) »
والنصوص في هذا كثيرة ليس هذا موضع التوسع في ذكرها.
2- مراعاة المخاطبين من حيث الشدة واللين:
وهذا يظهر من خلال أحاديث متعددة وردت في السنة النبوية يظهر منها مراعاة المخاطبين من حيث الشدة واللين بسبب اختلاف أحوالهم فمن النصوص التي فيها اللين:
- حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: «بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم أفخاذهم، فلنا رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الجزية، باب أمان النساء وجوارهن (رقم 3171) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب استحباب صلاة الضحى (رقم 1669) .(84/362)
منه فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن (1) »
- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين (2) »
- حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: «إن فتى شابا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله ائذن لي بالزنى، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه. فقال: ادنه فدنا منه قريبا، قال: فجلس. قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم.
__________
(1) أخرجه: مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته (رقم 1199) .
(2) أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يسروا ولا تعسروا وكان يحب التخفيف واليسر على الناس (رقم 6128) واللفظ له، ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد (رقم 427) .(84/363)
قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه. قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (1) »
ومن النصوص التي فيها الشدة:
حديث أبي مسعود يقول: «أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا، قال: فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط أشد غضبا في موعظة منه يومئذ، قال: فقال: يا أيها الناس، إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم المريض والكبير وذا الحاجة (2) »
__________
(1) أخرجه: الإمام أحمد في مسنده (5 \ 256) .
(2) أخرجه: البخاري، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله (رقم 6110) ، ومسلم كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام (رقم 1044) .(84/364)
3- مراعاة منزلة المخاطب:
ويظهر هذا من خلال نصوص متعددة ومنها كتابات الرسول - صلى الله عليه وسلم - للملوك كما في حديث أبي سفيان بن حرب الطويل رضي الله عنه وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى (1) »
ومنها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد - هو ابن معاذ رضي الله عنه - بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان قريبا منه فجاء على حمار فلما دنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قوموا إلى سيدكم، فجاء فجلس (2) » ... الحديث.
4- مراعاة المكان والوقت والزمن:
يدخل في ذلك عدم تطويل الخطبة، وكذلك عدم الإكثار من الكلام خشية الملل والسآمة ولذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخول الناس
__________
(1) أخرجه: البخاري، بدء الوحي (رقم 7) ، ومسلم كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (رقم 1773) .
(2) أخرجه: البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب إذا نزل العدو على حكم رجل (رقم 3043) ، ومسلم، باب جواز قتال من نقض العهد (رقم 1768) .(84/365)
بالموعظة مخافة السآمة عن أبي وائل قال: «كان عبد الله رضي الله عنه يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بها مخافة السآمة علينا (2) »
وكذلك مراعاة المكان: ومن أشهر ما يذكر هنا قصة عبد الرحمن بن عوف مع عمر بن الخطاب وفيها قول عبد الرحمن لعمر رضي الله عنهما - فقلت: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس، وغوغاءهم؛ فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وألا يعوها، وألا يضعوها على مواضعها؛ فأمهل حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها. فقال عمر رضي الله عنه -: أما والله - إن شاء الله - لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة الحديث (3) .
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الدعوات، باب الموعظة ساعة بعد ساعة (رقم 6411) ، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب الاقتصاد في الموعظة (رقم 7129) .
(2) المقصود عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (1)
(3) أخرجه: البخاري، كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت (رقم 6830) .(84/366)
مراعاة الظروف والمناسبات المحتفة بالخطاب والمخاطب:
وهذه واسعة لا يمكن تحديدها مثل وقت الفرح ليس كوقت الحزن، وما يحسن في مجلس العلم والذكر قد لا يحسن في مجلس التبسط، ومراعاة الظروف والمناسبات عامل كبير في التأثير والاستجابة للمخاطب،.... وكذلك مراعاة ما يخشى من التحدث به خشية الفتنة وفي هذا يقول ابن حجر رحمه الله: " وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم في حديث الجرابين، وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب " (1) .
424 ومما يذكر هنا مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار يوم حنين كما في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه، قال: «لما أفاء الله على رسوله
__________
(1) فتح الباري (1 \ 424) .(84/367)
- صلى الله عليه وسلم - يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس فخطبهم فقال: يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي. كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن. قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن. قال: ولو شئتم لقلتم: جئتنا كذا وكذا. ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رحالكم. لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك لناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها. الأنصار شعار، والناس دثار. إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض (1) »
وفي ختام هذا الأصل الكبير أنبه على أمرين:
الأول: أن لسلفنا في هذا الباب أخبارا جميلة يستفاد منها الدروس والحكم منها قول النضر بن شميل: سئل الخليل عن مسألة فأبطأ بالجواب فيها قال: فقلت ما في هذه المسألة كل هذا النظر قال: فرغت من المسألة وجوابها ولكني أريد أن أجيبك جوابا يكون
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف (4330) .(84/368)
أسرع إلى فهمك قال أبو قدامة: فحدثت به أبا عبيد فسر به.
وقول الشافعي: لو أن محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقله ما فهمنا عنه لكنه كان يكلمنا على قدر عقولنا فنفهمه (1) .
الثاني: أن هناك كتابا جيدا عالج هذا الأصل من منظور دعوي للدكتور: فضل إلهي عنوانه (من صفات الداعية مراعاة أحوال المخاطبين في ضوء الكتاب والسنة وسير الصالحين) (2)
__________
(1) الآداب الشرعية (2 \ 151) .
(2) عندي الطبعة الثانية من الكتاب، 1419 هـ، الناشر إدارة ترجمان الإسلام، باكستان.(84/369)
المبحث السادس: مراعاة أسلوب عرض الخطاب:
من فقه المتحدث مراعاة أسلوب عرض الخطاب وهذا في تقديري لا يقل أهمية عن الخطاب نفسه، بل ربما يكون أوقع في النفس وأشد تأثيرا، وكم من حق وعدل رد بسبب سوء عرض في الخطاب وعدم الفقه فيه!! .
والمتأمل في سنة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - يلحظ عناية دقيقة بهذا فيما يراعى في أسلوب عرض الخطاب:
رفع الصوت وخفضه حسب الحاجة:
1- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب(84/369)
احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ... (1) »
2- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «تخلف عنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار. مرتين أو ثلاثا (2) » وقد بوب الإمام البخاري على الحديث بقوله: باب من رفع صوته بالعلم.
3- وعن المقداد - رضي الله عنه - في حديثه الطويل، قال: «كنا نرفع للنبي - صلى الله عليه وسلم - نصيبه من اللبن، فيجيء من الليل، فيسلم تسليما لا يوقظ نائما، ويسمع اليقظان ... (3) »
4- وقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يراعون هذا في مخاطبة النبي
__________
(1) أخرجه: مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (رقم 2005) . وكم نتمنى لو أن بعض الخطباء والوعاظ والمرشدين راعوا هذا في طرحهم. فإن عدم مراعاة هذه الأساليب ربما يسبب الملل والنعاس لدى الكثير!!.
(2) أخرجه: البخاري، كتاب العلم، باب من رفع صوته بالعلم (رقم 60) ، وهذا لفظه، ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما (رقم 572) .
(3) أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره (رقم 5362) .(84/370)
- صلى الله عليه وسلم - ففي حديث عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه الطويل - واصفا إجلال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له (1) »
استخدام اليد والرأس عند الحاجة:
1- في حديث جابر رضي الله عنه المتقدم: «بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى (2) » .
2- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «صلى لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم رقي المنبر فأشار بيديه قبل قبلة المسجد ثم قال لقد رأيت الآن منذ صليت لكم الصلاة الجنة والنار ممثلتين في قبلة هذا الجدار، فلم أر كاليوم في الخير والشر ثلاثا (3) »
3- وعن سليم بن جبير مولى أبي هريرة قال: «سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقرأ هذه الآية
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (رقم 2731) .
(2) سنن النسائي صلاة العيدين (1578) .
(3) أخرجه: البخاري، كتاب الأذان، باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة (رقم 749) .
(4) أخرجه: أبو داود، كتاب السنة، باب في الجهمية (رقم 4728) ، وابن خزيمة في كتاب التوحيد (رقم46) ، وابن حبان في صحيحه (رقم 264) ، وإسناده صحيح.(84/371)
قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه قال أبو هريرة: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها ويضع إصبعيه (1) »
4- وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (2) »
وقد بوب الأئمة في كتبهم على هذا المعنى في مواضع، فمن الأئمة الذين صنعوا ذلك:
الإمام البخاري في مواضع عدة فمثلا في كتاب العلم عقد بابا يقول فيه: " باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس "، وكذلك في كتاب الطلاق عقد بابا بعنوان: " باب الإشارة في الطلاق والأمور"، وفي كتاب "الأدب المفرد" " باب من سلم إشارة ".
الإمام النسائي في سننه في مواضع عدة منها في كتاب الجمعة، بوب: باب الإشارة في الخطبة.
__________
(1) سورة النساء الآية 58 (4) {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}
(2) أخرجه: البخاري، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره (رقم 481) وهذا لفظه، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (رقم 6585) .(84/372)
وغيرهما من أئمة الحديث مما لا يتسع البحث لذكره.
وقد تحدث التربويون عن أهمية هذا الأسلوب أو ما يسمونه " أسلوب التعليم السيمائي " أو " فن الاتصال بلغة الجسد ".
طريقة طرح الكلام وأسلوب المخاطبة وتنوع الخطاب، فمن ذلك مراعاة ما يلي
وضوح الكلام وبيانه:
ففي حديث عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه (1) » وفي رواية: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسرد الحديث كسردكم (2) » وفي رواية: «كان كلامه فصلا يبينه، النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسرد الكلام كسردكم هذا، يحفظه كل من سمعه (3) »
ومن تبويبات الأئمة في ذلك قول البيهقي في السنن الكبرى
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - (رقم 3567) ، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم (رقم 7509) .
(2) أخرجه: البخاري - الموضع السابق - تعليقا، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي هريرة الدوسي رضي الله عنه (رقم 6399) .
(3) أخرجه: النسائي في الكبرى (رقم 10245) .(84/373)
" باب ما يستحب من تبيين الكلام وترتيله وترك العجلة فيه " (1) وذكر الأحاديث الواردة في هذا.
تكرار الكلام عند الحاجة:
وقد بوب الإمام البخاري في صحيحه في كتاب العلم " باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه، «فقال: ألا وقول الزور فما زال يكررها (2) » ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هل بلغت ثلاثا ".
ثم ذكر حديثين:
الأول: حديث أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثا (3) »
والثاني: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما المتقدم ذكره.
السكتة اليسيرة لشد انتباه المخاطب:
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: «خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر قال: أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى. قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه،
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي (3 \ 207) .
(2) صحيح البخاري الشهادات (2654) ، صحيح مسلم الإيمان (87) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3019) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) .
(3) (رقم 93) .(84/374)
فقال: أليس ذو الحجة؟ ... إلخ (1) »
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - بيتي وبينه إلا مؤخرة الرحل فقال: " يا معاذ بن جبل ". قلت: لبيك رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة ثم قال: " يا معاذ بن جبل: قلت: لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك رسول الله وسعديك (2) »
ضرب الأمثال وذكر القصص:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات. هل يبقي من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا (3) »
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى (رقم 1741) ، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (رقم 4383) .
(2) أخرجه: البخاري، كتاب اللباس، باب إرداف الرجل خلف الرجل (رقم 5967) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا (رقم 143) .
(3) أخرجه: البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلوات الخمس كفارة (رقم 528) ، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات (رقم 1522) .(84/375)
وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا، ثم خرج يسأل، فأتى راهبا فسأله فقال له: هل من توبة؟ قال: لا، فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وأوحى إلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له (1) »
والأحاديث في ضرب الأمثال وذكر القصص كثيرة وقد كتبت فيها بحوث ودراسات كما لا يخفى.
طرح السؤال لتحريك الذهن واختبار المعلومات:
عقد الإمام البخاري في صحيحه في كتاب العلم بابا قال فيه: " باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم " ثم ذكر حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، حدثوني ما هي؟ قال فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبد الله: فوقع في
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب الأنبياء، باب حديث الغار (رقم 3470) واللفظ له، ومسلم، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (رقم 2766) .(84/376)
نفسي أنها النخلة. ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة (1) »
استخدام الوسائل المتنوعة عند المخاطبة
وهذه كثيرة في السنة النبوية ومنها:
1- الكتابة والخط: فقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتب إلى الملوك والحكام في عهده، يدعوهم إلى الإسلام ونبذ الشرك وعبادة الأوثان.
وربما رسم رسما ليوضح الكلام كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «خط النبي - صلى الله عليه وسلم - خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط، من جانبه الذي في الوسط وقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به - أو قد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا (2) »
2- استخدام العصا: ففي الحديث عن علي رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم جالسا، وفي يده عود ينكت به قال: فرفع رأسه فقال: ما منكم من نفس إلا وقد علم
__________
(1) (رقم 62) .
(2) أخرجه: البخاري، كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله (رقم 6417) .(84/377)
منزلها من الجنة والنار ... (1) »
عرض عين ما يراد الكلام عنه:
وعن علي - رضي الله عنه -قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريرا فجعله في يمينه، وذهبا فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي (2) »
تنبيهان:
1- ما تقدم ذكره بعض أساليب عرض الخطاب في السنة النبوية مما يناسب البحث وحدوده وهي قابلة للمزيد والتفصيل والتقسيم.
2- أن هذه الأدلة تدل على أن من مقاصد السنة النبوية في التخاطب استعمال كل ما يفيد في بيان الحقيقة ويوضحها ويساعد على فهمها فما وجد الآن من أساليب حديثة ومتطورة تساعد على الفهم والتفكير والاستيعاب مطلوب
__________
(1) أخرجه: البخاري، كتاب القدر باب وكان أمر الله قدرا مقدورا (رقم 6605) ، ومسلم، كتب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه (رقم 6733) .
(2) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب اللباس، باب في الحرير للنساء (رقم 4057) ، والنسائي، كتاب اللباس، تحريم الذهب على الرجال (رقم 5147) ، وابن ماجه، كتاب اللباس، باب لبس الحرير والذهب للنساء (رقم 3595) ، وإسناده صحيح.(84/378)
شرعا التعامل معها والاستفادة منها.
3- لم أجد حسب علمي دراسة علمية استقرائية تحليلية تعنى بهذا الأصل من خلال سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أهمية الموضوع وتنوعه وطوله - كما رأيت فيما سبق - فآمل من الإخوة الباحثين في السنة وعلومها العناية بهذا الجانب خاصة وأن بعض الباحثين التربويين المعاصرين يشتكي من قلة الكتابة في هذا الموضوع وعدم وجود دراسات شرعية متخصصة تعنى باستباط هذه الأساليب من المصدر الثاني للتشريع.
نعم هناك بعض البحوث القليلة الجيدة في هذا الموضوع ومنها بحث بعنوان " الأساليب التعليمية المستقاة من خلال تراجم الإمام البخاري على أحاديث كتاب العلم في جامعه الصحيح " أوصل فيه الباحث الأساليب التعليمية المستنبطة خمسة وعشرين أسلوبا، وقد أجاد الباحث وأبدع وفقه الله.(84/379)
الخاتمة:
بعد هذه الجولة العلمية الشائقة الرائقة في رياض السنة النبوية وما فيها من أحكام وآداب وأخلاق بحثا عن التوجيهات والآداب المتعلقة بأدب التخاطب الذي نحتاجه كل دقيقة في حياتنا أجمل أبرز النتائج والتوصيات.(84/379)
فمن النتائج:
* عناية الأئمة والعلماء بهذا الأدب الرفيع، وبيانه للناس بما يناسب زمانهم وعصرهم، والغالب أن الأئمة يذكرون أدب التخاطب وما يتعلق به في كتاب يعقدونه بعنوان " كتاب الأدب" أو كتاب الاستئذان، أو كتاب السلام.
* أن الباحث يرى أن أصول أدب التخاطب في السنة النبوية ترجع إلى ستة أمور:
الأول: بدء المخاطبة والكلام بالسلام.
الثاني: لين الكلام وطيبه وانتقاء الألفاظ والجمل الحسنة عند مخاطبة الناس.
الثالث: اجتناب الكلام الفاحش والألفاظ السيئة.
الرابع: استشعار مسؤولية الكلمة وخطورتها.
الخامس: مراعاة المخاطبين.
السادس: مراعاة أسلوب عرض الخطاب.
وتحت كل أصل أنواع وأقسام تقدم ذكرها.
* أن أدب الخطاب وفقهه يحتاج إلى أمرين رئيسين: العلم والعقل وبقدر النقص فيهما يكون النقص في أدب التخاطب، فحصول الأمرين هو الحكمة التي قال الله:(84/380)
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) .
* أن الغفلة عن أدب التخاطب تورث جفاء في الطبع، وسوءا في الخلق، ونقصا في المحبة والمودة وهذه من أكبر عوامل التفكك في المجتمع المسلم، وكثير من هذه المظاهر نراها في واقعنا المعاصر من قبل كثير من الناس بل ومن بعض الخاصة الذين ينتصبون للحوار والرد والمجادلات والله المستعان.
ومن أهم التوصيات في رأيي:
1- عمل دورات تدريبية في فن التخاطب وأدب الحوار في ضوء السنة النبوية يقوم بها متخصصون في السنة النبوية ولهم اطلاع على المناهج التربوية المعاصرة.
2- عمل موسوعة لأدب التخاطب في السنة النبوية ومحاولة ربطها بالواقع المعاصر.
3- الاهتمام بالخطاب الإعلامي وطريقته وأسلوبه مستفيدين من السنة النبوية، ومن المعلوم أن الإعلام بأنواعه من أكبر المؤثرين على الجمهور ومع ذلك نلمس تأخرا من قبل المتخصصين في استعمال أساليب عرض الخطاب وطريقته
__________
(1) سورة البقرة الآية 269(84/381)
يظهر ذلك من خلال البرامج التي يلقيها بعض المتخصصين.
4- إقامة برامج بعنوان " فن التخاطب في السنة النبوية " في وسائل الإعلام بأسلوب شائق وجذاب، مع ملاحظة تنوع شرائح المخاطبين.
5- عمل دراسات علمية أكاديمية لاستنباط أدب التخاطب في السنة النبوية وذلك من خلال استقراء كتب السنة والنظر في تراجم وتبويبات الأئمة ومن ثم الخروج بنتائج دقيقة ومؤصلة لهذا الأدب من خلال كتب الحديث النبوي، وقد لمس الباحث قلة العناية بهذا الموضوع من قبل الجامعات المعنية بدراسة السنة النبوية.(84/382)
حديث شريف
«عن قيس بن أبي حازم أن عمرو بن العاص قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - جهارا غير سر يقول: إن آل أبي - قال عمرو في كتاب محمد ابن جعفر بياض - ليسوا بأوليائي إنما وليي الله وصالح المؤمنين، زاد عنبسة بن عبد الواحد عن بيان عن قيس عن عمرو بن العاص قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن لهم رحم أبلها ببلالها، يعني أصلها بصلتها (1) » .
" رواه البخاري "
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5990) .(84/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2)
المائدة: 33 – 34
__________
(1) سورة المائدة الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 34(85/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
معالي الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
فضيلة الشيخ الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
فضيلة الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
معالي الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(85/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة علمية دورية محكمة تصدر عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(85/3)
المحتويات
الافتتاحية لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ....... 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ....... 27
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز....... 37
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ....... 45
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء....... 65(85/4)
البحوث
نواقض كلمة التوحيد لفضيلة الدكتور / عواد بن عبد الله المعتق....... 77
المسيح الدجال للدكتورة / أسماء بنت سليمان بن عبد الرحمن السويلم....... 173
أحكام زيارة القبور لفضيلة الدكتور / فهد بن عبد الله العمري....... 233
فصل الخطاب في حكم الحجاب لفضيلة الدكتور / خالد بن مفلح الحامد....... 297(85/5)
صفحة فارغة(85/6)
الموقف الشرعي من أعداء الأمن
لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. . . . أما بعد:
فإن من حكمة الله ابتلاء عباده بالضراء والسراء، فالله سبحانه وتعالى حين يبتلي عباده بالسراء؛ ليتبين شكر الشاكرين لنعمه، ويظهر من كان شاكرا لله، وحين يبتلي عباده بالضراء ليظهر صبر الصابرين الموقنين، قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (1) .
وإن نعم الله على العباد عظيمة، وآلاءه جسيمة، نعم لا يستطيع العباد عدها ولا إحصاءها، قال الله تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (2) ، وقال الله تعالى:
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 35
(2) سورة إبراهيم الآية 34(85/7)
{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (1) .
وإن من أجل النعم وأكبرها نعمة الإسلام، فمن هداه الله للإسلام، وشرح صدره للإسلام فقد أنعم الله عليه بالنعمة الكبرى، وهذا هو الفلاح الكبير، والفوز العظيم، والمنة العظمى، قال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (2) ، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (3) ، ومن أجل ذلك بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وهاديا إلى صراطه المستقيم، فكانت بعثته صلى الله عليه وسلم نعمة، أنعم الله بها على أهل الأرض قاطبة، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (4) ، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (5) ، فأخرج الله عباده ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم من ظلمات الجهل وظلم العباد إلى نور الإسلام
__________
(1) سورة النحل الآية 53
(2) سورة الحجرات الآية 17
(3) سورة الأنعام الآية 125
(4) سورة الأنبياء الآية 107
(5) سورة آل عمران الآية 164(85/8)
وعدله، فأمن الناس على أنفسهم، وأولادهم، وأعراضهم، وأموالهم، ولا ريب أن الأمن في الأوطان نعمة عظيمة من نعم الله سبحانه على عباده، ذكر الله بها العباد ليقابلوا تلك النعمة بشكر الله، والثناء عليه، قال تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (1) {إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} (2) {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} (3) {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (4) ، إذا فليقابلوا نعمة رغد العيش، ونعمة الأمن بعبادة الله، وإخلاص الدين له سبحانه.
ولذلك كانت نعمة الأمن نعمة من ضروريات الإنسانية، ومن مقاصد الشرائع السماوية، نعمة الأمن فيها يعبد العبد ربه، ويؤدي واجبه، فيها يتعلم المتعلم، ويدعو الداعي إلى الله تعالى، ويسعى الساعي في كل ما يحقق له سعادته في الدنيا والآخرة.
بالأمن تطمئن النفوس، وتنشرح الصدور، ويتفرغ العباد لمصالح دينهم ودنياهم، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} (5) ، وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (6) .
__________
(1) سورة قريش الآية 1
(2) سورة قريش الآية 2
(3) سورة قريش الآية 3
(4) سورة قريش الآية 4
(5) سورة العنكبوت الآية 67
(6) سورة القصص الآية 57(85/9)
نعمة الأمن عرف قدرها الكمل من البشر وهم أنبياء الله، يقول الله سبحانه عن صالح عليه السلام، وهو يذكر قومه هذه النعمة، ويحذرهم من الاستخفاف بها: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} (1) {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (2) {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} (3) {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} (4) {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (5) {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} (6) {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (7) .
وأبونا إبراهيم عليه السلام عندما فرغ من بناء البيت دعا لسكانه بتلك الدعوات، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} (8) الآية، فبدأ بنعمة الأمن؛ لأن بحصوله يتحقق الخير بتوفيق من الله سبحانه.
أيها المسلم. . . . بم يتحقق الأمن؟ إن الأمن في الأوطان يتحقق بعبادة الله وحده لا شريك له، والخضوع له، والقيام بشرعه، قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (9) .
__________
(1) سورة الشعراء الآية 146
(2) سورة الشعراء الآية 147
(3) سورة الشعراء الآية 148
(4) سورة الشعراء الآية 149
(5) سورة الشعراء الآية 150
(6) سورة الشعراء الآية 151
(7) سورة الشعراء الآية 152
(8) سورة البقرة الآية 126
(9) سورة النور الآية 55(85/10)
كيف نحافظ على هذا الأمن؟ نحافظ عليه أولا بشكر الله تعالى على هذه النعمة بقلوبنا، وبألسنتنا، وبجوارحنا، وأن نتصور عظم هذه النعمة، ونعلم عظمة من تفضل بها وجاد بها وهو ربنا جل وعلا، فنرفع الشكر والثناء لرب العالمين على هذه النعمة، نعتقدها في قلوبنا، وأنها من الله فضلا وإحسانا وجودا وكرما، فنقابلها بشكره، وشكره يزيد النعم، قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (1) .
وثانيا: نأخذ على يد كل من يريد زعزعة هذه النعمة وتكديرها، نأخذ على يده حتى لا يتمادى في شره وطغيانه، فإن ترك أولئك يعيثون في الأرض فسادا كفر بهذه النعمة التي أنعم الله بها على عباده، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2) .
أمة الإسلام. . . بلادكم بلد العقيدة الصافية ولله الفضل والمنة، بلد ظهرت فيها شعائر الإسلام، وحكمت فيها شعائر الإسلام، بلد
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 7
(2) سورة الأنفال الآية 53(85/11)
العلم والتعلم، بلد الخيرات، بلد آوى فئات من المسلمين، عاشوا في ظلها في أمن واستقرار وطمأنينة، بلد يفد إليها طلاب العلم من كل مكان للدراسة في جميع التخصصات، ويفد إليها الحجاج والمعتمرون فيجدون حرما آمنا، رغدا سخاء في كل نعمة، فضل من الله ورحمة، بلد هيأ الله له قيادة ترعى شأنه، نسأل الله لها المزيد من التوفيق والهداية، والسداد، والعون على كل خير.
فيا أهل الإسلام. . لتكن كلمة المسلمين واحدة، وعلى قلب واحد في الدفاع عن هذا الدين وعن تعاليمه السامية، والأخذ على يد المفسدين والعابثين والمغرر بهم، ومن ليس لهم حظ في العلم والتعلم.
يا أهل الإسلام. . . إن هناك شرذمة من الناس ضالة تريد زعزعة أمن هذه الأمة، ليس لها غرض صحيح، ولا هدف مقبول، تصرفاتها دالة على ضلال أولئك، وضعف الإيمان أو انعدامه من قلوبهم والعياذ بالله، هدفهم التفجير والتدمير، همهم القتل والإفساد، غايتهم الخروج على الأئمة وتكفير من خالفهم، وقتل الأمة والسعي في الأرض فسادا.
نعمة الأمن، ورغد العيش التي يتمتع بها عباد الله، ويدعو إلى شكرها العلماء المخلصون، ويضيق بها ذرعا أولئك الحاقدون الكارهون، هؤلاء تغيظهم تلك النعم، يريدون للأمة أن تعيش في(85/12)
فوضى وبلاء، ويأبى الله والمؤمنون ذلك، قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) ، قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (2) {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (3) .
أمة الإسلام. . . إن من يريد زعزعة أمن هذه البلاد إنه ضال مضل، منحرف شاذ عن طريق الله المستقيم، يريد بالأمة كيدا، ويريد بالأمة ضررا وفسادا، إذا فالواجب على الجميع تقوى الله، وتضافر الجهود في سبيل الحيلولة بين أولئك وما يريدونه بالأمة من بلاء وفساد.
إن الأمة بعد ما عرفت الأمر، وتدبرت حقيقة أولئك لم يبق شك، ولا ارتياب في أن أهداف هذه الفئة الضالة واضح للملأ، وأنه الإفساد والإضرار، والسعي في الأرض فسادا، وتحقيق مطالب أعداء الإسلام، وتسهيل المهمة لهم، هكذا يقصدون، قوم غرر بهم، وقوم تلاعب بهم الأعداء حتى جعلوهم وقودا لهذه الفتنة، وإن المسلم ينبغي أن يكون حذرا يقظا، لا يغتر بكل رأي، وبكل فكر يفد إليه من غير أن يمحصه، ويضعه في الميزان العادل، فيعرف حقائق الأمور.
كم من مدع يزعم الإصلاح والصلاح، وكم من مدع للخير،
__________
(1) سورة التوبة الآية 32
(2) سورة الصف الآية 8
(3) سورة الصف الآية 9(85/13)
والله يعلم ما وراء ذلك، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (1) الآية، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (2) {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (3) {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (4) .
هؤلاء المفسدون قوم ضل سعيهم، وزين لهم الشيطان الباطل فرأوه حقا، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (5) ، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (6) {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (7) .
إن هؤلاء المخربين عاثوا في الأرض فسادا، قتلوا الأبرياء بلا سبب، سفكوا دماء رجال الأمن بلا مبرر يدعو إليه، وإنما هو الحقد الدفين، ومحاولة إلحاق الأذى بالأمة، ولكن الله بالمرصاد لكل من يريد الشر والبلاء بالمسلمين، قال الله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (8)
__________
(1) سورة البقرة الآية 220
(2) سورة البقرة الآية 204
(3) سورة البقرة الآية 205
(4) سورة البقرة الآية 206
(5) سورة فاطر الآية 8
(6) سورة الكهف الآية 103
(7) سورة الكهف الآية 104
(8) سورة فاطر الآية 43(85/14)
الآية.
إن الأمة يجب أن تكون حذرة، وأن تأخذ عبرة من هنا وهناك، كم من أناس يعيشون في فوضى وبلاء، عجزوا أن يحققوا لمجتمعاتهم أمنا، تستقر به نفوسهم، ويهنؤون فيه بعيشهم، ويأمنون على أنفسهم، وأولادهم، وأعراضهم، وأموالهم، خيرات في الأرض، وخيرات متعددة، لكن والعياذ بالله ألبسوا شيعا، وصار بعضهم عدوا لبعض، يقتل بعضهم بعضا، قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (1) .
إن الفرد المسلم يدين الله بالمحبة لهذا الدين وأهله، وموالاة المسلمين، ودفع الأذى عنهم بكل ما يستطيع، ومن يرضى بالأذى للمسلم بغير حق فقد باء بالإثم العظيم، وخالف تعاليم الإسلام، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (2) .
إن سفك دماء النفوس المعصومة كبيرة من كبائر الذنوب،
__________
(1) سورة الأنعام الآية 65
(2) سورة الأحزاب الآية 58(85/15)
وعظيمة من العظائم، وجريمة من الجرائم، لا يستحل دم امرئ مسلم إلا من فارق الإيمان والعياذ بالله، فإن المؤمن حقا يعظم دماء الأمة ويحفظها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما (1) » فلا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يسفك دما حراما.
فليتق الله أولئك المفسدون، وليتوبوا إلى الله من جرمهم، وليندموا على ما مضى، وليعزموا ألا يعودوا إلى تلك الجرائم والخطيئات، وليعلموا أن الله مجاز كلا بما عمل، وأن أول ما يقضى به بين العباد من حقوقهم الدماء يوم القيامة، أول ما ينظر في قضاياهم يوم القيامة الدماء، فحافظوا - رحمكم الله - على أرواح أمتكم، وصونوا بلادكم، واحذروا من أولئك المفسدين، وإياكم أن تكونوا أعوانا لهم، أو متعاطفين معهم، أو مسوغين لهم فعلهم، أو متأولين لباطلهم، فإن أمرهم واضح جلي لا يرتاب فيه مسلم، وإن سعيهم إفساد وفساد، وانحراف عن الطريق المستقيم، وليس لهم أي مبرر ولا تأويل، ولكنه الخطأ الواضح، والجرم الكبير.
عباد الله. . . . إن تقوى الله سبحانه هي صمام الأمان، والحصن
__________
(1) أخرجه البخاري في الديات (6862) ، وأحمد في المكثرين (5423) عن ابن عمر رضي الله عنهما.(85/16)
الحصين من الوقوع في هذه الضلالات، والمخرج من هذه الفتن، والجالبة للأمن في الأوطان الذي يتحقق به السعادة، والطمأنينة، والراحة النفسية لجميع أفراد المجتمع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه وليلته فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها (1) »
إذا فالأمن نعمة من نعم الله تعالى على عباده، فمن أصبح معافى في بدنه، لا يشكو من أي شيء، عنده من العيش ما يكفيه ليومه وليلته، آمنا في بيته، آمنا على دينه، آمنا على أهله، آمنا على نفسه، آمنا على ماله، فكأنما أعطي الدنيا بأسرها؛ لأن الصحة في البدن، ورغد العيش مع توفر الأمن الذي يحفظ ذلك نعمة من أجل نعم الله على عباده، وسلبها والعياذ بالله عقوبة من الله على العباد، قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (300) ، والترمذي في الزهد: باب: التوكل على الله (2346) ، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141) ، والحميدي في مسنده (439) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه، قال الترمذي: '' حديث حسن غريب ''. وله شواهد من حديث أبي الدرداء، وابن عمر، وعلي رضي الله عنهم، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2318) .
(2) سورة النحل الآية 112(85/17)
أمة الإسلام. . نعمة الأمن مهمتها ليست موكولة فقط إلى الجندي المسلم، ولا إلى ضابط أو أمير أو وزير، أو مسؤول فحسب، ولكنها مسؤولية الأفراد كلهم على اختلاف مسؤولياتهم، فهي مسؤولية الجميع، ذلك أن الأمن ينتفع به الجميع، وإذا غير والعياذ بالله انضر به الجميع، فكما أنه أنا وأنت ننتفع بهذا الأمن، ونرعى هذا الأمن، وإذا سلب والعياذ بالله صار الضرر على الجميع، إذا فلما كان الانتفاع به عاما، والتضرر بضده عاما كان مسؤولية كل فرد مسلم أن يسعى في تحقيق هذا الأمن، وألا يتعاطف مع أي مجرم وأي مفسد، وأن يعلم أن أولئك لم يريدوا بأمتهم خيرا، وإنما هم دمى، يسخرهم أعداء الإسلام، ويسيرونهم كيف يشاءون، ويخططون وينفذون لهم أهدافهم، ويظهرون بمظهر المصلح الحريص على مصالح المسلمين، فإما أن يتستروا باسم الدين، أو باسم الغيرة، أو باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله يعلم ما وراء ذلك من الشر والفساد.
أيها المسلم. . . . طبقات المجتمع كلها واجب عليهم النهوض(85/18)
بمسؤولياتهم، والوقوف أمام هذه التحديات بقلوب ثابتة، وعزيمة صادقة، ونفوس مطمئنة، وصدق وأمانة في تحمل المسؤولية.
أيها المعلم الكريم. . . إنك تحملت أمانة كبيرة ومسؤولية عظيمة، فواجبك أن تتقي الله، وتبصر التلاميذ أمامك في جميع مراحل التعليم المختلفة، تبصرهم بحقيقة ما ينفعهم، وتجعل من درسك توعية لهم، تكشف عنهم اللبس، وتوضح لهم ما يدور حولهم، وتبين لهم أن هذه الفتن والمصائب ما أراد بها هؤلاء الأعداء إلا شرا للمسلمين حتى لا ينخدعوا بهم، ويقعوا في شراك حبائلهم.
فيا أيها المعلم. . . اتق الله، وليكن هدفك توعية شباب المسلمين، وتحذيرهم وإنقاذهم من الشر، وتربيتهم تربية إسلامية، وإذا سمعت عن شبهة لدى أحدهم. فأزل تلك الشبهة عنه، وبين له حقيقة الأمر، وأوضح له السبيل المستقيم.
أيتها المعلمة. . . . إن واجبك أمام الفتيات أن تعلميهن الخير، وتنشري بينهن الفضيلة والدعوة إلى الخير، والتحذير من أولئك وأمثالهم.
خطباء الجوامع. . . أئمة المساجد. . . واجبكم بين كل آن وحين أن تعرفوا العباد نعم الله، وتوصوهم باجتماع الكلمة وتآلف القلوب على الخير، وأن تحذروا المجتمع من دعاة الفرقة والاختلاف، من(85/19)
دعاة الفتنة والبلاء.
مسؤولي الإعلام من صحافة وتلفاز وإذاعة وغيرها. . . إن مسؤوليتكم عظيمة، وإنكم تحملتم أمانة كبيرة، فواجبكم أن تكون صحافتنا وإذاعتنا، وإعلامنا المرئي كلها تخدم مبدأنا وهدفنا الإسلامي، وأن ننشر فيها باعتدال كيف نعالج هذه الجريمة، وكيف السعي في تحجيم هذه الجريمة، واحتوائها، ونوضح للقارئ والسامع والرائي الخطوات التي ينبغي أن يتخذوها ويسيروا عليها في سبيل مكافحة هذه الجريمة.
عمداء الأحياء. . ورجال القبائل. . . . وكل فرد من هذا المجتمع المسلم. . . يجب أن يكون كل منا يقظا حذرا ناصحا لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، لا بد أن يكون لدى الجميع توعية صادقة ونصيحة خالصة، نحذر فيها الأمة من هذه البلايا، ومن هذه الأباطيل، فعسى الله أن يجعل في ذلك خيرا، فإن الأمة إذا تكاتفت وتعاونت على البر والتقوى نجحت بتوفيق الله، ألم تسمعوا قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (1) .
__________
(1) سورة المجادلة الآية 9(85/20)
أيها المسلمون. . . احذروا أن تكون مجتمعاتكم في أماكن استراحاتكم يسودها التناجي بالباطل والفساد، ليكن التناجي على الخير وما فيه خدمة الأمة، والسعي في تخليصها من هذه البلايا والفتن العظيمة، وليحذر الآباء والأمهات أن يؤتى شبابهم من حيث لا يعلمون، وليسألوهم عن أي مكان ذهبوا، وأين ذهبوا، ومن التقوا به، ليكون الجميع أعوانا على البر والتقوى، لنغلق على أولئك كل المنافذ، ونقطع عنهم خط الرجعة، حتى لا يكون لهم في بلادنا أرضية ينطلقون منها، بل نكون على حذر؛ لأن هذه نعمة الله التي نرعاها، ورعاها آباؤنا من قبل في أمان واستقرار، ولكن تلك الحوادث التي فاجأتنا لا علم لنا بها في السابق ولله الحمد، وليست من أرضنا ولا من طبيعة أمتنا، ولكنها من كيد الأعداء، فنسأل الله أن يرد كيدهم في نحورهم، ويردهم على أعقابهم خائبين خاسرين، وأن يكفي المسلمين شرورهم، وأن يبصر شبابنا بما ينفعهم، ويرزقهم الفهم الصحيح لدينهم، حتى يحذروا من تلك المكائد، ويستقيموا على الهدى، ويقوموا بما أوجب الله عليهم، ولا شك أن للذنوب والمعاصي آثارا في حصول ما حصل، قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) ، وقال
__________
(1) سورة الشورى الآية 30(85/21)
تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1) .
فالواجب على الجميع تقوى الله، وإصلاح الأخطاء والسعي فيما يجمع الكلمة، ويوحد الشمل، وإن الأمة لا نجاة لها ولا سعادة لها في الدنيا والآخرة إلا إذا لجأت لربها، وتمسكت بدينها وعقيدتها الصحيحة علما وعملا، وابتعدت عن كل ما يثير الفتنة ويسبب المشاكل، فإن التمسك بهذا الدين، والاعتصام بهذا الدين سبب الخير والصلاح واجتماع الكلمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله ... (2) » الحديث، فكتاب الله عصمة لنا من كل سوء، وعصمة لنا من كل بلاء، وفتنة، وعون لنا على أعدائنا، وسلاح ماض ضد أعدائنا.
إننا إذا تمسكنا بهذا الدين التمسك الصحيح علما وعملا، فإن الله يعلم منا ذلك، والله أكرم الأكرمين لا يغير نعمه على العباد حتى يكون العباد هم السبب في زوالها، قال الله تعالى:
__________
(1) سورة الروم الآية 41
(2) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218) ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.(85/22)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) ، فإذا غير العباد نعمة الله بكفرها والعياذ بالله، وغيروا دين الله بالتهاون والتساهل غير الله عليهم نعمته بسلبها منهم، وإذا التجأ العباد إلى الله، ووثقوا بالله وتوكلوا عليه، وحكموا شرع الله، وأقاموا دين الله، وتآمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر فإن الله جل وعلا سينصرهم ويؤيدهم، ويسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صمام أمان هذه الأمة، يحفظها من كيد الكائدين، ويأخذ على أيدي المفسدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متى ما قوي جانبه، وعظم شأنه، وتفاعل في المجتمع ففيه الحماية بتوفيق من الله؛ لأن دين الله هو السبب في أمن الأمة، وسلامتها، وثباتها، وحفظها من كل سوء ومكروه.
نسأل الله الاستقامة على الهدى، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، وأن يردنا إليه ردا جميلا، وأن يجعلنا وإياكم ممن عرف الحق واتبعه، وعرف الباطل فاجتنبه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، هذا والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 53(85/23)
صفحة فارغة(85/24)
الفتاوى(85/25)
صفحة فارغة(85/26)
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية (رحمه الله)
قوله: أو وحشية
هي الوضيحي، فإذا اجتمع عنده نصاب من الوضيحي مسام غير معلوف ومضى عليه حول فإنها تجب فيه الزكاة.
والرواية الأخرى وفاقا للثلاثة أنه لا زكاة فيها، وذلك أن اللفظ وإن كان عاما فإنه يحمل على المعروف في ذلك الوقت، وهذا هو الصحيح، مع أن الواقع أنه يكاد أن ينقضي عصور لا يوجد هذا.(85/27)
الرحل المغفلة أكثر من ستة أشهر والتي لا تستعمل إلا نحو اليوم واليومين
وأما الرحل المغفلة أكثر من ستة أشهر، وكذلك التي لا تستعمل إلا نحو اليوم واليومين من كل شهر من السنة، وما يقرب من ذلك فتجب فيها الزكاة. وأما التي ترحل نصف الحول أو أكثر في شديد مديد وغير ذلك فليس فيها زكاة.
(ديوان جلالة الملك - الشئون الداخلية)(85/27)
أخذ الذهب والفضة عن الجذعة
وأما الدليل على أخذ الذهب والفضة بدلا من الجذعة، والقيمة في الزكاة عن بهيمة الأنعام، فلا أعلم فيه دليلا صحيحا صريحا من السنة، ولهذا ذهب الجمهور إلى المنع من دفع القيمة وأنها لا تجزئ، وجوز ذلك أبو حنيفة رحمه الله، وإليه ميل البخاري في صحيحه، وشيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن يشترط كون ذلك أنفع، واستدل البخاري وغيره على ذلك بأدلة قوية وإن لم تكن نصا في المسألة.
(ص - ف - 509، وتاريخ 10 \ 7 \ 1376 هـ) .(85/28)
قوله: وإذا كان النصاب كله ذكورا
إذا كان كله ذكورا بحتا فيجزئ ذكر.
وإذا كان بعضه إناثا فيغلب الأصل، وهو أحوط وأتم.
لكن نعرف أن الإبل التي دون خمسة وعشرين إذا كانت كلها ذكورا فلا يجزيه أن يخرج ذكرا من الغنم؛ لأن الواجب جنس غير الإبل، ولأن الزكاة تجب في عين المال، ولها تعلق بالذمة.(85/28)
زكاة العدايل
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ب. س. ح سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:(85/28)
فقد وصلنا استفتاؤك، وفهمنا ما تضمنه من أن لديك عدولة على الطريقة المشهورة عند البادية تنتفع بلبنها وصوفها، وركوب الإبل فيها ونحو ذلك، وتذكر أنك لا تقدر على دفع زكاتها نظرا إلى حاجتك، وأن صاحبها يقول: أنا ما أدفع زكاتها؛ لأنك قد تصرفت بمنافعها، إلى آخر ما ذكرت.
والجواب: الحمد لله، زكاتها على مالكها، وليست منافع الماشية من لبن وصوف وركوب ونحو ذلك شيئا من الزكاة الواجبة فيها، بل زكاة الماشية ماشية، كما بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم. والسلام عليكم.
(ص - ف - 1689، وتاريخ 6 \ 9 \ 1382 هـ) .(85/29)
تفريق الماشية، أو خلطها خوفا من الزكاة لا يجوز، وتعزير من ثبت عنه
من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف إلى حضرة الإمام المفخم عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، أعلى الله في الدارين مقامة، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
حرس الله ذاتك، وصلني كتابك المكرم المتضمن السؤال عن(85/29)
الحلال (1) المجتمع عند البادية طول (2) فإذا جاء وقت العمال فرقوه لأجل ما يصير عليه زكاة، وأن هذا شيء ثابت عندكم، وعن قول أناس منهم، هذا وقف ولا عليه زكاة، وأن الوقف لا بد من أمر صحيح شرعي يثبت وقفيته والعمل به على الوجه الشرعي.
والجواب: أما تفريق الرجل ماشيته إذا بلغت نصابا، مثل ما إذا كان عنده أربعون من الغنم فقرب وصول العامل يقطع منها قطعة، ويجعلها في يد إنسان كأنها فرقة أخرى ليسلم من أخذ الزكاة، فهذا لا يجوز، ولا يسقط عنه فرض الزكاة، ومثله خلط المالين المفترقين، مثل أن يكون لزيد أربعون من الغنم، ولعمرو أربعون من الغنم فقرب قدوم العامل يجعلانها فرقة واحدة حذرا من إخراج الواجب وهو شاتان، ويريدان ألا يخرجا إلا شاة واحدة، فهذا كله من أعظم المحرمات، لا يسقط ما فرض الله من الزكاة، وفي الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة (3) » .
ومن ثبت عنه فعل شيء من هذه الأمور ثبوتا شرعيا وجب على الإمام تأديبه وتعزيره بعد أخذ الزكاة تامة بما يردع أمثاله، مثل كون
__________
(1) المراد بالحلال هنا: الماشية من إبل أو غنم.
(2) مدة الحول.
(3) صحيح البخاري الزكاة (1450، 1450) ، سنن النسائي الزكاة (2455، 2455) ، مسند أحمد (1/12، 1/12) .(85/30)
الزكاة تؤخذ منه مثنية، أو ما يراه الإمام مما يقارب ذلك.
حررت في 21 رجب 1364 هـ
(ديوان جلالة الملك - الشئون الداخلية) .(85/31)
وإذا كانت على مياه متباعدة
من محمد بن إبراهيم إلى الأخ المكرم م. غ. ل سلمه الله آمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
كتابكم المكرم وصل، وتسأل فيه: إذا كان للرجل الواحد إبل كثيرة، ولكنها متفرقة فهل تجمع عند الزكاة، أو تزكى كل قطعة منها على حدة؟
والجواب: إذا كانت على ماء واحد، أو مياه متقاربة دون مسافة القصر فإنها تجمع في الزكاة، وتعتبر إبلا واحدة، وإذا كان بين المياه التي هي عليها مسافة قصر فأكثر، فإن لكل إبل حكمها وحدها. والسلام.
(ص - م - 4 في 23 \ 6 \ 1371 هـ) .(85/31)
الخلطة ليست في النخل، وإذا كان له أملاك في أماكن متفرقة
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي نائب رئيس مجلس الوزراء حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:(85/31)
فبالإشارة إلى خطابكم رقم 1922، وتاريخ 27 \ 1 \ 1388 هـ، بخصوص ما رفعه إليكم ح. خ. من ذكره أن عمال خرص الثمار في خيبر يسلكون بعملهم مسلكا مخالفا لما عليه العمل في خرص الثمار في المملكة، ولما يقتضيه الوجه الشرعي، حيث إنهم يقومون بخرص النخلة والنخلتين، بلغت الثمرة فيها نصابا أم لم تبلغ، وقد أحلنا استدعاء لفضيلة قاضي خيبر للتحقيق فيما ذكره، فأجابنا فضيلته بجوابه المرفق رقم 112 في 27 \ 8 \ 87 هـ المتضمن أن ما ذكره ح. هو عين الحقيقة، والواقع من عمال خرص الثمار، فأحلنا المسألة إلى فضيلة رئيس محكمة حائل لسؤاله الجهة المختصة ببعث العمال لجباية الزكاة هناك عن سبب إفراد أهل خيبر بطريقة مخالفة لما عليه العمل في المملكة.
فأجابنا فضيلته بجوابه المشفوع به إجابة مدير مالية حائل بموجب خطابه المرفق رقم 318، وتاريخ 18 \ 2 \ 88 هـ، المتضمن: أن النخل مثلا يكون لعدة أشخاص، لهذا نخلة ولذاك نخلتان، وللثالث ثلاث أو أربع، وأن العمال يقومون بخرص النخل من غير نظر إلى تعدد أصحابه.
ونفيد سموكم أنه يتعين إفهام خراص الثمار أن الخلطة المصيرة المالين أو الأموال كالمال الواحد، هي خلطة الأعيان في المواشي، أما الخلطة في غيرها فلا أثر لها على قول الجمهور من أهل العلم، وعلى(85/32)
قول من يقول بتأثير الخلطة في غير المواشي كالحبوب والثمار، فالمقصود بها خلطة الأعيان، أما خلطة الأوصاف كهذه النخيل المتميز فيها تملك أصحابها، فلكل مال فيها حكمه المستقل به من أن الزكاة لا تجب فيه حتى يستكمل شروط وجوب الزكاة، ومنها بلوغه النصاب خمسة أوسق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة (1) » . أما إذا كان للمالك مجموعة أملاك في أماكن متفرقة، فإذا كانت من جنس واحد كالنخيل والحبوب بمختلف أنواعها، فتضم ثمارها بعضها إلى بعض في تكميل النصاب إذا كانت ثمرة عام واحد، إلا إذا كانت متباعدة بأن كان بين بعضها وبعضها الآخر مسافة قصر فأكثر، فما كان بهذا البعد فله حكمه المستقل. وبالله التوفيق. والسلام عليكم.
مفتي الديار السعودية
(ص - ف - 1283 في 7 \ 1388 هـ) .
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1484، 1484) ، صحيح مسلم الزكاة (979، 979) ، سنن الترمذي الزكاة (626، 626) ، سنن النسائي الزكاة (2487، 2487) ، سنن أبي داود الزكاة (1559، 1559) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1793، 1793) ، مسند أحمد (3/60، 3/60) ، موطأ مالك الزكاة (576، 576) ، سنن الدارمي الزكاة (1634، 1634) .(85/33)
النقود المعدة لإنشاء مشروع لا يؤثر فيها الخلطة
ورد إلى دار الإفتاء السؤال التالي: من الأخ س. ع. غ
س: هناك مجموعة كونوا جمعية أسموها: " الجمعية التعاونية "، وأسهم فيها كل واحد منهم بعشرة ريالات شهريا، وهذه المبالغ المجموعة ليست معدة للتجارة؛ بل هي مدخرة حتى يجتمع عند الجمعية ما(85/33)
يقوم بإنشاء مشروع يستفاد منه، فما حكم الزكاة في هذه المبالغ؟
وقد أجاب سماحة المفتي بالجواب التالي:
الحمد لله، الخلطة لا تؤثر على هذه الأقساط، ولا ارتباط لبعضها مع بعض لا في تمام الحول ولا في بلوغ النصاب، وحينئذ ننظر إلى المساهمين، فإن كان لأحدهم أموال زكوية غير هذه الأقساط، فزكاة الأقساط التي يدفعها للجمعية تابعة لزكاة أمواله في أحكامها، وإن لم يكن له أموال زكوية غير أقساطه في الجمعية فمتى بلغت أقساطه نصابا وهو ستة وخمسون ريالا سعوديا ابتدأ الحول، فإذا حال عليها الحول وجبت فيه الزكاة بنسبة 2.5 في المائة، وكلما دفع للجمعية قسطا بعد تمام النصاب عرف تاريخ دفعه، فإذا حال عليه الحول وجبت زكاته وحده، فيكون في العشرة ربع ريال، ولا يجوز تأخير الزكاة بعد تمام الحول، أما تقديمها فيجوز لحولين فأقل. وعلى هذا فلو أراد أحدهم أن يقدم زكاة بعض الأقساط لمناسبة رمضان أو غيره من المناسبات فله ذلك.
وكذلك لو اتفقوا على ضم بعض الأقساط إلى بعض، ودفع زكاتها جميعا على رأس الحول، أو في رمضان سواء منها المتقدم والمتأخر فهذا جائز، وفيه راحة لهم عن الاشتغال بتدقيق كل قسط، ومدته، ومقدار زكاته وحده. والله أعلم.
(من الفتاوى المذاعة) .(85/34)
باب زكاة الحبوب والثمار
سئل عن القهوة (1) هل فيها زكاة؟
فأجاب: فيها زكاة على الراجح، وليست كالأبازير؛ بل هي من الأدم، وهي مكيل كسائر المكيلات، وهي حب كسائر الحبوب.
__________
(1) البن المحض.(85/35)
وفي العنب زكاة، ويجب خرصه
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي رئيس مجلس الوزراء حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد رفع لنا س. ح. ج. من سكان السلمية أن في الخرج وغيرها مزارع للعنب كثيرة، تبلغ قيمة أثمارها آلاف الريالات، ويسأل عن زكاتها، ويطلب لفت نظر المسؤولين إلى إرسال من يأخذ زكاتها إن كانت الزكاة واجبة فيها.
ونفيد سموكم: أن الزكاة واجبة في ثمار الأعناب إذا بلغت نصابا؛ لأن ثمرتها إذا جففت صارت مما يكال ويدخر، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وكان صلى الله عليه وسلم يبعث الناس على من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم، فقد روى أبو داود والترمذي عن(85/35)
عتاب بن أسيد: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل (1) » ، وعنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم (2) » ، رواه الترمذي، وابن ماجه.
فينبغي منكم حفظكم الله ملاحظة هذا، وتعميد جهة الاختصاص إلى وجوب بعث عمال يخرصون الأعناب، كما يخرصون النخيل، والله يحفظكم.
(ص - ف - 881، تاريخ 30 \ 4 \ 1384 هـ) .
__________
(1) سنن الترمذي الزكاة (644، 644) ، سنن النسائي الزكاة (2618، 2618) ، سنن أبي داود الزكاة (1603، 1603) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1819، 1819) .
(2) سنن الترمذي الزكاة (644، 644) ، سنن النسائي الزكاة (2618، 2618) ، سنن أبي داود الزكاة (1603، 1603) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1819، 1819) .(85/36)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله)
مفتي عام المملكة العربية السعودية
حكم الزكاة في الأراضي الزراعية
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم / أ. س. أ. وفقه الله آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:
يا محب خطابكم الكريم المؤرخ (بدون) وصل وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الأسئلة الثلاثة فهمته، وإليكم الجواب عنها.
الجواب عن السؤال الثاني: إذا كانت الأراضي التي ذكرتها معدة للتجارة ففي قيمتها الزكاة كل حول، أما إن كانت معدة للزراعة فالزكاة في غلة ما زرع فيها من الزروع التي تجب فيها الزكاة كالحنطة(85/37)
والشعير والدخن والذرة ونحو ذلك، وفي غلة ما فيها من نخيل أو عنب إذا بلغت الغلة النصاب، أما إذا لم يحصل لها غلة تبلغ النصاب فليس فيها زكاة. وفق الله الجميع للفقه في دينه والسلام.
رئيس الجامعة الإسلامية(85/38)
الأراضي التي يمتلكها الناس
لا تخلو من حالين بالنسبة لوجوب الزكاة
س: منحت أرضا من الحكومة وأخذت الأرض في حوزتي حوالي أربع سنين لم أزكها، وبعد ذلك بعتها ولم أخرج الزكاة، هل علي شيء؟ (1)
ج: إذا منح الإنسان أرضا من الحكومة أو غير الحكومة وحازها، أو اشتراها من زيد أو عمرو وحازها، فهو بين أمرين: إن نواها للتجارة والبيع زكاها إذا دار الحول بعد النية لبيعها حسب قيمتها، تقوم من أهل الخبرة، يستعين بهم ثم يزكيها بإخراج ربع العشر، فالزكاة ربع العشر في الذهب والفضة وعروض التجارة، وفي الحبوب والثمار نصف العشر إذا كانت تسقى بمئونة كالمكائن
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة لسماحته بعد محاضرته عن (الزكاة ومكانتها في الإسلام) في الجامع الكبير بالرياض.(85/38)
ونحوها، وفيها العشر- سهم من عشرة- إذا كانت بغير مئونة، كالتي تسقى بالأنهار والعيون والأمطار، وفي الإبل والغنم والبقر زكاة معينة معروفة بينتها الأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذا كانت سائمة أو للتجارة، فالواجب على المسلم أن ينظر فيما لديه من الأراضي وغير الأراضي، إذا كان أراد بها البيع زكاها إذا دار حولها حسب قيمتها، تقوم ثم يزكي القيمة بإخراج ربع العشر من كل مائة ريالان ونصف، وفي الألف خمسة وعشرون، وهي ربع العشر في الذهب والفضة، وهذه الأوراق النقدية المعروفة المستعملة الآن، وعروض التجارة من أراضي وسيارات وغيرها مما يراد به البيع والشراء تقوم إذا حال عليها الحول، فإذا قومت أخرج زكاة القيمة حسب ما تبلغ الأرض أو السيارة أو غيرهما حين تمام الحول إذا كانت كلها للبيع لا للقنية أو الإيجار.
الحال الثاني: أن يكون ما أراد بها البيع، وإنما أراد بها أن يبني عليها مسكنا، أو يبني عليها بيوتا للإيجار، أو دكاكين وأجرها، فإنه لا زكاة فيها وإنما يزكي الأجرة إذا حال عليها الحول، كما يزكي النقود التي عنده الأخرى إذا حال عليها الحول.(85/39)
المساكن المعدة للسكنى لا زكاة فيها
س: هل في الأراضي والمساكن زكاة؟
ج: ليس في المساكن زكاة إذا كانت معدة للسكن، أما الأراضي والقصور المؤجرة فإن الزكاة في أجرتها إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول فإن أنفقها في حاجته قبل أن يحول عليها الحول أو قضى بها دينا أو أنفقها في سبل الخير قبل أن يحول عليها الحول فلا زكاة فيها، أما الأراضي، والبيوت، والدكاكين ونحوها المعدة للبيع فهذه فيها الزكاة حسب قيمتها كل سنة غلاء ورخصا عند تمام الحول إذا كان مالكها قد عزم عزما جازما على البيع، أما إن كان مترددا في ذلك فلا زكاة فيها. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.(85/40)
تجب الزكاة في غلة ما أعد للإيجار
من دور وعمائر ومحلات إذا حال عليها الحول
س: هل يجب على البيوت المعدة للإيجار زكاة ومتى تجب الزكاة؟(85/40)
ج: ليس في البيوت المعدة للإيجار زكاة؛ لأنه لم يرد في الشرع ما يدل على ذلك، أما إن كانت معدة للبيع ففيها الزكاة كالأرض المعدة للبيع وسائر عروض التجارة، والزكاة لا تجب في السنة إلا مرة، فكلما مضى على المال الزكوي من نقود وأرض وغيرها من عروض التجارة حول كامل وجبت الزكاة، وإن أنفق المال قبل تمام الحول فلا زكاة عليه، وهكذا أجرة البيوت المعدة للإيجار إذا حال عليها الحول قبل أن ينفقها وجبت فيها الزكاة إذا كانت نصابا فأكثر، والنصاب مائة وأربعون مثقالا من الفضة، وعشرون مثقالا من الذهب، ومقداره من العملة اليوم أحد عشر جنيها وثلاثة أسباع الجنيه من الذهب، أما من الفضة فمقداره ستة وخمسون ريالا أو ما يقوم مقامها من الورق، فإن كان المال أقل من ذلك فليس فيه شيء. والله الموفق.(85/41)
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أفتونا مأجورين في هذا السؤال: عمارة للاستثمار والإيجار، بعد مدة سبع سنوات بيعت، فكم تكون زكاتها وكيف؟ (1)
__________
(1) استفتاء شخصي مقدم من ت. ع. س. وقد أجاب عنه سماحته بتاريخ 27 \ 11 \ 1408 هـ.(85/41)
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
إذا كان الواقع كما ذكرتم فليس في ذاتها زكاة، وإنما الزكاة في الأجرة إذا حال عليها الحول، وهي ربع العشر، وذلك خمسة وعشرون في كل ألف، أما بعد بيعها فتجب الزكاة في الثمن إذا حال عليه الحول، وهي ربع العشر كما تقدم، وفق الله الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إيضاح: إذا كان الثمن مثلا عشرة ملايين فالزكاة مائتان وخمسون ألفا.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(85/42)
س: رجل عنده مساكن كثيرة وهو يؤجرها ويدخر منها مالا كثيرا في حول كامل، هل عليه زكاة هذا المال؟ ومتى تجب؟ وما مقدار دفعها؟(85/42)
ج: إذا حال الحول على أجرة السكن أو الدكان أو غيرهما من النقود وجبت فيها الزكاة إذا كانت نصابا، وما صرفه المؤجر في حاجاته قبل الحول فلا زكاة فيه، والواجب في ذلك ربع العشر بإجماع المسلمين، والنصاب من الذهب عشرون مثقالا، ومقداره بالجنيه السعودي والإفرنجي أحد عشر جنيها وثلاثة أسباع الجنيه، ونصاب الفضة مائة وأربعون مثقالا، ومقداره بالريال السعودي ستة وخمسون ريالا فضيا أو ما يعادلها من العمل الورقية.(85/43)
س: شخص لديه منزل في بلدة غير التي يسكنها ويؤجر منزله ذلك، وهو يستأجر في بلده التي يسكنها أقل من إيجار منزله الملك، فهل على منزله الملك زكاة؟ (1)
ج: ليس عليه زكاة لمنزله الملك إذا لم يكن أعده للبيع، لكن عليه أن يزكي الأجرة إذا حال عليها الحول قبل أن ينفقها.
__________
(1) نشر في كتاب (مجموع فتاوى سماحة الشيخ) إعداد وتقديم د. عبد الله الطيار والشيخ أحمد الباز، ج 5، ص 79.(85/43)
حكم الزكاة على السيارات المعدة للنقل
س: هل على السيارات التجارية التي تسافر وتجلب الحبوب(85/43)
وغيرها زكاة، وهكذا ما أشبهها من الجمال؟ (1)
ج: ليس على السيارات والجمال المعدة لنقل الحبوب والأمتعة وغيرها من بلاد إلى بلاد زكاة لكونها لم تعد للبيع وإنما أعدت للنقل والاستعمال، أما إن كانت السيارات معدة للبيع، وهكذا غيرها من الجمال، والحمير، والبغال، وسائر الحيوانات التي يجوز بيعها إذا كانت معدة للبيع فإنها تجب فيها الزكاة؛ لأنها صارت بذلك من عروض التجارة، فوجبت فيها الزكاة؛ لما روى أبو داود وغيره عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع (2) » وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم، وحكى الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله إجماع أهل العلم على ذلك. والله المستعان.
__________
(1) استفتاء شخصي قدم لسماحته بتاريخ 18 \ 2 \ 1391 هـ عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية.
(2) رواه أبو داود في ''الزكاة '' باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها زكاة برقم (1562) .(85/44)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: يقول السائل: توفي والدي، وترك بعض المال، وكان له زوجة وأبناء، منهم سبعة بالغون، وترك كذلك أبناء صغارا لم يبلغوا بعد، وعددهم سبعة، واتفق الأبناء الكبار على أن يبقى المال في مكان واحد، وأن يستثمر وينمى حتى يبلغ هؤلاء الصغار، هل هذا جائز أو لا بد من قسمة التركة؟ مع العلم أن الأبناء الذين لم يبلغوا يسكنون مع أمهم في مكان وحدهم.
ج: بعد موت المورث ينتقل المال إلى الوارث، ويكون جميع الورثة لهم نصيب في الإرث الصغار والكبار، كلهم مستحقون الإرث من أبيهم، ولكن إذا كان هؤلاء الصغار تولى شأنهم أحد السبعة، وكان وليا ووصيا عليهم ينظر لهم في المصالح، ورأى أن من مصلحتهم تنمية ذلك المال، واستمرار بقائه مع علمهم بنصيب كل واحد، لكنهم يستثمرونه لمصلحة الصغار فهذا أمر يرجع فيه للحاكم الشرعي، فإن النظر في أموال القاصرين من الصغار، والنظر في أموال غير العقلاء إلى الحاكم الشرعي فهو الذي يولي على المال من يرعى(85/45)
شأن المال، ويقوم بما يصلحه وينميه، وهو الذي يفوض للولي هذا التصرف من عدمه، فارجعوا إلى المحكمة الشرعية في مسألتكم هذه، فهي جهة الاختصاص في ذلك، وستجدون إن شاء الله لدى المحكمة ما فيه الخير لكم، والتوجيه بما تفعلونه نحو إخوتكم.(85/46)
س: المستمعة (أم علي) من جازان تقول: روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صلى أربعا قبل صلاة العصر بنى الله له بيتا في الجنة» متى تكون هذه الأربع؟
ج: المحفوظ: ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا (1) » ، أخرجه أبو داود، والترمذي، وحسنه، والإمام أحمد، وصححه ابن حبان، وحسن إسناده الألباني في هداية الرواة إلى تخريج أحاديث المصابيح والمشكاة (2 \ 25) ، وما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين. . . . (2) » الحديث. أخرجه النسائي، والترمذي، وحسنه، وتكون هذه الأربع بعد دخول وقت العصر، أي إذا أذن لصلاة العصر تصلى أربع ركعات بسلامين قبل أن تصلى صلاة العصر.
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (430، 430) ، سنن أبي داود الصلاة (1271، 1271) ، مسند أحمد (2/117، 2/117) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (429، 429) ، سنن النسائي الإمامة (874، 874) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1161، 1161) ، مسند أحمد (1/85، 1/85) .(85/46)
س: سائلة تسأل وتقول: إذا أذن لصلاة الفجر، وقد شرعت في صلاة الليل فهل لي أن أوتر؟(85/46)
ج: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه خارجة بن حذافة رضي الله عنه: «إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر (1) » ، أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والوتر ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر من أول الليل، ووسطه، وآخره، وانتهى وتره إلى الفجر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر (2) » ، أخرجه أبو داود، والترمذي، والدارقطني، والبيهقي، وقال الألباني في إرواء الغليل: صحيح، احتج به أحمد، فإذا طلع الفجر فقد انقضى وقت الوتر وقيام الليل، فعليك أن تؤدي فقط ركعتين قبل صلاة الفريضة، أي سنة الفجر، وأما الوتر فصلي شفعا بعد طلوع الشمس، وخروج وقت النهي لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نام عن وتره، أو نسيه فليصله إذا ذكره " رواه أبو داود، والحاكم، والبيهقي، وصححه، ويكون وقت قضاء الوتر وقت صلاة الضحى من بعد طلوع الشمس وارتفاعها بقدر رمح، ويقضيه شفعا؛ لما روته عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شغل عن صلاته بالليل بنوم، أو مرض صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة "، رواه الإمام مسلم في صحيحه.
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (452، 452) ، سنن أبي داود الصلاة (1418، 1418) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1168، 1168) ، سنن الدارمي الصلاة (1576، 1576) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1181، 1181) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (723، 723) ، سنن الترمذي الصلاة (419، 419) ، سنن النسائي المواقيت (583، 583) ، مسند أحمد (6/285، 6/285) ، موطأ مالك النداء للصلاة (285، 285) ، سنن الدارمي الصلاة (1444، 1444) .(85/47)
س: تقول السائلة: إذا كانت المرأة تصلي، ولم تدر هل قرأت سورة الفاتحة أم لا؟ فهل لها أن تقرأها أم تعيد الصلاة؟
ج: نقول إن شككت في قراءة الفاتحة فالعلماء يقولون: إن الشك في ترك الركن كتركه؛ إذ الفاتحة ركن من أركان الصلاة، فمن شك في تركها فكأنه تركها، لكن إن كان هذا الشك في ركعة معينة في أثناء الصلاة فإن كانت في الأولى فإن الأولى تبطل، وتقوم الثانية مقامها، وإن كان الشك في الثانية فتبطل وتقوم الثالثة مقامها وهكذا، وإن كان الشك في الأخيرة فإنك تعيدين الركعة، وإن كان الشك بعد الفراغ والانصراف من الصلاة فهذا الشك لا محل له؛ لأن الشك بعد الفراغ من العبادة لا يعتبر، ولكني أخشى عليك أن يكون معك وسواس، فالواجب عليك إذا أتيت الصلاة أن تقبلي عليها بقلبك، وأن تتدبري القراءة وأذكار الركوع والسجود ونحو ذلك، وتخشعي في صلاتك؛ فإن هذا من أسباب سلامتك من الوسواس والنسيان.(85/48)
س: تسأل السائلة، وتقول: إذا أتت المرأة العادة وقد دخل وقت صلاة الظهر، فهل إذا طهرت تصلي الظهر والعصر معا أم ماذا؟
ج: يقول الفقهاء رحمهم الله: إن المرأة إذا أتتها العادة بعد دخول وقت الظهر، ولم يمكنها أن تصلي الظهر فإنها تقضي تلك الصلاة(85/48)
وذلك إذا أدركت من وقتها قدر ركعة من الصلاة، ثم حاضت على الصحيح من أقوال العلماء، فإذا طهرت قضتها، وعلى ذلك تجب في ذمتها، وعلى ذلك تجب في ذمتها صلاة الظهر فتعيدها أي تقضيها بعد الطهر، ولكن لا تقضي معها غيرها؛ لأن الصلاة التي بعدها أدركت وقتها، وهي معذورة بالحيض فلا تجب عليها، لكن إذا طهرت قبل خروج وقت العصر فإنها تقضي العصر والظهر معا، أو طهرت قبل خروج وقت صلاة العشاء، فإنها تقضي المغرب والعشاء معا، قالوا: لأنها تصلى وما يجمع إليها معها، فطهرها قبل غروب الشمس يوجب عليها الظهر والعصر، وطهرها قبل طلوع الفجر يوجب عليها المغرب والعشاء، أما حيضها بعد دخول وقت الظهر فإنما يلزمها قضاء الظهر فقط.(85/49)
س: سائلة تسأل تقول: إذا أردت أن أحسن قراءتي للقرآن الكريم فهل علي أن أتابع شيخا واحدا أم أي شيخ من القراء؟
ج: كون الإنسان يحاول تحسين صوته في القراءة، وتحسين نطقه بها، ويسمع إلى أحد القراء - هذا طيب - فإن اكتفى بواحد فالحمد لله، وإن أحب أن يستمع إلى أكثر من واحد؛ لكي يكون هذا الاستماع يعود عليه بفائدة، أما أن يضطرب أمره فيوما يسمع لهذا، ويوما يسمع لهذا، ثم يفوت الأمر من غير أن يلتزم بطريقة معينة، أو(85/49)
يتقن مهارة طيبة، فهذا قد يكون فيه تفريط، لكن الأولى أن تقصري نفسك على قارئ معين ترتاحين معه، وتعلمين أنك تستفيدين منه، ويكون معروفا بجودة القراءة، وضبط التجويد، وحسن الصوت، حتى تكوني على طريقة واضحة، ويكون لذلك تأثير طيب على تحسن قراءتك وحبك للقرآن.(85/50)
س: المستمعة (ل. ب) تسأل وتقول: إذا انكشف شيء من شعر المرأة أو ذراعيها في أثناء الصلاة فتداركته وغطته فهل صلاتها صحيحة؟ وإذا لم تعلم إلا بعد انتهاء الصلاة فهل عليها إعادة الصلاة؟
ج: إذا انكشف شيء من بدنها أو شعرها ونحو ذلك، وهي تصلي، ثم أعادت الستر على حاله بعد علمها فإنه لا حرج عليها وصلاتها صحيحة، وإن استمرت من غير علمها، وقد انكشف شيء من شعرها، ولا تعلم بذلك حتى أدت الصلاة، فأرجو إن شاء الله أن لا شيء عليها.(85/50)
س: يسأل السائل ويقول: إذا نويت يوم الاثنين مثلا أن أصوم يومي الخميس والجمعة القادمين قضاء، فهل علي في ليلة كل يوم أن أنوي مرة أخرى، وإذا نسيت فهل يعتبر صومي مجزئا؟
ج: يقول الفقهاء - رحمهم الله - يجب تبييت النية لصوم كل(85/50)
يوم واجب، فكل صوم واجب صومه كرمضان، أو قضاء رمضان، أو النذر يجب أن تبيت النية من الليل، فتنوي في الليل أنك صائم، وإذا نويت يوم الاثنين أنك تصوم الخميس والجمعة قضاء، ولم يأت ما يرفع موجب تلك النية، وأنت مستمر عليها لم تقطع تلك النية، فأرجو أن لا حرج في ذلك، صحيح أنه يجب تبييت النية من كل ليلة لصوم كل يوم واجب، لكن النية محلها القلب، فإذا نوى الإنسان قبل الليلة والنية لا تزال موجودة، ولم يرفعها بقطعها، بل هو مستمر على ذلك، فأرجو أن لا حرج؛ لأنه في قرارة نفسه أنه سيصوم غدا، ولم يطرأ ما يرفع ذلك، ولأن نيته السابقة المتصلة بالليل تجعله كأنه نواه بالليل ولا مانع من ذلك.(85/51)
س: سائلة تسأل وتقول: إذا قرأت آية سجدة، ولم أكن على وضوء، ولم أكن ساترة لشعري، وساقي فهل أسجد على ما أنا عليه؟ وهل سجود التلاوة يشترط له الطهارة أم لا؟
ج: يحرم على المسلم أن يمس المصحف، وهو على غير طهارة، لكن لو قرأ القرآن عن ظهر غيب، وكان على غير طهارة، ومر بآية سجدة فهل يسجد أم لا؟ فمن العلماء من جوز له السجود حيث لم يجعل سجود التلاوة بمنزلة الصلاة فلم يشترط له الطهارة، ومن(85/51)
العلماء من يشترط الطهارة لسجود التلاوة، وقال: إن سجود التلاوة صلاة، فتشترط له الطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة، وعلى كل حال إذا سجد من يقرأ القرآن غيبا على غير طهارة فإني أرجو أن لا حرج عليه؛ لأن هذه السجدة لا تسمى صلاة، إنما تسمى سجود التلاوة، ولكن كلما كان على طهارة فذاك أفضل وأكمل وأحوط، والمرأة أيضا تسجد، لكن إذا كانت كاشفة عن شعرها، وعن ساقيها فهي منهية أن تصلي، وإذا قلنا: إن سجود التلاوة ليس بصلاة فجائز لها سجود التلاوة على حالها، وإن قيل: إنها صلاة فلا يجوز لها ذلك، وعلى كل حال كلما كانت في قراءتها متسترة كان ذلك أفضل بحقها تأدبا مع القرآن.(85/52)
س: هذا مستمع يسأل ويقول: أوصى رجل ببناء مسجد من ماله، فهل يعد ذلك من الصدقة الجارية له بعد موته؟
ج: إذا أوصى المسلم ببناء مسجد من ماله فالمسجد من الصدقة الجارية، الدائم نفعها، فمسجد يؤذن فيه في اليوم والليلة خمس مرات، ويصلي فيه المسلمون لا يمكن لأحد أن يتعرض له بأي شيء لحرمته، فهذه نعمة من الله للعبد، وفضل من الله على المسلم فهو من الصدقات الجارية، وأنصح إخواني القادرين ألا(85/52)
يحرموا أنفسهم من هذا الثواب العظيم، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى لله مسجدا بنى الله له مثله في الجنة (1) » ، متفق عليه، وأخرجه الإمام أحمد، والطبراني.
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (450، 450) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (533، 533) ، سنن الترمذي الصلاة (318، 318) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (736، 736) ، مسند أحمد (1/61، 1/61) ، سنن الدارمي الصلاة (1392، 1392) .(85/53)
س: هل يجوز للمرأة أن تقص شعر رأسها، بحيث يكون مشابها لشعر رأس الرجل؟
ج: كون المرأة المسلمة تقص شعر رأسها، حتى يكون مشابها لشعر رأس الرجل هذا أمر محرم، لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال (1) » ، رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، كما أن في قصه تغييرا لخلق الله، والمرأة جمالها في شعرها.
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5885، 5885) ، سنن الترمذي الأدب (2784، 2784) ، سنن أبي داود اللباس (4097، 4097) ، سنن ابن ماجه النكاح (1904، 1904) ، مسند أحمد (1/339، 1/339) ، سنن الدارمي الاستئذان (2649، 2649) .(85/53)
س: المستمع ض. ع. من الطائف يسأل ويقول: ما حكم ترديد السورة الواحدة في الصلاة؟
ج: إذا كرر المسلم السورة غير الفاتحة في الصلاة بأن قرأ الفاتحة، وقرأ سورة الإخلاص في الركعة الأولى، ثم أعادها في الركعة الثانية فلا مانع من ذلك، وأما ترديد السورة في الركعة الواحدة فلا أصل لذلك فهو بدعة يجب تركه.(85/53)
س: سائل يسأل ويقول: بعض الناس يسب الرياح فما توجيهكم؟
ج: هذه المسألة حكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به (1) » . رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2252، 2252) ، مسند أحمد (5/123، 5/123) .(85/54)
س: المستمعة (أم صالح) تقول: عندي مشكلة، أرجو من فضيلتكم الجواب عليها مع الشكر، فزوجي يطلب مني التجمل بفل الشعر كله، أو وضعه إلى جهة، مع لبس الثوب الجميل، وأنواع التجمل، ويقول: إذا لم تعملي ما أطلب منك سأهجرك، وكان يضربني، ولم أوافق على طلبه؛ لأن شعري قصير، وعندي بعض الأبناء المتزوجين، وأكون في حرج إذا عملت ما يطلبه عند الأبناء وزوجاتهم، هل علي إثم إذا رفضت طلبه؟
ج: ينبغي للزوجين أن يتعاملا فيما بينهما بالمعروف، وينبغي للمرأة السمع والطاعة لزوجها بالمعروف، وأن تحاول أن تتجمل له إذا كان في ذلك مصلحة للزوج، وراحة له، وينبغي للزوج أيضا أن يقتنع منها بما هو معقول وممكن، ولا يحملها على أمر قد يضر(85/54)
بدينها، وقد يؤثر على نفسيتها، فلا ينبغي أن يأمر زوجته بما ذكر أمام أبنائها المتزوجين وزوجاتهم، وقد يكون في ذلك إحراج لها، لا سيما وهي في هذه الحالة، لكن لو طلب منها هذا الشيء فيما بينه وبينها، وفي خلوته بها فهذا أمر لا بأس به، وهو أهون وأيسر على زوجته، بالإمكان أن تفعل ذلك من غير حرج ولا مشقة عليها، ومن غير جرح لكرامتها، أما أن يكون الطلب بهذا الشكل، ثم ضربها وهي ذات أبناء متزوجين أمام زوجات الأبناء، وأمام أبنائها، ومعاتبتها بالضرب، وتغليظ القول لها، هذا خلق سيء، لا يصدر من إنسان متزن في عقله ثابت في إيمانه، فالذي أنصح به هذا الزوج أن يترك هذه العادة السيئة، ولا يحمل المرأة على هذه الأعمال، يكفيه أن تتجمل له أمامه في خلوته بها، ولا يحرجها في هذه المواقف، ويطلب منها أمرا تنفر منه، وليس الأمر بلائق ولا مستحسن في هذه الحالة.(85/55)
س: تقول السائلة أيضا: في يوم من الأيام ذهب زوجي إلى عمله قبل الظهر كعادته، وبعد خروجه بساعتين، جاء أخي، وطلب منا الذهاب معه إلى منزله؛ لأن عندهم مناسبة، وخرجنا معه بدون أن أخبر زوجي، ثم جاء زوجي إلى المنزل قبلنا ولم يجدنا، فلما دخلنا المنزل، وقدمنا اعتذارنا له لم يقبل ذلك، وأخذ يسبني وأخي، فهل علي إثم في ذلك؛ لأني خرجت بدون إذنه؟(85/55)
ج: خروجك أيتها المرأة بدون علم زوجك، هذا أمر خطأ منك، لا سيما إذا كنت تعلمين أن الزوج لا يرضى بهذا، فهذا التصرف منك خطأ، وأنت تتحملين تبعة ذلك، فالواجب عليك تقوى الله وطاعة الزوج، كيف تخرجين والزوج يأتي يريد عشاءه مثلا، أو غداءه، ويجد البيت خاليا منك، لا علم له مسبق بهذا، هذا تصرف خاطئ، وعمل سيء، توبي إلى الله واستغفريه، واطلبي من زوجك أن يبيحك، ويسامحك عما حصل منك من خطأ، وينبغي للزوج إذا وقع الأمر من جنس هذه الأمور أن يؤدب المرأة بالنصيحة، والموعظة الحسنة، والكلام الطيب، لكن لا ينبغي له أن يذكرها دائما بأخطائها أو يسبها، فالأمر وقع، وعليه أن يتداركه في المستقبل، وعلى المرأة تقوى الله، والحذر من المخالفة والعصيان، وأن تتأدب مع زوجها، فلا تخرج من بيته إلا بعد إعلامه وإذنه.(85/56)
س: المستمع (ع. م. ع) من بريدة يقول في السؤال الأول: بعض المصلين في الحرم، لا يؤدون صلاة الجنازة رغم حضورهم الصلاة فهل يأثمون بتركهم الصلاة على الأموات؟
ج: الصلاة على الجنازة فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين، لكن لا ينبغي للمسلم أن يهمل هذه السنة، وأن لا(85/56)
يفرط في هذا الأجر العظيم، ويدل لذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين (1) » متفق عليه، فلا ينبغي للمسلم أن يفوت هذا الثواب العظيم مع تمكنه من ذلك.
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1325، 1325) ، صحيح مسلم الجنائز (945، 945) ، سنن الترمذي الجنائز (1040، 1040) ، سنن النسائي الجنائز (1995، 1995) ، سنن أبي داود الجنائز (3168، 3168) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1539، 1539) ، مسند أحمد (2/401، 2/401) .(85/57)
س: يقول السائل: كذلك بعض المصلين يكتفون بما يدركونه من تكبيرات صلاة الجنازة، ولا يقضون ما فاتهم من التكبيرات بعد سلام الإمام من صلاة الجنازة؟
ج: السنة أن يكملوا بقية التكبيرات، ويقضوا ما فاتهم من التكبيرات بعد سلام الإمام حتى ينالهم ثواب من صلى على الجنازة.(85/57)
س: سائل يسأل ويقول: إذا أقيمت الصلاة، ودخل الطائف بالبيت، أو الساعي بين الصفا والمروة مع الجماعة في الصلاة فهل الشوط، أو السبع يعاد من أوله أم من حيث توقف الشخص عند دخوله في الصلاة؟
ج: إذا أقيمت الصلاة وأنت تطوف، ودخلت في الصلاة، وبعد الانتهاء من الصلاة فإنك تكمل الشوط أو السبع من حين وقفت، ويعتبر ما مضى مجزئا لك.(85/57)
س: سائل يسأل ويقول: هل أرواح الأموات تلتقي مع أرواح الأحياء في المنام حسب ما هو شائع الآن بين بعض الناس؟
ج: أرواح الأموات بعد مفارقة الأجساد في مستقرها: إما في النعيم المقيم، أو في العذاب الأليم عافانا الله وإياكم، وأما هل تلتقي الأرواح بأرواح الأحياء، فهذه أمور لم يأت فيها من الشرع نص صريح صحيح في هذا الموضوع فيما أعلم، وما يروى من آثار في هذا الباب فإنه لا يقطع فيها بأمر؛ إذ لم يصح شيء منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(85/58)
س: يقول السائل: أنا شخص محب لفعل الخيرات حتى إذا أزلت حجرا من الطريق نويت أن أجره لي، ولوالدي ووالديهم وذريتهم، ومع ذلك لم أر أحدا من والدي، أو أقاربي الأموات في المنام، فهل هناك أعمال يعملها الحي، وتكون سببا في رؤيتهم: أو مانعا لذلك؟
ج: يا أخي، إذا أزلت الحجر عن الطريق، أو عملت أي عمل صالح، ونويت أن يكون ثوابه لك ولوالديك ولأقربائك، فأرجو من الله أن يصل إليهم ذلك الثواب، أما أن تتمنى رؤيتهم في المنام بذلك العمل، فليس في هذا مصلحة، وليس لذلك أصل، وقد يكون في(85/58)
الرؤية لك قلق وضجر، وسبب لنكد حياتك، فلا تطلب أمرا أخفي عنك علمه، إنما عليك أن تدعو لهم، وتترحم عليهم، وتحسن إليهم بالاستغفار لهم والصدقة عنهم، وأما أن تراهم في منامك فلا يترتب على تلك الرؤيا أي مصلحة، قد يكون في الرؤيا سبب لغرورك، أو سبب لفسادك، فلا تتمنى إطلاعك على أمر قد أخفي عنك.(85/59)
س: هل صدقة الحي على الميت تصله في قبره، ويعلم بأنها من فلان، أم أنه لا يعلم إلا عند الحساب؟
ج: الميت قد مات وقدم إلى ما قدم، وصدقتك عنه يصل ثوابها إليه إن شاء الله تعالى، ولا يلزم من وصول الثواب أن يعلم أن هذه الصدقة من فلان، المهم انتفاع الميت بذلك الثواب هذا هو الغاية من الصدقة.(85/59)
س: المستمعة (ر. م. ن) من منطقة حائل تقول: ماذا أفعل في الصلوات التي تركتها في الشهور الماضية؛ جهلا مني في الحكم، هل علي قضاؤها؟ أم ماذا أفعل؟
ج: استقبلي بقية عمرك بتوبة نصوح، وعمل صالح، وندم على ما مضى، واستغفار لله عما حصل منك، والعزم على عدم العود لذلك، مع الإكثار من نوافل الصلوات والعبادات، لعل الله أن يقبل توبتك، ويعفو عنك، والله جل وعلا سيعذرك إن شاء الله، فاستقيمي(85/59)
على الطاعة والهدى، واحمدي الله على أن أنار بصيرتك، وعرفك الحق من الباطل، وأرجو من الله أن يغفر لك ما مضى من ذلك الخطأ، والله تعالى يقول: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 70(85/60)
س: سائلة تسأل وتقول: ما حكم قص شعر الأطفال، بحيث يكون من الأمام أكثر من الخلف، وكذلك العكس؟
ج: في قص شعر الأطفال من الذكور أو الإناث ينبغي لنا ألا نعمل بأبنائنا، أو بناتنا الأمور التي نشابه بها أعداءنا، فلا نعود أطفالنا لبس الحرير، أو نحليهم بالذهب والفضة، ولا نقص شعورهم على مثل ما عليه الأعداء، وإنما نعمل معهم العمل الإسلامي الصحيح، ونجعلهم يتخلقون بأخلاق الإسلام، وننشئهم على التربية الإسلامية الصالحة المستمدة من كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، حتى يعتادوا ذلك في الكبر، وينبغي أن يكون الوالدان قدوة صالحة لأولادهم، فإن الابن الصغير يقتدي بوالديه، ويتخلق بأخلاقهم، كما ينبغي أن ننشئ أبناءنا وبناتنا التنشئة الصالحة، قال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا ... على ما كان عوده أبوه
وهذه القصة للشعر المذكورة داخله في القزع الذي نهى عنه(85/60)
النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع، وقال: احلقه كله، أو دعه كله (1) » . أخرجه الإمام مسلم، وأبو داود، والإمام أحمد.
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5921، 5921) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2120، 2120) ، سنن النسائي الزينة (5050، 5050) ، سنن أبي داود الترجل (4194، 4194) ، سنن ابن ماجه اللباس (3637، 3637، 3638، 3638) ، مسند أحمد (2/154، 2/154) .(85/61)
س: سائلة تسأل وتقول: ما حكم منع الحمل لأكثر من سنتين إذا كان برضا الزوج مع أنني أتمتع بصحة جيدة، ولله الحمد؟
ج: ينبغي للمسلمين ألا يحاولوا منع الحمل؛ فإن في تكثير أولاد المسلمين خيرا للإسلام والمسلمين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة (1) » ، رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم، فكون المسلمة صحيحة معافاة، وتتعاطى مانع الحمل، هذه العقاقير تعاطيها وتناولها بلا سبب يقتضي ذلك فيه ضرر عليها، وعواقبها ونتائجها سيئة، فمقابلة الفطرة التي وهبها الله لعباده بهذه العقاقير أمر غير لائق، إلا إذا دعت إليها الحاجة، فما دامت المرأة في صحة وسلامة، وعافية، فلا ينبغي لها تعاطي تلك العقاقير، ولا ينبغي لزوجها أن يأمرها بذلك ح لأن فيها ضررا عليها في المستقبل.
__________
(1) سنن النسائي النكاح (3227، 3227) ، سنن أبي داود النكاح (2050، 2050) .(85/61)
س: هل هناك حث على كثرة النسل يا فضيلة الشيخ؟
ج: النبي صلى الله عليه وسلم حث على أن تتوفر في الزوجة الخصال والمقاصد العظيمة، التي شرع من أجلها الزواج، ومنها تكثير النسل، وتكثير هذه(85/61)
الأمة، ويدل لذلك ما رواه معقل بن يسار رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال: لا، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم (1) » ، أخرجه أبو داود، والنسائي، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
__________
(1) سنن النسائي النكاح (3227، 3227) ، سنن أبي داود النكاح (2050، 2050) .(85/62)
س: تسأل السائلة وتقول: هل أحمر الشفاه يمنع الوضوء مع العلم أنه يشكل طبقة زيتية على الشفاه، وعندما أتوضأ ألاحظ أن الماء ينزلق عن شفتي أفتونا مأجورين؟
ج: إذا كانت هذه الأصباغ التي توضع على الشفتين وغيرها لها جرم يمكن أن يمنع وصول الماء إلى البشرة فينبغي إزالته.(85/62)
س: المستمعة (م. ح) من محافظة الدرعة بسوريا تسأل وتقول: هل على المرأة أذان أو إقامة؟
ج: ليس على المرأة أذان ولا إقامة؛ لأن الأذان إعلام بدخول وقت الصلاة وهو خاص بالرجال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس على النساء أذان ولا إقامة» أخرجه البيهقي في سننه، وذلك لأن الأذان يشرع له رفع الصوت، وذلك غير مشروع في حق النساء، والإقامة إعلام بإقامتها، وكل هذا من خواص الرجال، ولأن من لا يشرع له الأذان لا(85/62)
تشرع له الإقامة.(85/63)
س: أنا أدعو لزوجي المتوفى بالرحمة والمغفرة، وأتصدق عنه فهل هذا جائز يا فضيلة الشيخ؟
ج: جزاك الله خيرا باستغفارك لزوجك، وترحمك عليه، وصدقتك عنه، فإن هذا من الوفاء لزوجك، وأرجو لك من الله المثوبة.(85/63)
س: المستمعة (أم محمد) من القصيم من بريدة تسأل وتقول: ما صفة سجود الشكر؟ هل يكون على الطهارة، أو يكون تسليمة واحدة، أو يكون تسليمتين، أو يكون سجدة أو سجدتين؟
ج: سجود الشكر عبادة لله، وشكر لله على فضله، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بلغه أمر يسره خر لله ساجدا، فلا يشترط فيه طهارة؛ لأنه عبادة خاصة فليس بمنزلة الصلاة، وليس له تسليمة مجرد سجود لله على ما أسداه من النعم، ويكون سجدة واحدة.(85/63)
س: تقول السائلة: إذا نسيت سجود السهو في الفريضة، ثم بدأت بالنافلة، وسلمت، وتذكرت سجود السهو في الفريضة هل أسجد للفريضة أم لا؟
ج: إذا فات سجود السهو، ونسيته بعد قضاء الفريضة حتى دخلت في النافلة فهذا السجود قد فات محله، فلا شيء عليك.(85/63)
صفحة فارغة(85/64)
من فتاوى
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
المساجد التي تبنيها دولة كافرة لشعبها
من الفتوى رقم (1679)
س: من المعروف أننا تحت رعاية المسيحية، وتقوم الحكومة حاليا بإنشاء بعض المساجد في أماكن المسلمين في الفلبين، فهل يجوز لنا الاعتراف بهذه المساجد دون أن نبني بأيدينا مع قدرتنا على بنائها، وإن كانت سقوفها من أوراق الأشجار، علما بأن حكومة ماركوس في الوقت الحاضر تحرص على إرضاء المسلمين على توصياتها وتوجيهاتها حتى ينتهي المسلمون عن مخالفة الحكومة، ويلاحظ أن هذه المساعدات لا يعرف مصدرها، هل هي من الحكومة حقيقة أو من إخواننا المسلمين خارج الفلبين، نأمل أن تتفضلوا بالإجابة؟
ج: من المعلوم أن الحقوق على اختلاف أنواعها مالية وبدنية ومعنوية متبادلة بين الحكومات وشعوبها ومن تحت رعايتها، فإذا كان الواقع كما ذكرتم من أن الحكومة التي أنتم تحت رعايتها مسيحية، وأنها قامت بإنشاء مساجد في الأحياء الإسلامية في الفلبين فإنما تقوم(85/65)
بما عليها من الحقوق الواجبة لرعاياها عليها، وتحقق لهم الرغبات وتيسر لهم المرافق العامة - دينية ودنيوية -مقابل ما يؤدونه لها من حقوق وما تكسبه من ورائهم من أنواع المصالح والمنافع، وعلى هذا فلا غضاضة عليكم أن تقبلوا ما أنشأته لكم من المساجد؛ قياما بما عليها من واجب نحوكم، دون أن يكون لها في ذلك منة عليكم أو يد تطلب جزاءها أو التعويض عنها، بل ينبغي لكم أن تقبلوا تلك المساجد وتطالبوا بأمثالها وبإنشاء مدارس إسلامية، دون أن يثنيكم عن عزمكم في استيفاء حقوقكم - دينية ودنيوية - ما تقدمت به إليكم من مصالح مادية أو معنوية.
