أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد وقد اختلط الرجال بالنساء في الطريق: «استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق) ، فكانت المرأة تلصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به (2) » .
وأما مجالس العلم فقد كان النساء في عهده صلى الله عليه وسلم لا يختلطن فيه بالرجال الاختلاط الذي ينهى عنه المصلحون اليوم ويرشد القرآن والسنة علماء الأمة إلى التحذير منه حذرا من فتنته، فقد كن يجلسن – في معزل عن الرجال – في مؤخرة المسجد. فيسمعن المواعظ والخطب ويتعلمن أحكام دينهن، مع عنايتهن بالحجاب وإخفاء الزينة، فأين هذا مما ينادي به اليوم دعاة التحديث من اختلاط الجنسين في التعليم وغيره؟، فكيف يجوز لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول إن جلوس الطالبة بحذاء الطالب في كرسي الدراسة مثل جلوس الصحابيات مع أخواتهن في مؤخرة المسجد لسماع الذكر وتعلم أحكام الدين؟، هذا لو سلمنا بوجود
__________
(1) رواه أبو داود في سننه في كتاب (الأدب) ، باب (في مشي النساء مع الرجال في الطريق) ، الحديث رقم (5272) ج4 ص369، وقد حسنه الألباني في (صحيح الجامع الصغير) برقم (942) ج1 ص317.
(2) تحققن الطريق: أي تتوسطنه. انظر: لسان العرب، مادة (حقق) . (1)(81/175)
الحجاب الشرعي المتضمن تغطية الوجه والكفين، فكيف إذا كان جلوسها مع الطالب في كرسي الدراسة مع كشف الوجه والكفين وإظهار الزينة والمحاسن، وغير ذلك مما يجر إلى الفتنة ويوقع في المحذور؟!!.
ومعلوم أن جلوس الطالبة مع الطالب في كرسي الدراسة من أعظم أسباب الفتنة، ومن أسباب ترك الحجاب الذي شرعه الله للمؤمنات ونهاهن عن أن يبدين زينتهن لغير من بينهم الله سبحانه في قوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (1) الآية.
ولهذا دعا المصلحون إلى إفراد النساء عن الرجال في دور التعليم، وأن يكن على حدة والشباب على حدة حتى يتمكن من تلقي العلم من المدرسات بكل راحة من غير حجاب ولا مشقة، لأن تلقي العلوم من المدرسات في محل خاص أصون للجميع وأبعد لهن من أسباب الفتنة وأسلم للشباب من الفتنة، ولأن انفراد الشباب في دور التعليم عن الفتيات مع كونه أسلم لهم من الفتنة فهو أقرب إلى عنايتهم بدروسهم وشغلهم بها
__________
(1) سورة النور الآية 31(81/176)
وحسن الاستماع إلى الأساتذة وتلقي العلوم عنهم بعيدين عن ملاحظة الفتيات والانشغال بهن (1) .
وأما ساحات الجهاد فيجيب عنها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله قائلا: (قد يتعلق بعض دعاة الاختلاط ببعض ظواهر النصوص الشرعية التي لا يدرك مغزاها ومرماها إلا من نور الله قلبه وتفقه في دين الله وضم الأدلة الشرعية بعضها إلى بعض، وكانت في تصوره وحدة لا يتجزأ بعضها عن بعض. ومن ذلك خروج بعض النساء مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات. والجواب عن ذلك: أن خروجهن كان مع محارمهن لمصالح كثيرة لا يترتب عليه ما يخشى عليهن من الفساد، لإيمانهن وتقواهن وإشراف محارمهن عليهن وعنايتهن بالحجاب بعد نزول آيته، بخلاف حال الكثير من نساء العصر، ومعلوم أن خروج المرأة من بيتها إلى العمل يختلف تماما عن الحالة التي خرجن بها مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزو، فقياس هذه على تلك يعتبر قياسا مع الفارق.
وأيضا فما الذي فهمه السلف الصالح حول هذا وهم لا شك أدرى بمعاني النصوص من غيرهم وأقرب إلى التطبيق العملي بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فما هو الذي نقل عنهم على مدار الزمن؟، هل وسعوا الدائرة كما ينادي دعاة الاختلاط فنقلوا ما ورد في ذلك إلى أن تعمل المرأة في كل ميدان من ميادين الحياة مع الرجال تزاحمهم
__________
(1) انظر: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – الرسائل والفتاوى النسائية ص32، 37.(81/177)
ويزاحمونها وتختلط معهم ويختلطون معها، أم أنهم فهموا أن تلك قضايا معينة لا تتعداها إلى غيرها؟. وإذا استعرضنا الفتوحات الإسلامية والغزوات على مدار التاريخ لم نجد هذه الظاهرة (1) (2) .
وأما مجالس التشاور في أمور المسلمين، فلم تكن المرأة قط عضوا فيها في صدر الإسلام، فهي – مثلا – لم تشارك الصحابة في اجتماع ثقيفة بني ساعدة إثر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم للتشاور في من يختارونه خليفة لهم، ولم يحدث أن جمع الخلفاء الراشدون النساء لاستشارتهن في قضايا الدولة وشؤون المسلمين كما كانوا يفعلون مع الرجال، ولا نعلم في تاريخ الإسلام كله أن المرأة كانت تسير مع الرجل جنبا إلى جنب في إدارة شؤون الدولة وسياستها، وكل ما يرويه التاريخ لنا هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيعة النساء يوم فتح مكة من دون أن يصافحهن (3) .
ومن زعم أن هذا يدل على اختلاط النساء بالرجال في صدر الإسلام للمشاركة في سياسة الدولة والإسهام في حل قضايا المسلمين وشؤونهم فقد أخطأ وحمل وقائع التاريخ ما لا تحتمل.
نعم وقع في بعض أدوار التاريخ الإسلامي أن شاركت المرأة في بعض قضايا الدولة وشؤونها، وكان لبعضهن مشورة في بعض أمور المسلمين، ولكن هذه تصرفات ووقائع نادرة لمناسبات خاصة تقدر بقدرها
__________
(1) يعني: ظاهرة الاختلاط بين الرجال والنساء.
(2) الرسائل والفتاوى النسائية ص23 - 24.
(3) انظر: د. مصطفى السباعي – المرأة بين الفقه والقانون ص151.(81/178)
لا يبنى عليها حكم ولا تأخذ حكم القاعدة. وأحكام الإسلام إنما تؤخذ من نص ثابت في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو قياس صحيح عليهما، أو إجماع التقى عليه أئمة المسلمين وعلماؤهم، وعليه فلا يصح الاستدلال بالتصرفات الفردية من آحاد الناس، حتى ولو كان أصحابها من الصحابة (1) رضوان الله عليهم أو التابعين من بعدهم.
فمن المقطوع به أن تصرفات هؤلاء جميعا توزن بميزان الشرع الإسلامي، وليس الشرع هو الذي يوزن بتصرفاتهم ووقائع أحوالهم، ولذا فإن من مقررات علماء السلف قولهم: (لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله) .
ولو كان لتصرفات آحاد الصحابة أو التابعين مثلا قوة الدليل الشرعي دون حاجة إلى الاعتماد على دليل آخر لبطل أن يكونوا معرضين للخطأ، ولوجب أن يكونوا معصومين مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا لأحد إلا للأنبياء عليهم وعلى خاتمهم الصلاة والسلام، أما ما عداهم فحق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطاء (2) » ، وإلا فما بالنا لا نقول – مثلا – بحل
__________
(1) هناك فرق بين (قول الصحابي) و (واقعة حال له) فتنبه لهذا.
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك، ج3 ص198. ورواه الدارمي في سننه في كتاب (الرقاق) ، باب (في التوبة) ج2 ص213 برقم (2730) . كما رواه الترمذي في سننه في أبواب (صفة القيامة) ، الباب (15) ، الحديث رقم (2616) ج4 ص70. وحسنه الألباني في (صحيح الجامع الصغير) برقم (4391) ج4 ص171، وتتمة الحديث: (وخير الخطائين التوابون) .(81/179)
شرب الخمر وقد وجد في من سلف في القرون الخيرية من شربها؟ (1) .
__________
(1) انظر: محمد بن أحمد المقدم – عودة الحجاب، القسم الثالث، ص409 - 410.(81/180)
رابعا: الزعم بأنه لم يمنع الاختلاط إلا في المجتمعات الإسلامية الانفصالية التي سادت في عصور الانحطاط، إنما هو وهم ومحض افتراء يستغرب صدوره من أي مسلم لديه معرفة – ولو يسيرة – بتاريخ الإسلام وشرعه، فكيف من باحث إسلامي؟.
لقد منع الاختلاط في الإسلام منذ نزول آيات الحجاب، ومنعه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والتابعون لهم بإحسان، وما سقناه فيما سبق من الأدلة الشرعية والأقوال والوقائع كاف لإثبات ذلك. ولم يخل عصر ولا مصر من بلاد الإسلام والمسلمين من منع الاختلاط والتشدد في أمره؛ امتثالا لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحرصا من المخلصين الغيورين في مختلف الأماكن والأزمان على تطبيق شريعة الإسلام. ولن يستطيع أصحاب هذا الزعم الباطل – مهما أجهدوا أنفسهم – أن يقدموا دليلا صحيحا يبرهن على صحة مدعاهم.
وأما ربط منع الاختلاط بعصور الانحطاط ففيه مالا يخفى من الاستهتار بكلام الله ورسوله، والازدراء بما يدعو إليه المصلحون من منع الاختلاط والتحذير منه، والتأثر بمقولات الغرب حول التقدم والتحضر والمدنية.
خامسا: يفهم علماء الأمة ومحققوها قديما وحديثا من قوله(81/180)
تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (1) وجوب لزوم المرأة المسلمة بيتها، وعدم خروجها منه إلا عند الضرورة وتحريم اختلاطها بالرجال الأجانب عنها.
يقول عبد الرحمن بن الجوزي: (قال المفسرون: ومعنى الآية: الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن وألا يخرجن) (2) . ويقول الحافظ ابن كثير: (وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (3) أي: الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة) (4) . ويقول القاضي أبو بكر بن العربي: (قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (5) يعني: اسكن فيها ولا تتحركن ولا تبرحن منها) (6) . ويقول أحمد مصطفى المراغي: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (7) أي: الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة، وهو أمر لهن ولسائر النساء) (8) . ويقول حسنين محمد مخلوف: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (9) : الزمنها فلا تخرجن لغير حاجة مشروعة، ومثلهن في ذلك سائر نساء المؤمنين) (10) . ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (11) أي: اقررن فيها، لأنه
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) زاد المسير في علم التفسير ج6 ص379.
(3) سورة الأحزاب الآية 33
(4) تفسير القرآن العظيم ج3 ص482.
(5) سورة الأحزاب الآية 33
(6) أحكام القرآن ج3 ص1535.
(7) سورة الأحزاب الآية 33
(8) تفسير المراغي ج22 ص6.
(9) سورة الأحزاب الآية 33
(10) صفوة البيان لمعاني القرآن ص531.
(11) سورة الأحزاب الآية 33(81/181)
أسلم وأحفظ لكن) (1) . ويقول الشيخ أبو بكر الجزائري: (وقوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (2) أي: اقررن فيها بمعنى اثبتن فيها ولا تخرجن إلا لحاجة لا بد منها) (3) . ويقول أبو الأعلى المودودي – بعد حديثه عن دائرة عمل المرأة: - (صفوة القول أن خروج المرأة من البيت لم يحمد في حال من الأحوال، وخير الهدى لها في الإسلام أن تلازم بيتها كما تدل عليه آية {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (4) دلالة واضحة) (5) .
وأما اختلاف العلماء في معنى الآية – حيث ذهب بعضهم إلى أنها من الوقار وهو السكون، وذهب البعض الآخر إلى أنها من القرار وهو البقاء – فلا يبطل صحة الاستدلال بالآية على منع الاختلاط، لأن كلا المعنيين يدلان على ضرورة لزوم المرأة بيتها وعدم خروجها منه إلا لحاجة شرعية، وهو ما ذهب إليه المفسرون. يقول – على سبيل المثال – الإمام القرطبي – بعد أن ساق القراءات الواردة في قوله تعالى: {وَقَرْنَ} (6) وأقوال العلماء واللغويين في بيان معانيها: (معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء؛ كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ج6 ص219.
(2) سورة الأحزاب الآية 33
(3) أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير ج3 ص561.
(4) سورة الأحزاب الآية 33
(5) الحجاب ص235.
(6) سورة الأحزاب الآية 33(81/182)
لضرورة؛ على ما تقدم في غير موضع) (1) . ويقول الشوكاني - بعد أن ساق كذلك القراءات تلك وأقوال العلماء في بيان معانيها -: (المراد بالآية أمرهن بالسكون والاستقرار في بيوتهن) (2) ، ويقول أبو بكر الجصاص: (وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (3) روى هشام عن محمد بن سيرين قال: قيل لسودة بنت زمعة: ألا تخرجين كما تخرج أخواتك؟ قالت: والله لقد حججت واعتمرت ثم أمرني الله أن أقر في بيتي، فوالله لا أخرج، فما خرجت حتى أخرجوا جنازتها. وقيل: إن معنى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (4) كن أهل وقار وهدوء وسكينة، يقال: وقر فلان في منزله يقر وقورا إذا هدأ فيه واطمأن به، وفيه الدلالة على أن النساء مأمورات بلزوم البيوت منهيات عن الخروج) (5) . ويقول أبو الثناء الألوسي – بعد أن ذكر القراءات المتعددة لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (6) -: (والمراد على جميع القراءات أمرهن رضي الله تعالى عنهن بملازمة البيوت، وهو أمر مطلوب من سائر النساء) (7) .
وأما الاحتجاج على عدم صحة الاستدلال بالآية على منع الاختلاط بادعاء الاختلاف في تعيين المخاطب بالآية هل هن نساء النبي صلى الله عليه وسلم أم عامة النساء، فليس بشيء، وذلك لما يلي:
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن ج14 ص179.
(2) فتح القدير ج4 ص278.
(3) سورة الأحزاب الآية 33
(4) سورة الأحزاب الآية 33
(5) أحكام القرآن ج3 ص471.
(6) سورة الأحزاب الآية 33
(7) روح المعاني ج22 ص6.(81/183)
1- لأن هذه الآية والتي قبلها تحفهما قرائن قوية تدل على أن الأحكام الشرعية الموجودة فيها ليست خاصة بأمهات المؤمنين، وإنما هي عامة لجميع النساء المسلمات، ذلك أن امتياز أمهات المؤمنين من غيرهن المذكور في قوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} (1) ، إنما هو خاص بما ذكر قبله لا بما ذكر بعده، بمعنى أنه خاص بالأحكام المذكورة في قوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} (2) ، وقوله: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (3) ، دون الأوامر والنواهي المذكورة بعده وهي قوله تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (4) {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (5) ، فتلك الأوامر والنواهي موجهة للنساء عامة بدليل أنه لا يجوز لأحد أن يقول إنه يجوز للنساء المسلمات أن يخضعن بالقول ليطمع الذي في قلبه مرض وألا يقلن قولا معروفا وألا يقرن في بيوتهن ويتبرجن تبرج الجاهلية الأولى ولا يقمن الصلاة ولا يؤتين الزكاة ولا يطعن الله ورسوله. فهذه
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 32
(2) سورة الأحزاب الآية 30
(3) سورة الأحزاب الآية 31
(4) سورة الأحزاب الآية 32
(5) سورة الأحزاب الآية 33(81/184)
الأحكام ليست خاصة بأمهات المؤمنين لأن عللها تجري في غيرهن أيضا.
2- ولأنه إذا كانت أمهات المؤمنين – مع ما كن عليه من التقى والعفاف وقوة الإيمان والبصيرة بالحق – مأمورات بعدم الخضوع في القول والقرار في البيوت وعدم التبرج، فغيرهن من النساء المسلمات مأمورات بذلك من باب أولى، ولا سيما في هذا العصر الذي قل فيه الوازع الديني عند كثير من الناس وكثرت فيه المفاسد والفتن.
3- (ولأن النصوص الواردة في الكتاب والسنة لا يجوز أن يخص بها أحد من الأمة إلا بدليل صحيح يدل على التخصيص، فهي عامة لجميع الأمة في عهده صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة، لأنه سبحانه بعث رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين في عصره وبعده إلى يوم القيامة كما قال عز وجل: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1) ، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (2) وهكذا القرآن الكريم لم ينزل لأهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أنزل لهم ولمن بعدهم ممن يبلغه كتاب الله، كما قال تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) ، وقال عز وجل: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (4)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة سبأ الآية 28
(3) سورة إبراهيم الآية 52
(4) سورة الأنعام الآية 19(81/185)
الآية.) (1) .
يقول الشيخ أبو الأعلى المودودي – في الرد على هذا الاحتجاج -: (قد ذهب بعض الناس إلى أن هذا الأمر خاص لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولابتداء الآية بخطاب: يا نساء النبي، ولكنا نسأل: أي وصية من الوصايا الواردة في هذه الآية مخصوصة بأمهات المؤمنين دون سائر النساء؟، فقد قيل فيها: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (2) {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (3) ، فتأمل كل هذه الوصايا والأوامر، وقل لي: أي منها لا يتصل بعامة النساء المسلمات؟، وهل النساء المسلمات لا يجب عليهن أن يتقين؟ أو قد أبيح لهن أن يخضعن بالقول ويكلمن الرجال كلاما يغريهم ويشوقهم؟ أو يجوز لهن أن يتبرجن تبرج الجاهلية؟، ثم هل ينبغي لهن أن يتركن الصلاة والزكاة ويعرضن عن طاعة الله ورسوله؟، وهل يريد الله أن يتركهن في الرجس؟ وإذا كانت كل هذه الأوامر والإرشادات عامة لجميع المسلمات فما المبرر لتخصيص كلمة {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (4) وحدها بأزواج النبي
__________
(1) سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – الرسائل والفتاوى النسائية ص33 - 34.
(2) سورة الأحزاب الآية 32
(3) سورة الأحزاب الآية 33
(4) سورة الأحزاب الآية 33(81/186)
صلى الله عليه وسلم؟!!.
إن مصدر الفهم الخاطئ في الحقيقة هو مبتدأ الآية: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} (1) ، ولكن هذا الأسلوب لا يختلف – مثلا – عن قولك لولد نجيب: يا بني لست كأحد من عامة الأولاد حتى تطوف في الشوارع وتأتي بما لا يليق من الحركات، فعليك بالأدب واللياقة، فقولك هذا لا يعني أن سائر الأولاد يحمد فيهم طواف الشوارع وإتيان الحركات السيئة ولا يطلب منهم الأدب واللياقة، بل المراد بمثل قولك هذا تحديد معيار لمحاسن الأخلاق وفضائلها لكي يصبو إليها كل ولد يريد أن يعيش كنجباء الأولاد فيسعد في بلوغه. وقد اختار القرآن الكريم هذه الطريقة لتوجيه النساء، لأن نساء العرب في الجاهلية كن على مثل الحرية التي توجد في نساء الغرب في هذا الزمان، وكان العمل جاريا على تعويدهن الحضارة الإسلامية بشيء من التدريج، وتعليمهن حدود الأخلاق والضوابط الاجتماعية على يد النبي صلى الله عليه وسلم. ففي تلك الأحوال عني الإسلام بضبط أمهات المؤمنين بضابطة على وجه خاص حتى يكن أسوة لسائر النساء وتتبع طريقتهن وعاداتهن في بيوت عامة المسلمين.
هذا الرأي نفسه – وهو تعميم نساء المسلمين بالخطاب – أبداه العلامة أبو بكر الجصاص في كتابه أحكام القرآن فقال: (وهذا الحكم وإن نزل خاصا في النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، فالمعنى عام فيه
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 32(81/187)
وفي غيره، إذ كنا مأمورين باتباعه والاقتداء به إلا ما خصه الله تعالى به دون أمته (1) .
ويؤكد الشيخ أبو بكر الجزائري على تعميم نساء المسلمين بالخطاب في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (2) ، ثم يتابع قائلا: (غير أن المبطلين لم يروا ذلك، فقالوا في هذه الآية والتي قبلها: (إنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم وهي خاصة بهن ولا تعلق لها بغيرهن من نساء المؤمنين وبناتهم) ، وهو قول مضحك عجيب ... ، وهاتان الآيتان مثلهما مثل إقسام الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه لو أشرك لحبط عمله وكان من الخاسرين في آية الزمر، مع العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم لا يتأتى منه الشرك ولا غيره من الذنوب، ولكن الكلام من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة) ، وعليه فإذا كان الرسول على جلالته لو أشرك لحبط عمله وخسر؛ فغيره من بابا أولى. كما أن الحجاب لو فرض على نساء النبي وهن أمهات المؤمنين كان على غيرهن من باب أولى، ويبدو أنه لما كان الحجاب مخالفا لما كان عليه العرب في جاهليتهم ولم يشرع تدريجا – إذ لا يمكن فيه التدريج – بدأ الله تعالى فيه بنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يقال – وما أكثر من يقول يومئذ، والمدينة مليئة بالنفاق والمنافقين -: (انظروا كيف ألزم نساء الناس البيوت والحجاب وترك نساءه وبناته غاديات رائحات ينعمن بالحياة....) ، إلى آخر
__________
(1) الحجاب، هامش ص235 - 236.
(2) سورة الأحزاب الآية 33(81/188)
ما يقول ذوو القلوب المرضى في كل زمان ومكان، فلما فرضه على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق مجال لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ترغب بنفسها عن نساء الرسول صلى الله عليه وسلم فترى السفور لها ولا تراه لأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته، وهذا يعرف عند علماء الأصول بالقياس الجلي ومن باب أولى كتحريم ضرب الأبوين قياسا على تحريم التأفيف في قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (1) (2) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) فصل الخطاب في المرأة والحجاب ص 37 – 38.(81/189)
سادسا: القول بأن تعويل الإسلام في تحقيق أهدافه وقيمه في تطهير العلاقات بين الجنسين من التحلل والفساد إنما يقوم فقط على التوعية والتربية العقائديتين وإشاعة أجواء الطهر والعفة والتعاون على الخير ... ؛ قول غير سديد ولا دقيق.
فلا شك أن التوعية الإيمانية والتربية العقدية والتعاون على الخير هي من وسائل الإسلام الأساسية في تطهير العلاقات بين الجنسين من التحلل والفساد.
غير أن شريعة الإسلام لم تكل الناس إلى ضمائرهم فقط التي قد تهن، ولا إلى نفوسهم التي قد تضعف، ولكنها سنت تدابير وإجراءات وقائية ترد هذه الضمائر إلى الاستقامة إذا نزعت إلى التمرد، وتغلق على(81/189)
النفوس مداخل الشيطان وتوصد مسارب الفساد إذا استشرفت هذه النفوس للفتن ولم ترتدع بوازع الإيمان والتقوى.
ومن تلك التدابير والإجراءات الوقائية – مما يخص موضوعنا هنا -:
أ- منع الاختلاط بين الجنسين.
ب- تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية.
ج- تحريم التبرج وإظهار الزينة.
د- الأمر بغض البصر.
هـ- تحريم الخضوع بالقول.
وتحريم سفر المرأة بغير محرم.
ز- تحريم الدخول إلى البيوت بغير إذن....
إن التوعية والتربية العقديتين وإشاعة أجواء الطهر والعفة والتعاون على الخير في العلاقات البشرية لا يكفي في تطهير العلاقات بين الجنسين من التحلل والفساد، ما لم ينضم إليه سد جميع أبواب الفتن وذرائع الفساد.
فنحن لا نعارض توعية الجنسين وتربيتهما تربية إسلامية عقدية، وإشاعة قيم الطهر والخلق والفضيلة ... ، وإنما نعارض استغناء النساء بذلك عن القرار في البيوت والبعد عن الاختلاط بالرجال الأجانب في مجالات العمل والتعليم ونحوهما. فنقصان التربية العقدية والقيم الخلقية من أحد الجنسين كاف في وقوع الفتنة عند اختلاطهما، وماذا يسعنا أن نقول عنا بعد ما قاله نبي الله ورسوله يوسف عليه السلام {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (1) ،
__________
(1) سورة يوسف الآية 53(81/190)
ولله در الشريف الرضي حينما قال:
لا العف عف حين تملك لبه ... تلك اللحاظ ولا الأمين أمين
ومن جراء ذلك لزم ألا تسنح أي فرصة للجنسين وأن تسد طرقها، وفرض الحجاب ومنع الاختلاط معناه: حجب طرق الفرصة على النفوس بأخصر وجه (1) .
واعتبار قرار النساء في البيوت أنه بمثابة تحويل هذه البيوت إلى سجون للنساء، والحكم عليهن جميعا بما حكم به اللاتي أتين الفاحشة، هذا الاعتبار ينطوي على استخفاف بحكم الله ورسوله، وفيه تضليل للقارئ؛ لأنه وإن كان الأصل هو قرار المرأة في بيتها، فإن الإسلام يجيز لها الخروج منه عند الحاجة إلى ذلك، مع الالتزام بالحجاب الشرعي، واجتناب مخالطة الرجال. فيجيز لها مثلا الخروج لزيارة الوالدين، ولصلة الأرحام، وللحج مع محرم، ولطلب علم، ولمراجعة طبيب، وللإدلاء بشهادة لدى القاضي، ولأداء الصلوات في المسجد إذا أمنت الفتنة، ولقضاء حاجة مشروعة لا تقضى إلا بوجودها، ونحو ذلك.
سابعا: الجزم بأنه ليس في الإسلام ما يوجب على الزوج القيام
__________
(1) انظر: مصطفى صبري – قولي في المرأة ومقارنته بأقوال مقلدة الغرب ص69 - 70.(81/191)
برعايتها لبيتها وزوجها وأطفالها؛ جزم لا يسلم لصاحبه، ففي الإسلام ما يوجب ذلك على الزوجة:
1- فقد روى الإمام البخاري: أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم، تشكو إليه ما تلقى في يديها من الرحى، وتسأله خادما، فقال لها ولعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ألا أدلكما على خير مما سألتما؟ إذا أخذتما مضجعكما فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم (1) » .
2- كما روى البخاري أيضا: «عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أنها كنت تعلف فرس زوجها الزبير، وتستقي الماء، وتحرز الدلو، وتعجن، وتنقل النوى على رأسها من أرض له تبعد عنها ثلثي فرسخ (2) » .
ففي هذين الحديثين ما يفيد بأنه على المرأة أن تقوم بخدمة زوجها وبيتها، فقد شكت فاطمة رضي الله عنها – في الحديث الأول – لأبيها النبي صلى الله عليه وسلم ما كانت تلقاه من مشقة في خدمة بيتها وزوجها، فلم يقل صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: لا خدمة عليها، وإنما هي عليك. يقول الإمام الطبري: (يؤخذ من الحديث أن كل
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب (النفقات) ، الباب (6) ، الحديث رقم (5361) ، ج9 ص506.
(2) المصدر السابق، كتاب (النكاح) ، الباب (107) ، الحديث رقم (5224) ، ج9 ص319 - 320.(81/192)
من كانت له طاقة من النساء على خدمة بيتها في خبز أو طحن أو غير ذلك- أنه لا يلزم الزوج إحضار خادم لها، إذا كان معروفا أن مثلها يلي ذلك بنفسه، ووجه الأخذ: أن فاطمة لما سألت أباها صلى الله عليه وسلم الخادم، لم يأمر زوجها بأن يكفيها ذلك، إما بإخدامها خادما، أو باستئجار من يقوم بذلك، أو بتعاطي ذلك بنفسه. ولو كانت كفاية ذلك إلى علي لأمره به، كما أمره أن يسوق إليها صداقها قبل الدخول، مع أن سوق الصداق ليس بواجب إذا رضيت المرأة أن تؤخره، فكيف يأمره بما ليس بواجب عليه ويترك أن يأمره بالواجب؟. وحكى ابن حبيب عن أصبغ، وابن الماجشون عن مالك: (أن خدمة البيت تلزم المرأة ولو كانت الزوجة ذات قدر وشرف، إذا كان الزوج معسرا، قال: ولذلك ألزم النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بالخدمة الباطنة (1) ، وعليا بالخدمة الظاهرة) (2) .
ويقول ابن القيم: (هذا أمر لا ريب فيه، ولا يصح التفريق بين شريفة ودنيئة، وفقيرة وغنية، فهذه أشرف نساء العالمين كانت تخدم زوجها، وجاءته صلى الله عليه وسلم تشكو إليه الخدمة فلم يشكها (3)) (4) .
وفي الحديث الثاني لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم خدمة أسماء
__________
(1) المقصود بالخدمة الباطنة: خدمة البيت والقيام بأعماله.
(2) ابن حجر – فتح الباري ج9 ص506 - 507.
(3) أي: لم يسمع شكايتها.
(4) زاد المعاد ج5 ص188 - 189.(81/193)
زوجها الزبير، لم يقل له: لا خدمة عليها وأن هذا ظلم لها، بل أقر الزبير على استخدامها، كما أقر سائر أصحابه على استخدام زوجاتهم، مع علمه صلى الله عليه وسلم بأن منهن الكارهة والراضية (1) .
بل روي عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، أنه قال: (دخلت أيم العرب على سيد المسلمين أول العشاء عروسا، وقامت آخر الليل تطحن – يعني: أم سلمة رضي الله عنها) (2) .
يقول الشيخ السيد سابق: (وقد جرى عرف المسلمين في بلدانهم في قديم الأمر وحديثه بما ذكرنا – من خدمة المرأة لبيتها وزوجها – ألا ترى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يتكلفون الطحين، والخبز، والطبيخ، وفرش الفراش، وتقريب الطعام، وأشباه ذلك، ولا نعلم امرأة امتنعت عن ذلك، ولا يسوغ لها الامتناع، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصرن في ذلك، ويأخذونهن بالخدمة، فلولا أنها مستحقة لما طالبوهن، هذا هو المذهب الصحيح) (3) .
3- وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المرأة راعية على بيت بعلها
__________
(1) انظر: المرجع السابق ج5 ص188.
(2) الذهبي – سير أعلام النبلاء ج2 ص205.
(3) فقه السنة ج2 ص203.(81/194)
وولده وهي مسؤولة عنهم (1) » ، (قال العلماء: الراعي: هو الحافظ المؤتمن، الملتزم صلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره، ففيه: أن كل من كان تحت نظره فهو مطالب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه، في دينه ودنياه ومتعلقاته) (2) ، فالمرأة مسؤولة في بيت زوجها ومؤتمنة وموكلة وربة مملكة، رعيتها الزوج والأولاد والبيت وما حوى.
4- وما روي عن حصين بن محصن أنه قال: «حدثتني عمتي قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الحاجة، فقال: أي هذه! أذات بعل أنت؟، قلت: نعم، قال: كيف أنت له؟ قلت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه، قال: فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك (4) » . يقول الشيخ الألباني رحمه الله معلقا على الحديث: (الحديث ظاهر الدلالة على وجوب طاعة الزوجة لزوجها وخدمتها إياه في حدود استطاعتها، ومما لا شك فيه أن من أول ما يدخل في ذلك الخدمة في
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب (النكاح) ، الباب (90) ، الحديث رقم (5200) ، ج9 ص299، وصحيح مسلم بشرح النووي، كتاب (الإمارة) ، باب (فضيلة الأمير العادل) ج12 ص213.
(2) النووي – شرح صحيح الإمام مسلم ج12 ص213.
(3) رواه الإمام أحمد في المسند ج4 ص341، وج6 ص419، والبيهقي في السنن الكبرى ج7 ص291، والحاكم في المستدرك وصححه ج2 ص206. ووافقه الألباني في كتاب آداب الزفاف في السنة المطهرة، هامش ص286.
(4) ما آلوه: أي لا أقصر في طاعته وخدمته. (3)(81/195)
منزله، وما يتعلق به من تربية أولاده ونحو ذلك) (1) .
5- وقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (2) ، (قال ابن كثير في تفسير الآية: {فَالصَّالِحَاتُ} (3) : أي من النساء {قَانِتَاتٌ} (4) ، قال ابن عباس وغير واحد: يعني مطيعات لأزواجهن) (5) ، وقال ابن تيمية بعد ذكره لهذه الآية: (فالمرأة الصالحة هي التي تكون قانتة، أي مداومة على طاعة زوجها) (6) .
6- وما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النساء خير؟. فقال: التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا ماله بما يكره (7) » .
فيستفاد من هذا الحديث ومن الآية الكريمة التي قبله: أن من الحقوق الشرعية التي فرضها الله عز وجل للزوج على زوجته طاعته في المعروف،
__________
(1) آداب الزفاف في السنة المطهرة ص286 بتصرف يسير.
(2) سورة النساء الآية 34
(3) سورة النساء الآية 34
(4) سورة النساء الآية 34
(5) تفسير القرآن العظيم ج1 ص491.
(6) مجموع الفتاوى ج32 ص275.
(7) رواه الإمام أحمد في المسند ج2 ص251، 432، 438. والنسائي في سننه في كتاب (النكاح) ، باب (أي النساء خير) ج6 ص68. ورواه الحاكم أيضا في المستدرك في كتاب (النكاح) ج2 ص175، وقال: (حديث على شرط مسلم) .(81/196)
وهذه الطاعة أمر طبعي تقتضيه الحياة المشتركة بين الزوجين، ويسهم كثيرا في حفظ كيان الأسرة من التصدع والانهيار، وقيام الزوجة بما تستطيعه من رعايتها لبيتها وعنايتها بشؤون زوجها وأطفالها إنما هو من لوازم الطاعة بالمعروف. هذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال ما نصه: (قوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (1) يقتضي وجوب طاعتها لزوجها مطلقا: من خدمة، وسفر معه، وتمكين له، وغير ذلك) (2) ، وقال في موضع آخر: (يجب على الزوجة خدمة زوجها في مثل فراش المنزل، ومناولة الطعام والشراب، والخبز، والطحن ... ؛ لأن الزوج سيدها في كتاب الله، وهي عانية عنده بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى العاني والعبد الخدمة؛ ولأن ذلك هو المعروف ... ، فعليها أن تخدمه الخدمة المعروفة من مثلها لمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال، فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة) (3) .
ويقول الشيخ الألباني رحمه الله معقبا على كلام شيخ الإسلام: (وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى، أنه يجب على المرأة خدمة البيت، وهو قول مالك وأصبغ كما في (الفتح) ، وأبي بكر بن أبي شيبة، وكذا الجوزجاني من الحنابلة كما في (الاختيارات) ، وطائفة من السلف والخلف كما في
__________
(1) سورة النساء الآية 34
(2) مجموع الفتاوى ج32 ص260.
(3) المرجع السابق، ج34 ص90 – 91 بتصرف يسير.(81/197)
(الزاد) ، ولم نجد لمن قال بعدم الوجوب دليلا صالحا. وقول بعضهم: (إن عقد النكاح إنما اقتضى الاستمتاع لا الاستخدام) ، مردود بأن الاستمتاع حاصل للمرأة أيضا بزوجها، فهما متساويان في هذه الناحية، ومن المعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أوجب على الزوج شيئا آخر لزوجته، ألا وهو نفقتها وكسوتها ومسكنها، فالعدل يقتضي أنه يجب عليها مقابل ذلك شيء آخر أيضا لزوجها، وما هو إلا خدمتها إياه، ولا سيما أنه القوام عليها بنص القرآن الكريم، وإذا لم تقم هي بالخدمة فسيضطر هو إلى خدمتها في بيتها، وهذا يجعلها هي القوامة عليه، وهو عكس للآية القرآنية كما لا يخفى، فثبت أنه لا بد لها من خدمته، وهذا هو المراد) (1) .
ويقول الدكتور محمد بن لطفي الصباغ معلقا على مبدأ طاعة الزوجة لزوجها فيما لا معصية فيه: (وهذا أمر طبيعي، فإن كان الزواج شركة، وكان الرجل هو صاحب القوامة، فلا بد من طاعته فيما يأمر وينهى في حدود الشرع؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ... ، إن الزوجة الذكية هي التي لا تتخلى عن طبيعتها الرقيقة الهادئة الطيبة، إنها كما صورها الحديث الشريف راعية في بيت زوجها تصونه وترعاه، إذا نظر إليها زوجها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله) (2) .
__________
(1) آداب الزفاف ص288، 289.
(2) نظرات في الأسرة المسلمة ص71 - 72.(81/198)
ثامنا: لقد خلق الله عز وجل الرجل والمرأة وجعل بينهما فروقا(81/198)
عديدة، منها فروق جسدية تكوينية، وفروق عقلية سلوكية، وفروق نفسية وجدانية. وهذه الفروق تؤكد الاختلاف والتباين بينهما، وأن كلا منهما مؤهل بخصائص وطاقات تخدم مجاله وميدانه، فالاختلاف في التكوين والخصائص يقابله اختلاف في التكاليف والوظائف.
وطبيعة تكوين المرأة الجسدي والعقلي والنفسي يؤهلها لمهمتين أساسيتين، ووظيفتين حيويتين في الحياة الإنسانية، نصت عليهما النصوص الشرعية، وهما:
1- وظيفة الزوجة:
يقول عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (1) ، ويقول سبحانه {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (2) ويقول كذلك: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} (3) .
وقانون الزوجية بموجب هذه الآيات الكريمات يعتمد على أسس
__________
(1) سورة الأعراف الآية 189
(2) سورة الروم الآية 21
(3) سورة النحل الآية 72(81/199)
وأركان هامة، لا بد للزوجة أن تدركها، وتحاول قدر استطاعتها تحقيقها، والقيام بها على الوجه الأمثل بحكم طبيعتها واستعدادها ومواهبها الفطرية، وهي: تحقيق السكون الجنسي (الجسدي) ، والسكون النفسي العاطفي، والمودة والمحبة والتراحم بين الزوجين وجميع أفراد الأسرة من بنين وحفدة، وأعظم من ذلك كله تحقيق ثمرة الزواج، وهي تكاثر الجنس البشري، واستدامته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
2- وظيفة الأمومة:
وهي أقدس وظيفة وأشرف مهمة تقوم بها المرأة، وبسببها جعل الله الأم أحق بالبر من الأب، كما جعل إكرامها والإحسان إليها أقرب سبيل إلى الجنة.
ووظيفة الأمومة تستلزم أربع مراحل، أو أربعة أدوار متلاحقة، لها أثر بالغ في حياة الإنسان، وهي:
أ- دور الحمل.
ب- دور الوضع.
ج- دور الإرضاع.
د- دور الحضانة والتربية.
يقول عز وجل في بيان هذه الأدوار: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (1) ،
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 15(81/200)
ويقول {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (1) ، ويقول أيضا: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (2) ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «المرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهي مسؤولة عنهم (3) » .
فالحمل هو الثمرة الطبيعية للقاء الزوجي بين الذكر والأنثى، والرغبة في الأمومة غريزة فطرية وأمر واقعي بالنسبة للمرأة؛ نظرا لتكوينها الجسمي والعقلي والنفسي كما تقدم. وتطول مدة الحمل إلى تسعة أشهر، والمرأة مسؤولة عنه باعتباره روحا وحياة جديدة تخلق في بطنها، وقد أخذ الله منها الميثاق بألا تقتله عمدا أو تتسبب في قتله، حيث يقول تعالى في آية بيعة النساء: {وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} (4) .
وأما الوضع فهو المخاض المذكور في قوله تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} (5) ، والوضع عملية شاقة شديدة، تفقد فيها المرأة كمية كبيرة من
__________
(1) سورة لقمان الآية 14
(2) سورة البقرة الآية 233
(3) تقدم تخريجه.
(4) سورة الممتحنة الآية 12
(5) سورة مريم الآية 23(81/201)
الدم، ثم تعقبها فترة النفاس التي تستمر أربعين يوما، تعاني فيها المرأة من الإرهاق بعد الجهد الشاق الذي بذلته أثناء عملية الوضع، وصدق الله حين قال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} (1) .
وأما الإرضاع فمدته سنتان كاملتان؛ لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (2) ، أما حكمه بالنسبة للأم فنجده في قوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} (3) ، حيث يروي الإمام البخاري عن يونس، عن الزهري، أنه قال: (نهى الله أن تضار والدة بولدها، وذلك أن تقول الوالدة: لست مرضعته، وهي أمثل له غذاء وأشفق عليه وأرفق به من غيرها، فليس لها أن تأبى بعد أن يعطيها من نفسه ما جعل الله عليه) (4) .
والحليب الممتص من ثدي الأم هو الغذاء الطبيعي الملائم للطفل الوليد، وهو أول وأهم ما يحتاجه عند قدومه إلى هذه الدنيا، ولذا ورد الحث عليه، حيث يقول سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (5) ، وعليه فلا يقبل من الأم الامتناع عن إرضاع طفلها بحجة انشغالها بالعمل خارج البيت؛ لأنها تكون بذلك مقاومة لسنة الفطرة وطبيعتها كأنثى مزودة بجهاز قد خلقه الله لهذا الغرض.
وأما الحضانة والتربية فهي أمر له شأن عظيم وأثر كبير في حياة
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 15
(2) سورة البقرة الآية 233
(3) سورة البقرة الآية 233
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب (النفقات) ، الباب (4) ، ج9 ص504.
(5) سورة القصص الآية 7(81/202)
الطفل، ولذا جعله الله عز وجل من أعظم حقوق الأبناء على الآباء، وهو حق واجب في ذمة الأبوين معا، وتقوم به الأم بالدرجة الأولى؛ لأنها المدرسة الأولى التي يتعلم فيها الأبناء أول دروس الحياة، وهي القدوة المثلى أمامهم، فأول ما تتفتح عليه عينا الطفل هي أمه، فتحتضنه وتحنو عليه، وتجتهد في تربيته تربية إسلامية صحيحة، فيشعر بالأمان والاطمئنان، وتكون هي بذلك قد قامت بواجب من استرعاها الله إياه وحملها مسؤوليته.
فوظيفة الزوجية ووظيفة الأمومة أهم وأعظم الوظائف التي تختص بالمرأة، وقد حددتها النصوص الشرعية، فهما من أوجب الواجبات عليها، والإخلال أو التقصير في أدائهما من غير عذر يقع فيه الوزر عليها، وينشأ عنه الأثر السيئ على الأفراد والمجتمعات. وهذا من أهم الأسباب التي من أجلها شرع الإسلام للمرأة القرار في البيت، وأمر الرجل بالإنفاق عليها وتلبية حاجاتها ومطالبها.
إلا أنه ربما تحتاج المرأة إلى العمل خارج بيتها؛ لظروف وأحوال عديدة، كأن تضطر إلى ذلك لإعالة نفسها وأولادها، إن لم يكن لها من يعولها ويعول أولادها، وكأن تقوم بأعمال تمس الحاجة فيها إلى المرأة خاصة، كالتوليد، والتمريض، ومعالجة الأمراض النسائية، والتعليم في مدارس البنات، والعمل في دور الرعاية الاجتماعية النسائية والجمعيات النسائية الخيرية، ونحو ذلك من المرافق التي يحتاج المجتمع فيها إلى طائفة(81/203)
من النساء لسد حاجته منها، فإنه - والحالة هذه - يجيز لها الإسلام العمل خارج بيتها وفق الضوابط الشرعية التالية:
1- إذن وليها لها بالخروج للعمل، سواء كان الولي أبا أو زوجا.
2- خلو مقر عملها من الاختلاط والخلوة بالرجال الأجانب عنها.
3- التزامها بالحجاب الشرعي والحشمة والوقار، واجتنابها الطيب والزينة.
4- ألا يستغرق العمل جهدها ووقتها، فإذا ما استنفدت طاقتها وجهدها في العمل خارج منزلها، فإن ذلك سيخل – بلا شك – بأدائها لوظيفتها الأساسية داخل المنزل.
5- أن يتناسب العمل مع طبيعة تكوينها وفطرتها، بحيث لا توكل إليها الأعمال الشاقة التي تتطلب الخشونة وبذل الجهد العضلي، كأعمال الحفر، والبناء، والنقل، وشق الطرق، وإقامة السدود، وأعمال مصانع الآليات الثقيلة.(81/204)
تاسعا: الأصل في قرار النساء في البيوت أنه عبادة ووقاية.
أما أنه عبادة؛ فلأمر الإسلام به، كما تبين لنا ذلك – فيما سبق – من خلال إيرادنا للأدلة الشرعية الدالة عليه.
وأما أنه وقاية؛ فلأنه يساعد على غض البصر الذي أمر الله به، كما يساعد على ستر العورات التي تثير في النفوس كوامن الشهوات، ويقطع الطريق على أطماع الفسقة الذين في قلوبهم مرض.
ومما لا شك فيه أنه يجب على كل مسلم الخضوع لأصول الدين(81/204)
وشرائعه على حد سواء، فهي جماع الدين والإيمان. ومن شرائع الدين: اجتناب المرأة المسلمة مخالطة الرجال الأجانب، وبقاؤها في بيتها، وعدم خروجها منه إلا لحاجة شرعية.
ومن رفض شريعة من شرائع الإسلام الثابتة بالكتاب والسنة، تبعا لشهوات نفسه وأهوائها، أو تقليدا للآخرين بحجة أن ذلك مما تمليه ضرورات التطور، وما تستلزمه المدنية لم يعد من المؤمنين، يقول عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (1) ويقول أيضا: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) .
ويمكن للمسلم والمسلمة تفهم مظاهر التطور والرقي – وهو مما يدعو إليه صاحب هذه الدعوى – مع التمسك بأحكام الشريعة وأهدافها.
ولا يخفى على كل لبيب مدى التناقض في كلام صاحب هذه الدعوى الذي قال – بعد زعمه أن خروج المرأة من بيتها ومخالطتها الرجال الأجانب للعمل وغيره هو من ضرورات التطور والمدنية: (لا بد من فهم مظاهر التطور هذه واستيعابها وفق مبادئ الإسلام، بعيدا عن روح الخوف والحذر وسد الذرائع، تلك الروح التي سادت في عصور الانحطاط وكبلت
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2) سورة النساء الآية 65(81/205)
المجتمع الإسلامي) انتهى كلامه، ففهم مظاهر التطور والمدنية واستيعابها وفق مبادئ الإسلام يقتضي منا الأخذ بمبدأ (الحذر وسد الذرائع) ، لا التنصل عنه.
وادعاء أن روح الخوف والحذر وسد الذرائع إنما سادت في عصور الانحطاط وكبلت المجتمع الإسلامي؛ مغالطة عجيبة، فسد الذرائع – وهو تحريم ما يتذرع ويتوصل بواسطته إلى الحرام – أصل من أصول الشريعة، وقاعدة من قواعدها الكلية التي عمل بها في الكتاب والسنة. فمثاله في الكتاب: نهي الله عز وجل عن سب آلهة المشركين، مع كونه من مقتضيات إفراده سبحانه بالألوهية، وذلك لكون هذا السبب ذريعة إلى أن يسبوا الله عدوا وكفرا على وجه المقابلة، قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) .
ومثاله من السنة: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاحتكار؛ لئلا يتخذ ذريعة إلى رفع الأسعار وعدم وجود السلع في الأسواق، مما يسبب الضرر للأفراد.
وقد عمل المسلمون بهذا الأصل – سد الذرائع – منذ تاريخ
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108(81/206)
الإسلام، ومن ذلك على سبيل المثال: اتفاق الصحابة رضي الله عنهم وعامة الفقهاء على قتل الجماعة بالواحد، وإن كان أصل القصاص يمنع ذلك؛ لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء.
وكذلك اتفاق الصحابة على جمع عثمان رضي الله عنه للمصحف على حرف واحد من الأحرف السبعة؛ لئلا يكون ذريعة إلى الاختلاف في القرآن (1) .
فكيف يسوغ القول – بعد كل ما تقدم – بأن الأخذ بسد الذرائع إنما ساد في عصور الانحطاط؟!، وكيف يكون الأخذ بأصل من أصول الشريعة مكبلا للمجتمع الإسلامي؟!!، إن كان ذلك مكبلا لأحد فهو للمتبرمين من أصول الشريعة وأحكامها.
وفي الربط بين الأخذ بسد الذرائع وعصور الانحطاط ما لا يخفى من الاستخفاف بالمحافظين على دينهم الحريصين على الالتزام بأحكامه.
وأختم هنا بكلمة جامعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز المفتي العام السابق بالمملكة العربية السعودية، فيها رد بليغ على دعاة خروج المرأة من بيتها ومشاركتها الرجل في ميدان عمله، حيث يقول - تغمده الله بواسع رحمته -: (إن الدعوة إلى نزول المرأة للعمل في ميدان الرجل المؤدي إلى الاختلاط، سواء كان ذلك على جهة التصريح أو التلويح، بحجة أن ذلك من مقتضيات العصر ومتطلبات الحضارة- أمر خطير جدا، له تبعاته الخطيرة،
__________
(1) انظر ابن القيم – أعلام الموقعين ج3 ص159.(81/207)
وثمراته المرة، وعواقبه الوخيمة، رغم مصادمته للنصوص الشرعية، التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها، والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحوه.
ومن أراد أن يعرف عن كثب ما جناه الاختلاط من المفاسد التي لا تحصى، فلينظر إلى تلك المجتمعات التي وقعت في هذا البلاء العظيم اختيارا أو اضطرارا، بإنصاف من نفسه، وتجرد للحق عما عداه، يجد التذمر على المستوى الفردي والجماعي، والتحسر على انفلات المرأة من بيتها وتفكك الأسر، ونجد ذلك واضحا على لسان الكثير من الكتاب، بل في جميع وسائل الإعلام، وما ذلك إلا لأن هذا هدم للمجتمع وتقويض لبنائه.
والأدلة الصحيحة الصريحة الدالة على تحريم الخلوة بالأجنبية، وتحريم النظر إليها، وتحريم الوسائل الموصلة إلى الوقوع فيما حرم الله أدلة كثيرة قاضية بتحريم الاختلاط؛ لأنه يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
وإخراج المرأة من بيتها الذي هو مملكتها، ومنطلقها الحيوي في هذا- إخراج لها عما تقتضيه فطرتها وطبيعتها التي جبلها الله عليها، فالدعوة إلى نزول المرأة في الميادين التي تخص الرجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي، ومن أعظم آثاره الاختلاط الذي يعتبر من أعظم وسائل الزنى الذي يفتك بالمجتمع ويهدم قيمه وأخلاقه.
ومعلوم أن الله تبارك وتعالى جعل للمرأة تركيبا خاصا يختلف تماما عن تركيب الرجل، هيأها به للقيام بالأعمال التي في داخل البيت، والأعمال التي بين بنات جنسها.(81/208)
ومعنى هذا: أن إقحام المرأة لميدان الرجال الخاص بهم يعتبر إخراجا لها عن تركيبها وطبيعتها، وفي هذا جناية كبيرة على المرأة وقضاء على معنوياتها وتحطيم، ويتعدى ذلك إلى أولاد الجيل من ذكور وإناث؛ إذ إنهم يفقدون التربية والحنان والعطف، فالذي يقوم بهذا الدور - وهو الأم - قد فصلت منه، وعزلت تماما عن مملكتها التي لا يمكن أن تجد الراحة والاستقرار والطمأنينة إلا فيها، وواقع المجتمعات التي تورطت في هذا أصدق شاهد على ما نقول. والإسلام جعل لكل من الزوجين واجبات خاصة، على كل واحد منهما أن يقوم بدوره ليكتمل بذلك بناء المجتمع في داخل البيت وخارجه، فالرجل يقوم بالنفقة والاكتساب، والمرأة تقوم بتربية الأولاد والعطف والحنان والرضاعة والأعمال التي تناسبها، كتعليم البنات، وإدارة مدارسهن، والتطبيب والتمريض لهن، ونحو ذلك من الأعمال المختصة بالنساء، فترك واجبات البيت من قبل المرأة يعتبر ضياعا للبيت بمن فيه، ويترتب عليه تفكك الأسرة حسيا ومعنويا، وعند ذلك يصبح المجتمع شكلا وصورة، لا حقيقة ومعنى قال الله جل وعلا: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (1) ، فسنة الله في خلقه أن القوامة للرجل على المرأة، وللرجل فضل عليها كما دلت الآية الكريمة على ذلك.
وأمر الله سبحانه المرأة بقرارها في بيتها ونهيها عن التبرج معناه:
__________
(1) سورة النساء الآية 34(81/209)
النهي عن الاختلاط، وهو اجتماع الرجال بالنساء الأجنبيات في مكان واحد بحكم العمل أو البيع أو الشراء أو النزهة أو السفر أو نحو ذلك؛ لأن اقتحام المرأة لهذا الميدان يؤدي بها إلى الوقوع في المنهي عنه، وفي ذلك مخالفة لأمر الله وتضييع لحقوق الله المطلوب شرعا من المسلمة أن تقوم بها) (1) .
__________
(1) الرسائل والفتاوى النسائية ص15 - 18.(81/210)
الخاتمة:
وفي الختام أحمد الله عز وجل على تفضله علي بإنجاز هذا البحث.
وفيما يلي رصد لأبرز نتائجه العلمية:
1- أن الكتاب والسنة دلا على منع الاختلاط بين الجنسين وتحريمه، وتحريم جميع الوسائل المؤدية إليه.
2- أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قد فقهوا الأدلة الشرعية الدالة على تحريم الاختلاط وامتثلوا لها، فاجتنبوا الاختلاط ومنعوه.
3- أن مجتمعات المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد صحابته رضي الله عنهم لم يكن فيها اختلاط بين الرجال والنساء في المساجد ومجالس العلم بالصورة التي يريدها دعاة الاختلاط؛ لأن الرجال كانوا في ذلك العهد يصلون في مقدمة المسجد، وتبقى النساء في مؤخرته للصلاة، وسماع الخطب والمواعظ، وتعلم أحكام الدين، مع عنايتهن بالحجاب، وإخفاء الزينة، والتحفظ من كل ما يثير الفتنة.(81/210)
4- أن خروج بعض النساء مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات إنما كان مع محارمهن لمصالح كثيرة، لا يترتب عليها ما يخشى عليهن من الفساد؛ لقوة إيمانهن وتقواهن، وإشراف محارمهن عليهن، وعنايتهن بالحجاب.
5- أنه لم تكن المرأة المسلمة في صدر الإسلام قط عضوا في مجالس التشاور في أمور المسلمين. وأما ما سجلته بعض وقائع التاريخ الإسلامي من مشاركتها في بعض قضايا الدولة وشؤونها، فهي تصرفات وحالات نادرة لمناسبات خاصة تقدر بقدرها، ولا يبنى عليها حكم، ولا تأخذ حكم القاعدة الشرعية.
6- أن الاختلاط منع في الإسلام منذ نزول آيات الحجاب، فقد منعه النبي صلى الله عليه وسلم ومنعه صحابته الكرام والتابعون لهم بإحسان، ولم يخل عصر ولا مصر من بلاد الإسلام والمسلمين من منع الاختلاط والتشدد في أمره، امتثالا لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحرصا من المخلصين الغيورين في مختلف الأماكن والأزمان على تطبيق شريعة الإسلام.
7- أن قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (1) يدل – كما يفهم العلماء والمحققون – على وجوب لزوم المرأة المسلمة بيتها، وعدم خروجها منه إلا عند الضرورة، وتحريم اختلاطها بالرجال الأجانب عنها، وأن المخاطب بها جميع نساء المسلمين، وأن اختلاف العلماء في معناها لا يبطل صحة الاستدلال بها على منع الاختلاط وضرورة لزوم المرأة بيتها وعدم
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33(81/211)
الخروج منه إلا لحاجة شرعية.
8- أن التوعية والتربية العقديتين، وإشاعة أجواء الطهر والعفة، والتعاون على الخير في العلاقات البشرية لا يكفي في تطهير العلاقات بين الجنسين من التحلل والفساد، ما لم يضم إليه سد جميع أبواب الفتن وذرائع الفساد.
9- أن سد الذرائع أصل من أصول الشريعة، وقاعدة من قواعدها الكلية التي عمل بها في الكتاب والسنة، وأخذ بها المسلمون منذ تاريخ الإسلام.
10- أن النصوص الشرعية تدل دلالة واضحة على وجوب قيام الزوجة برعايتها لبيتها وزوجها وأطفالها.
11- أن وظيفة الزوجية ووظيفة الأمومة هما أهم وأعظم الوظائف التي تختص بها المرأة، ومن أوجب الواجبات عليها، والإخلال أو التقصير في أدائها من غير عذر يقع فيه الوزر عليها، وينشأ عنه الأثر السيئ على الأفراد والمجتمعات.
12- أن إقحام المرأة في العمل في ميادين الرجال الخاصة بهم يعتبر إخراجا لها عن طبيعة تكوينها وفطرتها التي خلقها الله عليها.
13- أنه يمكن للمسلم والمسلمة تفهم مظاهر التطور والرقي، مع التمسك في الوقت نفسه بأحكام الشريعة وأهدافها.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(81/212)
حكم الإسقاط من الدين المؤجل عوضا عن التعجيل، والمعروفة فقها بـ «ضع وتعجل»
لفضيلة الدكتور إبراهيم بن محمد قاسم بن محمد رحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فمما لا شك فيه أن دراسة جزئيات من الفقه تعتبر بمثابة الأصول أو الضوابط التي يعاد إليها الخلاف في مسائل متفرعة عنها يعد أمرا في غاية الأهمية، لا سيما في الدراسات الحديثة المتعلقة بالشأن الاقتصادي، حيث التطور الهائل في صور المعاملات ووسائلها وآليتها، وقد اخترت جزئية أرى أهميتها في مسائل المداينات، ألا وهي مسألة الوضع مقابل التعجيل في الدين المؤجل، وقد جاء بحثها في المسائل التالية:
المسألة الأولى: المراد بالمسألة وأهميتها.
المسألة الثانية: علاقتها بالصلح على الإبراء.
المسألة الثالثة: الخلاف في المسألة مع الاستدلالات، ويتضمن خمسة فروع:
الفرع الأول: تحرير الخلاف في المسألة
الفرع الثاني: سبب الخلاف
الفرع الثالث: الأقوال(81/213)
الفرع الرابع: الأدلة
الفرع الخامس: الترجيح
المسألة الرابعة: أثر الاشتراط على المسألة.
الخاتمة.(81/214)
المسألة الأولى:
المراد بالمسألة وأهميتها:
هذه المسألة مما جرى التعامل به في المعاملات الدائرة بين الناس، ولا سيما في المداينات كثيرا، وتوسع الناس فيها، حتى أصبحت تقع أحيانا بصورة منفصلة، حيث يحتسب في بيوع التقسيط بصورة الفائدة المنفصلة، ويتفق على نسبة تزيد بزيادة الأجل وتنقص بنقصه، وليس هذا مجال هذا البحث المقتضب «أعني بيع التقسيط» ، وإنما المراد بحث الإبراء عن الزيادة في مقابل تعجيل الدين، المشتهرة عند الفقهاء بـ «ضع وتعجل» . فالمراد بها اتفاق المتعاقدين في مداينة على إسقاط جزء من الدين يقابل الأجل بشرط أن يعجل المدين الباقي، والأجل معتبر في أصل المسألة كما سيظهر عند تحرير الخلاف.(81/214)
المسألة الثانية: علاقة «ضع وتعجل بالصلح على الإبراء» :
العلاقة بين مسألة «ضع وتعجل» وبين الصلح: أن الصلح عقد يتضمن رفع النزاع بين الخصوم (1) ، وهو بهذا المعنى أعم من الإسقاط والإبراء من
__________
(1) انظر: تبيين الحقائق للزيلعي 5 / 29، وكشاف القناع 3 / 390.(81/214)
وجه، وأخص من وجه، فالصلح لا يكون إلا عن نزاع عادة، والإبراء لا يشترط فيه ذلك، كما أن الصلح قد يقع على أمر لا إسقاط فيه، وعليه فيجتمعان في: إسقاط في حالة نزاع، وينفرد الصلح في صلح لا إسقاط فيه، والإبراء في عفو بدون مقابل (1) .
__________
(1) انظر: الموسوعة الفقهية 27 / 323 - 324.(81/215)
المسألة الثالثة: الخلاف في المسألة مع الاستدلالات، ويتضمن أربعة فروع:
الفرع الأول: تحرير محل النزاع في المسألة:
بالنظر إلى المسألة وأقوال العلماء فيها أجد أن ثمت أمورا هي محل اتفاق، أو هي قول لجمهورهم، مع تشابهها بالمسألة الأم، وهي مسألة «ضع وتعجل» فتعتبر صورة من صورها أو جزءا منها، أو مثالا، ولذلك رأيت أن أذكر هذه المسائل كمقدمة حتى ينحصر الخلاف.
أ- إذا كان الدين دعوى، وصالحت المدعي ببعضه، كأن يدعي على شخص بدين ويقول: صالحتك عن هذا الدين ببعضه، وهو ما يسمى عند الشافعية صلح الحطيطة، فجمهور العلماء من الحنفية (1) والمالكية (2) والشافعية (3) يجيزونه؛ لأن هذا إسقاط لبعض حقه،
__________
(1) انظر: مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 2 / 315، وبدائع الصنائع 6 / 43.
(2) انظر: مواهب الجليل 5 / 82، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 324.
(3) انظر: نهاية المحتاج للرملي 4 / 374، وأسنى المطالب 2 / 315.(81/215)
واستيفاء لبقيته، ولا معاوضة في ذلك، ويرى الحنابلة (1) جواز ذلك إذا كان بلفظ الإبراء، وكانت البراءة غير مشروطة، أما إذا وقع بلفظ الصلح، فالأشهر من الروايتين - وهي الأصح في المذهب - أنه لا يصح؛ لأنه صالح عن ماله ببعضه، فكان هضما للحق، وبهذا يتبين أن الديون الحالة لا تدخل في الخلاف، فيجوز الحط منها في مقابل التعجيل، ويكون الخلاف المشهور مفروضا في مسألة بيوع الآجال.
ب- ويتفرع على هذه النقطة: أن القروض لا يدخل الإسقاط منها في الخلاف؛ لأنها على رأي جمهور العلماء لا تتأجل بالتأجيل، بل حتى لو صرح بالأجل فالقرض حال، وهذا مذهب الحنفية (2) والشافعية (3) والحنابلة، وأما على رأي المالكية (4) أن القرض يتأجل فيجري الخلاف. وعندي أن رأي المالكية بتأجل القرض هو الأظهر، وعليه فترد مسألة «ضع وتعجل» فيه، وقد اختار هذا القول جمع من المحققين ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله.
__________
(1) انظر: المبدع 4 / 279، وكشاف القناع 3 / 379.
(2) انظر: أحكام القرآن للجصاص 1 / 639، والمبسوط 14 / 33.
(3) انظر: أسنى المطالب 2 / 142 وحاشيتي قليوبي وعميرة 2 / 321.
(4) انظر: حاشية الدسوقي 3 / 404، والتاج والإكليل 233 / 234.(81/216)
ج- حمل بعض العلماء الخلاف في المسألة على ما إذا وقع هذا القول مع الشرط، أما لو كان تبرعا دون شرط فإنه جائز، وهذا عند الجمهور، وجعل بعض العلماء هذا وجها للجمع بين الأحاديث والآثار الواردة في التحريم والإباحة، قال الطحاوي في شرح مشكل الآثار (1) : وأما إذا كان الوضع والتعجيل ليس واحد منهما مشروطا في صاحبه، ولكنه على وضع مرجو به التعجيل لبقية الدين، فذلك بخلاف الباب الأول، ولا يجوز في المعقول إبطاله بالحكم..
وقال ابن السبكي (2) - وهو يحكي المذاهب -: والشافعية: إن جرى بشرط بطل، وإن لم يشترط وطابت نفس كل منهما جاز، وقال أيضا: "والآثار في التحريم والإباحة تنزل على الشرط وبغير الشرط".
ويدل لجوازه بغير الشرط ما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن كعب بن مالك، «أن كعب بن مالك أخبره: أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف حجرته ونادى:
__________
(1) 11 / 65.
(2) مجموع فتاوى ابن السبكي 1 / 340.(81/217)
يا كعب بن مالك، يا كعب، قال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك، قال كعب: قد فعلت يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم فاقضه (1) » .
وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان (2) – بعد ما حكى عن الشافعي قولا بالجواز -: (وأظن هذا - إن صح عن الشافعي - فإنما هو فيما إذا جرى بغير شرط، بل لو عجل له بعض دينه وذلك جائز فأبرأه من الباقي..) إلخ.
وأما المالكية فلا يجيزون هذه المسألة سواء بشرط أو بغير شرط، سدا للذريعة (3) والحديث السابق حجة ظاهرة لمن أجازه بدون شرط. وإذا تحررت هذه النقاط الثلاث، فإنها مما يحصر الخلاف من وجه، ومن وجه آخر يعين على سرد الأدلة والترجيح.
__________
(1) البخاري الصلاة (459) ، مسلم المساقاة (1558) ، النسائي آداب القضاة (5408) ، أبو داود الأقضية (3595) ، ابن ماجه الأحكام (2429) ، أحمد (3/454) ، الدارمي البيوع (2587) .
(2) 2 / 12.
(3) انظر الإشراف 1 / 149، والتاج والإكليل للمواق 6 / 146.(81/218)
الفرع الثاني: سبب الخلاف:
قبل أن أسرد الخلاف، يظهر لي من الأدلة أن سبب الخلاف في المسألة يعود إلى أمرين:
1- الأمر الأول: علاقة هذه المسألة بصورتها العكسية، حيث إن الزيادة في مقابل الأجل عند التأخر في الوفاء ربا، فرأى الجمهور أن نقص العوض في مقابلة نقص الأجل يتحقق فيه الربا كذلك، وسيتبين عند عرض الخلاف أن هذا غير متحقق.(81/218)
2- الأمر الثاني: تعارض الأحاديث الواردة فيها.
الفرع الثالث: الأقوال في المسألة:
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: جواز التعامل بهذه الصورة، وقد ذهب إلى هذا القول:
من الصحابة ابن عباس رضي الله عنهما (1) والنخعي (2) ، وأبو ثور (3) ، وزفر (4) والإمام أحمد رحمه الله في رواية عنه، نقلها صاحب الإرشاد (5) والشافعي في قول (6) واختارها جمع من المحققين ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية (7) وتلميذه ابن القيم (8) . وأئمة الدعوة وغيرهم (9) . وهو ما انتهى إليه المجمع الفقهي في قراراته (10) .
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن 6 / 28، وانظر الاستذكار لابن عبد البر 20 / 261.
(2) انظر: الاستذكار 20 / 264، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف 13 / 130.
(3) انظر: المغني مع الشرح الكبير 4 / 174.
(4) انظر الاستذكار 20 / 262، وشرح مشكل الآثار 11 / 64.
(5) انظر 4 / 264، والمبدع 4 / 81، والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير 13 / 1316.
(6) انظر مختصر المزني في مختصر المكاتب، باب: تعجيل الكتابة 28.
(7) انظر: الفروع 4 / 264، والإنصاف مع المقنع والشرح 13 / 131 والاختيارات 396.
(8) انظر: أعلام الموقعين 3 / 357
(9) كالشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله. انظر الفتاوى السعدية 376، والدرر السنية 6 / 259 – 260
(10) انظر: القرار رقم 26 / 2 / 7 في مجلة المجمع العدد السابع 2 / 217 - 218.(81/219)
القول الثاني:
أنه لا يجوز التعامل بهذه الصورة. وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء:
وعلى رأسهم من الصحابة: عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما (1) وزيد بن ثابت (2) .
وكره ذلك سعيد بن المسيب (3) وسالم (4)
والحسن البصري وغيرهم (5) . وهو مذهب أبي حنيفة (6) ومالك (7) والشافعي (8) وأحمد. في المشهور من مذاهبهم رحمهم الله..
إلا أن الإمام أحمد وأبا حنيفة – رحمهما الله – يجيزون هذه المعاملة في دين الكتابة في المشهور من مذاهبهم، ويمكن اعتبار هذا قولا ثالثا.
__________
(1) انظر شرح مشكل الآثار 11 / 61، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف 13 / 130.
(2) انظر المرجع السابق.
(3) انظر: الاستذكار 20 / 263، والمغني مع الشرح الكبير 4 / 174.
(4) انظر: المغني مع الشرح الكبير 4 / 174. .
(5) انظر: المرجع السابق
(6) انظر: المبسوط للسرخسي 13 / 126، وشرح السير الكبير للسرخسي أيضا 4 / 1495، وشرح مشكل الآثار 11 / 64.
(7) انظر: الإشراف 1 / 149، والتاج والإكليل 6 / 146، والفروق للقرافي 3 / 267.
(8) انظر: الحاوي 18 / 233، وروضة الطالبين 8 / 502، ومجموع فتاوى السبكي / 1 / 340.(81/220)
الفرع الرابع: الأدلة: أدلة القول الأول:(81/220)
استدل أصحاب القول الأول بعدة أدلة، أهمها:
1-ما روى ابن عباس – رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج بني النضير من المدينة، جاء ناس منهم، فقالوا: يا رسول الله، إنك أمرت بإخراجهم ولهم على الناس ديون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ضعوا وتعجلوا (1) » .
ونوقش الاستدلال بالحديث بعدة أمور:
1- الأمر الأول: ضعف الحديث. ويجاب بأنه قد صحح من عدد من المعتبرين، لا سيما وأن التصحيح كان مبنيا على تعقب سبب التضعيف.
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 2 / 61، برقم (2325) وقال: هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي في التلخيص مع المستدرك بمسلم بن خالد الزنجي، وأخرجه الدارقطني في كتاب البيوع 3 / 46، برقم (190 – 192) ، والبيهقي في السنن الكبرى، في باب: من عجل له أدنى من حقه قبل محله، فقبله ووضع عنه، طيبة به أنفسهما 6 / 28، والطبراني في الأوسط 1 / 249، برقم (817) ، وأورده ابن عبد البر في الاستذكار بسنده 6 / 490. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه مسلم بن خالد الزنجي، وهو ضعيف، وقد وثقه (4 / 130) وحسنه في إعلاء السنن 14 / 352. قال ابن القيم في إغاثة اللهفان 2 / 13، قال أبو عبد الله الحاكم: هو صحيح الإسناد، قلت: هو على شرط السنن، وقد ضعفه البيهقي، وإسناده ثقات، وإنما ضعف بمسلم بن خالد الزنجي، وهو ثقة فقيه، روى عنه الشافعي واحتج به.(81/221)
2- نوقش ثانيا: بأنه على فرض صحة الحديث، فإن هذا كان قبل تحريم الربا؛ لأن تحريم الربا كان في خيبر، وإجلاء بني النضير كان بعد بدر (1) .
ويجاب عن هذه المناقشة بأجوبة:
أ- لا نسلم أولا بأن المسألة من باب الربا، بل كما سيأتي أنها عكس الربا حقيقة ومعنى، فليس ثمت معارضة توجب هذا الحمل.
ب- وعلى التسليم بأن هناك معارضة بين أحاديث الربا وهذا الحديث، فإن الجمع ممكن، بجعل هذه الصورة مخصصة من عمومات الربا، كما خص بيع العرايا ونحوه لدعاء الحاجة إلى ذلك، ومتى أمكن الجمع فإنه لا يصار إلى النسخ.
ج- وعلى فرض تعذر الجمع، فإن المصير إلى النسخ يسوغ إذا علم المتقدم من المتأخر، حتى يكون منسوخا به، وهذا ما لا يمكن الجزم به.
3- نوقش ثالثا من قبل الحنفية: أن هذا الحكم بناء على أن الحرب قائمة بين بني النضير وبين المسلمين، ولا ربا بين المسلم والحربي، ولذلك جاز لهم مثل هذه المعاملة، بل إنها دليل على ذلك.
ويجاب: أولا بعدم التسليم بالأصل الذي بني عليه هذا الحمل، وهو جريان الربا مطلقا في دار الحرب ودار الإسلام، للعمومات
__________
(1) انظر: شرح مشكل الآثار 11 / 63، والمبسوط 13 / 126.(81/222)
التي دلت على ذلك، وهذا ما عليه جمهور العلماء (1) . وعلى التسليم فإن بني النضير أجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم لنقضهم العهود، فهذا الحكم صدر في حقهم وهم في آثار العهد السابق، ولا يحكم بتغيير الصفة إلا بعد تمام الأحكام، نعم ينتقض العهد بيننا وبينهم بأمور مقررة عند العلماء، ولكن عندها يتم إحظارهم بذلك، كما قال الله تعالى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} (2) ، والمعتمد الجواب الأول في هذا.
4- ونوقش رابعا: بأن بني النضير كانوا يداينون بالربا، فالذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بوضعه هو القدر الزائد على رأس المال من الربا، ويستأنس لذلك بما ذكره الواقدي في مغازيه (3) أنه لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «ضعوا وتعجلوا» كان لأبي رافع سلام ابن أبي الحقيق على أسيد بن حضير عشرون ومائة دينار إلى سنة، فصالحه على أخذ رأس ماله ثمانين دينارا، وأبطل ما فضل..
ويجاب أولا: بأن الزيادة التي تكون في البيوع المؤجلة لا تدخل في الربا على الصحيح من أقوال أهل العلم، وقصة سلام مع أسيد ابن حضير يحتمل أنها في مقابل عقد معاوضة وهو الأقرب؛ لأنه
__________
(1) انظر: الموسوعة الفقهية 22 / 74 – 75.
(2) سورة الأنفال الآية 58
(3) 1 / 374، انظر: 1 / 179 في شأن بني قينقاع.(81/223)
يبعد أن يكون ذلك قرضا، حتى لو فرض بإمكان ذلك فإنه لم يعهد من الصحابة التعامل بالربا، ولو سلم بأن ذلك في قرض فإن هذا رأي واجتهاد، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم عام، يشمل كل المداينات التي كانت بين يهود بني النضير وبين الصحابة رضي الله عنهم، ولا يخصص اللفظ العام بصورة أو قصة وقعت.
2-الدليل الثاني: ما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سئل عن الرجل يكون له الحق على الرجل إلى أجل، فيقول: عجل لي وأضع عنك، فقال: لا بأس بذلك.
وقال رضي الله عنه: إنما الربا أخر لي وأنا أزيدك، وليس عجل لي وأضع عنك (1) .
نوقش: بأن هذا رأي من ابن عباس رضي الله عنهما مخالف لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من نهيه عن بيع آجل بعاجل (2) .
ويجاب: أولا: لا يسلم أن ثمت نهيا كما سيأتي، بل هو ضعيف، وسيأتي الجواب عنه.
ثانيا: لو فرض صحة النهي فإنه معارض بما سبق من أحاديث الإباحة وقد صحح ممن سبق.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في الموضع السابق برقم (14362) .
(2) انظر: بحث د/ محمد الشريف في مجلة كلية الشريعة بجامعة الكويت 115.(81/224)
ثالثا: أنه لا يظن بالصحابي أن يقول بخلاف ما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وعنده معارض راجح.
وقد وردت آثار عن بعض السلف أشرت إلى تسميتهم عند ذكر القول، ومنهم سعيد بن المسيب. وهناك أدلة من النظر، أشير إلى أهمها:
أ- أن الوضع مقابل التعجيل ضد الربا، فإن الربا يتضمن الزيادة في الأجل والدين، وذلك إضرار محض بالغريم، ومسألتنا تتضمن براءة ذمة الغريم من الدين، وانتفاع صاحبه بما يتعجله، فكلاهما حصل له الانتفاع من غير ضرر، بخلاف الربا المجمع عليه فإن ضرره لاحق بالمدين، ونفعه مختص برب الدين، فهذا ضد الربا صورة ومعنى (1) .
وهذا معنى ظاهر، وتكييف صحيح، وبه نستطيع الجواب عمن شبه المسألة بالربا، فمن تأمل (ضع وتعجل) تبين أنه لا يمكن تشبيهها بالربا، بل العلاقة بينها وبين الربا عكسية.
ب- أن الإسلام جاء بسد الذرائع، ومقابلة الأجل بالزيادة في الربا ذريعة إلى أعظم الضرر، وهو إشغال الذمة بغير فائدة، وفي الوضع والتعجيل تخلص ذمة المدين من الدين وينتفع الدائن بالتعجيل (2) .
ج- أن الشارع له تطلع إلى براءة الذمم من الديون، وسمي الغريم المدين أسيرا، ففي براءة ذمته تخليص له من الأسر، وهذا ضد
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان 2 / 13، وإعلام الموقعين 3 / 359.
(2) انظر إغاثة اللهفان 2 / 14.(81/225)
شغلها بالزيادة مع الصبر (1) ، فلا يخفى الفرق بين قوله: إما أن تربي وإما أن تقضي، وبين قوله: عجل لي وأهب لك مائة، فأين أحدهما من الآخر؟ فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس (2) .
فتلخص من هذا: أن في الوضع والتعجيل مصالح لكلا الطرفين دون مفسدة تذكر، ومدار الشريعة على جلب المصالح وتحصيلها، ودرء المفاسد وتقليلها كما هو معلوم.
- أما من جوزه في دين الكتابة كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة – رحمهما الله – فيجوز؛ لأن المكاتب ملك للسيد، ولا ربا بين المملوك وسيده، فما فيه شبهة الربا لا يعتبر بين المملوك والسيد، ولا أناقش مسألة المكاتب؛ لأنها من الأمور غير العملية، ولكني أشير إلى ما يكون كالإلزام لمن منع، حيث إنهم قد تناقضوا كما قال ابن القيم رحمه الله: «فقالوا: لا يجوز أن يبيعه درهما بدرهمين؛ لأنه في المعاملات معه كالأجنبي» . وهنا أجازوه. فيا لله العجب. ما الذي جعله كالأجنبي في هذا الباب من أبواب الربا، وجعله معه بمنزلة العبد القن في الباب الآخر؟! (3) .
__________
(1) انظر إغاثة اللهفان 2 / 14.
(2) إعلام الموقعين 3 / 359.
(3) المرجع السابق، وأشار إلى هذا اللزوم في إغاثة اللهفان 2 / 14.(81/226)
أدلة القول الثاني:
1- ما ورد «عن المقداد بن الأسود – رضي الله عنه قال: أسلفت رجلا مائة دينار، ثم خرج سهمي في بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: عجل لي تسعين دينارا وأحط عشرة دنانير، فقال: نعم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أكلت ربا يا مقداد وأطعمته (1) » .
2- ما رواه ابن عمر – رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار، وعن بيع المجر، وعن بيع كالئ بكالئ، وعن بيع آجل بعاجل. قال: والمجر ما في الأرحام، والغرر أن تبيع ما ليس عندك، وكالئ بكالئ دين بدين، والآجل بعاجل أن يكون لك على الرجل ألف درهم، فيقول الرجل: أعجل ولك خمسمائة ودع البقية ... (2) » .
-نوقش الحديثان بأنهما ضعيفان كما تبين في تخريج الحديثين.
ويجاب: إلا أنهما يتعاضدان، ويكون الحديث حسنا لغيره (3) .
ويناقش: بأن هذا وإن كان واردا إلا أنه مشروط بما إذا لم يكن الضعف شديدا بحيث تتكاثر الطرق في الحديث الواحد على وجه
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى في البيوع، باب لا خير في أن يعجله بشرط أن يضع عنه 6 / 28، وضعفه البيهقي حيث قال: في إسناده ضعف، وضعفه ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان 2 / 12، وابن السبكي في فتاويه 1 / 340.
(2) قال الهيثمي في مجمع الزوائد في باب ما نهي عنه من البيوع 4 / 80 – 81: رواه البزار، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف.
(3) انظر: بحث د. محمد الشريف في مجلة الشريعة 103 - 104.(81/227)
يجبر بعضها بعضا، كما هو مقرر عند أهل الشأن.
وفي مسألتنا الأحاديث المذكورة معارضة بما هو أقوى سندا، وقد صحح فيتعين المصير إليه والحال ما ذكر.
ويعضد هذا الحديث الصحيح أن الأصل في المعاملات الحل.
وحشد الطرق لو كنا مفتقرين إلى الحديث لتقوية حكم، أما إذا كان في الحكم ما يثبت به من أحاديث صحاح، فلا حاجة إلى الحمل المذكور، ولذلك ما قرره ابن القيم رحمه الله بقوله: «فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس» (1) - قول في محله.
2-الدليل الثاني: آثار وردت عن الصحابة رضي الله عنهم، فمنها:
أ- عن ابن المسيب، وابن عمر رضي الله عنهما، قالا: من كان له حق على رجل إلى أجل معلوم فتعجل بعضه وترك له بعضه، فهو ربا. قال معمر: ولا أعلم أحدا قبلنا إلا وهو يكرهه.
ب- عن أبي صالح قال: بعت بزا إلى أجل، فعرض علي أصحابي أن يعجلوا لي وأضع عنهم، فسألت زيد بن ثابت – رضي الله عنه – عن ذلك فقال: لا تأكله ولا تؤكله (2) .
نوقش الاستدلال بهذه الآثار عن الصحابة من وجهين:
__________
(1) إعلام الموقعين 3 / 359.
(2) أخرجه البيهقي في الموضع السابق 6 / 672، وعبد الرزاق في مصنفه 8 / 71، ومالك في موطئه 2 / 672.(81/228)
الأول: أنه معارض بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة غزوة بني النضير.
الوجه الثاني: أنها أقوال مجتهدين قابلها قول ابن عباس – رضي الله عنهما – ومن وافقه (1) ، وحجية قول الصحابي – على التسليم بها – لا تكون إلا عند عدم المعارضة.
وثمت آثار وردت عن بعض السلف من التابعين وغيرهم، وقد أشرت إلى أقوالهم عند ذكر القول.
وهناك أدلة من النظر، أهمها:
أ- أن هذا من الربا؛ لأن التعجيل خير من النسيئة، وليس التعجيل مستحقا بالعقد، فلا يجعل التعجيل استيفاء، وإنما معاوضة جديدة، فيكون المسقط للباقي متعجلا لخمسمائة بألف مثلا، والاعتياض عن الأجل ربا، كما أنه لو زاده في المال ليؤجله لم يجز فكذلك في المعجل (2) .
نوقش هذا الاستدلال من أوجه:
1- الوجه الأول بالمنع، فنمنع أن هذه الصورة - أصلا - من الربا؛ لأن الربا مصلحة محضة لطرف، وضرر محض على الغريم، فالدائن مستفيد من جهة العقد والزيادة، مستغل لحاجة الطرف الثاني استغلالا تاما، والمدين واقع تحت وطأة الدين ولا يد له ولا طريق إلا الرضوخ، بينما في الوضع والتعجيل مصلحة لكلا
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان 2 / 12.
(2) انظر: المبسوط 13 / 126، وتبيين الحقائق 5 / 42.(81/229)
الطرفين، فالمعجل يستفيد براءة ذمته، وهذا مطلب شرعي، ويستفيد من الوضع الذي يخفف عنه إرهاق الدين، والدائن يستفيد من العوض الذي يعجله، فيكون فيه نماء تجارته، وتحقيق مصالحه (1) .
2- الوجه الثاني: أن الربا لغة الزيادة، وشرعا: زيادة غير مشروعة في أجناس حكم الشرع بجريان الربا فيها، وهذا المعنى اللغوي والشرعي لا يمكن تحققه في مسألتنا؛ لأنه ليس ثمت زيادة، وإنما هو تعجيل وحطيطة فافترقا، وكما قال ابن القيم رحمه الله (2) : (ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله: إما أن تربي وإما أن تقضي، وبين قوله: عجل لي وأهب لك مائة، فأين أحدهما من الآخر؟!)