وعليكم معشر المسلمين أن تتعاونوا فيما بينكم في إنشاء مرافق أخرى من مساجد ومدارس إسلامية وغير ذلك مما تحتاجون إليه، مع العناية بأن تكون الولاية والإشراف على المساجد والمدارس ونحوها التي تبنيها لكم الحكومة - للمسلمين لا لغيرهم، حتى لا يحدثوا فيها ما يخالف الشرع؛ عملا بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) ، وأما الأموال التي بذلت من الحكومة فلا يشترط أن تعلموا مصدرها؛ لعدم الدليل على ما يقتضي ذلك.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(85/66)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(85/67)
استخدام الكفار لبناء المساجد
من الفتوى رقم (5361)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال المقدم من مدير مشروع الطيران المدني إلى سماحة الرئيس العام برقم 55 في 7 \ 1 \ 1403هـ، هذا نصه:
نود أن نوجه عناية فضيلتكم إلى أننا إحدى الشركات الوطنية الكبيرة المتخصصة في مجال الصيانة والتشغيل، وتتركز أعمالنا في صيانة معظم مطارات المملكة، حيث إننا نرتبط بعقد مع رئاسة الطيران المدني للقيام بهذه المهمة. وكما تعلمون فإنه توجد بمعظم هذه المطارات مساجد وأماكن مخصصة لأداء الصلوات، وينبغي علينا صيانتها ونظافتها والقيام بالإصلاحات الأخرى اللازمة لها، سواء تلك المتعلقة بالكهرباء أو التكييف أو غيرها من الأعمال.(85/67)
ونعتمد في أداء كثير من هذه الأعمال على عمال غير مسلمين، وكثيرا ما تحدث بعض الأعطال داخل هذه المساجد وتحتاج إلى إصلاح سريع. إننا نعلم أنه يحرم على غير المسلم دخول المسجد الحرام؛ وذلك كما ورد في سورة التوبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) .
إننا نحاول جاهدين توفير طاقم كامل من الموظفين المسلمين للقيام بالأعمال المطلوبة بالمساجد غير أن هذا لا يتحقق لنا باستمرار، فهل يمكن السماح لغير المسلمين بالدخول لإجراء الإصلاحات اللازمة بالمساجد طالما أنهم سوف يدخلون لذلك الغرض فقط؟ إننا في انتظار تلقي فتواكم في هذه الناحية حتى نكون على هدى من أمرنا، ولا نقصر في أداء التزاماتنا التعاقدية.
ج: وبعد دراسة اللجنة للسؤال أجابت بما يلي:
المساجد بيوت الله أنشئت لذكره تعالى وعبادته وإقامة شعائره وإعلاء كلمته، والكفار أعداء لله وأعداء دينه وشريعته والمسلمين، فلا يجوز أن يستخدم أعداء الله في وضع تصميم هندسي يقام على رسمه
__________
(1) سورة التوبة الآية 28(85/68)
بناؤها، ولا أن يتولوا بناءها أو تركيب كهربائها أو أبوابها أو أدواتها الصحية أو إصلاح ما فسد فيها ونحو ذلك.
وقد صدر قرار من مجلس هيئة كبار العلماء في الموضوع، هذا نصه:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد:
ففي الدورة السادسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف ابتداء من الثاني عشر من شهر شوال حسب تقويم أم القرى عام 1400هـ، حتى الحادي والعشرين منه - نظر المجلس في حكم دخول الكفار مساجد المسلمين والاستعانة بهم في عمارتها.. بناء على البرقية الخطية الواردة إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من سعادة وكيل وزارة الأشغال العامة والإسكان لشئون الأشغال العامة بالنيابة برقم 5334 \ 2 وتاريخ 29 \ 6 \ 1400هـ.
ونصها ما يلي:
(نفيدكم أن أحد المقاولين قد تقدم إلينا لاعتماد المهندس المنفذ من قبله لأحد المساجد، ونظرا لأن المهندس المذكور مسيحي الديانة، فإننا نأمل موافاتنا إن كان هناك ما يمنع من الناحية الشرعية أن يقوم غير المسلمين بالاشتراك في تنفيذ مشروع المساجد(85/69)
والإشراف عليها) ا. هـ.
ولما اطلع المجلس على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع، واستمع إلى كلام أهل العلم فيه رأى بالإجماع أنه لا ينبغي أن يتولى الكفار تعمير المساجد؛ حيث يوجد من يقوم بذلك من المسلمين، وأن لا يستقدموا لهذا الغرض أو غيره تنفيذا لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا يجتمع في الجزيرة العربية دينان، وعملا بما يحفظ لهذه البلاد دينها وأمنها واستقرارها وإبعادا لها عن الخطر الذي أصاب البلدان المجاورة بسبب إقامة الكفار فيها وتوليهم لكثير من أمورها، ولأن الكفار لا يؤمنون من الغش عند تصميم مخططات المساجد أو تنفيذها، فقد يصممونها على هيئة قريبة أو مشابهة لهيئة الكنائس كما حدث من بعضهم، وقد يغشون كذلك في التنفيذ والبناء؛ لأنهم أعداء لهذا الدين ولمن يدين به من المسلمين.
ويوصي المجلس بأن ينبه على الجهات الحكومية في وزارة الأشغال ووزارة الحج والأوقاف وغيرها ممن يتولى عمارة المساجد والإشراف عليها أن تلاحظ ذلك بدقة وعناية، وأن تشترط في كل العقود التي تبرمها لإقامة المساجد مع المقاولين أن لا يستعينوا في التصميم أو التنفيذ بأحد من غير المسلمين.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(85/70)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(85/71)
شراء الكنيسة لتكون مسجدا
من الفتوى رقم (2393)
س: توجد جماعة من المسلمين في مدينة عانتا في ولاية جورجيا في الولايات الأمريكية، وترغب في إقامة مسجد لأداء الصلوات الخمس والجمعة، وكانت هناك كنيسة معروضة للبيع، فهل يجوز لهم شراء هذه الكنيسة وتحويلها إلى مسجد بعد إزالة الأصلبة الموجودة، وكذلك الصور المعلقة والمنقوشة؟
الجواب: نعم يجوز شراؤها وجعلها مسجدا وتجب إزالة الصلبان والصور المعلقة والمنقوشة فيها، وكل ما يشعر بأنها كنيسة، ولا نعلم مانعا يمنع من ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(85/71)
الصلاة في الكنائس
من الفتوى رقم (9118)
س: لا يجد المسلمون في العديد من ولايات أمريكا أماكن مناسبة لأداء صلاة الجمعة ما عدا بعض الكنائس المؤجرة رخيصا أو مجانا، أثار بعض الطلاب النقاش حول صحة أداء الصلاة في الكنائس معتمدين على ما روي عن ابن عمر حول منع الصلاة في الكنائس ومعابد اليهود والمقابر وأماكن الذبح لغير الله، نسبة لهذا الرأي فقد امتنع بعض المسلمين عن الحضور لصلاة الجمعة، فضلا نرجو إفادتنا بالحكم الصحيح في هذه الحالة حتى نستطيع تجاوز الخلافات بين المسلمين في هذا المجتمع، وجزاكم الله خيرا.
ج: إذا تيسر وجود غير الكنائس ليصلى فيها لم تجز الصلاة في الكنائس ونحوها؛ لأنها معبد للكافرين يعبدون فيه غير الله، ولما فيها من التماثيل والصور، وإلا جاز للضرورة، قال عمر رضي الله عنه: (إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها والصور) ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يصلي في البيعة إلا بيعة فيها التماثيل والصور.(85/72)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(85/73)
من الفتوى رقم (10827)
س: نحن عمال في بلاد فرنسا وطلبنا من المسئولين محلا نصلي فيه الصلوات الخمس والجمع، وما وجدنا إلا غرفة واسعة تحت كنيسة النصارى وتحيرنا في أمرها. فهل تجوز الصلاة فيها والجمعة وقراءة القرآن؟ أفتونا وجزاكم الله خيرا.
ج: لا مانع من ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره (1) » ووجود الكنيسة في الطابق الذي فوق الغرفة لا يمنع من ذلك، لكن إن كان بقربكم مسجد تستطيعون الصلاة فيه جمعة وجماعة وجب عليكم الصلاة فيه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر (2) » وإن وجدتم مكانا أحسن من هذه الغرفة ليس فوقه كنيسة فاحرصوا إلى الانتقال إليه، يسر الله أمركم
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (317) ، سنن أبو داود الصلاة (492) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (745) .
(2) سنن أبو داود الصلاة (551) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (793) .(85/73)
وزادنا وإياكم من العلم والإيمان.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(85/74)
الصلاة عند أهل الكتاب
من الفتوى رقم (3262)
س: أحيانا يحين وقت الصلاة وأنا في بيت أحد النصارى فآخذ سجادتي الخاصة وأصلي أمامهم، فهل صلاتي صحيحة؛ لكونها في بيت من بيوتهم؟
ج: نعم تصح صلاتك، زادك الله حرصا على طاعته، وخاصة أداء الصلوات الخمس في أوقاتها. والواجب أن تحرص على أدائها في جماعة، وتعمر بها المساجد ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(85/74)
البحوث(85/75)
نواقض كلمة التوحيد
لفضيلة الدكتور / عواد بن عبد الله المعتق
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. . . وبعد:
فنظرا لأني تناولت في بحث سابق شروط لا إله إلا الله؛ لذا رأيت من باب إتمام الفائدة تناول شيء من نواقضها في هذا البحث، إضافة إلى ذلك أهمية بيانها في حياة المسلم؛ إذ إن ذلك من أسباب وقايتها.
خطة البحث ستكون إن شاء الله كما يلي:
المقدمة: في بيان أهمية البحث والدافع لاختياره وخطته.
التمهيد: في تعريف النواقض وأنواعها، وما يترتب عليها.
المبحث الأول: " الشرك الأكبر "، تعريفه - حكمه وأنواعه.
الأول: الشرك في الربوبية.
الثاني: الشرك في الألوهية.
الثالث: الشرك في الأسماء والصفات.
المبحث الثاني: الكفر الأكبر، تعريفه - حكمه وأنواعه.
المبحث الثالث: النفاق الأكبر.(85/77)
تعريفه.
أنواعه.
حكمه.
الأدلة.
الخاتمة: في ذكر بعض النتائج التي توصلت إليها.
وأخيرا أسأله تعالى أن يتقبل صوابه، ويتجاوز عن خطئه، إنه سميع مجيب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(85/78)
تمهيد: في تعريف النواقض، وأنواعها، وما يترتب عليها.
أ) تعريفها: لغة: جمع ناقض، اسم فاعل من نقض ينقض نقضا. والنقض: هو إفساد ما أبرم من حبل، أو بناء، أو عهد، أو غيره.
يقال: نقض البناء إذا هدمه، ونقض اليمين أو العهد إذا نكثه، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (1) الآية.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} (2) الآية.
وانتقض الشيء: فسد بعد إحكامه. يقال: انتقض الوضوء: بطل.
__________
(1) سورة النحل الآية 91
(2) سورة البقرة الآية 27(85/78)
وانتقض الجرح بعد برئه، والأمر بعد التئامه فسد وعلى هذا فالنواقض لغة: كل ما يفسد الشيء ويبطله.
والمراد بالنواقض هنا: هي: اعتقادات، أو أقوال، أو أعمال تناقض حقيقة التوحيد، وتوجب الخروج من الملة (1)
ب) أنواعها: كثيرة (2) تجتمع في أمر واحد، وهو ما يخرج من الملة، وبما أنه لا يخرج من الملة إلا الشرك الأكبر، أو الكفر الأكبر، أو النفاق الأكبر، لذا فهي لا تخرج عن هذه الثلاثة.
ولذا رتبت ما تيسر منها في ثلاثة مباحث، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
ج) ما يترتب عليها: إن وقع المسلم في شيء منها قصدا من
__________
(1) انظر: مجموع فتاوى ومقالات لابن باز ج 8 ص 13.
(2) انظر: الدرر السنية ج 2 ص 176، ج 8 ص 86.(85/79)
غير جهل أو إكراه أو تأويل يعذر فيه صاحبه انتقضت لديه(85/80)
شهادة التوحيد، وأصبح مرتدا.
وإن كانت موجودة مع العبد ابتداء، ثم أظهر الإسلام - وهي معه - لم ينتفع من نطقه بالشهادتين إذ لا يتحقق الاعتقاد الصحيح، والعمل الصالح ما دام معه شيء منها.(85/81)
المبحث الأول: الشرك الأكبر:
تعريفه:
في اللغة: لمادة الشرك أصلان مرجعهما إلى الخلط والضم، أحدهما الشرك، أو الشركة بإسكان الراء وهو الأغلب في الاستعمال، يكون مصدرا واسما، ويطلق على معان منها:
1 - المخالطة: قال الراغب: " الشرك والشركة والمشاركة: خلط الملكين، وقيل: هو أن يوجد شيء لاثنين فصاعدا عينا كان(85/81)
ذلك الشيء أو معنى " (1) . وعبارة الراغب الثانية أعم (2)
2- ويطلق على النصيب، كما في الحديث: «من أعتق شركا له في عبد (3) » . . . الحديث " أي: نصيبا (4)
3- ويطلق أيضا على التسوية، قال ابن منظور: " طريق مشترك يستوي فيه الناس، واسم مشترك يشترك فيه معان كثيرة " (5)
كما يطلق على الكفر، قال الجوهري: " والشرك الكفر ".
وأما الأصل الثاني فهو الشرك، ويطلق على معان، منها:
1- الشراك: وهو سير النعل يقال: أشركت نعلي، وشركتها تشريكا إذا جعلت لها الشراك.
2- الشرك: بفتحتين وهي حبالة الصائد.
3- الشركة: وهي معظم الطريق ووسطه، والجمع: شرك بفتحتين (6)
__________
(1) المفردات للراغب ص 380.
(2) انظر: المصباح المنير ص 118. ورسالة الشرك ومظاهره، ص 61.
(3) رواه البخاري في العتق، باب 4، برقم 2522، ومسلم في كتاب العتق. انظر: صحيح مسلم '' بشرح النووي '' ج 10 ص 135.
(4) انظر: لسان العرب ج 2 ص 306، والمصباح المنير ص 118.
(5) لسان العرب ج 2 ص 306. .
(6) انظر: لسان العرب ج 2 ص 306 - 307، والمصباح المنير ص 118، ومعجم مقاييس اللغة ج 3 ص 265.(85/82)
الشرك في الشرع:
عرف بتعاريف كثيرة، اخترت منها هذا التعريف، وهو: كل ما ناقض التوحيد، أو قدح فيه مما ورد في الكتاب أو السنة تسميته شركا (1) وهو قسمان: أكبر وأصغر. الشرك الأكبر - وهو المراد هنا - هو أن يجعل لله ند في ربوبيته، أو ألوهيته، أو أسمائه وصفاته (2)
__________
(1) عقيدة المؤمن ص 105.
(2) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة، ج 1 ص 516 - 517، ومعارج القبول ج 2 ص 483.(85/83)
حكمه:
مخرج من الملة، محبط لجميع الأعمال، لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وصاحبه إن مات ولم يتب مخلد في النار، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) . وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (3) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 65
(2) سورة النساء الآية 48
(3) سورة الأنفال الآية 38(85/83)
وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} (1) .
تحرم مناكحة مرتكبه؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (2) . كما تحرم ذبيحته؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (3) .
ويستثنى أهل الكتاب؛ فحرائر نسائهم العفيفات غير المحاربات، وذبائحهم حلال؛ لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (4) ، (5)
كما أن هذا المشرك لا يرث ولا يورث، بل ماله لبيت المال، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين؛ ذلك أنه قد ارتكب
__________
(1) سورة المائدة الآية 72
(2) سورة البقرة الآية 221
(3) سورة الأنعام الآية 121
(4) سورة المائدة الآية 5
(5) انظر: المغني ج 9 ص 545، وفتح القدير ج 2 ص 15. وأحكام القرآن لابن العربي ج 2 ص 554 - 555.(85/84)
أعظم جريمة، وأفظع ظلم قال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (1) . وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2) ،
وبذلك يكون الشرك الأكبر من نواقض قول: لا إله إلا الله.
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة لقمان الآية 13(85/85)
أنواعه: الأول: الشرك في الربوبية:
وهو: اعتقاد شريك لله في الفعل (1) ومن ذلك ما يلي:
1- شرك من جعل مع الله ربا آخر. كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة، وشرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور، وحوادث الشر إلى الظلمة، وشرك كثير ممن يشرك بالكواكب، ويجعلها أربابا مدبرة كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم.
__________
(1) تفسير القرطبي ج 5 ص 181.(85/85)
2- شرك من قال: إن موجودا ما غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاده، وإن لم يعتقد كونه إلها، كالقدرية القائلين: بأن الإنسان هو الذي يخلق أفعاله بنفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته وإرادته
3- شرك غلاة الصوفية القائلين: بأن في الكون أقطابا وأبدالا من الأولياء والصالحين، لهم قدر من التصرف معين في حياة الناس، فهم يعطون ويمنعون ويضرون وينفعون. ومن هنا تعلقت قلوب كثير من الناس بالصالحين، واستغيث بهم، ودعوا عند الشدائد (1)
4- شرك من جعل لله ندا في التشريع، بأن يتخذ مشرعا له سوى الله أو شريكا لله في التشريع، يرتضي حكمه، ويدين به في التحليل والتحريم
__________
(1) عقيدة المؤمن ص 95، وانظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية ج 1 ص 92.(85/86)
قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (1) . يقول ابن سعدي - في تفسير هذه الآية -: " أي له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات. . والأمر المتضمن للشرائع والنبوات، فالخلق يتضمن أحكامه الكونية القدرية، والأمر يتضمن أحكامه الدينية الشرعية. . . " (2) .
وقال محمد رشيد رضا - وهو يتكلم عن أنواع الشرك -: ". . . وثانيهما: يتعلق بالربوبية: وهو إسناد الخلق والتدبير إلى غيره، معه أو أن تؤخذ أحكام الدين في عبادة الله تعالى، والتحليل والتحريم عن غيره، أي غير كتابه ووحيه الذي بلغه عنه رسله. . . . . " (3) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54
(2) تفسير ابن سعدي ج 3 ص 19 - 20.
(3) تفسير المنار ج 2 ص 55.(85/87)
الثاني: الشرك في الأسماء والصفات:
وهو: أن يجعل لله ند في أسمائه وصفاته (1) ومن ذلك ما يلي:
1- التشبه بالله، أو تشبيه المخلوق به في الاسم الذي لا ينبغي إلا لله وحده (2)
ومن ذلك اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الإله الحق
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة ج 1 ص 516.
(2) الجواب الكافي ص 136، 138.(85/87)
كاللات من الله، والعزى من العزيز (1) قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} (2) . قال قتادة: " يلحدون: يشركون في أسمائه " (3) ، ومثله قال الطبري (4)
2- التشبه بالله، أو تشبيه المخلوق به في صفة من صفاته تعالى، كقول من قال: أنا أعلم الغيب، أو شيئا منه كعلم الله، أو فلان يعلم الغيب، أو شيئا منه كعلم الله. ومن ذلك:
أ- اعتقاد بعض المبتدعة أن بعض الأموات، أو الغائبين من الأولياء يسمعون من دعاهم على البعد والقرب في أي وقت كان، وفي أي مكان.
ب- دعوى علم الغيب، أو اعتقاد أن أحدا غير الله يعلمه، كاعتقاد أن الأنبياء أو الأولياء يعلمون الغيب، وكدعوى علم الغيب من الكاهن، أو المنجم، أو الساحر، أو اعتقاد ذلك فيهم
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير ج 2 ص 469، وتفسير الطبري ج 9 ص 91.
(2) سورة الأعراف الآية 180
(3) تفسير ابن كثير ج 2 ص 269.
(4) تفسير الطبري ج 9 ص 91، وانظر تيسير العزيز الحميد ص 28.(85/88)
الثالث: الشرك في الألوهية:
هو: أن يجعل لله شريك في العبادة، أو في نوع منها بالاعتقاد، أو القول أو العمل (1) ومن ذلك ما يلي:
1) شرك الدعاء:
يقول ابن تيمية: " لفظ الدعاء أو الدعوة في القرآن يتناول معنيين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة " (2) . ويقول ابن رجب: " فتارة يكون الدعاء بالسؤال من الله عز وجل، والابتهال إليه، كقول الداعي: اللهم اغفر لي. . . . وتارة يكون بالإتيان بالأسباب التي تقتضي حصول المطالب، وهو الاشتغال بطاعة الله وذكره، وما يجب من عبده أن يفعله. . . " (3) . من كلام ابن تيمية، وابن رجب اتضح أن الدعاء قسمان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة. وعليه فالشرك في الدعاء يكون في دعاء العبادة، ويكون في دعاء المسألة.
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى ج 1 ص 74، 91، والإرشاد لابن سعدي ص 205.
(2) مجموع الفتاوى ج 10 ص 237 - 238.
(3) فتح الباري لابن رجب ج 1 ص 20.(85/89)
أ) الشرك في دعاء العبادة:
المراد بدعاء العبادة: هو عبادة الله بأنواع العبادات، كالصلاة، والصيام، والذبح، والنذر وغيرها مما شرعه الله لعباده، وأمرهم به لنيل الثواب والسلامة من العقاب.
وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال وطلب. وسمي دعاء؛ لأنه سائل لما يطلبه بامتثال الأمر. فهو سؤال بلسان الحال والمراد بالشرك في دعاء العبادة: هو صرف شيء من العبادات لغير الله، كالسجود لغير الله، والتقرب بالذبائح والنذور لغيره سبحانه، وكذا من خاف أحدا كما يخاف الله، أو رجاه كما يرجو الله، ونحو ذلك
قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (1) .
يقول القرطبي: " الآية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى. . . . " (2) .
وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) تفسير القرطبي ج 5 ص 180.
(3) سورة غافر الآية 14(85/90)
يقول ابن تيمية: " وقوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (1) هو دعاء العبادة، والمعنى: اعبدوه وحده، وأخلصوا عبادته لا تعبدوا معه غيره " (2) .
ب) الشرك في دعاء المسألة:
دعاء المسألة: هو طلب جلب منفعة، أو دفع مضرة بصيغة السؤال والطلب (3) والمراد هنا: هو ما يصدر من العبد من توجه بالقلب واللسان طالبا خيرا، أو دفع ضر لا يقدر عليه إلا الله (4) والواجب أن يكون لله وحده لا شريك له، إذ هو المالك للنفع والضر (5)
قال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} (6) .
وبما أنه ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن دعاء الله عبادة له، فيكون صرفه لغير الله شركا فإذا توجه الداعي إلى غير الله فإما أن
__________
(1) سورة غافر الآية 14
(2) مجموع الفتاوى لابن تيمية ج 15 ص 13.
(3) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية ج 10 ص 240.
(4) انظر: تيسير العزيز الحميد ص 180، ورسالة الشرك ومظاهره ص 186، وتصحيح الدعاء ص 237.
(5) انظر: بدائع الفوائد ج 3 ص 2، ورسالة التوحيد للدهلوي ص 55، وتفسير ابن سعدي ج 3 ص 186.
(6) سورة يونس الآية 106(85/91)
يكون حيا أو ميتا، إن كان ميتا: فهو شرك على إطلاقه، كمن يتوجه إلى صاحب قبر، وإن كان حيا وليس في مقدور العبد فهو شرك
قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (1) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (2) .
وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (3)
يقول ابن جرير ". . . . فإن فعلت ذلك فدعوتها من دون الله {فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (4) . يقول من المشركين بالله الظالم لنفسه " (5) .
__________
(1) سورة فاطر الآية 13
(2) سورة فاطر الآية 14
(3) سورة يونس الآية 106
(4) سورة يونس الآية 106
(5) تفسير ابن جرير ج 11 ص 122، وانظر تفسير ابن سعدي ج 4 ص 186، وروح المعاني ج 11 ص 199.(85/92)
والاستعاذة والاستغاثة من نوع الدعاء، كما قال شيخ الإسلام (1)
وعليه فمن استعاذ أو استغاث بميت أو غائب أو بحي فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد أشرك وكذلك من اتخذ وسائط (2) بينه وبين الله يدعوهم مع الله، أو من دون الله لجلب نفع أو دفع ضر. مثل ما يمارس الآن حول الأضرحة المبنية على القبور، فإن هذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين
قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (3) .
2) شرك الطاعة:
وهو طاعة غير الله في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله
__________
(1) مجموع الفتاوى ج 15 ص 227.
(2) من الملائكة، أو الأنبياء، أو الأولياء أو غيرهم.
(3) سورة يونس الآية 18(85/93)
عن رضى واطمئنان قلب، مع العلم بأن ذلك الغير مخالف لما شرعه الله. فيعتقد تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله اتباعا له (1)
قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) الآية.
يقول الطبري (3) في تفسير هذه الآية: " عن عدي بن حاتم قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . وانتهيت إليه وهو يقرأ: قال: قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم، فقال: " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم (5) »
وقال ابن تيمية بعد أن ذكر هذه الآية: " وكان من إشراكهم بهم:
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى ج 7 ص 70، وأضواء البيان ج 4 ص 83 - 84، ومجموعة التوحيد ص 8.
(2) سورة التوبة الآية 31
(3) جامع البيان ج 10 ص 80 - 81.
(4) رواه الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة براءة، وأورده القرطبي في تفسيره ج 8 ص 120، والسيوطي في الدر المنثور ج 3 ص 230، وقال: أخرجه ابن سعد، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه. . . عن عدي بن حاتم، ثم ذكر الحديث. وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، باب: فساد التقليد ج 2 ص 109 وابن الأثير في جامع الأصول برقم 651.
(5) سورة التوبة الآية 31 (4) {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}(85/94)
أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم " (1)
وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (2) .
يقول ابن كثير: " وقوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (3) أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك. . . " (4) .
وقال الشنقيطي - بعد أن ذكر الآية -: " فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم " (5)
3) شرك المحبة:
وهو محبة المخلوق لغير الله كما يحب الله، وذلك بأن يحب غير الله محبة العبودية المقرونة بالرجاء والخوف، والمستلزمة لكمال الذل والطاعة للمحبوب. كمحبة المشركين لآلهتهم. وهو الشرك الذي قال الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (6) (7)
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم ج 2 ص 376، وانظر: أضواء البيان ج 4 ص 83.
(2) سورة الأنعام الآية 121
(3) سورة الأنعام الآية 121
(4) تفسير ابن كثير ج 2 ص 171.
(5) أضواء البيان ج 4 ص 83.
(6) سورة البقرة الآية 165
(7) انظر: مجموع الفتاوى ج 1 ص 91 - 92. والجواب الكافي ص 132. والإرشاد للفوزان ص 60 - 61.(85/95)
يقول ابن القيم: " أخبر تعالى أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا. . . " (1) ، وعليه فمن أحب مخلوقا كما يحب الخالق فهو مشرك به (2)
__________
(1) التفسير القيم ص 140.
(2) انظر: مجموع الفتاوى ج 10 ص 265، 267.(85/96)
المبحث الثاني: الكفر الأكبر:
تعريفه:
أصل الكفر في اللغة: الستر والتغطية. يقال: لمن غطى درعه بثوب قد كفر درعه. ويقال للفلاح كافر؛ لأنه يكفر البذر: أي يستره. قال تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} (1) . وسمي نقيض الإيمان كفرا؛ لأنه تغطية الحق.
كما يأتي ويراد به الجحود، يقال: كفر نعمة الله، وبها كفورا وكفرانا: جحدها، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (2) . وكفر
__________
(1) سورة الحديد الآية 20
(2) سورة البقرة الآية 152(85/96)
الحق جحده، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} (1) .
ويأتي ويراد به البراءة، كقوله تعالى حكاية عن الشيطان في خطبته إذا دخل النار: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ} (2) أي: تبرأت
الكفر في الاصطلاح: هو كل ما يناقض الإيمان، أو ينقص كماله الواجب، مما ورد في الكتاب أو السنة تسميته كفرا وهو نوعان: أكبر وأصغر.
الكفر الأكبر - هو المراد هنا - هو: كل ما ينافي الشهادتين
__________
(1) سورة البقرة الآية 89
(2) سورة إبراهيم الآية 22(85/97)
أو إحداهما من اعتقاد، أو قول، أو عمل، ويوجب لصاحبه الخروج من الملة، والخلود في النار.(85/98)
حكمه: مخرج من الملة، من مات عليه خلد في النار قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (1) (2)
لذا كان الكفر الأكبر من نواقض قول لا إله إلا الله.
__________
(1) سورة البينة الآية 6
(2) وانظر: تفسير ابن كثير ج 4 ص 538.(85/98)
أنواعه: ومنها ما يلي:
الأول: كفر التكذيب:
تعريفه: التكذيب في اللغة الإنكار، يقال: كذب بالأمر أنكره، والنسبة إلى الكذب يقال: كذب فلانا: نسبه إلى الكذب (1) والمراد بكفر التكذيب: هو الإنكار بالقلب واللسان لأصل من أصول الدين، أو حكم، أو خبر ثابت مما هو معلوم من الدين بالضرورة بعد المعرفة (2)
__________
(1) انظر: لسان العرب ج 3 ص 274، والمصباح المنير ص 201، والقاموس المحيط ج 1 ص 123.
(2) انظر الإحكام لابن حزم ج 1 ص 49، وبغية المرتاد ص 311، ومجموع الفتاوى ج 11 ص 407، ج 22 ص 41.(85/98)
يقول ابن القيم: " فأما كفر التكذيب فهو اعتقاد كذب الرسل. . " (1) .
وقال ابن تيمية: " وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به. . . . " (2)
وقال أيضا: " والتكذيب: أخص من الكفر فكل مكذب لما جاءت به الرسل فهو كافر، وليس كل كافر مكذبا " (3) .
وقال القاضي عياض: " وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب، وأنكر قاعدة من قواعد الشرع، وما عرف يقينا بالنقل المتواتر من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقع الإجماع المتصل عليه. . . كمن أنكر وجوب الصلوات الخمس. . . . " (4) .
أمثلته:
1- التكذيب بأصول الدين، أو بشيء منها، كالتكذيب بربوبية الله، أو ألوهيته وحده، أو بكتاب الله، أو بشيء منه، أو بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو فيما أخبر به، أو بالبعث بعد الموت، أو بقضاء الله
__________
(1) مدارج السالكين ج 1 ص 337.
(2) درء تعارض العقل والنقل ج 1 ص 242.
(3) مجموع الفتاوى ج 2 ص 79.
(4) الشفا ج 2 ص 612.(85/99)
وقدره ونحو ذلك.
2- التكذيب بحكم ثابت مما هو معلوم من الدين بالضرورة، كالتكذيب بوجوب واجب من واجبات الإسلام الظاهرة، كالصلاة، أو التكذيب بتحريم محرم من محرماته الظاهرة كالزنى
3- التكذيب بخبر ثابت، أخبر الله به كالتكذيب بعذاب القبر (1)
الأدلة كثيرة، منها ما يلي:
1- قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2) . في هذه الآية توعد سبحانه من كفر به، وكذب بآياته بالخلود في النار (3) مما يدل على أن التكذيب بآيات الله كفر.
2- وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (4) .
__________
(1) انظر: الشفا ج 2 ص 612 - 613. ودرء تعارض العقل والنقل ج 1 ص 242، ومجموع الفتاوى ج 22 ص 40.
(2) سورة البقرة الآية 39
(3) انظر: تفسير ابن سعدي ج 1 ص 35، وأيسر التفاسير ج 1 ص 40.
(4) سورة الحج الآية 57(85/100)
في الآية وعيد بالعذاب المهين لمن كذب بآيات الله، ولم يجئ إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية. (1)
3- وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} (2) .
في الآية إخبار بأنه لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا (3) أو كذب بالحق لما جاءه على يد محمد صلى الله عليه وسلم، وتقرير لثوائهم في جهنم؛ لأن همزة الإنكار إذا دخلت على النفي صار إيجابا (4) يقول ابن سعدي: " وتكون منزلهم الدائم الذي لا يخرجون منه " (5) ، ولا يكون كذلك إلا كافر كفرا أكبر.
__________
(1) انظر: الصارم المسلول ص 52.
(2) سورة العنكبوت الآية 68
(3) بتحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم، واتخاذ شركاء له سبحانه، انظر أيسر التفاسير ج 3 ص 469.
(4) انظر تفسير القرطبي ج 13 ص 364، وتفسير النسفي ج 2 ص 698، وتفسير البغوي ج 3 ص 200.
(5) تفسير ابن سعدي ج 6 ص 54.(85/101)
4- إجماع العلماء على كفر من كذب بأمر معلوم من الدين بالضرورة. وقد حكى هذا الإجماع جمع من العلماء.
يقول ابن بطة: ". . . فلو أن رجلا آمن بجميع ما جاءت به الرسل إلا شيئا واحدا كان برده ذلك الشيء كافرا عند جميع العلماء " (1) .
وقال أبو يعلى: " ومن اعتقد تحليل ما حرم الله بالنص الصريح من الله، أو من رسوله، أو أجمع المسلمون على تحريمه فهو كافر. . . . وكذلك من اعتقد تحريم شيء حلله الله، وأباحه بالنص الصريح، أو أباحه رسوله. . مع العلم بذلك فهو كافر. . والوجه فيه أن في ذلك تكذيبا لله تعالى ولرسوله في خبره. . . ومن فعل ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين " (2) .
وقال ابن تيمية: " الكفر عدم الإيمان باتفاق المسلمين سواء اعتقد نقيضه وتكلم له أو لم يعتقد شيئا ولم يتكلم " (3) .
وقال ابن الوزير: " واعلم أن أصل الكفر هو التكذيب المتعمد لشيء من كتب الله تعالى المعلومة، أو لأحد من رسله عليهم السلام أو لشيء مما جاؤوا به إذا كان ذلك الأمر المكذب به معلوما
__________
(1) الإبانة لابن بطة ص 211.
(2) المعتمد في أصول الدين ص 271 - 272.
(3) مجموع الفتاوى ج 20 ص 86.(85/102)
بالضرورة من الدين، ولا خلاف أن هذا القدر كفر. . . " (1) .
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: ". . . لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء، وكذبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام " (2) .
__________
(1) إيثار الحق على الخلق ص 415.
(2) مجموعة التوحيد ص 104.(85/103)
الثاني: كفر الجحود:
تعريفه:
لغة: الإنكار - قد يكون الإنكار للشيء للجهل به، وقد يكون بعد المعرفة تعنتا - يقال: جحد الأمر أنكره مع علمه به، ومنه قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (1) .
وجحد فلان حقه: لم يقر به (2)
والمراد بكفر الجحود: هو الإنكار باللسان مع المعرفة بالقلب لأصل من أصول الدين، أو حكم، أو خير ثابت مما هو معلوم من الدين بالضرورة قصدا من غير جهل، أو إكراه، أو تأويل يعذر فيه صاحبه
__________
(1) سورة النمل الآية 14
(2) انظر: لسان العرب ج 1 ص 403، والمصباح المنير ص 35، وتفسير النسفي ج 2 ص 599.(85/103)
يقو ل الخازن: " وكفر جحود، وهو أن يعرف الله تعالى بقبله، ولا يقر بلسانه ككفر إبليس " (1) .
وقال النووي: " إن من جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة حكم بردته وكفره، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ونحوه ممن يخفى عليه فيعرف ذلك، فإن استمر حكم بكفره " (2) .
وقال ابن القيم: " وأما جحد ذلك جهلا أو تأويلا يعذر فيه صاحبه، فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له ورحمه لجهله " (3) .
أنواعه:
وهو نوعان: كما قال ابن القيم (4)
الأول: كفر مطلق عام: وهو أن يجحد جملة ما أنزله الله،
__________
(1) تفسير الخازن ج 1 ص 31.
(2) شرح صحيح مسلم للنووي ج 1 ص 128.
(3) مدارج السالكين ج 1 ص 338 - 339.
(4) مدارج السالكين ج 1 ص 338 '' بتصرف ''(85/104)
وإرساله الرسول.
والثاني: كفر مقيد خاص، وهو أن يجحد شيئا من أصول الدين، كمن يجحد ربوبية الله، أو وحدانيته، أو صفة من صفاته، أو يجحد البعث، أو القضاء والقدر ونحو ذلك، أو شيئا من أحكام الإسلام الظاهرة المتواترة، كمن يجحد وجوب الصلاة أو الصيام ونحوهما. أو يجحد تحريم محرم كالفواحش أو الخمر ونحوهما، أو شيئا مما أخبر الله به من الأخبار الثابتة الظاهرة، كمن ينكر عذاب القبر، أو وجود الجن ونحوهما (1)
الأدلة: كثيرة منها ما يلي:
1- أن في هذا الإنكار جحدا لآيات الله، وقد حكم سبحانه بالكفر على من جحد آياته (2)
قال تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} (3) . ولذا توعدهم بدار العذاب المخلد (4)
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى ج 11 ص 405، والقول السديد ص 138، والدرر السنية ج 7 ص 88.
(2) انظر: تفسير الرازي ج 25 ص 76، وروح المعاني ج 21 ص 3 - 4.
(3) سورة العنكبوت الآية 47
(4) انظر: تفسير الرازي ج 27 ص 120، وروح المعاني ج 24 ص 119، 120، والصارم المسلول ص 52.(85/105)
فقال سبحانه وتعالى: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (2) . ولا يخلد في النار إلا كافر كفرا أكبر.
2- أن في هذا الإنكار تكذيبا ظاهرا للأحاديث الصحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تقرر ما جحد، وقد قرر العلماء أن من رد حديثا واحدا صحيحا، أو كذبه بغير تقية - مع علمه بصحته - فهو كافر (3) يقول إسحاق بن راهويه: " من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر، يقر بصحته، ثم رده بغير تقية فهو كافر " (4) .
وقال ابن الوزير: " إن التكذيب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلم أنه حديثه كفر صريح " (5) .
3- إجماع العلماء على كفر من جحد أمرا معلوما من الدين بالضرورة، وقد حكى هذا الإجماع جمع من العلماء.
يقول ابن قدامة - وهو يتكلم عن حكم من ترك الصلاة -
__________
(1) سورة فصلت الآية 27
(2) سورة فصلت الآية 28
(3) انظر: نواقض الإيمان القولية ص 250.
(4) الإحكام لابن حزم ج 1 ص 97.
(5) العواصم والقواصم ج 2 ص 374.(85/106)
" ولا خلاف بين أهل العلم في كفر من تركها جاحدا لوجوبها إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك. . . . وكذا الحكم في مباني الإسلام كلها، وهي: الزكاة، والصيام، والحج. . . " (1) .
وقال القاضي عياض: " وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل، أو شرب الخمر، أو الزنى مما حرم الله بعد علمه بتحريمه. . . " (2) .
وقال ابن تيمية: " إن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة هو من أعظم أصول الإيمان، وقواعد الدين، والجاحد لها كافر بالاتفاق " (3)
وقال أيضا: " والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه فإنه كافر مرتد باتفاق الفقهاء " (4) . وقال ابن الأثير: " فمن أنكر فرضية أحد أركان الإسلام كان كافرا بالإجماع " (5) . وقال ابن الوزير: " وكذلك لا
__________
(1) المغني ج 8 ص 131.
(2) الشفا ج 2 ص 611 - 612، وانظر ص 615.
(3) مجموع الفتاوى ج 12 ص 495.
(4) مجموع الفتاوى ج 3 ص 276 - 268.
(5) النهاية لابن الأثير ج 4 ص 187.(85/107)
خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله. . . "(85/108)
الثالث: كفر الإباء والاستكبار:
تعريفه: الإباء: الامتناع (1) والاستكبار: الاستعظام للنفس (2)
والمراد بكفر الإباء والاستكبار هو: الامتناع عن الانقياد لأمر الله، أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم إباء واستكبارا، مع معرفة أنه حق. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " فمتى ترك الانقياد كان مستكبرا، فصار من الكافرين وإن كان مصدقا " (3) وقال أيضا: " وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه " (4) .
ويقول ابن القيم: " وأما كفر الإباء والاستكبار فنحو كفر إبليس. . . . ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه جاء بالحق
__________
(1) يقال: أبى الرجل يأبى إباء: امتنع، انظر: المصباح المنير ص 1، وتفسير الطبري ج 1 ص 181.
(2) انظر: تفسير القرطبي ج 1 ص 337، وفتح القدير ج 1 ص 66.
(3) الصارم المسلول ص 510.
(4) درء تعارض العقل والنقل ج 1 ص 242.(85/108)
من عند الله، ولم ينقد له إباء واستكبارا. . . " (1)
أمثلته:
1- كفر إبليس عندما لم ينقد لأمر الله له بالسجود لآدم استكبارا، قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (2) .
2- كفر الذين صدقوا الرسل بقلوبهم، ولم يتبعوهم عنادا واستكبار، كفرعون وقومه قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (3) .
3- كفر من عرف صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه جاء بالحق من عند الله، ولم ينقد له إباء واستكبارا، كاليهود الذي شهدوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، واستكبروا عن اتباعه؛ لأنه لم يكن من بني إسرائيل، وكمن امتنع من قبول حكم معلوم من الدين بالضرورة، ورفض الانقياد له استكبارا، مثل من ترك الصلاة ونحوها استكبارا
__________
(1) مدارج السالكين ج 1 ص 337.
(2) سورة البقرة الآية 34
(3) سورة النمل الآية 14(85/109)
الأدلة كثيرة منها ما يلي:
1- قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (1) .
يقول ابن جرير: " وتأويل قوله: (أبى) : يعني - جل ثناؤه - بذلك إبليس أنه امتنع من السجود لآدم. . . (واستكبر) : يعني بذلك أنه تعظم وتكبر عن طاعة الله في السجود لآدم، وهذا - وإن كان من الله جل ثناؤه خبرا عن إبليس - فإنه تقريع لضربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله، والانقياد لطاعته فيما أمرهم به، وفيما نهاهم عنه. . . ثم وصف إبليس بمثل الذي وصف به الذين ضربه لهم مثلا في الاستكبار. . . . فقال جل ثناؤه: (وكان) يعني إبليس (من الكافرين) . . . بخلافه عليه فيما أمره به من السجود لآدم. . . " (2)
ويقول القرطبي: " قوله تعالى: واستكبر الاستكبار: الاستعظام فكأنه كره السجود في حقه، واستعظمه في حق آدم، فكان ترك السجود لآدم تسفيها لأمر الله وحكمته. وعن هذا الكبر عبر عليه السلام بقوله: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر (3) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 34
(2) تفسير الطبري ج 1 ص 180 - 181.
(3) صحيح مسلم الإيمان (91، 91) ، سنن الترمذي البر والصلة (1998، 1998) ، سنن أبي داود اللباس (4091، 4091) ، سنن ابن ماجه الزهد (4173، 4173) ، مسند أحمد (1/451، 1/451) .(85/110)
في رواية «فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة قال: " إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس (1) »
ومعنى بطر الحق: تسفيهه وإبطاله. وغمط الناس: الاحتقار لهم، والازدراء بهم. ويروى: وغمص بالصاد، والمعنى واحد. . . وقد صرح اللعين بهذا المعنى فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (2) ، {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} (3) . {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (4) ، فكفره الله بذلك، فكل من سفه شيئا من أوامر الله تعالى، أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم كان حكمه حكمه، وهذا ما لا خلاف فيه " (5)
2- إجماع العلماء على كفر من امتنع عن الانقياد لأمر الله، أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم استكبارا، وقد حكى هذا الإجماع جمع من العلماء.
__________
(1) رواه مسلم في الإيمان باب تحريم الكبر، وأبو داود برقم 4091، والترمذي برقم 1999، وانظر: جامع الأصول حديث 8210 (المتن والحاشية) .
(2) سورة الأعراف الآية 12
(3) سورة الإسراء الآية 61
(4) سورة الحجر الآية 33
(5) تفسير القرطبي ج 1 ص 337 - 338.(85/111)
يقول إسحاق بن راهويه: " وقد أجمع العلماء أن من سب الله عز وجل، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئا أنزله الله. . . وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر. . . " (1)
وقال ابن تيمية: " إن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه، واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه فهذا ليس بكافر، فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه، أو أنه حرمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم، وأبى أن يذعن لله، وينقاد فهو إما جاحد أو معاند، ولهذا قالوا: من عصى الله مستكبرا كإبليس كفر بالاتفاق " (2)
وقال أيضا - وهو يتكلم عن حكم تارك الصلاة - ". . . والثاني: ألا يجحد وجوبها، لكنه ممتنع من التزام فعلها كبرا أو حسدا أو بغضا لله ورسوله فيقول: أعلم أن الله أوجبها على المسلمين، والرسول صادق في تبليغ القرآن، ولكنه ممتنع عن التزام الفعل استكبار أو حسدا للرسول، أو عصبية لدينه، أو بغضا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا أيضا كافر بالاتفاق. . . " (3) (4)
__________
(1) التمهيد لابن عبد البر ج 4 ص 226.
(2) الصارم المسلول ص 521.
(3) مجموع الفتاوى ج 20 ص 97.
(4) كما حكاه القرطبي في تفسيره ج 1 ص 338، ومحمد رشيد رضا في تفسيره ج 1 ص 266.(85/112)
الرابع: كفر الإعراض:
تعريفه: الإعراض لغة: الصدود. يقال: أعرض عن الشيء: صد عنه، بأن يوليه عرضه - أي جانبه - ولا يقبل عليه، أو يلتفت إليه
والمراد بكفر الإعراض: هو الإعراض التام عن الحجة (1) وعدم إرادتها، والعمل بها وبموجبها إعراضا يخل بأصل الإيمان (2)
حكمه: إن كان الإعراض يخل بأصل الإيمان، كأن يكون إعراضا تاما عن تعلم الأصل الذي يدخل به الإنسان في الإسلام مع قدرته على ذلك لعدم الرغبة، أو عن قبوله والانقياد القلبي له، أو يعرض إعراضا تاما عن العمل بالجوارح (بأن يترك جنس العمل) مع القدرة، أو يعرض عما دل الدليل على أن تاركه يكفر كالصلاة، وكالإعراض عن حكم الله ورسوله، متعمدا، ولا سيما بعد دعوته إليه، وتذكيره به فهذا كفر. أما إن كان الإعراض إنما يخل بكمال الإيمان، كأن يكون بترك واجبات فلا يعد كفرا، وإنما ينقص الإيمان
__________
(1) لعدم الرغبة فيها لا للعجز.
(2) انظر: طريق الهجرتين، ص 716، 714، ومدارج السالكين، ج 1 ص 338، والدرر السنية، ج 8 ص 258.(85/113)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وقد تبين أن الدين لا بد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه ولم يؤد واجبا ظاهرا، ولا صلاة، ولا زكاة، ولا صياما، ولا غير ذلك من الواجبات " (1)
وقال ابن القيم: " الأصل الثاني: أن العذاب يستحق بسببين: أحدهما الإعراض عن الحجة، وعدم إرادتها، والعمل بها وبموجبها، والثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض. . . " (2) .
وقال الشيخ ابن سحمان: ". . . فتبين من كلام الشيخ (3) أن الإنسان لا يكفر إلا بالإعراض عن تعلم الأصل الذي يدخل به الإنسان في الإسلام. . . " (4)
__________
(1) مجموع الفتاوى، ج 7 ص 621. وانظر ص 142 من نفس الجزء.
(2) طريق الهجرتين، ص 414، وانظر ص 412 من نفس المرجع.
(3) الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. انظر: الدرر السنية ج 8، ص 258.
(4) الدرر السنية ج 8 ص 258، ومنهاج أهل الحق، ص 63 - 64.(85/114)
الأدلة: وهي كثيرة منها ما يلي:
1- قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (1) .
يقول ابن كثير: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} (2) أي: تخالفوا عن أمره. {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (3) ، فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى. . في نفسه أنه محب لله. . . حتى يتابع الرسول. . خاتم الرسل. . . " (4) .
وقال أبو السعود - في تفسير هذه الآية -: ". . . فإن سخطه تعالى عليهم بسبب كفرهم، والإيذان بأن التولي عن الطاعة كفر " (5) .
2- وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (6) .
قال الشيخ ابن السعدي - في تفسير هذه الآية -: " أي لا أحد أظلم وأزيد تعديا ممن ذكر بآيات ربه. . . التي تقتضي أن يقابلها بالإيمان والتسليم والانقياد والشكر، فقابلها هذا الظالم بضد ما ينبغي، فلم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 32
(2) سورة آل عمران الآية 32
(3) سورة آل عمران الآية 32
(4) تفسير ابن كثير، ج 1 ص 358.
(5) تفسير أبي السعود، ج 1، ص 349. وانظر: روح المعاني ج 3 ص 130.
(6) سورة السجدة الآية 22(85/115)
يؤمن بها، ولا اتبعها، بل أعرض عنها. . . . فهذا من أكبر المجرمين الذين يستحقون شديد النقمة، ولهذا قال: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (1)
3- وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (2) {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (3) .
يقول ابن حزم: " هذه الآيات محكمات لم تدع لأحد علقة يشغب بها، قد بين الله فيها صفة أهل زماننا فإنهم يقولون: " نحن المؤمنون بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن طائعون لهما، ثم يتولى طائفة منهم بعد هذا الإقرار فيخالفون ما وردهم عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، أولئك بنص حكم الله تعالى عليهم ليسوا مؤمنين " (4) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - في تعليقه على هذه الآيات -: " فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول، وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين وليس بمؤمن. . . " (5)
__________
(1) سورة السجدة الآية 22
(2) سورة النور الآية 47
(3) سورة النور الآية 48
(4) الإحكام في أصول الأحكام، ج 1 ص 100.
(5) الصارم المسلول، ص 38، وانظر: تفسير ابن كثير، ج 3، ص 298.(85/116)
وقال أيضا: ". . . . فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل، وإن كان قد أتى بالقول. . . " (1)
4- وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (2) .
يقول ابن القيم: " فجعل الإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والالتفات إلى غيره هو حقيقة النفاق. . . " (3)
وقال محمد رشيد رضا: " والآية ناطقة بأن من صد، وأعرض عن حكم الله ورسوله عمدا ولا سيما بعد دعوته إليه، وتذكيره به فإنه يكون منافقا لا يعتد بما يزعمه من الإيمان، وما يدعيه من الإسلام " (4)
5- وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (5) {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} (6) {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (7) .
يقول الشوكاني: " قال كذلك "، أي مثل ذلك فعلت أنت، ثم
__________
(1) مجموع الفتاوى، ج 7 ص 142
(2) سورة النساء الآية 61
(3) مختصر الصواعق المرسلة، ج 2 ص 467.
(4) تفسير المنار، ج 5، ص 227.
(5) سورة طه الآية 124
(6) سورة طه الآية 125
(7) سورة طه الآية 126(85/117)
فسره بقوله: {أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} (1) ، أي أعرضت عنها، وتركتها، ولم تنظر فيها {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (2) ، أي مثل ذلك النسيان الذي فعلته في الدنيا تنسى: أي تترك في العمى والعذاب في النار. . . " (3)
__________
(1) سورة طه الآية 126
(2) سورة طه الآية 126
(3) فتح القدير ج 3 ص 392، وانظر: التفسير القيم ص 361. وأيسر التفاسير ج 3 ص 84.(85/118)
الخامس: كفر الشك.
تعريفه: الشك لغة: خلاف اليقين.
وهو: التردد بين شيئين، سواء استوى طرفاه، أو رجح أحدهما على الآخر. قال تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} (1) ، قال المفسرون: أي غير مستيقن. وهو يعم الحالتين. كما يأتي ويراد به الطعن، يقال: شككته بالرمح شكا: أي طعنته.
والصف والضم: يقال: شك القوم بيوتهم جعلوها مصطفة
__________
(1) سورة يونس الآية 94(85/118)
متقاربة على نظم واحد. وكل شيء ضممته إلى شيء فقد شككته (1)
الشك في الاصطلاح: هو الوقوف بين منزلتي الجهل والعلم (2)
وهو عند الفقهاء - كما قال ابن القيم (3) وغيره - هو التردد بين وجود الشيء وعدمه، سواء تساوى الاحتمالان، أو رجح أحدهما.
وعند الأصوليين: إن تساوى الاحتمالان فهو شك، وإلا فالراجح ظن، والمرجوح وهم، وقول الفقهاء موافق للغة (4)
والمراد بكفر الشك: هو التردد بين الإيمان وعدمه في شيء من أصول الدين، أو بين التصديق وعدمه بخبر، أو حكم ثابت مما هو معلوم من الدين بالضرورة.
أمثلته: ومنها:
الشك في وحدانية الله، أو في كون الكاشف للضر هو الله وحده.
الشك في وجود الملائكة ونحو ذلك، الشك في شيء من القرآن.
الشك في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو في صدق ما أخبر به، كالشك في
__________
(1) انظر: لسان العرب ج 2 ص 347. والمصباح المنير، ص 122.
(2) قواطع الأدلة، ج 1 ص 18.
(3) بدائع الفوائد ج 4 ص 26. وانظر: المصباح المنير، ص 122.
(4) انظر: الواضح ج 4 ص 384، والمصباح المنير، ص 122، والتعريفات الاعتقادية ص 214.(85/119)
البعث، أو الحساب، أو الجنة، أو النار، ونحو ذلك.
الشك في وجوب الصلاة، أو الزكاة ونحوهما ممن لا عذر له.
الشك في تحريم المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة. كالشك في تحريم الربا، أو الزنى ونحوهما.
الشك في بطلان غير الملة الإسلامية، وكفر من دان بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم(85/120)
الأدلة: لقد دل الكتاب والسنة والإجماع على كفر من وقع في هذا النوع من الشك.
أولا: من الكتاب:
ومن ذلك قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} (1) {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} (2) {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} (3) .
يقول الشنقيطي: " وقوله في هذه الآية الكريمة: " {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} (4) " بعد قوله: " {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} (5) " يدل على أن الشك في البعث كفر بالله تعالى " (6) .
وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (7) .
فالآية - كما نرى - تدل على أن من شروط صدق إيمان المؤمنين بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا: أي لم يشكوا أبدا في وحدانية الله، ولا في نبوة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا في ما جاء به عن الله، وعليه فمن ارتاب في
__________
(1) سورة الكهف الآية 35
(2) سورة الكهف الآية 36
(3) سورة الكهف الآية 37
(4) سورة الكهف الآية 37
(5) سورة الكهف الآية 36
(6) أضواء البيان، ج 4، ص 104.
(7) سورة الحجرات الآية 15(85/121)
شيء مما ذكر فليس بمؤمن، بل هو من المنافقين الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (1) ، (2)
ثانيا: من السنة:
ومن ذلك ما ورد في الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة (3) »
هذا الحديث - كما نرى - يدل على اشتراط اليقين بالشهادة، حتى يدخل قائلها الجنة، وعليه فمن شك في شهادة التوحيد فإنه لا يدخل الجنة لانتفاء هذا الشرط.
ثالثا: الإجماع:
لقد حكى جمع من العلماء الإجماع على كفر من وقع في هذا النوع من الشك، وإليك شيئا مما قالوا في ذلك، يقول القاضي عياض - بعد أن ذكر بعض المكفرات -: " وكذلك من أضاف إلى
__________
(1) سورة التوبة الآية 45
(2) انظر: تفسير الطبري، ج 21 ص 394، ومعارج القبول، ج 2، ص 419.
(3) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، ج 1، ص 224، صحيح مسلم (المطبوع مع شرح النووي) .(85/122)
نبينا صلى الله عليه وسلم تعمد الكذب فيما بلغه وأخبر به، أو شك في صدقه، أو سبه. . . . فهو كافر بإجماع " (1)
وقال أيضا: " واعلم أن من استخف بالقرآن. . . . أو بشيء منه. . . . أو كذب به، أو بشيء منه، أو بشيء مما صرح به فيه من حكم، أو خبر، أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبته على علم بذلك، أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماع " (2)
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - وهو يتكلم عن نواقض الإسلام ". . الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر إجماعا " (3) .
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: ". . . . . فإن كان شاكا في كفرهم، أو جاهلا بكفرهم بينت له الأدلة من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفرهم، فإن شك بعد ذلك، وتردد فإنه كافر بإجماع العلماء على أن من شك في كفر الكفار فهو كافر " (4) .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: ". . . فمن أنكر
__________
(1) الشفا، ج 2 ص 608.
(2) الشفا، ج 2، ص 646.
(3) مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب القسم الخامس، ص 213.
(4) أوثق عرى الإيمان (مجموعة التوحيد) ص 160.(85/123)
هذا التوحيد أو شك فيه. . . . كفر بإجماع المسلمين " (1)
وقال الشيخ ابن سحمان: " وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر. والشك هو التردد بني شيئين، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كذبه، ولا يجزم بوقوع البعث، ولا عدم وقوعه ونحو ذلك، كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة، ولا عدم وجوبها، أو لا يعتقد تحريم الزنى، ولا عدم تحريمه، وهذا كفر بإجماع العلماء " (2) .
__________
(1) القول الفصل النفيس، ص 35.
(2) الضياء الشارق، ص 374.(85/124)
السادس: كفر الاستهزاء بشيء من دين الله:
تعريفه: الاستهزاء: لغة: السخرية والاستخفاف.
يقال: هزأ به، ومنه هزءا وهزوءا واستهزاء: سخر به، أو منه، والاسم: الهزء.
وأصل هذه المادة: الخفة من الهزء، وهو العدو السريع، يقال: ناقة تهزأ به، أي: تسرع وتخف (1)
والمراد بالاستهزاء - هنا - هو: الخوض واللعب إذا كان موضوعه صفات الله تعالى، أو أفعاله، أو شرعه، أو آياته المنزلة، أو أفعال أو
__________
(1) انظر: لسان العرب ج 3 ص 801، وتفسير الرازي، ج 2 ص 69، وروح المعاني، ج 1 ص 158.(85/124)
أخلاق رسوله صلى الله عليه وسلم، أو غير ذلك من تعاليم الإسلام، أو بأحد لأجل ما هو عليه من العلم بدين الله، أو العمل به كالاستهزاء بالعلماء لأجل ما هم عليه من العلم بدين الله، أو بالصالحين لالتزامهم بالسنة
فالخوض واللعب إذا كان موضوعه شيئا مما ذكر كان استهزاء بدين الله؛ لأن الاستهزاء بالشيء عبارة عن الاستخفاف به، وكل ما يلعب به فهو مستخف به
حكمه: الاستهزاء بشيء من دين الله إذا صدر بعد المعرفة من مكلف مختار، فهو كفر سواء كان المستهزئ جادا أو هازلا(85/125)
يقول ابن تيمية: " وهذا مما يبين لك أن الاستهزاء بالله، أو برسوله ينافي الانقياد له. . . فإن الانقياد إجلال وإكرام، والاستخفاف إهانة وإذلال، وهذان ضدان، فمتى حصل في القلب أحدهما انتفى الآخر، فعلم أن الاستخفاف والاستهانة به ينافي الإيمان منافاة الضد للضد " (1) .
وقال ابن حزم: " وصح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدين، فهي كلها آيات الله تعالى، بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر " (2) .
وقالت اللجنة الدائمة: " سب الدين، والاستهزاء بشيء من القرآن والسنة، والاستهزاء بالمتمسك بها نظرا لما تمسك به، كإعفاء اللحية، وتحجب المسلمة، هذا كفر إذا صدر من مكلف، وينبغي أن يبين له أن هذا كفر، فإن أصر بعد العلم فهو كافر. . " (3) .
الأدلة: ومما يدل على ذلك ما يلي:
1. قال تعالى:
__________
(1) الصارم المسلول ص 520 - 521.
(2) الفصل، ج 3، ص 255 - 256.
(3) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية، ج 2، ص 14.(85/126)
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} (1) {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (2) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} (3) .
قال شيخ الإسلام - بعد أن ذكر هذه الآيات: " وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر. . . وقد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم جادا، أو هازلا فقد كفر " (4) .
وقال الفخر الرازي: " قوله: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (5) يدل على أحكام:
الحكم الأول: أن الاستهزاء بالدين كيف كان كفر بالله، وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف، والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله تعالى بأقصى الإمكان، والجمع بينهما محال " (6)
فالآية - كما رأينا - تدل على أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر، كما تدل على أن الاستهزاء بالمؤمنين استهزاء بالله وآياته ورسوله، بدليل ما ورد في أسباب نزول هذه الآية، عن عبد الله بن عمر رضي الله
__________
(1) سورة التوبة الآية 64
(2) سورة التوبة الآية 65
(3) سورة التوبة الآية 66
(4) الصارم المسلول، ص 31.
(5) سورة التوبة الآية 66
(6) التفسير الكبير، ج 16، ص 124.(85/127)
عنهما قال: «قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يوما: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء منهم، فقال له رجل: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن. قال ابن عمر: " فأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:؟ (4) »
وعلى هذا فالآية تدل أيضا على أن الاستهزاء بالمؤمنين لأجل ما هم عليه من العلم بدين الله، أو لالتزامهم بالسنة كفر؛ إذ هو من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله.
قال شيخ الإسلام: ". . . فهؤلاء لما تنقصوا النبي صلى الله عليه وسلم حيث عابوه، والعلماء من أصحابه، واستهانوا بخبره أخبر الله أنهم كفروا بذلك، وإن قالوه استهزاء. . . " (5)
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم، انظر أسباب النزول للسيوطي. بحاشية مفردات القرآن ص 253 - 254، وابن كثير في تفسيره، ج 2 ص 376.
(2) بحزام في وسط الناقة. (1)
(3) تنكبه: تكثر فيه الجراح. (2)
(4) سورة التوبة الآية 65 (3) {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}
(5) الصارم المسلول ص 32 - 33.(85/128)
2- وقال تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (1) إلى أن قال سبحانه حكاية عنهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} (2) ، فأجابهم الحق بقوله: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} (3) {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (4) {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} (5) . في الآيات دلالة على أن الاستهزاء بالمؤمنين لأجل إيمانهم من أسباب دخول النار، وقطع الرحمة (6) مما يدل على أنه كفر.
قال الإمام الشنقيطي - في تعليقه على هذه الآيات -: " قد تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه أن (إن) المكسورة المشددة من حروف التعليل كقولك: عاقبه إنه مسيء؛ أي لأجل إساءته، وقوله في هذه الآية: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي} (7) . . . الآيتين) يدل فيه لفظ إن المكسورة المشددة على أن من الأسباب التي أدخلتهم النار هو استهزاؤهم وسخريتهم من هذا الفريق المؤمن. . . . وحتى في قوله: {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} (8) حرف غاية لاتخاذهم إياهم سخريا: أي لم يزالوا كذلك حتى أنساهم ذلك ذكر الله، والإيمان به، فكان مأواهم
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 103
(2) سورة المؤمنون الآية 107
(3) سورة المؤمنون الآية 108
(4) سورة المؤمنون الآية 109
(5) سورة المؤمنون الآية 110
(6) انظر: تفسير ابن سعدي، ج 5 ص 189، وأضواء البيان، ج 5 ص 827.
(7) سورة المؤمنون الآية 109
(8) سورة المؤمنون الآية 110(85/129)
النار والعياذ بالله " (1) .
3- وقال تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (2) .
في الآية توعد بالعذاب المهين للمستهزئ بشيء من آيات الله (3)
ولم يجئ إعداد العذاب المهين إلا في حق الكفار - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - (4) مما يدل على أن الاستهزاء بشيء من آيات الله كفر.
4- كما أجمع العلماء على كفر المستهزئ بالله، أو بكتابه، أو برسوله، أو بغير ذلك من دين الله، يقول الإمام ابن العربي " المسألة الثانية: لا يخلو أن يكون ما قالوه (5) من ذلك جدا أو هزلا، وهو كيفما كان كفر. . . لا خلاف فيه بين الأمة " (6)
__________
(1) أضواء البيان ج 5، ص 827 - 828.
(2) سورة الجاثية الآية 9
(3) انظر: أضواء البيان، ج 7 ص 343.
(4) انظر: الصارم المسلول، ص 52.
(5) المنافقون.
(6) أحكام القرآن لابن العربي، ج 2 ص 976.(85/130)
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: " فمن استهزأ بالله، أو بكتابه، أو برسوله، أو بدينه كفر ولو هازلا لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعا " (1) .
وقال الشيخ حمد بن عتيق: " اعلم أن العلماء قد أجمعوا على أن من استهزأ بالله، أو رسوله، أو كتابه. . . فهو كافر. . واستدلوا بقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (2) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (3)
__________
(1) تيسير العزيز الحميد، ص 553.
(2) سورة التوبة الآية 65
(3) سورة التوبة الآية 66(85/131)
السابع: كفر البغض والكراهية لشيء من دين الله:
معنى البغض والكراهية:
قال ابن منظور: " البغض والبغضة: نقيضة المحبة " (1) .
وقال الفيومي - في الكره -: " وكرهته أكرهه من باب تعب كرها بضم الكاف وفتحها ضد أحببته " (2) . من كلام هذين الإمامين
__________
(1) لسان العرب، ج 1، ص 239، وانظر: ج 3، ص 250.
(2) المصباح المنير ص 203.(85/131)
وغيرهما (1) اتضح أن البغض والكراهية نقيض المحبة.
وبما أن الحب انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه. فإن البغض والكراهية: نفار النفس إلى الشيء الذي ترغب عنه (2)
وهو نوعان: الأول: الطبعي: وهو أن يعاف الشيء لنفور الطبع عنه.
مثاله: أن يكره بعض التكاليف الشرعية لما فيها من المشقة، لا أنه يكره أمر الله، وإنما يعتقد أن ما شرعه الله هو الحق والصواب ويرضى به.
قال الإمام البغوي: " وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (3) قال بعض أهل المعاني: هذا الكره من حيث نفور الطبع عنه، لما فيه من مؤنة المال، ومشقة النفس، وخطر الروح لا أنهم كرهوا أمر الله تعالى. . . . " (4)
__________
(1) انظر: القاموس المحيط، ج 2، ص 325، ومختار الصحاح ص 59، ص 569.
(2) انظر: المفردات للراغب، ص 55.
(3) سورة البقرة الآية 216
(4) تفسير البغوي، ج 1 ص 204.(85/132)
وهذا الكره ليس المقصود - هنا - إذ إنه لا ينافي الرضى والتسليم.
قال ابن القيم: " وليس من شرط الرضى ألا يحس بالألم والمكاره، بل ألا يعترض على الحكم ولا يتسخطه. ولهذا أشكل على بعض الناس الرضى بالمكروه وطعنوا فيه. وقالوا: هذا ممتنع على الطبيعة. وإنما هو الصبر، وإلا فكيف يجتمع الرضى والكراهية؟ وهما ضدان.
والصواب أنه لا تناقض بينهما، وأن وجود التألم وكراهة النفس له لا ينافي الرضى، كرضى المريض بشرب الدواء الكريه. . . ورضى المجاهد بما يحصل له في سبيل الله من ألم الجراح وغيرها. . . " (1) .
الثاني: الاعتقادي - وهو المراد هنا - وهو ما تضمن الكراهية لأمر الله، أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم لاعتقاد أنه خلاف الحق والصواب
مثاله: البغض للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لما جاء به لاعتقاد أنه خلاف الصواب، كمن يكره ما شرعه الله في ميراث المرأة، أو شهادتها ونحو ذلك، ومن ثم يعترض ويتسخط (2)
__________
(1) مدارج السالكين، ج 2 ص 175.
(2) انظر: مدارج السالكين، ج 2، ص 175، وتيسير ذي الجلال والإكرام، ص 69.(85/133)
حكمه: البغض للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لما جاء به كفر بالاتفاق - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - وغيره (1)
الأدلة: ومما يدل على ذلك:
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} (2) {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} (3) .
قال الإمام الشنقيطي: " والآية الكريمة تدل على أن كل من أطاع من كره ما نزل الله في معاونته له على كراهته، ومؤازرته له على ذلك الباطل أنه كافر بالله، بدليل قوله تعالى فيمن كان كذلك: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (4) (5)
__________
(1) انظر: بيان مسائل الكفر والإيمان، ص 61.
(2) سورة محمد الآية 25
(3) سورة محمد الآية 26
(4) سورة محمد الآية 27
(5) أضواء البيان ج 7 ص 587. وانظر: تفسير البغوي ج 4 ص 183.(85/134)
وإذا كانت طاعة الكاره لما أنزل الله، ومؤازرته على كراهته كفر، فكيف بالكاره.
وغير هذه الآيات آيات كثيرة كلها، تدل على أن كراهة ما أنزل الله من صفات الكافرين، وعادتهم مع جميع الرسل من عهد نوح إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم. (1)
مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} (2) {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (3) .
وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} (4) .
وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} (5) .
كما وصف الله بها المنافقين.
قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} (6) .
__________
(1) انظر: أضواء البيان، ج 7 ص 180.
(2) سورة محمد الآية 8
(3) سورة محمد الآية 9
(4) سورة الحج الآية 72
(5) سورة المؤمنون الآية 70
(6) سورة التوبة الآية 54(85/135)
وقال تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} (1) . ولذلك عد من أنواع النفاق الأكبر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فمن النفاق ما هو أكبر يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار. . . بأن يظهر تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بعضه. . . أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه. . . " (2) .
كما عد من نواقض الإسلام. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: " اعلم أن نواقض الإسلام عشرة. . . . إلى أن قال: الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به كفر " (3) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 81
(2) مجموع الفتاوى، ج 28، ص 434، وانظر: مجموعة التوحيد، ص 10.
(3) مجموعة التوحيد، ص 38.(85/136)
الثامن: كفر الخروج عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
المراد به: هو اعتقاد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم:
أ - من قال بهذا المعتقد:
اشتهر هذا المعتقد عند بعض المبتدعة كغلاة الصوفية، يقول الأشعري: " وفي النساك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى(85/136)
درجة تزول فيها عنهم العبادات، وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم من الزنى، وغيره مباحات لهم " (1)
وقال ابن حزم - رحمه الله -: " ادعت طائفة من الصوفية أن من أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل، وقالوا: من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها من الصلاة والصيام والزكاة، وغير ذلك، وحلت له المحرمات كلها من الزنى والخمر، وغير ذلك فاستباحوا بهذا نساء غيرهم " (2)
ب - شبهات من قال بهذا المعتقد مع المناقشة:
لقد تمسك من قال بهذا المعتقد بشبهات، وإليك شيئا منها مع الجواب.
الشبهة الأولى: قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (3) .
وجه استدلالهم: هو تأويل اليقين بأنه العلم والمعرفة، إذا وصل إليه العبد سقطت عنه التكاليف. فاليقين - عندهم - هو الإيقان (4)
قال شيخ الإسلام: " ومن هؤلاء من يحتج بقوله تعالى:
__________
(1) المقالات، ص 289.
(2) الفصل، ج 4، ص 226.
(3) سورة الحجر الآية 99
(4) انظر: مجموع الفتاوى، ج 11، ص 419.(85/137)
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (1) . ويقول معناها: اعبد ربك حتى يحصل لك العلم والمعرفة، فإذا حصل ذلك سقطت العبادة. . . " (2)
الجواب: يقال لهم هذه الآية حجة عليكم لا لكم؛ ذلك أن المراد بها عبادة الله تعالى حتى يأتي اليقين، وهو الموت وما بعده باتفاق علماء المسلمين (3)
يقول ابن عباس: ( {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} (4) : استقم على طاعة ربك.
" حتى يأتيك اليقين ". يعني الموت) . (5) وقال الحسن البصري: " إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت، وقرأ قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (6) (7)
وقال ابن كثير: " ويستدل بهذه الآية الكريمة. . . . على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا. . . ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم، وهذا
__________
(1) سورة الحجر الآية 99
(2) مجموع الفتاوى، ج 11، ص 417، وانظر مجموع الفتاوى، ج 2، ص 95.
(3) انظر: مجموع الفتاوى، ج 11، ص 418، والتفسير الكبير، ج 19، ص 216.
(4) سورة الحجر الآية 99
(5) تفسير ابن عباس بهامش الدر المنثور، ج 3، ص 77.
(6) سورة الحجر الآية 99
(7) مجموع الفتاوى، ج 11، ص 418، 539.(85/138)
كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله، وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة. وإنما المراد باليقين ههنا الموت كما قدمناه " (1)
وقال شيخ الإسلام: ". . . . فأما أن يظن أن المراد: اعبده حتى يحصل لك إيقان، ثم لا عبادة عليك فهذا كفر باتفاق أئمة المسلمين " (2)
الشبهة الثانية: قصة موسى والخضر المذكورة في سورة الكهف في الآيات من 60 إلى آية 82. وفي صحيح البخاري وغيره بروايات منها ما روي عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا. فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه، فقال له: بلى لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك. . . . إلى أن قال: فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم موسى، فرد عليه. فقال: وأنى بأرضك السلام: قال: أنا موسى: قال موسى: بني إسرائيل؟ قال: نعم. أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال: يا موسى، إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. قال: هل أتبعك؟ قال: إنك لن تستطيع معي
__________
(1) تفسير ابن كثير، ج 2، ص 560.
(2) مجموع الفتاوى، ج 11، ص 419 - 420.(85/139)
صبرا. . . . . الحديث (1) »
وجه استدلالهم: هو ظنهم أن الخضر خرج عن الشريعة عندما لم يتابع موسى عليه السلام، فيجوز لغيره من الأولياء ما يجوز له من الخروج عن الشريعة (2)
قال شيخ الإسلام: " وأما احتجاجهم بقصة موسى والخضر، فيحتجون بها على وجهين. . . إلى أن قال: وأما الوجه الثاني: فإن من هؤلاء من يظن أن من الأولياء من يسوغ له الخروج عن الشريعة النبوية كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى. . . " (3)
الجواب: يقال لهم: أولا: أن موسى عليه السلام، لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولم يكن الخضر مأمورا بمتابعته، ولهذا قال له الخضر: " أنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم ".
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة لجميع الثقلين ليس لأحد الخروج عن متابعته، بل لو أدركه من هو أفضل من الخضر كإبراهيم، وموسى، وعيسى لوجب عليهم اتباعه فكيف بالخضر سواء كان نبيا،
__________
(1) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب 27، حديث 3401، وانظر: صحيح البخاري (مع الفتح) ، ج 6 ص 431 - 432.
(2) مجموع الفتاوى، ج 13، ص 266 (بتصرف) .
(3) مجموع الفتاوى، ج 11 ص 420 - 422.(85/140)
أو وليا. وعليه فالقياس فاسد.
ثانيا: أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفا لشريعة موسى عليه السلام، فإن خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفا من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم. ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاز قتله، وأما الإحسان إلى اليتيم بلا عوض، والصبر على الجوع فهذا من صالح الأعمال، فلم يكن في ذلك شيء مخالف لشرع الله.
وأما إنكار موسى عليه السلام عليه فلأنه لم يكن علم الأسباب التي تتيح ذلك، فلما بينها له وافقه على ذلك، ولو كان ما فعله الخضر مخالفا لشريعة موسى لما وافقه وبذلك اتضح بطلان استدلالهم بهذه القصة.
ج- في ذكر بعض الأدلة التي تؤكد بطلان هذا المعتقد. ومما يؤكد بطلان هذا المعتقد ما يلي:
1- أن هذا المعتقد يقتضي استحلال محرمات ظاهرة متواترة، وإنكار واجبات ظاهرة متواترة، وهذا كفر باتفاق الأئمة(85/141)
2- أن التكليف الشرعي مشروط بالتمكن من العلم - الذي أصله العقل - وبالقدرة على الفعل، إذا توفرت وجب العمل، وعليه فلا يسقط التكليف إلا عمن لا يمكنه العلم؛ كالمجنون، والطفل، أو عمن يعجز عنه كسقوط الجهاد عن الأعمى ونحوه (1) أما من سوى ذلك فلا يسقط عنهم شيء من التكليف باتفاق المسلمين، ولو وصلوا من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد ما داموا قادرين عليه (2)
3- أنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الناس، وأنها باقية إلى يوم القيامة. قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (3) .
وأنه ليس لأحد من الخلائق الخروج عن متابعته، بل لو كان الأنبياء قبله أحياء لوجب عليهم متابعته، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} (4) .
__________
(1) مجموع الفتاوى، ج 10 ص 344، 347 (بتصرف) .
(2) انظر: مدارج السالكين، ج 3، ص 118، ونواقض الإيمان الاعتقادية، ج 2، ص 78.
(3) سورة الأعراف الآية 158
(4) سورة آل عمران الآية 81(85/142)
وعن جابر بن عبد الله «أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب وقال: " أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ . . . إلى أن قال: والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني (1) » بل قد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن المسيح عليه السلام إذا نزل من السماء فإنه يكون متبعا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم (2) فإذا كان صلى الله عليه وسلم يجب اتباعه على من يدركه من الأنبياء، فكيف بمن دونهم (3) ؟ .
4- أنه مما علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لمن بلغته دعوة محمد صلى الله عليه وسلم أن يتبع شريعة رسول غيره كموسى وعيسى، فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند برقم 15156، والبغوي في شرح السنة برقم (126) ، وابن أبي عاصم في السنة برقم (50) ، وقال الألباني: (حديث حسن) ، انظر: ظلال الجنة ج 1 ص 27، مجموع الفتاوى، ج 11، ص 422 - 424 (بتصرف) .
(2) انظر: جامع الأصول حديث 7831. وشرح الطحاوية، ص 577.
(3) مجموع الفتاوى، ج 11، ص 422 - 424 (بتصرف) .(85/143)
رسول آخر فكيف بالخروج عنه وعن الرسل.
5- أن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله، وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات، وترك المنكرات إلى حين الوفاة (1) وإذا كانوا كذلك فغيرهم من باب أولى.
6- أن حقيقة الولاية إنما تنال بتقوى الله سبحانه، والتزام أوامره، واجتناب نواهيه (2) لا بترك الواجبات، وفعل المحرمات قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (4) . وكلما كان العبد إلى الله أقرب كان جهاده في الله أعظم، لا أن يخلع ربقة التكليف من عنقه. قال ابن القيم: " وتأمل أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب في مقام عظم جهادهم واجتهادهم. لا كما ظنه
__________
(1) تفسير ابن كثير، ج 2، ص 560، وانظر: مدارج السالكين، ج 3، ص 117.
(2) انظر: مجموع الفتاوى، ج 10 ص 353، ج 11 ص 420.
(3) سورة يونس الآية 62
(4) سورة يونس الآية 63(85/144)
بعض الملاحدة المنتسبين إلى الطريق " (1)
7- إجماع الأئمة على كفر من قال بهذا المعتقد. وقد حكى هذا الإجماع جمع من العلماء. يقول القاضي عياض: " وكذلك أجمع على تكفير من قال من الخوارج: إن الصلاة طرفي النهار. . . وقول بعض الصوفية: إن العبادة، وطول المجاهدة إذا صفت نفوسهم أفضت بهم إلى إسقاطها، وإباحة كل شيء لهم، ورفع عهد الشرائع عنهم " (2)
وقال ابن تيمية عندما سئل عمن يقول:. . . وإن العبد يعمل حتى تحصل له المعرفة، فإذا حصلت زال عنه التكليف - قال: " ومن قال هذا فإنه كافر مرتد باتفاق أئمة الإسلام، فإنهم متفقون على أن الأمر والنهي جار على كل بالغ عاقل إلى أن يموت. . . . " (3)
وقال أيضا: " وليس لأحد ممن أدركه الإسلام: أن يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم إني على علم من علم الله، علمنيه الله لا تعلمه، ومن سوغ هذا، أو اعتقد أن أحدا من الخلق الزهاد والعباد أو غيرهم له الخروج عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ومتابعته، فهو كافر باتفاق المسلمين. ودلائل هذا
__________
(1) مدارج السالكين، ج 3 ص 118.
(2) الشفا، ج 2، ص 612 - 613.
(3) مجموع الفتاوى، ج 11، ص 539. وانظر: ص 405، 419 - 420 من نفس الجزء.(85/145)
من الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر هنا " (1)
وقال العلامة برهان الدين البقاعي: " ومن يعتقد أن لأحد من الخلق طريقا إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر من أولياء الشيطان بالإجماع " (2)
__________
(1) مجموع الفتاوى، ج 11، ص 426.
(2) مصرع التصوف، ص 21.(85/146)
التاسع: الخروج عن شريعة الله باعتقاد أن حكم غير الله أفضل من حكمه
المراد به: هو الاعتقاد بأن تحكيم غير الشريعة الإسلامية أفضل منها.
حكمه: اعتقاد أن حكم غير الله أفضل من حكمه كفر أكبر. يقول ابن كثير: " فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر(85/146)
بإجماع المسلمين " (1)
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: " من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه. . . فهو كافر " (2)
الأدلة: كثيرة منها ما يلي:
1- قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3)
يقول ابن كثير: " يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا " (4)
وقال الرازي: " وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول
__________
(1) البداية والنهاية، ج 13، ص 119. وانظر: تفسير ابن كثير، ج 2، ص 67.
(2) مجموعة التوحيد ص 38.
(3) سورة النساء الآية 65
(4) تفسير ابن كثير، ج 1، ص 520.(85/147)
عليه الصلاة والسلام " (1)
2- قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (2) .
يقو ل ابن كثير - في تفسير الآية -: ". . . فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر " (3)
3- وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (4) ، يقول محمد رشيد رضا - في تفسيره -: " صرح في هذه الآية بما دلت عليه التي قبلها من نفاق هؤلاء الذين يرغبون عن حكم كتاب الله، وحكم رسوله إلى حكم الطاغوت. . . إلى أن قال: والآية ناطقة بأن من صد، وأعرض عن حكم الله ورسوله عمدا، ولا سيما بعد دعوته إليه، وتذكيره به فإنه
__________
(1) تفسير الرازي، ج 10، ص 160. وانظر: أضواء البيان، ج 1، ص 334.
(2) سورة النساء الآية 59
(3) تفسير ابن كثير، ج 1، ص 518، وانظر أضواء البيان، ج 1، ص 333.
(4) سورة النساء الآية 61(85/148)
يكون منافقا لا يعتد بما يزعمه من الإيمان وما يدعيه من الإسلام " (1) ، وبذلك يتضح أن تفضيل حكم غير الله عليه من النفاق الأكبر.
__________
(1) تفسير المنار ج 5 ص 227، وانظر: فتح القدير ج 1 ص 482 - 483، وأضواء البيان ج 7، ص 165.(85/149)
العاشر: الكفر بتعلم السحر الموجب للكفر والعمل به:
تعريف السحر:
لغة: هو كل ما لطف مأخذه ودق.
ويأتي: ويراد به: البيان في فطنة، كما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن من البيان لسحرا (1) » ويأتي ويراد به الخديعة. يقال: سحره بالطعام والشراب أي خدعه.
السحر في الاصطلاح: عرف بتعاريف كثيرة متباينة، وذلك لكثرة الأنواع الداخلة تحته التي لا يتحقق قدر مشترك بينها، ولاختلاف
__________
(1) رواه البخاري في كتاب النكاح باب الخطبة. ومسلم في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة.(85/149)
المذاهب فيه بين الحقيقة والتخييل
ومن ذلك ما قاله ابن قدامة - حيث قال -: " السحر عزائم ورقى وعقد يؤثر في القلوب والأبدان، فيمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه " (1) . وهذا يصدق على ما له حقيقة، وأثر من أنواع السحر.
ومن ذلك أيضا ما قاله أبو بكر الرازي - حيث قال - هو كل أمر خفي سببه، وتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع " (2) . وهذا يصدق على ما لا حقيقة له من أنواع السحر، أو ما هو سحر في اللغة.
__________
(1) الكافي لابن قدامة، ج 4، ص 164.
(2) أحكام القرآن للجصاص، ج 1 ص 42.(85/150)
ونستخلص من هذين التعريفين وغيرهما تعريفا لعله يكون جامعا - إن شاء الله - فنقول: السحر: هو كل ما فيه مخادعة، أو تأثير في عالم العناصر نتيجة الاستعانة بغير الله من شيطان أو نحوه، يشبه الخارق للعادة، وليس فيه تحد يمكن اكتسابه بالتعلم.
حكم تعلم السحر وتعليمه والعمل به:
أولا: حكم تعلم السحر وتعليمه:
اختلف في ذلك على أقوال: الصحيح منها: أن تعلم السحر، وتعليمه حرام للأدلة الدالة من الكتاب والسنة - كما سيأتي بيانه -.
قال ابن قدامة - رحمه الله -: ". . . فإن تعلم السحر وتعليمه حرام لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم " (1) .
لكن ما هي درجة هذا التحريم؟
إن قصد من تعلمه العمل به، وكان فيه قول أو اعتقاد، أو فعل يقتضي الكفر مثل السحر الذي لا يتأتى إلا عن طريق الشياطين ونحوهم - كأن يستغيث بهم، ويدعوهم فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى. أو ينطق بكلمة الكفر من أجل رضاهم، أو يعتقد نفعهم وضرهم بغير إذن الله تعالى، أو يتقرب لهم بذبح أو نحوه، أو يهين
__________
(1) المغني لابن قدامة، ج 8، ص 151.(85/151)
ما أوجب الله تعظيمه من الكتاب العزيز أو غيره، أو يدعي لنفسه أو لشياطينه علم الغيب، ومشاركة الله في ذلك، أو تعلمه معتقدا إباحته فهو كفر، وإلا فهو فسق
قال الإمام الشافعي: " إذا تعلم السحر قيل له: صف لنا سحرك؟ فإن وصف ما يستوجب الكفر. . . . فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر وإلا فلا " (1) .
وقال النووي: " وأما تعلمه وتعليمه فحرام، فإن تضمن ما يقتضي الكفر كفر، وإلا فلا " (2) .
وقال أبو حيان: " وأما حكم السحر فما كان منه يعظم به غير الله من الكواكب والشياطين، وإضافة ما يحدثه الله إليها فهو كفر إجماعا لا يحل تعلمه ولا العمل به، وكذا ما قصد بتعلمه سفك الدماء، والتفريق بين الزوجين والأصدقاء. وأما إذا كان لا يعلم منه شيئا من
__________
(1) أضواء البيان، ج 4، ص 455.
(2) شرح صحيح مسلم للنووي، ج 14، ص 176.(85/152)
ذلك، بل يحتمل فالظاهر أنه لا يحل تعلمه والعمل به. . . " (1)
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: " وقد نص أحمد على أنه يكفر بتعلمه وتعليمه " (2) .
الأدلة: ومنها ما يلي:
الأول: قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (3) .
قال ابن حجر: " فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر " (4) .
وقال الشنقيطي: " وقوله: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (5) صريح في كفر معلم السحر " (6) .
الثاني: قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} (7) .
__________
(1) روائع البيان، ج 1، ص 84.
(2) تيسير العزيز الحميد، ص 335.
(3) سورة البقرة الآية 102
(4) فتح الباري، ج 10، ص 225.
(5) سورة البقرة الآية 102
(6) أضواء البيان، ج 4، ص 442.
(7) سورة البقرة الآية 102(85/153)
قال ابن حجر: " الآية فيها إشارة إلى أن تعلم السحر كفر " (1) .
الثالث: قوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} (2) .
قال مجاهد والسدي: " من نصيب " (3) .
وقال ابن عباس: ( {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ} (4) في الجنة {مِنْ خَلَاقٍ} (5) نصيب) (6) . ونفى النصيب في الآخرة بالكلية لا يكون إلا للكافر عياذا بالله تعالى (7) (8)
ثانيا: حكم العمل بالسحر:
محرم بالكتاب والسنة بلا خلاف بين أهل العلم، ولكن ما هي درجة هذا التحريم؟ إن كان فيه اعتقاد، أو قول، أو فعل يقتضي الكفر مثل: اعتقاد أن الكواكب السبعة أو غيرها مدبرة مع الله. أو أن الساحر قادر على خلق الأجسام، أو اعتقد أن فعله مباح، أو تضمن
__________
(1) فتح الباري، ج 10، ص 225.
(2) سورة البقرة الآية 102
(3) تفسير ابن كثير، ج 1، ص 143.
(4) سورة البقرة الآية 102
(5) سورة البقرة الآية 102
(6) تفسير ابن عباس (الدر المنثور) ، ج 1، ص 46.
(7) أضواء البيان، ج 4، ص 442، وانظر: تفسير الطبري، ج 1، ص 371.
(8) وانظر: مصنف عبد الرازق، حديث، 18753.(85/154)
تقربا إلى الشياطين فهو كفر، أما إذا لم يكن فيه شيء من ذلك، وهو ما يسمى بالسحر المجازي مثل السحر بالأدوية، والتدخين، وسقيا شيء يضر، أو بالحركات الخفية، ونحو ذلك فليس بكفر وإنما هو فسق
يقول النووي: ". . . فعمل السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع. . . ومختصر ذلك أنه قد يكون كفرا، وقد لا يكون كفرا، بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر كفر، وإلا فلا " (1) .
ويقول ابن قدامة: " والساحر الذي يركب المكنسة، وتسير به في الهواء ونحوه يكفر ويقتل، فأما السحر بالأدوية والتدخين، وسقيا شيء يضر فلا يكفر " (2) .
الأدلة: كثيرة منها ما يلي:
1- ما سبق ذكره آنفا من الأدلة الدالة على تحريم تعلم السحر وتعليمه، ذلك أن كل دليل يدل على تحريم تعلم السحر، فدلالته على تحريم العمل به أولى.
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم، ج 14، ص 176.
(2) المقنع ج 3، ص 523 - 524.(85/155)
2- ومن الأدلة أيضا قوله تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (1) .
وجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى نفى الفلاح عن الساحر نفيا عاما، حيث توجه وسلك، وذلك دليل على كفره؛ لأن الفلاح لا ينفى بالكلية نفيا عاما إلا عمن لا خير فيه، وهو الكافر (2)
3- وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (3) .
يقول ابن كثير: " وقد استدل بقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} (4) من ذهب إلى تكفير الساحر، كما هو رواية عن الإمام أحمد، وطائفة من السلف " (5) . وقال الشيخ حافظ: ". . . . وهذا من أصرح الأدلة على كفر الساحر، ونفي الإيمان عنه بالكلية، فإنه لا يقال للمؤمن. . ولو أنه آمن. . وإنما قال تعالى: ذلك لمن كفر. . . وعمل بالسحر. . . . . . " (6) .
4- قوله صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا، أو ساحرا، أو كاهنا فسأله فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (7) » في الحديث.
__________
(1) سورة طه الآية 69
(2) انظر: أضواء البيان، ج 4، ص 442 - 443.
(3) سورة البقرة الآية 103
(4) سورة البقرة الآية 103
(5) تفسير ابن كثير، ج 1، ص 144.
(6) معارج القبول، ج 2، ص 554، وانظر: أحكام القرآن للجصاص ج 1 ص 53، 58.
(7) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح خلا هيبرة بن مريم، وهو ثقة. انظر: مجمع الزوائد، ج 5، ص 121.(85/156)
- كما نرى - تحذير من إتيان العرافين، أو السحرة، أو الكهنة وتصديقهم. مشيرا إلى أن تصديقهم كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا حال الآتي فكيف حال المأتي.
والكفر - هنا - ظاهره الكفر الأكبر، وقيل: الكفر الأصغر، وقيل: من اعتقد أن العراف، أو الساحر، أو الكاهن يعرفان الغيب، ويطلعان على الأسرار الإلهية كان كافرا كفرا أكبر كمن اعتقد تأثير الكواكب وإلا فلا (1)
هذا شيء من الأدلة من الكتاب والسنة، كلها صريحة بتحريم السحر، وعده إما كفرا أو معصية كبيرة، مما يدل على أن السحر قد يكون كفرا، وذلك إذا كان فيه ما يقتضي الكفر، ويكون فسقا إذا لم يكن فيه شيء من ذلك، وهو السحر المجازي.
__________
(1) نيل الأوطار، ج 7، ص 368 (بتصرف) .(85/157)
الحادي عشر: مظاهرة الكفار على المسلمين:
تعريفه: المظاهرة: المعاونة. وظاهر: نصر وأعان. والظهير: المعين. ومنه قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (1) (2)
__________
(1) سورة التحريم الآية 4
(2) انظر: لسان العرب، ج 2، ص 657 - 658. والمصباح المنير، ص 147.(85/157)
والمراد بمظاهرة الكفار: هو إعانتهم ومناصرتهم بسبب قد يؤدي إلى انتصارهم وعلو شأنهم على المسلمين.
أمثلته:
1- الإعانة لهم على المسلمين بالنفس أو المال أو السلاح.
2- الدفاع عنهم، أو عن مبادئهم باللسان أو القلم.
3- التجسس على المسلمين بدافع الرغبة في تيسير انتصار الكفار على المسلمين
حكمه: كفر أكبر، إذا كان بعد المعرفة من مختار غير مختل العقل، ولا مكره، ولا متأول (1)
يقول ابن حزم: ". . . فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختارا محاربا لمن يليه من المسلمين فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام
__________
(1) كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة، انظر: تفسير ابن كثير ج 4 ص 346، وتفسير ابن سعدي ج 8، ص 109.(85/158)
المرتد كلها. . . وأما من فر إلى أرض الحرب؛ لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين، ولا أعانهم عليهم، ولا يجد في المسلمين من يجيره فهذا لا شيء عليه؛ لأنه مضطر مكره " (1) وقال أيضا: ". . . . فإن كان هناك محاربا للمسلمين معينا للكفار. . . فهو كافر " (2) . وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - وهو يتكلم عن نواقض الإسلام -: " الثامن مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين. . . " (3) .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: " وأكبر ذنب. . . وأعظمه منافاة لأصل الإسلام نصرة أعداء الله، ومعاونتهم، والسعي فيما يظهر به دينهم. . . " (4) .
وقالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية: " موالاة الكفار التي يكفر بها من والاهم هي محبتهم ونصرتهم على المسلمين. . . " (5) .
الأدلة: كثيرة منها ما يلي:
1- قال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (6) .
__________
(1) المحلى، ج 11، ص 199 - 200.
(2) المحلى، ج 11، ص 200.
(3) مجموعة التوحيد، ص 39.
(4) مجموع الرسائل النجدية، ج 3، ص 57، وانظر الدرر السنية ج 7 ص 201.
(5) فتاوى اللجنة الدائمة، ج 2، ص 47.
(6) سورة آل عمران الآية 28(85/159)
يقول الطبري: " ومعنى ذلك لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} (1) ، يعني بذلك فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر " (2) .
ويقول ابن سعدي وقوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (3) ، أي إلا أن تخافوا على أنفسكم في إبداء العداوة للكافرين، فلكم في هذه الحال الرخصة في المسالمة. . . لا في التولي الذي هو محبة القلب الذي تتبعه النصرة " (4) .
2- وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (5) .