3- الوجه الثالث: قولهم: إن التعجيل ليس مستحقا بالعقد ... جوابه: أن التعجيل ليس مستحقا، لكن المستحق هو الزيادة الناتجة عن الأجل، وإذا كان الأثر مستحقا لزم منه استحقاق الأصل، فالاتفاق على إسقاطه هبة وتبرع وإرفاق بالطرف الآخر، وليس معاوضة جديدة، فمن تعجل فقد أسقط القدر الزائد، وعاد إليه بعض ما عاوض عليه، لا أنه استعاض عن الأجل، ولذلك هذا التكييف في نظري بعيد، ولا يسنده المعنى اللغوي ولا الشرعي.
ب- الدليل الثاني: المسقط للباقي ترك بعض المقدار؛ ليحصل
__________
(1) انظر إغاثة اللهفان 2 / 13، وإعلام الموقعين 3 / 359.
(2) انظر: إعلام الموقعين 3 / 359.(81/230)
الحلول في الباقي، الصفة بانفرادها لا تقابل بعوض؛ ولأن صفة الحلول لا يصح إلحاقها بالمؤجل، وإذا لم يحصل ما ترك من القدر لأجله لم يصح الترك (1) ، فمحصل هذا الاستدلال اعتبار صفة الحلول صفة مستقلة لا تقابل بالعوض، ولا تلحق بالتأجيل؛ للتناقض بينهما، وإذا لم يصح الاعتبار لم يصح الإسقاط.
نوقش هذا الاستدلال من أوجه:
1- الأول: أنه تعليق في مقابل النص المبيح للحكم، ولا قياس مع النص.
2- الثاني: ما سبق أن هذا إسقاط وإبراء لا معاوضة؛ لأن المستحق هو العوض في مقابل الأجل، فإسقاطه إبراء من القدر الزائد، وإسراع في تعجيل براءة الذمة.
3- الثالث: أن الحلول ليس صفة، وإنما هو زمن، والأزمنة لها أثر في المعاوضات.
ج- الدليل الثالث: أن من عجل ما أجل يعد مسلفا، فقد أسلف الآن خمسمائة؛ ليقتضي عند الأجل ألفا من نفسه (2) .
ويناقش بما سبق، وأنه مبني على عدم استحقاق التعجيل، فالمعاوضة
__________
(1) انظر: أسنى المطالب شرح روض الطالب 2 / 216، والمغني مع الشرح الكبير 4 / 175.
(2) انظر: البهجة شرح التحفة للتولي 1 / 221.(81/231)
عنه عقد مستأنف، ولكن هذا لا يسلم لما سبق.
هذه أهم الاستدلالات التي ذكرها الفقهاء، وهي تعليلات، أهمها ما سبقت الإشارة إليه في سبب الخلاف في المسألة.
الفرع الخامس: الترجيح:
بتأمل المسألة وما استدل أصحاب كل قول وما نوقشت به تلك الاستدلالات، يظهر لي - والله أعلم - رجحان القول الأول، وذلك للاعتبارات الآتية:
1- قوة الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا القول، سواء من الأثر أو من النظر، لا سيما قصة بني النضير.
2- ضعف أدلة القول الثاني، حيث إنها نوقشت بمناقشات قوية، أحسب أنها كافية في عدم قبولها.
3- أن الأصل في المعاملات الإباحة، وهذا الأصل اعتضد بالأدلة التي استدل بها القائلون بجواز هذه المعاملة.
4- أن مبنى الشريعة على تحقيق المصالح وتحصيلها، ودرء المفاسد وتقليلها، فما أمر الشرع بأمر إلا ومصلحته خالصة أو راجحة، وما نهى عن شيء إلا ومفسدته خالصة أو راجحة، (1) وهذا الأصل يعضد حل التعامل بالصورة التي هي محل البحث، حيث تبين أنها مشتملة على مصالح راجحة، ويندرئ بها مفاسد عن المتعاقدين، وقد ورد ذكر هذه المصالح عند الاستدلال للقول، والرد على أدلة القول الآخر.
__________
(1) انظر: القواعد والأصول الجامعة للشيخ عبد الرحمن السعدي 7.(81/232)
5- أن قاعدة الشرع رفع الحرج، وبناء الأحكام على التيسير، وفي تجويز هذه الصورة رفع للحرج عن الطرفين، أما المدين فأمره ظاهر، حيث إن الحاجة قد تدعو في وقت للتورق أو أي صورة من صور المداينات، وتندفع في وقت آخر بتيسير سبب من الأسباب، ففي إلزامه بالبقاء على العقد الذي يستنزف دخله، ويشغل ذمته، ويرهق وضعه المادي ضرر، كما أن الدائن يستفيد من المبلغ إذا وصله جملة، حيث يشكل أصلا استثماريا يدر عائدا مناسبا، ففي منعه من ذلك حرج لا تأتي بمثله الشريعة.(81/233)
المسألة الرابعة: أثر الاشتراط على المسألة:
وبعد ترجيح هذا القول لا بد من الوقوف عند مسألة تعرض لها المجمع الفقهي، حيث اعتبر لصحة «ضع وتعجل» ألا يكون ذلك باتفاق مسبق، وبشرط آخر وهو ثنائية العلاقة بين العاقدين، فلا يتدخل طرف ثالث (1) .
أما الشرط الثاني فهو تقييد جيد، ويتمشى مع قاعدة سد الذرائع، فهو يمنع الحيلة على الإقراض الربوي.
أما القيد الأول فلم أجد لمن ذكره أصلا يستند إليه، أو دليلا ظاهرا يعضده، إلا ما ذكره بعضهم من أن ذلك يجعل المسألة في معنى شرطين في عقد، حيث لم يقاطعه على شيء معلوم، وهو مبادلة الأجل ببعض
__________
(1) انظر: مجلة المجمع، العدد (7) 2 / 218.(81/233)
المقدار فيكون ربا محرما (1) .
وقد أشرت عند تحرير محل النزاع أن فرض المسألة بدون شرط لم يخالف فيه إلا المالكية، على ما ذكره بعضهم، ومع ذلك فقد ورد في المدونة ما يفيد أنه عند عدم الاشتراط لا يخالف حتى مالك فيه (2) .
والشرط المعتبر عند الفقهاء، ما قارن العقد أو حصل في زمن الخيارين (خيار الشرط وخيار المجلس) عند من يقول به، وكذا السابق إذا كان عرفا مشتهرا؛ لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا.
وبناء على سياق الخلاف والترجيح السابق يكون ترجيحا لجواز هذا التصرف حتى مع الاشتراط؛ لأنه بدون شرط لم يخالف فيه أحد، ويبقى الجواب عن التعليل الذي مر، حيث إن اجتماع شرطين في عقد ذكره بعضهم مفسرا به النهي عن بيعتين في بيعة، وقد رجح ابن القيم وغيره من العلماء أن التفسير المطابق للنص في قوله «فله أوكسهما أو الربا» هو تفسيره بالعينة، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأصل في
__________
(1) انظر: المبسوط 21 / 31 - 32.
(2) انظر: المدونة 4 / 123، معللا جواز الصورة بعدم اشتراط التعجيل.(81/234)
الشروط الحل إلا ما صادم نصا من كتاب أو سنة حيث قال: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط (1) » .
وقال: المسلمون على شروطهم (2) ، وعلى هذا فلا يمنع اجتماع شرطين أو أكثر في عقد، ما دام أنه لم يتضمن محذورا، وفي الصورة محل النزاع- وقوع الشرط المعتبر فيها مصلحة معتبرة، وليس هناك ما يعارضها من نص أو إجماع، حيث إن الشرط المقارن يحقق ما سبقت الإشارة إليه من مصالح هذا التصرف، مع إثارة الهمة وبعث العزيمة نحو إبراء الذمة؛ لأن الاتفاق السابق يجعل المدين يسعى جهده لتحصيل ما يتحقق به الوضع من الدين، ويجعله على بصيرة من أمره، والشارع له هدف في ضبط المعاملات واستقرارها، كما يعلمه كل من له بصر واستقراء للأدلة.
هذا ما تيسر جمعه في هذه المسألة.
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في مواضع، منها: باب البيع والشراء مع النساء برقم (2047) .
(2) الحديث أخرجه أبو داود برقم (3594) ، والترمذي برقم (1352) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.(81/235)
الخاتمة:
1- تبين من خلال هذا البحث المختصر: جواز مثل هذه المعاملة، وذلك ما يتمشى مع الأصل العام وهو: حل المعاملات.(81/235)
2- كما ظهر أنه ليس للاشتراط فيها أثر على تغير الحكم من حيث الجواز وعدمه، فالنصوص الفقهية تدل على جواز مثل هذا الشرط.
3- في تجويز مثل هذه المعاملة تحقيق لمقاصد الشريعة من التيسير، والسرعة في إبراء الذمة، والسعي في حاجات الناس.
4- تقييد هذا الحكم بأن يكون بين طرفين أمر في غاية الأهمية، سدا للذريعة، فهو يمنع الحيلة على الإقراض الربوي.
وفي الختام أسأل الله عز وجل أن يبصرنا بالحق ويثبتنا عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(81/236)
الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز
وأصول منهجه في الفتوى
لفضيلة الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
المقدمة:
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون به أهل العمى، ويدلون من ضل منهم إلى الهدى، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين (1) ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمما لا شك فيه أن لعلماء الشريعة القدح المعلى من المنازل، والدور المجلى في الأمة، لا سيما في المستجدات والنوازل، خاصة إذا بلغ العالم مرتبة الفتوى، لما للفتوى من مكانة عظمى ومنزلة كبرى في هذا الدين، ويكفي أن مقام المفتين هو التوقيع عن رب العالمين، وفي ذلك من التشريف والتكليف ما لا يخفى، يقول الإمام العلامة ابن قيم الجوزية: «إذا كان منصب التوقيع عن الملوك
__________
(1) من مقدمة كتاب الإمام أحمد – رحمه الله – في الرد على الجهمية والزنادقة.(81/237)
بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟!» (1) .
ومما يدل على عظم مكانتها أن الله سبحانه وتعالى تولاها بنفسه، قال – عز من قائل -: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} (2) ، كما كان الرسول المصطفى – صلى الله عليه وسلم – يتولى هذا المنصب في حياته، وكان ذلك من مقتضى رسالته عليه الصلاة والسلام (3) ، ثم تولى زمام ذلك بعده صحابته الأخيار؛ فقد كان جملة منهم ممن توارد على هذا المنصب العظيم لا سيما الخلفاء الأربعة وغيرهم ممن اشتهر بالعلم، وقد عد العلامة ابن القيم منهم عددا كبيرا، رضي الله عنهم وأرضاهم (4) ، ومع اهتمام السلف بالفتوى وتواردهم على حلائبها فقد كانوا رضي الله عنهم ورحمهم يتهيبونها، ويودون أن لو كفوا مؤونتها، كما قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: «أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – ما منهم من محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث،
__________
(1) «إعلام الموقعين» (1 / 10) .
(2) سورة النساء الآية 176
(3) «إعلام الموقعين» (1 / 11) .
(4) ينظر: «المصدر السابق» (1 / 12 – 14) .(81/238)
ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتوى» (1) ، ولعل هذا التورع المحمود المتمشي مع الضوابط الشرعية للفتوى، هو الذي جعل الفتوى الصادرة عن علماء الشريعة عبر عصور الإسلام الزاهرة متميزة بمزايا عديدة، تظهر بجلاء كمال هذه الشريعة وشمولها ومحاسنها، وصلاحيتها لكل الأزمنة والأمكنة.
هذا، وقد زخر تاريخ هذه الأمة بكوكبة من علماء الشريعة، يعدون بحق منارات شامخة في سماء الاجتهاد والفتوى، كما ازدان عصرنا الحاضر بنخبة مميزة من العلماء الأفذاذ والمفتين المبرزين، الذين يعدون امتدادا للأسلاف الصالحين من المفتين المجتهدين؛ لذا فإنه من الأهمية بمكان إبراز منهج هؤلاء الصفوة، وتجلية أصولهم في الفتوى، ودراسة حياتهم العلمية والعملية، لما له من الأثر البالغ على ساحات العلم والعلماء عامة، والمعنيين منهم بالفتوى خاصة.
لا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، وهبت أعاصير المحن، وكثرت النوازل والمستجدات، وتسارعت التطورات والمتغيرات، وتطاول فيه كثير من الرويبضة على مقامات الفتوى، وتجرؤوا على التحليل والتحريم ومدوا للإفتاء باعا قصيرة؛ فكم نسمع من فتاوى لا زمام لها ولا خطام، تشجي الحلق، وتشقي الخلق، لا يظهر فيها بهاء الشريعة، ولا تسلم من الشطحات الشنيعة؟ مما يؤكد الإفادة من منهج
__________
(1) أخرجه الدارمي في «السنن» (137) ، وابن سعد في «الطبقات» (6 / 74، 75) .(81/239)
علماء السلف في الفتوى ومن سار على منهجهم من علماء عصرنا الحاضر.
ولقد كان من أبرز أعلام هذا العصر وعلماء هذا الزمان، ممن طبقت شهرته الآفاق في العلوم الشرعية كافة، وفي مجال الفتوى خاصة: شخصية علمية نادرة، يعد بحق أمة في رجل، أئمة في إمام، أنموذجا مشرقا في العلم والدراية، ومثلا سارت به الركبان في الاجتهاد والفتوى، مما يجعله جديرا بالاهتمام والعناية، والدراسة والرعاية، ذلكم هو: سماحة العلامة المفتي الشيخ أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رحمه الله رحمة واسعة.
ونظرا لما مثله سماحته – رحمه الله – من منزلة علمية عالية، ومكانة إفتائية عالمية، ولما تمتع به من منهج متميز في الفتوى، قل نظيره في هذا العصر، وبناء على حاجة المكتبة الإسلامية – فيما أرى – إلى بحث مستقل يبرز منهجه العلمي ويجلي طريقته وأسلوبه في الفتوى، خاصة أن غالب الكتابات، وأكثر الأطروحات التي صدرت عن سماحته تعنى بالجانب السيري، والطرح السردي العام؛ فقد رأيت أن أقدم بحثا علميا استقرائيا منهجيا، يركز على أصول منهجه – رحمه الله – في الفتوى، والأسس التي بنى عليها فتاويه، إسهاما مني في البحث العلمي، ومشاركة في إبراز المنهج الصحيح في الفتوى، الذي سار عليه علماؤنا – رحمهم الله –، ووضع لبنة سليمة في بناء العلم والفتوى الشامخ، ووفاء(81/240)
بحق علمائنا علينا، وربطا للأجيال الناشئة بعلمهم ومنهجهم المتميز في الفتوى، ولعلي بذلك أقدم بحثا جديدا في منهجه، وطريفا في بابه؛ حيث لم أطلع على بحث سابق في هذا المجال – فيما وقفت عليه – وقد رأيت أن يكون عنوانه: (الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز، وأصول منهجه في الفتوى) .
أهمية البحث وعوامل اختياره:
هناك عوامل كثيرة تبرز أهمية هذا البحث، وتوضح أسباب اختياري له، أهمها:
1- المكانة العلمية لهذا النوع من الأبحاث؛ حيث يركز على إبراز الصفحة المشرقة لعلمائنا الأجلاء.
2- خطورة أمر الفتيا، لا سيما في هذا العصر مع كثرة النوازل والمستجدات، وتسارع الحوادث والمتغيرات، مما يحتم معرفة أصول المنهج الصحيح في ذلك، وهو ما سلكه سماحته – رحمه الله -.
3- المنزلة العلمية الرفيعة التي حظي بها سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – فهو بحق مفتي عصره، وعلامة زمانه.(81/241)
4- بيان ما كان يتميز به رحمه الله من منهج فريد في الفتوى، ينبني على أصول راسخة، وركائز متينة جديرة بالعناية والاهتمام.
5- الحاجة الماسة التي تعيشها المكتبة الإسلامية إلى الأبحاث المستقلة التي تبرز أصول منهجه – رحمه الله – عامة، وفي الفتيا خاصة.
6- ما قذفت به المدنية الحديثة من وسائل الاتصالات والفضائيات وشبكات المعلومات، وخوضها في قضايا الفتيا في الأمة، وتصدر من ليس أهلا لهذا المنصب العظيم ... يجعل تقديم سماحته أنموذجا مشرقا وبلسما شافيا – بإذن الله – في رسم المنهج الصحيح في هذه القضية المهمة.
7- لعل هذا البحث وأمثاله يعد رمز وفاء، وعنوان تقدير وثناء لسماحته – رحمه الله –، وأداء لبعض حقه على طلابه ومحبيه، والناهلين من معين علمه وفتاويه، والمستفيدين من منهجه وطريقته وأسلوبه، خاصة في مجال الفتوى، عليه رحمة الله.
تلك أهم العوامل التي دعتني إلى اختيار هذا البحث.
سائلا الله التوفيق والتسديد بمنه وكرمه.(81/242)
خطة البحث:
تتمحور خطة البحث: في تمهيد، وصلب الموضوع في عشرين مبحثا، وخاتمة.
التمهيد:
ويحتوي على ترجمة موجزة لسماحة الشيخ – رحمه الله – وتشمل العناصر الآتية:
1- اسمه ونسبه.
2- مولده ونشأته.
3- طلبه للعلم وشيوخه.
4- حياته العلمية.
5- صفاته وأخلاقه.
6- تلاميذه.
7- آثاره العلمية ومؤلفاته.
8- وفاته.
أصول منهج الشيخ ابن باز في الفتوى:
ويشمل عشرين مبحثا، كل مبحث منها في أصل من أصول منهجه – رحمه الله –، وهي:
1- اتباع الدليل، ومجانبة التقليد.
2- العناية بصحة الحديث سندا ومتنا.
3- الاعتماد على آثار الصحابة، وفعل السلف الصالح – رضي الله عنهم.
4- الجمع بين الرواية والدراية.
5- الاستدلال بالقواعد الأصولية، ورعاية مقاصد الشريعة.(81/243)
6- مراعاة العلل الشرعية للأحكام، وتغير أحوال الزمان والمكان.
7- اعتبار القواعد الشرعية في التيسير ورفع الحرج – دون تساهل.
8- الاستشارة في الفتوى، والاستفادة من أهل الخبرة.
9- الأخذ بالاجتهاد الجماعي، والدعوة إليه.
10- العالمية والاجتهاد في النوازل والمستجدات.
11- التركيز على مسائل الاعتقاد.
12- الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والأخلاقية.
13- مزج الفتوى بالدعوة والتربية.
14- الحرص على جمع الكلمة، ووحدة الصف.
15- الدقة والإلمام بحيثيات المسألة، والتفصيل فيها.
16- الوضوح والبعد عن الإغراق في الاختلافات.
17- الورع والتوقف، والأخذ بالأحوط في المشتبهات.
18- الثبات في الفتوى عند وضوح الدليل، والرد على المخالف.
19- الأدب مع العلماء المخالفين، وإحسان الظن بهم.
20- عدم الإنكار على المخالف في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها.(81/244)
الخاتمة: وفيها أبرز النتائج التي خرجت بها، موشحة ببعض المقترحات والتوصيات المهمة في هذا المجال.
منهج البحث:
يتسم منهج البحث بالخطوات الآتية:
1- الاستقراء والتتبع لأصول منهج سماحة الشيخ – رحمه الله – في الفتوى من خلال مجموع فتاواه المطبوع، باعتباره مصدرا أصيلا في حصر فتاويه وبيان منهجه في الفتوى.
2- الإفادة من كتبه ورسائله المطبوعة، وكذا ما سجل له بصوته من الفتاوى، أو ما هو مستفيض عنه من منهج الفتوى بين أهل الاختصاص وطلاب العلم.
3- الرجوع إلى ما كتب عن الشيخ – رحمه الله – من كتب ومؤلفات ورسائل ومجلات، مما يعد مصدرا ثرا في بيان منهج الشيخ – رحمه الله – في الفتوى.
4- لا أدعي استقصاء كل ما صدر عن الشيخ – رحمه الله – من الفتاوى، ولكنني رمت التركيز على ذكر أصول منهجه في الفتوى مدعمة ببعض النماذج والأمثلة.
5- أعتمد نقل نص كلام الشيخ في الفتوى، وأثبت أصل المنهج الذي قصدته، وأكتفي في ذلك بنماذج موجزة، مع التوثيق والعزو لمصادرها.(81/245)
6- أورد في التمثيل للأصل الذي أتحدث عنه في بيان منهجه عددا من النماذج والشواهد المحددة نظرا لكثرتها؛ رغبة في الإيجاز.
7- عند إيراد الشيخ – رحمه الله – نقولا أو مذاهب، فإني أعزوها لأصحابها من الكتب المعتمدة.
8- التوثيق العلمي لما يرد في البحث من المسائل العلمية من مظانها المعتبرة.
9- عزو الآيات إلى سورها بذكر رقم الآية واسم السورة.
10- تخريج الأحاديث والآثار من مظانها الأصيلة.
11- الترجمة للأعلام بإيجاز ما عدا المشهورين.
12- ختمت البحث بخاتمة موجزة تشمل النتائج العامة والخاصة وشيئا من المقترحات والتوصيات.
تلك أبرز السمات والخطوات التي سلكتها في هذا البحث، سائلا الله التوفيق والإخلاص والتسديد والإصابة، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.(81/246)
التمهيد:
ترجمة موجزة لسماحة الشيخ ابن باز
وتشمل العناصر الآتية:
1- اسمه ونسبه.
2- مولده ونشأته.
3- طلبه للعلم وشيوخه.
4- حياته العملية.
5- صفاته وأخلاقه.
6- تلاميذه.
7- آثاره العلمية ومؤلفاته.
8- وفاته.
1- اسمه ونسبه:
هو أبو عبد الله، عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله، آل باز.
2- مولده ونشأته:
ولد بمدينة الرياض في ذي الحجة سنة 1330هـ، وكان بصيرا في أول الدراسة، ثم أصابه المرض في عينيه عام 1346هـ؛ فضعف بصره بسبب(81/247)
ذلك، ثم ذهب بصره بالكلية في مستهل محرم من عام 1350هـ، ونسأل الله – جل وعلا – أن يعوضه عنه بالجزاء الحسن في الآخرة، وكما ولد في مدينة الرياض نشأ وترعرع فيها، ونهل من معين علمائها.
3- طلبه للعلم وشيوخه:
بدأ الشيخ الدراسة منذ الصغر، وحفظ القرآن الكريم قبل البلوغ، ثم بدأ في تلقي العلوم الشرعية والعربية على أيدي كثير من علماء الرياض، ومن أشهرهم:
1- سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، وقد لازم حلقاته نحوا من عشر سنوات، وتلقى عنه جميع العلوم الشرعية ابتداء من سنة 1347هـ إلى سنة 1357هـ، حيث رشح للقضاء من قبل سماحته.
2- الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمهم الله -.
3- الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (قاضي الرياض) – رحمهم الله -.(81/248)
4- الشيخ سعد بن حمد بن عتيق (قاضي الرياض) .
5- الشيخ حمد بن فارس (وكيل بيت المال بالرياض) .
6- الشيخ سعد وقاص البخاري (من علماء مكة) أخذ عنه علم التجويد في عام 1355هـ.
جزى الله الجميع أفضل الجزاء وأحسنه، وتغمدهم جميعا برحمته ورضوانه.
4- حياته العملية:
ولي سماحته القضاء في منطقة الخرج بين عامي 1357 1371هـ وعمل بالتدريس في المعهد العلمي بالرياض عام 1372هـ في علوم الفقه والتوحيد وظل يدرس بالكلية حتى عام 1380 هـ.
انتقل بعد ذلك إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ليكون نائبا لرئيسها: سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم سنة افتتاحها عام 1381هـ، وظل في هذا المنصب حتى عام 1390هـ عندما صدر الأمر الملكي في 19 / 9 / 1390هـ (17 / 11 / 1970م) بتعيينه رئيسا للجامعة الإسلامية، وظل في منصبه حتى 13 / 10 / 1395هـ.
وفي 14 / 10 / 1395هـ صدر الأمر الكريم بتعيينه في منصب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (بمرتبة وزير) .(81/249)
وفي عام 1416هـ عين سماحته: مفتيا عاما للمملكة، ورئيسا للبحوث العلمية والإفتاء (1) .
ومن أبرز نشاطاته العلمية والدعوية:
والتي هي أشهر من نار على علم، حمله هم الأمة عالميا، وفي مقدمة ذلك: الاهتمام بقضية التوحيد والعقيدة، وبيان ما يلتبس على المسلم في أمور دينه، ومن أهم أعماله التي تولاها:
1- رئاسته هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، ورئاسته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، ورئاسته المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، ورئاسته المجلس الأعلى العالمي للمساجد برابطة العالم الإسلامي، ورئاسته مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، وعضويته في المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وعضويته للهيئة العليا للدعوة الإسلامية بالمملكة العربية السعودية.
2- الدعوة والمساهمة في إقامة مشروعات إسلامية لخدمة دين الله، كبناء المساجد والمراكز الإسلامية، ومدارس تعليم القرآن الكريم واللغة العربية في داخل وخارج المملكة، وكفالة الدعاة في شتى أنحاء العالم.
__________
(1) ينظر: «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» ص (10) ، «إمام العصر» لناصر بن مسفر الزهراني ص (11) .(81/250)
3- نال جائزة الملك فيصل العالمية (فرع خدمة الإسلام) عام 1402هـ 1982م، تقديرا لنشاطاته في مجال الدعوة إلى الله وإسهاماته في حقل التعليم الإسلامي والبحث والدراسات والإفتاء واهتمامه الكبير بقضايا الإسلام والمسلمين في العالم.
4- كما تولى – رحمه الله – رئاسة العديد من المؤتمرات العالمية التي عقدت بالمملكة العربية السعودية، والتي مهدت له ويسرت أمامه سبل الاتصال بالكثير من الدعاة ورجال العلم، والشخصيات البارزة في حقل الدعوة الإسلامية، ومعرفة قضايا المسلمين في كل أنحاء العالم.
5- صفاته وأخلاقه:
جبل الله شيخنا – رحمه الله – على شمائل فريدة وسجايا كريمة وصفات نبيلة، قل أن تجتمع في شخص غيره، ومن أشهر صفاته ما يلي:
أ - تواضعه:
كان سماحة الشيخ – رحمه الله – آية في التواضع؛ حيث كان – رحمه الله – لا يرى لنفسه فضلا، ولا يرغب في التميز على الناس، وكان محبا للفقراء حريصا على مجالستهم والأكل معهم.(81/251)
• ومن شواهد تواضعه – رحمه الله – أنه إذا صلى في مسجد فيه إمام راتب، يأبى أن يؤم حتى لو ألح الإمام عليه (1) .
• ومن ذلك أنه – رحمه الله – يكره أن تسمى المدارس أو الشوارع باسمه، ويقترح أسماء يرى أنها أولى منه (2) .
• ومنها أنه كان – رحمه الله – يكره المديح، فإذا كتب له بعض محبيه رسالة وشرع بمدحه، جعل سماحته يتململ ويقول: الله المستعان، الله يعاملنا بالعفو، اترك هذا الكلام، اقرأ المقصود، ماذا يريد؟ (3) .
ب - تعففه:
وكان سماحة الشيخ – رحمه الله – متعففا، عزيز النفس، مترفعا عن الدنايا، وشواهد ذلك كثيرة، منها (4) :
• أن ولاة الأمر – وفقهم الله – وجهوا بشراء بيت لسماحته إبان رئاسته للجامعة الإسلامية بالمدينة، ولما جاء وقت الإفراغ وتسجيله باسمه امتنع عن جعله باسمه، وقال: الصك يجعل باسم رئيس الجامعة، وأنا أسكنه ما دمت موجودا، وإذا
__________
(1) ينظر: «جوانب من سيرة الإمام» لمحمد الحمد ص (132) .
(2) ينظر: المصدر السابق ص (140) .
(3) ينظر: المصدر السابق ص (154 – 156) .
(4) ينظر: المصدر نفسه ص (151 – 153) .(81/252)
انتقلت يسكنه من بعدي.
• حدث مرة أن كتب لوزير المالية وقال له: علي حاجة شديدة بسبب كثرة الضيوف؛ فآمل إقراضي مبلغ كذا وكذا، وأنا أعيده على أقساط شهرية، تحسم من راتبي، وتم ذلك، مع أنه بإمكانه أن يرى من يتحملها عنه.
ج- ورعه:
كان سماحة الشيخ – رحمه الله – معروفا لدى القاصي والداني بالورع وبعده عن المشتبهات.
ومن أمثلة ذلك (1) :
• أنه إذا تقدم إليه بعض الفقراء، وشكى إليه حاجة ولا يحمل إثباتا من مشايخ معروفين، يقول: أعطوه مائة أو مائتين أو ثلاث مائة، ويقول: إذا حددت المبلغ إلى ثلاثمائة ريال فإني أعني حسابي الخاص. أما حساب الصدقات والزكوات الواردة إليه من بعض المحسنين، فلا يصرف منه شيئا لأحد إلا إذا ثبتت لديه الحاجة بالبينة الشرعية.
• وكان – رحمه الله – يتورع عن أن يقبل هدية من أحد، وإذا قبلها كافأ عليها، وكان يقول: إذا كانت تساوي مائة فأعطوه مائتين.
__________
(1) ينظر: «جوانب من سيرة الإمام» رواية محمد بن موسى لمؤلفه محمد الحمد ص (157 – 163) .(81/253)
• وكان - رحمه الله – لا يأخذ مقابلا على ما يلقيه من أحاديث إذاعية ونحوها.
د- سخاؤه وكرمه:
كان – رحمه الله – مجبولا على حب الضيوف، والرغبة في استضافتهم وفتح بابه لهم منذ صغره، وكان يوصي بشراء أحسن ما في السوق من الفاكهة والخضار، وسائر الأطعمة التي تقدم لضيوفه، وكان يلح إلحاحا شديدا إذا قدم عليه أحد أو سلم عليه، وكان يحرص أشد الحرص على المواعيد التي يضربها لضيوفه، ويتقدم للمجيء قبل ضيفه؛ ليكون في استقباله. ولا يتلذذ بالأكل وحده؛ لهذا لا يكاد سماحته يتناول غذاءه أو عشاءه إلا ومعه أناس على المائدة.
وكان لا يقوم من المائدة حتى يسأل عن ضيوفه: هل قاموا؟ فإذا قيل له: قاموا قام؛ كيلا يعجلهم بقيامه قبلهم. وكان لا يتبرم من كثرة الضيوف، ولا تضيق نفسه إذا فاجأه الزائرون وهو لم يحسب حسابهم، بل يرحب بهم، ويلاطفهم (1) .
6- تلاميذه:
خلف سماحة الشيخ ابن باز – رحمه الله – من التلاميذ والطلاب أمما لا تحصى، يصعب حصرهم، ولكن أذكر أشهرهم:
__________
(1) ينظر: «جوانب من سيرة الإمام» ص (181 – 190) .(81/254)
1- سماحة المفتي العام، ورئيس هيئة كبار العلماء، ورئيس اللجنة الدائمة للإفتاء العلامة الشيخ أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ – حفظه الله.
2- سماحة رئيس المجلس الأعلى للقضاء العلامة أبو محمد صالح بن محمد اللحيدان.
3- سماحة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين – رحمه الله – العلامة المعروف.
4- العلامة الأصولي عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان، عضو هيئة كبار العلماء.
5- معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، الأمين العالم لرابطة العالم الإسلامي.
6- معالي الشيخ راشد بن صالح بن خنين، المستشار بالديوان الملكي.
7- معالي الشيخ العلامة صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء.
8- العلامة الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، عضو الإفتاء سابقا.
9- صاحب الفضيلة الشيخ العلامة أبو عبد الرزاق عبد المحسن ابن حمد العباد، الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة.(81/255)
10- فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك، أستاذ العقيدة بكلية أصول الدين بالرياض.
11- فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي، أستاذ العقيدة بكلية أصول الدين بالرياض.
12- ابنه فضيلة الشيخ أحمد بن عبد العزيز بن باز، المحاضر بكلية الشريعة بالرياض.
وغيرهم كثير، نفع الله بهم، وجزاه عنهم خير الجزاء.
7- آثاره العلمية ومؤلفاته:
كتب سماحته العديد من المؤلفات التي أفادت وتفيد المسلمين في داخل المملكة وخارجها، ومن أبرزها:
- الفوائد الجلية في المباحث الفرضية: المطبعة السلفية – القاهرة – 1358هـ
- التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء الكتاب والسنة: مطابع الرياض – الرياض – 1374هـ.
- الشيخ محمد بن عبد الوهاب (دعوته وسيرته) : الدار السعودية للنشر – جدة – 1385هـ.
- التحذير من البدع (أربع رسائل مفيدة: مكتبة الرياض الحديثة – الرياض – 1402هـ) .(81/256)
- الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة والقائمين عليها: الجامعة الإسلامية، ط3، المدينة المنورة 1410هـ 1990م.
- حكم السفور والحجاب ونكاح الشغار في الكتاب والسنة، دار السلفية – القاهرة – 1406هـ 1986م.
- نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع: دار الثقافة الإسلامية – القاهرة – 1380هـ 1960م.
- نقد الاشتراكية - (د. ن) 1381هـ 1961م.
- تصحيح وتنبيه: مطبعة الحكومة، ط3 – مكة المكرمة – 1385هـ.
- فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد (مشترك) الرباط: المكتب العلمي السعودي 1404هـ 1984م.
- موقف اليهود من الإسلام وفضل الجهاد في سبيل الله: الدار السعودية للنشر والتوزيع – الرياض – 1408هـ 1988م.
- عدوان حاكم العراق: مركز المخطوطات والتراث والوثائق – الرياض – 1415هـ.
هذا بالإضافة إلى مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، وصلت إلى ثلاثين مجلدا.(81/257)
8- وفاته:
توفي سماحة الشيخ – رحمه الله – في فجر يوم الخميس 27 / 1 / 1420هـ عن عمر ناهز التسعين بعد عمر حافل بالأمجاد والتضحيات والأعمال الصالحة، وصلي عليه في المسجد الحرام يوم الجمعة 28 / 1 / 1420هـ.
رحم الله شيخنا وجزاه خير الجزاء على ما قدم للإسلام والمسلمين، وجمعنا به ومن نحب في عليين إنه جواد كريم.(81/258)
أصول منهج سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في الفتوى:
قد كنت أروم قبل الدخول في أصول منهج سماحته رحمه الله في الفتوى أن أتحدث عن الفتوى من حيث تعريفها ومكانتها وحكمها وأحكامها وشروطها وآدابها، لكني رأيت إيثار الاختصار؛ لأنها موجودة في مظانها معروفة لدى طلاب العلم بحمد الله.
وهذا أوان الشروع في صلب الموضوع مستعينا بالله تعالى:
لقد تميز منهج سماحة الشيخ ابن باز في الفتوى بعدد من الأصول والمعالم، والمميزات والخصائص، من أهمها ما حوته المباحث التالية:(81/258)
المبحث الأول: اتباع الدليل ومجانبة التقليد:
الشيخ ابن باز – رحمه الله – على الرغم من أنه حنبلي المذهب، إلا أنه كان يخالف في بعض فتاويه مذهب الحنابلة، بل يفتي بما أدى إليه اجتهاده حسب الدليل.
يقول سماحته (1) – رحمه الله – عن نفسه:
«مذهبي في الفقه هو: مذهب الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – وليس على سبيل التقليد، ولكن على سبيل الاتباع في الأصول التي سار عليها، أما في مسائل الخلاف فمنهجي فيها هو ترجيح ما يقضي الدليل ترجحيه، والفتوى بذلك، سواء وافق مذهب الحنابلة أم خالفه، لأن الحق أحق بالاتباع، وقد قال الله – عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) .
والأمثلة على ذلك كثيرة منها:
أ- المشهور في الفقه عند الحنابلة (3) أن لمس المرأة بشهوة ينقض الوضوء ولكن مذهب سماحة الشيخ – رحمه الله – أنه لا ينقض مطلقا.
حيث جاء في فتاويه (4) :
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (4/ 166) .
(2) سورة النساء الآية 59
(3) ينظر: «المغني» لابن قدامة (1/ 192) .
(4) (10/ 135) .(81/259)
لمس النساء في نقضه للوضوء خلاف بين العلماء:
فمنهم من قال: إنه ينقض مطلقا كالشافعي – رحمه الله (1) .
ومنهم من قال: إنه لا ينقض مطلقا، كأبي حنيفة – رحمه الله (2) .
ومنهم من قال: ينقض مع الشهوة، يعني: لمسها بتلذذ وشهوة ينقض الوضوء، وإلى ذلك ذهب الإمام أحمد – رحمه الله (3) .
والصواب في المسألة – وهو الذي يقوم عليه الدليل – هو: أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقا، سواء كان عن شهوة أم لا، إذا لم يخرج منه شيء، لأنه صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ، ولأن الأصل: سلامة الطهارة وبراءة الذمة من وضوء آخر، فلا يجب الوضوء إلا بدليل سليم لا معارض له؛ ولأن النساء موجودات في كل بيت غالبا، والبلوى تعم بمسهن من أزواجهن وغير أزواجهن من المحارم، فلو كان المس ينقض الوضوء لبينه النبي – صلى الله عليه وسلم – بيانا واضحا، وأما قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (4) . وفي قراءة أخرى (لمستم النساء) فالمراد به: الجماع، فكنى الله بذلك عن الجماع،
__________
(1) ينظر: «الحاوي» للماوردي (1/ 221) ، و «المجموع شرح المهذب» للنووي (2/ 21) .
(2) ينظر: «المبسوط» للسرخسي (1/ 67) .
(3) ينظر: «المغني» لابن قدامة (1/ 192) .
(4) سورة النساء الآية 43(81/260)
كما كنى الله عنه – سبحانه – بالمس في آية أخرى، هكذا قال ابن عباس – رضي الله عنهما –، وجماعة من أهل العلم، وهو الصواب.
ب- في مذهب الحنابلة (1) عدم وجوب قراءة الفاتحة على المأموم حيث يرون أن الإمام يتحمل عن المأموم قراءة الفاتحة، بينما الشيخ – رحمه الله – يرى وجوب قراءة الفاتحة على المأموم ولو في الصلاة الجهرية.
حيث جاء في فتاويه: يقرأ المأموم الفاتحة وإن كان الإمام يقرأ؛ لأنه مأمور بذلك لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب (2) » رواه البخاري ومسلم، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لعلكم تقرؤون خلف إمامكم، قلنا: نعم. قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها (3) » رواه أبو داود، فعلى المأموم أن يقرأها في سكتات الإمام إن سكت وإلا وجب أن يقرأها ولو في حال قراءة الإمام، عملا بالأحاديث المذكورة، وهي مخصصة لقوله – عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) .
__________
(1) ينظر: المصدر السابق (1/ 562) .
(2) كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم برقم (756) .
(3) كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب برقم (823) .
(4) سورة الأعراف الآية 204(81/261)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإذا قرأ الإمام فأنصتوا (1) » رواه النسائي وأبو داود (2) وابن ماجه (3) واللفظ له.
وقال بعض أهل العلم (4) إنها تسقط عنه، واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان له إمام فقراءته قراءة إمامه (5) » رواه أحمد.
والصواب الأول؛ لضعف الحديث المذكور، ولو صح لكان محمولا على غير الفاتحة جمعا بين النصوص، لكن لو نسيها المأموم أو لم يقرأها جهلا بالحكم الشرعي أو تقليدا لمن قال بعدم وجوبها على المأموم، صحت صلاته، وهكذا من أدرك الإمام راكعا فركع معه أجزأته الركعة، وسقطت عنه الفاتحة، لما ثبت في الصحيح عن البخاري (6) – رحمه الله – عن أبي بكرة الثقفي، أنه أدرك النبي – صلى الله عليه وسلم – راكعا، فركع دون الصف ثم دخل في الصف فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) كتاب الافتتاح، باب تأويل قوله عز وجل: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا، برقم (921) .
(2) كتاب الصلاة، باب الإمام يصلي من قعود، برقم (604) .
(3) كتاب إقامة الصلاة، باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا، برقم (847) .
(4) ينظر: «المغني» (1/ 562) .
(5) برقم (14698) من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه.
(6) كتاب الأذان، باب إذا ركع دون الصف، برقم (783) .(81/262)
«زادك الله حرصا ولا تعد (1) » رواه النسائي. وأبو داود أيضا (2) ، ولم يأمره بقضاء الركعة.
فدل ذلك على سقوط الفاتحة عنه، لعدم إدراكه القيام، والناسي والجاهل في حكمه فتسقط عنه الفاتحة بجامع العذر والله ولي التوفيق (3) .
(ج) المشهور في مذهب الحنابلة (4) عدم الزكاة على الحلي، بينما سماحة الشيخ – رحمه الله – يرى وجوب الزكاة فيه مطلقا.
حيث جاء في فتاويه: والراجح وجوب الزكاة فيها، لعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في الذهب والفضة؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم، لما سألته أم سلمة – رضي الله عنها – عن الحلي، أكنز هو؛ قال: «ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي، فليس بكنز (5) » ، ولأنه – صلى الله عليه وسلم – سأل امرأة عليها سواران من ذهب «هل تؤدين زكاتهما؟ فقالت: لا. فقال – صلى الله عليه وسلم -: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار.. (6) » وإذا كانت المرأة ليس لديها ما
__________
(1) كتاب الإمامة، باب الركوع دون الصف، برقم (871) .
(2) كتاب الصلاة، باب الرجل يركع دون الصف، برقم (684) .
(3) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (11/ 217 - 219) .
(4) ينظر: «المغني» (3 / 11) .
(5) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب الكنز ما هو وزكاة الحلي، برقم (1564) .
(6) أخرجه أبو داود برقم (1563) ، والنسائي في كتاب الزكاة، باب زكاة الحلي، برقم (2479) .(81/263)
تزكي به سوى الحلي، فعليها أن تبيع من الحلي، أو تقترض ما تزكي به وإن زكى عنها زوجها أو غيره بإذنها فلا بأس، والله ولي التوفيق (1) .
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (14 / 82، 116) .(81/264)
المبحث الثاني: العناية بصحة الحديث سندا ومتنا:
كان سماحة الشيخ – رحمه الله – يعني في فتاويه بصحة الدليل من السنة سندا ومتنا، بل إنها لتعد عمدة فتواه في صناعة حديثية نادرة، فتراه يذكر الحديث ومن أخرجه والحكم عليه من حيث الصحة والضعف، وأمثلة ذلك في فتاويه ودروسه لا تكاد تحصى. لكن نذكر بعضها على سبيل المثال من مجموع فتاويه.
(أ) قال – رحمه الله (1) -:
أخرج الترمذي بإسناد فيه ضعف عنه - صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس أدخله الله النار (2) » .
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (2 / 322) .
(2) الدارمي المقدمة (367) .(81/264)
(ب) وقال – رحمه الله (1) -:
وأما حديث «الحجر يمين الله (2) » فهو حديث ضعيف والصواب وقفه على ابن عباس.
(ج) وقال – رحمه الله (3) -:
وأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث «تزوجوا فقراء يغنكم الله» فلا أصل له ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن.
(د) وقال – رحمه الله (4) -:
أما الحديث الذي رواه الترمذي (5) عن ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها فهو حديث باطل عند أهل العلم؛ لأن في إسناده رجلا يدعى عمر بن هارون البلخي وهو متهم بالكذب وقد انفرد بهذا الحديث دون غيره من رواة الأخبار مع مخالفته للأحاديث الصحيحة؛ فعلم بذلك أنه باطل
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (3 / 67) .
(2) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (6 / 328) ، وانظر: «العلل المتناهية» لابن الجوزي (2 / 85) و «كشف الخفاء» للعجلوني (1 / 417) ، و «السلسلة الضعيفة» للألباني (223) .
(3) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (3 / 329) .
(4) المصدر السابق (3 / 373) .
(5) كتاب الأدب باب ما جاء في الأخذ من اللحية برقم (2762) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.(81/265)
لا يجوز التعويل عليه، ولا الاحتجاج به في مخالفة السنة الصحيحة والله المستعان.
(هـ) وقال – رحمه الله (1) -:
وأما حديث ابن عمر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن (2) » فهو حديث ضعيف، في إسناده إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة، وأهل العلم بالحديث يضعفون رواية إسماعيل عن الحجازيين ويقولون: إنه جيد في روايته عن أهل الشام أهل بلاده، لكنه ضعيف في روايته عن أهل الحجاز، وهذا الحديث من روايته عن أهل الحجاز فهو ضعيف.
(و) وقال – رحمه الله (3) -:
وأما الحديث الثاني: «من رآني فقد حرمت عليه النار» فهذا لا أصل له وليس بصحيح.
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (4/ 384) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرآن القرآن، برقم (131) ، وانظر: «علل ابن أبي حاتم» (1 / 49) .
(3) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (4 / 445) .(81/266)
المبحث الثالث: الاعتماد على آثار الصحابة وفعل السلف الصالح:
كان – رحمه الله – يهتم بما صح عن الصحابة والتابعين ويفتي بذلك ما لم يخالف نصا صريحا في الشرع.(81/266)
فإذا لم يكن هناك في المسألة حديث صحيح فإنه كان يفتي بما صح عن الصحابة والسلف الصالح، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
(أ) سئل سماحته عن حكم حمل الإمام المصحف ليقرأ فيه؟ (1)
فأجاب – رحمه الله -: لا بأس بهذا – على الراجح –، وفيه خلاف بين أهل العلم، لكن الصحيح أنه لا حرج أن يقرأ من الصحف إذا كان لم يحفظ، أو كان حفظه ضعيفا وقراءته من المصحف أنفع للناس وأنفع له فلا بأس بذلك. وقد ذكر البخاري رحمه الله تعليقا في صحيحه (2) عن عائشة – رضي الله عنها – أنه كان مولاها ذكوان يصلي بها في الليل من المصحف.
والأصل جواز هذا ولكن أثر عائشة يؤيد ذلك أما إذا تيسر الحافظ فهو أولى لأنه أجمع للقلب وأقل للعبث لأن حمل المصحف يحتاج إلى وضع ورفع وتفتيش الصفحات فيصار إليه عند الحاجة وإذا استغنى عنه فهو أفضل.
(ب) وسئل سماحته عن حكم تغيير المكان لأداء السنة بعد الصلاة؟ (3)
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (11 / 339) .
(2) كتاب الأذان، باب إمامة العبد والمولى، قال: وكانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف.
(3) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (11 / 378) .(81/267)
فأجاب – رحمه الله -: لم يرد في ذلك فيما أعلم حديث صحيح ولكن كان ابن عمر – رضي الله عنهما – وكثير من السلف يفعلون ذلك والأمر في ذلك واسع والحمد لله.
وقد ورد فيه حديث ضعيف عند أبي داود رحمه الله.
وقد يعضده فعل ابن عمر – رضي الله عنهما –، ومن فعله من السلف الصالح، والله ولي التوفيق.
(ج) وسئل سماحته عن حكم دعاء ختم القرآن؟ (1)
فأجاب – رحمه الله -: لم يزل السلف يختمون القرآن ويقرؤون دعاء الختمة في صلاة رمضان ولا نعلم في هذا نزاعا بينهم فالأقرب في مثل هذا أنه يقرأ لكن لا يطول على الناس، ويتحرى الدعوات المفيدة والجامعة مثل ما قالت عائشة – رضي الله عنها: «كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يستحب جوامع الدعاء ويدع ما سوى ذلك (2) » .
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (11 / 354) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر باب الدعاء برقم (1482) .(81/268)
فالأفضل للإمام في دعاء ختم القرآن والقنوت تحري الكلمات الجامعة وعدم التطويل على الناس يقرأ «اللهم اهدنا فيمن هديت (1) » الذي ورد في حديث الحسن في القنوت ويزيد معه ما يتيسر من الدعوات الطيبة كما زاد عمر (2) ولا يتكلف ولا يطول على الناس ولا يشق عليهم، وهكذا في دعاء ختم القرآن يدعو بما يتيسر من الدعوات الجامعة، يبدأ ذلك بحمد الله والصلاة على نبيه – عليه الصلاة والسلام – ويختم فيما يتيسر من صلاة الليل أو في الوتر ولا يطول على الناس تطويلا يضرهم ويشق عليهم.
وهذا معروف عن السلف تلقاه الخلف عن السلف، وهكذا كان مشايخنا مع تحريهم للسنة وعنايتهم بها يفعلون ذلك، تلقاه آخرهم عن أولهم ولا يخفى على أئمة الدعوة ممن يتحرى السنة ويحرص عليها. فالحاصل أن هذا لا بأس به – إن شاء الله – ولا حرج فيه بل هو مستحب لما فيه من تحري إجابة الدعاء بعد تلاوة كتاب الله – عز وجل –، وكان أنس -
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (1 / 199) برقم (1718) ، وأبو داود في كتاب الوتر، باب القنوت في الوتر، برقم (1425) ، والترمذي في كتاب الصلاة، باب ما جاء في القنوت في الوتر، من أبواب الوتر، برقم (464) ، والنسائي في كتاب قيام الليل، باب الدعاء في الوتر، برقم (1745) ، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في القنوت في الوتر، برقم (1178) .
(2) ينظر: «السنن الكبرى» للبيهقي كتاب الصلاة، باب دعاء القنوت (2 / 211) ، و «تلخيص الحبير» (2 / 24، 25) .(81/269)
رضي الله عنه – إذا أكمل القرآن جمع أهله ودعا في خارج الصلاة، فهكذا في الصلاة فالباب واحد لأن الدعاء مشروع في الصلاة وخارجها وجنس الدعاء مما يشرع في الصلاة فليس بمستنكر.
ومعلوم أن الدعاء في الصلاة مطلوب عند قراءة آية العذاب وعند آية الرحمة يدعو الإنسان عندها كما فعل النبي - عليه الصلاة والسلام – في صلاة الليل فهذا مثل ذلك مشروع بعد ختم القرآن، وإنما الكلام إذا كان في داخل الصلاة، أما في خارج الصلاة فلا أعلم نزاعا في أنه مستحب الدعاء بعد ختم القرآن، لكن في الصلاة هو الذي حصل فيه الإثارة والبحث، فلا أعلم عن السلف أن أحدا أنكر هذا في داخل الصلاة، كما أني لا أعلم أن أحدا أنكره خارج الصلاة، هذا هو الذي يعتمد عليه في أنه أمر معلوم عند السلف قد درج عليه أولهم وآخرهم، فمن قال إنه منكر فعليه الدليل، وليس على من فعل ما فعله السلف، وإنما إقامة الدليل على من أنكره وقال إنه منكر أو إنه بدعة، هذا ما درج عليه سلف الأمة وساروا عليه وتلقاه خلفهم عن سلفهم وفيهم العلماء والأخيار والمحدثون، وجنس الدعاء في الصلاة معروف من النبي – عليه الصلاة والسلام – في صلاة الليل فينبغي أن يكون هذا من جنس ذاك.(81/270)
المبحث الرابع: الجمع بين الرواية والدراية:
لم يقف – رحمه الله – عند حد الرواية والأثر، بل أخذ يقلب النظر ويعمل الفكر فجمع – رحمه الله – بين النقل الصحيح والعقل الصريح، وبين الأثر والنظر. ومثال ذلك في فتاويه كثير، منها ما يأتي:
(أ) الطلاق ثلاثا بكلمة واحدة (1) :
حيث سئل سماحته عن: رجل طلق امرأته ثلاثا بلفظ واحد في مجلس واحد، فما الحكم؟
فأجاب – رحمه الله -: ثبت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما (2) – أن مثل هذا الطلاق يعتبر طلقة واحدة، وكانت الفتوى على هذا مدة حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وخلافة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – وسنتين من خلافة عمر – رضي الله عنه – ولكن لما رأى عمر – رضي الله عنه – تهاون الناس بالطلاق أمضاها عليهم اجتهادا منه – رضي الله عنه.
وقد ذهب بعض أهل العلم (3) إلى الإفتاء بأن الثلاث إذا وقعت بلفظ واحد تعتبر طلقة واحدة عملا بهذا الحديث المذكور، وقد صح ذلك عن ابن
__________
(1) ينظر: «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (21 / 393) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب طلاق الثلاث، برقم (1472) .
(3) ينظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (23 / 12) ، و «إعلام الموقعين» (3 / 27) ، و «زاد المعاد» (5 / 60) .(81/271)
عباس – رضي الله عنهما – في إحدى الروايتين عنه وعن جماعة من السلف (1) ، ونحن نفتي بهذا القول عملا بما كان عليه الحال في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعهد الصديق وأول خلافة عمر، لأن الحجة تؤيده، ولأنه أرفق بالمسلمين لا سيما مع غلبة الجهل وضعف الإيمان بالنسبة إلى أكثر المطلقين، وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين لإصابة الحق في القول والعمل إنه خير مسؤول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
(ب) حكم أخذ الأجرة على تحفيظ القرآن الكريم (2) :
حيث سئل سماحته: ما حكم أخذ الأجرة على تحفيظ القرآن الكريم، حيث إن لدينا إماما في قريتنا يأخذ أجرا على تحفيظ القرآن للصبيان؟..
فأجاب - رحمه الله -: لا حرج في أخذ الأجرة على تعليم القرآن وتعليم العلم، لأن الناس في حاجة إلى التعليم، ولأن المعلم قد يشق عليه ذلك ويعطله التعليم عن الكسب، فإذا أخذ أجرة على تعليم القرآن وتحفيظه، وتعليم العلم فالصحيح أنه لا حرج في ذلك، وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أن جماعة من الصحابة نزلوا ببعض العرب فلدغ سيدهم – يعني رئيسهم – وأنهم عالجوه بكل شيء ولم ينفعه ذلك، وطلبوا منهم أن يرقوه، فتقدم أحد الصحابة فرقاه بفاتحة الكتاب، فشفاه
__________
(1) ينظر: «فتح الباري» (9 / 362 - 367) .
(2) «فتاوى علماء البلد الحرام» ص681.(81/272)
الله وعافاه، وكانوا قد اشترطوا عليهم قطيعا من الغنم، فأوفوا لهم بشرطهم، فتوقفوا عن قسمه بينهم حتى سألوا النبي – صلى الله عليه وسلم، فقال – عليه الصلاة والسلام -: «أحسنتم واضربوا لي معكم بسهم (1) » ، ولم ينكر عليهم ذلك. وقال – صلى الله عليه وسلم -: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا، كتاب الله (2) » ، فهذا يدل على أنه لا بأس بأخذ الأجرة على التعليم كما جاز أخذها على الرقية.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإجارة، باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب، برقم (2276) ، ومسلم في كتاب السلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار، برقم (2201) .
(2) أخرجه البخاري في الصحيح في كتاب الطب، باب الشرط في الرقية بقطيع الغنم برقم (5737) .(81/273)
المبحث الخامس: الاستدلال بالقواعد الأصولية ورعاية مقاصد الشريعة:
من المعلوم بداهة أن المفتي لا بد أن يراعي مقاصد الشريعة ويوازن بين المصالح والمفاسد فإن تغلب جانب المصلحة على جانب المفسدة أفتى بالجواز، وإن تغلب جانب المفسدة أفتى بالمنع، وهذا المقصد لم تخل فتاوى سماحة الشيخ – رحمه الله – منه، فعلى سبيل المثال:
(أ) سئل سماحته عن حكم التصوير في وسائل الإعلام؟ (1)
فأجاب – رحمه الله -: لا شك أن استغلال وسائل الإعلام في الدعوة إلى الحق ونشر أحكام الشريعة، وبيان الشرك ووسائله والتحذير من ذلك
__________
(1) «مجموع فتاوى سماحة الشيخ» جمع د/ الطيار (2 / 817 - 819) .(81/273)
ومن سائر ما نهى الله عنه، من أعظم المهمات، بل من أوجب الواجبات، وهي من نعم الله العظيمة في حق من استغلها في الخير، وفي حق من استفاد منها ما ينفعه في دينه ويبصره بحق الله عليه.
ولا شك أن البروز في التلفاز مما قد يتحرج منه بعض أهل العلم؛ من أجل ما ورد من الأحاديث الصحيحة في التشديد في التصوير ولعن المصورين.
ولكن بعض أهل العلم رأى أنه لا حرج في ذلك، إذا كان البروز فيه للدعوة إلى الحق، ونشر أحكام الإسلام والرد على دعاة الباطل؛ عملا بالقاعدة الشرعية وهي: ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت كبراهما إذا لم يتيسر السلامة منهما جميعا، وتحصيل أعلى المصلحتين ولو بتفويت الدنيا منهما إذا لم يتيسر تحصيلهما جميعا (1) .
وهكذا يقال في المفاسد الكثيرة والمصالح الكثيرة: يجب على ولاة الأمور وعلى العلماء إذا لم يتيسر السلامة من المفاسد كلها، أن يجتهدوا في السلامة من أخطرها وأكبرها إثما، وهكذا المصالح يجب عليهم أن يحققوا ما أمكن منها، الكبرى فالكبرى، إذا لم يتيسر تحصيلها كلها، ولذلك أمثلة كثيرة وأدلة متنوعة من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (2) .
__________
(1) ينظر: «الموافقات» (2 / 26) ، و «أشباه السيوطي» ص87، و «أشباه ابن نجيم» ص89.
(2) سورة الأنعام الآية 108(81/274)
ومنها الحديث الصحيح أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لعائشة – رضي الله عنها -: «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وأقمتها على قواعد إبراهيم (1) » الحديث، متفق عليه.
وبهذا يعلم أن الكلام في الظهور في التلفاز للدعوة إلى الله – سبحانه – ونشر الحق، يختلف بحسب ما أعطى الله الناس من العلم والإدراك، والبصيرة والنظر في العواقب، فمن شرح الله صدره واتسع علمه، ورأى أن يظهر في التلفاز لنشر الحق وتبليغ رسالات الله فلا حرج عليه في ذلك، وله أجره وثوابه عند الله – سبحانه –، ومن اشتبه عليه الأمر، ولم ينشرح صدره لذلك، فنرجو أن يكون معذورا؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2) » ، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: «البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ... (3) » الحديث.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من ترك بعض الاختيار، مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه، برقم (126) ، ومسلم في كتاب الحج باب نقض الكعبة وبنائها، برقم (1333) .
(2) أخرجه أحمد (1 / 200) ، برقم (1723، 1727) ، والترمذي في كتاب صفة القيامة، برقم (2518) ، والنسائي في كتاب الأشربة، باب في الحث على ترك الشبهات، برقم (5711) .
(3) أخرجه بهذا اللفظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10 / 294) ، وأخرجه بنحوه أحمد (4 / 228) برقم (18164) من حديث وابصة بن معين – رضي الله عنه.(81/275)
ولا شك أن ظهور أهل الحق في التلفاز من أعظم الأسباب في نشر دين الله والرد على أهل الباطل؛ لأنه يشاهده غالب الناس من الرجال والنساء والمسلمين والكفار، ويطمئن أهل الحق إذا رأوا صورة من يعرفونه بالحق وينتفعون بما يصدر منه، وفي ذلك أيضا محاربة لأهل الباطل وتضييق المجال عليهم، وقد قال الله – عز وجل -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1) ، وقال – عز وجل -: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) .
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (3) » ، وقال – عليه الصلاة والسلام -: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا (4) » ، وقال – صلى الله عليه وسلم – لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – لما بعثه إلى اليهود في خيبر: «ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله – تعالى – فيه، فوالله
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 69
(2) سورة النحل الآية 125
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله، برقم (1893) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، برقم (2674) .(81/276)
لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (1) » .
وهذه الآيات والأحاديث الصحيحة كلها تعم الدعوة إلى الله – سبحانه – من طريق وسائل الإعلام المعاصرة، ومن جميع الطرق الأخرى كالخطابة والتأليف والرسائل والمكالمات الهاتفية، وغير ذلك من أنواع التبليغ لمن أصلح الله نيته ورزقه العلم النافع والعمل به، وقد صح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (2) » ، وقال – عليه الصلاة والسلام -: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (3) » .
(ب) سئل عن حكم تكرار الحج للمرأة مع الزحام والاختلاط (4) :
فأجاب – رحمه الله -: لا شك أن تكرار الحج فيه فضل عظيم للرجال والنساء، ولكن بالنظر إلى الزحام الكثير في هذه السنين الأخيرة بسبب تيسر المواصلات، واتساع الدنيا على الناس، واختلاط الرجال بالنساء
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – الناس إلى الإسلام والنبوة، برقم (2942) ، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -، برقم (2406) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، الحديث الأول، ومسلم في كتاب الإمارة، باب قوله – صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنية» برقم (1907) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله برقم (2564) .
(4) مجموع فتاوى الحج والعمرة ص204.(81/277)
في الطواف وأماكن العبادة، وعدم تحرز الكثير منهم عن أسباب الفتنة، نرى أن عدم تكرارهن الحج أفضل لهن وأسلم لدينهن وأبعد عن المضرة على المجتمع الذي قد يفتن ببعضهن.
وهكذا الرجال إذا أمكن ترك الاستكثار من الحج لقصد التوسعة على الحجاج وتخفيف الزحام عنهم، فنرجو أن يكون أجره في الترك أعظم من أجره في الحج إذا كان تركه له بسبب هذا القصد الطيب، ولا سيما إذا كان حجه يترتب عليه حج أتباع له، قد يحصل بحجهم ضرر كثير على بعض الحجاج لجهلهم أو عدم رفقهم وقت الطواف والرمي وغيرهما من العبادات التي يكون فيها ازدحام، والشريعة الإسلامية الكاملة مبنية على أصلين عظيمين:
أحدهما: العناية بتحصيل المصالح الإسلامية وتكميلها ورعايتها حسب الإمكان.
الثاني: العناية بدرء المفاسد كلها أو تقليلها وأعمال المصلحين والدعاة إلى الحق وعلى رأسهم الرسل – عليهم الصلاة والسلام –، تدور بين هذين الأصلين.
وعلى حسب علم العبد بشريعة الله سبحانه وأسرارها ومقاصدها، وتحريه لما يرضي الله ويقربه لديه واجتهاده في ذلك يكون توفيق الله له – سبحانه – وتسديده إياه في أقواله وأعماله، وأسأل الله – عز وجل – أن(81/278)
يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح أمر الدين والدنيا، إنه سميع قريب.
(ج) سئل سماحته عن التنقل بين المساجد طلبا لحسن الصوت (1) :
فأجاب – رحمه الله -: لا أعلم في هذا بأسا، وإن كنت أميل إلى أنه يلزم المسجد الذي يطمئن قلبه فيه ويخشع فيه؛ لأنه قد يذهب إلى مسجد آخر لا يحصل له فيه ما حصل في الأول من الخشوع والطمأنينة، فأنا أرجح – حسب القواعد الشرعية – أنه إذا وجد إماما يطمئن إليه ويخشع في صلاته وقراءته يلزم ذلك أو يكثر من ذلك معه، والأمر في ذلك واضح لا حرج فيه بحمد الله، فلو انتقل إلى إمام آخر لا نعلم فيه بأسا إذا كان قصده الخير وليس قصده شيئا آخر من رياء أو غيره.
لكن الأقرب – من حيث القواعد الشرعية – أنه يلزم المسجد الذي فيه الخشوع والطمأنينة وحسن القراءة، أو فيه تكثير المصلين؛ لكونه إذا صلى فيه كثر المصلون بسببه حيث يتأسون به، أو لأنه يفيدهم وليس عندهم من يفيدهم ويذكرهم بعض الأحيان، أو يلقي عليهم درسا، بمعنى أن يحصل لهم بوجوده فائدة، فإذا كان هكذا فكونه في هذا المسجد الذي فيه الفائدة منه أو من غيره، أو كونه أقرب إلى خشوع قلبه والطمأنينة وتلذذه بالصلاة فيه، فكل هذا مطلوب.
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (11 / 329) .(81/279)
المبحث السادس: مراعاة العلل الشرعية للأحكام وتغير أحوال الزمان والمكان:
من المعروف عند العلماء أن الفتوى قد تتغير بتغير الزمان أو المكان مراعاة للعلل الشرعية للأحكام، وسماحة الشيخ ابن باز – رحمه الله – كان يراعي هذا الأمر في فتاويه.
ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما أجاب به – رحمه الله – على سؤال حول حكم الهدنة مع العدو اليهودي في فلسطين؟ (1)
قال: لا يلزم من الصلح بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين اليهود ما ذكره السائل بالنسبة إلى بقية الدول، بل كل دولة تنظر في مصلحتها، فإذا رأت أن من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود في تبادل السفراء والبيع والشراء، وغير ذلك من المعاملات – التي يجيزها شرع الله المطهر – فلا بأس في ذلك.
وإن رأت أن المصلحة لها ولشعبها مقاطعة اليهود فعلت ما تقتضيه المصلحة الشرعية، وهكذا بقية الدول الكافرة حكمها حكم اليهود في ذلك.
والواجب على كل من تولى أمر المسلمين، سواء كان ملكا أو أميرا أو رئيس جمهورية أن ينظر في مصالح شعبه، فيسمح بما ينفعهم ويكون في مصلحتهم من الأمور التي لا يمنع منها شرع الله المطهر، ويمنع ما سوى ذلك مع أي من دول الكفر؛ عملا بقول الله – عز وجل -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (2) ، وقوله – سبحانه -: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (3) .
__________
(1) «الإنجاز في ترجمة الإمام ابن باز» ص373 – 375.
(2) سورة النساء الآية 58
(3) سورة الأنفال الآية 61(81/280)
وتأسيا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – في مصالحته لأهل مكة ولليهود في المدينة وفي خيبر، وقد قال – عليه الصلاة والسلام – في الحديث الصحيح: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والعبد راع في مال سيده، ومسؤول عن رعيته (1) » ، وقد قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) .
وهذا كله عند العجز عن قتال المشركين، والعجز عن إلزامهم بالجزية إذا كانوا من أهل الكتاب أو المجوس، أما مع القدرة على جهادهم وإلزامهم بالدخول في الإسلام أو القتل أو دفع الجزية – إن كانوا من أهلها – فلا تجوز المصالحة معهم، وترك القتال وترك الجزية، وإنما تجوز المصالحة عند الحاجة أو الضرورة مع العجز عن قتالهم أو إلزامهم بالجزية إن كانوا من أهلها، لما تقدم من قوله – سبحانه وتعالى –:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق، برقم (2554) ، ومسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، برقم (1829) .
(2) سورة الأنفال الآية 27(81/281)
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) .
وقوله - عز وجل -: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (2) وغير ذلك من الآيات المعلومة في ذلك.
وعمل النبي – صلى الله عليه وسلم – مع أهل مكة يوم الحديبية ويوم الفتح، ومع اليهود حين قدم المدينة، يدل على ما ذكرنا.
__________
(1) سورة التوبة الآية 29
(2) سورة الأنفال الآية 39(81/282)
المبحث السابع: اعتبار القواعد الشرعية في التيسير ورفع الحرج دون تساهل:
وسماحة الشيخ كما قلنا لديه ورع في الفتوى، ومع هذا الورع كانت فتواه وسطا تتسم باليسر والتيسير، تتقي الفتن، وتدفع المحن، وترفق بالمستفتي – دون تساهل – والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
(أ) وفي سؤال عن حكم الختان (1) :
أجاب – رحمه الله -: هو من سنن الفطرة، ومن شعار المسلمين؛ لما في الصحيحين، من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «الفطرة خمس: الختان، والاستحداد،
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (10 / 44) .(81/282)
وتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط (1) » .
فبدأ – صلى الله عليه وسلم – بالختان، وأخبر أنه من سنن الفطرة.
والختان الشرعي: هو قطع القلفة الساترة لحشفة الذكر فقط، أما من يسلخ الجلد الذي يحيط بالذكر، أو يسلخ الذكر كله، كما في بعض البلدان المتوحشة، ويزعمون جهلا منهم أن هذا هو الختان المشروع، إنما هو تشريع من الشيطان زينه للجهال، وتعذيب للمختون، ومخالفة للسنة المحمدية والشريعة الإسلامية التي جاءت بالتيسير والتسهيل والمحافظة على النفس.
وهو محرم؛ لعدة وجوه منها:
1- أن السنة وردت بقطع القلفة الساترة لحشفة الذكر فقط.
2- أن هذا تعذيب للنفس وتمثيل بها، وقد نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن المثلة، وعن صبر البهائم والعبث بها أو تقطيع أطرافها، فالتعذيب لبني آدم من باب أولى، وهو أشد إثما.
3- أن هذا مخالف للإحسان والرفق الذي حث عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في قوله: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء (2) » الحديث.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب تقليم الأظافر، برقم (5891) ، ومسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم (257) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصيد والذبائح، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، برقم (1955) .(81/283)
4- أن هذا قد يؤدي إلى السراية وموت المختون، وذلك لا يجوز؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) ، وقوله – سبحانه -: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (2) ، ولهذا نص العلماء على أنه لا يجب الختان الشرعي على الكبير إذا خيف عليه من ذلك.
(ب) وفي سؤال حول حكم بقاء أثر الوشم وسن الذهب بعد معرفة تحريمهما (3) :
أجاب – رحمه الله -: بأن الوشم في الجسم حرام؛ لما ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أنه لعن الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة (4) » ، وإذا فعله المسلم في حال جهله بالتحريم، أو عمل به الوشم في حال صغره، فإنه يلزمه إزالته بعد علمه بالتحريم، لكن إذا كان في إزالته مشقة أو مضرة فإنه يكفيه التوبة والاستغفار، ولا يضره بقاؤه في جسمه.
وأما تركيب سن الذهب بدون حاجة فإنه غير جائز؛ لتحريم الذهب على الرجال، ما لم تدع إلى ذلك ضرورة، وقد أفدت في سؤالك: أنك
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) سورة النساء الآية 29
(3) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (10 / 43) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب الموصلة، برقم (5940) ، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، برقم (2124) .(81/284)
عملته من أجل الزينة، فيلزمك إزالته، وفي إمكانك تركيب ما يقوم مقامه من الأنواع المباحة غير الذهب.
(ج) سئل عن حكم توكيل بعض الأئمة لمن يقوم مقامه في الصلاة في آخر رمضان بعد ختم القرآن من أجل العمرة؟ (1) :
فأجاب – رحمه الله -: الذي يظهر لي التوسعة في هذا وعدم التشديد، ولا سيما إذا تيسر نائب صالح يكون في قراءته وصلاته مثل الإمام أو أحسن من الإمام، فالأمر في هذا واسع جدا، والمقصود أنه إذا اختار لهم إماما صالحا ذا صوت حسن وقراءة حسنة فلا بأس، أما كونه يعجل في صلاته أو يعجل في ختمته على وجه يشق عليهم من أجل العمرة، فهذا لا ينبغي له، بل ينبغي له أن يصلي صلاة راكدة فيها الطمأنينة وفيها الخشوع، ويقرأ قراءة لا تشق عليهم ولو لم يعتمر يختم أيضا لما في ذلك من المصلحة العامة لجماعته ولمن يصلي خلفه (2) .
*لكن أحيانا قد يظن البعض أن الموطن موطن تيسير فيحل حراما أو يحرم حراما، لذا نجد الشيخ في أخذه لقاعدة رفع الحرج ملتزما بقواعد الشرع وحدوده، فلا يدفعه حال المستفتي إلى تحريم الحلال أو تحليل الحرام، مثال ذلك من فتاويه ما يلي:
(د) حكم العمل في البنوك الربوية (3) :
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (11 / 362) .
(2) المصدر نفسه (11 / 362) .
(3) المصدر السابق (19 / 373) .(81/285)
ففي سؤال من محاسب يعمل في إحدى تلك المصارف جاء ما يلي:
أنا أحب الفقه في الدين، وأحضر ندوات العلم، وسوف أقع في ضيق وفي حرج لو تركت هذا العمل وسأتأخر في الصرف على أهلي وأبي وأمي فبالي مشغول من ذلك وأنتظر من سماحتكم فتوى بهذا؟
فأجاب – رحمه الله -: الله – جل وعلا – أحل لعباده ما فيه نجاتهم وقضاء حاجتهم، وحرم عليهم ما يضرهم فليس العبد مضطرا إلى ما حرم الله عليه، بل عليه أن يسعى جهده في طلب الرزق الحلال، والتوظف في البنوك لا يجوز؛ لأنه إعانة لهم على الإثم والعدوان سواء كان محاسبا أو كاتبا أو غير ذلك.
فالواجب على المؤمن أن يحذر ذلك وأن يبتعد عن البنوك؛ لأن الله – سبحانه وتعالى – يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) ، فالتعاون مع البنوك أو مع قطاع الطريق، أو مع السراق، أو مع الغشاشين، أو مع أصحاب الرشوة، كله تعاون على الإثم والعدوان فلا يجوز، وما قبضته قبل ذلك، أي قبل العلم فلك ما سلف، وما كان بعد العلم فليس لك؛ لقوله الله – جل وعلا -: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2) ، فما قبضته سابقا قبل أن تعلم فهو لك، وأما بعد أن
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة البقرة الآية 275(81/286)
علمت فعليك أن تترك هذا العمل، وأن تتوب إلى الله – سبحانه – مما سلف، وتبذل ما قبضته من طريق الربا، وأنت عالم به في جهة البر والخير كالصدقة على الفقراء والمساكين إلى غير ذلك حتى تتخلص من هذا المال الذي جاءك بغير وجه شرعي، وقد «صح عن رسول الله – عليه الصلاة والسلام – أنه لعن آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء (1) » ، فالواجب على المؤمن أن يحذر من ذلك: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (3) . فأنت إذا اتقيت الله يسر الله أمرك ورزقك من حيث لا تحتسب، فالتمس أعمالا أخرى ولو بأجر قليل إذا كنت تأخذ من البنك خمسة آلاف، أو ستة آلاف، أو عشرة آلاف شهريا، فسوف تجد – إن شاء الله – من الأعمال المباحة بمعاش يكفيك ويبارك الله لك فيه، ولو ألفين، أو ثلاثة، أو أربعة، ولو أقل من ذلك بكثير، أنت عليك أن تطلب الحلال والله يعوضك يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح لما سئل أي الكسب أطيب قال: «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور (4) » ، وقال أيضا: «ما أكل أحد طعاما أفضل من أن يأكل من عمل يده، وإن
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا وموكله، برقم (1598) .
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 4
(4) أخرجه الإمام أحمد من حديث رافع بن خديج برقم (16814) .(81/287)
نبي الله داود كان يأكل من عمل يده (1) » - عليه الصلاة والسلام.
(هـ) وفي سؤال حول حكم ذهاب المرأة إلى الطبيب (2) :
قال – رحمه الله -: لا ريب أن قضية المرأة والطبيب قضية مهمة، وفي الحقيقة إنها متعبة كثيرا، ولكن إذا رزق الله المرأة التقوى والبصيرة فإنها تحتاط لنفسها وتعتني بهذا الأمر. فليس لها أن تخلو بالطبيب وليس للطبيب أن يخلو بها. وقد صدرت الأوامر والتعليمات في منع ذلك من ولاة الأمور، فعلى المرأة أن تعتني بهذا الأمر وأن تتحرى التماس الطبيبات الكافيات، فإذا وجدن فالحمد لله ولا حاجة إلى الطبيب، فإذا دعت الحاجة إلى الطبيب لعدم وجود الطبيبات فلا مانع عند الحاجة إلى الكشف والعلاج، وهذه من الأمور التي تباح عند الحاجة لكن لا يكون الكشف مع الخلوة بل يكون مع وجود محرمها أو زوجها إن كان الكشف في أمر ظاهر كالرأس واليد والرجل أو نحو ذلك. وإن كان الكشف في عورات فيكون معها زوجها إن كان لها زوج أو امرأة، وهذا أحسن وأحوط، أو ممرضة أو ممرضتان تحضران، ولكن إذا وجد غير الممرضة امرأة تكون معها يكون ذلك أولى وأحوط وأبعد عن الريبة، وأما الخلوة فلا تجوز.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده، برقم (2072) .
(2) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (5 / 392) .(81/288)
المبحث الثامن: الاستشارة في الفتوى والاستفادة من أهل الخبرة:
حيث كان – رحمه الله – كثير المشاورة لأهل العلم كثير الأخذ عنهم والاعتداد بآرائهم وخصوصا أعضاء هيئة كبار العلماء وأعضاء اللجنة الدائمة (1) .
كما استفاد – رحمه الله – من أهل الخبرة؛ بالرجوع إليهم عند الحوادث المستجدة والتي لا يوجد لغالبها نظير في الفقه الإسلامي، فكثيرا ما كان يرد الأمر إلى أهل الاختصاص، ويعلق الفتوى على قولهم، ومثال ذلك:
(أ) سئل عن حكم امرأة مريضة بالسكر والقرحة ولا تستطيع الصوم (2) .
فأجاب – رحمه الله - «عليك مراجعة الطبيب المختص، فإن قرر الطبيب أن الصوم يضرك فأفطري، فإذا عافاك الله فاقضي بعد ذلك، وإن قرر الأطباء المختصون، أن هذا المرض يضره الصوم دائما، وأنه فيما يعلمون أن المرض سوف يستمر ولا يرجى برؤه، فإنك تفطرين وتطعمين عن كل يوم مسكينا نصف صاع من قوت البلد مقداره كيلو ونصف تقريبا والحمد لله، وليس عليك صيام لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) .
__________
(1) ينظر: «جوانب من سيرة الإمام» رواية الشيخ محمد بن موسى لمؤلفه محمد الحمد ص260.
(2) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (15 / 219) .
(3) سورة التغابن الآية 16(81/289)
(ب) سئل عن حكم التبرع بالدم في الحرب (1) :
فأجاب – رحمه الله -: بأن المشروع للمسلمين إذا أصيب إخوانهم بشيء من الجراحات واحتاجوا إلى دم من إخوانهم الأحياء أن يتبرعوا بذلك بشرط أن يكون التبرع بالدم لا يضر المتبرع إذا قرر الطبيب المختص ذلك.
(ج) سئل عن مريض نصحه الأطباء بعدم الصيام لمرض مزمن فشفي منه فهل عليه قضاء؟ (2)
فأجاب – رحمه الله -: إذا كان الأطباء الذين نصحوه بعدم الصوم دائما، أطباء من المسلمين الموثوقين، العارفين بجنس هذا المرض، وذكروا له أنه لا يرجى برؤه، فليس عليه قضاء، ويكفيه الإطعام، وعليه أن يستقبل الصيام مستقبلا.
__________
(1) «المصدر السابق» (7 / 385) .
(2) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (15 / 354 - 355) .(81/290)
المبحث التاسع: الأخذ بالاجتهاد الجماعي والدعوة إليه:
(أ) وفي سؤال حول الفتوى في هذا العصر (1) :
حيث قيل له: ما رأيكم في المقولة التي تقول: إن أمور العصر تعقدت وأصبحت متشابكة؛ لذلك لا بد أن تخرج الفتوى من فريق متكامل يضم كافة المختصين بجوانب المشكلة أو الحالة ومن بينهم الفقيه؟
__________
(1) «مجلة البحوث الإسلامية» عدد (32) ص (117) .(81/290)
فأجاب – رحمه الله -: إن الفتوى ينبغي أن تتركز على الأدلة الشرعية، وإذا صدرت الفتوى عن جماعة كانت أكمل وأفضل للوصول إلى الحق، لكن هذا لا يمنع العالم أن يفتي بما يعلمه من الشرع المطهر.
(ب) حكم جمعية الموظفين حلال أم حرام؟ :
حيث يقوم جماعة من المدرسين في نهاية كل شهر بجمع مبلغ من المال من رواتبهم ويعطى لشخص معين منهم وفي نهاية الشهر الثاني يعطى لشخص آخر وهكذا حتى يأخذ الجميع نصيبهم، وتسمى عند البعض بالجمعية، فما حكم الشرع في ذلك؟
فأجاب – رحمه الله -: ليس في ذلك بأس وهو قرض ليس فيه اشتراط نفع زائد لأحد وقد نظر في ذلك مجلس هيئة كبار العلماء فقرر بالأكثرية جواز ذلك لما فيه من المصلحة للجميع بدون مضرة.. والله ولي التوفيق.
(ج) استنكار إخراج فيلم محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم (1) :
حيث جاء ضمن استنكار الشيخ – رحمه الله – لمشروع إنتاج فيلم سينمائي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وحياته وتعاليمه، ما يلي:
وقد عرض هذا الموضوع على المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة فقرر تحريم إخراج فيلم عن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ينظر: «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (1 / 417 - 421) .(81/291)
وتحريم تمثيل الصحابة – رضي الله عنهم – وذلك في المادة السادسة من قراره المتخذ في دورته الثالثة عشرة المنعقدة خلال المدة من 1 شعبان 1391هـ إلى 13 شعبان 1391هـ.
كما قررت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية منع تمثيل الصحابة – رضي الله عنهم -: والنبي – صلى الله عليه وسلم – من باب أولى وذلك بقرارها رقم 13 وتاريخ 16 / 4 / 1393هـ.(81/292)
المبحث العاشر: العالمية والاجتهاد في النوازل والمستجدات:
لقد كان الشيخ – رحمه الله – يعايش عصره ويفقه واقعه فلم يكن منعزلا عما يدور حوله من نوازل ومستجدات، وإليك الأمثلة التالية:
(أ) وسئل سماحته: هل يتعين على جميع المسلمين الوقوف مع المملكة ومقاتلة هذا الظالم الباغي: صدام حسين؟ (1)
فأجاب – رحمه الله -: هذا اعتقادنا، فكما يجب عليهم أن يقاتلوا اليهود حسب الطاقة فكذلك يجب عليهم أن يقاتلوا صداما حسب الطاقة من باب أولى، وأن يكونوا مع الحق ضد الظالم في كل زمان ومكان، هذا واجبهم جميعا حسب الطاقة والقدرة؛ لأن في ذلك نصرا للمظلوم وردعا للظالم، والله – جل وعلا – أمر بذلك وأذن فيه في قوله – عز وجل -: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (2) الآية، كما سبق وفي قوله – جل
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (6 / 121، 122) .
(2) سورة الحجرات الآية 9(81/292)
وعلا: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} (1) {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) ، والرسول – صلى الله عليه وسلم – أمر بذلك في قوله – صلى الله عليه وسلم -: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قيل: يا رسول الله، نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه (3) » ، فإذا كان المسلم الظالم يجب أن يردع عن ظلمه، فالكافر الظالم أولى بذلك بكفره وظلمه مثل حاكم العراق وأشباهه من الملاحدة الظلمة.
(ب) سئل عن حكم نقل أعضاء الميت (4) :
فأجاب – رحمه الله -: المسلم محترم حيا وميتا، والواجب عدم التعرض له بما يؤذيه أو يشوه خلقته، ككسر عظمه وتقطيعه، وقد جاء في الحديث: «كسر عظم الميت ككسره حيا (5) » ويستدل به على عدم جواز
__________
(1) سورة الشورى الآية 41
(2) سورة الشورى الآية 42
(3) أخرجه البخاري في كتاب المظالم، با أعن أخاك ظالما أو مظلوما، برقم (2444)
(4) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (13 / 363) .
(5) أخرجه الإمام أحمد من حديث أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – برقم (24218) ، وأبو داود في كتاب الجنائز، باب في الحفار يجد عظما، برقم (3207) ، وابن ماجه في كتاب ما جاء في الجنائز، باب في النهي عن كسر عظم الميت، برقم (1616) .(81/293)
التمثيل به لمصلحة الأحياء، مثل أن يؤخذ قلبه أو كليته أو غير ذلك؛ لأن ذلك أبلغ من كسر عظمه.
وقد وقع الخلاف بين العلماء في جواز التبرع بالأعضاء وقال بعضهم: إن في ذلك لمصلحة للأحياء لكثرة أمراض الكلى وهذا فيه نظر، والأقرب عندي أنه لا يجوز؛ للحديث المذكور، ولأن في ذلك تلاعبا بأعضاء الميت وامتهانا له، والورثة قد يطمعون في المال، ولا يبالون بحرمة الميت، والورثة لا يرثون جسمه، وإنما يرثون ماله فقط. والله ولي التوفيق.
(ج) سئل عن حكم تشريح جثة الميت للتعلم (1) :
فأجاب – رحمه الله -: إذا كان الميت معصوما في حياته، سواء كان مسلما أو كافرا وسواء كان رجلا أو امرأة فإنه لا يجوز تشريحه؛ لما في ذلك من الإساءة إليه وانتهاك حرمته، وقد ثبت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «كسر عظم الميت ككسره حيا (2) » . أما إذا كان غير معصوم كالمرتد والحربي فلا أعلم حرجا في تشريحه للمصلحة الطبية، والله – سبحانه وتعالى – أعلم.
(د) سئل عن حكم المتوفى دماغيا (3) :
فأجاب – رحمه الله -: لا يحكم بموته ولا يستعجل عليه، وينتظر حتى يموت موتا لا شك فيه، وهذه عجلة من بعض الأطباء حتى يأخذوا منه قطعا وأعضاء، ويتلاعبوا بالموتى وهذا كله لا يجوز.
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (13 / 365) .
(2) سنن أبو داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد بن حنبل (6/105) .
(3) المصدر السابق (13 / 366) .(81/294)
المبحث الحادي عشر: التركيز على مسائل الاعتقاد:
كان سماحة الشيخ ابن باز – رحمه الله – يركز على مسائل الاعتقاد، حيث كتب فيها من المؤلفات والتعليقات، والرسائل والفتاوى، بالإضافة إلى الدروس والمحاضرات، والقراءات في كتب العقيدة السلفية – ما لا يعد ولا يحصى.
*فكان – رحمه الله – يوصي بعقيدة السلف الصالح وقراءة كتب أئمتها وها هي بعض نصوصه من فتاويه الدالة على ذلك:
*قال (1) – رحمه الله -: «إنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا.
وقال أيضا (2) : وكلام الأئمة في هذا الباب كثير جدا، لا يمكن نقله في هذه المحاضرة، ومن أراد الوقوف على كثير من ذلك فليراجع ما كتبه
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (1 / 19) .
(2) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (1 / 18) .(81/295)
علماء السنة في هذا الباب، مثل: كتاب السنة لعبد الله ابن الإمام أحمد، والتوحيد للإمام الجليل محمد بن خزيمة، وكتاب السنة لأبي القاسم اللالكائي الطبري، وكتاب السنة لأبي بكر بن أبي عاصم وجواب شيخ الإسلام ابن تيمية لأهل حماه.
*وكان سماحته يذكر الفرق المخالفة لعقيدة السلف أو الآراء المضادة لها ويرد على ذلك ويبين وجه الحق فيها يقول سماحته (1) : وهكذا يجب على أهل الحق إذا ردوا على أهل الباطل أن يفصلوا، وأن ينصفوا، فيقولوا لهم: قلتم كذا، وقلتم كذا، فنحن معكم في هذا، ولسنا معكم في هذا.
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (3 / 37 - 38) .(81/296)
ثم قال – رحمه الله -: وهكذا بقية الطوائف، نأخذ ما معهم من الحق، ونقر لهم به، ونرد عليهم باطلهم بالأدلة النقلية والعقلية.
وإليك ذكر بعض المواضع التي فيها التحذير من الآراء المخالفة للعقيدة الصحيحة والرد عليها:
(أ) سئل عن حكم التوسل بالنبي – صلى الله عليه وسلم:
فأجاب – رحمه الله -: التوسل بالنبي – صلى الله عليه وسلم – فيه تفصيل، فإن كان ذلك باتباعه ومحبته وطاعة أوامره وترك نواهيه والإخلاص لله في العبادة، فهذا هو الإسلام، وهو دين الله الذي بعث به أنبياءه، وهو الواجب على كل مكلف.. وهو الوسيلة للسعادة في الدنيا والآخرة، أما التوسل بدعائه والاستغاثة به وطلبه النصر على الأعداء والشفاء للمرضى – فهذا هو الشرك الأكبر، وهو دين أبي جهل وأشباهه من عبدة الأوثان، وهكذا فعل ذلك مع غيره من الأنبياء والأولياء أو الجن أو الملائكة أو الأشجار أو الأحجار أو الأصنام.
وهناك نوع ثالث يسمى التوسل وهو التوسل بجاهه – صلى الله عليه وسلم – أو بحقه أو بذاته مثل أن يقول الإنسان: أسألك يا الله بنبيك، أو جاه نبيك، أو حق نبيك، أو جاه الأنبياء، أو حق الأنبياء، أو جاه الأولياء والصالحين وأمثال ذلك؛ فهذا بدعة ومن وسائل الشرك، ولا يجوز فعله معه – صلى الله عليه وسلم – ولا مع غيره؛ لأن الله – سبحانه وتعالى – لم يشرع ذلك، والعبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما دل عليه الشرع المطهر.(81/297)
وأما توسل الأعمى به في حياته – صلى الله عليه وسلم – فهو توسل به – صلى الله عليه وسلم – ليدعو له ويشفع له إلى الله في إعادة بصره إليه، وليس توسلا بالذات أو الجاه أو الحق كما يعلم ذلك من سياق الحديث، وكما أوضح ذلك علماء السنة في شرح الحديث.
وقد بسط الكلام في ذلك شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله – في كتبه الكثيرة المفيدة، ومنها كتابه المسمى: «القاعدة الجلية في التوسل والوسيلة» وهو كتاب مفيد جدير بالاطلاع عليه والاستفادة منه وهذا الحكم جائز مع غيره – صلى الله عليه وسلم – من الأحياء، كأن تقول لأخيك أو أبيك أو من تظن فيه الخير: ادع الله أن يشفيني من مرضي أو يرد علي بصري أو يرزقني الذرية الصالحة أو نحو ذلك، بإجماع أهل العلم، والله ولي التوفيق (1) .
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (5 / 322، 323) .(81/298)
(ب) سئل عن حكم من يقول إن الأولياء والصالحين ينفعون (1) :
فأجاب – رحمه الله -: ننصح الجميع بأن يتقوا الله – عز وجل – ويعلموا أن السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة في عبادة الله وحده واتباع النبي – صلى الله عليه وسلم – والسير على منهاجه فهو سيد الأولياء، وأفضل الأولياء، فالرسل والأنبياء هم أفضل الناس وهم أفضل الأولياء والصالحين، ثم يليهم بعد ذلك في الفضل أصحاب الأنبياء – رضي الله عنهم – ومن بعدهم، وأفضل هذه الأمة أصحاب نبينا – صلى الله عليه وسلم –، ثم من بعدهم سائر المؤمنين على اختلاف درجاتهم ومراتبهم في التقوى. فالأولياء هم أهل الصلاح والاستقامة على طاعة الله ورسوله، وعلى رأس الأولياء نبينا محمد بن عبد الله – عليه الصلاة والسلام –، ثم أصحابه – رضي الله عنهم –، ثم الأمثل فالأمثل في التقوى والإيمان كما تقدم. وحبهم في الله والتأسي بهم في الخير وعمل الصالحات أمر مطلوب ولكن لا يجوز التعلق بهم وعبادتهم من دون الله، ولا دعاؤهم مع الله، ولا أن يستعان بهم أو يطلب منهم المدد؛ كأن يقول: يا رسول الله، أغثني، أو يا علي أغثني، أو يا الحسن أغثني وانصرني، أو يا سيدي الحسين، أو يا شيخ عبد القادر أو غيرهم، كل ذلك لا يجوز؛ لأن العبادة حق الله وحده، كما قال – عز وجل -: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) ، وقال تعالى:
__________
(1) المصدر السابق (5 / 359 - 3361) .
(2) سورة البقرة الآية 21(81/299)
{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) ، وقال تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) ، وقال – سبحانه -: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (3) ، وقال – عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (4) ، فسماهم كفرة بدعائهم غير الله، وقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (5) ، وقال تعالى -: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (6) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (7) .
فبين – سبحانه – أن مدعويهم من دون الله من الرسل أو الأولياء أو غيرهم لا يسمعون؛ لأنهم ما بين ميت أو مشغول بطاعة ربه كالملائكة أو غائب لا يسمع دعاءهم أو جماد لا يسمع ولا يعي، ثم أخبر – سبحانه – أنهم لو سمعوا لم يستجيبوا لدعائهم، وأنهم يوم القيامة يكفرون بشركهم، فعلم بذلك أن الله – عز وجل – هو الذي يسمع الدعاء ويجيب الداعي إذا
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة النمل الآية 62
(4) سورة المؤمنون الآية 117
(5) سورة الجن الآية 18
(6) سورة فاطر الآية 13
(7) سورة فاطر الآية 14(81/300)
شاء، وهو النافع الضار المالك لكل شيء والقادر على كل شيء، فالواجب الحذر من عبادة غيره، والتعلق بغيره من الأموات والغائبين والجماد، وغيرهم من المخلوقات التي لا تسمع الداعي، ولا تستطيع نفعه أو ضره. أما الحي الحاضر القادر، فلا بأس أن يستعان به فيما يقدر عليه، كما قال – عز وجل – في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (1) ، وكما يستعين المسلم في الجهاد وقتال الأعداء بإخوانه المجاهدين.. والله ولي التوفيق.
(ج) وفي سؤال حول حكم القول بتناسخ الأرواح (2) :
أجاب – رحمه الله -: الحمد الله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ... وبعد:
ما ذكره لكم أستاذ الفلسفة من أن الروح تنتقل من إنسان إلى آخر ليس بصحيح، والأصل في ذلك قوله – تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (3) .
وجاء تفسير هذه الآية فيما رواه مالك في موطئه أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سئل عن هذه الآية:
__________
(1) سورة القصص الآية 15
(2) «فتاوى اللجنة الدائمة» (2 / 308) .
(3) سورة الأعراف الآية 172(81/301)
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (1) ، فقال عمر – رضي الله عنه – سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يسأل عنها، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. (2) » الحديث.
قال ابن عبد البر: «معنى هذا الحديث قد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب – رضي الله
__________
(1) سورة الأعراف الآية 172
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند (1 / 44- 45) برقم (311) وأبو داود في كتاب السنة، باب في القدر برقم (4703) والترمذي في كتاب التفسير، باب ومن سورة الأعراف، برقم (3075) .(81/302)
عنه - وعبد الله بن مسعود (1) وعلي بن أبي طالب (2) وأبي هريرة (3) – رضي الله عنهم – أجمعين وغيرهم» (4) .
وقد أجمع أهل السنة والجماعة على ذلك وذكروا أن القول بانتقال الروح من جسم إلى آخر هو قول أهل التناسخ، وهم من أكفر الناس، وقولهم هذا من أبطل الباطل.
(د) سئل: هل يعتبر الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله كفارا؟ (5)
فأجاب – رحمه الله -: الحكام بغير ما أنزل الله أقسام، تختلف أحكامهم بحسب اعتقادهم وأعمالهم، فمن حكم بغير ما أنزل الله يرى أن ذلك أحسن من شرع الله فهو كافر عند جميع المسلمين، وهكذا من يحكم القوانين الوضعية بدلا من شرع الله، ويرى أن ذلك جائز، ولو قال: إن تحكيم الشريعة أفضل فهو كافر لكونه استحل ما حرم الله.. أما من حكم بغير ما أنزل الله اتباعا للهوى، أو لرشوة أو لعداوة بينه وبين المحكوم عليه، أو لأسباب أخرى، وهو يعلم أنه عاص لله بذلك، وأن الواجب عليه تحكيم شرع الله، فهذا يعتبر من أهل المعاصي والكبائر، ويعتبر قد
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (6594) ، ومسلم برقم (2643) .
(2) أخرجه البخاري برقم (4949) ، ومسلم برقم (2647) .
(3) أخرجه مسلم برقم (2651) .
(4) ينظر: «فتح البر في الترتيب الفقهي لتمهيد ابن عبد البر» للمغراوي.
(5) «فتاوى علماء البلد الحرام» ص85.(81/303)
أتى كفرا أصغر وظلما أصغر وفسقا أصغر كما جاء هذا المعنى عن ابن عباس – رضي الله عنهما – وعن طاوس وجماعة من السلف الصالح وهو المعروف عند أهل العلم (1) ، والله ولي التوفيق.
(هـ) سئل عن حكم الولاء والبراء (2) :
فأجاب – رحمه الله -: الولاء والبراء معناه: محبة المؤمنين وموالاتهم وبغض الكافرين ومعاداتهم، والبراءة منهم ومن دينهم، هذا هو الولاء والبراء كما قال الله – سبحانه – في سورة الممتحنة: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (3) ، وليس معنى بغضهم وعداوتهم أن تظلمهم أو تتعدى عليهم إذا لم يكونوا محاربين، وإنما معناه أن تبغضهم في قلبك وتعاديهم بقلبك ولا يكونوا أصحابا لك، لكن لا تؤذيهم ولا تضرهم ولا تظلمهم، فإذا سلموا ترد عليهم السلام وتنصحهم وتوجههم إلى الخير كما قال الله – عز وجل: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (4) وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وهكذا غيرهم
__________
(1) ينظر: «تفسير ابن كثير» (3 / 74) .
(2) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (5 / 247، 246) .
(3) سورة الممتحنة الآية 4
(4) سورة العنكبوت الآية 46(81/304)
من الكفار الذين لهم أمان أو عهد أو ذمة لكن من ظلم منهم يجازى على ظلمه، وإلا فالمشروع للمؤمن الجدال بالتي هي أحسن مع المسلمين والكفار مع بغضهم في الله للآية الكريمة السابقة ولقوله – سبحانه -: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) ، فلا يتعدى عليهم ولا يظلمهم مع بغضهم ومعاداتهم في الله ويشرع له أن يدعوهم إلى الله ويعلمهم ويرشدهم إلى الحق لعل الله يهديهم بأسبابه إلى طريق الصواب، ولا مانع من الصدقة عليهم والإحسان إليهم لقول الله – عز وجل -: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2) ، ولما ثبت في الصحيحين عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه أمر أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما – أن تصل أمها وهي كافرة في حال الهدنة التي وقعت بين النبي – صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة على الحديبية.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة الممتحنة الآية 8(81/305)
المبحث الثاني عشر: الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والأخلاقية:
لم تكن فتاوى سماحة الشيخ قاصرة على أبواب العقائد أو العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج، بل اتسعت لتشمل جميع مناحي الحياة كما هو منهج هذا الدين وصراطه المستقيم. وكان سماحته يوجه عنايته الخاصة بالقضايا الاجتماعية والأخلاقية لما لها من تأثير خطير على المجتمع المسلم.
وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
(أ) في سؤال حول حكم إصدار المجلات الخليعة (1) :
أجاب – رحمه الله -: لا يجوز إصدار المجلات والصحف التي تشتمل على نشر الصور النسائية أو الداعية إلى الزنا والفواحش أو اللواط أو شرب المسكرات أو نحو ذلك مما يدعو إلى الباطل ويعين عليه، ولا يجوز العمل في مثل هذه المجلات لا بالكتابة ولا بالترويج؛ لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان ونشر الفساد في الأرض، والدعوة إلى إفساد المجتمع ونشر الرذائل، وقد قال الله – عز وجل – في كتابه المبين: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (4 / 208) .
(2) سورة المائدة الآية 2(81/306)
ذلك من آثامهم شيئا (1) » ، وقال – صلى الله عليه وسلم – أيضا: «صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا. (2) » .
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، نسأل الله أن يوفق المسلمين لما فيه صلاحهم ونجاتهم، وأن يهدي القائمين على وسائل الإعلام وعلى شؤون الصحافة لكل ما فيه سلامة المجتمع ونجاته، وأن يعيذهم من شرور أنفسهم ومن مكائد الشيطان إنه جواد كريم.
(د) وفي سؤال حول معنى نقص العقل والدين عند النساء (3) :
أجاب – رحمه الله -: معنى حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب الرجل الحازم من إحداكن، فقيل: يا رسول الله، ما نقصان عقلها؟ قال: أليست شهادة المرأتين بشهادة رجل» ؟ قيل: يا رسول الله ما نقصان دينها؟ قال: أليست
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، برقم (2674) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب اللباس والزينة، باب النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات، برقم (2128) .
(3) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (4 / 292) .(81/307)
إذا حاضت لم تصل ولم تصم (1) » بين – عليه الصلاة والسلام – أن نقصان عقلها من جهة ضعف حفظها وأن شهادتها تجبر بشهادة امرأة أخرى؛ وذلك لضبط الشهادة بسبب أنها قد تنسى فتزيد في الشهادة أو تنقصها كما قال – سبحانه -: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (2) الآية، وأما نقصان دينها؛ فلأنها في حال الحيض والنفاس تدع الصلاة وتدع الصوم ولا تقضي الصلاة، فهذا من نقصان الدين، ولكن هذا النقص ليست مؤاخذة عليه، وإنما هو نقص حاصل بشرع الله – عز وجل –، هو الذي شرعه – عز وجل – رفقا بها وتيسيرا عليها لأنها إذا صامت مع وجود الحيض والنفاس يضرها ذلك، فمن رحمة الله شرع لها ترك الصيام وقت الحيض والنفاس والقضاء بعد ذلك.
وأما الصلاة فإنها حال الحيض قد وجد منها ما يمنع الطهارة، فمن رحمة الله – جل وعلا – أن شرع لها ترك الصلاة، وهكذا في النفاس، ثم شرع لها أنها لا تقضي؛ لأن في القضاء مشقة كبيرة؛ لأن الصلاة تتكرر
__________
(1) أخرجه البخاري بنحوه في كتاب الحيض، باب ترك الحائض للصوم، برقم (304) من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه –، ومسلم بنحوه في كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، برقم (79) من حديث ابن عمر – رضي الله عنه.
(2) سورة البقرة الآية 282(81/308)
في اليوم والليلة خمس مرات، والحيض قد تكثر أيامه، فتبلغ سبعة أيام أو ثمانية أيام أو أكثر، والنفاس قد يبلغ أربعين يوما، فكان من رحمة الله لها وإحسانه إليها أن أسقط عنها الصلاة أداء وقضاء، ولا يلزم من هذا أن يكون نقص عقلها في كل شيء ونقص دينها في كل شيء، وإنما بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن نقص عقلها من جهة ما قد يحصل من عدم الضبط للشهادة، ونقص دينها من جهة ما يحصل لها من ترك الصلاة والصوم في حال الحيض والنفاس، ولا يلزم من هذا أن تكون أيضا دون الرجل في كل شيء، وأن الرجل أفضل منها في كل شيء، نعم جنس الرجال أفضل من جنس النساء في الجملة لأسباب كثيرة، كما قال الله – سبحانه وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (1) لكن قد تفوقه في بعض الأحيان في أشياء كثيرة، فكم لله من امرأة فوق كثير من الرجال في عقلها ودينها وضبطها، وإنما ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أن جنس النساء دون جنس الرجال في العقل وفي الدين من هاتين الحيثيتين اللتين بينهما النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد تكثر منها الأعمال الصالحات فتربو على كثير من الرجال في عملها
__________
(1) سورة النساء الآية 34(81/309)
الصالح وفي تقواها لله – عز وجل – وفي منزلتها في الآخرة، وقد تكون لها عناية في بعض الأمور فتضبط ضبطا أكثر من ضبط بعض الرجال في كثير من المسائل التي تعنى بها وتجتهد في حفظها وضبطها، فتكون مرجعا في التاريخ الإسلامي وفي أمور كثيرة، وهذا واضح لمن تأمل أحوال النساء في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وبعد ذلك، وبهذا يعلم أن هذا النقص لا يمنع من الاعتماد عليها في الرواية وهكذا في الشهادة إذ انجبرت بامرأة أخرى، ولا يمنع أيضا تقواها لله وكونها من خيرة عباد الله ومن خيرة إماء الله إذا استقامت في دينها وإن سقط عنها الصوم في الحيض والنفاس أداء لا قضاء، وإن سقطت عنها الصلاة أداء وقضاء، فإن هذا لا يلزم منه نقصها في كل شيء من جهة تقواها لله، ومن جهة قيامها بأمره، ومن جهة ضبطها لما تعتني به من الأمور، فهو نقص خاص في العقل والدين كما بينه النبي – صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي للمؤمن أن يرميها بالنقص في كل شيء وضعف الدين في كل شيء، وإنما هو ضعف خاص بدينها، وضعف في عقلها فيما يتعلق بضبط الشهادة ونحو ذلك، فينبغي إيضاحها وحمل كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – على خير المحامل وأحسنها، والله – تعالى – أعلم.
(د) وجوب العدل بين العامل المسلم وغيره (1) :
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (4 / 380) .(81/310)
قال سائل: يوجد لدي عاملان أحدهما مسلم والثاني كافر، وهما متكافئان في العمل، ومطلوب مني أن أقوم عملهما، فهل يجوز أن أغمط الكافر حقه بسبب ديانته؟
فأجاب – رحمه الله: الواجب العدل بينهما، ولكن يجب إبعاد الكافر ولو كان أنشط؛ لأن المسلم أبرك، ولو كان أقل كفاءة، فما بالك إذا كان مساويا له. وقد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – «أنه أوصى بإخراج الكفار من هذه الجزيرة (1) » ، «وأن لا يبقى فيها دينان (2) » . والله ولي التوفيق.
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم، برقم (3053) ومسلم في كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه، برقم (1637) من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما - وفيه: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» .
(2) حديث: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» كتاب الجزية، باب لا يسكن أرض الحجاز مشرك (9 / 208) .(81/311)
المبحث الثالث عشر: مزج الفتوى بالدعوة والتربية:
والناظر في فتاوى سماحة الشيخ يلمس فيها منهاج العالم الرباني الذي يجمع بين العلم والعمل والدعوة والإصلاح.
ولذا نجد فتاوى سماحته تجمع بين إبلاغ حكم الله وبيانه والحث على العمل به والتمسك بالشرع والتحذير من مخالفة أمر الله وأمر رسوله -(81/311)
صلى الله عليه وسلم – واجتناب ما نهى عنه الشارع الحكيم، لذلك تجد الفتوى مقرونة بالدعوة والإرشاد والتربية والتوجيه، وها هي بعض الأمثلة على ذلك:
(أ) سئل سماحته عن حكم الأكل والشرب في الإناء المطلي بالذهب (1) :
فأجاب – رحمه الله -: نص العلماء على أن هذا ينطبق عليه النهي، والنبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة (2) » متفق عليه.
وقال – صلى الله عليه وسلم -: «الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم (3) » متفق على صحته، واللفظ لمسلم في الصحيح، وأخرجه الدارقطني وصحح إسناده من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – مرفوعا: «من شرب في إناء ذهب أو فضة،
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (10 / 22) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة، باب الأكل في إناء مفضض، برقم (5426) ، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة.، برقم (2067) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأشربة، باب آنية الفضة، برقم (5634) ، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال والنساء، برقم (2065) واللفظ له، وأخرجه الدارقطني في سننه في كتاب الطهارة، باب أواني الذهب والفضة (1 / 40) ، وقال: إسناده حسن.(81/312)
أو في إناء فيه شيء من ذلك، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم (1) » ، فقوله – صلى الله عليه وسلم -: «من شرب في إناء ذهب أو فضة..» نهي يعم ما كان من الذهب أو الفضة، وما كان مطليا بشيء منهما، ولأن المطلي فيه زينة الذهب وجماله، فيمنع ولا يجوز بنص الحديث، وهكذا الأواني الصغار؛ كأكواب الشاي، وأكواب القهوة، والملاعق، ولا يجوز أن تكون من الذهب أو من الفضة، بل يجب البعد عن ذلك، والحذر منه.
وإذا وسع الله – تعالى – على العباد، فالواجب التقيد بشريعة الله – تعالى –، وعدم الخروج عنها، وإذا كان عنده فضل من المال فلينفق على عباد الله المحتاجين، وفي مشاريع الخير، ولا يسرف ولا يبذر.
(ب) وسئل هل الدخان ينقض الوضوء؟ (2)
فأجاب – رحمه الله -: الدخان لا ينقض الوضوء، ولكنه محرم خبيث، يجب تركه، لكن لو شربه إنسان وصلى لم تبطل صلاته ولم يبطل وضوؤه؛ لأنه نوع من الأعشاب المعروفة، لكنه حرم لمضرته، فالواجب على متعاطيه أن يحذره، وأن يدعه، ويتقي شره، فلا يجوز له شراؤه ولا استعماله، ولا تجوز التجارة فيه، بل يجب على من يتعاطى ذلك أن يتوب إلى الله، وأن يدع التجارة فيه، يقول الله – سبحانه وتعالى -: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} (3) ، ثم قال – عز وجل -:
__________
(1) البخاري الأشربة (5311) ، مسلم اللباس والزينة (2065) ، ابن ماجه الأشربة (3413) ، أحمد (6/306) ، مالك الجامع (1717) ، الدارمي الأشربة (2129) .
(2) ينظر: «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (10 / 162) .
(3) سورة المائدة الآية 4(81/313)
{قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (1) ، فالله – عز وجل – لم يحل لنا إلا الطيبات: وهن المغذيات النافعات، وقال الله – سبحانه – في وصف النبي – صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (2) .
ولا ريب أن الدخان والمسكرات كلها من الخبائث، وهكذا الحشيشة المسكرة المعروفة من الخبائث أيضا، فيجب ترك ذلك، وهكذا القات المعروف في اليمن من الخبائث؛ لأنه يضر ضررا كبيرا، ويترتب عليه تعطيل الأوقات، وضياع الصلوات، فالواجب على من يتعاطاه أن يدعه، ويتوب إلى الله من ذلك، وأن يحفظ صحته وماله وأوقاته فيما ينفعه؛ لأن الواجب على المؤمن أن يحذر ما يضره بدينه ودنياه، ومثل ذلك الدخان وأنواع المسكرات يجب الحذر منها كلها مع التوبة الصادقة النصوح مما سبق، ولا يجوز التجارة في ذلك، بل يجب ترك ذلك وعدم التجارة فيه؛ لأنه يضر المسلمين؛ نسأل الله الهداية للجميع والتوفيق.
(ج) وسئل عن حكم الغسل أولا لمن استيقظ جنبا عند شروق الشمس؟ (3)
فأجاب – رحمه الله -: عليك أن تغتسل وتكمل طهارتك ثم تصلي، وليس لك التيمم والحال ما ذكر؛ لأن الناسي والنائم مأموران
__________
(1) سورة المائدة الآية 4
(2) سورة الأعراف الآية 157
(3) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (10 / 182) .(81/314)
أن يبادرا بالصلاة وما يلزم لها من حين الذكر والاستيقاظ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك (1) » . ومعلوم أنه لا صلاة إلا بطهور؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة بغير طهور (2) » ، ومن وجد الماء فطهوره الماء، فإن عدمه صلى بالتيمم؛ لقول الله – عز وجل - {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (3) .
والواجب عليك أن تهتم بصلاتك، وأن تعنى بها غاية العناية بوضع منبه عند رأسك، أو تكليف من يوقظك من أهلك عند دخول الوقت؛ حتى تؤدي ما أوجب الله عليك من الصلاة مع إخوانك المسلمين في بيوت الله – عز وجل –، وحتى تسلم من مشابهة المنافقين الذين يتأخرون عن الصلاة، ولا يأتونها إلا كسالى؛ أعاذنا الله وإياك وسائر المسلمين من صفاتهم وأخلاقهم، والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها ولا يعيد إلا تلك الصلاة برقم (597) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، برقم (684) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم (224) .
(3) سورة المائدة الآية 6(81/315)
المبحث الرابع عشر: الحرص على جمع الكلمة ووحدة الصف:
كان سماحة العلامة ابن باز – رحمه الله – يحرص كل الحرص في فتاويه على جمع كلمة المسلمين فلا تجد في فتاويه ما يترتب عليها الفرقة بين المسلمين.
جاء في فتاويه ما يلي:
(أ) كل إنسان يقيم في بلد يلزمه الصيام مع أهلها (1) :
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد وصل إلي كتابكم الكريم وصلكم الله بهداه أما ما أشرتم إليه من أن بعض الموظفين في السفارة السعودية في باكستان صام مع المملكة، والبعض منهم صام مع أهل البلد بباكستان بعد المملكة بثلاث أيام، وسؤالكم عن الحكم في ذلك فقد فهمته.
والجواب: الظاهر من الأدلة الشرعية، هو أن كل إنسان يقيم في بلد يلزمه الصوم مع أهلها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصوم يوم تصومون، والإفطار يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون (2) » ولما علم من الشريعة من الأمر بالاجتماع والتحذير من الفرقة والاختلاف، ولأن المطالع تختلف باتفاق أهل المعرفة كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -
__________
(1) «مجموع فتاوى سامحة الشيخ ابن باز» جمع د/ الطيار (4 / 70) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الصوم ذباب ما جاء الصوم يوم تصومون، برقم (697) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.(81/316)
رحمه الله – وبناء على ذلك: فالذي صام من موظفي السفارة في الباكستان مع الباكستانيين أقرب إلى إصابة الحق ممن صام مع السعودية، لتباعد ما بين البلدين، ولاختلاف المطالع فيهما، ولا شك أن صوم المسلمين جميعا برؤية الهلال أو إكمال العدة في أي بلد من بلادهم هو الموافق لظاهر الأدلة الشرعية، ولكن إذا لم يتيسر ذلك فالأقرب هو ما ذكرنا آنفا، والله – سبحانه – ولي التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(ب) وسئل حول الخلاف بين الدعاة العاملين في حقل الدعوة (1) :
فأجاب – رحمه الله -: الذي أوصي به جميع إخواني من أهل العلم والدعوة إلى الله – عز وجل – هو: تحري الأسلوب الحسن والرفق في الدعوة وفي مسائل الخلاف عند المناظرة والمذاكرة في ذلك وأن لا تحمله الغيرة والحدة على أن يقول ما لا ينبغي أن يقول مما يسبب الفرقة والاختلاف والتباغض والتباعد، بل على الداعي إلى الله والمعلم والمرشد أن يتحرى الأساليب النافعة والرفق في كلمته حتى تقبل كلمته وحتى لا تتباعد القلوب عنه، كما قال الله – عز وجل – لنبيه – صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) ، وقال – سبحانه – لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (3) ، والله يقول – سبحانه:
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (5 / 155) .
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) سورة طه الآية 44(81/317)
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) ، ويقول – سبحانه -: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (2) ، ويقول – صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شأنه (3) » ، ويقول – صلى الله عليه وسلم -: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (4) » .
فعلى الداعي إلى الله والمعلم أن يتحرى الأساليب المفيدة النافعة وأن يحذر الشدة والعنف؛ لأن ذلك قد يفضي إلى رد الحق وإلى شدة الخلاف والفرقة بين الإخوان، والمقصود هو بيان الحق والحرص على قبوله والاستفادة من الدعوة، وليس المقصود إظهار علمك أو إظهار أنك تدعو إلى الله أو أنك تغار لدين الله، فالله يعلم السر وأخفى، وإنما المقصود أن تبلغ دعوة الله وأن ينتفع الناس بكلمتك، فعليك بأسباب قبولها وعليك الحذر من أسباب ردها وعدم قبولها.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة العنكبوت الآية 46
(3) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، برقم (2594) .
(4) أخرجه مسلم بنحوه في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، برقم (2592) .(81/318)
(ج) حول حكم وضع اليمين على الشمال قبل الركوع وبعده (1) :
قال – رحمه الله -: ينبغي أن يعلم أن ما تقدم من البحث من قبض اليمين بالشمال ووضعهما على الصدر أو غيره قبل الركوع وبعده، كل ذلك من قبيل السنن وليس من قبيل الواجبات عند أهل العلم، فلو أن أحدا صلى مرسلا ولم يقبض قبل الركوع أو بعده فصلاته صحيحة وإنما ترك الأفضل في الصلاة. فلا ينبغي لأحد من المسلمين أن يتخذ من الخلاف في هذه المسألة وأشباهها وسيلة إلى النزاع والتهاجر والفرقة، فإن ذلك لا يجوز للمسلمين، حتى ولو قيل: إن القبض واجب، كما اختاره الشوكاني (2) ، بل الواجب على الجميع بذل الجهود في التعاون على البر والتقوى وإيضاح الحق بدليله، والحرص على صفاء القلوب وسلامتها من الغل والحقد من بعضهم على بعض.
__________
(1) مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز جمع د الطيار وأحمد الباز (4 / 222، 231) .
(2) ينظر: «نيل الأوطار» (2 / 202) .(81/319)
كما أن الواجب الحذر من أسباب الفرقة والتهاجر؛ لأن الله – سبحانه – أوجب على المسلمين أن يعتصموا بحبله جميعا، وأن لا يتفرقوا، كما قال – سبحانه -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ... أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم (2) » .
وقد بلغني عن كثير من إخواني المسلمين في إفريقيا وغيرها أنه يقع بينهم شحناء كثيرة وتهاجر بسبب مسألة القبض والإرسال، ولا شك أن ذلك منكر لا يجوز وقوعه منهم؛ بل الواجب على الجميع التناصح والتفاهم في معرفة الحق بدليله، مع بقاء المحبة والصفاء والأخوة الإيمانية، فقد كان أصحاب الرسول – صلى الله عليه وسلم – رضي الله عنهم – والعلماء بعدهم – رحمهم الله – يختلفون في المسائل الفرعية، ولا يوجب ذلك بينهم فرقة ولا تهاجرا؛ لأن هدف كل واحد منهم هو معرفة الحق بدليله، فمتى ظهر لهم اجتمعوا عليه، ومتى خفي على بعضهم لم يضلل أخاه، ولم يوجب له ذلك هجره ومقاطعته وعدم الصلاة خلفه.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) جزء من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا.» ، أخرجه أحمد (2 / 367) ، برقم (8785) ، ومسلم بنحوه في كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة.. برقم (1715) .(81/320)
فعلينا جميعا – معشر المسلمين – أن نتقي الله سبحانه، وأن نسير على طريقة السلف الصالح قبلنا في التمسك بالحق والدعوة إليه والتناصح فيما بيننا، والحرص على معرفة الحق بدليله، مع بقاء المحبة والأخوة الإيمانية، وعدم التقاطه والتهاجر من أجل مسألة فرعية قد يخفى فيها الدليل على بعضنا فيحمله اجتهاده على مخالفة أخيه في الحكم.
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يزيدنا وسائر المسلمين هداية وتوفيقا، وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه، والثبات عليه ونصرته والدعوة إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه وعظم سنته إلى يوم الدين.(81/321)
المبحث الخامس عشر: الدقة والإلمام بحيثيات المسألة والتفصيل لها.
كان سماحة الشيخ – رحمه الله – يتحرى ألفاظ الفتيا؛ لئلا تفهم على وجه خطأ، وكان – رحمه الله – يذكر الأمور الشرعية التي لم يتطرق إليها المستفتي في سؤاله حتى يكون المستفتي على إلمام بحيثيات المسألة.
(أ) سئل عن مصافحة النصراني أو اليهودي هل تبطل الوضوء؟ (1)
فأجاب – رحمه الله -: إذا صافح المسلم النصراني، أو اليهودي، أو غيرهما من الكفرة فالوضوء لا يبطل بذلك، لكنه ليس له أن يصافحهم، وليس له أن يبدأهم بالسلام؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (10 / 154) .(81/321)
«لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام (1) » ، والمصافحة أشد من البدء بالسلام، فلا يبدؤهم ولا يصافحهم إلا إذا بدؤوه هم بالسلام فصافحوه، فلا بأس بالمقابلة؛ لأنه لم يبدأهم، وإنما هم الذين بدءوا.
أما دعوتهم للوليمة وتناول الطعام فهذا فيه تفصيل:
فإن كان دعاهم لأجل الترغيب في الإسلام ونصيحتهم وتوجيههم للإسلام فهذا لا بأس به، وهكذا إن كانوا ضيوفا، أما أن يدعوهم إلى الطعام من أجل الصداقة والمؤانسة فلا ينبغي له ذلك؛ لأن بيننا وبينهم عداوة وبغضاء، كما قال – تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (2) .
(ب) وسئل عمن لم يجد وسيلة لتسخين الماء لبرودة الجو فتمسح دون غسل الرجلين (3) :
فأجاب – رحمه الله:
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم، برقم (2167) .
(2) سورة الممتحنة الآية 4
(3) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (10 / 199) .(81/322)
هذا فيه تفصيل: إن كنت تستطيع أن تجد ماء دافئا أو تستطيع تسخين البارد، أو الشراء من جيرانك، فالواجب عليك أن تعمل ذلك لأن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) .
فعليك أن تعمل ما تستطيع من الشراء أو التسخين أو غيرهما من الطرق التي تمكنك من الوضوء الشرعي بالماء، فإن عجزت وكان البرد شديدا، وفيه خطر عليك، ولا حيلة لك بتسخينه ولا شراء شيء من الماء الساخن ممن حولك فأنت معذور، ويكفيك التيمم؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) ، وقوله سبحانه: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (3) . والعاجز عن استعمال الماء حكمه حكم من لم يجد الماء.
(ج) وسئل عمن يخرج منها قبل الدورة الشهرية مادة بنية اللون وتستمر خمسة أيام، هل تصوم وتصلي أثناءها؟ (4)
فأجاب – رحمه الله -: إذا كانت الأيام الخمسة البنية منفصلة عن الدم فليست من الحيض، وعليك أن تصلي فيها وتصومي وتتوضئي لكل صلاة؛ لأنها في حكم البول، وليس لها حكم الحيض، فهي لا تمنع الصلاة ولا الصيام، ولكنها توجب الوضوء كل وقت حتى تنقطع كدم الاستحاضة.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) سورة التغابن الآية 16
(3) سورة المائدة الآية 6
(4) المصدر السابق (10 / 207) .(81/323)
أما إذا كانت هذه الخمسة متصلة بالحيض فهي من جملة الحيض، وتحتسب من العادة، وعليك ألا تصلي فيها ولا تصومي.
وهكذا لو جاءت هذه الكدرة أو الصفرة بعد الطهر من الحيض فإنها لا تعتبر حيضا، بل حكمها حكم الاستحاضة، وعليك أن تستنجي منها كل وقت، وتتوضئي وتصلي وتصومي، ولا تحتسب حيضا، وتحلين لزوجك؛ لقول أم عطية – رضي الله عنها -: «كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئا (1) » أخرجه البخاري في صحيحه، وأبو داود وهذا لفظه، وأم عطية من الصحابيات الفاضلات اللاتي روين عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أحاديث كثيرة – رضي الله عنها والله ولي التوفيق.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الحيض، باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض، برقم (326) ، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب في المرأة ترى الكدرة والصفرة بعد الطهر، برقم (307) ، وهذا لفظه.(81/324)
المبحث السادس عشر: الوضوح والبعد عن الإغراق في الاختلافات:
تتسم فتاوى سماحة الشيخ بالوضوح فلا تجد فيها ألفاظا مجملة، تجعل السائل يقع في حيرة من فهمها، فكثيرا ما كان يكتفي في فتاويه بالحكم(81/324)
وذكر الدليل، وعدم ذكر الخلاف في المسألة التي لا يكون وراءها طائل أو فائدة بالنسبة للمستفتي، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
(أ) سئل عن جواز أن يبول الإنسان واقفا (1) :
فأجاب – رحمه الله -: لا حرج في البول قائما، ولا سيما عند الحاجة إليه؛ إذا كان المكان مستورا لا يرى فيه أحد عورة البائل، ولا يناله شيء من رشاش البول؛ لما ثبت عن حذيفة – رضي الله عنه -: «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أتى سباطة قوم فبال قائما (2) » .
ولكن الأفضل: البول عن جلوس؛ لأن هذا هو الغالب من فعل النبي – صلى الله عليه وسلم –، ولأنه أستر للعورة، وأبعد عن الإصابة بشيء من رشاش البول.
(ب) وسئل عن حكم الوضوء من أكل لحم الإبل (3) :
فأجاب – رحمه الله -: الصواب قول من قال: إن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء؛ لأنه ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «توضؤوا من لحم الإبل، ولا توضؤوا من لحوم الغنم (4) » ، وسئل
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (10 / 35) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب البول قائما وقاعدا، برقم (224) ، ومسلم في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، برقم (273) .
(3) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (10 / 156) .
(4) أخرجه أحمد في المسند (4 / 351) من حديث أسيد بن حضير – رضي الله عنه –، برقم (19306) ، وأبو داود بنحوه في كتاب الطهارة، باب الوضوء من لحوم الإبل، برقم (184) من حديث البراء بن عازب – رضي الله عنه.(81/325)
- عليه الصلاة والسلام -: «أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، ثم سئل: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم (1) » .
(ج) وسئل عن طريقة التيمم الصحيحة (2) :
فأجاب – رحمه الله -: التيمم الصحيح مثل ما قال الله – عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (3) ، المشروع: ضربة واحدة للوجه والكفين.
وصفة ذلك: أنه يضرب التراب بيديه ضربة واحدة ثم يمسح بهما وجهه وكفيه، كما في الصحيحين، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لعمار بن ياسر – رضي الله عنهما -: «إنما يكفيك أن تقول بيديك: هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض، ومسح بهما وجهه وكفيه (4) » .
ويشترط أن يكون التراب طاهرا، ولا يشرع مسح الذراعين، بل يكفي مسح الوجه والكفين؛ للحديث المذكور.
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل، برقم (360) من حديث جابر بن سمرة – رضي الله عنه -.
(2) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (10 / 189) .
(3) سورة المائدة الآية 6
(4) أخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب التيمم ضربة، برقم (347) ، ومسلم في كتاب الحيض، باب التيمم، برقم (368) واللفظ له.(81/326)
ويقوم التيمم مقام الماء في رفع الحدث على الصحيح، فإذا تيمم صلى بهذا التيمم النافلة والفريضة الحاضرة والمستقبلية، ما دام على طهارة حتى يحدث، أو يجد الماء إن كان عادما له، أو حتى يستطيع استعماله إذا كان عاجزا عن استعماله، فالتيمم طهور يقوم مقام الماء كما سماه النبي – صلى الله عليه وسلم – طهورا.(81/327)
المبحث السابع عشر: الورع والتوقف والأخذ بالأحوط في المشتبهات:
كان سماحة الشيخ ابن باز – رحمه الله – لديه ورع في الفتوى فهو لا يفتي إلا بدليل من الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس، أو أقوال الصحابة.
لذا كان – رحمه الله – كثيرا ما يقول للسائل: سأبحث وراجعني غدا، كما كان يروى عن عمر بن الخطاب: لا أدري نصف العلم.
ولهذا الورع نجد أنه كان يفتي في كثير من المسائل بالأحوط.
وأحيانا كان يتوقف في المسألة وإليك الأمثلة:
(أ) سئل سماحته عن حكم لبس الجورب بالرجل اليمنى قبل غسل الرجل اليسرى (1) :
فأجاب – رحمه الله -: الأولى والأحوط: ألا يلبس المتوضئ الشراب
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (10 / 116) .(81/327)
حتى يغسل رجله اليسرى؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إذا توضأ أحدكم فلبس خفيه فليمسح عليهما، وليصل فيهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة (1) » أخرجه الدارقطني، والحاكم وصححه من حديث – أنس رضي الله عنه – ولحديث أبي بكرة الثقفي – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم: «أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما (2) » أخرجه الدارقطني، وصححه ابن خزيمة.
__________
(1) أخرجه الدارقطني في سننه (1 / 204) في كتاب الطهارة، باب ما في المسح على الخفين من غير توقيت (ح2) ، والحاكم في مستدركه (1 / 181) كتاب الطهارة.
(2) أخرجه الدارقطني في سننه (1 / 204) في كتاب الطهارة، باب ما في المسح على الخفين من غير توقيت، الحديث الثالث. وينظر: «صحيح ابن خزيمة» (1 / 96) .(81/328)
ولما في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه – أنه رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – يتوضأ فأراد أن ينزع خفيه، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم: «دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين (1) » .
وظاهر هذه الأحاديث الثلاثة وما جاء في معناها أنه لا يجوز للمسلم أن يمسح على الخفين إلا إذا كان قد لبسهما بعد كمال الطهارة، والذي أدخل الخف أو الشراب برجله اليمنى قبل غسل اليسرى لم تكمل طهارته، وذهب بعض أهل العلم إلى جواز المسح، ولو كان الماسح قد أدخل رجله اليمنى في الخف أو الشراب قبل غسل اليسرى؛ لأن كل واحدة منهما إنما أدخلت بعد غسلها.
والأحوط: الأول، وهو الأظهر في الدليل، ومن فعل ذلك فينبغي له أن ينزع الخف أو الشراب من رجله اليمنى قبل المسح، ثم يعيد إدخالها فيه بعد غسل اليسرى، حتى يخرج من الخلاف ويحتاط لدينه.
(ب) وسئل سماحته عن حكم طهارة الماء دون القلتين إذا خالطته نجاسة (2) :
فأجاب – رحمه الله -: منهم من رأى (3) : أن الماء إذا كان دون القلتين، وأصابته نجاسة فإنه ينجس بذلك، وإن لم يتغير لونه أو طعمه أو
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان، برقم (206) ، ومسلم في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين، برقم (274) .
(2) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (10 / 15) .
(3) ينظر: «المجموع شرح المهذب» (1/ 110) ، و «كشاف القناع» (1 / 39) ، و «المغني» (1 / 21) .(81/329)
ريحه؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (1) » ، وفي لفظ: «لم ينجس (2) » .
قالوا: فمفهوم هذا الحديث أن ما دون القلتين ينجس بما يقع فيه من النجاسة، وإن لم يتغير.
وقال آخرون من أهل العلم (3) : (دلالة المفهوم ضعيفة) .
والصواب: أن ما دون القلتين لا ينجس إلا بالتغير، كالذي بلغ القلتين؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء (4) » . وإنما ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – القلتين؛ ليدل على أن ما دونهما يحتاج إلى تثبت ونظر وعناية؛ لا أنه ينجس مطلقا؛ لحديث أبي سعيد المذكور.
__________
(1) الترمذي الطهارة (67) ، ابن ماجه الطهارة وسننها (517) ، الدارمي الطهارة (731) .
(2) أخرجه أحمد في المسند برقم (4605، 4803، 4961) ، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب ما ينجس الماء، برقم (63) ، والترمذي في كتاب الطهارة، باب أن الماء لا ينجسه شيء، برقم (67) ، والنسائي في كتاب المياه، باب التوقيت في الماء، برقم (328) ، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب مقدار الماء الذي لا ينجس، برقم (517) .
(3) ينظر: «حاشية الدسوقي» (1 / 32) ، و «المجموع» (1 / 110) ، و «المغني» (1 / 21) .
(4) أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (11136، 11277، 11840) ، وأبو داود في كتاب الطهارة باب ما جاء في بئر بضاعة، برقم (67) ، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، برقم (66) ، والنسائي في كتاب المياه، باب ذكر بئر بضاعة، برقم (326) .(81/330)
ويستفاد من ذلك: أن الماء القليل جدا يتأثر بالنجاسة غالبا، فينبغي إراقته، والتحرز منه، ولهذا ثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرات (1) » .
وما ذاك إلا لأن الأواني التي يستعملها الناس تكون في الغالب صغيرة، تتأثر بولوغ الكلب، وبالنجاسات وإن قلت، فوجب أن يراق ما بها إذا وقعت فيه نجاسة؛ أخذا بالحيطة، ودرءا للشبهة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه (3) » .
(ج) وسئل عن حكم الصلاة في حجر إسماعيل وهل له مزية؟ (4)
فأجاب – رحمه الله -: الصلاة في حجر إسماعيل مستحبة لأنه من البيت وقد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أنه دخل الكعبة عام الفتح وصلى فيها ركعتين (5) » من حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا، برقم (172) ، ومسلم في كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، برقم (279) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه.
(2) سبق تخريجه.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، برقم (52) ، ومسلم في كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، برقم (1599) .
(4) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (11 / 432) .
(5) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب قول الله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) [البقرة: 125] برقم (397) ، ومسلم في كتاب الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره والصلاة فيها والدعاء في نواحيها كلها، برقم (1329) .(81/331)
عن بلال – رضي الله عنه. وقد ثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه قال لعائشة – رضي الله عنها – لما أرادت دخول الكعبة: «صلي في الحجر فإنه من البيت (1) » .
أما الفريضة فالأحوط عدم أدائها في الكعبة أو في الحجر.
لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يفعل ذلك ولأن بعض أهل العلم قالوا: إنها لا تصح في الكعبة ولا في الحجر لأنه من البيت.
وبذلك يعلم أن المشروع أداء الفريضة خارج الكعبة وخارج الحجر تأسيا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وخروجا من خلاف العلماء القائلين بعدم صحتها في الكعبة ولا في الحجر.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (6 / 92) برقم (25123) ، وأبو داود في المناسك، باب الصلاة في الحجر، برقم (2028) ، والترمذي في الحج، باب ما جاء في الصلاة في الحجر، برقم (876) .(81/332)
المبحث الثامن عشر: الثبات في الفتوى عند وضوح الدليل والرد على المخالف:
كان سماحة الشيخ – رحمه الله – شجاعا في الحق جريئا في الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، فلا يتنازل عن فتاواه عند وضوح الدليل له، حتى لو خالف أهل عصره، وإليك بعض الأمثلة:
• أفتى – رحمه الله – بجواز المهادنة بين المسلمين واليهود في فلسطين، حتى يتقوى المسلمون وتحقن دماء أهل فلسطين (1) .
__________
(1) «الإنجاز في ترجمة الإمام ابن باز» (ص373 - 375) .(81/332)
• كما أفتى – رحمه الله – بجواز القتال ضد أهل العراق عند غزوها للكويت، وجواز الاستعانة بالقوات الكافرة، لردع القوة الغاشمة (1) .
وقد خالفه بعض أهل العلم في تلك الفتاوى إلا أن هذا لم يثنه عن الأخذ بما أداه إليه اجتهاده، بل أخذ يوضح ويبين الأدلة التي استند إليها.
• ففي إيضاح وتعقيب على مقال للدكتور يوسف القرضاوي حول الصلح مع اليهود، قال سماحته ما يلي:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا إيضاح وتعقيب على مقال فضيلة الشيخ: يوسف القرضاوي المنشور في مجلة (المجتمع) العدد (1133) الصادرة يوم 9 شعبان 1415هـ الموافق 10 / 1 / 1995م، حول الصلح مع اليهود، وما صدر مني في ذلك المقال المنشور في صحيفة (المسلمون) الصادرة في يوم 21 رجب 1415هـ جوابا لأسئلة موجهة إلي من بعض أبناء فلسطين.
__________
(1) «مجموع فتاوى سماحة الشيخ» جمع د/ الطيار والشيخ أحمد الباز (3 / 1056، 1057) .(81/333)
وقد أوضحت أنه لا مانع من الصلح معهم إذا اقتضت المصلحة ذلك، ليأمن الفلسطينيون في بلادهم، ويتمكنوا من إقامة دينهم.
وقد رأى فضيلة الشيخ يوسف أن ما قلته في ذلك مخالف للصواب؛ لأن اليهود غاصبون فلا يجوز الصلح معهم.. إلى آخر ما ذكره فضيلته. وإنني أشكر فضيلته على اهتمامه بهذا الموضوع ورغبته في إيضاح الحق الذي يعتقده. ولا شك أن الأمر في هذا الموضوع وأشباهه هو كما قال فضيلته: يرجع فيه للدليل، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. وهذا هو الحق في جميع مسائل الخلاف؛ لقول الله – عز وجل -: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) ، وقال – سبحانه -: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) ، وهذه قاعدة مجمع عليها بين أهل السنة والجماعة. ولكن ما ذكرناه في الصلح مع اليهود قد أوضحنا أدلته، وأجبنا عن أسئلة وردت إلينا في ذلك من بعض الطلبة بكلية الشريعة في جامعة الكويت، وقد نشرت هذه الأجوبة في صحيفة (المسلمون) الصادرة في يوم الجمعة 19 / 8 / 1415هـ الموافق 20 / 1 / 1995م، وفيها إيضاح لبعض ما أشكل على بعض
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10(81/334)
الإخوان في ذلك. ونقول للشيخ يوسف – وفقه الله وغيره – من أهل العلم: إن قريشا قد أخذت أموال المهاجرين ودورهم، كما قال الله – سبحانه – في سورة الحشر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (1) ، ومع ذلك صالح النبي – صلى الله عليه وسلم – قريشا يوم الحديبية سنة ست من الهجرة، ولم يمنع هذا الصلح ما فعلته قريش من ظلم المهاجرين في دورهم وأموالهم؛ مراعاة للمصلحة العامة التي رآها النبي – صلى الله عليه وسلم – لجميع المسلمين من المهاجرين وغيرهم، ولمن يرغب الدخول في الإسلام.
ونقول أيضا جوابا لفضيلة الشيخ يوسف عن المثال الذي مثل به في مقاله وهو: لو أن إنسانا غصب دار إنسان وأخرجه إلى العراء ثم صالحه على بعضها. أجاب الشيخ يوسف: أن هذا الصلح لا يصح. وهذا غريب جدا، بل هو خطأ محض، ولا شك أن المظلوم إذا رضي ببعض حقه، واصطلح مع الظالم في ذلك فلا حرج؛ لعجزه عن أخذ حقه كله، وما لا يدرك كله لا يترك كله، وقد قال الله – عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) ، وقال سبحانه: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (3) ، ولا شك أن رضا
__________
(1) سورة الحشر الآية 8
(2) سورة التغابن الآية 16
(3) سورة النساء الآية 128(81/335)
المظلوم بحجرة من داره أو حجرتين أو أكثر يسكن فيها هو وأهله خير من بقائه في العراء. أما قوله – عز وجل -: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} (1) ، فهذه الآية فيما إذا مكان المظلوم أقوى من الظالم وأقدر على اخذ حقه، فإنه لا يجوز له الضعف، والدعوة إلى السلم، وهو أعلى من الظالم وأقدر على أخذ حقه، أما إذا كان ليس هو الأعلى في القوة الحسية فلا بأس أن يدعو إلى السلم، كما صرح بذلك الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره هذه الآية (2) ، وقد دعا النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى السلم يوم الحديبية؛ لما رأى أن ذلك هو الأصلح للمسلمين والأنفع لهم، وأنه أولى من القتال، وهو عليه الصلاة والسلام – القدوة الحسنة في كل ما يأتي ويذر؛ لقول الله – عز وجل -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (3) الآية.
ولما نقضوا العهد وقدر على مقاتلتهم يوم الفتح غزاهم في عقر دارهم، وفتح الله عليه البلاد، ومكنه من رقاب أهلها حتى عفا عنهم، وتم له الفتح والنصر ولله الحمد والمنة.
فأرجو من فضيلة الشيخ يوسف وغيره من إخواني أهل العلم إعادة النظر في هذا الأمر بناء على الأدلة الشرعية، لا على العاطفة والاستحسان،
__________
(1) سورة محمد الآية 35
(2) ينظر: «تفسير ابن كثير» (7 / 209) .
(3) سورة الممتحنة الآية 6(81/336)
مع الاطلاع على ما كتبته أخيرا من الأجوبة الصادرة في صحيفة (المسلمون) في 19 / 8 / 1415هـ، الموافق 20 / 1 / 1995م، وقد أوضحت فيها: أن الواجب جهاد المشركين من اليهود وغيرهم مع القدرة حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية، إن كانوا من أهلها، كما دلت على ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وعند العجز عن ذلك لا حرج في الصلح على وجه ينفع المسلمين ولا يضرهم؛ تأسيا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – في حربه وصلحه، وتمسكا بالأدلة الشرعية العامة والخاصة، ووقوفا عندها، فهذا هو طريق النجاة وطريق السعادة والسلامة في الدنيا والآخرة.
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين – قادة وشعوبا – لكل ما فيه رضاه، وأن يمنحهم الفقه في دينه، والاستقامة عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح قادة المسلمين ويوفقهم للحكم بشريعته والتحاكم إليها، والحذر مما يخالفها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه، وأتباعه بإحسان.(81/337)
المبحث التاسع عشر: الأدب مع العلماء المخالفين وإحسان الظن بهم:
وكان سماحة الشيخ – رحمه الله – يرد على المخالف خلافا سائغا بأسلوب رفيع وبعبارات تنم عن عظيم خلق، ولا يأتي بأي عبارة فيها تعنيف أو تشنيع، وإنما كان يذكر القول الذي يرى رجحانه ويضعف أدلة القول الآخر.(81/337)
وإليك – إضافة لما سبق في تعقيبه على مقال د يوسف القرضاوي – مثالا آخر على ذلك:
ففي رده على الشيخ الألباني في حكم قبض اليدين بعد الرفع من الركوع (1) :
قال سماحته: فإن قيل: قد ذكر الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني في حاشية كتابه (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم) ص145 من الطبعة السادسة ما نصه: (ولست أشك أن وضع اليدين على الصدر في هذا القيام) (يعني بذلك القيام بعد الركوع) بدعة ضلالة؛ لأنه لم يرد مطلقا في شيء من أحاديث الصلاة وما أكثرها، ولو كان له أصل لنقل إلينا ولو عن طريق واحد، ويؤيده أن أحدا من السلف لم يفعله، ولا ذكره أحد من أئمة الحديث فيما أعلم) انتهى.
والجواب عن ذلك أن يقال: قد ذكر أخونا العلامة الشيخ ناصر الدين في حاشية كتابه المذكور ما ذكر، والجواب عنه من وجوه:
الأول: أن جزمه بأن وضع اليمنى على اليسرى في القيام بعد الركوع بدعة ضلالة، خطأ ظاهر، لم يسبقه إليه أحد فيما نعلم من أهل العلم، وهو مخالف للأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها، ولست أشك في علمه وفضله وسعة اطلاعه وعنايته بالسنة، زاده الله علما وتوفيقا، ولكنه قد غلط في هذه المسألة غلطا بينا، وكل عالم يؤخذ من قوله ويترك كما قال الإمام مالك بن أنس – رحمه الله -: (ما منا إلا راد ومردود
__________
(1) «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (11 / 137) .(81/338)
عليه إلا صاحب القبر) يعني النبي – صلى الله عليه وسلم –، وهكذا قال أهل العلم قبله وبعده، وليس ذلك يغض من أقدارهم ولا يحط من منازلهم؛ بل هم في ذلك بين أجر وأجرين، كما صحت بذلك السنة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في حكم المجتهد: «إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر (1) » .
الوجه الثاني: أن من تأمل الأحاديث السالفة حديث سهل.
وحديث وائل بن حجر (2) وغيرهما، اتضح له دلالتهما على شرعية وضع اليمنى على اليسرى في حال القيام في الصلاة قبل الركوع وبعده؛ لأنه لم يذكر فيها تفصيل، والأصل عدمه.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب وضع يده اليمنى على اليسرى، برقم (401) .(81/339)
ولأن في حديث سهل الأمر بوضع اليمنى على ذراع اليسرى في الصلاة ولم يبين محله من الصلاة، فإذا تأملنا ما ورد في ذلك اتضح لنا أن السنة في الصلاة وضع اليدين في حال الركوع على الركبتين، وفي حال السجود على الأرض، وفي حال الجلوس على الفخذين والركبتين، فلم يبق إلا حال القيام، فعلم أنها المرادة في حديث سهل، وهذا واضح جدا.
أما حديث وائل ففيه التصريح من وائل – رضي الله عنه – بأنه رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – يقبض بيمينه على شماله إذا كان قائما في الصلاة، خرجه النسائي (1) بإسناد صحيح، وهذا اللفظ من وائل يشمل القيامين بلا شك، ومن فرق بينهما فعليه الدليل، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في أول المقال.
الوجه الثالث: أن العلماء ذكروا أن من الحكمة في وضع اليمين على الشمال أنه أقرب إلى الخشوع والتذلل، وأبعد عن العبث، كما سبق في كلام الحافظ ابن حجر، وهذا المعنى مطلوب للمصلي قبل الركوع وبعده، فلا يجوز أن يفرق بين الحالين إلا بنص ثابت يجب المصير عليه.
أما قول أخينا العلامة: (أنه لم يرد مطلقا في شيء من أحاديث الصلاة، وما أكثرها، ولو كان له أصل لنقل إلينا ولو عن طريق واحد) ، فجوابه أن يقال: ليس الأمر كذلك، بل ورد ما يدل عليه من حديث سهل ووائل وغيرهما كما تقدم، وعلى من أخرج القيام بعد الركوع من مدلولها الدليل الصحيح المبين لذلك.
__________
(1) كتاب الافتتاح، باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة، برقم (887) .(81/340)
وأما قوله – وفقه الله -: (ويؤيده أن أحدا من السلف لم يفعله ولا ذكره أحد من أئمة الحديث فيما أعلم) ، فجوابه أن يقال: هذا غريب جدا، وما الذي يدلنا على أن أحدا من السلف لم يفعله؟ بل الصواب أن ذلك دليل على أنهم كانوا يقبضون في حال القيام بعد الركوع، ولو فعلوا خلاف ذلك لنقل؛ لأن الأحاديث السالفة تدل على شرعية القبض حال القيام في الصلاة، سواء كان قبل الركوع أو بعده، وهو مقتضى ترجمة الإمام البخاري – رحمه الله – التي ذكرناها في أول هذا المقال، كما أن ذلك هو مقتضى كلام الحافظ ابن حجر عليها (1) ، ولو أن أحدا من السلف فعل خلاف ذلك لنقل إلينا، وأكبر من ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم ينقل عنه أن أرسل يديه حال قيامه من الركوع ولو فعل ذلك لنقل إلينا كما نقل الصحابة – رضي الله عنهم – ما هو دون ذلك من أقواله وأفعاله – عليه الصلاة والسلام –، وسبق في كلام ابن عبد البر (2) - رحمه الله – أنه لم ينقل عن النبي – صلى الله عليه وسلم - خلاف القبض، وأقره الحافظ، ولا نعلم عن غيره خلافه.
فاتضح بما ذكرنا أن ما قاله أخونا فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين في هذه المسألة حجة عليه لا له، عند التأمل والنظر ومراعاة القواعد المتبعة عند أهل العلم، فالله يغفر لنا وله، ويعاملنا جميعا بعفوه، ولعله بعد
__________
(1) ينظر: «فتح الباري» (2 / 224) .
(2) ينظر: المصدر نفسه.(81/341)
اطلاعه على ما ذكرنا في هذه الكلمة يتضح له الحق فيرجع إليه، فإن الحق ضالة المؤمن متى وجدها أخذها، وهو – بحمد الله – ممن ينشد الحق ويسعى إليه ويبذل جهوده الكثيرة في إيضاحه والدعوة إليه.(81/342)
المبحث العشرون: عدم الإنكار على المخالف في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها:
كان من منهج ابن باز – رحمه الله – عدم الإنكار على المخالف في المسائل الاجتهادية، وهي التي لا نص فيها، لأن أمرها واسع، أما المسائل التي عليها أدلة واضحة من الكتاب والسنة والإجماع، فإنه يجب الإنكار فيها، ولا يجوز متابعة المخطئ فيها بحجة أن المسألة خلافية، لا سيما إذا كان مآل الأخذ بالرأي المرجوح يفضي إلى مفسدة فحينئذ يتأكد توضيح الراجح والرد على المخالف.
يقول – رحمه الله -: إلا أن يكون في المسألة الخلافية نص صحيح صريح فإن للحاكم والمفتي أن يقول هذا هو الحكم الشرعي الذي دل عليه النص ويذكره، سواء من القرآن أو من السنة الصحيحة، ولا تكون هذه المسألة من المسائل الاجتهادية وإن كانت خلافية، لأن العالم قد يخفى عليه النص، فيأخذ باجتهاده ويتضح النص لغيره فيأخذ به بخلاف مسائل الاجتهاد؛ وهي التي لا نص فيها من كتاب ولا سنة، وهي التي لا يجوز للعالم أن يقول فيها: إن حكمه فيها هو حكم الله، لكن يقول: هذا حكمي، حسبما ظهر لي من الأدلة الشرعية أو نحو هذه العبارة،(81/342)
ومن هنا يتضح أنه لا يجوز أن يقال: لا إنكار في مسائل الخلاف، لأنه قد يكون فيها ما دليله واضح من الكتاب والسنة الصحيحة، ولكن خفي على بعض العلماء فقال برأيه فيجب على مخالفه الإنكار عليه إذا اتضح له صحته، بخلاف مسائل الاجتهاد وهي التي لا نص فيها فإنه لا إنكار فيها على من خالف الرأيين، أو الآراء حسب اجتهاده وتحريه للحق.
وهكذا ينتهي الحديث عن هذا الأصل، وبانتهائه تنتهي الأصول العشرون الرئيسية في منهج الشيخ – رحمه الله – في الفتوى، وأعترف أنها خطوط عريضة، وملامح خاطفة بحاجة إلى مزيد بسط ودراسة، وإني لأرى أن كل أصل منها بحاجة إلى بحث مستقل يتم من خلاله الاستقراء والاستقصاء، لكن لعلي وفقت – بجهد المقل – لأن أرسم صورة مختصرة عن منهجه – رحمه الله – في الفتوى؛ تكون نبراسا للباحثين وطلاب العلم عامة، والمتخصصين في الفتوى خاصة، فهو – بلا مبالغة – إمام فريد في عصره، بحر محيط في علمه، جدير بإبحار المختصين للحصول على درره ولآلئه، وأصدافه عليه – رحمه الله.(81/343)
الخاتمة
وبعد تلك الرحلة العلمية الممتعة، التي عشنا فيها في رحاب منهج إمام من أئمة المسلمين الأجلاء، وعالم من علماء الدين الفضلاء، هو(81/343)
سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز، يحسن إيراد بعض النتائج التي تم التوصل إليها من خلال البحث في أصول منهجه في الفتوى – رحمه الله تعالى – وهي تشمل نتائج عامة وأخرى خاصة، وأهم التوصيات والمقترحات.
أولا: النتائج العامة:
1- ضرورة إبراز الصور العلمية المشرقة لعلمائنا الأجلاء من خلال مثل هذا النوع من البحوث التي تركز على عرض أصول مناهجهم التي ساروا عليها.
2- أهمية التأصيل والتقعيد لتقريب المنهج الذي سار عليه أئمتنا وعلماؤنا في حياتهم العلمية لا سيما في تخصصاتهم التي اشتهروا بها، فالحديث عن كل عالم والترجمة له لا تكتمل جوانبها إن لم يتم عرض لأهم الأصول التي أدت به إلى ما وصل إليه من نبوغ في ذلك العلم.
3- الحاجة الماسة لإلقاء الضوء على أصول الفتوى والعناية بإيضاح ركائزها وضوابطها الصحيحة التي سار عليها المحققون من العلماء وسلكها شيخنا – رحمه الله.
4- الأهمية البالغة في هذا العصر لبيان المنهج الحق في الفتوى الذي سلكه رحمه الله لا سيما مع كثرة المتطاولين على مقامات الإفتاء من غير المؤهلين وتسارع النوازل والمستجدات والمتغيرات التي تتعلق بالقضايا الكبرى في الأمة.(81/344)
5- مكانة الشيخ العلمية السامية، وإمامته في الدين، ومقامه في الإفتاء، والتي يعجز القلم أن يسطر سوى أهم ملامحها وخطوطها العريضة مما يمثل أنموذجا يحتذى وطرازا فريدا يقتفى.
ثانيا: النتائج الخاصة:
1- التعرف على جوانب سيرة سماحة الشيخ – رحمه الله – المباركة، وأهم صفاته، وأخلاقه، وجهوده في خدمة الإسلام والمسلمين.
2- التركيز على تقديم سماحته رحمه الله أنموذجا فذا في تحقيق مكانة الفتوى وخطورتها والتزامه بشروط المفتي، وأهم الآداب والصفات التي ينبغي توفرها فيه، وقيامه بأحكام الفتوى وعنايته بضوابطها.
3- تحلي الشيخ – رحمه الله – بميزان الاجتهاد، واتباع الدليل، ومجانبته – رحمه الله – للتقليد، مع عنايته بصحة الدليل والاستدلال.
4- سيره – رحمه الله – على منهج السلف والاعتماد على آثارهم، وإبراز معتقدهم والدعوة إليه.
5- اعتماد سماحته – رحمه الله – القواعد الشرعية في التيسير والرفق بالمستفتي ولكن دون تساهل مما يبرز وسطيته – رحمه الله – بين التشديد والتساهل.(81/345)
6- بناؤه الفتوى على القواعد الأصولية، ورعاية مقاصد الشريعة، ومراعاة العلل الشرعية للأحكام.
7- عالمية سماحة الشيخ – رحمه الله – وشمولية فتواه لجميع مناحي الحياة من عقيدة، وعبادة، ومعاملات، وأخلاق، مما يؤكد ارتباطه بحقيقة الإسلام؛ إذ هو دين شامل، ومنهج حياة متكامل.
8- بروز شخصية الشيخ – رحمه الله – العلمية المتميزة بصفته مفتيا يعي الواقع ومتغيراته، والواجب الشرعي في هذا الواقع، مع عرضه المتميز بالدقة والوضوح ومراعاة حال المستفتي، وما يحتاجه، وعدم الإغراق في الاختلافات.
9- استفادته من إخوانه العلماء وأصحاب الخبرة، والتأكيد على أهمية الاجتهاد الجماعي، وضرورته الملحة لا سيما في هذا العصر.
10- جمعه – رحمه الله – بين العلم الجم، والأدب الأتم، وفقهه لأدب الخلاف، مع إنصاف المخالف؛ فلم يمنعه أدبه من إظهار الحق، ولم يدفعه علمه إلى التعالي واحتقار المخالف، وتلك لعمر الحق سمة العلماء العاملين المخلصين.(81/346)
ثالثا: أهم التوصيات والمقترحات:
وفي الختام: إن كان هناك من توصيات ومقترحات في هذا الصدد فإنها تكمن في الحاجة الماسة إلى إيلاء قضية الفتوى الاهتمام البالغ لا سيما في هذا العصر الذي تطاول فيه كثير من الناس على مقام التوقيع عن رب العالمين كما أن الحاجة ملحة في إبراز أصول منهج الشيخ في الإفتاء، وضرورة العناية بالفتوى الجماعية التي تضطلع بها الهيئات العلمية الكبرى والمجامع الفقهية خاصة في النوازل والمستجدات وقضايا المسلمين العامة والتركيز على الدراسات والأبحاث في ذلك من قبل المختصين وطلاب الدراسات العليا، وأهمية نشرها، وربط الناشئة والأجيال العلمية المعاصرة بعلمائهم ومشايخهم ذوي الاعتقاد الصحيح والمنهج السليم، كما أن الحاجة ملحة إلى تكرار الدراسات العلمية حول منهج الشيخ – رحمه الله – في مختلف الفنون لا سيما الإفتاء.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أوصي الجميع بوصية الله تعالى من إقامة الدين وعدم التفرق فيه لا سيما من المنتسبين إلى العلم والفتوى، والأخذ بمنهج الشريعة في ذلك كما هو نهج سماحة الشيخ – رحمه الله - في حرصه على جمع الكلمة ووحدة الصف.
والدعوة موجهة لأهل العلم إلى التعاون لإيجاد المرجعية العلمية الموثوقة التي يلتف حولها المسلمون، ويثوبون إليها عند الخطوب والمدلهمات، ممثلة في المجامع الفقهية العالمية، وما يصدر عنها من اجتهاد جماعي(81/347)
والذي أصبح ضرورة ملحة لا مناص منه لا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه النوازل والمستجدات.
تلك النوازل والمستجدات التي كثيرا ما تتعلق بالدماء والأعراض، مما ينوء بحمل تبعات الفتوى فيها آحاد العلماء والله المستعان.
وقبل أن أضع القلم أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى للشيخ بسابغ الرحمة والرضوان، والفردوس الأعلى في الجنان، وأن يجزيه عن المسلمين وطلاب العلم خير الجزاء وأن يوفق العلماء والمتصدرين للفتوى للسير على منهجه ويوفق الباحثين للاستفادة من علمه، ومنهجه، ونشر الرسائل والأبحاث العلمية في ذلك، وأن يجمعنا به في دار كرامته، وأن يوفقنا لرد شيء من جميله، وفاء لبعض حقه.
إنه – تعالى – جواد كريم، وهو – سبحانه – خير مسؤول وأكرم مأمول.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا.
تم بحمد الله تعالى.(81/348)
إبطال تلبيسات الرفاعي
لفضيلة الشيخ الدكتور: صالح بن فوزان الفوزان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وآله وصحبه:
اطلعت على المقابلة التي أجرتها صحيفة السياسة الكويتية مع الأستاذ: يوسف هاشم الرفاعي ورأيت في أجوبة المذكور مغالطات وضلالات لا يمكن السكوت عنها وإن كان المشايخ جزاهم الله خيرا قد سبقوني إلى الرد على هذه المغالطات والضلالات لكن تأييدا لما قالوه في الرد عليه أشارك في هذه التنبيهات دفاعا عن الحق وردا للباطل فأقول مستعينا بالله:
1-قوله: لماذا يستنكر المشايخ التصوف ولا يستنكرون الملابس غير المحتشمة وانتشار المخدرات – وأقول له:
أولا: التصوف أشد مما ذكرت؛ لأنه بدعة وضلالة وقد يصاحبه شيء من الشرك من دعاء الصالحين والاستغاثة بالأموات فهو مع كونه بدعة(81/349)
فهو وسيلة الشرك بالله، والملابس غير المحتشمة والمخدرات معصية والبدعة أشد من المعصية فيبدأ بالأهم فالمهم.
ثانيا: المشايخ يستنكرون كل معصية وكل بدعة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يسكتون عن الباطل.
2-قوله: عن الاحتفال بالمولد النبوي: أنا احتفلت بالمولد النبوي وأقمت خيمة وميكروفونات وعشاء وغير ذلك، فرحا بنعمة الله علينا ببعثه النبي صلى الله عليه وسلم، وأقول له:
أولا: الكلام ليس في البعثة وإنما هو بالمولد، والله تعالى ما أشاد بالمولد في القرآن الكريم، وإنما أشاد بالبعثة فقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (1) .
ثانيا: الله لمن يشرع لنا الاحتفال بالمولد ولا بالبعثة بمعنى أننا نقيم مخيمات ونعمل ما ذكرته. وإنما شرع لنا اتباع هذا النبي والاقتداء به. وهو صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا الاحتفال ولم يفعله خلفاؤه وصحابته والقرون المفضلة من بعده. فإقامته بدعة (وكل بدعة
__________
(1) سورة آل عمران الآية 164(81/350)
ضلالة) سواء أقمته أنت أو غيرك.
3-قوله: إننا عندما نتكلم عن التصوف وندعو إليه فنحن نقصد تصوف الإمام الرفاعي والجيلاني والدسوقي والشاذلي والنقشبندي ولا نقصد تصوف ابن عربي – ونقول له: التصوف كله مبتدع وإن كان بعضه أخف من بعض والخفيف منه يجر إلى ما هو أشد منه كما هو المشاهد للواقع من متصوفة اليوم. وهكذا البدعة تجر إلى ما هو شر منها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة (1) » والتصوف محدث في الدين فهو ضلالة وشر.
4-قوله: وهل إذا تصوف المسلم السني أصبح مجرما، أقول: نعم من تصوف فقد ابتدع ومن ابتدع كان مجرما. والسني إذا تصوف لم يبق سنيا بل يكون بدعيا.
5-قوله: الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (2) » ليبين للناس أهمية هذه الأماكن ولكنه لم يحرم الذهاب إلى غيرها كما فهمه ابن تيمية.
__________
(1) أبو داود السنة (4607) ، الدارمي المقدمة (95) .
(2) البخاري الجمعة (1132) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1410) ، أحمد (3/45) .(81/351)
جوابه: أنه لا يفهم معنى الحصر في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» فإنه يفيد تحريم السفر إلى غيرها لأجل العبادة فيه. أما السفر لغير العبادة في مكان مخصص معين فهو جائز كالسفر للتجارة وطلب العلم وصلة الأرحام والنزهة فهذه الأسفار وما شابهها ليست للعبادة ولا يجوز الخلط بين هذا وهذا للتلبيس على الناس، وما ذكرناه هو مدلول الحديث لا فهم ابن تيمية كما يقول.
6-قوله: هم يقولون إن الصوفية بدعة فهل كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم سلفي، وبناء على ذلك فالسلفية بدعة. كذا يقول ويغالط.
والجواب: السلف هم السابقون من هذه الأمة، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (1) ، فأثنى الله على من اتبعهم بإحسان ووعده عظيم الأجر، فالسلفية هم من اتبع هؤلاء بإحسان، وأما التصوف فلم
__________
(1) سورة التوبة الآية 100(81/352)
يرد له ذكر في كتاب الله ولا في سنة رسول الله فهو عمل مبتدع «كل بدعة ضلالة (1) » لأنه من إحداث المتأخرين.
7-قال عن كتب ابن باز وغيره من الأئمة إنها كتب فيها تطرف لأن ابن باز يعتبر أن من يحتفل بالمولد فهو مشرك ومن يحتفل بالإسراء والمعراج فهو مشرك ومن يذهب ويزور المسجد النبوي فسفره معصية وابن عثيمين يسير على منهجه.
ثم قال: وهذه الكتب تساعد على التطرف ومن حق الدولة أن تمنعها طالما أننا نحارب التطرف. ألم يقولوا إن الوقوف أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء شرك. قال: ولذلك أنا مع من منع كتب ابن باز وابن عثيمين من معارض الكتب الإسلامية، لأن كل كتاب يتهم المسلمين بالشرك والكفر، فهذا يؤدي إلى تفرقة الناس. كذا يقول فهو يريد جمع الناس ولو على الباطل وهذا لا يمكن.
والجواب أن نقول: سبحان الله ماذا يصنع الهوى بأهله، قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (2) هكذا وصف
__________
(1) مسلم الجمعة (867) ، النسائي صلاة العيدين (1578) ، ابن ماجه المقدمة (45) ، أحمد (3/311) ، الدارمي المقدمة (206) .
(2) سورة ص الآية 26(81/353)
الرفاعي كتب الشيخين: ابن باز وابن عثيمين بل وكتب الأئمة جميعا بالتطرف لأنها تخالف هواه، وإنني أسأله: ما هو التطرف أليس هو أن يكون الإنسان على طرف من الدين فهو ضد الوسطية، فالذي يروج للبدع ويدعو إليها ويفعلها هو المتطرف. وأما الذي يدعو إلى السنن ونبذ البدع فهو المتوسط وكذلك كانت كتب الشيخين ابن باز وابن عثيمين – وإنني أتحدى الرفاعي وغيره أن يثبتوا ما يقولوا عن هذه الكتب فها هي موجودة ومنتشرة وعليها إقبال شديد فعليهم أن يأتونا منها بما يثبت قولهم وإلا فهم كذابون ومفترون، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (1) وإنما قال الشيخان في كتبهما إن إحياء الاحتفال بالمولد والمعراج بدعة؛ لأنه لا دليل عليه وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » فإن اشتمل الاحتفال بالمولد والإسراء
__________
(1) سورة النحل الآية 105
(2) البخاري الصلح (2550) ، مسلم الأقضية (1718) ، أبو داود السنة (4606) ، ابن ماجه المقدمة (14) ، أحمد (6/270) .
(3) مسلم الأقضية (1718) ، أحمد (6/256) .(81/354)
والمعراج على الاستغاثة بالرسول ودعائه من دون الله فهو شرك كذا قال الشيخان وغيرهما من أئمة المسلمين وهذا في القرآن، قال تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) ، {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} (2) ، {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (3) ، ولم يقل الشيخ ابن باز إن من يسافر ليزور المسجد النبوي فسفره سفر معصية، كما قال الرفاعي بل يقول الشيخ: إن السفر لزيارة المسجد النبوي والصلاة فيه طاعة وإنما يقول الشيخ ابن باز وغيره من العلماء المعتبرين من سافر لزيارة القبور فهو عاص ومبتدع؛ لأن ذلك من وسائل الشرك، ولم يقل الشيخ ابن باز ولا غيره إن الوقوف أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم للسلام عليه شرك، كما قال عنه الرفاعي. وإنما يقول الشيخ ابن باز وغيره: إن الوقوف للسلام عليه سنة. وأما الوقوف أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة الجن الآية 20
(3) سورة المؤمنون الآية 117(81/355)
لدعائه من دون الله فهو شرك. والوقوف أمامه لدعاء الله بدعة ووسيلة إلى الشرك. فما بال الرفاعي يخلط ويكذب ويلبس على الناس. ثم قال الرفاعي:
8-قال: أنا مع منع كتب ابن باز وابن عثيمين من معارض الكتب الإسلامية، لأن كل كتاب يتهم المسلمين بالشرك والكفر يؤدي إلى تفرقة الناس. كذا قال، قال الرفاعي: إن ابن باز وابن عثيمين يكفران في كتبهما عموم المسلمين ويتهمانهم بالشرك – وأقول كما قال الشاعر:
لي حيلة فيمن ينم ... وما لي في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقول ... فحيلتي فيه قليلة
وهذه صفة الرفاعي وأمثاله – والحمد لله أما كتب الشيخين فهي موجودة ومتداولة ومسموح لها في كل معرض في الكويت وفي غيره إلا في معارض المبتدعة والخرافيين فمنعها منها كرامة لها ولمؤلفيها من الامتهان في هذه المزابل القذرة.
9-أجاز الرفاعي الطواف بالقبور فقال: ليس كل طواف حول القبر شرك؛ لأنه يجوز يطوف وهو يقرأ كتابا أو يدعو.(81/356)
ولذلك نقول لهم: إن الأعمال بالنيات – ونقول للرفاعي هل تجعل القبور مثل الكعبة يطاف بها فهذا شرع دين لم يأذن الله به والله تعالى يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1) والطواف دين وأنت جعلت القبر كعبة يطاف به كما يطاف بالكعبة ويدعى صاحبه من دون الله أو يدعى الله عنده، وهذا شرك أو بدعة، وإذا بلغ الجهل والهوى بصاحبه هذا المبلغ فلا فائدة من مناقشته ولكننا نبين للناس أخطاءه لئلا يقتدي به أحد أو يغتر به.
10-قال الرفاعي: ونقول: إن هؤلاء يحاولون أن يهدموا كل آثار النبي صلى الله عليه وسلم وهذا تطرف. وعندما رأوا الحجاج يزورون جبل أحد أزالوا مكانا في هذا الجبل جلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم ووضعوا حواجز على غار حراء والله تعالى يقول: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (2) فهذا مقام النبي صلى الله عليه وسلم وتعبده في غار حراء فهل لا
__________
(1) سورة الشورى الآية 21
(2) سورة البقرة الآية 125(81/357)
يجوز أن نزوره مثل مقام سيدنا إبراهيم – والجواب عن ذلك أن نقول:
1- إحياء الآثار والصلاة عندها من سنة أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين نهينا عن التشبه بهم، قال صلى الله عليه وسلم: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (1) » .