يقول الطبري - في تفسير هذه الآية -: " فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم. . . " (6) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 28
(2) تفسير الطبري، ج 3، ص 152، وانظر تفسير ابن كثير، ج 1، ص 357.
(3) سورة آل عمران الآية 28
(4) تفسير ابن سعدي، ج 1، ص 178.
(5) سورة المائدة الآية 51
(6) تفسير الطبري، ج 6، ص 179.(85/160)
ويقول القرطبي: (قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} (1) ، أي يعضدهم على المسلمين {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (2) بين تعالى أن حكمه كحكمهم. . .) (3)
ويقول ابن القيم - بعد أن ذكر هذه الآية: " فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم " (4) . ولا يكون كذلك إلا خارج من الملة مثلهم.
3- وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} (5) .
في الآية إخبار عن المنافقين الذين أطمعوا إخوانهم - في الكفر - من أهل الكتاب في نصرتهم وموالاتهم على المؤمنين، وفي ذلك دلالة على أن مظاهرة الكافرين على المؤمنين من النفاق الأكبر
4- إجماع العلماء على كفر من ظاهر الكفار على المسلمين.
يقول ابن حزم: " وصح أن قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (6)
__________
(1) سورة المائدة الآية 51
(2) سورة المائدة الآية 51
(3) الجامع لأحكام القرآن، ج 6، ص 217.
(4) أحكام أهل الذمة لابن القيم، ج 1 ص 67.
(5) سورة الحشر الآية 11
(6) سورة المائدة الآية 51(85/161)
إنما هو على ظاهره، بأنه كافر من جملة الكفار فقط، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين " (1) .
وقال ابن سحمان: ". . . . الذي أجمع عليه العلماء هو ما ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب من نواقض الإسلام، وأنها عشرة. . الثامن: مظاهرة المشركين، ومعاونتهم على المسلمين. . . " (2) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: " وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين، وساعدهم عليهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم، كما قال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (3) (4) .
__________
(1) المحلى، ج 11، ص 138.
(2) الدرر السنية، ج 2 ص 360 - 361.
(3) سورة المائدة الآية 51
(4) مجموع فتاوى ابن باز، ج 1، ص 274.(85/162)
المبحث الثالث: النفاق الأكبر:
تعريفه: في اللغة: النفاق اسم إسلامي، لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به - وهو ستر الكفر وإظهار الإيمان - وإن كان أصله في اللغة معروفا، يقال: نافق اليربوع نفاقا ومنافقة: دخل في نافقائه، ومنه(85/162)
اشتقاق النفاق؛ لأن صاحبه يكتم خلاف ما يظهر
يقول ابن منظور: ". . . . . وهو مأخوذ من النافقاء لا من النفق " (1) .
النفاق في الاصطلاح: هو إظهار الخير، وإسرار الشر (2)
أقسامه: اختلفت عبارات الأئمة في تقسيمه. فبعضهم قال: نفاق اعتقاد، ونفاق عمل كالإمام الترمذي (3) وابن كثير (4) وابن حجر (5)
وبعضهم قال: نفاق أكبر، ونفاق أصغر، كالإمام ابن تيمية (6) وابن القيم (7) وابن رجب (8)
ولعل هذا هو الأولى لسببين:
الأول: أن النفاق الأكبر لا يختص بالجانب الاعتقادي فقط، بدليل أن الله ذكر من صفات المنافقين
__________
(1) لسان العرب، ج 3، ص 694.
(2) تفسير ابن كثير، ج 1 ص 47، وانظر: تفسير ابن سعدي، ج 1، ص 20.
(3) انظر: سنن الترمذي، ج 4، ص 130 - 131.
(4) انظر: تفسير ابن كثير، ج 1، ص 47.
(5) انظر: فتح الباري، ج 1، ص 89.
(6) انظر: مجموع الفتاوى، ج 28، ص 434 - 435.
(7) انظر: مدارج السالكين، ج 1، ص 347.
(8) انظر: جامع العلوم والحكم، ص 375.(85/163)
السخرية بالله ورسوله والمؤمنين، والمناصرة للكفار، ونحو ذلك - وهي أمور عملية - وإن اقترنت بفساد الاعتقاد في الغالب، إلا أن ذلك ليس بلازم.
الثاني: ليس كل نفاق اعتقادي يخرج من الملة، مثل يسير الرياء ونحوه (1)
النفاق الأكبر - وهو المراد هنا - هو أن يظهر الإسلام ويبطن الكفر
قال ابن رجب: " والنفاق الأكبر: هو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه " (2) .
وقال ابن القيم: " وأما كفر النفاق: فهو أن يظهر بلسانه الإيمان، وينطوي بقلبه على التكذيب فهذا هو النفاق الأكبر " (3) .
__________
(1) انظر: نواقض الإيمان الاعتقادية، ص 153.
(2) جامع العلوم والحكم، ص 375.
(3) مدارج السالكين، ج 1، ص 338.(85/164)
أنواعه: ومنها ما يلي:(85/164)
1- تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تكذيب بعض ما جاء به.
2- بغض الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغض ما جاء به
3- عدم اعتقاد وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، كأن لا يعتقد وجوب تصديقه فيما أخبر، ولا وجوب طاعته فيما أمر (1)
4- المسرة بانخفاض الدين الإسلامي، والمساءة بظهوره (2)
ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدوا لله ورسوله.
إذا وقع الموحد في شيء منها أصبح منافقا نفاقا أكبر (3)
__________
(1) ومن آثاره إعراضهم عن حكم الله ورسوله: انظر: الصارم المسلول ص 37.
(2) ومن آثاره مظاهرتهم للكفار على المسلمين: انظر: تفسير ابن كثير، ج 4، ص 204.
(3) مجموع الفتاوى، ج 7، ص 639، ج 28، ص 434، ومجموعة التوحيد، ص 10، (بتصرف) .(85/165)
حكمه: النفاق الأكبر كفر مخرج من الملة - وبذلك ينقض قول: لا إله إلا الله - وفي الآخرة: صاحبه في الدرك الأسفل من النار
قال شيخ الإسلام: " فمن النفاق ما هو أكبر، يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار " (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى، ج 28، ص 434.(85/165)
وقال ابن القيم: - وهو يتكلم عن مراتب المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها: ". . . الطبقة الخامسة عشرة " طبقة الزنادقة، وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسله، وهؤلاء المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار " (1) .
وقال ابن رجب - وهو يتكلم عن النفاق -: ". . . وفي الشرع ينقسم إلى قسمين: أحدهما: النفاق الأكبر. . . وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بذم أهله، وتكفيرهم، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار " (2) .
__________
(1) طريق الهجرتين، ص 698.
(2) جامع العلوم والحكم، ص 375.(85/166)
الأدلة: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وقد نطق القرآن بكفر المنافقين في غير موضع، وجعلهم أسوأ حالا من الكافرين، وأنهم في الدرك الأسفل من النار " (1) .
ومما ورد في ذمهم وتكفيرهم، وأن مصيرهم النار يوم القيامة قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (2) .
وقوله تعالى فيهم:
__________
(1) الصارم المسلول، ص 36.
(2) سورة البقرة الآية 8(85/166)
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} (1) .
وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (2) {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} (3) .
وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (4) . وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} (5) . وغيرها من الآيات كثير.
__________
(1) سورة التوبة الآية 54
(2) سورة التوبة الآية 73
(3) سورة التوبة الآية 74
(4) سورة النساء الآية 145
(5) سورة التوبة الآية 68(85/167)
الخاتمة:
بسم الله بدأنا، وبحمده والشكر له ختمنا، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. . . . أما بعد: فإنه من خلال هذا البحث المتواضع توصلت إلى نتائج هامة، منها ما يلي:
الأولى: أن نواقض كلمة التوحيد هي: اعتقادات، أو أقوال، أو أعمال تناقض حقيقة التوحيد، وتوجب الخروج من الملة.(85/167)
الثانية: أن هذه النواقض كثيرة، تجتمع في أمر واحد - وهو ما يخرج من الملة - وبما أنه لا يخرج من الملة إلا الشرك الأكبر، أو الكفر الأكبر، أو النفاق الأكبر، لذا فهي لا تخرج عن هذه الثلاثة.
الثالثة: أن المسلم إذا وقع في شيء من هذه النواقض قصدا من غير جهل، أو إكراه، أو تأويل يعذر فيه صاحبه، انتقضت لديه شهادة التوحيد، وإن كانت موجودة مع العبد ابتداء، ثم أظهر الإسلام وهي معه لم ينتفع من نطقه بالشهادتين ما دام معه شيء منها.
الرابعة: أن الشرك في اللغة - الخلط والضم - وفي الاصطلاح: كل ما ناقض التوحيد، أو قدح فيه مما ورد في الكتاب أو السنة تسميته شركا، وأنه نوعان: أكبر وأصغر. وأن الأكبر: هو أن يجعل لله ند في ربوبيته أو ألوهيته، أو أسمائه وصفاته.
الخامسة: أن الشرك الأكبر مخرج من الملة، محبط لجميع الأعمال، لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، ومن مات عليه فهو مخلد في النار. وبذلك كان من نواقض قول لا إله إلا الله.
السادسة: أن الشرك الأكبر ثلاثة أنواع:
الأول: الشرك في الربوبية، كشرك من جعل مع الله ربا آخر، وشرك من قال بالقدر، وشرك غلاة الصوفية، وشرك من جعل لله ندا في التشريع.(85/168)
الثاني: الشرك في الأسماء والصفات: ومن ذلك التشبه بالله، أو تشبيه المخلوق به في الاسم أو الصفة التي لا تنبغي إلا لله وحده.
الثالث: الشرك في الألوهية: وهو أن يجعل لله شريك في العبادة، أو في نوع منها بالاعتقاد أو القول أو العمل، ومن ذلك الشرك في دعاء العبادة، والشرك في دعاء المسألة، والشرك في الطاعة، والشرك في المحبة.
السابعة: أن الكفر في أصل اللغة الستر والتغطية، وفي الاصطلاح: كل ما يناقض الإيمان، أو ينقص كماله الواجب مما ورد في الكتاب أو السنة تسميته كفرا، وأنه نوعان: أكبر وأصغر.
وأن الأكبر: هو كل ما ينافي الشهادتين، أو إحداهما من اعتقاد، أو قول، أو عمل، ويوجب لصاحبه الخروج من الملة والخلود في النار.
الثامنة: أن الكفر الأكبر: مخرج من الملة، وفي الآخرة مخلد في النار. لذا كان من نواقض قول لا إله إلا الله.
التاسعة: أن الكفر الأكبر أنواع، منها:
1- كفر التكذيب: وهو الإنكار بالقلب واللسان لأصل من أصول الدين، أو حكم، أو خبر ثابت مما هو معلوم من الدين بالضرورة بعد المعرفة.(85/169)
2- كفر الجحود، وهو الإنكار باللسان مع المعرفة بالقلب لأصل من أصول الدين، أو حكم، أو خبر ثابت مما هو معلوم من الدين بالضرورة قصدا من غير جهل، أو إكراه، أو تأويل يعذر فيه صاحبه.
3- كفر الإباء والاستكبار، وهو الامتناع عن الانقياد لأمر الله، أو أمر رسوله، إباء واستكبارا مع معرفة أنه حق.
4- كفر الإعراض، وهو الإعراض التام عن الحجة، وعدم إرادتها، والعمل بها وبموجبها إعراضا يخل بأصل الإيمان.
5- كفر الشك: وهو التردد بين الإيمان وعدمه في شيء من أصول الدين، أو بين التصديق وعدمه بخبر أو حكم ثابت مما هو معلوم من الدين بالضرورة.
6- كفر الاستهزاء بشيء من دين الله.
7- كفر البغض لشيء من دين الله: وهو ما تضمن الكراهية لأمر الله، أو أمر رسوله لاعتقاد أنه خلاف الحق والصواب، واستلزم الاعتراض على الحكم وتسخطه.
8- كفر الخروج عن شريعة الله: وهو اعتقاد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
9- الخروج عن شريعة الله باعتقاد أن حكم غير الله أفضل(85/170)
من حكمه.
10- الكفر بتعلم السحر الموجب للكفر، والعمل به.
11- مظاهرة الكفار على المسلمين.
العاشرة: أن النفاق في اللغة مأخوذ من نافقاء اليربوع، وفي الاصطلاح: إظهار الخير وإسرار الشر، وأنه قسمان على قولين، أظهرهما أنه نفاق أكبر، ونفاق أصغر.
الحادي عشر: أن النفاق الأكبر، هو أن يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وأنه أنواع، منها:
1- تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بعض ما جاء به.
2- بغض الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بعض ما جاء به.
3- عدم اعتقاد وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
4- المسرة بانخفاض الدين الإسلامي، والمساءة بظهوره. إذا وقع الموحد في شيء منها أصبح منافقا نفاقا أكبر.
الثاني عشر: أن النفاق الأكبر مخرج من الملة - وبذلك ينقض قول لا إله إلا الله - وصاحبه في الآخرة في الدرك الأسفل من النار.
هذه أهم النتائج التي توصلت إليها.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(85/171)
صفحة فارغة(85/172)
المسيح الدجال
للدكتورة أسماء بنت سليمان بن عبد الرحمن السويلم
مقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فعليه الصلاة وعليه السلام وبعد:
فمن رحمة الله سبحانه بنا أن أرسل لنا محمدا رؤوفا رحيما، وهاديا إلى الخير، ومبشرا ونذيرا، فكان هو الدال لأمته إلى طريق السعادة، المحذر لها من طرق الفتنة والغواية، وهذا دأب الرسل عليهم الصلاة والسلام، كل رسول يبلغ عن ربه البلاغ المبين، وينذر أمته، ويحذرها من كل فتنة، ولقد اشترك الرسل عليهم الصلاة والسلام في التحذير من فتنة عظيمة، كل نبي يخاف أن تدرك أمته،(85/173)
وقد مضت الأمم ولم تبق إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا الشر، وهذه الفتنة خارج فيها لا محالة، لذا كان عليه الصلاة والسلام من أشد الرسل بيانا وتحذيرا من هذه الفتنة العظيمة، إنها فتنة المسيح الدجال، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذر قومه (1) »
ولما كانت فتنته شديدة، وخطره عظيما على الناس، وكان يخرج في وقت يقل ذكره، ويجهل وصفه وحاله كان لزاما إفراد الكتابة عنه، وتتبع ما ورد عن صفته وحاله وأخباره، وقد قسمت البحث إلى مقدمة ومبحثين وخاتمة وهي:
المقدمة:
المبحث الأول: تعريف عام بالدجال، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: اسم الدجال وصفاته.
المطلب الثاني: مكان وزمان خروج الدجال، والبقاع المحرم عليه دخولها.
المطلب الثالث: فتنة الدجال، وكيف نتقيها، وماذا نفعل إذا وقعت.
__________
(1) عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، أبواب الفتن، باب ما جاء في علامة الدجال (9 \ 84) .(85/174)
المطلب الرابع: مدة مكثه في الأرض، وأتباعه، ونهايته.
المبحث الثاني: اختلافات حول الدجال، وفيه ثلاث مطالب:
المطلب الأول: الدجال بين المثبتين والمنكرين.
المطلب الثاني: حياة الدجال، ووجوده الآن (خبر تميم الداري) .
المطلب الثالث: مقارنة بين ابن صياد والدجال، وأقوال العلماء في ذلك.
الخاتمة.
هذا وإن كان كثير من الكتب والمراجع تكلمت عن الدجال، وبعضها جمع المعلومات في مبحث واحد إلا أني حاولت التلخيص والتنقيط والتقسيم لهذه المعلومات؛ لأضيف ولو لمسة جديدة لما كتب، هذا والله أسأل أن ينفعني بما علمني، ويغفر لي زللي، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(85/175)
المبحث الأول: تعريف عام بالدجال:
المطلب الأول: اسم الدجال وصفاته:
وردت نصوص السنة النبوية بذكر هذه الفتنة العظمى باسم " المسيح الدجال "، أو " الدجال " فما معناهما؟ !(85/175)
معنى المسيح:
" المسيح " فعيل، فتأتي إما بمعنى فاعل، أو بمعنى مفعول، ومن هنا كان اختلاف العلماء في اشتقاق لفظ " المسيح " خاصة، وأنه ورد إطلاقها على مسيح الهداية " المسيح عيسى عليه السلام "، وأطلقت على مسيح الغواية والضلال " المسيح الدجال "، وقد ذكر القرطبي ثلاثة وعشرين قولا في اشتقاق هذا اللفظ (1) وقيل: إنه أوصلها إلى خمسين قولا (2)
والمسح في اللغة: إمرارك يدك على الشيء السائل والمتلطخ، تريد إذهابه بذلك (3) وسمي بالدجال " مسيحا "؛ لأن عينه الواحدة ممسوحة، فهو فعيل بمعنى مفعول. وقيل: بل سمي مسيحا؛ لأنه يمسح الأرض في أربعين يوما فهو فعيل بمعنى فاعل.
أما عيسى ابن مريم عليه السلام فسمي " مسيحا "؛ لأنه كان يمسح على المريض فيبرأ بإذن الله، فهو فعيل بمعنى فاعل، وقيل: بل سمي مسيحا؛ لأنه مسح بالبركة، مسحه زكريا عليه السلام فهو فعيل
__________
(1) انظر: التذكرة (ص 795) .
(2) انظر: القاموس المحيط للفيروز آبادي (309) .
(3) انظر: لسان العرب لابن منظور (2 \ 593) ، القاموس المحيط (309) .(85/176)
بمعنى مفعول (1)
وقيل: المسيح ابن مريم الصديق، وضد الصديق المسيح الدجال، أي الضليل الكذاب. خلق الله المسيحين: أحدهما ضد الآخر (2)
والناظر لأقوال العلماء يجد لها مساغا في اللغة، فقد يجتمع أن يسمى " المسيح " بهذا الاسم لأكثر من مناسبة وسبب، والله أعلم.
معنى الدجال:
الدجل في اللغة: هو بمعنى التغطية، يقال: دجل الشيء. غطاه، وهو دجال: كاذب؛ لأن الكذب تغطية، ويأتي بمعنى التمويه والتلبيس والخلط أيضا، والدجال هو: المسيح الكذاب، وسمي بذلك لتمويهه على الناس، وتلبيسه، وتزيينه الباطل، وفعال: من أبنية المبالغة أي: يكثر منه الكذب والتلبيس (3)
هذا عن اسمه، أما عن أوصافه فلقد أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر أوصافه، وتبيين حاله أكثر من غيره من الأنبياء، لأنه آخر الأنبياء وليقينه أنه خارج في هذه الأمة لا محالة.
__________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث (4 \ 326) ، لسان العرب (2 \ 594) بزيادة وتصرف.
(2) انظر: لسان العرب (2 \ 595) .
(3) انظر: لسان العرب (11 \ 236) . القاموس المحيط (1289) .(85/177)
ففي صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال: " إني لأنذركموه، وما من نبي إلا أنذره قومه، ولكني سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه، إنه أعور، وإن الله ليس بأعور (1) »
ويمكن تلخيص أوصافه كما وردت في النصوص بما يلي:
1- رجل شاب.
2- " هجان - أزهر - أقمر " أي: أبيض به حمرة من شدة بياضه.
3- قصير.
4- أفحج: متباعد ما بين الساقين.
5- شديد جعودة الشعر مع كثافته.
6- أجلى الجبهة.
7- عريض النحر، ضخم الجثة.
8- أعور العين، ولقد ركز رسول الله صلى الله عليه وسلم على عور عينه؛ لأنها صفة ظاهرة لكل أحد، ولا يمكنه التخلص منها.
وقد ذكرت بعض الأحاديث أن العين العوراء هي اليمنى، وجاء
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال (فتح الباري (13 \ 90) .(85/178)
في أحاديث أخرى أنها اليسرى، وتكلم العلماء على هذا الاختلاف، فرجح بعضهم أن العور هو في العين اليمنى؛ لأن أحاديثها مما اتفق البخاري ومسلم على إخراجه (1)
وذهب النووي (2) رحمه الله إلى أن جميع الروايات التي وصفت عينيه كلتاهما بالعور روايات صحيحة، فالعور في اللغة العيب، وعينا الدجال كلتاهما معيبتان.
أما العين اليمنى: فورد أنها عوراء طافئة بالهمز، أي لا ضوء فيها، فلا يرى بها، وهذه العين ممسوحة غير ناتئة ولا غائرة.
أما العين اليسرى فهي معيبة لظهورها وبروزها، وهي المذكورة في الأحاديث بأنها " طافية " من الطفو والبروز، وهذه العين لم يذهب نورها فهو يرى، ويبصر بها، وذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه العين خضراء كالزجاجة.
9- من صفاته: عقيم لا يولد له.
10- مكتوب بين عينيه: ك ف ر، يقرؤها كل مؤمن قارئ أو ليس بقارئ، وهذه كتابة حقيقية تدل على كذبه.
__________
(1) انظر: فتح الباري (13 \ 97) .
(2) شرح النووي على مسلم (18 \ 62) ، (2 \ 235) .(85/179)
11- تنام عينيه ولا ينام قلبه
تنبيه:
قيل: إن الدجال ليس بإنسان بل هو شيطان موثق ببعض الجزائر، وقيل: إن أمه كانت جنية عشقت أباه فأولدها إياه، فكانت الشياطين تعمل له العجائب، فحبسه سليمان عليه السلام، وقيل: إنه من أولاد شق الكاهن أو هو نفسه، وقال السفاريني بعد ذكره لهذه الأقوال: " وهذا القول ليس بصائب " (1)
ثم إنها كلها أقوال لا تستند إلى نص صريح، بل النصوص الصحيحة في وصف الدجال، وفي بيان حاله تعارضها، وأمور الغيب محصورة في الخبر الصادق فقط.
__________
(1) لوامع الأنوار (2 \ 86) .(85/180)
المطلب الثاني: مكان وزمان خروج الدجال، والبقاع المحرم عليه دخولها:
إن خطر فتنة الدجال كبير، لذلك كثر تحذيره صلى الله عليه وسلم من فتنة الدجال، وذكر أمورا كثيرة تتعلق بهذه الفتنة من ذكر صفاته، ومكان خروجه، وصفة الزمن الذي يخرج فيه، وفتنته التي يجريها الله على يديه؛ ليكون المؤمن على بينة من أمر هذا الدجال ليحذره.
فمن أين يخرج الدجال؟ !
أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخرج من قبل المشرق، من منطقة خراسان من بلدة أصبهان، فمن هنا يكون بدء خروجه، ثم يسير في الأرض، فلا يترك بلدا إلا دخله إلا ما حرم عليه دخوله من: مكة، والمدينة، والمسجد الأقصى، ومسجد الطور كما سيأتي، وفي حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الدجال: " ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو، وأومأ بيده إلى المشرق (1) »
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها: خراسان (2) » وعن أنس
__________
(1) صحيح مسلم مع شرح النووي (18 \ 83) .
(2) رواه الترمذي في كتاب الفتن باب ما جاء من أين يخرج الدجال (9 \ 88) ، عارضة الأحوذي.(85/181)
رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال من يهودية أصبهان، معه سبعون ألفا من اليهود (1) »
متى يخرج الدجال؟
لم تحدد السنة عاما محددا لخروجه، ولكن ذكرت أمارات يدل وقوعها على قرب خروجه، ومن هذه الأمارات.
1- قلة العرب:
فروى مسلم في صحيحه، عن أم شريك أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليفرن الناس من الدجال في الجبال "، قالت أم شريك: يا رسول الله، فأين العرب يومئذ. قال: قليل (2) »
2- الملحمة وفتح القسطنطينية:
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك ملحمة كبرى ستقع بين المسلمين والروم، ينتصر فيها المسلمون، ويفتحون القسطنطينية، وبالتكبير، والتهليل تسقط أسوارها، وعند اقتسامهم الغنيمة بعد الفتح يسمعون
__________
(1) الفتح الرباني ترتيب مسند أحمد (24 \ 73) ، وانظر في مكان خروجه - فتح الباري (13 \ 91) ، وأشراط الساعة للوابلي (308) .
(2) صحيح مسلم مع شرح النووي (18 \ 86) ، كتاب الفتن، باب بقية من أحاديث الدجال.(85/182)
صريخا أن الدجال قد خلفكم في ذراريكم " فكان فتح القسطنطينية، وغزو الروم مؤذنا بخروج الدجال.
روى أبو داود، عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عمران بيت المقدس، خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال (1) »
وروى مسلم، عن جابر بن سمرة، عن نافع بن عتبة رضي الله عنهما أنه قال: «حفظت منه [من رسول الله صلى الله عليه وسلم] أربع كلمات أعدهن في يدي قال:
" تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله عز وجل، ثم فارس فيفتحها الله عز وجل، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله " قال: فقال نافع: يا جابر، لا نرى أن الدجال يخرج حتى تفتح الروم (2) » وهذه الأحاديث تدل أن للمسلمين حينها قوة وشأنا.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الملاحم، باب في أمارات الملاحم (17 \ 208) . من بذل المجهود.
(2) رواه مسلم في صحيحه في كتاب الفتن وأشراط الساعة (18 \ 26) بشرح النووي.(85/183)
3- انحباس المطر والنبات:
من أمارات خروج الدجال ما يصيب الناس من إجداب لأرضهم، وقحط في أوقاتهم لانحباس المطر عنهم، فيبتلون بلاء شديدا، ويفزع الناس حينئذ للتسبيح والتهليل فهو معاشهم بدل الماء والطعام، حينها يخرج الدجال ومعه الأطعمة والأشربة ليفتن بها الناس.
ففي سنن ابن ماجه، وصحيح ابن خزيمة، ومستدرك الحاكم، عن أبي أمامة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد، يصيب الناس فيها جوع شديد، يأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض أن تحبس ثلث نباتها، ثم يأمر السماء في الثانية فتحبس ثلثي مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله، فلا تقطر قطرة، ويأمر الأرض فتحبس نباتها كله، فلا تنبت خضراء، فلا يبقى ذات ظلف إلا هلكت، ما شاء الله، قيل: فما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال: التهليل، والتكبير، والتحميد، ويجزئ ذلك عليهم مجزأة الطعام (1) »
4- ذكر الدجال ثلاث علامات لخروجه كما في حديث تميم
__________
(1) صحيح الجامع للألباني (2 \ 1302) برقم (775) .(85/184)
الداري - والذي سيأتي بتمامه إن شاء الله في المبحث الثاني - ذكر أن من علامات خروجه: جفاف بحيرة طبرية الواقعة بالشام، وجفاف عين زغر وهي بلدة قريبة من بيت المقدس، وتوقف نخل بيسان عن إعطاء الثمر، وبيسان قرية بالشام جنوبي طبرية، وأيضا ناحية باليمامة.
5- قلة ذكره على المنابر، وشيوع الجهل به:
فهذه أمارات وعلامات تؤذن بخروج الدجال حين حدوثها
البقاع المحرم عليه دخولها:
تقدم أن الدجال يخرج من خراسان، ويسيح في الأرض بعدها، فلا يترك مكانا إلا وطئه ودخله، وعمه بفتنته، ولكن حرم الله تعالى عليه مدنا ومساجد لا يستطيع دخولها؛ تحرسها الملائكة، وتمنعه منها مع قدومه إليها رغبة في دخولها ولكن هيهات؟ فالملائكة له بالمرصاد. فمن المدن المحرمة عليه: مكة والمدينة، لما في حديث تميم الداري قوله: «غير مكة وطيبة فهما محرمتان عليه كلتاهما (1) » والمساجد المحرمة عليه أربعة؛ لما في الحديث، عن جنادة بن أبي
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه (17 \ 83) ، بشرح النووي.(85/185)
أمية الأزدي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الدجال، وقال: «إنه يمكث في الأرض أربعين صباحا يبلغ فيها كل منهل، ولا يقرب أربعة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد الطور، ومسجد الأقصى (1) »
__________
(1) الفتح الرباني (24 \ 76) ، وقال ابن حجر في الفتح (13 \ 15) : '' أخرجه أحمد، ورجاله ثقات ''.(85/186)
المطلب الثالث: فتنة الدجال، وكيف نتقيها؟ وماذا نفعل إذا وقعت؟
فتنة الدجال:
من أعظم الفتن التي تمر على الناس أجمع فتنة الدجال، لذلك كان خروجه من أشراط الساعة الكبرى، وفي صحيح مسلم، عن عمران بن الحصين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال "، في رواية: " أمر أكبر من الدجال (1) » بل إنه - ذكر - أن فتنة الدجال قريبة في شدتها من فتنة القبر - أعاذنا الله منهما - ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «ما من شيء لم أكن أريته إلا أريته في مقامي هذا، حتى رأيت الجنة والنار، ولقد أوحي إلي أنكم
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (18 \ 86) ، كتاب الفتنة، باب في بقية من أحاديث الدجال.(85/186)
تفتنون في قبوركم مثل أو قريب من فتنة المسيح الدجال (1) » لذلك كان كل نبي ينذر أمته الأعور الدجال؛ مخافة أن يخرج فيهم؛ إذ هو من أشراط الساعة الكبرى، والساعة لا يعلم وقتها إلا الله تعالى، لذلك كان كل نبي ينذره قومه، وكان محمد صلى الله عليه وسلم من أشدهم تحذيرا وبيانا لصفته، وبيانا لما يجري على يديه من فتن وخوارق تضل الناس، ومن هذه الفتن:
1- جنته وناره:
فالدجال معه جنة ونار، أو معه ما يشبه نهرا من ماء، ونهرا من نار، وواقع الأمر ليس كذلك كما يبدو للناس؛ فإن الذي يرونه نارا إنما هو ماء بارد. وحقيقة الذي يرونه ماء باردا نار.
ففي صحيح مسلم، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار (2) »
وفي صحيح البخاري، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الدجال: «إن معه ماء ونارا، فناره ماء بارد، وماؤه نار (3) »
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب من لم يتوضأ إلا من الغشي المثقل (1 \ 288) من فتح الباري.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي (18 \ 62) .
(3) صحيح البخاري كتاب الفتن، باب ذكر الدجال (13 \ 90) فتح) .(85/187)
وقيل: كيف تكون ماؤه نارا، وناره ماء. . أهو على الحقيقة أم على سبيل التخييل؟ !!!
قال ابن حجر: " إما أن يكون الدجال ساحرا فيخيل الشيء بصورة عكسه، وإما أن يجعل الله باطن الجنة التي يسخرها الدجال نارا، وباطن النار جنة. وهذا الراجح. وإما أن يكون ذلك كناية عن النعمة والرحمة بالجنة، وعن المحنة والنقمة بالنار، فمن أطاعه فأنعم عليه بجنته يؤول أمره إلى دخول نار الآخرة وبالعكس، ويحتمل أن يكون ذلك من جملة المحنة والفتنة، فيرى الناظر إلى ذلك من دهشته النار فيظنها جنة وبالعكس " (1)
2- استجابة الجماد والحيوان لأمره:
من فتنته التي يمتحن الله بها عباده أنه يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، ويدعو البهائم فتتبعه، ويأمر الخرائب أن تخرج كنوزها المدفونة فتستجيب، ومعه من جبال الخبز والطعام الوفير ما يكون فتنة للناس، خاصة مع فقرهم وحاجتهم وجدب الأرض وقحطها، فمن فتنته من أطاعه أمطر له السماء، وأنبت له الأرض، وأطعمه وأغناه، ومن عصاه وكذبه كان أحوج وأعوز ما يكون.
__________
(1) انظر: فتح الباري (13 \ 99) .(85/188)
وفي حديث النواس بن سمعان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا، وأسبغه ضروعا، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأمرهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل (1) »
3- سرعته في الأرض ووطؤه بقاعها إلا ما حرم عليه فيها، وفي الحديث: «قلنا: يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض؟ قال: " كالغيث استدبرته الريح (2) »
4- استعانته بالشياطين في التمثل بصور أشخاص ماتوا، يزعم أنه يحييهم، كما سيأتي معنا في حديث الأعرابي، وفتنته له بزعمه أنه يحيي أمه وأباه وهو كاذب، وإنما هما شيطانان تصورا بصورة أبيه وأمه.
5- فتنته في الإحياء والإماتة:
قتله ذلك الشاب القوي الإيمان الذي يخرج للدجال، ويجهر بكذب الدجال، وبطلان الربوبية، فيشقه الدجال جزلتين يمشي بينهما، ثم يعيده مرة أخرى، فيقول الشاب: ما ازددت فيك إلا بصيرة
__________
(1) صحيح مسلم شرح النووي (18 \ 66) .
(2) صحيح مسلم شرح النووي (18 \ 66) .(85/189)
وأنك أنت الأعور الدجال، فيذهب ليضرب عنقه فلا يستطيع، فيقذف به في نار الدجال، فيحسب الناس إنما قدمه إلى نار حقيقية، وإنما ألقي في الجنة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر خبره: «هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين (1) »
هذه الفتنة العظيمة للدجال هي من أول أشراط الساعة الكبرى؛ إذ الأشراط الكبرى على قسمين:
1- أمارات للساعة تدل على قربها كالدجال، ونزول عيسى، ويأجوج ومأجوج، والخسف.
2- وأمارات تدل على حصولها، وبها يغلق باب التوبة، وأولها طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والدخان، والنار التي تحشر الناس (2)
ولم يرد حديث يرتب لنا أشراط الساعة، بل ذكرت أحاديث كثيرة تجمع بين بعضها حينا، وتفرق أخرى (3) وفي بعض الأحاديث ذكرت بعض الأشراط، ووصفتها بأنها أول الأشراط أو آخرها. من
__________
(1) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (18 \ 66) ، وانظر: القيامة الصغرى للأشقر (237 - 241) باختصار وتصرف، أشراط الساعة للوابلي (313) .
(2) انظر: فتح الباري (11 \ 352) بتصرف، والقيامة الصغرى للأشقر (127) .
(3) انظر: صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب الآيات التي تكون قبل الساعة.(85/190)
ذلك ما روى مسلم في صحيحه، عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: «اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال: " ما تذاكرون "؟ قالوا: نذكر الساعة: قال: " إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات " فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس، من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام، ويأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم (1) »
وورد في طلوع الشمس من مغربها قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا (2) »
وبخروج الشمس من مغربها يقفل باب التوبة، ولا يقبل إيمان ولا عمل؛ لما ورد في صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون، فذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب في الآيات التي تكون قبل الساعة (18 \ 27) ، نووي، ورواه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في الخسف (9 \ 3) عارضة الأحوذي)
(2) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب في خروج الدجال (18 \ 77) .(85/191)
كسبت في إيمانها خيرا (1) »
والنصوص تدل بسياقها وأحداثها على أن خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، ويأجوج ومأجوج قبل طلوع الشمس من مغربها، إذ ما زال باب التوبة والإيمان مفتوحا، وعيسى عليه السلام لا يقبل إلا الإيمان، لذلك وجه العلماء هذا الحديث المصرح بأن طلوع الشمس من مغربها هي أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة (2)
وقيل: هي أولية نسبية، فهي أول بالنسبة إلى كذا، وذاك أول بالنسبة إلى كذا، فطلوع الشمس من مغربها أول الآيات المؤذنة بتغير العالم العلوي، والدجال كما ورد في حديث آخر أنه أول الأشراط أولها بالنسبة للآيات المؤذنة بتغير أحوال العالم الأرضي.
وقيل: إن طلوع الشمس من مغربها أول الآيات التي ليست مألوفة، وإن كان الدجال، ونزول عيسى من السماء قبل ذلك، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج كل ذلك أمور مألوفة؛ لأنهم بشر مشاهدة مثلهم مألوفة.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب (11 \ 352) فتح) .
(2) فتح الباري (11 \ 353) .(85/192)
أما خروج الدابة تكلمهم، وتسمهم بالإيمان أو الكفر فأمر خارج عن مجاري العادات، وذلك أول الآيات الأرضية، كما أن طلوع الشمس من مغربها على خلاف عادتها المألوفة، أول الآيات السماوية. (1)
فخروج الدجال سابق على طلوع الشمس من مغربها، خلافا لمن قال بالأولية المطلقة لطلوع الشمس من مغربها، وأنها أول الأشراط الكبرى (2)
أما بالنسبة لغلق باب التوبة فإنه يكون بطلوع الشمس من مغربها؛ لما تقدم من نصوص، والمفسرة لقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} (3)
ولكن قد يشكل عليه ما رواه مسلم في صحيحه من طريق أبي حازم، عن أبي هريرة يرفعه: «ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض (4) » .
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية (2 \ 758) .
(2) انظر: عمر أمة الإسلام (82) ، فقد جاء أشراطها (74) .
(3) سورة الأنعام الآية 158
(4) صحيح مسلم الإيمان (158، 158) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3072، 3072) ، سنن أبي داود الملاحم (4312، 4312) ، سنن ابن ماجه الفتن (4068، 4068) ، مسند أحمد (2/446، 2/446) .(85/193)
فالعلماء متفقون على أنه بطلوع الشمس من مغربها يغلق باب التوبة لتصريح النصوص بذلك.
أما عن الدجال فذكره مشكل؛ إذ نزول عيسى عليه السلام يعقب خروج الدجال، وعيسى لا يقبل إلا الإيمان، فينتفي أن يكون بخروج الدجال لا يقبل الإيمان ولا التوبة (1)
لذا قال البيهقي: إن كان في علم الله أن طلوع الشمس سابق احتمل أن يكون المراد نفي النفع عن أنفس القرن الذين شاهدوا ذلك، فإذا انقرضوا، وتطاول الزمان، وعاد بعضهم إلى الكفر عاد تكليفه الإيمان بالغيب، وكذا في قصة الدجال: لا ينفع إيمان من آمن بعيسى عند مشاهدة الدجال، وينفعه بعد انقراضه.
ولكن ذكر ابن حجر - رحمه الله - عدة آثار يشد بعضها بعضا تتفق على أن الشمس إذا طلعت من المغرب أغلق باب التوبة، ولم يفتح بعد ذلك، وأن ذلك لا يختص بيوم الطلوع، بل يمتد إلى يوم القيامة (2)
ويحتمل أن هذه النصوص في استمرار غلق باب التوبة لطلوع الشمس من مغربها فقط، ولا تشمل خروج الدجال.
__________
(1) انظر: تفسير الطبري (8 \ 77) ، فتح الباري (11 \ 353) .
(2) فتح الباري (11 \ 354 - 355) ، باختصار وتصرف، وانظر: أشراط الساعة للوابلي (397) .(85/194)
ومن أحسن ما قيل في هذه المسألة:
إنه يحتمل معنى «ثلاث إذا خرجن (1) » ، أي انتهى خروجهن كلهن، فمن لم يؤمن، ولم يتعظ عند خروج الآية الأولى - وهي الدجال - وهو يشاهد فتنه وضلالاته، فهو ممن ران الكفر على قلبه، فعند ذلك لا تنفعه توبته عند مشاهدة الآية العظمى، وهي طلوع الشمس من مغربها.
وهذا بمعنى الحديث الذي رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، وغيرهم، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر (2) » ، فالذي يمرض مرض الموت، ولا يبادر إلى التوبة أملا من أنه سيشفى ويعيش بعده، لا تنفعه التوبة عند معاينة ملك الموت عند الغرغرة " (3) وإن كانت تنفعه في حال المرض، والذي هو إشارة على قرب الموت.
كيف نتقي هذه الفتنة، وماذا نعمل إذا وقعت وعايناها؟
لقد أشارت نصوص السنة النبوية المطهرة إلى أمور تقي بإذن الله من فتنة الدجال منها:
1- التمسك بالإسلام، وتقوية الإيمان للمؤمن، والحرص
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (158، 158) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3072، 3072) ، مسند أحمد (2/446، 2/446) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3537، 3537) ، سنن ابن ماجه الزهد (4253، 4253) ، مسند أحمد (2/132، 2/132) .
(3) انظر: فقد جاء أشراطها (77)(85/195)
على زيادة نصيبه من العلم الشرعي، مع العلم بأسماء الله وصفاته، والعلم بحال الدجال، وما ورد في فتنته.
2- التعوذ بالله من فتنة الدجال، وخاصة دبر الصلوات المكتوبة، لما ورد في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال (1) »
3- حفظ أوائل، أو أواخر سورة الكهف العشر الآيات منها، فإن حفظها الآن وقراءتها في وجه الدجال عند ملاقاته عصمة من فتنته بإذن الله، لما في حديث النواس بن سمعان في صحيح مسلم، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «من أدركه منكم، فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف (2) » .
وفي حديث آخر أن نفس حفظ هذه العشر الآيات عصمة من الدجال، قال صلى الله عليه وسلم: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال (3) » .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، (5 \ 87) ، كتاب المساجد، باب التعوذ من عذاب القبر وعذاب جهنم.
(2) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937، 2937) ، سنن الترمذي الفتن (2240، 2240) ، سنن أبي داود الملاحم (4321، 4321) ، سنن ابن ماجه الفتن (4075، 4075) .
(3) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (809، 809) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2886، 2886) ، سنن أبي داود الملاحم (4323، 4323) ، مسند أحمد (6/450، 6/450) .(85/196)
4- سكنى مكة والمدينة، ففيهما عصمة للمؤمنين من فتنته؛ لما تقدم من أنه محرم عليه دخولهما.
5- بث أحاديث الدجال، وتعليمها للصغار وللعامة، إذ هو يخرج في زمن يقل فيه ذكره، ويكثر فيه الجهل بحاله (1)
أما ماذا يفعل المؤمن إذا سمع بخروج الدجال أو قابله؟
لقد أرشدت السنة النبوية إلى كيفية تصرف المسلم حيال هذه الفتنة العظيمة إذا وقعت من ذلك:
1- الفرار من الدجال، وعدم ملاقاته لما معه من الفتن التي قد تزعزع الإيمان، لما روى أبو داود وغيره، عن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه، وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات (2) »
2- الفرار إلى مكة والمدينة، أو مسجد الطور، أو المسجد الأقصى؛ لأنه محرم عليه دخولهم لما تقدم، فيفر المؤمن إذا سمع بالدجال إلى أحد هذه المساجد.
3- وإن قدر الله على العبد ملاقاة الدجال ومواجهته فعليه أن
__________
(1) انظر: لوامع الأنوار البهية (2 \ 106 - 107)
(2) سنن أبي داود، كتاب الملاحم، باب خروج الدجال (17 \ 238) ، بذل المجهود.(85/197)
يقرأ فواتح سورة الكهف في وجهه، ويستعين بالله تعالى، ويثبت لما في صحيح مسلم: «فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف (1) » .
4- الشرب أو الوقوع في نار الدجال فإنها ماء بارد، لما ورد في صحيح مسلم بعد ذكر جنة الدجال، وناره قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه نارا فإنه ماء عذب طيب (2) » ، وفي حديث آخر: «فإما أدركن أحد، فليأت الذي يراه نارا وليغمض، ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه فإنه ماء بارد (3) »
5- اللحاق بالجماعة المسلمة الموجودة آنذاك، والتي يقودها عيسى ابن مريم عليه السلام حينما ينزل لقتال الدجال.
__________
(1) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937، 2937) ، سنن الترمذي الفتن (2240، 2240) ، سنن أبي داود الملاحم (4321، 4321) ، سنن ابن ماجه الفتن (4075، 4075) .
(2) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2934، 2934) .
(3) صحيح مسلم كتاب الفتن، باب ذكر الدجال (18 \ 61) نووي، وانظر في العصمة من فتنة الدجال: أشراط الساعة للوابلي (325) ، فقد جاء أشراطها (367) ، صحيح أشراط الساعة لشلبي (249) ، القيامة الصغرى للأشقر (245) . الحياة بعد الموت للجمل (161) ، معارج القبول لحافظ حكمي (2 \ 69) .(85/198)
المطلب الرابع: مدة مكثه في الأرض، وأتباعه، ونهايته:
مكثه في الأرض:
يمكث الدجال في الأرض أربعين يوما - كما جاء في الحديث(85/198)
اليوم الأول يطول، ويكون طوله طول سنة، والثاني كالشهر، والثالث كالجمعة في طوله، وبقية أيامه كأيامنا المعتادة.
روى مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه سؤال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عن مدة مكث الدجال في الأرض فقالوا: «وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. قلنا: يا رسول الله: فذاك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، " اقدروا له قدره (1) »
قال النووي معلقا على هذا الحديث:
قال العلماء: هذا الحديث على ظاهره، وهذه الأيام الثلاثة طويلة على هذا القدر المذكور في الحديث يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «وسائر أيامه كأيامكم (2) » .
وقد يخالف حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه حديث أبي أمامة رضي الله عنه عند ابن ماجه، وابن خزيمة، والحاكم: «إن أيامه أربعون سنة، السنة كنصف السنة، والسنة كالشهر، والسنة كالجمعة، وآخر أيامه كالشررة، يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي (3) »
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الفتن، باب ذكر الدجال (18 \ 65) بشرح النووي
(2) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937، 2937) ، سنن الترمذي الفتن (2240، 2240) ، سنن أبي داود الملاحم (4321، 4321) ، سنن ابن ماجه الفتن (4075، 4075) ، مسند أحمد (4/182، 4/182) .
(3) انظر: ضعيف سنن ابن ماجه لمحمد الألباني (3325) ، حيث قال عنه: ضعيف، وانظر كتاب الفتن لنعيم المروزي (337) ، فرواه بلفظ: '' يعمر الدجال أربعين سنة، السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كاحتراق السعفة في النار ''.(85/199)
وقد اختلف العلماء في تأويل حديث أبي أمامة هذا، فمنهم من قال: هو كناية عن اشتغال الناس بأنفسهم من الفتن، حتى لا يدروا كيف يمضي النهار، فيكون مضي النهار عندهم كمضي الساعة، والشهر كاليوم، والسنة كالشهر، ومنهم من قال: بل هو على ظاهره.
أما عن المخالفة بين حديث النواس بن سمعان الذي ذكر أن مدة مكث الدجال أربعون يوما، وحديث أبي أمامة الذي قال أربعين سنة، فاختلف الجواب عن اختلاف الحديثين، فمنهم من مال إلى الترجيح، فعلى هذا حديث النواس بن سمعان رواه الإمام أحمد في المسند، ومسلم في صحيحه، والترمذي في سننه، فهو أقوى؛ لأنه أصح فيقدم عليه.
ومنهم من مال إلى الجمع، وطريقه أن أيامه أربعون سنة، وتسمى السنون أياما مجازا، كما يقال: أيام بني أمية، ثم إن أول أيام السنة الأولى كسنة، وثانيها كشهر، وثالثها كجمعة، وباقي أيامه كأيامنا. ثم تنتقص أيام السنة الثانية حتى تكون السنة كنصف سنة، وهكذا إلى أن تكون السنة كشهر، والشهر كجمعة، والجمعة كيوم حتى يكون آخر أيامه بحيث يصبح أحدهم على باب المدينة، فلا يبلغ بابها الآخر(85/200)
حتى يمسي، فتكون السنة الأولى مشتملة على مقدار سنين من سنينا، وسنوه الأخيرة مقدار سنة من سنينا (1)
ولكن يلاحظ ما في هذا الجمع من التكلف، ولقد جزم ابن حجر في الفتح أنها أربعون يوما؛ إذ حديث أبي أمامة ضعيف، كما تقدم (2)
أما عن مقدار الصلاة في ذلك اليوم، والذي سأل عنه الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يفهم من سؤالهم أنهم فهموا أن الأمر على ظاهره، وحقيقته، وأن الأيام تطول حقيقة لا مجازا ولا كناية، فسألوه وقالوا: «يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره (3) » .
قال القاضي وغيره: هذا حكم مخصوص بذلك اليوم، شرعه لنا صاحب الشرع، وقالوا: ولولا هذا الحديث، ووكلنا إلى اجتهادنا لاقتصرنا فيه على الصلوات الخمس عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام، ومعنى «اقدورا له قدره» أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدر ما يكون بينه وبين الظهر كل يوم، فصلوا الظهر، ثم إذا مضى بعده قدر ما يكون بينها وبين العصر فصلوا العصر، وكذا المغرب والعشاء والصبح، ثم الظهر، وهكذا حتى ينقضي
__________
(1) انظر: لوامع الأنوار للسفاريني (م \ 105) بتصرف واختصار
(2) انظر فتح الباري (13 \ 104) .
(3) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937، 2937) ، سنن الترمذي الفتن (2240، 2240) ، سنن أبي داود الملاحم (4321، 4321) ، سنن ابن ماجه الفتن (4075، 4075) ، مسند أحمد (4/182، 4/182) .(85/201)
ذلك اليوم، وقد وقع فيه صلوات سنة فرائض كلها مؤداة في وقتها، وأما الثاني الذي كشهر، والثالث الذي كجمعة فقياس اليوم الأول أن يقدر لهما كاليوم الأول على ما ذكرناه، والله أعلم (1)
أتباع الدجال:
1- اليهود
في صحيح مسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا، عليهم الطيالسة (2) »
2- الكفار والمنافقون:
في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجيء الدجال حتى ينزل في ناحية المدينة، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر ومنافق (3) »
3- جهلة الأعراب، وضعاف الإيمان عموما:
ففي الحديث: «وإن من فتنته أن يقول للأعرابي أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك، أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانان في
__________
(1) شرح مسلم للنووي (8 \ 66) بتصرف واختصار يسير.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي (18 \ 85) ، كتاب الفتن، باب في بقية من أحاديث الدجال.
(3) صحيح البخاري، كتاب الفتن، ذكر الدجال (13 \ 90 فتح)(85/202)
صورة أبيه وأمه فيقولان: يا بني، اتبعه فإنه ربك (1) »
4- من وجوههم كالمجان المطرقة:
ففي حديث أبي بكر رضي الله عنه: «يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة (2) »
5- النساء:
ففي حديث ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ينزل الدجال في هذه السبخة فيكون أكثر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل يرجع إلى حميمه، وإلى أمه، وابنته، وأخته، وعمته فوثقها رباطا مخافة أن تخرج إليه (3) »
6- الخوارج:
عن ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينشأ نشء يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج قرن قطع "، قال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كلما خرج قرن قطع أكثر من عشرين مرة حتى
__________
(1) صحيح الجامع الصغير (رقم 7875) (2 \ 1300) .
(2) رواه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء من أين يخرج الدجال (9 \ 90) عارضة الأحوذي.
(3) مسند أحمد (7 \ 1902) (برقم 5353) ، تحقيق أحمد شاكر، وقال: إسناده صحيح.(85/203)
يخرج في عراضهم الدجال (1) »
7- القدرية المكذبون بالقدر:
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، عن المكذبين بالقدر: " هم أسباب الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال "
وروي مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله عن الذين يقولون لا قدر: «هم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال (2) »
فأتباعه هم أكثر الناس ضعفا في الإيمان، وضعفا في العلم، وأكثرهم حبا في الدنيا، وزينتها من مال وطعام، وقلة صبر على فقده
نهاية المسيح الغواية على يد مسيح الهداية:
بعد أن يمكث الدجال في الأرض أربعين يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وبقية أيامه كأيامنا، تكون نهايته حينما ينزل
__________
(1) سنن ابن ماجه، المقدمة، باب في ذكر الخوارج (1 \ 61) ، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1 \ 34) .
(2) الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لعبيد الله بن بطة العكبري (2 \ 98) ، وقال محقق الكتاب: إن إسناد الحديث ضعيف، إلا أنه حسن لغيره.(85/204)
عيسى ابن مريم عليه السلام، والمسلمون حينذاك معتصمون في المسجد الأقصى يعدون العدة، والعتاد لمقاتلة الدجال، فحينها يأتي عيسى عليه السلام، ويصلي معهم صلاة الفجر، ثم يأمر بأن تفتح أبواب المسجد ليلاقي الدجال وأتباعه، وحينما يراه الدجال يفر منه، ثم يدركه عيسى عليه السلام بباب " لد " في شرقي فلسطين فيذوب الدجال كما يذوب الملح عند رؤيته لعيسى عليه السلام إلا أن عيسى عليه السلام يمسكه ويقتله بيده، ولا يتركه ينذاب حتى لا تكون فتنة أخرى للناس، ويعتقدون اختفاءه، بل يقتله ويريهم دمه، وبهذا تنتهي هذه الفتنة العظيمة.
ففي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه: «بينما هم (أي الجيوش الإسلامية) يعدون للقتال، يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فنزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فأمهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه (1) »
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (18 \ 21) كتاب الفتن، وانظر: كتاب الفتن لنعيم المروزي (341) ، والقول المختصر في علامات المهدي المنتظر (75) ، القيامة الصغرى (248) ، أشراط الساعة للوابلي (333) ، فقد جاء أشراطها (354) .(85/205)
المبحث الثاني: اختلاف حول الدجال:
المطلب الأول: هل الدجال حقيقة أم خرافة؟ الدجال بين المثبتين والمنكرين:
تقدم معنا الحديث عن فتنة المسيح الدجال، ولعظم فتنته افتتنت به أقوام في القديم والحديث قبل خروجه، فأنكروا وجوده، ومنهم من أنكر خوارقه، وهذا خلاف للنصوص الصحيحة المتواترة الصريحة في إثبات خروج الدجال.
قال النووي عن القاضي عياض: " هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره في قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده، وأنه شخص ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى من إحياء الميت الذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه، وجنته وناره، ونهريه، وإتباع كنوز الأرض له، فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك، فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ويبطل أمره، ويقتله عيسى عليه السلام، ويثبت الله الذين آمنوا، هذا مذهب أهل السنة، وجميع المحدثين، والفقهاء، والنظار، خلافا لمن أنكره وأبطل أمره " (1)
وقال قوام السنة الأصبهاني: " وأحاديث الدجال ثابتة متواترة
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (18 \ 58) ، وانظر عارضة الأحوذي (9 \ 80) .(85/206)
يجب الإيمان بها " (1) وقال الآجري في كتابه الشريعة: " كتاب التصديق بالدجال، وأنه خارج في هذه الأمة "
فأحاديث الدجال ثابتة متواترة، ويجب الإيمان به، ولقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من التكذيب به، وأخبر أن هناك من سيكذب به، وفي الأثر، عن عمر رضي الله عنه قال: «إنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم، وبالدجال، وبالشفاعة، وبعذاب القبر، وبقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا (2) »
المكذبون بالدجال فريقان:
1- فريق كذب بوجوده وحقيقته، وقال: إنما الدجال من الدجل والكذب، وهو رمز للخبث والشر، فهؤلاء ردوا النصوص، وكذبوا بها بحجج عقلية لا تستقيم، وهم: الخوارج، والجهمية، وبعض المعتزلة قديما، حيث زعموا أن الدجال كل رجل خبيث (3)
__________
(1) الحجة في بيان المحجة (2 \ 282) .
(2) مسند أحمد (1 \ 223) ، (برقم 156) ، تحقيق أحمد شاكر، وقال: إسناده صحيح.
(3) انظر: الحجة في بيان المحجة (2 \ 416) ، شرح مسلم للنووي (18 \ 58) .(85/207)
وحديثا: نجد هناك من رد النصوص الصحيحة الثابتة في ذكر الدجال، وكذب بها، وقال: إن أحاديثه موضوعة ملفقة، لا يقبلها العقل (1)
وقال الشيخ محمد عبده: إن الدجال رمز للخرافات، والدجل، والقبائح (2) وتابعه محمد فهيم أبو عبية في تعليقه، وتحقيقه لكتاب النهاية لابن كثير حيث قال: إن الدجال رمز لاستشراء الباطل، وليس رجلا من بني آدم (3) ويكفي ردا على هؤلاء ما تقدم في المبحث الأول من نصوص ثابتة متواترة في الدجال مما يجب الإيمان بها.
2- الفريق الآخر أثبت وجوده، وآمن بأنه خارج آخر الزمان، ولكن خالف في خوارقه، وما يجري على يد الدجال، وقال: إنها ليست حقيقة بل خيال، ومن هؤلاء البخاري المعتزلي، ومن وافقه (4) وذكر ذلك السفاريني، عن ابن حبان (5) ونقل ابن كثير، عن ابن حزم، والطحاوي قولهما بأن ما يقع مع
__________
(1) قال بذلك محمد فريد وجدي في دائرة المعارف القرن العشرين (8 \ 58) .
(2) انظر: تفسير المنار (3 \ 317) المسيحية لأحمد شلبي (61) .
(3) انظر أشراط الساعة للوابلي (315) ، حيث تولى الرد عليهم، وذكر أقوالهم.
(4) انظر شرح مسلم للنووي (18 \ 58) .
(5) لوامع الأنوار (2 \ 92) ، وابن حبان قال ذلك عن جنة الدجال وناره.(85/208)
الدجال ليس له حقيقة (1) واعتمد هذا الفريق على أدلة منها ما هو عقلي، ومنها ما هو شرعي.
فأما الدليل العقلي - وهو الذي اعتمده البخاري المعتزلي، وموافقوه - قولهم: إن كان ما مع الدجال حقيقة فيشتبه خارق الدجال مع معجزات النبي، ويدل على صحة دعواه، ولم يوثق بمعجزات الأنبياء؛ إذ تشتبه حينها مع خارق المدعي الكذاب.
وهذا غلط؛ لأن الدجال لم يدع النبوة فيكون ما معه كالتصديق له، وإنما يدعي الإلهية، وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله، ووجود دلائل الحدوث فيه، ونقص صورته وعجزه عن إزالة العور الذي في عينيه، وهذه الدلائل وغيرها لا يغتر به إلا رعاع من الناس لسد الحاجة والفاقة، أو خوفا وتقية من أذاه؛ لأن فتنته عظيمة تدهش العقول، وتحير الألباب مع سرعة مروره في الأرض، فلا يمكث بحيث يتأمل الضعفاء حاله، ودلائل الحدوث فيه والنقص، فيصدقه من صدقه في هذه الحالة.
ولهذا حذرت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من فتنته، ونبهوا على نقصه، ودلائل إبطاله.
وأما أهل التوفيق فلا يغترون به، ولا يخدعون بما معه لما
__________
(1) النهاية في الفتن (1 \ 83) .(85/209)
ذكرناه من الدلائل المكذبة له، مع ما سبق لهم من العلم بحاله، ولهذا يقول له الذي يقتله، ثم يحييه: ما ازددت فيك إلا بصيرة (1)
أما الدليل الشرعي الذي تأوله من قال: إن ما مع الدجال خيالات وتخاريف وليست حقيقة:
أ- عن المغيرة بن شعبة قال: «ما سأل أحد النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال ما سألته، وإنه قال لي: ما يضرك منه؟ قلت: لأنهم يقولون: إن معه جبل خبز ونهر ماء، قال: بل هو أهون على الله من ذلك (2) »
قالوا: أهون على الله من أن يكون ما معه حقيقة، بل يرى ذلك وليس بحقيقة (3)
والقائلون بأن ما معه حقيقة وليس بخيال يؤولون قوله صلى الله عليه وسلم: «بل هو أهون على الله من ذلك (4) » ، أي هو أهون من أن يجعل ما يخلقه على يديه مضلا للمؤمنين، ومشككا لقلوب المؤمنين، بل ليزداد الذين آمنوا إيمانا، ويرتاب الذين في قلوبهم مرض، فهو مثل قول الذي
__________
(1) انظر: شرح مسلم للنووي (18 \ 58) ، باختصار وتصرف، نهاية البداية والنهاية (1 \ 84) .
(2) صحيح البخاري كتاب الفتن، باب ذكر الدجال (13 \ 89 فتح) .
(3) انظر: لوامع الأنوار (2 \ 92) .
(4) صحيح البخاري كتاب الفتن، باب ذكر الدجال (13 \ 89 فتح) .(85/210)
يقتله الدجال: «ما كنت أشد بصيرة مني فيك (1) » ، لا أن قوله: «هو أهون على الله من ذلك» أنه ليس شيء من ذلك معه، بل المراد: أهون من أن يجعل شيئا من ذلك آية على صدقه، ولا سيما وقد جعل فيه آية ظاهرة في كذبه وكفره، يقرؤها من قرأ، ومن لا يقرأ زائدة على شواهد كذبه من حدثه ونقصه.
والحامل على هذا التأويل أنه ورد في حديث آخر مرفوع، رجاله ثقات: «ومعه جبل من خبز ونهر من ماء (2) » ، وفي حديث آخر: «معه جبال من خبز، والناس في جهد إلا من تبعه ومعه نهران (3) » فهذه النصوص تثبت أن مع الدجال خبزا حقيقة وليس خيالا، وتمطر السماء بأمره حقيقة لا خيالا.
ب - أما الدليل الآخر الذي تأوله من قال: إن ما مع الدجال خيالات وليس حقيقة هو ما ورد في جنته وناره من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن معه ماء ونارا، فناره ماء بارد، وماؤه نار (4) »
وفي رواية شعيب بن صفوان: «فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق، وأما الذي يراه الناس نارا فماء بارد (5) » ، وفي حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: «وأنه يجيء معه مثل الجنة والنار، فالتي يقول إنها
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1882، 1882) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2938، 2938) ، مسند أحمد (3/36، 3/36) .
(2) صحيح البخاري الفتن (7122، 7122) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2939، 2939) ، سنن ابن ماجه الفتن (4073، 4073) ، مسند أحمد (4/252، 4/252) .
(3) انظر: فتح الباري (13 \ 93) ، شرح مسلم للنووي (18 \ 74) .
(4) انظر: فتح الباري (13 \ 93) ، شرح مسلم للنووي (18 \ 74) .
(5) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2934، 2934) ، سنن أبي داود الملاحم (4315، 4315) ، سنن ابن ماجه الفتن (4071، 4071) ، مسند أحمد (5/405، 5/405) .(85/211)
الجنة هي النار (1) » ، أخرجه أحمد. فظاهر هذه النصوص يشير إلى أن جنة الدجال وناره ليست بحقيقة، بل خيال، لذلك قال بعض العلماء: قد يكون الدجال ساحرا فيخيل الشيء بصورة عكسه.
ومن قال: إن ما مع الدجال حقائق، وليست تخيلات قال: إن الله يجعل باطن الجنة التي يسخرها الدجال ويشعلها: نارا، وباطن النار جنة، وهذا ما رجحه ابن حجر في الفتح.
وقيل: إن ذلك كناية عن النعمة والرحمة بالجنة، وعن المحنة والنقمة بالنار، فمن أطاعه فانعم عليه بجنة يؤول آخره إلى دخول نار الآخرة وبالعكس.
وعند النظر في النصوص التي ذكرت فتن الدجال وما يجري على يديه من خوارق، يرى أن بعضها حقيقة وصدق، وبعضها تخييل وتزييف كيف لا وهو الدجال الكذاب.
لذا أقول: إنه ليس كل ما مع الدجال وما يأتي به حقيقة، بل يكون منه ما هو دجل وكذب وتخييل؛ لما ثبت في الحديث من استعانته بالشياطين، «فيقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك، أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه،
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء (3338) ، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة (2936) .(85/212)
فيقولان: " يا بني، اتبعه فإنه ربك (1) » فهذا دجل وكذب، أما ما يأتي به من أنواع الأطعمة والأشربة فيكون معه جبل خبز ولحم وشراب، فهذا حق وليس بعجيب، فهذه أكوام القمح عند صوامع الغلال نراها كالجبال، فتكون فتنة في ذلك الوقت بذلك؛ لقلة العيش من جدب الأراضي وانحباس المطر، والله أعلم.
مما تقدم نعلم أن الدجال خارج في آخر الزمان، وأنه من أشراط الساعة الكبرى، وعلمنا أنه ما من نبي إلا أنذر أمته الأعور الدجال - أعاذنا الله من فتنته - فهل كان موجودا حيا في سابق الزمان وما زال إلى أن يخرجه الله تعالى؟ أم أنه لم يكن شيئا إلى أن خلقه الله عندما يشاء سبحانه خروجه؟ هذا ما سيبينه المطلب الآتي إن شاء الله تعالى.
__________
(1) تقدم تخريجه في ص (203) .(85/213)
المطلب الثاني: حياة الدجال ووجوده الآن (هل الدجال حي الآن؟) :
" خبر تميم الداري "
من فتنة الدجال أن كان كل نبي ينذره قومه مخافة أن يخرج فيهم؛ إذ وقت خروجه لا يعلمه إلا الله، فهو من أشراط الساعة، وعلم الساعة مما اختص الله به نفسه، قال تعال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (1) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 187(85/213)
فلما كان الدجال شديد الخطر على إيمان الناس، وكان خروجه غير معلوم لهم، حرص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على التحذير منه.
ولكن هل كان حيا موجودا آنذاك؟ هل كان حيا في عهد آدم، أو نوح، أو غيرهم من الأنبياء؟ وهل يلزم من إنذار الأنبياء أممهم من فتنته وتحذيرهم من شره أن يكون موجودا حيا في سالف الأزمان؟
إن الأمر محتمل: فليس كل ما أنذر به الأنبياء أو حتى بشروا به يكون موجودا في حينه، فهم أنذروا بالساعة، وليست هي واقعة آنذاك، وبشروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن موجودا لا في عهد موسى، ولا عهد عيسى عليهم الصلاة والسلام، ولكن الأمر مختلف بالنسبة للدجال؛ إذ وجوده محتمل، فقد يكون موجودا في سالف الأزمان، وقد يكون غير موجود.
ولكن الأمر المؤكد الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنه كان حيا موجودا في عهد البعثة المحمدية، وما يزال حيا موجودا الآن، وإلى وقت خروجه، ويثبت ذلك ويصدقه تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروايته لخبر تميم الداري، الذي شاهد الدجال حيا موجودا موثوقا بالحديد في جزيرة من جزائر البحر.(85/214)
فلندع المحتمل، ونكل علمه إلى الله، ولنأت للثابت المؤكد، وهو خبر تميم الداري، والذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره، ونسوقه هنا بتمامه لأهميته:
روى مسلم في صحيحه، «عن فاطمة بنت قيس، أخت الضحاك بن قيس أنها سمعت منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد، قالت: فصليت مع رسول الله، فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم.
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، جلس على المنبر وهو يضحك فقال: " ليلزم كل إنسان مصلاه، ثم قال: أتدرون لم جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم؛ لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا، فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال، حدثني: أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهرا في البحر، ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة، فدخلوا الجزيرة فلقيتهم(85/215)
دابة أهلب كثير الشعر، لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقالوا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة؟ قالت: أيها القوم، انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق، قال: لما سمت لنا رجلا فرقنا منها أن تكون شيطانة، قال: فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا، مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب، ركبنا سفينة بحرية، فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهرا، ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها، فدخلنا الجزيرة، فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر، لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعا وفزعنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانة، فقال: أخبروني عن نخل بيسان، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها هل يثمر؟ قلنا له: نعم: قال: أما إنه يوشك أن لا تثمر، قال: أخبروني عن بحيرة الطبرية، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زغر، قالوا: عن أي(85/216)
شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم، هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها، قال: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة، ونزل يثرب، قال أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم، قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عني، وإني أنا المسيح الدجال، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج، فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة، فهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة، أو واحدا منهما، استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدني عنها، وإن على نقب منها ملائكة يحرسونها.
قالت [يعني فاطمة بنت قيس] : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعن بمخصرته في المنبر: " هذه طيبة، هذه طيبة، يعني المدينة، ألا هل كنت حدثتكم ذلك؟ فقال الناس: نعم. (فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت حدثتكم عنه، وعن المدينة ومكة، ألا إنه في بحر الشام، أو بحر اليمن، لا، بل من قبل المشرق ما هو. من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ما هو "، وأومأ بيده إلى المشرق قالت: فحفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1) »
__________
(1) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2942، 2942) ، سنن الترمذي الفتن (2253، 2253) ، سنن أبي داود الملاحم (4325، 4325) ، سنن ابن ماجه الفتن (4074، 4074) ، مسند أحمد (6/418، 6/418) .(85/217)
يؤخذ من خبر تميم الداري رضي الله عنه فوائد منها:
1- أن الدجال حي موجود الآن، ومنذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- أن الدجال مربوط موثق بالحديد وثاقا شديدا، كما جاء صفة حاله في خبر تميم الداري رضي الله عنه المتقدم.
3- أنه على حاله تلك محبوس في دير بجزيرة من جزائر البحر.
4- أن مكان هذه الجزيرة من جهة المشرق قرب إقليم خراسان؛ لما ورد في حديث تميم من أنه قبل المشرق، ولما تقدم معنا أنه يخرج من إقليم خراسان.
5- أن تحديد مكانه في الحديث يدفع قول من يقول الآن من أنه محبوس في مثلث برومودا، الذي لا يستطيع أحد الدخول فيه؛ إذ هذا المثلث من جهة الغرب من المحيط الأطلسي كما حددوه، والحديث الصحيح يبين أن الدجال محبوس في جزيرة شرقا، قرب إقليم خراسان، والله أعلم.
6 - أن الله جعل لخروج الدجال أمارات، فيها ما ذكر في هذا الحديث من جفاف بحيرة طبرية، وجفاف عين زغر، وعدم إثمار نخل بيسان.
7- أما من الذي حبس الدجال؟ قيل: إن الملائكة هي التي حبسته، وقيل: إن سليمان عليه السلام الذي حبسه على(85/218)
اعتبار أن الدجال شيطان وليس إنسانا، وتحديد ذلك يحتاج إلى دليل شرعي؛ إذ هو غيب، وأمور الغيب محصورة في الخبر الصادق، ولا دليل صحيح هنا يثبت أي الاحتمالين، والمؤكد الثابت أنه محبوس مربوط بأغلاله إلى أن يحين أمر الله ويخرج.
8- هذا الحديث يبطل قول من قال: إن الذي رآه تميم شيطان من الشياطين الذين حبسهم نبي الله سليمان، وليس هو الدجال الإنسان؛ إذ يبعد وجود بشر على قيد الحياة هذه الفترة الطويلة (1) هذا على زعمهم، يبعد على حساب البشر وقدرتهم، ولا يبعد على قدرة القدير سبحانه، والتي لا تحد بحد، فأمره بين الكاف والنون، إذا أراد شيئا سبحانه يقول له: كن فيكون (2)
9- أن مشاهدة تميم الداري رضي الله عنه للدجال كانت سببا في إسلامه.
10- أخيرا نأخذ من خبر تميم رضي الله عنهم، أن ابن صياد ليس هو الدجال، على خلاف بين العلماء في هذه المسألة، هل
__________
(1) ذكر هذا القول عن بعض أهل العلم الأشقر في كتابه: القيامة الصغرى، ولم يرد عليه (258) .
(2) انظر: فقد جاء أشراطها (384) ، عمر أمة الإسلام (89) .(85/219)
ابن صياد هو الدجال أم لا؟ !
وسنعرض لهذه المسألة بمزيد من التفصيل في المطلب الآتي إن شاء الله.(85/220)
المطلب الثالث: مقارنة بين ابن صياد والدجال، وأقوال العلماء في ذلك:
من هو ابن صياد؟
يقال له: ابن صائد، وابن صياد، واسمه: صافي، أو صاف، أو عبد الله، (كلها وردت في الأحاديث) ، وهو من يهود المدينة، عاش في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وحينذاك كان يناهز الاحتلام، وعاش بين الصحابة مسلما إلى أن فقدوه يوم الحرة.
وقد أنجب ابنا من كبار التابعين، وهو عمارة بن عبد الله بن صائد، روى عنه مالك رحمه الله، وغيره (1) وابن صائد أسلم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو تابعي، له رؤية هذا على قول من يرى أنه ليس الدجال، كما سيأتي تفصيل ذلك.
ولقد كانت الشكوك تدور حول ابن صياد، هل هو الدجال أم
__________
(1) انظر: ترجمة عمارة في تهذيب التهذيب لابن حجر (7 \ 366) (رقم 682) .(85/220)
لا؟ قال النووي: " قال العلماء: وقصته مشكلة، وأمره مشتبه في أنه هل هو المسيح الدجال المشهور أم غيره؟ ولا شك في أنه دجال من الدجاجلة، وظاهر الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه بأنه المسيح الدجال ولا غيره، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره (1)
ومما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شاكا في أمر ابن صياد، ولم يوح إليه بشيء:
محاولته صلى الله عليه وسلم اختبار ابن صياد عدة مرات، والتخفي خلف جذوع النخل؛ لمحاولة سماع تمتمات ابن صياد، ليعرف منها إن كان هو الدجال أم لا؟ فقد روى مسلم في صحيحه، عن عبد الله قال: «كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررنا بصبيان فيهم ابن صياد، ففر الصبيان، وجلس ابن صياد، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تربت يداك، أتشهد أني رسول الله. فقال: لا، بل تشهد أني رسول الله. فقال عمر بن الخطاب: ذرني يا رسول الله، حتى أقتله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يكن الذي ترى فلن تستطيع قتله (2) » ، وفي حديث آخر قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد خبأت لك خبأ فقال: دخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسأ فلن
__________
(1) شرح النووي لمسلم (18 \ 46) .
(2) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2924، 2924) ، مسند أحمد (1/457، 1/457) .(85/221)
تعدو قدرك (1) » ، وفي حديث آخر سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ترى؟ قال: أرى عرشا على الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترى عرش إبليس على البحر. وما ترى؟ قال: أرى صادقين وكاذبين، أو كاذبين وصادقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لبس عليه دعوه (2) » .
وبعد هذه الوقائع حاول رسول الله صلى الله عليه وسلم استكشاف أمر ابن صياد، وعن طريق سماعه له بدون أن يشعر، فعن سالم بن عبد الله قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: انطلق بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بن كعب الأنصاري إلى النخل التي فيها ابن صياد، حتى إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل طفق يتقي بجذوع النخل، وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئا قبل أن يراه ابن صياد، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مضطجع على فراش في قطيفة له فيها زمزمة. فرأت أم ابن صياد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتقي بجذوع النخل، فقالت لابن صياد: يا صاف - وهو اسم ابن صياد - هذا محمد. فثار ابن صياد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تركته بين (3) »
هذا هو موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن صياد، أما صحابته رضي الله عنهم، ومن بعدهم فقد اختلفوا في أمر ابن صياد، وهل هو الدجال أم لا؟
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1355، 1355) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2931، 2931) ، سنن الترمذي الفتن (2249، 2249) ، سنن أبي داود الملاحم (4329، 4329) ، مسند أحمد (2/149، 2/149) .
(2) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2926، 2926) ، سنن الترمذي الفتن (2247، 2247) ، مسند أحمد (3/97، 3/97) .
(3) ما تقدم من الأحاديث رواها مسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب ذكر ابن صائد (18 \ 46 - 55) ، نووي، فتح الباري (13 \ 329) ، وانظر أشراط الساعة للوابلي (290) .(85/222)
وانقسموا إلى فريقين:
1- منهم من قال: إن ابن صياد هو الدجال، وهم: عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبو ذر رضي الله عنهم أجمعين، فكانوا يقطعون بأن ابن صياد هو الدجال، وتابعهم على هذا التصريح: القرطبي الذي قال في تذكرته: " الصحيح أن ابن صياد هو الدجال " (1)
ومال الشوكاني رحمه الله إلى أن ابن صياد هو الدجال (2) وقد مال ابن بطال إلى القول بأن ابن صياد هو الدجال (3) وكذلك ظاهر كلام النووي يشير إلى ميله للقول بأن ابن صياد هو الدجال (4)
وهؤلاء احتجوا بأن عمر رضي الله عنهم كان يحلف عند النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن صياد هو الدجال، ولم ينكر عليه ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري في صحيحه، عن محمد بن المنكدر قال: «رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن الصياد الدجال، قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم (5) »
__________
(1) التذكرة (815) .
(2) انظر: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار (8 \ 16 - 22) .
(3) انظر: فتح الباري (13 \ 325) حيث ذكر كلام ابن بطال في المسألة.
(4) انظر: شرح مسلم للنووي (18 \ 48) .
(5) صحيح البخاري: كتاب الاعتصام، باب من رأى ترك النكير (13 \ 323) فتح) .(85/223)
أما ما ذكر من خبر ابن صياد من أنه أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل مكة والمدينة، وكان له من الولد ما ذكرنا، فقد سأل أبو سلمة جابرا رضي الله عنهم عن ذلك، فشهد جابر رضي الله عنهم أن الدجال هو ابن صياد. فقال أبو سلمة: إنه قد مات؟ قال: وإن مات. قلت: فإنه أسلم. قال: وإن أسلم. قلت: فإنه دخل المدينة. قال: " وإن دخل المدينة.
ففي كلام جابر إشارة إلى أن أمره ملبس، وأنه يجوز أن يكون ما ظهر من أمره إذ ذاك لا ينافي ما توقع منه بعد خروجه في آخر الزمان (1)
وقال النووي رحمه الله: " أما احتجاجه بأنه مسلم، والدجال كافر، وبأنه لا يولد للدجال وقد ولد له هو، وأنه لا يدخل مكة والمدينة، وأن ابن صياد دخل المدينة وهو متوجه إلى مكة، فلا دلالة له فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن صفاته وقت فتنته، وخروجه في الأرض " (2)
ومن أسباب تمسك ابن عمر رضي الله عنهم وغيره بالقول: بأن ابن صياد هو الدجال: المواقف التي حدثت مع ابن عمر وابن صياد من انتفاخ ابن صياد حتى ملأ الطريق لما سمع من ابن عمر كلاما أغضبه.
وكذلك نفور عين ابن صياد، وسؤال ابن عمر له عن ذلك، وضربه
__________
(1) انظر: فتح الباري (13 \ 329) .
(2) شرح مسلم (18 \ 46) .(85/224)
له بعصا كانت في يده دون شعور من ابن عمر لهذا التصرف (1)
ولكن هل حلف وقسم عمر رضي الله عنهم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ابن صياد هو الدجال، وسكوت الرسول عن هذا القسم دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقر بأن ابن صياد هو الدجال؟ وهل في هذا القسم حجة؟ تكلم ابن دقيق العيد رحمه الله على مسألة التقرير، فقال ما ملخصه: " إذا أخبر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر ليس فيه حكم شرعي، فهل يكون سكوته صلى الله عليه وسلم دليلا على مطابقة ما في الواقع كما وقع لعمر في حلفه على أن ابن صياد هو الدجال فلم ينكر عليه، فهل يدل عدم إنكاره على أن ابن صياد هو الدجال كما فهمه جابر، حتى صار يحلف عليه، ويستند إلى حلف عمر، أو لا يدل؟ فيه نظر، قال: والأقرب عندي أنه لا يدل؛ لأن مأخذ المسألة ومناطها هو العصمة من التقرير على باطل، وذلك يتوقف على تحقق البطلان، ولا يكفي فيه عدم تحقق الصحة، إلا أن يدعي مدع أنه يكفي في وجوب البيان عدم تحقق الصحة، فيحتاج إلى دليل وهو عاجز عنه، نعم التقرير يسوغ الحلف على ذلك، على غلبة الظن؛ لعدم توقف ذلك على العلم (2)
وقال السفاريني فيما ورد عن بعض الصحابة من أن ابن صياد
__________
(1) انظر: الأحاديث في مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر ابن صياد (18 \ 57 - 58) نووي) .
(2) نقلا عن ابن حجر في الفتح (13 \ 327) .(85/225)
هو الدجال قال: " وفي ذلك عدة أحاديث وآثار صحيحة إلا أنها ليست صريحة، ولا نصا في أن ابن صياد هو الدجال " (1)
2- الفريق الآخر قطع بأن ابن صياد ليس هو الدجال، وأن ابن صياد دجال من الدجاجلة، ولكنه ليس هو الدجال الأكبر، ومن هؤلاء: البيهقي رحمه الله (2) وابن كثير في النهاية (3) والبرزنجي في الإشاعة (4) والسفاريني في لوامع الأنوار (5) وابن تيمية في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (6)
ومال ابن حجر إلى ذلك في فتح الباري (7) وعمدة هؤلاء هو خبر تميم الداري المتقدم، والذي فيه أن تميما شاهد الدجال موثوقا في جزيرة في البحر.
قال البيهقي: " ليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على حلف عمر، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان متوقفا في أمره، ثم
__________
(1) لوامع الأنوار (2 \ 107) .
(2) انظر: فتح الباري (13 \ 326) .
(3) النهاية في الفتن (1 \ 55) .
(4) الإشاعة (141) نقلا عن تعليق محقق السنن الواردة للداني (6 \ 1203) للمباركفوري.
(5) (2 \ 108) .
(6) (2 \ 651) ضمن مجموعة التوحيد
(7) . (13/328)(85/226)
جاءه الثبت من الله تعالى بأنه غيره على ما تقتضيه قصة تميم الداري، وبه تمسك من جزم بأن الدجال غير ابن صياد، وطريقه أصح، ثم قال بعد خبر تميم: فيه أن الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن صياد " (1)
وقال البرزنجي: " الأصح أن الدجال غير ابن صياد، وإن شاركه ابن صياد في كونه أعور، ومن اليهود، وأنه ساكن في يهودية أصبهان إلى غير ذلك، وذلك لأن أحاديث ابن صياد كلها محتملة، وحديث الجساسة نص فيقدم، ومما يرجح أنه غيره أن قصة تميم الداري متأخرة عن قصة ابن صياد، فهو كالناسخ له؛ ولأنه حين أخبره صلى الله عليه وسلم بأنه في بحر الشام، أو بحر اليمن، لا، بل من قبل المشرق كان ابن الصياد بالمدينة، فلو كان هو لقال: بل هو بالمدينة " (2)
وقال ابن كثير رحمه الله: " والمقصود أن ابن صياد ليس بالدجال الذي يخرج في آخر الزمان قطعا، وذلك لحديث فاطمة بنت قيس الفهرية، فإنه فيصل في هذا المقام " (3)
ولقد حاول ابن حجر رحمه الله الجمع بين خبر تميم الداري،
__________
(1) انظر: فتح الباري (13 \ 326) .
(2) الإشاعة (141) نقلا عن المباركفوري في تحقيقه للسنن الواردة للداني (6 \ 1203) .
(3) النهاية في الفتن (1 \ 55) .(85/227)
وبين كون ابن صياد هو الدجال فقال: " إن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقا، وأن ابن صياد شيطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة إلى أن توجه إلى أصبهان، فاسستتر مع قرينه إلى أن تجيء المدة التي قدر الله خروجه فيها (1) . ولكن يشكل على قول ابن حجر هذا من كون ابن صياد الذي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهد صحابته شيطانا، ما فعله من الزواج، وإنجاب ولد من سادات التابعين كما قدمنا (2)
والمتأمل في الأخبار يجد شك رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن صياد، وتردده في أمره، ثم فرحه بعد ذلك لما جاء تميم وحدثه بالقصة من لقائه الدجال، وما دار من أحداث، وتصديقه لقول تميم، وقوله صلى الله عليه وسلم: «فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت حدثتكم عنه، وعن المدينة ومكة (3) » .
وصعوده صلى الله عليه وسلم المنبر على غير عادته؛ ليحدث بحديث تميم هذا، إذ لم يكن يصعد المنبر إلا للجمعة، وتحديثه بخبر تميم مرتين: مرة بعد العشاء، ومن الغد بعد الظهر.
كل هذه دلائل صريحة تشير وتؤكد أن الدجال الأكبر هو الذي رآه تميم مربوطا موثوقا، فيقدم التصريح على التردد، والشك الحاصل
__________
(1) فتح الباري (13 \ 328) .
(2) انظر: فقد جاء أشراطها (390) .
(3) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2942، 2942) ، سنن الترمذي الفتن (2253، 2253) .(85/228)
منه صلى الله عليه وسلم في ابن صياد.
وأخيرا وإن كنا نقول بخبر تميم في الدجال، إلا أننا نكل علم خبر ابن صياد إلى الله تعالى، خاصة ما ذكر من أنه فقد يوم الحرة، ومن أن أناسا شاهدوه بأصبهان، فنكل علم ذلك إلى الله تعالى، خاصة أنه من العلم الذي لا يضر الجهل به فهو لا ينبني عليه عمل، إذ قد تردد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر ابن صياد، ولم يوح إليه في أمره بشيء - كما تقدم - ولو كان يعلم بذلك مما كلفنا به لبينه الصادق الأمين لنا؛ إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
وسواء كان الدجال هو ابن صياد أو غيره فعلينا ألا نشغل العامة بهذه المسألة فقد مضى أمرها، والذي نقطع به، ونعتقده أن الدجال محبوس الآن حي موجود في مكانه، وأنه سيخرج لا محالة، فلنستعد له الآن بالإيمان والعلم، والمداومة على الاستعاذة بالله من شره، وحفظ عشر آيات من سورة الكهف، ونشر أوصافه وأخباره بين الناس، فهذا ما نحتاجه، والله أعلم " (1)
__________
(1) انظر: فقد جاء أشراطها (372) .(85/229)
الخاتمة
الحمد لله الذي يسر وأعان وتفضل، فهذه هي خاتمة حديثنا عن الأعور الدجال، والذي نلخص معلوماته بالآتي:
1- ما ورد من اسمه ووصفه الدقيق في السنة المطهرة، والتي ركزت على صفة عور عينه؛ حتى لا يستريب إنسان في كذبه ودجله بما ظهر على جسده من دلائل العجز والنقص القادحة في دعواه للربوبية.
2- يخرج الدجال من إقليم خراسان بالمشرق من مدينة أصبهان، وله علامات، وأمارات تدل على قرب خروجه، ويطوف في أربعين يوما الأرض إلا مكة، والمدينة، ومسجد الطور، والمسجد الأقصى؛ فمحرم عليه دخولها.
3- أن فتنة الدجال فتنة عظيمة وشديدة، على المؤمن الحرص على توقيها، والاستعداد لها من الآن بما ذكرنا في موضعه.
4- أن من الواجب على العلماء والدعاة نشر أخبار الدجال، وأحواله، وأوصافه بين العامة؛ إذ العلم به وبفتنته، وكيفية التصرف حيال هذه الفتنة لا يؤخذ إلا من مشكاة النبوة.
5- أن مما لا شك فيه أن الدجال شخصية حقيقة، وأنه حي موجود الآن قد شاهده تميم الداري رضي الله عنه، وأنه خارج لا(85/230)
محالة في هذه الأمة، خلافا للمكذبين المنكرين للدجال.
6- يجب الاستناد في ذكر أمور الدين عامة، وأمور العقيدة خاصة للثابت الصحيح من السنة المطهرة، والحذر كل الحذر من الأحاديث الضعيفة الموضوعة، والتي تكثر في باب أشراط الساعة، ومن هذه الأحاديث الضعيفة التي تحدثت عن الدجال، والتي نذكرها للحذر منها:
أ - «يخرج الدجال على حمار أقمر، ما بين أذنيه سبعون عاما، معه سبعون ألف يهودي، عليهم الطيالسة بالحضر حتى ينزلوا كوم ابن الحمراء» فهذا الحديث بهذا اللفظ ضعيف، وإن كان بعض ألفاظه صحيحا ثابتا بحديث صحيح، وهو قوله: «يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة (1) »
ب - «يخرج الدجال في خفة من الدين، وإدبار من العلم، وله أربعون يوما يسيحها: اليوم كالسنة، واليوم كالشهر، واليوم كالجمعة، ثم سائر أيامه مثل أيامكم، وله حمار يركبه، عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا، يأتي الناس فيقول: أنا
__________
(1) رواه مسلم، وقد تقدم تخريجه في ص (214) .(85/231)
ربكم، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بني عينيه ك. ف. ر، يقرأه كل كاتب وغير كاتب، يمر بكل ماء ومنهل، إلا المدينة ومكة حرمهما الله عليه، وقامت الملائكة بأبوابها (1) »
فما جاء في هذا الحديث من وصف حمار الدجال لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بقية ألفاظه فقد وردت بأسانيد صحيحة.
فعلينا الحرص كل الحرص على التمسك بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتدقيق في هذا الأمر؛ إذ أمور الغيب محصورة في الخبر الصادق.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين.
__________
(1) السلسلة الضعيفة (4 \ رقم 1969 \ 439 - 440) ، عن: فقد جاء أشراطها (405) .(85/232)
أحكام زيارة القبور
لفضيلة الدكتور فهد بن عبد الله العمري
(1)
مقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله عز وجل أكرمنا بهذا الدين، وجعلنا من أتباع هذه الملة، وأكمل لنا هذه الشريعة الغراء، التي لم تترك شأنا يتعلق بالناس في عاجل أمرهم وآجله إلا بينته، ومما بينته هذه الشريعة الأحكام المتعلقة بالمقابر، وما يجب أن يعامل بها أهلها من الإحسان إليهم، والدعاء لهم عند زيارتها، وعدم الغلو فيها، ومجاوزة الحد الشرعي، فهذا بحث بعنوان: أحكام زيارة المقابر. وقد كان من أهم الأسباب
__________
(1) عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم كلية الشريعة وأصول الدين قسم الفقه.(85/233)
في اختياره ما يلي:
أولا: أهمية الموضوع في هذا الزمن؛ لأن كثيرا من المسلمين وقعوا بين طرفي نقيض في شأن زيارة المقابر، فمنهم الغالي المعظم لها، الذي أخل بجانب التوحيد، ومنهم المتساهل الذي تساهل كثيرا، وتجاهل ما يجب أن يعامل به أهل القبور، فكان لا بد من دراسة علمية على ضوء الكتاب والسنة، تبين ما يشرع في الزيارة للقبور.
ثانيا: أنه لم يكتب في هذا الموضوع - حسب علمي - كتابة مستقلة مؤصلة، تبين أحكامه، وما ينبغي فعله عند زيارة القبور، وما كتب في هذا الموضوع لا يعدو أن يكون رسائل مختصرة، بينت أحكام الجنائز بصفة عامة.
فلهذا وغيره عزمت - مستعينا بالله - عز وجل - أن أكتب في هذا الموضوع، وفق الخطة التالية:
جعلت هذا البحث في مقدمة وعشرة مباحث وخاتمة.
أولا: المقدمة: ذكرت فيها أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، وخطة البحث، ومنهجه.
ثانيا: المباحث: وهي كما يلي:
المبحث الأول: تعريف المقابر.
المبحث الثاني: تعريف الزيارة.(85/234)
المبحث الثالث: حكم زيارة القبور للرجال.
المبحث الرابع: حكم زيارة القبور للنساء.
المبحث الخامس: حكم السفر من أجل زيارة القبور.
المبحث السادس: حكم زيارة قبور الكفار.
المبحث السابع: حكم زيارة القبور المكذوبة والمظنونة.
المبحث الثامن: بيان المواسم والأعياد المحدثة في زيارة القبور.
المبحث التاسع: وقت زيارة القبور.
المبحث العاشر: صفة الزيارة الشرعية.
ثالثا: الخاتمة، وبينت فيها أبرز النتائج التي ظهرت لي من خلال البحث.
أما منهجي في البحث:
فقد اتبعت في دراسة هذا الموضوع ما يلي:
أولا: أصور المسألة التي تحتاج إلى بيان.
ثانيا: إذا كانت المسألة من مواضع الاتفاق بين العلماء، أذكر ذلك مع توثيق الاتفاق من مصادره المعتبرة.
ثالثا: إذا كانت المسألة من مواضع الخلاف، فأتبع ما يلي:
أ - تحرير محل النزاع.
ب - أذكر الأقوال في المسألة مع بيان من قال بها من أهل العلم.(85/235)
ج - الاقتصار على المذاهب الفقهية المعتبرة، مع العناية بذكر ما تيسر الوقوف عليه من أقوال السلف الصالح.
د - توثيق الأقوال من كتب أهل المذهب.
هـ - ذكر أدلة الأقوال، مع بيان وجه الدلالة، وذكر ما يرد على هذه الأدلة من مناقشات، وما يجاب به عنها.
والترجيح مع بيان أسبابه.
رابعا: الاعتماد على المصادر والمراجع الأصيلة في التحرير والتوثيق والاستدلال.
خامسا: ترقيم الآيات، وبيان سورها.
سادسا: تخريج الأحاديث، وبيان ما ذكره أهل العلم في درجتها إن لم تكن في الصحيحين أو أحدهما، فإن كانت فيهما، أو في أحدهما، فأكتفي حينئذ بتخريجهما فقط.
سابعا: العناية بقواعد اللغة العربية والإملاء، وعلامات الترقيم.
ثامنا: ختمت البحث بخاتمة، بينت فيها أبرز النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث.
هذا ولا يفوتني أن أنبه على أن ما قمت به من بحث ودراسة لهذا الموضوع هو عمل بشري، قابل للصواب والخطأ، فما كان صوابا فمن توفيق الله - عز وجل - كرما منه وفضلا، وما كان من(85/236)
خطأ فمني - وأستغفر الله تعالى، وأسأل الله - عز وجل - أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يمن علي بالهداية والتوفيق، إنه على كل شيء قدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(85/237)
المبحث الأول: تعريف المقابر:
أولا: تعريف المقابر لغة:
المقابر: جمع مقبرة، أو مقبرة - بفتح الباء وضمها - قال ابن فارس " القاف والباء والراء أصل صحيح، يدل على غموض في شيء وتطامن " (1) .
ويطلق على المقابر في اللغة ما يلي:
أولا: الأجداث جمع جدث (2) ومنه قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} (3) .
ثانيا: القرافة، أي المقبرة، وهو اسم قبيلة يمنية جاورت المقابر
__________
(1) معجم مقاييس اللغة 5 \ 47.
(2) ينظر: الصحاح 1 \ 277، ولسان العرب 2 \ 128.
(3) سورة يس الآية 51(85/237)
بمصر، فغلب اسمها على كل مقبرة (1)
ثالثا: الكدى، أي القبور، وهي في الأصل جمع كدية، وهي القطعة الصلبة من الأرض، والقبر إنما يحفر في الأرض الصلبة؛ لئلا ينهار، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فلعلك بلغت معهم الكدى (2) » . . . . " الحديث، يعني القبور (3) فهذه الألفاظ إما مرادفة، أو أن المقبرة تسمى بها.
ثانيا: تعريف المقابر شرعا:
المقابر: جمع قبر، وهو مدفن الإنسان يقال: قبر الميت، إذا دفنه، ويقال: أقبر الميت: إذا أمر بدفنه.
وكذا فسر أهل العلم قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} (4) ، أي جعله مقبورا أي مدفونا، ولم يجعله مما يلقى على وجه الأرض للطير والسباع (5)
__________
(1) ينظر: معجم متن اللغة 4 \ 544، والمعجم الوسيط 2 \ 729.