2- الرسول صلى الله عليه وسلم صلى في أماكن كثيرة من الأرض في أسفاره فهل كل مكان صلى فيه نذهب إليه للصلاة فيه.
3- قولك: نجعل غار حراء مقاما للنبي صلى الله عليه وسلم نصلي فيه مثل مقام إبراهيم، هذا تشريع دين جديد لم يشرعه الله ورسوله والله لم يقل واتخذوا من غار حراء مصلى كما قال في مقام إبراهيم.
4- النبي صلى الله عليه وسلم لم يذهب إلى غار حراء ليصلي فيه بعد البعثة وإنما كان يذهب إليه قبل البعثة للاختفاء فيه لعبادة ربه خوفا من أذى المشركين واعتزالا لما هم عليه من الوثنية والشرك
__________
(1) مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(81/358)
ولم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم لنا أن نصلي عنده أو فيه والدين توقيفي لا نشرع فيه شيئا من قبل أنفسنا، واستحساناتنا وقياساتنا كما قال الرفاعي.
11- قال الرفاعي عمن يخالفه في آرائه: هؤلاء تلاميذ ابن باز وهم أصحاب تقليد ولم يستعملوا عقولهم لأنهم على نفس القالب وغسلت أدمغتهم – وأقول له: أما كونهم تلاميذ ابن باز فلهم الشرف في ذلك؛ لأن ابن باز رحمه الله إمام من أئمة أهل السنة. وأنت بين لنا من أنت تلميذه من العلماء.
وقولك: لم يستعملوا عقولهم – نقول لك الدين بالدليل من الكتاب والسنة لا بالعقل – وقولك: غسلت أدمغتهم – نقول: نعم غسلت أدمغتهم من الخرافة والحمد لله وطهرت بالسنة وملئت بالإيمان.
12- قال الرفاعي: وطالما أن الرسول صلى الله عليه وسلم دفن في المسجد لأنه بيته لماذا دفن أبو بكر وعمر بجواره – نقول له: لم يدفن الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد. وإنما دفن صلى الله عليه وسلم في بيته وفيما بعد أدخل بيته في المسجد.(81/359)
ولم يدفن في البقيع مع أصحابه خوفا عليه من الغلو به – كما قالت عائشة رضي الله عنها لما ذكرت نهيه صلى الله عليه وسلم عن الغلو والافتتان في قبور الأنبياء والصالحين. قالت: (ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا) ودفن أبو بكر وعمر رضي الله عنهما معه في هذا المكان تكريما لهما لأنهما وزيراه في الحياة وهما أفضل أمته. وهذا بإجماع الصحابة.
13- ذكر الرفاعي مسألة التوسل فقال: هناك متوسل ومتوسل به ومتوسل إليه، وأنا متوسل والرسول صلى الله عليه وسلم متوسل به والمتوسل إليه هو الله: فماذا أشرك هنا كما يقول هؤلاء.
والجواب أن نقول: التوسل في اللغة هو التقرب والله سبحانه وتعالى يتقرب إليه بالأعمال الصالحة فهي الوسيلة الصحيحة. وأما التوسل بالأشخاص فإنه مبتدع؛ لأنه لا دليل عليه من الكتاب والسنة لا بالرسول ولا بغيره. والمتوسل بالأشخاص يكون مشركا إذا دعاهم من دون الله أو ذبح لهم أو نذر لهم(81/360)
أو صرف لهم أي شيء من أنواع العبادة – كما يفعله القبوريون الآن عند القبور أو في أي مكان كما فعل إخوانهم الذين قال الله فيهم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) فسمى ذلك شركا نزه نفسه عنه، ومن التوسل بالأشخاص ما يكون بدعة ووسيلة إلى الشرك وليس هو شركا في نفسه إذا اقتصر فيه المتوسل على جعل المتوسل به واسطة بينه وبين الله في قضاء حاجته دون أن يصرف له شيئا من أنواع العبادة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بدعائه مباشرة دون واسطة بيننا وبينه قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) ولم يقل: ادعوني بواسطة أحد.
14- ثم قال الرفاعي: وأقول: إن أمور الدنيا مثل أمور الآخرة، فأنا
__________
(1) سورة يونس الآية 18
(2) سورة غافر الآية 60(81/361)
عندما أبحث عن وظيفة ولم أجدها وأذهب إلى شخص يعرف مسئول (كذا) ، والصواب: مسئولا في مؤسسة لكي أعمل في هذه المؤسسة فهل أنا أشركت. ولماذا يكون أمر الآخرة خلافا لذلك خصوصا أن الله عز وجل سمى الرسول صلى الله عليه وسلم الشفيع. ومعنى الشفيع أنه يشفع للناس ويوم القيامة. أقول: انظر إلى هذا التلبيس والتضليل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والجواب عن ذلك من وجوه:
الأول: أن أمور الدنيا لا تقاس على أمور الآخرة لما بينهما من التفاوت العظيم الذي يجعل القياس فاسدا – فالشخص في الدنيا يملك إعانتك بالوساطة بينك وبين من تطلبه من الناس. وأما في الآخرة فلا أحد يملك شيئا للآخر، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} (1) ، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} (2) {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} (3) فلا أحد يسأل أحدا.
__________
(1) سورة البقرة الآية 48
(2) سورة عبس الآية 34
(3) سورة عبس الآية 35(81/362)
الثاني: أن الله سبحانه لا يقاس بخلقه فالمخلوق لا يعلم أحوال الناس إلا إذا بلغ عنهم. والله سبحانه يعلم كل شيء من أحوال عباده وهو أرحم بهم.
الثالث: أن المخلوق قد لا يكون في نفسه باعث لقضاء حاجة المحتاج إلا إذا ألح عليه الواسطة – أما الله سبحانه وتعالى فهو يريد قضاء حوائج عباده ويرحمهم بدون واسطة، ولهذا قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) ولم يقل وسطوا بيني وبينكم أحدا لأجيبكم.
الرابع: أن المخلوق يشفع عنده الشافع ويتوسط لديه المتوسط ولو لم يأذن له ولم يرض بوساطته ويضطر لقبول الشفاعة والوساطة لحاجته إلى الشافع والواسطة. أما الله جل وعلا فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ورضاه عن المشفوع فيه. قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (2) وذلك لغناه عن خلقه وعدم حاجته إليهم.
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة النجم الآية 26(81/363)
15- قال الرفاعي: وهؤلاء الجماعة جهلة ويتبعون ابن باز ويقولون عنه إمام من الأئمة – وأقول له: الجماعة الذين وصفتهم بالجهل لا يتبعون ابن باز من باب التعصب له وإنما يتبعونه لأنه متمسك بأدلة الكتاب والسنة وهو إمام وإن أنكرت ذلك، لأن الإمام هو العالم القدوة وابن باز جدير بذلك لسعة علمه وتقواه، ولم يحصل على الإمامة بالهيلمة والتلميع كما عليه أئمة الصوفية.
16- قال الرفاعي: قال العلماء رحمهم الله لا فرق في جواز التوسل بأحباب الله تعالى سواء كانوا في حياتهم الدنيوية أو بعد انتقالهم إلى الحياة البرزخية. فإن أهل البرزخ ومن هم في حضرة الله ومن توجه إليهم توجهوا إليه أي في حصول مطلوبه – والجواب عن ذلك:
أولا: أمور البرزخ من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. وأما أمور الدنيا فإن الناس يعلمونها بحسب مداركهم فبينهما فرق.
ثانيا: هناك فرق بين الحي والميت – فالحي قد يقدر على تحقيق ما يطلب منه. وأما الميت فلا يقدر على شيء وقد انقطع عمله(81/364)
وهو بحاجة إلى الدعاء له – فكيف يدعى ويستغاث به.
ثالثا: ما معنى قولك: (ومن هم في حضرة الله) هل هم مع الله فوق عرشه وفوق سماواته أو هل هم يأخذون عن الله مباشرة كما تقوله الصوفية – فجميع الأموات في قبورهم لا يخرجون منها إلى يوم البعث وليسوا في حضرة الله وإنما هذا تعبير صوفي خاطئ ينزه الله عنه.
رابعا: قولك من توجه إليهم توجهوا إليه أي في حصول طلبه.
نقول: التوجه إنما يكون إلى الله سبحانه لا إلى الأموات والمتوجه إليهم بالدعاء والعبادة مشرك؛ لأنهم لا يقدرون على تحصيل مطلوبه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (1) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (2) .
17- قال الرفاعي في ختام مقابلته الدليل على التوسل بالأموات ما ذكره ابن القيم في زاد المعاد عن أبي سعيد الخدري، قال: قال
__________
(1) سورة فاطر الآية 13
(2) سورة فاطر الآية 14(81/365)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا إليك. فإنني لم أخرج بطرا ولا أشرا ولا ياء ولا سمعة. وإنما خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك (1) » قال الرفاعي: فهذا توسل صريح بكل عبد مؤمن حيا أو ميتا – ثم ذكر الدليل الثاني عنده وهو «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفيت والدة علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: اللهم اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي» قال الرفاعي: ومعنى الأنبياء من قبلي أن ذلك فيه التوسل بالأموات – والجواب عن ذلك من وجوه:
الأول: لم يذكر الرفاعي درجة الحديثين. وقد قال العلماء قبل ابن باز وقبل ابن عثيمين: إن حديث: «أسألك بحق السائلين (2) » في سنده عطية العوفي وهو شيعي وضعيف مدلس، وأيضا ليس معناه التوسل بالأشخاص وإنما معنى (حق السائلين) إجابة دعائهم، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (3)
__________
(1) ابن ماجه المساجد والجماعات (778) ، أحمد (3/21) .
(2) ابن ماجه المساجد والجماعات (778) ، أحمد (3/21) .
(3) سورة غافر الآية 60(81/366)
وإجابة الدعاء صفة من صفات الله فهو يتوسل إليه بصفة من صفاته والتوسل بأسماء الله وصفاته مشروع كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) وأما الحديث الذي ذكره في شأن فاطمة بنت أسد فعليه أن يثبته سندا ومتنا فإن صح فهو من جنس الحديث الذي قبله في المعنى، والله لا يجب عليه حق لأحد. وإنما هو سبحانه يتفضل على عباده فيكرمهم. والأنبياء لا يتوسل إلى الله بأشخاصهم وإنما يتوسل إلى الله باتباعهم {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (2) فتقول: اللهم باتباعي لرسولك فاغفر لي. وأما أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا لها فالدعاء من الحي مطلوب وسائغ.
18- قال الرفاعي: وهم الآن فصلوا الرجال عن النساء في الحج ووضعوا حواجز أمام النساء لكيلا ترى البيت.. إلى أن قال: وهل هؤلاء أغير على الإسلام من الرسول صلى الله عليه
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) سورة آل عمران الآية 53(81/367)
وسلم ومن أبي بكر وعمر بن الخطاب وبقية الخلفاء الراشدين.
ووضعوا الحواجز كذلك في المدينة المنورة. وهم يفعلون الآن أشياء وكأنهم يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مخطئا – انظر كيف عد الرفاعي المحاسن مساوئ لحقده وجهله -.
والجواب: أن الرفاعي إذا كان ينكر فصل النساء عن الرجال فهو يدعو إلى الاختلاط المثير للفتنة كما ينادي بذلك بعض كتاب الصحف. وأيضا هو ينكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم فصل النساء عن الرجال وقد فصلهن وجعل صفوف النساء خلف صفوف الرجال وقال: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها (1) » فجعل للرجال صفوفا وللنساء صفوفا – حتى المرأة الواحدة تقوم وحدها خلف الصف لحديث أنس قال: «صففت أنا ويتيم وراءه (يعني الرسول صلى الله عليه وسلم) والعجوز من ورائنا (2) » . وأمنا وضع الحاجز بين الرجال والنساء في مسجدي مكة والمدينة فلأن ذلك أستر لهن فهو من صالح الرجال والنساء وليس الغرض منه أن لا يرين الكعبة، كما يقول،
__________
(1) مسلم الصلاة (440) ، الترمذي الصلاة (224) ، النسائي الإمامة (820) ، أبو داود الصلاة (678) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1000) ، أحمد (2/485) ، الدارمي الصلاة (1268) .
(2) البخاري الصلاة (373) ، مسلم المساجد ومواضع الصلاة (658) ، الترمذي الصلاة (234) ، النسائي الإمامة (801) ، أبو داود الصلاة (612) ، أحمد (3/131) ، مالك النداء للصلاة (362) ، الدارمي الصلاة (1287) .(81/368)
وهل يجوز النظر إلى الكعبة في الصلاة.
19- قال الرفاعي: وهؤلاء جهلة ويتبعون ابن باز ويقولون عنه: إنه إمام من الأئمة رغم أنه أنكر أن الإنسان وصل للقمر، وقال: إن الأرض ليست كروية – إلى أن قال: ونقول: إن ابن باز كان عابدا وعالما ولكنه في مذهبه كان متشددا ومتعصبا – إلى أن قال: ومع هذا أقول إنه رجل متطرف في آرائه وفي اتهاماته للمسلمين بالشرك والبدعة والضلال – هكذا تناقض في حق الشيخ ابن باز رحمه الله. فتارة يصفه بأنه عالم عابد. ومرة يصفه بأنه متشدد في مذهبه ومتعصب ومتطرف في آرائه وأنه يتهم المسلمين بالشرك والبدعة والضلال وينفي عنه الإمامة في العلم؛ لأنه لا يقول بكروية الأرض وينكر وصول الإنسان إلى القمر. وهل من شرط الإمامة التصديق بهذه النظريات الحديثة.
والجواب عن ذلك أن نقول: أما أن الشيخ متشدد ومتعصب ومتطرف وأنه يتهم المسلمين عموما بالشرك والبدعة والضلال فهذا كله كذب وافتراء وغيبة قبيحة فكل من عرف الشيخ ابن باز يكذب هذه الاتهامات وهي لا تضر إلا من صدرت منه ولا(81/369)
تنقص من قدر الشيخ بل يزيده الله بها رفعة وقد قيل:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم
وأما أن الشيخ يكفر المسلمين ويتهمهم بالبدعة والضلال فهذا من أعظم الكذب – فالشيخ لا يكفر ولا يبدع ولا يضلل إلا بحسب الأدلة الصحيحة وعلى ضوء معتقد أهل السنة والجماعة وكتبه شاهدة بذلك.
وأما أنه لا يقول بكروية الأرض فهذا كذب عليه لم يقله وعلى الرفاعي أن يثبت لنا ذلك من كتب الشيخ فقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية الإجماع على كرويتها، وأما صعود الإنسان إلى القمر فالشيخ له رسالة مطبوعة ذكر فيها إمكان صعود الإنسان إلى الكواكب – وختاما نقول للرفاعي: أمسك لسانك وقلمك عن الوقيعة في أهل العلم فإن ذلك خير لك، واعلم أن الناس لا يصدقونك ولا يزيدك ذلك عندهم وعند الله إلا مقتا.
وعند الله تجتمع الخصوم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(81/370)
بيان في أن اجتماع الأمة
يكون بالتمسك بالكتاب والسنة
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن الله عز وجل قد أمر باجتماع هذه الأمة ونهى عن التنازع، قال الله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (1) ولن يحصل اجتماع الأمة إلا بالتمسك بالكتاب والسنة، ولذا أمر الله بالاعتصام بحبل الله المتين قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (2) وأمتنا الإسلامية وهي تواجه ما يحف بها من مخاطر متنوعة في أمس الحاجة إلى التمسك بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم متوخية في ذلك نهج صحبه الكرام رضي الله عنهم، ولقد وجهنا الله سبحانه وتعالى إلى هذا المنهج القويم في كتابه الكريم حيث قال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (3) . فاجتماع الأمة ووحدتها وعزها في التزام
__________
(1) سورة الأنفال الآية 46
(2) سورة آل عمران الآية 103
(3) سورة الأنعام الآية 153(81/371)
ذلك الصراط المستقيم الذي سلكه نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام وعدم الحيد عنه، وبذلك يحصل رضا رب العالمين والفوز بجنته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا؛ كتاب الله وسنتي» .
وحيث إن النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم كتابة بيان حول ما تناقلته بعض وسائل الإعلام عن بعض المحسوبين على الأمة، نوضح فيه حقيقة دعواه التي حاول فيها أن يلبس على عموم المسلمين، ويخدع بها من لا يبصر الأمور، فقد ادعى ذلك المتكلم أن الدولة المسماة بالدولة الفاطمية، هي دولة الإسلام التي يكمن فيها الحل المناسب في الحاضر كما كان حلا في الماضي وهذا من التلبيس ومن الدعاوى الباطلة وذلك لعدة أمور، منها:
أولا: أن تسمية تلك الدولة بالفاطمية تسمية كاذبة أراد بها أصحابها خداع المسلمين بالتسمي باسم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بين العلماء والمؤرخون في ذلك الزمان كذب تلك الدعوى، وأن مؤسسها أصله مجوسي، يدعى سعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح بن ديصان الثنوي الأهوازي، وسعيد هذا تسمى بعبيد الله عندما أراد إظهار دعوته ونشرها ولقب نفسه(81/372)
بالمهدي، فالنسبة الصحيحة لدولته أن يقال: «العبيدية» كما ذكر ذلك جملة من العلماء المحققين، ويظهر من نسب مؤسسها الذي ذكر آنفا أن انتسابهم إلى آل البيت كذب وزور، وإنما أظهروا ذلك الانتساب لاستمالة قلوب الناس إليهم، قال العلامة ابن خلكان في وفيات الأعيان 3 118: (والجمهور على عدم صحة نسبهم، وأنهم كذبة أدعياء لا حظ لهم في النسبة المحمدية أصلا) .
وقال الذهبي في العبر في خبر من غبر ج2 ص199. (المهدي عبيد الله والد الخلفاء الباطنية العبيدية الفاطمية افترى أنه من ولد جعفر الصادق) وقد ذكر غيرهما من المؤرخين أنه في ربيع الآخر من عام 402هـ كتب جماعة من العلماء والقضاة والأشراف والعدول والصالحين المحدثين وشهدوا جميعا أن الحاكم بمصر وهو منصور الذي يرجع نسبه إلى سعيد مؤسس الدولة العبيدية لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب، وأن الذي ادعوه إليه باطل وزور وأنهم لا يعلمون أحدا من أهل بيوتات علي بن أبي طالب رضي الله عنه توقف عن إطلاق القول في أنهم خوارج كذبة، وأن هذا الحاكم بمصر هو وسلفه كفار فساق فجار ملحدون زنادقة معطلون للإسلام جاحدون، ولمذهب المجوسية والوثنية معتقدون، قد(81/373)
عطلوا الحدود وأباحوا الفروج وأحلوا الخمر وسفكوا الدماء وسبوا الأنبياء ولعنوا السلف وادعوا الربوبية، وكتب سنة اثنتين وأربعمائة قال ابن كثير: (في البداية والنهاية 11 346) بعد أن نقل هذا: «وقد كتب خطه في المحضر خلق كثير» .
ثانيا: إظهار التشيع لآل البيت:
هذه الدعوى أظهروها حيلة نزعوا إليها استغلالا لعواطف المسلمين لعلمهم بمحبة أهل الإسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته وقد ذكر الغزالي وغيره من العلماء أنهم في الحقيقة باطنيون (انظر مرآة الجنان 3 107) وقال النويري: وحكى الشريف أبو الحسين محمد بن علي المعروف بأخي محسن في كتابه أن عبد الله بن ميمون كان قد سكن بساباط أبي نوح، وكان يتستر بالتشيع والعلم، فلما ظهر عنه ما كان يضمره ويستره من التعطيل والإباحة والمكر والخديعة ثار عليه الناس، وقد ذكر من الثائرين عليه الشيعة والمعتزلة وغيرهم فهرب إلى البصرة.. انتهى باختصار.
ثالثا: حال تلك الدولة وما كانوا عليه:
أجمل العلماء حالهم في جملة مشهورة قالها أبو بكر الباقلاني والغزالي وابن تيمية وهي أنهم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر(81/374)
المحض.
قال الباقلاني عن القداح جد عبيد الله: (وكان باطنيا خبيثا حريصا على إزالة ملة الإسلام، أعدم العلماء والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق وجاء أولاده على أسلوبه أباحوا الخمور والفروج وأفسدوا عقائد خلق) (انظر تاريخ الإسلام 24 23) .
قال أبو الحسن القابسي صاحب الملخص الذي قتله عبيد الله وبنوه بعده: أربعة آلاف رجل في دار النحر في العذاب ما بين عالم وعابد ليردهم عن الترضي عن الصحابة فاختاروا الموت.
قال السيوطي في تاريخ الخلفاء ج1 ص526:
ومن جملة ذلك ابتداء الدولة العبيدية، وناهيك بهم إفسادا وكفرا وقتلا للعلماء والصلحاء.
قال الشاطبي المالكي في الاعتصام ج2 ص44: (العبيدية الذين ملكوا مصر وإفريقية زعمت أن الأحكام الشرعية إنما هي خاصة بالعوام وأما الخواص منهم فقد ترقوا عن تلك المرتبة، فالنساء بإطلاق حلال لهم، كما أن جميع ما في الكون من رطب ويابس حلال لهم أيضا مستدلين على ذلك بخرافات عجائز لا يرضاها ذو عقل) .(81/375)
رابعا: موقف العلماء من تلك الحقبة:
كان العلماء يظهرون الشناعة على العبيديين وعلى أفعالهم المشينة، ومما يبين لنا موقف العلماء ويجمله ما صنعه السيوطي في تاريخه (تاريخ الخلفاء) ص4 حيث قال: ولم أورد أحدا من الخلفاء؛ لأن خلافتهم غير صحيحة، وذكر أن جدهم مجوسي، وإنما سماهم بالفاطميين جهلة العوام.
خامسا: إن مما يتبين لكل أحد بعد الاطلاع على أقوال العلماء والمؤرخين أن هذه الدولة الفاطمية كان لها من الضرر والإضرار بالمسلمين ما يكفي في دفع كل من يرفع لواءها ويدعو بدعوتها، لذا نجد أن المسلمين في الماضي فرحوا بزوالها على يد الملك الصالح صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله تعالى – في عام 567هـ فلا يجوز بعد هذا كله أن ندعو الناس إلى الانتساب إلى تلك الدولة العبيدية الضالة، ومثل هذه الدعوة غش وخيانة للإسلام وأهله، ونصيحتنا لأئمة المسلمين وعامتهم بالاعتصام بالكتاب والسنة وجمع القلوب عليهما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله(81/376)
جميعا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم (1) » رواه مسلم. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
عضو ... عضو
صالح بن فوزان الفوزان ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان
عضو ... عضو ... عضو
عبد الله بن محمد الخنين ... عبد الله بن محمد المطلق ... أحمد بن علي سير المباركي
عضو ... عضو ... عضو
يوسف بن محمد الغفيص ... محمد بن حسن آل الشيخ ... سعد بن ناصر الشثري
__________
(1) مسلم الأقضية (1715) ، أحمد (2/367) ، مالك الجامع (1863) .(81/377)
بيان حول مشاهدة قنوات السحر والاتصال
بها واستشارتها في العلاج وحل المشكلات
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فقد ورد إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الكثير من الأسئلة والاستفسارات عن حكم سؤال السحرة والكهان والعرافين الذين يخرجون في القنوات الفضائية وتصديقهم وطلب العلاج منهم واستشارتهم في المشاكل الزوجية وغيرها وطلب الحلول.
فنقول: لقد حرم الله السحر تعلما وتعليما وعملا به وعده كفرا فقال سبحانه وتعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 102(81/379)
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن السحر والكهانة والعرافة من أعظم المنكرات وأن أصحابها من أعظم المفسدين في الأرض، ولا غرض لهم إلا تضليل الناس وتعليقهم بهذه الأوهام لكسب أموالهم.
فقد ورد النهي عن إتيان الكهنة والعرافين وبيان حكم آتيهم ومصدقهم وإلحاق ذلك بالسحر في أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (1) » رواه أحمد والأربعة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما.
وروى البزار وأبو يعلى بإسناد جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه: «من أتى عرافا أو ساحرا أو كاهنا فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» .
وهذا الحكم يشمل من ذهب إليهم ببدنه أو اتصل بهم بأي وسيلة كانت.
واللجنة إذ تبين ما ذكر من تحريم السحر والكهانة ونحوهما لتذكر عموم المسلمين بخطر السحر والسحرة والكهانة وضرر ذلك على
__________
(1) الترمذي الطهارة (135) ، أبو داود الطب (3904) ، ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، أحمد (2/429) ، الدارمي الطهارة (1136) .(81/380)
الأفراد والمجتمعات.
كما تذكرهم بحرمة مشاهدة القنوات الفضائية التي تسعى إلى نشر هذا الباطل والترويج له ولأهله.
وأما الاتصال بهم لسؤالهم ففيه الوعيد المذكور في الحديث.
كما تدعو القائمين على هذه القنوات والممولين لها بأن يتقوا الله، وأن يكفوا عما هم عليه من المجاهرة بالإثم والمحاربة لله ولدينه ونشر الشر والفساد بين الناس، وأن يكونوا دعاة خير وهداية وصلاح لمجتمعاتهم والله الموفق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
الرئيس
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
عضو
...
عضو
...
عضو
صالح بن فوزان الفوزان ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... أحمد بن علي سير المباركي
عضو
...
عضو
...
عضو
محمد بن حسن آل الشيخ ... عبد الله بن محمد الخنين ... عبد الله بن محمد المطلق(81/381)
حديث شريف
عن حمزة بن عبد الله بن عمر أن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب. قالوا: فما أولته يا رسول الله قال: العلم (1) »
(رواه البخاري ومسلم)
__________
(1) البخاري العلم (82) ، مسلم فضائل الصحابة (2391) ، الترمذي الرؤيا (2284) ، أحمد (2/83) ، الدارمي الرؤيا (2154) .(81/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1) {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (2) {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3)
(سورة الجاثية الآيات 18-20)
__________
(1) سورة الجاثية الآية 18
(2) سورة الجاثية الآية 19
(3) سورة الجاثية الآية 20(82/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
معالي الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
فضيلة الشيخ الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
فضيلة الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
معالي الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(82/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(82/3)
المحتويات
* الافتتاحية *
الرد على أحد الكتاب بشأن إيقاف صلاة التراويح لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
* الفتاوى *
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 19
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 37
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 53
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 67(82/4)
البحوث
الإيضاح والبيان لأفضل آية في القرآن للدكتورة: لولوة بنت عبد الكريم بن سعد المفلح 87
عرش الرحمن في القرآن للدكتور: عبد العزيز بن صالح العبيد 139
تقريرات علماء الدعوة في الإيمان ومسائله للدكتور: عبد الله بن محمد السند 169
دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مرحلة الاستخفاء في العهد المكي للدكتور: علي بن أحمد الأحمد 263
الاستئذان وأنواعه في ضوء السنة للدكتور: عبد العزيز بن أحمد الجاسم 339(82/5)
صفحة فارغة(82/6)
الرد على أحد الكتاب بشأن إيقاف صلاة التراويح
لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ المفتي العام للمملكة ورئيس هيئة كبار العلماء
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد اطلعنا على ما كتبه أحد الكتاب، في صحيفة السياسة الكويتية يوم الجمعة 28 ربيع الآخر 1427 هـ الذي يوافقه 26 مايو 2006 م عدد رقم (13485) ، تحت عنوان (إيقاف صلاة التراويح) وتعرض فيه لعدة أمور أهمها ما يلي:
أولا: ذكر اتفاق العلماء والفقهاء والمؤرخين على أن أول من جمع صلاة التراويح في جماعة هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
ثانيا: ذكر اتفاق العلماء والمؤرخين على أن نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يجمعها في جماعة.
ثالثا: ذكر أن صلاة التراويح والقيام تسبب الازدحام حول الكعبة والتدافع ونحو ذلك.(82/7)
رابعا: طلب من هيئة كبار العلماء الاجتماع لاتخاذ قرار لإيقاف صلاة التراويح والتهجد في المسجد الحرام. وبرر ذلك بأن مكة المكرمة كلها حرم. وأن صلاة التهجد لم تصل في جماعة بالمسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف إلا في العهد السعودي.
خامسا: أن أهل مكة حين يصلون في الحرم يسببون مضايقة للمعتمرين والزوار الذين عانوا مشقة السفر في سبيل القدوم لأداء العمرة.
سادسا: دعا إلى توزيع أئمة المسجد الحرام على المساجد الكبيرة في مكة لتقام صلاة التراويح بها بدلا عن إقامتهم لها في المسجد الحرام.
سابعا: لخص دعوته بقوله: (إن دعوتي تكمن في تفريغ المسجد الحرام لأداء صلاة العشاء والطواف بالكعبة المعظمة والسعي بين الصفا والمروة من دون ازدحام ولا فوضى أو مشكلات. وحتى نتمكن من القضاء على ظاهرة حجز الأماكن بالمسجد الحرام أو بيعها، أو تأجيرها بوضع السجاجيد ... إلخ.
وبعد تأمل المقال رأيت أن أكتب توضيحا يبين للكاتب وللقراء الكرام حقيقة الأمر وذلك من وجوه:
الوجه الأول: أصل جمع الناس على صلاة التراويح كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد فصلى رجال بصلاته فأصبح الناس(82/8)
فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فأصبح الناس، فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: أما بعد: فإنه لم يخف علي مكانكم لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها (1) » . هذا لفظ البخاري، وفي رواية له بزيادة «وذلك في رمضان (2) » .
وفي رواية عند أبي داود عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل فقلت يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة، قال فقال: "إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة، قال فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قال فقلت ما الفلاح؟ قال: السحور، ثم لم يقم بنا بقية الشهر (3) » .
قال ابن حجر - رحمه الله - لما ساق الحديث وشرحه: وفي حديث الباب من الفوائد - غير ما تقدم - ندب قيام الليل ولا سيما في رمضان جماعة؛ لأن الخشية المذكورة أمنت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذلك جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أبي بن كعب
__________
(1) البخاري الجمعة (882) ، مسلم صلاة المسافرين وقصرها (761) ، النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1604) ، أبو داود الصلاة (1373) ، أحمد (6/268) ، مالك النداء للصلاة (250) .
(2) البخاري الجمعة (1077) ، مسلم صلاة المسافرين وقصرها (761) ، النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1604) ، أبو داود الصلاة (1373) ، مالك النداء للصلاة (250) .
(3) الترمذي الصوم (806) ، النسائي السهو (1364) ، أبو داود الصلاة (1375) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1327) ، أحمد (5/163) ، الدارمي الصوم (1777) .(82/9)
رضي الله عنه. انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
فأصل صلاة التراويح في جماعة ثابت من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يواظب عليها خشية أن تفرض على الأمة، فلما توفي - صلى الله عليه وسلم - وانقطع الوحي وأمنت خشية فرضية صلاة الليل في جماعة، جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجمع الناس عليها، وجعل إمامهم أبي بن كعب رضي الله عنه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما قيام رمضان فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنه لأمته وصلى بهم جماعة عدة ليال وكانوا على عهده يصلون جماعة وفرادى، لكن لم يداوموا على جماعة واحدة لئلا تفرض عليهم، فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - استقرت الشريعة، فلما كان عمر رضي الله عنه جمعهم على إمام واحد وهو أبي بن كعب الذي جمع الناس عليها بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه) ا. هـ.
وقال أيضا رحمه الله: (وقيام رمضان قد سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن الله قد فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه (1) » وكانوا على عهده - صلى الله عليه وسلم - يصلون أوزاعا متفرقين يصلي الرجل وحده، ويصلي الرجل ومعه جماعة، وقد صلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة مرة بعد مرة وقال: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة (2) » لكن لم يداوم على الجماعة
__________
(1) النسائي الصيام (2210) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1328) .
(2) الترمذي الصوم (806) ، النسائي السهو (1364) ، أبو داود الصلاة (1375) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1327) ، أحمد (5/160) .(82/10)
كالصلوات الخمس؛ خشية أن يفرض عليهم، فلما مات أمنوا زيادة الفرض فجمعهم عمر على أبي بن كعب) ا. هـ
وبهذا يتبين أن دعوى الاتفاق المذكورة في صدر المقال غير صحيحة.
الوجه الثاني: طلبه من هيئة كبار العلماء الاجتماع لاتخاذ قرار لإيقاف صلاة التراويح والتهجد في المسجد الحرام، فلي معه وقفات:
الوقفة الأولى: التقدير للكاتب في أصل الطلب وأن الواجب الرجوع إلى أهل العلم في مثل هذه الأمور.
الوقفة الثانية: كنا نؤمل من الكاتب خصوصا وأنه مثقف ومتعلم أن تكون كتابته هذه إلى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء أو إلينا في مكتبنا بالرئاسة العامة للإفتاء. لا أن تكون عن طريق الصحافة خصوصا أن الكاتب يعلم أن مثل هذه الصحف يقرؤها المتعلم والعامي ومن لا يدرك أبعاد الأمور، فالقضايا الشرعية العامة لا تطرح بمثل هذا الطرح.
الوقفة الثالثة: من الأدب مع العلماء طرح الإشكال عليهم وهم المرجع في التحقق من الإشكال، فإن وجد أنه إشكال واقعي يستحق النظر درسوه، فبحثوا عن الحل الشرعي المناسب، كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (1) .
__________
(1) سورة النساء الآية 83(82/11)
أما أن نطلب منهم أن يتخذوا قرارا نحدد لهم معالمه ونلزمهم بإصداره فهذا لا يليق بالعامي أن يفعله، فكيف برجل مثقف ومتعلم يصدر هذه العبارة: (فالمفروض أن يجتمع كبار علمائنا بهيئة كبار العلماء لاتخاذ قرار صلاة التراويح أو القيام والتهجد في المسجد الحرام من أول يوم رمضان) !
الوجه الثالث: أما دعوى الزحام أو القصد إلى تفريغ المسجد الحرام لأداء صلاة العشاء والطواف بالكعبة المعظمة والسعي بين الصفا والمروة.
فإن الزحام إن وجد في المواسم فإنه لا يرفعه ترك التراويح بل سيبقى؛ لأن من قصد المسجد الحرام سيبقى طائفا أو تاليا أو عاكفا أو مصليا، والحرم إنما وضع لذلك، يقول الله عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (1) قال ابن كثير رحمه الله: وقد اختلف الفقهاء أيهما أفضل: الصلاة عند البيت أو الطواف به؟ فقال مالك رحمه الله: الطواف به لأهل الأمصار أفضل. وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقا.
وفي سنن أبي داود وابن ماجه وغيرهما عن جبير بن مطعم رضي الله عنه يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا يطوف بهذا البيت ويصلي أي ساعة شاء من ليل أو نهار (2) » .
__________
(1) سورة الحج الآية 26
(2) الترمذي الحج (868) ، النسائي مناسك الحج (2924) ، أبو داود المناسك (1894) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1254) ، أحمد (4/84) ، الدارمي المناسك (1926) .(82/12)
والمقصود أن منع الناس من صلاة التراويح في المسجد الحرام لأجل تفريغه للطائفين تحكم لا يسنده الدليل.
ثم إن المسلمين لا يزالون يصلونها في المسجد الحرام منذ قرون، فقد أخرج الفاكهي بسنده إلى عكرمة بن عمار قال: أمنا عبد الله بن عبيد بن عمير في المسجد الحرام، وكان يؤم الناس فكان يقرأ بنا في الوتر بالمعوذات يعني في شهر رمضان.
وقال في نفس السياق: وقال بعض أهل مكة: كان الناس بمكة في قديم الدهر يقومون قيام شهر رمضان في أعلى المسجد الحرام، تركز حربة خلف المقام بربوة فيصلي الإمام دون الحربة والناس معه، فمن أراد صلى، ومن أراد طاف وركع خلف المقام.. ثم استرسل فيما أقره خالد القسري بعد.
وذكر ذلك الأزرقي بأتم من سياق الفاكهي، وأن خالدا القسري هو أول من أدار الصفوف حول الكعبة لما ضاق عليهم أعلى المسجد، فلما قيل له: تقطع الطواف لغير المكتوبة قال: فأنا آمرهم يطوفون بين كل ترويحتين سبعا.. إلى آخر ما ساق في خبره.
والمقصود أن صلاة التراويح جماعة في رمضان حول الكعبة أمر معهود منذ زمن قديم، ومن تتبع تواريخ مكة وكتب التراجم والرحلات علم ذلك واجتمع له عدة ممن أموا الناس في قيام رمضان بالمسجد الحرام.(82/13)
أما ما ذكره الكاتب من أن المسجد الحرام يشمل حدود الحرم جميعها فهذا حق ونحن نقول به، ونقول بأن التضعيف الوارد في الحديث يشمل جميع الحرم بدلالة قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (1) ولكن هذا لا يبرر إيقاف صلاة التراويح في الحرم ومنع المصلين من صلاة القيام في الحرم.
وقبل أن أختم هذا البيان والإيضاح أحب التنبيه إلى أمر مهم وهو قول الكاتب: (وأن صلاة التهجد لم تصل في جماعة بالمسجد الحرام، والمسجد النبوي الشريف إلا في العهد السعودي) .
والمقصود بصلاة التهجد في هذا السياق هو صلاة القيام في جماعة في رمضان، وتصلى آخر الليل بعد أن يصلي الناس أول الليل شيئا من التراويح، ثم ينصرفون للراحة أو العشاء ليتقووا على صلاة الليل، وهذا في العشر الأواخر.
والأصل في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجتهد في العشر الأخير من رمضان، تقول عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر (2) » أخرجه مسلم.
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) البخاري صلاة التراويح (1920) ، مسلم الاعتكاف (1174) ، الترمذي الصوم (796) ، النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1639) ، أبو داود الصلاة (1376) ، ابن ماجه الصيام (1768) ، أحمد (6/68) .(82/14)
فالعشر الأخير من رمضان لها مزيد فضل على غيرها من الليالي لفضلها، ولأن ليلة القدر فيها فالاجتهاد فيها مطلوب.
وأما دعوى أن العهد السعودي هو الذي بدأ بذلك فهذا باطل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما مر معنا في أول هذا الإيضاح قد صلى بالناس في العشر الأخير أربع ليال كان آخرها إلى قريب الفجر حتى خشوا فوات الفلاح وهو السحور. فهذا هو الأصل.
وفي هذا السياق أحب أن أنبه إلى أمر مهم وهو أن بعض الكتاب - وأنا أربأ بأخينا الكاتب أن يكون منهم - ما فتئوا يذكرون أشياء في المشاعر المقدسة أو الشعائر الشرعية ويزعمون أن الدولة السعودية هي التي أحدثتها، وهذا غمز في هذه الدولة السلفية، التي حرصت على السير على ما سار عليه السلف الصالح من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين وبقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وما عليه أئمة الدين، ولم يوجد في العهد السعودي في المشاعر ولا في الشعائر شيء مبتدع ولله الحمد والمنة، وهذا من فضل الله تعالى على حكام هذه البلاد المباركة.
وإنما هم حريصون أشد الحرص على السعي في التسهيل على الحجاج والمعتمرين والزوار بالتوسعة والتكييف وشق الطرق، وعمل ما من شأنه تسهيل القيام بالشعائر مع المحافظة على المشاعر.(82/15)
هذا ما نشهد الله عليه مما علمناه من حكام هذه الدولة أدام الله بعز الإسلام عزها أسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى إنه سبحانه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(82/16)
الفتاوى(82/17)
صفحة فارغة(82/18)
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية (رحمه الله)
التذكير بفريضة الزكاة، وبيان الحكمة في إيجابها، والأضرار والمفاسد المترتبة على منعها
من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ إلى من يبلغه من المسلمين، وفقني الله وإياهم إلى صراطه المستقيم، آمين.
فإني أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسول الله وخاتم النبيين، نصح أمته وقال فيما صح عنه: «الدين النصيحة (1) » وأنزل الله عليه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (2)
ثم إن الباعث لكتابة هذه الكلمات هذه الكلمة هو النصح والتذكير بفريضة الزكاة التي تساهل بها بعض الناس وغفلوا عنها، مشتغلين بتدبير أموالهم عن فريضة من فرائض الدين، وركن من أركان الإسلام يكفر
__________
(1) رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
(2) سورة الذاريات الآية 55(82/19)
جاحده، وتقاتل الطائفة الممتنعة من أدائه. ولقد ذكر الله في كتابه الزكاة مقرونة بالصلاة فقال: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (1) ، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2) وأمر تعالى رسوله بأخذها حيث يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (3) وجاء الوعيد الشديد على من بخل بها وقصر فيها، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (4) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (5) وفي الحديث الصحيح: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جبهته وجنبه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد (6) » وفي الصحيح: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان، يطوق به يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه -
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة التوبة الآية 103
(4) سورة التوبة الآية 34
(5) سورة التوبة الآية 35
(6) أخرجه الستة إلا الترمذي، وفي رواية: ''من آتاه الله مالا..''.(82/20)
يعني شدقية - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك (1) » .
ولا يخفى ما من الله به على عباده من نعمة المال، ولا سيما في هذا الزمن الذي تكاثرت فيه المصالح والخيرات، واتسعت فيه أسباب الرزق، وتضخمت فيه أموال كثير من الناس، وما الأموال إلا ودائع في أيدي الأغنياء، وفتنة وامتحان لهم من الله لينظر أيشكرون أم يكفرون، ومن شكرها وقيد النعمة فيها أداء زكاتها، والصدقة على الفقراء والمساكين، والإنفاق مما استخلفهم الله فيه، قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (2) .
ومن الحكمة في تشريع الزكاة مواساة الأغنياء لإخوانهم الفقراء، فلو قام الأغنياء بهذه الفريضة حق القيام وصرفوا الزكاة مصرفها الشرعي لحصل للفقراء والمساكين ما يكفيهم، ولا يحتاجون معه إلى غيره. أما إذا منع الأغنياء ما أوجب الله عليهم من فريضة الزكاة فإنه ينشأ من هذا أضرار ومفاسد كثيرة من تعريض العبد نفسه للعذاب العظيم، وكراهة الله والناس له، وتسبب لإهلاك المال وانتزاع البركة منه، ففي الحديث: «ما خالطت الزكاة مالا قط إلا أهلكته (3) » . ومن ظلم للفقراء والمساكين وإيصال الضرر إليهم، ودعوة لهم إلى ارتكاب شتى الحيل في الحصول
__________
(1) البخاري الزكاة (1338) ، أحمد (2/355) ، مالك الزكاة (596) .
(2) سورة الحديد الآية 7
(3) أخرجه البزار عن عائشة.(82/21)
على لقمة العيش، والتعرض للوقوف في المواقف الحرجة، والإلحاح في السؤال، بل ربما اضطرتهم فاقتهم وشدة الحاجة إلى السرقة والإقدام على بعض الجرائم، لما يقاسونه من آلام الفقر والمسكنة التي لو أحس بها الغني يوما من الدهر لتغيرت نظرته إليهم، ولعرف عظيم نعمة الله عليه، وإذا كان في الزكاة مصلحة للفقراء والمساكين وبهم ضرورة إليها فإن فيها مصلحة لأرباب الأموال، وبهم ضرورة إلى أدائها من تطهير وتزكية لهم، وبعد عن البخل المذموم، وقرب من فعل الكرم والجود، واستجلاب للبركة والزيادة والنماء، وحفظ للمال ودفع للشرور عنه. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أدى زكاة ماله فقد ذهب عنه شره» رواه الطبراني وابن خزيمة في صحيحه، وعن أنس رضي الله عنه قال: «أتى رجل من تميم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال يا رسول الله: إني ذو مال كثير وذو أهل ومال وحاضرة فأخبرني كيف أصنع وكيف أنفق؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تخرج الزكاة من مالك فإنها طهرة تطهرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حق المسكين، والجار، والسائل (1) » رواه أحمد، وعن الحسن رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع» رواه أبو داود في المراسيل.
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو لمن جاء بالزكاة، فتارة
__________
(1) أحمد (3/136) .(82/22)
يقول: «اللهم بارك له (1) » وتارة يقول: «اللهم صل عليه (2) » . هذا ولقد تولى الله قسمة الزكاة بنفسه وجزأها إلى ثمانية أجزاء.
أما الأشياء التي تجب فيها الزكاة فهي أربعة أصناف: الخارج من الأرض كالحبوب والثمار، وبهيمة الأنعام، وعروض التجارة والذهب والفضة، وقد تجب في غيرهن.
ولكل من هذه الأصناف الأربعة نصاب محدود لا تجب الزكاة فيما دونه، فنصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق. وأدنى نصاب الغنم أربعون شاة، وأدنى نصاب الإبل خمس، وأدنى نصاب البقر ثلاثون، ونصاب الفضة مائتا درهم، ونصاب الذهب عشرون مثقالا. فإذا ملك الإنسان نصابا من الذهب وقدره أحد عشر جنيها ونصفا أو ملك نصابا من الفضة وقدره ستة وخمسون ريالا عربيا تقريبا وحال عليه الحول وجبت فيه الزكاة ربع العشر، وكذلك الأوراق التي كثرت في أيدي الناس
__________
(1) فمن الأول ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبي أوفى ''قال كان أبي من أصحاب الشجرة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان، قال فأتاه أبي بصدقته، فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى'' ومن الثاني ما رواه النسائي عن وائل بن حجر ''أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: بعثنا مصدق الله ورسوله، وأن فلانا أعطاه فصيلا مخلولا، اللهم لا تبارك فيه ولا في إبله، فبلغ ذلك الرجل فجاء بناقة حسناء، فقال أتوب إلى الله عز وجل وإلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ''اللهم بارك فيه وفي إبله''.
(2) فمن الأول ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبي أوفى ''قال كان أبي من أصحاب الشجرة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان، قال فأتاه أبي بصدقته، فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى'' ومن الثاني ما رواه النسائي عن وائل بن حجر ''أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: بعثنا مصدق الله ورسوله، وأن فلانا أعطاه فصيلا مخلولا، اللهم لا تبارك فيه ولا في إبله، فبلغ ذلك الرجل فجاء بناقة حسناء، فقال أتوب إلى الله عز وجل وإلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ''اللهم بارك فيه وفي إبله''.(82/23)
وصار التعامل بها أكثر من غيرها، فإذا ملك الإنسان منها ما يقابل نصابا من الفضة وحال عليها الحول وجبت فيه الزكاة ربع العشر. أما العروض وهي ما اشتراها الإنسان للربح فإنها تقوم في آخر العام ويخرج ربع عشر قيمتها. وإذا كان للإنسان دين على أحد فإنه يزكيه إذا قبضه، فإذا كان الدين على مليء فالأفضل أن يزكيه عند رأس الحول، وله أن يؤخر زكاته حتى يقبضه.
ويجب إخراج الزكاة في بلد المال إلا لعذر شرعي. ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب. ولا يجوز صرفها لغير أهلها الثمانية الذين ذكرهم الله بقوله {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} (1) .
والزكاة حق الله فلا تجوز المحاباة بها ولا أن يجلب الإنسان بها لنفسه نفعا أو يدفع ضرا. فاتقوا الله أيها المسلمون وتذكروا ما أوجب الله عليكم من الزكاة وما يقاسيه الفقراء والمساكين من ويلات الفقر والفاقة، وبادروا إلى إخراج زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، خالصة لوجه الله، لا من فيها، ولا أذى، ولا رياء ولا سمعة، اغتنموا الفرصة قبل فوات الأوان: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2)
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سورة البقرة الآية 254(82/24)
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ونفعنا بهذه الذكرى، وهدانا جميعا إلى طريق الحق والخير والفلاح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(82/25)
من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف إلى من تبلغه النصيحة من إخواننا المسلمين، سلك الله بنا وبهم صراطه المستقيم، وجنبنا وإياهم سبل أصحاب الجحيم، ووفقنا جميعا للتمسك بشرائع الدين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالموجب لهذه الكلمة هو النصيحة والشفقة وإقامة الحجة والإعذار من كتمان ما يلزم بيانه للناس، ومن أهم ذلك في هذه الأيام بيان ما يلزم من أحكام الزكاة التي هي ثالث أركان الإسلام، وثانية الصلاة وقرينتها، قرنها الله تعالى بالصلاة في نيف وثلاثين موضعا من كتابه العزيز؛ لكون هذه الأيام غالبا وقت إخراج الزكاة، ولمزيتها بمضاعفة الحسنات، وورد الوعيد الشديد على تركها، والتغليظ في منعها، قال الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1) ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (3)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 180
(2) سورة التوبة الآية 34
(3) سورة التوبة الآية 35(82/25)
وهذا الوعيد مفسر بالحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ويقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: إلى قوله: (3) » وقال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ} (4) الآية. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جبهته وجنبه وظهره (5) » والآيات والأحاديث في التغليظ في مانع الزكاة وعقوبته كثيرة معروفة.
والأموال التي تجب فيها الزكاة: (أحدها) سائمة بهيمة الأنعام، وهي: الإبل، والبقر، والغنم، (الثاني) الخارج من الأرض: من الحبوب والثمار، وما يلحق بها كالعسل. (الثالث) الأثمان، وهي النقود: من الذهب، والفضة، وما يقوم مقامها من فلوس وأوراق نقدية، وكذلك
__________
(1) البخاري الزكاة (1338) ، النسائي الزكاة (2448) ، ابن ماجه الزكاة (1786) ، أحمد (2/355) ، مالك الزكاة (596) .
(2) سورة آل عمران الآية 180 (1) {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
(3) سورة آل عمران الآية 180 (2) {خَبِيرٌ}
(4) سورة التوبة الآية 35
(5) تقدم هذا الحديث، والحديث الآتي بعده في النصيحة قبله.(82/26)
حلي الذهب والفضة إذا بلغ نصابا بنفسه أو بما يضم إليه من جنسه وفي حكمه، ولم يكن معدا للاستعمال ولا للعارية. وأقل نصاب الذهب عشرون مثقالا، وبالجنيه السعودي وكذلك الإفرنجي أحد عشر جنيها ونصف جنيه تقريبا، وأقل نصاب الفضة مائتا درهم، وبالريال العربي ستة وخمسون ريالا، وبالفرانسي ثلاثة وعشرون ريالا تقريبا. (الرابع) عروض التجارة، وهي كل ما أعد للبيع والشراء لأجل الربح والتكسب من جميع سلع التجارة كالمجوهرات ونحوها، وكذلك السيارات والمكائن وغيرها من المنقولات والنباتات كالعقارات من أرض وبيوت ونحوها إذا تملكها بفعله بنية التجارة، فإنها تعتبر سلعة تجارة، ويلزمه أن يقومها عند الحول بما تساوي من الثمن لدى أهل الصنف، ولا ينظر إلى رأس مالها الذي اشتراها به، وعليه أن يؤدي قيمتها عند الحول إذا بلغت نصاب الذهب والفضة؛ لعموم حديث سمرة: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع (1) » رواه أبو داود، كما عليه أن يزكي الديون التي له في ذمم الناس إذا قبضها.
وإذا استفاد مالا مستقلا خارجا عن ربح التجارة كالأجرة والراتب ونحوها فإنه يبتدئ له حولا من حين استفاده، ويزكيه إذا تم حوله.
وأما مصرفها فقد بينه الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (2)
__________
(1) أبو داود الزكاة (1562) .
(2) سورة التوبة الآية 60(82/27)
فلا يجوز صرفها إلى غير هؤلاء الأصناف الثمانية كبناء المساجد والمدارس وتكفين الموتى ووقف المصاحف وكتب العلم وغير ذلك من جهة الخير.
ويجب إخراجها عند تمام الحول فورا إلا لعذر شرعي. ولا يدفعها إلا لمن يغلب على الظن أنه من أهلها لأنها «لا تحل لغني ولا لقوي مكتسب (1) » كما في حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار، رواه أبو داود والنسائي، فليتق الله من لا تحل له أن يأخذ منها شيئا فإنها سحت ومحق لما في يده قبلها من المال.
ولا يجوز إخراجها إلا بنية سواء أخرجها بنفسه أو بوكيله، وسواء دفعها إلى مستحقها أو إلى نائب الإمام ليفرقها على مستحقيها لحديث: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (2) » ولا يجوز دفعها إلى أصوله أو إلى فروعه أو زوجته أو إلى أحد ممن تلزمه نفقته، ولا يحابي بها قريبه، أو يقي بها ماله، ولا يدفع بها مذمة.
وينبغي للإنسان الاستكثار من صدقة التطوع أيضا في هذا الشهر الكريم والموسم العظيم؛ لحديث أنس: «سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الصدقات أفضل؟ فقال: صدقة في رمضان (3) » رواه الترمذي،
__________
(1) النسائي الزكاة (2598) ، أبو داود الزكاة (1633) ، أحمد (5/362) .
(2) متفق عليه.
(3) الترمذي الزكاة (663) .(82/28)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها حتى تكون مثل الجبل العظيم (1) » متفق عليه.
وعن أنس مرفوعا: «إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء (2) » والآيات والأحاديث في هذا كثيرة معروفة. نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يشملنا وإياكم بعفوه ومغفرته ورحمته، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويذل أعداءه، ويؤيد إمام المسلمين، ويأخذ بناصيته لما فيه الخير والصلاح. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) البخاري الزكاة (1344) ، مسلم الزكاة (1014) ، الترمذي الزكاة (661) ، النسائي الزكاة (2525) ، ابن ماجه الزكاة (1842) ، أحمد (2/331) ، مالك الجامع (1874) ، الدارمي الزكاة (1675) .
(2) وعن عمرو بن عوف رفعه: ''إن صدقة المسلم تزيد في العمر، وتمنع ميتة السوء، ويذهب الله بها الكبر والفخر'' وعن أبي سعيد: ''إن صدقة السر تطفئ غضب الرب، وإن صلة الرحم تزيد في العمر، وإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وإن قول لا إله إلا الله تدفع عن قائلها تسعة وتسعين بابا من البلاء أدناها الهم'' أخرجه ابن عساكر.(82/29)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم ر. م وفقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فبالإشارة إلى مذكرتكم رقم 1619 وتاريخ 14 / 8 / 1376 هـ الخاصة باستفتاء أحد الأشخاص بأمريكا والمقيم في اليابان الذي اعتنق الدين الإسلامي: عن كيفية أداء الزكاة، وكيفية توزيعها. وتجدون مرفقا بهذا(82/29)
جوابا موضحا فيه: كيفية الوجوب، وكيفية الأداء، والله يحفظكم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
أما بعد: فإنه ورد علينا سؤال من رجل مقيم في اليابان، يذكر أنه اعتنق دين الإسلام منذ عشرة أشهر، وأنه لا يوجد في البلدة التي يقيم فيها مسلمون، ويسأل عن الطريقة الشرعية التي يتمكن معها من أداء فريضة الزكاة.
والجواب: لا يخفى أن أداء الزكاة هو الركن الثالث من أركان الإسلام، وله شروط منها تمام الحول، فإذا تم الحول على المال الزكوي وجب إخراج زكاته. والأموال التي تجب فيها الزكاة أربعة أصناف:
الأول: بهيمة الأنعام، وهي: الإبل، والبقر، والغنم.
الثاني: الخارج من الأرض: من حبوب وثمار تكال وتدخر.
الثالث: النقود على اختلاف أنواعها.
الرابع: عروض التجارة.
أما بهيمة الأنعام فيجب في الإبل إذا كانت سائمة الحول أو أكثر وحال عليها الحول يجب في كل خمس شاة، ولا شيء فيما دون الخمس. وفي خمس وعشرين بنت مخاض - وهي ما تم لها سنة وفي ستة وثلاثين بنت لبون - وهي ما تم لها سنتان. وفي ستة وأربعين حقة - وهي ما تم لها ثلاث سنين. وفي إحدى وستين جذعة - وهي ما تم لها أربع سنين، وفي تسعة وسبعين بنتا لبون وفي إحدى وتسعين حقتان. فإذا زادت عن مائة(82/30)
وعشرين واحدة فثلاث بنات لبون. ثم في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
أما زكاة البقر، فيجب في ثلاثين منها سائمة الحول تبيع أو تبيعة لكل منهما سنة، ولا شيء فيما دون الثلاثين، ويجب في أربعين مسنة، لها سنتان، ثم في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة.
أما زكاة الغنم، فلا شيء فيما دون الأربعين، فإذا بلغت أربعين وحال عليها الحول وكانت سائمة الحول أو أكثر فيجب فيها شاة. ثم في كل مائة شاة. ولا شيء في الوقص - وهو ما بين الفرضين.
أما الخارج من الأرض فإذا بلغ نصابا وهو خمسة أوسق - والوسق ستون صاعا بالصاع النبوي - فيجب فيه عشره إذا كان يسقى بلا مؤنة، ونصف عشره إن كان يسقى بمؤنة كالمكائن والدالوب والناعورة ومضخات الماء ونحو ذلك.
أما النقود على اختلاف أنواعها، وكذلك قيم عروض التجارة - وهي ما أعد للبيع والشراء والتكسب بزيادة الربح - فالواجب في ذلك كله إذا بلغ نصابا وهو عشرون مثقالا من الذهب أو مائتا درهم من الفضة - وزنتها مائة وأربعون مثقالا - ربع العشر. في المائة اثنان ونصف.
أما أهل الزكاة وكيفية أداء هذا السائل زكاته إلى مستحقيها فقد قال الله تعالى:(82/31)
فيجب أداؤها إلى هؤلاء الأصناف الثمانية أو بعضهم. فإن كان في بلاد السائل مسلمون حقا دفعها إليهم، وإلا فيدفعها إلى أقرب فقراء المسلمين حقا إلى بلده. وحيث إن الصدقة في الحرمين الشريفين مضاعفة، فإننا نرى أن يبعث الرجل المذكور بزكاته إلى من يفرقها في الحرمين الشريفين المكي والمدني بأن يعهد بها إلى رئيس المحكمة الشرعية بمكة ليتولى تفريقها على الفقراء بنفسه أو بنائبه. قاله ممليه الفقير إلى عفو ربه محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وأما أولاد الإبل والغنم فلا زكاة فيها بانفرادها، بل تحسب مع أمهاتها إذا كانت الأمهات قد بلغت نصابا، فإذا كان لرجل تسع من الإبل فأنتجت في آخر الحول سبعة حيران، فهذه تزكى مع أمهاتها، ويصير في الجميع ثلاثة نصب. وكذلك إذا كان للرجل مائة من الغنم فأنتجت في آخر الحول إحدى وعشرين يصير في الجميع شاتان.
والحوار يطلق على من له سنة عند البدو الآن، وهذا عربي كما في قوله كما
ألغيت في الدية الحوارا(82/32)
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الأمير المكرم سعود بن عبد الله بن جلوي سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم رقم 691 - 1 وتاريخ 7 / 6 / 1377 هـ وما برفقه، وبعد تأمل ما أبداه قاضي مستعجلة الأحساء من أن الأوقاف التي على جهات عامة كالمساجد والربط والمدارس والفقراء ليس فيها زكاة، ولفته النظر إلى أن عدم وجوب الزكاة فيها إذا كانت تحت يد وليها يعمرها ويأخذ غلتها. وما إذا أجرها بأجرة معلومة متعلقة بذمة المستأجر فغلتها وما يزرعه المستأجر في أرضها ملك له، فإذا بلغ نصابا وجبت فيه الزكاة.
بعد تأمل ذلك وجد ما أبداه القاضي المذكور صحيحا يتعين شرعا العمل به، والله يحفظكم.
يعلم الناظر إليه بأني أفتيت خ. ح. ث. بأن ليس عليه في وقف ح. ث. الكائن في الغيل المسمى بالبديعة زكاة؛ لكونه وقفا على غير معين، بل على الضيف وفي أضاحي وفي وجوه الخير، وأخبرني الثقة حمد بن الشيخ سعد بن عتيق رحمه الله بأن وقفية البديعة المذكورة أعلاه كما شرح، وأنها بإملاء العم الشيخ عبد الله وختمه، حتى لا يخفى، قاله ممليه الفقير إلى الله محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف وكتبه من إملائه محمد بن علي بن عبد اللطيف، وصلى الله على محمد.(82/33)
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ص. خ. ع سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن غلة وقف تقدر بنحو مائة ألف ريال سنويا: هل تجب فيها الزكاة؟ وهل للناظر أن يستقطع الزكاة من الغلة عندما تستحصل عند رأس كل عام، ويعطيها الفقراء، أم لا؟
والجواب: الحمد لله، إن كان هذا الوقف على معينين وبلغت حصة كل منهم نصابا وجبت فيه الزكاة، والذي يخرجها مالكها أو وكيله بنية الزكاة، فلا تجزئ بدون نية؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات (1) » . وإن كان الوقف على غير معين كالموقوف على الفقراء والمساجد والمدارس والأربطة ونحو ذلك من أعمال البر فلا زكاة فيه؛ لأن من شروط الزكاة تمام الملك، والله أعلم، والسلام عليكم.
مفتي الديار السعودية
إذا ادعى أن المواشي وقف ...
وأما ما يدعى أنه وقف من المواشي وكان المدعي لذلك ثقة مأمونا. فيقبل قوله: إن هذا الشيء وقف. وأما المتهم فلا يقبل قوله إلا بأمر شرعي، أو يمين.
__________
(1) البخاري بدء الوحي (1) ، مسلم الإمارة (1907) ، الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، النسائي الطهارة (75) ، أبو داود الطلاق (2201) ، ابن ماجه الزهد (4227) ، أحمد (1/43) .(82/34)
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم إ. م. س. ش. المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن كيفية زكاة أموال الشركة التي ذكرت أنها تألفت برأس مال معلوم لمزاولة التجارة في حقل مخصوص، وصار لها ديون عند الناس لا يمكن في الغالب تحصيل الكثير منها. كما أن عليها ديونا لأناس حسب ما بينها وبينهم من معاملة ... إلخ.
والجواب: أما بالنسبة لما على الشركة من الديون فيجوز لها أن تحسم من أموالها الزكوية بمقدار ما عليها من الديون وتزكي الباقي.
أما بالنسبة للديون التي لها عند الناس فالدين الذي على مليء باذل تزكيه الشركة إذا قبضته عن جميع السنين الماضية.
أما الديون المشكوك في تحصيلها كالتي عند أناس مفلسين أو مماطلين أو جاحدين ونحوهم فلا زكاة فيها حتى تقبض، فإذا قبضت فبعض العلماء يقول: إنها تزكى لجميع السنوات الماضية، وهذا هو المشهور من المذهب. والقول الثاني: أنها تزكى لعام واحد فقط، وهو رواية عن الإمام أحمد، وبه قال الإمام مالك، وأفتى به الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وقال: إنه اختيار إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهذا(82/35)
هو الصواب، والله أعلم.
وبكل حال يقوى بأنه يزكي أكثر من سنة في حق المليء خاصة.
المسألة الثانية: عن رصيد لكم في بنك مقفل من قبل الحكومة منذ سنتين، لا يستفاد منه، ولا يوثق بحصوله، ويحتمل أن البنك يفلس ويتلف الرصيد: فهل فيه زكاة؟
والجواب: لا زكاة في ذلك حتى يقبض، فإذا قبض زكي للسنين السابقة. وقيل: إنه يزكي لسنة واحدة، والله أعلم، والسلام عليكم.
مفتي الديار السعودية(82/36)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
المفتي العام للمملكة العربية السعودية (رحمه الله)
زكاة المرتبات فيها تفصيل
س: أنا موظف راتبي الشهري ما يعادل (3000) ريال فهل تجب علي الزكاة وما مقدارها؟ مع العلم بأني لا أصرف منها إلا اليسير (600) ريال؟ (1)
ج: إذا حال الحول على شيء من المرتب يبلغ النصاب فعليك زكاته، وإن كان دون ذلك فلا زكاة فيه.
__________
(1) نشر في الجزء الرابع عشر من (مجموع فتاوى ومقالات) لسماحته، ص 135.(82/37)
الزكاة تكون فيما دار عليه الحول وهو بحوزة الإنسان
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد
فقد وصل كتابكم وما تضمنه من الإفادة عن وجودك بالأردن ضمن القوات السعودية المرابطة به، وأنه يتوفر لديك بعض النقود، وترغب في(82/37)
زكاتها، إلى ما ذكرت كان معلوما (1)
ج: الزكاة تكون فيما دار عليه الحول وهو بحوزة الإنسان من النقود وغيرها من العروض التجارية، والواجب في النقود هو ربع العشر فيما بلغ النصاب، والنصاب الواحد يعادل ستة وخمسين ريالا بالعملة الفضية السعودية الحالية، وعليك إخراج الزكاة فيما يتوفر لديك من النقود ويحول عليه الحول بالمعدل المذكور، سواء بالعملة السعودية أو ما يعادلها من عملة الأردن أو غيرها، وفق الله الجميع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
__________
(1) نشر في الجزء الرابع عشر من (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة) لسماحته، ص 136.(82/38)
كيفية ضبط الموظف ومن له دخل للحول
س: أنا موظف أتقاضى راتبا طيبا والحمد لله إلا أنني لا أعرف كيف أدفع زكاته، هل أخرجها عن كل شهر أم أضع لنفسي حولا معينا لكل ما تحت يدي مما حصلت عليه عن طريق الوظيفة أو غيرها، وإذا نفد المبلغ وتحصلت على مبلغ جديد يصل للنصاب، فهل أبدأ باحتساب الحول من تاريخ المبلغ الأول الذي نفد أم من تاريخ الحصول على المبلغ الجديد؟(82/38)
ج: كلما حصلت على مبلغ يكون بدء الحول من المبلغ الجديد، وكلما جاءك مال ترسم خطة تضبطه بكتابة، فإذا دار الحول على هذا المال الجديد فزكه، فالذي جاء في محرم زكه في محرم، والذي جاءك في صفر زكه في صفر، والذي جاءك في ربيع آخر زكه في ربيع آخر وهكذا، لكن لو قدمت الأخير مع الأول وعجلت زكاة الأخير مع الأول فأنت مشكور ولا بأس، ولو كان عندك راتب شهر محرم وصفر وربيع أول وربيع إلى آخره، كل شهر مكتوب عندك، ثم أخرجت زكاة الشهور هذه مع محرم - قدمتها مع محرم - فلا بأس عليك، فتخرج زكاة الجميع بعد تمام الحول على الأول، ولا بأس عليك في ذلك بل ذلك أفضل، لكن الواجب عليك أن تخرج كل زكاة في وقتها، كلما تم الحول على المال أخرجت الواجب حسب ما كتبت عندك ووقت عندك، وإن عجلت بعض ذلك مع زكاة ما قبله فلا بأس عليك كما تقدم.(82/39)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1)
فقد وصل كتابكم وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الإفادة أنك تدخر شهريا مبلغا من المال يختلف من شهر إلى شهر في حساب الأمانات في
__________
(1) نشر في الجزء الرابع عشر من (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة) لسماحته ص 140.(82/39)
البنك، ولا تأخذ عليه فائدة، لإيمانك العميق بتحريم ذلك، وإنما الإيداع في البنك فقط للحفظ والضمان، وسؤالك عن كيفية إخراج الزكاة عن هذه الأموال المودعة، لأن بعضها مضى عليه سنة والبعض الآخر دون ذلك كان معلوما.
والجواب: من المعلوم أن الزكاة لا تجب إلا فيما حال عليه الحول، والذي أرى في الموضوع هو أن تضع بيانا لديك تسجل فيه ما تودعه في البنك أولا بأول، حتى تعرف تاريخ حصولك على المال، ومن ثم يسهل معرفة ما دار عليه الحول منه.
وإن أمكن إيداع المال المذكور في غير البنك فهو أولى، لأن أكثر البنوك تتعامل بالأعمال الربوية، وإيداع المال عندهم يعينهم على عملهم الخبيث، وفقنا الله وإياك لما فيه رضاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(82/40)
س: إذا ادخر المسلم مبلغا من المال فكيف يكون حساب زكاته في نهاية العام؟
ج: يزكي المسلم كل شيء ملكه من النقود أو عروض التجارة إذا تم حوله، فالذي ملكه في رمضان يزكيه في رمضان، والذي ملكه في شعبان من راتبه أو غيره من النقود أو عروض التجارة يزكيه في شعبان والذي(82/40)
ملكه في شوال يزكيه في شوال، والذي ملكه في ذي الحجة يزكيه في ذي الحجة، وهكذا كل مال من الأموال المذكورة تتم سنته يزكيه على رأس الحول، وإذا أحب أن يعجل الزكاة قبل تمام الحول لمصلحة شرعية فلا بأس وله في ذلك أجر عظيم، أما اللزوم فلا يلزمه الإخراج إلا بعد تمام الحول.(82/41)
س: إنني أعمل في المملكة وكل شهر أستلم مرتبي فعندما يحول الحول كيف أخرج الزكاة، هل في الشهر الأول الذي حال عليه الحول أم عن مرتب السنة كلها التي عملتها من أول الشهر في السنة إلى آخر الشهر الذي أخرج فيه الزكاة؟ (1)
ج: كل ما حال الحول على الراتب فزكه، الشهر الأول يزكى أولا، الثاني هكذا، الثالث هكذا، كل ما تم الحول على راتب وجبت فيه الزكاة إلا إذا أردت تقديم الزكاة عن الأموال المتأخرة مع زكاة الشهر الأول فلا حرج عليك، يجوز تقديم الزكاة لكن لا يلزمك إلا إذا تم الحول على كل راتب.
__________
(1) نشر في الجزء الرابع عشر من (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة) لسماحته ص 142.(82/41)
يجوز تعجيل الزكاة قبل تمام الحول
س: أنا موظف أتسلم راتبا، وكل شهر أدخر جزءا منه، وليس هناك نسبة معينة للادخار، فكيف أخرج زكاة هذا المال؟ (1)
__________
(1) نشر في الجزء الرابع عشر من (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة) لسماحته ص 143.(82/41)
ج: الواجب عليك أن تخرج زكاة كل قسط توفره، إذا تم حوله وكان نصابا. وإن أخرجت زكاة الجميع عند تمام حول القسط الأول كفى ذلك، وصارت زكاة الأقساط الأخيرة معجلة قبل تمام حولها وتعجيل الزكاة قبل تمام الحول جائز، ولا سيما إذا دعت الحاجة، أو المصلحة الشرعية لذلك.(82/42)
س: أنا إنسان مسلم أعمل في القطاع الحكومي ويأتيني دخل شهري مثل أي موظف حكومي. في كثير من الأوقات أدخر من الراتب الشهري مبلغا من المال غير محدد حسب الظروف، مثلا في شهر من الشهور قد أستطيع أن أدخر (2000) ريال، وفي شهر آخر (4000) ريال، وشهر آخر قد لا أستطيع أن أدخر أي شيء، ومع مرور الأيام والشهور تكون عندي مبلغ من المال لا بأس به، فهل تجب فيه الزكاة؟ وكيف أستطيع أن أحدد؟ هل يمضي الحول الكامل على كل مبلغ من المال، حيث إنني لا أتبع نظاما معينا للادخار مما يجعل تحديد الحول صعبا، وأنا أخشى أن أكون عصيت أمر الله في الزكاة دون علم ودراية، لذلك أرجو من سماحتكم توضيح ذلك؟ وجزاكم الله خيرا. (1)
ج: الواجب عليك أن تخرج زكاة كل مبلغ إذا حال حوله، وعليك أن تقيد ذلك بالكتابة حتى تكون على بصيرة، وإذا أخرجت زكاة الجميع إذا حال الحول على أول الادخار كفى ذلك وبرئت ذمتك؛ لأن تعجيل الزكاة قبل تمام حولها لا بأس به. والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في الجزء الرابع عشر من (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة) لسماحته ص 144.(82/42)
س: ما كيفية إخراج زكاة المال بحيث إذا وضع الإنسان جزءا من المال ثم بعد فترة وضع عليه جزءا آخر فكيف يخرج زكاته؟ (1)
ج: إذا حال الحول على ما يبلغ النصاب من النقود أو عروض التجارة أخرج زكاته، وهكذا بقية المال كل جزء يحول عليه الحول يخرج زكاته وإن أخرج عن الجميع عندما يحول الحول على أول المال كفى ذلك؛ لأن تعجيل الزكاة قبل أن يحول الحول جائز، فإذا ملك عشرة آلاف مثلا في رمضان من عام 1403 هـ، فإنه يزكي العشرة الأولى في رمضان من عام 1404 هـ، ويزكي العشرة الثانية من ذي القعدة من عام 1404 هـ، وإن زكى الجميع في رمضان من عام 1404 هـ، فلا بأس، فيكون بذلك قد عجل زكاة العشرة الثانية قبل أن تجب فيها الزكاة ولا حرج في ذلك. والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في الجزء الرابع عشر من (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة) لسماحته ص 145.(82/43)
حكم زكاة ما يستلمه الطلاب من المكافأة الشهرية
س: نحن مجموعة طلاب من خارج المملكة، فهل يجب علينا دفع الزكاة، مع العلم أننا نأخذ مكافأة شهرية كالطلاب، وإذا كان ذلك فكم يجب علينا دفعه؟ وهل يجوز لنا أن نتصدق بها لمساكين هنا، أو تكون كتبرع لبناء مسجد؟ ومتى نصرفها؟ جزاكم الله خيرا (1)
__________
(1) نشر في الجزء الرابع عشر من (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة) لسماحته ص 146.(82/43)
ج: بالنسبة لزكاة الفطر، فهي عليكم كغيركم من المسلمين، وهي صاع من قوت البلد من بر أو أرز أو غيرهما، ومقداره ثلاثة كيلو غرامات تقريبا تدفع إلى الفقراء صباح العيد قبل صلاة العيد، أو قبل ليلة العيد بيوم أو يومين، كما كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعلون ذلك. ولا يجوز تأخيرها إلى ما بعد صلاة العيد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة (1) » أخرجه الإمام البخاري في صحيحه.
أما مرتباتكم الشهرية فليس عليكم فيها زكاة إلا إذا ادخرتم منها شيئا وحال عليه الحول، فإنه يجب عليكم زكاته إذا كان يبلغ النصاب، وهو مائة وأربعون مثقالا من الفضة، أو عشرون مثقالا من الذهب، أو ما يعادلها بالقيمة من العملات الأخرى.
والأفضل دفعها إلى المساكين الموجودين لديكم من المسلمين، ولا يجوز دفعها لتعمير المساجد عند جمهور أهل العلم.
والواجب ربع العشر فيما يزكى من الذهب والفضة والعملات التي تقوم مقامها من الدولار وغيره. والله الموفق.
__________
(1) البخاري الزكاة (1432) ، النسائي الزكاة (2504) ، أحمد (2/157) .(82/44)
الربح تبع الأصل وحوله حول أصله إلا إذا كان ربا
س: الأخ ع. م. ج. من نواكشوط في موريتانيا، يقول في سؤاله: في شهر رمضان من عام 1415 هـ كان عندي مبلغ أربعين ألف أوقية، وقد(82/44)
أخرجت زكاتها في وقتها، وفي شهر رمضان من عام 1416 هـ، زاد المبلغ عشرين ألف أوقية أي أنه أصبح ستين ألف أوقية، وهذه العشرون ألفا جاءتني قبل رمضان 1416 هـ، بشهرين، فكيف أزكي هذه المبالغ السابقة واللاحقة. أفتونا جزاكم الله خيرا. .
ج: إذا كانت العشرون الأخيرة من أرباح الأربعين الأولى فإنها تزكى مع أصلها إذا تم حوله لأن الربح تبع الأصل، وحوله حول أصله، أما إن كانت العشرون حصلت من غير الأرباح كثمن مبيع لم يعد للبيع، وكهدية من بعض إخوانك فزكاتها إذا تم حولها، ولا تكون تابعة لحول الأربعين السابقة كما أوضح ذلك أهل العلم. والله ولي التوفيق.(82/45)
س: الأخ ع. م. م. من عنيزة يقول في سؤاله: كان رصيد حسابي في البنك في شهر رمضان عام 1415 هـ، خمسين ألف ريال، وقد أخرجت زكاتها في حينه، وفي رمضان عام 1416 هـ، أصبح رصيد حسابي تسعين ألف ريال، فهل أزكي التسعين ألف ريال كاملة أو الفرق بين الرصيدين يعني أربعين ألف ريال، لأنني سبق أن أخرجت زكاة الخمسين ألف ريال، وما هو العمل في حالة كون الرصيد في رمضان عام(82/45)
1416 هـ أقل من العام الذي قبله؟ أفتونا جزاكم الله خيرا. .
ج: عليك إخراج زكاة التسعين ألفا؛ لأن الربح تابع للأصل وحكمه في الحول حكم الأصل إذا كان الربح المذكور حصل من طرق شرعية. أما إذا كان عن طريق الربا فليس عليك إلا زكاة الأصل وهو خمسون ألفا، أما الربح الذي حصل من طريق الربا فإنه محرم وليس ملكا لك وإنما الواجب إنفاقه للفقراء والمساكين والتخلص منه مع التوبة إلى الله سبحانه من ذلك. نسأل الله لنا ولك الهداية والاستقامة على الحق، وفق الله الجميع.(82/46)
حول الدين
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخوين الكريمين.. وفقهما الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد (1) .
وصل كتابكم وصلكم الله بهداه، وما به علم، ونفيدكم بأن حول الأرباح هو حول الأصل، فتجب زكاتها مع الأصل الذي هو رأس المال، إلا إذا كان شيء منها أو من الأصل دينا عند الناس، فإنه يزكى عند
__________
(1) نشر في الجزء الرابع عشر من (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة) لسماحته ص 150.(82/46)
القبض، إلا إذا كان الذي عليه الدين مليئا غير مماطل، يسلم ما عليه متى طلب منه، فإن مثل هذا حكمه حكم الحاضر في اليد، فيزكى عند تمام الحول إذا كان حالا.
أما إذا كان الدين على معسر لا يدرى هل يحصل منه المال أو يتلف، فإن مثل هذا المال لا تجب زكاته في أصح أقوال العلماء؛ لأنه ليس في يد المالك حتى يواسي منه الفقراء، ومتى قبضه استقبل به حولا، أما ما مضى فلا يلزمه عنه شيء.
والاعتبار في حول الزكاة بمرور السنة على المال من حين ملك بإرث أو غيره، سواء كان أول السنة الهجرية أو غيره، وفق الله الجميع للفقه في الدين والثبات عليه إنه خير مسئول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(82/47)
ما بلغ نصابا وحال عليه الحول ففيه زكاة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم م. ع. ف. سلمه الله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 551 وتاريخ 9 / 2 / 1407 هـ الذي تسأل فيه: عن المبلغ الذي يمضي عليه الحول(82/47)
وتخرج زكاته، ثم يمضي عليه حول آخر دون أن يتصرف فيه صاحبه، هل تجب فيه الزكاة؟
وأفيدك بأنه إذا كان لدى رجل نقود من المال تبلغ نصابا، ومضى عليها حول وأخرجت زكاتها، ثم مضى عليها حول آخر وجب على مالكها أن يخرج زكاتها، وهكذا كلما مضى عليها حول ما دام أنها تبلغ النصاب. وفق الله الجميع لما فيه رضاه إنه سميع مجيب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(82/48)
المال الموضوع في البنك الإسلامي
حكمه حكم غيره من الأموال
س: هناك كما هو معروف عن زكاة المال ما يدفعه المرء عن مال حال عليه الحول، كأموال التجارة، والمحاصيل، والذهب والفضة.
ولكن نريد أن نعرف الزكاة عن نصاب من المال موضوع في بنك إسلامي هل هي النسبة نفسها، مع العلم أن نسبة الربح من هذا البنك ضئيلة؟ (1)
ج: المال الموضوع في البنك الإسلامي حكمه حكم غيره من الأموال تجب فيه الزكاة إذا حال عليه الحول مع ربحه، وهي ربع العشر في الأصل والربح.
__________
(1) نشر في الجزء الرابع عشر من (مجموع فتاوى ومقالات) لسماحته، ص 153.(82/48)
حكم التعامل مع البنوك بالربا وزكاتها
س: كثير من الناس يتعامل مع البنوك وقد يدخل في هذه المعاملات معاملات محرمة كالربا مثلا، فهل في هذه الأموال زكاة وكيف تخرج؟ (1)
ج: يحرم التعامل بالربا مع البنوك وغيرها، وجميع الفوائد الناتجة عن الربا كلها محرمة، وليست مالا لصاحبها، بل يجب صرفها في وجوه الخير إذا كان قد قبضها وهو يعلم حكم الله في ذلك، أما إن كان لم يقبضها فليس له إلا رأس ماله؛ لقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (3) ، أما إن كان قد قبضها قبل أن يعرف حكم الله في ذلك فهي له، ولا يجب عليه إخراجها من ماله؛ لقول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (4)
وعليه زكاة أمواله التي ليست من أرباح الربا كسائر أمواله التي يجب فيها الزكاة، ويدخل في ذلك ما دخل عليه من أرباح الربا قبل العلم، فإنها من جملة ماله؛ للآية المذكورة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) نشر في الجزء الرابع عشر من (مجموع فتاوى ومقالات) لسماحته، ص 154.
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 275(82/49)
حكم زكاة النقود العربية
والأجنبية المجموعة على سبيل الهواية
س 4: رجل يهوى جمع الفلوس العربية والأجنبية هواية فقط، وهذه الفلوس منها النفيس، ومنها دون ذلك، فهل عليها زكاة إذا حال عليها الحول؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: تلزمه زكاتها إذا حال عليها الحول، وبلغت النصاب؛ لعموم الأدلة من الكتاب والسنة؛ لأنها في حكم النقود إذا كانت ما يتعامل به، وتقوم مقامها كالعمل الورقية، والله أعلم.
__________
(1) نشر في (كتاب الدعوة) ج1 ص102، ونشر في الجزء الرابع عشر من (مجموع فتاوى ومقالات) لسماحته، ص 155.(82/50)
حكم زكاة أقلام الذهب
س: أتتني هدية وهي عبارة عن أقلام من الذهب، فما حكم استعمالها؟ وهل على هذه الأقلام زكاة أم لا؟ أفيدوني أفادكم الله. (1)
ج: الأصح تحريم استعمالها على الذكور؛ لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها (2) » .
__________
(1) نشر في الجزء الرابع عشر من (مجموع فتاوى ومقالات) لسماحته، ص 155.
(2) رواه الإمام أحمد في (أول مسند الكوفيين) حديث أبي موسى الأشعري برقم (19008) ، والنسائي في (الزينة) باب تحريم الذهب على الرجال برقم (5148) .(82/50)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الذهب والحرير: «هذان حل لإناث أمتي حرام على ذكورهم (1) » .
أما ما يتعلق بالزكاة فإن بلغت هذه الأقلام نصاب الزكاة بنفسها أو بذهب آخر لدى مالكها يكمل النصاب وجبت فيها الزكاة إذا حال عليها الحول، وهكذا إن كان عنده فضة أو عروض تجارة يكمل بها النصاب وجبت الزكاة في أصح قولي العلماء؛ لأن الذهب والفضة كالشيء الواحد.