(2) أخرجه أبو داود في الجنائز، باب في التعزية 3 \ 188، برقم (3123) ، والنسائي 1 \ 616، والحاكم 1 \ 529 - 530، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(3) ينظر: النهاية في غريب الحديث 4 \ 156.
(4) سورة عبس الآية 21
(5) ينظر الجامع لأحكام القرآن 19 \ 219.(85/238)
فالمقابر شرعا هي مدافن الأموات، وهي ديار الموتى ومنازلهم، وعليها تنزل الرحمة على محسنهم، فإكرام هذه المنازل واحترامها من تمام محاسن الشريعة الإسلامية.(85/239)
المبحث الثاني: تعريف الزيارة:
الزيارة: هي القصد، وهي قصد المزور إكراما له، واستئناسا به (1) وزيارة المقابر، القصد منها السلام على الأموات والدعاء لهم والاعتبار.
وهي على نوعين:
النوع الأول:
الزيارة الشرعية، وتكون بالسلام على الميت، والدعاء له، وهذه هي التي كان يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج لزيارة قبور أهل البقيع.
النوع الثاني: الزيارة البدعية، وهي زيارة أهل الشرك، وأهل البدع الذين يقصدون دعاء الأموات والاستغاثة بهم، وطلب الحوائج، وهذا لم يفعله أحد من السلف الصالح من الصحابة والتابعين وغيرهم (2)
__________
(1) انظر: المصباح المنير 1 \ 260.
(2) انظر: مجموع الفتاوى 24 \ 343، 326، 334، 27 \ 119، 164.(85/239)
المبحث الثالث: حكم زيارة المقابر للرجال:
اختلف العلماء في حكم زيارة المقابر للرجال على أربعة أقوال:
القول الأول: إن زيارة المقابر للرجال مستحبة، وقال بهذا أكثر الحنفية (1) والمالكية (2) والشافعية (3) وهو المذهب عند الحنابلة، وعليه أكثر الأصحاب (4)
أدلة هذا القول:
استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1- عن بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها (5) » وفي رواية: «فمن أراد أن يزور قبرا فليزره، ولا تقولا هجرا (6) »
2- عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) ينظر: فتح القدير 2 \ 150، البحر الرائق 2 \ 210.
(2) ينظر: مواهب الجليل 2 \ 237، الشرح الصغير 1 \ 368.
(3) ينظر: مغني المحتاج 2 \ 506، المجموع 5 \ 285.
(4) ينظر: المغني 3 \ 517، الفروع 2 \ 299.
(5) أخرجه مسلم 2 \ 672، رقم (977) .
(6) أخرج هذه الرواية النسائي في الجنائز، باب زيارة القبور 4 \ 394، برقم (2032) ، وأحمد 5 \ 361، وأصل هذا الحديث عند مسلم، كما تقدم تخريجه قريبا.(85/240)
«إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإن فيها عبرة (1) » .
3- وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هجرا (2) »
فهذه الأحاديث السابقة تدل على أن زيارة القبور مندوب إليها على الوجه الشرعي (3)
4- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: " استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكر بالموت (4) »
__________
(1) أخرجه أحمد 3 \ 38، 63، 66، والحاكم في الجنائز 1 \ 530، برقم (1386) ، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3 \ 61، رجاله رجال الصحيح.
(2) أخرجه الحاكم من طريقين في كتاب الجنائز 1 \ 532، برقم (1393) ، (1394) ، وأحمد 3 \ 237.
(3) ينظر: المجموع 5 \ 285.
(4) أخرجه مسلم في الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه في زيارة قبر أمه 2 \ 671، برقم 976.(85/241)
وهذا دليل على استحباب زيارة القبور، حيث فعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من أدنى درجات الفعل الجواز والمشروعية.
5- عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل البقيع بقيع الغرقد (1) »
حيث دل هذا الحديث على استحباب الزيارة، والسلام على أهل القبور، والدعاء لهم، والترحم عليهم، لفعله صلى الله عليه وسلم.
6- إن زيارة المقابر فيها نفع للحي والميت، وذلك أن الحي يتعظ ويتذكر الموت، وما بعده، وهذا يؤدي به إلى عمل الطاعات، واجتناب المعاصي والسيئات. أما الميت فينتفع بالسلام عليه، والدعاء له بالمغفرة والرحمة، وهذا كله أمر مطلوب شرعا، ومندوب إليه.
القول الثاني: إن زيارة المقابر للرجال مباحة.
__________
(1) أخرجه مسلم في الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور، والدعاء لأهلها 2 \ 669، برقم (9740) .(85/242)
وقال بهذا بعض الحنفية (1) وبعض المالكية (2) وهو رواية عند أحمد (3)
أدلة هذا القول:
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1- حديث (بريدة) - السابق - وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ونهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور قبرا فليزره (4) »
قالوا: هذا أمر بعد الحظر، فيدل على الإباحة، ولا سيما وقد قرنه بما هو مباح، وهو ادخار لحوم الأضاحي، والانتباذ في كل سقاء، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: «ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكرا (5) »
ونوقش هذا الدليل:
لا نسلم بأن الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة فقط، فهناك أوامر
__________
(1) ينظر: بدائع الصنائع 1 \ 320، والدر المختار 2 \ 242.
(2) ينظر: التفريع 1 \ 373، والتاج والإكليل 2 \ 237.
(3) ينظر: الفروع 2 \ 299، والإنصاف 2 \ 561.
(4) أخرجه مسلم 2 / 672، رقم (977) .
(5) أخرجه مسلم 2 / 672، رقم (977) .(85/243)
أفادت الوجوب، وقد وردت بعد الحظر، مثل قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (1) .
ونحو ذلك كثير في القرآن والسنة.
ولو سلمنا بذلك فإنه في زيارة القبور وردت قرائن أخرى تدل على الاستحباب من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله - كما بينا ذلك سابقا -.
وأما دلالة الاقتران؛ فإنها دلالة ضعيفة، بل ردها جمهور أهل العلم من الأصوليين (2) فلا حجة فيها.
القول الثالث: أن زيارة القبور مستحبة، وهي فرض ولو مرة في العمر.
وقال بذلك ابن حزم من الظاهرية (3)
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
هذا القول مبني على قاعدة أصولية، وهي أن الأمر بعد الحظر
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) ينظر: إرشاد الفحول 1 \ 285.
(3) ينظر: المحلى 5 \ 160.(85/244)
يفيد الوجوب، قال ابن حزم: فإذا نسخ الحظر نظرنا فإن جاء نسخه بلفظ الأمر فهو فرض واجب، فعله بعد أن كان حراما (1)
ونوقش هذا الدليل بما يلي:
لا نسلم بأن الأمر بعد الحظر يفيد الوجوب، بل الأمر بعد الحظر يعود إلى ما كان عليه قبل ورود المنع.
ويدل على ذلك الكتاب والسنة (2)
يضاف إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الأمر بزيارة القبور على الإرادة، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: ". . . «فمن أراد أن يزور قبرا فليزره (3) » . .
وهذا دليل على عدم الوجوب.
القول الرابع: أن زيارة القبور مكروهة.
وهذا القول مروي عن ابن سيرين وإبراهيم النخعي
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام 3 \ 333.
(2) ينظر: روضة الناظر، مع شرحها نزهة الخاطر العاطر 2 \ 66.
(3) أخرجه مسلم 2 / 672، رقم (977) .(85/245)
والشعبي (1)
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1 - ما روي عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من زار القبر فليس منا (2) »
2- قال الشعبي: " لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتي "
ونوقش هذا الدليل بما يلي:
لا نسلم بهذا النهي لما ذكرنا من الأدلة السابقة التي تدل على الاستحباب.
وما استدلوا به من النهي، فإنه منسوخ، كما دلت على ذلك السنة الصحيحة الصريحة.
ولعل هؤلاء لم يبلغهم الناسخ لهذا النهي.
__________
(1) ينظر: المصنف لابن أبي شيبة 3 \ 225، والمصنف لعبد الرزاق 3 \ 569.
(2) أخرجه عبد الرزاق في الجنائز، باب في زيارة القبور 3 \ 569، برقم (6705)(85/246)
الترجيح:
إذا نظرنا إلى هذه الأقوال، وما ورد عليها من مناقشات يظهر لنا - والله أعلم - أن القول الراجح، هو القول الأول، وهو أن زيارة القبور مستحبة، وذلك لأمرين.
أولا: قوة أدلتهم وصراحتها.
ثانيا: أن أدلة الأقوال الأخرى قد تمت مناقشتها، بما يدل على ضعفها، والله أعلم.(85/247)
المبحث الرابع: حكم زيارة القبور للنساء:
لا خلاف بين أهل العلم على أن المرأة إذا علمت من نفسها أنها إذا زارت المقابر، صدر عنها ما لا يجوز من قول، أو فعل مثل تجديد بكاء ونياحة، أو حزن، أو تضييع لحق زوجها، أو تبرج وسفور، أو فتنة لها أو لغيرها أن هذه الزيارة على هذه الوجوه السابقة منهي عنها (1) أما إذا خلت الزيارة مما سبق، فإن للعلماء في حكم الزيارة ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن زيارة المقابر للنساء لا يجوز.
__________
(1) ينظر: الفتاوى لابن تيمية 24 \ 356.(85/247)
وهذا قول في مذهب الحنفية (1) والمالكية (2) والشافعية (3) وهو رواية عن أحمد، اختارها بعض الأصحاب (4) وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (5) وتلميذه ابن القيم (6) والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى (7)
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور (8) »
__________
(1) ينظر: البحر الرائق 2 \ 210، ورد المحتار 2 \ 242.
(2) ينظر: مواهب الجليل 2 \ 237.
(3) ينظر: مغني المحتاج 2 \ 57.
(4) ينظر: الإنصاف 2 \ 562، والمبدع 2 \ 248.
(5) ينظر: الاختيارات الفقهية ص 93.
(6) ينظر: تهذيب السنن 9 \ 59.
(7) ينظر: كتاب التوحيد مع شرحه فتح المجيد ص 344.
(8) أخرجه الترمذي 3 \ 371، الجنائز، باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء، برقم (1056) ، وابن ماجه 1 \ 502، الجنائز، باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء للقبور، برقم (1576) ، وأحمد 2 \ 331، وابن حبان كما في الإحسان 5 \ 72، برقم 3168، والبيهقي 4 \ 78، الجنائز، باب ما ورد في نهيهن عن زيارة القبور، وابن عبد البر في التمهيد 3 \ 235، من طريق عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، وعمر هذا صدوق، فحديثه من قبيل الحسن، وله شواهد تقويه إلى الصحة من حديث حسان بن ثابت، وابن عباس، لذلك قال الترمذي بعد أن أخرجه في السنن: هذا حديث حسن صحيح. الجامع الصحيح 3 \ 374.(85/248)
2- عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج (1) »
__________
(1) أخرجه أبو داود في الجنائز، باب في زيارة النساء للقبور 3 \ 216، برقم (3336) ، والترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في كراهة أن يتخذ القبر مسجدا 2 \ 136، برقم (320) ، والنسائي في الجنائز، باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور 4 \ 400، رقم 2042، وابن ماجه في الجنائز، باب ما جاء في النهي عن زيارة القبور 1 \ 502، رقم (1575) ، وابن حبان في الجنائز، ذكر لعن المصطفى صلى الله عليه وسلم المتخذين المساجد والسرج على القبور 7 \ 452، رقم (3179، 3180) ، والبيهقي في الجنائز، باب ما ورد في نهيهن عن زيارة القبور 4 \ 130، رقم (7206) ، وأحمد 1 \ 287، 299، 3240، 337. وكل روايات هذا الحديث بلفظ (: زائرات) ، إلا ابن ماجه فلفظه: (زوارات) ، وكل هؤلاء أخرجوه من طريق أبي صالح، عن ابن عباس، وأبو صالح: هو مولى أم هانئ بنت أبي طالب، وقد ضعفه جماعة، ينظر: تقريب التهذيب ص 21. قال أحمد شاكر - رحمه الله - في تعليقه على الترمذي 2 \ 137 وليس لتضعيف أبي صالح حجة، والذي ادعى أنه لم يسمع من ابن عباس هو ابن حبان - ولعلها فلتة منه - فإن أبا صالح تابعي قديم، وروى عن مولاته أم هانئ، وعن أخيها علي بن أبي طالب، وعن أبي هريرة، وابن عباس أصغر من هؤلاء كلهم، وإنما تكلم فيه من أجل التفسير الكثير المروي عنه، والحمل في ذلك على تلميذه محمد بن السائب الكلبي، ولذلك قال ابن معين: ليس به بأس، وإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء، وهذا تضعيف للكلبي لا أبي صالح. . . ثم قال: فهذا الحديث على أقل حالاته حسن، ثم الشواهد التي ذكرناها في تأييده ترفعه إلى درجة الصحة لغيره، إن لم يكن صحيحا بصحة إسناده هذا. وقد ناقش شيخ الإسلام ابن تيمية كلام الأئمة في أبي صالح، ورجح أن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن، والله أعلم.(85/249)
حيث دل الحديثان على لعن زوارات القبور، وهذا دليل على حرمة هذا الفعل، وخاصة أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج، الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته (1)
ونوقش هذان الدليلان بما يلي:
أولا: أنها ضعيفة الإسناد؛ فلا يصح الاحتجاج بها على حرمة زيارة النساء للقبور.
وقد أجاب - شيخ الإسلام - ابن تيمية عن هذا الاعتراض من ثلاثة وجوه وهي:
أولا: أن كل من تكلم فيه من رجال الإسناد قد عدله طائفة من العلماء، وإذا كان الجارح والمعدل من الأئمة، لم يقبل الجرح إلا
__________
(1) ينظر: تهذيب السنن 9 \ 60.(85/250)
مفسرا، فيكون التعديل مقدما على الجرح المطلق.
ثانيا: أن حديث مثل هؤلاء يدخل في الحسن الذي يحتج به جمهور العلماء، فإذا صححه من صححه، كالترمذي وغيره، ولم يكن فيه من الجرح إلا ما ذكر؛ كان أقل أحواله أن يكون من الحسن.
ثالثا: أن يقال: قد روي من وجهين مختلفين: أحدهما عن ابن عباس، والآخر عن أبي هريرة، ورجال هذا ليس رجال هذا، فلم يأخذه أحدهما عن الآخر، وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب، وإنما التضعيف من جهة سوء الحفظ، ومثل هذا حجة بلا ريب (1)
وكلام شيخ الإسلام عن حديث أبي هريرة، وابن عباس. فكيف إذا انضم إلى ذلك ما روي عن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " زوارات القبور (2) »
فهذا يبين أن الحديث في الأصل معروف.
__________
(1) ينظر: الفتاوى 24 \ 351 - 352.
(2) أخرجه ابن ماجه في الجنائز، باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء للقبور 1 \ 502 برقم (1574) ، والبيهقي في الجنائز، باب ما ورد في نهيهن عن زيارة القبور 4 \ 130 رقم (7205) ، وأحمد 3 \ 442. قال البوصيري في الزوائد 1 \ 502: إسناد حديث حسان بن ثابت رجاله ثقات. فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن لذاته، وهو مع الشواهد السابقة صحيح لغيره، ينظر: إرواء الغليل 3 \ 333.(85/251)
ثانيا: أن اللعن إنما يكون للمكثرات من الزيارة بدليل قوله: (زوارات القبور. .) ، وذلك لما تقتضيه الصفة من المبالغة، وهذا لا يتناول الزائرة من غير إكثار (1)
ويجاب عن ذلك بما يلي:
أنه ورد في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - لفظ: (زائرات) ، وهذا يصدق على الزائرة مرة واحدة، فيؤخذ به.
ثالثا: أن اللعن قد نسخ بالأمر بزيارة القبور للرجال والنساء (2)
ويجاب عن هذا: بأن الصحيح أن حديث اللعن غير منسوخ، بل هو بعد الإذن للرجال في زيارة القبور، وذلك بدليل أن اللعن جاء مقرونا بالمتخذين عليها المساجد والسرج، حيث جاء بصيغة التذكير، التي تتناول الرجال فقط (3)
رابعا: أن اللعن إنما ورد على ما إذا كانت زيارة النساء للقبور لتجديد الحزن، والبكاء والنياحة، أما إذا كانت الزيارة للقبور على الوجه الشرعي من الاعتبار ونحوه فلا يحرم عليهن ذلك. (4)
__________
(1) ينظر: فتح الباري 3 \ 149.
(2) ينظر: الفتاوى 24 \ 354 - 355.
(3) ينظر: الفتاوى 24 \ 353، تهذيب السنن 9 \ 60.
(4) ينظر: المجموع 5 \ 285.(85/252)
ويجاب عن هذا:
بأن هذا التأويل لا دليل عليه، بل إن ما ذكر قد يكون علة للنهي؛ لأن ذلك هو عادة النساء غالبا.
فإذا كانت زيارة النساء للقبور مظنة، وسببا للأمور المحرمة شرعا، فيحرم هذا الباب سدا للذريعة (1)
3- عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: «بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بامرأة لا نظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: " ما أخرجك من بيتك يا فاطمة؟ " قالت: " أتيت أهل هذا البيت، فترحمت إليهم، وعزيتهم بميتهم "، فقال: " لعلك بلغت معهم الكدى؟ " قالت: " معاذ الله أن أكون بلغتها، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر ". فقال: " لو بلغتها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك (2) » والكدى هي القبور، هكذا فسرها بعض الرواة (3)
فقد دل هذا الحديث على أن النساء لا يجوز لهن زيارة القبور؛
__________
(1) ينظر: الفتاوى 24 \ 356.
(2) أخرجه أبو داود في الجنائز، باب في التعزية 3 \ 188، برقم (3123) ، والنسائي 1 \ 616، والحاكم 1 \ 529 - 530، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(3) ينظر: النهاية في غريب الحديث 4 \ 156.(85/253)
لقول فاطمة - رضي الله عنها -: «معاذ الله أن أكون بلغتها، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر (1) » ، يعني من النهي عن ذلك.
ونوقش هذا الدليل:
بأن النهي ليس عن زيارة القبور، وإنما النهي في الحديث عن اتباع الجنائز للنساء؛ لأن مفسدة اتباع الجنائز للنساء أعظم من مفسدة زيارة القبور، حيث إن المصيبة قريبة، ويترتب على ذلك أذى للميت، وفتنة للأحياء، ولا يلزم من تحريم اتباع النساء للجنائز تحريم زيارة المقابر (2)
وأجيب عن ذلك بما يلي:
إن مصلحة اتباع الجنازة أعظم من مصلحة الزيارة، حيث يحصل بالاتباع: الصلاة، ثم الحمل والدفن، وهي فروض كفاية، بخلاف زيارة القبور، فليست فرضا على الكفاية، فإذا كانت النساء قد منعن عما جنسه فرض كفاية، ومصلحته للميت أعظم، فما ليس بواجب على أحد أولى.
وأما قولهم: إن مفسدة الاتباع أعظم فغير مسلم؛ لأنه إذا رخص للنساء في الزيارة كان ذلك مظنة قصد الرجال لهن، وحصول الفتنة،
__________
(1) سنن النسائي الجنائز (1880، 1880) ، سنن أبي داود الجنائز (3123، 3123) ، مسند أحمد (2/169، 2/169) .
(2) ينظر: الفتاوى 24 \ 347، 348.(85/254)
كما هو الحاصل في كثير من البلدان الإسلامية، حيث يقع بسبب الزيارة من الفتن والفساد ما لا يقع عند اتباع الجنائز (1) ؛ لأن المرأة قليلة الصبر، كثيرة الجزع، وفي زيارتها للمقابر تجديد لحزنها، فقد يؤدي بها ذلك إلى ما لا تحمد عقباه.
القول الثاني: إن زيارة النساء للقبور مكروهة.
وهو قول عند الحنفية (2) والمالكية (3) وقال به جمهور الشافعية (4) وهو المذهب عند الحنابلة (5)
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1- عن أم عطية - رضي الله عنها - قالت: «نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا (6) »
حيث دل هذا على النهي عن اتباع النساء للجنائز؛ والزيارة من
__________
(1) ينظر: الفتاوى 24 \ 347، 348.
(2) ينظر: رد المحتار 2 \ 242.
(3) ينظر: الكافي في فقه أهل المدينة المالكي ص 87.
(4) ينظر: مغني المحتاج 2 \ 57.
(5) ينظر: الإنصاف 2 \ 561.
(6) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب اتباع النساء الجنائز 1 \ 381، برقم (1278) .(85/255)
جنس الاتباع؛ فيكون كلاهما مكروها غير محرم (1)
وقد أجاب ابن القيم رحمه الله بما نصه: " وأما قول أم عطية: «نهينا عن اتباع الجنائز (2) » . . . " فهو حجة للمنع، وقولها: «ولم يعزم علينا (3) » . . " إنما نفت فيه وصف النهي، وهو النهي المؤكد بالعزيمة، وليس ذلك شرطا في اقتضاء التحريم، بل مجرد النهي كاف، ولما نهاهن انتهين لطواعيتهن لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فاستفتين عن العزيمة عليهن، وأم عطية لم تشهد العزيمة في ذلك النهي، وقد دلت أحاديث لعنه الزائرات على العزيمة فهي مثبتة للعزيمة، فيجب تقديمها " (4)
يضاف إلى ذلك أن قول أم عطية: «ولم يعزم علينا (5) » . . " قد يكون مرادها لم يؤكد النهي، وهذا لا ينفي التحريم، وقد تكون هي ظنت أنه ليس نهي تحريم، والحجة في قوله صلى الله عليه وسلم لا في ظن غيره.
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور (6) » مع الإذن بزيارة القبور في قوله صلى الله عليه وسلم: " فزوروها " (7)
قالوا: فالحديث الأول خاص بالنساء، والنهي المنسوخ كان عاما
__________
(1) ينظر: الفتاوى 24 \ 354.
(2) صحيح البخاري الجنائز (1278، 1278) ، صحيح مسلم الجنائز (938، 938) ، سنن أبي داود الصلاة (1139، 1139) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1577، 1577) ، مسند أحمد (6/408، 6/408) .
(3) صحيح البخاري الجنائز (1278، 1278) ، صحيح مسلم الجنائز (938، 938) ، سنن أبي داود الجنائز (3167، 3167) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1577، 1577) ، مسند أحمد (6/408، 6/408) .
(4) تهذيب السنن 9 \ 62.
(5) صحيح البخاري الجنائز (1278، 1278) ، صحيح مسلم الجنائز (938، 938) ، سنن أبي داود الجنائز (3167، 3167) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1577، 1577) ، مسند أحمد (6/408، 6/408) .
(6) أخرجه ابن ماجه في الجنائز، باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء للقبور 1 \ 502 برقم (1574) ، والبيهقي في الجنائز، باب ما ورد في نهيهن عن زيارة القبور 4 \ 130 رقم (7205) ، وأحمد 3 \ 442. قال البوصيري في الزوائد 1 \ 502: إسناد حديث حسان بن ثابت رجاله ثقات. فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن لذاته، وهو مع الشواهد السابقة صحيح لغيره، ينظر: إرواء الغليل 3 \ 333.
(7) أخرجه الحاكم من طريقين في كتاب الجنائز 1 \ 532، برقم (1393) ، (1394) ، وأحمد 3 \ 237.(85/256)
للرجال والنساء، ويحتمل أنه كان خاصا للرجال، ويحتمل - أيضا - كون الخبر في لعن زوارات القبور - بعد أمر الرجال بزيارتها، فقد دار الأمر بين الحظر والإباحة، فأقل أحواله الكراهة (1)
ويجاب عن هذا بما يلي:
أن الصحيح أن حديث اللعن غير منسوخ، بل هو بعد الإذن للرجال في زيارة القبور، ويدل على هذا أن حديث اللعن جاء مقرونا بالمتخذين عليها المساجد والسرج، وذكر هذا بصيغة التذكير التي تتناول الرجال، ولعن الزائرات مختص بالنساء، ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسرج باق محكم؛ كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فكذلك الآخر (2)
القول الثالث: أن زيارة النساء للقبور مباحة، وهو الأصح في مذهب الحنفية (3) وقال به بعض المالكية وبعض الشافعية - عند
__________
(1) ينظر: المغني 3 \ 523.
(2) ينظر: الفتاوى 24 \ 353، تهذيب السنن 9 \ 60.
(3) ينظر: البحر الرائق 2 \ 210، رد المحتار 2 \ 242.(85/257)
أمن الفتنة (1) -، وهو رواية عند أحمد (2)
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1- عن عبد الله بن أبي مليكة «أن عائشة - رضي الله عنها - أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين، من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى، ثم أمر بزيارتها (3) »
حيث إن عائشة - رضي الله عنها - قد فهمت دخول النساء في عموم الإذن في زيارة القبور؛ وهذا يدل على الإباحة.
ويجاب عن هذا بما يلي:
1- أن عائشة - رضي الله عنها - تأولت الحديث، وفهمت منه دخول النساء في الأمر، والحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا في
__________
(1) ينظر: المجموع 5 \ 285، مغني المحتاج 2 \ 57.
(2) المغني 3 \ 523، الإنصاف 2 \ 561.
(3) أخرجه الحاكم في الجنائز 1 \ 532 رقم (1392) ، والبيهقي في الجنائز، باب ما ورد في دخولهن في عموم قوله: (فزوروها) 4 \ 131 رقم (7207) ، وابن ماجه، مختصرا بلفظ: أرخص في زيارة القبور 1 \ 500، رقم (1570) قال البوصيري في الزوائد: رجال إسناده ثقات؛ لأن بسطام بن مسلم وثقه ابن معين وأبو زرعة، وأبو داود وغيرهم، وباقي رجاله على شرط مسلم.(85/258)
تأويل الراوي؛ لأن تأويل الراوي يكون مقبولا حين لا يعارضه ما هو أقوى منه، وهنا قد عارضه أحاديث المنع (1)
2- أن عائشة رضي الله عنها قالت في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: «لو شهدتك ما زرتك (2) » وهذا يدل على أنه من المعلوم عندها أن النساء لا يباح لهن زيارة القبور، وإلا لم يكن لقولها ذلك معنى (3)
3- أن في إنكار من أنكر الصحابة على عائشة رضي الله عنها دليلا على أن الصحابة حملوا الإذن للرجال على وجه الخصوص، وإذا تعارض الرأيان من الصحابة، فلا حجة في واحد على الآخر (4)
__________
(1) ينظر: تهذيب السنن 9 \ 61.
(2) هذا جزء من حديث أخرجه الترمذي في الجنائز، باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور 3 \ 371، برقم (1055) ، وعبد الرزاق من طريق أخرى في الجنائز، باب لا ينقل الرجل من حيث يموت 3 \ 517، رقم (6535) قال المباركفوري: رجاله ثقات، إلا ابن جريج مدلس، ورواه عن عبد الله بن مليكة بالعنعنة، لكن قد صرح ابن جريج في رواية عبد الرزاق بالسماع، فزالت شبهة تدليسه. ينظر: تحفة الأحوذي 3 \ 138.
(3) ينظر: الفتاوى 24 \ 345.
(4) ينظر: إعلاء السنن 8 \ 279.(85/259)
4- أن عائشة - رضي الله عنها - إنما قدمت مكة للحج، فمرت على قبر أخيها عبد الرحمن في طريقها، فوقفت عليه، وهذا لا بأس به للنساء، إنما الخلاف في قصدهن الخروج لزيارة القبور (1)
2- قوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها (2) »
حيث يدل ظاهر هذا الحديث بعمومه على جواز زيارة القبور للرجال والنساء؛ لأنه لم يستثن فيه رجلا ولا امرأة، ويجاب عن هذا بأن الخطاب في الحديث خاص بالرجال دون النساء؛ لأن اللفظ ورد بصيغة التذكير، وهو مختص (3) بالرجال بأصل الوضع، فلا يدخل فيه النساء.
ولو سلمنا بدخول النساء بطريق التبع والتغليب عن طريق العموم فلا يعارض الأدلة الخاصة الصريحة في نهي النساء من زيارة القبور.
3- «عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي: " السلام على أهل الديار من المؤمنين
__________
(1) ينظر: تهذيب السنن 9 \ 61.
(2) أخرجه الحاكم من طريقين في كتاب الجنائز 1 \ 532، برقم (1393) ، (1394) ، وأحمد 3 \ 237.
(3) ينظر: الفتاوى 4 \ 344، 353، 361.(85/260)
والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون (1) »
حيث إن تعليم النبي - عليه الصلاة والسلام - لعائشة -رضي الله عنها - هذا الدعاء يدل على إباحة زيارة القبور للنساء (2)
ويجاب عن هذا: بأن الحديث لا يدل على إباحة الزيارة للنساء، وإنما يدل على مشروعية السلام على أهل القبور عند المرور بها دون قصد الزيارة.
4- عن أنس -رضي الله عنه - قال: «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: " اتقي الله واصبري " قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه. فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى (3) »
حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على هذه المرأة جلوسها عند القبر،
__________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه برقم (7110) .
(2) ينظر: نيل الأوطار 4 \ 166.
(3) أخرجه البخاري في الجنائز، باب زيارة القبور 1 \ 382، رقم (1283) ، ومسلم في الجنائز، باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى 2 \ 637 رقم (626) .(85/261)
وهذا إقرار منه صلى الله عليه وسلم (1)
ويجاب عن هذا الدليل: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقر تلك المرأة؛ وإنما أنكر عليها، وأمرها بتقوى الله، ومن ذلك النهي عن زيارة القبور للنساء.
الترجيح:
إذا أمعنا النظر فيما سبق من الأقوال، وما ورد عليها من مناقشات يظهر - والله أعلم - أن القول الراجح هو القول الأول، وهو أن زيارة القبور للنساء محرمة، وذلك للأسباب الآتية:
أولا: قوة أدلة هذا القول، وسلامتها من المناقشة في الجملة.
ثانيا: أن أدلة الأقوال الأخرى، قد تمت الإجابة عليها.
ثالثا: أن القول بالتحريم يتمشى مع قواعد الشريعة العامة، ومع مصلحة الناس في العاجل والآجل.
رابعا: أن القول بالجواز قد يقبل في زمن أمن الفتنة والفساد، أما في زمن كثرة الفتن، والفساد، والابتداع، فلا يمكن أن يقبل بحال، وخاصة ما يحصل في هذه الأزمنة في بعض البلدان الإسلامية عند زيارة القبور، من البلاء، والفتن، والتبرج ما لا يرضاه دين، ولا يقره عقل، فالله المستعان.
__________
(1) ينظر: فتح الباري 3 \ 148.(85/262)
المبحث الخامس: حكم السفر من أجل زيارة القبور:
إن مسألة السفر لأجل زيارة القبور مسألة مشهورة، كثرت حولها الردود والمناقشات، ونشأ الخلاف فيها في القرون المتأخرة بعد عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم، وذلك على يد بعض المبتدعة من الرافضة ونحوهم.
وأول من وضع الأحاديث في السفر لزيارة القبور هم أهل البدع من الرافضة وغيرهم.
وسأبين خلاف العلماء في هذه المسألة فيما يلي:
اختلف العلماء في مسألة السفر لأجل زيارة القبور على قولين:
القول الأول: أن السفر لزيارة القبور لا يجوز مطلقا.
وقال بذلك بعض الحنفية (1) وهو قول مالك، وأكثر أصحابه (2) وقال به بعض الشافعية (3) وهو رواية عند الحنابلة (4) اختارها كبار
__________
(1) ينظر: حجة الله البالغة 1 \ 543.
(2) ينظر: الصارم المنكي ص 18.
(3) ينظر: شرح مسلم 9 \ 106.
(4) ينظر: الإنصاف 2 \ 317، كشاف القناع 2 \ 150.(85/263)
الأئمة المحققين، كابن عقيل (1) وشيخ الإسلام ابن تيمية (2) وابن القيم (3) وابن عبد الهادي (4) والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهم من أئمة الدعوة (5)
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
أولا: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى (6) »
__________
(1) ينظر: المغني 3 \ 117.
(2) ينظر: الفتاوى 27 \ 162، 191.
(3) ينظر: إغاثة اللهفان 1 \ 171.
(4) ينظر: الصارم المنكي ص 19 وما بعدها.
(5) ينظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 354.
(6) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد بيت المقدس 1 \ 355، رقم 1197، ومسلم في كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره 2 \ 976 رقم (828) .(85/264)
حيث دل هذا الحديث على النهي عن السفر لغير المساجد الثلاثة، وهذا النهي يعم السفر إلى المساجد، والمشاهد، وكل مكان يقصد السفر إلى عينه للتقرب (1)
ونوقش هذا الدليل: بأن هذا الحديث يحمل على نفي الفضيلة لا على التحريم، فيكون المقصود أن الفضيلة التامة، إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد الثلاثة، خاصة بخلاف غيرها فإنه جائز (2)
ويرد عليهم: بأن الحديث يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم، لا نفي الفضيلة فقط، ثم إن قولهم: إن هذا نفي للفضيلة، تسليم بأن هذا السفر إلى القبور ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة؛ لأن من اعتقد أن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنه قربة وطاعة فقد خالف الإجماع (3)
ثانيا: أن السفر لأجل زيارة القبور لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولم يكن في عصر السلف الصالح.
__________
(1) ينظر: الصارم المنكي ص 19.
(2) ينظر: فتح الباري 3 \ 65.
(3) ينظر: الفتاوى 27 \ 221.(85/265)
فمن اعتقد أن ذلك عبادة، فهو مخالف للسنة والإجماع (1)
ثالثا: أن السفر لأجل زيارة قبور الأنبياء والصالحين، والتبرك بهم من عادات أهل الجاهلية، وهو وسيلة إلى الشرك فيحرم ذلك؛ سدا لذريعة الشرك، وحماية لحمى التوحيد (2)
القول الثاني: أن السفر إلى زيارة القبور جائز شرعا.
وقال بذلك طائفة من المتأخرين من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة (3) بل ذهب طائفة منهم إلى أن السفر لأجل ذلك أمر مستحب
__________
(1) ينظر: الفتاوى 27 \ 33.
(2) ينظر: حجة الله البالغة 1 \ 188.
(3) ينظر: المغني 3 \ 117، قال ابن قدامة: والصحيح إباحته، يعني السفر لزيارة القبور.(85/266)
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
أولا: استدل أصحاب هذا القول بالأدلة السابقة التي تدل على استحباب الزيارة، ولم يفرقوا بين زيارة القبور مع السفر إليها، وبين الزيارة بدونها (1)
ويجاب عن ذلك: بأن هناك فرقا بين زيارة القبور، وبين السفر لأجل زيارة القبور؛ لأن السفر لأجل الزيارة عبادة زائدة.
وليس في هذه الأحاديث ما يدل عليها، بل جاء ما يدل على النهي عن السفر لأجل زيارة القبور (2)
ثانيا: استدلوا بأحاديث وآثار قالوا: إنها تدل على استحباب السفر لأجل زيارة القبور.
وهذه الأحاديث والآثار في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
أولا: الأحاديث المروية في ذلك، ومنها:
1- حديث: «من حج، فزار قبري بعد وفاتي، فكأنما زارني
__________
(1) ينظر: المغني 3 \ 118.
(2) ينظر: الصارم المنكي ص 18، 30، 32.(85/267)
في حياتي (1) »
2- وحديث: «من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني (2) »
3- وحديث: «من جاءني زائرا لا يعلم له حاجة إلا زيارتي، كان حقا علي أن أكون شفعيا له يوم القيامة (3) »
4- حديث: «من زار قبري وجبت له شفاعتي (4) »
__________
(1) أخرجه الدارقطني 2 \ 278، والبيهقي في شعب الإيمان، باب المناسك 3 \ 489، رقم (4154) من حديث ابن عمر. قال ابن عبد الهادي: '' حديث منكر المتن، ساقط الإسناد. . . ''، ينظر: الصارم المنكي ص 62، وقال البيروني: فيه حفص القارئ ضعيف الحديث، ورمي بالكذب، ينظر: أسنى المطالب ص 429، والفتاوى 27 \ 217.
(2) قال ابن عبد الهادي: هذا الحديث منكر جدا، لا أصل له، بل هو من المكذوبات والموضوعات، ولقد أصاب ابن الجوزي في ذكره في الموضوعات، ينظر: الصارم المنكي ص 87، كتاب الموضوعات لابن الجوزي 2 \ 597.
(3) أخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن عمر -رضي الله عنه - 12 \ 225، رقم (13149) ، قال ابن عبد الهادي، حديث ضعيف الإسناد، منكر المتن، لا يصلح للاحتجاج به. الصارم المنكي ص 49.
(4) أخرجه الدارقطني 2 \ 278، والبيهقي في شعب الإيمان، باب المناسك 3 \ 490، رقم (4159) . وقال ابن عبد الهادي: هذا أمثل حديث ذكروه، وهو مع هذا حديث غير صحيح، ولا ثابت، بل هو حديث منكر عند أئمة هذا الشأن: الصارم المنكي ص 21، وانظر: تلخيص الحبير 2 \ 334.(85/268)
ويجاب عن هذه الأحاديث: بأنها ضعيفة واهية، بل بعضها موضوع فلا تصلح للاحتجاج بها لإثبات حكم شرعي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ما نصه: " وكل حديث يروى في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ضعيف، بل موضوع " أ. هـ (1)
ولو سلمنا أن هذه الأحاديث صحيحة فليس فيها ما يدل على جواز السفر لزيارة القبور، فلا يستقيم الاستدلال بها؛ لأنها ليست في محل النزاع (2)
ثانيا: الآثار، ومنها:
1- أن عمر - رضي الله عنه - لما قدم إلى الشام، قال لكعب الأحبار: هل لك أن تسير معي إلى المدينة، وتزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتتمتع بزيارته؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين، أنا أفعل ذلك
2- ما روي عن بلال رضي الله عنه أنه سافر من الشام إلى المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الفتاوى 27 \ 16، 29، وينظر: الصارم المنكي ص 21.
(2) ينظر: الصارم المنكي ص 49.(85/269)
ويجاب عن هذا: بأن هذه الآثار ضعيفة واهية لا يحتج بها؛ لأنها ليست ثابتة.
ولو سلمنا بثبوتها، فليست حجة في محل النزاع؛ لأن ما نقل عن عمر -رضي الله عنه - لا يدل على جواز السفر لزيارة القبور.
وأما الأثر عن بلال - رضي الله عنه - فليس فيه أنه قصد مجرد زيارة القبر، بل يحتمل أنه قصد زيارة المسجد، أو أنه قصدهما جميعا (1) والدليل إذا تطرق له الاحتمال سقط به الاستدلال.
الترجيح:
إذا أمعنا النظر - فيا سبق من الأقوال، وما ورد عليها من مناقشات يظهر - والله تعالى أعلم أن القول الراجح هو القول الأول، وهو تحريم السفر لزيارة القبور، وذلك للأسباب التالية:
أولا: أن أدلة هذا القول أدلة صحيحة صريحة الدلالة في تحريم السفر لزيارة القبور.
ثانيا: أن أصحاب القول الثاني استدلوا بأدلة ضعيفة، لا تقوى على الاحتجاج بها.
ثالثا: أن القول بمشروعية السفر لزيارة القبور، وخاصة قبور
__________
(1) ينظر: الصارم المنكي ص 241.(85/270)
الأنبياء والصالحين، لم يقل به أحد من أئمة السلف، بل قول لبعض المتأخرين، وهو قول شاذ مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، والله تعالى أعلم.(85/271)
المبحث السادس: حكم زيارة قبور الكفار:
اختلف الفقهاء في حكم زيارة قبور الكفار على قولين:
القول الأول: يجوز للمسلم زيارة مقابر الكفار من أجل الموعظة والاعتبار.
وقال بذلك أكثر الشافعية (1) والحنابلة (2) والظاهرية (3)
وقد استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
أولا: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله " فقال: " استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكر الموتى (4) »
ثانيا: عن بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ينظر: المجموع.
(2) ينظر: كشاف القناع 2 \ 250.
(3) ينظر: المحلى 5 \ 160.
(4) أخرجه الحاكم من طريقين في كتاب الجنائز 1 \ 532، برقم (1393) ، (1394) ، وأحمد 3 \ 237.(85/271)
قريبا من ألف راكب، فنزل بنا وصلى بنا ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر، ففداه بالأم والأب يقول: ما لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: " إني استأذنت ربي في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمة لها، واستأذنت ربي في زيارتها فأذن لي، وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وليزدكم زيارتها خيرا (1) »
حيث دل هذان الحديثان على جواز زيارة قبور الكفار، إذا كان ذلك للاعتبار والاتعاظ (2)
القول الثاني: تحريم زيارة قبور الكفار.
وقال بذلك الماوردي من الشافعية (3)
__________
(1) أخرجه أحمد 5 \ 355، 357، 359، والبيهقي في الجنائز، باب في زيارة القبور 4 \ 128 رقم (7193) ، وابن أبي شيبة في الجنائز، باب من رخص في زيارة القبور 3 \ 224، والحاكم واللفظ له في كتاب الجنائز 1 \ 532 رقم (1391) ، وقال الحاكم: هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي 1 \ 532، وقال الهيثمي في مجمع الزائد 1 \ 121، 122، رجاله رجال الصحيح.
(2) شرح صحيح مسلم للنووي 7 \ 45.
(3) ينظر: الحاوي الكبير 3 \ 19.(85/272)
وقد استدل على ذلك بما يلي:
1- قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (1) .
ويجاب عن الاستدلال بهذه الآية، بأن المقصود من الآية القيام على قبر الكافر للدعاء له والاستغفار، وهذا منهي عنه، بدليل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} (2) .
أما زيارة الكافر، فليس في الآية ما يدل على النهي عنه.
الترجيح:
إذا نظرنا في القولين السابقين، وما ورد على دليل القول الثاني يظهر - والله أعلم - أن القول الأول هو الراجح، وهو جواز زيارة قبور الكفار للاعتبار والاتعاظ؛ لفعله عليه الصلاة والسلام، وخاصة القريب، ولا يجوز عند الزيارة السلام عليهم، ولا الاستغفار لهم، بل إن الزائر لقبور الكفار يبشرهم بالنار بدليل حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: «جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي كان يصل الرحم، وكان وكان فأين هو؟ قال: " هو في النار "، فكأن الأعرابي وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله، فأين أبوك؟ قال: " حيثما
__________
(1) سورة التوبة الآية 84
(2) سورة التوبة الآية 113(85/273)
مررت بقبر كافر فبشره بالنار " قال: فأسلم الأعرابي بعد، فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار (1) »
كما أنه لا يجوز أن يقصد من زيارته لقبور الكفار تعظيمهم والإعجاب بهم؛ لأن ذلك نوع من موالاة الكفار، أو يكون ذلك لأجل النزهة والسياحة، وإنما الجائز زيارة قبور الكفار لأجل الذكرى والاتعاظ، وأن يحمد الله عز وجل على هدايته للإسلام.
(مسألة) : زيارة الكافر قبر المسلم.
ذكر بعض أهل العلم أن الكافر لا يمنع من زيارة قبر قريبه المسلم، لعدم المحظور (2) وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير 1 \ 145، رقم (326) ، والبزار في مسنده (البحر الزخار) 3 \ 299 رقم (1089) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1 \ 122 رجاله رجال الصحيح، وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في زيارة قبور المشركين 1 \ 501 برقم (1573) ، وفي الزوائد إسناده صحيح، رجاله ثقات. قال الألباني رحمه الله: والحديث من مسند سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وذكره عن ابن عمر خطأ، من أحد الرواة. ينظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 1 \ 55 رقم (18)
(2) ينظر: المبدع 2 \ 962، وكشاف القناع 2 \ 150.(85/274)
رحمه الله (1) ولعل ذلك يكون سببا في هدايته لهذا الدين حين يرى مصير قريبه، والله أعلم.
__________
(1) ينظر: الاختيارات الفقهية ص 90.(85/275)
المبحث السابع: حكم زيارة القبور المكذوبة والمظنونة:
بينا سابقا استحباب زيارة القبور للرجال على القول الراجح، بقصد السلام عليهم، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، والاعتبار، وهذا شامل لجميع قبور المسلمين، وأهل الخير والفضل منهم أولى بذلك.
لكن هناك قبور لرجال معروفين، قد علم أنها ليست مقابرهم، فهذه ليست فيها فضيلة أصلا، إلا إذا كانت قبورا لرجال مسلمين، لأنه ليس في معرفة القبور بأعيانها فائدة شرعية، بل إن عدم العلم بالقبور؛ وخاصة قبور الأنبياء من تمام التوحيد؛ لأن تعظيم الأنبياء إنما يكون بالإيمان بهم، واتباعهم والعمل بشرعهم.
أما القصد إلى قبورهم، ودعاؤهم من دون الله، والاستغاثة بهم ونحو ذلك، فهذا نقص في التوحيد، بل هو الشرك بالله عز وجل.
والصحابة - رضوان الله عليهم - قالوا بذلك فلم يدعوا قبرا ظاهرا من قبور الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يفتتن به الناس حتى قبر(85/275)
النبي صلى الله عليه وسلم حجبوه في الحجرة. ومنعوا الناس منه بحسب الإمكان (1)
ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «لولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا (2) »
وهذا الفعل من فقه الصحابة - رضوان الله عليهم - لأنهم أحرص الناس على نفع الناس، ودفع الضرر عنهم مما يخل بعقيدتهم، فلو كان إظهار القبور خيرا لسبقوا إليه.
ومع ذلك هناك قبور أحدثها الناس، وزعموا أنها من قبور الأنبياء، أو الصحابة، وهي كما يلي:
أولا: بيان بعض القبور المكذوبة:
يوجد قبور مضافة لبعض الأنبياء يعظمها الناس، ويقومون بزيارتها على غير دليل، بل بعضها كذب قطعا.
ومن ذلك ما يلي:
1- قبر نوح - عليه الصلاة والسلام - وهو قبر مشهور بالكرك
__________
(1) ينظر: الفتاوى 27 \ 271.
(2) أخرجه البخاري في الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور 1 \ 395، رقم (1330) ، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور 1 \ 376، رقم (529) .(85/276)
وهو غير صحيح، ولم يقل أحد من أهل العلم: إن هذا قبر نوح، بل لم يرد فيه خبر صحيح أصلا (1)
2- القبر المنسوب إلى هود - عليه الصلاة والسلام - بجامع دمشق، وهو غير صحيح باتفاق أهل العلم؛ لأن هودا لم يأت إلى الشام؛ بل بعث إلى اليمن، وهاجر إلى مكة، فقيل: إنه مات باليمن، وقيل: بمكة (2)
3- قبور الأنبياء: يونس، وإلياس، وشعيب، وزكريا، سئل عنها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فقال: لا تعرف (3)
وأما القبور المنسوبة إلى بعض الصحابة والتابعين، وهي كذب ما يلي:
1- قبر علي - رضي الله عنه - بالنجف، وهذا غير صحيح؛ لأن المعروف عند أهل العلم أن عليا دفن بقصر الإمارة بالكوفة، خوفا عليه من الخوارج أن ينبشوا قبره (4)
__________
(1) ينظر: الفتاوى 27 \ 61.
(2) ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2 \ 651.
(3) ينظر: الفتاوى 27 \ 445.
(4) ينظر: الفتاوى 27 \ 446.(85/277)
2- القبر المنسوب إلى أبي بن كعب في دمشق، ومن المعروف أن أبي بن كعب توفي في المدينة (1)
3- قبر عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في الجزيرة وهو غير صحيح؛ لأن ابن عمر مات بمكة، وأوصى أن يدفن في الحل؛ لكونه من المهاجرين، فدفن بأعلى مكة (2)
4- قبر ينسب إلى أم كلثوم، ورقية - رضي الله عنهما - بالشام، وهذا غير صحيح؛ لأنهما توفيتا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة (3)
5- مشهد رأس الحسين الموجود في القاهرة، فقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية في مناقشة القول بأن رأس الحسين كان بعسقلان، ثم نقل إلى القاهرة، وأجاب عن ذلك من وجوه عدة، وقال: " إن الذي ذكره من يعتمد عليه من العلماء والمؤرخين، أن الرأس حمل إلى المدينة، ودفن عند أخيه
__________
(1) ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2 \ 651.
(2) ينظر: الاختيارات الفقهية ص 97.
(3) ينظر: الفتاوى 27 \ 494.(85/278)
الحسن، وأما بدن الحسين فبكربلاء بالاتفاق " (1)
6- قبر علي بن الحسين الموجود بمصر، وهو غير صحيح قطعا؛ لأن علي بن الحسين توفي بالمدينة بإجماع أهل العلم، ودفن بالبقيع (2)
ثانيا: بيان بعض القبور المظنونة:
1- قبر الخليل إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - فأكثر الناس على أنه في مدينة الخليل في فلسطين (3) وأنكر ذلك بعض أهل العلم (4)
2- قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه بحمص، والمشهور عند الناس أنه قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه، وقد اختلف في ذلك هل هو قبره، أو قبر خالد بن يزيد بن معاوية (5)
3- قبر بلال بدمشق، وهو ممكن؛ لأن بلالا رضي الله عنه دفن هناك، لكن
__________
(1) ينظر: الفتاوى 27 \ 451 - 489.
(2) ينظر: الفتاوى 4 \ 516، وكذا 27 \ 492.
(3) ينظر: تاريخ الطبري 1 \ 187.
(4) ينظر: الإصابة 2 \ 100.
(5) ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2 \ 657.(85/279)
القطع بتعيين قبره محل نظر (1)
هذه بعض القبور المكذوبة والمظنونة، وسبب ذلك أن ضبط ذلك ليس من الدين، وإنما وضعت هذه المشاهد الباطلة مضاهاة لبيوت الله، وتعظيما لما لم يعظمه الله، وصدا للناس عن سبيل الله، فالله المستعان.
__________
(1) ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2 \ 739.(85/280)
المبحث الثامن: بيان المواسم والأعياد المحدثة في زيارة القبور:
ابتدع بعض أهل الضلال بدعا عظيمة تتعلق بالقبور، سواء كانت قبورا عامة، أو قبورا خاصة، لبعض من يسمون بالأولياء والصالحين، حيث يقومون باتخاذ هذه القبور أعيادا، ومزارات تشد إليها الرحال، وتقصد في أوقات معينة، وهذا لا خلاف بين أهل العلم في تحريمه (1) ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر أمته عن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم (2) »
__________
(1) ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2 \ 739.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب زيارة القبور 2 \ 225، رقم (2042) ، وأحمد 2 \ 367، قال ابن تيمية رحمه الله: وهذا إسناد حسن، فإن رواته كلهم ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه المدني، صاحب مالك، فيه لين لا يقدح في حديثه. قال يحيي بن معين: هو ثقة، وحسبك بابن معين موثقا، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم الرازي ليس بالحافظ، وهو لين، تعرف حفظه وتنكره، فإن هذه العبارات منهم تنزل حديثه من مرتبة الصحيح إلى مرتبة الحسن، إذ لا خلاف في عدالته وفقهه. وللحديث شواهد من غير طريقه، فإن هذا الحديث روي من جهات أخرى فما بقي منكرا، اقتضاء الصراط المستقيم 2 \ 659، 660.(85/280)
حيث نهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره عيدا، وهو أفضل قبر على وجه الأرض، فقبر غيره من باب أولى بالنهي كائنا من كان (1)
وإنما جاء النهي والذم لهذه المواسم والأعياد المحدثة لما تشتمل عليه من المفاسد العظيمة في الدين، من الصلاة إلى القبور، أو الدعاء عندها، أو الطواف بها، أو غير ذلك من البدع والمحدثات، قال ابن القيم -رحمه الله -: ". . . . ثم إن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله تعالى، ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله تعالى، وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك، ولكن ما لجرح بميت إيلام.
فمن مفاسد اتخاذها أعيادا، الصلاة إليها، والطواف بها وتقبيلها،
__________
(1) إغاثة اللهفان 1 \ 168.(85/281)
واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفان، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. ا. هـ (1)
ولا شك أن ما ذكره ابن القيم رحمه الله هو الواقع في كثير من البلدان الإسلامية، فالله المستعان.
ومن المواسم المحدثة في زيارة القبور:
1- زيارة القبور في يومي العيدين:
فمن العادات السيئة تخصيص زيارة قبور بعض القرابات في الأعياد بحجة أن ذلك من باب البر، وزيارة المحبة لهم، وهذا من البدع المحدثة المحرمة (2)
2- زيارة القبور يوم عرفة، أو التعريف عند القبر:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " فمن ذلك ما يفعل يوم عرفة، مما لا أعلم بين المسلمين خلافا في النهي عنه، وهو قصد قبر من يحسن به الظن يوم عرفة، والاجتماع العظيم عند قبره، كما
__________
(1) ينظر: إغاثة اللهفان 1 \ 168.
(2) ينظر: المصدر السابق 1 \ 169 - 170.(85/282)
يفعل في بعض أرض المشرق والمغرب والتعريف هناك، كما يفعل بعرفات فإن هذا نوع من الحج المبتدع، الذي لم يشرعه الله، ومضاهاة للحج الذي شرعه الله، واتخاذ القبور أعيادا. . .
وقال أيضا: وهذا محرم سواء كان بشد رحل، أو لم يكن، وسواء كان في يوم عرفة أو في غيره (1)
3- زيارة المقابر يوم عاشوراء (العاشر من شهر الله المحرم) ، وهذا من البدع المحدثة في هذا اليوم (2)
4- زيارة المقابر في ليلة النصف من شعبان.
وقد ذكر بعض أهل العلم بعض ما يحصل في تلك الليلة من البدع التي أحدثها الناس عند القبور، وما يترتب عليها من المفاسد العظيمة (3)
5- زيارة القبور في وقت معين، مثل من يخصص يوم الجمعة للزيارة من كل أسبوع، بحجة أن الميت إذا لم يزر ليلة الجمعة بقي خاطره منكسرا بين الأموات - كما يزعم ذلك
__________
(1) ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2 \ 642.
(2) ينظر: المصدر السابق 2 \ 737، المدخل 1 \ 290.
(3) ينظر: المدخل 1 \ 310 - 313.(85/283)
بعض المبتدعة (1) وهذه دعوى باطلة ما أنزل الله بها من سلطان.
6- زيارة قبر الميت في اليوم السابع من دفنه، لأجل الترحم عليه، والدعاء له، وقال بذلك فقهاء المالكية (2) واستدلوا على ذلك بأثر عن طاوس قال: كانوا يستحبون ألا يتفرقوا عن الميت سبعة أيام؛ لأنهم يفتنون ويحاسبون في قبورهم سبعة أيام، وهذا الأثر إن صح عن طاوس فلا حجة فيه؛ لأن طاوسا يستدل لقوله، ولا يستدل بقوله، ولو سلمنا بحجيته، فلا يدل ظاهر الأثر على مشروعية الزيارة في اليوم السابع.
وذهب بعض أهل العلم إلى منعه وكراهته، وهذا هو الصواب؛ لأن من أجاز ذلك لم يستند على حجة شرعية وبناء على ذلك، فإن هذا لا أصل له، فيكون من البدع المحدثة.
__________
(1) ينظر: المدخل 1 \ 277.
(2) ينظر: المعيار المعرب 1 \ 212، 213.(85/284)
7- مما أحدثه بعض الناس الذهاب صبيحة يوم الثاني من دفن الميت، وزيارة القبر، واجتماع أقاربه عنده، ومن غاب عن ذلك وجدوا عليه (1)
هذه بعض المواسم والأعياد التي أحدثها بعض الناس لزيارة القبور، بغير دليل شرعي، فالله المستعان.
__________
(1) ينظر: المدخل 3 \ 277.(85/285)
المبحث التاسع: وقت زيارة القبور:
يستحب الإكثار من زيارة القبور من غير حد؛ ويدل على ذلك ظاهر الأحاديث التي تدل على مشروعية زيارة القبور، وعدم هجرانها من غير تحديد بزمن.
وقد ذهب جماعة من الفقهاء إلى أن الأفضل أن تكون الزيارة في يوم الجمعة (1)
واستدلوا على ذلك:
أولا: بحديث: «من زار قبر والديه، أو أحدهما في كل جمعة مرة غفر له، وكتب بارا (2) »
__________
(1) ينظر: رد المحتار 2 \ 242، مواهب الجليل 2 \ 237، حاشية الجمل 2 \ 209، الفروع 2 \ 301.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب مكارم الأخلاق، باب ما جاء في صلة الرحم (179) برقم (249) ، والبيهقي في شعب الإيمان، باب في بر الوالدين 6 \ 201 برقم (7901) ، والطبراني في الأوسط 7 \69، برقم (6110) ، والصغير (199) . قال العراقي: '' أخرجه الطبراني. . من حديث أبي هريرة وابن أبي الدنيا. . . من رواية محمد بن النعمان، يرفعه وهو معضل، ومحمد بن النعمان مجهول، وشيخه عند الطبراني يحيى بن العلاء متروك، المغني عن حمل الأسفار في الأسفار 4 \ 490. وقال أحمد بن حنبل عن يحيى بن العلاء: '' كذاب يضع الحديث ''، ينظر: لسان الميزان 4 \ 397 رقم (9591) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3 \ 62، 63 عن الحديث: وفيه عبد الكريم أبو أمية وهو ضعيف، فالحديث إذن فيه كذاب، وهو يحيى بن العلاء، ومجهول وهو محمد بن النعمان، وضعيف وهو عبد الكريم أبو أمية، ولهذا قال عنه الألباني: إنه موضوع: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1 \ 65، رقم (49) .(85/285)
ويجاب عن هذا الدليل؛ بأن الحديث ضعيف الإسناد جدا، ولهذا حكم عليه بعض أهل العلم بالحديث بالوضع، ومثل هذا لا يصلح العمل به مطلقا.
ثانيا: قالوا: إن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة، ويوما قبله ويوما بعده، وذلك لفضل يوم الجمعة، ومكانه وعظمه (1)
__________
(1) ينظر: حاشية رد المحتار 2 \ 242، مواهب الجليل 2 \ 237، إحياء علوم الدين 4 \ 491.(85/286)
وقد أورد ابن القيم - رحمه الله - في ذلك بعض الأخبار والمنامات (1)
ويجاب عن ذلك: بأن هذا القول لا دليل عليه سوى بعض الأخبار والمنامات، ومثل هذا لا يصح لإثبات الأحكام الشرعية، والذي ورد في السنة أن الميت يعلم بزائره متى جاءه لا يختص ذلك بوقت معين (2)
__________
(1) ينظر: زاد الميعاد 1 \ 415، 416.
(2) ينظر: الاستذكار 2 \ 165.(85/287)
المبحث العاشر: صفة الزيارة الشرعية:
لقد بينا - سابقا - أن زيارة القبور للرجال أمر مستحب، وهذه الزيارة المشروعة يقصد بها ما يلي:
أولا: تذكر الآخرة، والاعتبار، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: «زوروا القبور؛ فإنها تذكر الآخرة (1) »
ثانيا: الإحسان إلى الميت بالدعاء له بالمغفرة والرحمة، وسؤال العافية.
ثالثا: إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة، والوقوف عند حدود الشرع.
__________
(1) أخرجه الحاكم من طريقين في كتاب الجنائز 1 \ 532، برقم (1393) ، (1394) ، وأحمد 3 \ 237.(85/287)
أما ما يتعلق بصفة الزيارة ففيها عدة أحكام منها:
أولا: السلام على أهل القبور، والدعاء لهم عند الزيارة، أو المرور بها.
اتفق الفقهاء على مشروعية السلام على أهل القبور، والدعاء لهم عند زيارة المقابر، واستدلوا على ذلك بما يلي:
1- عن بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: السلام على أهل الديار، وفي رواية: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية. وفي رواية " أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع، أسأل الله لنا ولكم العافية (1) »
2- وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون، وإنا إن شاء
__________
(1) أخرجه مسلم في الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها 2 \ 671 رقم (975) .(85/288)
الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد (1) »
3- عن أبي هريرة -رضي الله عنه - «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة، فقال: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. . . (2) » الحديث
وذهب جمهور الفقهاء (3) كذلك إلى مشروعية هذا السلام، والدعاء عند المرور بالمقابر، ويدل على ذلك حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه، فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن الأثر (4) »
أما إذا كانت المقابر - مستورة - كما هو الحال في كثير من البلاد الإسلامية، فإن المار يسلم على أهلها، ولو من وراء السور؛ لأن أمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا، ولأن عامة المسلمين يسلمون على
__________
(1) أخرجه مسلم في الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور، والدعاء لأهلها 2 \ 669، برقم (9740) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل 1 \ 216، رقم (249) .
(3) ينظر: التاج والإكليل 2 \ 237، المجموع 5 \ 286، المغني 3 \ 517.
(4) أخرجه الترمذي في الجنائز، باب ما يقول إذا دخل المقابر 3 \ 369 رقم (1053) ، قال الترمذي: '' حديث ابن عباس حديث حسن غريب ''، والحديث له شواهد كثيرة، فيتضح تحسين الترمذي له، والله أعلم.(85/289)
النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه من خارج الحجرة، وهم لا يشاهدون قبورهم.
فالمقصود من ذلك السلام، والدعاء للأموات بالرحمة والمغفرة، وهذا حاصل بإذن الله، والله أعلم.
ثانيا: أن يكون حال الزيارة قائما:
اختلف العلماء في الزائر، هل يستحب له القيام، أم يكون مخيرا بينه وبين الجلوس، على قولين:
القول الأول: أن الأفضل للزائر أن يكون حال الزيارة والدعاء قائما، وقال بذلك فقهاء الحنفية (1) والشافعية (2) وهو الصحيح من مذهب الحنابلة (3)
واستدل أصحاب هذا القول بأن القيام في زيارة القبور هو الوارد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ بدليل حديث عائشة رضي الله عنها الطويل قالت: ". . . «ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات (4) » . . . " الحديث.
القول الثاني: أن الزائر للقبور مخير بين القيام والجلوس،
__________
(1) ينظر: فتح القدير 2 \ 150.
(2) ينظر: المجموع 5 \ 286.
(3) ينظر: الإنصاف 2 \ 562.
(4) أخرجه مسلم في الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور، والدعاء لأهلها 2 \ 669، برقم (9740) .(85/290)
وهذا قول في مذهب المالكية (1) والشافعية (2) وهو رواية في مذهب الحنابلة (3)
وقاسوا ذلك على زيارة الرجل أخاه في الحياة، فلربما جلس عنده، وربما زاره قائما.
والأقرب للصواب هو القول الأول، لما ذكروه من الدليل؛ ولأن القيام عند القبر قد روي عن جماعة من السلف، فينبغي الوقوف عند الوارد في السنة والأثر (4)
ثالثا: أن يكون قريبا من القبر.
يشرع للزائر أن يدنو من قبر الميت، وقال بذلك فقهاء الحنفية (5) والشافعية (6) والحنابلة (7)
ولم أقف على دليل، أو مستند لهذا القول، والصواب أن المشروع هو الوقوف عند القبر، والسلام على صاحبه، والدعاء له - كما سبق -
__________
(1) ينظر: مواهب الجليل 2 \ 237.
(2) ينظر: المجموع 5 \ 286.
(3) ينظر: الإنصاف 2 \ 562.
(4) ينظر: المجموع 4 \ 285.
(5) ينظر: رد المحتار 2 \ 242.
(6) ينظر: روضة الطالبين 1 \ 657.
(7) ينظر: الإنصاف 2 \ 562.(85/291)
والله أعلم.
رابعا: أن الزائر يستقبل القبور حال السلام على أهلها والدعاء لهم.
وقال بذلك جمهور الفقهاء (1) رحمهم الله.
وفي مذهب أبي حنيفة قولان، الأول: مثل قول الجمهور، والثاني: أن السنة أن يقف الزائر مستقبل القبلة
والذي يظهر أن قول الجمهور هو الأقرب للصواب، بدليل فعل النبي صلى الله عليه وسلم: «حين مر بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه (2) » . . . " الحديث.
فهذا الحديث يدل على أن المستحب في حال السلام على الميت أن يكون وجهه لوجه الميت، وكذلك حال الدعاء (3)
وقد ذكر بعض الفقهاء: أن الأولى أن يأتي الزائر من قبل رجل الميت، لا من قبل رأسه، وعللوا ذلك بأنه أيسر لبصر الميت (4)
والذي يظهر أن الأمر في ذلك واسع، وما ذكروه لا دليل عليه من
__________
(1) ينظر: مواهب الجليل 2 \ 237، مغني المحتاج 2 \ 57، المغني 5 \ 466.
(2) أخرجه الترمذي في الجنائز، باب ما يقول إذا دخل المقابر 3 \ 369 رقم (1053) ، قال الترمذي: '' حديث ابن عباس حديث حسن غريب ''، والحديث له شواهد كثيرة، فيتضح تحسين الترمذي له، والله أعلم.
(3) ينظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 4 \ 253.
(4) ينظر: رد المحتار 2 \ 242.(85/292)
الكتاب والسنة، أما القياس والنظر فلا يصح في مثل هذا، والله أعلم.
خامسا: أن يكون الزائر للقبور على وضوء.
وهذه الصفة ذكرها بعض الفقهاء (1) ولم يذكروا لذلك دليلا من كتاب أو سنة.
ومن المعلوم أن الأصل في العبادات التوقيف، ولم أقف على دليل أو مستند لتلك الصفة، والله أعلم.
__________
(1) ينظر: مغني المحتاج 2 \ 56.(85/293)
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشكره عز وجل، وأثني عليه، وأسأله المزيد من فضله ومنته، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فلقد توصلت من خلال هذه الدراسة لهذا الموضوع الموسوم بـ (أحكام زيارة القبور) إلى النتائج التالية:
أولا: أن زيارة المقابر للرجال مستحبة، كما ذهب إلى ذلك جمهور أهل العلم.
ثانيا: أن زيارة النساء للمقابر محرمة على الراجح من أقوال(85/293)
أهل العلم.
ثالثا: أن السفر لأجل الزيارة لا يجوز، بل هو من البدع المحدثة في الدين، وهذا على الراجح من أقوال أهل العلم.
رابعا: أن زيارة قبور الكفار جائزة، لأجل الذكرى، والاعتبار على قول جمهور العلماء، ولا تجوز زيارتهم على غير هذا الوجه، وأما زيارة الكافر لقبر قريبه المسلم فيجوز لعدم المحظور.
خامسا: أن أكثر القبور والمشاهد الموجودة في بعض البلاد الإسلامية والتي تزار وتعظم، ويدعى أنها قبور لبعض الأنبياء أو الصحابة، كذب وزور، أو مختلف فيه.
سادسا: أن هناك مواسم وأعيادا أحدثها الناس في زيارة القبور مثل: زيارة القبور في يومي العيدين، أو يوم عرفة، أو يوم عاشوراء، أو ليلة النصف من شعبان، أو الاجتماع عند القبر في يوم معين كالجمعة، أو في اليوم السابع من دفنه، أو صبيحة اليوم الثاني من دفن الميت، وهذه كلها لا دليل عليها من الكتاب والسنة.
سابعا: أن الصواب: أنه ليس هناك وقت فاضل تستحب فيه الزيارة، بل يشرع الإكثار من زيارة القبور من غير حد أو(85/294)
وقت معين.
ثامنا: أن صفة الزيارة الشرعية السلام على أهل القبور، والدعاء لهم عند الزيارة، أو المرور بهم.
والصواب أن يكون حال الزيارة قائما، مستقبل أهل القبور حال السلام عليهم، هذا والله أعلم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه.(85/295)
فصل الخطاب في حكم الحجاب
لفضيلة الدكتور خالد بن مفلح الحامد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فإن من أعظم مقاصد هذا الدين، إقامة مجتمع طاهر، الخلق سياجه، والعفة طابعه، والحشمة شعاره، والوقار دثاره، مجتمع لا تهاج فيه الشهوات، ولا تثار فيه عوامل الفتنة، تضيق فيه فرص الغواية، وتقطع فيه أسباب التهييج والإثارة، ولقد خصت المؤمنات بتوجيهات في هذا ظاهرة، ووصايا جليلة، فعفة المؤمنة نابعة من دينها، ظاهرة في سلوكها، ومن هنا كانت التربية تفرض الانضباط في اللباس سترة واحتشاما، ورفضا للسيرة المتهتكة والعبث الماجن.
فشرع الحجاب ليحفظ هذه العفة، ويحافظ عليها، وشرع ليصونها(85/297)
من أن تخدشها أبصار الذين في قلوبهم مرض، إنه الحجاب، القضية الكبرى، والمسألة العظمى، التي جهلها بعض الناس، فظنوا أنه مجرد لباس يلبس، للمرأة الحرية في اختيار شكله، ولها الحرية في نزعه.
طالما استوقفني هذا الموضوع كثيرا، ورأيت فيه من تضارب الأقوال شيئا كبيرا، فتارة يقال: بأن مسألة حجاب الوجه للمرأة مسألة اتفاقية، وتارة يقال: بل هي مسألة خلافية، وتارة يقال: بأن مذاهب الأئمة الأربعة على جواز كشف الوجه للمرأة، وتارة يقال بالعكس من ذلك. تارة ينسب إلى بعض السلف من الصحابة - رضي الله عنهم - القول بكشف الوجه للمرأة، وتارة ينسب لهم قول آخر بخلافه.
فأين محل الاتفاق؟ وأين محل الخلاف؟ وما هو الحكم الشرعي الصحيح الواجب على كل مسلم ومسلمة اتباعه؟
وللإجابة عن ذلك قمت بهذا البحث المتواضع؛ من أجل الوصول إلى رؤية واضحة يعضدها الدليل، وكلام أهل العلم الموثق من كتبهم، من أجل تحقيق نسبة الأقوال لكل مذهب، ومن أجل معرفة حقيقة الخلاف بينهم في هذه المسألة.
وهذا البحث يتكون - بعد المقدمة - من تمهيد ومبحثين وفق الآتي:(85/298)
التمهيد، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الحجاب لغة واصطلاحا.
المطلب الثاني: تعريف الوجه لغة واصطلاحا.
المطلب الثالث: تعريف بعض الألفاظ ذات الصلة.
المبحث الأول: حكم حجاب وجه المرأة في الصلاة، وفي حال الإحرام، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم حجاب وجه المرأة في الصلاة.
المطلب الثاني: حكم حجاب وجه المرأة في حال الإحرام.
المبحث الثاني: حكم حجاب وجه المرأة خارج الصلاة والإحرام، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تحرير محل النزاع، وذكر أقوال العلماء في المسألة.
المطلب الثاني: ذكر أدلة كل قول مع المناقشة والترجيح.
المطلب الثالث: ذكر أسباب الخلاف.
وخاتمة، وفهرس المصادر.
وأما المنهج الذي سوف ألتزم به في بحث هذا الموضوع - إن شاء الله تعالى - فعلى النحو الآتي:
- جمع المادة العلمية من المصادر الأصلية.
- عزو الآيات إلى سورها مرقومة، فإن كانت جزءا من آية(85/299)
ذكرت ذلك.
- تخريج الآيات والآثار من مصادرها، فإن كان الحديث في الصحيحين، أو في أحدهما فإنني أكتفي بذلك، وإلا فإنني أذكر درجة الحديث من حيث الصحة وعدمها من الكتب المعتمدة في ذلك.
- توثيق أقوال الفقهاء، مع ذكر بعض النصوص الدالة على أقوالهم، من الكتب المعتمدة في كل مذهب.
- ترجمة مختصرة للأعلام غير المشهورين تتضمن: اسمه، نسبه، ومذهبه الفقهي، وتاريخ مولده، ووفاته، مع ذكر مصدر ترجمته.
فأسأله - تعالى - الهدى والسداد، والإخلاص في الأقوال والأعمال، كما أسأله مغفرة الزلل والخطأ الذي لا يخلو منه بشر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(85/300)
المطلب الأول: تعريف الحجاب لغة واصطلاحا:
تعريف الحجاب لغة:
قال في مختار الصحاح: " الحجاب: الستر، وحجبه: منعه من الدخول، ومنه الحجب في الميراث، والمحجوب: الضرير، وحاجب العين: جمعه حواجب " (1)
وقال في لسان العرب: " حجب: الحجاب: الستر. حجب الشيء يحجبه حجبا وحجابا. وحجبه: ستره. وقد احتجب وتحجب إذا اكتن من وراء حجاب " (2)
تعريف الحجاب اصطلاحا:
" الحجاب كل ما ستر المطلوب، أو منع من الوصول إليه. ومنه قيل للستر: حجاب؛ لمنعه المشاهدة، وقيل للبواب: حاجب؛ لمنعه من الدخول. وأصله جسم حائل بين جسدين " (3) ، وقال في الكليات: " كل ما يستر المطلوب، ويمنع من الوصول إليه فهو حجاب " (4)
__________
(1) مختار الصحاح ج 1 ص 52.
(2) لسان العرب ج 1 ص 298.
(3) التعاريف ج 1 ص 268.
(4) كتاب الكليات ج 1 ص 268.(85/301)
المطلب الثاني: تعريف الوجه لغة واصطلاحا:
تعريف الوجه لغة:
قال في لسان العرب: " الوجه: معروف، والجمع الوجوه " (1) ، وقال في تاج العروس: " الوجه: مستقبل كل شيء، والجمع: أوجه " (2) . وقال في مختار الصحاح: " الوجه معروف، والجمع الوجوه، والوجه والجهة بمعنى " (3)
تعريف الوجه اصطلاحا:
عرفه الشافعية والحنابلة بأنه: " ما بين منابت شعر الرأس إلى الذقن ومنتهى اللحيين طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا " (4)
وعرفه الحنفية بأن حد الوجه: " من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن، وإلى شحمتي الأذنين " (5)
وعرفه المالكية: " من قصاص شعر الرأس إلى آخر الذقن طولا،
__________
(1) لسان العرب ج 13 ص 555.
(2) تاج العروس ج 36 ص 535
(3) مختار الصحاح ج 1 ص 296
(4) انظر المجموع، شرح المهذب 1 \ 106، كشاف القناع ج 1 ص 95
(5) بدائع الصنائع ج 1 ص 3(85/302)
ومن الصدغ (1) إلى الصدغ عرضا " (2)
__________
(1) وهو '' ما بين العين والأذن ''، مختار الصحاح ج 1 ص 151
(2) مواهب الجليل ج 3 ص 140(85/303)
المطلب الثالث: تعريف بعض الألفاظ ذات الصلة:
أولا: الخمار:
الخمار للمرأة، هو النصيف، وقيل: الخمار ما تغطي به المرأة رأسها، ومنه حديث: «لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار» وتخمرت به: أي الخمار، واختمرت: لبسته، وخمرت به رأسها: غطته، وأصل التخمير التغطية، ومنه خمار المرأة والخمر؛ لأنها تغطي العقل " (1) وكل مغطى مخمر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خمروا الآنية (2) » أي غطوا (3) وجمعه أخمرة وخمر " (4)
وفي البخاري، عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ولو أن امرأة
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم ج 3 ص 210
(2) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، صحيح البخاري ج 3 ص 1204 \ باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم \ ح 3138، صحيح مسلم ج 3 ص 1594 \ باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء، ح 2012
(3) تاج العروس ج 11 ص 214
(4) لسان العرب ج 4 ص 255، 257؛ تهذيب اللغة ج 7 ص 162(85/303)
من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحا، ولنصيفها يعني الخمار (2) »
وفي الصحيحين، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة إذ وقع من راحلته، فأوقصته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه (3) » وفي لفظ لمسلم: «ولا وجهه (4) » وفي لفظ لمسلم: «ولا تغطوا وجهه (5) »
ثانيا: النصيف:
قال في لسان العرب النصيف: الخمار، وقد نصفت المرأة رأسها بالخمار. وانتصفت الجارية وتنصفت، أي اختمرت، ومنه الحديث في صفة الحور العين: «ولنصيف إحداهن على رأسها خير
__________
(1) صحيح البخاري ج 5 ص 2401، باب صفة الجنة والنار \ ح 6199
(2) (1) خير من الدنيا وما فيها
(3) صحيح البخاري ج 1 ص 426، باب الحنوط للميت \ ح 1207، صحيح مسلم ج 2 ص 865، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات \ ح 1206
(4) صحيح مسلم ج 2 ص 866، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات، ح 1206
(5) صحيح مسلم ج 2 ص 876، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات، ح 1206(85/304)
من الدنيا وما فيها (1) » وهو الخمار، وقيل: المعجر، ومنه قول النابغة يصف امرأة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
(2)
وقيل: النصيف ثوب تتجلل به المرأة فوق ثيابها كلها، سمي نصيفا؛ لأنه نصف بين الناس وبينها، فحجز أبصارهم عنها، قال: والدليل على صحة ما قاله قول النابغة: سقط النصيف؛ لأن النصيف إذا جعل خمارا فسقط، فليس لسترها وجهها مع كشفها شعرها معنى " (3)
ثالثا: الجلباب:
هو ما تغطي به المرأة الثياب من فوق كالملحفة وقيل: هو الخمار. وقيل: جلباب المرأة: ملاءتها التي تشتمل بها، واحدها جلباب. والجلباب أيضا: الرداء، وقيل: هو كالمقنعة تغطي به المرأة
__________
(1) صحيح البخاري ج 5 ص 2401، باب صفة الجنة والنار \ ح 6199
(2) انظر ديوان النابغة الذبياني ج 1 ص 21.
(3) لسان العرب ج 9 ص 332، تاج العروس ج 24 ص 407، المعجم الوسيط ج 2 ص 917.(85/305)
رأسها وظهرها وصدرها، وقيل: الجلباب: ثوب أقصر من الخمار وأعرض منه، وهو المقنعة (1)
وقال في المعجم الوسيط: " هو القميص، والثوب المشتمل على الجسد كله، والخمار، وما يلبس فوق الثياب كالملحفة، والملاءة تشتمل بها المرأة " (2)
وقال: ". . . . الجلباب الإزار لم يرد به إزار الحقو، ولكنه أراد إزار يشتمل به، فيجلل جيمع الجسد، وكذلك إزار الليل، وهو الثوب السابغ الذي يشتمل به النائم فيغطي جسده كله " (3)
وقال القرطبي في تفسيره: " الجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهم أنه الرداء، وقد قيل: إنه القناع، والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن " (4)
وقال في فتح الباري: " قوله: من جلبابها قيل: المراد به الجنس، أي تعيرها من ثيابها ما لا تحتاج إليه، وقيل: المراد تشركها معها في
__________
(1) انظر لسان العرب ج 1 ص 273، تاج العروس ج 2 ص 175، مختار الصحاح ج 1 ص 45
(2) المعجم الوسيط ج 1 ص 128
(3) لسان العرب ج 1 \ ص 273
(4) تفسير القرطبي ج 14 \ ص 243(85/306)
لبس الثوب الذي عليها، وهذا ينبني على تفسير الجلباب، وهو بكسر الجيم، وسكون اللام، وبموحدتين بينهما ألف. قيل: هو المقنعة، أو الخمار، أو أعرض منه، وقيل: الثوب الواسع يكون دون الرداء، وقيل: الإزار، وقيل: الملحفة، وقيل: الملاءة، وقيل: القميص " (1)
رابعا: النقاب:
النقاب: القناع على مارن الألف. والجمع نقب، وقد تنقبت المرأة وانتقبت، وإنها لحسنة النقبة، والنقاب بالكسر.
والنقاب على وجوه: إذا أدنت المرأة نقابها إلى عينها فتلك الوصوصة، فإن أنزلته دون ذلك إلى المحجر فهو النقاب، فإن كان على طرف الأنف فهو اللفام. وفي حديث ابن سيرين النقاب محدث (2) أراد أن النساء ما كن ينتقبن أي يختمرن. قال أبو عبيد
__________
(1) فتح الباري ج 1 ص 424
(2) لم أجد له تخريجا، وإنما يتناقله أهل اللغة، فقد ذكره في لسان العرب، وتاج العروس وغيرهما.(85/307)
النقاب عند العرب: هو الذي يبدو منه محجر العين، ومعناه أن إبداءهن المحاجر محدث، إنما كان النقاب لاحقا بالعين، وكانت تبدو إحدى العينين، والأخرى مستورة، والنقاب لا يبدو منه إلا العينان، وكان اسمه عندهم الوصوصة، والبرقع، وكان من لباس النساء، ثم أحدثن النقاب بعد(85/308)
المبحث الأول: حكم حجاب وجه المرأة في الصلاة، وفي حال الإحرام:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم حجاب وجه المرأة في الصلاة:
تحرير محل النزاع:
اتفقوا على أن وجه المرأة ليس بعورة في الصلاة وروي(85/308)
عن الإمام أحمد أنه عورة، وحملت هذه الرواية على غير الصلاة (1)
واختلفوا في الكفين والقدمين.
فأما الكفان فقد ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية، ورواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام إلى أنهما ليسا بعورة في الصلاة (2)
وذهب الإمام أحمد في المشهور عنه أنهما عورة (3)
وأما القدمان، فقد ذهب الجمهور من المالكية والشافعية، والحنابلة أنهما عورة في الصلاة وهو رواية عن أبي حنيفة (4)
وذهب الحنفية (5) إلى أنهما ليسا بعورة، وهو اختيار شيخ الإسلام (6)
__________
(1) قال في الإنصاف 1 \ 452
(2) انظر الإنصاف 1 \ 452
(3) انظر الإنصاف 1 \ 452
(4) اختلاف الأئمة العلماء ج 1 ص 101؛ بدائع الصنائع ج 5 ص 123
(5) انظر المبسوط 1 \ 197
(6) انظر الإنصاف 1 \ 453.(85/309)
المطلب الثاني: حكم حجاب وجه المرأة في حال الإحرام:
لا خلاف بين الفقهاء في أن إحرام المرأة في وجهها، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها.
قال ابن قدامة - رحمه الله - في المغني: " وجملة ذلك أن المرأة يحرم عليها تغطية وجهها في إحرامها، كما يحرم على الرجل تغطية رأسه لا نعلم في هذا خلافا إلا ما روي عن أسماء (1) أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة، ويحتمل أنها كانت تغطيه بالسدل عند الحاجة، فلا يكون اختلافا. . . فأما إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها. . . ولا نعلم فيه خلافا. . . وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يعد لستر الوجه ".
وقال في " بداية المجتهد ": وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها، وأن لها أن تغطي رأسها، وتستر شعرها، وأن لها أن تسدل ثوبها على وجهها من فوق رأسها سدلا خفيفا تستتر به عن نظر
__________
(1) والمقصود بها: أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها.(85/310)
الرجال إليها " (1) .
وقال في التمهيد: " وأجمعوا أن إحرامها في وجهها دون رأسها، وأنها تخمر رأسها وتستر شعرها وهي محرمة، وأجمعوا أن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلا خفيفا، تستتر به عن نظر الرجال إليها، ولم يجيزوا لها تغطية وجهها، وهي محرمة إلا ما ذكرنا عن أسماء " (2) .
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " وأما المرأة فإنها عورة، فلذلك جاز لها أن تلبس الثياب التي تستتر بها، وتستظل بالمحمل، لكن نهاها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتنقب، أو تلبس القفازين، والقفازان غلاف يصنع لليد، كما يفعله حملة البزاة، ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق، وإن كان يمسه فالصحيح أنه يجوز أيضا، ولا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه، لا بعود ولا بيد ولا غير ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين وجهها ويديها، وكلاهما كبدن الرجل، لا كرأسه. وأزواجه صلى الله عليه وسلم كن يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة، ولم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
__________
(1) انظر بداية المجتهد ج 1 ص 239.
(2) التمهيد [جزء 15، صفحة 108] ، وانظر الاستذكار ج 4 ص 14 - 15.(85/311)
(إحرام المرأة في وجهها) ، وإنما هذا قول بعض السلف لكن النبي صلى الله عليه وسلم نهاها أن تنتقب، أو تلبس القفازين، كما نهى المحرم أن يلبس القميص والخف، مع أنه يجوز له أن يستر يديه ورجليه باتفاق الأئمة، والبرقع أقوى من النقاب فلهذا ينهى عنه باتفاقهم؛ ولهذا كانت المحرمة لا تلبس ما يصنع لستر الوجه كالبرقع ونحوه فإنه كالنقاب (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى ج 26 ص 441.(85/312)
المبحث الثاني: حكم حجاب المرأة خارج الصلاة:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تحرير محل النزاع، وذكر أقوال العلماء في المسألة
أولا: تحرير محل النزاع:
اتفقوا على جواز كشف الوجه ورؤيته؛ لضرورة كعلاج وشهادة(85/312)
ونحو ذلك
واتفقوا على جواز كشف الوجه ورؤيته إذا كان بقصد النكاح (1)
واتفقوا على وجوب ستر وجه المرأة إذا ترتب على كشفه فتنة.
واتفقوا على تحريم النظر إلى وجه المرأة إذا كان بشهوة.
وفيما يلي بعض نصوصهم الدالة على ذلك:
أولا: الحنفية:
قال في المبسوط: " وهذا كله إذا لم يكن النظر عن شهوة، فإن كان يعلم أنه إن نظر اشتهى لم يحل له النظر إلى شيء منها. . . وكذلك إن كان أكبر رأيه أنه إن نظر اشتهى؛ لأن أكبر الرأي فيما لا يتوقف على حقيقته كاليقين " (2) .
قال ابن عابدين في حاشيته على الدر المختار ". . . ودلت
__________
(1) انظر المغني 7 \ 69، 73
(2) المبسوط ج 10 ص 153(85/313)
المسألة على أن المرأة منهية عن إظهار وجهها للأجانب بلا ضرورة؛ لأنها منهية عن تغطيته لحق النسك لولا ذلك، وإلا لم يكن لهذا الإرخاء فائدة. . . محمل الاستحباب عند عدم الأجانب، وأما عند وجودهم فالإرخاء واجب عليها عند الإمكان، وعند عدمه يجب على الأجانب غض البصر " (1) .
وقال: " وتمنع " المرأة الشابة " من كشف الوجه بين الرجال " لا لأنه عورة؛ بل " لخوف الفتنة " كمسه، وإن أمن الشهوة " (2) .
وقال في بدائع الصنائع: " ثم إنما يحل النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة منها من غير شهوة، فأما عن شهوة فلا يحل " (3) .
وقال في الفتاوى الهندية: " يجوز النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة منهن، وذلك الوجه والكف في ظاهر الرواية. . . . وإن غلب على ظنه أنه يشتهي فهو حرام " (4) .
وقال في البحر الرائق: " والأصل أنه لا يجوز أن ينظر إلى وجه الأجنبية بشهوة؛ لما روينا إلا للضرورة إذا تيقن بالشهوة
__________
(1) حاشية ابن عابدين ج 2 ص 528.
(2) الدر المختار ج 1 ص 406.
(3) بدائع الصنائع 5 \ 122.
(4) الفتاوى الهندية ج 5 ص 329.(85/314)
أوشك فيها " (1) .
ثانيا: المالكية:
قال في بلغة السالك: قوله: " (غير الوجه والكفين) إلخ: أي فيجوز النظر لهما، لا فرق بين ظاهرهما وباطنهما بغير قصد لذة ولا وجدانها، وإلا حرم. وهل يجب عليها حينئذ ستر وجهها ويديها؟ وهو الذي لابن مرزوق قائلا: إنه مشهور المذهب: أو لا يجب عليها ذلك، وإنما على الرجل غض بصره؟ " (2) .
قال في حاشية الدسوقي: " قوله: (غير الوجه والكفين) ، أي وأما هما فغير عورة، يجوز النظر إليهما، ولا فرق بين ظاهر الكفين وباطنهما، بشرط ألا يخشى بالنظر لذلك فتنة، وأن يكون النظر بغير قصد لذة، وإلا حرم النظر لهما. وهل يجب عليها حينئذ ستر وجهها ويديها؟ وهو الذي لابن مرزوق قائلا: إنه مشهور المذهب، أو لا يجب
__________
(1) البحر الرائق ج 8 ص 218.
(2) بلغة المسالك ج 1 ص 193.(85/315)
عليها ذلك، وإنما على الرجل غض بصره؟ " (1)
وقال في الفواكه الدواني: " اعلم أن المرأة إذا كان يخشى من رؤيتها الفتنة وجب عليها ستر جميع جسدها، حتى وجهها وكفيها، وأما إن لم يخش من رؤيتها ذلك، فإنما يجب عليها ستر ما عدا وجهها وكفيها " (2) .
وقال في المنتقى شرح الموطأ: " جميع المرأة عورة إلا وجهها وكفيها، فإذا كشفت بعض ذلك، ولم يكن ثم من ينظر إليها، جاز لها ذلك، ولم يجز في موضع يكون فيه من ينظر إليها؛ لأنه ناظر إلى عورة منها، والوجه والكفان، وإن قلنا: ليسا بعورة منها، فإنه لا يجوز لأجنبي النظر إليهما إلا على وجه مخصوص، فحكم المنع متعلق بها " (3) .
قال في حاشية العدوي: " وأما عورة الحرة مع الذكور المسلمين الأجانب، فجميع جسدها إلا وجهها وكفيها " (4) وقال: " واعلم أنه إذا PgPg 317
خشي من الأمة الفتنة وجب الستر؛ لدفع الفتنة لا لأن ذلك عورة " (5) .
قال في شرح مختصر خليل: " عورة الحرة مع الرجل الأجنبي جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين ظاهرهما وباطنهما، فيجوز النظر لهما بلا لذة، ولا خشية فتنة، من غير عذر ولو شابة " (6) .
ثالثا: الشافعية:
قال النووي في روضة الطالبين: " نظر الرجل إلى المرأة، فيحرم نظره إلى عورتها مطلقا، وإلى وجهها وكفيها إن خاف فتنة، وإن لم يخف فوجهان، قال أكثر الأصحاب، لا سيما المتقدمون: لا يحرم. . لكن يكره، والثاني يحرم " (7) .
وقال في الإقناع: (نظره) ، أي الرجل (إلى) بدن امرأة (أجنبية) غير الوجه والكفين، ولو غير مشتهاة قصدا (لغير حاجة) مما سيأتي (فغير جائز) قطعا. . . ولو نظر إليهما بشهوة، وهي قصد التلذذ بالنظر المجرد، وأمن الفتنة حرم قطعا، وكذا يحرم النظر إليهما عند الأمن من الفتنة فيما يظهر له من نفسه من غير شهوة على الصحيح، كما في
__________
(1) حاشية الدسوقي ج 1 ص 214
(2) الفواكه الدواني ج 2 ص 214.
(3) المنتقى شرح الموطأ 4 \ 105.
(4) حاشية العدوي ج 1 ص 215.
(5) حاشية العدوي ج 1 ص 215، وانظر مواهب الجليل ج 1 ص 492.
(6) شرح مختص خليل للخرشي ج 1 ص 247.
(7) روضة الطالبين ج 7 ص 21.(85/316)
المنهاج كأصله " (1) .
قال في مغني المحتاج: " ولو نظر إليهما بشهوة، وهي قصد التلذذ بالنظر المجرد، وأمن الفتنة حرم قطعا، (وكذا) يحرم النظر إليهما (عند الأمن) من الفتنة فيما يظهر له من نفسه من غير شهوة (على الصحيح) " (2)
قال في حاشية الجمل: " قوله: إلا لحاجة، ومن الحاجة: ما لو تعين ستر وجه المرأة طريقا في دفع النظر المحرم إليها، فيجوز حينئذ، وتجب الفدية " (3) .
رابعا: الحنابلة:
قال في الإنصاف: " الراجح في مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة: لا يجوز. وإن كانت الشهوة منتفية، لكن يخاف ثورانها " (4)
وقال: " فوائد: منها: قوله (ولا يجوز النظر إلى أحد ممن ذكرنا لشهوة) . وهذا بلا نزاع، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ومن
__________
(1) أسنى المطالب في شرح روض الطالب ج 3 ص 109 - 110.
(2) مغني المحتاج ج 3 ص 129.
(3) حاشية الجمل على شرح المنهج ج 2 ص 507.
(4) الإنصاف 8 \ 29.(85/318)
استحله كفر إجماعا. كذا لا يجوز النظر إلى أحد ممن تقدم ذكره إذا خاف ثوران الشهوة، نص عليه، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله وغيره. ومنها: معنى الشهوة التلذذ بالنظر " (1) .
وقال في كشاف القناع: " وهما: أي الكفان (والوجه) من الحرة البالغة (عورة خارجها) أي: الصلاة (باعتبار النظر، كبقية بدنها) " (2) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (. . . وأما النوع الثاني من النظر، كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية، فهذا أشد من الأول. . . وكذلك النظر إلى عورة الرجل لا يشتهى كما يشتهى النظر للنساء ونحوهن. . . وكذلك النظر إلى الأمرد بشهوة هو من هذا الباب، وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك، كما اتفقوا على تحريم النظر إلى الأجنبية، وذوات المحارم لشهوة، وكل قسم من هذه الأقسام متى كان معه شهوة كان حراما بلا ريب، سواء كانت شهوة تمتع بنظر الشهوة، أو كان نظرا بشهوة الوطء، وإنما وقع النزاع بين العلماء في القسم الثالث من النظر، وهو النظر إليه لغير شهوة، لكن مع
__________
(1) انظر الإنصاف 8 \ 30.
(2) كشاف القناع 1 \ 266.(85/319)
خوف ثورانها) (1)
خامسا: الظاهرية:
قال ابن حزم في المحلى: " لا يحل لأحد أن يتعمد النظر إلى شيء من امرأة لا يحل له: لا الوجه، ولا غيره، إلا لقصة تدعو إلى ذلك، لا يقصد منها منكر بقلب أو بعين " (2) .
مما تقدم فإن محل النزاع يكون في موضعين:
الموضع الأول: حكم كشف وجه المرأة إذا لم يترتب على كشف وجهها فتنة، وأمنت من أن ينظر لها بشهوة.
الموضع الثاني: حكم النظر إلى وجه المرأة بغير شهوة، مع أمن الفتنة.
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى ج 21 \ ص 248 - 251.
(2) المحلى 9 \ 163.(85/320)
ثانيا: ذكر أقوال العلماء في المسألة:
القول الأول: تحريم النظر إلى وجه المرأة ولو بغير شهوة، ووجوب ستر وجهها ولو أمنت الفتنة، وهو المعتمد عند المتأخرين من الحنفية، والشافعية، وهو المعتمد عند المتقدمين من المالكية، وهو المذهب عند الحنابلة، وهو اختيار جمع من المحققين من أهل العلم، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والقرطبي،(85/320)
وابن العربي، وابن رشد - رحمهم الله - وإليك بعض نصوصهم الدالة على ذلك ":
أولا الحنفية:
قال ابن عابدين في حاشية الدر المختار، وهو خاتمة المحققين من الحنفية: " وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال لا لأنه عورة؛ بل لخوف الفتنة " (1) . اهـ. وقوله: (لخوف الفتنة) يقتضي وجوب تغطية الوجه مطلقا، سواء وجدت الفتنة أم كانت متوقعة؛ سدا للذريعة، وهو أيضا لم يشترط أن تكون الشابة جميلة أو لا.
قال في حاشية مراقي الفلاح " قوله: (وجميع بدن الحرة) ، أي جسدها قوله: (إلا وجهها) ومنع الشابة من كشفه لخوف الفتنة لا لأنه عورة، قوله: (وهو المختار) ، وإن كان خلاف ظاهر الرواية " (2) .
ثانيا: المالكية:
قال في كتاب النظر في أحكام النظر: " ويحتمل عندي أن يقال بأن مذهب مالك أن نظر الرجل إلى وجه الأجنبية لا يجوز إلا من ضرورة، وعلى هذا شرح ابن رشد. . . ونص في المقدمات على أنه لا يجوز
__________
(1) انظر رد المحتار على الدر المختار ج 1 \ ص 406.
(2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ج 1 ص 161.(85/321)
للرجل أن ينظر إلى الشابة إلا لعذر شهادة، أو علاج، أو إرادة نكاح ".
وقال في المنتقى شرح الموطأ: " جميع المرأة عورة إلا وجهها وكفيها، فإذا كشفت بعض ذلك، ولم يكن ثم من ينظر إليها جاز لها ذلك، ولم يجز في موضع يكون فيه من ينظر إليها؛ لأنه ناظر إلى عورة منها، والوجه والكفان، وإن قلنا: ليسا بعورة، فإنه لا يجوز لأجنبي النظر إليهما إلا على وجه مخصوص، فحكم المنع متعلق بها " (1) .
قال في الكافي: " ومن أراد نكاح امرأة فليس له عند مالك أن ينظر إليها، ولا يتأمل محاسنها، وقد روي عنه أنه ينظر إليها وعليها ثيابها، ومن أباح من العلماء النظر إليها عند خطبتها فإنه يبيح أن ينظر منها إلى وجهها وكفيها؛ لأن ذلك ليس عليها ستره في صلاتها " (2) .
قال ابن العربي - رحمه الله - " والمرأة كلها عورة: بدنها،
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ 4 \ 105.
(2) الكافي لابن عبد البر ج 1 ص 229.(85/322)
وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة، أو لحاجة، كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعن ويعرض عندها " (1) .
قال القرطبي - رحمه الله - في تفسير آية الحجاب: " هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض، أو مسألة يستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة: بدنها، وصوتها، كما تقدم فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة، كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها " (2) .
ثالثا: الشافعية:
قال النووي رحمه الله في منهاج الطالبين: " ويحرم نظر فحل بالغ إلى عورة حرة كبيرة أجنبية، وكذا وجهها وكفيها عند خوف فتنة، وكذا عند الأمن على الصحيح " (3) .
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي ج 3 \ ص 616.
(2) تفسير القرطبي ج 14 \ ص 227.
(3) منهاج الطالبين ج 1 \ ص 95.(85/323)
وقال: " نظر الوجه والكفين عند أمن الفتنة فيما يظهر للناظر من نفسه من المرأة إلى الرجل وعكسه جائز، وإن كان مكروها. . . وهذا ما في الأصل عن أكثر الأصحاب، والذي صححه في المنهاج كأصله التحريم. . والفتوى على ما في المنهاج " (1) .
وقال في الإقناع: ". . . وكذا يحرم النظر إليهما عند الأمن من الفتنة فيما يظهر له من نفسه من غير شهوة على الصحيح كما في المنهاج كأصله. . . وقال البلقيني: الترجيح بقوة المدرك، والفتوى على ما في المنهاج اهـ.
وكلام المصنف شامل لذلك وهو المعتمد " (2) .
قال في مغني المحتاج: " (وكذا) يحرم النظر إليهما (عند الأمن) من الفتنة فيما يظهر له من نفسه من غير شهوة (على الصحيح) ". . والثاني لا يحرم. . وحيث قيل بالجواز كره، وقيل: خلاف الأولى، وحيث قيل بالتحريم وهو الراجح، هل يحرم النظر إلى المتنقبة التي
__________
(1) أسنى المطالب في شرح روض الطالب ج 3 ص 109 - 110.
(2) الإقناع للشربيني ج 2 ص 403 - 404.(85/324)
لا يتبين منها غير عينيها ومحاجرها أو لا؟ . . . تنبيه: ظاهر كلام المصنف أن وجهها وكفيها غير عورة، وإنما ألحقا بها في تحريم النظر. . وقال السبكي إن الأقرب إلى صنع الأصحاب أن وجهها وكفيها عورة في النظر لا في الصلاة " (1) .
وقال في حاشية منهج الطلاب: " ووجوب ستر الوجه والكفين ليس لكونهما عورة، بل لكون النظر إليهما يوقع في الفتنة غالبا " (2)
رابعا: الحنابلة:
وقال في الإنصاف: " ظاهر كلام المصنف، وأكثر الأصحاب: أنه لا يجوز للرجل النظر إلى غير من تقدم ذكره، فلا يجوز له النظر إلى الأجنبية قصدا، وهو صحيح. وهو المذهب " (3)
وقال في كشاف القناع: " والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة،
__________
(1) مغني المحتاج ج 3 ص 129.
(2) حاشية البجيرمي على منهج الطلاب ج 1 ص 603.
(3) الإنصاف 8 \ 27.(85/325)
حتى ظفرها وشعرها. . . إلا وجهها) . . (وهما) أي: الكفان (والوجه) من الحرة البالغة (عورة خارجها) أي: الصلاة (باعتبار النظر، كبقية بدنها) " (1) .
قال في الفروع عن أحمد: " ظفر المرأة عورة، فإذا خرجت فلا يبين منها شيء " (2) .
وقال في منار السبيل: " وللحرة البالغة الأجنبية لغير حاجة فلا يجوز نظر شيء منها " (3) .
قال في شرح العمدة: " قال أحمد: الزينة الظاهرة الثياب، وقال: كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها " (4)
وقال في الإنصاف في الأمة إذا كانت جميلة: " الصواب أن الجميلة تنتقب، وأنه يحرم النظر إليها، كما يحرم النظر إلى الحرة الأجنبية " (5)
قال في المغني: " لكن إن كانت الأمة جميلة يخاف الفتنة بها،
__________
(1) انظر كشاف القناع 1 \ 266.
(2) الفروع ج 5 ص 110.
(3) منار السبيل ج 2 ص 123.
(4) شرح العمدة ج 4 ص 268.
(5) انظر الإنصاف 8 \ 27.(85/326)
حرم النظر إليها. . . قال أحمد في الأمة إذا كانت جميلة: تنتقب " (1) .
قال شيخ الإسلام: " وكشف النساء وجوههن بحيث يراهن الأجانب غير جائز " (2) .
قال في أعلام الموقعين: " العورة عورتان: عورة في النظر، وعورة في الصلاة، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك " (3) .
القول الثاني: يجوز النظر إلى وجه المرأة بغير شهوة، ولا يجب ستر وجهها إذا أمنت الفتنة، وأمنت النظر إليها بشهوة، وهو قول الحنفية في ظاهر الرواية، وهو مذهب المتأخرين من المالكية، ويحكى رواية عن أحمد، وهو مذهب المتقدمين من الشافعية، وأكثر أهل هذا العلم قيدوا جواز النظر بالكراهة، وهم الحنفية والشافعية والحنابلة.
وإليك مقتطفات من أقوالهم في ذلك:
أولا: الحنفية:
قال في المبسوط: ". . ولكنا نأخذ بقول علي، وابن عباس رضي
__________
(1) انظر المغني 7 \ 97.
(2) كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه، ج 24 ص 382.
(3) أعلام الموقعين 2 \ 80.(85/327)
الله تعالى عنهما، فقد جاءت الأخبار في الرخصة بالنظر إلى وجهها " (1) .
قال في بدائع الصنائع: " ظاهر الرواية أن الحرة لا يحل النظر منها إلا إلى وجهها وكفيها " (2) .
قال في الفتاوى الهندية: " وأما النظر إلى الأجنبيات فنقول: يجوز النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة منهن، وذلك الوجه والكف في ظاهر الرواية. . النظر إلى وجه الأجنبية إذا لم يكن عن شهوة ليس بحرام، لكنه مكروه " (3) .
ثانيا: المالكية:
قال في بلغة السالك: " قوله: (غير الوجه والكفين) إلخ: أي فيجوز النظر لهما لا فرق بين ظاهرهما وباطنهما بغير قصد لذة ولا وجدانها، وإلا حرم " (4) .
قال في حاشية الدسوقي: " قوله: (غير الوجه والكفين) أي: وأما هما فغير عورة، يجوز النظر إليهما، ولا فرق بين ظاهر الكفين وباطنهما، بشرط ألا يخشى بالنظر لذلك فتنة، وأن يكون النظر بغير
__________
(1) انظر المبسوط 10 \ 152.
(2) بدائع الصنائع ج 5 ص 123.
(3) الفتاوى الهندية ج 5 ص 329.
(4) بلغة السالك ج 1 ص 193.(85/328)
قصد لذة وإلا حرم النظر لهما " (1) .
قال في حاشية العدوي: " وأما عورة الحرة مع الذكور المسلمين الأجانب فجميع جسدها إلا وجهها وكفيها " (2) .
قال في شرح مختصر خليل: " عورة الحرة مع الرجل الأجنبي جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين ظاهرهما وباطنهما، فيجوز النظر لهما بلا لذة، ولا خشية فتنة، من غير عذر ولو شابة " (3) .
ثانيا: الشافعية:
قال النووي في روضة الطالبين: " نظر الرجل إلى المرأة، فيحرم نظره إلى عورتها مطلقا، وإلى وجهها وكفيها إن خاف فتنة، وإن لم يخف فوجهان، قال أكثر الأصحاب لا سيما المتقدمون لا يحرم. . لكن يكره، والثاني يحرم " (4) .
ثالثا: الحنابلة:
وقال في الإنصاف: ". . . وجوز جماعة من الأصحاب: نظر الرجل من الحرة الأجنبية إلى ما ليس بعورة صلاة. . . وذكره الشيخ
__________
(1) حاشية الدسوقي ج 1 ص 214.
(2) حاشية العدوي ج 1 ص 215.
(3) شرح مختصر خليل ج 1 ص 247.
(4) روضة الطالبين ج 7 ص 21.(85/329)
تقي الدين رواية " (1) .
قال في الإنصاف: " قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: هل يحرم النظر إلى وجه الأجنبية لغير حاجة، رواية عن الإمام أحمد يكره، ولا يحرم " (2) .
قال في الفروع: " وجوز جماعة، وذكره شيخنا رواية نظر رجل من حرة ما ليس بعورة صلاة والمذهب لا " (3) .
__________
(1) انظر الإنصاف 8 \ 27.
(2) انظر الإنصاف 8 \ 28.
(3) الفروع ج 5 ص 110، المبدع في شرح المقنع ج 7 ص 10.(85/330)
المطلب الثاني: ذكر أدلة كل قول مع المناقشة والترجيح
أولا: أدلة القول الأول:
وقد استدلوا على وجوب ستر وجه المرأة بالكتاب والسنة، والإجماع، والمعقول:
أولا: أدلتهم من الكتاب:
الدليل الأول: قوله تعالى:(85/330)
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (1) {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) .
وقبل ذكر أوجه الاستدلال من هذه الآيات أنبه على أمرين:
الأول: ما هو المقصود بالزينة؟
الزينة: اسم جامع لكل ما يحبه الرجل من المرأة، ويدعوه للنظر إليها، سواء في ذلك الزينة الأصلية، أو المكتسبة التي هي كل شيء تحدثه في بدنها تجملا وتزينا. وأما الزينة الأصلية: فإنها هي الثابتة كالوجه والشعر، وما كان من مواضع الزينة: كاليدين، والرجلين، والنحر، وما إلى ذلك، قال القرطبي في تفسيره: الزينة على قسمين: خلقية ومكتسبة. فالخلقية: وجهها، فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة. وأما الزينة المكتسبة: فهي ما تحاول المرأة في تحسين خلقتها به، كالثياب، والحلي، والكحل، والخضاب. أهـ (3) .
__________
(1) سورة النور الآية 30
(2) سورة النور الآية 31
(3) انظر تفسير القرطبي ج 12 \ ص 229.(85/331)
الثاني: لقد ذكر الله سبحانه وتعالى الزينة في آيتين:
الآية الأولى: وهي ما جاء في قوله سبحانه: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) .
والآية الثانية: وهي قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (2) .
فالآية الأولى تبين الزينة التي يجوز للمرأة إظهارها إذا كانت خارج بيتها، أو في مكان تتعرض فيه لرؤية الأجانب بدليل:
1- تفسير ابن مسعود رضي الله عنه.
2- وبدليل الآية بعدها: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (3) الآية.
وفي الآية الثانية بيان الذين يجوز للمرأة أن تبدي زينتها لهم:
1- ففي الآية الأولى استثنى الزينة المبداة.
2- وفي الآية الثانية استثنى من تبدى لهم الزينة.
ففي هاتين الآيتين دليل على وجوب تغطية الوجه من وجوه عدة:
الوجه الأول:
في الآية الأولى: أنه سبحانه وتعالى قد أمر المؤمنات بحفظ فروجهن، والأمر بحفظ الفرج أمر به، وبما يكون وسيلة إليه، ولا يرتاب عاقل بأن من وسائل حفظ الفرج تغطية الوجه؛ لأن كشفه
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة النور الآية 31(85/332)
سبب للنظر إليها، وتأمل محاسنها، والتلذذ بذلك، وبالتالي إلى الوصول والاتصال، وفي الصحيحين، أن زنى العينين النظر، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه فإذا كانت تغطية الوجه، من وسائل حفظ الفرج كان غطاء الوجه مأمورا به؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.
الوجه الثاني:
وجه الاستدلال الأول من الآية الثانية: أنه قد نهى عن إبداء الزينة، فقوله سبحانه: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) يستدل بها على تحريم كشف الوجه من أوجه عدة منها:
الأول: أنه قد نهى عن إبداء الزينة، ثم استثنى ما ظهر من الزينة، فهذه الزينة التي في الآية تشمل الزينة الباطنة، والزينة الظاهرة، وقد فسر ابن مسعود رضي الله عنه بأن المستثنى من النهي هو زينة الثياب، أي لا يبدين زينتهن (الباطنة والظاهرة) إلا ما ظهر من الثياب التي يلبسنها، بغير إرادة منهن (2) ؛ لأن المرأة وإن لبست العباءة، فقد يظهر بعض
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) انظر تفسير ابن كثير ج 3 \ ص 284، تفسير ابن أبي حاتم ج 8 ص 2567.(85/333)
ثوبها من هنا أو هناك، فهذا معفو عنه إن كان بغير قصد، فإذا كان قد نهى عن إبداء زينة الثياب رغم كونها أبعد ما يكون عن إثارة الفتنة، فإن نهيه لما يكون أعظم فتنة، وهو الوجه يكون من باب أولى وأحرى.
الثاني: أن قوله في الآية التي تليها: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (1) دليل على أن الزينة المستثناة في الآية السابقة: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2) هي ظاهر الثياب، وأن الوجه من الزينة التي لا يجوز للمرأة أن تبديها لما يلي:
أولا: أن الجيب هو الجزء الذي يلي النحر، فهي مأمورة بإسدال الخمار على جيبها حتى تغطي نحرها، والجزء الذي يليه من صدرها؛ لأن الثوب الذي تقوم بلبسه المرأة في الغالب لا يغطي ذلك الجزء، فالأمر بإسدال الخمار على الجيب من أجل ستر النحر وما يليه أمر بتغطية الوجه، بل وأولى؛ لأن الوجه هو موضع الفتنة، وموضع الجمال، فهل يعقل أن يكون الأمر مقتصرا على تغطية ما هو أقل فتنة، وهو النحر، والشعر، وترك الوجه، وهو أصل الفتنة في المرأة كلها؟ فالقول بهذا فيه نسبة القرآن للتناقض، وحاشا كلام الله عن ذلك.
الثاني: أن في قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (3) دليلا صريحا في إدناء الخمار من الرأس إلى الصدر. والوجه داخل في
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة النور الآية 31(85/334)
ذلك؛ لأن الوجه من الرأس الذي يجب تخميره عقلا وشرعا وعرفا، ولا يوجد أي دليل يدل على إخراج الوجه من مسمى الرأس في لغة العرب، كما لم يأت نص على إخراجه، أو استثنائه بمنطوق القرآن والسنة، ولا بمفهومهما، واستثناء الوجه من عموم التخمير مردود بالمفهوم الشرعي واللغوي، ومدفوع بأقوال بقية علماء السلف والخلف، كما هو مردود بقاعدتين أوضحهما علماء الأصول ومصطلح الحديث، إحداهما: أن حجة الإثبات مقدمة على حجة النفي. والثانية: أنه إذا تعارض مبيح وحاظر قدم الحاظر على المبيح، ولما كان الله سبحانه وتعالى يعلم ما في المرأة من وسائل الفتنة المتعددة للرجل، أمرها بستر هذه الوسائل، حتى لا تكون سببا للفتنة، فيطمع بها الذي في قلبه مرض.
الثالث: ما جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: شققن مروطهن فاختمرن بها (2) » قال ابن حجر - رحمه الله تعالى - في فتح الباري: " قوله: فاختمرن: أي غطين وجوههن " اهـ (3) .
__________
(1) صحيح البخاري ج 4، ص 1782، ح 4480، باب وليضربن بخمرهن على جيوبهن.
(2) سورة النور الآية 31 (1) {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}
(3) انظر: فتح الباري ج 8 \ ص 490.(85/335)
الرابع: أن الخمار، ليس هو غطاء الرأس فقط، كما يظن البعض، بل هو بحسبه، فإن خمرت الرأس فهو غطاء للرأس، وإن خمرت الوجه فهو غطاء الوجه، وفي ذلك ما يلي:
1- الحديث المتقدم لعائشة رضي الله عنها.
2- ما جاء في صحيح مسلم، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: " في قصة الرجل الذي وقصته ناقته، وهو محرم فمات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه ولا وجهه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا (1) » فقوله: «لا تخمروا رأسه ولا وجهه (2) » ، دليل على أن الخمار يكون للرأس، ويكون للوجه أيضا، وقد تقدم حديث: «خمروا الإناء (3) » في بداية هذا البحث.
3- وهو من أبين الأدلة وأوضحها من السنة على وجوب تغطية الوجه - ما جاء في الصحيحين في قصة الإفك، قول عائشة رضي الله عنها تقول: «فجئت منازلهم، وليس بها منهم داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني
__________
(1) صحيح مسلم ج 2 \ ص 866 \ ح 1206 \ باب ما يفعل بالمحرم إذا مات.
(2) صحيح البخاري الجنائز (1268، 1268) ، صحيح مسلم الحج (1206، 1206) ، سنن الترمذي الحج (951، 951) ، سنن النسائي مناسك الحج (2858، 2858) ، سنن أبي داود الجنائز (3241، 3241) ، سنن ابن ماجه المناسك (3084، 3084) ، مسند أحمد (1/346، 1/346) ، سنن الدارمي المناسك (1852، 1852) .
(3) صحيح البخاري بدء الخلق (3280، 3280) ، صحيح مسلم الأشربة (2012، 2012) ، سنن الترمذي الأطعمة (1812، 1812) ، مسند أحمد (3/386، 3/386) ، موطأ مالك الجامع (1727، 1727) .(85/336)
عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي، ثم الذكواني، من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي (1) » الحديث، فدل قولها ذلك، على أن الخمار يغطى به الوجه، وأن تغطية الوجه واجبة.
الوجه الثالث:
وجه الاستدلال الثاني من الآية الثانية: قوله سبحانه: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (2) .
فالمقصود بالزينة في هذه الآية ما تظهر به المرأة عادة في بيتها كالوجه، واليدين، ويشمل أيضا الزينة المكتسبة، كالكحل، والقرط، والخاتم ونحو ذلك؛ لأنه لا يجوز لأحد من هؤلاء المذكورين في
__________
(1) من حديث عائشة رضي الله عنها، صحيح البخاري ج 4 ص 1517 ح 3910 باب حديث الإفك، صحيح مسلم ج 4 \ ص 2129 \ ح 2770 \ باب في حديث الإفك، وقبول توبة القاذف.
(2) سورة النور الآية 31(85/337)
هذه الآية النظر للمرأة، وهي لابسة ثيابا تكشف عورتها، حتى لو كانت هذه المرأة ابنته، أو أخته، إلا الزوج الذي ذكر في أول الآية، فإنه يجوز له ذلك بأدلة أخرى، وجميع من رخص لهم بالنظر لهذه الزينة الباطنة في هذه الآية، هم من المحارم للمرأة، أو من الأطفال، أو من الذين ليس لديهم رغبة في النساء لمرض أو كبر.
فوجه الاستدلال: فإذا كان قد خص هؤلاء المذكورين في الآية برؤية الزينة الباطنة، وهي ما تظهر به المرأة عادة في بيتها، دل على أن غيرهم ممنوع، من النظر لتلك الزينة، ولا يشك أحد في أن أعظم زينة باطنة في المرأة هي الوجه، فهو مجمع الحسن، ومحط الفتنة، ولا يمكن منع تلك الزينة من الرجال الأجانب إلا بحجاب الوجه، فدل على وجوب تغطيته.
ويشهد لذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بزوجته صفية عندما حجبها وبعد نزول هذه الآية، وآية الأحزاب من قوله تعالى:(85/338)
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) . فقد قام أمهات المؤمنين، والنساء المؤمنات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالستر الكامل بالخمر والجلابيب، وكانت النساء قبل ذلك يسفرن عن وجوههن وأيديهن حتى نزلت آيات الحجاب.
(فإذا كن مأمورات بالجلباب؛ لئلا يعرفن، وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب [دل ذلك على أن] الوجه واليدين من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة) (2) .
الوجه الرابع:
وجه الاستدلال الثالث من الآية الثانية: قوله سبحانه في آخر الآية: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (3) ، والمقصود بذلك ما يتحلى به في الأرجل كالخلخال ونحوه، فإذا كان صوت الخلخال يعد بريدا إلى الفتنة، فكيف بالوجه الذي يحكي الجمال والشباب والنضارة؟ وصوت الخلخال يصدر من الفتاة، ومن العجوز، ومن الجميلة، ومن الدميمة، أما الوجه فهو لا يحتمل إلا
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 59
(2) كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه ج 22، ص 110 - 111.
(3) سورة النور الآية 31(85/339)
صورة واحدة.
فوجه الاستدلال: أيهما أعظم فتنة؟ أن يسمع الرجل خلخالا بقدم امرأة لا يدري ما هي، وما جمالها؟ وهل هي شابة أم عجوز؟ ولا يدري أشوهاء أم حسناء؟ أيهما أعظم فتنة؟ هذا؟ أو أن ينظر إلى وجه سافر جميل، ممتلئ شبابا ونضارة، وحسنا وجمالا وتجميلا، فهل يعقل أن ينهى عن كشف الوجه؟ .
بل حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " (2) » فإذا كان هذا في القدم، فالوجه أكثر فتنة، والحكمة والنظر تأبيان ستر ما هو أقل فتنة كالقدم، وصوت الخلخال، والترخيص في كشف ما هو أعظم فتنة وهو الوجه.
__________
(1) سنن النسائي (المجتبى) ج 8 ص 209 ح 5336، سنن الترمذي ج 4 ص 223، ح 1731، وقال: '' حسن صحيح ''.
(2) (1) فقالت أم سلمة رضي الله عنها: " فكيف يصنعن النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبرا، فقالت: إذا تنكشف أقدامهن قال: ترخيه ذراعا لا تزدن عنه(85/340)
الدليل الثاني من الكتاب:
ما خوطب به أمهات المؤمنين، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} (1) ، ويستدل بهذه الآية على وجوب ستر الوجه من وجهين:
الوجه الأول: أن في قوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (2) الآية نصا واضحا في وجوب تحجب النساء عن الرجال، وتسترهن منهم، ولم يستثن من المرأة شيئا، لا الوجه ولا غيره، فهي جميعها من وراء حجاب، وهي آية محكمة؛ فوجب الأخذ بها، والتعويل عليها، وحمل ما سواها عليها، والحكم فيها عام في نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين، قال القرطبي رحمه الله تعالى: " ويدخل في هذه الآية جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة. . . فلا يجوز كشف ذلك إلا
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة الأحزاب الآية 53(85/341)
لحاجة كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها " (1) .
الوجه الثاني:
أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي هن أمهات المؤمنين، رغم جلالة قدرهن، وكونهن أبعد من كل شبهة ومع ذلك أمرن بأن يكون الحديث مع الأجانب من وراء حجاب، وعلل ذلك بأنه أطهر لقلوبهن، فما بالك بالنساء الأخريات؟
وإذا كان الرجال وهم من خير القرون، ومن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد أمروا بعدم الحديث مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم، رغم كونهم وكونهن أبعد من كل شبهة إلا من وراء حجاب، وعلل ذلك بأنه أطهر لقلوبهم، فما بالك برجال هذا الزمان؟
لا شك أن الأمر بذلك في حقهم أولى، وأشد وجوبا من أمهات المؤمنين الطاهرات، ومن الصحابة الأخيار رضي الله عنهم أجمعين.
الدليل الثالث من الكتاب:
قوله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) .
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي ج 14 ص 227.
(2) سورة الأحزاب الآية 59(85/342)
ويستدل بهذه الآية على وجوب ستر الوجه من وجوه:
الوجه الأول: قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (1) يدل على تخصيص الوجه؛ لأن الوجه عنوان المعرفة، فهو نص على وجوب ستر الوجه.
الوجه الثاني: وقوله تعالى: {فَلَا يُؤْذَيْنَ} (2) نص على أن في معرفة محاسن المرأة إيذاء لها ولغيرها بالفتنة والشر، فلذلك حرم الله تعالى عليها أن تخرج من بدنها ما تعرف به محاسنها أيا كانت، ولو لم يكن من الأدلة الشرعية على منع كشف الوجه إلا هذا النص منه سبحانه وتعالى لكان كافيا في وجوب الحجاب، وستر مفاتن المرأة ومن جملتها وجهها، وهو أعظمها؛ لأن الوجه هو الذي تعرف به، وهو الذي يجلب الفتنة.
ولأنها إذا كانت قد خرجت مبدية زينتها فهي تعرض نفسها للإيذاء من قبل الفساق، فإذا كانت متحجبة فإن ذلك كفيل ببعدها عن الأذى، وهذا واقع مشاهد، فإن المتبرجة كأنما هي بتبرجها تدعو الناس إليها، بخلاف تلك المتحجبة الحجاب الشرعي الساتر فإنها تورث هيبة وحياء واحتراما، حتى من قبل الفساق.
الوجه الثالث: وقوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (3) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 59
(2) سورة الأحزاب الآية 59
(3) سورة الأحزاب الآية 59(85/343)
فإدناء الجلباب يعني: سدله وإرخاءه على جميع بدنها، بما في ذلك وجهها، وهذا هو ما فسره به ابن عباس رضي الله عنهما، كما ذكره ابن كثير عنه حيث قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة، وقال محمد بن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (1) فغطى وجهه ورأسه، وأبرز عينه اليسرى " (2) .
وكذلك نقل القرطبي في تفسيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما في صفة إدناء الجلباب قال: " أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها " (3) .
وأما دليل السنة، فهو ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أم عطية رضي الله عنها " قالت: «أمرنا أن نخرج الحيض يوم العيدين، وذوات الخدور؛ فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، ويعتزل الحيض عن مصلاهن، قالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب قال: لتلبسها صاحبتها من جلبابها (4) »
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 59
(2) تفسير ابن كثير ج 3 ص 519.
(3) تفسير القرطبي ج 14 ص 243.
(4) صحيح البخاري ج 1 ص 139، ح 344، باب وجوب الصلاة في الثياب، صحيح مسلم ج 2 ص 606، ح 890، باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى، وشهود الخطبة مفارقات للرجال.(85/344)
وجه الاستدلال: أن ذلك يدل على أن المعتاد عدم خروج المرأة إلا بجلباب وعند عدمه لا تخرج، ولم يأذن لهن بالخروج بغير جلباب، مع أن الخروج كان لأمر مشروع وهو صلاة العيد، فما بالك بمن تخرج للأسواق وغيرها؟ .(85/345)
ثانيا: الأدلة التي تدل على وجوب ستر الوجه من السنة.
الدليل الأول: الحديث الذي تقدم ذكره، وهو حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين حين قالت: «فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي (1) » الحديث.
ويستدل به من وجهين:
الوجه الأول: أنه حديث صحيح وصريح في وجوب تغطية الوجه، وإذا وجب على أمهات المؤمنين مع علو أخلاقهن، وبعدهن عن كل ما يشين المرأة، فغيرهن من باب أولى.
__________
(1) من حديث عائشة رضي الله عنها، صحيح البخاري ج 4، ص 1517، ح 3910، باب حديث الإفك، صحيح مسلم ج 4، ص 2129، ح 2770، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف.(85/345)
الوجه الثاني: قولها: «وكان رآني قبل الحجاب (1) » فيه دليل على أن الحجاب لم يكن واجبا في أول الإسلام، ثم وجب بعد ذلك، فوجب حمل الأحاديث التي جاء فيها كشف وجه المرأة على أنها كانت قبل فرض الحجاب، وهو حديث محكم لا مناص من الأخذ به.
الدليل الثاني:
حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " (3) »
وجه الاستدلال: فإذا كان هذا في القدم فالوجه أكثر فتنة فلا يعدو أن يكون تنبيها بالأدنى على الأعلى، والحكمة والنظر تأبيان ستر ما هو أقل فتنة، وهو: القدم، والترخيص في كشف ما هو أعظم فتنة، وهو: الوجه.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4750، 4750) ، صحيح مسلم التوبة (2770، 2770) ، مسند أحمد (6/198، 6/198) .
(2) سنن النسائي (المجتبى) ج 8، ص 209، ح 5336، سنن الترمذي ج 4، ص 223، ح 1731، وقال: '' حسن صحيح ''.
(3) (2) فقالت أم سلمة -رضي الله عنها-: " فكيف يصنعن النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبرا، فقالت: إذا تنكشف أقدامهن، قال: ترخينه ذراعا، لا تزدن عليه(85/346)
الدليل الثالث: ما جاء في صحيح البخاري: «أن المحرمة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين (1) »
وجه الاستدلال: فيه دليل على أن انتقاب المرأة في الإحرام، لا يجوز؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الحديث المتقدم، وهو من أعظم الأدلة على أن المرأة كانت تستر وجهها في الأحوال العادية، ومعنى لا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين، أي: لا تلبس ما فصل وقطع وخيط لأجل الوجه كالنقاب، ولأجل اليدين كالقفازين، لا أن المراد أنها لا تغطي وجهها وكفيها، كما توهمه البعض فإنه يجب سترهما، لكن بغير النقاب والقفازين. هذا ما فسره به الفقهاء والعلماء.
ولا يعني أن المرأة المحرمة التي منعت من النقاب تكشف وجهها عند وجود الرجال الأجانب، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذونا أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها، فإذا جاوزونا كشفناه (2) » وقد تقدم نقل إجماع العلماء على أن المرأة تغطي
__________
(1) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، صحيح البخاري ج 2، ص 653، ح 1741، باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة.
(2) صحيح ابن خزيمة ج 4، ص 203، ح 2691، مسند الإمام أحمد بن حنبل ج 6، ص 30، ح 24067، سنن أبي داود ج 2، ص 167، ح 1833، قال ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية ج 2، ص 32: '' وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، وقد قال فيه مرة عن مجاهد عن عائشة، ومرة عن أم سلمة، كذا في الدارقطني والطبراني ''، وقال في تلخيص الحبير ج 2، ص 272، وأخرجه ابن خزيمة، وقال في القلب من يزيد بن أبي زياد، ولكن ورد من وجه آخر، ثم أخرج من طريق فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر، وهي جدتها نحوه، وصححه الحاكم، قال المنذري: قد اختار جماعة العمل بظاهر هذا الحديث.(85/347)
وجهها وهي محرمة بغير النقاب إذا مر بها رجال أجانب (1)
الدليل الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: «المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من وجه ربها وهي في قعر بيتها (2) »
وجه الاستدلال: فقوله المرأة عورة دليل على أن المرأة
__________
(1) انظر المطلب الثاني: حكم حجاب وجه المرأة في حال الإحرام.
(2) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، صحيح ابن خزيمة ج 3، ص 93 ح 1685، صحيح ابن حبان ج 12، ص 412، ح 5598، سنن الترمذي ج 3، ص 476، ح 1173، وقال: '' حسن غريب ''، مسند البزار ج 5، ص 427، ح 2061، وقال المنذري في الترغيب والترهيب ج 1، ص 141: '' رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح ''، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ج 4، ص 314: '' رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح ''، قال ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية ج 1، ص 123: '' أوله عند الترمذي، عن ابن مسعود مرفوعا: المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وصححه هو، وابن حبان، وابن خزيمة ''.(85/348)
جميعها عورة، فلم يستثن منها شيئا، والدين قد أمر بستر العورات أمر وجوب.
الدليل الخامس: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له امرأة أخطبها، فقال: اذهب فانظر إليها؛ فإنه أجدر أن يؤدم بينكما، فأتيت امرأة من الأنصار، فخطبتها إلى أبويها، وأخبرتهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهما كرها ذلك، قال: فسمعت ذلك المرأة وهي في خدرها، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر، وإلا فأنشدك كأنها أعظمت ذلك، قال: فنظرت إليها فتزوجتها، فذكر من موافقتها (1) »
وجه الاستدلال: كراهة الأبوين أن ينظر إلى ابنتهما؟ وكراهة البنت لذلك، فلم تجعله ينظر إليها إلا بعد أن علمت أن ذلك قد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدل على أنه كشف الوجه خلاف الأصل.
الدليل السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «جاء رجل
__________
(1) صحيح ابن حبان ج 9، ص 351، ح 4043، المستدرك على الصحيحين ج 2، ص 179، ح 2697، وقال: '' هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ''، ووافقه الذهبي وقال: '' على شرط البخاري ومسلم ''، وقال في الأحاديث المختارة ج 5، ص 169،: '' إسناده صحيح ''(85/349)
إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل نظرت إليها؟ فإن في عيون الأنصار شيئا (1) »
وجه الاستدلال: أن أمره بالنظر إلى عيونها أمر بالنظر إلى وجهها، ولذا بوب الإمام النووي على هذا الحديث فقال: باب ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها، وندبه للنظر إلى وجهها في حال الخطبة، إشارة إلى أن تغطية الوجه أصل معروف عندهم، فلو لم يلتزم الناس بالحجاب لما كان لهذا معنى.
__________
(1) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، صحيح مسلم [جزء 2 - صفحة 1040] ، ح 1424.(85/350)
ثالثا: دليل الإجماع على وجوب ستر وجه المرأة مطلقا، ويؤخذ الإجماع على ذلك من مواضع:
الموضع الأول: إجماعهم المتقدم على وجوب ستر الوجه إذا لم تؤمن الفتنة، وهذا يدل على وجوب ستر الوجه مطلقا بالإجماع، لما يلي:
أن التقييد بانتفاء الفتنة، مع كشف الوجه لا يمكن وجوده عند التحقيق؛ لأن المرأة أصل كل فتنة، فهي أشد فتن الرجال، بل ليس هناك أعظم فتنة منها، ولذا قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: «ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من(85/350)
النساء (1) » وقال: «اتقوا الدنيا واتقوا النساء (2) » فالافتتان بها واقع على كل حال، وكشف الوجه يزيدها فتنة.
إن الكثير من العلماء قد نصوا على منع المرأة من الخروج، أو كشف الوجه عند فساد الزمان، ومن نصوصهم في ذلك:
قال ابن رشد: تحقيق القول في هذه المسألة عندي أن النساء أربع: عجوز انقطعت حاجة الرجال منها، فهذه كالرجل فتخرج للمسجد وللفرض ولمجالس العلم والذكر، وتخرج للصحراء في العيد والاستسقاء، ولجنازة أهلها وأقاربها، ولقضاء حوائجها.
ومتجالة (3) لم تنقطع حاجة الرجال منها بالجملة، فهذه تخرج للمسجد للفرائض، ومجالس العلم والذكر، ولا تكثر التردد في قضاء حوائجها، أي: يكره لها ذلك، كما قال في الراوية.
وشابة غير فارهة في
__________
(1) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، صحيح البخاري ج 5، ص 1959، ح 4808، باب ما يتقى من شؤم المرأة، وقوله تعالى: إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم، صحيح مسلم ج 4، ص 2097، ح 2740، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء.
(2) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، صحيح مسلم ج 14، ص 2098، ح 2742 باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء.
(3) قال في الثمر الداني شرح رسالة القيرواني ج 1، ص 660: '' أي التي لا أرب فيها للرجال ''.(85/351)
الشباب والنجابة تخرج للمسجد لصلاة الفرض جماعة، وفي جنائز أهلها وأقاربها، ولا تخرج لعيد ولا استسقاء ولا لمجالس الذكر، أو علم.
وشابة فارهة في الشباب والنجابة، فهذه الاختيار لها أن لا تخرج أصلا " (1) .
قال في عمدة القاري. . قال صاحب الهداية: ويكره لهن حضور الجماعات. . . قال أصحابنا: لأن في خروجهن خوف الفتنة، وهو سبب للحرام، وما يفضي إلى الحرام فهو حرام، فعلى هذا قولهم: يكره مرادهم يحرم لا سيما في هذا الزمان؛ لشيوع الفساد في أهله، قوله: ما أحدث النساء. . قلت: لو شاهدت عائشة رضي الله تعالى عنها ما أحدث نساء هذا الزمان من أنواع البدع والمنكرات لكانت أشد إنكارا. . على أن نساء ذلك الزمان ما أحدثن جزء من ألف جزء مما أحدثت نساء هذا الزمان " اهـ (2) .
قلت: رحمك الله فكيف لو رأيت نساء هذا الزمان؟
وقال في موضع آخر: " وفيه استحباب خروج النساء إلى شهود العيدين، سواء كن شواب، أو ذوات هيئات أم لا. قلت: في هذا الزمان لا يفتى به؛ لظهور الفساد، وعدم الأمن، مع أن جماعة من السلف
__________
(1) بلغة السالك ج 1، ص 294.
(2) انظر عمدة القاري ج 6، ص 156 - 158.(85/352)
منعوا ذلك، وهم عروة، والقاسم، ويحيى الأنصاري، ومالك، وأبو حنيفة في رواية، وأبو يوسف، ومنع الشافعية ذوات الهيئات والمستحسنات؛ لغلبة الفتنة، وكذلك الثوري منع خروجهن اليوم " (1) .
وقال في الفواكه الدواني: " وأقول الذي يقتضيه الشرع: وجوب سترها وجهها في هذا الزمان لا لأنه عورة، وإنما ذلك لما تعورف عند أهل هذا الزمان الفاسد أن كشف المرأة وجهها يؤدي إلى تطرق الألسنة إلى قذفها، وحفظ الأعراض واجب كحفظ الأديان والأنساب " (2) .
قال الشوكاني -رحمه الله - في نيل الأوطار: " قال ابن رسلان (3) وهذا عند أمن الفتنة مما تدعو الشهوة إليه من جماع، أو ما دونه، أما عند خوف الفتنة فظاهر إطلاق الآية، والحديث عدم اشتراط الحاجة، ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء
__________
(1) عمدة القاري ج 6، ص 303 - 304.
(2) الفواكه الدواني ج 2 ص 214.
(3) تقدمت ترجمته وهو المعروف بالبلقيني.(85/353)
أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساق " (1) .
قال الغزالي - رحمه الله -: " الخلوة بالأجنبية، والنظر إلى وجهها حرام، سواء خيفت الفتنة أم لم تخف؛ لأنها مظنة الفتنة على الجملة، فقضى الشرع بحسم الباب من غير التفات إلى الصور " (2) .
الموضع الثاني: إجماعهم المتقدم بأنه لا يجوز للمرأة أن تكشف الوجه والكفين إذا علمت أن من حولها قد ينظر لها النظر المحرم الذي نهى الله عنه بأن يتبع النظرة النظرة؛ لأنها لا تستطيع أن تزيل هذا المنكر إلا بحجب وجهها عنه، وهذا القول منهم يقتضي القول بوجوب تغطية وجه المرأة، ولا بد لثلاثة وجوه:
الأول: لأن عدم تغطية الوجه وسيلة للنظر إليه، والوسائل لها أحكام المقاصد.
الثاني: ولأنهم قد عللوا المنع بكون ذلك يؤدي إلى الافتتان بها كما تقدم.
الثالث: أن كشف وجه المرأة مظنة لأن ينظر إليه بشهوة، فلا تملك منع ذلك إلا بستر وجهها.
الموضع الثالث: الإجماع العملي الذي نقله العلماء على أن
__________
(1) نيل الأوطار ج 6 ص 236.
(2) إحياء علوم الدين ج 2 ص 281.(85/354)
الأصل في المرأة هو تغطية الوجه، وقد حكى ذلك جمع من الأئمة " (1)
ومن ذلك: قال في عمدة القاري: " ويؤيد قول من قال بالجواز استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال، ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب؛ لئلا تراهم النساء، فدل على مغايرة الحكم بين الطائفتين " (2) .
وقال في فتح الباري: ويقوي الجواز استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال، ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب؛ لئلا يراهم النساء " (3) .
وقال الغزالي: " لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات " (4) .
ومن ذلك ما ذكروه في مسألة إحرام المرأة: قال ابن قدامة في المغني: ". . إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها. . . ولا نعلم
__________
(1) انظر حراسة الفضيلة للشيخ بكر أبو زيد ص 33 - 34.
(2) عمدة القاري ج 20 ص 217.
(3) فتح الباري ج 9 ص 337.
(4) إحياء علوم الدين ج 2 ص 47.(85/355)
فيه خلافا ".
وقال في " بداية المجتهد ": وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها، وأن لها أن تغطي رأسها، وتستر شعرها، وأن لها أن تسدل ثوبها على وجهها من فوق رأسها سدلا خفيفا تستتر به عن نظر الرجال إليها " (1) .
وقال في الاستذكار: " وأجمعوا أن إحرام المرأة في وجهها، وأن لها أن تغطي رأسها، وتستر شعرها وهي محرمة، وأن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلا خفيفا به تستتر به عن نظر الرجل إليها " (2) .
قال في فتح الباري: " ولم يختلفوا في منعها من ستر وجهها وكفيها بما سوى النقاب والقفازين " (3)
وقال ابن القيم -رحمه الله - في بدائع الفوائد: " فإن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) انظر بداية المجتهد ج 1 ص 239.
(2) الاستذكار ج 4 ص 14 - 15.
(3) فتح الباري ج 4 ص 54.(85/356)
لم يشرع لها كشف الوجه في الإحرام ولا غيره، وإنما جاء النص بالنهي عن النقاب خاصة، كما جاء بالنهي عن القفازين، وجاء النهي عن لبس القميص والسراويل، ومعلوم أن نهيه عن لبس هذه الأشياء لم يرد أنها تكون مكشوفة لا تستر البتة، بل قد أجمع الناس على أن المحرمة تستر بدنها بقميصها ودرعها، وأن الرجل يستر بدنه بالرداء، وأسافله بالإزار، مع أن مخرج النهي عن النقاب والقفازين والقميص والسراويل واحد، وكيف يزاد على موجب النص، ويفهم منه أنه شرع لها كشف وجهها بين الملأ جهارا، فأي نص اقتضى هذا، أو مفهوم، أو عموم، أو قياس، أو مصلحة؟ .
بل وجه المرأة كبدن الرجل، يحرم ستره بالمفصل على قدره، كالنقاب والبرقع، بل وكيدها يحرم سترها بالمفصل على قدر اليد كالقفاز، وأما سترها بالكم، وستر الوجه بالملاءة والخمار والثوب، فلم ينه عنه البتة، ومن قال: إن وجهها كرأس المحرم فليس معه بذلك نص ولا عموم، ولا يصح قياسه على رأس المحرم لما جعل الله بينهما من الفرق، وقول من قال من السلف: إحرام المرأة في وجهها، إنما أراد به هذا المعنى، أي: لا يلزمها اجتناب اللباس كما يلزم الرجل، بل يلزمها اجتناب النقاب، فيكون وجهها كبدن الرجل، ولو قدر أنه أراد وجوب كشفه، فقوله ليس بحجة ما لم يثبت عن صاحب الشرع أنه قال ذلك،(85/357)
وأرادوا به وجوب كشف الوجه، ولا سبيل إلى واحد من الأمرين " (1) .
فيؤخذ من هذا ونحوه أن علماء الإسلام قد أجمعوا على كشف المرأة وجهها في الإحرام، وأجمعوا على أنه يجب عليها ستره بحضور الرجال، فحيث كان كشف الوجه في الإحرام واجبا فستره في غيره أوجب.
الموضع الرابع: أن العلماء قد اتفقوا على وجوب تغطية وجه المرأة إذا كانت جميلة خشية الفتنة، كما تقتضيه نصوصهم المتقدمة، وهذا يلزم منه تغطية وجه المرأة، سواء كانت جميلة أو لا؛ للوجوه التالية:
أولا: من المعلوم أن الجمال أمر نسبي بين الرجال، فما يكون جميلا عند بعضهم قد يكون قبيحا عند البعض الآخر، والعكس صحيح.
ثانيا: أن تخصيص الجميلة بالغطاء دون غيرها فيه دعوة إلى النظر إليها.
ثالثا: أن من كان عنده ابنتان، إحداهما جميلة، والأخرى قبيحة، فهل يسوغ تغطية إحداهما دون الأخرى؟ وكيف يتم إقناعهما بذلك؟ .
__________
(1) بدائع الفوائد 3 \ 664.(85/358)
الموضع الخامس: يؤخذ من قول أحد العلماء المعاصرين ممن يرى جواز كشف الوجه للمرأة، وهو الشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني - رحمه الله - فقد اشترط للأخذ بهذا القول شرطا ينفي وجود الخلاف في وجوب ستر وجه المرأة في مثل هذا العصر، فقد قال - رحمه الله تعالى - ما نصه (. . . . ولكن ينبغي تقييد هذا إذا لم يكن على الوجه، وكذا الكفين شيء من الزينة؛ لعموم الآية: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (1) وإلا وجب ستر ذلك، لا سيما في هذا العصر الذي تفنن فيه النساء بتزيين وجوههن وأيديهن بأنواع الزينة والأصبغة مما لا يشك مسلم، بل عاقل ذو غيرة في تحريمه) اهـ (2) .
قلت: وهذا القيد يدل على الإجماع على وجوب ستر وجه المرأة لثلاثة أمور:
الأول: أن هذا القيد ممتنع التطبيق في الواقع، فيندر جدا أن تنعدم الزينة من وجه المرأة أو من كفيها.
الثاني: أن هذا القيد ليس له معنى؛ لأن الفتنة حاصلة بالوجه إذا كان جميلا، ولو لم يكن عليه زينة.
الثالث: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " الأصل أن كل
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) انظر جلباب المرأة المسلمة 1 \ 89 \ المكتبة الإسلامية - المطبعة الأولى - 1413 هـ.(85/359)
ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز؛ فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة، ولهذا كان النظر الذي يفضي إلى الفتنة محرما، إلا إذا كان لمصلحة راجحة، مثل نظر الخاطب، والطبيب وغيرهما، فإنه يبيح النظر للحاجة لكن مع عدم الشهوة، وأما النظر لغير حاجة إلى محل الفتنة فلا يجوز ".
ثم علق على هذا الأصل الشيخ الألباني - رحمه الله - قائلا: " ولو أن العلماء قديما، والكتاب حديثا راعوا هذا الأصل الذي ذكره: " ما كان سببا للفتنة فإنه لا يجوز "، وجعله دليلا مرجحا لتحريم النظر المذكور، لما تورطوا في إصدار بعض الفتاوى التي لا يشك المتفقه في أصول الشريعة وفروعها أنها تؤدي إلى مفاسد ظاهرة " (1) .
قلت: وهذا يطابق موضع النزاع غاية المطابقة. والله أعلم.
__________
(1) حجاب المرأة ولباسها في الصلاة 1 \ 10، ط 5 المكتب الإسلامي.(85/360)
رابعا: دليل المعقول على وجوب تغطية الوجه:
أما المعقول، فإنه يدل على وجوب تغطية الوجه من وجوه شتى منها:
الدليل الأول: ما هو المتبادر إلى الذهن؟ عندما يقولون لك: بأن فلانة جميلة، لا شك أن أول ما يتبادر إلى ذهنك، هو جمال(85/360)
الوجه، والتبادر علامة الحقيقة، فدل ذلك بأن الوجه هو المقصود الأعظم من الجمال، وأنه هو موضع الجمال طلبا وخيرا.
الدليل الثاني: أن أي إنسان يعرف مواضع الفتن، ورغبات الرجال لا يمكنه أن يقول بجواز كشف الوجه، مع وجوب ستر القدمين، أو الساق، أو النحر، وينسب ذلك لأكمل الشرائع وأحكمها؛ لأنه لا يعقل أن نقول بأن الشريعة الإسلامية الكاملة، التي جاءت من لدن حكيم خبير توجب على المرأة ستر القدم، أو ستر النحر، وتبيح لها كشف الوجه، فإن ذلك يوجب التناقض؛ لأن تعلق الرجال بالوجوه أكثر من تعلقهم بالأقدام، أو النحور، فهل علمتم برجل يبحث عن زوجة، فيقول للخاطب أو الخاطبة: ابحث لي عن قدميها أهي جميلة، أو غير جميلة، ويترك الوجه؟ هذا محال.
بل إن المباح وهو مباح قد يكون محرما إذا كان وسيلة لمحرم، ولذا فقد حرم بيع العنب على من يقوم بعصره خمرا، فبيع العنب حلال، ولكن حرم؛ لأنه صار وسيلة لمحرم، فكيف بالقول بجواز كشف موطن فتنة الرجال، مع ما نراه من ضعف الدين في نفوس كثير من المسلمين والمسلمات.(85/361)
ثانيا: أدلة القول الثاني:
وقد استدلوا على جواز كشف وجه المرأة بأدلة من الكتاب(85/361)
والسنة والمعقول:
فمن الكتاب:
قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) .
وجه الاستدلال الأول من الآية: بأنه قد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر قوله: ( {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2)) بالوجه والكفين (3) وهو ترجمان القرآن، فدل ذلك على جواز كشف الوجه.
ونوقش من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا التفسير قد خالفه تفسير ابن مسعود رضي الله عنه بأن المستثنى من النهي هو زينة الثياب، أي: لا يبدين زينتهن (الباطنة والظاهرة) إلا ما ظهر من الثياب التي يلبسنها، بغير إرادة منهن (4) وقول الصحابي إذا خالفه صحابي آخر تعين الترجيح بينهما بالدليل.
الوجه الثاني: أن التفسير بهذا المعنى فيه إجمال: فيحتمل أنه أراد بذلك الزينة الممنوع إظهارها فيكون بذلك موافقا لتفسير ابن
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة النور الآية 31
(3) انظر تفسير ابن كثير ج 3، ص 284، تفسير ابن أبي حاتم ج 8، ص 2567.
(4) المرجع السابق(85/362)
مسعود رضي الله عنه بأن المقصود هو ظاهر الثياب، وما لا يمكن إخفاؤه قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره للآية: ". . . . عن ابن عباس {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ} (1) ، قال: وجهها وكفيها والخاتم، وهذا يحتمل أن يكون تفسيرا للزينة التي نهين عن إبدائها ". . ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسيرا ما ظهر منها بالوجه والكفين " اهـ (2) . والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال.
الوجه الثالث: بأنه قد ثبت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - في أكثر من موضع - أنه قد فسر قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (3) بقوله: " أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها " (4) ، وقال أيضا في هذه الآية: " أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب يبدين عينا واحدة " (5) فقد فسر إدناء الجلباب
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) انظر تفسير ابن كثير ج 3، ص 284.
(3) سورة الأحزاب الآية 59
(4) تفسير القرطبي ج 14، ص 243.
(5) تفسير ابن أبي حاتم ج 10، ص 3154، ح 17783، وانظر تفسير ابن كثير ج 3، ص 519.(85/363)
بأنه يشمل تغطية الوجه فلا تبدي منه إلا عينا واحدة. وهذا يقوي الاحتمال الذي ذكره ابن كثير، وإلا كان هذا تناقضا.
الوجه الرابع: أن قول الصحابي: لا يكون حجة إذا خالف قوله صحابي آخر، فيكون الترجيح بين القولين بالدليل، فلو لم يصح عنه سوى القول الذي ذكرتم، فليس قوله حجة تعارض بها دلالة الكتاب والسنة التي دلت دلالة صريحة على وجوب تغطية الوجه، فكيف مع وجود الموافقة بما تقدم؟
الوجه الخامس: بأن الجمع بين التفسيرين ممكن: فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة، وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم. . فإذا كن مأمورات بالجلباب؛ لئلا يعرفن، وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين " (1) .
الوجه السادس: أن تفسير ابن مسعود رضي الله عنه أوفق
__________
(1) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية في الفقه، جمع بن قاسم ج 22 ص 110 - 111.(85/364)
للصواب لما يلي:
أولا: أن الآية تدل على أن هناك زينتين: زينة لا يجوز إبداؤها، وهي قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (1) ، والزينة الثانية: هي الزينة التي استثناها من النهي بقوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2) ، يعني إلا الزينة التي تظهر من الزينة الأولى. فإذا جعلنا الوجه هو المستثنى، مع أنه هو أصل الزينة، فما هي الزينة المستثنى منها؟
فإن قيل: هي الزينة المكتسبة، كالكحل، والقرط، والخاتم، قيل: هذا لا يستقيم مع قوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (3) ، فلو كان المقصود بالزينة ما ذكر لقال: (إلا ما أظهرن منها) ، فالزينة المكتسبة هي التي تحتاج إلى إظهار بفعل المرأة، ولكنه قال: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (4) ، فدل على أن الزينة المنهي عنها بقوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (5) شاملة للزينة الأصلية، والزينة المكتسبة، ويدخل في الزينة المكتسبة الثياب والحلي ونحو ذلك، فيكون المستثنى هو ما ظهر من هذه الزينة من غير قصد منها.
ثانيا: ولأنه قد تقرر في العقول والفطر بأن الوجه أصل الزينة، كما ذكر القرطبي رحمه الله تعالى (6) وهو بلا نزاع القاعدة الأساسية
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة النور الآية 31
(5) سورة النور الآية 31
(6) انظر تفسير القرطبي ج 12، ص 229.(85/365)
للفتنة بالمرأة، بل هو المورد والمصدر لشهوة الرجال؛ فتحريم إبدائه آكد من تحريم كل زينة تحدثها المرأة في بدنها.
الوجه السابع: أنه سبحانه وتعالى قال في الموضع الآخر من الآية: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (1) فهذه الزينة المنهي عنها تشمل بعمومها كل زينة، والوجه هو أعظم زينة للمرأة، فيكون دخوله في هذا النهي أولى من أي زينة أخرى، سواء كان زينة خلقية أو مكتسبة، وإنما استثنى الزينة التي تبدو بغير قصد منها في الآية السابقة، وهي قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2) ففي الآية الأولى بين الزينة التي يعفى عنها، ثم بين لها في الآية الثانية من تبدى لهم الزينة، وعلى القول بأن المستثنى من الزينة في قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (3) هو الوجه والكفان يلزم منه أمران:
الأول: أن يكون ذكر الزينة الثانية في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (4) تكرارا لا معنى له؛ لأننا إذا قلنا بأن الوجه والكفين يباح كشفهما، وتحرم الزينة المكتسبة في الوجه والكف، كالكحل، والقرط، والخاتم فما هي - إذا - الزينة المقصودة بالنهي عن إبدائها في الآية الثانية؟
فإن قيل: بأن المقصود بالزينة المذكورة هو الشعر، والحلي، والكحل، والقرط؛ لأن الآية الأولى استثنت الوجه والكفين.
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة النور الآية 31(85/366)
قلنا: بأن قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (1) عموم لا مخصص له من الكتاب والسنة، فيشمل كل ما يصح أن يطلق عليه زينة، سواء كان زينة أصلية أو زينة مكتسبة، وعموم القرآن الكريم، والسنة المطهرة لا يجوز تخصيصه إلا بالقرآن الكريم، أو بما ثبت من السنة المطهرة، أو بإجماع سلف الأمة، وليس ثمة شيء من ذلك فيبقى على العموم.
الثاني: أن ذلك يقتضي بأن يجعل ما هو أقل فتنة وهو الزينة المكتسبة منهيا عنه، وأصل الزينة الباطنة وهي الوجه تكون مما يباح إظهارها. وهذا تناقض، من جهة أن الوجه هو أصل الزينة بلا نزاع في النقل ولا في العقل، والله جلت قدرته حرم على المرأة إبداء شيء من زينتها إلا لمن استثنى بقوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (2) الآية، فكيف يسوغ تحريم الفرع، وهو الزينة المكتسبة، وإباحة أصل الزينة في المرأة، وهو الوجه الذي هو الزينة الأساسية؟ هذا تناقض، وحاشا كلام الله أن يقع فيه ذلك.
وجه الاستدلال الثاني من الآية: قالوا بأنه قد حصل الإجماع على وجوب ستر العورة على كل مصل في صلاته، وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها، فإذ كان ذلك من جميعهم إجماعا، كان معلوما بذلك أن
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة النور الآية 31(85/367)
لها أن تبدي من بدنها ما لم يكن عورة، كما ذلك للرجال؛ لأن ما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره، وإذا كان لها إظهار ذلك كان معلوما أنه مما استثناه الله تعالى ذكره بقوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) ؛ لأن كل ذلك ظاهر منها، ونوقش من وجوه:
الوجه الأول: بأنه قياس مع الفارق، فليس نزاعنا في كون الوجه عورة في الصلاة، وإنما النزاع هو في كون الوجه عورة من جهة النظر أم لا، وقد دلت أدلة الكتاب والسنة، على أن جميع بدن المرأة عورة خارج الصلاة من غير استثناء، فلا يجوز القياس على حالها في الصلاة.
الوجه الثاني: بأننا قدمنا الأجوبة الدالة على أن ما ظهر منها هو ظاهر الثياب، وهو التفسير الذي تعضده الأدلة من الكتاب والسنة.
واستدلوا بأدلة من السنة منها:
الدليل الأول: حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها: «دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها، وقال: يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا، وأشار إلى وجهه وكفه (2) »
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سنن أبي داود ج 4، ص 62، ح 4104، وقال: '' هذا مرسل؛ خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها ''، قال الزيلعي في نصب الراية ج 1، ص 299: '' قال أبو داود: هذا مرسل؛ خالد بن دريك لم يدرك عائشة، قال ابن القطان: ومع هذا فخالد مجهول الحال. قال المنذري: وفيه أيضا سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن البصري، نزيل دمشق مولى بني نضر، تكلم فيه غير واحد. وقال ابن عدي في الكامل: هذا حديث لا أعلم رواه عن قتادة غير سعيد بن بشير. وقال فيه مرة: عن خالد بن دريك، عن أم سلمة بدل عائشة، انتهى كلامه ''. وقال ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية ج 1، ص 123: '' أخرجه أبو داود، وقال: إنه منقطع بين خالد بن دريك، وعائشة، وأخرجه ابن عدي، وقال: رواه خالد مرة أخرى، فقال عن أم سلمة، وعن قتادة مرفوعا: إن المرأة إذا حاضت لم يصلح أن يرى منها إلا وجهها ويداها إلى المفصل، وهذا معضل ''.(85/368)
والجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا الحديث ضعيف جدا، فيه علل كثيرة:
1- أنه مرسل، قال أبو داود: هو مرسل؛ خالد بن دريك لم يسمع من عائشة رضي الله عنها، ففيه شخص مجهول بين الراوي وعائشة رضي الله عنها، من الأمور المسلمة في علم الحديث أن الحديث إذا كان فيه مجهول فلا يقبل.
2- أن خالد بن دريك نفسه مجهول الحال، كما ذكر ابن القطان.
3- وقال المنذري: وفيه أيضا سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن البصري نزيل دمشق، مولى بني نضر، تكلم فيه غير واحد (1)
4- أن في سنده مدلسين: الأول منهما قتادة، وقد رواه عن
__________
(1) انظر تخريج الحديث ص 379.(85/369)
خالد بن دريك بعن، والمدلس الثاني: الوليد بن مسلم.
ولو لم يكن فيه إلا علة واحدة من هذه العلل لكفت في رده، فكيف بها إذا اجتمعت (1) ؟
الوجه الثاني: لو سلمنا بصحة الحديث فيحمل على ما كان في أول الإسلام، قبل فرض الحجاب، فيكون هذا منسوخا بالأمر بالحجاب كما تقدم.
__________
(1) انظر مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 5 \ 46.(85/370)
الدليل الثاني: ما جاء في الصحيحين: «كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر (1) »
وجه الاستدلال: قالوا: إن قوله في الحديث: ينظر إليها، وتنظر إليه دليل على جواز كشف الوجه.
والجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن الحديث ليس فيه دليل على أنها كانت كاشفة وجهها، وإنما هو احتمال ضعيف؛ لأن المرأة عموما مدعاة للنظر
__________
(1) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، صحيح البخاري ج 2، ص 551، ح 1442، باب وجوب الحج وفضله، صحيح مسلم ج 2، ص 973، ح 1334، باب الحج عن العاجز لزمانه وهرم ونحوهما أو للموت.(85/370)
إليها فهي محل فتنة، ويحتمل أن الريح كشفت شيئا من حجابها، فرأى الفضل شيئا من وجهها دون غيره؛ لأن من روى الحديث غيره لم يذكروا حسنها.
الوجه الثاني: أن الإحرام ليس مانعا من تغطية وجهها بغير النقاب، كما تقدم نقل الإجماع على ذلك، وقد تقدم نقل الأئمة الإجماع على أن المحرمة إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها، فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها، وقال ابن قدامة: " ولا نعلم فيه خلافا. . . وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يعد لستر الوجه " (1) ، وغير المحرمة أدعى أن يرى شيء من بشرتها؛ لأنها تلبس البرقع كما هي عادة نساء البادية، والبرقع قد يرى منه شيء من المحاسن.
الوجه الثالث: أن ليس فيه أمر ولا نهي، وإنما هو مجرد فعل، فليس فيه حجة في مقابل النصوص الصريحة والصحيحة في وجوب تغطية الوجه.
الوجه الرابع: أن القاعدة في الأدلة أن يرد المتشابه منها إلى المحكم، وقد جاءت الأدلة الثابتة، والمحكمة، التي لا لبس فيها في
__________
(1) انظر المغني ج 3، ص 154.(85/371)
وجوب غطاء الوجه، فلا يجوز الأخذ بالمتشابه في مقابل المحكم.
الدليل الثالث: ما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن، فقال: تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم، فقامت امرأة من سطة فقالت: لم يا رسول الله، قال: لأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير، قال: فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتمهن (2) »
وجه الاستدلال: قالوا: إن قوله في الحديث: سفعاء الخدين أن هذه المرأة كانت كاشفة وجهها، فهذا نص صحيح وصريح يدل على جواز كشف الوجه للمرأة.
والجواب عنه: أن هذا محمول على ما قبل إنزال الأمر
__________
(1) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، صحيح مسلم ج 2، ص 603، ح 885، كتاب صلاة العيدين.
(2) (1) النساء سفعاء الخدين(85/372)
بالحجاب، فلا يجوز أن نأخذ بأمر منسوخ كما في الخمر، فإنه كان مباحا في أول الإسلام، ثم حرم، ومثله نكاح المتعة كان مباحا ثم حرم، وهكذا غطاء الوجه كان جائزا في أول الإسلام ثم حرم، والعبرة إنما تكون بالحكم الناسخ، أما الحكم المنسوخ فلا يجوز الأخذ به بعد النسخ.
ودليل النسخ ما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك وفيه: ". . . «وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي (1) »
ويستدل به من وجهين:
الوجه الأول: أنه حديث صحيح وصريح في وجوب تغطية الوجه، وإذا وجب على أمهات المؤمنين مع علو أخلاقهن، وبعدهن عن كل ما يشين المرأة، فغيرهن من باب أولى.
الوجه الثاني: قولها «وكان رآني قبل الحجاب (2) » فيه دليل على أن الحجاب لم يكن واجبا في أول الإسلام، ثم وجب بعد ذلك، فوجب حمل الأحاديث التي جاء فيها كشف وجه المرأة أنها كانت قبل فرض الحجاب، فهذا حديث صحيح، وصريح في محل النزاع وسالم من المعارض، فهو حديث محكم لا مناص من الأخذ به.
__________
(1) من حديث عائشة رضي الله عنها، صحيح البخاري ج 4، ص 1517، ح 3910، باب حديث الإفك، صحيح مسلم ج 4، ص 2129، ح 2770، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف.
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4750، 4750) ، صحيح مسلم التوبة (2770، 2770) ، مسند أحمد (6/198، 6/198) .(85/373)
واستدلوا بالمعقول: قالوا: بأن المسألة محل خلاف بين أهل العلم، ولا إنكار في مسائل الخلاف، فلا يجوز لأحد من الناس أن يحجر على الناس برأي واحد، فلكل أحد أن يأخذ بما يراه من أقوال أهل العلم. وجواب ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن الاجتهاد والتقليد محرم بالإجماع فيما يلي:
1- إذا كان في أصول العقيدة، فلو قلد عالما من العلماء في الشرك فلا يقبل الاجتهاد ولا التقليد، ولا يعذر أي منهما في ذلك.
2- إذا كان في مقابل الإجماع، أو كان الاجتهاد والتقليد في مقابل النص الثابت من الكتاب والسنة.
3- ويحرم الاجتهاد والتقليد بعد ظهور الدليل.
كما يحرم على المقلد أن يقلد من ليس أهلا من العلماء، ويحرم عليه أن يتتبع الرخص التي تنشأ من خلاف العلماء؛ لأن بعض العلماء مهما علا شأنهم يقعون في زلات كبيرة في بعض ما يفتون به، فلا يجوز لأحد أن يقلدهم في ذلك، وقد حذر الأئمة الأربعة من ذلك، وأطبقوا على القول: بأنه إذا صح الحديث فهو مذهبي (1)
الوجه الثاني: أن الخلاف إما أن يكون ممن لا يعتد به من العلماء، فهذا لا عبرة لخلافه، وإما أن يكون ممن يعتد به من العلماء
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في أعلام الموقعين 2 \ 259 فما بعدها.(85/374)
ولكنه ليس بحجة في مقابل الدليل الثابت، وإذا كان قول الصحابي يرد إذا خالف الدليل الثابت، فكيف بمن دونهم؟
الوجه الثالث: قال في الموافقات: ". . . ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف، فإن له نظرا آخر، بل في غير ذلك.
فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع فيقال: لم تمنع والمسألة مختلف فيها؟ فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد متعمدا، وما ليس بحجة حجة. حكى الخطابي " عن بعض الناس أنه قال: " إن الناس لما اختلفوا في الأشربة، وأجمعوا على تحريم خمر العنب، واختلفوا فيما سواه حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه، وأبحنا ما سواه "، قال: وهذا خطأ فاحش، وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، قال: ولو لزم ما(85/375)
ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة؛ لأن الأمة قد اختلفت فيها، قال: وليس الاختلاف حجة، وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين، هذا مختصر ما قال.
والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، ويجعل القول الموافق حجه له، ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه.
ومن هذا أيضا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال، وعدم التحجير على رأي واحد. . . وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور، أو الموافق للدليل، أو الراجح عند أهل النظر، والذي عليه أكثر المسلمين، ويقول له: لقد حجرت واسعا، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك، وهذا القول خطأ كله، وجهل بما وضعت له الشريعة، والتوفيق بيد الله " (1) .
الترجيح:
بعد ذكر الأقوال والأدلة، وبيان ما يرد عليها فإن القول بوجوب ستر وجه المرأة مطلقا قول يعضده الدليل من الكتاب والسنة والإجماع،
__________
(1) انظر الموافقات ج 4 ص 141 - 142.(85/376)
فلا مناص من الأخذ به لمن أراد الحق بدليله. والله تعالى أعلم.(85/377)
المطلب الثالث: سبب الخلاف عند العلماء المتأخرين.
أولا: الخلط بين مسألتين: عورة المرأة في الصلاة، وعورتها خارج الصلاة.
من أهم أسباب الخلاف في هذه المسألة أن بعض العلماء من المتقدمين والمتأخرين، نقلوا الاصطلاح - الذي تداوله العلماء في باب سترة العورة في الصلاة بأن: " المرأة عورة إلا الوجه والكفين " - إلى خارج الصلاة، وهو يخالف نصوص العلماء الذين نقلوا بأن تغطية الوجه عن الرجال الأجانب هي الأصل المجمع عليه عندهم كما تقدم. وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: ". . فإن طائفة من الفقهاء ظنوا أن الذي يستر في الصلاة هو الذي يستر عن أعين الناظرين هو العورة. . وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة، وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج، وذوي المحارم، وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها؛ لأنه يجوز لها إظهاره، ثم أنزل الله عز وجل آية الحجاب. . فإذا كن مأمورات بالجلباب؛ لئلا يعرفن وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب(85/377)
كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة، فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين " (1) .
وقال ابن القيم - رحمه الله - في بيان الفرق بين النظر إلى الحرة والأمة: وأما تحريم النظر إلى العجوز الحرة الشوهاء القبيحة، وإباحته إلى الأمة البارعة الجمال فكذب على الشارع. . . وإنما نشأت الشبهة أن الشارع شرع للحرائر أن يسترن وجوههن عن الأجانب، وأما الإماء فلم يوجب عليهن ذلك. . فهذا غلط محض على الشريعة، وأكد هذا الغلط أن بعض الفقهاء سمع قولهم: إن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وعورة الأمة ما لا يظهر غالبا كالبطن والظهر والساق، فظن أن ما يظهر غالبا حكمه حكم وجه الرجل، وهذا إنما هو في الصلاة لا في النظر؛ فإن العورة عورتان: عورة في النظر، وعورة في الصلاة، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك " (2) .
ثانيا: نصوص العلماء المتضاربة في نسبة الأقوال ومن ذلك:
قول ابن عبد البر - رحمه الله - " واختلف العلماء في تأويل
__________
(1) كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه ج 22 ص 109 - 111.
(2) انظر أعلام الموقعين 2 \ 80.(85/378)
قول الله عز وجل: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) ، فروي عن ابن عمر، وابن عباس في قوله: ( {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2)) قال: الوجه والكفان، وروي عن ابن مسعود أنه قال: البنان والقرط والدملج، وروي عنه أيضا أنه قال: الخلخال، والخاتم، والقلادة.
واختلف التابعون في ذلك على هذين القولين، وعلى قول ابن عباس، وابن عمر جماعة الفقهاء " (3)
وقال أيضا: " الحرة عورة [مجتمع على ذلك منها] ، إلا وجهها وكفيها " (4) .
وقال شيخ الإسلام. . والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين، فقال ابن مسعود، ومن وافقه: هي الثياب، وقال ابن عباس ومن وافقه: هي في الوجه واليدين، مثل الكحل والخاتم، وعلى هذين القولين تنازع الفقهاء في النظر إلى المرأة الأجنبية فقيل: يجوز النظر لغير شهوة إلى وجهها ويديها، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وقول في مذهب أحمد، وقيل: لا يجوز، وهو ظاهر مذهب أحمد، فإن كل شيء منها عورة حتى ظفرها، وهو قول مالك " (5) .
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة النور الآية 31
(3) الاستذكار ج 2 ص 201 - 202.
(4) الاستذكار ج 6 ص 254.
(5) كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه ج 22، ص 109 - 110.(85/379)
قال الألباني رحمه الله: " إن تتبعنا الآيات القرآنية، والسنة المحمدية، والآثار السلفية في هذا الموضوع الهام قد بين لنا أن المرأة إذا خرجت من دارها وجب عليها أن تستر جميع بدنها، وأن لا تظهر شيئا من زينتها حاشا وجهها وكفيها " (1)
وقد حررت فيما تقدم أقوال العلماء في ذلك، ونقلت نصوصهم الدالة على اتفاقهم على وجوب تغطية وجه المرأة مطلقا، وبينت بأن تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما - لم يثبت عنه، بل قد ثبت عنه خلاف ذلك.
ثالثا: الأخذ بمفهوم الحديث في نهي المحرمة أن تنتقب: جواز كشف الوجه مطلقا، وقياس وجه المرأة على رأس الرجل في الإحرام، فيجوز كشفه إذا لم تكن محرمة. وقد تقدم كلام شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم في بيان ذلك، والإجابة عنه وهذا المفهوم معارض بمنطوق الآيات والأحاديث المتقدمة، الدالة بالنص الصريح والصحيح على وجوب ستر وجه المرأة.
__________
(1) جلباب المرأة المسلمة 1 \ 37.(85/380)
رابعا: اعتقاد أن ستر الوجه خاص بأمهات المؤمنين، قال في التاج والإكليل لمختصر خليل: " ولا خلاف أن فرض ستر الوجه مما اختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم " (1) .
وهذا النقل وهم من قائله - رحمه الله - فإن دعوى التخصيص لا وجه لها؛ لأنه إذا وجب ستر الوجه على أمهات المؤمنين الأطهار فغيرهن من باب أولى، وقد تقدم ما ذكره القرطبي رحمه الله تعالى في أن ذلك عام في جميع النساء.
خامسا: تعارض أقوال الصحابة في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2) .
وهذا التعارض قد أمكن الجمع فيه بين الأقوال على فرض وجود الخلاف، على أن ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير الآية غير ثابت، وثبت عنه ما يخالف ذلك فيكون اتفاقا، والله تعالى أعلم.
__________
(1) التاج والإكليل ج 1 ص 499.
(2) سورة النور الآية 31(85/381)
الخاتمة:
في ختام هذا البحث أنبه على أبرز النتائج:
أولا: أن مواضع الاتفاق في هذه المسألة تشمل ما يلي:
اتفاقهم على جواز كشف الوجه، ورؤيته لضرورة كعلاج وشهادة،(85/381)
أو بقصد النكاح.
واتفاقهم على وجوب ستر وجه المرأة إذا ترتب على كشفه فتنة.
واتفاقهم على تحريم النظر إلى وجه المرأة إذا كان بشهوة.
واختلفوا في موضعين:
الأول: حكم كشف وجه المرأة إذا لم يترتب على كشف وجهها فتنة، وأمنت من أن ينظر لها بشهوة.
الثاني: حكم النظر إلى وجه المرأة بغير شهوة، مع أمن الفتنة.
ثانيا: أن جمهور العلماء على وجوب ستر الوجه، وتحريم النظر حتى وإن أمنت الفتنة، وأن أكثر العلماء القائلين بالجواز نصوا على كراهة ذلك.
ثالثا: أن التحقيق في أقوال العلماء بالنظر إلى المواضع المتفق عليها يدل على الإجماع على وجوب ستر وجه المرأة مطلقا لما يلي:
o أن التقييد بانتفاء الفتنة مع كشف الوجه لا يمكن وجوده عند التحقق؛ لأن المرأة أصل كل فتنة، فهي أشد فتن الرجال، وكشف الوجه يزيدها فتنة.
o أن الكثير من العلماء قد نصوا على منع المرأة من الخروج، أو كشف الوجه عند فساد الزمان، وهذا الزمان أشد فسادا مما مضى.
o أن العلماء قد اتفقوا على وجوب تغطية وجه المرأة إذا كانت جميلة؛ خشية الفتنة، وهذا يلزم منه تغطية وجه المرأة،(85/382)
سواء كانت جميلة أو لا؛ لأن الجمال أمر نسبي بين الرجال، فما يكون جميلا عند بعضهم قد يكون قبيحا عند البعض الآخر والعكس صحيح، ولأن تخصيص الجميلة بالغطاء دون غيرها فيه دعوة إلى النظر إليها.
رابعا: أن وجود الخلاف في هذه المسألة يعود لأمور من أهمها:
أولا: الخلط بين مسألتين: عورة المرأة في الصلاة، وعورتها خارج الصلاة.
ثانيا: نصوص العلماء المتضاربة في نسبة الأقوال.
ثالثا: الأخذ بمفهوم الحديث في نهي المحرمة أن تنتقب: جواز كشف الوجه مطلقا.
رابعا: اعتقاد أن ستر الوجه خاص بأمهات المؤمنين.
خامسا: تعارض أقوال الصحابة في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) .
هذه أهم النتائج التي توصلت إليها، فما كان فيها من صواب فمن الله، وما كان فيها من خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان، وأسأله المغفرة من كل ذنب وخطيئة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) سورة النور الآية 31(85/383)
حديث شريف
«عن أنس بن مالك -رضي الله عنه - أن ناسا من عرينة قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فاجتووها، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم: " إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها "، ففعلوا فصحوا، ثم مالوا على الرعاء فقتلوهم، وارتدوا عن الإسلام، وساقوا ذود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث في أثرهم، فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا (1) » . [متفق عليه] .
__________
(1) صحيح البخاري الفرائض (6805) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الأطعمة (1845) ، سنن النسائي تحريم الدم (4035) ، سنن أبي داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الطب (3503) ، مسند أحمد (3/290) .(85/384)
مجلة علمية دورية محكمة، أنشئت بالمرسوم الملكي
رقم (1 \ 137) ، وتاريخ 8 \ 7 \ 1391 هـ
شروط نشر البحوث بمجلة البحوث الإسلامية
1- أن تكون البحوث في مجال الشريعة الإسلامية وعلومها، ورجالها، والتاريخ الإسلامي، واللغة العربية بحثا واستقصاء.
2- أن يكون البحث باللغة العربية.
3- ألا يزيد البحث عن (50) صفحة مقاس a4.
4- أن يقدم البحث مطبوعا على ورق، ومرفق به نسخة على قرص حاسوب مدمج.
5- أن يرفق بالبحث ملخص لا يزيد عن صفحتين.
6- ألا يكون البحث قد نشر في مجلة أو طبع في كتاب مستقل.
7- لا تلتزم إدارة المجلة برد المقالات التي لم تنشر لأصحابها.
8- سيكون النشر حسب أولوية وصول البحوث لإدارة المجلة.
9- أن يرفق الباحث نبذة مختصرة تعريفية به، وبعمله، وإنتاجه العلمي.(85/385)
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (1)
النساء: 10
__________
(1) سورة النساء الآية 10(86/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
معالي الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
فضيلة الشيخ الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
فضيلة الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
معالي الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(86/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة علمية دورية محكمة تصدر عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(86/3)
المحتويات
الافتتاحية لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ....... 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ....... 63
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز....... 79
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ....... 93
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء....... 111(86/4)
البحوث
التمذهب دراسة تأصيلية واقعية لفضيلة الدكتور / عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين....... 125
زكاة الأراضي وقضياها المعاصرة لفضيلة الدكتور / عبد الله بن عمر بن محمد السحيباني....... 187
ضوابط قيم السلوك مع الله عند ابن قيم الجوزية لفضيلة الدكتور / مفرح بن سليمان بن عبد الله القوسي....... 261
فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود لمعالي الدكتور / محمد بن سعد الشويعر....... 333(86/5)
صفحة فارغة(86/6)
الافتتاحية
لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فيا أيها الناس، يا من خلقتم لأمر عظيم، وهيئتم لشأن جسيم، أيها المسلمون، يا من شرفكم الله بهذا الدين القويم، وجعلكم خير أمة أخرجت للناس، يا من حملتم رسالة عظمى، رسالة الدين الخالدة، لإسعاد البشرية وهدايتها.
حجاج بيت الله الحرام، يا من وطئت أقدامكم أرض عرفات الطاهرة، تلك الأرض المباركة، يا من أجبتم داعي الله، يا من فارقتم الوطن والأهل والمال، يا من جمعتكم رابطة لا إله إلا الله في مظهر واحد، في مكان واحد، لغاية واحدة، هي عبادة الله وحده لا شريك له.
يا معشر المسلمين، يا من أظهروا فرحا بهذا اليوم المبارك، يا(86/7)
من صاموه يرجون ما رتب عليه من الفضل العظيم، أوجه وصيتي لكم من هذا المنبر المبارك، فأقول: أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
* فتقوى الله وصية الله للأولين والآخرين، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (1) .
* تقوى الله دعوة الأنبياء، وشعار الأولياء، فكل نبي يقول لقومه: {أَلَا تَتَّقُونَ} (2) ، وأولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون.
* تقوى الله فرقان بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، عرفان تتجلى به الأمور، والنور الذي تنشرح به الصدور، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) .
* تقوى الله فيه تيسير الأمور، وتفريج الكروب، وإعظام الأجور، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (4) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (5) ، وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (6) ، وقال {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (7) .
* تقوى الله عنوان الكرامة في الدنيا والآخرة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (8) .
* تقوى الله طريق النجاة من النار بعد الورود عليها، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (9) {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (10) ،
__________
(1) سورة النساء الآية 131
(2) سورة الشعراء الآية 106
(3) سورة الحديد الآية 28
(4) سورة الطلاق الآية 2
(5) سورة الطلاق الآية 3
(6) سورة الطلاق الآية 4
(7) سورة الطلاق الآية 5
(8) سورة الحجرات الآية 13
(9) سورة مريم الآية 71
(10) سورة مريم الآية 72(86/8)
وقال: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) ، وقال: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} (2) .
أمة الإسلام، لقد أرسل الله عز وجل رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق، بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، بعثه والخلق يعيشون في بيداء الكفر والضلال، يعيشون حياة الجاهلية الفوضوية، لا حق يقام، ولا هدى يتبع، ولا قائد يحتذى، ولا إمام دعوة يتأسى بدعوته، فبعث الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أخرج به الناس من الظلمات إلى النور، هداهم به بعد الضلالة، بصرهم به بعد الغواية، وأصلحهم به بعد الفساد، وعلمهم به بعد الجهالة {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (3) .
دعا الناس إلى الله، وإلى إخلاص الدين لله، وأخبرهم أن دين الإسلام بني على أركان خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام.
أخبرهم أن الإنسان لا يتحقق إسلامه إلا بعد الإقرار بهذه الأركان والإتيان بها كاملة بإيمان وإخلاص.
أيها المسلمون، لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن
__________
(1) سورة الزمر الآية 61
(2) سورة مريم الآية 63
(3) سورة التوبة الآية 33(86/9)
مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فجواب الأولى: بتحقيق كلمة التوحيد لا إله إلا الله، علما وإقرارا وعملا، وجواب الثانية: بتحقيق أن محمدا رسول الله، علما وإقرارا وتأسيا وطاعة.
كلمة التوحيد لا إله إلا الله حقيقتها كما دل عليه القرآن: ألا معبود بحق إلا الله، فلا دعاء ولا خضوع ولا خشوع إلا لله وحده، ولا استعانة ولا استغاثة إلا بالله، ولا ذبح ولا نذر إلا لله، ولا تتعلق القلوب خشية وخوفا ورجاء إلا بالله.
هي أساس الملة وأصل الدين، وقاعدة الإسلام، من أجلها خلق الله الخلق، ومن أجلها أرسل الرسل، وأنزلت الكتب، ولأجلها شرع الجهاد، ولأجلها افترق الناس فريقين، فريق في الجنة وهم المؤمنون الموحدون، وفريق في النار، وهم الكافرون الضالون.
كلمة لا إله إلا الله مفتاح الجنة وثمنها، ومن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة، فهي توجب دخول الجنة والفوز بها وتكفير السيئات برحمة الله، ففي حديث عتبان بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله (1) »
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 1\164، ح415، ومسلم في صحيحه 1\454، ح263.(86/10)
* وهي أفضل ما ذكر الذاكرون، قال - صلى الله عليه وسلم -: «خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (1) »
* وأسعد الناس بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه، قال أبو هريرة - رضي الله عنه - للنبي -صلى الله عليه وسلم-: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة يا رسول الله؟ قال: «أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه (2) »
إن الظفر بهذا الثواب العظيم لقائل لا إله إلا الله لا يكون لمن عرف حقها واستوفى شروطها، فمن شروطها:
العلم بمعناها نفيا وإثباتا {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (3) ، واليقين بما دلت عليه، والإخلاص في العمل بها {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (4) ، والصدق في قولها، والمحبة لقائلها والعامل بها، والانقياد والقبول لما دلت عليه {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (5) ، {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (6)
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ 2\300، ح726، والترمذي في سننه 5\572، ح3585.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 1\49، ح99.
(3) سورة محمد الآية 19
(4) سورة البينة الآية 5
(5) سورة النساء الآية 65
(6) سورة لقمان الآية 22(86/11)
أي فقد استمسك بلا إله إلا الله.
ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى (2) »
معشر المسلمين: الصلوات الخمس ركن الدين العظيم وأساسه المتين، فلا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فهي البرهان الصادق على صحة الإيمان، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر (3) » وقال: «بين الرجل والشرك أو قال: الكفر ترك الصلاة (4) »
وهي سبب لانشراح الصدر، وقرة العين، وقوة العقل، وحصول النشاط، وطرد الكسل، والانزجار عن الفحشاء والمنكر، وحصول الترابط بين المسلمين بأدائها جماعة.
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 6\2655، ح6851.
(3) أخرجه الترمذي في سننه 5\13، ح2621، والنسائي في سننه 1\231، وابن ماجه في سننه 1\342، 1079.
(4) أخرجه مسلم في صحيحه 1\88، ح82.(86/12)
والزكاة ركن الإسلام الثالث: وهي قرينة الصلاة في كثير من آيات القرآن {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (1) .
وقد توعد الله مانعها بأعظم وعيد فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (3) .
شرعها الله تطهيرا للنفس من البخل والآثام، وزيادة للمال، وسدا لحاجة المسلمين، وترسيخا للمحبة بين طبقات المجتمع.
وصوم رمضان: شرعه الله رحمة وإحسانا {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4) ، وتكفل الله بثوابه دون بقية العبادات، جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به (5) »
شرعه لتحقيق التقوى واستحضار مراقبة الله، وتهذيب النفس وترويضها على ترك المشتهيات طلبا لمرضاة الله، والشعور بأحوال الفقراء والمحتاجين.
حج بيت الله الحرام: الركن الخامس من أركان الإسلام، فرضه
__________
(1) سورة التوبة الآية 11
(2) سورة التوبة الآية 34
(3) سورة التوبة الآية 35
(4) سورة البقرة الآية 183
(5) أخرجه البخاري في صحيحه 2\673، ح1805، ومسلم في صحيحه 2\806، ح1151.(86/13)
الله على المستطيع في العمر مرة واحدة: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1) وقال - صلى الله عليه وسلم - «أيها الناس: قد فرض الله عليكم الحج فحجوا (2) »
وقد جمع الله فيه العبادة القلبية والقولية والفعلية والعبادة المالية، فالحج تجتمع فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله بتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله وحده، وتجتمع فيه الصلاة وإنفاق المال، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر، والحلم، والشفقة، والرحمة، والتعليم للخير، وجهاد النفس، واجتناب المحرمات.
ومن ثمرات الحج: إخلاص التوحيد لله سبحانه، والاستجابة لأمره وإظهار الخضوع والتذلل له سبحانه، وتذكر الآخرة، وترويض النفس على بذل الجهد المالي والبدني تقربا لله تعالى، وحصول التعارف، والتواد بين المسلمين، وتحقيق المساواة بينهم بظهورهم بمظهر واحد، وفي عبادة واحدة، وفي مكان واحد.
هذه أركان الإسلام إذا قام بها المسلمون صار المجتمع مجتمعا طاهرا نقيا، يدين بدين الحق، ويعامل الخلق بالعدل والصدق، وصلاح بقية الدين بصلاح تلك الأركان، والأمة تصلح
__________
(1) سورة آل عمران الآية 97
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 2\975، ح1337.(86/14)
بصلاح أمر دينها، ويفوتها من صلاح أحوالها بقدر ما فاتها من صلاح أمور دينها.
أيها المؤمن: إيمانك هو أغلى وأعز ما تملكه في هذه الحياة، إيمانك يميزك عن غيرك من أتباع الكفر والضلال، فإيمانك يصلك بربك، ويعطيك تصورا صحيحا عن حقيقة هذا الكون، وإيمانك يصلك بالماضي، ويربطك بمستقبل مصيرك بعد الموت والنشور.
فأصول هذا الإيمان هي: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، جاء جبريل إلى النبي في صورة رجل، فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فأجابه عن الإيمان بقوله: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره (1) »
فالإيمان بالله: أن تؤمن بربوبيته وأنه خالق للكون كله ومتصرف فيه، لا خالق سواه، ولا رب غيره، وتؤمن بألوهيته واستحقاقه للعبادة، وتؤمن بأسمائه وصفاته، قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (2) ، وقال {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (3) ، وقال:
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 1\36، ح8.
(2) سورة فاطر الآية 13
(3) سورة البقرة الآية 163(86/15)
{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) .
والإيمان بالملائكة: أن تؤمن بوجودهم وبما وكلوا به من أعمال، {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} (2) {كِرَامًا كَاتِبِينَ} (3) ، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (4) ، وأنهم عباد الله المكرمون الذين {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (5) ، {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (6) ، {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} (7) .
الإيمان بالكتب: أن تؤمن بكتب الله السابقة، وأن الله أنزل كتبا وصحائف لهداية البشر، تؤمن بأنها من عند الله، وتؤمن بما صح من أخبارها مما لم يبدل أو يحرف، وأن القرآن آخر الكتب المنزلة، جامع لمعانيها، ناسخ لها ومهيمن عليها {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (8) .
والإيمان بالرسل: أن تؤمن برسل الله السابقين، وأن منهم من أخبر الله بقصصهم، ومنهم لم يقصص علينا قصصهم، وأن تؤمن بهم جميعا، وأنهم رسل من عند الله، أدوا الأمانة وبلغوا دين الله إلى أممهم، وأن الكفر بواحد منهم كفر بهم جميعا، فمن أنكر رسالة موسى أو أنكر رسالة عيسى فقد كفر بجميع الأنبياء، ومن أنكر رسالة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كفر بجميع الأنبياء، قال تعالى:
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) سورة الانفطار الآية 10
(3) سورة الانفطار الآية 11
(4) سورة ق الآية 18
(5) سورة الأنبياء الآية 27
(6) سورة الأنبياء الآية 20
(7) سورة فاطر الآية 1
(8) سورة المائدة الآية 48(86/16)
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (1) {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (2) {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) .
والإيمان باليوم الآخر: أن تؤمن بالمبدأ والمعاد، قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (4) ، وقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (5) {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (6) .
وتؤمن بالجزاء والحساب يوم القيامة {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} (7) {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} (8) .
وتؤمن بالجنة والنار كما بين الله ذلك في كتابه وبينه رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (9) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (10) {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (11) .
والإيمان بالقضاء والقدر: أن تؤمن بعلم الله المحيط بكل شيء، فإنه سبحانه عليم بالأمور كلها؛ دقيقها وجليلها، سرها وعلنها، ولا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء، وأن الله كتب مقادير كل شيء في اللوح المحفوظ إلى قيام الساعة قبل أن يخلق
__________
(1) سورة النساء الآية 150
(2) سورة النساء الآية 151
(3) سورة النساء الآية 152
(4) سورة الأنبياء الآية 104
(5) سورة المؤمنون الآية 15
(6) سورة المؤمنون الآية 16
(7) سورة الغاشية الآية 25
(8) سورة الغاشية الآية 26
(9) سورة البينة الآية 6
(10) سورة البينة الآية 7
(11) سورة البينة الآية 8(86/17)
السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما لم يكتب عليه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (1) {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} (2) . فعلى المؤمن التسليم والرضا بقدر الله وقضائه.
هذه عقيدة المسلمين، عقيدة كاملة لا نقص فيها ولا خلل، عقيدة واضحة لا غموض فيها ولا شائبة من الشوائب، وهى مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على ضوء فهم السلف الصالح، وكل إضافة إليها لم تثبت في الكتاب والسنة، فهي مردودة باطلة، كما أن كل نقص أو حذف منها مردود وباطل، وكل فهم لنصوصها لم ينقل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان فهو فهم خاطئ غير صحيح.
__________
(1) سورة الحديد الآية 22
(2) سورة الحديد الآية 23(86/18)
أمة الإسلام، إن تحقيق أركان الإسلام وأصول الإيمان في نفوس الناس يحقق لهم الأمن لهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (1) ، إن الحياة الطيبة الآمنة لا تتحقق إلا لمن آمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا، قال تعالى:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 82(86/18)
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} (2) .
أمة الإسلام، لا شك أن الأمن أهم مطالب الحياة، وهو ضرورة لكل جهد بشري لتحقيق مصالح الأفراد والمجتمعات وآمالها وتطلعاتها، وهو هدف تسعى إليه المجتمعات البشرية، وتتسابق لتحقيقه السلطات الدولية بكل ما أوتيت من إمكانات فكرية ومادية.
ولعظم أهميته امتن الله به على قريش. قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} (3) {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (4) ، وقال عن أهل مكة: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (5) ، وامتن على أصحاب الحجر بالأمن فقال: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} (6) .