__________
(1) رواه ابن ماجه في (كتاب اللباس) باب لبس الحرير والذهب للنساء برقم (3595) .(82/51)
صفحة فارغة(82/52)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
من ينام عن الصلاة ثم يصليها بعد خروج وقتها
س: يقول لدي أخ أكبر مني يحافظ على صلاة الجماعة عدا صلاة العصر فإنه يتكاسل عنها ولا يصليها إلا بعد ساعة من دخول الوقت وقد نصحته، ولكنه يحتج بأنه متعب ويريد النوم فماذا أفعل معه؟
وكذلك أخ آخر أيضا يحافظ على الجماعة عدا صلاة الفجر، وذلك لثقل نومه، ولكن إذا رجعنا من الصلاة أيقظناه بشتى الوسائل فيصلي ولله الحمد. فهل عليه إثم وما حكم من نام عن صلاة الفجر إلى طلوع الشمس وكان هذا هو حاله في أكثر الأيام؟
الجواب: صلاة الجماعة واجبة في المسجد، ولا ينبغي للمسلم أن يشغله عن الصلاة شاغل بل يجعلها أهم أشغاله وإذا أعطى نفسه مناها واسترخى بعد العمل وبعد تناول الطعام فغلب عليه النوم فإن هذا تفريط منه ينبغي أن يكون يقظا حذرا بعيدا عن وساوس الشيطان الذي يثقل عليه(82/53)
الطاعة ويعسرها عليه، ويمنيه ويرغبه في الكسل والخمول حتى تفوته، وهذا من الحرمان، نسأل الله العافية.
فعليك أخي أن تحافظ على صلاة العصر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلى البردين دخل الجنة (1) » والبردان هما العصر والفجر. وأما أخوك الثاني الذي ينام عن صلاة الفجر حتى تطلع الشمس فهذا قد ارتكب خطأ عظيما فإن تأخير الصلاة عن وقتها بلا عذر شرعي هذا يرى قسم من العلماء أنه لا يقضيها ويعدونه قد وقع في ضلال عظيم، حيث يرونه أنه قد كفر بذلك والعياذ بالله. والنوم ليس عذرا على الدوام كحال من يتخذ النوم عادة يترك لأجلها الصلاة ويضيعها فهذا من الخطأ، ومن نام دائما عن صلاة الجماعة وبإمكانه القيام فلم يقم فهو آثم بلا شك ومخطئ. وأما أخوكم ثقيل النوم إذا أيقظتموه، ولم يستيقظ لثقل نومه والله يعلم منه ذلك وأنه يحتاج إلى وقت طويل ولا يؤثر معه المنبه، فأرجو من الله أن يعذره على ما يحصل من تقصير لكن عليه الاجتهاد وبذل الجهد لعل الله أن يعينه. وقد ذكروا أن صفوان بن معطل كان ثقيل النوم حتى إن النبي انتقل وأصحابه رضي الله عنهم من المكان الذي هم فيه وساروا ولم يشعر بذلك ولم يستيقظ إلا بحر الشمس دل على أن هذا ثقل نوم ملازم له والأمر الذي يخرج عن قدرة الإنسان يعذر به، فالله تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) .
__________
(1) البخاري مواقيت الصلاة (549) ، مسلم المساجد ومواضع الصلاة (635) ، أحمد (4/80) ، الدارمي الصلاة (1425) .
(2) سورة البقرة الآية 286(82/54)
كان الزوجان لا يصليان ثم التزما، فهل يجددان عقد الزواج؟
س: يقول تزوج رجل بامرأة وكانا لا يصليان حتى بعد الزواج، ولكن هداهم الله وبدأ الاثنان بالصلاة، فهل يجب عليهما تجديد العقد أو كيف توجهونهما؟
ج: أرجو الله لهما التوفيق وأن يرزقهما الله عملا صالحا يكفر الله به ما سبق من سيئات الأقوال والأعمال، ويثبتهما على الحق. وعليهما تجديد العقد، والالتزام بالصلاة؛ لأنها عظيمة، وتركها كفر في أصح قولي العلماء لظواهر الأدلة.(82/55)
زوجها لا يصلي رغم نصيحتها له، هل تستمر معه؟
س: سائلة تقول: زوجي لا يصلي وكلما أنصحه يقول: إن شاء الله سوف أصلي ونحن متزوجون منذ اثنتي عشرة سنة، ودائما يترك المنزل غضبا مني ويقول: لن أعود إلى المنزل حتى تعرفي كيف تتكلمين معي وتتركين مضايقتي بهذا الكلام وعندي خمسة أولاد هل أترك نصيحتي له أم كيف توجهونني جزاكم الله خيرا؟
ج: يا أختي واصلي نصيحته ولا يضرك كونه يغضب وكونه يترك المنزل وابقي مع أولادك وتولي تربيتهم وانصحي زوجك وأكثري من(82/55)
النصح له وامتنعي عن الفراش، فلعل ذلك من أسباب هدايته وتبصره في واقعه إن شاء الله، وإن علمت أحدا له تأثير عليه من أقاربك فاطلبي منه أن ينصحه، وعليك بالرفق في شأنك معه حتى يلين قلبه لقبول الحق.(82/56)
من مات وعليه صلاة
س: هل هناك كفارة من يموت، وعليه صلاة وما هي الكفارة وجهونا جزاكم الله خيرا؟
ج: الأصل أن الصلاة يجب أن يصليها المسلم على أي حال كان قائما، قاعدا، مضطجعا على جنبه، مستلقيا، ما دام العقل حاضرا، فيؤدي الصلاة على قدر استطاعته، وأما لو أغمي عليه وفقد عقله ومات في إغمائه فإنا نقول الصلاة سقطت عنه؛ لأنه أغمي عليه وفقد التكليف فلا يقضى عنه؛ لأن الصلاة لا تقبل النيابة ولا يكفر عنه، لكن بعض المرضى قد يشق عليه أن يصلي يقول أنا على غير طهاة أنا على غير قبلة، ملابسي قذرة نقول يا أخي هذه كلمة ليست أعذارا صل على قدر استطاعتك ولكن لو قدر أن هذا وقع ومات وهو يظن أنه لا تجب عليه الصلاة إلا إذا استكمل الطهارة وسائر شروط الصلاة فنقول لعل الله أن يعفو عنه والله يعلم بسره وعلانيته، ولا كفارة في ذلك ولا نيابة، وأمره إلى الله عز وجل.(82/56)
من ترك صلاة هل تقبل صلواته الأخرى؟
س: ماذا على الإنسان إذا ترك إحدى الصلوات كالفجر مثلا هل تقبل منه الصلوات الباقية وما نصيحتكم لمن يفعل ذلك؟
ج: أوجب الله عليك في يومك وليلتك خمس صلوات فإذا تركت فريضة بلا عذر من نوم أو نسيان فإنه يخشى عليك من عقوبة الله بل من العلماء من يقول من ترك فرضا متعمدا فإنه يكفر بهذا الأمر فإن الله أوجب عليك خمس صلوات فاجتهد أخي في المحافظة عليها وإن كان قد جرى منك شيء من ذلك فيما مضى فتب إلى الله في مستقبل عمرك وتقرب إليه بنوافل العمل واسأله العفو والتجاوز عما مضى مع المحافظة التامة على الصلاة فيما بقي من عمرك، لعل الله أن يقبل توبتك ويقيل عثرتك.(82/57)
س: سائلة من مصر تقول: زوج أختي لا يصلي وتزجره أختي كثيرا وتنصحه دائما فما موقف أختي الشرعي بالنسبة لهذا الزوج؟
ج: يجب على الأخوات المسلمات تقوى الله والتعامل مع أزواجهن ونصيحة الأزواج وحملهم على الخير فإن المرأة الصادقة المسلمة إذا اتقت الله وصبرت على زوجها وناصحته وجعلت نصحها ممزوجا بمحبة له حتى يرتاح منها ويقبل نصيحتها وتوجيهها وأخلصت لله نيتها فإني أرجو من الله أن يجعل على يديها أثرا في صلاح قلبه واستقامة حاله فإياك أيتها المسلمة أن تضجري من زوجك وإياك أن تسأمي بمجرد خطأ منه بل(82/57)
استعيني بالله وواصلي الخير وادعيه إلى الله بحكمة وموعظة حسنة ورفق ولين واغتنام لكل فرصة وإنك على أجر وفي جهاد، وأسأل الله أن يجعلك من الدعاة إليه على علم وبصيرة، وأما زجره وتعنيفه فهذا لا يليق بل هو مدعاة لنفرته وعدم قبوله للحق.(82/58)
س: سائلة من سوريا تقول: أخي مريض جدا ولم ينفع معه الدواء وحالته تسوء يوما بعد يوم، وأسأل فضيلتكم عن أدعية نبوية شريفة أتوجه بها إلى الله سبحانه وتعالى كي يستجيب دعاءنا ويشفي أخانا مع العلم أننا والحمد لله نصلي وندعو الله ليلا ونهارا حتى أذان الصبح راجين الله أن يستجيب دعاءنا، نرجو نصحكم وجزاكم الله خيرا؟
ج: أولا يا أختي انصحي أخاك بالصبر والاحتساب وذكريه أن المصائب سبب لحط الذنوب والخطايا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المؤمن من مصيبة حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه (1) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة (2) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فعليه السخط (3) » .
فأوصوه بالصبر والاحتساب وأنتم كذلك والجئوا إلى الله واسألوه كشف الضر عن أخيكم، وابذلوا الأسباب النافعة من العلاج النافع
__________
(1) البخاري المرضى (5318) ، مسلم البر والصلة والآداب (2573) ، الترمذي الجنائز (966) ، أحمد (3/19) .
(2) الترمذي الزهد (2398) ، ابن ماجه الفتن (4023) ، أحمد (1/180) ، الدارمي الرقاق (2783) .
(3) الترمذي الزهد (2396) .(82/58)
بالقرآن والأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك أيضا عليكم مراجعة الأطباء المختصين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «تداووا عباد الله ولا تتداوو بحرام (1) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله من داء إلا أنزل دواء علمه من علمه وجهله من جهله (2) » والله جل وعلا قد ذكر لنا من دعاء أنبيائه عليهم السلام لما نزلت بهم الكربات، قال الله جل وعلا: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (3) ، قال الله عز وجل: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} (4) ، والله تعالى يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (5) ، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا يرد القضاء إلا الدعاء (6) » ، فالدعاء ينفع مما كان، ومما لم يكن، فالدعاء مطلوب من المؤمن، سواء تحقق مطلوبه بالشفاء أو عاد عليه الدعاء بخير، رفعة في درجاته أو حطا عن خطاياه أو دفعا لما هو أعظم من البلاء، ونسأل الله أن يشفي أخاك وسائر مرضى المسلمين.
__________
(1) أبو داود الطب (3874) .
(2) ابن ماجه الطب (3438) ، أحمد (1/413) .
(3) سورة الأنبياء الآية 83
(4) سورة الأنبياء الآية 84
(5) سورة النمل الآية 62
(6) الترمذي القدر (2139) .(82/59)
س: هل تجوز غيبة الذين لا يؤدون الصلاة إطلاقا والاستهزاء بهم؟
ج: الواجب عليك في هذه الحال نصيحة من لا يصلي وتذكيره بالله عز وجل وتبين له خطورة ترك الصلاة، فإن استجاب فالحمد لله، وإلا إن علمت أن نصيحة غيرك له أبلغ فاذهب وأخبره بالواقع بقصد النصح لا الشماتة والاغتياب المحض، وهذه الصور من الصور المستثناة من تحريم الغيبة بالإجماع.(82/59)
س: كانت جدتي لا تصلي وكنت أحاول معها كثيرا ولكن بدون فائدة لأنها كانت مريضة، وقد تجاوزت السبعين عاما وهي أمية وطيبة جدا، وقد أديت عنها العمرة في شهر رمضان، فهل تقبل هذه العمرة؟
أفيدونا جزاكم الله خيرا.
ج: إن كانت أمك حية فأكثر من نصيحتها وخوفها من الله ورغبها فيما عند الله وحثها على أداء الصلاة، وأن الصلاة تجب على المسلم سواء أكان صحيحا أو مريضا أو مسافرا أو مقيما خائفا أو آمنا يؤديها على قدر استطاعته ولا يحل له أن يعطل الفريضة بعذر أنه مريض، وواصل نصحها عسى الله أن يفتح على قلبها؛ وأما عمرتك عنها فإن كانت أمك لقيت الله وهي لا تصلي فإني أخشى ألا تنتفع بتلك العمرة؛ لأن من ترك الصلاة متعمدا فإنه لا ينفعه أي عمل وأما إن كانت حية فلعل الله أن ينفعها لكن بشرط أن تتبع ذلك بأداء الصلاة، فأما إذا أصرت على عدم الصلاة فإنه لا يقبل منها أي عمل إلا أن يكون مرضها خرفا نظرا لكبر سنها بحيث لا تدرك ولا تعي ما حولها فإنها معذورة وقد سقط عنها قلم التكليف بذلك، نسأل الله السلامة والعافية.(82/60)
س: امرأة لا تصلي إلا في رمضان وفي بعض الأيام، ولكنها، تتصدق وتساعد المحتاجين، فهل تارك بعض الفروض كافر وخارج عن الملة، وهل أعمال هذه المرأة الصالحة تكفر عنها وهل نأكل من طعامها؟(82/60)
ج: صلاتها في رمضان وتركها الصلاة في خارج رمضان دليل على ضعف الإيمان في قلبها فكونه يمر عليها أشهر لا تصلي فيها وإنما تكتفي بالصلاة في رمضان دليل على جهلها وقلة إيمانها وقلة خوفها من الله، الواجب عليها أن تصلي لله في كل شهور العام في رمضان وفي غيره وتركها للصلاة في غير رمضان هذا خطير جدا فإن من العلماء من يقول إن من ترك صلاة متعمدا حتى خرج وقتها فإنه يكفر بذلك فيخشى عليها والعياذ بالله من الضلال، فالواجب عليها أن تتوب إلى الله وتحافظ على جميع الصلوات وصدقاتها وإحسانها مع تضييعها للصلاة لا ينفعها ولا يفيدها.(82/61)
س: تقول هل نأكل من طعامها؟
ج: الطعام غير اللحم يؤكل منه، أما الذبائح لو ذبحها من لا يصلي فلا يؤكل من ذبيحته.(82/61)
س: قرأت أن تارك الصلاة كافر وملحد، وقرأت أنه لا يخلد في النار غير المشركين بالله، فهل تارك الصلاة مخلد في النار، وهل يعتبر مشركا؟
ج: الأخت تسأل عن تارك الصلاة هل إذا قلنا بكفره يكون حكمه حكم عباد الأوثان، وحكم الملحدين الكافرين بالله خالدا مخلدا في النار أم لا؟ وتقول إنها قرأت أن عصاة الموحدين يخرجون من النار، نقول يا أختي أما عصاة الموحدين مرتكبو الكبائر فإنه إن تابوا إلى الله قبل الله توبتهم وإن لقوا الله بلا توبة فإن الله جل وعلا إن شاء عذبهم على قدر(82/61)
معاصيهم وإن شاء غفر لهم والله غفور رحيم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) ، لكن تارك الصلاة هذا له شأن آخر، فالصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام وقد اختلف العلماء في حكم تارك الصلاة أعني من تركها عامدا مع إقراره بوجوبها هل يكون هذا الترك كفرا ينقل عن الملة أم لا؟ أما كون تارك الصلاة يوصف بالكفر، هذا لا إشكال فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «بين العبد وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة (3) » لكن هل هذا الكفر كفر ينقل عن الملة ويخرج عن الإسلام أم لا؟ أجمع المسلمون على أن من أنكر أو جحد وجوب الصلاة فإنه يكفر الكفر الأكبر؛ لكن من أقر بوجوبها مع تركه لها فإن هناك خلافا بين العلماء في الحكم عليه، فمنهم من حكم عليه بالكفر الأكبر، وأخرجه بهذا من الإسلام، وقال إن النصوص أطلقت عليه الكفر في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (4) » وقول عمر رضي الله عنه: (ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة) والله جل وعلا جعل من صفات سكان النار عدم أداء الصلاة: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (5) {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (6) {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} (7) {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} (8) {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} (9) ، ومن العلماء من قال هذا كفر أصغر لا ينقل عن الملة وعلى كل حال فترك
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) الترمذي الإيمان (2621) ، النسائي الصلاة (463) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، أحمد (5/346) .
(3) مسلم الإيمان (82) ، الترمذي الإيمان (2618) ، أبو داود السنة (4678) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، أحمد (3/389) ، الدارمي الصلاة (1233) .
(4) الترمذي الإيمان (2621) ، النسائي الصلاة (463) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، أحمد (5/346) .
(5) سورة المدثر الآية 42
(6) سورة المدثر الآية 43
(7) سورة المدثر الآية 44
(8) سورة المدثر الآية 45
(9) سورة المدثر الآية 46(82/62)
الصلاة مصيبة عظيمة وذنب عظيم يخشى على صاحبه أن يلقى الله على غير هدى، فالواجب تقوى الله والمحافظة على الصلوات الخمس والاهتمام بها.(82/63)
س: إذا كان هناك إنسان متخلف عقليا وأبكم لا يستطيع الكلام ولا يفهم شيئا ويبلغ من العمر عشرين عاما فهل عليه صلاة وصيام أم أنه ليس عليه شيء من أحكام الإسلام، أفيدونا مأجورين؟
ج: الله جل وعلا جعل خطاب الشرع لأهل العقول، يقول الله عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1) فالذين يعقلون عن الله هم المكلفون بالأوامر الشرعية من صلاة وزكاة وصوم وحج وغير ذلك وأصل ذلك إخلاص الدين لله وإفراد الله بالعبادة، أما فاقد العقل فإنه لا شيء عليه، في الحديث: «رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يبلغ (2) » فمن تخلف عقليا فإنه غير مخاطب والله يعلم بحاله وأمره إلى الله لكنا في الدنيا لا نأمره لأن من شرط الأوامر أن يكون المأمور بالغا عاقلا وهذا غير عاقل فلا يخاطب بالشريعة.
__________
(1) سورة الرعد الآية 4
(2) الترمذي الحدود (1423) ، ابن ماجه الطلاق (2042) ، أحمد (1/140) .(82/63)
حكم بول الغنم وروثها
س: فضلات الأغنام هل تؤثر على طهارة الملابس وطهارة الجسم أم يجوز له أن يصلي وإن أصابه شيء من ذلك حفظكم الله؟ وجزاكم خيرا.
ج: الأصل أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهر، فالنبي صلى الله عليه وسلم عليه(82/63)
وسلم لما جاءه العرنيون وهم يريدون المدينة واجتووا المدينة فلم تناسب حالهم أمرهم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، فيدل ذلك على طهارة أبوال ما يؤكل لحمه وألبانها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل (1) » وليس أعطان الإبل لأجل نجاستها لكن خوفا من أن يتأثر المصلي بشيء من أجزائها لما فيها من الغلظة والشراسة، وقال صلوا في مرابض الغنم، فلما أذن بالصلاة في مرابض الغنم، دل على طهارة بول الغنم وروثه فما أصاب الثوب من ذلك فإنه ليس بنجس.
__________
(1) الترمذي الصلاة (348) ، ابن ماجه المساجد والجماعات (768) ، الدارمي الصلاة (1391) .(82/64)
بقاء بقع النجاسة بعد الغسل
س: ما حكم الصلاة في ثوب فيه بقع من جرح دم علما بأن الثوب قد غسل وجف ولكن ما زالت آثاره باقية جزاكم الله خيرا.
ج: النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء رضي الله عنها في دم الحيض: «ثم تقرصيه ثم تنضحيه بالماء ثم تصلي فيه (1) » وفي لفظ قالت يا رسول الله إن لم يذهب قال: «يكفيك الماء ولا يضرك أثره (2) » فإذا غسلت الثوب وغسلت بقع الدم واجتهدت في غسلها ولكن هذه البقع لم تذهب بعد غسلها، فلا يضرك بقاء الأثر.
__________
(1) البخاري الحيض (301) ، مسلم الطهارة (291) ، الترمذي الطهارة (138) ، النسائي الطهارة (293) ، أبو داود الطهارة (361) ، ابن ماجه الطهارة وسننها (629) ، أحمد (6/346) ، مالك الطهارة (136) ، الدارمي الطهارة (772) .
(2) أبو داود الطهارة (365) ، أحمد (2/364) .(82/64)
طهارة المكان
س: لا أصلي عند الجيران أو الأقارب لأنني دائما أخاف وأشك أن يكون المكان الذي أصلي فيه غير نظيف والسجادة التي أصلي عليها غير طهارة مع العلم بأن أقاربي وجيراني يصلون وبيوتهم نظيفة والحمد لله ولكنني في حالة شك دائما، أرجو أن توضحوا لي هذا الموضوع جزاكم الله خيرا ولا سيما وقد قرأت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الموضع الذي يبول فيه الحسن والحسين رضي الله عنهما فقالت له عائشة ألا تخص لك موضعا من الحجرة أنظف من هذا؟ فقال: يا حميراء أما علمت أن العبد إذا سجد لله سجدة طهر الله موضع سجوده إلى سبع أرضين؟
ج: هذا من الضعف ومن سيطرة الشيطان ووساوسه فالشيطان تغلب عليك في هذا الجانب وسيطر عليك بوساوسه وأوهامه وإلا فالأصل أن الأرض طهور ما لم يعلم أن تلك البقعة فيها نجاسة وإلا فالأصل طهارة الأرض يقول صلى الله عليه وسلم في بيان خصال اختصه الله بها: «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل (1) » وفي لفظ: «فعنده مسجده وطهوره (2) » فالأرض الأصل فيها الطهارة فلا تحكم على بقعة بنجاسة إلا إذا وجدت عين النجاسة فيها وإلا فالأصل طهارة عموم الأرض وكذلك السجاد الذي عند جيرانك
__________
(1) البخاري التيمم (328) ، مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، النسائي الغسل والتيمم (432) ، أحمد (3/304) ، الدارمي الصلاة (1389) .
(2) أحمد (5/248) .(82/65)
الأصل طهارته ما لم تري عليه نجاسة، وأما دعوى أن الأطفال ربما مروا به وربما رمي عليه حذاء متلوث من دورات المياه كما يتوهم البعض فكل هذه أمور لا أثر لها.
وأما ما ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم في الموضع الذي بال فيه الحسن والحسين وأن عائشة اقترحت عليه بقولها: لو اتخذت موضعا غيره، قال: إن العبد إذا سجد لله سجدة طهر الله موضع سجوده إلى سبع أرضين. فلعل هذا حديث موضوع لا أصل له؛ لأن الأصل طهارة الأرض ولكن إذا وجدنا بقعة فيها نجاسة، فالواجب أن نترفع عنها ونصل في موضع نقي أو نزيل تلك النجاسة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بال الأعرابي في المسجد أمر بذنوب من ماء فصب على ذلك المكان، ولأنا نهينا عن الصلاة في الحشوش، لأن فيها النجاسة، فالمقصود أن البقعة من الأرض إذا علمنا وجود نجاسة فيها طهرناها قبل أن نصلي عليها أما أن نصلي عليها والنجاسة معلومة فهذا غير جائز.(82/66)
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
من الفتوى رقم 2156
بناء المتاجر تحت المسجد
س: في مدينة فلفلال من مقاطعة ملبسبا مساجد بنيت على دور واحد في أراضي متسعة المساحة وليس لها غلة، وقد وفق الله بعض أهل الخير على إعادة بناء المسجد من طابقين: الطابق العلوي للعبادة، والطابق السفلي يبنى فيه دكاكين تؤجر على المسلمين، وما يرد منها ينفق على المسجد لسد حاجاته، فما رأي الشرع في ذلك؟
ج: يجوز جعل الطابق الذي تحت المسجد حوانيت تؤجر لصالح المسجد من أجل سد حاجاته.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(82/67)
فتوى رقم 5173
البناء على المسجد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد: لقد اطلعت على السؤال المقدم من معالي وزير الحج والأوقاف إلى سماحة الرئيس العام والمحال إليها برقم 2100 في 5 \ 11 \ 1402هـ، ونصه: أن المواطن عبد الله صالح يذكر في خطابه إلينا بتاريخ 20 \ 4 \ 1402هـ أن مسجد الإخاء الإسلامي في مدينة جدة جنوبي دكاكين ابن لادن يوجد فوقه بيت يسكنه أهله وهو يظن أنه لا يجوز أن يقوم السكن فوق المسجد، فما حكم الشرع في ذلك؟
وأجابت بما يلي:
إذا أنشئ بناء مسجد مستقلا كان سقفه وما علاه تابعا له جاريا عليه حكمه، فلا يجوز بناء سكن عليه لأحد.
أما إذا كان المسجد طارئا على المسكن، مثل ما لو أصلحت الطبقة السفلى من منزل ذي طبقات وعدلت لتكون مسجدا جاز إبقاء ما عليه من الطبقات مساكن لسبق تملكها على جعل الطبقة السفلى مسجدا، فلم يكن ما فوقه تابعا له.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(82/68)
فتوى رقم 2851
ضم مكان الحمامات إلى المسجد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد:
فقد اطلعت على ما ورد إلى سماحة الرئيس العام من المستفتي وكيل وزارة العدل للشئون القضائية والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم 25 \ 2 في 5 \ 1 \ 1400هـ.
والسؤال هو:
أفيد فضيلتكم بأن مسجد الشربتلي مزدحم بالمصلين، ويوجد من الناحية الشرقية حمامات ونرغب ضم الحمامات إلى المسجد للضرورة فهل يجوز ذلك أم لا..؟
والجواب: تنقل المراحيض والحمامات التابعة للمسجد إلى الأرض التي حصلوا عليها، وتجعل أرض المراحيض والحمامات توسعة للمسجد إذا كانت المصلحة العامة تقتضي ذلك، وليس فيه محذور شرعي لكن يكون بعد تنظيف الأرض التي شغلت بالمراحيض والحمامات.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(82/69)
من الفتوى رقم 12844
بناء القبة فوق المسجد
السؤال الرابع: هل يجوز بناء القبب في المساجد إذا كانت لغرض الإضاءة والتهوية؟
ج: لا نعلم حرجا في ذلك إذا كان الأمر كما ذكر في السؤال.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(82/70)
من الفتوى رقم 6011
السؤال الأول: لنا مسجد وعليه دائرة إذا كان وقت الشتاء داخل المسجد سخن، هل يجوز لنا أن نصلي في الدائرة التي على المسجد لسبب السخانة؟
ج: تعتبر الدائرة التي على المسجد من المسجد فتجوز الصلاة فيها في فصل الشتاء وغيره.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(82/70)
من الفتوى رقم 5276
الإصلاح في المسجد
السؤال التاسع: إذا أصلحت شيئا في المسجد فهل هذا صدقة أم لا؟ وما حكمه مع أن للمسجد مزارع؟
ج: يعتبر ذلك صدقة وإحسانا سواء كان للمسجد مزارع أم لا، ولكن لا يصرف من الزكاة المفروضة، وتؤجر على هذه الصدقة إذا أخلصت النية لله في ذلك، وكانت من كسب حلال.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(82/71)
فتوى رقم 6857
دورات المياه حول المسجد
س: لاحظت عدة مساجد يوضع ملاصقا لها أو تحت مناراتها أماكن للوضوء وحمامات، وحيث إن من الأولى تكريم المأذنة وعدم وضعها(82/71)
سقفا لذلك فإنني أرجو بحث هذه الظاهرة والإفادة لنا بالحكم، لإمكانية التنبيه، حفظكم الله.
ج: إذا كان الواقع كما ذكرت من أن أماكن الوضوء والحمامات.. إلخ وضعت تحت المنارات وملاصقة لجدار المساجد فلا حرج في ذلك إذا لم يحصل على المساجد وأهلها أذى منها؛ لعدم وجود دليل شرعي يمنع من ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(82/72)
فتوى رقم 12281
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه.. وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفتاء المقدم لسماحة الرئيس العام من مدير أوقاف ومساجد منطقة الجوف برقم 1576 في 3 \ 9 \ 1409هـ ونصه: يقوم المواطن حمود بن عقلا الفلاح بإنشاء مسجد شرق حي الشلهوب بمدينة سكاكا الجوف على حسابه جزاه الله خيرا وبموجب شروط ومواصفات ومخططات وترخيص، إلا أنه عندما أراد عمل جورة الامتصاص (بيارة المسجد) طلبت منه البلدية عملها داخل حوش المسجد.(82/72)
ولعلمنا بأن هذه الجورة (بيارة المسجد) لا يجوز إنشاؤها تحت أرض المسجد من الناحية الشرعية، وقد أفاد المتبرع بأنه يرغب في عمل الحفرة (البيارة) في شارع ضمن ملكهم، والبلدية تطلب إنشاءها داخل حوش المسجد، لذلك نأمل من فضيلتكم التكرم بإفادتنا عن مدى جواز عمل حفرة الامتصاص (البيارة) داخل أرض المسجد من عدمه، مع التفضل بالإحاطة بأنه قد يحدث أحيانا أن تفيض تلك البيارة فجأة مما يترتب عليه عدم طهارة الحوش والمكان الذي تفيض فيه، وفي ذلك أذى للمصلين، فضلا عما ينبعث عنها من روائح كريهة وتؤذيهم أيضا، وقد يستمر ذلك وقتا غير قليل ريثما يتم سحبها، بالإضافة إلى ما تتركه من آثار ومخلفات في الحوش حتى بعد سحبها مما يؤدي إلى عدم طهارة حوش المسجد الذي يمر فيه المصلون إلى داخل المسجد.
وأجابت بما يلي:
إذا كان الأمر كما ذكر فلا يجوز حفر البيارة في داخل المسجد؛ لأنها على المدى البعيد قد تتسرب النجاسة إلى المسجد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(82/73)
فتوى رقم 1874
وضع الصور في المسجد والصلاة في مكان فيه صور
س: إننا منذ سنوات في إحدى الدوائر الرسمية وقد خصص لنا إحدى صالات التوزيع في المبنى الذي نعمل فيه، نصلي فيها جماعة وقت وجودنا بالعمل، ومنذ مدة وضع في الجدار الأمامي اتجاه القبلة عدد من الصور الكبيرة لشخصيات كبيرة، وتحرجنا كثيرا من وجود هذه الصور أمامنا في الصلاة فما رأيكم في نصب الصور في المكان المخصص لصلاة المسلمين منذ زمن، وهل نستمر في الصلاة مع وجودها؟
ج: الصلاة صحيحة، ولا حرج عليهم إن شاء الله في ذلك إذا كانوا مضطرين للصلاة في المكان المذكور؛ لعدم وجود مسجد قريب منهم، ولكن يجب عليهم أن يبذلوا وسعهم مع المسئولين لإزالة الصور من هذا المكان، أو إعطائهم مكانا آخر ليس فيه صور؛ لأن الصلاة في المكان الذي فيه الصورة أمام المصلين فيه تشبه بعباد الأصنام، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة دالة على النهي عن التشبه بأعداء الله والأمر بمخالفتهم، مع العلم بأن تعليق الصور ذوات الأرواح في الجدران أمر لا يجوز، بل هو من(82/74)
أسباب الغلو والشرك، ولا سيما إذا كانت من صور المعظمين.
ونسأل الله للجميع التوفيق والهداية.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(82/75)
من الفتوى رقم 1619
السؤال الثالث: ما حكم من وضع صورة إنسان أو حيوان في المسجد؟ وهل تجوز الصلاة في ذلك المسجد أم لا؟ وهل تصح الصلاة في الثوب الذي فيه صورة إنسان أو حيوان وهل يصح تزيين حجرة الدراسة أو حجرة النوم بصورة إنسان أو حيوان؟
ج: لا يجوز وضع صورة إنسان أو حيوان في المسجد، ويجب أن تزال من المسجد الذي هي فيه، ومن صلى فيه والصورة فيه فصلاته صحيحة، وعليه أن لا يجعل الصورة أمامه والإثم على من وضعها، ومن يستطيع إزالتها فلم يزلها.
وإذا صلى شخص في ثوب فيه صورة إنسان أو حيوان صحت صلاته مع الإثم، ولا يجوز أن تزين حجرة الدراسة أو حجرة النوم أو غيرهما(82/75)
بصورة إنسان أو حيوان.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(82/76)
من الفتوى رقم 5614
المحاريب في المساجد
السؤال الأول: المحراب في المسجد هل كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ج: لم يزل المسلمون يعملون المحاريب في المساجد في القرون المفضلة وما بعدها؛ لما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين، ومن ذلك بيان القبلة وإيضاح أن المكان مسجد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(82/76)
من الفتوى رقم 2909
وضع المآذن في المساجد وبناء القبور فيها
السؤال الأول: يقوم بعض المحسنين ببناء مساجد على نفقتهم الخاصة ويخصصون في جانب من ساحات المسجد أو من أمامه مكانا ليدفن فيه المحسن أو بعض أفراد عائلته؛ ظنا منهم أن ذلك من وسائل القربى إلى الله ويستفتون بعض العلماء فيجيزون لهم الدفن حول المسجد أو من أمامه شريطة أن يكون هناك سور حائل بين المسجد والمقبرة.
ج: لا يجوز تخصيص موضع من المسجد لدفن من بنى المسجد ولا غيره؛ لورود الأدلة الدالة على أنه لا يجوز بناء المساجد على القبور، والأصل في ذلك ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن «أم سلمة ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله (1) » ، وما رواه أهل السنن الأربع عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
__________
(1) أخرجه أحمد 6 / 51، والبخاري 1 / 112 كتاب الصلاة باب الصلاة في البيعة، ومسلم 1 / 375 كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، والنسائي 2 / 41 كتاب المساجد باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد.(82/77)
«لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج (1) » ، إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضوع.
السؤال الثالث: ويعترض بعض الناس على إنشاء المآذن أصلا ويعتبر ذلك مخالفا للسنة وتبذيرا للمال، ويرد عليه فريق آخر بأن المآذن أصبحت معلما يشهر المسجد ويدل عليه في وسط البنايات المزدحمة المرتفعة وهي تحجب الرؤية من بعيد، والمسجد بمئذنته السامقة يشعر الكثيرين بأن المسلمين ما زالوا بخير أمام التحديات الكثيرة التي يواجهونها.
ج: لا حرج في إقامة المآذن في المساجد، بل ذلك مستحب؛ لما فيه من تبليغ صوت المؤذن للمدعوين إلى الصلاة، ويدل على ذلك أذان بلال في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - على أسطح بعض البيوت المجاورة لمسجده مع إجماع علماء المسلمين على ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أخرجه أحمد 1 / 229، وأبو داود 2 / 196 كتاب الجنائز باب في زيارة النساء القبور، والترمذي 2 / 136 كتاب الصلاة باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجد، والنسائي 4 / 94 كتاب الجنائز باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور، وابن ماجه 1 / 502 كتاب الجنائز باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور.(82/78)
من الفتوى رقم 4150
السؤال الرابع: الصلاة في مسجد فيه قبر هل تجوز؟ اشرحوا بدقة؛ لأن البعض يستدلون بكون قبره صلى الله عليه وسلم في مسجده النبوي.
إذا كان لا تجوز الصلاة فماذا نفعل، فهل لنا إخراج الميت حتى عظامه؟
ج: لا تجوز الصلاة في المساجد التي فيها قبر أو قبور؛ لما ثبت عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك (1) » رواه مسلم، ولما ثبت عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » ، ويجب على ولي أمر المسلمين أن يهدم ما بني
__________
(1) أخرجه مسلم 1 / 377 كتاب المساجد باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، والنسائي 2 / 33 كتاب المساجد باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد.
(2) أخرجه أحمد 1 / 218، 2 / 285، 454، 518، 5 / 204، 6 / 34، 80، 121، 255، ومالك في (الموطأ) 2 / 892، والبخاري 1 / 113، 112، 2 / 91، 106، 5 / 139، 140، ومسلم 1 / 376 برقم (529 - 531) ، وأبو داود 3 / 553 برقم (3227) ، والنسائي 4 / 96 برقم (2047) ، وابن أبي شيبة 2 / 376، والبيهقي 6 / 135، 9 / 208، وأبو عوانة 1 / 400، 399.(82/79)
على القبور من المساجد؛ لأنها أسست على غير التقوى، وأن ينبش من دفن في المسجد بعد بنائه، ويخرج جثته من المسجد حتى عظامه ورفاته؛ لاعتدائهم بالدفن فيه، وينقل رفاته إلى المقبرة العامة في حفرة خاصة يسوى ظاهرها كسائر القبور، وبعد ذلك لا حرج في الصلاة في المسجد المذكور؛ لزوال المحذور.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(82/80)
من الفتوى رقم 5316
السؤال السابع: ما حكم الإسلام في الصلاة في المسجد الذي فيه بعض القبور؛ لأن بعض الناس يقولون: يجوز؛ يستدلون بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام، ويستدلون بالآية التي في سورة الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (1) هل هذا دليل في بناء المساجد على القبور، وهل تجوز الصلاة فيها؟ إذا قلت له بناء المساجد على القبور، وقلت لهم حديث رسول الله «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » - يقول لك: هذا نزل
__________
(1) سورة الكهف الآية 21
(2) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد (6/274) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(82/80)
في حق اليهود، ونحن لسنا مثلهم فهم كانوا يعبدون من فيها، ونحن لا نعبدها ولكن نتبرك بهم. أفتونا في ذلك فإن الأمر فيه اختلاف شديد، وبعض الناس يتعدى مساجد كثيرة ليذهب إلى هذا المسجد الذي فيه الضريح ليصلي فيه، فما رأيكم في تلك الصلاة؟
ج: يحرم اتخاذ المساجد على القبور؛ لما ثبت في الحديث المتفق على صحته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » .
والنبي صلى الله عليه وسلم دفن خارج المسجد في بيت عائشة رضي الله عنها، فالأصل في مسجد الرسول أنه بني لله تعالى ولم يبن على القبر، وإنما أدخل قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتوسعة، أما قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (2) فقال الإمام ابن كثير في تفسيره: حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين:
أحدهما: أنهم المسلمون منهم.
والثاني: أهل الشرك منهم. فالله أعلم.
والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد يحذر ما فعلوا (3) » ، ففهم من هذا أن الله لم يقرهم عليه، وعلى تقدير تقريره فإن
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد (6/274) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) سورة الكهف الآية 21
(3) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(82/81)
شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وما دام ورد شرعنا بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد فلا تجوز الصلاة فيها ولا تصح.
أما قولهم: إن هذا في حق اليهود والنصارى، فليس بصحيح؛ لأن الأصل في الأدلة الشرعية أنها عامة، والرسول عليه الصلاة والسلام قال ذلك ليحذرنا أن نعمل مثل عملهم، ويدل على العموم ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (1) » .
وأما ما ذكرته من التبرك بالصالحين الأموات رجاء نفعهم والقرب منهم وشفاعتهم: فهذا لا يجوز، وهو من الشرك الأكبر، قال تعالى عن المشركين أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (2) ، وقال تعالى عنهم في سورة يونس: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (3)
وأما التبرك بالصالحين الأحياء فبدعة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوه فيما بينهم لا مع الخلفاء الراشدين ولا مع غيرهم، ولأنه وسيلة
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(2) سورة الزمر الآية 3
(3) سورة يونس الآية 18(82/82)
إلى الشرك بهم فوجب تركه، وقد يكون شركا أكبر إذا اعتقد في الصالح أنه ينفع ويضر بتصرفه، وأنه يتصرف في الكون ونحو ذلك، وأما ما فعله الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم من التبرك بوضوئه وشعره فهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، لما جعل الله في جسده وشعره وعرقه من البركة، ولا يلحق به غيره.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(82/83)
من الفتوى رقم 6261
السؤال الثالث: هل تصح الصلاة في مسجد به ضريح ميت، والضريح مخالف للقبلة؟
ج: إذا كان القبر قد دفن بعد بناء المسجد وجب إخراج الميت من المسجد ودفنه في المقبرة العامة، وإذا كان المسجد مبنيا على القبر وجب هدم المسجد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(82/83)
من الفتوى رقم 7924
الصلاة في المقابر
السؤال الثالث: هل ورد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه صلى في المقابر على المقابر؟
ج: أولا: لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة من الصلوات الخمس، ولا نافلة في مقبرة، ولا في مسجد فيه قبر، بل نهى عن ذلك.
ثانيا: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ميت بعدما دفن وكبر عليه أربعا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(82/84)
البحوث(82/85)
صفحة فارغة(82/86)
الإيضاح والبيان لأعظم آية في القرآن
(تفسير آية الكرسي)
إعداد: لولوة بنت عبد الكريم بن سعد المفلح (1)
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد، فإن القرآن الكريم روح الأمة الإسلامية ومشكاة حضارتها، أنزله الله على قلب رسوله خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين. فأرشد به إلى أحسن السبل، وهدى به إلى أقوم الطرق قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2) (الإسراء: 9) .
وقال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (3) (آل عمران: 164) .
ولا شك أن تدبر القرآن من أسمى العلوم التي ينبغي للمسلم الحرص عليه ليمكنه ذلك من فهم معاني القرآن الكريم. ولأهمية آية الكرسي وعظمها أعددت هذا البحث الموجز وقد نهجت في إعداد هذا البحث
__________
(1) أستاذ التفسير وعلوم القرآن المساعد بكلية التربية للبنات بالرياض.
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة آل عمران الآية 164(82/87)
المنهج التالي:
1- جمع الآيات القرآنية التي لها علاقة بهذه الآية العظيمة.
2- جمع ما يتعلق بهذه الآية من الأحاديث النبوية وتخريجها من مصادرها.
3- شرح الألفاظ الغريبة من المعاجم اللغوية.
4- عدم مخالفة عقيدة اتفق عليها السلف في تفسير الآيات.
5- عدم مخالفة قواعد اللغة العربية.
6- نسبت المعلومات إلى قائليها.
هذا وقد اشتملت الدراسة على مقدمة وتفسير الآية وخاتمة.
أما المقدمة: فقد ذكرت فيها منهجي في البحث، وما اشتملت عليه دراسة البحث، وأما التفسير: فقد قسمت الآية على عشر جمل بينت فيها تفسير تلك الجمل تفسيرا تحليليا.
وأما الخاتمة فقد ذكرت فيها أهم ما اشتملت عليه هذه الآية العظيمة.
وبعد، فأسأل الله عز وجل أن يجعل ذلك البحث علما نافعا لا سمعة فيه ولا رياء، وأن يهدينا سواء السبيل إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين.(82/88)
التمهيد: فضل آية الكرسي:
هذه الآية الكريمة هي سيدة آي القرآن، وهي أعظم آية فيه.
"نزلت ليلا ودعا النبي صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها. روي عن(82/88)
محمد ابن الحنفية أنه قال: لما نزلت آية الكرسي خر كل صنم في الدنيا، وكذلك خر كل ملك في الدنيا وسقطت التيجان عن رءوسهم، وهربت الشياطين يضرب بعضهم على بعض إلى أن أتوا إبليس فأخبروه بذلك فأمرهم أن يبحثوا عن ذلك، فجاءوا إلى المدينة فبلغهم أن آية الكرسي قد نزلت" (1)
روى مسلم بسنده عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - «أن النبي صلى الله عليه وسلم - سأله أي آية من كتاب الله أعظم؟ قال: آية الكرسي، قال: "ليهنك العلم أبا المنذر (2) »
وعن عبد الله بن أبي بن كعب أن «أباه أخبره أنه كان له جرن فيه تمر قال: فكان أبي يتعاهده فوجده ينقص. قال: فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة شبيه الغلام المحتلم. قال: فسلمت عليه فرد علي السلام قال: فقلت: ما أنت؟ جني أم إنسي؟ قال: جني، قال: قلت ناولني يدك، قال: فناولني يده فإذا يد كلب وشعر كلب، فقلت: هكذا خلق الجن؟ قال: لقد علمت الجن ما فيهم أشد مني، قلت: فما حملك على ما صنعت؟ قال: بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك، قال: فقال له أبي: فما الذي يجيرنا منكم؟ قال: هذه الآية (آية الكرسي) ثم غدا إلى
__________
(1) تفسير القرطبي 3 / 268.
(2) صحيح مسلم 2 / 199 باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي، كتاب الصلاة.
(3) أخرجه النسائي وأبو يعلى وابن حبان وأبو الشيخ في العظمة والطبراني والحاكم وصححه والطيالسي.(82/89)
النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق الخبيث (1) »
وروى البخاري بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه. فأصبحت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ " قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته، وخليت سبيله. قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود" فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود. فرحمته وخليت سبيله. فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ " قلت: يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود" فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود، قال:
__________
(1) الموضع الذي يجفف فيه التمر وغيره من الثمار (اللسان 13 / 87 مادة جرن) . (3)(82/90)
دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي حتى تختم الآية فإنك لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل أسيرك البارحة" قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: "ما هي؟ " قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ " قلت: لا، قال: ذاك شيطان (3) » .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «سورة البقرة فيها آية سيدة القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه: آية الكرسي (4) »
__________
(1) صحيح البخاري 9 / 55 كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة ح (5010) .
(2) سورة البقرة الآية 255 (1) {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
(3) سورة البقرة الآية 255 (2) {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
(4) الترمذي كتاب ثواب القرآن، باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي (2881) وإسناده ضعيف، ولكن له شواهد بمعناه يقوى بها. انظر: جامع الأصول ابن الأثير 8 / 474.(82/91)
تفسير الآية، هذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة:
الجملة الأولى قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (1)
{اللَّهُ} (2) علم خاص بالذات العلية، أي بالله عز وجل. وهي لا تطلق إلا على الله في الجاهلية والإسلام.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (3)
روى المنذري عن أبي الهيثم أنه سأله عن اشتقاق اسم الله تعالى في اللغة فقال: كان حقه إلاه، أدخلت الألف واللام تعريفا، فقيل الإلاه، ثم حذفت العرب الهمزة استثقالا لها، فلما تركوا الهمزة حولوا كسرتها في اللام التي هي لام التعريف، وذهبت الهمزة أصلا فقالوا: (أللاه) فحركوا لام التعريف التي لا تكون إلا ساكنة، ثم التقى لامان متحركتان فأدغموا الأولى في الثانية، فقالوا: (الله) (4) ا. هـ.
فالله: هو المألوه المعبود، ذو الألوهية والعبودية على جميع خلقه.
"وهذا الاسم أعظم أسماء الله - عز وجل - التسعة والتسعين، لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها حتى لا يشذ منها شيء، وسائر الأسماء لا يدل آحادها إلا على آحاد المعاني، من علم أو قدرة أو فعل أو غيره، ولأنه أخص الأسماء، إذ لا يطلقه أحد على غيره لا حقيقة
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) سورة لقمان الآية 25
(4) لسان العرب ابن منظور 13 / 467 دار صادر.(82/92)
ولا مجازا (1) . ا. هـ.
واسم الجلالة الله مبتدأ مرفوع.
{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (2) كلمة التوحيد التي تتضمن النفي والإثبات، نافية جميع ما يعبد من دون الله، مثبتة العبادة لله وحده.
فلا معبود بحق إلا الله عز وجل.
إله قيل: إنه مأخوذ من أله يأله إذا تحير، لأن العقول تأله في عظمته. وأله يأله ألها أي تحير، وأصله وله يؤله ولها. وقد ألهت على فلان أي اشتد جزعي عليه.
وقيل مأخوذ من أله يأله إلى كذا أي لجأ إليه لأنه سبحانه المفزع الذي يلجأ إليه في كل أمر (3) .
"وهو المألوه الذي تألهه القلوب، وكونه يستحق الإلهية مستلزم لصفات الكمال، فلا يستحق أن يكون معبودا محبوبا لذاته إلا هو، وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل، وعبادة غيره وحب غيره يوجب الفساد، كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (4) (5) .
__________
(1) المقصد الأسنى لأبي حامد الغزالي 61.
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) لسان العرب 13 / 469.
(4) سورة الأنبياء الآية 22
(5) اقتضاء الصراط المستقيم ابن تيمية 2 / 387.(82/93)
الإله إذن بمعنى المألوه، أي: المعبود حبا وتعظيما، ولا أحد يستحق هذا الوصف إلا الله - عز وجل - والآلهة المعبودة من دون الله هي آلهة عند متخذها آلهة، وإلا فهي لا تستحق العبادة، ولا تستحق أن يطلق عليها آلهة فهي معبودة بغير حق.
لا نافية للجنس، إله اسم لا وهنا النفي عام مطلق يشمل جميع أفراده. إلا هو بدل من الخبر المحذوف لأن تقدير الكلام. لا إله حق إلا هو.
فهذه الجملة تنفي نفيا قاطعا الألوهية الحقة إلا لمن يستحقها، وهو رب العالمين.(82/94)
الجملة الثانية:
قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1) هذان الاسمان جامعان لصفات الكمال.
فـ الحي كامل الحياة. وهذا الاسم يتضمن جميع صفات الله - عز وجل - الذاتية.
فالله له الحياة التامة الكاملة التي لا بداية لها ولا نهاية، وله جميع الصفات الذاتية بمعانيها العظيمة الكاملة التي لا تتم الحياة الكاملة بدونها، والتي ينبغي إثباتها لله - عز وجل - على أكمل وجه وأتمه، كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والمشيئة، والعظمة، والعزة وغيرها من النعوت الكاملة. فالله - جل وعلا - القديم الباقي، الدائم الذي لا نهاية
__________
(1) سورة البقرة الآية 255(82/94)
لوجوده قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (1)
وقال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (2) {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (3)
ومن أسمائه - عز وجل - الأول والآخر والظاهر والباطن. روى مسلم بسنده عن جرير عن سهيل قال: كان أبو صالح يأمرنا … إلى أن قال: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء" (4)
إذن كمال الأوصاف لله - عز وجل - يدل عليها كلمة الحي فهو تعالى حي حياة كاملة جامعة لجميع صفات الذات، ومن كمال حياته أنه كامل القدرة نافذ الإرادة والمشيئة" (5) فالله - تعالى - حياته كاملة، ويدل على كمال حياته ال التعريف التي تفيد الاستغراق.
وحياته - جل وعلا - لم يسبقها عدم، ولا يلحقها زوال.
قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (6)
قال الزجاج في معنى الحي: يفيد دوام الوجود. والله تعالى لم يزل
__________
(1) سورة القصص الآية 88
(2) سورة الرحمن الآية 26
(3) سورة الرحمن الآية 27
(4) صحيح مسلم 8 / 78ح (2713) كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.
(5) الحق الواضح المبين 3 / 222.
(6) سورة الفرقان الآية 58(82/95)
موجودا، ولا يزال موجودا (1) .
فالحياة الكاملة أبدا وأزلا لله عز وجل.
القيوم "ذكر الحياة التي هي أصل جميع الصفات، وذكر معها قيوميته المقتضية لذاته، وبقائه، وانتفاء الآفات جميعها عنه" (2) .
وأصل كلمة القيوم من القيام، وهو من أبنية المبالغة. وهو من أسمائه - تعالى - فهو القائم بنفسه لا بغيره وهو مع ذلك يقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجود إلا به.
قال مجاهد: القيوم: القائم على كل شيء، وقال قتادة: القيوم، القائم على خلقه بآجالهم وأعمالهم وأرزاقهم.
وقال الكلبي: القيوم الذي لا بدئ له، وقال أبو عبيدة: القيوم، القائم على الأشياء. قال الفراء: صورة القيوم من الفعل الفيعول، وصورة القيام الفيعال، وهما جميعا مدح (3) .
قال الحسن، معناه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها بعملها، من حيث هو عالم بها لا يخفى عليه شيء منها.
وقال ابن عباس: معناه الذي لا يحول ولا يزول (4) . وقرأ ابن مسعود
__________
(1) شرح أسماء الله الحسنى أحمد إبراهيم ملا محمد 131.
(2) الصواعق المرسلة ابن القيم 4 / 1371.
(3) لسان العرب 12 / 504.
(4) تفسير القرطبي 3 / 271.(82/96)
وعلقمة وإبراهيم النخعي والأعشى (الحي القيام) بالألف (1) .
والقيوم: كامل القيومية وله معنيان:
1- هو الذي قام بنفسه واستغنى عن جميع خلقه ودليله قوله تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (2)
2- وهو الذي قامت به السماوات والأرض وما فيها من المخلوقات، ودليله قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (3) .
فالكل مفتقر إلى الله - عز وجل - في كل شيء. فالمخلوقات مفتقرة إلى الله في إيجادها وإمدادها بما تحتاج من أمور الدنيا والدين، وفي جلب النفع ودفع الضرر.. وغير ذلك.
إذن الله هو الغني بذاته، المستغني عن خلقه، المغني لهم، فله - سبحانه - القيومية التامة.
"قال بعض المحققين: في قوله {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (4) إنهما الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى". (5) .
وبما أنه - عز وجل - قائم نفسه قائم به غيره، فله تمام الحياة والقيومية فلذلك لا يعتريه سنة ولا نوم.
__________
(1) المحرر الوجيز ابن عطية 2 / 274.
(2) سورة فاطر الآية 15
(3) سورة الرعد الآية 33
(4) سورة البقرة الآية 255
(5) تفسير السعدي 110.(82/97)
الجملة الثالثة:
{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (1) هاتان صفتان سلبيتان. ومن المعلوم أنه لا يوجد في صفات الله تعالى وأسمائه صفة سلبية محضة، إنما تذكر الصفات السلبية لكمال ضدها. فالكمال حياة الله وقيوميته لا تأخذه سنة ولا نوم.
قال ابن تيمية: ينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتا، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال، لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشي، وما ليس بشيء فهو كما قيل: ليس بشيء فضلا عن أن يكون مدحا أو كمالا.
ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال. فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنا لإثبات مدح، كقوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (2) إلى قوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} (3) فنفي السنة والنوم: يتضمن كمال الحياة والقيام. فهو مبين كمال أنه الحي القيوم" ا. هـ
وهذا تنزيه لله عن أن يتصف بعيب أو نقص يناقض لكمال أوصافه، فهو موصوف بكل صفة كمال، منزه عن ضدها وعن نقصها، فهو موصوف لكمال الحياة وبكمال القدرة، منزه عما يضادها من الموت
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) سورة البقرة الآية 255(82/98)
والإعياء والتعب واللغوب، فإنه لو كان موصوفا بشيء من هذا النقص لكان ناقص القدرة (1) .
لم قال: {لَا تَأْخُذُهُ} (2) ولم يقل لا ينام؟
"لأن الأخذ بمعنى القهر والغلبة" (3) حتى يعلم أن ذلك يشمل الأخذ بالقهر والغلبة، والأخذ بالاختيار، فهو لا يصيبه النعاس ولا ينام لا غلبة ولا اختيارا.
ولما عبر بالأخذ الذي هو بمعنى القهر والغلبة وجب تقديم السنة كما لو قيل: فلان لا يغلبه أمير ولا سلطان (4) .
سنة السنة: النعاس في قول الجميع. والنعاس من العين فإذا صار في القلب صار نوما.
وفرق المفضل بينهما فقال: السنة من الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب (5) .
والسنة: بدء النعاس، وهو فتور يعتري الإنسان وترنيق في عينيه، وليس يفقد معه كل ذهنه.
والنوم: هو المستثقل الذي يزول معه الذهن.
قال الرازي في تفسيره: إن السنة ما تتقدم النوم، فإذا كانت عبارة عن
__________
(1) الحق الواضح المبين السعدي 3 / 216 - 271.
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) نظم الدرر البقاعي 1 / 496.
(4) المرجع السابق 1 / 496.
(5) تفسير القرطبي 3 / 272.(82/99)
مقدمة النوم، فإذا قيل: لا تأخذه سنة دل على أنه لا يأخذه نوم بطريق أولى (1) .
قلت: وهذا غير مسلم للرازي، لأن النوم قد يحصل دون نعاس ابتداء، ولا يستلزم نفي السنة نفي النوم، والنعاس يستطيع الإنسان دفعه، أما النوم فقد لا يستطيع دفعه.
كذلك فإن تكرار لا النافية في قوله ولا نوم تفيد تأكيد نفي النوم عنه – عز وجل – لذلك لو اقتصر النفي في القرآن على السنة فقط لم يفد ذلك نفي النوم، وحاشاه أن ينام.
ولا نوم النوم معروف للجميع، وهو يستغرق الحواس "وهو أمر جسماني محض، وربنا – عز وجل – منزه عن صفات الأجسام وعوارضها، وكيف يحدث ذلك للقيوم – سبحانه – الذي قام بنفسه، بما هو عليه من كمال الغنى والعظمة، وقام بجميع المخلوقات (2) .
والنوم يقطع التعب والعناء، والذي يتعب ويحس بالعناء هو المخلوق، أما الخالق فلا يتعب ولا يحتاج إلى راحة أو نوم لكمال صفاته وأسمائه، لكن المخلوق الضعيف يحتاج إلى النوم والاسترخاء والنعاس قال تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} (3) ، وقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} (4) .
__________
(1) التفسير الكبير الفخر الرازي 1 / 307 - 308.
(2) تفسير آية الكرسي عبد الرحمن الدوسري 30.
(3) سورة النبأ الآية 9
(4) سورة الفرقان الآية 47(82/100)
فالمراد من قوله {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} (1) أي راحة لأبدانكم بانقطاعكم عن الأشغال (2) ، فبذلك يكون النوم قاطعا للتعب والمشقة.
والإنسان وغيره من المخلوقات محتاج إلى الله في يقظته ونومه، لكن الخالق المتصف بالقيومية وتلك الصفة تنافي السنة والنوم، لأنه – عز وجل – لا ينام ولا ينبغي له أن ينام.
جاء في الحديث الصحيح عن أبي موسى – رضي الله عنه – قال: «قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس كلمات فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام بيده القسط يخفضه ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. (3) » .
الحاصل: أن الله تعالى لا تدركه آفة ولا يلحقه نقص، والنوم نقص، والمعلوم أن أهل الجنة لا ينامون في الجنة فهم ليسوا بحاجة إلى النوم لكمال حياتهم، ولما في النوم من نقص التلذذ بنعيم الجنة وثوابها.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 47
(2) القرطبي 13 / 38.
(3) مسلم 1 / 111 كتاب الإيمان، باب في تقوله عليه السلام: ''إن الله لا ينام''.(82/101)
الجملة الرابعة:
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (1) اللام للملك فهو يملك كل شيء
__________
(1) سورة البقرة الآية 255(82/101)
ملكا تاما، وشبه الجملة من الجار والمجرور في محل رفع خبر مقدم، وكل ما حقه التأخير إذا تقدم فهو يفيد الحصر، فبذلك يكون سبب تقديم الخبر حصر ملكية السماوات والأرض وما فيهن لله – عز وجل – دون سواه، لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته.
ما اسم موصول، وهو من صيغ الجمع، مبتدأ مؤخر، وما تشمل العاقل وغير العاقل، أما: من فهي للعاقل فقط لذلك جاءت ما في هذه الآية لتكون ملكية الله - عز وجل - شاملة لجميع ما في السماوات والأرض من الأعيان والأحوال.
قال ابن عطية: جاءت العبارة بما وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود. (1) .
والمعلوم "أن غير العاقل أكثر من العاقل، ولكننا نقول: غلبت (ما) على (من) لأن (ما) تشمل الأعيان والأحوال، والمراد بالأحوال: التصرف في هذه الكائنات، فالله له ما في السماوات والأرض خلقا وملكا وتدبيرا، ولهذا جاءت (ما) .
وإذا قصدت الأحوال أتى بـ (ما) حتى في العاقل قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (2) .
__________
(1) المحرر الوجيز ابن عطية 2 / 279.
(2) سورة النساء الآية 3(82/102)
ولم يقل: (من) ، لأن المرأة تنكح لحالها ووصفها، لا لشخصها (1) ، والحصر الذي في الآية يدل على أن لله – عز وجل - ما في السماوات وما في الأرض خلقا وملكا وتدبيرا وحده دون سواه، فهو المالك وما سواه مملوك، وهو الخالق وغيره مخلوق، وجميع ما في السماوات والأرض ملكه وعبيده مقهورون بعزته، خاضعون لمشيئته، وهو الرقيب عليهم لافتقارهم إليه وتكفله بهم.
فالواجب أن نخضع له خضوع تذلل وخشوع وطاعة، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (2) .
السماوات جمع السماوات، وأفرد الأرض، وإن كان المراد فيها الجمع لأن الأرض في هذه الآية مراد منه الجنس قوله {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} (3) جميع ما فيهن من ملائكة وغيرها، ومن المعلوم أن الملائكة عددهم كثير وقد ملئوا السماوات كما في الحديث: «ما من موضع شبر إلا فيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد (4) » .
كذلك ما جاء في القرآن من ذكر البيت المعمور الوارد في قوله تعالى: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} (5) .
__________
(1) أحكام القرآن الشيخ ابن عثيمين، أشرطة الشيخ رحمه الله.
(2) سورة مريم الآية 93
(3) سورة البقرة الآية 255
(4) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 2 / 506، كتاب المبتدأ والأنبياء وعجائب المخلوقات، (852) .
(5) سورة الطور الآية 4(82/103)
والذي يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه كما جاء في الحديث الصحيح في حديث الإسراء بعد مجاوزته عليه - عليه الصلاة والسلام - إلى السماء السابعة «ثم رفع بي إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم (1) » .
وكلمة (السماوات) تدل على أن السماوات عديدة، وقد ورد ذلك في القرآن، وأن عددها سبع سماوات كما في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (2) .
وقوله: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} (3) .
{وَمَا فِي الْأَرْضِ} (4) من جميع المخلوقات.
وقد ورد في القرآن على أن الأرض أكثر من واحدة ولكن لم يرد التصريح بعددها، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (5) .
فالأرضون إذن سبع، مثل عدد السماوات مع الاختلاف في الكيفية، وقد ورد ذكر عدد الأرضين في الحديث الشريف الذي رواه الشيخان
__________
(1) صحيح مسلم 1 / 104، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماوات وفرض الصلوات.
(2) سورة المؤمنون الآية 86
(3) سورة الملك الآية 3
(4) سورة البقرة الآية 255
(5) سورة الطلاق الآية 12(82/104)
عن سعيد بن زيد – رضي الله عنه – قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين (1) » .
__________
(1) البخاري 5 / 103 كتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئا من الأرض ح (2452، 2453) ومسلم 1 / 85 كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار.(82/105)
الجملة الخامسة:
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (1) .
من اسم استفهام مبني في محل رفع مبتدأ ذا ملغاة، الذي اسم موصول خبر المبتدأ وقد تكون ذا خبر المبتدأ، والذي نعت ذا أو بدل.
والاستفهام هنا يراد به النفي لوجود الإثبات في آخر الجملة، حيث قال: إلا بإذنه.
قال الشوكاني: في هذا الاستفهام من الإنكار على من يزعم أن أحدا من عباده يقدر أن ينفع أحدا منهم بشفاعة أو غيرها والتقريع والتوبيخ له ما لا مزيد عليه (2) . ا. هـ
يشفع الشفاعة في اللغة: مصدر من الشفع وهو ضد الوتر وشفع فيه أعانه، والشفاعة تطلق على الدعاء (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) فتح القدير الشوكاني 1 / 272.
(3) لسان العرب 8 / 183 – 184.(82/105)
أما الشفاعة اصطلاحا: فهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم، وهي عموما "التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة" (1) .
وهي نوعان:
1- شفاعة مثبتة.
2- وشفاعة منفية.
أما المثبتة: فهي التي تطلب من الله، ولا تكون إلا لأهل التوحيد وهي مقيدة بأمرين:
1- إذن الله للشافع أن يشفع.
2- رضاه عن المشفوع له.
وأما المنفية: فهي التي تطلب من غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، والناس في الشفاعة ثلاث طوائف:
1- طائفة أنكروها، وهم: اليهود، والنصارى، والخوارج.
2- طائفة أثبتوها وغلوا في إثباتها، حتى جوزوا طلبها من الأولياء والصالحين.
3- طائفة أثبتوا الشفاعة الشرعية، كما ذكرها الله في كتابه (2) .
الشفاعة الشرعية: هي التي أثبتها الله عز وجل في كتابه وتطلب من الله وحده قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} (3) .
فالله عز وجل هو مالكها ولا تطلب إلا منه، وليس لمن تطلب منه
__________
(1) القول المفيد على كتاب التوحيد الشيخ ابن عثيمين 1 / 330.
(2) انظر: حاشية كتاب التوحيد عبد الرحمن بن محمد العاصمي النجدي 133.
(3) سورة الزمر الآية 44(82/106)
شيء منها، وطلب الشفاعة عبادة وتأله لا يصلح إلا لله - عز وجل - والشفاعة المثبتة إنما تقع يوم القيامة وهي بإذن الله، وهي التي ورد ذكرها في القرآن كما في قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} (1) .
ولقد ذكر رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - أنه قد ادخر دعوته للشفاعة يوم القيامة.
ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – قال: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة - إن شاء الله - من مات لا يشرك بالله شيئا (2) » .
والشفاعة العظمى التي اختصها الله لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - لأهل الإخلاص، هي التي جاءت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري بسنده عن أنس – رضي الله عنه – قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا
__________
(1) سورة طه الآية 109
(2) صحيح مسلم 1 / 131، كتاب الإيمان، باب اختباء النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوة الشفاعة لأمته.(82/107)
هذا، فيقول: لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحي، ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر سؤله ربه ما ليس به علم فيستحي، ويقول: ائتوا خليل الرحمن، فيأتونه، فيقول: لست هناكم، ائتوا موسى عبد كلمه الله، وأعطاه التوراة، فيأتونه، فيقول: لست هناكم، ويذكر قتل النفس بغير نفس، فيستحي من ربه ويقول: ائتوا عيسى عبد الله ورسوله، وكلمة الله وروحه: فيقول: لست هناكم، ائتوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله ثم يقال: ارفع رأسك وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع فأرفع رأسي، فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه، فإذا رأيت ربي (مثله) ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أعود ثالثة ثم أعود الرابعة، أقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود (1) » .
فهذا الحديث الصحيح يثبت الشفاعة للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد إذن الله - عز وجل - وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلحم فرفع إليه الذراع
__________
(1) البخاري 8 / 160 كتاب التفسير، باب قول الله: (وعلم آدم الأسماء كلها) ح (4476) وكتاب الرقاق، باب الحشر 11 / 417 ح (6565) .(82/108)
وكانت تعجبه، فنهش منها ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وذكر الحديث إلى أن قال: "فأنطلق فآتي العرش فأقع ساجدا لربي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب أمتي، فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس في الأبواب (1) » .
ثم بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحق الناس بشفاعته حين سأله أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: «من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه (2) » .
قال ابن القيم رحمه الله في المدارج في معنى الحديث: تأمل هذا الحديث كيف جعل الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم، فقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ما في زعم الكاذب وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع.
ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذ وليا أو شفيعا أنه يشفع له وينفعه عند الله، كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع من والاهم.
ولم يعلموا أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال في الفصل الأول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (3) .
__________
(1) العلو الذهبي 121 ح 83.
(2) أحمد في المسند 2 / 307، وابن حبان في صحيحه 8 / 131 وله شاهد في مسلم.
(3) سورة البقرة الآية 255(82/109)
وفي الفصل الثاني: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (1) .
وبقي فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهذه ثلاثة فصول، تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها (2) . ا. هـ
والشفاعة الخاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ستة أنواع:
1- الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم عليهم الصلاة والسلام - حتى تنتهي إليه - صلى الله عليه وسلم - فيقول: "أنا لها" (3) .
2- شفاعته لأهل الجنة، في دخولها، وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه.
3- شفاعته لقوم من العصاة من أمته، قد استوجبوا النار بذنوبهم، فيشفع لهم ألا يدخلونها.
4- شفاعته في العصاة من أهل التوحيد، الذين دخلوا النار بذنوبهم.
5- شفاعته لقوم من أهل الجنة، في زيادة ثوابهم ورفعة درجاتهم.
6- شفاعته في بعض الكفار من أهل النار، حتى يخفف عذابه وهذه
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 28
(2) مدارج السالكين ابن القيم 1 / 341.
(3) جزء من حديث صحيح أخرجه البخاري رقم (7510) ومسلم رقم (193) .(82/110)
خاصة بأبي طالب وحده (1) .
هذا بالنسبة للشفاعة المثبتة، أما الشفاعة المنفية فهي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ومن أمثلتها قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} (2) .
وقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} (3) {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} (4) .
وقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (5) .
وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (6) {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (7) .
"قطع الله بهذه الآية كل سبب يتوسل به المشركون لدعوة غيره، وبين أن من كان بهذا الوصف لا ملك له بوجه من الوجوه، ولا شركة في الملك، ولا معاونة ومظاهرة فيه، وليس له شفاعة بدون إذن الله، لا يستحق من
__________
(1) انظر: فتح المجيد عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب 239 – 240.
(2) سورة الأنعام الآية 51
(3) سورة الزمر الآية 43
(4) سورة الزمر الآية 44
(5) سورة يونس الآية 18
(6) سورة سبأ الآية 22
(7) سورة سبأ الآية 23(82/111)
العبادة مثقال ذرة" (1) .
فهذه الشفاعة منتفية وممتنعة، وفي هذه الآيات رد على المشركين ومن على شاكلتهم، الذين اتخذوا شفعاء من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين والأصنام وغيرها، وبين لهم عز وجل أن الشفاعة التي تطلب من غيره مردودة، بل إن الشفاعة ملك له وحده وهي تطلب منه قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (2) .
قال ابن كثير رحمه الله: (فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام الأنداد عند الله، وهو تعالى لم يشرع عبادتها، ولا أذن فيها بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه) (3) . فلا شفاعة إلا بإذن الله - عز وجل - ولمن رضي الله قوله وعمله بتجرده من الشرك، فبذلك يتبين عظيم ملكوت الله تعالى وكبريائه وأن جميع ما في السماوات والأرض ملك له، وتظهر مناسبة ذكر قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (4) بعد ذكر قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (5) فالملك خاص به - تعالى - وحده، وهو ملك تام السلطان.
__________
(1) الحق الواضح المبين السعدي 3 / 214.
(2) سورة النجم الآية 26
(3) ابن كثير 4 / 255.
(4) سورة البقرة الآية 255
(5) سورة البقرة الآية 255(82/112)
عنده أي عند الله تعالى.
إلا بإذنه في هذه الجملة إثبات الشفاعة، فبعد أن قال في أول الجملة {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} (1) أثبت أن الشفاعة حاصلة وكائنة ولكن بعد إذن الله - تعالى - بذلك، فلولا ثبوتها لم يكن لذكر قوله إلا بإذنه فائدة.
فالحاصل أن الشفاعة كائنة بعد استئذان الله تعالى.
وتبين كذلك مما سبق عن الشفاعة أنها لا تطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا استقلالا، لا في حياته ولا بعد موته، إنما يطلب المؤمن من ربه – عز وجل – الشفاعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: اللهم شفعه في، أو اللهم اجعلنا من شفعاء نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - والمراد من قوله بإذنه أي إعلامه. بأنه راض بذلك الأمر، وهي الشفاعة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 255(82/113)
الجملة السادسة: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} (1)
مراتب العلم هي:
1 - العلم: وهو إدراك الأمر إدراكا جازما عن طريق اليقين.
2 - الظن: وهو إدراك الطرف الراجح، فالعلم أرجح.
3 - الشك: وهو استواء الطرفين العلم وعدمه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 255(82/113)
4- وهم: وهو عدم إدراك العلم بل الجهل أرجح من العلم.
5- جهل: وهو عدم العلم بالشيء.
وعلم الله – جل وعلا - علم محيط بكل شيء فهو العليم الذي أحاط علمه بالعلم العلوي والسفلي، لا يخلو عن علمه مكان ولا زمان، محيط علمه بتفاصيل الأمور، متقدمها ومتأخرها، ظاهرها، وباطنها، فهو سبحانه لا تخفى عليه خافية من أحوال الناس، ويعلم الأشياء علما تاما شاملا جملة وتفصيلا وهو ليس كعلم العباد.
والنصوص القرآنية، في ذكر إحاطة علم الله كثيرة جدا منها قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (1) .
وقوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (2) .
وقوله: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} (3) {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} (4) .
وقوله: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (5) .
__________
(1) سورة مريم الآية 64
(2) سورة يونس الآية 61
(3) سورة طه الآية 51
(4) سورة طه الآية 52
(5) سورة الأنعام الآية 80(82/114)
فالله – سبحانه وتعالى – يعلم ما كان وما سيكون في المستقبل، وما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم أحوال المكلفين قبل إنشائهم وحين أنشأهم وبعد مماتهم وبعدما يحييهم، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فعلمه محيط بكل شيء، بالواجبات والممتنعات والممكنات، فيعلم تعالى نفسه الكريمة، ونعوته المقدسة وأوصافه العظيمة، وهي الواجبات التي لا يمكن إلا وجودها، ويعلم الممتنعات حال امتناعها، ويعلم ما يترتب على وجودها لو وجدت كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (1) .
وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (2) .
فهذا وشبهه من ذكر علمه بالممتنعات التي يعلمها، وإخباره بما ينشأ عنها لو وجدت على وجه الفرض والتقدير، ويعلم تعالى الممكنات، وهي التي يجوز وجودها وعدمها، ما وجد منها وما لم يوجد، مما لم تقتض الحكمة إيجاده، فهو العليم الذي أحاط علمه بالعالم العلوي والسفلي، لا يخلو عن علمه مكان ولا زمان، ويعلم الغيب والشهادة، والظواهر والبواطن، والجلي والخفي، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) (4) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 22
(2) سورة المؤمنون الآية 91
(3) سورة البقرة الآية 231
(4) الحق الواضح المبين 3 / 230.(82/115)
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} (1) .
ما من صيغ العموم، فهي شاملة لكل شيء: الماضي والحاضر والمستقبل، سواء أكان من أفعال الله - عز وجل - أو من أفعال المخلوقين.
قال مجاهد في تفسير قوله {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} (2) ما بين أيديهم: الدنيا، وما خلفهم، الآخرة، وهذا صحيح في نفسه عند موت الإنسان، لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده، وبنحو قول مجاهد قال السدي وغيره (3) .
" وعلمه سبحانه وتعالى – (ما بين أيديهم) : يقتضي أنه لا يجهل المستقبل، وعلمه (ما خلفهم) يقتضي أنه لا ينسى الماضي " (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) المحرر الوجيز ابن عطية 2 / 277.
(4) أحكام القرآن الشيخ محمد العثيمين.(82/116)
الجملة السابعة:
{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (1) .
أحاط بالأمر إذا أحدق به من جوانبه كلها، وأحاط به علمه وأحاط به علما (2) .
والمراد - والله أعلم - أن الخلق الذين في السماوات والأرض المذكورين آنفا {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (3) لا يحيطون ولا يعلمون شيئا من علم الله عز وجل إلا ما أراد الله عز وجل أن يطلعهم عليه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) لسان العرب 7 / 280.
(3) سورة البقرة الآية 255(82/116)
" ولما بين قهره لهم بعلمه، بين عجزهم عن كل شيء من علمه إلا ما أفاض عليهم بعلمه فقال: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ} (1) أي قليل ولا كثير {مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (2) فبان بذلك ما سبقه، لأن من كان شامل العلم ولا يعلم غيره إلا ما علمه كان كامل القدرة، فكان كل شيء في قبضته، فكان منزها عن الكفؤ متعاليا عن كل عجز وجهل، فكان بحيث لا يقدر غيره أن ينطق إلا بإذنه لأنه يسبب له ما يمنعه مما لا يريده " (3) .
بشيء جاءت نكرة لتفيد العموم.
من علمه يحتمل من علم ذاته وصفاته، يعني: أننا لا نعلم شيئا عن الله وذاته وصفاته إلا بما شاء مما علمنا إياه. (4) .
ويحتمل أن (العلم) هنا بمعنى المعلوم، أي ولا يحيطون بشيء من معلوماته، لأن علم الله تعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض، والمعنى: لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه (5) .
لأن معلومه – عز وجل – يدخل فيه علمه بذاته وبصفاته والله تعالى أعلم.
وما علمنا الله – عز وجل – كثير بالنسبة لنا، قليل لمعلومه – تعالى – فنحن نعلم أشياء عن أسماء الله - عز وجل – وعن صفاته، وعن الأحكام
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) نظم الدرر البقاعي 1 / 497.
(4) شرح العقيدة الواسطية، الشيخ ابن عثيمين 1 / 171.
(5) المحرر الوجيز ابن عطية 2 / 227، وانظر: الأسماء والصفات للبيهقي 143.(82/117)
الشرعية والأحكام الكونية.
ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3)
وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (4) .
وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (5) .
وهو الذي أعلمنا أنه استوى على عرشه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (6) .
وهو الذي أعلمنا أن السماوات مخلوقة بغير عمد وعددها سبع: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (7) .
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} (8) .
__________
(1) سورة الحشر الآية 22
(2) سورة الحشر الآية 23
(3) سورة الحشر الآية 24
(4) سورة البقرة الآية 189
(5) سورة الإسراء الآية 85
(6) سورة طه الآية 5
(7) سورة لقمان الآية 10
(8) سورة الملك الآية 3(82/118)
وهكذا بقية المعلومات، لا نحيط بها علما، إلا بما شاء الله، حتى المعلومات التي أمامنا يجهلها الكثير منا إلا إذا شاء الله أن نطلع عليها.
هناك أيها القارئ كثير من المعلومات التي في أنفسنا نجهل الكثير منها، من تلقيح البويضة، وبيان معنى النطفة، وكيفية التعشيش في مرحلة العلقة، ثم المضغة وماهيتها، إلى وقت الولادة وما إلى ذلك من المعلومات الدقيقة عن خلق الإنسان، والتي لم تعرف تلك الأطوار الدقيقة إلا قبل عشرات السنين، والتي يتم تعلمها بتعليم الله إيانا لها، فبذلك يتضح أننا لا نعلم شيئا مما يعلمه الله، إلا بما شاء، ولا نحيط بشيء مما يتعلق بصفاته ولا بذاته إلا بما شاء، فبذلك يتبين كمال علمه عز وجل.
{إِلَّا بِمَا شَاءَ} (1) أي ما شاء من الذي علمهم الله إياه وهو استثناء وقد أعيد العامل وهو حرف (الباء) .
بما يحتمل أن تكون ما مصدرية، فالتقدير على ذلك، إلا بمشيئته.
ويحتمل أن تكون موصولة والتقدير، إلا بالذي شاء.
وعلى التقدير الثاني يكون العائد محذوفا وتقديره إلا بما شاءه.
بذلك نعلم أنه لا أحد يطلع من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله تعالى وأطلعه عليه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 255(82/119)
الجملة الثامنة:
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (1) .
وسع أي اتسع لها، ووسع الشيء: لم يضق عنه (2) ووسع:
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) لسان العرب 8 / 393.(82/119)
شمل وأحاط.
كرسيه الكرسي: هو موضع قدمي الرب – عز وجل – وهو بين يدي العرش كالمقدمة له.
وقد قيل في معنى الكرسي أقوال منها:
- ما روي عن حبر الأمة ابن عباس – رضي الله عنهما – أن معنى كرسيه أي علمه.
- وقال بعض العلماء: منه قيل للعلماء الكراسي، وفيه الكراسة التي يجمع فيها العلم.
- ورجح ابن جرير الطبري – رحمه الله تعالى – هذا القول.
- وقيل كرسيه قدرته التي يمسك بها السماوات والأرض.
- وقيل كرسيه عرشه.
- وقيل كرسيه تصوير لعظمته تعالى.
أما الرواية التي ذكر عن ابن عباس – رضي الله عنهما - من أن الكرسي هو العلم، فهي لا تصح عن ابن عباس لأنه لم يرد في اللغة العربية أن معنى الكرسي هو العلم.
قال ابن منظور: الكرسي: معروف واحد الكراسي، والكرسي في اللغة الشيء الذي يعتمد عليه ويجلس عليه، فهذا يدل على أن الكرسي عظيم دونه السماوات والأرض، والكرسي في اللغة والكراسية إنما هو الشيء الذي قد ثبت ولزم بعضه بعضا.(82/120)
ثم قال: وقد روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: الكرسي موضع القدمين، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره، قال: وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها، قال: ومن روى عنه في الكرسي أنه العلم فقد أبطل (1) ا. هـ.
وأما قول من قال: إن كرسيه قدرته فهذا تأويل ظاهر، فالقدرة غير الكرسي، ولا حقيقة لذلك، فالقدرة صفة من صفات الله – عز وجل - وصفات الله ليست مخلوقة، أما الكرسي فهو من مخلوقات الله – عز وجل - ولا يصح أن يكون صفة من صفاته تعالى وهو مخلوق، فحاشاه أن تكون صفاته مخلوقة، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وأما قول من قال: إن الكرسي هو العرش فيرد ذلك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - «ما السماوات السبع والأرضون السبع بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة (2) » .
ففرق عليه الصلاة والسلام بين العرش والكرسي.
وروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن الكرسي موضع قدمي الرب – عز وجل – حيث قال: " إنه موضع قدمي الله – عز وجل - ".
__________
(1) لسان العرب 6 / 194.
(2) رواه ابن أبي شيبة في كتاب (صفة العرش) رقم 85 والبيهقي في الأسماء والصفات 510 – 511 وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحية رقم 109.(82/121)
من ذلك وغيره يتبين أن القول الفصل في هذه المسألة هو ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من أن الكرسي هو موضع قدمي الرب – عز وجل – وبهذا القول جزم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم – رحمهما الله تعالى – وغيرهما من أئمة العلم وأهل التحقيق.
قال القاضي أبو محمد: والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش، والعرش أعظم منه (1) . ا. هـ
الحاصل: أن هنالك فائدة عظيمة تستنبط من ذلك وهي: بيان عظم قدرة الله - عز وجل - حيث لا يئوده حفظ تلك المخلوقات على كثرتها وعظمتها وكبر حجمها.
وفيه فائدة أيضا حيث تدل على عظم مخلوقات الله تعالى وعظم المخلوق دليل على عظم خالقها وموجدها، ودليل على سعة ملكه وقوته وإحاطة علمه.
وفي ذلك أيضا دليل على سعة الأكوان التي خلقها الله – عز وجل – وأن السماوات والأرض على عظمها لا تعتبر شيئا بالنسبة إلى الكرسي، وكل هذه المخلوقات وغيرها مما هو أعظم منها كالعرش لا تكاد تذكر بالنسبة لموجدها: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2) .
__________
(1) المحرر الوجيز ابن عطية 2 / 279.
(2) سورة البقرة الآية 247(82/122)
وفيه دليل على إثبات القدمين لله – عز وجل – وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة.
فقد روى البخاري بسنده عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اختصمت الجنة والنار إلى ربها، فقالت الجنة: رب ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس، وقالت النار: أوريت بالمتكبرين - يعني أججت بهم – فقال الله للجنة أنت رحمتي، وقال للنار: أنت عذابي، أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها. قال: فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدا، وإنه ينتهي إلى النار من يشاء فيلقون فيها، فتقول: هل من مزيد؟ ثلاثا حتى يضع فيها قدمه فتمتلئ ويرد بعضها إلى بعض وتقول: قط قط ثلاثا (1) »
ولا يلزم من إثبات القدمين لله – عز وجل – التجسيم، ولا التشبيه، فهو سبحانه ليس له شبيه ولا مثيل في أسمائه ولا في صفاته.
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) .
وأهل السنة والجماعة يثبتون القدمين لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته، وهما ليستا جارحتين ولا يقال ذلك خلافا للمشبهة، ويثبتونها له عز وجل من غير تعطيل خلافا للجهمية المعطلة.
__________
(1) البخاري 13 / 434 كتاب التوحيد، باب ما جاء في قوله: (إن رحمة الله قريب من المحسنين) ح (7449) .
(2) سورة الشورى الآية 11(82/123)
الجملة التاسعة:
قوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} (1)
ولا يئوده أي لا يثقله.
وأصل الكلمة: آده الأمر أودا وأودا: بلغ منه المجهود والمشقة، ويقال: آدني يؤدني: أي أثقلني، وقال أهل التفسير، وأهل اللغة في قوله {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} (2) معناه ولا يكرثه ولا يثقله ولا يشق عليه من آده يئوده أودا (3) .
وقيل من الأيد.. وهو القوة ومنه قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (4) . أي ذا القوة (5) إذن المراد - والله أعلم - من ولا يئوده أي لا يثقله " وبهذا فسر اللفظة ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم ". (6) .
فالله عز وجل لا يثقله حفظ هذه العوالم العظيمة ولا يكرثه حفظ السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، بل ذلك يسير فهو – عز وجل – القائم على كل نفس بما كسبت، كل شيء حقير بين يديه، متواضع ذليل بالنسبة إليه، ومحتاج إليه، فهو القاهر فوق عباده لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) لسان العرب ابن منظور 3 / 74 - 76.
(4) سورة ص الآية 17
(5) فتح القدير الشوكاني 4 / 424.
(6) المحرر الوجيز ابن عطية 2 / 279.(82/124)
قال ابن تيمية: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} (1) أي لا يكرثه ولا يثقله وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها، بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته (2) ا. هـ.
وهذه الصفة من الصفات السلبية، النفي فيها يتضمن صفات الكمال، لأن نفي ذلك يستلزم أنه قوي، قادر، محيط عليم إلى غير ذلك من الصفات التي اتصف بها الخالق – عز وجل – من غير تشبيه ولا تحريف ولا تعطيل.
حفظهما الحفظ: نقيض النسيان، وهو التعاهد وقلة الغفلة، وحفظ المال والسر حفظا: أي رعاه، ومنه الحفظة: الذين يحصون الأعمال ويكتبونها على بني آدم من الملائكة (3) .
وهؤلاء الحفظة يكتبون ويحصون على ابن آدم كل خير وشر وطاعة ومعصية بعلم الله عز وجل، وهذا يقتضي إحاطته بأحوال العباد كلها الظاهر منها والباطن، فمن هذا يتضح لنا أن الله عز وجل قد حفظ على عباده ما عملوه وأحصاه عليهم. {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} (4) .
أيضا من المعاني التي يتضمنها الحفظ حفظه لجميع خلقه بهدايتهم وتيسيرهم إلى مصالحهم وأمور معاشهم، ودفع ما يضرهم، فهو سبحانه
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) الرسالة التدمرية ابن تيمية 40.
(3) لسان العرب 7 / 441.
(4) سورة المجادلة الآية 6(82/125)
الذي يحفظ جميع مخلوقاته بنعمه، ويخص عباده الصالحين بحفظ خاص، فيدفع عنهم ما يؤذيهم وما يضرهم في دينهم ودنياهم، جاء في الحديث: «احفظ الله يحفظك (1) »
فإذا حفظ المسلم ربه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه حفظه الله بتوفيقه إلى الخير في الدنيا والآخرة وحفظه من كل مكروه وكل شيطان.
فالله - عز وجل - لا يثقله حفظ هذه المخلوقات العظيمة بل إن ذلك عليه يسير.
والحفيظ من صفات الله عز وجل.
قال الحكيمي: ومعناه الصائن عبده من أسباب الهلكة في أمور دينه ودنياه. (2) .
وهو الذي لا يعزب عن حفظه الأشياء كلها مثقال ذرة في السماوات والأرض (3) .
__________
(1) رواه الترمذي في صفة القيامة، باب رقم (60) ، ح (2518) وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أحمد في المسند رقم (2669) (2763) (2804) .
(2) شرح أسماء الله الحسنى على منظومة الشيخ عبد الغني النابلسي أحمد إبراهيم ملا محمد 107.
(3) شرح أسماء الله الحسنى ابن منظور 78.(82/126)
الجملة العاشرة:
{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (1) هذه الجملة تفيد الحصر لأن طرفيها معرفة، فهو سبحانه العلي العظيم وحده دون سواه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 255(82/126)
العلي صفة مشبهة، والصفة المشبهة تكون لازمة لا ينفك عنها الموصوف، فعلو الله عز وجل لازم لذاته وله سبحانه جميع معاني العلو: علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر والغلبة، وعلو الأسماء والصفات.
قال السعدي: فجميع معاني العلو ثابتة لله من كل وجه، فله علو الذات فإنه فوق المخلوقات، وعلى عرشه استوى، أي علا وارتفع، وله علو القدر وهو علو صفاته وعظمتها، فلا يماثله صفة مخلوق، بل لا يقدر الخلائق كلهم أن يحيطوا ببعض معاني صفة واحدة من صفاته، قال تعالى:
{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (1) .
وبذلك يعلم أنه ليس كمثله شيء في كل نعوته، وله علو القهر، فإنه الواحد القهار، الذي قهر بعزته وعلوه الخلق كلهم، فنواصيهم بيده، وما شاء كان لا يمانعه فيه مانع، وما لم يشأ لم يكن (2) . ا. هـ.
وقد قسم العلماء العلو إلى قسمين: علو ذات، وعلو صفات.
أما علو الذات: فإن معناه أنه فوق مخلوقاته مستو على عرشه ليس فوقه شيء، بل كل الأشياء تحت الله – عز وجل -.
وأما علو الصفات: فمعناها علو صفاته عن مشابهة المخلوقين،
__________
(1) سورة طه الآية 110
(2) الحق الواضح المبين 3 / 224، وانظر: توضيح الكافية الشافية 3 / 377.(82/127)
فلا يماثله أحد من خلقه، بل لا يستطيع الخلائق كلهم الإحاطة ببعض معاني صفة واحدة من صفاته فهو كما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) .
في نعوته وأسمائه وهو كما قال عن نفسه: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) .
فصفاته عز وجل عليا ليس فيها نقص بأي وجه من الوجوه.
وبعض النفاة من أهل التعطيل قالوا: إن الله عال علوا وصفيا وهم على قسمين:
فمنهم من يرى أن الله بذاته موجود في كل مكان، ومنهم من يرى أن الله تعالى لا يمين ولا شمال، ولا فوق لا تحت، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، وهذا قول النفاة المعطلة.
فمن هذا وصفه فهو المعدوم لأن هذا تعطيل محض، وعلو الله عز وجل ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: كقوله تعالى وهي أدلة على العلو:
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (3) .
{إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (4) .
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة الروم الآية 27
(3) سورة الأعلى الآية 1
(4) سورة الشورى الآية 51(82/128)
- {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (1) .
وقوله: وهي أدلة على الفوقية:
- {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (2) .
- {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (3) .
وقوله وهي أدلة على صعود الأشياء إليه:
- {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (4) .
- {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (5) " والآية فيها إثبات علو الله على خلقه؛ لأن الصعود والرفع يكونان إلى أعلى " (6) .
وقوله الذي يدل على رفع بعض المخلوقات إليه:
- {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (7) .
- وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (8) .
__________
(1) سورة الرعد الآية 9
(2) سورة الأنعام الآية 18
(3) سورة النحل الآية 50
(4) سورة المعارج الآية 4
(5) سورة فاطر الآية 10
(6) شرح العقيدة الواسطية الشيخ صالح الفوزان 80.
(7) سورة النساء الآية 158
(8) سورة آل عمران الآية 55(82/129)
وقوله الذي يدل على نزول بعض الأشياء:
- {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (1) .
- وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (2) .
وأما السنة: فقد وردت بذلك الأحاديث القولية والفعلية والتقريرية، فالقولية: كقوله - صلى الله عليه وسلم –: «ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك ... (3) » . الحديث. " في الحديث إثبات العلو لله تعالى، وأنه في السماء، والعلو صفة ذاتية" (4) .
والفعلية: كفعله يوم عرفة حين أشار صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وقال: «اللهم اشهد (5) » .
والتقريرية: كفعله مع الجارية حين سألها: «أين الله؟ فقالت: في السماء. فقال لسيدها: أعتقها؛ فإنها مؤمنة (6) » . فقول الجارية: إنه في السماء، المراد منه العلو، وأنه فوق كل شيء مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها، وإذا قيل: العلو فإنه يتناول ما فوق المخلوقات
__________
(1) سورة غافر الآية 2
(2) سورة النحل الآية 102
(3) أبو داود 4 / 12 كتاب الطب، باب كيف الرقى، ح (3893) .
(4) شرح العقيدة الواسطية الشيخ صالح الفوزان 114.
(5) صحيح مسلم: من حديث جابر في حجة الوداع، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم ح (12181) .
(6) صحيح مسلم: كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، ح (537) .(82/130)
كلها، فما فوقها كلها، هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به؛ إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله (1) .
وروى البخاري بسنده، عن أنس: أن زينب - رضي الله عنها - كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما قضى الله الخلق كتب كتابا، فهو عنده فوق العرش: أن رحمتي سبقت غضبي (2) » وفي رواية: «تغلب غضبي (3) » .
وأما الإجماع: فقد أجمع سلف الأمة كلهم على أن الله فوق العرش، ولم يرو عن أحد منهم قول: إن الله في كل مكان. قال ابن تيمية: ليس في كلام الله ولا رسوله ولا كلام الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ما يدل لا نصا ولا ظاهرا على أن الله تعالى ليس فوق العرش، وليس في السماء، بل كلامهم متفق على أن الله فوق كل شيء.
__________
(1) التدمرية ابن تيمية 57.
(2) صحيح البخاري مع الفتح 6 / 287 كتاب الخلق، باب قوله: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده) ح (3194) صحيح مسلم 8 / 95، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه، ح (2751) .
(3) صحيح البخاري مع الفتح 6 / 287 كتاب الخلق، باب قوله: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده) ح (3194) صحيح مسلم 8 / 95، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه، ح (2751) .(82/131)
قال الأوزاعي: كنا - والتابعون متوافرون - ونقول: إن الله - تعالى ذكره - فوق عرشه (1) .
قال الذهبي: أورد المصنف من رواية أبي صفوان الأموي عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان: حدثنا يوسف بن يزيد، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن كعب الأحبار، قال: قال الله - عز وجل - في التوراة: (أنا فوق عبادي، وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي أدبر أمور عبادي، لا يخفى علي شيء في السماء، ولا في الأرض) (2) .
أما ثبوته بالعقل فمن وجوه:
أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين، إما أن يكون أحدهما ساريا في الآخر قائما به كالصفات، وإما أن يكون قائما بنفسه بائنا من الآخر.
الثاني: أنه لما خلق العالم، فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجا عن ذاته، والأول: باطل، أما أولا فبالاتفاق، وأما ثانيا فلأنه يلزم أن يكون محلا للخسائس والقاذورات، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، والثاني: يقتضي كون العالم واقعا خارج ذاته، فيكون منفصلا فتعينت المباينة؛ لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه غير معقول.
الثالث: أن كونه - تعالى - لا داخل العالم ولا خارجه: يقتضي نفي
__________
(1) القواعد المثلى، ابن عثيمين 62، انظر الفتاوى ابن تيمية 5 / 229.
(2) قال الذهبي: رجاله ثقات، رجال الشيخين، العلو الذهبي 128 ح: 97.(82/132)
وجوده بالكلية؛ لأنه غير معقول، فيكون موجودا إما داخله أو خارجه. والأول باطل فتعين الثاني، فلزمت المباينة.
وأما ثبوته بالفطرة فإن الخلق جميعا بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى.
ذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان، فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع بهذه الضرورة عن أنفسنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل! وأظنه قال: وبكى! وقال: حيرني الهمداني حيرني، أراد الشيخ أن هذا أمر فطر الله عليه عباده من غير أن يتلقوه من المرسلين، يجدون في قلوبهم طلبا ضروريا يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو" (1) .
قوله: العظيم
صفة مشبهة، ومعناها: ذو العظمة، وهي القوة والكبرياء وما أشبه ذلك
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية 290 - 291، وانظر: رسائل في العقيدة، ابن عثيمين 66.(82/133)
مما هو معلوم من دلالة هذه الكلمة، فهو عظيم القدر والشأن، وهو القوي تتضاءل عند عظمته جبروت الجبابرة، وتصغر في جانب جلاله وعظمته أنوف المتكبرين. قال ابن جرير: العظيم الذي قد كمل في عظمته (1) .
جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله يقول: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما عذبته (2) » .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما السماوات السبع والأرضون السبع، وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في كف أحدكم (3) » .
وروي أنه قال: «يرمي بها كما يرمي الصبي بالكرة» . فهذا يبين أن الأفلاك لا نسبة لها على قدرة الله - تعالى – مع كونه - سبحانه وتعالى - يطوي السماء ويقبض الأرض (4) .
إن الله تعالى عظيم له كل وصف ومعنى يوجب التعظيم، فلا يقدر مخلوق أن يثني عليه كما ينبغي له، ولا يحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده.
__________
(1) تفسير ابن جرير 5 / 406.
(2) مسلم 4 / 2023.
(3) سبق تخريجه، انظر صفحة (29) ، هامش (2) .
(4) الفتاوى ابن تيمية 5 / 308.(82/134)
ومعاني التعظيم الثابتة لله وحده نوعان:
أحدهما: أنه موصوف بكل صفة كمال، وله من ذلك الكمال أكمله وأعظمه وأوسعه، فله العلم المحيط، وله القدرة النافذة، والكبرياء والعظمة، ومن عظمته أن السماوات والأرض في كف الرحمن أصغر من الخردلة. قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (1) .
ثانيها: من معاني عظمته تعالى أنه لا يستحق أحد من الخلق أن يعظم كما يعظم الله، فيستحق جل جلاله من عباده أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم، وذلك ببذل الجهد في معرفته ومحبته، والذل له، والانكسار له، والخضوع لكبريائه، والخوف منه، وإعمال اللسان بالثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته، ومن تعظيمه أن يتقى حق تقاته، فيطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، ومن تعظيمه تعظيم ما حرمه وشرعه من زمان ومكان وأعمال.
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (2)
و: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (3) .
ومن تعظيمه أن لا يعترض على شيء مما خلقه أو شرعه. (4) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 67
(2) سورة الحج الآية 32
(3) سورة الحج الآية 30
(4) الحق الواضح المبين 3 / 225.(82/135)
الخاتمة:
من خلال البحث ظهر لي بعض ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة:
1- اشتملت هذه الآية العظيمة على توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فهي عقيدة في أسماء الله وصفاته وهي تنفي النقص، وتثبت الكمال.
2- افتتحت الآية بالاسم العلم الأعظم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى علوا وعظمة، تتقاصر عنها الأفهام لما غلب عليها من الأوهام، ونظم الاسمين هكذا دال على أنه أريد بالعظيم علو الرتبة (1) . وبعد المنال عن إدراك العقول، وقد ختمت الآية بما بدئت به، غير أنه بدأها بالعظمة. (2) .
3- اشتملت على خمسة أسماء من الأسماء الحسنى، هي: الله، الحي، القيوم، العلي، العظيم.
4- كما اشتملت على صفات عدة، منها ما تتضمنه هذه الأسماء، وهي: الإلهية، الحياة، القيومية، العلو، العظمة.
__________
(1) العلو يشمل علو الذات وعلو الصفات.
(2) نظم الدرر البقاعي 1 / 498.(82/136)
ومنها غير ذلك، وهي:
انتفاء السنة والنوم لكمال قيوميته، والملك التام وانفراده به، إثبات العندية في قوله: عنده، وهذا يرد على الحلولية الذين يقولون: إن الله في كل مكان.
إثبات الإذن، وهو الأمر إلا بإذنه، فلا شفاعة إلا من بعد أن يأذن الله.
إثبات علم الله يعلم.
إثبات المشيئة {إِلَّا بِمَا شَاءَ} (1) .
إثبات القدمين لوجود ما يوضع عليه القدمان كرسيه.
إثبات كمال علمه وحفظه {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} (2) .
الرب تعالى له العظمة بكل اعتبار وكل وجه بذاته، والمعطلة تنكر عظمة ذاته، ولا يثبتون إلا عظمة معنوية، لا يثبتون عظمة الذات كما يقولون مثل ذلك في العلو: إنه علو معنوي، لا أن ذاته عالية على كل المخلوقات، فليس عندهم عليا ولا عظيما إلا باعتبار معنوي فقط. (3) .
وبعد، فهذا جهد المقل، فإن أصبت فبفضل الله وكرمه، فله الحمد والمنة، وإن أخطأت فمن نفسي وتقصيري، أسأل الله أن يعفو عني
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة البقرة الآية 255
(3) الصواعق المرسلة ابن القيم 4 / 1374 - 1375.(82/137)
ويبصرني بخطئي، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.(82/138)
عرش الرحمن في القرآن
للدكتور: عبد العزيز بن صالح العبيد (1)
مقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن دعا بدعوته، واهتدى بهداه إلى يوم القيامة، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإن إفراد موضوع من موضوعات القرآن الكريم بالبحث يلقي الضوء على جميع جوانبه ويوضحه، ويكشف غوامضه؛ ليكون الناس على بصيرة في أمور دينهم.
ومن هنا، فقد اخترت موضوعا من موضوعات القرآن الكريم؛ لأقوم بدراسته دراسة تفسيرية موضوعية، وجعلته تحت هذا العنوان: " عرش الرحمن في القرآن ".
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعله خالصا لوجه الكريم، نافعا لعباده، إنه على كل شيء قدير.
__________
(1) عضو هيئة التدريس بقسم التفسير - كلية القرآن الكريم - الجامعة الإسلامية.(82/139)
أسباب اختيار الموضوع:
اخترت الكتابة في هذا الموضوع للأسباب الآتية:
1- كثرة ذكر العرش في القرآن الكريم؛ حيث ذكر في واحد وعشرين موضعا.
2- إن الموضوع يجمع بين التفسير والعقيدة.
3- كثرة الفرق الضالة في العرش، فحرصت على بيان عقيدة أهل السنة وأقوالهم في العرش الكريم.
فلهذه الأسباب قمت بجمع شتات الموضوع، ودراسته، وترتيبه، وإخراجه.
خطة البحث:
قسمت الموضوع إلى: مقدمة وتمهيد، وخمسة مباحث، وخاتمة، وفهارس عامة:
المقدمة: وفيها أسباب اختيار الموضوع، والخطة التي سلكتها فيه، ومنهج الكتابة فيه.
التمهيد: وفيه تعريف العرش لغة واصطلاحا.
المباحث، وهي على النحو الآتي:
المبحث الأول: خلق الله للعرش.
المبحث الثاني: مكان العرش.
المبحث الثالث: استواء الله على العرش.
المبحث الرابع: صفات العرش، وفيه ثلاثة مطالب:(82/140)
المطلب الأول: العرش العظيم.
المطلب الثاني: العرش الكريم.
المطلب الثالث: العرش المجيد.
المبحث الخامس: أحوال الملائكة مع العرش، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: حملة العرش.
المطلب الثاني: عدد حملة العرش.
المطلب الثالث: الملائكة حول العرش.
الخاتمة: وفيها أهم النتائج التي توصلت إليها أثناء البحث.
منهج كتابة البحث:
سلكت في كتابة هذا البحث المنهج الآتي:
1- أجمع الآيات التي أريد تفسيرها مرتبة على حسب ورودها في القرآن.
2- أقوم بتفسير الآيات وبيانها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين ومن كتب التفسير والحديث والعقيدة واللغة.
3- أعزو الأحاديث إلى كتبها، فإن كانت في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت به، وإن لم يكن كذلك بينت صحتها من ضعفها، وذلك بالرجوع إلى أقوال النقاد، أو بمتابعة الإسناد.
4- أعتمد قول الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب في الحكم على رجال الإسناد، إلا إذا رأيت أن حكم غيره أدق منه، أو أنه يتقوى به، فإنني أذكره.(82/141)
5- أجمع أقوال العلماء في المسائل الخلافية، ثم أقوم ببيان الراجح.
6- أعزو كل قول إلى قائله.
7- اعتنيت في هذا البحث بأقوال أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وتجنبت ذكر أقوال أهل البدع؛ لأنها باطلة، ولكثرتها وتشعبها، ولأنني قصدت بيان الحق في هذا البحث المختصر.
وإذا عرف الحق فما خالفه فهو باطل.(82/142)
التمهيد: تعريف العرش:
العرش لغة: قال ابن فارس: العين والراء والشين أصل صحيح واحد، يدل على ارتفاع في شيء مبني (1) ، ومنه سرير الملك، كما قال تعالى عن ملكة سبأ: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} (2) ، ومنه سقف البيت، وعنب معروش: جعل له عريش، وبئر معروشة: هي التي تطوى قدر قامة بالحجارة ثم بالخشب، وعرش القدم: ظهرها (3) .
والمراد بالعرش اصطلاحا: هو ذلك المخلوق العظيم الذي خلقه الله - عز وجل - ثم استوى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته، كما هو معتقد أهل السنة والجماعة.
__________
(1) معجم مقاييس اللغة، مادة: ''عرش''.
(2) سورة النمل الآية 23
(3) القاموس المحيط، ولسان العرب مادة: ''عرش''.(82/142)
قال الإمام البيهقي: وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير، وأنه جسم مجسم خلقه الله تعالى، وأمر ملائكته بحمله (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: العرش موجود بالكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة وأئمتها (2) .
__________
(1) الأسماء والصفات ص 497.
(2) مجموع الفتاوى 6 / 584.(82/143)
المبحث الأول: خلق الله للعرش:
إن خلق العرش داخل في عموم المخلوقات كما في قوله جل وعلا: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (1) .
وقد خص الله سبحانه وتعالى العرش بقوله: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (2) . قال الحافظ ابن حجر: إشارة إلى أن العرش مربوب، وأن كل مربوب مخلوق (3) .
وقال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (4) .
__________
(1) سورة الرعد الآية 16
(2) سورة التوبة الآية 129
(3) فتح الباري 13 / 405.
(4) سورة المؤمنون الآية 86(82/143)
وقال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (1) . وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (2) . وقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (3) . وهذه الآيات تدل على ربوبية الله للعرش بجميع معاني الربوبية، كالخلق والتدبير.
واختلف العلماء: هل العرش أول مخلوق، أم أن القلم خلق قبله؟ على قولين مشهورين:
القول الأول: أن العرش هو أول المخلوقات، وهذا قول الجمهور (4) .
واستدلوا بما أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء (5) » ، فدل الحديث على أن تقدير الخلائق كلها وقع بعد خلق العرش.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 116
(2) سورة النمل الآية 26
(3) سورة الزخرف الآية 82
(4) البداية والنهاية: 1 / 7، وشرح الطحاوية ص 265، وفتح الباري 6 / 289.
(5) أخرجه مسلم في صحيحه ج 4 / 2044، كتاب القدر 2653.(82/144)
القول الثاني: أن القلم أول المخلوقات: وهذا اختيار الإمام الطبري وابن الأثير (1) .
واستدل من قال بهذا القول بحديث عبادة بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول ما خلق الله تبارك وتعالى القلم، ثم قال له: اكتب. قال: وما أكتب؟ قال: فاكتب ما يكون، وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة (2) » .
والراجح هو قول الجمهور، وأن العرش أول المخلوقات لما يأتي:
1- أن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص دل على أن التقدير وقع بعد خلق العرش، أما حديث عبادة فدل على أن التقدير وقع عند أول خلق القلم؛ ولهذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بذكر العرش قبل ذكر كتابة المخلوقات في حديث عمران بن الحصين وفيه: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض (3) » ، وهذا يدل على تقدمه على الكتابة.
2- أجابوا عن حديث عبادة بن الصامت: «أول ما خلق الله تبارك
__________
(1) تاريخ الطبري 1 / 35، وابن الأثير 1 / 17.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 4 / 72، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده) 4 / 73.
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5 / 317، واللفظ له، وأبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في القدر 5 / 76، والترمذي في سننه، كتاب القدر 4 / 458، وقال: حسن صحيح غريب، وصححه الألباني في حاشية الطحاوية ص 264.(82/145)
وتعالى القلم (1) » ، بأن معناه عندما خلق الله القلم، قال له: اكتب، وذلك بنصب "أول" و"القلم" على أنه جملة واحدة، أما إذا كان جملتين، ورفع "أول" و"القلم"، فالمعنى: إن القلم أول المخلوقات في هذا العالم دون العالم الأعلى، وبهذا يتفق الحديثان ويرتفع ما يتوهم من الإشكال بينهما، والله أعلم.
__________
(1) الترمذي تفسير القرآن (3319) ، أحمد (5/317) .(82/146)
المبحث الثاني: مكان العرش:
أخبرنا الله تبارك وتعالى عن المكان الذي يوجد عليه العرش، فقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (1) .
قال الطبري: كان عرشه على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض ومن فيهن، ثم أخرج عن مجاهد أنه قال: كان عرشه على الماء قبل أن يخلق شيئا، ويبين هذا حديث عمران بن الحصين الذي قال فيه النبي - صلى الله
__________
(1) سورة هود الآية 7(82/146)
عليه وسلم -: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض (1) » .
فالآية والحديث يدلان على أن مكان العرش على الماء، ولا يكون ذلك إلا بعد أن خلق الله الماء.
قال الحافظ ابن حجر: وليس المراد بالماء ماء البحر، بل هو ماء تحت العرش (2) .
وأخرج البخاري في خلق أفعال العباد عن سليمان التيمي قال: لو سئلت أين الله؟ لقلت: في السماء. فإن قال: فأين عرشه قبل السماء؟ لقلت: على الماء، فإن قال: فأين عرشه قبل الماء؟ لقلت: لا أعلم. قال أبو عبد الله: وذلك لقوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (3) ، يعني: إلا بما تبين (4) .
وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن العرش فوق الفردوس الذي هو أعلى الجنة؛ حيث قال: « ... فإذا سألتم الله، فسلوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة (5) » .
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) فتح الباري 13 / 410
(3) سورة البقرة الآية 255
(4) خلق أفعال العباد ص 15.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه 8 / 276، كتاب التوحيد، باب: وكان عرشه على الماء، وهو رب العرش العظيم(82/147)
وإذا كان فوق الجنة فإنه فوق المخلوقات كلها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: العرش فوق المخلوقات، والخالق سبحانه وتعالى فوقه (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 6 / 564.(82/148)
المبحث الثالث: استواء الله على العرش:
أخبرنا الله تبارك وتعالى - وهو العليم بكل شيء - أنه قد استوى على عرشه العظيم، وذلك في سبعة مواضع من كتابه العزيز، وهذه المواضع هي:
1- قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) .
2- قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (2) .
3- قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (3) .
4- قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4) .
5- قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (5) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54
(2) سورة يونس الآية 3
(3) سورة الرعد الآية 2
(4) سورة طه الآية 5
(5) سورة الفرقان الآية 59(82/148)
6- قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) .
7- قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2) .
وإذا تأملنا الاستواء في هذه الآيات نجده قد عدي بـ (على) .
فلا يحتمل غير معنى العلو والارتفاع، وأما إذا عدي الاستواء بـ (إلى) ، فمعناه قصد إليه علوا وارتفاعا.
وأما إذا لم يعد بحرف فمعناه كمل وتم، وإذا عطف على المستوي غيره، فمعناه المساواة بين المعطوفين، كما تقول: استوى الليل والنهار.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم معنى الاستواء في هذه الآيات بقوله: «لما فرغ الله من خلقه استوى على عرشه (3) » .
وأجمع السلف من الصحابة والتابعين على أن الله مستو على عرشه
__________
(1) سورة السجدة الآية 4
(2) سورة الحديد الآية 4
(3) ذكره ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص 34، وعزاه إلى الخلال في كتاب السنة، وقال: بإسناد صحيح على شرط البخاري. وكذلك عزاه الذهبي في كتاب العرش 2 / 72 إلى الخلال في السنة، وقال: بإسناد صحيح على شرط الصحيحين، ولم أجده في المطبوع من كتاب السنة للخلال، فلعله في المفقود، وأكد لي ذلك فضيلة د. عطية الزهراني - محقق كتاب السنة - وهو بصدد جمع المفقود من الكتاب.(82/149)
استواء يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى. ومن أقوالهم في ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه عن مجاهد، قال: استوى: علا على عرشه. وأخرج عن أبي العالية، قال: ارتفع.
وقال الأوزاعي: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته جل وعلا (1) .
وقال الإمام مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
قال الحافظ الذهبي: وهو قول أهل السنة قاطبة، أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به، لا نتعمق، ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفيا ولا إثباتا، بل نسكت ونقف كما وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون، ولما وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عنه. ونعلم يقينا مع ذلك أن الله جل جلاله لا مثيل له في صفاته، ولا في نزوله سبحانه
__________
(1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ص 515، وصحح إسناده ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص43.(82/150)
وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا (1) .
وقد جاءت الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على علو الله على عرشه على وجوه متعددة، وهي كما يلي:
1- التصريح بالفوقية مقرونة بـ"من"، كقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (2) . أو مجردة عنها، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (3) .
2- التصريح بالعروج إليه، كقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (4) .
3- التصريح بالصعود إليه، كقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (5) .
4- التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه، كقوله تعالى - عن عيسى عليه السلام {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (6) .
5- التصريح بعلو الله المطلق، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (7) .
6- التصريح بنزول الكتاب منه كقوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (8) .
__________
(1) مختصر العلو 141 – 142.
(2) سورة النحل الآية 50
(3) سورة الأنعام الآية 18
(4) سورة المعارج الآية 4
(5) سورة فاطر الآية 10
(6) سورة النساء الآية 158
(7) سورة البقرة الآية 255
(8) سورة النحل الآية 102(82/151)
7- التصريح بأنه سبحانه في السماء، كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (1) ، أي: على السماء، أو أن المراد بالسماء العلو.
8- التصريح باستوائه جل وعلا على العرش كما في الآيات السابقة.
9- التصريح برفع الأيدي إليه سبحانه، كقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردها صفرا (2) » .
10- التصريح بنزوله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا إذا بقي الثلث الأخير من الليل، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له (3) » .
11- إخباره سبحانه عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء؛ ليطلع إلى إله موسى، فيكذبه فيما أخبر به عن الله أنه فوق السماوات، فقال تعالى عنه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} (4) {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} (5) (6) .
__________
(1) سورة الملك الآية 16
(2) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب: الدعاء 2 / 165، والترمذي في سننه، كتاب الدعوات 5 / 557، بلفظ: ''أن يردهما خائبتين''، وقال: حسن غريب. وابن ماجه في سننه، كتاب الدعاء، باب: رفع اليدين في الدعاء 2 / 1271، بلفظ: ''يردهما صفرا''، أو قال: ''خائبتين''. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1 / 279.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل 2 / 45. ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين 1 / 521.
(4) سورة غافر الآية 36
(5) سورة غافر الآية 37
(6) أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 2 / 300 – 303، وشرح الطحاوية ص 285 – 287 بتصرف.(82/152)
وبعد هذه الأدلة المتضافرة من الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة على علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، هل يرتاب مؤمن في إثبات هذه الصفة على ما يليق بربنا جل وعلا.
فعلى كل من آمن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا أن يسلك هذا السبيل، وأن يعض عليه بالنواجذ، فكل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يثبتنا على الحق، وأن يهدي ضال المسلمين، إنه جواد كريم.(82/153)
المبحث الرابع: صفات العرش:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: العرش العظيم:
وصف الله عرشه بأنه عظيم في ثلاث آيات من كتابه الكريم.
قال تعالى: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (1) . وقال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (2) . وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (3) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 129
(2) سورة المؤمنون الآية 86
(3) سورة النمل الآية 26(82/153)
قال ابن فارس: العين والظاء والميم أصل واحد صحيح يدل على كبر وقوة (1) ، وهو في صفات الأجسام: كبر الطول والعرض والعمق (2) .
فعرش الرحمن تبارك وتعالى عظيم جدا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «يا أبا ذر، ما السماوات السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة (3) » . وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره إلا الله".
__________
(1) معجم مقاييس اللغة مادة: ''عظم''.
(2) لسان العرب، مادة: ''عظم''.
(3) أخرجه أبو الشيخ في العظمة 2 / 649، وأبو نعيم في الحلية 1 / 167 من حديث طويل، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 510 - 511، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح 13 / 411، وقال: صححه ابن حبان، وصححه الألباني في حاشية شرح الطحاوية ص830.(82/154)
وهذا يدل على عظم العرش، وكبر مساحته؛ حيث بلغ من سعته وكبر حجمه أنه لا يقدر أحد من الخلق قدره، وإنما علم ذلك إلى الله وحده.
ومن عظم العرش أنه أثقل المخلوقات وزنا لما أخرجه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجويرية رضي الله عنه: «لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته (1) » .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - بعد هذا الحديث -: فهذا يبين أن زنة العرش أثقل الأوزان (2) .
المطلب الثاني: العرش الكريم:
قال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (3) .
الكريم: اسم جامع لكل ما يحمد، والعرب تجعل الكريم تابعا لكل شيء نفت عنه فعلا تنوي به الذم (4) . قال الراغب الأصفهاني: وكل شيء شرف في بابه، فإنه يوصف بالكرم (5) .
ووصف العرش بالكريم لنزول الرحمة والخير منه، أو باعتبار من
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 4 / 2090، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2726.
(2) مجموع الفتاوى 6 / 553.
(3) سورة المؤمنون الآية 116
(4) انظر تهذيب اللغة، ولسان العرب، مادة: ''كرم''.
(5) المفردات، مادة: ''كرم''.(82/155)
استوى عليه، كما يقال: بيت كريم إذا كان ساكنوه كراما (1) .
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذين الوصفين للعرش: العظيم، والكريم، في دعاء من أعظم أدعيته صلى الله عليه وسلم، وهو دعاء الكرب، كما جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم (2) » .
قال الحافظ ابن حجر: والذي ثبت في رواية الجمهور بالجر على أنه نعت للعرش ... لأن وصف ما يضاف للعظيم بالعظيم أقوى في تعظيم العظيم. (3) .
المطلب الثالث: العرش المجيد:
قال الله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} (4) .
قرأ حمزة والكسائي: "المجيد" بالخفض صفة للعرش.
وقرأ الباقون: {الْمَجِيدُ} (5) بالرفع صفة لذو (6)
__________
(1) تفسير الشوكاني 3 / 497
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 7 / 154 - 155، كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الكرب، ومسلم في صحيحه 4 / 2093، كتاب الذكر والدعاء، رقم 2730.
(3) فتح الباري 11 / 146.
(4) سورة البروج الآية 15
(5) سورة البروج الآية 15
(6) حجة القراءات لابن زنجلة ص 757، والنشر في القراءات العشر لابن الجزري 2 / 339.(82/156)
والمجيد: على وزن فعيل، وهو أبلغ من فاعل (1) ؛ لأنه يدل على بلوغ النهاية، ولا يكون إلا في محمود (2) .
ووصف العرش بالمجيد لجلالته وعظم قدره وسعة خلقه (3) .
ومجادته: عظمه وعلو مقداره، وحسن صورته وتركيبه (4) .
ووصف العرش بالمجيد أبلغ في تمجيد صاحبه؛ لأنه إذا كان هذا المخلوق مجيدا، فخالقه ومالكه والمدبر له، المستوي عليه جل وعلا أحق بالمجد منه.
وذو العرش: أي: صاحب العرش، والمراد: مالكه، أو: خالقه (5) .
وخص الله العرش بإضافته إليه تشريفا للعرش، وتنبيها على أنه أعظم المخلوقات (6) ، ولأنه أخص المخلوقات بالقرب منه تعالى (7) .
__________
(1) لسان العرب، مادة: ''مجد''.
(2) معجم مقاييس اللغة، مادة: ''مجد''.
(3) المفردات للراغب مادة ''مجد'' وعمدة الحفاظ للسمين الحلبي مادة '' مجد''
(4) البحر المحيط 8 / 452، وروح المعاني 3 / 92.
(5) روح المعاني، 30 / 92.
(6) البحر المحيط، 8 / 452.
(7) تفسير السعدي ص 919.(82/157)
المبحث الخامس: أحوال الملائكة مع العرش:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: حملة العرش:
وكل الله تبارك وتعالى بعض ملائكته الكرام بحمل عرشه العظيم كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (1) .
__________
(1) سورة غافر الآية 7(82/157)
وقال سبحانه وتعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (1) .
إن حملة العرش خلقهم عظيم جدا، وقد جاء في صفاتهم:
1- ما أخرجه أبو داود والبيهقي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام (2) » .
2- أخرج أبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أذن لي أن أحدث عن ملك قد مرقت رجلاه الأرض السابعة والعرش على منكبه، وهو يقول: سبحانك أين كنت وأين تكون (3) » .
__________
(1) سورة الحاقة الآية 17
(2) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة باب في الجهمية، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 504، وصحح إسناده السيوطي في الدر المنثور 13 / 7، وصححه الألباني في حاشية شرح الطحاوية ص 279.
(3) أخرجه أبو يعلى في مسنده 6 / 113، رقم 6588. وقال الهيثمي في المجمع 8 / 138: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح، وصحح إسناده السيوطي في الدر المنثور 13 / 16. ولم أجد في وصفهم سوى هذين الحديثين، وأما ما ورد في صفاتهم غير هذا، فكما قال أبو حيان في تفسيره 8 / 324: وذكروا في صفات هؤلاء أشكالا متكاذبة، ضربنا عن ذكرها صفحا.(82/158)
فهذان الحديثان يدلان على عظم صفات حملة العرش، وهم مع حملهم العرش الكريم، إلا أنهم لا يفارقون تنزيه الله جل وعلا، والإيمان به تبارك وتعالى، وهم يستغفرون للمؤمنين، ويدعون الله لهم.
قال الشيخ السعدي: وهؤلاء الملائكة قد وكلهم الله تعالى بحمل عرشه العظيم، فلا شك أنهم من أكبر الملائكة وأعظمهم وأقواهم. واختيار الله لهم لحمل عرشه، وتقديمهم في الذكر، وقربهم منه يدل على أنهم أفضل أجناس الملائكة عليهم السلام (1) . وإذا كانت هذه صفات الحاملين فما بالك بالمحمول، ثم ما بالك بالخالق تبارك وتعالى.
__________
(1) تفسير السعدي ص 732.(82/159)
المطلب الثاني: عدد حملة العرش:
قال الله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (1) .
اختلف العلماء في عدد حملة العرش على أربعة أقوال:
(1) إنهم الآن أربعة، ويوم القيامة ثمانية.
وهذا أخرجه أبو الشيخ بسند ضعيف عن وهب بن منبه، ونسبه ابن الجوزي إلى الجمهور (2) .
__________
(1) سورة الحاقة الآية 17
(2) زاد المسير 8 / 350 مع أنني وجدت أكثر المفسرين على القول الرابع.(82/159)
واستدل من قال بهذا القول بما يأتي:
أ - ما أخرجه الطبري عن محمد بن إسحاق، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هم اليوم أربعة - يعني: حملة العرش - وإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين فكانوا ثمانية (1) » . {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (2) .
وهذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه انقطاعا بين ابن إسحاق والنبي صلى الله عليه وسلم. وابن إسحاق صدوق يدلس (3) .
ب - ما أخرجه الطبري عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحمله اليوم أربعة، ويوم القيامة ثمانية (4) » .
وهذا الحديث ضعيف أيضا؛ لأن فيه انقطاعا بين عبد الرحمن بن زيد بن أسلم والنبي صلى الله عليه وسلم. وعبد الرحمن بن زيد ضعيف (5) .
ج - ما أخرجه الطبري وأبو الشيخ عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه
__________
(1) تفسير الطبري 23 / 229.
(2) سورة الحاقة الآية 17
(3) تقريب التهذيب ص467.
(4) تفسير الطبري 23 / 229.
(5) تقريب التهذيب ص 340.(82/160)
وسلم، قال: «يحمل عرشه يومئذ ثمانية، وهم اليوم أربعة (1) » .
وهذا الحديث ضعيف أيضا. فلا يحتج به.
(2) إنهم ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء.
وهذا أخرجه ابن أبي شيبة (2) عن ابن عباس؛ حيث قال: "الثمانية أجزاء من التسعة، قال: الجن والإنس والشياطين والملائكة كلهم إلا الكروبيين، حملة العرش جزء، والكروبيون ثمانية أجزاء…". وهذا الأثر ضعيف؛ لأنه من طريق بشر بن عمارة الخثعمي، وهو ضعيف (3) . وفيه انقطاع بين الضحاك وابن عباس؛ لأن الضحاك لم يلق ابن عباس (4) .
(3) إنهم ثمانية صفوف من الملائكة.
وهذا أخرجه الطبري من ثلاثة طرق عن ابن عباس، وكلها ضعيفة.
__________
(1) هذا جزء من حديث الصور الطويل. أخرجه الطبري 3 / 611 - 613، وأبو الشيخ في العظمة 3 / 822 – 837. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح 11 - 368: ومداره على إسماعيل بن رافع، واضطرب في سنده مع ضعفه. وضعفه الشيخ أحمد شاكر في حاشية الطبري 4 / 368، والألباني في حاشية الطحاوية ص232. بسبب إسماعيل بن رافع، ورجل مبهم في سنده.
(2) كتاب العرش 65 - 66. وعزاه الشوكاني في تفسيره 5 / 280 إلى الكلبي.
(3) تقريب التهذيب ص123.
(4) تهذيب التهذيب 4 / 453- 454.(82/161)
وأخرجه عبد الله بن أحمد والدارمي عن سعيد بن جبير (1) من طريق جعفر بن دينار القمي، وهو صدوق يهم (2) .
(4) إنهم ثمانية ملائكة.
وهذا أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ (3) عن عبد الله بن عمرو بن العاص من طريق حيي بن هاني أبي قبيل. وهو صدوق يهم (4) .
وأخرجه ابن أبي شيبة والدارمي والحاكم عن العباس بن عبد المطلب بإسناده ضعيف.
وأخرجه أبو الشيخ عن مجاهد (5) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو صدوق سيئ الحفظ (6) عن المنهال بن عمرو، وهو صدوق
__________
(1) السنة لعبد الله بن أحمد 2 / 505، وكتاب العرش ص67.
(2) تقريب التهذيب 141.
(3) تفسير ابن أبي حاتم 10 / 3370، والعظمة لأبي الشيخ 3 / 951.
(4) تقريب التهذيب ص185.
(5) العظمة 3 / 963.
(6) تقريب التهذيب ص493.(82/162)
ربما وهم (1) . وأخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم (2) عن حسان بن عطية.
وإسناده قوي، كما قال الذهبي، ووافقه الألباني (3) .
وأخرجه أبو الشيخ والبيهقي وأبو نعيم (4) عن هارون بن رئاب (5) وإسناد البيهقي وأبي نعيم حسن؛ لأن فيه العباس بن الوليد، وهو صدوق (6) ، وإسناد أبي الشيخ فيه رواد بن الجراح، وهو صدوق اختلط بآخره، فترك (7) .
واستدل من قال بهذا القول بما يأتي:
1 - قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (8)
فدلت الآية على عدد حملة العرش، وأنهم ثمانية، وليس هناك دليل يدل على غير هذا العدد، لا أقل منه ولا أكثر، ولو كان هناك أكثر منهم لذكره جل وعلا؛ لأن المقام مقام تخويف وتهديد.
__________
(1) تقريب التهذيب ص 547.
(2) العظمة 3 / 952، وحلية الأولياء 6 / 74.
(3) مختصر العلو ص101.
(4) العظمة 3 / 954. والجامع لشعب الإيمان 2 / 236. وحلية الأولياء 3 / 55.
(5) هو هارون بن رئاب التميمي، ثقة عابد من السادسة. انظر تقريب التهذيب ص568.
(6) تقريب التهذيب ص294.
(7) تقريب التهذيب ص211.
(8) سورة الحاقة الآية 17(82/163)
وأما القيد {يَوْمَئِذٍ} (1) فيمكن أن يقال: بأنه لا مفهوم له؛ لأن إثبات هذا العدد لحملة العرش في ذلك اليوم لا ينفيه عما سواه.
2 - حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ... ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم كما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش (2) » وهذا الحديث ضعيف.
الترجيح:
مما تقدم يتبين لنا أن حملة العرش يوم القيامة ثمانية من الملائكة، لقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (3) ، ولا معارض لظاهر الآية.
وأما في الدنيا فلم أجد ما ينص على عددهم، ففيه احتمالان:
__________
(1) سورة الحاقة الآية 17
(2) هذا الحديث مشهور بحديث الأوعال. أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1 / 206 - 207. وأبو داود في سننه، كتاب السنة 5 / 93. والترمذي في سننه كتاب التفسير 5 / 425، وقال: حسن غريب. وابن ماجه في سننه المقدمة 1 / 69، والحاكم 2 / 501. وقال الذهبي في كتاب العرش 2 / 33: رواه أبو داود بإسناد حسن وفوق الحسن. ولكن مدار الحديث من جميع طرقه على عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس. قال عنه الذهبي: فيه جهالة. قال البخاري: لا يعرف له سماع من الأحنف بن قيس. ميزان الاعتدال 2 / 469. وقال ابن حجر: روي عن الأحنف بن قيس عن العباس حديث الأوعال، وفيه عن سماك بن حرب اختلاف. تهذيب التهذيب 5 / 344. والحديث أورده العقيلي في الضعفاء 2 / 284، وابن الجوزي في العلل المتناهية 1 / 24 - 25. وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود ص 469، وانظر بيان ضعفه في حاشية المسند بإشراف د. عبد الله التركي 3 / 293 - 294.
(3) سورة الحاقة الآية 17(82/164)
الاحتمال الأول أن يقال:
أ - إن القيد في الآية لا مفهوم له، فهم ثمانية في الدنيا وفي الآخرة.
ب - إن إثبات عددهم يوم القيامة - وأنهم ثمانية - لا ينفيه عما سواه من الأيام.
وإنما ذكر عددهم في ذلك اليوم؛ لأن المقام مقام تخويف وترهيب.
والاحتمال الثاني: أن نتوقف في عددهم في الدنيا، ونكل العلم إلى عالمه، ونقول: سبحانك، لا علم إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.(82/165)
المطلب الثالث: الملائكة حول العرش:
أخبرنا الله تبارك وتعالى عن بعض ملائكته المقربين أنهم حول العرش حافين به، وذلك تعظيما له كما قال تبارك وتعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} (1) ، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (2)
و {حَافِّينَ} (3) بمعنى: محدقين بالعرش. و"من" مزيدة للتوكيد (4) .
قال ابن كثير: أخبرنا عن ملائكته أنهم محدقون من حول عرشه المجيد، يسبحون بحمد ربهم، ويمجدونه ويعظمونه، ويقدسونه وينزهونه من النقائص والجور (5) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 75
(2) سورة غافر الآية 7
(3) سورة الزمر الآية 75
(4) تفسير الطبري 20 / 271 - 272، والقرطبي 15 / 287.
(5) تفسير ابن كثير 5 / 433.(82/165)
وقال الشوكاني في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} (1) الجملة مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان أن هذا الجنس من الملائكة الذين هم أعلى طبقاتهم يضمون إلى تسبيحهم لله والإيمان به الاستغفار للذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا.
والمراد بمن حول العرش: هم الملائكة الذين يطوفون به مهللين مكبرين (2) .
وهؤلاء الملائكة المذكورون في قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} (3) ليسوا جميع الملائكة، بل هم فئة منهم، وكلها الله عز جل بأن تحف العرش وتحدق به، فهم بعض الملائكة وليسوا جميعهم؛ لأن من الملائكة من وكله الله تبارك وتعالى بحمل العرش في ذلك اليوم، كما قال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (4) فهؤلاء ليسوا ممن يحدق بالعرش.
ولهذا عطفهم على حملة العرش في قوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} (5) والعطف يقتضي المغايرة، فحملة العرش لهم عمل، والذين من حول العرش لهم عمل، ولكنهم كلهم يستغفرون للمؤمنين، ويدعون لهم، ولمن صلح من آبائهم وأزواجهم، وبالمغفرة والوقاية من السيئات، ومن النار، وأن يدخلهم الجنة.
__________
(1) سورة غافر الآية 7
(2) تفسير الشوكاني 4 / 464.
(3) سورة الزمر الآية 75
(4) سورة الحاقة الآية 17
(5) سورة غافر الآية 7(82/166)
أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (1) قال: قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين (2) .
__________
(1) سورة غافر الآية 7
(2) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2 / 178 - 179، وإسناده صحيح.(82/167)
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على خير البريات، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الممات.
أما بعد:
فمن خلال هذا البحث المتواضع توصلت إلى نتائج كثيرة، أجملها فيما يأتي:
1 - عظم مكانة العرش في القرآن الكريم؛ حيث ذكر في واحد وعشرين موضعا.
2 - العرش هو أول المخلوقات عند جمهور العلماء (1) .
3 - العرش هو أعظم المخلوقات وأكبرها وأعلاها.
4– أهل السنة والجماعة يؤمنون بالعرش الكريم كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
5 - أن الله أكد استواءه على العرش في سبعة مواضع من كتابه العزيز. وأن الأدلة من الكتاب والسنة التي تدل على استواء الله على عرشه
__________
(1) وقد سبق بيان الخلاف في هذه المسألة في المبحث الأول: خلق الله للعرش.(82/167)
جاءت على وجوه متعددة ومتنوعة.
6 - أن صفة الاستواء لا يسوغ فيها الاجتهاد؛ لأنها من أمور الغيب التي يجب علينا أن نؤمن بها. وقد أجمع السلف الصالح على وصف الله بها.
7 - أن الله وصف عرشه بصفات تليق به، فوصفه بأنه عظيم وكريم ومجيد.
8 - أن وصف العرش بهذه الصفات يدل على عظمة الخالق؛ لأن وصف هذا المخلوق بهذه الصفات أبلغ في تعظيم الخالق وتكريمه وتمجيده جل وعلا. فكل صفة كمال في المخلوق - لا تستلزم نقصا - فلله ما هو أكمل منها (1) .
9 - أن الله وكل بعض ملائكته بحمل عرشه العظيم، وبعضهم يحدقون به.
10 - حملة العرش يوم القيامة ثمانية بالنص. وأما في الدنيا فيمكن أن يقال بأن هذا هو عدد حملته في الدنيا، أو يتوقف في ذلك، ويكل العلم إلى علام الغيوب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) انظر هذا المعنى في مجموع فتاوى شيخ الإسلام 6 / 77 و 139 - 140.(82/168)
تقريرات علماء الدعوة في الإيمان ومسائله
للدكتور: عبد الله بن محمد السند
المقدمة:
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على خير خلقه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وبعد:
فإن مما لا يخفى أن مسائل الإيمان والإسلام من مسائل الدين العظام؛ فإن الله جل وعلا قد علق بها السعادة والشقاوة، واستحقاق الجنة والنار، ومن هنا كان اهتمام علماء السنة بها، علما وعملا، وتقريرا وردا على المخالفين.
والناظر في دواوين أهل السنة يجد هذه الحقيقة جلية، فيرى ما هم عليه من الاعتقاد في هذا الباب، ويرى ردودهم على المخالفين فيها.
وقد وقع بحمد الله اعتناء بتقييد ما جاء عن الأئمة المتقدمين من السلف الصالحين في ذلك، فلا تكاد ترى مصنفا في موضوع الإيمان إلا(82/169)
ويعتمد على نقل ما جاء عن أئمة السنة، وإن اختلف الناس في فهم هذا المعتقد.
وقد رأيت أن الحاجة ماسة في تقييد ما جاء عن علماء السلف المتأخرين ممن هم على طريقة الماضين؛ ليعلم مدى متابعة اللاحق بالسابق، ومبلغ ما هم عليه من التوافق.
ولما كانت الدعوة السلفية التي أحيا معالمها إمام أهل السنة في عصره، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، هي امتداد لما عليه السلف الصالح في أبواب الاعتقاد، فقد استعنت الله تعالى في تقييد ما جاء عنه، وعمن تابعه في دعوته من علماء الدعوة في باب الإيمان ومسائله؛ نظرا للأهمية التي يستحقها هذا الموضوع، خاصة في مثل هذه الأزمنة، وما يشاهد في الواقع من كثرة الاختلاف في هذه المسائل، أو بعضها.
وأيضا لكون تلك المادة العلمية الثرية التي تركها هؤلاء الأعلام متناثرة في بطون المجاميع، وتفاريق المصنفات، مما لا يوصل إليها إلا بتنقيب وتقييد، فلعل هذا البحث يكون جامعا لها، فيوفر الجهد، ويحفظ الوقت للباحثين.
هذا وقد دارت مسائل هذا البحث، في تمهيد وخمسة فصول:
التمهيد في بيان منزلة مسائل الإيمان.
الفصل الأول: مسمى الإيمان وحقيقته.
الفصل الثاني: الإسلام وصلته بالإيمان.(82/170)
الفصل الثالث: زيادة الإيمان ونقصانه.
الفصل الرابع: حكم الاستثناء في الإيمان.
الفصل الخامس: مرتكب الكبيرة.
الخاتمة.
هذه هي خطة البحث، وأما منهج إعداده، فيتلخص فيما يلي:
1 - عزو الآيات القرآنية إلى سورها.
2 - تخريج الأحاديث، فما كان منها في الصحيحين أو أحدهما اقتصرت على تخريجها منه، وإلا خرجته من مسند الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربع، فإن لم أجده فيها وهو قليل خرجته مما تيسر من كتب السنة، والتخريج يكون لأول مرة يرد فيها الحديث، فما كان مهملا من ذلك فمعناه أنه سبق تخريجه.
3 - لم أر حاجة لترجمة الأعلام، فإنه مدعاة للإطالة بأمر ميسور تحصيله على الناظر في مثل هذه البحوث، وإذا قلت: الإمام أو إمام الدعوة، فهو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى.
4 - اقتصرت أيضا على تقريرات هؤلاء الأعلام في المسائل المبحوثة فحسب؛ إذ هي المقصودة من البحث، وعزوت في الحواشي لبعض المراجع لمن أراد التوثيق والتوسع.
هذا ما تم عمله، حسب الجهد والطاقة، والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(82/171)
تمهيد في بيان منزلة مسائل الإيمان:
في تقرير علماء الدعوة رحمة الله عليهم لهذه المنزلة، يقول الشيخ حسين بن غنام رحمه الله تعالى: (ولا شك أن مسائل الإسلام والإيمان عظيمة الشأن، لا يجوز أن يغفل عنها الإنسان، أو يهملها أهل التوحيد والإيمان، بل الواجب المتعين بذل الوسع في تحقيقها، والاجتهاد والجد حتى يتبين سبيل الرشاد، ويتميز الصواب والسداد؛ لأن الله علق بهما السعادة والإسعاد، وعلق ضدهما وهو الكفر والنفاق الشقاوة (1) والهلاك يوم التناد) (2) .
وقال صاحب التوضيح:: (وهذه المسائل أعني مسائل الإيمان
__________
(1) في ط دار القاسم: والشقاوة، والتصويب من ط وزارة الأوقاف القطرية 87.
(2) العقد الثمين 52.(82/172)
والإسلام، والكفر والنفاق، مسائل عظيمة جدا، فإن الله - عز وجل - علق بهذه الأسماء السعادة والشقاوة، واستحقاق الجنة والنار، والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة،..،.
وقد صنف العلماء قديما وحديثا في هذه المسائل تصانيف متعددة، وممن صنف في الإيمان من أئمة السلف: الإمام أحمد، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو بكر ابن أبي شيبة (1) ومحمد بن أسلم
__________
(1) طبعه والذي قبله المكتب الإسلامي في بيروت.(82/173)
الطوسي (1) ، وغيرهم من الأئمة الأعلام (2)) (3) .
ولقد كانت هذه المسائل من المقاصد التي اعتنى إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بها، فقد قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: (وعلت همته - يعني: إمام الدعوة - إلى طلب التفسير والحديث، فسافر إلى البصرة غير مرة، كل مرة يقيم بين من كان بها من العلماء، فأظهر الله له من أصول الدين ما خفي على غيره، وكذلك ما كان عليه أهل السنة في توحيد الأسماء والصفات، والإيمان) (4) .
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله: (وأما مسائل القدر، والجبر، والإرجاء، والإمامة، والتشيع، ونحو ذلك، من المقالات والنحل، فهو أيضا - يعني: الإمام - فيها على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الهدى والدين، ويبرأ إلى الله مما قالته القدرية النفاة، والقدرية المجبرة، وما قالته المرجئة، والرافضة، وما عليه غلاة
__________
(1) المتوفى سنة 242هـ، وكتابه غير مطبوع. انظر: مقدمة تحقيق الإيمان للعدني 14.
(2) ككتاب الإيمان لابن منده، وككتابي الإيمان الكبير والأوسط لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكلها مطبوعة.
(3) التوضيح 127، وراجع: جامع العلوم والحكم 1 / 113 - 114.
(4) الدرر السنية 12 / 6.(82/174)
الشيعة والناصبة) .
ومن الأسس التي قامت عليها دعوة التوحيد التجرد إلى الدعوة إلى الله، ورد الناس إلى ما كان عليه سلفهم الصالح في باب العلم والإيمان، وباب العمل الصالح والإحسان.
وقد كانت مناظرة إمام الدعوة مع علماء الأحساء، وتقريره لما عليه أهل السنة والجماعة في باب الإيمان، من المناظرات الشهيرة، فقد (حضر مشايخ الأحساء، ومن أعظمهم عبد الله بن عبد اللطيف القاضي، فطلب منه أن يحضر الأول من فتح الباري على البخاري، وبين له ما غلط فيه الحافظ في مسألة الإيمان، وبين أن الأشاعرة خالفوا ما صدر به البخاري كتابه من الأحاديث والآثار، وبحث معهم في مسائل وناظر، وهذا أمر مشهور يعرفه أهل الأحساء، وغيرهم من أهل نجد) (1) .
وقد أشار الإمام إلى قصة هذه المناظرة في رسالته إلى الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وجاء فيها: (وتذاكرت أنا وإياك في شيء من التفسير والحديث، وأخرجت لي كراريس من البخاري كتبتها، ونقلت على
__________
(1) المقامات 7، والدرر السنية 12 / 8.(82/175)
هوامشها من الشروح، وقلت في مسألة الإيمان التي ذكر البخاري في أول الصحيح: هذا هو الحق الذي أدين الله به، فأعجبني هذا الكلام؛ لأنه خلاف مذهب أئمتكم المتكلمين) (1) .
ثم قال الإمام في نقد ما عليه المتكلمون: (وهم معترفون أنهم لم يأخذوا أصولهم من الوحي، بل من عقولهم، ومعترفون أنهم مخالفون للسلف في ذلك، مثل: ما ذكر في فتح الباري، في مسألة الإيمان، على قول البخاري: وهو قول وعمل، ويزيد وينقص.
فذكر إجماع السلف على ذلك، وذكر عن الشافعي أنه نقل الإجماع على ذلك، وكذلك ذكر أن البخاري نقله، ثم بعد ذلك حكى كلام المتأخرين، ولم يرده) .
وعلى هذا المنهج سار أتباعه رحمهم الله، فإنهم كما قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: (وهذه الطائفة بحمد الله على منهج الصحابة في أصول الدين وفروعه، والحجة عندهم فيما قال الله ورسوله، وما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام، وفارقوا أهل الشرك وعبادة
__________
(1) الدرر السنية 1 / 36، والرسائل الشخصية ضمن القسم الخامس من مؤلفات الشيخ الإمام 250.(82/176)
الأوثان، وأظهروا عداوتهم في الجملة، وخالفوا أهل كل بدعة في بدعتهم، كالجهمية، والمعتزلة، والمرجئة، وغيرهم من أهل البدع، كالباطنية، والفلاسفة، وغيرهم، فما ناظرهم صاحب بدعة إلا وألجؤوه المضائق، وأدحضوا حجته بالكتاب والسنة، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) (1) .
وفي الفصول القادمة كشف لهذه الحقيقة، وإبراز معتقد هؤلاء الأعلام في الإيمان ومسائله بعون الله تعالى.
__________
(1) الدرر السنية 11 / 536 - 537.(82/177)
الفصل الأول: مسمى الإيمان وحقيقته:
الإيمان في اللغة مشتق من الأمن، فهو من الأمور الباطنة الذي يؤتمن عليه، ويكون خفية (1) ، وهو إما أن يقال: إنه بمعنى التصديق، أو يقال: إن ما كان متعديا باللام (آمن له) ، فهو بمعنى التصديق، وما تعدى بالباء (آمن به) ، فهو الإيمان الشرعي (2) .
وقد انعقد إجماع السلف على أن الإيمان الشرعي قول وعمل
__________
(1) حاشية ثلاثة الأصول 60.
(2) انظر الدرر السنية 13 / 239، وفتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 1 / 245.(82/177)
وتنوعت تقريرات علماء الدعوة لهذا المعتقد، ما بين نقلهم حكاية بعض الأئمة الإجماع عليه، وحكايتهم بأنفسهم لهذا الإجماع، وأن هذا هو معتقدهم في باب الإيمان، وتقرير التلازم بين أجزاء الإيمان، وعدم انفكاك بعضها عن بعض، وعدم صحة الإيمان إلا باجتماع أجزائه، وسياق الأدلة على ذلك المعتقد، وهكذا في صور مختلفة في تقرير هذه الحقيقة، وهي أن الإيمان قول وعمل، وفي الفقرات التالية تحرير لذلك.
أولا: نقل علماء الدعوة عن بعض الأئمة الإجماع على أن الإيمان قول وعمل:
حكى الإجماع على ذلك جمع من أئمة السنة، ونقله عنهم بعض علماء الدعوة، وما لم ينقلوه بلفظه أشاروا إليه، ومن ذلك:
قول الشافعي رحمه الله: (وكان الإجماع من الصحابة، والتابعين من بعدهم، ومن أدركناهم يقولون: إن الإيمان قول، وعمل، ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر) .
ويقول الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى: (لا يستقيم الإيمان إلا(82/178)
بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة.
وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع، كما يجمع هذه الأديان اسمها، ويصدقه العمل، فمن آمن بلسانه، وعرف بقلبه، وصدق بعمله، فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن قال بلسانه، ولم يعرف بقلبه، ولم يصدق بعمله، لم يقبل منه، وكان في الآخرة من الخاسرين) .
ونقل عبد الرزاق رحمه الله عمن أدركه من شيوخه أنهم يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
ويقول البخاري رحمه الله: (لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم) ، ثم سمى جماعات منهم، ثم قال: (واكتفيت بتسمية هؤلاء كي يكون مختصرا، وألا يطول ذلك، فما رأيت واحدا منهم يختلف في هذه الأشياء: أن الدين قول وعمل؛ لقوله تعالى:(82/179)
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (1) .
والمعنى الذي أراد البخاري إثباته في كتاب الإيمان من صحيحه هو تقرير أن الإيمان قول وعمل، وعليه بوب أبوابه كلها، فقال: باب أمور الإيمان (2) ، وباب الصلاة من الإيمان (3) ، وباب الجهاد من الإيمان (4) ، وسائر أبوابه، وإنما أراد الرد على المرجئة في قولهم: إن الإيمان قول بلا عمل، وتبيين غلطهم، وسوء اعتقادهم، ومخالفتهم للكتاب والسنة، ومذهب الأئمة.
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: (سألت أبي، وأبا زرعة، عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، حجازا، وعراقا، ومصرا، وشاما، ويمنا، فكان في مذاهبهم: أن الإيمان
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) صحيح البخاري (مع الفتح) 1 / 66.
(3) صحيح البخاري (مع الفتح) 1 / 118.
(4) صحيح البخاري (مع الفتح) 1 / 114.(82/180)
قول وعمل، يزيد وينقص) .
ونقل إمام الدعوة عن الشيباني قوله:
وإيماننا قول، وفعل، ونية، يزداد بالتقوى، وينقص بالردى (1) .
وقال الشيخ حسن بن حسين ابن الإمام: (قال ابن القيم رحمه الله: ونحن نحكي إجماعهم، كما حكاه حرب صاحب الإمام أحمد بلفظه، قال في مسائله المشهورة: هذا مذهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة.. فكان من قولهم: إن الإيمان قول وعمل ونية، وتمسك بالكتاب والسنة) .
وقال الحسن البصري: (ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال) .
__________
(1) انظر: الدرر السنية 1 / 97، والرسائل الشخصية 97.(82/181)
ويقول ابن بطال: (مذهب جماعة أهل السنة، ممن سلف من الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص) (1) .
وحكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اتفاق السلف على أن الإيمان قول وعمل، فيدخل في القول: قول القلب واللسان، وفي العمل: عمل القلب والأركان (2) .
ثانيا: حكاية علماء الدعوة الإجماع على أن الإيمان قول وعمل، ونسبة ذلك إلى السلف:
فعلماء الدعوة تارة يحكون الإجماع على ذلك، وتارة ينسبونه إلى أهل السنة.
فممن حكى الإجماع إمام الدعوة في قوله: (فالإيمان بإجماع السلف محله القلب والجوارح جميعا) (3) .
وجاء في التوضيح: (وقد تقدم أيضا إجماع السلف على أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ومعنى ذلك: أنه قول القلب وعمله، ثم قول اللسان وعمل الجوارح) (4) .
__________
(1) التوضيح 123، وهو في: شرح صحيح البخاري، لابن بطال 1 / 56.
(2) انظر: منهاج التأسيس 216، ومصباح الظلام 215، وراجع: الفتاوى 12 / 472.
(3) الفتاوى: ضمن القسم الثالث من مؤلفات الشيخ الإمام 51.
(4) التوضيح 129.(82/182)
وفيه أيضا: (الإيمان قد اشتهر وشاع عن السلف، وأهل الحديث أنه قول وعمل ونية، وأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان) (1) .
وأما نسبة هذا المعتقد إلى السلف، فمنه قول الشيخ عبد الرحمن بن حسن: (فلا يصدق الإيمان الشرعي على الإنسان إلا باجتماع الثلاثة: التصديق بالقلب وعمله، والقول باللسان، والعمل بالأركان، وهذا قول أهل السنة والجماعة، سلفا وخلفا) (2) .
ويقول الشيخ عبد الله أبا بطين: (ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح) (3) .
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: (الإيمان مركب من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب، وهو: اعتقاده، وقول اللسان، وهو: التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب، وهو: قصده، واختياره، ومحبته، ورضاه، وتصديقه، وعمل الجوارح، كالصلاة، والزكاة، والحج، والجهاد، ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة،..، هذا ما عليه أهل الأثر المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
__________
(1) التوضيح 122
(2) فتح المجيد 400.
(3) الدرر السنية 1 / 364، ومجموعة الرسائل 2 / 177.(82/183)
وذكر الشيخ عبد اللطيف أيضا أن السلف على أن الإيمان قول وعمل ونية (1) .
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: (مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح) (2) .
ويقول: (والإيمان عند أهل السنة نطق باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان) (3) .
ويقول: (مذهب السلف: أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان.
ويقولون: الإيمان قول وعمل ونية (4) ، وبعضهم يزيد: واتباع السنة) (5) .
__________
(1) انظر: مصباح الظلام 219.
(2) السيف المسلول 134.
(3) حاشية كتاب التوحيد 258.
(4) انظر: أصول السنة للحميدي 38، والإيمان لأبي عبيد 10، والسنة لابن أبي عاصم 2 / 447، 631.
(5) حاشية الدرة المضية 71، وراجع: الفتاوى 7 / 170.(82/184)
ثالثا: حكاية علماء الدعوة معتقدهم في الإيمان:
يقول إمام الدعوة: (وأعتقد أن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهو بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) .
ويقول هو والإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود: (وحقيقة اعتقادنا أنها - أي: كلمة التوحيد - تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح) (1) .
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: (والإيمان الشرعي: قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
فدخل فيه جميع المأمورات، سواء كان من الواجبات أو المستحبات، ودخل فيه ترك جميع المنهيات، سواء كان ذلك المنهي ينافي أصول الدين بالكلية أو لا، فإن تعريفه المذكور يشمل ذلك، فما من خصلة من خصال الطاعات إلا وهي من الإيمان، ولا ترك محرم من المحرمات إلا وهو
__________
(1) الدرر السنية 1 / 96، والرسائل الشخصية 96.(82/185)
من الإيمان) (1) .
ويقول: (إيماننا معشر السلف: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان) (2) .
رابعا: تقرير التلازم بين أجزاء الإيمان:
ما تقدم هو ما عليه علماء الدعوة في باب الإيمان، ناقلين له عمن قبلهم من أئمة السلف، وحاكين إجماعهم عليه، ومعلنين اعتقادهم له.
وسواء قيل: إن الإيمان قول وعمل، أو: قول وعمل ونية، أو: قول باللسان وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، فكل هذه العبارات تأكيد لحقيقة واحدة، وهي أن الإيمان لا تنفك أجزاؤه، ولا يصح إلا بها مجتمعة.
وهذه الحقيقة قد أكد عليها علماء الدعوة، بدءا من إمامهم رحمه الله؛ إذ يقول: (اعلم رحمك الله أن دين الله يكون على القلب بالاعتقاد وبالحب والبغض، ويكون على اللسان بالنطق، وترك النطق بكلمة الكفر، ويكون على الجوارح بفعل أركان الإسلام، وترك الأفعال التي تكفر، فإذا اختل واحدة من هذه الثلاث كفر وارتد) (3) .
ويقول: (لا خلاف بين الأمة أن التوحيد لا بد فيه أن يكون بالقلب
__________
(1) حاشية ثلاثة الأصول 60، وانظر: حاشية كتاب التوحيد 246، 287.
(2) حاشية الدرة المضية 17.
(3) الدرر السنية 10 / 87، ومجموعة الرسائل 4 / 37.(82/186)
الذي هو العلم، واللسان الذي هو القول، والعمل الذي هو تنفيذ الأوامر والنواهي.
فإن أخل بشيء من هذا لم يكن الرجل مسلما، فإن أقر بالتوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند، كفرعون وإبليس.
وإن عمل بالتوحيد ظاهرا وهو لا يعتقده باطنا، فهو منافق خالص، وهو شر من الكافر) .
ويقول الشيخ حسين بن غنام: (وفي مسند الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «الإسلام علانية، والإيمان في القلب (1) » ؛ وذلك لأن الأعمال تظهر علانية، والتصديق بالقلب لا يظهر، ومن هنا قال محققو العلماء: كل مؤمن مسلم؛ لأن من حقق الإيمان ورسخ في قلبه قام بأعمال الإسلام، وانبعثت الجوارح في ذلك؛ لأن محله القلب، وهو إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، كما نص عليه الحديث.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 19 / 374 رقم 12381، وابن أبي شيبة في الإيمان 18 رقم 6.(82/187)
وليس كل مسلم مؤمنا؛ لأن الإيمان قد يضعف، فلا يتحقق به القلب تحققا تاما فيكون مسلما، وليس بمؤمن الإيمان التام،..، ولا ريب أنه متى ما ضعف الإيمان الباطن لزم منه ضعف أعمال الجوارح الظاهرة، …، وأما اسم الإسلام فلا ينتفي بانتفاء بعض واجباته، وانتهاك بعض المحرمات، وإنما ينتفي بالإتيان بما ينافيه بالكلية، فإنه حينئذ يخرج من الملة) (1) .
وجاء في كتاب التوضيح تحقيق متين حول مسألة التلازم أسوقه ملخصا:
قال: (على أنا نقول: لا يصر على ترك الصلاة إصرارا مستمرا من يصدق بأن الله أمر بها أصلا، فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقا تصديقا جازما بأن الله سبحانه فرض عليه في كل يوم وليلة خمس صلوات، وأنه تعالى يعاقبه على تركها أشد العقاب، وهو مع ذلك مصر على تركها مصدق بفرضها أبدا، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها، فليس في قلبه شيء من الإيمان، ولا يصغى إلى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها، وليتأمل هل في الطبيعة أن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعيد والوعد، والجنة والنار، وأن الله تعالى فرض عليه الصلاة، وأنه معاقبه على تركها، وهو
__________
(1) العقد الثمين 50 - 52، وراجع: جامع العلوم والحكم 1 / 108 - 111.(82/188)
محافظ على الترك في صحته وعافيته، وعدم الموانع المانعة من الفعل؟
وهذا القدر هو الذي خفي على ذي الجهل المركب؛ حيث أثبت الإيمان لمدعيه، مع تركه من الإسلام أعظم الأركان، وجعله الإيمان مجرد التصديق، وإن لم يقارنه فعل واجب ولا ترك [محرم] (1) ، وهذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم، وليس من لازمه ولا يقتضيه القيام بالأركان، ولا فعل طاعته وترك معصيته) (2) .
وقال: (وقد تقدم أيضا إجماع السلف على أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ومعنى ذلك: أنه قول القلب وعمله، ثم قول اللسان وعمل الجوارح.
فأما قول القلب، فهو التصديق الجازم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر، ويدخل في ذلك الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معنى الإيمان برسالته، ثم الناس في هذا على أقسام:
منهم من صدق به جملة، ولم يعرف التفصيل، ومنهم من صدق به جملة وتفصيلا، ثم منهم من يدوم استحضاره فيه بما قذف الله في قلبه من النور والآيات، ومنهم من جزم به لدليل قد تعترضه منه شبهة أو لتقليد جازم.
__________
(1) ليست في المطبوع، ومستدركة من الصلاة وحكم تاركها 40.
(2) التوضيح 113 - 114، وراجع: الصلاة وحكم تاركها 40 - 41.(82/189)
وهذا التصديق يتبعه عمل القلب، وهو حب الله ورسله، وتعظيم الله ورسله، وتعزير الرسول وتوقيره، وخشية الله، والإنابة إليه، والإخلاص له، والتوكل عليه إلى غير ذلك من الأحوال.
فهذه الأعمال القلبية كلها من الإيمان (1) ، وهي مما يوجبها التصديق، والاعتقاد إيجاب العلة المعلول.
ويتبع الاعتقاد قول اللسان، ويتبع عمل القلب عمل الجوارح من الصلاة والزكاة والصوم والحج، ونحو ذلك) (2) .
ولما قال ابن القيم رحمه الله: (وها هنا أصل آخر، وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب: وهو الاعتقاد، وقول اللسان: وهو التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح.
فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق، فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة.
فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع
__________
(1) في المطبوع: الآيات، ولعل المثبت هو الصواب.
(2) التوضيح 129.(82/190)
انتفاء عمل القلب، وهو محبته وانقياده، كما لم ينفع إبليس، وفرعون وقومه، واليهود، والمشركين، الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، بل ويقرون به سرا وجهرا، ويقولون: ليس بكاذب، ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به.
وإذا كان الإيمان يزول بعمل القلب، فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولا سيما إذا كان ملزوما لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم كما تقدم تقريره؛ فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح؛ إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم عدم الطاعة، وهو حقيقة الإيمان؛ فإن الإيمان ليس مجرد التصديق كما تقدم بيانه، وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبينه، بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه والعمل بموجبه، وإن سمي الأول هدى، فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء، كما أن اعتقاد التصديق وإن سمي تصديقا فليس هو التصديق المستلزم للإيمان) (1) .
علق عليه في التوضيح بقوله: (إنه - يعني: ابن القيم - جعل حقيقة
__________
(1) الصلاة وحكم تاركها 50 - 51.(82/191)
الإيمان مركبة من: قول، وقسمه إلى قسمين: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام.
ومن: عمل، وقسمه إلى قسمين أيضا: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه ومحبته وانقياده، وعمل الجوارح.
ورتب زوال الإيمان بكماله على زوال هذه الأربعة، فإن زال بعضها، فإن كان التصديق لم ينفع باقي ما أتى به.
وإن كان غيره، فإن كان عمل القلب فقط، أو مع الجوارح، فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب، وهو محبته وانقياده للأوامر، وإن عملت الجوارح ظاهرا، ومع انتفاء عملها اللازم منه انتفاء عمل القلب) (1) .
وقال: (فما دام محبا منقادا لفعل الأوامر لزم منه فعل المأمورات من صلاة وغيرها، ومتى فقد عمله فقدت المأمورات، وإن وجد قوله، وهو مجرد التصديق بلا انقياد، وإذا حصلت هفوة للقلب بوجود الران عليه، من نحو شدة فرط الشهوة، فحصل شيء من المعاصي المتقدمة الظاهرة في الجوارح، وعمل القلب باق على ما كان عليه أولا، فحكم الإسلام باق، ولكن انتفى عنه كمال الإيمان بظاهر أعماله السيئة، ومتى أطلق عليه اسم الكفر بذلك، فإنه لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما
__________
(1) التوضيح 134، وانظر منه 136.(82/192)
تقدمت دلائله من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وإن زال عنه اسم الإيمان.
وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام والكفر، ولوازمهما) (1) .
وقال: (فإن حقيقته - يعني: الإيمان - مركبة من:
عمل القلب، وهو محبته، وانقياده، وإخلاصه لفعل الأوامر، واتباع الرسل في كل ما جاؤوا به من عند الله.
وعمل الجوارح فيما يوجد من قبلها عند طاعة القلب وانقياده، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (3) {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (4) ، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (5) .
ومن قوله، وهو تصديقه في كل ما جاءت به الرسل، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام والإقرار بما يجب الإيمان به، ففي الصحيحين
__________
(1) التوضيح 137.
(2) سورة الأنفال الآية 2
(3) سورة الأنفال الآية 3
(4) سورة الأنفال الآية 4
(5) سورة الحجرات الآية 15(82/193)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي، أنه قال: «الإيمان بضع وستون شعبة – أو: بضع وسبعون شعبة - أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (1) » .
وقال: (فأهل السنة مجمعون على أنه متى زال عمل القلب فقط، أو هو مع عمل الجوارح زال الإيمان بكليته، وإن وجد مجرد التصديق فلا ينفع مجردا عن عمل القلب والجوارح معا، أو أحدهما، كما لم ينفع إبليس، وفرعون وقومه، واليهود، والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول صلى الله عليه وسلم سرا وجهرا) (2) .
وقال: (فإنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب؛ إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعته الجوارح وانقادت.
ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده للنص عدم التصديق المستلزم للطاعة التي هي حقيقة الإيمان، فأما مجرد التصديق من غير استلزام ولا انقياد، فليس بإيمان البتة) (3) .
وذكر أيضا أن من شرط صحة الإيمان العمل بمقتضى الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر، وتصديق الرسول
__________
(1) التوضيح 138.
(2) التوضيح 139.
(3) التوضيح 140.(82/194)
فيما جاء به وأخبر عنه (1) .
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: (وأكثر الناس يدعي أن الرسول أحب إليه مما ذكر، فلا بد من تصديق ذلك بالعمل والمتابعة له، وإلا فالمدعي كاذب؛ فإن القرآن بين أن المحبة التي في القلب تستلزم العمل الظاهر بحسبها، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (2) ، وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (3) إلى قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) .
فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله رسوله سمعوا وأطاعوا، فتبين أن هذا من لوازم الإيمان والمحبة.
لكن كل مسلم لا بد أن يكون محبا بقدر ما معه من الإسلام، كما أن كل مؤمن لا بد أن يكون مسلما، وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمنا، وإن لم يكن مؤمنا الإيمان المطلق؛ لأن ذلك لا يحصل إلا لخواص المؤمنين، فإن
__________
(1) التوضيح 141 - 142.
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) سورة النور الآية 47
(4) سورة النور الآية 51(82/195)
الاستسلام لله ومحبته لا تتوقف على هذا الإيمان الخاص.
قال شيخ الإسلام: وهذا الفرق يجده الإنسان من نفسه، ويعرفه من غيره، فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام، والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل طاعة الله ورسوله، وهم مسلمون، معهم إيمان مجمل، لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين، ولا إلى الجهاد، ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفارا ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عوفوا من المحنة، وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب، وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع نفاق، انتهى (1)) (2) .
ونقل الشيخ سليمان أيضا قول الحافظ ابن رجب رحمه الله: (الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أمر به ويكره
__________
(1) الفتاوى 7 / 271.
(2) تيسير العزيز الحميد 416 - 417 وانظر منه 627، وفتح المجيد 387، 516، ومصباح الظلام 243 - 244.(82/196)
ما نهى عنه،..، فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله، محبة توجب له الإتيان بما وجب عليه منه، فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب إليه منه كان ذلك فضلا، وأن يكره ما كرهه الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه، فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيها كان ذلك فضلا،..، فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكره ما يكرهه الله ورسوله، ويرضى بما يرضى به الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك، بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله، أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله، مع وجوبه عليه والقدرة عليه، دل ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة.
ويقول الشيخ عبد الله أبا بطين في معرض بحثه في تعريف العبادة: (ومن عرفها بالحب من الخضوع؛ فلأن الحب التام مع الذل التام يتضمن طاعة المحبوب، والانقياد له، فالعبد هو الذي ذلله الحب والخضوع(82/197)
لمحبوبه، فبحسب محبة العبد لربه، وذله له، تكون طاعته) .
ثم قال: (فالمحبة والخضوع ركنان للعبادة، فلا يكون أحدهما عبادة بدون الآخر، فمن خضع لإنسان مع بغضه له لم يكن عابدا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا له) (1) .
ويقول الشيخ سليمان بن سحمان: (فلا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، فإن اختل نوع من هذه الأنواع لم يكن الرجل مسلما) (2) .
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: (إيماننا معشر السلف: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان.
فإن من لم يقر بلسانه مع القدرة فليس بمؤمن، ومن أقر بلسانه ولم يعتقد بقلبه فهو منافق وليس بمؤمن، ومن لم يعمل بالقلب والجوارح فليس بمؤمن) (3) .
ويقول: (ليس الإيمان مجرد القول فقط، بل لا بد من الاعتقاد والعمل إجماعا) ، ثم قال: (ولا ينازع مسلم أنه لا بد أن يكون الإيمان
__________
(1) الدرر السنية 2 / 290 - 291، وانظر: السيف المسلول 55.
(2) الدرر السنية 2 / 350، وانظر منه: 2 / 357 - 358.
(3) حاشية الدرة المضية 71.(82/198)
بالقلب، فإن لم يصدق، ويعمل، ويؤثر ما دلت عليه تلك الأصول (1) ، ويعمل بقلبه العمل الخالص، كالمحبة، والإنابة، والرضا، والتوكل، والخشية، والرغبة، والرهبة، فهو منافق، من أهل الدرك الأسفل من النار.
وكذلك العمل بالجوارح لا بد منه، فلا يكون مؤمنا إلا إذا ترك عبادة الطواغيت، وعمل بمقتضى تلك الأصول.
فإذا زال أحد هذه الثلاثة: القول، والاعتقاد، والعمل، زال الإيمان، كما دل على ذلك حديث جبرائيل عليه السلام وغيره) (2) .