وإن طلب الأمن مقدم على طلب الغذاء والكساء، فلا لذة بطعام ولا هناء بنوم ولا اطمئنان بمكان ولا رغد في عيش إلا بالأمن، ولهذا لما دعا الخليل إبراهيم - عليه السلام - بمكة قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (7) ، فدعا بتوفير الأمن قبل توفير الرزق، فاستجاب الله دعاءه فقال: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (8) ، ونادى ربه قائلا:
__________
(1) سورة النحل الآية 97
(2) سورة محمد الآية 2
(3) سورة قريش الآية 3
(4) سورة قريش الآية 4
(5) سورة العنكبوت الآية 67
(6) سورة الحجر الآية 82
(7) سورة البقرة الآية 126
(8) سورة آل عمران الآية 97(86/19)
{إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (1) . فأجاب الله دعاءه وأحل فيه الأمن، وصار مكانا للحضارات ومهوى لأفئدة الناس يثوبون إليه من كل مكان آمنين {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} (2) . بالأمن والإيمان تتوحد كلمة الناس، وتزدهر الحياة، ويقوم العدل، وتغدق الأرزاق، وتقام شعائر الله بطمأنينة.
الأمن من أهم مقومات السعادة في حياة المؤمن، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا (3) »
أمة الإسلام، إن توفير نعمة الأمن والحفاظ عليه يتحقق بعدة أسباب، فمن أهم تلك الأسباب:
* إصلاح العقيدة، وترك عبادة ما سواه، وملازمة العمل الصالح، قال تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (4) .
* الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن فيه حماية
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 37
(2) سورة البقرة الآية 125
(3) أخرجه الترمذي في سننه 4\574 ح2346، وابن ماجه في سننه 2\1387، ح4141.
(4) سورة النور الآية 55(86/20)
للمجتمع من الجرائم والآثام، قال تعالى {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) .
* اجتماع الكلمة وطاعة ولي الأمر في معروف، والتحاكم إلى شرع الله قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (3) .
* إقامة الحدود التي شرعها الله زجرا للمجرمين الذين ضعف الإيمان في نفوسهم ولم ينفعهم الوعظ والتذكير والأمر والنهي، فشرع الله القصاص والحدود قطعا لدابر المجرمين الذين يلعبون بأمن الناس وحياتهم وأموالهم وأعراضهم.
* شكر النعم، فبالشكر تدوم النعم، ويشيع الأمن، وبكفرانها ينزل الخوف والجوع في الناس، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (4) .
أمة الإسلام: إن اختلال الأمن في المجتمع يؤدي إلى عواقب وخيمة:
* فإذا اختل الأمن تبدل الحال، ولم يهنأ أحد براحة بال، فتهجر المساجد وتعاق سبل الدعوة، ويخشى الناس الفتنة في دينهم.
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 41
(3) سورة النساء الآية 59
(4) سورة النحل الآية 112(86/21)
* بفقد الأمن تقتل نفوس بريئة، وترمل نساء، وييتم أطفال، وتنتهك أعراض وتسلب أموال وممتلكات.
* إذا زال الأمن فشا الظلم وشاع الجهل، وحل الخوف مكان الأمن، والجوع والفقر مكان رغد العيش، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (1) .
فلأجل الحفاظ على أمن المجتمع جاء الشرع بالنهي الأكيد والزجر الشديد عن كل عدوان وإفساد يخل بالأمن أو يؤثر على الاستقرار، قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} (2) ، وقال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (3) ، ونهى عن ترويع المؤمن فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل لمسلم أن يروع مسلما (4) » ونهى أن يشهر السلاح في أرض المسلمين فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار (5) »
أمة الإسلام: إن مفهوم الأمن في الإسلام لا ينحصر في النواحي الأمنية الظاهرة، بل يشمل جميع جوانب الحياة المادية
__________
(1) سورة النحل الآية 112
(2) سورة الأعراف الآية 56
(3) سورة المائدة الآية 64
(4) أخرجه أحمد في مسنده (5\362) ، وأبو داود في سننه 4\458، ح5006.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه 6\2592، ح6661 ومسلم في صحيحه 4\2020، ح2617.(86/22)
والمعنوية وهو حق لجميع الناس أفرادا وجماعات، مسلمين وغير مسلمين، وذلك لعموم مقاصد الشريعة في حفظ الكليات الخمس: الدين والنفس والعقل والعرض والمال.
فمن أنواع الأمن الذي سعى الإسلام إلى تحقيقه:
(الأمن العقدي) : ويكون بالحفاظ على عقيدة المسلم الغراء عن كل ما يخدشها أو يزحزحها أو ينقض عراها، وذلك بالبعد عن الشرك والبدع والخرافات، وإقامة شعائر الدين كما أمر الله تعالى.
(الأمن النفسي) : وهو طمأنينة النفس وزوال الخوف والقلق عنها، ويتحقق ذلك بالإيمان بالله سبحانه، والرضا بحكمه، والانقياد لشرعه، والتوبة والإنابة إليه، وذكره سبحانه على الدوام، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (1) ، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لبلال رضي الله عنه، حينما تحين وقت الصلاة: «أرحنا بالصلاة يا بلال (2) » فالإنسان المؤمن يسير في طريق الله آمنا مطمئنا؛ لأن إيمانه الصادق يمده دائما بالأمل والرجاء في عون الله ورعايته وحمايته، وعفوه وغفرانه، وهو يشعر على الدوام بأن الله عز وجل معه في كل لحظة من لحظات حياته.
__________
(1) سورة الرعد الآية 28
(2) أخرجه أحمد في مسنده 5\364.(86/23)
(الأمن الأخلاقي) : وذلك بتربية أفراد المجتمع المسلم على القيم السامية والأخلاق الفاضلة والطهر والعفاف والحشمة والحياء، ومحاربة كل رذيلة وكل ما يمس أخلاق المسلم بسوء.
(الأمن الاجتماعي والأسري) : ويتمثل في إقامة أسرة سعيدة تقوم على قواعد أخلاقية ورابطة شرعية طاهرة نزيهة، والمحافظة عليها من التفكك والضياع، والقيام بمسؤوليتها أتم قيام، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (1) »
كما أمر الشارع ببر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار والضيف، ورعاية الأيتام والأرامل، ومساعدة المحتاجين لتحقيق التكافل بين أفراد المجتمع المسلم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول (2) » وقال: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى وفرج بينهما (3) »
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 2\848، ح2278، ومسلم في صحيحه 3\1459، ح1829.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 2\518، ح1361، ومسلم في صحيحه 2\721، ح1042.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 5\2032، ح4998، ومسلم في صحيحه 4\2287، ح2983.(86/24)
(الأمن السياسي) : وذلك بالحفاظ على كيان الأمة وجمع كلمتها ووحدة صفها تحت ولاة أمرها، والوقوف سدا منيعا أمام من يخل بأمنها واستقرارها، لا سيما في هذا الزمن الذي اضطربت فيه الأحوال، وتزعزعت فيه الأوضاع، مما يحتم على الأمة الالتفاف حول قيادتها، والحذر من مكائد أعدائها.
كما أن من المسؤوليات الملقاة على القيادة المسلمة التفكير الدقيق والنظر البعيد في الأمور، والتنبه إلى أنها مستهدفة من قبل أعدائها في دينها وفي كل أحوالها، وأن الأعداء يسعون لزعزعة كيانها من خلال إيجاد صراعات مفتعلة، وإشعال فتيل نزاعات مختلفة، ووضعها موضع تهمة وتقصير لأجل إضعاف شوكتها، والتدخل في شؤونها؛ فالحذر الحذر من مكائد أعدائها.
فلأجل الحفاظ على كيان الأمة أمر الإسلام أتباعه بالسمع والطاعة بل وقرن طاعة ولي الأمر بطاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال - صلى الله عليه وسلم - «عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك (1) » وقال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى
__________
(1) أخرجه النسائي في سننه 7\140، 4155، والبيهقي في السنن الكبرى 8\155، 17048(86/25)
الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني (1) »
(الأمن الاقتصادي) : حيث وضع الإسلام أسسا عادلة ومتينة لبناء اقتصاد قوي ومتماسك بريء من الربا والظلم.
وإن أهم مميزات نظام الاقتصاد الإسلامي هو ارتباطه التام بدين الإسلام عقيدة وشريعة، وذلك يجسد نظرة الإسلام للمال، حيث أباح التملك وأعطى الحرية في حدودها، فهي ليست مطلقة بل مقيدة بأصول ومبادئ شرعية وأخلاقية، وفرض الزكاة على الأغنياء حقا للفقراء، وشرع النفقات الواجبة والمستحبة، ورغب في الإنفاق في سبل الخير، وشرع الميراث الذي ينتقل من خلاله المال إلى الورثة ويتم توزيعه عليهم حسب نظام دقيق ومحكم.
وحرم الإسلام جميع بيوع الجاهلية والمعاملات التي تشتمل على الربا والغرر والجهالة والغش والضرر والقمار والميسر، وحرم أكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (2) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - «بم يستحل أحدكم مال أخيه؟ (3) » وحرم كذلك كل بيع مجهول العين أو الثمن أو الأجل أو بيع ما لا يملك أو ما
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 3\1080، ح2797، ومسلم في صحيحه 3\1466، ح1835.
(2) سورة البقرة الآية 188
(3) أخرجه مسلم في صحيحه 3\1190، ح1555.(86/26)
كان غير مقدور على التسليم؛ حماية للمجتمع من أن يأكل بعضهم بعضا.
وما نسمع من الانهيارات الاقتصادية، إنما هي نتيجة إخلالها بتلك الأصول والمبادئ الشرعية العادلة، وعدم تجنب المعاملات المحرمة وأكل أموال الناس بالباطل.
إن الله حرم الربا وأخبر أنه يمحق الربا، حكم شرعي واضح، وبعض الناس إذا قلت له: إن التعامل بالربا حرام، ومدمر للاقتصاد، أنكر عليك ذلك، وها هم اليوم يشاهدون هذا الانهيار الاقتصادي، وإفلاس بعض الشركات العملاقة، والبنوك الكبيرة كل ذلك بسبب مخالفة شرع الله.
فعلى المسلم أن يتمسك بأحكام دينه وأن يعتز بذلك.
إن الأمة بحاجة إلى اقتصاد إسلامي قوي واستثمار ناجح وتعاون بين الدول الإسلامية؛ لكي يكونوا قوة اقتصادية لها وزنها واعتبارها بين الأمم، وأن يقيموا اقتصادهم على أصول شرعية ثابتة، وعلى العدل والرحمة والإحسان.
(الأمن الفكري) : إن الأمن على العقول لا يقل أهمية عن أمن النفوس والأموال، فكما أن للبيوت والأموال لصوصا، فكذلك للعقول؛ بل إن لصوص العقول أعظم خطرا وفتكا ومن هنا فقد(86/27)
سعى الإسلام إلى حماية الفكر المسلم من الانحراف من جهة التقصير والتفريط، والانحراف من جهة الغلو والتطرف وخروجه عن دائرة الاعتدال والوسطية {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (1) ، وهذا النوع من الأمن هو الأساس فهو سبب صلاح المجتمع واستقرار الأحوال، ويتمثل الأمن الفكري في الإسلام في نشر العلم الصحيح النافع، والاهتمام بالعلوم الشرعية واتباع منهج السلف الصالح في الاعتقاد والعمل والسلوك.
(الأمن الإعلامي) : وهذا من أخطر ما يكون على الأمة في هذا العصر، وذلك:
* أن العالم لم يشهد من قبل مثل هذا التقدم المذهل في وسائل الاتصال وتقنية المعلومات، حتى صار العالم كالقرية الصغيرة، وهذا يفرض على الجميع عبئا كبيرا والتزاما شرعيا وأخلاقيا تجاه هذه الوسائل واستخدامها.
* لقد أصبحت هذه التقنيات بجميع أنواعها وسائل مفتوحة لبث الأفكار ونشر المبادئ والاتجاهات، والتأثير على المتلقي مما يستدعي التعامل معها بحذر.
* إن ما يسمى بالإرهاب الالكتروني أصبح خطرا يهدد الأسر والمجتمعات، ويتمثل هذا الخطر في استخدامه من قبل أصحاب
__________
(1) سورة البقرة الآية 143(86/28)
الفكر المنحرف بأسماء وهمية مستعارة، الأمر الذي يحتم على الجميع الحفاظ على الشباب المسلم من التأثر بتلك الأفكار الضالة والوقوع في أحضان ذلك الفكر المنحرف.
* كما أدعو إخواني العلماء والدعاة وأصحاب التخصصات في الجامعات ومراكز الأبحاث وأهل الفكر السليم والتوجه الصحيح إلى الإفادة من هذه الوسائل في الدعوة إلى الله وتوجيه الأمة إلى التمسك بالدين والتزام منهج الوسطية والاعتدال.
(الأمن البيئي) : فإن الإسلام سعى إلى المحافظة على سلامة البيئة ونظافتها، ودعا إلى المحافظة على مكوناتها، ومصادر المياه، وحرم كل ما فيه إفساد للبيئة، أو إخلال بمرافقها العامة، فنهى عن إتلاف الزروع والأشجار، والبول في الماء الراكد، والتخلي في طرق الناس وظلهم، فقال - صلى الله عليه وسلم - «لا يبولن أحدكم في الماء الذي لا يجري ثم يغتسل فيه (1) » وقال: «اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طرق الناس وظلهم (2) »
إن ما تقوم به البلدان الصناعية الكبرى من رمي النفايات النووية في البلدان الإسلامية، وغيرها من البلدان الضعيفة التي أفسدت
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 1\94، ح236.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 1\226، ح269.(86/29)
البيئة، وشوهت الأجنة، وقتلت الحيوانات في البر والبحر، كل ذلك يحرمه الإسلام، مما يدلك على حرص الإسلام على حماية البيئات والمجتمعات من كل ما يؤذيها.
(الأمن الصحي والوقائي) : فالإسلام اعتنى بصحة الأبدان، وحث على الوقاية من الأمراض قبل وقوعها؛ فأمر أتباعه بالابتعاد عن المصابين بالأمراض المعدية، والبعد عن أماكن الأوبئة والطاعون، قال - صلى الله عليه وسلم - «فر من المجذوم فرارك من الأسد (1) » وقال: «لا يورد ممرض على مصح (2) » وقال في الطاعون: «إذا سمعتم به في أرض قوم فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه (3) » وأمر بمداواة الأمراض بعد نزولها، قال - صلى الله عليه وسلم -: «تداووا عباد الله فإن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل معه شفاء إلا الموت والهرم (4) » وقال: «إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2\443، والبيهقي في السنن الكبرى 7\218، ح14634.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 5\2177، ح5437، ومسلم في صحيحه 4\1743، 2221
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 5\2163، 5397، ومسلم في صحيحه 4\1737، ح2218.
(4) أخرجه أحمد في مسنده 4\278.(86/30)
علمه من علمه، وجهله من جهله (1) »
أمة الإسلام، إن الأمن مسؤولية الناس جميعا بلا استثناء، وليس مسؤولية جهة معينة أو أشخاص محدودين؛ بل إن كل فرد من أفراد المجتمع معرض للخسارة إذا فقد المجتمع أمنه وطمأنينته، إن المجتمع مطلوب منه حماية طرق المسلمين وتجاراتهم وبضاعاتهم من قرصنة البحار والجو، ومن المفسدين في الأرض، وإن على المجتمع الدولي أن يجرم هذا الإرهاب ويعلن براءته من كل من يؤوي المجرمين وعصابات الإجرام في أي مكان كانوا، إنهم اللصوص المدمرون للأمة، إن الإسلام حمى المجتمع وأنزل أعنف العقوبة على المجرمين {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (2) ، إن الإسلام لا يقبل بالظلم ممن جاء به، ولا يرضاه لأحد من الناس، وإنه حارب الإرهاب والإجرام بكل صوره، فلنكن على حذر من هذا الإرهاب، مهما كان نوعه، ولنحارب عصابة الإجرام، فليقف العالم كله ضد هذه العصابات المجرمة الظالمة المعتدية التي دمرت البلاد والعباد ونشرت الفساد
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 1\443.
(2) سورة المائدة الآية 33(86/31)
في الأرض نسأل الله السلامة والعافية من كل بلاء.
أمة الإسلام، إن مبنى دين الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى للناس على الاستسلام والخضوع والانقياد، قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (1) ، وحقيقة الاستسلام: تعظيم أمر الله ونهيه، والوقوف عند حدوده، واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) ، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) ، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (4) .
إن من تعظيم النصوص الشرعية ألا يعارض أحد القرآن والسنة برأيه، ولا ذوقه ولا عقله ولا قياسه ولا وجده، وأن يعتقد المسلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم (5)
إن من أعظم الضلال إهمال النصوص الشرعية وإخضاعها للعقل القاصر، ومعارضتها بآراء الناس وأهوائهم
__________
(1) سورة الزمر الآية 54
(2) سورة النساء الآية 65
(3) سورة النور الآية 51
(4) سورة الأحزاب الآية 36
(5) من كلام شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 30\121(86/32)
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) .
لقد استطاع الغزو الفكري أن يجعل بعض المسلمين الذين يتكلمون بألسنتنا يستحون أو يشمئزون من ذكر بعض شرائع الإسلام، بل وتجاوزوا ذلك فوصفوا حجاب المرأة المسلمة بالرجعية والتخلف، ووصفوا الحدود والقصاص بالتشدد والهمجية، ودعوا إلى قراءة جديدة لنصوص الشريعة يفهمونها كما يشاؤون، على خلاف ما فهمها سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، أما سمع هؤلاء قول الله عز وجل في المنافقين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (2) ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} (3) {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} (4) {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} (5) {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (6) .
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) سورة محمد الآية 9
(3) سورة محمد الآية 25
(4) سورة محمد الآية 26
(5) سورة محمد الآية 27
(6) سورة محمد الآية 28(86/33)
أمة الإسلام: إن دين الإسلام جمع بين عنصري الثبات والمرونة، وهذا من واقع الإعجاز في هذا الدين، وآية من آيات عمومه وخلوده وصلاحيته لكل زمان ومكان.
فهناك ثوابت في الدين لا تقبل التطوير والتغيير ولا الحذف ولا الإضافة، بل هي أحكام قطعية باقية بإذن الله إلى يوم القيامة، فكل ما(86/33)
دل عليه الكتاب والسنة الصحيحة دلالة قطعية صريحة فهو مما لا يقبل التغيير والتبديل والتطوير، ولا الاجتهاد فيه.
ومن تلك الثوابت: مسائل الإيمان والعقائد، وأصول العبادات والمحرمات اليقينية، وأمهات الفضائل، وأن الإسلام لا يمكن تجزئته فلا بد أن يؤخذ كله كما أمر الله، عقيدة وعبادة، أخلاقا ومعاملة، تشريعا وتوجيها.
إن الإسلام لا يقف حجر عثرة في وجه التقدم، ولا يمنع الأخذ بما هو صالح ونافع من العلوم والمكتسبات البشرية، بل فيه الدافع الذي يحفز الأمة على السعي والحركة والإنتاج فيما يعود عليها بالنفع مع الحفاظ على مبادئ الدين وثوابته.
أمة الإسلام، احمدوا الله على ما أنعم به عليكم من دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان، والذي يمتاز بالكمال والشمول في عقيدته ومبادئه ونظمه وتشريعاته، وهو دين صالح لكل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فمن كمال هذا الدين وشموله أنه:
* حرر العقول من الضلالات والتعلق بالبدع والخرافات، وأخرج الإنسان من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، ونهى عن الشرك وأمر بإخلاص الدين كله لله وحده.(86/34)
* شرع الفرائض والعبادات وأمر بفعل الخيرات {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) .
* رتب العلاقات الاجتماعية والأسرية من نكاح وطلاق ورضاع وصلة رحم وعطف على المساكين والأرامل.
* نظم العلاقات المالية وتبادل المنافع والمعاملات التجارية والاقتصادية، وأباح البيوع والتجارات، ونهى عن الغش والتدليس والخيانة والقمار والغرر والربا، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) .
* أباح الطيبات من المآكل والمشارب والمساكن والملابس {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (4) .
* شرع الحدود والقصاص وأنواع التعزيرات حفظا للحقوق، وتحقيقا للأمن ودفعا للشرور.
* حث على القضاء بين الناس بالعدل والإنصاف، {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (5) .
أمة الإسلام، إن من خصائص هذا الدين أنه اعتنى بالإنسان الذي كرمه الله وشرفه، والذي جعل منهم الأنبياء والرسل، وجعل
__________
(1) سورة الحج الآية 77
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة النساء الآية 29
(4) سورة الأعراف الآية 157
(5) سورة النساء الآية 58(86/35)
منهم أئمة وقادة يهدون الناس إلى الخير والفلاح، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (1) .
ومن مظاهر هذا التكريم:
* أن الله خلقه في أحسن تقويم {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (2) .
* ونفخ فيه من روحه {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (3) {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (4) * واختاره ليكون خليفة في الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (5) .
* وسخر له الكون كله لمصلحته وسعادته {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (6) * وكرمه بالعقل، ومتعه بالحواس، وهداه السبيل، وعلمه البيان، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيما؛ فجاء الإسلام لينال به الإنسان سعادة الدنيا والآخرة والفوز بالنعيم المقيم في جوار رب العالمين، وجاء الإسلام ليسمو بالإنسان وينقذه من الانحراف والسقوط في الهاوية؛ فالإسلام اهتم بهذا الإنسان بجميع جوانبه؛ الروحية، والعقلية،
__________
(1) سورة الإسراء الآية 70
(2) سورة التين الآية 4
(3) سورة السجدة الآية 8
(4) سورة السجدة الآية 9
(5) سورة البقرة الآية 30
(6) سورة لقمان الآية 20(86/36)
والنفسية، والغريزية، والجسدية المادية، بخلاف المذاهب والفلسفات البشرية، والديانات المحرفة التي ركزت على جانب واحد من حياة الإنسان، وأهملت جوانب أخرى، فجارت على الإنسان باسم الإنسان.
أمة الإسلام، دينكم دين الإسلام دين عدل وسلام، دين رحمة وإحسان، حفظ الحقوق بجميع صورها ورعاها.
* فحافظ على حقوق الإنسان كلها، فأقر حق الإنسان في الحياة، وحرم الاعتداء عليها بجميع صوره، وحافظ على عرضه وكرامته، ودمه وأمواله: قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم عليكم دماءكم وأعراضكم وأموالكم (1) » ولم يكتف الإسلام بحماية الإنسان في حال حياته، بل حماه وأكرمه حتى بعد مماته، فأمر بغسله، وتكفينه، ودفنه، والنهي عن كسر عظمه، والاعتداء على جثته. قال صلى الله عليه وسلم: «كسر عظم الميت ككسره حيا (2) »
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 2\620، ح1655، ومسلم في صحيحه بمعناه 5\107، ح4477.
(2) أخرجه أبو داود في سننه 3\204، ح3209، وابن ماجه في سننه 1\516، ح1616.(86/37)
* ورعى الإسلام حقوق الفقراء عند الأغنياء: قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن: «فإن أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم (1) »
* ورعى حق الأجراء عند الملاك: قال صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه (2) »
* ورعى حقوق كل من الزوجين على الآخر: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (3) .
* ورعى حقوق الوالدين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (4) {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (5) .
* ورعى حقوق الجيران: قال صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه (6) » وقال صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن،
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه 2\16، ح1586، والنسائي في سننه 5\2، ح2435.
(2) أخرجه ابن ماجه في سننه 2\817، ح2443، والبيهقي في السنن الكبرى 6\121، ح11439.
(3) سورة البقرة الآية 228
(4) سورة الإسراء الآية 23
(5) سورة الإسراء الآية 24
(6) أخرجه البخاري في صحيحه 5\2239، ح5668، ومسلم في صحيحه 4\2025، ح2625.(86/38)
والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه (1) »
* ورعى حقوق غير المسلم عند المسلم، فأمر بالإحسان إلى المستأمنين والمعاهدين والعدل معهم: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2) .
* ولم يقتصر هذا الأمر على الإنسان؛ بل تعداه إلى الحيوان والنبات، فحرم الشارع قطع الشجر بلا حق، وحرق الزرع بلا سبب، ودخلت امرأة النار بسبب هرة؛ لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، ودخلت امرأة بغي الجنة؛ لأنها سقت كلبا فشكر الله لها وغفر لها، وغير ذلك من الحقوق، فاعتزوا أيها المسلمون بدينكم، وثقوا بعقيدتكم، وتمسكوا بشريعة الإسلام تكونوا من الفائزين: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (3) .
أمة الإسلام، يقول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (4) ، فالمؤمن ولي المؤمن يفرح لفرحه، ويحزن لحزنه، ويتألم لألمه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (5) »
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 5\2240، ح5670، ومسلم في صحيحه 1\68، ح46.
(2) سورة الممتحنة الآية 8
(3) سورة المنافقون الآية 8
(4) سورة التوبة الآية 71
(5) أخرجه البخاري في صحيحه 5\2240، ح5670، ومسلم في صحيحه 1\68، ح46.(86/39)
إن المؤمن الحق لا يكون أنانيا، بل ينبغي أن يحيا لغيره، ويهتم بقضايا أمته، ويعيش هموم إخوانه من المسلمين في كل مكان، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم (1) » ويقول: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (2) »
إن الموفقين في هذه الدنيا هم أصحاب المواقف العظيمة الذين يسر الله لهم خدمة الناس والسعي في مصالحهم وقضاء حاجاتهم.
إن المسلمين هانوا أفرادا وجماعات حين ضعفت فيهم أواصر المحبة، ووهنت فيه حبال المودة، واستحكمت فيهم الأنانيات، وساد فيهم حب الذات. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل (3) »
__________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط 7\270، ح7473.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 5\2238، ح5665، ومسلم في صحيحه 4\1999، ح2586.
(3) أخرجه أبو داود في سننه 4\184، ح4299، وأحمد في مسنده 5\278.(86/40)
1- يا قادة المسلمين، يا من ولاكم الله أمر شعوبكم، إن مسؤوليتكم عظيمة، وإن الأمانة الملقاة على عاتقكم لجسيمة، إن الله جعل لكم سلطانا لتنفيذ حدوده وإقامة شرعه، يقول عثمان رضي الله عنه: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن (1) » فأقيموا شريعة الله فيمن استرعاكم الله عليه، تعيشوا في أمن وأمان وراحة وسلام، وكونوا رحمة على رعاياكم، واسلكوا بهم مسالك الإيمان، وجنبوهم الردى والعصيان، واحرصوا على وحدة كلمة المسلمين، واجتماع صفوفهم، واحذروا من مكائد الأعداء ومؤامراتهم على الإسلام وأهله.
2- أيها الآباء وأيتها الأمهات، اتقوا الله فيما اؤتمنتم عليه، واحفظوا وصية الله في أولادكم. قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت (3) » وقال: «إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته (4) » أدبوا أولادكم،
__________
(1) أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (1\118)
(2) سورة النساء الآية 11
(3) أخرجه أبو داود في سننه 2\59، ح1694، وأحمد في مسنده 2\160.
(4) أخرجه الترمذي في سننه 4\208، ح1705، والنسائي في السنن الكبرى 5\374، ح9174.(86/41)
وكونوا لهم قدوة حسنة، ونشئوهم على الاعتقاد الصحيح، واغرسوا فيهم الإيمان وأبعدوهم عن المعاصي والمنكرات، ومروهم بالصلاة والزكاة {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} (1) .
3- علماء الإسلام، إن مسؤوليتكم في تبليغ هذا الدين كبيرة وأمانتكم جسيمة، خذوا بيد الناشئة إلى طريق الحق ونهج الهدى وما فيه خيرهم وصلاحهم في دينهم ودنياهم، بينوا للناس محاسن الإسلام، واحفظوا المجتمع من الأخلاق الرذيلة، والدعوات المغرضة الفاسدة، وحذروهم من مكائد الأعداء.
4- شباب الإسلام، عليكم بأخذ العلم الشرعي من معدنه الصافي ومصادره المعتمدة، والزموا علماءكم أهل البصيرة والهدى، احذروا الأفكار المنحرفة والمناهج المشبوهة والشعارات البراقة وإن أظهر أهلها الخير والصلاح، حافظوا على دينكم وأوطانكم، وصونوا أنفسكم عن الملهيات والمغريات وكل ما يصدكم عن الخير.
5- أيتها الفتاة المسلمة، اتقي الله في نفسك، والزمي أحكام دينك في حياتك الزوجية، واحذري السفور والاختلاط
__________
(1) سورة طه الآية 132(86/42)
والتبرج، واعلمي أن الله أعزك بدينك، فلا ترضي بغير الإسلام دينا، واحذري التقليد لأعداء الإسلام، والتأثر بأهل الأهواء ودعاة الباطل الذين ينادون بتحرير المرأة وإنصافها وهم يريدون بذلك القضاء على عفافها وإهدار كرامتها وإبعادها عن دينها.
6- أيها المربون، اتقوا الله في أولادنا وفلذات أكبادنا، وعلموهم ما يحفظ دينهم ودنياهم، وربوهم على أخلاق الإسلام، وضعوا لهم المناهج الطيبة التي تربطهم بدينهم وربهم ونبيهم، وتغرس فيهم الإيمان الصحيح والوسطية والاعتدال، فعليكم مسؤولية عظيمة وأمانة كبرى، فلتؤدوها حق الأداء، وتذكروا قول الحق سبحانه {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} (1) .
7- رجال الأعمال، إن طلب الرزق والسعي لتحصيل المال أمر محمود طبعا، ومأمور به شرعا إذا روعي فيه الضوابط الشرعية، فنعم المال الصالح للرجل الصالح، يقول صلى الله عليه وسلم: «إن أطيب ما أكل الرجل من عمل يده، وكل بيع مبرور (2) »
__________
(1) سورة الصافات الآية 24
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك 2\12، ح2158، والبيهقي في شعب الإيمان 2\85، ح1227.(86/43)
أخلصوا النية لله وتجنبوا الغش والتدليس والكذب والمعاملات الربوية والاتجار بالمحرمات كالخمور والمخدرات وملاهي الرقص وأماكن التعري والقنوات الفضائية الهابطة، طهروا أموالكم من كل مكسب خبيث وبخاصة المخدرات؛ فإن في الاتجار بها وترويجها تدميرا لكيان الأمة، وإفسادا لأخلاقها، وإلحاق الضرر بها، إنها داء عضال، وإنه البلاء والعياذ بالله، وإن المكاسب العائدة منها وإن كانت أموالا طائلة فإنها مكاسب خبيثة ومحرمة وممحقة للبركة في العمر والعمل، ووبال على صاحبها في الدنيا والآخرة، وإن ما نسمعه من غسيل الأموال معظم ذلك بأسباب تلك المخدرات التي يتجرون بها ويروجونها ويتعاونون مع بعض من لا إيمان عنده، فتسجل تلك الأموال باسمه لكي يضفي عليها صفة الشرعية، وكلها نتيجة لهذه التجارة المحرمة الخبيثة، فاتقوا الله أيها التجار، وطهروا أموالكم من هذه المكاسب المحرمة، فإن الله يجعل في المال الحلال البركة والنماء بإذنه سبحانه وتعالى. أيها التجار، يسروا على المسلمين، واحذروا الاحتكار وإغلاء الأسعار، فإنكم مسؤولون عن هذا المال(86/44)
الذي بأيديكم هل أخذتموه من حله ووضعتموه في محله؟!
8- رجال الإعلام، بأيديكم أمر من أخطر ما يكون على الشعوب، اتقوا الله في أنفسكم، أدوا أمانة الكلمة وتحروا الحقائق، واحرصوا على وحدة كلمة المسلمين، واحذروا التهويل والإثارة، واجعلوا قنواتكم وسائل دعوة إلى الخير والفضيلة، والدفاع عن الإسلام وقضاياه، وإياكم والانسياق مع الحملات المغرضة في التهجم على حرمات الإسلام وشعائره ورموزه، ونوصيكم بأن تكونوا درعا للأمة في صد الحملات الخارجية، وألا يتحول البعض منكم إلى سلاح ضد الأمة بدلا من أن يكون سلاحا لها، وإياكم وبث المشاهد التي تخدش نزاهة أخلاق المسلمين، ونشر الأفكار المنحرفة التي تلوث صفاء عقيدتهم وتكدر نقاء فطرتهم.
9- أرباب الطرق والمذاهب، أكمل الله هذا الدين قبل أن ينتقل محمد صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) ، فقام صلى الله عليه وسلم بتبليغه للناس خير
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(86/45)
قيام، فبلغ الدين كاملا غير منقوص؛ قال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه (1) » وقال: «تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك (2) »
إن الله ختم الرسالات بسيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (3) ، فلا نبي بعده، ولا متبوع سواه، ولا مشرع سيأتي بعده، ولا ولاية لأحد على المسلمين غيره، فمن ادعى أن هناك بشرا سيأتي بعده يكمل رسالة الإسلام فقد كذب على الله وافترى، حتى إن عيسى عليه السلام عندما ينزل في آخر الزمان يكون تابعا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
إن علاقة الناس بالعلماء والأشخاص في الإسلام هي علاقة اقتداء وتأس وفق الكتاب والسنة، وليس تعلقا بذواتهم، ولا منحهم حق التشريع والتحليل والتحريم، ولا رفعهم فوق مقام البشرية، أو اتخاذهم أربابا من دون الله، سمع عدي بن حاتم رضي الله عنه وكان نصرانيا حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (4) ،
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7\76، ح13221.
(2) أخرجه أحمد في مسنده 4\126، وابن ماجه في سننه 1\16، ح43.
(3) سورة الأحزاب الآية 40
(4) سورة التوبة الآية 31(86/46)
فقال: إنهم لم يعبدوهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فتلك عبادتهم إياهم (1) »
10- يا صانعي القرارات في البلاد الإسلامية، لتكن قراراتكم معبرة عن هموم الأمة وآمالها، وعاملا مهما في تقدمها وازدهار حضارتها، حافظوا على عقيدة الأمة وثوابتها، واحذروا المخططات الخبيثة والمؤامرات الماكرة ضد الأمة وقيمها وأخلاقها، واجتهدوا في المحافظة على تنمية الموارد، وترشيد الثروات، وعدم تبديد طاقات الأمة فيما لا ينفع.
11- يا قادة العالم، إنه لن ينجي البشرية من شقائها ولن يحافظ على حضارتها وأمنها واستقرارها إلا الالتزام بدين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه 5\278، ح3095، والبيهقي في السنن الكبرى 10\116، ح20137.
(2) سورة آل عمران الآية 64(86/47)
تعالوا لنعبد الله وحده دون سواه، تعالوا لنحافظ على الضروريات الخمس التي رعتها الشرائع السماوية كلها: الدين والنفس والعقل والمال والعرض، تعالوا لنحافظ على كيان الأسر والمجتمعات من التفكك والضياع، تعالوا لنتعاهد على مكارم الأخلاق وحفظ الحقوق وعدم الاعتداء، ورفع الظلم عن المظلومين.
إن العالم لن ينعم بالأمن في ظل ازدواجية المعايير، وإرهاب الشعوب والحكومات، واحتلال البلدان، ونهب خيراتها، وتدمير مكتسباتها ومقدراتها.
إن حفظ أمن العالم واستقراره والحفاظ على خيراته لا يكون بممارسة الاستبداد والتهديد باستعمال الأسلحة الفتاكة والمدمرة، والتلويح باجتياح الدول وتغيير أنظمتها، وإصدار القرارات الجائرة والمنحازة بحقها.
إن سياسة الحصار والتجويع والحرمان والخنق والإذلال لن تجدي نفعا، ولن تجلب أمنا، بل تزيد البلاء بلاء، وإن العالم لن ينعم بالأمان إلا بإرجاع الحقوق لأصحابها.
12- حكماء العالم ومفكريهم، إن الظلم سبب لسقوط الحضارات وهلاك الأمم {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (1) ، وقال
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 42(86/48)
صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة (1) » وقال: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته (2) »
إن العالم يعاني من ويلات الظلم ونذر الحروب، والشعوب تقاسي الغلاء ونقص المقدرات، فهيا بنا لنحمي المجتمعات من هذه الأخطار وسلامتها من كل هذه المصائب والفتن.
13- يا إخواني في فلسطين، أوصيكم بتقوى الله، أوصيكم باجتماع الكلمة، والنظر في واقعكم، ارحموا النساء الرمل، ارحموا الأيتام والمسنين، ارحموا بلادكم وشعوبكم، عودوا إلى رشدكم، اتحدوا فيما بينكم، واحذروا مكائد الأعداء، لا تكن قضيتكم تجارة بعضكم لبعض، كونوا يدا واحدة لتحققوا مصالحكم، كفى ما حصل من قتل وتشريد وبلاء، نسأل الله لكم السلامة والعافية.
14- يا إخواني في الصومال الإسلامي، ألا يوجد فيكم رجل
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 2\864، ح2315، ومسلم في صحيحه 4\1996، ح2578.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 4\1726، ح4409، ومسلم في صحيحه 4\1997، ح2583.(86/49)
رشيد!؟ دمرتم بلادكم ومزقتم شملكم فاتقوا الله في أنفسكم.
15- يا إخواني في باكستان وأفغانستان وغيرهم من دول الإسلام، ليحرص المسلمون على حماية دينهم وأوطانهم واجتماع الكلمة ومنع كل أمر يلحق بالأمة الأذى، سدد الله الخطا وحفظ الجميع من كل سوء.(86/50)
حجاج بيت الله الحرام، لقد كان الوصول إلى الحرمين الشريفين منذ القدم صعب المنال، وكان أداء المناسك من أشق العبادات، حتى من الله في هذه العصور المتأخرة على هذه البلاد وعلى المسلمين جميعا بالملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله - وأسكنه فسيح جناته، الذي وفقه الله لتوحيد هذه البلاد بعد تمزقها، وتأمينها بعد خوفها، وجمع القلوب بعد تفرقها، وإقامة الشريعة وتحقيق العدل، وحفظ الحقوق، وتسهيل سبل الحج، وتيسير الوصول إلى الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، واستمر أبناؤه البررة من بعده؛ سعود، وفيصل، وخالد، وفهد - رحمهم الله -، والآن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وسمو ولي عهده الأمين الأمير سلطان بن عبد العزيز على هذا النهج العظيم، فبذلوا الغالي والنفيس في سبيل خدمة الحجاج وتذليل(86/50)
الصعاب من توسعات في الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة مما لم يشهد له التاريخ مثيلا: أنفاق أقيمت، وطرق مهدت، ومياه عذبة، وأغذية متوفرة، وخدمات صحية راقية، وأجواء آمنة مطمئنة، فجزاهم الله عما قدموا للمسلمين والحجاج خير الجزاء، وجعل ذلك في ميزان حسناتهم، وجزى الله القائمين على أمور الحجاج من كافة الأجهزة الحكومية على جهودهم العظيمة في خدمة الحجاج ورعايتهم بلا من منهم ولا فضل، بل هو واجب يعتزون به ويتشرفون، ويرجون به الأجر والمثوبة من الله جل وعلا.
حجاج بيت الله الحرام، اشكروا الله عز وجل على ما هيأ لكم ويسر من الوصول إلى هذه البلاد الطاهرة، وأداء مناسككم بهدوء وأمان وطمأنينة وسلام، فاحرصوا على إكمال مناسككم على هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وأوصيكم بالالتزام بالأنظمة التي وضعتها الجهات المعنية بخدمتكم، لما فيها من الحفاظ على سلامتكم وأداء المناسك بيسر وسهولة، حافظوا على سلامة إخوانكم الحجاج، وعليكم بالسكينة والوقار، والحلم والأناة والصفح والإعراض، واحرصوا على نظافة المشاعر، وعدم إيذاء الحجاج والجلوس في طرقاتهم.
حجاج بيت الله الحرام، إن الله افترض الحج على كل مسلم في عمره مرة واحدة لمن استطاع إليه سبيلا؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس(86/51)
إن الله فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم (1) »
لقد حج نبيكم صلى الله عليه وسلم حجة واحدة تعرف عند المسلمين بأنها حجة الوداع، هذه الحجة العظيمة أعلمهم فيها مناسك حجهم، فما عمل عملا إلا قال: «خذوا عني مناسككم، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا (2) »
أتى الموقف فخطب الناس بوادي عرنة، خطبة هدم فيها قواعد الشرك، وأعلن فيها قواعد الإسلام، وبين حرمة الدماء والأموال، وألغى مآثر الجاهلية وأعمالهم السيئة، وبين ما للمرأة من حقوق وما عليها من واجبات، وأوصى الناس بالتمسك بكتاب الله، وأخبر أنهم لن يضلوا إن تمسكوا به، ثم استشهدهم على أن بلغهم فأقروا جميعا بأنه بلغهم، وأنه أدى الأمانة وبلغ الرسالة، واستشهد الله عليهم بذلك، ثم وقف بعرفة، وقال لهم: «كل عرفات موقف، وارفعوا عن بطن عرنة (3) »
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 2\975، ح1337.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 2\943، ح1297، والنسائي في سننه 5\270 ح 3062، واللفظ له.
(3) أخرجه أحمد في مسنده 4\82، ومسلم في صحيحه 2\791، ح1123(86/52)
وفي هذا الموقف أنزل الله عليه قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) وقف صلى الله عليه وسلم بعرفة يدعو راكبا على راحلته مفطرا، وشك الناس في فطره، فبعثوا إليه بقدح لبن، فشربه والناس ينظرون إليه.
وهذا اليوم قال صلى الله عليه وسلم فيه «الحج عرفة (2) » فهو ركن أساسي من أركان الحج يبدأ هذا الوقوف من يوم عرفة وينتهي بطلوع فجر يوم النحر، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: «من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج (3) » فمن لم يقف بعرفة إلا ساعة من نهار ووقف بها إلى الغروب، أو أتاها بعد المغرب ووقف بها ولو قليلا فإنه قد أدى الركن العظيم من أركان الحج.
وقف صلى الله عليه وسلم حتى غربت الشمس واستحكم غروبها ثم دفع إلى مزدلفة وصلى بها المغرب والعشاء جمعا وقصرا، وبات بها، ورخص للضعفة بالدفع من مزدلفة بعد نصف الليل.
فقفوا بعرفة إلى غروب الشمس ولا تنصرفوا منها إلا بعد غروب الشمس، انصرفوا إلى مزدلفة، وصلوا بها المغرب والعشاء جمعا وقصرا، وللعاجز أن يدفع منها بعد نصف الليل، ومن كان قادرا يبقى فيها إلى ما بعد صلاة الفجر، ثم أفيضوا إلى منى وارموا جمرة العقبة، وانحروا هديكم إن كنتم متمتعين أو قارنين، ثم احلقوا
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سنن الترمذي الحج (889) ، سنن النسائي مناسك الحج (3044) ، سنن أبي داود المناسك (1949) ، سنن ابن ماجه المناسك (3015) ، مسند أحمد (4/310) ، سنن الدارمي المناسك (1887) .
(3) سنن الترمذي الحج (889) ، سنن النسائي مناسك الحج (3044) ، سنن أبي داود المناسك (1949) ، سنن ابن ماجه المناسك (3015) ، مسند أحمد (4/310) ، سنن الدارمي المناسك (1887) .(86/53)
رؤوسكم أو قصروها والحلق أفضل، ثم أفيضوا إلى البيت وطوفوا طواف الحج واسعوا بين الحج والعمرة إن كنتم متمتعين، فإن كنتم قارنين أو مفردين ولم تسعوا مع طواف القدوم فاسعوا مع طواف الإفاضة، ارموا الجمار في اليوم الحادي عشر واليوم الثاني عشر إن تعجلتم بعد الزوال، وفي اليوم الثالث عشر كذلك لمن تأخر، ثم ودعوا البيت الحرام، ويسقط طواف الوداع عن الحائض والنفساء وقد تم حجكم، وأكمل الله نسككم وأتم عليكم نعمته.
حجاج بيت الله الحرام، هذا يوم عرفة من أفضل أيام الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو فيباهي بهم الملائكة، فيقول ما أراد هؤلاء (1) » ويقول: «إذا كان يوم عرفة ينزل الله إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، ويقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ضاحين من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول الملائكة: إن فيهم فلانا مرائيا وفلانا، قال: فيقول الله عز وجل: قد غفرت لهم (2) »
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 2\982، ح1348.
(2) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 4\262، ح 2829، وابن حبان 9\164، والبيهقي في شعب الإيمان 2\460، ح4068، واللفظ له.(86/54)
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ من يوم عرفة (1) »
أيها الحاج الكريم، إن الحج المبرور جزاؤه الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (2) » ويقول عليه الصلاة والسلام: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (3) »
والحج المبرور هو الذي يكون صاحبه أحسن حالا بعد رجوعه طاعة وعملا ومتابعة، وأن يتبع العمل الصالح بعمل صالح آخر، ولا يرجع إلى ما كان عليه قبل حجه من التقصير والتهاون في الطاعات.
أخي الحاج، حافظ على صحيفتك بعد حجك أن تكون بيضاء نقية، حصن نفسك لئلا تزل قدم بعد ثبوتها، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} (4) .
حافظ على الصلوات مع الجماعة، وأد زكاة مالك، واتل كتاب ربك آناء الليل وأطراف النهار، واحذر الظلم، وجنب مالك الربا،
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ 3\621، والبيهقي في شعب الإيمان 3\461، ح4069.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 2\553، ح1449، ومسلم في صحيحه 2\983، 1350.
(3) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 4\131، ح2513، وأحمد في مسنده 2\246.
(4) سورة النحل الآية 92(86/55)
واجتنب المحرمات، ليكن حجك بداية مرحلة جديدة في تهذيب نفسك والقرب من ربك وإصلاح مجتمعك، وليكن حالك بعد الحج أفضل من قبله.
حجاج بيت الله الحرام، أكثروا من ذكر الله في حجكم؛ فإن الإكثار من ذكر الله في المشاعر مقصد من مقاصد أداء الشعيرة وأرجى لقبولها، وإذا انقضى الحج فأكثروا من الاستغفار فهو ختام الأعمال، والاستغفار يكمل العمل ويسد النقص؛ قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} (1) {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} (3) {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (4) {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (5) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله (6) »
__________
(1) سورة البقرة الآية 198
(2) سورة البقرة الآية 199
(3) سورة البقرة الآية 200
(4) سورة البقرة الآية 201
(5) سورة البقرة الآية 202
(6) أخرجه أبو داود في سننه 2\118، ح1890، والترمذي في سننه 3\246، ح902.(86/56)
أمة الإسلام، تذكروا بجمعكم هذا يوم الجمع الأكبر حين تقومون يوم القيامة من قبوركم لرب العالمين، حافية أقدامكم، عارية أجسامكم، شاخصة أبصاركم، في ذلك اليوم العظيم الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين، في يوم مقداره خمسون ألف سنة، تدنو الشمس من العباد، وتكون على قدر أعمالهم، تذكروا ذلك اليوم {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (1) .
تذكروا يوم تفرق الصحف، فآخذ كتابه بيمينه فيقول {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} (2) {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} (3) {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} (4) {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} (5) ، وآخذ كتابه بشماله {فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} (6) {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} (7) .
تذكروا يوم توضع الموازين {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (8) {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (9) {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} (10) {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} (11) .
تذكروا الصراط الموضوع على متن جهنم يسلكه الناس على قدر أعمالهم، فأشد الناس عبورا من كان أسرع في الدنيا في طاعة الله، وأبطأهم من كان بطيئا في الدنيا في طاعة الله ومتثاقلا فيها، جزاء وفاقا.
__________
(1) سورة الحج الآية 2
(2) سورة الحاقة الآية 19
(3) سورة الحاقة الآية 20
(4) سورة الحاقة الآية 21
(5) سورة الحاقة الآية 22
(6) سورة الحاقة الآية 25
(7) سورة الحاقة الآية 26
(8) سورة المؤمنون الآية 102
(9) سورة المؤمنون الآية 103
(10) سورة المؤمنون الآية 104
(11) سورة المؤمنون الآية 105(86/57)
تذكروا أيها المسلمون، يوم ينادي مناد «يا أهل الجنة، إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا (1) »
تذكر هذا النداء العظيم، تذكر يوم يقال: «يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت (2) »
تذكر أيها المسلم مفارقتك لهذه الدنيا ساعة نزول ملك الموت بك لقبض روحك، واقتراب أهلك حولك، أهلك وذووك لا يستطيعون أن يدفعوا عنك سوءا ولا يؤخرونك يوما، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (3) .
تذكر أن المؤمن في تلك اللحظات يعيش في سعادة وأمان يبشره ملائكة الرحمن {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (4) {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (5) . يمثل له مقعده في الجنة فيراه قبل أن يفارق فراشه، فيحب لقاء الله فيحب الله لقاءه، وأما الكافر فإنه يمثل له مقعده من النار فيكره لقاء الله فيكره الله لقاءه.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 4\2182، ح2837.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 4\1760، ح4453، ومسلم في صحيحه 4\2188، ح2849.
(3) سورة ق الآية 16
(4) سورة فصلت الآية 30
(5) سورة فصلت الآية 31(86/58)
تذكر يوم توضع في قبرك وحيدا مرتهنا بأعمالك التي قدمتها.
فتذكروا هذه الأمور عسى أن تكون سببا لصلاح قلوبكم واستقامة أحوالكم.
اللهم إنا نسألك بفضلك وكرمك أن تمن علينا بالقبول، اللهم اجعل حجنا مقبولا، وسعينا مشكورا، وذنبنا مغفورا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا، اللهم وفق إمامنا إمام المسلمين عبد الله بن عبد العزيز لكل خير، اللهم أمده بعونك وتأييدك، اللهم كن له معينا في كل ما أهمه، اللهم وفقه لجمع كلمة المسلمين، اللهم بارك له في عمره وعمله إنك على كل شيء قدير، اللهم وفق ولي عهده لما يرضيك، وسدده في أقواله وأعماله.(86/59)
والشكر موصول لكل من سعى لأمن الحجيج، وكل العاملين في سبيل راحة الحجاج، أسأل الله لهم التوفيق والسداد، وأن يجعل ذلك في موازين أعمالهم الصالحة.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
أعاده الله علينا وعليكم وعلى المسلمين جميعا باليمن والخير والبركة، وتقبل أعمالنا، وأصلح ذرياتنا، وحفظنا بحفظه في كل أحوالنا، إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على محمد.(86/60)
الفتاوى(86/61)
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية - رحمه الله.
(984 - وإذا كان العنب لا يزبب وجبت قيمته في شجره)
س: عن مزارع العنب التي تغل غلالا كثيرة ويستحصل منها المزارعون أقياما باهظة أكثر من غلة النخيل، ولم نسمع أن العمال خرصوها. فهل عليها زكاة أم لا؟ وإذا كان عليها زكاة: فهل الزكاة تجب من العنب عينا، أو تؤخذ قيمة، لأن العنب في هذه البلدان لا يزبب؟
ج: لا شك أن الزكاة تجب في العنب كما تجب في بقية الثمار إذا بلغت نصابا وقدره خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وكان صلى الله عليه وسلم يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم، فروى أبو داود والترمذي عن عتاب بن أسيد: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل (1) » . وعنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث على الناس من يخرص كرومهم وثمارهم (2) » رواه الترمذي وابن ماجه.
وأما قول السائل: هل تجب الزكاة من العنب عينا، أو تؤخذ
__________
(1) سنن الترمذي الزكاة (644) ، سنن النسائي الزكاة (2618) ، سنن أبي داود الزكاة (1603) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1819) .
(2) سنن الترمذي الزكاة (644، 644) ، سنن النسائي الزكاة (2618، 2618) ، سنن أبي داود الزكاة (1603، 1603) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1819، 1819) .(86/63)
قيمة، لأن العنب في هذه البلدان لا يزبب؟
فجوابه: أن الزكاة تجب في جميع العنب سواء منه القابل للتجفيف وغيره ولا فرق، إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أن الزكاة في نوع دون الآخر؛ وإنما الخلاف: هل تخرج الزكاة من عين العنب أو من ثمنه. ونظرا إلى أن ثمرة الفقراء تتحقق في أخذ الزكاة من قيمته من غير أن يتضرر أرباب العنب، فلا مانع أن تؤخذ الزكاة من ثمنه، وقد أشار إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكره قولا للإمام مالك وغيره؛ حيث قال في الجزء الخامس والعشرين من مجموع الفتاوى ما نصه: (فصل) والعنب الذي لا يزبب والرطب الذي لا يتمر والزيتون الذي لا يعصر؛ فقال مالك وغيره: تخرج الزكاة من ثمنه إذا بلغ خمسة أوسق، وإن لم يبلغ ثمنه مائتي درهم. وعلى الخراص أن يتركوا للفلاح الثلث أو الربع كما تقضي به النصوص الشرعية، وكخرص ثمرة النخيل.
وإذا أخذت الزكاة من القيمة فالاعتبار بقيمة العنب في شجره جملة، لا باعتبار قيمته في الأسواق، كما يقضي به العدل والإنصاف، ولأنه لا يلزم المزارع تحميله. والله أعلم. وصلى الله على محمد.
(ص- ف- 860- 1 في 4- 4- 1385هـ)(86/64)
(985 - نصاب العنب الذي لا يزبب بالكيلو)
من محمد بن إبراهيم إلى فضيلة قاضي نعجان سلمه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك رقم 193 وتاريخ 27-3-1387هـ المتضمن استرشادك عن مقدار نصاب العنب بالكيلو جرام، لأن لجنة الخرص سألوكم عن مقداره.
والجواب: الحمد لله، لا يخفى أن الأصل في مثل هذا الكيل ولكنه رد إلى الوزن لينضبط، وأن نصاب الزكاة خمسة أوسق، والكيلو وزن سبعة وثلاثين ريالا فرنسيا تقريبا. وإذا عرفتم هذا سهل عليكم نسبة الكيلو من الصاع، ومعرفة النصاب الزكوي، والله الموفق، والسلام عليكم
مفتي الديار السعودية
(ص- ف- 3069- 1 في4- 8- 1387هـ)(86/65)
(986 - الخضروات لا زكاة فيها)
من محمد بن إبراهيم إلى المكرمين أمير الحصون وناصر بن حيدر سلمهما الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصلنا كتابكما الذي تقولان فيه: بما أن بلدنا الحصون من(86/65)
مدة ثلاث سنوات لم يكن فيها دخل من الزكاة، وذلك بسبب عدم الزراعة وتعطل النخيل بالكلية، وأخذ الفلاحون بدلا من ذلك وهي نوع من الخضروات، وينتج منها ريع كثير، وفي عام 77هـ يوجد في بلدنا بئر مخضر فيه مكينة، ويتجاوز ريعه مائة وخمسين ألف ريال فما فوقها، وفي هذا العام الجاري ست مكائن في كل بئر مكينة أحببنا إشعاركم لإرشادنا: هل تجب فيها الزكاة أم لا؟
والجواب: الحمد لله. قد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنصباء الخارج من الأرض من الحبوب والثمار، بين ما يجب فيها من الزكاة، وأما الخضروات فلا زكاة فيها، لحديث: «ليس في الخضراوات صدقة (1) » رواه الدارقطني عن علي وعن عائشة نحوه، ولأنها غير مكيلة، ولا موزونة ولا مدخرة، وهذا الذي نص عليه علماؤنا، وعليه العمل.
وفق الله الجميع إلى الخير، والسلام عليكم.
__________
(1) سنن الترمذي الزكاة (638) .(86/66)
(987 - والبندورة والفواكه كذلك)
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم علي رايع رئيس هيئة ثقيف سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصلنا خطابكم الذي تسألون عن غلة البندورة هل فيها زكاة؟
وجوابا على سؤالكم نقول: إن البندورة وأمثالها مما لم تجر(86/66)
العادة بادخاره - كسائر الفواكه والخضروات - لا زكاة فيه، لما روى الدارقطني عن علي مرفوعا: «ليس في الخضروات صدقة» ولما جاء عن الأثرم بسنده عن سفيان بن عبد الله الثقفي أنه كتب إلى عمر وكان عاملا له على الطائف: أن قبله حيطانا فيها من الفرسك والرمان ما هو أكثر غلة من الكرم أضعافا، فكتب يستأذن في العشر، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: أن ليس عليها عشر مال، هي من المعفاة كلها، وليس عليها عشر. هذا والسلام.
(ص- ف- 1430- 1 وتاريخ 29- 5- 84هـ)(86/67)
(988 - ولو صبرت)
لا زكاة في البقول والخضر لفقد الانتفاع بها في المآل. ولا يرد علينا ما يصبر، فإن بقاءه ليس من طبعه، والمعالجة تبقي أشياء أخر.
فالمراد بالنسبة إلى ما هو من طبعها لوجود الصلابة فيها وعدم التغير الذي يعتريها كما يعتري الخضر والفواكه.
(تقرير)(86/67)
(989 - إذا لم تبلغ الحنطة نصابا فهل يضم إليها الشعير والذرة)
"المسألة الثانية": إذا كان الزرع من الحنطة لم يبلغ نصابا: فهل يضم إليه الشعير أو الذرة، أم لا؟(86/67)
والجواب: الذي نص عليه فقهاؤنا رحمهم الله أنه لا يضم جنس إلى جنس آخر من الحبوب والثمار في تكميل النصاب. أما إذا كانت أنواع من جنس واحد فيضم بعضها إلى بعض؛ فيضم العدس إلى الحنطة، لأنه نوع منها. ويضم السلت إلى الشعير لأنه نوع منه، بخلاف الحنطة والشعير والذرة فلا يضم بعضها إلى بعض، لأنها أجناس متغايرة.
(ص- ف- 3546- 1 في 14- 11- 1388هـ)(86/68)
(990 - العمال في هذه العصور يضمون الشعير إلى البر)
قوله: لا جنس إلى آخر.
لكن مقاربة الحبوب بعضها إلى بعض أكثر من مقاربة الأنعام بعضها إلى بعض في الأنصباء وفي مقدار ما يخرج، والحبوب متفقة في مقدار النصاب والخارج. نعم فيها اختلاف حقائق.
لكن الشعير فيه مقاربة من البر، ولهذا يروى عن أحمد أن الشعير والبر جنس واحد.
العمال يعملون على هذا من عصور طويلة، وهم ولاة عدل وتجديد والظاهر أنه من ذاك الوقت لا يفرقون.
وهنا دليل وهو أنه لا يظهر من عمال النبي الذين يبعثهم لا يحصل تفريق، إلا إن جاء دليل في خرص الحبوب وأن هناك(86/68)
حبوبا تخرص.
لكن الذي يشبه هذا خرص النخيل مع الأعناب التي تجمع مع النخيل ونصابها واحد ومقدارها واحد.
(تقرير)(86/69)
(991 - إذا حصد زرعه وباعه علفا)
"المسألة الرابعة": إذا حصد المالك زرعه قبل بدو صلاحه وباعه علفا بدراهم، فهل يزكي الدراهم مطلقا، أو إذا بلغت قيمة نصاب؟ وهل يزكيها في الحال، أو إذا حال عليها الحول؟
والجواب: إذا لم يفعل ذلك فرارا من الزكاة فلا زكاة في الدراهم حتى يحول عليها الحول بعد بلوغها نصاب الفضة، وحينئذ فيها زكاة أثمان، لا زكاة خارج من الأرض.
(ص- ف- 3546- 1 في 14-11-1388هـ)(86/69)
(992 - الثمار التي تأتي على فترات متقطعة)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم وكيل وزارة المالية والاقتصاد الوطني سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:(86/69)
فجوابا على مذكرتكم المرفقة رقم 30 - 10 - 214 وتاريخ 4- 6- 1377هـ المشفوع بها خطاب مدير مالية القنفذة المتعلق بثمار مزارع العرضية التي تأتي على فترات متقطعة، وترك خرصها بسبب عدم بلوغها النصاب في كل فترة.
نفيدكم أن هذه الثمار المذكورة يضم بعضها إلى بعض إذا كانت جنسا واحدا كالذرة مثلا سواء كانت نوعا واحدا أو أنواعا من الذرة مثلا، وتزكى إذا بلغ مجموعها النصاب، بشرط ألا يكون بين حصول الثمرة الأولى وحصول الثمرة الثانية ستة أشهر فأكثر.
أما إذا لم يبلغ مجموعها النصاب أو لم تكن جنسا واحدا بأن كانت الأولى مثلا ذرة والتي بعدها بشهرين ونصف حنطة، أو كان بين حصول الثمرة الأولى وحصول الثمرة الثانية اللتين من جنس واحد ستة أشهر فأكثر فلا تضم إحدى الثمرتين إلى الأخرى.
ومن هذا يعرف أن الثمرتين اللتين بين حصولهما شهران ونصف تقريبا تضم إحداهما إلى الأخرى في تكميل النصاب إذا كانتا من جنس واحد. والله يحفظكم.
(ص- ف- 719 وتاريخ 15-6-1377هـ)(86/70)
(993 - الربعي والصيفي)
الذي نجح في الشتاء والذي نجح في الصيف كالحنطة الربعي والصيفي كله يضم بعضه إلى بعض، وكذلك الدخن، وكذلك الدثا الذي هو في الصيف ولا يصرم إلا في الشتاء.
(تقرير)(86/71)
(994 - قوله: ولا على ما يأخذه بحصاده)
لكن إذا والاه بالنصف أو غيره؛ فإن اعتبرناه شريكا وجبت عليه زكاته. وهذا بحث لم ينته بعد، هل هو إجازة أو مشاركة.
(تقرير)(86/71)
(995 - مقدار زكاة الحبوب بالصاع)
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم عبد الله بن مقبول الخديدي سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تسأل فيه عن زكاة الحبوب إذا كانت تشرب عثريا أو تسقى بمؤنة، وما مقدار النصاب الزكوي، إلخ.
والجواب: الحمد لله. النصاب الزكوي خمسة أوسق، والوسق(86/71)
ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون النصاب ثلاثمائة صاع؛ فإذا بلغ المحصول الزراعي ثلاثمائة صاع بالصاع النبوي وجب فيه الزكاة.
فإن كان عثريا وجب فيه العشر، وإن كان يسقى بمؤنة فنصف العشر.
وإن نقص عن ذلك فلا زكاة فيه. وزنة الصاع النبوي ثمانون ريالا فرنسيا. والله أعلم. والسلام عليكم.
مفتي الديار السعودية
(ص- ف- 2844- 1 وتاريخ 17-9- 1388هـ)(86/72)
(996 - ما يسقى بالنباعات، والارتوازات)
س: النباعات التي في القصيم؟
ج: هي جديدة في نجد، وإلا فهي في المقاطعة الشرقية، لكنها ضئيلة في الظاهر.
العين لو أنفق عليها ملايين فإنها تستمر ولا يبقى لها كلفة.
والنباعات الظاهر أنها سيح، والأقرب هو ما ذكرت لك، قسها على العين المنفق عليها ملايين، ولا تقل: إنها قد تنضب، فإن العين كذلك قد تنضب، الدوام ليس للمخلوقات أيا كانت. والارتوازات من المؤونة.(86/72)
(997 - الزكاة على زراع الأرض)
من محمد بن إبراهيم إلى سعادة وكيل الوزارة للشئون المالية وفقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد جرى الاطلاع على خطابكم المرفوع إلينا برقم 4126 - 4 - 2 وتاريخ 6- 4 - 1381هـ، والمشفوع بخطاب مدير مالية الليث رقم 118 وتاريخ 8 - 3 - 81 هـ حول وجود بعض أشخاص مزارعين يقومون باستئجار بعض البلدان الزراعية من مالكيها، والبعض منهم يأخذونها بطريق الرهن، وكل هؤلاء يدفعون لأصحابها أجرة تعادل الثلث من غلة البلاد حسب الاتفاق، وعندما يحين خرص الثمار يقوم صاحب الأرض بمطالبة المزارع بدفع الزكاة له، ويمتنع المزارع من دفعها له، حيث إنها من اختصاصه، وأن المؤجر ليس له إلا الأجرة.
إلى آخر ما ذكر. وتستفتون عن الطريقة الشرعية التي يمكن اتباعها في مثل هذه الحالات للتمشي بموجبها.
ونفيدكم أن الزكاة على زارع الأرض سواء كان مالكا أو مستأجرا أو مرتهنا، ولا حق لصاحب الأرض فيها مطلقا، وليس له على المزارع إلا أجرة زراعة أرضه. وبالله التوفيق. والسلام عليكم.
(ص- ف- 529 وتاريخ 6-5-1381هـ)(86/73)
(998 - وإذا شرط المستأجر على المؤجر أنه ليس عليه زكاة فلا يسقطها)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو وزير المالية والاقتصاد الوطني
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
أشير إلى خطاب سموكم رقم 1860 تاريخ 27 - 2 - 1386هـ الإلحاقي لخطابكم رقم 1673 المبني على خطابنا رقم 4129 في 14 - 8 - 86هـ بشأن مراجعة محمد بن عبد الله بن فجري الخالدي بصدد الملك الموجود في الأحساء الذي طلب منهم دفع زكاته.
وبالنسبة لما ذكره سموكم يتضح أن الزكاة تجب على مستأجر الملك في جميع الثمرة. أما الأجرة التي تعود للمؤجرين إذا كانت شيئا معلوما كعدد أمنان مثلا فإنها دين في ذمة المستأجر. وشرط المستأجر على المؤجر أنه ليس عليه زكاة لا يسقط الزكاة عنه.
هذا، والسلام عليكم ورحمة الله.
(ص- م- 7076 في 6-11 - 1386هـ)(86/74)
(999 - إذا كانا شريكين فهل يخرجانها قبل القسمة أو بعدها)
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم نغميش بن نايف المرعي سلمه الله.(86/74)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وصلنا كتابك الذي تقول فيه: إذا كان هناك شريكان في زرع الشتاء هل تجب الزكاة بعد حصول الثمرة قبل أن يتقاسما، أو بعد القسمة كل يزكي ما ملك إن وجب فيه نصاب أو أكثر، وإذا حصلوا الثمرة زكوا ثم اقتسموا بعد الزكاة.
والجواب: الحمد لله، إذا بلغ جميع الزرع نصابا فتجب الزكاة ببدو صلاح ثمرته.
وأما سؤالك هل يخرجانها قبل القسمة أو بعدها.
فالجواب: يجوز هذا وذاك.
أما "المسألة الثانية" التي تقول فيها: إذا كان فيه صاحب ملك قليب ومكينة، ولم يجدا أحدا يزرع له إلا بالنصف، وهو صفة معزب، هل تجب الزكاة على الجميع قبل القسمة، أو كل يزكي حقه بعد اقتسام المعزب والفلاح.
فالجواب: الحمد لله، لا بد من بلوغ الجميع النصاب، فإن زكيا قبل القسمة جاز، وإن أخرت الزكاة إلى ما بعد القسمة جاز أيضا.
والسلام عليكم.
(ص- ف- 480 وتاريخ 22 - 5 - 1378هـ)(86/75)
(1000 - إذا احترقت الثمرة في الجرين بغير تعد)
من محمد بن إبراهيم إلى فضيلة نائبنا في المنطقة الغربية سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد جرى الاطلاع على الأوراق المشفوعة بخطابكم رقم 10482 وتاريخ 29 - 6 - 1380هـ المتعلقة بقضية الزكاة المطلوبة من محمد عبد الله بن هيضة من سكان العرين، وما ذكر من أن حريقا حصل على ثمرته فأتلفها - المشتملة على خطاب فضيلة رئيس المحكمة الكبرى بأبها رقم 2513 وتاريخ 25 - 5 - 1380هـ المتضمن أن نظر هذه المسألة عائد لسماحة رئيس القضاة. إلى آخر ما ذكره.
ونفيدكم أنه إذا ثبت ما ذكره من احتراق ثمرته فتسقط الزكاة فيها إذا لم يفرط وإن كان قد وضعها في الجرين على القول المختار.
وتفريطه كتعريضها للحوادث، وتركها في الجرين مدة تزيد عن الحاجة ونحو ذلك. وبالله التوفيق. والسلام عليكم.
(ص- ف- 305 في 8 - 3 - 1381هـ)(86/76)
(1001 - إذا أصابتها جائحة بعد الخرص وكان موسرا)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي رئيس(86/76)
مجلس الوزراء، حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فبالإشارة إلى المعاملة الواردة إلينا من مقام سموكم الكريم وفق خطاب سمو نائبكم رقم 10542 وتاريخ 21- 6 - 1382هـ المتعلقة بقضية أهالي نخيل العرض، وادعائهم تلف ثلثي محصولات ثمار نخيلهم بسبب هطول الأمطار عليها بعد خرصها، المشتملة على خطابي فضيلة رئيس محكمة القنفذة رقم 776 - 665 في 12- 3 - 81هـ ورقم 1768 - 1298 في 17 - 6 - 1384هـ حول القضية. وبتتبع الأوراق المتعلقة بالمسألة، وتأمل الخطابين المشار إليهما أعلاه المتضمن أولهما أن القاعدة الشرعية تنص على أن الحبوب والثمار إذا تلفت قبل وضعها في الجرين بغير تعد فإنها تسقط زكاتها عن رب الزرع والثمر، وإن تلف البعض قبل وضعه في الجرين زكى المالك الباقي إن كان نصابا وإلا فلا زكاة فيه. كما يتضمن الخطاب الثاني الإشارة إلى قرار خراص النخيل المتضمن أن خرصهم كان قبل هطول الأمطار ثم هطلت الأمطار واستمرت خمسة عشر يوما وأتلفت ثلثي ثمر النخيل ولم يبق سوى الثلث وقد تمكن أهله من أخذه، وتقرير أن الزكاة تجب في ثلث الثمرة الباقي إن بلغ نصابا، وأما الثلثان التالفة فلا زكاة فيها، وتعتبر شهادة(86/77)
الخارصين بينة ظاهرة لدعوى الملاك الجائحة.
وبتأملها نفيد سموكم أن ما قررته المحكمة هو ما يقتضيه الوجه الشرعي، ولا يلتفت على ما يقال بأن هؤلاء الذين يدعون الجائحة في ثمارهم موسرون ولديهم محلات تجارية وغير ذلك، فالحكم في سقوط الزكاة عن الثمرة التالفة قبل أخذها بغير تعد من صاحبها لا تختص به طبقة دون أخرى. وبالله التوفيق. والسلام عليكم.
(ص- ف- 1993 وتاريخ 24 - 10 - 1382هـ)(86/78)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله)
مفتي عام المملكة العربية السعودية
الواجب البدار بإخراج الزكاة وسؤال الثقات عن مستحقيها
س: لدي مبلغ عشرة آلاف ريال سعودي، وأريد أن أخرج زكاتها، ولكني لا أعرف كيف أخرج زكاتها، وهل يجوز أن أبقيها حتى أرجع لبلدي وأخرج زكاته هناك، أم لا يجوز ذلك؟ (1)
ج: الواجب على المسلم البدار بإخراج الزكاة إذا حال الحول، فيجب أن يبادر في أي مكان كان، ويلتمس الفقراء والمحاويج ويسأل عنهم أهل الثقة والأمانة في بلده الذي هو فيه ثم يخرج الزكاة، سواء كان في اليمن أو في الشام أو في مكة أو في أي مكان.
والله أوجب عليك هذه الزكاة، وإذا كان المال عشرة آلاف فالزكاة مائتان وخمسون ريالا، أي: ربع العشر؛ لأن الألف هو العشر وربعه مائتان وخمسون. فعليك أن تلتمس بعض الفقراء وتدفع إليه
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) الشريط الخامس عشر(86/79)
الزكاة وتستعين في ذلك بأهل الثقة والأمانة من أصحابك وإخوانك كي يدلوك على الفقراء ويرشدوك إليهم.(86/80)
حكم تأخير إخراج الزكاة
س: هل يصح أن يحتفظ بالزكاة من أجل إعطائها لأحد الفقراء الذين لم يتصل بهم بعد؟
ج: إذا كانت المدة يسيرة غير طويلة فلا بأس أن يحتفظ بالزكاة حتى يعطيها بعض الفقراء من أقاربه، أو من هم أشد فقرا وحاجة، ولكن لا تكون المدة طويلة، وإنما تكون أياما غير كثيرة. هذا بالنسبة لزكاة المال.
أما زكاة الفطر فلا تؤجل، بل يجب أن تقدم على صلاة العيد، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وتخرج قبل العيد بيوم أو يومين أو ثلاثة لا بأس، ولا تؤجل بعد الصلاة.
س: هل يجوز تأخير إخراج الزكاة مدة أشهر بعد حلولها من أجل تحري المحتاج أو عدم وجود نقود لديه وقت حلول الزكاة؟(86/80)
ج: لا بأس بتأخير إخراجها من أجل ما ذكر، ومتى وجد الفقراء، أو المال بادر بإخراجها، لأنه لا يجوز تأخيرها بعد تمام الحول إلا لعذر شرعي، مثل ما ذكرتم من عدم وجود المال بيده ذلك الوقت، أو عدم وجود الفقراء.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للفقه في دينه والثبات عليه، إنه جواد كريم.
س: سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: نحيط سماحتكم بأن عمي يخرج زكاة أمواله كل عام في بداية شهر رمضان المبارك، وهو يرغب حاليا إخراج الزكاة وفي كل عام في بداية محرم نظرا لقضاء حوائج الناس المحتاجين وكيف يخرج فرق الأشهر الثلاثة بين شهر رمضان والحجة؟ إذا كان لدى عمي عقارات وأراض معروضة للبيع، كيف يحتسب الزكاة، ومن قيمة الأرض أم قيمة المعروض للبيع؟ (1)
__________
(1) استفتاء شخصي مقدم من السائل/ م. ع. ح. من مكة المكرمة.(86/81)
أرجو من سماحتكم التكرم بالجواب للأهمية، شكر الله سعيكم ونفع بعلمكم وبارك في أوقاتكم وجعلكم عونا وملاذا لطالب العلم ورزقكم الفردوس الأعلى، إنه جواد كريم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده: ليس لعمك تأخير الزكاة إلى المحرم، ولكن يجوز له أن يعجل الزكاة قبل رمضان في المحرم أو غيره وعليه إخراج زكاة العقارات حسب قيمتها عند إخراج الزكاة تقبل الله من الجميع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(86/82)
حكم تأخير زكاة العروض في حق من لم يملك النقود
س: عندي دكان لبيع أدوات سيارات، ولكن لم أملك نقودا لكي أزكي في الوقت الحاضر، ذلك أني لم أبع شيئا، وإنما البضاعة مطروحة، فهل أزكي عندما تكون لدي الفلوس ولو بعد رمضان، أو كيف أتصرف؟ (1)
__________
(1) من كتاب (نور على الدرب) شريط رقم (2) .(86/82)
ج: متى أيسرت فأخرج الزكاة بعد تمام الحول، وإذا تم الحول وليس عندك نقود فأخرجها متى قدرت. والله ولي التوفيق.(86/83)
حكم تارك الزكاة جحودا أو بخلا أو تهاونا
س: ما حكم تارك الزكاة؟ وهل هناك فرق بين من تركها جحودا أو بخلا أو تهاونا؟
ج: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، وبعد:
ففي حكم تارك الزكاة تفصيل، فإن كان تركها جحدا لوجوبها مع توافر شروط وجوبها عليه كفر بذلك إجماعا ولو زكى ما دام جاحدا لوجوبها. أما إن تركها بخلا أو تكاسلا فإنه يعتبر بذلك فاسقا قد ارتكب كبيرة عظيمة من كبائر الذنوب، وهو تحت مشيئة الله إن مات على ذلك، لقول الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) .
__________
(1) سورة النساء الآية 48(86/83)
وقد دل القرآن الكريم والسنة المطهرة المتواترة على أن تارك الزكاة يعذب يوم القيامة بأمواله التي ترك زكاتها، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وهذا الوعيد في حق من ليس جاحدا لوجوبها. وقال الله سبحانه في سورة التوبة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (2) . ودلت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما دل عليه القرآن الكريم في حق من لم يزك الذهب والفضة، كما دلت على تعذيب من لم يزك ما عنده من بهيمة الأنعام - الإبل والبقر والغنم - وأنه يعذب بها نفسها يوم القيامة.
وحكم من ترك زكاة العملة الورقية وعروض التجارة حكم من ترك زكاة الذهب والفضة، لأنها حلت محلها وقامت مقامها.
أما الجاحدون لوجوب الزكاة فإن حكمهم حكم الكفرة ويحشرون معهم إلى النار وعذابهم فيها مستمر أبد الآباد كسائر
__________
(1) سورة التوبة الآية 34
(2) سورة التوبة الآية 35(86/84)
الكفرة؛ لقول الله عز وجل في حقهم وأمثالهم في سورة البقرة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (1) ، وقال في سورة المائدة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (2) ، والأدلة في ذلك كثيرة من الكتاب والسنة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 167
(2) سورة المائدة الآية 37(86/85)
نصح وتذكير لمن لم يخرج الزكاة على الوجه المشروع
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الباعث لكتابة هذه الكلمة هو النصح والتذكير بفريضة الزكاة، التي تساهل بها الكثير من المسلمين فلم يخرجوها على الوجه المشروع مع عظم شأنها وكونها أحد أركان الإسلام الخمسة، التي لا يستقيم بناؤه إلا عليها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة(86/85)
وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت (1) »
وفرض الزكاة على المسلمين من أظهر محاسن الإسلام ورعايته لشؤون معتنقيه، لكثرة فوائدها، ومسيس حاجة فقراء المسلمين إليها، فمن فوائدها: تثبيت أواصر المودة بين الغني والفقير؛ لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
ومنها: تطهير النفس وتزكيتها، والبعد بها عن خلق الشح والبخل، كما أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (2) . ومنها تعويد المسلم صفة الجود والكرم والعطف على ذي الحاجة. ومنها: استجلاب البركة والزيادة والخلف من الله، كما قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (3) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «يقول الله عز وجل: يا ابن آدم، أنفق، أنفق عليك (4) » إلى
__________
(1) رواه البخاري في (الإيمان) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام برقم (16) ، والترمذي في (الإيمان) باب ما جاء بني الإسلام على خمس برقم (2609) واللفظ له.
(2) سورة التوبة الآية 103
(3) سورة سبأ الآية 39
(4) صحيح البخاري، النفقات (5037) ، صحيح مسلم، الزكاة (993) .(86/86)
غير ذلك من الفوائد الكثيرة.
وقد جاء في الوعيد الشديد في حق من بخل بها أو قصر في إخراجها، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (2) ، فكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز، يعذب به صاحبه يوم القيامة، كما دل على ذلك الحديث الصحيح، عن النبي أنه قال: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار (3) » ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الإبل والبقر والغنم الذي لا يؤدي زكاتها، وأخبر أنه يعذب بها يوم القيامة.
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من آتاه مالا فلم يؤد زكاته
__________
(1) سورة التوبة الآية 34
(2) سورة التوبة الآية 35
(3) رواه مسلم في (الزكاة) ، باب إثم مانع الزكاة برقم (987) .(86/87)
مثل له ماله شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول: (أنا مالك، أنا كنزك) ثم تلا قوله تعالى: (2) » والزكاة تجب في أربعة أصناف: الخارج من الأرض من الحبوب والثمار، والسائمة من بهيمة الأنعام، والذهب والفضة، وعروض التجارة.
ولكل من هذه الأصناف الأربعة نصاب محدود لا تجب الزكاة فيما دون، فنصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون مقدار النصاب من التمر والزبيب والحنطة والأرز والشعير ونحوها ثلاثمائة صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أربع حفنات بيد الرجل المعتدل الخلقة إذا كانت يداه مملوءتين، والواجب في ذلك العشر إذا كانت النخيل والزروع تسقى بلا كلفة، كالأمطار والأنهار والعيون الجارية ونحو ذلك، أما إذا كانت تسقى بمؤونة وكلفة، كالسواني والمكائن الرافعة للماء ونحو ذلك، فإن الواجب فيها نصف العشر، كما صح الحديث بذلك عن رسول الله.
وأما نصاب السائمة من الإبل والبقر والغنم: ففيه تفصيل مبين في
__________
(1) سورة آل عمران، الآية 180، والحديث أخرجه البخاري كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة برقم (1403) .
(2) سورة آل عمران الآية 180 (1) {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(86/88)
الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي استطاعة الراغب في معرفته سؤال أهل العلم عن ذلك، ولولا قصد الإيجاز لذكرناه لتمام الفائدة.
وأما نصاب الفضة: فمائة وأربعون مثقالا، ومقداره بالدراهم العربية السعودية ستة وخمسون ريالا، ونصاب الذهب: عشرون مثقالا، ومقداره من الجنيهات السعودية: أحد عشر جنيها وثلاثة أسباع الجنيه، وبالغرام اثنان وتسعون غراما، والواجب فيهما ربع العشر على من ملك نصابا منهما أو من أحدهما إذا حال عليه الحول، والربح تابع للأصل فلا يحتاج إلى حول جديد، كما أن نتاج السائمة تابع لأصله فلا يحتاج إلى حول جديد إذا كان أصله نصابا.
وفي حكم الذهب والفضة الأوراق النقدية التي يتعامل بها الناس اليوم، سواء سميت: درهما أو دينارا أو دولارا أو غير ذلك من الأسماء، إذا بلغت قيمتها نصاب الفضة أو الذهب، وحال عليها الحول، وجبت فيها الزكاة.
ويلتحق بالنقود حلي النساء من الذهب أو الفضة خاصة، إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول، فإن فيها الزكاة وإن كانت معدة للاستعمال أو العارية في أصح قولي العلماء، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا(86/89)
إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار (1) » . . . إلى آخر الحديث المتقدم، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى بيد امرأة سوارين من ذهب فقال: «أتعطين زكاة هذا؟ " قالت: لا، قال: "أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ " فألقتهما، وقالت: هما لله ولرسوله (2) » أخرجه أبو داود والنسائي بسند حسن. وثبت عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تلبس أوضاحا من ذهب، فقالت: يا رسول الله، أكنز هو؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ما بلغ أن يزكى فزكي فليس بكنز (3) » مع أحاديث أخرى في هذا المعنى.
أما العروض وهي السلع المعدة للبيع، فإنها تقوم في آخر العام ويخرج ربع عشر قيمتها، سواء كانت قيمتها مثل ثمنها أو أكثر أو أقل، لحديث سمرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع (4) » رواه أبو داود. ودخل في ذلك الأراضي المعدة للبيع والعمارات والسيارات والمكائن الرافعة للماء، وغير ذلك من أصناف السلع المعدة للبيع، أما العمارات المعدة للإيجار لا للبيع، فالزكاة في أجورها، إذا حال عليها الحول، أما ذاتها
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (987) ، سنن أبي داود الزكاة (1658) ، مسند أحمد (2/262) .
(2) رواه أبو داود في (الزكاة) باب الكنز ما هو زكاة الحلي برقم (1563) .
(3) رواه أبو داود في (الزكاة) باب الكنز ما هو، وزكاة الحلي برقم (1564) .
(4) رواه أبو داود في (الزكاة) باب العروض إذا كانت للتجارة برقم (1562) .(86/90)
فليس فيها زكاة، لكونها لم تعد للبيع، وهكذا السيارات الخصوصية والأجرة ليس فيها زكاة إذا كانت لم تعد للبيع، وإنما اشتراها صاحبها للاستعمال. وإذا اجتمع لصاحب سيارة الأجرة أو غيره نقود تبلغ النصاب، فعليه زكاتها إذا حال عليها الحول، سواء كان أعدها للنفقة أو للتزوج أو لشراء عقار أو لقضاء دين أو غير ذلك من المقاصد، لعموم الأدلة الشرعية الدالة على وجوب الزكاة في مثل هذا. والصحيح من أقوال العلماء أن الدين لا يمنع الزكاة، لما تقدم.
وهكذا أموال اليتامى والمجانين تجب فيها الزكاة عند جمهور العلماء إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول، ويجب على أوليائهم إخراجها بالنية عنهم عند تمام الحول، لعموم الأدلة، مثل قول النبي في حديث معاذ لما بعثه على أهل اليمن: «إن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم (1) »
والزكاة حق الله لا تجوز المحاباة بها لمن لا يستحقها، ولا أن يجلب الإنسان بها لنفسه نفعا أو يدفع ضرا، ولا أن يقي بها ماله أو يدفع به عنه مذمة، بل يجب على المسلم صرف زكاته لمستحقيها، لكونهم من أهلها لا لغرض آخر، مع طيب النفس بها والإخلاص لله
__________
(1) رواه البخاري في (الزكاة) باب وجوب الزكاة برقم (1395) ، ومسلم في (الإيمان) باب الدعاء إلى الشهادتين برقم (19) .(86/91)
في ذلك، حتى تبرأ ذمته ويستحق جزيل المثوبة والخلف.
وقد أوضح الله سبحانه في كتابه الكريم أهل الزكاة، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) .
وفي ختم هذه الآية الكريمة بهذين الاسمين العظيمين تنبيه من الله سبحانه لعباده على أنه سبحانه هو العليم بأحوال عباده ومن يستحق منهم للصدقة ومن لا يستحق، وهو الحكيم في شرعه وقدره فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها وإن خفي على بعض الناس بعض أسرار حكمته، ليطمئن العباد لشرعه ويسلموا لحكمه.
والله المسؤول أن يوفقنا والمسلمين للفقه في دينه والصدق في معاملته، والمسابقة إلى ما يرضيه، والعافية من موجبات غضبه إنه سميع قريب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(86/92)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س1: هل العاملون بالكمائن والخفارات السرية يعدون كالمرابطين في سبيل الله؟
ج1: يقصد بالمرابطة في سبيل الله مرابطة الجنود وإقامتهم في نحر العدو لحفظ حدود وثغور البلاد المسلمة، وصيانتها عن دخول الأعداء إلى داخل البلاد الإسلامية، وقد وردت أحاديث كثيرة في بيان فضل المرابطة في سبيل الله، ففي صحيح الإمام البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها (1) » وفي صحيح الإمام مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه (2) » وفي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان وسنن أبي داود والترمذي عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر (3) » قال الترمذي حسن صحيح.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2892) ، مسند أحمد (5/339) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1913) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1665) ، سنن النسائي الجهاد (3167، 3168) ، مسند أحمد (5/441) .
(3) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1621) ، سنن أبي داود الجهاد (2500) ، مسند أحمد (6/20) .(86/93)
ومثل عملكم في حرس الحدود، من الرباط على ثغور البلاد البرية والبحرية أرجو من الله أن يكون داخلا في الرباط في سبيل الله، لمن صلحت نيته وأخلص في عمله.(86/94)
س2: ما حكم الصلاة في الجزمة؟ وهل يجوز المسح على الخفين والجزمة سواء؟ ومن قام بالمسح على الجزمة ثم خلعها فهل طهارته باقية؟
ج2: من صلى وهو لابس لحذائه فصلاته صحيحة لدلالة الأحاديث الصحيحة على إباحة الصلاة بالنعلين، ومن ذلك أن أنس بن مالك رضي الله عنه سئل «أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه قال نعم (1) » أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وأخرجه الإمام أحمد في المسند، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة بالنعال والخفاف ويدل لذلك ما رواه شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم (2) » رواه أبو داود في سننه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى حافيا ومنتعلا مما يدل على جواز الأمرين، ويدل لذلك ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه بإسناد جيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافيا ومنتعلا (3) » لكن من أراد أن يصلي
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5850) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (555) ، سنن الترمذي الصلاة (400) ، سنن النسائي القبلة (775) ، مسند أحمد (3/189) ، سنن الدارمي الصلاة (1377) .
(2) سنن أبي داود الصلاة (652) .
(3) سنن أبي داود الصلاة (653) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1038) ، مسند أحمد (2/215) .(86/94)
بنعليه فإنه يجب عليه أن يتأكد من عدم وجود نجاسة بهما، فإن كانتا طاهرتين صلى بهما وإلا خلعهما أو أزال النجاسة عنهما ويدل لذلك ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما (1) » أخرجه الإمام أحمد وأبو داود.
وإذا لبس الخف على طهارة ومسح عليه ثم خلعه فلا يصح المسح عليه وبطلت طهارته لزوال المسح.
__________
(1) سنن أبي داود الصلاة (650) ، مسند أحمد (3/92) ، سنن الدارمي الصلاة (1378) .(86/95)
س3: هل تجب صلاة الجماعة على العاملين في الدوريات والحراسات والكمائن؟ وإذا كانت لا تجب فهل يكتب لهم أجر صلاة الجماعة؟
ج3: تعلمون وفقكم الله تعالى أن صلاة الجماعة من شعائر الإسلام الظاهرة، وأن أداءها في المسجد واجب على الرجال البالغين، وحيث إنه يوجد معكم في المبنى من يقومون بأعمال مشابهة لأعمالكم، ويؤدون الصلاة جماعة فيتعين عليكم أن تصلوا معهم، وأن تنظموا وقت أداء الصلاة بحيث لا يتخذ المتلاعبون ذلك وسيلة لترك العمل وإضاعة الوقت، أما إن كانت الحاجة ماسة لمواصلة عملكم، وأنتم مجموعة فإنه يسوغ لكم أن تصلوها(86/95)
مجموعات، وعلى المسلم أن يراقب الله تعالى في أعماله، ويجتهد في إبراء ذمته من حقوق الله تعالى وحقوق عباده.(86/96)
س4: بعض المسؤولين يقومون بأعمال إجرائية في مجال العمل من حيث تنسيق مناوبات منسوبيهم ويمنحون بعض منسوبيهم رخصا إدارية وإجازات غير منصوص عليها في النظام بقصد مساعدتهم، فما حكم هذا الإجراء؟
ج4: الأصل أن يتقيد الموظف والمسؤول عنه بالنظام، لأنه إنما وضع لضبط الأمور وتحقيق المصلحة العامة، ومثل هذه الإجراءات إذا كان المسئول المباشر يراها محققة للمصلحة العامة فعليه أن يرفع اقتراحا بشأنها للمسؤولين ليقرروا المناسب حيالها، أما أن يترك الباب مفتوحا لكل من رأى أمرا واستحسنه أن يطبقه فهذا يؤدي إلى خلل كبير، والله أعلم.(86/96)
س5: موظف في إجازة رسمية تنتهي إجازته مع بداية شهر ذي الحجة ولم يكن لديه مناوبات أو مهام عمل خلال فترة الحج ويرغب في أداء الحج، فهل يجوز له أداء الحج وهذا حاله؟
ج5: لا حرج عليك في أداء الحج، إذا أذن مرجعك لك.(86/96)
س6: موظف منح رخصة إدارية من عمله لقاء جهوده في عمله، ويرغب الذهاب لأداء العمرة أثناء رخصته دون إذن مرجعه، فهل يجوز له ذلك وهذا حاله؟
ج6: لا حرج عليك في أداء العمرة.(86/97)
س7: من احتلم ولم يكن قريبا منه ماء، وحان وقت الصلاة ماذا يفعل؟
ج7: الجنب إذا كان في مكان لا ماء فيه وتعذر الحصول عليه من غيره فإنه يتيمم ويصلي لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (1) .
أما إذا كان في البلد ويمكنه البحث عن الماء والحصول عليه فإنه يلزمه الغسل، ولا يجزئه التيمم.
__________
(1) سورة المائدة الآية 6(86/97)
س8: ما الحكم في دخول المسجد المفروش أو المصلى بالبسطار العسكري؟
ج8: يجوز دخول المسجد بالحذاء والصلاة به إذا كان طاهرا، أو أزال ما به من جرم النجاسة، ولم يخش وقوع مفسدة.(86/97)
س9: ما حكم تأخير جندي الحراسة للصلاة عن وقتها؟
ج9: صلاة الجماعة واجبة على الرجال الأحرار القادرين ولو(86/97)
سفرا في شدة خوف للصلوات الخمس وجوب عين لثبوت الأدلة في ذلك، وقد جاءت أدلة دالة على سقوط الجمعة والجماعة لوجود العذر كالمرض، والخوف من ضياع المال، أو الإضرار به، وسواء كان هذا المال للشخص أو هو مستحفظ عليه ونحو ذلك، والصورة المسؤول عنها داخلة في ذلك فللسائل أن يتم حراسته، ومن بعدها يؤدي الصلاة على أن يؤديها في وقتها، فإن خشي فوات الوقت صلاها في وقتها في محل حراسته ولو فردا؛ لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (2) » متفق عليه.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الفضائل (1337) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد (2/508) .(86/98)
س10: هل تسقط صلاة الجمعة عن المناوبين (مجموعة من العسكر داخل معسكرهم لا يتجاوز عددهم بالكثير عن 20 رجلا) في مقر عملهم؟
ج10: إذا كان العمل يتطلب المناوبة من أجل الحفاظ على الأمن فإن المناوب تسقط عنه صلاة الجمعة ويصلي بدلها الظهر، ولا تجوز إقامة صلاة الجمعة في موضع المناوبة لعدم ورود ذلك.(86/98)
س11: ما حكم من أخذ انتدابا إلى عمل ولم يذهب؟ وإن ذهب ولم يكمل مدة انتدابه المقررة؟
ج11: لا يحل لأي إنسان أن يأخذ شيئا من مال الدولة أو غيرها ممن يعمل عنده بغير حق، ولا أن يأذن بذلك لغيره إذا علم أن إذنه مخالف للصواب، ويدل لذلك ما أخرجه أبو داود في سننه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول (1) » وعلى ذلك لا يحل لهذا الشخص أن يأخذ المال العائد له من الانتداب الذي لم يقم به؛ لأنه لا حق له فيه، وفيه ظلم لغيره، واعتداء على حقوق الآخرين بغير حق شرعي، كما أن الراتب لا يحل له عن المدة التي ترك فيها العمل بغير مسوغ شرعي.
__________
(1) سنن أبي داود الخراج والإمارة والفيء (2943) .(86/99)
س12: الأفراد الذين يخرجون لمهمات دورية من المراكز الحدودية لمدة 12 سنة ويسلمون مثلها في مقر المركز كفترة راحة، فهل يجوز لهم الجمع والقصر أثناء مهمة الدورية، علما بأن مسافة الدورية تتراوح بين 13 - 40 كلم؟
ج12: الدورية التي تقصد مسافة تبلغ ثمانين كيلو مترا فأكثر من محل إقامتها تقصر الصلاة خلال القيام بالدورية، أما إن كانت(86/99)
المسافة أقل من ذلك أو لم تقصد الدورية ما يبلغ المسافة المذكورة لأنها لا تدري هل تكون مسافة دوريتها طويلة أو قصيرة فإن أفرادها يتمون الصلاة، وأما أثناء الإقامة فإن كانوا يقصدون إقامة أربعة أيام فأقل أو لا يعرفون مدة إقامتهم فإنهم يقصرون الصلاة في الحالتين إذا كانت المسافة التي قطعوها ثمانين كيلو مترا فأكثر، أما إن كانوا يقصدون إقامة أكثر من أربعة أيام فإنهم يتمون الصلاة.(86/100)
س13: أفراد المراكز الحدودية يمضون فترة تقارب شهرا وخمسة عشر يوما إلى شهرين فأكثر ومن ثم يتمتعون في إجازات، فهل يجوز لهم الجمع والقصر في فترة تواجدهم بالمراكز؟
ج13: الجنود الذين لا يعلمون مدة إقامتهم في المكان الذي يرابطون فيه، وهو يبعد عن محل إقامتهم أكثر من ثمانين كيلو مترا فإنه يجوز لهم قصر الصلاة، لأن أحكام السفر لم تنقطع في حقهم، ومن علم منهم أنه سيقيم في المكان أكثر من أربعة أيام فإنه يجب عليه إتمام الصلاة، لأن أحكام السفر قد انقطعت في حقه وهو في حكم المقيم.(86/100)
س14: هناك مهمات عمل على المراكز الحدودية تتراوح(86/100)
مدتها ما بين يومين إلى ثلاثة أيام، وعدد الأفراد لتلك المهمة ثلاثة أفراد، فهل يؤدون صلاة الجمعة كصلاة الظهر؟ وهل يجوز لهم الجمع والقصر في فروض الصلاة في تلك المهمة؟
ج14: صلاة الجمعة لا تصح إلا إذا كان في المكان مستوطنون استيطانا مستمرا، ومن كان غير مستوطن من الجنود المرابطين فإنه يصليها مع المستوطنين تبعا لهم، وعليهم أن يصلوا الجمعة فيما حولهم من مساجد البلد التي تقام فيها الجمعة إن كانت قريبة منهم، وإن لم يكن حولهم مساجد تقام فيها صلاة الجمعة من أهل البلد فإنهم يصلونها ظهرا، ويجوز لهم في هذه الحالة القصر والجمع إذا كانوا ينوون إقامة أربعة أيام فأقل أو لا يعرفون مدة إقامتهم، وكانت المسافة التي قطعوها من مكان إقامتهم ثمانين كيلو مترا.(86/101)
س 15: هل يجوز تأدية صلاة التراويح بالمراكز الحدودية بأقل من ستة أفراد، وما هو العدد الذي يجوز فيه صلاة التراويح؟
ج15: يسن لهم أن يؤدوا صلاة التراويح ولو كان عددهم قليلا، والله أعلم.(86/101)
س16: ما هي كيفية أداء الصلاة على الوسائط البحرية أثناء(86/101)
الدورية في البحر، علما أن المسافة لا تتجاوز دائما 30 كلم، وهل يجوز قصر وجمع الصلاة، وهل استقبال القبلة شرط حيث إن الرياح تتحكم في القارب؟
ج16: إذا كان راكب القارب يعلم أنه لو أخر الصلاة حتى يصل إلى المكان الذي يمكن أن يصلي فيه خرج وقتها فإنه يصلي على قدر استطاعته؛ لعموم قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) ، وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (3) وأما كونه يصلي أين توجه القارب، أم لا بد من التوجه إلى القبلة دواما واستمرارا، أو ابتداء فقط فهذا يرجع إلى تمكنه، فإن كان يمكن استقبال القبلة في جميع الصلاة وجب فعل ذلك؛ لأنه شرط من شروط صحة الصلاة؛ بل هو من أهم شرائطها، فيجب على المسلم أينما كان أن يستقبل القبلة أي الكعبة في صلاته كلها، لقول الله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (4) ، وإذا كان لا يمكن في جميعها فليتق الله ما استطاع، ويجتهد في استقبال القبلة حسب الإمكان ويدور مع السفينة أو القارب كلما دار، وإذا غلبه الأمر في بعض الأحيان ولم يشعر إلا وهو متجه إلى غير القبلة لم يضره ذلك، ولا حرج عليه لما سبق من الأدلة، ولقول الله تعالى:
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) سورة التغابن الآية 16
(3) سورة الحج الآية 78
(4) سورة البقرة الآية 150(86/102)
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (1) ، هذا كله في الفرض، أما صلاة النافلة فأمرها أوسع، فيجوز للمسلم أن يصلي على هذا القارب حيثما توجه به القارب إلى جهة سفره ولو كان إلى غير جهة القبلة ولو استطاع النزول في بعض الأوقات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفل على راحلته حيث كان وجهه، لكن الأفضل أن يستقبل القبلة عند الإحرام؛ لما روى أنس رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر، ثم صلى حيث وجهه ركابه (2) » رواه أبو داود بإسناد حسن.
وإذا حان وقت الصلاة والقارب ما زال في البحر، وكانت من الصلوات التي لا تجمع مع ما بعدها كصلاة الفجر أو العصر أو العشاء، وتخشون خروج وقت الصلاة إذا أخرتم أداءها حتى يصل القارب وتنزلون منه، فإنه لا يجوز لكم تأخيرها حتى يخرج وقتها، بل يجب عليكم أداؤها في القارب قبل أن يخرج وقتها حسب الاستطاعة، فإن استطعتم أداءها قياما مع الركوع والسجود في مكانكم أو في أي مكان من القارب، فإنه يجب عليكم ذلك، وإن لم تستطيعوا القيام وكان في ذلك مشقة عليكم فإنكم تومئون بالسجود كذلك، ويكون السجود أخفض من الركوع؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) ، ولما صح عن النبي صلى الله عليه عليكم أنه قال: «صل قائما فإن لم (4) »
__________
(1) سورة البقرة الآية 115
(2) صحيح البخاري الجمعة (1100) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (702) ، سنن النسائي المساجد (741) ، سنن أبي داود الصلاة (1225) ، مسند أحمد (3/203) ، موطأ مالك النداء للصلاة (357) .
(3) سورة التغابن الآية 16
(4) أخرجه البخاري في كتاب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب، برقم (1117) ، وقوله: فإن لم تستطع فمستلقيا زادها النسائي كما ذكره المجد بن تيمية في المنتقى.(86/103)
«تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب (1) » رواه البخاري والنسائي، أما إن كانت الصلاة تجمع مع ما بعدها كالمغرب مع العشاء، والظهر مع العصر، ويمكن أداؤها بعد النزول من القارب في آخر وقت الثانية، فإن الأفضل تأخيرهما حتى تصلوهما على الأرض، لأن وقت الثانية وقت للأولى في هذه الحالة، ولأن في ذلك أداء للصلاة بالصفة الكاملة، وكذلك إذا كان السفر قصيرا لا يستغرق وقت الصلاة بحيث تتمكنون من أداء الصلاة في وقتها بعد انتهاء السفر، فإن الأفضل تأخيرها في آخر وقتها حتى تؤدى على الأرض؛ لكن لو صليتم الصلاة التي دخل وقتها على القارب في أول وقتها حسب الاستطاعة فإنه لا بأس بذلك وتجزئكم، وإذا كانت الصلاة تجمع مع ما بعدها ولا يمكنكم أداؤها بعد النزول من القارب في آخر وقت الثانية بحيث يستمر السفر حتى يخرج وقت الثانية، فإنه يجب عليكم أداء كل صلاة في وقتها في القارب، ولا تقصر الصلاة في مثل حالكم؛ لأنكم لم تسافروا مسافة ثمانين كيلو مترا؛ وهي مسافة القصر، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب، برقم (1117) ، وقوله: فإن لم تستطع فمستلقيا زادها النسائي كما ذكره المجد بن تيمية في المنتقى.(86/104)
س17: قبلة مصليات ومساجد بعض المراكز منحرفة ليس بالكثير فما حكم الصلاة في تلك المصليات والمساجد؟
ج17: الأمر في هذا الباب واسع فالانحراف اليسير يغتفر كما(86/104)
دلت عليه النصوص الشرعية، أما إذا كان الانحراف غير يسير فيعدل من داخل المسجد إما بتعديل الفرش على الاتجاه الصحيح، أو بوضع شيء يدل على الاتجاه الصحيح للقبلة دون الحاجة إلى هدم المساجد المنحرفة، وإذا هدم مسجد لأي سبب وأعيد بناؤه فتعدل قبلته على الاتجاه الصحيح، وهكذا المساجد التي تبنى من جديد يجب مراعاة الاتجاه الصحيح فيها بدقة قبل الشروع في بنائها.(86/105)
س18: في حالة وجودي في حراسة على أحد المواقع وسمعت الأذان، هل يجوز لي أن أصلي أم أنتظر حتى أسلم من خفارتي، وقد يكون خرج وقت الصلاة؟
ج18: يجب أداء الصلاة المفروضة في وقتها المحدد شرعا ولو في غير جماعة إذا لم يتيسر لك ذلك، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1) .
__________
(1) سورة النساء الآية 103(86/105)
س19: ما هو الحكم الشرعي لإقامة صلاة الجمعة في المراكز الحدودية؟ وهل هي واجبة على العاملين بالمراكز؟
ج19: لا يجوز لمنسوبي المراكز لديكم إقامة صلاة الجمعة بمفردهم، وليست واجبة عليهم لأنهم غير مستوطنين، ومن شروط إقامة الجمعة الاستيطان المستمر، ولكن عليهم أن يصلوا الجمعة(86/105)
فيما حولهم من مساجد البلد التي تقام فيها الجمعة، إن كانت قريبة منهم، وإن لم يكن حولهم مساجد تقام فيها صلاة الجمعة من أهل البلد فإنهم يصلون ظهرا.(86/106)
س20: هل يجوز القصر والجمع لمن كانت له مسافة في مجال عمله تساوي مسافة القصر والجمع، وقد تكون المسافة ما بين (30 - 150) كيلو مترا؛ مثال ذلك: (الجولات التعقيبية لضباط وغيرهم على المراكز الحدودية، الدوريات بعيدة المدى) علما بأن هذه الجولات قد تتكرر في الأسبوع الواحد أكثر من جولة؟
ج20: الدورية التي تقصد مسافة تبلغ ثمانين كيلو مترا فأكثر من محل إقامتها تقصر الصلاة خلال القيام بالدورية، أما إن كانت المسافة أقل من ذلك أو لم تقصد الدورية ما يبلغ المسافة المذكورة؛ لأنها لا تدري هل تكون مسافة دوريتها طويلة أو قصيرة فإن أفرادها يتمون الصلاة.(86/106)
س21: إذا تعذر استعمال الماء إما لقلته، أو لشدة برودة الطقس، هل يجوز لأفراد الدورية التيمم، أم أنه يجب عليهم الوضوء وإن كان الجو باردا؟(86/106)
ج21: لا يجوز التيمم مع وجود الماء ولو كان الجو باردا إلا إذا خاف باستعمال الماء الضرر أو الهلاك، وكذلك لا يجوز التيمم لعدم وجود مكان يستتر به، وبإمكان المرء أن يستره أحد زملائه برداء أو نحوه عند الحاجة.
وإذا كان الماء بعيدا عنهم، والماء الذي معهم لا يكفي لحاجتهم وطهارتهم، فإنهم يتيممون ويوفرون الماء لحاجتهم.(86/107)
س22: نحن من منسوبي قيادة حرس الحدود بقطاع سلوى، ونقيم صلاة الجمعة بمسجدنا داخل سور القيادة، ويصلي معنا بعض المتواجدين من الدوائر الحكومية المجاورة، ومن أسباب إقامة صلاة الجمعة بمقر العمل الظروف الأمنية الراهنة.
وسؤالنا: هل إقامة صلاة الجمعة صحيحة والحال ما ذكر أعلاه؟ وإذا لم تصح فما حكم ما مضى من صلاة؟
ج22: ليس على المذكورين صلاة جمعة نظرا لمرابطتهم التي لا يستطيعون معها الذهاب لصلاة الجمعة في المساجد، فعليهم أن يصلوا ظهرا أربع ركعات بدلا عن صلاة الجمعة. وإذا كانت صلاتكم للجمعة مع المقيمين في البلد فصلاتكم صحيحة وتجزئكم.(86/107)
س23: بعض الأفراد يتجهون إلى مقر عملهم من محافظة الأحساء ويؤدون صلاة الظهر مع الجماعة ثم يقصرون صلاة العصر علما بأن محافظة الأحساء تبعد عن مقر العمل حوالي 140 كلم، السؤال هو:
1- هل عملهم هذا صحيح أم لا؟
2- هل يجب الصوم لمن هذا حال ذهابه وإيابه؟
ج23: يجوز لهم الجمع والقصر إذا كان الأمر كما ذكر؛ لأن المسافة مسافة سفر، وإذا صلوا مع المقيمين فإنه يجب عليهم الإتمام تبعا لإمامهم، أما الصوم فالأولى أن تصوموا لكونكم موجودين في محل إقامتكم الدائمة في أول النهار وآخره.(86/108)
س24: هل يجوز للمصلي أن يقصر ويجمع في صلاته أثناء الدورية داخل البحر بسبب الأمواج والأحوال الجوية السيئة والتي لا تساعد المصلي على الثبات أثناء الصلاة علما بأن أغلب الأحيان تكون بعد المسافة عن الشاطئ قصيرة وتقدر بحوالي (2 كيلو مترا) ؟
ج24: السفر الذي يشرع فيه الترخيص برخص السفر هو ما اعتبر سفرا عرفا، ومقداره على سبيل التقريب ثمانون كيلو مترا،(86/108)
فمن سافر لقطع هذه المسافة فأكثر فله أن يترخص برخص السفر، أما ما ذكر في السؤال فإنه لا يعتبر سفرا، لكن إذا كانت الدورية تبدأ بعد دخول وقت الصلاة فصلوها ثم اذهبوا، وإن كانت تبدأ قبل ذلك لكنها تنتهي قبل خروج الوقت فأخروا الصلاة إلى آخر الوقت، وإن لم يمكن هذا ولا ذاك، وأمكن الجمع في وقت إحدى الصلاتين المجموعتين سواء قبل بدء الدورية أو بعد عودتها فهذا أولى لتؤدوا الصلاة على هيئتها الكاملة، وإن لم يمكن ذلك بأن كانت الصلاة لا تجمع إلى غيرها أو خشيتم فوات وقت الثانية، فإنكم تصلون الصلاة في وقتها على القارب، على قدر استطاعتكم.(86/109)
س25: ما هي المسافة التي يمكن للمصلي القصر أو الجمع فيها من نقطة انطلاق الزورق من اليابسة إلى داخل البحر، ولكون الصلاة داخل البحر تختلف عن الصلاة بالبر بسبب تأثر الزورق بالأحوال الجوية، ومدة الدورية تستغرق يوما أو أكثر؟
ج25: السفر الذي يشرع فيه الترخيص برخص السفر هو ما اعتبر سفرا عرفا، ومقداره على سبيل التقريب مسافة ثمانين كيلو مترا، فمن سافر لقطع هذه المسافة فأكثر فله أن يترخص برخص السفر من المسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن، والجمع، والقصر، والفطر(86/109)
في رمضان، وهذا المسافر إذا نوى الإقامة ببلد أكثر من أربعة أيام فإنه لا يترخص برخص السفر، وإذا نوى الإقامة أربعة أيام فما دونها فإنه يترخص برخص السفر، وكذلك المسافر الذي يقيم ببلد ولكنه لا يدري متى تنقضي حاجته ولم يحدد زمنا معينا للإقامة فإنه يترخص برخص السفر.(86/110)
س26: المصلي إذا أراد مشاركة الجماعة في صلاتهم على ظهر الزورق أثناء الإبحار ولكن لاحظ تغير اتجاه القبلة عما كانوا عليه في بداية صلاتهم، وذلك بسبب استدارة الزورق أثناء الإبحار، فهل يدخل مع الجماعة في الصلاة حسب اتجاههم الحالي، أو يصلي لوحده حسب الاتجاه الصحيح للقبلة؟
ج26: الأولى أن تفتح صلاتك نحو القبلة، ثم تتجه مع الجماعة وتكمل صلاتك معهم، والله أعلم.(86/110)
س27: ما حكم التهاون في أوقات الدوام الرسمي كالخروج من العمل قبل نهاية الدوام؟
ج 27: يجب على الموظف التقيد بالدوام الرسمي، وعدم التأخر في الحضور والخروج قبل نهايته إلا لعذر شرعي وبإذن المسؤول.(86/110)
من فتاوى
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
آداب الصلاة:
من الفتوى رقم 879
س2: أرجو إيضاح الأدلة التي تثبت أفضلية المشي إلى الصلاة، أو إلى واجبات دينية مثل أداء مناسك الحج، وذلك من الكتاب والسنة، كما أن هناك حديثا نبويا معناه أن كل خطوة لأداء فضيلة أو واجب ديني تعتبر عند الله حسنة أو صدقة، فهل ينطبق ذلك بالنسبة لأداء مناسك الحج؟
ج2: وردت نصوص عامة في فضيلة المشي على الخير والسعي إليه، ونصوص خاصة في المشي إلى أنواع الخير، من ذلك قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (1) ، فهذه الآية عامة في كتابة الخطى إلى الصلاة في المساجد وإلى ميدان القتال للجهاد في سبيل الله، وإلى
__________
(1) سورة يس الآية 12(86/111)
طلب العلم النافع وصلة الأرحام، كما أنها عامة فيما خلفه الإنسان بعده من أوقاف وكتب علم وأولاد صالحين، وأمثالها مما يبقي نفعه لغيره بعد موته.
ومن ذلك قوله تعالى في المجاهدين: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (1) ، وقوله تعالى في السعي لصلاة الجمعة وما يتبعها من ذكر وسماع خطبة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) .
وروى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم قال: فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعروا منازلهم فقال: «ألا تحتسبون آثاركم (3) » وقد بين
__________
(1) سورة التوبة الآية 120
(2) سورة الجمعة الآية 9
(3) أخرجه أحمد 3 182، والبخاري 1\158 كتاب الأذان، باب احتساب الآثار، ومسلم 1\462 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، وابن ماجه 1\258 كتاب المساجد والجماعات، باب الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا.(86/112)
مجاهد أن المراد بالآثار: الخطى إلى المساجد، وروى البخاري ومسلم من طريق أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح (1) »
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «صلاة الرجل في الجماعة تضعف عن صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج لا يخرجه إلا الصلاة لم يحظ خطوة إلا رفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، لا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة (2) » .
__________
(1) أخرجه أحمد 2\509، والبخاري 1\159 كتاب الأذان، باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح، ومسلم 1\463 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات
(2) رواه البخاري 1\157 كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة، ومسلم 1\450 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، وأبو داود 1\53 كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل المشي إلى الصلاة، والنسائي 2\103 كتاب الإمامة، باب فضل الجماعة، وابن ماجه 1\258 كتاب المساجد والجماعات، باب فضل الصلاة في جماعة.(86/113)
وروى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سلك طريقا يلتمس به علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (1) » وثبت في صحيح البخاري ومسلم في سياق أحاديث حجة الوداع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها حينما اعتمرت من التنعيم بعد حجها: «أجرك على قدر نصبك أو نفقتك (2) » . فهذه النصوص تدل على أن فاعل الخير يثاب عليه وعلى وسائله، وعلى أن الثواب يتفاوت تبعا لتفاوت النفقة والمشقة مشيا على الأقدام أو ركوبا على وسائل المواصلات، كما يتفاوت تبعا لاعتبارات أخرى: كشرف البقعة والزمان، وتفاوت الإخلاص وحضور القلب وخشوعه، وبالجملة فالوسائل لها حكم الغايات، والمقدمات لها حكم المقاصد في جنس الخير والشر والإثم والأجر، لكن حجه راكبا وهكذا العمرة راكبا إذا كان آفاقيا أفضل من حجه أو عمرته ماشيا، لأن ذلك هو الموافق
__________
(1) رواه مسلم 4\2074 كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن والذكر، والترمذي 5\47 كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، وابن ماجه، المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم.
(2) أخرجه أحمد 6\43، والبخاري 2\201، ومسلم في الحج، باب بيان وجوه الإحرام 2\877.(86/114)
لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال: الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21(86/115)
من الفتوى رقم 7881
س2: ما صحة هذا الحديث الذي يقول فيه رسول الله: "الرجل الذي يأتي بعد الأذان فإنه رجل سوء" أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ج2: حث القرآن على المسارعة إلى الخير وبين أنها سباق إلى مغفرة الله ورحمته، ومن ذلك أداء الصلوات الخمس لأول وقتها جماعة في المسجد، فمن فعل ذلك فله أجر عظيم، لكن ذلك لا يدل على أن من يأتي إلى المسجد بعد الأذان للصلاة يكون رجل سوء، بل قد يكون من خيار المسلمين، وإنما يكون رجل سوء من يؤخرها عن وقتها، أو يتساهل في أدائها جماعة، لما رواه ابن عمر رضي الله عنهما(86/115)
قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: الرجل يؤم قوما وهم له كارهون، والرجل لا يأتي الصلاة إلا دبارا، ورجل اعتبد محررا (1) » رواه أبو داود وابن ماجه، أما الحديث المذكور فلا نعلم له أصلا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبي داود الصلاة (593) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (970) .(86/116)
من الفتوى رقم 8734
س2: ما حكم من يذهب إلى المسجد ليصلي وهو راكب السيارة سواء كان المسجد بعيدا أو قريبا؟
ج2: لا حرج في ذلك والمشي أفضل إذا تيسر له ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(86/116)
من الفتوى رقم 12141
س: هل يجوز قول هذا العبارة مثلا: عندما يخرج رجل من مسجد حيث أدى الصلاة أو صام مثلا يوما لله يقول: (يتقبل الله) ، حيث لاحظت أن فيها نوعا من الأمر، والله لا يؤمر عليه عز وجل، أفيدونا جزاكم الله خيرا؟
ج: المشروع للخارج من المسجد الدعاء، بما ثبت عن النبي أنه قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك (1) » أما قول القائل: (يتقبل الله) فهو خبر معناه الدعاء من مسلم لأخيه، وليس أمرا، ولا حرج في ذلك، كما لو قال: تقبل الله منا أو من فلان، فهو دعاء لا أمر.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) أخرجه أحمد 3\497، 5\425، ومسلم 1\494 برقم (713) ، وأبو داود 1\318 برقم (465) ، والنسائي 2\53 برقم (729) والترمذي 2\128 برقم (314) ، وابن ماجه 1\254 برقم (772) والدارمي 1\324، 2\293، والبيهقي 2\442، 441، وابن حبان 5\398 برقم (2049) .(86/117)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(86/118)
من الفتوى رقم 4446
س3: هل يجوز للرجل أن يأخذ مكانا في المسجد لا يجلس في المكان إلا هو؟
ج3: لا ينبغي ذلك، والمشروع في داخل المسجد أن يجلس حيث انتهى الصف.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(86/118)
من الفتوى رقم 9328
س3: إذا كبر الإنسان في صلاة نفل وهو لم يتسوك، وذلك بعد ما كبر قبل الاستفتاح وقبل أن يشرع في قراءة سورة الفاتحة، هل يجوز(86/118)
له أن يستاك بدون كثرة حركة، أو يتركه لكراهية الحركة؟
ج 3: يشرع للمصلي أن يستاك قبل أن يحرم بالصلاة؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة (1) » ، لكن إذا لم يستك قبل أن يدخل في الصلاة فإنه لا ينبغي له أن يستاك بعد أن يكبر للصلاة؛ لما في ذلك من مخالفة للسنة.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (887) ، صحيح مسلم الطهارة (252) ، سنن النسائي الطهارة (7) ، سنن أبي داود الطهارة (46) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (287) ، موطأ مالك الطهارة (147) ، سنن الدارمي الصلاة (1484) .(86/119)
س 7 -: إذا كبر الإمام للصلاة والإنسان مشغول والمؤذن يقيم الصلاة إما يستكمل آية أو يكمل صفحة ما تطول، وكبر الإمام والإنسان لم يتسوك، وفي قراءة الإمام الاستفتاح تسوك المأموم، هل يجوز له السواك لفضله، أو يكبر مع الإمام متابعة الإمام. أيهما أفضل: السواك ولو تأخر المأموم بعد الإمام أو تركه للسواك ومتابعة الإمام حالا.
ج7: السنة له أن ينهي القراءة عند سماع الإقامة ويجيب المقيم كما يجيب المؤذن، ويستاك قبل الدخول في الصلاة، ولا يفعل ذلك أي التسوك بعد تكبيرة الإمام، بل يبادر بالمتابعة، لعموم الأحاديث الدالة على شرعية متابعة المأموم للإمام، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا (1) » ... الحديث
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ 1 م 135، وأحمد 2\230، 341، 376، 411، 475، 3\110، 162، 300، 6\51، 58، 68، 148، 194، والبخاري 1\169، 179، 195، 2\40، 69، 7\6، ومسلم 1\108 – 109 برقم (411، 412) وأبو داود 1\401 – 405 الأرقام 601 – 605) والنسائي 2\98، 142، 196 الأرقام (832، 922، 1061، 922، 921، 1061) والترمذي 2\194 برقم (361) وابن ماجه 1\276، 392 – 393، الأرقام (846، 1237، 1239) وابن حبان برقم (2102 – 2104، 2114، 2113، 2108) . أما زيادة: (فلا تختلفوا عليه. . . . .) فهي عند أحمد 2\314، والبخاري 1\177، ومسلم 1\309 برقم 414، والدارمي 1\286، وابن حبان.(86/119)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(86/120)
من الفتوى رقم 9127
س2: البعض من الناس إذا دخل المسجد والإمام راكع يقول له: اصبر، إن الله مع الصابرين، فهل هذه الكلمة وردت في الحديث، وهل هي واجب قولها للذي يبغي يلحق على الركعة، أفيدونا جزاكم الله ألف خير؟
ج2: لا يجوز قول تلك الكلمة لمثل هذا الغرض؛ لأنها لم ترد(86/120)
في الحديث ولا عن سلف الأمة فيما نعلم
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(86/121)
من الفتوى رقم 5133
س: ما هو الأولى: الصف الأول أم اتخاذ السترة في أي مكان من المسجد، قد يفوت على المصلي الصف الأول؟
ج: المشروع المسارعة إلى الصف الأول لقوله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا (1) » وروى مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير
__________
(1) رواه أحمد 2\236، 374، والبخاري 1\151 كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان، ومسلم 1\325 كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها، والترمذي 1\473 كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل الصف الأول، والنسائي 1\269 كتاب المواقيت، باب الرخصة في أن يقال للعشاء العتمة.(86/121)
صفوف النساء آخرها وشرها أولها (1) » ففي هذين الحديثين التصريح بأفضلية الصف الأول للرجال، وأنه خيرها، لما فيه من إحراز الفضيلة، فلا ينبغي للرجل أن يترك الصف الأول ويتخذ سترة في مكان آخر من المسجد لما في ذلك من تفويت هذا الأجر.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم، الصلاة (440) ، سنن الترمذي، الصلاة (224) ، سنن النسائي، الإمامة (820) ، سنن أبي داود (678) ، سنن ابن ماجه، إقامة الصلاة والسنة فيها (1000) ، مسند أحمد بن حنبل (2\485) ، سنن الدارمي، الصلاة (1268) .(86/122)
البحوث(86/123)
التمذهب
دراسة تأصيلية واقعية
لفضيلة الدكتور عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) .
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (3) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة الأحزاب الآية 70
(4) سورة الأحزاب الآية 71(86/125)
أما بعد
فإن من نعم الله التي لا تنكر، وآلائه التي هي أحق ما يشكر: نعمة الإسلام التي كسانا بها ونشأنا عليها.
لكن شكر هذه النعمة كغيرها من نعم الله لا يتم إلا بتحقيق توحيده والتزام سنة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وإلزام النفس طوعا أو كرها السير في الطريق الذي يوجبه الإسلام ويقتضيه، حسب الجهد وقدر الطاقة.
وحيث إن تعاليم الإسلام عديدة، وأحكامه كثيرة، فإن على المسلم أن يحرص كل الحرص على تعلم ما يمكنه تعلمه منها، وأن يجد كل الجد في معرفة ما استطاعه منها، وما لم يصل إلى علمه، أو قصر فكره وجهده عن معرفته، فإنه يجب عليه أن يتبع فيه عالما ممن يثق بعلمه وأمانته ودينه، على هذا سار أهل الإسلام منذ ظهور نوره إلى الآن، وهو ما سيسار عليه إن شاء الله إلى يوم القيامة.
ولما كان التقليد مما تنوعت فيه طرائق المقلدين، واختلفت فيه أنظار ومناهج الباحثين قديما وحديثا، وبخاصة ما يتعلق بتقليد(86/126)
المعين، أو ما يسمى بالتمذهب.
رغبت - بعد أن أشار علي بعض ذوي الفضل - المساهمة في لم شمل هذا الموضوع والكتابة في بعض جوانبه المهمة، وإني لأرى الكتابة في هذا الموضوع من الأهمية بمكان لقيام معركة حامية بين أنصاره ومعارضيه في هذا الزمان، ولكنها وللأسف طغى على الجانب العلمي فيها جوانب أخرى أخرجت البحث عن دائرته الصحيحة، مما أضاع على القراء فوائد كان يمكن أن يجنوها مما سطره علماء لهم مكانتهم في العلم والفضل في العالم الإسلامي.
ولعلي في هذا البحث أن أصل إلى بعض الحقائق، سواء تلك التي وجدت في كتب الفريقين وأخفتها موجات الغضب، أو التي ذكرها علماء آخرون متقدمون أو متأخرون، هذا مع علمي بمكانتي وقيمتي العلمية، حيث لا أستطيع أن أكون إلا طالبا في آخر الصفوف لبعض هؤلاء العلماء، لكن طلب الحق ونشدان الحقيقة دعتني إلى خوض هذا البحر والتعلق بركب هذا الموكب، والله المستعان.
وقبل أن أبدأ مسائل هذا البحث ألفت نظر القارئ إلى نقطتين مهمتين:
أولهما: أن أكثر الخلاف الدائر في هذه المسألة خلاف في التطبيق وليس خلافا في التنظير؛ لأن معظم أرباب المذاهب يتبرمون(86/127)
من التعصب للمذاهب، ويدعون إلى العمل بالكتاب والسنة إذا خالف المذهب، لكن أحدهم إذا رأى حديثا صحيحا يخالف مذهبه تحرج من مخالفة المذهب؛ استثقالا لترك أمر تعوده، ورأي استقر في نفسه.
كما أنك تجد بعض الداعين إلى عدم الالتزام بالمذاهب يقول بالتقليد ويقره ويرى أنه ضرورة للعوام وأشباههم، لكنه إذا رأى من يقلد إماما معتبرا محتجا بقوله في أمر مختلف فيه يخالف ما يراه هو أنكر على المقلد ونسبه إلى الجمود والتعصب.
ولا حاجة لنا في ضرب الأمثلة من الواقع أو الاستشهاد بالحوادث، لأن الأمر يعلمه كل من قرأ في كتب القوم أو نظر إلى واقع الناس.
أما النقطة الثانية: فهي أن تعلم أن البحث لتحقيق مسألة التمذهب، ولكي تتضح صورة المسألة قدمت لها بمقدمتين، أولاهما في الاجتهاد وبعض مسائله، والثانية في التقليد، ثم أعقبت مسألة التمذهب بمسألة لها علاقة بها، وهي مسألة حكم الاستدلال في الفتوى.
أسأل الله الكريم أن يأخذ بيدي، وأن يلهمني الصواب، وأن يرزقني العدل والتوفيق، وأن يكفيني شر نفسي وهواي، إنه سبحانه خير مسؤول، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.(86/128)
المقدمة الأولى: في تعريف الاجتهاد وبعض أحكامه:
تعريف الاجتهاد:
الاجتهاد في اللغة: بذل الوسع والطاقة، مأخوذ من الجهد بفتح الجيم بمعنى المشقة، وبضمها بمعنى الطاقة (1) أما في الاصطلاح فعبارات الأصوليين في حده كثيرة، وليس المقام مقام استقصاء؛ لأنها متقاربة المعنى، ومن أجمعها قول الجرجاني في التعريفات إنه: استفراغ الفقيه الوسع ليحصل له الظن بحكم شرعي شروط المجتهد (2)
أسرف بعض العلماء في تقييد المجتهد بشروط كثيرة يستحيل معها أن يوجد مجتهد، كما قابلهم قوم قللوا من شأن هذه الشروط حتى دلف من باب الاجتهاد من ليس بأهله، فأحل ما حرم الله.
والموقف الوسط في هذا هو أن يشترط فيمن يخوض بحر الاجتهاد ما اشترطه جمهور الأصوليين، من معرفة آيات الأحكام
__________
(1) انظر معجم مقاييس اللغة والقاموس المحيط والمصباح المنير مادة ''جهد''.
(2) انظر شروط المجتهد في المستصفى (2\350) ، وإرشاد الفحول (250) .(86/129)
وأحاديثها، ومواضع الإجماع، وما يحتاج إليه من لغة العرب، وأصول الفقه وقواعده وقواعد الاستنباط، والناسخ والمنسوخ، والعلم بحال الرواة ونحو ذلك، مع الأخذ بالاعتبار اختلاف حاجات المسائل وتنوعها (1) فقد يشترط في مسألة ما هذه الشروط جميعا، بل وغيرها كالحساب أو الطب أو نحوهما، وقد لا يشترط في مسألة أخرى إلا بعض الشروط.
وثمة شرطان مهمان ينبغي أن يشترطا للنظر في أي مسألة، وهما: العدالة، وفقه النفس، فإذا توفرا نظر في بقية الشروط، وإلا فلا. والله أعلم.
مسألة تجزؤ الاجتهاد (2)
معنى تجزؤ الاجتهاد أي انقسامه، أي جواز حصوله من المجتهد في باب من أبواب الفقه، كباب المواريث دون سائر الأبواب، أو في مسألة من مسائل الفقه دون غيرها كمسألة بيع ما لا يملك.
جمهور العلماء على جواز ذلك، وإن كان حصول الاجتهاد في مسألة واحدة مما يبعد تصور وقوعه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (3)
__________
(1) انظر المستصفى (2\353)
(2) انظر لهذه المسألة إرشاد الفحول (254) ، وأصول مذهب الإمام أحمد (629) .
(3) مجموع الفتاوى (20\204)(86/130)
لأن الاجتهاد لا بد له من أدوات عامة تشترط لكل المسائل، كما يشترط فقه النفس، فيبعد أن يحصل له ذلك ثم لا يجتهد إلا في مسألة واحدة.
والقول الآخر في المسألة المنع من التجزؤ، لأنه لا بد للمجتهد أن يكون محيطا بكافة مسائل الدين، وهذا القول قد يقرب من المحال من حيث تعسر هذا الشرط وصعوبة تحصيله، بالإضافة إلى أن واقع علماء الإسلام منذ ظهر إلى الآن يشهد للقول الأول، فهذا مالك بن أنس وغيره من علماء الإسلام يسألون عن عدد من المسائل فيقولون في بعضها: لا ندري، قال ابن فرحون في الديباج المذهب (1) قال الهيثم ابن جبيل: شهدت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين: لا أدري. ولا يمكن أن يقال إن مالكا لم يبلغ رتبة الاجتهاد.
وغرضنا من إيراد هذه النقطة: التنبيه إلى أن اختلاف الآراء فيها من أسباب الاختلاف في مسألة الاجتهاد والتمذهب، فمن منع الاجتهاد وألزم الناس بالتمذهب فقد فعل هذا بناء على أن المجتهد هو المطلق وهذا - في أحد أقوال العلماء - قد انقطع منذ قرون.
ومن أجاز الاجتهاد فبناه على جواز حصوله في بعض
__________
(1) الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب (1\112) .(86/131)
الأبواب وبعض المسائل، وعلى هذا يمكن لبعض العلماء الاجتهاد في إحدى المسائل إذا جمع أدواتها (1)
مسألة انقطاع الاجتهاد:
هذه المسألة أيضا مؤثرة في موضوع التمذهب ولهذه المسألة جانبان.
أحدهما: في الخلاف القائم بين علماء الأصول في خلو العصر من مجتهد.
والآخر: في الدعوة التي أطلقها بعض المتأخرين لإغلاق باب الاجتهاد، وشاعت بين أهل العصور المتأخرة.
وكلا الجانبين من أهم الأسباب التي أدت لقيام الصراع بين أنصار التمذهب ومعارضيه.
فأما الجانب الأول وهو مسألة خلو العصر من مجتهد، فإنها مسألة قديمة الخلاف بين علماء الأمة (2) حيث يقول الجمهور بجواز خلو العصر من المجتهدين، ويقول قوم على رأسهم علماء الحنابلة بمنع ذلك.
ولكلا الفريقين حجج يضيق المقام عنها؛ لأنها ليست من صلب
__________
(1) مجموع الفتاوى (20\204)
(2) انظر للمسألة: إرشاد الفحول (253) ، وأصول مذهب الإمام أحمد (635) .(86/132)
بحثنا، ومعظم هذه الأدلة أخذ بعمومات ومفاهيم للأدلة الشرعية.
والذي عليه جمهور المحققين أن الاجتهاد منصب شريف، وأحد مزايا التشريع الإسلامي التي تملك خاصية الديمومة ومسايرة الحياة، فلا ينبغي أن يفتى بانقطاعه، ولا بد من التنبيه هنا إلى أن هذا الخلاف محصور في المجتهد المطلق، أو ما يسمى بالمستقل، أما المجتهد في دائرة المذهب والاجتهاد الجزئي فلا قائل بانقطاعه.
أما الجانب الثاني من جوانب الموضوع المتعلق بالدعوة إلى إغلاق باب الاجتهاد (1) فقد بدأت هذه الدعوة في القرن الرابع الهجري، ثم أخذت تنتشر في المجتمع المسلم حتى استحكمت في القرن الثامن.
ولعل الدافع الرئيس الذي دعا علماء تلك القرون إلى هذا المسلك، ما رأوه من تسنم قوم دون المستوى المطلوب لرتبة الاجتهاد، بالإضافة إلى تعصب الولاة والعامة للمذاهب، مما جعل كثيرا من الطلاب يقبلون على ما يرغب فيه الولاة من المذاهب، وجعل العلماء يبتعدون عما يثير العامة ضدهم، فضعفت الهمم وكثر الحسد والتعصب بين أرباب العلم، ومع هذا فقد عرف التاريخ من قرع أبواب الاجتهاد وولج غير مبال بلوم لائم، أو حسد حاسد،
__________
(1) انظر كتاب الاجتهاد للأفغاني (91 – 94)(86/133)
كابن تيمية، وابن دقيق العيد، والسيوطي، والشوكاني وغيرهم.
والدعوة إلى سد باب الاجتهاد دعوى لا ينبغي أن تأخذ من بحثنا كثيرا، لأنها مجرد صيحات أطلقها بعض الكسالى من المنتسبين للعلم؛ لرد شر من عجزوا عن مناجزته أو لحفظ مكانتهم العلمية.
لكن الذي ينبغي أن يقف عنده الواقف، إعراض كثير من العلماء عن منصب الاجتهاد خلال أكثر من عشرة قرون، ومن هنا نخلص إلى القول بأنه ليس لمن يرجع إلى هذه الدعوة سبب جمود الفكر الإسلامي خلال عشرة قرون مستمسك، لأن هذه الدعوة ما قال بها إلا شواذ من العلماء نحن مع من يلومهم عليها، لكن المسألة مسألة واقع، فلنقرأ أوراق هذا الواقع ونكشف أسبابه، ثم نبحث عن علاجه، لأننا مع قولنا بعدم انقطاع الاجتهاد، وبإمكان وجود المجتهد المطلق، إذا استعرضنا اثني عشر قرنا لا نجد بعد الأئمة الأربعة من جاء وأثر في حياة المجتمع الإسلامي تأثيرهم، ولا نجد من فرض نفسه على واقع الناس مثلهم إلا ما ندر. والله المستعان.(86/134)
المقدمة الثانية: في التقليد:
درج بعض أهل العلم على إطلاق مصطلح الاتباع بدلا من التقليد فرارا من المعنى الذي تدل عليه هذه الكلمة، لكن لكون مصطلح التقليد هو الشائع في كتب العلماء المتقدمين فلا ضير من(86/134)
استعماله ولو شوش عليه من شوش، وإن مصطلح الاتباع كما سنشير إليه قد يعد مرتبة وسطى فوق التقليد ودون الاجتهاد.
تعريف التقليد لغة:
التقليد لغة: مأخوذ من القلد، وهو تعليق شيء على شيء وليه به، ومنه تقليد البدنة، وذلك أن يعلق في عنقها شيء ليعلم أنها هدي (1) ومن ذلك تقليد ولاة الأمر الولايات.
وسمي تقليد العامي للعالم تقليدا؛ لأنه يجعل أمر دينه في عنق العالم، فالعالم يتحمل تبعة ما قلد فيه (2) أو لأن العامي يجعل قول العالم قلادة في عنقه (3) تسوقه إلى العمل دون دليل، كما أن الدابة يسوقها التقليد إلى ما يراد منها من ذبح ونحوه.
تعريف التقليد اصطلاحا:
عرف الأصوليون التقليد بعبارات عديدة تكاد تتفق في المعنى، والعبارة الشائعة عندهم في ذلك أن التقليد عبارة عن: قبول قول الغير بلا حجة (4)
__________
(1) معجم مقاييس اللغة، مادة: قلد.
(2) إرشاد الفحول (265) .
(3) التعريفات للجرجاني (57) .
(4) المصدر السابق.(86/135)
وقد عرفه ابن همام بتعريف أدق من هذا حين قال في التحرير: بأنه العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة (1)
فالتعبير بقوله: ليس قوله إحدى الحجج، أدق من قول الأول: الغير.
حكم التقليد:
هذه المسألة من المسائل التي يبحثها علماء الأصول، ولكن الباحث يعجب منها حين يرى تباين آراء العلماء فيها، وتعصب كل قوم لرأيهم، ولعل السبب يرجع إلى أن محل الخلاف فيها غير محرر، إذ إن القارئ سيجد كثيرا من النقول عن سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كلها تذم التقليد وتحذر منه، وترمي صاحبه بأشنع الألقاب، لكنه أيضا سيرى أن الأصوليين إذا بحثوا هذه المسألة لا ينسبون الخلاف في جواز التقليد إلا لطائفة من المعتزلة، وهذا ما جعل الشوكاني وغيره يرمي الأصوليين بالتوهم في هذه المسألة، إذ لم ينسبوا منع التقليد إلا لبعض المعتزلة، مع أنه مروي عن عدد لا يحصى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، لذا فهو كما قال: كالإجماع إن لم يكن إجماعا (2) ولعل الشوكاني رحمه الله قد
__________
(1) انظر تيسير التحرير 4\241
(2) إرشاد الفحول (268)(86/136)
فاته أن المسألة عند الأصوليين محصورة في تقليد العامي للعالم، وهي مسألة لا يكاد يخالف فيها أحد سوى قليل من المعتزلة، فمحل النزاع عند الأصوليين محصور، أما عند غيرهم فتتسع دائرته أكثر، ولذا تباينت الآراء فيها.
ولكي يتضح المقام سنعرض هذه المسألة عند الأصوليين، ثم نعرض موقف من منع التقليد من السلف مع توجيه قولهم، ونختم المسألة بخلاصة توضح الصورة للقارئ إن شاء الله تعالى.
محل النزاع في هذه المسألة عند الأصوليين:
يكاد يتفق الأصوليون على أن المجتهد إذا اجتهد في مسألة وأداه اجتهاده إلى حكمها، أنه يجب عليه اتباع هذا الحكم، وليس له اتباع غيره في خلاف هذا الحكم.
أما إذا لم يكن من أهل الاجتهاد فقد اختلف الأصوليون في حكم اتباعه، وهذه النقطة هي أم المسائل التي يبحثها الأصوليون (1) فيدخل في هذه المسألة العامي، كما يدخل فيها كل من لم تتوفر له آلات الاجتهاد في مسألة وإن توفرت له في غيرها بناء على القول بتجزئة الاجتهاد، كما يدخل فيها أيضا من ضاق عليه الوقت ولم يجتهد.
وأبرز آراء العلماء التي يحكيها الأصوليون في هذه المسألة أربعة:
__________
(1) أصول مذهب الإمام أحمد (657) .(86/137)
1- قول الجمهور، وهو أنه يلزمه اتباع المجتهد والأخذ بفتواه.
2- أنه لا يجوز له الاتباع إلا بعد تبين صحة الاجتهاد ودليله.
3- قول الجبائي: يجوز في مسائل الاجتهاد دون ما يظهر، كالعبادات الخمس (1)
3- ما قاله بعض القدرية من وجوب النظر على العامة مطلقا (2) ومرد هذه الأقوال الأربعة إلى قولين جواز التقليد ومنعه؛ لأن القولين الثاني والثالث يرجعان إلى الأول.
أما الثاني فلأن معرفة العامي للدليل لا يخرجه عن التقليد، لأن العامي في الغالب لا يدرك طريقة أخذ الحكم من الدليل، بالإضافة إلى أن بعض العلماء قالوا إن المفتي لا يطالب ببيان الدليل، ولا يلزم العامي طلبه والسؤال عنه، كما سنرى في آخر البحث إن شاء الله تعالى.
وأما القول الثالث فإننا سنعرف أيضا أن العامي وغيره متى علم حكما شرعيا واستقل بمعرفته، وجب عليه العمل به ولم يقلد فيه أحدا فلا ريب أن من علم وجوب الصلاة والصوم ونحوهما لا يجب عليه أن يقلد غيره فيها، وقد نبه إلى هذا أبو الخطاب وغيره
__________
(1) المصدر السابق
(2) روضة الناظر لابن قدامة (383)(86/138)
من محققي العلماء، وقالوا: إن ما علم من الدين بالضرورة لا يجب على العامي التقليد فيه (1) بقي أن نلقي نظرة على أدلة مجيزي التقليد وأدلة ما نعيه ليكمل لنا تصور المسألة.
أدلة مجيزي التقليد:
استدل مجيزو التقليد بأدلة منها:
1- قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) ، فالآية صريحة في إيجاب سؤال أهل الذكر على من لا يعلم.
2- إجماع الصحابة ومن بعدهم على جواز استفتاء العامة للمجتهدين وتقليدهم بالعمل بما يفتون به.
3- أن العامي متعبد بالشريعة وأحكامها، ولو قيل بوجوب النظر والاجتهاد للزم الحرج على عامة الناس، بتفرغهم لذلك وتعطيل مصالحهم الضرورية وأمور معاشهم، وقد نفى الله الحرج، ولم يكلف العباد ما يشق عليهم، فكان حكم العامي التقليد.
4- أن إيجاب الاجتهاد على كل أحد غلو وإفراط وإنكار
__________
(1) المصدر السابق (384)
(2) سورة النحل الآية 43(86/139)
للبدهيات، فليس كل المسلمين مؤهلا لذلك، لا من حيث القدرات العقلية، ولا من حيث الوقت، إذ يحتاج الأمر إلى سنين عديدة يتفرغ فيها المكلف لإثبات الأدلة الشرعية بالنقول الموثقة، ثم الاجتهاد فيها، وبخاصة عند التعارض أو خفاء دلالتها (1)
أدلة منكري التقليد:
أما منكرو التقليد فاستدلوا بأدلة منها:
1- ما ورد من النصوص التي تنهى عن القول على الله بغير علم، كقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2) ، والاعتماد على التقليد قول بلا علم، فكان منهيا عنه.
2- ما ورد من نصوص تفيد وجوب طلب العلم على جميع المسلمين، كقوله صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم (3) » 3- أن المجتهد قد يخطئ وقد يكذب، فكيف يؤمر المقلد باتباع الخطأ والكذب.
__________
(1) القول المفيد للشوكاني (20 و35)
(2) سورة البقرة الآية 169
(3) أخرجه أبو داود عن أنس برقم (224) .(86/140)
4- الأدلة الكثيرة التي تنهى عن تقليد الآباء والرؤساء، مما ذم الله عليه الكفار كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (1) {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (2) {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (3) .
قالوا: وقد احتج بهذه الآيات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها؛ لأن التشبيه لم يقع من جهة الكفر والإيمان، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين من حيث إنه تقليد بغير حجة للمقلد، وإن اختلفت الآثام فيه (4)
وقد جرت بين الفريقين مجادلات ومحاورات يقصر المقام عنها، غير أن ذا البصيرة لا يخفى عليه ما في أدلة المانعين من ضعف إذا أريد بها منع تقليد العامي للعالم، لأنه لم يقل على الله بغير علم، فأصل عمله فتوى المجتهد التي هي حكم الله، ثم إن استفتاءه للمجتهد من طلب العلم، أما الخطأ والكذب المحتملان فلا يمنعان
__________
(1) سورة الزخرف الآية 23
(2) سورة الزخرف الآية 24
(3) سورة الزخرف الآية 25
(4) القول السديد للشنقيطي (12) والقول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد للشوكاني (59) وما بعدها.(86/141)
من قبول الفتوى، إذ لو فتح هذا الباب لم يقبل حكم القاضي ولا شهادة الشهود ولا غير ذلك.
أما أدلة النهي عن التقليد: فإن سلمت حملت على ما يعارض نصا صريحا أو قاعدة شرعية عامة والله أعلم.
نظرة إلى ما ورد عن السلف من نهي عن التقليد:
إن الناظر في بعض كتب السلف رحمهم الله وما ورد عنهم من آثار، يجد أن فيها حملة شديدة على التقليد، ودعوة إلى نبذه والبعد عنه، سواء في ذلك الأئمة الأربعة، أو حتى غيرهم من كبار الصحابة والتابعين، ومن ذلك مثلا: ما روي عن ابن مسعود من قوله: (ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر) ، ومنه ما روي عن ربيعة أنه بكى، فلما سئل: ما يبكيك؟ قال: (رياء ظاهر، وشهوة خفية، والناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم، ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروا به ائتمروا) ، ومنها قول عبيد الله بن المعتز: (لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد) (1)
وقول الشافعي: (إنه لا يلزم قول رجل إلا بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم) ، وقول مالك: (ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك) ، وقول أبي حنيفة: (لا يحل لأحد يأخذ بقولنا حتى يعلم
__________
(1) انظر جامع بيان العلم لابن عبد البر (2\114) .(86/142)
من أين أخذناه) ، وقول الإمام أحمد: (لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا) (1) وغير ذلك مما ورد عن السلف رحمهم الله.
إن من يقولون بمنع التقليد اتخذوا من هذه الأقوال حجة قوية لمنع التقليد ولزوم الاجتهاد، ولا ريب في خطأ هذا الصنيع، لأن هذه النصوص ونحوها لا يمكن أن يقصد بها سوى غير العامة من طلاب العلم الذين لهم يد في الخوض في مسائل العلم، ولقد أراحنا الإمام ابن عبد البر رحمه الله في هذا المقام حيث قال بعد أن ساق نصوصا عديدة عن الأئمة: (وهذا كله لغير العامة، فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة، لأنها لا تتبين موقع الحجة، ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) (3) وقد طرد ابن عبد البر حكم العامة حتى شمل من عجز عن الوصول إلى الحكم من طلاب العلم، قال: (فإن اضطر أحد إلى استعمال شيء من ذلك في خاصة نفسه جاز له ما يجوز للعامة من
__________
(1) انظر: المذهبية المتعصبة هي البدعة لمحمد عيد عباسي (55، 56) .
(2) سورة النحل الآية 43
(3) جامع البيان (2\114، 115) .(86/143)
التقليد) (1) فتبين أن المقصود بذم الأئمة رحمهم الله طالب العلم القادر على معرفة النصوص واستنباط الحكم منها، وقد ذكر الدهلوي في الإنصاف بعض الاحتمالات التي يمكن أن يحمل عليها كلام الأئمة ونصوصهم في ذم التقليد وهي:
1- أنها تحمل على من له ضرب من الاجتهاد ولو في مسألة واحدة.
2- أنها تحمل على من ظهر له ظهورا بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكذا أو نهى عن كذا، وأنه ليس بمنسوخ.
3- أنها تحمل على من يكون عاميا ويقلد رجلا من الفقهاء بعينه يرى أن يمتنع عن مثله الخطأ، وأن ما قاله هو الصواب البتة، وأضمر في قلبه ألا يترك تقليده وإن ظهر الدليل على خلافه.
4- أنها تحمل على من لا يجوز استفتاء الحنفي للشافعي ونحوه (2)
هذا ما ذكره الدهلوي من احتمالات، ولا يرتاب عاقل أن الأئمة ما عنوا العامي ونحوه ممن لا يستطيع أن يأخذ الحكم من
__________
(1) المصدر السابق (2\81) .
(2) الإنصاف (99-101) .(86/144)
مصادره، بل لا بد له من معرف ودال على الحكم، وعبارات العلماء في جواز ذلك للعامي لا تحصى، فمنها ما قاله الشاطبي في آخر ما وجد من كتاب الاعتصام حيث قال: (وإذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال، فالحق أيضا لا يعرف دون وسطائهم، بل بهم يتوصل إليه، وهم الأدلاء على طريقه) (1) ويقول أيضا في الكتاب نفسه: (وإذا كان مقلدا صرفا خليا من العلم الحاكم جملة، فلا بد له من قائد يقوده وحاكم يحكم عليه وعالم يقتدي به) (2)
ومن هذه العبارات ما قاله الإمام ابن تيمية في المسودة: (فيلزم المقلد ما كان في ذلك القول من خير وشر) (3) ويقول رحمه الله: (الناس في الاستدلال والتقليد على طرفي نقيض، منهم من يوجب الاستدلال حتى في المسائل الدقيقة أصولها وفروعها على كل أحد، ومنهم من يحرم الاستدلال الدقيق على كل أحد، وهذا في الأصول والفروع، وخيار الأمور أوسطها) (4)
__________
(1) الاعتصام (2\326)
(2) الاعتصام (2\343)
(3) المسودة (52)
(4) مجموع الفتاوى (20\18) .(86/145)
ويقول رحمه الله أيضا في هذا المقام: (الذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة، والتقليد جائز في الجملة، وأن الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد، فأما القادر على الاجتهاد فهل يجوز له التقليد؟ هذا فيه خلاف، والصحيح أنه يجوز، حيث عجز عن الاجتهاد إما لتكافؤ الأدلة، وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد، وإما لعدم ظهور دليل له، فإنه حيث عجز سقط عنه وجوبا ما عجز عنه وانتقل إلى بدله وهو التقليد، كما لو عجز عن الطهارة بالماء، وكذلك العامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل جاز له الاجتهاد، فإن الاجتهاد منصب يقبل التجزؤ والانقسام، فالعبرة بالقدرة والعجز) . اهـ (1) وهذا العلامة ابن القيم الذي شن حملة على المقلدين في كتابه: إعلام الموقعين، تجاوزت مائتي صفحة، يصرح في بداية بحثه بانقسام التقليد إلى أقسام، فيقول:
(ذكر تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب) اهـ (2) ثم استطرد رحمه الله في القسم الممنوع ولم يذكر
__________
(1) مجموع الفتاوى (20\204)
(2) إعلام الموقعين (2\187) .(86/146)
القسم الواجب والجائز.
والعز بن عبد السلام بين أيضا في كتابه قواعد الأحكام: (أن وظيفة العامي التقليد، لعجزه عن التوصل إلى معرفة الأحكام بالاجتهاد) (1)
فهذه آراء بعض جهابذة العلم، وإن كانت المسألة واضحة لا تحتاج كل هذا الاستطراد، ولكن انبناء ما بعدها عليها دعاني إلى التركيز عليها.
وبقيت نقطة هامة تتعلق بهذه المسألة وهي ضوابط التقليد، حيث إن العلماء الذين أجازوا التقليد جعلوا له ضوابط يجب على المقلد مراعاتها في أثناء تقليده.
ولعل أهم هذه الضوابط ما أشار إليه الشاطبي في الاعتصام حيث قال: (ومعلوم أنه لا يقتدي به إلا من حيث هو عالم بالعلم الحاكم. . . . . . لا من جهة كونه فلانا، وهذه الجملة لا يسع الخلاف فيها عقلا ولا شرعا) (2) فأهم نقطة ينبغي للمقلد أن ينتبه إليها أنه لا يقلد هذا العالم لكونه على مذهبه، أو لشهرته، أو غير ذلك، بل لأنه دليله إلى حكم الله تعالى.
__________
(1) قواعد الأحكام (2\135)
(2) الاعتصام (2\343) .(86/147)
ولذلك يزيد الشاطبي المسألة وضوحا فيقول: (وينبغي ألا يصمم على تقليد من تبين له في تقليده الخطأ شرعا، فإذا تبين له في بعض مسائل متنوعة الخطأ والرجوع عن صوب العلم الحاكم، فلا يتعصب لمتبوعه بالتمادي على اتباعه فيما ظهر فيه خطؤه، لأن تعصبه يؤدي إلى مخالفة الشرع أولا، ثم مخالفة متبوعه. . . لخروجه عن شرط الاتباع؛ لأن كل عالم يصرح أو يعرض بأن اتباعه إنما يكون على شرط أنه حاكم بالشريعة لا بغيرها) (1) فالخلاصة أن التقليد جائز في الشريعة، وأن المقلد إنما يقلد العالم؛ لأنه دليله إلى حكم الله، ثم أيضا يجب عليه ألا يصر على تقليده إذا تبين له خطؤه، أو ترجح عنده غيره؛ لأن المجتهد بالنسبة للعامي بمثابة الدليل الظني إذا عورض بأقوى منه سقط، وقد أكد هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (وأما تقليد العالم حيث يجوز، فهو بمنزلة اتباع الأدلة المتغلبة على الظن، كخبر الواحد والقياس، لأن المقلد يغلب على ظنه إصابة العالم المجتهد، كما يغلب على ظنه صدق المخبر) (2) فإذا تيقن المقلدون هذه الأمور والتزموا بهذه الآداب، سار
__________
(1) الاعتصام (2\345)
(2) مجموع الفتاوى (20\17)(86/148)
التقليد سلسا طبيعيا، كما كان عليه في القرون المفضلة، أما إذا غلب عليهم التعصب والمشاحنة والتحاسد والبغضاء، فإن التقليد يفقد وظيفته السامية، حيث جعله الإسلام طريقا للعامة لمعرفة الأحكام، لا وسيلة لتجزئة الإسلام.
وبعد أن اتفق جماهير العلماء على التقليد وجوازه برز فرع آخر وهو تقليد المعين الذي تبنى عليه مسألة التمذهب، وقد كثر الخلاف فيها وتشعب، وهي كما تعلم المقصود من هذا البحث، فلنشرع مستعينين بالله في عرض ما يتعلق بهذه المسألة.(86/149)
مسألة التمذهب:
هذه المسألة هي لب البحث، بل هي المقصودة به، وأما ما مضى فهو عبارة عن مقدمات لتوضيح بعض جوانب المسالة وخلفية الخلاف فيها.
وقبل أن نبدأ في تفصيل هذه المسألة أنبه إلى أمرين:
الأول: أن الخلاف في هذه المسألة وإن كان من آثار الخلاف في مسألة التقليد فهو لا يبنى على الخلاف فيها انبناء مطلقا؛ لأن جمعا ممن قال بالتقليد منع التمذهب.
الثاني: أن معظم من منع التقليد إنما منعه على غير العامة، أما العامة فيجوز لهم التقليد إلا في قول بينا ضعفه، وأما التمذهب فيمنع(86/149)
من قال بمنعه العامة وغيرهم من التمسك به، لأنه كما يقولون حصر للتقليد وتحديد له بغير دليل، كما سنعرف ذلك مفصلا في ثنايا المسألة إن شاء الله تعالى.
تعريف التمذهب واللامذهبية:
هاتان الكلمتان ترجعان إلى فعل ثلاثي هو: "ذهب" بمعنى مضى (1) وفي القاموس: (المذهب: المتوضأ والمعتقد الذي يذهب إليه والطريقة والأصل) اهـ (2) وقال صاحب المصباح: (ذهب مذهب فلان: قصد قصده وطريقته وذهب في الدين مذهبا رأى فيه رأيا) . اهـ (3)
وقال الحطاب: (المذهب لغة: الطريق ومكان الذهاب، ثم صار عند الفقهاء حقيقة عرفية فيما ذهب إليه إمام من الأئمة من الأحكام الاجتهادية) (4) ومما مر يتبين أن معنى اللامذهبية هي عدم سلوك طريق أي إمام من الأئمة المجتهدين، والاستقلال بمعرفة الأحكام.
كما تبين أن معنى التمذهب: اتباع أحد هؤلاء الأئمة.
__________
(1) معجم مقاييس اللغة لابن فارس، مادة ''ذهب''
(2) القاموس المحيط مادة ''ذهب''
(3) المصباح المنير مادة ''ذهب''
(4) القول السديد للشنقيطي (5)(86/150)
والنقطة التي دار فيها الإشكال أن من قلد عددا من العلماء في مسائل عدة كلا منهم في مسألة هل يعد متمذهبا؟
أنصار التمذهب يرون أنه متمذهب؛ لأنه تبع مذهب كل منهم فيما تابعه فيه، كما قرر ذلك الدكتور البوطي في رسالته حول هذا الموضوع (1)
أما أنصار اللامذهبية فيقولون: ليس بمتمذهب؛ لأن التمذهب سلوك طريق واحدة ومذهب واحد لا يحيد عنه سالكه، فلو كان فاعل هذه المسألة متمذهبا، لم يعد هناك أحد لم يتمذهب.
والقول الحسن في هذا أن اللغة لا تمنع من إطلاق التمذهب على هذه الحالة، لكن العرف الفقهي عند العلماء قيدها بالتزام مذهب واحد، كما قال الحطاب، أما إذا لم يتبع أحدا بعينه في كل أقواله فإنه لا يكون ملتزما بمذهب، وعلى هذا فلا يكون متمذهبا. والله أعلم.
__________
(1) اللامذهبية (11)(86/151)
نشأة التقليد والتمذهب وتطورهما (1)
يمكن أن يقال: إن التقليد قد وجد مع وجود البشر على هذه
__________
(1) انظر لهذا: تاريخ المذاهب لأبي زهرة (301) وما بعدها، والاجتهاد للأيوبي (147)(86/151)
الأرض، فالأبناء يقلدون الآباء، والصغار يقلدون الكبار في أخلاقهم وعاداتهم وطرق حياتهم.
ولما جاء الإسلام وعرفت الأحكام كان من بين الناس في القرون المفضلة مقلدون يأخذون الأحكام وما يتعلق بها من علمائهم، ويسألونهم عما يعرض لهم، والمحفوظ من فتاوى الصحابة والتابعين شاهد على هذا الأمر الذي لا مجال فيه للشك فضلا عن الإنكار.
ولما كثر الإقبال على تعلم العلم، وانصرف عدد من الناس إلى الاهتمام به ودراسته، برز جمع من العلماء ممن بلغوا في العلم منزلة عالية، فتصدروا للتدريس والإفتاء، فقصدهم الطلاب والتفوا حولهم، وأخذوا ينهلون من موردهم ويقيدون ما يأخذونه عنهم، حتى إذا ذهب الجيل الأول أخذ الجيل الثاني - جيل التلاميذ - مكان الصدارة، وكان من الطبيعي أن ينهج كل تلميذ منهج شيخه وطريقته في التأصيل والتفريع غالبا، وكان من الطبيعي أيضا أن يستشهد بأقوال شيخه ويوليها اهتماما في تدريسه، وذلك لما لشيخه من المكانة في قلبه، إضافة إلى ذلك فإن الإنسان يألف الأفكار والتصورات التي تأتيه ابتداء ويطمئن لها ويعتقد صحتها، خصوصا إذا جاءته من ثقة عنده، فيسخر جميع إمكاناته لتأييدها ونصرها ورد ما يخالفها.(86/152)
ولعل في واقعنا ما يقارب هذا المسلك، فإنك ترى الجماعات الإسلامية وضعت لها هدفا محددا هو الدعوة إلى الله وقد اتخذت كل جماعة منها منهجا رأته الصواب، فهي تؤيده وتدافع عنه، حتى حدث بسبب ذلك صراع بينها ومشاحنات مع أنها تدعو إلى هدف واحد.
كذلك مشجعو الكرة، فإن الفرد منهم إذا ما ألف فريقا معينا اشتد حماسه له، حتى يصل الحد ببعضهم إلى المعاداة والموالاة في الكرة، وهي أمر دنيوي تافه، فكيف بأمور الدين التي هي أساس ما لدى المسلم؟ .
ولذلك فإن تلاميذ هؤلاء الأئمة ألفوهم، فاتبعوهم، ثم اتبع هؤلاء تلاميذهم، وهكذا تسلسل الاتباع جيلا بعد جيل، كلما جاء جيل جديد قوى اتباع ما قبله، فكان القدم يضفي على أقوال السابقين نوعا من التقدير، حتى شاع بين الناس ما يعرف بالتمذهب، وهو اتباع كل فئة من المسلمين مذهبا من المذاهب الأربعة المعروفة اليوم، فاندرس ما عداها من المدارس الفقهية، أو قل أتباعه جدا، وأصبح أرباب كل مذهب يدرسون الأحكام على ضوء ما سطره علماؤهم السابقون، ويقرون ذلك ويرجحونه، ويضعفون ما سواه، حتى جاء عصر لم يعد فيه للعلماء أثر من حيث إضافة شيء جديد، بل غلب عليهم دراسة كتب السابقين وشرحها واختصارها والدفاع عنها(86/153)
بالتأليف والمناظرات.
وهذا الواقع الذي لا يستطيع الباحث إنكاره، بل يقف أمامه مشدوها بتساؤل: كيف ركن علماء أجلاء فطاحل إلى التمذهب والتقليد واستساغوه؟
وللإجابة عن هذا السؤال أعرض هذه النقاط:
أولا: لم يكن علماء المذاهب - بل لم يكن علماء المذهب الواحد - على قدر واحد من حيث التقليد والتمذهب، بل كان هذا الأمر فيهم على مراتب، أدناها الانتماء المجرد، وأعلاها التعصب المقيت وتحريم الصلاة خلف المخالف للمذهب، ولبيان ذلك أقول: إن المذهب الواحد ينسب إليه عدة طبقات، يختلف تناولهم للمذهب من طبقة إلى طبقة، ومن فرد إلى فرد، ولنضرب لذلك مثلا:
فالإمام أحمد رحمه الله يفتخر به الحنابلة ويوردون أقواله على أنها آراء مذهب الحنابلة، فهي من المذهب وهو إمام المذهب.
وتلاميذ الإمام يأخذ علماء المذهب اختياراتهم وترجيحاتهم بين الروايات على أنها من مذهب الحنابلة، وعلى أنهم أئمة الحنابلة.
ثم هناك فئة تابعت الإمام في أصوله وخرجت عليها فروعا، فما خرجوه يعده الحنابلة المتأخرون من مذهبهم، ويصنفون هؤلاء العلماء مع الحنابلة، وفئة أخرى تابعت الإمام ومتقدمي الأصحاب(86/154)
في بعض الفروع، وانفردوا بفروع أخرى، فنسب الجميع إلى المذهب، وإن كانت هذه الفئة لم تصرح بالانتساب إلى المذهب.
ثم إن هناك فئة انتمت انتماء إلى المذهب مع قولها بفروع عديدة مخالفة لما في المذهب، فكما رأيت فإن هذه الفئات كلها نسبت للمذهب، مع أنها في التحقيق لم تلتزم بالمذهب، مما يجعلنا نقول: إن التزام المتقدمين بالمذهب إنما هو التزام انتساب وولاء بحكم تعلمهم وبداية تحصيلهم على هذا المذهب، قال ابن الجوزي رحمه الله: (فأما المجتهد من أصحابه فإنه تتبع دليله من غير تقليد له، ولهذا يميل إلى إحدى الروايتين عنه دون الأخرى، وربما اختار ما ليس في المذهب أصلا، لأنه تابع للدليل، وإنما ينسب إلى عموم مذهبه لميله لعموم أقواله) . اهـ (1)
وقال ابن بدران الدمشقي: (المراد باختيار مذهبه إنما هو السلوك على طريقة أصوله في استنباط الأحكام، وإن شئت قل السلوك في طريق الاجتهاد مسلكه دون مسلك غيره على الطريقة التي سنبينها فيما بعد إن شاء الله تعالى، وأما التقليد في الفروع فإنه يترفع عنه كل من له ذكاء وفطنة وقدرة على تأليف الدليل
__________
(1) المدخل لابن بدران (39)(86/155)
ومعرفته ... الخ) (1)
قلت: وهذا هو الصواب إن شاء الله في هذا المقام، فإن ابن حامد وأبا يعلى وأبا الخطاب والموفق وابن تيمية وأضرابهم من الحنابلة لا يمكن أن يكونوا مقلدين بكل ما نفهمه من كلمة تقليد، وهناك أمثالهم من المذاهب الأخرى، كأبي بكر الباقلاني وابن عبد البر من المالكية، وكالشيرازي والجويني والغزالي من الشافعية، وكالسرخسي والنسفي وابن همام من الحنفية.
ويؤيد ما ذهبنا إليه هنا ما قاله ابن عبد البر في مقدمة كتابه: الكافي، حيث قال: (اعتمدت فيه على علم أهل المدينة، وسلكت فيه مسلك مذهب الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس رحمه الله) (2)
فينبغي أن يتنبه الباحث لهذه الحقيقة، بل أن يبحث باحثون كيف تدرج التمذهب من التتلمذ إلى الانتماء إلى الاتباع إلى التقليد إلى التعصب، ولعلي فيما بقي من نقاط هذا البحث آتي بشيء يضيف فائدة إلى هذه المسألة.
ثانيا: إن مما مكن لشيوع التمذهب في بدايته وتمكنه من علماء المذاهب وحماس علماء كل مذهب لمذهبهم أمرين:
__________
(1) المصدر السابق (40)
(2) مقدمة كتاب الكافي لابن عبد البر(86/156)
الأول سياسي: حيث تبنت الدولة العباسية مدرسة الرأي التي يمثلها الحنفية، وقربت رجالها، فكانوا يولون القضاء والمناصب الدينية لمن هو على منهجهم، ولذا توجه كثير من الطلاب لدراسة هذا المذهب رغبة في الفوز بالمناصب، كما دعا هذا الصنيع الفريق المقابل وأبرزهم الشافعية إلى التعصب لمذهبهم ومحاولة الدعوة إليه والدفاع عنه، وهكذا نشأت بذرة التمذهب، وقد كان للمالكية في المغرب المهمة نفسها التي قام بها الحنفية في المشرق، حيث نصر مذهبهم بالأندلس هشام بن عبد الرحمن بن معاوية. (1)
والأمر الثاني عقدي: ذلك أن الحنابلة - في الجملة- كانوا يتبنون المذهب السلفي في الصفات وبعض العقائد التي يخالفهم فيها الأشاعرة والمعتزلة، وهذا جعل أرباب المذاهب الأخرى يتعصبون ضدهم ويحاربون مذهبهم، فكان رد الفعل من الحنابلة التعصب لمذهبهم والدعوة إليه والرد على مخالفيه، وقد حدث بسبب ذلك عدة فتن في عدد من البلدان الإسلامية، كان أغلب من يثيرها العامة من الحنابلة وغيرهم.
ثالثا: مما مكن للتمذهب بل لاختفاء الاجتهاد خصوصا فيما بعد القرن الخامس، إحجام كثير من العلماء عن الاجتهاد، إما رغبة في
__________
(1) ترتيب المدارك لعياض (1\15)(86/157)
مطمع دنيوي، أو رهبة وخوفا من الحاسدين والأعداء العامة، ومما يوضح هذا أن أبا زرعة سأله شيخه البلقيني قائلا: ما تقصير تقي الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل آلته؟ فسكت البلقيني، فقال أبو زرعة: فما عندي أن الامتناع عن ذلك إلا للوظائف التي قد رتبت للفقهاء الأربعة على المذاهب الأربعة، وإن من خرج عن ذلك لم ينله شيء من ذلك، وحرم القضاء وامتنع الناس عن استفتائه، ونسبت إليه البدعة. فتبسم البلقيني ووافقه على ذلك. (1)
__________
(1) الاجتهاد للأيوبي (152)(86/158)
واقعنا الذي نعيشه والآراء في هذه المسألة: (1)
تعتبر مسألة التمذهب من المسائل القديمة الجديدة، فهي وإن كانت قد بحثت قديما منذ ظهور المذاهب، إلا أنها لا تزال في قائمة المسائل المهمة التي يكثر حولها الجدال، والناظر إلى واقعنا يجد أن المسلمين ينقسمون حيال هذه المسألة إلى ثلاث فئات هي:
الفئة الأولى: طائفة من المنتسبين لأهل الحديث يريدون اطراح المذاهب والعودة بالناس إلى الكتاب والسنة، وهم لا يطالبون بهذه الفكرة دفعة واحدة، وإنما يطالبون بأن يتفقه الناس عبر المذاهب بعيدا عن التعصب، ثم توحد المذاهب ويطرح غثها، ثم
__________
(1) انظر الاجتهاد للقرضاوي (147) .(86/158)
يرجع بالناس إلى الكتاب والسنة مباشرة (1) لكن بعضهم في أثناء حماس المناقشات ينسون هذا التدرج، ويحملون على المذاهب جملة وتفصيلا، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
الفئة الثانية: المذهبيون وهم علماء كثر، كان أغلب من دعا للفكرة منهم في القرن الماضي الشيخ محمد الحامد وأضرابه، وهؤلاء يدعون إلى وجوب اتباع المذاهب حسما للفوضى الدينية، كما يقول عنوان رسالة للشيخ محمد الحامد في هذا الشأن، ولعله أبرز من مثل هذا المنهج في هذا العصر، ولا بأس بعرض بعض أفكاره من تلك الرسالة لكي تتضح الفكرة:
يقول: والذي علينا علمه والعمل به هو ما قرره فقهاؤنا رحمهم الله تعالى من أن الاجتهاد المطلق في الأحكام ممنوع بعد أن مضت أربعمائة سنة من هجرة مولانا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
ويقول: نعم قد تعرض بعض الحوادث في زماننا هذا مما لا يعهده الناس من قبل، فيتشوفون إلى معرفة أحكامها، والمخلص من الحيرة هو النظر في فروع الفقه وقواعده الكلية، فإنه كفيل بتعريفنا بحكم الجديد من هذه الحوادث، على أنه لا مانع من الاجتهاد
__________
(1) ملحق كتاب المذهبية للعباسي (112)
(2) ص9(86/159)
للتعرف على أحكام جزئية فردية طارئة ... الخ. (1)
ويقول رحمه الله: وبعد فنحن ملتزمون مذاهبنا فيما عدا الحوادث الفاذة، ولسنا مجتهدين حتى نفتي من الأحاديث الشريفة ابتداء. اهـ (2)
أقول: وهذه الفئة - أعني المتمذهبين- هي الشائعة في العالم الإسلامي في غربه وشرقه، وأغلبهم من العامة، أو من العلماء الذين لم ينالوا حظا كبيرا من العلم، أو لم يدرسوا العلم بطريقته الحديثة في المدارس والجامعات، أو غلبت عليهم عاطفة المذهب فتحرجوا من خلافها.
ولعلي قبل أن أترك هذا الفريق أبين أن هذا القول هو أحد الوجهين للحنابلة والشافعية، كما ذكر ذلك الإمام ابن تيمية في الفتاوى، غير أنه قال: (إن الجمهور منهم لا يوجبون ذلك، والذين يوجبونه يقولون: إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه ما دام ملتزما، أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه (3)
وتتبين نظرة الحنابلة من كلام ابن حمدان في أثناء حديثه عن
__________
(1) ص12
(2) ص13
(3) مجموع الفتاوى (20\222) .(86/160)
مذاهب الحنابلة في هذه المسألة، فهو يقول: (والثاني يلزمه ذلك - أي التمذهب - لأنه لو جاز له اتباع أي مذهب شاء لأفضى ذلك إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعا هواه ... الخ) . (1)
وكلام ابن حمدان هذا يمثل أيضا نظرة الشافعية الموجبين للالتزام إلى هذه المسألة، لأن أصل هذا الكلام لابن الصلاح في أدب المفتي (2) وقد نقله عنه النووي وصدره بقوله: (فعلى هذا يلزمه أن يجتهد في اختيار مذهب يقلده على التعيين) . (3)
وقد نسب صاحب تيسير التحرير إلى ابن الصلاح نقل الإجماع على عدم تقليد غير الأئمة الأربعة، وقبله قال الجويني في البرهان: (أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة رضي الله عنهم، بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب، وذكروا أوضاع المسائل، وتعرضوا لمذاهب الأولين) . (4)
وقال أحد متأخري مذهب المالكية: (قد منع جميع العلماء اتباع
__________
(1) صفة الفتوى لابن حمدان (72) .
(2) ص162
(3) المجموع (1\55)
(4) البرهان (3\1146)(86/161)
مذاهب غير الأئمة الأربعة من القرن الثامن الذي انقرض فيه مذهب داود إلى هذا الزمان، سواء كان اتباع التزام أو مجرد تقليد) (1)
وإنما سقت لك هذه الأقوال والنقول لتعلم أن فكرة إيجاب التمذهب شائعة بين الفقهاء، حتى لا تقول إنك هونت من هذه الفكرة وحقرت شأنها، ولم تنسبها إلا إلى شرذمة قليلة من أتباع المذاهب.
ولعلي أزيد الأمر إيضاحا فأقول: إن العلماء رحمهم الله يطلقون القول بوجوب التمذهب على من لم يبلغ رتبة الاجتهاد، ولكنهم لا يتفقون على ما نفهمه من هذه الكلمة من كون المقلد يجب عليه أن يلتزم مذهبا لا يحيد عنه قدر أنملة، وإنما لهم في ذلك إطلاقات نذكر منها من باب التمثيل ما يلي:
1- أنهم قد يقصدون بوجوب التمذهب وجوب التقليد عموما، وهذا لا ينازع أحد في وجوبه على العامة.
2- قد يريدون عدم تقليد الصحابة والتابعين، وحصر التقليد فيمن نقلت أقوالهم وضبطت؛ لأن العامي قد لا يفهم ما يريده الصحابي، فيحمله على غير محمله، أو يكون قول الصحابي منسوخا أو مجمعا على خلافه، ولعل عبارة صاحب البرهان موحية بهذا.
__________
(1) الاجتهاد للأفغاني (93)(86/162)
3- أنهم قد يريدون بالتمذهب الانتماء للمذهب مع جواز تركه إذا ترجح غيره، ويدل عليه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية السابق، وعليه أيضا يحمل قول ابن حمدان وابن الصلاح وأضرابهم من كبار العلماء، فقد سئل الإمام ابن تيمية عن معنى قول ابن حمدان: (من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل ولا تقليد أو عذر آخر) ، فأجاب: (هذا يراد به شيئان: أحدهما أن من التزم مذهبا معينا ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله، فإنه يكون متبعا لهواه وعاملا بغير اجتهاد ولا تقليد، فاعلا للمحرم بغير عذر شرعي، فهذا منكر......
وهنا مسألة ثانية قد يظن أنه أرادها ولم يردها، لكنا نتكلم عليها على تقدير إرادتها، وهو أن من التزم مذهبا لم يكن له أن ينتقل عنه...... ولا ريب أن التزام الناس المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني فهذا مما لا يحمد عليه بل يذم عليه في نفس الأمر....... وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني...... فهو مثاب على ذلك بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله(86/163)
في أمر أن لا يعدل عنه) . (1)
4- قد يريدون به أخيرا كل ما تدل عليه الكلمة من معنى من إيجاب الالتزام بالمذاهب وعدم الحياد عنها ونحو ذلك، وللأسف إن هذا المعنى غلب على العامة ومتوسطي طلاب العلم وذوي العاطفة المذهبية وبخاصة في العصور الأخيرة وهو يمثل الواقع أكثر من تمثيله الفكر.
الفئة الثالثة: فئة متوسطة بين الفريقين يرون أن أهل المذاهب ومن يلتزم بها على حق وفي خير، ومن تركها وأعرض عنها والتمس لنفسه طريقا آخر في حدود الشرع فهو كذلك.
وأغلب هذه الفئة تنتسب إلى المذاهب لكنها لا تلزم نفسها بكل ما في مذهبها، بل إذا رأت ما هو ضعيف في المذهب اعتمدت فيه على غيره.
وكأن هذه الفئة تحاكي فقهاء الأمة وفضلاءها في القرون الماضية ممن سلكوا هذا المنهج وساروا عليه، وبخاصة الإمام ابن تيمية وابن القيم والعز بن عبد السلام وابن دقيق العيد وأضرابهم ممن سبقهم أو تلاهم.
وهذه الفئة اليوم تتمثل في أتباع الدعوات الإصلاحية،
__________
(1) مجموع الفتاوى 20\220-223(86/164)
بالإضافة إلى كثير من طلاب العلم وأساتذته في الجامعات والمدارس الذين اطرحوا التعصب، ولم يزهدوا في المذاهب.
وهذه الآراء الثلاثة هي المطروحة على ساحة الواقع في هذه المسألة، ولعلنا قبل أن ننتقل إلى أدلة كل فئة أعرض بعض النقاط التي ينبغي أن يعرفها الباحث في هذه المسألة، وهي أشبه ما تكون بتحرير محل النزاع من خلال أقوال بعض الخائضين في هذه المسألة.
أولا: يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية: (هناك أمور لا خلاف فيها لا بد من إبعادها عن دائرة البحث في أصل الدعوى الخطيرة) ، ثم عد من هذه الأمور ما يأتي:
1- أن المقلد لأحد هذه المذاهب ليس ثمة ما يلزمه شرعا بالاستمرار في تقليده، وليس ثمة ما يمنعه من التحول عنه إلى غيره.
2- أن المقلد إذا ما تمرس في فهم مسألة من المسائل وتبصر بأدلتها من الكتاب والسنة وأصول الاجتهاد، وجب عليه أن يتحرر من الأخذ بها من مذهب إمامه وحرم عليه التقليد فيها.
3- أن جميع الأئمة الأربعة على حق، ومن هنا فاتباع المقلد(86/165)
لمن شاء منهم اتباع للحق وتمسك بهدي. (1)
ثانيا: دعاة اللامذهبية وأبرزهم الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله محدث الشام وأتباعه، قد صدر لهم كتب ومباحث في كتب، ولعل أبرز كتبهم ما كتبه محمد عيد عباسي بعنوان: المذهبية المتعصبة هي البدعة، أو التعصب المذهبي وآثارها الخطيرة في جمود الفكر وانحطاط المسلمين، وقد شرح المؤلف ما يدعون إليه، وقرره في أكثر من خمسمائة صفحة، وبين أنهم لا ينكرون التقليد على العامة، ولا يطالبونهم بالاجتهاد، وإنما يطلبون الاجتهاد من المشايخ، يقول: (إن موضوع دعوتنا عن الاجتهاد والتقليد بالدرجة الأولى الذين يدعون العلم الآن علماء الدين والمشايخ) (2)
ويحصر الخلاف أيضا بقوله في التقليد: (إنه لا ضرورة لا محيص عنها، وقد أقرها الإسلام بشروط، منها ألا يكون المقلد مستطيعا للاجتهاد أو الاتباع، ومنها: ألا يكون يقلد رأيا بلغه مصادمته للكتاب والسنة، ومنها: ألا يلتزم تقليد مذهب إمام معين، وإنما يقلد من اتفق) . اهـ (3)
__________
(1) اللامذهبية (34- 38) .
(2) المذهبية للعباسي (117)
(3) المذهبية للعباسي (328)(86/166)
ويزيد الكاتب المسألة قربا من الفريق الآخر حين ينقل في ملحق الكتاب عن الشيخ الألباني رحمه الله قوله: (إن الواجب على الناس في زماننا هذا أن يبدؤوا بتعلم الفقه عن طريق أحد المذاهب الأربعة، ويدرسوا الدين من كتبها، ثم يتدرجوا في طريق العلم الصحيح بأن يختاروا كتابا من كتب مذاهبهم، ككتاب المجموع للنووي عند الشافعية وكتاب فتح القدير عند الحنفية، وغيرها من الكتب التي تبين الأدلة وتشرح طريقة الاستنباط، ثم يتركوا كل قول ظهر لهم ضعف دليله وخطأ استنباطه، ثم يتدرجوا خطوة ثالثة بأن ينظروا في كتب المذاهب الأخرى التي تناقش الأدلة أيضا وتبين طريق الاحتجاج بها ويأخذوا من هذه الكتب ما ظهر لهم صحته وصوابه وهكذا) . اهـ (1)
ثم يضيف الكاتب إلى هذا الكلام بعد فقرة: (بأن هذا لا يجوز إلا لمن لم يتوفر له الجو العلمي الصحيح القائم على دراسة الفقه من الكتاب والسنة، وأما من توفر له هذا المناخ الصحي العلمي المناسب، كسلفيي دمشق فلا حاجة لهم إلى ذلك، كما أنه لا بد من بيان أن ما أجزناه من دراسة الفقه عن طريق أحد المذاهب إنما جاز
__________
(1) ملحق المذهبية للعباسي (112)(86/167)
بوصفه مرحلة مؤقتة وفترة انتقالية) . اهـ (1)
ثالثا: أستطيع القول بعد أن استعرضت نماذج من كتابات الفريقين اللذين يدور بينهما الصراع في هذه المسألة في العصر الحاضر إن الخلاف في المسألة يكاد ينحصر في تقليد المعين، حيث ينكره دعاة اللامذهبية، ويقول المذهبيون بجوازه بالإضافة إلى مسائل جزئية كالخلاف في مرتبة الاتباع وطلب الدليل من المفتي، ولعلي أعرض لبعضها في آخر البحث.
أما طلب اللامذهبيين الاجتهاد من المشايخ والمفتين، فلا أرى أنها مسألة خلاف من حيث التنظير، فإن المذهبيين يطالبون المفتي إذا تبين له خطأ مسألة أو مخالفتها لنص أو قياس أو قاعدة، أن يتبع الصواب فيها، ولا يعني هذا أن عليهم نبذ المذاهب وكتبها وترك قراءتها لأنها تراث الأمة وإرثها، وإنما يقرأ العالم أو طالب العلم هذه الكتب ببصيرة، فما كان حقا أخذه، وما كان خطأ بين خطأه.
ولا أظن أن اللامذهبيين يخالفون في هذا القدر كما مر في كلام الشيخ الألباني رحمه الله، وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول: (لا ينبغي لأحد أن يفتي إلا أن يعرف أقاويل العلماء في الفتاوى
__________
(1) الملحق لكتاب المذهبية للعباسي (113) ، وانظر أصل الكتاب (62)(86/168)
الشرعية ويعرف مذاهبهم) . (1)
أما ما ذكره العباسي من أن دراسة المذاهب مرحلة مؤقتة وضربه المثل بسلفيي دمشق، فأرى أن في الأمر مبالغة؛ لأن هذه الكتب فيه الصواب وفيها الخطأ، فلم يترك صوابها مع غلبته لوجود الخطأ.
ثم هل هي إلا ثمرة استنباط واجتهاد على ضوء الكتاب والسنة والإجماع والقياس وأدلة الشريعة الأخرى قام بها علماء لهم مكانتهم وقدرهم، فلم لا يدرسها من يطالب بتركها ويعرف صحيحها فيأخذه، فيكون متبعا على القول بوجود مرتبة الاتباع، إذ إن المذاهب لا تموت بموت أصحابها على الصحيح.
وحينئذ لا حاجة بنا إلى أن نبدأ من حيث بدأ السابقون؛ لأننا حينئذ ندعو إلى ظهور مذاهب جديدة، وهل نشأت المذاهب إلا بإمام مشهور تجمع حوله التلاميذ فأعجبوا بطريقته، ثم التف حولهم العامة حتى سمي مذهب فلان.
ولنعد الآن إلى استعراض الأدلة التي استدل بها أصحاب الأقوال الثلاثة في مسألة التمذهب:
__________
(1) الإنصاف للدهلوي (105)(86/169)
أدلة القائلين بمنع التمذهب والإجابة عنها:
استدل هذا الفريق لرأيه بعدة أدلة أبرزها ثلاثة هي:(86/169)
1- أن عدم الالتزام بمذهب هو الأصل وهو الأيسر والأقرب للفهم الصحيح لمراد الله تعالى لأن الله سبحانه حين أمر الجاهل بسؤال أهل الذكر لم يحدد واحدا معينا منهم بل أطلق ذلك، ومن المعروف أن المطلق يبقى على إطلاقه حتى يأتي ما يقيده. (1)
والجواب عن هذا الدليل أن الأمر للإطلاق كما ذكر في الدليل والمستدل قد قيد هذا الإطلاق بإلزام المستفتي بعدم تقليد شخص بعينه، إذ الأمر بسؤال أهل الذكر لم يتعرض لكون المسؤول واحدا أو متعددا، فيكون إيجاب تقليد المعين أو إيجاب تقليد أكثر من واحد زائدا على الأصل الذي لم يتعرض لشيء من ذلك، فيكون تقليد المعين جائزا، وتقليد غير المعين جائزا أيضا (2) والأمر في هذا واسع بحمد الله.
2- أن من التزم مذهبا معينا يكون قد سوى في واقع الأمر بين اتباع النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم وبين اتباع الفقيه غير المعصوم (3)
__________
(1) المذهبية لعباسي (91)
(2) اللامذهبية للبوطي (77) ، وانظر مجموع الفتاوى (20\209)
(3) المذهبية لعباسي (91)(86/170)
والجواب عن هذا أن المقلد سواء قلد معينا أو لم يقلد معينا، فهو إنما يتبع غير معصوم، لكن لما دل الدليل على أن المجتهد يجب عليه العمل بما أداه إليه اجتهاده، وإن خالفه غيره، كان على المقلد أن يتبعه ولو كان غير معصوم؛ لأن هذا طريقه لمعرفة الأحكام.
وهل المقلد إذا تنقل بين المفتين ولم يلتزم واحدا منهم يسلم من الخطأ ويجلب له هذا الصنيع العصمة التي لم تثبت إلا للمرسلين عليهم الصلاة والسلام؟ .
وقد جبلت النفوس على اتباع وتقليد من تثق به وتطمئن له ولا ريب أن العامي لا يدري هل أصاب هذا العالم الحق في المسألة أو لا؟ ، لكنه إنما اتبعه لثقته فيه لا لاعتقاد عصمته.
3- استدلوا بأن فعل الصحابة والسلف الصالح في القرون المفضلة هو عدم الالتزام، فثبت أن الالتزام غير جائز. (1)
وأجيب عن هذا بأن المروي خلافه، فقد قال ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين: (والدين والفقه انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود وأصحاب زيد بن ثابت وأصحاب عبد الله بن عمر وأصحاب عبد الله بن عباس، فعلم عامة الناس عن أصحاب هؤلاء الأربعة، فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد الله
__________
(1) المذهبية لعباسي (92)(86/171)
ابن عمر، وأما أهل مكة فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن عباس، وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود) اهـ (1)
وأورد ابن القيم رحمه الله أيضا أن عمر بن الخطاب خطب الناس بالجابية فقال: (من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد المال فليأتني) (2) وكان منادي بني أمية ينادي على مسمع من الصحابة والتابعين في أيام منى ألا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح (3) ؛ لأنه كان من أعلم الناس بالمناسك (4)
فهذه النصوص والشواهد تدل على أن القرون المفضلة عرفت شيئا من التعيين، فالحكم بأن فعلهم هو عدم الالتزام هو حكم بعدم الدليل، لا بدليل العدم، وعدم الدليل لا يدل على عدم الوجود، إذ قد يكون موجودا ولم ينقل، وبخاصة بعدما سقنا شيئا من النصوص تدل على بعض ذلك.
__________
(1) أعلام الموقعين (1\21) .
(2) المصدر السابق (1\21) .
(3) البداية والنهاية (9\306) .
(4) تهذيب التهذيب (7\201) .(86/172)
أدلة القول بوجوب التمذهب والإجابة عنها:
عمدة أدلتهم الاستدلال على وجوب الالتزام بالمذهب أنه لو جاز له اتباع أي مذهب شاء لأفضى ذلك إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعا لهواه، وهذا انحلال عن التكليف وسبب للفوضى الدينية.
ويجاب عن هذا بأن التزامه بمذهب واحد لا يتجاوزه مع اشتمال هذا المذهب على الخطأ أمر لا تقره الشريعة، وإنما يسوغ له اتباع المذهب إذا اطمأنت نفسه إليه، ويجب عليه تركه فيما بان له ضعفه، ولا يؤدي هذا الصنيع إلى تتبع الرخص والفوضى، لأن جواز الترك مقيد بظهور الرجحان وتتبع الدليل، أما الانتقال الفاقد لهذا القيد فإنا نمنعه حسما للفوضى، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقلنا عنه أولا.(86/173)
أدلة القائلين بجواز التمذهب:
إن هذا القول هو الذي عليه جماهير العلماء من السلف والخلف، ولقد قررت هذا المذهب من قبل وبينته، وأحب هنا أن أزيد الأمر توضيحا قبل عرض الأدلة، فلقد رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عرض هذا القول في الفتاوى وفي كتبه الأخرى ومال(86/173)
إليه، ومن أقواله التي تدل على ميله لهذا القول قوله في الفتاوى: (ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول...... واتباع شخص لمذهب شخص بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مما سوغ له، ليس هو مما يجب على كل أحد) . اهـ (1)
ومنها قوله: (وأكثر الناس إنما اتبعوا المذاهب بل الأديان بحكم ما تبين لهم، فإن الإنسان ينشأ على دين أبيه أو سيده أو أهل بلده.... ثم إذا بلغ الرجل فعليه أن يقصد طاعة الله ورسوله حيث كانت..... وأما من كان عاجزا عن معرفة حكم الله ورسوله، وقد اتبع فيها من هو من أهل العلم والدين ولم يتبين له أن قول غيره أرجح من قوله، فهو محمود، يثاب ولا يذم على ذلك ولا يعاقب) اهـ. (2)
ومنها قوله في المسودة نقلا عن ابن هبيرة: (كل من هذه المذاهب إذا أخذ به آخذ ساغ له ذلك) اهـ. (3)
هذه بعض أقوال شيخ الإسلام في هذا المقام، وإنما حرصت على التقديم بها لأدلة هذا الفريق؛ لأن بعض المانعين من التمذهب
__________
(1) مجموع الفتاوى (20\209)
(2) مجموع الفتاوى (20\224، 225) .