ثم ذكر أن الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر بصدق ويقين يقتضي إفراد الله بالعبادة، وامتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واتباعه، وتعظيمه، ولزوم سنته (3) .
وذكر رحمه الله أن الله تعالى لم يأمرنا بإيمان مطلق، بل بإيمان خاص، قائم بالقلب، مستلزم لما وجب من الأعمال القلبية، وأعمال الجوارح (4) .
__________
(1) يعني: أصول الإيمان التي جاءت في حديث جبريل عليه السلام
(2) السيف المسلول 108 - 109، وانظر منه 135.
(3) انظر: السيف المسلول 110.
(4) انظر: السيف المسلول 134.(82/199)
وقال: (إذا ثبت الإيمان في القلب لم يتخلف عنه مقتضاه؛ ولهذا ينفي الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه؛ فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم.
خامسا: سياق الأدلة على أن الإيمان قول وعمل:
ذكر علماء الدعوة جملة وافرة من نصوص الكتاب والسنة الدالة على أن الإيمان قول وعمل.
فمن القرآن الكريم: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (1) ، والمعنى: أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة (2) .
وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (3)
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) انظر فتح المجيد 468 – 469، وراجع جامع البيان 2 / 23-24، وتفسير القرآن العظيم 1 / 205.
(3) سورة البقرة الآية 177(82/200)
والمعنى: أي: فيما عملوا به في هذه الآية من الأعمال الظاهرة والباطنة (1) .
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (3) {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (4) ، فأخبر سبحانه وتعالى أن المؤمن من كانت هذه صفته. .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (5) ، فقد دلت هذه الآية على أنه لا بد في الإيمان من العمل، من القلب والجوارح. (6) .
وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (7) ، ففي
__________
(1) انظر: فتح المجيد 468 - 469، وراجع: تفسير القرآن العظيم 1 / 221 - 222.
(2) سورة الأنفال الآية 2
(3) سورة الأنفال الآية 3
(4) سورة الأنفال الآية 4
(5) سورة النحل الآية 36
(6) انظر: فتح المجيد 45، وراجع: تفسير القرآن العظيم 2 / 626.
(7) سورة النحل الآية 97(82/201)
الآية إلزام العمل الإيمان، وبالعكس (1) .
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (2) ، فانتفاء الشك والريب من الأعمال الباطنة، والجهاد من الأعمال الظاهرة، فدل على أن الكل من الإيمان (3) .
وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (4) {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (5) ، ففيها أن الأعمال من الإيمان (6) .
وقال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (7) ، ففي هذه الآية أن الأعمال من الإيمان. (8) .
وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (9)
__________
(1) انظر: الدرر السنية 13 / 305، وراجع: تفسير القرآن العظيم 2 / 645.
(2) سورة الحجرات الآية 15
(3) انظر: مجموعة الرسائل 2 / 1 / 3.
(4) سورة الحجرات الآية 7
(5) سورة الحجرات الآية 8
(6) انظر: الدرر السنية 13 / 401، وراجع: تفسير القرآن العظيم 4 / 221.
(7) سورة التغابن الآية 11
(8) انظر: تيسير العزيز الحميد 454، وفتح المجيد 423.
(9) سورة البينة الآية 5(82/202)
دلت هذه الآية على أن الإيمان بالله ورسوله لا بد فيه من الانقياد، والاعتقاد والعمل، باطنا وظاهرا. (1) .
وأما الأحاديث الدالة على أن الإيمان قول وعمل، فمما أورده علماء الدعوة منها:.
قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وستون شعبة – أو: بضع وسبعون شعبة - أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (2) » .
قال الخطابي: (في هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء، له أعلى وأدنى، فالاسم يتعلق ببعضها، كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبه، وتستوفي جملة أجزائه، كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء، والاسم يتعلق ببعضها، كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «الحياء شعبة من الإيمان (3) » .
__________
(1) مصباح الظلام 219 - 220، وراجع: تفسير القرآن العظيم 4 / 571.
(2) البخاري الإيمان (9) ، مسلم الإيمان (35) ، الترمذي الإيمان (2614) ، النسائي الإيمان وشرائعه (5005) ، أبو داود السنة (4676) ، ابن ماجه المقدمة (57) ، أحمد (2/414) .
(3) التوضيح 122، نقلا عن: معالم السنن بهامش سنن أبي داود 5 / 56.(82/203)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: «آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس (1) » ، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله (2) » ، وعن طارق بن أشيم مرفوعا: «من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله، ودمه، وحسابه على الله (3) » وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أنه لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول المبعث قال للنبي صلى الله عليه وسلم: بأي شيء أرسلك؟ قال: «أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله، ولا يشرك به شيئا (4) » ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: «إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان 1 / 157 رقم 53، ومسلم 1 / 160 رقم 17.
(2) رواه البخاري: كتاب الإيمان، باب {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} 1 / 95 رقم 25، ومسلم 1 / 292 رقم 21.
(3) رواه مسلم 1 / 293 رقم 23.
(4) أخرجه مسلم 6 / 165 - 166 رقم 832.(82/204)
حريص، ولا يرده كراهية كاره (1) » .
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين (2) » ، ففي الحديث أن الأعمال من الإيمان؛ لأن المحبة عمل القلب (3) .
وفي حديث سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعا: «ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه (4) » .
قال الشيخ عبد الرحمن معلقا: (مما أمر به وشرعه من حقوق لا إله إلا الله، وهذا يدل على أن الأعمال من الإيمان) (5) .
والقصد مما تقدم مجرد الإشارة إلى بعض ما جاء في الباب من أدلة
__________
(1) رواه أبو نعيم في الحلية 5 / 106، 10 / 41، والبيهقي في الجامع لشعب الإيمان 1 / 525 - 526 رقم 203. قال الشيخ المحدث سليمان بن عبد الله: (إسناده ضعيف، ومعناه صحيح) . تيسير العزيز الحميد 432، وتابعه الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد 400، وراجع تخريجه موسعا في: تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد 79 - 82.
(2) رواه البخاري: كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان 1 / 75 رقم 15. ومسلم 2 / 21 رقم 44.
(3) انظر: تيسير العزيز الحميد 418، وفتح المجيد 387، وحاشية كتاب التوحيد 238.
(4) رواه البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب 7 / 87 رقم 3701، ومسلم 15 / 254 رقم 2406.
(5) قرة عيون الموحدين 53، وانظر منه 54، وفتح المجيد 121.(82/205)
وأما استيعاب ذلك فإنه مما لا يحصى إلا بكلفة (1) ، والأدلة في ذلك أكثر من أن تحصر، (2) وتتبعها يحتمل مجلدات (3) ؛ ولذا فقد اقتصرت على بعض ما أوردوه رحمهم الله مما يحقق المقصود بإذن الله.
وقد نبه علماء الدعوة رحمهم الله على أن ما جاء في بعض النصوص من تخصيص بعض أنواع العبادة بالذكر دون غيرها، فمرد ذلك لكون ما ذكر هو رأس العبادة والإيمان، وهو متضمن لما لم يذكر، مستلزم له، فلهذا حسن الحصر. .
__________
(1) قاله إمام الدعوة رحمه الله، انظر: الدرر السنية 13 / 225.
(2) قاله الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله. انظر: فتح المجيد 468، ومجموعة الرسائل 4 / 12.
(3) قاله الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله. انظر: مصباح الظلام 219 - 220.(82/206)
الفصل الثاني: الإسلام وصلته بالإيمان:
الإسلام من الأمور المدركة المحسوسة في الظاهر، وهو مشتق من التسليم، يقال: استسلم فلان لكذا، أي: أسلم له وانقاد، وذل وخضع، أو مشتق من المسالمة، وهي ترك المنازعة (1) .
__________
(1) انظر: حاشية ثلاثة الأصول 46، 60.(82/206)
وحقيقة لفظة السلام هي السلامة، والبراءة، والخلاص، والنجاة من الشرور والعيوب، وعلى هذا المعنى تدور تصاريفها.
فمن ذلك قولك: السلام عليكم، وسلمك الله، ومنه دعاء المؤمنين على الصراط: رب سلم سلم، فهو دعاء للمسلم عليه، وطلب له أن يسلم من الآفات والمهالك ومن الشر كله.
ومنه سلم الشيء لفلان، أي: خلص له وحده، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} (1) ، أي: خالصا له وحده، لا يملكه معه غيره.
ومنه القلب السليم، وهو النقي من الدغل والعيب، وحقيقته الذي قد سلم لله وحده، فخلص من دغل الشرك وغله، ودغل الذنوب والمخالفات، بل هو المستقيم على صدق حبه، وحسن معاملته، وهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذابه والفوز بكرامته.
وهكذا الإسلام؛ فإنه من هذه المادة؛ لأنه الاستسلام والانقياد لله، والتخلص من شوائب الشرك، فسلم لربه وخلص له، كالعبد الذي سلم لمولاه، ليس فيه شركاء متشاكسون، ولهذا ضرب سبحانه هذين المثلين للمسلم الخالص لربه، وللمشرك به. .
__________
(1) سورة الزمر الآية 29(82/207)
يقول إمام الدعوة: (ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والانقياد، ويتضمن الإخلاص، فمن استسلم له ولغيره فهو مشرك، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر) . .
فمعنى الإسلام هو الاستسلام لله تعالى، المتضمن غاية الانقياد، في غاية الذل والخضوع، فهو عبادة الله وحده لا شريك له، بفعل المأمور، وترك المحظور، والإخلاص في ذلك. .
وقد وقع الخلاف بين أهل السنة والجماعة في الصلة بين الإسلام والإيمان على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الإسلام والإيمان شيء واحد، بمعنى الدين، وهو عبارة عن الاعتقاد والقول والعمل (1) .
واحتج هؤلاء بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (2) ، فقالوا: لو كان الإيمان غير الإسلام لما كان مقبولا عند الله
__________
(1) انظر: مجموعة الرسائل 2 / 51، 5 / 665 - 666، والدرر السنية 1 / 205 - 206، ومجموعة الرسائل 5 / 572.
(2) سورة آل عمران الآية 85(82/208)
ولكن الإيمان بالإجماع مقبول عند الله، فلا شك أنه عين الإسلام، كما هو ظاهر (1) .
وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2) ، قالوا: الله تعالى ذكر في هذه الآية مجموع هذه الثلاثة، وقال: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (3) ، أي: وذلك المذكور دين القيمة؛ لأن الدين هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (4) (5) .
وكذلك احتجوا (6) بقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (7) {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (8) .
ولكن القول بترادف معنى الإسلام والإيمان غير مرضي عند المحققين، وما استدل به القائلون بالترادف لا يسلم لهم.
فإن استدلالهم بآية البينة مبني على تفسيرهم للإسلام فيها بالدين، وأن الدين عند الله الإسلام، والله تعالى إنما قال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} (9)
__________
(1) انظر: مجموعة الرسائل 5 / 665 - 666.
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة آل عمران الآية 19
(5) انظر مجموعة الرسائل 5 / 65 / 660.
(6) انظر: الدرر السنية 1 / 205 - 206، ومجموعة الرسائل 5 / 572، 666.
(7) سورة الذاريات الآية 35
(8) سورة الذاريات الآية 36
(9) سورة آل عمران الآية 85(82/209)
ولم يقل: ومن يبتغ غير الإسلام علما ومعرفة وتصديقا وإيمانا؛ فإن الإسلام من جنس الدين والعمل والطاعة والانقياد والخضوع، فمن ابتغى غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، والإيمان طمأنينة ويقين، أصله علم وتصديق ومعرفة، والدين تابع له، يقال: آمنت بالله، وأسلمت لله. (1) .
والآية إنما تدل على وجوب الإسلام، وأنه دين الله، وأنه ليس له دين غيره، لكن ليس في هذا ما يدل على أنه هو الإيمان. (2) .
وأما قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (3) {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (4) ، فإنه لا حجة فيه على الترادف بين الإسلام والإيمان (5) ؛ فإن (الله تعالى أخبر أنه أخرج من كان فيها مؤمنا، وأنه لم يجد إلا أهل بيت من المسلمين، وذلك أن امرأته في أهل البيت الموجودين، ولم تكن من المخرجين الذين نجوا، وكانت في الظاهر مع زوجها على
__________
(1) انظر: الفتاوى 7 / 378، وسيأتي عند عرض القول الثالث تحقيق الفرق بينهما بإذن الله تعالى.
(2) انظر: الفتاوى 7 / 368.
(3) سورة الذاريات الآية 35
(4) سورة الذاريات الآية 36
(5) انظر: شرح الطحاوية 2 / 493.(82/210)
دينه، وفي الباطن مع قومها على دينهم، خائنة لزوجها تدل قومها على أضيافه، كما قال تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} (1) ، وخيانتهما في الدين لا في الفراش؛ فإنه ما بغت امرأة نبي قط،..، وبهذا تظهر حكمة القرآن حيث ذكر الإيمان لما أخبر (2) بالإخراج، وذكر الإسلام لما أخبر في الوجود) (3) .
القول الثاني: أن الإسلام هو الكلمة، والإيمان هو العمل:
وهذا قول الزهري، والإمام أحمد في بعض أجوبته. (4) .
وحجتهم حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئا فقلت: يا رسول الله، أعطيت فلانا وفلانا، ولم تعط فلانا وهو مؤمن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - أو مسلم - أعادها ثلاثا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: - أو مسلم -. ثم قال: إني لأعطى رجالا، وأمنع آخرين هم أحب إلي منهم؛ مخافة أن يكبوا على وجوههم في النار (5) » .
__________
(1) سورة التحريم الآية 10
(2) في المطبوع: أمرنا، والمثبت من الأصل.
(3) مختصر الإيمان الأوسط 119، وهو في الإيمان الأوسط ضمن الفتاوى 7 / 472.
(4) انظر: الدرر السنية 1 / 205 - 206، 10 / 498، ومجموعة الرسائل 5 / 572، والتوضيح 125 - 126.
(5) رواه البخاري: كتاب الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل 1 / 99 - 100 رقم 27، ومسلم 2 / 37 رقم 150.(82/211)
قال الزهري: فكانوا يرون الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل، وجاء عن الإمام أحمد أنه استحسن كلام الزهري هذا.
والقول بأن الإسلام هو الكلمة قد يراد به: الكلمة بتوابعها من الأعمال الظاهرة، وهذا هو الإسلام الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت (1) » .
وقد يراد به: الكلمة فقط، من غير فعل الواجبات الظاهرة، وليس هو الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام.
القول الثالث: أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان هو
__________
(1) رواه البخاري كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان 1 / 140 رقم 50، ومسلم 1 / 222 رقم 8، 9.(82/212)
الأعمال الباطنة.
وهذا هو الذي ارتضاه طائفة من المحققين، منهم علماء الدعوة، وفي تقرير ذلك يقول الإمام البغوي في حديث سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام وجوابه، قال رحمه الله: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد.
وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو أن التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «ذاك جبريل آتاكم يعلمكم أمر دينكم (1) » ، والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعا، يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2) ، وقوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (4) ، فأخبر سبحانه وتعالى أن الدين الذي رضيه، ويقبله من عباده، هو الإسلام، ولا يكون الدين في محل الرضا والقبول إلا
__________
(1) رواه البخاري كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان 1 / 140 رقم 50، ومسلم 1 / 225 رقم 8.
(2) سورة آل عمران الآية 19
(3) سورة المائدة الآية 3
(4) سورة آل عمران الآية 85(82/213)
بانضمام التصديق إلى العمل) (1) .
ويقول الحافظ ابن رجب: (إن من الأسماء ما يكون شاملا لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالا على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دالا على باقيها، كاسم الفقير والمسكين، إذا أفرد أحدهما دخل فيه كل من هو محتاج، فإذا قرن أحدهما بالآخر دل أحد الاسمين على بعض ذوي الحاجات، والآخر على باقيها، فهكذا اسم الإسلام والإيمان إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، فإذا قرن بينهما دل أحدهما على بعض ما يدل عليه الآخر بانفراده، ودل الآخر على الباقي؛ ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عند ذكره مفردا كما في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام المقرون بالإيمان في حديث جبريل، وفسر في حديث آخر الإسلام بما فسر به الإيمان، كما في مسند الإمام أحمد، عن عمرو بن عبسة قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك. قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان. قال: وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت. قال: فأي الإيمان
__________
(1) شرح السنة 1 / 10 - 11، ونقله عنه في التوضيح 123.(82/214)
أفضل؟ قال: الهجرة. قال: فما الهجرة؟ قال: أن تهجر السوء. قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد (1) » فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان أفضل الإسلام، وأدخل فيه الأعمال.
وحاصل القول أنه إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق، وهو أن يقال: إن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته، والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده، وذلك يكون بالعمل وهو الدين، كما سمى الله تعالى في كتابه الإسلام دينا، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان والإحسان دينا، وهذا أيضا مما يدل على أن أحد الاسمين إذا أفرد دخل فيه الآخر، وإنما يفرق بينهما حيث قرن أحد الاسمين بالآخر، فيكون حينئذ المراد بالإيمان جنس تصديق القلب، وبالإسلام جنس العمل، وفي مسند الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإسلام علانية، والإيمان في القلب (2) » ، وذلك لأن الأعمال تظهر علانية، والتصديق بالقلب لا يظهر، ومن هنا قال محققو العلماء: كل مؤمن مسلم؛ لأن من حقق الإيمان ورسخ في قلبه قام بأعمال الإسلام، وانبعثت الجوارح في ذلك؛ لأن محله القلب، وهو إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد
__________
(1) المسند 28 / 251 رقم 17027، وقال المحقق: حديث صحيح.
(2) أحمد (3/135) .(82/215)
كله، كما نص عليه الحديث، وليس كل مسلم مؤمنا؛ لأن الإيمان قد يضعف، فلا يتحقق به القلب تحققا تاما فيكون مسلما، وليس بمؤمن الإيمان التام) . .
وفي تقرير هذا الجواب يقول إمام الدعوة رحمه الله: "وأما الإسلام والإيمان هل هما نوع واحد؟
فذكر العلماء أن الإسلام إذا ذكر وحده دخل فيه الإيمان، كقوله: {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} (1) ، وكذلك الإيمان إذا أفرد، كقوله في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (2) ، فيدخل فيه الإسلام، وإذا ذكرا معا (3) كقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (4) ، فالإسلام: الأعمال الظاهرة، والإيمان: الأعمال الباطنة، كما في الحديث:
«الإسلام علانية، والإيمان في القلب (5) » .
وقوله سبحانه في الحديث: «أخرجوا من النار من في قلبه مثقال ذرة (6) » .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 20
(2) سورة الحديد الآية 21
(3) في المطبوع: (وإذا ذكر ذكرا معا) .
(4) سورة الأحزاب الآية 35
(5) أحمد (3/135) .
(6) رواه الترمذي في الجامع: كتاب صفة جهنم، باب آخر أهل النار خروجا وآخر أهل الجنة دخولا: 7 / 263، رقم 2601، ونحوه عند مسلم 3 / 73 رقم 193.(82/216)
إلى آخره، يوافق ما ذكرناه؛ فإن الإيمان أعلى من الإسلام، فيخرج الإنسان من الإيمان إلى الإسلام الذي ينفعه، وإن كان ناقصا، كما في آية الحجرات، وفيها: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} (1) .
وحقيقة الأمر أن الإيمان يستلزم الإسلام قطعا، وأما الإسلام فقد يستلزمه، وقد لا يستلزمه) .
ويقول الشيخ عبد الله ابن الإمام: (فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بالأعمال الظاهرة، وهي أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة، وهي أعمال القلب، فقال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره (2) » ،..، وفسر الإحسان بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (3) » ، ففسره بأن تعبد الله كأنك تشاهده، فإن لم تكن تشاهده فهو يراك، لا يخفى عليه منك شيء، حتى ما توسوس به نفسك.
والإحسان أعلى المراتب العالية، وبعده في المرتبة والفضيلة الإيمان
__________
(1) سورة الحجرات الآية 14
(2) مسلم الإيمان (8) ، الترمذي الإيمان (2610) ، النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، أبو داود السنة (4695) ، ابن ماجه المقدمة (63) ، أحمد (1/28) .
(3) البخاري الإيمان (50) ، مسلم الإيمان (9) ، النسائي الإيمان وشرائعه (4991) ، ابن ماجه المقدمة (64) ، أحمد (2/426) .(82/217)
بالله، وبعده في المرتبة والفضيلة الإسلام، وكل واحد منهما يتضمن الآخر مع الإطلاق، وإذا قرن بينهما في آية أو حديث، فسره أهل العلم بما ذكرنا) (1) .
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله في معرض كلامه عن حديث جبريل: (لما سئل عن الإسلام ذكر أركان الإسلام الخمسة؛ لأنها أصل الإسلام، ولما سئل عن الإيمان أجاب بقوله: "أن تؤمن بالله"، إلى آخره، فيكون المراد حينئذ بالإيمان جنس تصديق القلب، وبالإسلام جنس العمل.
والقرآن والسنة مملوءان بإطلاق الإيمان على الأعمال، كما هما مملوءان بإطلاق الإسلام على الإيمان الباطن، مع ظهور دلالتهما أيضا على الفرق بينهما، ولكن حيث أفرد أحد الاسمين دخل فيه الآخر، وإنما يفرق بينهما حيث فرق بين الاسمين) (2) .
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى: الكلام في الإسلام والإيمان في مقامات:
الأول: فيما دل عليه حديث عمر رضي الله عنه في سؤال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أخبرني عن الإسلام. فقال: الإسلام أن تشهد
__________
(1) الدرر السنية 1 / 256.
(2) تيسير العزيز الحميد 623، وانظر: حاشية ثلاثة الأصول 70.(82/218)
أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (1) » ، الحديث، قال: «أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. (2) » فأخبر أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان يفسر بالأعمال الباطنة (3) . وبذلك يفسر كل منهما عند الاقتران.
فإذا أفرد الإيمان، كما في كثير من الآيات والأحاديث، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} (4) ، الآية، فتناولت الآية جميع الأعمال الباطنة والظاهرة؛ لدخولها في مسمى الإيمان.
وأما الأركان الخمسة فهي جزء من مسمى الإيمان، ولا يحصل الإيمان على الحقيقة إلا بالعمل بهذه الأركان، والإيمان بالأصول الستة المذكورة في الحديث.
وأصول الإيمان المذكورة تتضمن الأعمال الباطنة والظاهرة، فإن الإيمان بالله يقتضي محبته، وخشيته، وتعظيمه، وطاعته بامتثال أمره وترك نهيه.
وكذلك الإيمان بالكتب يقتضي العمل بما فيها من الأمر والنهي، فدخل هذا كله في الأصول الستة.
__________
(1) مسلم الإيمان (8) ، الترمذي الإيمان (2610) ، النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، أبو داود السنة (4695) ، ابن ماجه المقدمة (63) ، أحمد (1/52) .
(2) مسلم الإيمان (8) ، الترمذي الإيمان (2610) ، النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، أبو داود السنة (4695) ، ابن ماجه المقدمة (63) ، أحمد (1/53) .
(3) انظر أيضا: الدرر السنية 1 / 356
(4) سورة النساء الآية 136(82/219)
ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (1) {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (2) {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (3) .
فدلت هذه الآيات على أن الأعمال الظاهرة والباطنة داخلة في مسمى الإيمان، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (4) ، فانتفاء الشك والريب من الأعمال الباطنة، والجهاد من الأعمال الظاهرة، فدل على أن الكل من الإيمان.
ومما يدل على أن الأعمال من الإيمان قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (5) ، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة إلى الكعبة.
ونظائر هذه الآية في الكتاب والسنة كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث وفد عبد القيس: «آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا
__________
(1) سورة الأنفال الآية 2
(2) سورة الأنفال الآية 3
(3) سورة الأنفال الآية 4
(4) سورة الحجرات الآية 15
(5) سورة البقرة الآية 143(82/220)
الزكاة، وتؤدوا خمس ما غنمتم (1) » ، ففسر الإيمان بالأعمال الظاهرة؛ لأنها جزء مسماه، كما تقدم) .
والحاصل أن دلالة الألفاظ والأسماء تختلف في حال اقترانها وانفرادها، (2) ، فالإسلام إذا أفرد دخل فيه الإيمان، كما أن الإيمان يدخل في الإسلام، وأما عند الاقتران فيفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: (وكل خصلة من خصال الإسلام داخلة في الإيمان، فما كان من الأعمال الباطنة، فوصف الإيمان عليه أغلب من وصف الإسلام، وما كان من الأعمال الدينية الظاهرة،..، التي تظهر ويطلع عليها الناس، فوصف الإسلام عليها أغلب من وصف الإيمان، فدائرة الإسلام أوسع من دائرة الإيمان، كما أن دائرة الإيمان أوسع من دائرة الإحسان) (3) .
__________
(1) البخاري مواقيت الصلاة (500) ، مسلم الإيمان (17) ، الترمذي الإيمان (2611) ، النسائي الإيمان وشرائعه (5031) ، أبو داود الأشربة (3692) ، أحمد (1/361) .
(2) انظر مصباح الظلام 267، 276.
(3) حاشية ثلاثة الأصول 48 باختصار.(82/221)
فالمؤمن مسلم، وأما المسلم فلا بد أن يكون مؤمنا، وإن لم يكن مؤمنا الإيمان المطلق، بل معه بعض الإيمان، وذلك أن الدين ثلاث درجات ومراتب: أولها الإسلام، وأوسطها الإيمان، وأعلاها الإحسان، ومن وصل إلى العليا فقد وصل إلى التي قبلها، فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنا، وليس كل مسلم مؤمنا.
والإحسان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه من الإيمان، والإيمان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين. .
فهذه ثلاث مراتب تندرج فيها أصناف الأمة (1) :
المرتبة الأولى: مرتبة الإسلام، وهي المرتبة الأولى التي يدخل فيها
__________
(1) وعلى هذا بنى إمام الدعوة رسالته الشهيرة ثلاثة الأصول، فعرف دين الإسلام بما يشمل مراتبه الثلاث.(82/222)
الكافر أول ما يتكلم بالإسلام، ويذعن وينقاد له (1) .
فباب هذه المرتبة، ومفتاحها قول العبد: لا إله إلا الله، فهي كلمة الإخلاص، وكلمة التقوى، وكلمة الإسلام، والعروة الوثقى، وشهادة التوحيد، ومفتاح الجنة، فهي أساس الملة، وأصل الدين، وأصل الإيمان، وأصل الإسلام وقاعدته، وهي أفضل شعب الإيمان، وهي الفارقة بين المؤمن والكافر، والمسلم والمشرك.
فمن تكلم بهذه الكلمة ولم يتبين منه ما يخالفها، فهو ممن يكف عنه بمجرد القول، ويحكم بإسلامه في الظاهر.
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله: (قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ فبذلك يصير الكافر مسلما، والعدو وليا، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال، ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان، وإن قاله بلسانه
__________
(1) انظر: الدرر السنية 1 / 201، ومجموعة الرسائل 5 / 569.(82/223)
دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان) .
فعلم أن ثبوت الإيمان لا يكفي فيه مجرد الكلمة؛ فإن المنافق يقولها، وهو في الدرك الأسفل من النار، فلا بد من وصف آخر مع هذا الأصل يصح به الإسلام، ويسلم أهله من النفاق.
فأهل هذه المرتبة معهم مطلق الإيمان، وهو وصف المسلم الذي معه أصل الإيمان الذي لا يتم إلا به، ولا يصح إلا به، فهذا في أدنى مراتب الدين إذا كان مصرا على ذنب، أو تاركا لما وجب عليه مع القدرة عليه، وهذا الصنف قد أتى بالأركان الخمسة، وعمل بها باطنا وظاهرا، لكنه مفرط في بعض الواجبات، أو فاعل لبعض المحرمات (1) .
__________
(1) انظر: مجموعة الرسائل 2 / 2 / 50، 51.(82/224)
ومن المعلوم أنه ليست من قامت به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنا الإيمان المطلق حتى يقوم به أصل الإيمان. .
والحاصل أن صاحب هذه المرتبة هو الظالم لنفسه، وهو المسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان، (1) ، بل خلط عملا صالحا وآخر سيئا، فهو تحت مشيئة الله، إن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنبه. (2) .
المرتبة الثانية: مرتبة الإيمان، وأهل هذه المرتبة هم أصحاب الإيمان المطلق، الذين كمل إسلامهم وإيمانهم؛ بإتيانهم بما وجب عليهم، وتركهم ما حرمه الله عليهم، وعدم إصرارهم على الذنوب (3) ، فهم قد أتوا بالإيمان الكامل، واجتمعت لهم الأعمال الظاهرة والباطنة، ففعلوا الواجبات، وتركوا المحرمات، وهم السعداء أهل الجنة (4) .
والإيمان إذا أطلق في القرآن، فالمراد به هذا الإيمان المطلق، الذي أهله
__________
(1) انظر: الدرر السنية 1 / 205 - 206، ومجموعة الرسائل 5 / 572.
(2) انظر: قرة عيون الموحدين 23.
(3) انظر: رسالة للشيخ عبد الرحمن بن حسن، ضمن: مجموعة الرسائل 2 / 1 / 4.
(4) انظر: رسالة للشيخ عبد الرحمن بن حسن، ضمن: مجموعة الرسائل 2 / 1 / 4 - 5، 2 / 2 / 50.(82/225)
هم المؤمنون حقا (1) .
وصاحب هذه المرتبة هو المقتصد، وهو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب، وترك المحرم (2) ، وهذه هي حال الأبرار (3) .
المرتبة الثالثة: مرتبة الإحسان، والإحسان مشتق من الحسن، وهو نهاية الإخلاص، الناشئ عن حقيقة الاستحضار، بكمال المتابعة. (4) .
وهذه المرتبة هي أعلى المراتب، وصاحبها هو السابق بالخيرات، وهو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه، وهو الذي حصل له كمال الإيمان، باستفراغه وسعه في طاعة الله علما وعملا (5) ، فكمل عنده العمل في الظاهر والباطن (6) .
__________
(1) انظر: فتح المجيد 553 نقلا عن شيخ الإسلام، وهو في الفتاوى 7 / 281.
(2) انظر: الدرر السنية 1 / 206، ومجموعة الرسائل 5 / 572، وقرة عيون الموحدين 23.
(3) انظر قرة عيون الموحدين 23.
(4) انظر: حاشية ثلاثة الأصول 65.
(5) انظر: قرة عيون الموحدين 23.
(6) انظر: حاشية ثلاثة الأصول 65.(82/226)
الفصل الثالث: زيادة الإيمان ونقصانه:
يقول إمام الدعوة في بيان معتقده في الإيمان: (وأعتقد أن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهو بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) . (1) .
ويقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف: (ونعتقد أن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، كما في الحديث الصحيح: «الإيمان بضع وستون شعبة – أو بضع وسبعون شعبة - أعلاها قول لا إله الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (2) » .
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: (والإيمان الشرعي: قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية) . (3) .
ويقول: (مذهب السلف أن الإيمان تزيده التقوى، أي: العمل الصالح، وينقص بارتكاب الزلل، أي: المعاصي، فيعبر السلف من
__________
(1) الدرر السنية: 1 / 33، والرسائل الشخصية 11.
(2) الدرر السنية 1 / 575 - 576.
(3) حاشية ثلاثة الأصول 60.(82/227)
الصحابة وغيرهم: يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ويتفاضل) (1) .
وهذا الاعتقاد الذي يقرره علماء الدعوة في زيادة الإيمان ونقصانه هو مما أجمع عليه أهل السنة (2) ، وفي ذلك يقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: (والإيمان عند أهل السنة نطق باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد وينقص) . (3) .
وقد دلت على هذا الأصل نصوص الكتاب والسنة، والأمر كما قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن إن (الأدلة على ما عليه سلف الأمة وأئمتها أن الإيمان قول وعمل ونية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية من كتاب الله وسنة رسوله أكثر من أن تحصر) (4) .
فمن الآيات الدالة على هذا الأصل.
قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (5)
__________
(1) حاشية الدرة المضية 71.
(2) انظر حاشية كتاب التوحيد 252.
(3) حاشية كتاب التوحيد 258.
(4) فتح المجيد 468، وانظر تيسير العزيز الحميد 440، وفتح المجيد 409 – 410، وإبطال التنديد 161.
(5) سورة الأنفال الآية 2(82/228)
وقوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (1) ، وقوله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (2) ، وقوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (3) ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (4) ، وقوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} (5) ، وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (6) ، وقوله تعالى: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} (7) ، وقوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (8) .
ومن الأحاديث في هذا الباب:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة
__________
(1) سورة الفتح الآية 4
(2) سورة الكهف الآية 13
(3) سورة مريم الآية 76
(4) سورة محمد الآية 17
(5) سورة المدثر الآية 31
(6) سورة التوبة الآية 124
(7) سورة آل عمران الآية 173
(8) سورة الأحزاب الآية 22(82/229)
أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (1) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (2) » ، وعن أبي سعيد الخدري مرفوعا: «إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره» .
وأما ما جاء عن السلف في ذلك، فمنه:
قول عمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنه: إن الإيمان يزيد وينقص، فقيل له: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه وقال مجاهد رحمه الله: الإيمان يزيد وينقص، وهو قول وعمل، وذكر عبد الرزاق
__________
(1) البخاري الإيمان (9) ، مسلم الإيمان (35) ، الترمذي الإيمان (2614) ، النسائي الإيمان وشرائعه (5005) ، أبو داود السنة (4676) ، ابن ماجه المقدمة (57) ، أحمد (2/414) .
(2) رواه مسلم 2 / 27 رقم 49.(82/230)
رحمه الله عمن أدركه من شيوخه أنهم يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص (1) .
ويقول أبو عبيد رحمه الله: (هذه تسمية من كان يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص) ، ثم ذكر طائفة كبيرة من العلماء، وأعقب ذلك بقوله: (هؤلاء جميعا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهو قول أهل السنة المعمول به عندنا) .
ونقل الشيخ حسن بن حسين ابن الإمام رحمه الله عن ابن القيم رحمه الله قوله: (ونحن نحكي إجماعهم كما حكاه حرب صاحب الإمام أحمد بلفظه: قال في مسائله المشهورة: هذا مذهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة.. فكان من قولهم: إن الإيمان قول وعمل ونية، وتمسك بالكتاب والسنة، والإيمان يزيد وينقص) (2) .
والزيادة في الإيمان واقعة على ما في القلب وعلى ما في الجوارح، بل إن الأمر كما يقول إمام الدعوة: (وأما كون الذي في القلب والذي في الجوارح يزيد وينقص، فذاك شيء معلوم، والسلف يخافون على الإنسان
__________
(1) انظر: التوضيح 123 - 124.
(2) الدرر السنية 1 / 345 - 346.(82/231)
إذا كان ضعيف الإيمان النفاق، أو سلب الإيمان كله) (1) .
فالتفاضل واقع في الباطن والظاهر، وإن كان الباطن هو الأصل، وبه يتأثر الظاهر (2) ، والأعمال تتضاعف وإن تساوت في الظاهر بما يجل عن الوصف (3) ، وانظر إلى أهل الشجرة رضوان الله عليهم لم يبلغوا هذه المنزلة ورضا الله عنهم إلا بما علم الله في قلوبهم، فدل على عظمة أعمال القلوب عند الله تعالى.
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العمل واحدة، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض.
قال: تأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات، فلا يعذب، ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة، وكثير
__________
(1) الفتاوى، ضمن القسم الثالث من مؤلفات الشيخ الإمام 51.
(2) انظر: الدرر السنية 13 / 412 - 413، وتيسير العزيز الحميد 118.
(3) انظر: الدرر السنية 13 / 435، 440.(82/232)
منهم يدخل النار بذنوبه) .
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله: (معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: هو إفراد الله بأصل الحب الذي يستلزم إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وعلى قدر التفاضل في هذا الأصل، وما ينبني عليه من الأعمال الصالحة يكون تفاضل الإيمان والجزاء عليه في الآخرة) (1) .
ويقول: (لما كانت محبة الله سبحانه هي أصل دين الإسلام، الذي يدور عليه قطب رحاها، فبكمالها يكمل الإيمان، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان، نبه المصنف على وجوبها على الأعيان) (2) .
ويقول إمام الدعوة: (العلم لا يسمى علما إلا إذا أثمر، وإن لم يثمر فهو جهل، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (3) ، وكما قال عن يعقوب: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} (4) ، والكلام في تقرير هذا ظاهر.
والعلم هو الذي يستلزم العمل، ومعلوم تفاضل الناس في الأعمال
__________
(1) تيسير العزيز الحميد 117 - 118
(2) تيسير العزيز الحميد 410.
(3) سورة فاطر الآية 28
(4) سورة يوسف الآية 68(82/233)
تفاضلا لا ينضبط؛ وكل ذلك بسبب تفاضلهم في العلم) (1) .
والخلاصة: (أن الناس يتفاضلون في التوحيد تفاضلا عظيما، ويكونون فيه على درجات بعضها أعلى من بعض.
فمنهم من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما دلت عليه النصوص الصريحة الصحيحة.
ومنهم من يدخل النار، وهم العصاة، ويمكثون فيها على قدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها؛ لأجل ما في قلوبهم من التوحيد والإيمان، وهم في ذلك متفاوتون، كما في الحديث الصحيح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن برة (2) » ، وفي لفظ: «شعيرة (3) » ، وفي لفظ: «ذرة (4) » ، وفي لفظ: «حبة خردل من إيمان (5) » .
ومن تأمل النصوص تبين له أن الناس يتفاضلون في التوحيد والإيمان تفاضلا عظيما، وذلك بحسب ما في قلوبهم من الإيمان بالله، والمعرفة الصادقة، والإخلاص، واليقين، والله أعلم) (6) .
__________
(1) الدرر السنية 10 / 101، والرسائل الشخصية 162، وانظر: الدرر السنية 13 / 412 - 414.
(2) رواه مسلم 3 / 73 رقم 193.
(3) رواه مسلم 3 / 60 رقم 191
(4) البخاري الإيمان (44) ، الترمذي صفة جهنم (2593) ، ابن ماجه الزهد (4312) .
(5) البخاري الإيمان (22) ، مسلم الإيمان (184) ، أحمد (3/56) .
(6) الدرر السنية 1 / 207، ومجموعة الرسائل 5 / 574.(82/234)
وبما تقدم ينجلي ما عليه سلف الأمة في زيادة الإيمان ونقصانه حسبما قرره علماء الدعوة، ولا يتعارض هذا مع ما جاء عن بعض العلماء من إنكار التفاضل في التصديق (1) .
فإن هذه الدعوى غير مسلمة؛ إذ التحقيق أن (التصديق القائم بالقلوب يتفاضل، وهذا هو الصحيح من مذاهب جماهير السلف، وهو أصح الروايتين عن أحمد؛ فإن إيمان الصديقين الذين تتجلى أنوار المعرفة لقلوبهم، حتى يصير كأنه شهادة بحيث لا يقبل التشكيك ولا الارتياب، ليس كإيمان غيرهم ممن لم يبلغ هذه الدرجة، بحيث لو شكك لدخله الشك، ولهذا جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتبة الإحسان أن يعبد ربه كأنه يراه، وهذا لا يحصل لعموم المؤمنين، ومن هنا قال بعضهم: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره، وسئل ابن عمر رضي الله عنهما: هل كان الصحابة رضي الله عنهم يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم مثل الجبال.
فأين هذا ممن الإيمان في قلبه يزن ذرة، أو شعيرة، كالذين يخرجون من أهل التوحيد من النار) (2) .
وعلى هذا فإن ما جاء عن الإمام أحمد في منع التفاضل في المعرفة
__________
(1) انظر: التوضيح 123.
(2) التوضيح 126، وراجع: جامع العلوم والحكم 1 / 113 - 114.(82/235)
يخالف أصح الروايتين عنه، وهي الصحيح من المذهب أن المعرفة تقبل التفاضل.
يقول الشيخ حسين بن غنام: (والصحيح أن الإيمان القلبي يتفاضل، وهو أصح الروايتين عن أحمد؛ لأن إيمان الصديقين ليس كإيمان غيرهم، والآيات والأحاديث دالة على ذلك) (1) .
وكذلك ما جاء عن الإمام مالك رحمه الله أنه توقف في بعض الروايات عن القول بالنقصان؛ إما لكون التصديق لا يجوز نقصانه؛ لأنه إذا نقص صار شكا، أو أن توقفه خشية أن يتناول موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي بالذنوب (2) .
فإن هذه التعديلات لا تكفي في رد ما دلت عليه النصوص، وقد صح عن مالك رواية ثانية، وهي المشهورة عند أصحابه أن الإيمان يزيد وينقص.
وقد سبق حكاية عبد الرزاق رحمه الله عمن أدركه من شيوخه، ومنهم مالك، أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
__________
(1) العقد الثمين 52، وراجع: السنة للخلال 3 / 580 - 581 رقم 1004، 1007، والفتاوى 7 / 408.
(2) انظر: التوضيح 123 - 124، وراجع: شرح صحيح البخاري لابن بطال 1 / 57.(82/236)
والحاصل أن (الإيمان يتفاوت ويختلف بحسب أحوال الخلق، فمنهم من إيمانه كالجبال الراسيات، بحيث لا يزحزحه مزحزح، فيزيد إلى ما لا نهاية، ومنهم من ينقص إيمانه حتى ينتهي إلى مثقال الذرة) (1) .
فالإيمان (يزيد مع بقاء أصله الذي دلت عليه شهادة أن لا إله إلا الله، وينقص حتى لا يبقى منه شيء، فإذا ثبت الإسلام زاد الإيمان ونقص، ومع عدم الإسلام وانهدام أصله لا يعتد بما أتى به من شعبه) (2) .
__________
(1) التوضيح 106.
(2) مصباح الظلام 595.(82/237)
الفصل الرابع: حكم الاستثناء في الإيمان:
الاستثناء في الإيمان هو قول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، أو: مؤمن أرجو، أو: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.
والمأثور عن عامة أهل السنة هو أنه يجوز الاستثناء في الإيمان، فقد نقل الشيخ حسن بن حسين ابن الإمام قول ابن القيم رحمه الله: (ونحن نحكي إجماعهم كما حكاه حرب صاحب الإمام أحمد بلفظه، قال في مسائله المشهورة: هذا مذهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة. فكان من قولهم: إن الإيمان قول وعمل ونية، وتمسك بالكتاب(82/237)
والسنة، والإيمان يزيد وينقص.
ويستثنى في الإيمان، غير أن لا يكون شكا، إنما هي سنة ماضية عند العلماء.
وإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ فإنه يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو: مؤمن أرجو، ويقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله) (1) .
وذهب بعض أهل السنة إلى وجوب الاستثناء في الإيمان.
ولا خلاف بين القولين؛ إذ هما مبنيان على مأخذين متغايرين؛ ولذا كان الأصح والأعدل عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الاستثناء في الإيمان يصح باعتبار، ويمتنع باعتبار آخر (2) .
فأما الوجوه التي يستثنى فيها، فهي:
الأول: خوف سوء الخاتمة.
الثاني: أن يستثني تعليقا للأمر بمشيئة الله تعالى.
__________
(1) الدرر السنية 1 / 345 - 346، ومجموعة الرسائل 556 - 557، وهو في: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح 445.
(2) انظر: هداية الطريق 193، والدرر السنية 1 / 551، وراجع الفتاوى 7 / 429، 13 / 40.(82/238)
الثالث: أن يستثني خوفا من تزكية نفسه ومدحها، بأنه أتى بالإيمان المطلق المستلزم للكمال.
فقد روى الخلال عن أبي طالب قال: سمعت أبا عبد الله يقول: لا نجد بدا من الاستثناء؛ لأنهم إذا قالوا: مؤمن، فقد جاؤوا بالقول؛ فإنما يستثنى بالعمل، لا بالقول (1) .
وعن إسحاق بن إبراهيم قال: سمعت أبا عبد الله يقول: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون فرطنا في العمل، فيعجبني أن يستثني في الإيمان، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله (2) .
وحديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي احتج به الإمام أحمد هو ما جاء عنه أنه كان يستثني، فلما قيل له: إن قوما يقولون: إنا مؤمنون؟ قال: أفلا سألتموهم أفي الجنة هم؟ وفي رواية: أفلا قالوا: نحن أهل الجنة؟ وفي رواية قيل له: إن هذا يزعم أنه مؤمن؟ قال: فاسألوه: أفي الجنة
__________
(1) انظر: هداية الطريق 194 والدرر السنية 1 / 553، والأثر مروي في السنة للخلال 3 / 597 - 598 رقم 1057.
(2) انظر: هداية الطريق 194، والدرر السنية 1 / 552، والأثر رواه الخلال في السنة 3 / 600 رقم 1065.(82/239)
هو أو في النار؟ فسألوه فقال: "الله أعلم". فقال: فهلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية؟ .
وهذا هو مأخذ الموجبين للاستثناء من أهل السنة؛ فإنهم بنوه على أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به كله، وترك المحرمات كلها، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار، فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين، القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لها بما لا يعلم، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال.
وقد روي عن عمر رضي الله عنه: من قال: أنا عالم فهو جاهل، ومن قال: أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال: أنا في الجنة فهو في النار.(82/240)
وأما الوجوه التي يترك فيها الاستثناء، فهي (1) .
الأول: حال الجزم بما يعلمه من التصديق.
الثاني: إن أراد الإيمان المقيد الذي لا يستلزم الكمال.
قال الخلال: أخبرني حرب بن إسماعيل وأبو داود، قال أبو داود: سمعت أحمد قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إذا سئل المؤمن: أمؤمن أنت؟
لم يجبه، ويقول: سؤالك إياي بدعة، ولا شك في إيماني، وقال: إن شاء الله لا يكره، ولا يدخل في الشك.
وقد أخبرني عن أحمد أنه قال: لا نشك في إيماننا (2) .
__________
(1) انظر: هداية الطريق 195 - 196، والدرر السنية 1 / 554 - 555، وراجع: الفتاوى 13 / 41.
(2) انظر: هداية الطريق 195، والدرر السنية 1 / 554، والأثر رواه الخلال في السنة 3 / 602 رقم 1070.(82/241)
الفصل الخامس: مرتكب الكبيرة:
تنقسم المعاصي كما يقول الشيخ سليمان بن عبد الله: (إلى كفر وشرك، وإلى كبائر دون الكفر والشرك، وإلى صغائر دون الكبائر) . .(82/241)
والكبائر نفسها كما أفاد إمام الدعوة (1) ، منها ما هو كبير، ومنها ما هو أكبر، كما دل عليه قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (2) .
ولما كان البحث هنا مقتصرا على الكبائر، فسيدور الحديث عنها في تعريفها، وعددها، وحال مرتكبها اسما وحكما، والموقف الصحيح من نصوص الوعد والوعيد.
أولا: ضابط الكبيرة، وعددها:
نقل الإمام المجدد رحمه الله ما رواه ابن جرير عن ابن عباس أنه قال:
الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار، أو لعنة، أو غضب، أو عذاب (3) .
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن: (وضابطها - يعني: الكبيرة - ما قاله المحققون من العلماء: كل ذنب ختمه الله بنار، أو لعنة، أو غضب، أو عذاب.
زاد شيخ الإسلام – يعني: ابن تيمية -: أو نفي الإيمان.
__________
(1) انظر: الدرر السنية 13 / 117 - 118
(2) سورة البقرة الآية 217
(3) الكبائر، ضمن القسم الأول من مؤلفات الشيخ الإمام 3، وهو في: جامع البيان 5 / 52.(82/242)
قلت: ومن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: ليس منا من فعل كذا أو كذا) .
وجاء تعريف الكبيرة في التوضيح بأنها؛ ما أوجب حدا في الدنيا، ووعيدا في الآخرة (1) .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: الكبيرة هي: ما توعد عليه بغضب، أو لعنة، أو رتب عليه عقاب في الدنيا، أو عذاب في الآخرة) (2) .
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله: (والكبيرة هي: كل معصية فيها حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو نفي إيمان، أو لعن، أو غضب، أو عذاب، ومن برئ منه الرسول صلى الله عليه وسلم، أو قال: ليس منا) (3) .
وليس للكبائر عدد معين (4) ، فقد روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع
__________
(1) انظر: التوضيح 75، والدرر السنية 10 / 129، ومصباح الظلام 61، وراجع: الفتاوى 11 / 650.
(2) فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 2 / 54.
(3) حاشية الدرة المضية 64، ومثله في: حاشية كتاب التوحيد 257.
(4) انظر: فتح المجيد 418، وحاشية كتاب التوحيد 257.(82/243)
الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
وجاء عنه رضي الله عنه قوله: هي إلى سبعين أقرب منها إلى السبع.
ثانيا: حال مرتكب الكبيرة اسما وحكما:
تفرق الناس في مرتكب الكبيرة، فبينما تراه الوعيدية فاسقا وكافرا، خارجا عن الملة، مخلدا في النار، قابلتهم المرجئة، فجعلته مؤمنا كامل الإيمان، إيمانه كإيمان الأنبياء، وفي الآخرة معرضا للوعيد، مستحقا للعقاب (1) .
والذي يعتقده أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة، يشرحه الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله فيقول: (الصواب في ذلك قول أهل السنة:
__________
(1) انظر: مسائل لخصها الإمام 136، والتوضيح 66، 127، 129، 137، 154.(82/244)
أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان على الإطلاق، ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن عاص أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة) .
وبعد أن ذكر صاحب التوضيح انقسام الناس في الفاسق على ثلاثة أقسام طرفين ووسط، قال: (وعند هذا، فالقول الوسط الذي هو قول أهل السنة والجماعة أنهم لا يسلبون اسم الإيمان على الإطلاق، ولا يثبتونه على الإطلاق، بل يقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو هو مؤمن عاص، أو هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ويقال: ليس بمؤمن حقا، أو ليس بصادق الإيمان) .
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: (ولفظ الظلم، والمعصية، والفسوق، والفجور، والموالاة، والمعاداة، والركون، والشرك، ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، قد يراد بها مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة،..، وكذلك اسم المؤمن، والبر، والتقى، يراد بها عند الإطلاق والثناء غير المعنى المراد في مقام(82/245)
الأمر والنهي، ألا ترى أن الزاني، والسارق، والشارب، ونحوهم يدخلون في عموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (1) ، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} (2) ، الآية، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} (3) ، ولا يدخلون في مثل قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (4) ، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} (5) ، الآية.
وهذا هو الذي أوجب للسلف ترك تسمية الفاسق باسم الإيمان والبر، وفي الحديث: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها وهو مؤمن (6) » ، وقوله: «لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه (7) » .
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) سورة الأحزاب الآية 69
(3) سورة المائدة الآية 106
(4) سورة الحجرات الآية 15
(5) سورة الحديد الآية 19
(6) رواه البخاري: كتاب المظالم، باب النهبى بغير إذن صاحبه 5 / 143 رقم 2475، ومسلم 2 / 54 رقم 57.
(7) رواه البخاري: كتاب الأدب، باب إثم من لم يأمن جاره بوائقه 10 / 457 رقم 6016، ومسلم 2 / 23 رقم 46.(82/246)
لكن نفي الإيمان لا يدل على كفره، بل يطلق عليه اسم الإيمان، ولا يكون كمن كفر بالله ورسله، وهذا هو الذي فهمه السلف، وقرروه في باب الرد على الخوارج والمرجئة ونحوهم من أهل الأهواء، فافهم هذا فإنه مضلة أفهام، ومزلة أقدام) (1) .
وهذا الذي قرره هؤلاء الأعلام هو ما عليه أكثر أهل السنة في حال مرتكب الكبيرة في الدنيا (2) .
ومنهم من قال: هو مسلم وليس بمؤمن، واختاره جماعة، وهو الرواية الأخرى عن أحمد.
ثم إن أهل السنة والجماعة مجمعون على أن الفساق معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة (3) ، وأن الذنب والوعيد لا يلحق من تاب منهم توبة نصوحا.
__________
(1) الدرر السنية 1 / 470 - 471.
(2) راجع: التمهيد 15 / 47، والفتاوى 7 / 241، 251.
(3) انظر: التوضيح 66، وراجع: الفتاوى 3 / 374- 375، 35 / 94- 95.(82/247)
وهم مجمعون أيضا على أن الكبائر لا تخرج صاحبها من دائرة الإسلام، وأنه في حكم المشيئة، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه، ومآله إلى الجنة، فلا يخلد في النار من مات على التوحيد، كما تواترت بذلك الأحاديث. .
ثالثا: الموقف الصحيح من نصوص الوعد والوعيد:
يقول إمام الدعوة في جواب من سأله عن نصوص الوعد والوعيد: (الذي يجب العلم به أن كل ما قاله الرسول حق يجب الإيمان به، ولو لم يعرف الإنسان معناه، وفي القرآن آيات الوعد والوعيد كذلك، وأشكل الكل على كثير من الناس من السلف ومن بعدهم) (1) .
والقاعدة المقررة أن كل كلام أطلق في الكتاب والسنة، فلا بد أن يبين المراد منه، والأحكام المترتبة على أصله وفرعه (2) .
وعلى هذا تفهم نصوص الوعد والوعيد؛ فإن ما جاء من نصوص
__________
(1) الفتاوى: ضمن القسم الثالث من مؤلفات الشيخ الإمام 44 - 45، وانظر منه 53.
(2) انظر: التوضيح 130.(82/248)
فيها حصول الوعد بمجرد القول، فهي مفسرة بالنصوص المتواترة بأنه لا بد من القول والعمل.
فنصوص الوعد مقيدة بقيود ثقال لا بد من الإتيان بها قولا واعتقادا وعملا، وألا يأتي قائلها بما يخالفها ويضعفها.
وأما ما جاء من نصوص الوعيد، فقد تقدم أن السلف أجمعوا على أن الكبائر لا تخرج صاحبها من دائرة الإسلام، وأن الله تعالى لا يخلد أحدا في النار من أهل التوحيد.
ثم إن الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر في حق المعين قد يتخلف عنه؛ لفوات شرط، أو ثبوت مانع.
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله على حديث: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب (1) » .
قال: (فيه تنبيه على أن الوعيد والذم لا يلحق من تاب من الذنب، وهو كذلك بالإجماع، فعلى هذا إذا عرف شخص بفعل ذنوب توعد الشرع عليها بوعيد، لم يجز إطلاق القول بلحوقه لذلك الشخص المعين
__________
(1) رواه مسلم 6 / 334 رقم 934.(82/249)
كما يظنه كثير من أهل البدع؛ فإن عقوبات الذنوب ترتفع بالتوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وشفاعة نبيهم صلى الله عليه وسلم فيهم، وعفو الله عنهم) (1) .
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: (وأما إلحاق الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر، فقد يمنع منه مانع في حق المعين، كحب الله ورسوله، والجهاد في سبيله، ورجحان السيئات، ومغفرة الله ورحمته، وشفاعة المؤمنين، والمصائب المكفرة في الدور الثلاثة.
ولذلك لا يشهدون – يعني: السلف - لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار، وإن أطلقوا الوعيد كما أطلقه القرآن والسنة، فهم يفرقون بين العام المطلق، والخاص المقيد) .
ثم استدل رحمه الله بقصة الرجل الذي يؤتى به وهو يشرب الخمر، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنه، وقوله فيه: «لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله (2) » ، مع «أنه صلى الله عليه وسلم لعن الخمر، وشاربها
__________
(1) تيسير العزيز الحميد 400.
(2) رواه البخاري: كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة 12 / 77، رقم 6780(82/250)
وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه (1) » .
وبقصة حاطب بن أبي بلتعة، وقوله صلى الله عليه وسلم فيه: صدقكم، خلوا سبيله، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم (2) » .
وإذا تمهدت تلك الأصول، فإن أهل العلم قد اختلفت أنظارهم في توجيه ما جاء من النصوص النافية لإيمان مرتكبي بعض الكبائر، أو التي فيها إطلاق الكفر عليه، ومن الأقوال التي نقلها علماء الدعوة في ذلك ما يلي:
1- التوقف في هذه النصوص، بمعنى أنها تمر كما جاءت، فلا يتعرض لها بتفسير من غير علم، ولا يقال: يخرج من الإيمان أو لا يخرج، مع قولهم بأن صاحبها لا يخرج من الملة، وعللوا بأن ذلك أوقع في
__________
(1) رواه الإمام أحمد 8 / 405، رقم 4787، 10 / 9 رقم 5716، وأبو داود في السنن: كتاب الأشربة، باب العنب يعصر للخمر 4 / 82 رقم 3674، والترمذي في الجامع: كتاب البيوع، باب النهي عن أن يتخذ الخمر خلا 4 / 296، رقم 1259، وابن ماجه في السنن: كتاب الأشربة، باب لعن الخمر على عشرة أوجه 2 / 255، رقم 3424.
(2) رواه البخاري في مواضع من صحيحه منها: كتاب الجهاد، باب الجاسوس وقول الله عز وجل: (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) 6 / 166، رقم 3007، ومسلم 15 / 82، رقم 2494.(82/251)
النفوس، وأبلغ في الزجر، وأردع عن الجرائم.
2- أن النفي هو نفي الكمال والتمام.
ومراد القائلين به الرد على الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بالذنوب، ويخلدون أصحابها في النار (1) .
وهذا القول نسبه النووي رحمه الله إلى المحققين، فقد قال: (فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان.
وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء، ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة.
وإنما تأولناه على ما ذكرناه؛ لحديث أبي ذر وغيره: «من قال:
__________
(1) انظر: الفتاوى ضمن القسم الثالث من مؤلفات الشيخ الإمام 44 - 45، والتوضيح 131.(82/252)
لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى، وإن سرق (1) » ، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على ألا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا، قال لهم صلى الله عليه وسلم: «فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن فعل شيئا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته، ومن فعل ولم يعاقب، فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه (2) » .
فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح، مع قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) ، مع إجماع أهل الحق على أن الزاني، والسارق، والقاتل، وغيرهم من أصحاب الكبائر، غير الشرك، لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء الله عفا عنهم وأدخلهم الجنة، وإن شاء عذبهم، ثم أدخلهم الجنة، فكل هذه الدلائل تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث، وشبهه.
__________
(1) رواه البخاري: كتاب اللباس، باب الثياب البيض 10 / 294 رقم 5827، ومسلم 2 / 124 - 125 رقم 94.
(2) رواه البخاري في مواضع منها: كتاب التفسير، باب {إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} 8 / 506، رقم 4894، ومسلم 11 / 316، رقم 1709.
(3) سورة النساء الآية 48(82/253)
ثم إن هذا التأويل الظاهر سائغ في اللغة، مستعمل فيها كثيرا، وإذا ورد حديثان مختلفان ظاهرا وجب الجمع بينهما، وقد وردا ها هنا فيجب الجمع، وقد جمعنا) (1) .
والقول بأن المنفي كمال الإيمان يحتمل أن المراد كماله المستحب، أو كمال الواجب، ولشيخ الإسلام ابن تيمية بحث في ذلك ساقه الشيخ سليمان بن عبد الله ملخصا؛ إذ يقول: "لا يعهد في لسان الشرع نفي اسم مسمى أمر الله به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته، فأما إذا كان الفعل مستحبا في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب، ولو صح هذا لنفى عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة، والزكاة، والحج، وحب الله ورسوله؛ لأنه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا أبو بكر ولا عمر، فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه، لجاز أن ينفى عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل.
وعلى هذا فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد الكمال الواجب الذي يذم تاركه، ويتعرض للعقوبة، فقد صدق، وإن أراد
__________
(1) نقله في التوضيح 127 - 128، وهو في: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 2 / 55.(82/254)
أنه نفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
3- أن المراد من فعله مستحلا مع علمه بورود الشرع بتحريمه (1) .
ونسبه الشيخ سليمان بن عبد الله إلى أكثر الشراح.
4- أن المراد ليس من أهل سنتنا وطريقتنا؛ لأن الفاعل لذلك ارتكب محرما وترك واجبا.
5- أنها على ظاهرها، فلا يدخلون الجنة إلا بعد العذاب إن لم يتوبوا، وتكون نصوص الوعيد مخصصة لعموم الأحاديث الدالة على خروج الموحدين من النار ودخولهم الجنة.
__________
(1) انظر: التوضيح 128، 132، وتيسير العزيز الحميد 395.(82/255)
6- أنه كافر من جهة العمل الظاهر لا الباطن، أي: من الكفر العملي لا الاعتقادي (1) .
7- أنه كافر كفر النعمة (2) .
وهذا التأويل عند إمام الدعوة خطأ (3) ، وعند الشيخ سليمان بن عبد الله باطل (4) ، وهو كما يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: (ضعيف جدا، إذ ما من معصية وذنب يفعله المكلف المختار إلا وفيه من كفر النعمة بحسبه، والشكر هو استعمال النعمة في طاعة معطيها ومسديها، ومع محبته والرضا عنه، والثناء بها عليه، والشكر ضد الكفر، فمن أخل بشيء من الشكر، ففيه من كفر النعمة بحسب ذلك، فتحصل أن كفر النعمة لا يختص بما أطلق عليه الشارع الكفر من الأفعال) (5) .
__________
(1) انظر: التوضيح 136، والدرر السنية 10 / 424، ومنهاج التأسيس 318، 319، وراجع: الفتاوى 7 / 312، 350.
(2) انظر: التوضيح 131 –132، 183، وراجع: شرح النووي على مسلم 2 / 166.
(3) انظر: الدرر السنية 1 / 189، والفتاوى، ضمن القسم الثالث من مؤلفات الشيخ الإمام 50.
(4) انظر: تيسير العزيز الحميد 359.
(5) منهاج التأسيس 318، وراجع: فتح الباري لابن رجب 1 / 129، 6 / 337.(82/256)
8- أن اللفظ لفظ الخبر، ومعناه النهي، أي ينبغي للمؤمن ألا يفعل ذلك (1) .
9- أن المقصود الزجر والوعيد دون حقيقة النفي (2) .
وهذا والذي قبله من التأويلات المستكرهة التي تخرج هذه النصوص عن ظاهرها والمقصود منها (3) .
هذه بعض ما قيل في هذه المسألة مما نقله علماء الدعوة رحمهم الله، والقول الأول منها هو اختيار إمام الدعوة، ويراه من أحسن ما قيل في المسألة، وأنه الأصوب والأهون والأوسع، والموافق لقوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (4) .
وإن كان رحمه الله قد نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله في المسألة، وأن نفي الإيمان لا يكون إلا فيمن ترك بعض الواجبات (5) .
__________
(1) انظر: التوضيح 131، وراجع: الفتاوى 7 / 675.
(2) انظر: التوضيح 130، 131، وراجع: الفتاوى 7 / 675.
(3) انظر: التوضيح 131، وراجع: الإيمان، لأبي عبيد 39، والفتاوى 7\674 – 675، 7\ 502.
(4) سورة آل عمران الآية 7
(5) انظر: مسائل لخصها الإمام 139.(82/257)
والقول الثاني، وهو أن المنفي هو كمال الإيمان الواجب، هو الذي مشى عليه شراح كتاب التوحيد، فالشيخ سليمان بن عبد الله يقول في معنى نفي الإيمان: (أي لا يحصل له الإيمان الذي تبرأ به ذمته، ويستحق به دخول الجنة بلا عذاب) (1) .
ويقول: (أي لا يحصل له الإيمان الواجب، ولا يكون من أهله) .
ثم نقل كلام الحافظ ابن رجب، وهو قوله: (أما معنى الحديث، فهو: أن الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أمر به ويكره ما نهي عنه) .
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن: (أي لا يكون من أهل كمال الإيمان الواجب الذي وعد الله أهله عليه بدخول الجنة، والنجاة من النار، وقد يكون في درجة أهل الإساءة والمعاصي من أهل الإسلام) ، ثم قال: (فإن كان الذي يحبه وتميل إليه نفسه ويعمل به تباعا لما جاء به - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج عنه إلى ما يخالفه، فهذه صفة أهل الإيمان المطلق.
__________
(1) تيسير العزيز الحميد 415(82/258)
وإن كان بخلاف ذلك، أو في بعض أحواله، أو أكثرها انتفى عنه من الإيمان كماله الواجب، كما في حديث أبي هريرة: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن (1) » ، يعنى أنه بالمعصية ينتفي عنه كمال الإيمان الواجب، وينزل عنه في درجة الإسلام، وينقص إيمانه، فلا يطلق عليه قيد الإيمان إلا بقيد المعصية، والفسوق، فيقال مؤمن عاص، أو يقال مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته، فيكون معه مطلق الإيمان الذي لا يصح إيمانه إلا به، كما قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2) [فيكون مسلما ومعه مطلق الإيمان الذي لا يصح إسلامه إلا به، وهذا التوحيد الذي لا يشوبه شرك ولا كفر، وهذا هو الذي يذهب إليه أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج والمعتزلة] (3) . (4) .
وعلى هذا يكون من نفي عنه الإيمان لم يأت بكمال الإيمان الواجب الذي وعد الله أهله بدخول الجنة والنجاة من النار، وليس من المؤمنين الذين قاموا بواجبات الإيمان، بل عنده نقص في إيمانه الواجب الذي تبرأ به ذمته، ويستحق به دخول الجنة بلا عذاب.
__________
(1) البخاري الأشربة (5256) ، مسلم الإيمان (57) ، الترمذي الإيمان (2625) ، النسائي الأشربة (5659) ، أبو داود السنة (4689) ، ابن ماجه الفتن (3936) ، أحمد (2/386) ، الدارمي الأشربة (2106) .
(2) سورة النساء الآية 92
(3) ما بين قوسين من قرة عيون الموحدين 196
(4) فتح المجيد 467 - 468(82/259)
فهو تحت المشيئة.(82/260)
الخاتمة:
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على خير خلقه، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ثم أما بعد:
ففي خاتمة هذا البحث يقف الناظر على جملة من الحقائق المهمة، منها:
أولا: تتابع السائرين على طريقة السلف على المعتقد الحق، مع اختلاف الأزمان والأقطار، فما تراه مقررا هنا في مسائل الإيمان هو بعينه الذي تجده في مصنفات الأئمة المتقدمين، والناقلين مقالتهم على مر السنين، ولا غرابة في ذلك، إذ الجميع يستقي من منبع واحد، ويعتمد المنهج نفسه.
ثانيا: أن مسائل الإيمان مما يلزم تعلمها من خلال دلالات النصوص، ومن خلال معرفة مقالة أهل السنة فيها، فإن الغلط فيها ليس(82/260)
كالغلط في غيرها.
ثالثا: أن الإيمان قول وعمل صنوان متلازمان، لا يفترقان، ولا ينفك أحدهما عن الآخر، فمن خالف في ذلك، فهو على غير هدي السلف.
رابعا: أن نقل بعض الخلاف في بعض مسائل الإيمان، كالقول بأن الإيمان هو الإسلام، أو منع القول بنقصان الإيمان، والخلاف في معنى نفى الإيمان عن مرتكبي بعض الذنوب، ونحو ذلك، فإن هذا كله لا يخرج المخالف عن دائرة السنة في الإيمان، ما دام قائلا بأصولها في كون العمل من الإيمان، وإن كان الواجب على المتأخر التزام ما عليه عامة أهل السنة في هذه المسائل، والتمسك بما استقرت عليه كلمة التحقيق.
خامسا: يلحظ الناظر فيما قرره علماء الدعوة رحمهم الله في باب الإيمان عنايتهم الفائقة بتحقيقات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذلك، والذي هو إحياء لمذهب السلف في باب الإيمان، فكان صنيع علماء الدعوة في ذلك نشرا لمعتقد السلف، ونقضا لمقالة الخلف.(82/261)
هذه بعض ما انتهي إليها النظر في هذه الدراسة، وختاما أسأل الله تعالى أن يتقبل هذا العمل، وأن يجعله خالصا لوجهه، وأن ينفع به، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.(82/262)
دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرحلة الاستخفاء في العهد المكي
"دراسة تحليلية"
للدكتور علي بن أحمد الأحمد (1)
تمهيد:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. أما بعد:
فبتأمل دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في العهد المكي نجد أنها مرت بمرحلتين مرحلة "الاستخفاء" ومرحلة "الجهر". وقد ابتدأت مرحلة الاستخفاء بالدعوة بعد النبوة مباشرة، روى ابن سعد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يدعو من أول ما نزلت عليه النبوة مستخفيا.. (2) » .
__________
(1) عضو هيئة التدريس بقسم الدعوة والاحتساب - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
(2) الطبقات الكبرى - لابن سعد، ط (الأولى، الناشر دار صادر - بيروت) 1 / 199(82/263)
واستمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاستخفاء بالدعوة إلى الله ثلاث سنوات، كما حدد ذلك ابن إسحاق وابن سعد وأبو نعيم وابن هشام وغيرهم.
ومرحلة الاستخفاء بما اشتملت عليه مواقف وأحداث وأحوال تتصل بجانب الدعوة جعل لها أهمية خاصة يمكن إبراز بعضها من خلال الآتي:
1. أنها بكامل تفاصيلها هي جزء متصل بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسبيله في الدعوة إلى الله تعالى.
2. قيام النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - بخوض غمارها بوعي كامل ورؤية ثاقبة لما يحيط بالدعوة من عقبات وعوائق وفق مسلك حكيم أثمر بعد توفيق الله انطلاق الدعوة إلى العلنية والعالمية.
3. حاجة الدعاة إلى الله لتصور تلك المرحلة تصورا صحيحا بعيدا عن الارتجال والعواطف لإدراك ما تنطوي عليه تطبيقات الاستخفاء بالدعوة في العصر الحاضر من أبعاد وآثار، في ظل تعدد التيارات والاتجاهات.
واستنادا لما سبق رأيت من المناسب دراسة هذه المرحلة وعرضها عرضا علميا يحلل جوانبها وفقا لما يتاح من علم في ضوء النصوص(82/264)
الشرعية والمواقف التي جرت في تلك المدة الوجيزة (1) سعيا لفهم موضوع الدراسة، فهما سليما يرتكز على نصوص شرعية وحقائق علمية.
وقد قسمت الدراسة إلى أربعة مباحث وفق الفقر الآتية:
المبحث الأول: مرحلة الاستخفاء في ضوء النصوص:
المطلب الأول: دلالة نصوص القرآن الكريم.
المطلب الثاني: دلالة نصوص السنة الشريفة.
المطلب الثالث: دلالة أقوال الصحابة الكرام - رضي الله عنه -.
المطلب الرابع: دلالة أقوال العلماء والمؤرخين رحمهم الله.
المبحث الثاني: معالم دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرحلة الاستخفاء:
المطلب الأول: ميدان الدعوة في مرحلة الاستخفاء.
المطلب الثاني: وسائل الدعوة في مرحلة الاستخفاء وأساليبها.
المطلب الثالث: مضمون الدعوة في مرحلة الاستخفاء.
المطلب الرابع: أصناف المدعوين في مرحلة الاستخفاء.
المبحث الثالث: مفهوم الاستخفاء في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماتها:
المطلب الأول: مفهوم الاستخفاء في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
المطلب الثاني: سمات الاستخفاء في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
المبحث الرابع: تطبيقات الاستخفاء بالدعوة في العصر الحاضر.
المطلب الأول: الاستخفاء بالدعوة في المجتمعات الدعوية.
__________
(1) قياسا بتاريخ دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي استمرت 23 عاما(82/265)
المطلب الثاني: الاستخفاء بالدعوة في المجتمعات غير الدعوية.
ثم الخاتمة، وفيها أبرز النتائج.(82/266)
المبحث الأول: مرحلة الاستخفاء في ضوء النصوص:
المطلب الأول: دلالة نصوص القرآن الكريم:
ألمح القرآن الكريم إلى استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى الله تعالى ضمن إشارة تفيد بدء تلك المرحلة وانتهاءها بقوله تعالى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (1) ، ولا ريب أن هذا يومئ إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو إلى الله خفية من قبل ذلك، فقد أخرج ابن جرير عن عبد الله بن عبيدة أنه قال: "ما زال النبي - صلى الله عليه وسلم - مستخفيا حتى نزل {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (2) فخرج هو وأصحابه. قال الثعالبي في تفسيره: وقوله سبحانه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (3) معناه: " انفذ وصرح بما بعثت به " (4) وقال الواحدي في هذا الصدد: "ولم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - مستخفيا نزلت " {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (5) " وأشار الإمام البغوي إلى هذا المعنى بقوله: "أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية
__________
(1) سورة الحجر الآية 94
(2) سورة الحجر الآية 94
(3) سورة الحجر الآية 94
(4) الجواهر الحسان في تفسير القرآن - للثعالبي، ط (الأولى، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت) 2 / 301.
(5) سورة الحجر الآية 94(82/266)
بإظهار الدعوة.
وكان قد أنزل عليه من قبل الأمر بالإنذار في قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (1) {قُمْ فَأَنْذِرْ} (2) ، فاستمر - صلى الله عليه وسلم – مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله ثلاث سنين مستخفيا، قال ابن تيمية: " أول ما أنزل من القرآن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (3) عند جماهير العلماء، وقد قيل: قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (4) روي ذلك عن جابر، والأول أصح، فإن ما في حديث عائشة الذي في الصحيحين يبين أن أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (5) نزلت عليه وهو في غار حراء , وأن المدثر نزلت بعد، وهذا هو الذي ينبغي، فإن قوله: {اقْرَأْ} (6) ؛ أمر بالقراءة لا بتبليغ الرسالة وبذلك صار نبيا، وقوله: {قُمْ فَأَنْذِرْ} (7) ؛ أمر بالإنذار وبذلك صار رسولا منذرا". وهذا الإنذار وما يتطلبه من أمور كان في طور الاستسرار بالدعوة حيث كانت الدعوة بعد البعثة قائمة سرا كما تقدم إلى أن أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصدع بأمر الدعوة. قال ابن الجوزي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستر النبوة ويدعو إلى الإسلام سرا.. فلما مضت من النبوة ثلاث سنين نزل قوله
__________
(1) سورة المدثر الآية 1
(2) سورة المدثر الآية 2
(3) سورة العلق الآية 1
(4) سورة المدثر الآية 1
(5) سورة العلق الآية 1
(6) سورة العلق الآية 1
(7) سورة المدثر الآية 2(82/267)
عز وجل {فَاصْدَعْ} (1) فأظهر الدعوة (2) .
وفي ضوء أقوال المفسرين حول الآية تتضح تلك الإشارة القرآنية إلى مرحلة الاستخفاء التي مر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي تضمنت ستر النبوة والدعوة سرا.
المطلب الثاني: دلالة نصوص السنة الشريفة:
مما يشير إلى مرحلة استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى الله من خلال السنة النبوية ما أخرجه الإمام البخاري رحمه الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قصة إسلام أبي ذر - صلى الله عليه وسلم - في أوائل المرحلة المكية أنه قال له بعد أن أسلم: «يا أبا ذر اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك فإذا بلغك ظهورنا فأقبل (3) » .
وأخرج الإمام مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمرو بن عبسة - رضي الله عنه - بعد أن أسلم: «إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني.. (4) » .
__________
(1) سورة الحجر الآية 94
(2) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم - لابن الجوزي ط (الأولى، الناشر: دار صادر بيروت) 2 / 364
(3) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: كتاب المناقب، باب: قصة زمزم رقم الحديث: 3261، ط الأولى، عام: 1417هـ، الناشر: دار السلام - الرياض رقم الحديث: 3261
(4) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين، باب: إسلام عمرو بن عبسة، رقم الحديث: 1374. ط (الأولى، عام: 1419هـ، الناشر: دار السلام - الرياض) .(82/268)
وأخرج الإمام البخاري معلقا عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمقداد: «إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل (1) » .
وروي أنه لما دعا عليا إلى الإسلام وطلب علي - رضي الله عنه - الإمهال قال له - صلى الله عليه وسلم -: «يا علي إذا لم تسلم فاكتم (2) » .
وهذه النصوص تكشف واقع دعوة النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم – في أوائل البعثة وأنها كانت في طور الاستسرار.
المطلب الثالث: دلالة أقوال الصحابة:
إن استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة قد جاء ذكره صريحا على لسان بعض الصحابة، ومن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: «قال عمرو بن عبسة السلمي - رضي الله عنه -: "كنت - وأنا في الجاهلية - أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفيا ... (3) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الديات باب: قول الله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) ، رقم الحديث: 6385
(2) البداية والنهاية - للحافظ ابن كثير، ط (الأولى، عام: 1419هـ الناشر: دار هجر - مصر) 3 / 24
(3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين، باب: إسلام عمرو بن عبسة، رقم الحديث: 1374.(82/269)
وثبت «عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى:: قال: نزلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختف بمكة ... (2) » ،، وفي رواية عنه قال: أنزلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوار بمكة.. (3) وروي أبو جعفر بن أبي شيبة في "تاريخه" من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -، «أن عمر - رضي الله عنه - لما أسلم قال: يا رسول الله ففيم الاختفاء؟ فخرجنا في صفين: أنا في أحدهما، وحمزة في الآخر ... (4) » .
المطلب الرابع: دلالة أقوال العلماء والمؤرخين المتقدمين:
قال ابن قيم الجوزية ضمن سياق عرض سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه: وأقام بعد ذلك ثلاث سنين يدعو إلى الله سبحانه مستخفيا، ثم نزل عليه {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (5) ، فأعلن - صلى الله عليه وسلم – بالدعوة وجاهر قومه.
قال ابن الجوزي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستر النبوة ويدعو إلى الإسلام سرا.. فلما مضت من النبوة ثلاث سنين نزل قوله عز وجل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (6)
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: تفسير القرآن، باب: ولا تجهر بصلاتك: رقم 4353
(2) سورة الإسراء الآية 110 (1) {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}
(3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب: ولا تجهر بصلاتك: رقم 4353
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري - للحافظ ابن حجر، ط (الأولى، عام: 1407هـ، الناشر: دار الريان للتراث - القاهرة) 7 \ 48
(5) سورة الحجر الآية 94
(6) سورة الحجر الآية 94(82/270)
فأظهر الدعوة. (1) .
وأخرج ابن سعد بإسناده عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يدعو من أول ما نزلت عليه النبوة ثلاث سنين مستخفيا إلى أن أمر بالظهور (2) » .
قال ابن هشام: "وكان بين ما أخفى رسول الله أمره واستتر به إلى أن أمره الله بإظهار دينه ثلاث سنين من مبعثه" (3) .
وساق الواقدي رحمه الله بإسناده أن «رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة ثلاث سنين من أول نبوته مستخفيا ثم أعلن في الرابعة (4) » .
ومن خلال ما سبق تتجلى مرحلة الاستخفاء والتي قد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - خلالها كما سيتضح في المبحث التالي.
__________
(1) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم - لابن الجوزي 2 / 364
(2) الطبقات الكبرى - لابن سعد 1 / 199
(3) السيرة النبوية - لابن هشام 1 / 249
(4) زاد المعاد في هدي خير العباد - للإمام ابن قيم الجوزية، 3 / 43(82/271)
المبحث الثاني: معالم دعوة النبي في مرحلة الاستخفاء:
المطلب الأول: ميدان الدعوة في مرحلة الاستخفاء:
من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قام بالدعوة إلى الله بعد البعثة مباشرة استجابة لأمر الله في قوله: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (1) {قُمْ فَأَنْذِرْ} (2) لكنه في تلك المرحلة كان غير مجاهر بالدعوة ولا صادع بها إذ لم يؤمر بذلك بعد، واستمرت دعوته ثلاث سنين على هذا المنوال، وأسلم على يديه عدد ممن أكرمهم
__________
(1) سورة المدثر الآية 1
(2) سورة المدثر الآية 2(82/271)
الله بفضيلة السبق. ولم يكن ثمة مكان خاص بدعوته قبل دار الأرقم، وإنما حسب ما اتفق الحال، ويؤكد هذا أن كثيرا من العلماء يؤرخون إسلام بعض الصحابة بأنه كان قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، قال ابن سعد: "فإن جماعة أسلموا قبل دخوله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم ".
وحينما لاقى بعض المستجيبين للدعوة عذابا وأذى؛ اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم – دارا يستخفي فيها مع المستجيبين للدعوة، وذلك تحديدا بعد حادثتين:
الأولى: فقد ذكر ابن إسحاق أنه كان من أسلم إذا أراد الصلاة يذهب(82/272)
إلى بعض الشعاب يستخفي بصلاته من المشركين، فبينما سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم فضرب سعد بن أبي وقاص رجلا منهم بلحي بعير فشجه فهو أول دم أهريق في الإسلام ثم دخل - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مستخفين في دار الأرقم بعد هذه الواقعة (1) .
الحادثة الثانية: روى البلاذري أنه بينما كان رجلان من المسلمين يصليان في إحدى شعاب مكة، هجم عليهما رجلان من المشركين، فناقشوهما ورموهما بالحجارة ساعة، حتى خرجا فانصرفا.
تركت هاتان الحادثتان تأثيرهما على مسيرة الدعوة وعلى المستجيبين لها؛ ما حمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يأمر أتباعه بالتخفي والتزام البيوت مدة من الزمن حتى تستقر الأوضاع، فدخل هو وجماعة من أصحابه دارا خصصها للدعوة وهي للأرقم بن أبي الأرقم - رضي الله عنه - وقد أسلم، وكان من أبرز وظائفها ما يلي:
أولا: مباشرة الدعوة مع المستجيبين لها ومن يرغب من الناس بالإسلام:
وظف النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الدار لتكون ميدانا يتيح له تقديم الدعوة، فقد أخرج ابن سعد في الطبقات بإسناده أن " خباب بن الأرت - رضي الله عنه - أسلم قبل أن
__________
(1) السيرة الحلبية 1 / 456(82/273)
يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وقبل أن يدعو فيها" (1) في إشارة إلى أن أهم أعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها هي الدعوة إلى الله.
وأخرج ابن سعد في الطبقات بإسناده عن عثمان بن الأرقم أنه قال: ".. وكانت داره - أي الأرقم - بمكة على الصفا وهي الدار التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون فيها أول الإسلام وفيها دعا الناس إلى الإسلام وأسلم فيها قوم كثير (2) وأما من جاءت ترجمته من المدعوين أنه أسلم في دار الأرقم فمن أبرزهم:
- بنو أبي البكير بن عبد ياليل: فقد ذكرهم ابن سعد بقوله: «أسلم عاقل وعامر وإياس وخالد بنو أبي البكير بن عبد ياليل جميعا في دار الأرقم وهم أول من بايع رسول الله فيها (3) » .
- أم أبي بكر الصديق: هي سلمى بنت صخر قال ابن سعد: "أسلمت قديما في دار الأرقم بن أبي الأرقم وبايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وماتت مسلمة".
ذكره الحافظ الدمشقي وصاحب الصفوة وغيرهما.
- مصعب بن عمير جاء في ترجمته: أنه دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم وكتم إسلامه، وكان يختلف إلى رسول الله سرا (4) . وفي
__________
(1) الطبقات الكبرى 1 / 157
(2) المرجع السابق 3 / 243
(3) المرجع السابق 3 / 388 والاستيعاب 1 / 124
(4) صفة الصفوة - لابن الجوزي 1 / 390(82/274)
الاستيعاب: بلغه «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم فدخل وأسلم وكتم إسلامه خوفا من أمه وقومه وكان يختلف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرا» .