(3) المصدر السابق (20\292) .(86/174)
ومن تقليد المعين ينسبون المنع لشيخ الإسلام، فأحببت ذكر شيء من أقواله ليعلم رأيه في هذه المسألة.
ولنعد الآن إلى ذكر أدلة القائلين بجواز التمذهب وهي كثير وأبرزها ما يأتي:
1- أن الأدلة على جواز التقليد جاءت مطلقة، فلم تطلب من المقلد عدم تقليد معين، فتقييدها بهذا القيد تقييد بغير دليل، فلا يقبل. (1)
2- أن الأمة منذ عهد الصحابة وعلى مر عصورها الزاهرة لم ينقل عن أحد يعتد بقوله منع المقلدين من استفتاء شيخ بعينه، بل قد عرف كما بينا سابقا عن قوم بأنهم أصحاب ابن عباس، وعن آخرين بأنهم أصحاب ابن مسعود، وكان منادي بني أمية ينادي ألا يفتي الناس إلا عطاء، ولم ينكر ذلك أحد ممن حضر من الصحابة والتابعين، ثم إن علماء الإسلام والأئمة الأعلام على مر العصور لم ينكروا هذا الأمر، ولم يأنفوا منه - أعني الانتساب إلى المذاهب - فهذا الإمام ابن عبد البر رحمه الله يؤلف في فضائل الثلاثة، ولعلك تسأل لم خصهم دون غيرهم من فقهاء الإسلام 1.
__________
(1) المذهبية (77)(86/175)
مع استواء الجميع في العلم والفضل؟ ، وألف أيضا الكافي في فقه المالكية جامعا له من كتبهم، وهذا ابن تيمية وتلميذه ابن القيم لا يأنفون من ذكر آراء الأصحاب والاعتناء بأقوالهم والثناء على الحنابلة ومذهبهم.
وأمثال هؤلاء من الأئمة كثير، وإنما أردنا مجرد التمثيل، ولأن ابن عبد البر وابن تيمية وابن القيم ممن شن حملة على التقليد، فظن ظان أنها ضد ما نحن بصدده.
بل قد نقل كثير من العلماء الإجماع على جواز اتباع هذه المذاهب المدونة، فقد نقله شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في كتاب مسودة بني تيمية عن الوزير ابن هبيرة (1) كما ذكرناه آنفا، كما نقله قبله صاحب البرهان فيه (2) وابن الصلاح (3) وأخيرا الدهلوي في الإنصاف (4)
3- أن الأمة قد أجمعت على عدم الإنكار في مسائل الاجتهاد، ولا ريب أن أقل ما يقال في المذاهب أنها من
__________
(1) المسودة (538-541)
(2) البرهان (2\1146)
(3) تيسير التحرير (4\256)
(4) الإنصاف (97، 104)(86/176)
هذا الباب، فلم التشنيع والإنكار (1)
4- أنه لا يجب تقليد الأفضل وإن كان هو الأولى، وقد سارت الأمة على هذا، فكانت الفتوى زمن الصحابة والتابعين للفاضل والمفضول (2) فليكن تقليد المذاهب على الأقل من هذا الباب، ثم أخيرا فهو القول الوسط الذي يتمشى مع سماحة الإسلام ويسره، فلا إفراط ولا تفريط، ويوافق فطر الناس كما ذكرنا، فإن قلب العامي متى وثق بشخص واطمأن له لم يقتنع بسواه، فهو لا يعرف الراجح من المرجوح، فلا يمكن أن يقتنع بفتوى غير مفتيه إلا بعد لأي، وحيث إن الشرع قد أباح العمل بكل اجتهاد سار في مساره الصحيح، فلم نحجر واسعا. والله أعلم.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (20\207)
(2) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (2\135)(86/177)
معالم رئيسة في مسألة التمذهب:
عرفنا أن الرأي الوسط في مسألة التمذهب هو القول بجواز التمذهب وعدم الإنكار على من ترك التمذهب، وبقي بعض الأمور التي ينبغي أن ينتبه لها كل مسلم عموما، ومن أراد التمذهب بأحد(86/177)
مذاهب الأئمة خصوصا، فمن هذه الأمور ما يأتي:
1- أن المقلد يجب عليه أن يوقن بأن متابعته لعالم ما أو لمذهب ما إنما هي لكون هذا العالم أو هذا المذهب هو طريقه إلى معرفه حكم الله تعالى، يقول الشاطبي: (ومعلوم أنه لا يقتدي به إلا من حيث هو عالم بالعلم الحاكم، لا من جهة كونه فلانا، وهذه الجملة لا يسع فيها خلاف عقلا ولا شرعا) . اهـ (1)
2- ألا يصر المقلد على تقليد من تبين له خطؤه، بل على المقلد إذا بان له خطأ متبوعه أن يقلع من ساعته ويتبع الصواب الذي ظهر له، فإن أصر على متابعته والتعصب له فقد خالف أمر الشارع وخالف أمر متبوعه؛ لأن كل عالم يصرح أو يعرض بترك قوله إذا بان للمتبع خطؤه كما نقلناه عن الشاطبي. (2)
يقول القرافي رحمه الله: (يجوز تقليد المذاهب والانتقال إليها في كل ما لا ينقض فيه حكم الحاكم وهو أربعة: ما خالف الإجماع،
__________
(1) الاعتصام للشاطبي (2\343) .
(2) الاعتصام (2\345) ، والإنصاف (101، 102)(86/178)
أو القواعد أو النص أو القياس الجلي) (1)
فإذا رأى متبع المذهب رأيا في مذهبه مخالفا لدليل شرعي، أو قاعدة شرعية، أو قياس صحيح أو إجماع الأمة، وجب عليه تركه لما ترجح عنده.
3- أنه لا يلزم الشخص أن يتقيد بمذهب ما، لا يتجاوز ما فيه، وإنما التزامه بمذهب ما، مما يسوغ له ويجوز (2) وعلى هذا يجوز أن يستمر في تقليده ويجوز أن ينتقل إلى غيره إذا كان قصده من الانتقال أمرا دينيا قال القرافي في التنقيح: (قال الزناتي: يجوز تقليد المذاهب في النوازل والانتقال من مذهب إلى مذهب بثلاثة شروط:
أ- أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع، كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود، فإن كل عالم يقول ببطلان النكاح في هذه الصورة المجموعة.
ب- أن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه، ولا يقلده رميا في عماية.
__________
(1) شرح تنقيح الفصول (432)
(2) مجموع الفتاوى (20\209)(86/179)
ج. أن لا يتتبع رخص المذاهب) . اهـ (1)
ومعنى هذا أن يكون قائده في التمذهب وفي الانتقال البحث عن حكم الله ونشدان الحق وطلب الخير، لا أغراض النفس وشهواتها.
4- يجب على مريد اتباع أحد من مذاهب الأئمة رحمهم الله أن يعرف للأئمة غير إمامه وللفقهاء غير فقهاء مذهبه حقهم وفضلهم، فلا ينال منهم، ولا يتعرض لهم بسوء، بل عليه أن يرى الجميع أئمة فضلاء، وأن كلا منهم سالك في الطريق المكلف به، وألا يتعصب لمتبوعه على غيره، فإن هذا يؤدي إلى تحكيم الرجال في الحق والإعراض عن أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. (2)
وعليه أن يعلم أن هذا الخلاف القائم بين العلماء لا ينبغي أن يكون سببا للخصومة والقطيعة، وقدوتنا في هذا الموقف الأئمة الأربعة ومن بعدهم من علماء الإسلام.
فهذا الشافعي يصلي قريبا من مقبرة أبي حنيفة فلا يقنت تأدبا معه ويقول: (ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق) .
والإمام أحمد رحمه الله يرى الوضوء من الرعاف والحجامة،
__________
(1) شرح تنقيح الفصول (432)
(2) الاعتصام (2\348)(86/180)
فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ قال: (كيف لا أصلي خلف مالك وسعيد بن المسيب؟) (1) وأخبار السلف في هذا كثيرة، فالأئمة رحمهم الله لا يرون أنهم خير من مخالفيهم، أو أن مخالفيهم على غير هدى، بل كل يعرف لصاحبه حقه ويعمل بما أداه إليه اجتهاده، ويعلم أن هذا الاختلاف كما قال ابن العربي: (اختلاف العلماء رحمة للخلق، وفسحة في الحق، وطريق مهيع إلى الرفق) (2) اهـ، أو كما قال قبله عمر بن عبد العزيز: (ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة) (3)
5- أن على العلماء وطلبة العلم من أرباب المذاهب الابتعاد عن المناظرات والمجادلات في كل مسألة لا يطمع فيها أحد الطرفين أن يرجع صاحبه إلى الحق إذا ظهر له، وليس فيها فائدة ترجع إلى استجلاب مودة ولا إلى توطئة القلوب لوعي الحق، بل هي كما نقل الإمام ابن تيمية
__________
(1) رفع النقاب عن تنقيح الشهاب (1097)
(2) أحكام القرآن لابن العربي (3\322)
(3) جامع بيان العلم وفضله (2\80)(86/181)
على الضد من ذلك كله، فإن مثل هذا مما قد تكلم فيه العلماء، وأظهروا من عوره ما أظهروا، ولا يتمارى في أنه محدث متجدد. (1)
وعلى هذا فينبغي لكل من اطلع على قول ضعيف في مذهبه أو مذهب غيره ألا يعمل به في خاصة نفسه، وأن يخبر من رآه يعمل به بشيء من اللطف واتباع الحسنى من غير تعرض للمذهب أو المذاهب بتخطئة أو تسفيه، ويجعل بين عينيه أنه بعمله هذا ينتصر للحق لا ينتصر لنفسه، وعليه أن يعلم القاعدة الشرعية، وهي أن المنكر إذا خشي منكره من ترتب منكر أكبر على إنكاره، وجب عليه الكف عن الإنكار، فكيف بقول له عاضد من اجتهاد أئمة الإسلام ولعلهم رأوا ما لم نر، فإن الحكم يتغير بتغير الزمان والمكان ونحوها كما هو معلوم.
وليعلم أيضا أن البعد عن إثارة الضغائن والأحقاد من أهداف الإسلام، فلذا يجب كما قلنا ترك الأفضل والعمل بالمفضول إذا خشي ترتب مفسدة أو ذهاب مصلحة عند العمل بالأفضل، وهذه قاعدة لا إشكال فيها عند أئمة الإسلام، وأصلها قوله تعالى:
__________
(1) المسودة (541)(86/182)
{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) .
6- ليعلم الملتزم بالمذهب وغيره من المسلمين أنه قد حدثت عبر العصور الإسلامية فتن ومحن وتعصبات بين المذاهب الإسلامية كانت سببا لفساد كبير، وعلى المسلم إزاء هذه الأحداث أن يعلم أنها ليست من خلق الإسلام ثم إنها من فعل العامة وبعض طلاب العلم المبتدئين ونحوهم، وكلها ليس دافعها دينيا بحتا، بل أكثرها ردود فعل لمواقف شخصية وأغراض خاصة، أو هي من صنع الولاة والحكام لغرض ما، وعلى المسلم أن يعتبرها من الهفوات والعثرات التي يجب سترها كسائر العيوب، وأن لا تشاع وتذكر على أنها من عيوب التمذهب، وقد بينا فيما سبق بعض أسبابها وخلفياتها التي كانت سببا لفساد كبير.
هذه بعض المعالم التي أحببت التنبيه إليها في نهاية الكلام على مسألة التمذهب، ليلقي المسلم سمعه ونظره إليها، ويمرن عقله وقلبه وجوارحه على العمل بها والله المستعان.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108(86/183)
مسائل تكميلية تحسن الإشارة إليها:
أريد أن أتحدث تحت هذا العنوان عن ثلاث مسائل تتعلق بمسألة التمذهب، هي الخلاف في مرتبة المتبع، ومسألة مطالبة المفتي بذكر دليل الفتوى معها، والثالث إلزام العامي بسؤال المفتي عن دليل الفتوى، ولكونها من مكملات البحث لا من صلبه فسأكتفي بإشارات يسيرة تجلي بعض الغموض حولها.
فأما مرتبة المتبع فإن اللامذهبيين يقسمون الناس إلى مجتهد ومتبع ومقلد، وأما المذهبيون فلا يعترفون إلا بقسمين: المجتهد والمقلد، وهذا الخلاف بالإضافة إلى أنه خلاف في الألفاظ لا حظ للعمل فيه، فإنه مسألة اصطلاحية، ولا مشاحة في الاصطلاح، مع العلم بأن معظم الخائضين في علم أصول الفقه وهو مظنة المسألة لا يذكرون إلا القسمين، أما مرتبة المتبع فقد قال بها أفذاذ من العلماء نقل كلامهم ابن القيم في أعلام الموقعين (1) وحيث إن المسألة كما ذكرنا ترجع إلى اللفظ والاصطلاح، فلا داعي لذكر الحجاج والمناقشات.
وأما مسألتا مطالبة المفتي بإيراد دليل المسألة، وكذا إلزام العامي بالسؤال عن الدليل، فإنه لا يشك أحد في أن اعتضاد الفتوى
__________
(1) أعلام الموقعين (3\464) ط دار ابن الجوزي بتحقيق مشهور أل سلمان(86/184)
بالدليل أفضل من تجردها عنه، أما أن يصل الأمر إلى درجة الإيجاب أو المنع فأرى أن المسألة أهون من ذلك، إذ إن ثقة العامي بالمفتي تقوم مقام سؤاله عن الدليل، ولا ريب أنه إن أراد بسؤاله الفائدة بمعرفة الدليل أو أراد توطين نفسه للعمل بالحكم، أو نحو ذلك، فلا ينبغي أن يقال بمنعه، وبخاصة إذا ساد هذه المعاملة بين المقلد ومفتيه الأدب والاحترام، لا أسلوب المحاجة والمناظرة، كما يفعله بعض جهله العوام الذين سمعوا القول بوجوب السؤال، فأخذوه دون الاستفسار عن ضوابطه، ولا ريب أن له ضوابط تقوم على الاحترام والأدب وحسن الخلق.
هذا آخر ما تيسر كتابته والله الموفق.(86/185)
زكاة الأراضي وقضاياها المعاصرة.
لفضيلة الدكتور عبد الله بن عمر بن محمد السحيباني
(1)
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، أحمده ولا محمود بحق سواه، له جزيل النعم ووافر العطايا، تبارك ربنا وتعالى، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه وأمينه على وحيه، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه. وبعد:
فالزكاة عبادة من أجل العبادات، بل هي ركن من أركان الإسلام وشعيرة من شعائره العظام، شرعها الله لحكم عظيمة، فلها أهدافها الروحية والخلقية والإنسانية، وقد حدد الشارع الحكيم نصابها ومقدارها فهي ثابتة لا تقبل التعديل أو التبديل بأي نظام آخر، فلا مجال للرأي في أصولها وأنصبتها ومقاديرها، غير مسائل محدودة اختلفت أنظار الفقهاء تجاهها، فكانت مجالا لاجتهاد المجتهدين، ومحلا لدراسة المهتمين، من أهل العلم الراسخين، ومن تلك المسائل مسألة في أحكام زكاة العروض التجارية، وفي نظري أنها مسألة أو قضية كثيرة التشابه والتعقيد، خاصة في واقعنا
__________
(1) الأستاذ المساعد في كلية الشريعة في القصيم(86/187)
المعاصر، إنها مسألة زكاة الأراضي على اختلاف أنواعها.
ولقد أحببت المشاركة في بيان وإظهار تلك الاجتهادات السابقة مع محاولة الموازنة بينها، وبيان الأقرب للصواب منها، وطرح ما استجد من مسائل وقضايا تخص هذا الموضوع، في دراسة مرتبطة بأصول الاجتهاد وأساليبه الصحيحة، كما نص عليها علماؤنا من السلف الصالح.
وقد دعاني للكتابة في هذا الموضوع، وتجلية الجانب الشرعي في هذه المسألة المهمة عدة أمور، أهمها أمران:
الأول: أن موضوع زكاة الأراضي يعتبر من أبرز القضايا الاقتصادية العالقة وأهمها، خاصة في واقعنا المحيط، ومع الارتفاع المذهل لأسعار الأراضي التجارية والسكنية في بعض المناطق، الأمر الذي جعل بعض المهتمين ينادون بضرورة جباية الزكاة على الأراضي، خاصة تلك التي تظل أعواما طويلة بيضاء دون استفادة منها أو استغلال، في الوقت الذي يزيد سعرها عاما إثر عام.
الثاني: أن إفراد هذا الموضوع بكتاب مستقل يفيد كثيرا فهو(86/188)
أسهل لنشر أحكامه بين الناس، خاصة أولئك المهتمون من العقاريين والتجار والاقتصاديين، ولعله أن يكون أحد المراجع التي يستفيد منها أهل هذا الاختصاص.
أما مجال البحث في هذا الموضوع وخطته، فقد اجتهدت أن تكون الكتابة في هذا البحث تدور حول أربعة مباحث، هي:
المبحث الأول: الأراضي المعدة للسكنى والانتفاع.
المبحث الثاني: الأراضي المعدة للاستثمار.
المبحث الثالث: الأراضي المعدة للبيع.
المبحث الرابع: أحوال سقوط الزكاة عن الأرض التجارية.
وقد حرصت على تبسيط مسائل هذا البحث وإيضاحه، بأسلوب سهل ميسور، حتى يعم نفعه كل من طالع فيه، مع الحرص التام على المحافظة على الصياغة العلمية، وأصول البحث العلمي، والتحرير والتوثيق لكل ما يكون في البحث، ليتمكن القارئ من الاستزادة عند الحاجة إلى ذلك.(86/189)
على أنني أعتقد أن هذا البحث لا يعدو أن يكون محاولة جادة لجمع مسائل زكاة الأراضي القديمة منها والمعاصرة، وربما فاتني شيء كثير من تلك المسائل المتعلقة بهذه القضية، لكن حسبي أني اجتهدت وحاولت، ولعل الله أن يكتب لي أو لغيري من طلبة العلم استكمال تلك المسائل وتحريرها بصورة أكمل وأتم.
هذا والله المسؤول أن يكتب التوفيق والخير لأمة محمد، وأن يعيد لها سبل النهضة والعزة في كل مجال وميدان، وأن يجعل هذا العمل في ميزان الحسنات يوم نلقى الله.
المبحث الأول: الأرض المعدة للسكنى والانتفاع:
قد يمتلك المسلم أرضا يقصد بامتلاكها أن يجعلها في المستقبل مكانا للإعمار والسكنى، وقد تبقى هذه الأرض سنوات وهي معدة لهذا الغرض، فهذا النوع من الأراضي قد نص عامة الفقهاء على أنها لا تجب فيها الزكاة، ذكر ذلك علماء الحنفية (1) والمالكية (2) والشافعية (3) والحنابلة (4) وقد دل لذلك عدة أدلة منها ما يلي:
__________
(1) المبسوط 2\199، بدائع الصنائع 2\12
(2) الفواكه الدواني 1\331، كفاية الطالب 1\614، الثمر الداني شرح رسالة القيرواني 1\338
(3) الأم 2\51، المهذب 1\141، المجموع 5\303، 311، 321
(4) الفروع 2\514، كشاف القناع 2\169(86/190)
أولا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة (1) »
قال ابن عبد البر: (وقال سائر العلماء: إنما معنى هذا الحديث فيما يقتنى من العروض، ولا يراد به التجارة) (2)
قال النووي: (هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها، وأنه لا زكاة في الخيل والرقيق إذا لم تكن للتجارة، وبهذا قال العلماء كافة من السلف والخلف) (3)
ثانيا: ما رواه سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: «أما بعد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعد للبيع (4) »
__________
(1) أخرجه البخاري بهذا اللفظ في الزكاة. باب ليس على المسلم في فرسه صدقة 2\532 رقم (1394) ، ومسلم في الزكاة. باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه 2\675 رقم (982)
(2) التمهيد لابن عبد البر 17\126
(3) شرح النووي 7\55
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة؟ 2\95 رقم (1562) ، والطبراني في الكبير 7\253 رقم (7029) ، والدارقطني في كتاب الزكاة. باب زكاة مال التجارة وسقوطها عن الخيل والرقيق 2\127، 128 رقم (2027) والبيهقي في السنن الكبرى كتاب الزكاة باب زكاة التجارة 4\146 رقم (7388) ، وابن حزم في المحلى 5\234، وابن عبد البر في التمهيد 17\130، كلهم من طريق جعفر بن سعد عن خبيب بن سليمان عن أبيه، وفيه زيادة عند الدارقطني في أوله، ومدار الحديث على جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، وهذا إسناد ضعيف لما يلي: 1- فيه جعفر بن سعد، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حزم: مجهول، وقال عبد الحق – في الأحكام-: ليس ممن يعتمد عليه، وقال ابن عبد البر: ليس بالقوي، وقال ابن القطان: ما من هؤلاء من يعرف حاله – يعنى جعفرا، وشيخه وشيخ شيخه – قال الذهبي: وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروى به جملة أحاديث قد ذكر البزار منها نحو المائة، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (ليس بالقوي) . ينظر الأحكام الوسطى 2\171، بيان الوهم لابن القطان 5\139، ميزان الاعتدال 1\407، تهذيب التهذيب 2\80، التقريب (941) . 2- خبيب بن سليمان ذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن حزم: مجهول، وقال عبد الحق: ليس بقوي، قال ابن حجر: وقرأت بخط الذهبي: لا يعرف، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (مجهول) . ينظر تهذيب التهذيب 3\116، تقريب التهذيب (1700) . 3- سليمان بن سمرة بن جندب: قال عنه ابن القطان: مجهول، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (مقبول) . ينظر تهذيب التهذيب 4\173، تقريب التهذيب (2569) . فهذا كلام أهل العلم بالرجال في رواة هذا الإسناد تفصيلا، وبخصوص هذا الإسناد بعينه فقد قال الحافظ الذهبي – كما في الميزان 1\408 – لما ساق جملة من الأحاديث التي رويت بهذا الإسناد: (وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم) ، ولذا قال الحافظ ابن حجر في التلخيص 2\179: (في إسناده جهالة) ، وقال في البلوغ (ص: 112) : بإسناد لين، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفي إسناده ضعف 3\69، وقال الألباني في الإرواء 3\310: (ضعيف) . وبهذا يتبين أن أكثر أهل العلم بالحديث لا يثبت هذا الحديث، أما قول النووي: (وفي إسناده جماعة لا أعرف حالهم ولكن لم يضعفه أبو داود، وقد قدمنا أن ما لم يضعفه فهو حسن عنده المجموع 6\40، وكذا قول الشنقيطي (وهذا الحديث سكت عليه أبو داود رحمه الله ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج عنده) . أضواء البيان 2\137، فإنه اعتماد على إخراج أبي داود للحديث، وسكوته عنه والاعتماد على سكوت أبي داود غير مقبول عند جماعة من أهل العلم، لأنه ثبت أن أبا داود يسكت أحيانا عما في الصحيحين وعما هو شديد الضعف. قال الحافظ ابن حجر في النكت على كتاب ابن الصلاح 1\439-444 بعد أن ذكر أن أبا داود يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها: (فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم، ويتابعه على الاحتجاج بهم بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع فيعتضد به، أو هو غريب فيتوقف فيه؟ إلى أن قال: فالصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته)(86/191)
ومفهوم الحديث يدل على أن ما لم يعد للبيع من الأموال لا تجب فيه الزكاة، إلا ما وجب بنص آخر، كأنواع الزكاة الأخرى.
ثالثا: الآثار الواردة عن السلف في هذا، ومن ذلك ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ليس في العروض زكاة، إلا ما كان للتجارة)
رابعا: الإجماع، فقد نقل غير واحد من أهل العلم إجماع العلماء من السلف والخلف على أنه لا زكاة في الأموال المقتناة، ومن ذلك ما نقله أبو عمر بن عبد البر حيث قال: (فأجرى العلماء(86/193)
من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخلف سائر العروض كلها على اختلاف أنواعها مجرى الفرس والعبد إذا اقتنى ذلك لغير التجارة، وهم فهموا المراد وعلموه، فوجب التسليم لما أجمعوا عليه؛ لأن الله عز وجل قد توعد من اتبع غير سبيل المؤمنين أن يوليه ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرا) (1)
وقال ابن حزم: (مما اتفقوا على أنه لا زكاة فيه كل ما اكتسب للقنية لا للتجارة، من جوهر وياقوت..... وسلاح وخشب ودروع وضياع....) (2) الخ.
خامسا: أن الأصل عدم وجوب الزكاة في الأراضي، إلا بدليل، ولا دليل فيها. (3)
سادسا: من التعليل: قالوا: إن الزكاة لا تجب إلا في الأموال النامية، والأرض المعدة للإعمار والسكنى ليست كذلك (4)
وبهذا يتضح أن الأراضي المعدة لغرض الإعمار والسكنى لا تجب فيها الزكاة، حتى لو بقيت معدة لذلك عدة سنوات، ما دامت نية مالكها لم تتغير عن هذا القصد، أما لو قصد أمرا آخر كأن بدا له
__________
(1) التمهيد لابن عبد البر 17\126
(2) المحلى 4\41
(3) كشاف القناع 2\169
(4) المبسوط 2\199، بدائع الصنائع 2\12، إعلام الموقعين 2\70(86/194)
المتاجرة فيها ببيعها، فهذا سيأتي بيانه في المباحث الآتية.(86/195)
المبحث الثاني: الأرض المعدة للاستثمار.
وفي هذا المبحث مطلبان:
المطلب الأول: زكاة عين الأرض المعدة للاستثمار.
المطلب الثاني: زكاة الأرض المستثمرة بالبناء ثم البيع.
المطلب الأول: زكاة عين الأرض المعدة للاستثمار.
قد يرى المالك للأرض استغلالها في المستقبل بأي نوع من أنواع الاستغلال، كأن يقصد استغلالها بالزراعة أو الإجارة أو أن يقيم عليها مصنعا أو استثمارا من أي نوع كان، غير البيع، فهذه الأرض لا زكاة في عينها، وإنما الزكاة فيما نتج منها من زروع وثمار، أو أموال إجارة أو استثمار إذا حال عليها حول الزكاة، وعلى عدم وجوب الزكاة في عين هذه الأراضي اتفق عامة الفقهاء من الحنفية (1) والمالكية (2) والشافعية (3) والحنابلة (4)
ويستدل لعدم وجوب الزكاة في هذا النوع من الأراضي بأدلة
__________
(1) المبسوط 3\50، بدائع الصنائع 2\13، 12
(2) المدونة 1\383، مواهب الجليل 2\311
(3) الأم 2\51، المهذب والمجموع 5\483
(4) الإنصاف 3\161، المبدع 2\377(86/195)
منها ما يلي:
أولا: قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (1) فقد أثبت الله سبحانه وجوب الزكاة فيما خرج من الأرض لا في الأرض نفسها، ولذا لم يقل أحد من أهل العلم بوجوب الزكاة في رقبة الأرض المزروعة مع ما يخرج منها
ثانيا: ما رواه سمره بن جندب رضي الله عنه قال: «أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعد للبيع (2) »
وهذه الأراضي المعدة للاستثمار والاستغلال لم ترصد للتجارة بعينها، فهي ليست معدة للبيع، فلا زكاة فيها بنص الحديث النبوي.
وبهذا يعلم أن الأراضي التي تستغل للمشاريع الزراعية والصناعية لا زكاة في رقبتها، وكذلك الأراضي التي تملكها الشركات المختلفة وتدخل ضمن أصولها.
__________
(1) سورة البقرة الآية 267
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة؟ 2\95 رقم (1562) ، والطبراني في الكبير 7\253 رقم (7029) ، والدارقطني في كتاب الزكاة. باب زكاة مال التجارة وسقوطها عن الخيل والرقيق 2\127، 128 رقم (2027) والبيهقي في السنن الكبرى كتاب الزكاة باب زكاة التجارة 4\146 رقم (7388) ، وابن حزم في المحلى 5\234، وابن عبد البر في التمهيد 17\130، كلهم من طريق جعفر بن سعد عن خبيب بن سليمان عن أبيه، وفيه زيادة عند الدارقطني في أوله، ومدار الحديث على جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، وهذا إسناد ضعيف لما يلي: 1- فيه جعفر بن سعد، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حزم: مجهول، وقال عبد الحق – في الأحكام-: ليس ممن يعتمد عليه، وقال ابن عبد البر: ليس بالقوي، وقال ابن القطان: ما من هؤلاء من يعرف حاله – يعنى جعفرا، وشيخه وشيخ شيخه – قال الذهبي: وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروى به جملة أحاديث قد ذكر البزار منها نحو المائة، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (ليس بالقوي) . ينظر الأحكام الوسطى 2\171، بيان الوهم لابن القطان 5\139، ميزان الاعتدال 1\407، تهذيب التهذيب 2\80، التقريب (941) . 2- خبيب بن سليمان ذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن حزم: مجهول، وقال عبد الحق: ليس بقوي، قال ابن حجر: وقرأت بخط الذهبي: لا يعرف، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (مجهول) . ينظر تهذيب التهذيب 3\116، تقريب التهذيب (1700) . 3- سليمان بن سمرة بن جندب: قال عنه ابن القطان: مجهول، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (مقبول) . ينظر تهذيب التهذيب 4\173، تقريب التهذيب (2569) . فهذا كلام أهل العلم بالرجال في رواة هذا الإسناد تفصيلا، وبخصوص هذا الإسناد بعينه فقد قال الحافظ الذهبي – كما في الميزان 1\408 – لما ساق جملة من الأحاديث التي رويت بهذا الإسناد: (وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم) ، ولذا قال الحافظ ابن حجر في التلخيص 2\179: (في إسناده جهالة) ، وقال في البلوغ (ص: 112) : بإسناد لين، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفي إسناده ضعف 3\69، وقال الألباني في الإرواء 3\310: (ضعيف) . وبهذا يتبين أن أكثر أهل العلم بالحديث لا يثبت هذا الحديث، أما قول النووي: (وفي إسناده جماعة لا أعرف حالهم ولكن لم يضعفه أبو داود، وقد قدمنا أن ما لم يضعفه فهو حسن عنده المجموع 6\40، وكذا قول الشنقيطي (وهذا الحديث سكت عليه أبو داود رحمه الله ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج عنده) . أضواء البيان 2\137، فإنه اعتماد على إخراج أبي داود للحديث، وسكوته عنه والاعتماد على سكوت أبي داود غير مقبول عند جماعة من أهل العلم، لأنه ثبت أن أبا داود يسكت أحيانا عما في الصحيحين وعما هو شديد الضعف. قال الحافظ ابن حجر في النكت على كتاب ابن الصلاح 1\439-444 بعد أن ذكر أن أبا داود يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها: (فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم، ويتابعه على الاحتجاج بهم بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع فيعتضد به، أو هو غريب فيتوقف فيه؟ إلى أن قال: فالصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته)(86/196)
وهذه الأراضي التي تستعملها الشركات ببناء المصانع اللازمة لنشاطها أو لبناء مقر لها تختلف تماما عن تلك الأراضي التي تعدها الشركات للتجارة، وتبذلها للناس، بحيث يمكن تداولها بالبيع، فهذه تأخذ حكم عروض التجارة وتقوم آخر العام ويخرج عنها الزكاة كغيرها من أموال الشركة التي تجب فيها الزكاة.(86/197)
المطلب الثاني: زكاة الأرض المستثمرة بالبناء ثم البيع.
يقصد بعض تجار العقار بشراء الأرض استثمارها بالبناء عليها ثم بيعها بعد تمام البناء أو في أثنائه، وهذا العمل يكثر في هذا الزمن، بل قد تتولى شركات كبرى مشاريع إسكانية يتم من خلالها شراء الأراضي وتعميرها وبيعها بيوتا أو شققا، ولا شك أن هذا النوع من استثمار الأرض يختلف عن الاستثمارات الأخرى التي يقصد بها استغلال الأرض مع قصد بقاء عينها في ملك صاحبها، كمن قصد الاستثمار في العقار للتأجير ونحوه، فهذا لا يريد بيع الأرض ولا إخراجها عن ملكه، فلا يجب عليه فيها - كما سبق بيانه -.
لذلك ذهب جماعة من الفقهاء المعاصرين إلى وجوب الزكاة في الأرض المعدة للبناء عليها إذا قصد بتعمير الأرض بيعها بعد اكتمال البناء عليها أو في أثنائه.(86/197)
وهذا الرأي هو المتعين، وذلك لأن هذا النوع من الأراضي تنطبق عليه شروط وجوب الزكاة في عروض التجارة، فنية البيع للأرض عند المالك موجودة منذ تملكها، وعلى هذا فإن المالك للأرض يلزمه أن يخرج زكاة قيمة هذه الأرض وما بني عليها كل حول، فإن لم يتمكن من إخراجها أثناء البناء والتعمير لعدم القدرة المالية أو السيولة النقدية وجب عليه إخراج الزكاة بعد بيعها لكل السنوات الماضية، مع مراعاة معرفة قيمة الأرض وما عليها في كل سنة من تلك السنوات (1)
ومن هنا يعلم أن الحكم في أرض التجارة لا يختلف إذا أراد المالك لها استثمارها بالبناء أو نحوه مع بقائها للتجارة وإرادة البيع.
ولذا نص فقهاء الشافعية (2) والحنابلة (3) على وجوب الزكاة في الأرض المزروعة إذا كانت للتجارة، قالوا: (فإن زرع زرعا للقنية، في
__________
(1) ينظر المبحث الخامس: في طريقة إخراج الزكاة
(2) أسنى المطالب 1\386، حاشية الجمل 2\271
(3) الفروع 2\386، الإنصاف 3\161، كشاف القناع 2\243(86/198)
أرض التجارة فلكل منهما حكمه فتجب زكاة العين في الزرع وزكاة التجارة في الأرض) .(86/199)
المبحث الثالث: الأرض المعدة للبيع:
وفي هذا المبحث مطلبان:
المطلب الأول: شرط النية في الأرض المعدة للبيع.
المطلب الثاني: شرط العمل في الأرض المعدة للبيع.
المطلب الأول: اشتراط النية في الأرض المعدة للبيع.
وفي هذا المطلب أربع مسائل:
المسألة الأولى: دليل اعتبار نية التجارة في الأراضي.
المسألة الثانية: معنى النية المعتبرة للتجارة في زكاة الأراضي.
المسألة الثالثة: تغيير النية ومدى تأثيره على حكم الزكاة.
المسألة الرابعة: التحايل لإسقاط نية التجارة.
المسألة الأولى: دليل اعتبار نية التجارة في الأراضي.
اشتراط النية في زكاة عروض التجارة هو مذهب كافة العلماء الذين قالوا بوجوب الزكاة في عروض التجارة فهو مذهب الحنفية (1)
__________
(1) المبسوط 2\199، بدائع الصنائع 2\12، 13(86/199)
والمالكية (1) والشافعية (2) والحنابلة (3) ولم أطلع على قول لأحد من العلماء يقول بوجوب الزكاة في العروض بدون نية التجارة.
وقد دل لاعتبار النية عدة أدلة منها:
أولا: حديث عمر رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنيات (4) » فهذا النص وإن لم يكن خاصا في هذه المسألة، إلا أنه يدل على اعتبار القصد والنية في سائر العمل، والتجارة عمل، فوجب اقتران النية به كسائر الأعمال، (5) ومعلوم أن من قصد التجارة لا يريد تملك العرض بعينه، وإنما يريد من ورائه النقد الذي تجب فيه الزكاة. (6)
ثانيا: حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه: «أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعد للبيع (7) » ووجه دلالة هذا الحديث على اشتراط نية التجارة، أن الإعداد
__________
(1) المدونة 1\310، المنتقى 2\121، التاج والإكليل 3\182
(2) الأم 2\29، المجموع 6\6، مغني المحتاج 2\107
(3) المغني 4\2251
(4) أخرجه البخاري في مواضع، فهو الحديث الأول في الصحيح في باب بدء الوحي 1\3، ومسلم في باب قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنية) الخ 3\1515 رقم (1907) .
(5) الممتع شرح المقنع 2\174، وكشاف القناع 2\240
(6) الشرح الممتع 6\89
(7) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة؟ 2\95 رقم (1562) ، والطبراني في الكبير 7\253 رقم (7029) ، والدارقطني في كتاب الزكاة. باب زكاة مال التجارة وسقوطها عن الخيل والرقيق 2\127، 128 رقم (2027) والبيهقي في السنن الكبرى كتاب الزكاة باب زكاة التجارة 4\146 رقم (7388) ، وابن حزم في المحلى 5\234، وابن عبد البر في التمهيد 17\130، كلهم من طريق جعفر بن سعد عن خبيب بن سليمان عن أبيه، وفيه زيادة عند الدارقطني في أوله، ومدار الحديث على جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، وهذا إسناد ضعيف لما يلي: 1- فيه جعفر بن سعد، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حزم: مجهول، وقال عبد الحق – في الأحكام-: ليس ممن يعتمد عليه، وقال ابن عبد البر: ليس بالقوي، وقال ابن القطان: ما من هؤلاء من يعرف حاله – يعنى جعفرا، وشيخه وشيخ شيخه – قال الذهبي: وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروى به جملة أحاديث قد ذكر البزار منها نحو المائة، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (ليس بالقوي) . ينظر الأحكام الوسطى 2\171، بيان الوهم لابن القطان 5\139، ميزان الاعتدال 1\407، تهذيب التهذيب 2\80، التقريب (941) . 2- خبيب بن سليمان ذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن حزم: مجهول، وقال عبد الحق: ليس بقوي، قال ابن حجر: وقرأت بخط الذهبي: لا يعرف، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (مجهول) . ينظر تهذيب التهذيب 3\116، تقريب التهذيب (1700) . 3- سليمان بن سمرة بن جندب: قال عنه ابن القطان: مجهول، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (مقبول) . ينظر تهذيب التهذيب 4\173، تقريب التهذيب (2569) . فهذا كلام أهل العلم بالرجال في رواة هذا الإسناد تفصيلا، وبخصوص هذا الإسناد بعينه فقد قال الحافظ الذهبي – كما في الميزان 1\408 – لما ساق جملة من الأحاديث التي رويت بهذا الإسناد: (وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم) ، ولذا قال الحافظ ابن حجر في التلخيص 2\179: (في إسناده جهالة) ، وقال في البلوغ (ص: 112) : بإسناد لين، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفي إسناده ضعف 3\69، وقال الألباني في الإرواء 3\310: (ضعيف) . وبهذا يتبين أن أكثر أهل العلم بالحديث لا يثبت هذا الحديث، أما قول النووي: (وفي إسناده جماعة لا أعرف حالهم ولكن لم يضعفه أبو داود، وقد قدمنا أن ما لم يضعفه فهو حسن عنده المجموع 6\40، وكذا قول الشنقيطي (وهذا الحديث سكت عليه أبو داود رحمه الله ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج عنده) . أضواء البيان 2\137، فإنه اعتماد على إخراج أبي داود للحديث، وسكوته عنه والاعتماد على سكوت أبي داود غير مقبول عند جماعة من أهل العلم، لأنه ثبت أن أبا داود يسكت أحيانا عما في الصحيحين وعما هو شديد الضعف. قال الحافظ ابن حجر في النكت على كتاب ابن الصلاح 1\439-444 بعد أن ذكر أن أبا داود يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها: (فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم، ويتابعه على الاحتجاج بهم بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع فيعتضد به، أو هو غريب فيتوقف فيه؟ إلى أن قال: فالصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته)(86/200)
للبيع لا يكون بدون نية، فدل ذلك على اعتبارها (1)
ثالثا: ما رواه نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: «ليس في العرض زكاة، إلا أن يراد به التجارة (2) »
رابعا: من التعليل، يقال: إن هذه الأعيان من الأراضي وغيرها كما تصلح للتجارة، تصلح للانتفاع بأعيانها، بل المقصود الأصلي منها ذلك، فلا بد من التعيين للتجارة وذلك بالنية (3)
وأيضا: فإن الزكاة لا تجب إلا في المال النامي، ومعنى النماء في الأراضي وغيرها من العروض لا يكون بدون نية التجارة (4)
__________
(1) الممتع شرح المقنع 2\174.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة؟ 2\95 رقم (1562) ، والطبراني في الكبير 7\253 رقم (7029) ، والدارقطني في كتاب الزكاة. باب زكاة مال التجارة وسقوطها عن الخيل والرقيق 2\127، 128 رقم (2027) والبيهقي في السنن الكبرى كتاب الزكاة باب زكاة التجارة 4\146 رقم (7388) ، وابن حزم في المحلى 5\234، وابن عبد البر في التمهيد 17\130، كلهم من طريق جعفر بن سعد عن خبيب بن سليمان عن أبيه، وفيه زيادة عند الدارقطني في أوله، ومدار الحديث على جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، وهذا إسناد ضعيف لما يلي: 1- فيه جعفر بن سعد، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حزم: مجهول، وقال عبد الحق – في الأحكام-: ليس ممن يعتمد عليه، وقال ابن عبد البر: ليس بالقوي، وقال ابن القطان: ما من هؤلاء من يعرف حاله – يعنى جعفرا، وشيخه وشيخ شيخه – قال الذهبي: وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروى به جملة أحاديث قد ذكر البزار منها نحو المائة، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (ليس بالقوي) . ينظر الأحكام الوسطى 2\171، بيان الوهم لابن القطان 5\139، ميزان الاعتدال 1\407، تهذيب التهذيب 2\80، التقريب (941) . 2- خبيب بن سليمان ذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن حزم: مجهول، وقال عبد الحق: ليس بقوي، قال ابن حجر: وقرأت بخط الذهبي: لا يعرف، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (مجهول) . ينظر تهذيب التهذيب 3\116، تقريب التهذيب (1700) . 3- سليمان بن سمرة بن جندب: قال عنه ابن القطان: مجهول، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (مقبول) . ينظر تهذيب التهذيب 4\173، تقريب التهذيب (2569) . فهذا كلام أهل العلم بالرجال في رواة هذا الإسناد تفصيلا، وبخصوص هذا الإسناد بعينه فقد قال الحافظ الذهبي – كما في الميزان 1\408 – لما ساق جملة من الأحاديث التي رويت بهذا الإسناد: (وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم) ، ولذا قال الحافظ ابن حجر في التلخيص 2\179: (في إسناده جهالة) ، وقال في البلوغ (ص: 112) : بإسناد لين، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفي إسناده ضعف 3\69، وقال الألباني في الإرواء 3\310: (ضعيف) . وبهذا يتبين أن أكثر أهل العلم بالحديث لا يثبت هذا الحديث، أما قول النووي: (وفي إسناده جماعة لا أعرف حالهم ولكن لم يضعفه أبو داود، وقد قدمنا أن ما لم يضعفه فهو حسن عنده المجموع 6\40، وكذا قول الشنقيطي (وهذا الحديث سكت عليه أبو داود رحمه الله ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج عنده) . أضواء البيان 2\137، فإنه اعتماد على إخراج أبي داود للحديث، وسكوته عنه والاعتماد على سكوت أبي داود غير مقبول عند جماعة من أهل العلم، لأنه ثبت أن أبا داود يسكت أحيانا عما في الصحيحين وعما هو شديد الضعف. قال الحافظ ابن حجر في النكت على كتاب ابن الصلاح 1\439-444 بعد أن ذكر أن أبا داود يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها: (فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم، ويتابعه على الاحتجاج بهم بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع فيعتضد به، أو هو غريب فيتوقف فيه؟ إلى أن قال: فالصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته) ، وأخرجه بهذا اللفظ الشافعي في الأم 2\50.
(3) بدائع الصنائع 2\12.
(4) المبسوط 2\199.(86/201)
المسألة الثانية: معنى النية المعتبرة للتجارة في زكاة الأراضي.
أعتقد أن هذه المسألة من أهم المسائل المطروحة في بحث زكاة الأراضي، كما أنها من أشكل المسائل، لأن كثيرا من الناس لا يدري ما معنى نية التجارة، ومتى تتحصل عنده نية التجارة؟ وهل هناك فرق بين نية التجارة ونية البيع؟ وهل يكفي فيها مجرد الإضمار أو العزم القلبي أو لا بد من عمل آخر، يبين هذا العزم؟ وما الحكم عند التردد في النية؟ وهل يمكن أن يستدل بقرائن الأحوال على تعيين النية؟(86/201)
ولعلي أن أوضح هنا بعض هذه الإشكالات المتعلقة بنية مالك الأرض، وأثر ذلك في إيجاب الزكاة أو عدم إيجابها، وذلك من خلال النقاط الآتية:
أولا: متى تتحصل نية التجارة؟ وما الفرق بينها وبين نية البيع؟
من المسلم به أنه ليس كل من يريد بيع سلعة يريد التجارة بها، لأن مجرد البيع ليس بالضرورة أن يكون تجارة، فبيع السلع يكون لمقاصد أخرى كالتخلص من السلعة، أو عدم الرغبة فيها أحيانا، أو وجود ضائقة، أو نحو ذلك، ولذا فقد ذكر الفقهاء أن التجارة في البيع معناها: تقليب المال بقصد الأرباح
ويظهر من هذا أن نية التجارة في الأرض تغاير نية البيع، فقد ينوي الإنسان بيع الأرض وهو لا يريد المتاجرة فيها، وذلك كمن اشترى أرضا للسكنى أو الاستثمار، ولم يقصد عند الشراء بيعها للتجارة، ثم بدا له بيعها، لسبب أنه رغب عن الأرض، كأن يريد تغيير الموقع إلى موقع أنسب، فهذا في الحقيقة لم ينو التجارة، والذي يظهر أنه لا تجب على مثله زكاة، ولو مر حول أو أكثر على هذه النية.
ومثل هذا أيضا من ورث أرضا وأراد بيعها لقسمة ثمنها على(86/202)
الورثة، لا لقصد الربح والتجارة، فهذا لا زكاة عليه في قيمة الأرض، ولو بقيت على تلك الحال زمنا؛ لأنها لم تكن معدة للتجارة.
وبهذا يعلم أن تحصيل النية للتجارة في الأراضي أو العروض عموما يكون بتحري الربح ببيع العرض، لا بقصد البيع فقط.
ومما يؤيد هذا المعنى أن الزكاة الواردة في الشرع إنما تجب في الأموال التجارية التي يراد منها إنماء المال وربحه، وهذا هو الإعداد للبيع الوارد في الحديث المتقدم: «كان يأمرنا أن نخرج الزكاة من الذي يعد للبيع (1) »
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة؟ 2\95 رقم (1562) ، والطبراني في الكبير 7\253 رقم (7029) ، والدارقطني في كتاب الزكاة. باب زكاة مال التجارة وسقوطها عن الخيل والرقيق 2\127، 128 رقم (2027) والبيهقي في السنن الكبرى كتاب الزكاة باب زكاة التجارة 4\146 رقم (7388) ، وابن حزم في المحلى 5\234، وابن عبد البر في التمهيد 17\130، كلهم من طريق جعفر بن سعد عن خبيب بن سليمان عن أبيه، وفيه زيادة عند الدارقطني في أوله، ومدار الحديث على جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، وهذا إسناد ضعيف لما يلي: 1- فيه جعفر بن سعد، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حزم: مجهول، وقال عبد الحق – في الأحكام-: ليس ممن يعتمد عليه، وقال ابن عبد البر: ليس بالقوي، وقال ابن القطان: ما من هؤلاء من يعرف حاله – يعنى جعفرا، وشيخه وشيخ شيخه – قال الذهبي: وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروى به جملة أحاديث قد ذكر البزار منها نحو المائة، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (ليس بالقوي) . ينظر الأحكام الوسطى 2\171، بيان الوهم لابن القطان 5\139، ميزان الاعتدال 1\407، تهذيب التهذيب 2\80، التقريب (941) . 2- خبيب بن سليمان ذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن حزم: مجهول، وقال عبد الحق: ليس بقوي، قال ابن حجر: وقرأت بخط الذهبي: لا يعرف، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (مجهول) . ينظر تهذيب التهذيب 3\116، تقريب التهذيب (1700) . 3- سليمان بن سمرة بن جندب: قال عنه ابن القطان: مجهول، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (مقبول) . ينظر تهذيب التهذيب 4\173، تقريب التهذيب (2569) . فهذا كلام أهل العلم بالرجال في رواة هذا الإسناد تفصيلا، وبخصوص هذا الإسناد بعينه فقد قال الحافظ الذهبي – كما في الميزان 1\408 – لما ساق جملة من الأحاديث التي رويت بهذا الإسناد: (وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم) ، ولذا قال الحافظ ابن حجر في التلخيص 2\179: (في إسناده جهالة) ، وقال في البلوغ (ص: 112) : بإسناد لين، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفي إسناده ضعف 3\69، وقال الألباني في الإرواء 3\310: (ضعيف) . وبهذا يتبين أن أكثر أهل العلم بالحديث لا يثبت هذا الحديث، أما قول النووي: (وفي إسناده جماعة لا أعرف حالهم ولكن لم يضعفه أبو داود، وقد قدمنا أن ما لم يضعفه فهو حسن عنده المجموع 6\40، وكذا قول الشنقيطي (وهذا الحديث سكت عليه أبو داود رحمه الله ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج عنده) . أضواء البيان 2\137، فإنه اعتماد على إخراج أبي داود للحديث، وسكوته عنه والاعتماد على سكوت أبي داود غير مقبول عند جماعة من أهل العلم، لأنه ثبت أن أبا داود يسكت أحيانا عما في الصحيحين وعما هو شديد الضعف. قال الحافظ ابن حجر في النكت على كتاب ابن الصلاح 1\439-444 بعد أن ذكر أن أبا داود يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها: (فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم، ويتابعه على الاحتجاج بهم بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع فيعتضد به، أو هو غريب فيتوقف فيه؟ إلى أن قال: فالصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته)(86/203)
ثانيا: إبهام النية أو التردد فيها، وهل يمكن أن يستدل بقرائن الأحوال على تعيين النية؟
في بعض الأحيان يشتري الإنسان الأرض وهو لم يحدد النية عند شرائها، فهو يمكن أن يبيعها، ويمكن أن يستغلها بالاستثمار، أو الإيجار، أو السكنى، وهذه النية ربما تبقى عند الإنسان فترة زمنية طويلة، وهو لم يجزم على شيء في هذا العقار.
فهل هذه النوايا غير الواضحة، والمترددة أحيانا، تؤثر في حكم زكاة الأرض؟
الذي يظهر لي من كلام الفقهاء أنه لا بد من النية الجازمة على(86/203)
التجارة، وأن معنى اشتراطهم النية: أن يريد بقلبه وهو يمتلك هذه الأرض أنها للتجارة فقط، فغرضه واضح ونيته جازمة، وقد أفتى جماعة من الفقهاء المعاصرين بعدم وجوب الزكاة في الأرض المملوكة التي لم يجزم مالكها على نية معينة من تجارة أو غيرها؛ لأن الزكاة لا تجب مع تردد مالك الأرض في النية ولأن الأصل في العروض هو الاقتناء لا التجارة، فلا بد من النية الجازمة الناقلة عن هذا الأصل.
وعلى هذا فمن اشترى الأرض ولا نية له، أو اشتراها وهو متردد في النية، فإنه لا زكاة عليه في مثل هذه الأرض، كما أنه لا زكاة عليه إذا كانت نيته مضادة لنية التجارة، كأن ينوي بشراء الأرض القنية أو الاستغلال، كما سبق (1)
__________
(1) راجع المبحث الأول والثاني.(86/204)
ويتبادر هنا سؤال مهم وهو: هل يمكن أن يستدل بقرائن الحال على تعيين النية؟
وذلك كمن يشتري ويبيع كثيرا في العقار، أو يشتري الأراضي الكثيرة ويبيعها بعد فترة، هل يمكن أن يقال إن نية هذين الشخصين معروفة من قرائن الحال، حيث إن الظاهر أن نيتهما التجارة، وليس لهما نية غيرها.
القرائن فيما يظهر ربما تحدد النية وتدل عليها، كما في المثالين السابقين، ولكن يبقى القصد والنية في ضمير الإنسان، فإذا كان جازما على نية التجارة وجبت عليه الزكاة، وإلا فلا.(86/205)
ثالثا: إذا جمع نية التجارة مع غيرها.
لو نوى الشخص حين شراء الأرض أنها للتجارة والإجارة أو الاستغلال، أو نوى بشرائها التجارة والانتفاع بها؛ بحيث ينوي أنه سينتفع بها وربما يبيعها متى ما تحصل له ثمن مناسب، ومثل هذا يحصل عند بعض الناس، يقول أنا اشتريت ناويا الانتفاع إلا أن تأتي هذه الأرض بفائدة فأبيع، فهل هذه الأرض تجب فيها الزكاة؟
يذكر فقهاء المالكية في مثل هذه المسألة خلافا، هو روايتان عن مالك.(86/205)
فالرواية الأولى: وجوب الزكاة على من نوى عند شراء العرض القنية والتجارة أو الغلة (الاستغلال) والتجارة، وذلك مراعاة لقصد التنمية بالغلة والتجارة (1) ولأن القنية والتجارة أصلان، كل واحد قائم بنفسه، منفرد بحكمه، أحدهما يوجب الزكاة والآخر ينفيها، فإذا اجتمعا كان الحكم للذي يوجب الزكاة؛ احتياطا، كشهادة تثبت حقا وشهادة تنفيه، وكقول مالك فيمن تمتع وله أهل بمكة وأهل ببعض الآفاق إنه يهدي احتياطا فهذا مثله (2)
لكن يمكن أن يجاب عن هذا بما يلي:
1- أن قصد التنمية باستغلال العروض يجعل الزكاة في المستغل دون الأصل، كما هو معلوم في زكاة المستغلات دون أصولها، ولذا فصاحب الأرض إذا نوى استغلالها فالزكاة في الغلة فقط، ولا زكاة في عين الأرض - كما تقدم في المبحث الثاني - (3)
__________
(1) الفروق 2\196.
(2) البيان والتحصيل 2\368، التاج والإكليل 3\182، 183.
(3) راجع ص 159.(86/206)
2- المنع من جعل التجارة أصلا في العروض، بل الأصل في العروض هو القنية، ولذلك احتاج من أراد التجارة إلى النية المصاحبة، وجعلت شرطا فيها.
3- أن الأخذ بمبدأ الاحتياط إنما يكون عند تقارب الدليلين أو تكافئهما، مع عدم وجود المرجح، وهنا لم تتكافأ الأدلة، ووجد المرجح وهو الأصل، فإن الأصل أن العروض تكون للقنية لا للتجارة.
والرواية الثانية: سقوط الزكاة على من اشترى العرض بنية القنية والتجارة، أو بنية الغلة والتجارة، وذلك لتغليب النية في القنية على نية التنمية فيمن أراد الاستغلال؛ ولأن القنية هي الأصل في العروض (1)
والذي يظهر رجحانه: الرواية الثانية، وعليها فإنه لا تجب الزكاة في الأرض إذا نوى بها الانتفاع والتجارة معا، أو نوى بها الاستغلال والتجارة معا؛ لأن من شرط العين التي تجب فيها الزكاة أن تتمحض النية فيها للتجارة، وهذه المسألة تشبه المسألة السابقة التي أبهمت فيها النية، أو ترددت عند المالك، فإن النية الموجبة للزكاة هي النية الجازمة التي لم يقترن بها غيرها، خاصة إذا تقرر بأن الأصل في شراء الأرض الانتفاع (2)
__________
(1) البيان والتحصيل 2\368، الفروق 2\196
(2) البيان والتحصيل 2\368، الفروق 2\196.(86/207)
ولا يعني هذا تحول نية التجارة بمجرد استغلال الأرض أو الانتفاع بها بأي وجه كان، كمن عنده أراض تجارية، فأراد أن يستفيد منها فائدة مؤقتة، كأن يجعلها موقفا للسيارات، أو مستودعا أو نحو ذلك، فهذا لا يخرجها عن نية التجارة؛ لأنه في الحقيقة يريد بيعها، ولو على تلك الحال، وقد أشار بعض الفقهاء - كما سبق - إلى مثل هذه المسألة حيث ذكروا: وجوب الزكاة في الأرض التجارية إذا زرعت (1)
ولعل هذا هو الذي جعل بعض فقهاء المالكية يرجح وجوب الزكاة على من نوى عند الشراء الإجارة والتجارة، أو القنية والتجارة حيث قالوا: "إن نوى بشراء العرض التجارة والإجارة كان ذلك أبين في وجوب الزكاة، ومثله إذا نوى التجارة والاستمتاع بالاستخدام والوطء؛ لأنه معلوم أن كل من نوى التجارة بانفرادها يستمتع في خلال ذلك بالاستخدام والركوب والكراء إلى أن يتفق له البيع" (2)
فهم نظروا إلى أن وجود الانتفاع أو الاستغلال لعين السلعة مع وجود الأصل وهو نية التجارة لا يسقط حكم الزكاة فيها؛ لأنه يريد بالسلعة البيع متى ما اتفق له ذلك، وهذا حق من هذا الوجه، ولعله هو المراد عند من اختار هذا القول من فقهاء المالكية.
__________
(1) راجع ص 198.
(2) التاج والإكليل 3\182.(86/208)
رابعا: شراء الأرض لحفظ المال، ونية التجارة في المستقبل، والانتظار إلى وقت ارتفاع الأسعار.
قد يشتري الإنسان الأرض وفي نيته أنه سيبيع متى ما تحصل له فيها ربح مناسب، لكن ليس هذه السنة ولا السنة المقبلة، بل ربما يشتري وهو يعلم أنه لن يبيع إلا بعد سنوات قد تصل إلى الخمس أو أكثر، وهذا يحصل عند بعض الناس يشتري من المخططات البعيدة عن البلد، في حال رخص الأرض، وينتظر إلى وقت قرب الناس ورغبتهم فيها بعد زمن حتى يرتفع سعرها، وهذا في الغالب، وربما يكون القصد من الشراء ادخارها للزمن، وحفظ المال.
فهل هذه النية المستقبلة في بيع الأرض موجبة لزكاتها، أو لا بد من كون نية البيع والتجارة في الوقت الحاضر؟
هذه المسألة - فيما أحسب - محل اتفاق بين أهل العلم ممن قال بوجوب زكاة العروض، فهم لا يختلفون في وجوب الزكاة على من احتكر السلعة التجارية عنده سنوات بل يجب عليه أن يزكي قيمة هذه الأراضي كل حول عند الجمهور، خلافا لفقهاء المالكية الذين لا يوجبون الزكاة على المحتكر كل حول، بل تجب عندهم(86/209)
الزكاة مرة واحدة عند بيع الأرض (1)
وعلى هذا فلا تأثير لتأجيل نية البيع، ما دامت الأرض مرصدة للتجارة، والمقصود منها نماء المال.
لكن لا بد هنا من التنبيه على أن الإنسان قد يؤجل نية بيع الأرض التي يمتلكها، لا لقصد التجارة، وذلك كمن يدخل العرض ملكه بالإرث أو الهبة والمنحة، ولا ينوي التجارة بها الآن، بل ينوي أنه سيبيع هذه الأرض في المستقبل؛ لأن سعر الأرض الآن لا يناسب بيعها، فهذا لا زكاة عليه فيها؛ لأن هذه الأرض لم تعد للبيع والتجارة، والعبرة بما أعد للبيع بقصد التجارة، كما جاء في الآثار المتقدمة، وكما سبق في بيان معنى نية التجارة ومتى تحصل (2)
ومن هنا يتضح الفرق بين من اشترى الأرض يريد التجارة بها في المستقبل، ومن دخلت الأرض في ملكه ولم ينو التجارة فيها ولا بيعها الآن، فالأول تجب عليه زكاة الأرض؛ لنيته التجارة من حين الشراء، والثاني لا تجب عليه؛ لعدم وجود النية عنده.
ولعل هذه المسألة مما يفيد فيها قول جمهور الفقهاء حين اشترطوا لوجوب زكاة عروض التجارة: أن يملك العروض بفعله
__________
(1) ستأتي هذه المسألة ومناقشة هذا القول ص245، وانظر: التفريع 1\280، المعونة 1\360.
(2) راجع ص 208، 209.(86/210)
واختياره، فإنه إذا ملك العروض من غير فعله كالموروث، أو الموهوب على قول، لم تجب عليه فيه زكاة عندهم
فيكون قولهم هذا معمولا به في هذه الصورة، فلا يزكي الشخص عن الأرض الموهوبة والموروثة حتى ينوي فيها التجارة، وقد أفتى العلامة ابن باز في مثل هذه المسألة بعدم وجوب الزكاة (1)
__________
(1) مجموع فتاوى ابن باز 14\164.(86/211)
خامسا: نية إضمار بيع الأرض والتجارة فيها، هل يكفي فيها مجرد الإضمار والعزم القلبي أو يحتاج إلى شيء آخر يبين هذا العزم؟ كعرضها على المكاتب العقارية والإعلان عن بيعها، وهل هذا مؤثر في وجوب الزكاة؟
يبدو أن كلام أهل العلم في اشتراط النية لا يتعدى العزم القلبي على إرادة التجارة، ولم يذكر أحد من الفقهاء - في حدود إطلاعي - أن من شرط نية التجارة في العروض إعلان البيع أو عرضه أو نحو ذلك.
فعلى هذا ليس من شرط النية أن يعرض هذه الأرض عند محلات العقار للبيع.
وعليه أيضا فليس من شرط النية أن يجعل على الأرض لوحة للبيع، أو أن يعلن عن هذه النية عند الناس في المحافل أو مواضع(86/211)
الإعلانات أو الصحف ونحو ذلك، بل يكفي أن ينوي بقلبه أنه متى ما حصل له فيها ربح يرضاه باع هذه الأرض، فهي مرصدة للبيع في هذه الصورة
ومن هذا يتضح أن الزكاة في الأراضي لا تخص العقاريين والتجار فقط، كما يحسب بعض الناس - بل هي واجبة على كل من نوى التجارة بالعقار، وأراد الربح في بيع الأراضي وشرائها، ولو كان من غير تجار العقار.(86/212)
المسألة الثالثة: تغيير النية، ومدى تأثيره على حكم الزكاة.
يتفرع عن هذه المسألة ثلاثة فروع:
الفرع الأول: تغيير نية التجارة في الأرض إلى الانتفاع بها.
ذكر عامة الفقهاء من الحنفية (1) والمالكية (2) والشافعية (3) والحنابلة (4)
__________
(1) المبسوط 2\199، بدائع الصنائع 2\13
(2) المدونة 1\312، التاج والإكليل 3\182.
(3) المجموع 6\8، أسنى المطالب 1\382.
(4) المغني 4\257، الإنصاف 3\156.(86/212)
أن من اشترى عرضا للتجارة، ثم بدا له أن يجعله لغير التجارة، أنه يخرج بهذه النية عن كونه للتجارة، ولا تجب عليه فيه الزكاة.
وعلى ذلك: فمن اشترى أرضا يريدها للتجارة والتكسب، ثم غير نيته إلى الرغبة في سكناها، أو استغلالها بزراعة أو إيجار أو نحوه، فلا يجب عليه زكاة في هذه الأرض.
وقد علل الفقهاء هذا القول بما يلي:
أولا: أن القنية الأصل، ويكفي في الرد إلى الأصل مجرد النية، كما لو نوى بالحلي التجارة، أو نوى المسافر الإقامة (1)
ثانيا: أن نية التجارة شرط لوجوب الزكاة في العروض، فإذا نوى القنية زالت نية التجارة، ففات شرط الوجوب (2)
ثالثا: أن الاقتناء معناه الحبس للانتفاع، وقد وجد بالنية مع الإمساك، فيترتب الأثر على تلك النية بمجردها (3) وبعبارة أخرى: أن من نوى ترك التجارة، تارك لها في الحال فاقترنت النية بعمل هو ترك التجارة (4)
ولم يخالف في هذه المسألة سوى أشهب من المالكية، في
__________
(1) بدائع الصنائع 2\13، المغني 4\257، أسنى المطالب 1\382.
(2) المغني 4\257.
(3) أسنى المطالب 1\382.
(4) المبسوط 2\199، بدائع الصنائع 2\13.(86/213)
رواية له عن مالك، حيث ذكر: أن حكم التجارة لا يسقط عن العرض بمجرد النية المخالفة للتجارة (1)
وعلة هذا القول: أن التجارة والاقتناء عندهم أصلان، فلا ترجع السلعة من أحدهما إلى الآخر بمجرد النية (2) ثم استدلوا - أيضا - بالقياس على السائمة إذا نوى بها العلف (3) فلا تكون معلوفة حتى يعلفها حقيقة.
لكن هذا القول ضعيف جدا، ويمكن أن يجاب عما عللوا به بما يلي:
1- المنع من كون التجارة أصلا في العروض، بل الأصل هو الاقتناء؛ لأنه إمساك وكف، والتجارة طارئة لأنها فعل وتصرف، والطارئ لا بد فيه من النية، بخلاف الأصل، فإنه لا يحتاج إلى نية في الرد إليه، ومثال ذلك السفر والإقامة، فالإقامة أصل فإذا نواها المسافر صار مقيما، أما السفر فإنه طارئ فإذا نواه المقيم لم يصر مسافرا؛ لأن السفر إحداث فعل، والفعل لم يوجد (4)
__________
(1) البيان والتحصيل 2\368.
(2) البيان والتحصيل 2\368.
(3) المغني 4\257
(4) الحاوي الكبير 3\297، المغني 4\257.(86/214)
أما القياس على السائمة إذا نوى بها العلف، فأجيب عنه: بالفرق، فإن السائمة لا تشترط فيها نية السوم، بل الشرط فيها السوم حقيقة، فلا ينتفي الوجوب إلا بانتفاء السوم (1)
__________
(1) المغني 4\257.(86/215)
الفرع الثاني: تغيير نية الانتفاع بالأرض إلى التجارة بها.
إذا كان عند الإنسان أرض ينويها للسكنى، أو الاستغلال بالزارعة أو الإجارة أو نحو ذلك، ولم ينوها للتجارة، ثم عدل عن هذه النية إلى نية التجارة بهذه الأرض ببيعها، فهل تجب فيها الزكاة، وتكون من عروض التجارة بمجرد النية؟
هذه المسألة لها ارتباط وثيق بمسألة اشتراط العمل مع نية التجارة، وهي مسألة خلافية يجري فيها خلاف العلماء في مسألة اشتراط العمل في العروض حتى تكون للتجارة، وسوف يأتي ذكر القولين في المسألة مع أدلتها، وبيان الراجح فيها إن شاء الله (1)
__________
(1) في المطلب الثاني من هذا المبحث ص227.(86/215)
الفرع الثالث: تغيير نية التجارة إلى الانتفاع، ثم الرجوع إلى التجارة.
لو أن أحدا اشترى الأرض للتجارة، ثم عدل عن هذه النية، واستغل الأرض بأي نوع من أنواع الاستغلال أو جعلها للقنية، ثم نواها بعد مدة للتجارة، فهل تصير للتجارة أو لا تتحول بهذه النية؟(86/215)
في هذه المسألة للعلماء قولان:
القول الأول: أن لهذه الأرض حكم القنية - بمعنى أنها لا تتحول فيها النية عن القنية إلى التجارة حتى يبيعها ويستقبل بثمنها حولا - وهذه رواية ابن القاسم عن مالك (1) وهو مقتضى قول جمهور الفقهاء (2) وقد صرح به بعض الحنابلة (3)
وجه هذا القول: أن أصل العرض القنية فأثر في رده إلى أصله مجرد النية، كالذهب والفضة (4)
القول الثاني: أن لهذه الأرض حكم التجارة، وهذه رواية أشهب عن مالك (5)
وجه هذا القول: أن النية مؤثرة في العروض، كما لو اشتراها للتجارة، ثم نوى بها القنية؛ ولأنه لما اشتراها للتجارة وثبت لها هذا الحكم صار أصلا لها فرجعت إليه لمجرد النية (6)
الراجح: يظهر - والله أعلم - أن الحكم في هذه المسألة يتبع نية
__________
(1) المدونة 1\311، المنتقى 2\121، التاج والإكليل 3\191.
(2) كما سيأتي في المطلب الثاني ص 227.
(3) المغني 4\257.
(4) المنتقى 2\121، والتاج والإكليل 3\191.
(5) المدونة 1\311، المنتقى 2\121، التاج والإكليل 3\191.
(6) المدونة 1\311، المنتقى 2\121، التاج والإكليل 3\191.(86/216)
المالك، فإذا نوى بها التجارة بعد نيته الاقتناء أو الاستغلال فإنها تكون للتجارة، وتجب فيها الزكاة إذا حال عليها الحول، وهذه المسألة في حقيقتها فرع عن القول باعتبار النية بمجردها، فمن قال: إن النية كافية لإيجاب الزكاة في العروض، قال بوجوب الزكاة هنا، ومن اشترط مع النية التصرف والعمل حتى يكون العرض تجاريا لم يقل بالوجوب، وستأتي هذه المسألة مفصلة إن شاء الله (1)
__________
(1) في المطلب الثاني ص227.(86/217)
المسألة الرابعة: التحايل لإسقاط الزكاة مع نية التجارة.
مع ذكر كثير من أهل العلم تحريم الحيل المسقطة للزكاة، إلا أنهم اختلفوا في ترتب الأثر على هذا الفعل المحرم، بمعنى هل هذا الفعل يسقط الزكاة أو لا؟
وقبل ذكر الخلاف هذا توضيح لمحل النزاع: قال القرطبي: "أجمع العلماء على أن للرجل قبل حلول الحول التصرف في ماله بالبيع والهبة إذا لم ينو الفرار من الصدقة، وأجمعوا على أنه إذا حال الحول وأظل الساعي أنه لا يحل له التحيل ولا النقصان، ولا أن يفرق بين مجتمع ولا أن يجمع بين متفرق (1)
وبهذا يعلم أن الخلاف إنما هو فيمن تصرف في ماله، أو غير نيته
__________
(1) تفسير القرطبي 9\236.(86/217)
لقصد إسقاط الزكاة لا لقصد آخر، وكان ذلك قبل حولان الحول.
اختلف أهل العلم فيمن تحيل لإسقاط الزكاة بأي نوع من أنواع الحيل وذلك كمن غير نية التجارة في الأرض، أو باعها قبل الحول، أو أكثر من شراء الأراضي فرارا من الزكاة، هل يعامل ذلك المتحيل أو الفار من الزكاة بنقيض قصده فتجب عليه الزكاة أو لا؟
للعلماء في هذه المسألة قولان:
القول الأول: أن الزكاة تسقط بالتصرف في المال قبل الحول، ولو كان ذلك لقصد الفرار من الزكاة، وهذا هو قول الحنفية (1) والشافعية (2) وهو رواية عند الحنابلة (3) وهو قول الظاهرية (4)
__________
(1) الفتاوى الهندية 6\392. غمز عيون البصائر 1\454.
(2) حلية العلماء 3\22، روضة الطالبين 2\190، المجموع 5\453. شرح البهجة 2\165.
(3) الفروع 3\336، الإنصاف 3\32.
(4) المحلى 4\207.(86/218)
أدلة هذا القول:
أولا: أنه فات شرط وجوب الزكاة وهو الحول. فلا فرق بين أن يكون على وجه يعذر فيه أو لا يعذر كما لو أتلفه قبل الحول لحاجته (1)
وأجيب عن هذا بأمور:
1- بالفرق بين من له عذر ومن ليس له عذر، ومن أتلف المال لحاجته، ومن فر من الزكاة، فإن من أتلف المال لحاجته لم يقصد قصدا فاسدا، بخلاف الفار من الزكاة فإن قصده فاسد خبيث (2)
2- أن من فوت شرط الوجوب وهو الحول فرارا من الزكاة مخادع لله في الحقيقة، لا يريد أداء الزكاة، ولو فعل ذلك كل حول لم تجب عليه زكاة أبدا (3)
3- أن تفويت شرط الوجوب فرارا من الزكاة مع أنه خداع لله
__________
(1) المغني 4\137.
(2) المغني 4\137.
(3) إعلام الموقعين 3\195، 196.(86/219)
رب العالمين، فهو أيضا هوس لا حقيقة له (1) قال ابن القيم: "فيا لله العجب! أيروج هذا الخداع والمكر والتلبيس على أحكم الحاكمين الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ ثم إن هذه الحيلة كما هي مخادعة لله، ومكر بدين الإسلام، فهي باطلة في نفسها، فإنها إنما تصير للقنية إذا لم يكن من نيته إعادتها للتجارة، فأما وهو يعلم أنه لا يقتنيها ألبتة ولا له حاجة باقتنائها، وإنما أعدها للتجارة، فكيف تتصور منه النية الجازمة للقنية وهو يعلم قطعا أنه لا يقتنيها ولا يريد اقتناءها، وإنما هو مجرد حديث النفس أو خاطر أجراه على قلبه بمنزلة من يقول بلسانه: أعددتها للقنية وليس ذلك في قلبه؟ أفلا يستحيي من الله من يسقط فرائضه بهذا الهوس وحديث النفس؟ " (2)
ثانيا: أن الفرار من الزكاة امتناع عن الوجوب، لا إسقاط للواجب (3)
وأجيب عن هذا: بأن الأمر في كلا الحالين واحد، قال ابن تيمية: "لكن شبهة المرتكب أن هذا منع للوجوب لا رفع له، وكلاهما في
__________
(1) الفتاوى الكبرى الفقهية 6\119.
(2) إعلام الموقعين 3\195، 196.
(3) عمدة القاري 14\111.(86/220)
الحقيقة واحد" (1)
القول الثاني: أن الزكاة لا تسقط بالحيلة، بل هي واجبة في ذمة المتحيل، في قيمة هذه الأراضي، وهذا قول المالكية (2) وهو الذي عليه جماهير الحنابلة (3) واختاره جمع من المحققين (4) كما قواه بعض محققي الشافعية (5)
وقد شرط جماعة من فقهاء الحنابلة: أن يكون ذلك عند قرب وجوبها؛ لأنه مظنة قصد الفرار، بخلاف ما لو كان في أول الحول أو وسطه؛ لأنها بعيدة أو منتفية، وحدده بعضهم: بما قبل الحول بيومين، وقيل: أو بشهرين لا أزيد، والمذهب أنه إذا فعل ذلك فرارا منها أنها لا تسقط مطلقا أطلقه أحمد (6) وحدده بعض المالكية بشهر ونحوه (7)
وقد دل لهذا القول عدة أدلة منها:
أولا: استدل جماعة من الفقهاء بقوله سبحانه:
__________
(1) الفتاوى الكبرى الفقهية 6\119.
(2) المدونة 1\363، المنتقى شرح الموطأ 2\142، مواهب الجليل 2\322، حاشية الدسوقي 1\476.
(3) الفروع 2\264، 265، الإنصاف 3\32، الروض المربع 3\363.
(4) الفتاوى الكبرى الفقهية 6\119، إعلام الموقعين 3\194، الفروع 2\264.
(5) فتح الباري 12\333.
(6) المبدع 2\305.
(7) تفسير القرطبي 9\236.(86/221)
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} (1) {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} (2) {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} (3) {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (4) ، فإن الله تعالى عاقبهم بذلك، لفرارهم من الصدقة (5)
ثانيا: حديث عمر رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنيات (6) » فهو حجة واضحة على إسقاط الحيل المحرمة، وإنما يخادع بالنيات من لا يطلع عليها (7)
ثالثا: حديث أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة (8) »
فهذا الحديث فيه النهي الصريح عن إسقاط الزكاة بالحيلة، وما نهى عنه الشارع فهو ملغى باطل (9)
ولذلك قال الشاطبي: "وأما مع القصد (يعني قصد رفع حكم السبب وهو حولان الحول) إلى ذلك فهو معنى غير معتبر؛ لأن
__________
(1) سورة القلم الآية 17
(2) سورة القلم الآية 18
(3) سورة القلم الآية 19
(4) سورة القلم الآية 20
(5) المغني 4\137، المبدع 2\305.
(6) أخرجه البخاري في مواضع، فهو الحديث الأول في الصحيح في باب بدء الوحي 1\3، ومسلم في باب قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنية) الخ 3\1515 رقم (1907) .
(7) طرح التثريب 2\21، 22.
(8) أخرجه البخاري في الزكاة باب لا يجمع بين متفرق. . . . 2\526 رقم (1382) وفي كتاب الحيل باب في الزكاة وأن لا يفرق بين مجتمع 6\2551 (6555) .
(9) المنتقى شرح الموطأ 2\142.(86/222)
الشرع شهد له بالإلغاء على القطع، ويتبين ذلك بالأدلة المذكورة إذا عرضت المسألة عليها، فإن الجمع بين المتفرق أو التفرقة بين المجتمع قد نهي عنها إذا قصد بها إبطال حكم السبب بالإتيان بشرط ينقصها حتى تبخس المساكين، فالأربعون شاة فيها شاة بشرط الافتراق ونصفها بشرط اختلاطها بأربعين أخرى مثلا، فإذا جمعها بقصد إخراج النصف فذلك هو المنهي عنه، كما أنه إذا كانت مائة مختلطة بمائة وواحدة ففرقها قصدا أن يخرج واحدة فكذلك وما ذاك إلا أنه أتى بشرط أو رفع شرط يرفع عنه ما اقتضاه السبب الأول، فكذلك المنفق نصابه بقصد رفع ما اقتضاه من وجوب الإخراج" (1)
رابعا: أن من أتى بسبب يسقط الواجبات على وجه محرم، وكان مما تدعو النفوس إليه، ألغي ذلك السبب وصار وجوده كالعدم، ولم يترتب عليه أحكامه، وهذه قاعدة فقهية، ذكرها ابن رجب في قواعده، وقال: "ويتخرج على ذلك مسائل كثيرة": منها الفار من الزكاة قبل تمام الحول، بتنقيص النصاب، أو إخراجه عن ملكه، تجب عليه الزكاة، ولو صرف أكثر أمواله في ملك ما لا زكاة فيه كالعقار والحلي، فهل ينزل منزلة الفار؟ على وجهين (2) ولذلك احتج جماعة من الفقهاء على
__________
(1) الموافقات 1\279.
(2) قواعد ابن رجب ص 230، 231.(86/223)
الفار من الزكاة بنصب اليهود الشبك يوم الجمعة وأخذوا يوم الأحد ما سقط فيها وأنه شرع لنا (1)
خامسا: أن الفار من الزكاة قصد قطع حق من انعقد سبب استحقاقه، فلم تسقط عنه الزكاة، كما لو طلق امرأته في مرض موته (2)
وقد أجيب عن هذا: بالفرق بين الفرار هنا والفرار بطلاق المرأة بائنا في مرض الموت؟ وذلك من وجهين:
أحدهما: أن الحق في الإرث لمعين، فاحتيط له بخلاف الزكاة.
والثاني: أن الزكاة مبنية على الرفق والمساهلة، وتسقط بأشياء كثيرة للرفق، كالعلف في بعض الحول، والعمل عليها، وغير ذلك بخلاف الإرث (3)
ويمكن أن يناقش هذا: بأن كون الزكاة لغير معين، أو أن مبناها على المساهلة، لا يعني سقوطها بالتحايل، فإن الحرام أو الضرر ممنوع إحداثه على المعين وغيره.
سادسا: أن فعل هذه الحيل يؤدي إلى إلحاق الضرر بالفقراء (4)
سابعا: أن الفار من الزكاة لما قصد قصدا فاسدا، اقتضت
__________
(1) الفروع 3\408.
(2) المغني 4\137، الكافي 1\284، المبدع 2\305.
(3) المجموع 5\453.
(4) الفتاوى الهندية 6\392.(86/224)
الحكمة معاقبته بنقيض قصده (1) يقول ابن القيم: "قد استقرت سنة الله في خلقه شرعا وقدرا على معاقبة العبد بنقيض قصده، كما حرم القاتل الميراث، وورث المطلقة في مرض الموت، وكذلك الفار من الزكاة لا يسقطها عنه فراره، ولا يعان على قصده الباطل، فيتم مقصوده ويسقط مقصود الرب تعالى، وكذلك عامة الحيل إنما يساعد فيها المتحيل على بلوغ غرضه، ويبطل غرض الشارع" (2)
الراجح في المسألة: بعد النظر في هذه المسألة وأدلتها، يتبين رجحان القول الثاني وهو عدم سقوط الزكاة بالحيلة، وذلك لقوة الأدلة التي ذكرها أصحاب هذا القول، ولضعف أدلة القول الآخر، خاصة إذا قلنا: إن الفار من الزكاة مؤاخذ بعمله هذا في الباطن، وأنه مطالب فيما بينه وبين الله تعالى، وهذا ما ذكره أكثر الفقهاء حتى من الذين قالوا تسقط عنه الزكاة في الظاهر (3)
فعلى هذا القول الراجح تجب الزكاة في الأرض التجارية التي يتحايل أصحابها ببيعها قبل الحول، أو يتحايلون بتغيير النية من التجارة إلى غيرها، على أنه لو كان عند الإنسان أرض تجارية وباعها قبل الحول بنقد، أو كان عنده نقد واشترى به قبل حوله أرضا يريد بيعها
__________
(1) المغني 4\137.
(2) إعلام الموقعين 3\194.
(3) المنثور في القواعد 2\68.(86/225)
فرارا من الزكاة، فإن الزكاة واجبة عليه عند رأس الحول للمال الأول، كما لو اشترى بنقد عروض تجارة، أو باع العروض بعرض أو بنقد، وقد صرح بهذا فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة(86/226)
المطلب الثاني: اشتراط العمل في الأرض المعدة للبيع:
يذكر كثير من الفقهاء أن الشرط الثاني من شروط وجوب الزكاة في عروض التجارة بعد النية، هو: العمل، والمراد بالعمل المؤثر في زكاة العروض يختلف تفسيره في نظر الفقهاء القائلين بهذا القول، فمنهم من قال: إن العمل هو: أن يمتلك الإنسان العرض بفعله كالشراء، أو نحوه من المعاوضات المالية فقط، وبعضهم قال: العمل هو: أن يمتلك الإنسان العرض بفعله بمعاوضة مالية كالشراء، أو غير مالية كالمعاوضة في عقد النكاح والخلع، وبعضهم قال: العمل المؤثر هو: أن يمتلك الإنسان العرض بفعله ولو بغير معاوضة مالية كالهبة
وعلى كل فالمراد باشتراط هذا الشرط هو: إخراج ما دخل ملك الإنسان بغير فعله، كالميراث، فإنه لا تجب في الموروث من العروض زكاة ولو نوى بها التجارة، ومثله ما دخل ملكه بمجرد قبوله، كالهبة والوصية عند بعضهم، أو دخل ملكه بمعاوضة ليس المقصود منها المال، كعوض النكاح والخلع عند آخرين.
ومن هنا يلاحظ اختلاف الفقهاء القائلين باشتراط هذا الشرط في تفسيره.(86/227)
ولا أرى أن الحاجة تدعو إلى تفصيل هذا الاختلاف - لأن ذلك يطول، ويبعد عن مقصود البحث - لذا سأكتفي بمناقشة هذا الشرط من أصله، وذلك ببيان سبب اشتراط هذا الشرط، وأدلته، ثم بيان وجهة النظر الأخرى في اشتراط هذا الشرط، والراجح في هذه المسألة.
فأما سبب اشتراط هذا الشرط: فهو أن كثيرا من الفقهاء يرون أن النية غير كافية لجعل العرض تجاريا، بل لا بد من عمل يوضح هذه النية ويبينها، ولا يكون هذا العمل إلا بامتلاك العين عن طريق الاختيار للملك - سواء كان بمعاوضة أو غير معاوضة - مع مصاحبة نية التجارة.
فأما ما يدخل الملك من غير اختيار، كالإرث، فإنه لا تؤثر فيه النية حتى لو كان الموروث من العرض تجاريا، فإنه لا تجب فيه زكاة حتى يبيعه ويشتريه بنية التجارة، ومثل ذلك عند الأكثرين ما لو دخل العرض ملكه باختيار منه - بعقد معاوضة كالشراء أو بغير معاوضة كالهبة - لكنه دخل ملكه من غير مصاحبة لنية التجارة، وذلك كمن اشترى أرضا ولم ينو أنها للتجارة، فلا تكون للتجارة بحال، حتى لو نوى فيما بعد بيعها تجارة، وذلك لأنه لا بد من كون النية مصاحبة للشراء.(86/228)
وإذا تبين ذلك فإن هذا القول بجملته هو قول أكثر فقهاء المذاهب كما سبق، فقد نص عليه فقهاء الحنفية (1) والمالكية (2) والشافعية (3) والحنابلة (4)
وقد استدل أصحاب هذا التوجه بعدة أدلة، أهمها في الجملة ما يلي:
أولا: استدلوا بحديث: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به (5) »
قالوا: فهذا الحديث يدل على أن مجرد النية لا عبرة به في الأحكام، فلا تكفي مجرد نية التجارة ليكون العرض للتجارة (6)
ومعنى ذلك أن الزكاة إنما وجبت في العرض لأجل التجارة، والتجارة تصرف وفعل، والحكم إذا علق بفعل لم يثبت بمجرد النية، حتى يقترن به الفعل (7)
__________
(1) المبسوط 2\199، بدائع الصنائع 2\12، 13.
(2) المعونة 1\372، التاج والإكليل 3\182.
(3) المجموع 6\6، مغني المحتاج 2\107.
(4) المغني 4\250، الإنصاف 3\154.
(5) أخرجه البخاري في باب إذا حنث ناسيا في الأيمان. . . إلخ 6\2454، ومسلم في باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر 1\116.
(6) بدائع الصنائع 2\11.
(7) الحاوي الكبير 3\296.(86/229)
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن الحديث دليل على عدم مؤاخذة الإنسان بخواطر نفسه ووساوسه التي لا يتبعها عمل أو كلام، وليس فيه عدم اعتبار للنية أو إلغاء لها، بل الثابت - كما سيأتي - اعتبار النية في كل الأحكام، ومن ذلك اعتبارها في زكاة العروض، لكن النية تحتاج إلى بيان، والبيان يكون بالفعل، أو القول الذي هو فعل، والتجارة فعل وتصرف فإذا نواها المالك للسلعة، بحيث كان يعرض هذه السلعة في الأسواق، أو ينتظر وقت غلائها ليبيعها، فهذه هي حقيقة التجارة بلا شك، وإن كان فعل التجارة ليس فيها ظاهرا
ثانيا: استدلوا بعدة أقيسة منها:
1- قالوا: إن العروض إذا كانت للاقتناء، فنوى بها التجارة فقد نوى التجارة ولم يفعلها، فلم يبطل حكمها، فتبقى للاقتناء ولا تصير للتجارة، كما لو كان مقيما فنوى السفر ولم يسافر، لا يصير مسافرا ويبقى مقيما، والمعنى أنه نوى السفر ولم يخرج فبقي على الإقامة، كذلك هذا، والمعنى فيه أن السفر والتجارة عمل، فما لم يوجد العمل لا يحكم به (1)
__________
(1) المبسوط 2\199، الفروق للكرابيسي 1\74، 75، مغني المحتاج 2\107، المغني 4\251.(86/230)
ويمكن أن يجاب عن هذا القياس: بأنه قياس لا يستقيم، حيث إن بين المقيس والمقيس عليه فروقا كثيرة؛ فإن الحكم بالسفر تترتب عليه كثير من الأحكام التي يتطلبها السفر وما فيه من مشقة ومكابدة وعمل، بينما التجارة قد تكون بمجرد تبيين النية وذلك بعرض هذه السلعة من الأرض أو غيرها للبيع، فاشتراط العمل مع نية التجارة يختلف عن اشتراط السفر لنية السفر.
ثم إن نية التجارة شرط لوجوب الزكاة في العروض، أما نية السفر فليست شرطا لحقيقة السفر، بل الشرط وجود السفر ولو لم ينوه.
2- قالوا: ولأنه ما لم يكن للزكاة من أصله لم يصر للزكاة بمجرد النية، فالنية لا تنقل عن الأصل، كالمعلوفة إذا نوى إسامتها (1)
ويمكن أن يجاب عن هذا القياس: بالفرق أيضا، فإن النية في إسامة المعلوفة ما لم يكن هناك إسامة لا تغير من واقع المعلوفة شيئا، لكن نية التجارة في العرض تغير العرض من القنية والانتفاع إلى الرغبة في البيع والاستثمار، ولكل عمل ما يناسبه، فمجرد نية التجارة مع العرض للسلعة والرغبة في بيعها يثبت حكم التجارة، وتجعل العرض تجاريا بدلا من كونه مستهلكا أو منتفعا به.
__________
(1) المهذب 6\6، المغني 4\257، الفروع 2\506.(86/231)
ثم إن نية التجارة شرط لوجوب الزكاة في العروض، أما نية السوم فليست شرطا لزكاة البهائم، بل الشرط وجود حقيقة السوم (1)
القول الثاني في المسألة: أن العرض - من الأراضي وغيرها - يصير للتجارة بمجرد النية؛ فعلى هذا لا يعتبر أن يملكه بفعله واختياره، كالموروث، ولا أن يكون في مقابلة عوض، كالهبة والمنحة، بل متى نوى بالعرض التجارة صار للتجارة، وبهذا القول قال جماعة من الفقهاء، فهو رأي الكرابيسي وغيره من الشافعية (2) وهو مذهب إسحاق بن راهويه (3) وهو رواية عن الإمام أحمد، قال بعض أصحابه: هذا على أصح الروايتين، واختاره جمع من فقهاء الحنابلة كما اختاره جماعة من العلماء المعاصرين كالشيخ ابن باز (4)
__________
(1) المبدع 2\379.
(2) الحاوي الكبير 3\296، المهذب والمجموع 6\7، أسنى المطالب 1\382.
(3) التمهيد 17\130، الحاوي الكبير 3\296، المهذب والمجموع 6\7.
(4) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 14\171.(86/232)
وابن عثيمين (1) ود/ بكر أبو زيد (2) وغيرهم.
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
أولا: استدلوا بحديث سمرة المتقدم: «كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعد للبيع (3) »
والإعداد للبيع تكفي فيه مجرد النية، ولا يحتاج لشيء آخر، فيدخل هذا الحكم في عموم الحديث (4)
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن الحديث ضعيف الإسناد جدا، فلا تقوم به حجة.
ثانيا: استدلوا بحديث «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (5) » فإن عموم هذا الحديث يدل على أن من نوى التجارة في العروض التي يملكها كانت لها من غير شرط العمل أو التصرف فيها (6)
ثالثا: القياس على ما إذا كان عنده متاع للتجارة ثم نوى به القنية صار للقنية بمجرد النية، فإذا كانت نية القنية بمجردها كافية، فكذلك
__________
(1) الشرح الممتع 6\91، فتاوى أركان الإسلام ص433.
(2) فتوى جامعة في زكاة العقار ص11.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة؟ 2\95 رقم (1562) ، والطبراني في الكبير 7\253 رقم (7029) ، والدارقطني في كتاب الزكاة. باب زكاة مال التجارة وسقوطها عن الخيل والرقيق 2\127، 128 رقم (2027) والبيهقي في السنن الكبرى كتاب الزكاة باب زكاة التجارة 4\146 رقم (7388) ، وابن حزم في المحلى 5\234، وابن عبد البر في التمهيد 17\130، كلهم من طريق جعفر بن سعد عن خبيب بن سليمان عن أبيه، وفيه زيادة عند الدارقطني في أوله، ومدار الحديث على جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، وهذا إسناد ضعيف لما يلي: 1- فيه جعفر بن سعد، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حزم: مجهول، وقال عبد الحق – في الأحكام-: ليس ممن يعتمد عليه، وقال ابن عبد البر: ليس بالقوي، وقال ابن القطان: ما من هؤلاء من يعرف حاله – يعنى جعفرا، وشيخه وشيخ شيخه – قال الذهبي: وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروى به جملة أحاديث قد ذكر البزار منها نحو المائة، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (ليس بالقوي) . ينظر الأحكام الوسطى 2\171، بيان الوهم لابن القطان 5\139، ميزان الاعتدال 1\407، تهذيب التهذيب 2\80، التقريب (941) . 2- خبيب بن سليمان ذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن حزم: مجهول، وقال عبد الحق: ليس بقوي، قال ابن حجر: وقرأت بخط الذهبي: لا يعرف، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (مجهول) . ينظر تهذيب التهذيب 3\116، تقريب التهذيب (1700) . 3- سليمان بن سمرة بن جندب: قال عنه ابن القطان: مجهول، ولذا قال ابن حجر في التقريب: (مقبول) . ينظر تهذيب التهذيب 4\173، تقريب التهذيب (2569) . فهذا كلام أهل العلم بالرجال في رواة هذا الإسناد تفصيلا، وبخصوص هذا الإسناد بعينه فقد قال الحافظ الذهبي – كما في الميزان 1\408 – لما ساق جملة من الأحاديث التي رويت بهذا الإسناد: (وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم) ، ولذا قال الحافظ ابن حجر في التلخيص 2\179: (في إسناده جهالة) ، وقال في البلوغ (ص: 112) : بإسناد لين، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفي إسناده ضعف 3\69، وقال الألباني في الإرواء 3\310: (ضعيف) . وبهذا يتبين أن أكثر أهل العلم بالحديث لا يثبت هذا الحديث، أما قول النووي: (وفي إسناده جماعة لا أعرف حالهم ولكن لم يضعفه أبو داود، وقد قدمنا أن ما لم يضعفه فهو حسن عنده المجموع 6\40، وكذا قول الشنقيطي (وهذا الحديث سكت عليه أبو داود رحمه الله ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج عنده) . أضواء البيان 2\137، فإنه اعتماد على إخراج أبي داود للحديث، وسكوته عنه والاعتماد على سكوت أبي داود غير مقبول عند جماعة من أهل العلم، لأنه ثبت أن أبا داود يسكت أحيانا عما في الصحيحين وعما هو شديد الضعف. قال الحافظ ابن حجر في النكت على كتاب ابن الصلاح 1\439-444 بعد أن ذكر أن أبا داود يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها: (فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم، ويتابعه على الاحتجاج بهم بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع فيعتضد به، أو هو غريب فيتوقف فيه؟ إلى أن قال: فالصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته)
(4) المغني 4\257، الفروع 2\506.
(5) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبي داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد (1/25) .
(6) الشرح الممتع 6\90، 91.(86/233)