- طليب بن عمير ذكر ابن سعد والواقدي أنه "أسلم في دار الأرقم " (1) .
- عمار بن ياسر، وصهيب بن سنان: ورد في الطبقات «أن عمارا قال: لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم ورسول الله فيها فقلت: ما تريد؟ فقال لي: ما تريد أنت؟ فقلت: أردت أن أدخل على محمد فأسمع كلامه، قال: وأنا أريد ذلك، قال: فدخلنا عليه فعرض علينا الإسلام فأسلمنا (2) » .
ثانيا: التخطيط للدعوة:
ومن وظائف دار الأرقم أنها كانت ميدانا للتفكير في أحوال الدعوة وبحث سبل دعمها والحفاظ على مكتسباتها ولذلك ورد أن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يعز الله الإسلام ويؤيده بالأقوياء كان في هذه الدار فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب (3) » وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم أعز الإسلام بأحب
__________
(1) الطبقات الكبرى 1 / 123
(2) انظر: المرجع السابق 3 / 277
(3) أخرجه ابن ماجه بلفظ: ''اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة''، انظر السنن لابن ماجه المقدمة باب: فضل عمر بن الخطاب رقم 102 وقال الألباني: صحيح دون قوله ''خاصة''. انظر: صحيح السيرة النبوية، ط (الأولى، عام: 1421هـ، الناشر: المكتبة الإسلامية - الأردن) ص 193.(82/275)
هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب " قال: وكان أحبهما إليه عمر (1) » ، قد ورد أن تلك الدعوة كانت يوم الأربعاء وأسلم عمر يوم الخميس، ومما يشير إلى ذلك ما رواه أنس - رضي الله عنه - «أن عمر - رضي الله عنه - لما كان من شأنه مع أخته وزوجها سعيد بن زيد ما كان ورغب في الإسلام خرج إليه خباب، فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك.
فأصبح فغدا عمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم (2) » ، ودعيت دار الأرقم دار الإسلام (3) .
ولقد أعز الله الإسلام بعمر استجابة لدعائه، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر " (4) وقال: "كان إسلام عمر عزا، وهجرته نصرا، وإمارته رحمة. والله ما استطعنا أن نصلي حول البيت
__________
(1) أخرجه الإمام الترمذي في الجامع، ط (الأولى، عام: 1408هـ، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت) . رقم: 3764. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني. انظر: صحيح الترمذي 3 / 204 رقم 2907.
(2) أخرجه الترمذي في الجامع الصحيح، كتاب: المناقب، باب: مناقب عمر بن الخطاب، رقم الحديث: 3616 وقال الألباني: حسن صحيح في تحقيقه مشكاة المصابيح للتبريزي، ط (الثالثة، عام: 1405هـ، الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت) 3 / 316
(3) انظر: الطبقات الكبرى 3 / 243
(4) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب: المناقب، باب: مناقب عمر بن الخطاب، رقم الحديث: 3408.(82/276)
ظاهرين حتى أسلم عمر " (1) .
نعم، لقد كان إسلام الفاروق عمر - رضي الله عنه - فتحا وعزا للدعوة. قال ابن تيمية حول هذا المعنى: "وظهر من عز الإسلام في إمارته شرقا وغربا وفتح الشام والعراق ومصر، وكسر عساكر كسرى وقيصر، ما تحقق به إجابة الدعاء" (2) .
ثالثا: توثيق المدعوين صلتهم بالله تعالى وتعليمهم:
من أهم وظائف دار الأرقم أنها ملتقى يتيح للنبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - تعليم أصحابه - رضي الله عنهم - ما يقربهم إلى الله وأن يقيموا الصلاة فيها بطمأنينة ولذا كان سعيد بن زيد - رضي الله عنه - يقول: "استخفينا بالإسلام سنة، ما نصلي إلا في بيت مغلق - يشير إلى دار الأرقم - أو شعب خال ينظر بعضنا لبعض".
يقول توماس أرنولد: تعد الفترة التي قضاها محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الدار
__________
(1) المستدرك على الصحيحين - للحاكم، ط (الأولى، عام: 1411هـ، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت) 3 / 574
(2) انظر: الجواب الصحيح 6 / 312(82/277)
فترة مهمة في الدعوة الإسلامية بمكة، حتى إن كثير من المسلمين يؤرخون دخولهم في الإسلام بتلك الأيام التي كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبث فيها الدعوة بدار الأرقم لمن آمن به سرا حيث كان يعلمهم الإسلام، ويتلو عليهم ما أنزل من القرآن، ويستمع لأخبارهم، وينظر في أمر دعوتهم.
وهذا السياق إضافة إلى غيره من الأخبار يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - استمر مستخفيا هو وأصحابه في دار الأرقم والقيام فيها بما سبق ذكره من مهام ووظائف دعوية إلى أن أمر بإظهار الدعوة حيث أعلنها في السنة الرابعة.(82/278)
المطلب الثاني: وسائل وأساليب الدعوة في مرحلة الاستخفاء:
لا ريب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مخاطبا إبان تلك المرحلة بأن يبلغ الدعوة جهرا للناس، ولا أن يحتسب على المنكرات الشركية وغيرها في المجتمع الجاهلي، ولذا لم يستلزم الأمر اتخاذ وسائل كالخطابة، وإرسال الدعاة، وكتابة الرسائل.. كما هو الأمر أثناء الدعوة الجهرية، بل تبلورت الدعوة في هذه المرحلة بما يتطلبه حال الخفاء والاستسرار من جهة، ومن جهة أخرى فقد أمر عليه الصلاة والسلام بالصبر على الأذى وبالهجر الجميل، قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (1) ، كما أمر بهجر
__________
(1) سورة المزمل الآية 10(82/278)
الرجز، قال تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (1) : وهي الأصنام والأوثان.
وهذان الاتجاهان يدلان على أن استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة يقوم على ركيزة مهمة وهي ألا يلفت الأنظار إلى الدعوة، وألا يؤجج الخصوم ضدها، ولهذا انتهج مسلك الدعوة الفردية الذي كان الخيار الممكن له - صلى الله عليه وسلم - في ظل الأوضاع والظروف التي سادت مكة آنذاك. حيث مبناها على الاتصال القوي بين الداعي والمدعو، ومما يشير إلى ذلك اتصال النبي - صلى الله عليه وسلم - بأفراد من المدعوين الذين كانوا يقصدونه في دار الأرقم وقد مر ذكرهم، أو من كان يقصدهم هو - صلى الله عليه وسلم - «كخباب بن الأرت - رضي الله عنه - الذي كان قينا يطبع السيوف، ففي الخبر أن رسول - صلى الله عليه وسلم - كان يألفه ويأتيه ... (2) » .
وهي مهمة شاقة بحاجة إلى دقة في التعامل مع النفوس وصبر والتزام كبيرين ولا يقوم بحقها إلا من يسر الله له وفتح عليه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بها بنفسه في تلك المرحلة قدر استطاعته من خلال وسيلتين، وهما:
__________
(1) سورة المدثر الآية 5
(2) فأخبرت مولاة خباب بذلك، فكانت تأخذ الحديدة المحماة فتضعها على رأسه، فشكا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ''اللهم انصر خبابا''، فاشتكت مولاته أم أنمار رأسها، فكانت تعوي مثل الكلاب، فقيل لها: اكتوي، فكان خباب يأخذ الحديدة المحماة فيكوي بها رأسها.(82/279)
أولا: القدوة الحسنة:
من الواضح لكل متأمل ما كان عليه المصطفى من خلق كريم وسيرة نبيلة حتى كان لهذا الأمر تأثيره البين في استجابة المدعوين (السابقين) إلى الإسلام أمثال خديجة وعلي وزيد - رضي الله عنهم - وغيرهم ممن سبق، إذ كانت معرفتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قرب ومعاشرتهم له واطلاعهم على كريم خلقه وعظيم شخصيته الإنسانية كان له الأثر الواضح في تصديقهم فيما يدعو إليه وإيمانهم برسالته في مرحلة الاستخفاء، ولهذا لم يطالبوه بالمعجزة ولم يناقشوه بالدليل استنادا لاطمئنانهم التام بصدقه الذي لا يدع مجالا للشك، فهم لم يعهدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذبة واحدة طيلة معاشرتهم له، ولم يلحظوا على أخلاقه الكريمة ملحظا ذا ريبة.
وما يؤكد ذلك أن أبا طالب قال لعلي بعد أن أجابه على سؤال عن دينه الجديد الذي دعاه إليه محمد - صلى الله عليه وسلم -: أما إنه لا يدعوك إلا إلى خير فالزمه (1) .
ثانيا: القول المباشر:
وقد قدم الرسول الدعوة للأفراد بوسيلة القول المباشر، كما يتجلى ذلك في هذه الدراسة بأسلوب النصيحة، وهو أسلوب يتفرع من مسلك الدعوة الفردية باعتبار طبيعة الاستسرار التي تجمع بينهما، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الأسلوب في دعوته لعمه حينما قال له: ".. «وأنت يا عم أحق من
__________
(1) تاريخ الأمم والملوك - للإمام الطبري 1 / 539(82/280)
بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه (1) » .
__________
(1) تاريخ الأمم والملوك - للإمام الطبري 1 / 539(82/281)
المطلب الثالث: مضمون الدعوة في مرحلة الاستخفاء:
أولا: المضمون: من خلال تأمل دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرحلة الاستخفاء يتضح أنها ارتكزت على ثلاثة موضوعات وهي:
(1) التوحيد: من المعلوم أن دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أساسها تحقيق العبودية لله سبحانه إذ هي للغاية من خلق الجن والإنس قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) ، وتوحيد الألوهية هو المقصود الأعظم من بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام.
ولذا لما «سأله عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - عن مضامين دعوته بقوله: وبأي شيء أرسلك؟ قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء (2) » .
«ولما دعا عليا - رضي الله عنه - كانت دعوته بقوله: فأدعوك إلى الله وحده وإلى عبادته وكفر باللات والعزى (3) » .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وكان المقصود بالدعوة: وصول العباد
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: إسلام عمرو بن عبسة، رقم الحديث (832) .
(3) سيرة ابن إسحاق 2 / 118(82/281)
إلى ما خلقوا له من عبادة ربهم وحده لا شريك له، والعبادة أصلها عبادة القلب المستتبع للجوارح فإن القلب هو الملك والأعضاء جنوده. وهو المضغة التي إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد. وإنما ذلك بعلمه وحاله كان هذا الأصل الذي هو عبادة الله: بمعرفته ومحبته: هو أصل الدعوة في القرآن (1) .
(2) العبادة (الصلاة) : ومن أوائل ما نزل من الأحكام الأمر بالصلاة، قال ابن حجر: كان - صلى الله عليه وسلم - قبل الإسراء يصلي قطعا وكذلك أصحابه، ولكن اختلف: هل فرض شيء قبل الصلوات الخمس من الصلوات أم لا؟
فقيل: إن الفرض كانت صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها.
وذهب جماعة إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة إلا ما كان وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد. قال ابن حجر: والذي يظهر لي - وبه تجتمع الأدلة السابقة - أن الصلوات فرضت ليلة الإسراء، كان هو وخديجة يصليان سرا (2) .
وقد ذكر ابن هشام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا إذا حضرت الصلاة ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم وقد رأي أبو طالب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليا يصليان مرة.
وكان سعيد بن زيد يقول: "استخفينا بالإسلام سنة، ما نصلي إلا في
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، 2 / 6
(2) سيرة ابن إسحاق 2 / 117(82/282)
يبت مغلق - يشير إلى دار الأرقم - أو شعب خال ينظر بعضنا لبعض".
تلك هي العبادة التي أمر بها المؤمنون، ولا تعرف لهم عبادات وأوامر ونواه أخرى غير ما يتعلق بالصلاة، وإنما كان الوحي يبين لهم جوانب شتى من التوحيد، ويرغبهم في تزكية النفوس، ويحثهم على مكارم الأخلاق، ويصف لهم الجنة والنار كأنهما رأي عين، ويعظهم بمواعظ بليغة تشرح الصدور، وتغذي الأرواح.
(3) صلة الأرحام: ومما يدل على ذلك: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: «قال عمرو بن عبسة السلمي: "كنت - وأنا في الجاهلية - أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفيا جرآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: (أنا نبي) فقلت: وما نبي؟ قال: (أرسلني الله) ، فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: (أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء) قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: (حر وعبد) ، قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به، فقلت: إني متبعك، قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني.. (1) » .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: إسلام عمرو بن عبسة، رقم الحديث: 832(82/283)
(3) مكارم الأخلاق: من المعلوم أن دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - انطلقت من كونها تدعو إلى مكارم الأخلاق ولذا فقد جاء في الحديث: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (1) » ، «ولما بلغ أبا ذر مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأخيه اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله ثم رجع إلى أبي ذر - رضي الله عنه - فقال له: "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق (2) » .
وهذه المحاور العامة التي كانت مضامين للدعوة النبوية في مرحلة الاستخفاء نلحظ فيها شمولا حيث تم تناول موضوعات الدعوة (عقيدة وشريعة وسلوكا) ، وهي شعب اتسع تشريعها مع اتساع رقعة الإسلام وانتشاره في الآفاق.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رفعه ''إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق'' وأخرجه البزار من هذا الوجه بلفظ ''مكارم'' بدل ''صالح'' انظر: فتح الباري لابن حجر العسقلاني، 1 / 3295
(2) البخاري المناقب (3648) ، مسلم فضائل الصحابة (2474) .(82/284)
المطلب الرابع: أصناف المدعوين في مرحلة الاستخفاء:
نظرا لأن مرحلة الاستخفاء لها خاصيتها وطبيعتها فمن غير المستغرب أن يقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدعوة أولا على أقرب الناس إليه، ثم تتسع دائرة المدعوين شيئا فشيئا.. لتشمل عدة أصناف من المدعوين ولذا فبإحالة النظر فيمن دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الطور وباشر دعوتهم بنفسه يتضح أنهم(82/284)
على النحو الآتي:
أولا: دعوة النبي أهل بيته:
اتفق أهل الأثر وعلماء السير على أن أول الناس إيمانا به - صلى الله عليه وسلم - على الإطلاق خديجة - رضي الله تعالى عنها - كما نقله الثعلبي في تفسيره، وقال النووي: إنه الصواب عند جماعة من المحققين، ونقل ابن الأثير الإجماع على ذلك بقوله: خديجة أول خلق الله تعالى أسلم بإجماع المسلمين لم يتقدمها رجل ولا امرأة (1) .
ثم تلا خديجة - رضي الله عنها - بقية أهل بيته، قال الحافظ ابن كثير: إن أهل بيته - صلى الله عليه وسلم - آمنوا قبل كل أحد: خديجة، وزيد، وزوجة زيد أم أيمن، وعلي - رضي الله تعالى عنهم - (2) . أما بناته: رقية، وأم كلثوم، وزينب، وفاطمة - رضي الله عنهن - فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن (3) . وغالب الظن أنهن من أوائل المدعوات، ولذا قال الحلبي في سيرته: "إن بناته الأربع كن موجودات عند البعثة ويبعد تأخر إيمانهن" (4) .
• علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ذكر ابن إسحاق «أن علي بن أبي طالب جاء بعد إسلام خديجة بيومين فوجدهما يصليان، فقال علي: ما هذا يا محمد؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله فأدعوك إلى
__________
(1) انظر: السيرة الحلبية 1 / 432
(2) انظر: المرجع السابق 1 / 436
(3) انظر: المرجع السابق 1 / 436
(4) انظر: المرجع السابق 1 / 432(82/285)
الله وحده وإلى عبادته وكفر باللات والعزى، فقال له علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدث أبا طالب. فكره رسول الله أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره. فقال له: يا علي، إذا لم تسلم فاكتم، فمكث على تلك الليلة ثم إن الله أوقع في قلب علي الإسلام فأصبح غاديا إلى رسول الله حتى جاءه، فقال: ما عرضت علي يا محمد؟ فقال له رسول الله: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتكفر باللات والعزى وتبرأ من الأنداد. ففعل علي وأسلم، ومكث علي يأتيه على خوف من أبي طالب وكتم علي إسلامه (1) » وأسلم وهو ابن عشر سنين (2) .
وروى ابن جرير بسنده «عن يحيى بن عفيف قال: جئت زمن الجاهلية إلى مكة فنزلت على العباس بن عبد المطلب فلما طلعت الشمس وحلقت في السماء وأنا أنظر إلى الكعبة أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فقام مستقبلها فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب فركع الغلام والمرأة فرفع الشاب فرفع الغلام والمرأة فخر الشاب ساجدا فسجدا معه.
فقلت: يا عباس، أمر عظيم! فقال: أمر عظيم! فقال: أتدري من هذا؟ فقلت: لا، فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي.
__________
(1) انظر: سيرة ابن إسحاق 2 / 118
(2) انظر: سيرة ابن إسحاق 2 / 118 وفتح الباري لا بن حجر، 7 / 174(82/286)
أتدري من الغلام؟ قلت: لا، قال: هذا علي بن أبي طالب. أتدري من هذه المرأة التي خلفهما؟ قلت: لا، قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي وهذا حدثني أن ربك رب السماء والأرض أمره بهذا الذي تراهم عليه، وايم الله ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة» .
• زيد بن حارثة وزوجته أم أيمن: مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ابن حجر: "وهو من بني كلب أسر في الجاهلية فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة فاستوهبه النبي - صلى الله عليه وسلم - منها".
وتزوج زيد بن حارثة: أم أيمن، وكانت حاضنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورثها من أبيه فولدت له أسامة بن زيد وعاشت أم أيمن بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - قليلا.
قال الحافظ ابن كثير: الظاهر أن أهل بيته - صلى الله عليه وسلم - آمنوا قبل كل أحد: خديجة، وزيد، وزوجة زيد أم أيمن، وعلي رضي الله تعالى عنهم (1) .
• عمه أبو طالب: وذكر محمد بن إسحاق «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من عمه أبي طالب وجميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان، فقال لرسول الله: يا ابن أخي ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: أي عم، هذا دين الله ودين ملائكته
__________
(1) انظر: السيرة الحلبية 436(82/287)
ودين رسله ودين أبينا إبراهيم - أو كما قال - بعثني الله به رسولا إلى العباد، وأنت يا عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه - أو كما قال - فقال أبو طالب: يا ابن أخي إني لا أستطيع أن أفارق ديني ودين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما حييت (1) » .
ثانيا: دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحبه:
من المعلوم أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان صديق النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بذل الدعوة له في أول الأمر، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «خرج أبو بكر يريد رسول الله وكان له صديقا في الجاهلية فلقيه، فقال: يا أبا القاسم فقدت من مجالس قومك واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها، فقال رسول الله: إني رسول الله أدعوك إلى الله، فلما فرغ كلامه أسلم أبو بكر - رضي الله عنه - فانطلق عنه رسول الله وما بين الأخشبين أحد أكثر سرورا منه بإسلام أبي بكر (2) » .
ثالثا: دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن توسم فيه الخير:
كما دعا رسول الهدى في مدة استخفائه من توسم فيه الخير، سواء ممن عرفهم أو ممن لم يعرفهم، فأجابه من هؤلاء جمع عرفوا في التاريخ
__________
(1) انظر: تاريخ الأمم والملوك - للإمام الطبري 1 / 539
(2) انظر: حديث خيثمة بن سليمان بن حيدرة أبي الحسن الأطرابلسي، ط (الأولى، عام: 1400هـ، الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت) ت: د. عمر عبد السلام تدمري ص 25.(82/288)
الإسلامي بالسابقين الأولين، ومنهم:
• عمرو بن عبسة السلمي: قال عمرو بن عبسة - رضي الله عنه -: (لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام) (1) .
ودعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - له تتضح من خلال ما رواه أبو أمامة - رضي الله عنه - قال: «قال عمرو بن عبسة السلمي: (كنت - وأنا في الجاهلية - أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفيا، جرآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: ما أنت؟ قال: (أنا نبي) فقلت: ما نبي؟ قال: (أرسلني الله) ، فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: (أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء) قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: (حر وعبد) ، قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به، فقلت: إني متبعك، قال: (إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني) (2) » .
قال الإمام النووي: معناه: "إني متبعك على إظهار الإسلام هنا، وإقامتي معك، فقال له: لا تستطيع ذلك لضعف شوكة المسلمين ونخاف
__________
(1) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي
(2) أخرجه مسلم كتاب: صلاة المسافرين، باب: إسلام عمرو بن عبسة، رقم الحديث: 1374(82/289)
عليك من أذى كفار قريش، ولكن قد حصل أجرك فابق على إسلامك، وارجع إلى قومك واستمر على الإسلام في موضعك حتى تعلمني ظهرت فأتني، وفيه معجزة للنبوة وهي إعلامه بأنه سيظهر" (1) .
• أبو ذر الغفاري: ساق الحافظ البيهقي بإسناده «عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: "كنت ربع الإسلام أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع أتيت رسول الله فقلت: السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله (2) » .
ودعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - له تتضح من خلال ما رواه ابن عباس - رضي الله عنه - بقوله: «ألا أخبركم بإسلام أبي ذر قال: قلنا: بلي، قال: قال أبو ذر: كنت رجلا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل كلمه وأتني بخبره، فانطلق فلقيه ثم رجع، فقلت: ما عندك؟ فقال: والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير، وينهى عن الشر، فقلت له: لم تشفني من الخبر فأخذت جرابا وعصا ثم أقبلت إلى مكة فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد، قال: فمر بي علي، فقال: كأن الرجل غريب، قال: قلت: نعم، قال: فانطلق إلى المنزل، قال: فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره، فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه وليس أحد يخبرني عنه بشيء، قال: فمر بي علي، فقال: أما آن للرجل
__________
(1) شرح صحيح مسلم - للإمام النووي 1 / 1374
(2) البداية والنهاية 3 / 34(82/290)
يعرف منزله بعد، قال: قلت: لا، قال: انطلق معي، قال: فقال: ما أمرك وما أقدمك هذه البلدة، قال: قلت له: إن كتمت علي أخبرتك، قال: فإني أفعل، قال: قلت له: بلغنا أنه قد خرج هاهنا رجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر فأردت أن ألقاه، فقال له: أما إنك قد رشدت هذا وجهي إليه فاتبعني، ادخل حيث أدخل فإني إن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وامض أنت فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت له: اعرض علي الإسلام، فعرضه فأسلمت مكاني، فقال لي: " يا أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك فإذا بلغك ظهورنا فأقبل (1) » .
• عبد الله بن مسعود: قال في الاستيعاب: إن إسلامه كان قديما في أول الإسلام (2) .
ودعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - له تتضح من خلال قوله: «كنت أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط، فمر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، فقال: يا غلام هل من لبن؟
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المناقب، باب: قصة زمزم، رقم الحديث: 3261، ط (الأولى، عام: 1417هـ، الناشر: دار السلام - الرياض) رقم الحديث: 3261. ومسلم كلاهما من حديث ابن عباس. وأخرج مسلم وحده رواية عبد الله بن الصامت وبينهما تعارض. ويرى القرطبي أن الجمع فيه تكلف شديد والقاعدة أن الأصح ما اتفق عليه البخاري ومسلم ولذا يلزم عند التعارض اعتماد رواية ابن عباس. انظر: السيرة النبوية الصحيحة - أكرم ضياء العمري، ط (السادسة، عام: 1426هـ، الناشر: مكتبة العبيكان - الرياض) ص 144
(2) الاستيعاب 1 / 302(82/291)
قال: قلت: نعم، ولكني مؤتمن، قال: فهل من شاة لم ينز عليها الفحل؟ فأتيته بشاة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في إناء فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: اقلص، فقلص ".
قال: ثم أتيته بعد هذا، فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول، قال: فمسح رأسي، وقال: يرحمك الله، فإنك غليم معلم (1) » .
• أم أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: عن عائشة قالت: «لما اجتمع أصحاب النبي وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألح أبو بكر على رسول الله في الظهور، فقال: يا أبا بكر إنا قليل، فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله جالس، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين فضربوا في نواحي المسجد ووطئ أبو بكر بالأرجل وضرب ضربا شديدا ودنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه وجاء بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد، وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر فتكلم آخر النهار: فقال: ما فعل رسول الله؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه ثم قاموا وقالوا لأمه
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 1 / 462 وابن سعد في الطبقات 3 / 150. وحسن إسناده الألباني. انظر: صحيح السيرة النبوية 124(82/292)
أم الخير: انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله، فقالت: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك، قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح.. قال: فما فعل رسول الله؟ قالت: هذه أمك تسمع. قال: فلا شيء عليك منها. قالت: سالم صالح، قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم. قال: فإن لله علي ألا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله، قال: فأكب عليه رسول الله فقبله وأكب عليه المسلمون ورق له رسول الله رقة شديدة. فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي. وهذه أمي برة بوالدها وأنت مبارك ادعها إلى الله، وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار، قال: فدعا لها رسول الله ودعاها إلى الله فأسلمت (1) » .
* مصعب بن عمير - رضي الله عنه -: ودعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - تبدو من خلال ما ذكره الواقدي بقوله: «إن مصعب بن عمير بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى
__________
(1) انظر: البداية والنهاية 3 / 25(82/293)
الإسلام في دار الأرقم؛ فدخل وأسلم وكتم إسلامه خوفا من أمه وقومه، وكان يختلف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – سرا، فبصر به عثمان بن طلحة يصلي فأخبر به قومه، فأخذوه فحبسوه فلم يزل محبوسا إلى أن خرج إلى أرض الحبشة في أول من هاجر إليها (1) » .
* عمار بن ياسر: قال ابن حجر: "وكان عمار من السابقين الأولين" (2) .
ومما يشير إلى ذلك قوله: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر (3) » .
* صهيب - رضي الله عنه -: ذكر سعد أن أباه كان عاملا لكسرى، فسبت الروم صهيبا لما غزت أهل فارس فابتاعه منهم عبد الله بن جدعان، وقيل: بل هرب من الروم إلى مكة، فحالف ابن جدعان (4) .
ودعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما تتضح من خلال ما ساقه ابن سعد بإسناده «أن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: لقيت صهيب بن سنان - رضي الله عنه - على باب دار الأرقم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، فقلت: ما تريد؟ فقال لي: ما تريد أنت؟ فقلت: أردت أن أدخل على محمد فأسمع كلامه. قال: وأنا أريد ذلك. قال:
__________
(1) انظر: الاستيعاب 1 / 464
(2) فتح الباري 7 / 91.
(3) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب: إسلام أبي بكر الصديق، رقم الحديث: 3568، قال الذهبي: ولم يذكر عليا لأنه كان صغيرا ابن عشر سنين.
(4) فتح الباري 4 / 412.(82/294)
فدخلنا عليه فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، ثم مكثنا يومنا على ذلك حتى أمسينا، ثم خرجنا ونحن مستخفون فكان إسلام» عمار وصهيب بعد بضعة وثلاثين رجلا (1) .
__________
(1) الطبقات الكبرى 3 / 227.(82/295)
المبحث الثالث: مفهوم الاستخفاء في دعوة النبي وسماتها:
بعد أن استعرضنا بعضا من معالم دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرحلة الاستخفاء من خلال إلقاء الضوء على ميدان الدعوة: الوسائل والأساليب المناسبة التي اتخذها، وكذلك أصناف المدعوين الذين قدم لهم الدعوة؛ ينساق الحديث هنا إلى تبيان أمر دقيق وهو طبيعة الاستخفاء ومفهومه في مضمار الدعوة إلى الله.
وبالنظر إلى كتابات بعض المعاصرين حول موضوع الاستخفاء نجد أن هناك تنوعا في التسمية حيث أطلق عليها: (الاستسرار) ، و "الاستخفاء"، و "الكتمان" وكلها ذات مدلول واحد.. وعلى أي حال إذا تجاوزنا حدود المصطلح الذي يتفق العلماء على أنه لا مشاحة في الاصطلاح إلى المعاني والحقائق التي تشتمل عليه الألفاظ نجد هناك عدة آراء في بيان طبيعة الاستخفاء ومفهومه، فمن مفهوم يميل لتوسيع دائرة استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة، إلى مفهوم يميل لتضييق تلك الدائرة، ومن مفهوم هو بينهما.
وذلك حسب ما يعتمد عليه كل مفهوم من أحداث تؤيد ما يذهب إليه (1) ،
__________
(1) انظر: دراسة في السيرة، للدكتور عماد الدين خليل ص\64، وانظر: السيرة الحلبية 1\ 319.(82/295)
كما سيتضح في المطلبين التاليين:
المطلب الأول: آراء بعض المعاصرين حول مفهوم استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة ومناقشتها:
الفرع الأول: آراء بعض المعاصرين حول مفهوم استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة:
يمكن حصر اتجاهات المعاصرين التي تسعى إلى تفسير الاستخفاء وبيان مفهوم في ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكث في هذا الطور يدعو إلى الله سرا من يأنس به من الأقارب والأصحاب، ولا يجهر على الملأ بالدعوة إلى الدين الجديد. بمعنى أن مدلول السر والاستخفاء في الدعوة الإسلامية يشمل سرية الدعوة نفسها، وسرية ممارسة ما أتت به الدعوة من شعائر.
الاتجاه الثاني: يتمثل فيما ذكره الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه: (خاتم النبيين) الذي جاء فيه: "وقد يقول الرواة إن الاستخفاء كان نحو ثلاث سنوات، كانوا يستخفون بها في العبادة. وقالوا: إنها كانت في دار الأرقم بن أبي الأرقم، ولكن يجب أن نعلم أن الاستخفاء في هذه الفترة ليس الاستخفاء بالدعوة، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلن ما جاء به من نذير، وما في جعبته من تبشير، ولكن الذي يستخفي به هو إقامة العبادة التي دعا إليها رب العالمين، ولذلك كان اضطهاد المؤمنين من الضعفاء، واضطهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يسلم حمزة وعمر ".(82/296)
أي: إن مدلول الاستخفاء في الدعوة حسب هذا المفهوم هو الاستخفاء بشعائر العبادة فقط، أي لا استخفاء في الدعوة نفسها.
الاتجاه الثالث: يتمثل فيما ذكره صاحب كتاب (الدولة الإسلامية) فقد جاء فيه ما نصه: "كان أمر الدعوة الإسلامية ظاهرا من أول يوم بعث به - صلى الله عليه وسلم - وكان في مكة يعرفون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يدعو لدين جديد، ويعرفون أنه أسلم معه كثيرون، ويعرفون أن محمدا يكتل أصحابه، ويسهر عليهم ويعرفون أن المسلمين يستخفون عن الناس في تكتلهم، وفي اعتناقهم الدين الجديد، وكانت هذه المعرفة تشعر أن الناس كانوا يحسون بالدعوة الجديدة، ويحسون بوجود مؤمنين بها، وإن كانوا لا يعرفون أين يجتمعون، ومن هم هؤلاء الذين يجتمعون من المؤمنين".
أي: إن مدلول الاستخفاء في الدعوة حسب هذا المفهوم هو إخفاء المدعوين ممن استجابوا للدعوة، وإخفاء المكان والزمان اللذين يجتمع فيهما المدعوون، مع الحرص في الوقت نفسه على إظهار الدعوة إلى الدين على الملأ.
الفرع الثاني: مناقشة الآراء السابقة:
تناولت الاتجاهات آنفة الذكر استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة في محاولة لوضع إطار عام يتحدد من خلال مفهوم الاستخفاء وينحصر فيه، وفي نظري أن الاتجاه الأول الذي مفاده أن استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتمل على سرية(82/297)
الدعوة وسرية ممارسة العبادة، هكذا بإطلاق؛ غير صحيح، حيث إن السرية لم تكن سرية مطلقة في كافة جوانبها، بل المتأمل للدعوة يتضح له أنها كانت تلوح وتخفى، وهي بعبارة أخرى سرية ذات انفتاح ومرونة، ولهذا سمح النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبر الدعوة أن يتسرب ويشتهر في مكة عن قصد في تلك المرحلة حتى نمى أمره عليه السلام إلى من كان خارج مكة كعمرو بن عبسة وأبي ذر الغفاري، بل طلب ممن استجاب للدعوة أن يبلغ من وراءه وكان هذا في أوائل الدعوة.. ولهذا فإن هذه الرؤية لاستخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة تحتاج إلى مزيد من الإيضاح في ضوء ما ذكر.
وأما الاتجاه الثاني الذي يقرر أن الاستسرار كان خاصا بإقامة العبادة، وأن الدعوة لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يستخفي في أمرها وأنها كانت معلنة، فهذا فيه نظر باعتبار دلالة النصوص التي تفيد العموم فعندما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا ذر بالكتمان بقوله: «يا أبا ذر اكتم هذا الأمر (1) » فذلك يعم الأمرين معا الدعوة والعبادة، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعلي – رضي الله عنه -: «يا علي إذا لم تسلم فاكتم» واتخاذه دارا في سبيل الخفاء والتي كان من وظائفها إقامة العبادة والدعوة إلى الله يفيد هذا المعنى، فقد أخرج ابن سعد في الطبقات بإسناده عن عثمان بن الأرقم أنه قال: أنا ابن سبعة في الإسلام أسلم أبي سابع سبعة وكانت داره بمكة على الصفا وهي الدار التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون فيها أول الإسلام وفيها دعا الناس إلى الإسلام وأسلم فيها قوم كثير (2) ،
__________
(1) البخاري المناقب (3328) ، مسلم فضائل الصحابة (2474) .
(2) الطبقات: 3 / 243(82/298)
وبهذا يتبين أن حصر الاستخفاء بالعبادة غير دقيق بل الاستخفاء يضم الأمرين معا لكنه استخفاء غير مطلق كما سيتضح.
بينما تضمن الاتجاه الثالث أن الدعوة أمرها اشتهر من أول يوم البعثة وأن صيتها قد ذاع في مكة فهذا غير دقيق ولو كان كما قيل لما كان في استخفائه بالدعوة واستسراره بها عن الناس ثلاث سنين أي فائدة والنصوص التي تشير إلى مرحلة الاستخفاء والمتضمنة حرصه على كتمان الدعوة التي سبق بيانها ترد هذا الاتجاه لمن تأمل.
وبما أن الاتجاهات المشار إليها تحتاج إلى مزيد ضبط وتصويب يمكن أن نقول: إن استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة الذي استمر ثلاث سنين يتبلور في أن الدعوة بادئ أمرها كان الاستتار أبلغ ما يكون ومع استجابة المدعوين الأقرب فالأقرب أخذت الدعوة تنفتح للمجتمع على نحو متدرج، مع السماح لخبرها أن يتسرب في مكة وأوديتها وشعابها، بل حتى إلى خارج مكة إذا ما رئيت المصلحة. واتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - دارا غير معلنة لإقامة العبادة والدعوة إلى الله معا بعد أن حصلت مجابهات للمستجيبين من قبل الخصوم والأمر على ما ذكر. وبهذا المفهوم للاستخفاء الذي يتماشي مع النصوص والأحداث دخل الناس في دين الله حتى تمكنت الدعوة وانتشر أمرها.(82/299)
المطلب الثاني: سمات الاستخفاء في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -:
وفي ضوء ما سبق من هذا البيان المجمل لمفهوم استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يمكن عرض أبرز سمات الاستخفاء كما سيأتي:
المحور الأول: السمات العامة: هذا المحور يتناول سمات مرحلة(82/299)
الاستخفاء العامة وبيان ذلك من خلال الفرعين التاليين:
الفرع الأول: الهدف العام من الاستخفاء:
إن الهدف العام من استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إنما كان يدور حول محور سلامة الدعوة الإسلامية من أن تجهض في مهدها، مع السماح بإظهار الدعوة، بل عموم تلك المواقف تشير إلى أن الاستسرار بالدعوة هو في الحقيقة حرص على سيرها مطردا وهادئا تسير إلى القلوب بخطى ثابتة حتى تتمكن من الإعلام عن نفسها في الوقت المناسب بعد أن يؤمن بها عدد من الناس، وكانت الدعوة تنساب إلى النفوس الطيبة التي هيأها الله تعالى لهذا الأمر.
الفرع الثاني: التدرج في إعلان الدعوة: إعلان الدعوة جاء متماشيا مع الأحداث متدرجا مع المواقف وفق ما تقتضيه مصلحة الإعلان بصورة لا تلفت الأنظار إليها. «قال الإمام الزهري رحمه الله: "دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام سرا وجهرا فاستجاب لله من شاء من أحداث الرجال، وضعفاء الناس، حتى كثر من آمن به، وكفار قريش غير منكرين لما يقول (1) » .
قال الماوردي: "ثم تتابع الناس في الإسلام ورسول الله على استسراره وإن انتشرت دعوته في قريش ".
__________
(1) الطبقات الكبرى 1 / 199.(82/300)
وقال ابن قيم الجوزية: "ودخل الناس واحدا واحدا في الإسلام وقريش لا تنكر ذلك" (1) .
وقال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من النساء والرجال.. حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به.. ولما أسلم هؤلاء النفر وظهر أمرهم بمكة أعظمت ذلك قريش وغضبت له (2) .
قال ابن هشام: فأمر الله رسوله أن يصدع بما جاءه من الحق، وأن يبادي الناس بأمره وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله أمره واستتر به إلى أن أمره الله بإظهار دينه ثلاث سنين من مبعثه، ثم قال الله له {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (3) وقال له: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (4) (5) .
المحور الثاني: السمات الخاصة:
وهذا المحور يتناول سمات مرحلة الاستخفاء التي تتصل بأسس الدعوة وبيان ذلك من خلال الفروع التالية:
الفرع الأول: المدعوون:
- الاستخفاء غلب على من كان يخشى على نفسه: مما يجلي استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة فيما يتصل بالمدعوين - أن غالبهم ممن يخشى على نفسه
__________
(1) زاد المعاد - لابن قيم الجوزية، 2 / 47.
(2) انظر: سيرة ابن إسحاق 2 / 97.
(3) سورة الحجر الآية 94
(4) سورة الشعراء الآية 214
(5) السيرة النبوية، لابن هشام 1\ 249.(82/301)
إشهار إسلامه كان له أن يخفي ذلك، وألا يعلنه وهذا يتيح له الأمن على نفسه. وأما من لم يكن يخشى على نفسه إما لعزته وقوته، وإما لوجود منعة تحميه، فإنه كان لا يبالي بأن يشهر إسلامه. فقد أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: «أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد. فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس ... (1) » .
ولذا كان إخفاء المدعو عن نفسه بأنه دخل في الإسلام، أو إعلان ذلك إبان مرحلة الاستخفاء إنما كان يرجع إلى المدعو نفسه الذي هو عادة أدرى بخاصة نفسه.
- استخفاء المدعو كان باختياره: لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر المدعو بأن يخفي أو يعلن أمر إسلامه على وجه الإلزام وهذا يتضح من قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر - رضي الله عنه -: «اكتم هذا الأمر (2) » . وقد فهم أبو ذر - رضي الله عنه - أن مبعث هذا الأمر هو الحذر من أن يناله مكروه من كفار قريش إذا علموا بإسلامه، وهو الغريب عن مكة، وليس له فيها من يحميه بدليل ما جاء في الرواية الثانية التي أوردها البخاري أيضا لهذه القصة، فقد جاء ما نصه فيها: «ارجع إلى قومك، فأخبرهم، حتى يأتيك أمري (3) » . فالإخبار هنا صدر بصيغة الأمر، وهو يشمل إخبار قومه " قبلية غفار " بأمر الدعوة، وبأمر إسلامه..
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن
(2) البخاري المناقب (3328) ، مسلم فضائل الصحابة (2474) .
(3) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، رقم الحديث: 3861(82/302)
ومن هنا كان فهم أبي ذر أن الأمر بكتمان إسلامه في مكة إنما هو لمجرد الشفقة عليه، وليس أمر إلزام، ولذا لم يجد حرجا أن يعلن للرسول - صلى الله عليه وسلم - عن عزمه على إظهار إسلامه على الملأ من قريش، قال ابن حجر: "وكأنه فهم أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالكتمان ليس على الإيجاب بل على سبيل الشفقة عليه، فأعلمه أن به قوة على ذلك، ولهذا أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك" (1) . فعمد أبو ذر - رضي الله عنه - إلى المكان الذي تنتصب فيه آلهة قريش، وقريش تحت أقدام تلك الآلهة المزعومة، ورفع كلمة التوحيد.
- أما في جانب العبادة التي يقوم بها المدعو في هذه المرحلة: فلا ريب أنها كانت تحت طائلة عقوبة قريش إن كانت على جهة الإعلان والتحدي لعقيدة الشرك السائدة في مكة. ولهذا كانت غالبا ما تؤدى في السر كما تقدم.
__________
(1) فتح الباري 7 / 174(82/303)
ومما يتصل بهذا الجانب أن الدعوة إلى الله في طورها السري كانت تسير ببطء وتؤدة، إذ رأينا أن الذين تمت دعوتهم هم عدد قليل جدا مقارنة بالمدة الزمنية للمرحلة التي استمرت قرابة ثلاث سنوات. رغبة في التركيز والاختيار البصير للمدعوين الذين يكونون أكثر قدرة على تحمل مسئولية الإيمان وهو فعلا ما تحقق فيما بعد، فقد كان كل واحد من المدعوين لديه قدرة على تحمل الضغوط الوثنية القاسية التي تفتن المرء عن دينه إلا أن يشاء الله.
- الدعوة اتسمت بالشمول فيما يتعلق بالمدعوين: رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ انطلاقتها في هذه المرحلة إلى ختامها اتسمت بخاصية الشمول، فمع أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو أقرباءه اللصيقين به ومن كان يأنس فيه الاستعداد لقبول هذه الدعوة من غير الأقارب على ضوء ما سبق، إلا أن ذلك لم يخص فئة دون أخرى بل شمل الجميع، كما يتضح من التصنيف الآتي للمستجيبين، وهم:
- الضعفاء: كان من المدعوين صهيب الرومي وبلال الحبشي وهما من أوائل من دخل في الدين الذي لا يفرق بين عربي وأعجمي ولا فضل فيه لأحد إلا بالتقوى، وهذا يدل على أن دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - تتسم بخاصية الشمول حتى وهي في طور الاستسرار.
- الأقوياء: كما أن دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه المرحلة شملت الأغنياء(82/304)
والأقوياء والأشراف كأبي طالب من وجهاء قريش الذي لم يسلم وأبي بكر العزيز في قومه مالا ونسبا وعلما ومن استجاب له وهذا لا ينفي وجود الضعفاء أو الأرقاء في الصف الأول، ولكن الذي ننفيه أن يكونوا هم الغالبية كما يقرره كثير من الكتاب، لأن هذا مخالف للحقائق الثابتة، ولو كانوا كذلك لكانت الدعوة في تلك المرحلة طبقية يقوم فيها الضعفاء والأرقاء ضد الأقوياء وأصحاب النفوذ وهذا لم يحدث. وإنما انتشر أمرهم - أعني الضعفاء - لأن تعذيبهم كان على الملأ ومن قبل الجميع، بينما امتنع الأقوياء بأقوامهم، فمنهم من عذب ضمن قبيلته، ومنهم من كان مفتونا في أهله إكراما له ولهذا انتشر خبر إسلامهم وخفي خبر إسلام الأقوياء في بادئ الأمر. وإنه لمن القوة للدعوة أن يكون غالبية أتباعها في مرحلة الاستخفاء بالذات من كرام القوم الذين آثروا في سبيل عقيدتهم أن يتحملوا أصنافا من الهوان والعذاب ما سبق لهم أن عانوا مثلها.
ولا ريب أن سبق بعض الأرقاء والضعفاء إلى اعتناقه منذ الأيام الأولى هو دليل على شمولية الدعوة في مرحلة الاستسرار، ولو كانت ثمة إحصاءات لسكان أهل مكة يومئذ لوجدنا أن نسبة المدعوين الضعفاء الذين أسلموا إلى الضعفاء الذين لم يسلموا ليست بأكثر من نسبة الأشراف الذين أسلموا إلى غيرهم من أقوامهم ممن لم يسلم.(82/305)
- الدعوة اتسمت بالعالمية فيما يتعلق بالمدعوين: كما أن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ انطلاقتها في هذه المرحلة إلى ختامها اتسمت أيضا بخاصية العالمية على قدر الوسع، ففي مكة كانت الدعوة تسير بتؤدة وبخطى واثقة، كما كان يتطلع - صلى الله عليه وسلم - في تلك المرحلة إلى نشر الدعوة في خارج مكة وبدا هذا واضحا في قصة إسلام أبي ذر بقوله «ارجع إلى قومك فأخبرهم، حتى يأتيك أمري (1) » . ومما يشير إلى ذلك أيضا أن دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرحلة الاستخفاء لم تأخذ النمط القبلي والعشائري مع أن المجتمع المكي - شأن سائر الجزيرة العربية - يعتمد في تنظيمه على القبيلة التي تغرس في نفوس أبنائها مبدأ التناصر والتآزر (2) .
وهذا الانفتاح المتوازن الذي أشرت إليه بالعالمية يدل عليه بصورة واضحة التطبيق العملي، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - دعا أبا بكر وهو من تميم، وعلي بن أبي طالب من بني هاشم، ومصعب بن عمير من بني عبد الدار، وعبد الله بن مسعود من هذيل، وعمار بن ياسر من عنس، وزيد بن حارثة من كلب، وأبا ذر من غفار، وعمرو بن عبسة من سليم - رضي الله عنهم -، لقد كانت العالمية واضحة حتى في مرحلة الاستخفاء (3) .
- المدعو من مهامه القيام بالدعوة: إن استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة لم يمنع المدعوين من القيام بدعوة غيرهم رغم سرية المرحلة؛ لأن الغاية هي
__________
(1) البخاري المناقب (3648) ، مسلم فضائل الصحابة (2474) .
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة – أكرم ضياء العمري 1\ 133.
(3) انظر: المرجع السابق 1 / 133.(82/306)
إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ولأجل هذه الغاية قام أبو بكر بعد استجابته بدعوة معارفه إلى الإسلام، وكان رجلا مآلفا محببا سهلا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه؛ لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو من يثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعوته عدد من الرعيل الأول وطليعة الإسلام، خمسة من العشرة المبشرين بالجنة، وهم: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وزاد بعضهم سادسا وهو أبو عبيدة بن الجراح (1) .
الفرع الثاني: ميدان الدعوة:
ومن السمات الخاصة لمرحلة الاستخفاء التي تتصل بأسس الدعوة ما ينم عنه ميدان الدعوة (دار الأرقم) الذي اتخذه - صلى الله عليه وسلم - حينما تعرض عدد ممن استجابوا له للأذى، حيث بقي هذا الميدان الدعوي في الخفاء طيلة تلك المرحلة، ومما يدل على ذلك ثلاثة مواقف:
الأول: موقف علي مع أبي ذر رضي الله عنهما حين أراد أخذه إلى دار الأرقم لمقابلة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمتضمن إخباره بعدد من الاحتياطيات التي توحي بسرية المكان آنذاك وهو ما يشير إليه قوله: "هذا وجهي إليه فاتبعني، ادخل حيث أدخل، فإني إن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي، وامض.. " (2) .
__________
(1) انظر: السيرة الحلبية 1 / 449.
(2) سبق تخريجه.(82/307)
وسياق هذه القصة كاملة في صحيح البخاري يوحي بجو الاستخفاء الذي كانت تعيشه الدعوة آنذاك، وتتجلى فيه سرية المقر الذي كان يقيم فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث يلتقي فيه بأصحابه، وبمن يريد مقابلته لبيان الدعوة الإسلامية التي يدعو إليها.
الثاني: موقف أم جميل مع أبي بكر - رضي الله عنه -: عندما أخذت أم جميل وأم الخير أبا بكر إلى دار الأرقم بعد أن آذاه المشركون، فقد جاء في الرواية: ": «فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجتا به، يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله (1) » .
الثالث: موقف إسلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث ورد في سياق القصة أنه جاء إلى بيت أخته فاطمة، وزوجها سعيد بن زيد ففوجئ بأن هذا البيت هو مكان من الأمكنة التي تعقد فيها حلقات تعليم الدين التي كان يقوم عليها خباب بن الأرت - رضي الله عنه - ثم لما وقع في قلبه الإسلام، قال لخباب: "دلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم، فقال خباب: هو في بيت عند الصفا معه فيه نفر من أصحابه". مع أنه كان متوشحا سيفه يريد الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون أن يدري أين المكان الذي اتخذه عليه الصلاة والسلام مقرا للدعوة (2) .
__________
(1) البداية والنهاية - للحافظ ابن كثير 3 / 30
(2) انظر: البداية والنهاية - للحافظ ابن كثير، 3 / 80 والجهاد والقتال في الإسلام - د. محمد خير هيكل.(82/308)
واتخاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم تحديدا ميدانا للدعوة لأنه أبلغ في الاستخفاء وذلك لأمور تتضح في جانبين:
الأول: ما يتعلق بصاحب الدار: وهو الأرقم بن أبي الأرقم بن الأسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم - رضي الله عنه - وأبرزها ثلاثة أمور:
1. من المعلوم أن الأرقم - رضي الله عنه - لم يكن معروفا بإسلامه بادئ الأمر، فما كان يخطر ببال قريش أن يتم لقاء محمد وأصحابه في داره.
2. أن الأرقم بن أبي الأرقم - رضي الله عنه - كان فتى عند إسلامه في حدود السادسة عشرة من عمره، ولهذا فإن الأذهان تنصرف عادة إلى منازل كبار أصحابه، أو بيته هو نفسه عليه الصلاة والسلام.
3. قبيلة الأرقم بن أبي الأرقم - رضي الله عنه - هم بنو مخزوم، وقبيلة بني مخزوم هي التي تحمل لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم التي ينتسب إليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، لذا يستبعد أن يختفي في قلب صفوف العدو.
الثاني: ما يتعلق بمكان الدار:
1 – كانت دار الأرقم تقع على جبل الصفا بمكة (1) وهي منطقة تكتظ
__________
(1) الطبقات 3 / 243(82/309)
بالمارة، وتشتد فيها الحركة بصورة طبيعية مما يصعب معه إدراك وجود حركة خاصة بأناس تجتمع في هذه الدار وتنفض منها.
2 – أن عملية الوصول إليها رغم سريتها لا يحتاج إلى كلفة أو مشقة.
الفرع الثالث: وسائل الدعوة وأساليبها:
من المعلوم أن الاستخفاء بالدعوة يتطلب اتخاذ وسائل وأساليب تتلاءم مع مقتضيات هذا الظرف، لذا كانت الوسائل التي اتخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - محدودة جدا، حيث اقتصرت على وسيلتي القدوة الحسنة، والقول المباشر من خلال مسلك الدعوة الفردية.
لذا يمكن القول: إن الوسائل والأساليب في تلك المرحلة لم تكن أمورا ذات صبغة خاصة أو لها ما يميزها عن وسائل الدعوة وأساليبها في المرحلة الجهرية اللهم إلا من حيث الاقتصار على ما يناسب الاستسرار والاستخفاء، ولهذا لما انطلقت الدعوة إلى الجهرية اتسعت وسائلها تبعا لذلك.
الفرع الرابع: مضمون الدعوة:
بالنظر إلى مضامين الدعوة في حال الاستخفاء نجد أنها تمحورت في الأصل على موضوع التوحيد، لقد كان القرآن الكريم ينزل مؤكدا على ذلك، ولم يتجاوزه إلى المسائل الأخرى إلا قليلا وراح القرآن يحبك بأسلوبه المعجز وآياته البينات جوانبها الشاملة وبناءها في نفوس المدعوين(82/310)
الذين استجابوا للدعوة، ويحيلهم واحدا بعد آخر ويوما بعد يوم إلى شخوص حية تتحرك بما أنزل من قرآن فتكون حركتها تعبيرا حيويا عن التصور الجديد للعقيدة والذي جاء لينعكس بالضرورة على السلوك اليومي للمسلم.
وبالطبع فالدعوة كانت تتضمن إلى جانب العقيدة موضوع العبادة (الصلاة) وتناولت صلة الأرحام، ومكارم الأخلاق ولم يكن ثمة أمر آخر يستدعي لفت النظر إليه في تلك المرحلة.
لذا يتأكد القول بأن مضمون الدعوة وجوهرها لم يتغير في مراحل الدعوة الأخيرة عن مراحلها الأول وكذلك حقائقها ومبادئها لم تتبدل مع تطور الدعوة وتغير مراحلها، بل كانت آخذة في استيعاب مناحي الحياة وما يتنزل من تشريع جديد.
واستنادا لما تقدم يمكن أن نقول: إن سمات استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة تبلورت في أمور:
أ – السماح لخبر الدعوة والداعية - صلى الله عليه وسلم - أن يتسربا بهدوء بصورة متدرجة إلى أحياء مكة وشعابها وما جاورها من قرى إذا تحققت المصلحة وانتفت المفسدة مع أخذ الحذر والترقب، لذا في قصة إسلام أبي ذر(82/311)
وهو من غفار قال: فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، بل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا ذر بنشر خبره في غفار بقوله: «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري (1) » في رواية أبي قتيبة «اكتم هذا الأمر، وارجع إلى قومك فأخبرهم، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل (2) » . وفي راوية عبد الله بن الصامت: «إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل، فهل أنت مبلغ عني قومك عسى الله أن ينفعهم بك (3) » .
ب – أن الدعوة في مرحلة الاستخفاء لم تتصادم ولم تتواجه مع الخصوم ولم تجلب لها أعداء، كل ذلك مراعاة لسلامة الدعوة لئلا توأد في مهدها.
ت – الأصل في الدعوة أنها تتسم في حال الاستخفاء بالشمول والعالمية، وقد يكون هناك تركيز واختيار مبني على بصيرة لأفراد يعتقد بأن الدعوة ستقوى وتنتفع بهم كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
ث – أن المدعوين مطالبون من غير إلزام بإخفاء أمر استجابتهم إلى حين يكون فيه الإعلان، يجلب للدعوة مصالح ومنافع.
ج – شعائر الدين الظاهرة كانت تتم في الخفاء لأمرين: أولهما: كي لا يتعرف الخصوم على مدى الاستجابة التي تحققت للدعوة ومن ثم تشعرهم بالتوسع المطرد للدعوة. ثانيهما: تفاديا لكل ما يستفز خصوم الدعوة أو يثيرهم بظهور معالم الدعوة، في حين أن الدعوة
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.(82/312)
تتوخى السلم وتحذر المواجهة.
ح – مقر الدعوة الذي يكون موئلا للدعوة وملاذا لأتباعها غير معلن للمصلحة العامة إلا لمن يريد التعرف على الدين الجديد بعد التحقق من سلامة مقصده، لذا كان كثير من المدعوين لا يعرفون مقر الدعوة أنها دار الأرقم إلا من خلال التبيين والإرشاد، وقد تم اتخاذ هذه الدار تحديدا لكونها أليق بالاستخفاء كما تقدم.
خ – راعى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنظر إلى واقع حال الدعوة أن ما يتاح له في ظل الاستخفاء هو مسلك الدعوة الفردية واتخذ لذلك وسيلة القدوة الحسنة، والقول المباشر فقط، ولم تتعدى أساليب القول عن أسلوب النصح الذي ينسجم مع طبيعة الاستسرار.
تلك هي أبرز سمات استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة، وفي ضوء ذلك، وبعد توفيق الله تجاوزت الدعوة تلك المرحلة من خلال الغرس والتأسيس والإعداد حتى تهيأت لمرحلة الدعوة الجهرية امتثالا لأمر الله بالصدع، قال ابن هشام: فأمر الله رسوله أن يصدع بما جاءه من الحق، وأن يبادي الناس بأمره وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله أمره واستتر به إلى أن أمره الله بإظهار دينه ثلاث سنين من مبعثه، ثم قال الله له: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (1) وقال له: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (2) .
__________
(1) سورة الحجر الآية 94
(2) سورة الشعراء الآية 214(82/313)
المبحث الرابع: تطبيقات الاستخفاء بالدعوة في العصر الحاضر:
الأصل في الدعوة إلى الله الإعلان والبيان، والإظهار والإشهار في مختلف العصور وفي كل الأقطار. أما الاستخفاء بالدعوة فهي استثناء وأمر عارض، فما أن استجاب لهذه الدعوة نفر من الصحابة الأجلاء إلا وخرجت الدعوة من طورها السري إلى طورها الجهري وما أن وجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعوانا على الدعوة حتى جاءه الأمر بالجهر بالدعوة، قال: تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (1) .
بيد أنه من المهم معرفة مدى شرعية الاستخفاء بالدعوة في هذا العصر إذا لزم الأمر واقتضته الظروف. ولأجل تصور ذلك على وجه سليم لا بد من تصنيف المجتمعات من حيث إتاحتها للدعوة من عدمه إلى (مجتمعات دعوية) و (مجتمعات غير دعوية) ، وأعني بالمجتمعات الدعوية تلك التي يسمح نظامها بالدعوة إلى الله تعالى ونشر الدين والخير بين الناس. وأما المجتمعات غير الدعوية فأعني بها تلك التي تقمع الدعوة وتحجبها عن الناس وتذيق دعاتها أصناف الأذى والعذاب سعيا لإبادتهم وما يحملون من رسالة، وهذا التأسيس مهم لننطلق منه إلى معرفة مدى شرعية تطبيقات الاستخفاء بالدعوة - موضوع الدراسة - في العصر الحاضر.
المطلب الأول: الاستخفاء بالدعوة في المجتمعات الدعوية:
يمكن إيضاح ما يتعلق بالاستخفاء في المجتمعات الدعوية من
__________
(1) سورة الحجر الآية 94(82/314)
خلال الفروع الآتية:
الفرع الأول: الاستخفاء بالدعوة داخل (المجتمعات الدعوية) ابتداع في سبيل الدعوة:
إن المجتمع الذي يسمح بالدعوة بين أفراده لتسديد الخلل وتقويم المعوج من خلال الدعوة العامة المعلنة وفق تعاليم الكتاب والسنة - وهذا حال غالب بلاد الإسلام - يجعل أمر الاستخفاء بالدعوة بين مجموعة من الناس والاستسرار بها عن ولاة الأمر أو علماء المسلمين أو عموم المجتمع؛ غير جائز ولا مقبول شرعا ولا عقلا، ولا يقول ذلك إلا من يعتمد على القول بإلزامية "المرحلة السرية" استنادا إلى الأمر بالتأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا فهم غير صحيح وهو من البطلان ما لا يحتاج معه إلى إبطال؛ لكنني أقول إنه مع تسليمنا الكامل بأن رسول الله هو القدوة والأسوة مطلقا إلا أن استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة كان تفاعلا مع واقع كان قائما، وقوانين كانت مسيطرة وبيئة كانت لها قيمها وعاداتها وتقاليدها، وسنن اجتماعية وسياسية خاصة، فأي عاقل يقول: إنه مهما تغيرت الظروف والأوضاع يبقى موضوع الاستخفاء بالدعوة ملزما بينما حين يسمح للدعوة بأن تنطلق وتشق طريقها ولا يبقى أي مسوغ للسرية، لأنها في الحقيقة هي وسيلة وليست غاية (1) ، ولهذا فإن الاستخفاء بالدعوة كيفما تبلور والحال
__________
(1) انظر: عثرات وسقطات - زهير سالم، ط (الأولى، عام: 1408هـ الناشر: دار عمار - الأردن) ص 29(82/315)
ما ذكر هو انحراف في المنهج الدعوي وخلل في المسلك الإصلاحي باعتباره مخالفة صريحة لمنهجه العام في الدعوة ولوصيته الخاصة التي رواها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث قال: «جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أوصني. قال: اعبد الله ولا تشرك به شيئا، وأقم الصلاة، وآت الزكاة، وصم رمضان، وحج البيت واعتمر، واسمع وأطع، وعليك بالعلانية وإياك والسر (1) » .
فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وعليك بالعلانية وإياك والسر» بعد أمره بالسمع والطاعة لولاة الأمر دليل على أن الاستخفاء بالدعوة في المجتمع المسلم، لا سيما إذا كانت منطوية على ما يخالف ولي الأمر أو متضمنة التأليب عليه؛ منهي عنه وإذا كان من يذهب إلى أن الاجتماعات السرية في هذا الزمن إلى أنه عمل صحيح، احتجاجا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالدعوة في مكة سرا، وهذا الاحتجاج مبني على أن المجتمع الذي نعيش فيه مجتمع جاهلي، أي كافر، وهذا تعسف ومذهب فاسد، جميع علماء المسلمين على إنكاره، إذ لا يسلم العقلاء فضلا عن العلماء أن مجتمعنا مجتمع جاهلي كالجاهلية الأولى، بل نحن بحمد الله في بلاد الإسلام؛ الأذان معلن، والصلاة مقامة، والشعائر ظاهرة، والدعوة متاحة، فأين نحن من الجاهليين الأوائل
__________
(1) أخرجه ابن أبي عاصم عن ابن عمر في كتاب السنة رقم الحدي: 1070، وحسن إسناده الألباني في ظلال الجنة في تخريج أحاديث السنة، ط (الثالثة، عام: 1413هـ، الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت) 24 / 255.(82/316)
ومن كفار العرب وغيرهم؟
فالذي يتوجب إذن هو "الدعوة الجهرية" وقد أمر الله تعالى نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة في قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (1) .
بل يمتد هذا الفهم للحديث الشريف إلى موضوع أدق من الدعوة سرا وخفاء إلى كل ما يتناوله الاستخفاء، ويشمله من موضوعات لها تعلق بأمر المسلمين العام للتواصي عليه دون العلماء وولاة الأمر، فعن زيد بن أسلم العدوي عن أبيه - رضي الله عنه - قال: "بلغ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – أن ناسا يجتمعون في بيت فاطمة، فأتاها فقال: يا بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ما كان أحد من الناس أحب إلينا من أبيك، ولا بعد أبيك أحب إلينا منك، ولقد بلغني أن هؤلاء النفر يجتمعون عندك، وايم الله! لئن بلغني ذلك لأحرقن عليهم البيت. فلما جاءوا فاطمة؛ قالت: إن ابن الخطاب قال كذا وكذا، فإنه فاعل ذلك، فتفرقوا حين بويع لأبي بكر - رضي الله عنه -.
ولقد كان هذا المسلك من سمات أهل الزيغ والأهواء في زمن مضى، فقد روى الأوزاعي - رحمه الله – قال: قال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: "إذا رأيت قوما يتناجون في دينهم بشيء دون العامة؛ فاعلم أنهم على
__________
(1) سورة الحجر الآية 94(82/317)
تأسيس ضلالة".
وإذا تقرر ذلك فلا يشوش عليه حصول أذى في سبيل الدعوة من قبل المكابرين في (المجتمعات الدعوية) لأن هذا وارد وواقع في بعض الأمصار والابتلاء سنة ماضية إلى قيام الساعة لكن طريقة هذا الدين هي الدفع بالتي هي أحسن، قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) والصبر جميل على الكيد والأذى، قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (2) .
وما ذكر - أعني منع الاستخفاء بالدعوة - يسري إلى كثير بل إلى غالب البلاد غير الإسلامية أيضا باعتبارها (مجتمعات دعوية) ولهذا ينبغي للدعاة الاستفادة من هامش الحرية المسموح به في أي دولة من دول العالم، من خلال القنوات الرسمية التي يسمح بها نظامها كالجمعيات، والمراكز، والاتحادات، تلك المؤسسات ينبغي للدعاة والمسلمين المبادرة إليها، واتخاذها مشاعل للهداية والدعوة، وطريقا لنشر دينهم وتمكين عقيدتهم (3) .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 96
(2) سورة المزمل الآية 10
(3) انظر: المسلمون والعمل السياسي - عبد الرحمن عبد الخالق، 43.(82/318)
الفرع الثاني: الاستخفاء بالدعوة داخل (المجتمعات الدعوية) إضرار بالدعوة:
إن من نظر بعين الإنصاف للدعوات التي كان لها طابع السرية داخل المجتمعات الدعوية سواء في عدد من البلاد الإسلامية أم في غيرها؛ يقف على نتيجة حتمية هي إيقاع الضرر بالدعوة، وذلك من خلال أمرين:
أ – الإضرار بالدعوة نفسها: وأساس ذلك أن الاستخفاء يتسبب في انحراف فكر أتباعها تدريجيا ومن ثم سلوكهم وفق رد مسلك النظام القائم، وهذا التحول في الدعوة يأتي في النهاية نتيجة لأنها سارت في أنفاق مظلمة ردحا من الزمن حالت دون أداء وظيفة التصويب والتسديد التي تناط بالعلماء الراسخين.
والمتتبع للتاريخ الغابر - فضلا عن العصر الحاضر - يمكن أن يقول: إنه متى وجد الغموض في الدعوة حلت المخالفات الشرعية، وحيث وجد التخفي؛ حل الخوف وذهب الأمن، وبذلك يتكرر خرق السفينة من المستهمين فيها أنفسهم لعدم رؤيتهم والأخذ على أيديهم، ثم تنتهي إلى الغرق. فيكون أول ضحايا الدعوة تلك هو؛ العمل الدعوي نفسه وليس الخصوم.(82/319)
ومن المعلوم أن الإسلام بجلائه وصفائه ونقائه، فوق هذا كله، لا مجال فيه لإخفاء حقيقة، ولا كتم طريقة، ولا غموض مسلك.
ب – تعطيل عملية البلاغ: حيث إن النكوص عن عملية البلاغ المبين والنزول إلى المخابئ وتغييب الدعوة وممارسة العاملين وسلوكهم عن الأنظار يعطل عملية البلاغ وهذا يؤدي إلى النمو غير الطبيعي للشر والفساد، ويوقف الحوار ويعطل شعيرة الدعوة والحسبة المناطة بالدعاة والمحتسبين.
إن وظيفة الدعوة تقتضي ألا يحتكر الدعاة دعوتهم في نطاق محدود فتكون بعيدة عن جماهير الأمة ومنفصلة عن جسمها وهدفها وإنما الدعوة يجب أن تنطلق في المجتمع بانطلاق دعاتها في ميادين الدعوة المتنوعة وأن تكون دعوتهم التي يمثلونها أنموذجا عمليا للحياة الإسلامية، وتمثل الإسلام بصورة واقعية لتجذب بسلوكها الجاهلين بحقيقة هذا الدين وتكون لهم دليلا ومرشدا ومعينا على دعوتهم إلى الخير كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) انظر: نظرات في مسيرة العمل الإسلامي - عمر عبيد حسنة، 40(82/320)
الفرع الثالث: الاستخفاء بالدعوة داخل (المجتمع الدعوي) سبب في تمزيق الأمة:
إضافة إلى أن الاستخفاء بالدعوة داخل المجتمع الدعوي ابتداع في سبيل الدعوة وإضرار بها، فكذلك هو أداة لتمزيق الأمة من وجهين:
أولا: مع الحكام ونخص منهم أصحاب الأنظمة التي تتسم بالجور، من خلال عدم تصورهم لأهداف الدعوة الحقيقية وحسن نية دعاتها ومن خلال عدم تثبتهم من الوشاية التي قد يكون مصدرها الخصوم ولهذا فهم يضربون بيد من حديد على كل من يظنون فيه السرية فضلا عمن يجزمون بممارسته لها وتطبيقه إياها خوفا من كون الاستخفاء بالدعوة مؤداه تأليب الناس عليهم أو قلب نظامهم استنادا إلى أن المنظمات السرية في تاريخ الأمم قديما وحديثا كان لها دور في ذلك والتاريخ غير نسي.
وأما أصحاب الأنظمة العادلة فتعمل الدولة على تحجيم الدعوة المشار إليها حينما تتسم بالسرية وربما معاداتها وإضعافها.
ثانيا: مع بقية المسلمين وذلك بإيجاد هوة عميقة بين الدعوة وبين بقية المجتمع، تزداد عمقا مع الزمن، وثغرة بين الطرفين تتسع بإلحاح كلما أوغلت الدعوة في الاستخفاء، نظرا لأنهم يكتمون عن الناس ما لا يجوز كتمه، ويخفون عنهم ما لا يجوز إخفاؤه، فتظلم النفوس وتسود القلوب تجاه الدعوة والدعاة.(82/321)
إن العمل الدعوي السري في المجتمعات الدعوية مهما كان فيه من نفع إلا أنه نفع يسير تتبعه مفاسد أعظم من النفع المتوهم أو المرجوح، فهو يجر الدعاة إلى مواقف محرجة هم في غنى عنها ويوهن أمر الدعوة، بل ويوقع الأفراد المسلمين في تضاد بين مبدأ السمع والطاعة وبين التطبيق العملي لمبدأ السرية والخفاء وهذا التضاد خطير لأنه خلل في منهج الدعوة قد يكون سببا في تمزيق الأمة، لذا يجب على الدعاة تجنب الاستخفاء بدعوتهم في المجتمعات الدعوية، إذ الدعوة قد أعلنت، وانتشرت مبادئها، وعم صيتها العالم، وسمع بها القاصي والداني، من خلال المؤلفات والقنوات الفضائية، وشبكة المعلومات (الإنترنت) ، والطلاب المبتعثين، والمؤتمرات الدولية، والملتقيات العلمية، لهذا كله لا يسوغ للدعوة أن تتخفى في المجتمعات الدعوية.(82/322)
المطلب الثاني: الاستخفاء بالدعوة في المجتمعات (غير الدعوية) :
انطلاقا من مضمار الاستخفاء بالدعوة في (المجتمعات الدعوية) التي سبق ذكرها رأى البعض جر الحكم بالمنع إلى المجتمعات غير الدعوية بصورة مطلقة وقرر البعض أن الاستخفاء بالدعوة قد انتهى إلى الأبد بأمر الله النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصدع بالدعوة..(82/322)
وهذا القول في رأيي قد جانب الصواب من حيث إلغاء وتعطيل جزء مهم من سبيل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة وهي "مرحلة الاستخفاء" في العهد المكي، وقد قال الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} (1) ، ومعلوم أن سبيله في الدعوة يشمل سيره في طريق الدعوة بمرحلتيها "السرية" و "الجهرية" وبعهديها "المكي" و "المدني". باعتبارها حلقات متصل بعضها ببعض ترسم للدعاة المنهج الدعوى في كل حالاته، وتوضح للدعاة المواقف التي قد تعترض طريق الدعوة بكافة جوانبها، وهي تعد بجملتها سبيل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله التي تستند إلى البصيرة.
هذا السبيل الدعوي لا يجري في مضمار الناسخ والمنسوخ بل كان مرحلة تنزل منزلتها التي تناسبها حينما تتطابق الظروف وتتشابه الأحوال.
قال شيخ الإسلام: "من كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين. وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين وبآية قتال الذين أتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".
وفي ضوء ذلك يمكن أن نتساءل: أليس من الممكن أن يحتاج المسلمون في بعض الظروف والبيئات إلى أحكام مرحلة الاستخفاء التي استوعبها
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(82/323)
النبي - صلى الله عليه وسلم - بفهم واع ومسلك حكيم قاد إلى النجاح، وألا يكون في ظل الأنظمة القمعية للناس أن يستخفوا بدينهم وبدعوتهم تأسيا بالداعية الأول وتتبعا لسبيله؟ يمكن إيضاح ذلك من خلال الفروع الآتية:
الفرع الأول: تكالب أنظمة المجتمعات (غير الدعوية) على إبادة الدعوة وسبل البقاء:
أولا: مشاهد من تكالب أنظمة المجتمعات (غير الدعوية) :
أسوق هنا مشهدين يدلان على حال شعوب إسلامية كانت ترزح في بلادها تحت وطأة الضيم (مجتمعات غير دعوية) جرت عليها محن ومآس استهدفت إبادتهم ووأد دينهم:
المشهد الأول: المسلمون في ظل نظام حكم أسبانيا:
تمثل محاكم التفتيش أحد أسوأ فصول التاريخ دموية تجاه المسلمين، وقد بدأت عندما حانت نهاية الحكم الإسلامي في الأندلس، وسقوط آخر مدينة إسلامية بيد الأسبان وهي غرناطة بعد أن استمر حكم المسلمين لها (800 عام) للأندلس من دون انقطاع.
الذي حدث فيما يتصل بموضوع الدراسة أنه فور دخل الأسبان إلى غرناطة نقضوا المعاهدة التي أبرموها مع حكامها المسلمين والتي تضمنت ثمانية وستين بندا وبعد أيام عدة من النقض قام أسقف غرناطة بإرسال(82/324)
رسالة عاجلة لملك أسبانيا مفادها أنه قد أخذ على عاتقه حمل المسلمين في غرناطة وغيرها من مدن أسبانيا على أن يصبحوا كاثوليكا؛ تنفيذا لرغبة المسيح عليه السلام الذي ظهر له - كما ادعى - وأمره بذلك. فأقره الملك على أن يفعل ما يشاء لتنفيذ رغبة المسيح عليه السلام، عندها بادر الأسقف إلى احتلال المساجد ومصادرة أوقافها، وأمر بتحويل المسجد الجامع في غرناطة إلى كنيسة، فثار المسلمون هناك دفاعا عن مساجدهم، لكن ثورتهم قمعت بوحشية مطلقة، وتم إعدام مائتين من العلماء المسلمين حرقا في ساحة من الساحات العامة بتهمة مقاومة المسيحية (1) .
وتم تشكيل محاكم التفتيش لتبدأ بمهام البحث عن كل مسلم ومحاكمته على عدم تنصره، فهرب المسلمون إلى أعلى الجبال، وأصدرت محاكم التفتيش الإسبانية تعليماتها لتنصير بقية المسلمين في إسبانيا، وإجبارهم على أن يكونوا نصارى، وكانت محاكم التفتيش تصدر أحكاما بحرق المسلمين على أعواد الحطب وهم أحياء في ساحة من ساحات مدينة غرناطة، أمام الناس، كما صدر مرسوم بإحراق جميع الكتب الإسلامية والعربية، فأحرقت المصاحف وآلاف الكتب في ساحة الرملة بغرناطة، ثم تتابع حرق الكتب في جميع المدن والقرى. وقد استمرت هذه الحملة الظالمة على المسلمين حتى عام (1577م) ، وراح ضحيتها حسب بعض المؤرخين
__________
(1) انظر: مجلة الجندي المسلم، مقال للأستاذ: عبد الرحمن حمادي عدد 120 تاريخ 1 / 7 / 2005م.(82/325)
الغربيين أكثر من نصف مليون مسلم، وتم تنصير البقية الباقية من المسلمين بالقوة، وقد عرف المسلمون المتنصرون باسم المسيحيين الجدد تمييزا لهم عن المسيحيين القدامى (1) ثم صدر مرسوم بتحويل جميع المساجد إلى كنائس.
ولما تبين للمحاكم أن كل أعمال التنصير في تلك الحملة لم تؤت نفعا، حيث تنصر المسلمون ظاهرا، ولكنهم فعليا يمارسون الشعائر الإسلامية فيما بينهم سرا؛ قامت المحاكم بالبحث عن كل مسلم لتحاكمه، وهي محاكم منحت سلطات غير محدودة، ومارست أساليب في التعذيب لم يعرفها أو يمارسها أكثر الطغاة وحشية عبر التاريخ، وقد بدأت تلك المحاكم أعمالها بهدم الحمامات العربية، ومنع الاغتسال على الطريقة العربية، ومنع ارتداء الملابس العربية، أو التحدث باللغة العربية، ومنع الزواج على الطريقة العربية أو الشريعة الإسلامية، ووضعت عقوبات صارمة جدا بحق كل من يثبت أنه يرفض شرب الخمر، أو تناول لحم الخنزير، وكل مخالفة لهذه الممنوعات والأوامر تعد خروجا على الكاثوليكية، ويحال صاحبها إلى محاكم التفتيش.
وحيث إن المحاكم والأساليب المتبعة لم تنجح في إجبار المسلمين على ترك دينهم كما تريد الكنيسة التي أدركت مدى عمق الإيمان بالعقيدة الإسلامية في نفوس (الموريسكيين) فقررت إخراجهم وتهجيرهم من
__________
(1) عرفوا باسم (الموريسكوس) أي المسلمين الصغار(82/326)
إسبانيا، بينما بقي بعضهم متسترا في بلاده بعد الطرد العام لهم (1) .
المشهد الثاني: المسلمون في ظل نظام حكم الاتحاد السوفيتي:
كان عدد المسلمين في الاتحاد السوفيتي خمسين مليونا من أصل مائتين وستين مليونا ويمثل المسلمون أغلبية في ستة أقاليم من أصل ستة عشر تصل نسبتهم في بعضها 95% وبالطبع تلاشت تلك الأعداد بعد أن تنكرت الشيوعية للمسلمين وعملت على القضاء على الإسلام من خلال عدد من الأساليب على المدى الطويل، ففي عام 1928م ألغيت المحاكم الشرعية، ومنعت سائر الأنشطة الدينية، واعتقل عدد من العلماء وشرد آخرون واشتدت حملات الإرهاب الشرسة على المسلمين فاعتقل أكثر من مليون ونصف المليون، وفي عام 1929م هدم وأغلق أكثر من عشرة آلاف مسجد، وأكثر من أربعة عشر ألفا من المدارس الإسلامية وحرقت المصاحف ونفي المسلمون من الجمهوريات الإسلامية تحت سيطرة النظام إلى مجاهيل سيبيريا ومن ثم توطين روس شيوعيين مكانهم.
ولقد عمل النظام في الاتحاد السوفيتي في تلك الحقبة على أكبر عملية في التاريخ للقضاء على الإسلام بأساليب علمية وتكنولوجية حديثة، في
__________
(1) انظر: مجلة الجندي المسلم عدد 120 تاريخ 1 / 7 / 2005م مقال للأستاذ: عبد الرحمن حمادي(82/327)
مناخ بالغ القوة محكم الإغلاق وتحت نظام فاق جميع الأنظمة الاستبدادية التي عرفت في التاريخ الحديث. وتم سن قوانين تحرم على المسلمين الصلاة والصيام والحج والزكاة، ومنعت طباعة المصحف وأي كتاب ديني، وفرضت رقابة صارمة على تداول هذه الكتب وعلى منع ممارسة الشعائر الدينية.
كما أنشئت في المقابل مدارس لتعليم أطفال المسلمين أصول الإلحاد وسخرت الدولة عشرات الألوف من خبراء الإلحاد، وأصدرت ملايين النسخ من الكتب الإلحادية ومئات الصحف والمجلات والأفلام لمحاربة الإسلام وتشويه تاريخه واستطاعت الدولة الشيوعية أن تنشئ أجيالا من أبناء المسلمين لم يسمعوا كلمة طيبة عن الإسلام. وكان الشباب المسلم يعلم أن الإلحاد هو شرط الحصول على وظيفة، وهو شرط البقاء والترقي فيها وهو شرط الإفلات من اضطهاد جهاز المخابرات. فأصبحت الكثرة الغالبة من أبناء المسلمين الذين خلفهم الاتحاد السوفيتي يجهلون كل شيء عن دينهم، ومع ذلك فإن جهود السوفييت في نشر الإلحاد بين المسلمين على مدى خمسة وسبعين عاما لم تؤت ثمارها المطلوبة ولم تستطع تحقيق أهدافها كاملة في استئصال الإسلام من الاتحاد السوفيتي، وقد عبر المخططون والخبراء عن خيبة أمل كبيرة.
ولذلك سخرت الدولة مجموعة كبيرة من علماء الاجتماع والدراسات السكانية خلال الثمانينيات من القرن العشرين لدراسة هذه الظاهرة في(82/328)
مجتمعات المسلمين، وقد أثبتت هذه الدراسة أن الإسلام في الاتحاد السوفيتي - رغم كل شيء - لم يمت وإنما لا يزال ينبض بالحياة وأن الشعوب المسلمة لا تزال تتنفس الإسلام وتتمسك بعقيدتها وتمارس شعائر دينها بأساليب خفية (1) .
ثانيا: سبل بقاء المسلمين في ذلك الحال:
وباستعراض تلك الأمثلة التي لم نذكر من أمرها سوى اليسير يتضح كيف استطاع المسلمون في تلك (المجتمعات غير الدعوية) الثبات والصمود في وجه محاولات طمس الهوية واستئصال الدين من خلال أمرين بعد توفيق الله:
الأول: الاستخفاء بالإيمان والعبادة: حيث يشرع للمسلم ألا يعلن إسلامه ما دام سيتعرض لأذية ويكفي إسلامه سرا كما قال الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} (2) ، هذا الرجل مؤمن بنص القرآن مع أنه كان يخفي إيمانه عن فرعون وقومه خوفا على نفسه، وفي قصة إسلام أبي ذر، قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا ذر اكتم هذا الأمر (3) » (أمر الدعوة وأمر إسلامه) ، وفيه دليل على جواز كتم الإيمان لمصلحة أو
__________
(1) انظر: التحدي الصهيوني في إطاره التاريخي - د. محمد يوسف عدس ص 33
(2) سورة غافر الآية 28
(3) تقدم تخريجه(82/329)
خشية ضرر ونحو ذلك.
ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) .
وقال سبحانه: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (2) وهي تقية، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} (3) إلى قوله {عَفُوًّا غَفُورًا} (4) .. قال البخاري: "فعذر الله المستضعفين الذين لا يمتنعون من ترك ما أمر الله به والمكره لا يكون إلا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما أمر به، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأعمال بالنية (5) » فقد ذكر المفسرون في شأن نزول الآية أمورا تتقارب معناها وإن اختلف أشخاصها وأمكنتها، قال ابن حجر: والمشهور أن الآية المذكورة نزلت في عمار بن ياسر كما جاء من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر رضي الله عنه، قال: «أخذ المشركون عمارا فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنا
__________
(1) سورة النحل الآية 106
(2) سورة آل عمران الآية 28
(3) سورة النساء الآية 97
(4) سورة النساء الآية 99
(5) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإكراه باب قوله تعالى: ''إلا من أكره''.(82/330)
بالإيمان، قال: فإن عادوا فعد (1) » فنزلت الآية. والآية دالة على جواز إظهار غير ما يبطن من دون قصده عند الضرورة، ومسوغ ذلك خوف الضرر على النفس أو ما يتصل بذلك.
ومن ناحية أخرى الآية وإن اختص مضمونها بمسألة الكفر والإيمان إلا أن حكمها جار في غيرها بطريق الأولى، فإذا جاز الاستسرار في هذه المسألة المهمة جاز في غيرها.
وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على مشروعية الاستسرار في العبادة في أحوال خاصة، «فعن حذيفة قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أحصوا لي كم يلفظ الإسلام؟ قال: فقلنا: يا رسول الله أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ قال: إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا.
قال: فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا (2) » .
قال النووي رحمه الله: وأما قوله «ابتلينا فجعل الرجل لا يصلي إلا سرا (3) » فلعله كان في بعض الفتن التي جرت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان بعضهم
__________
(1) قال ابن حجر: وهو مرسل ورجاله ثقات وأخرجه عبد بن حميد من طريق ابن سيرين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي عمار بن ياسر وهو يبكي فجعل يمسح الدموع عنه، ويقول: أخذك المشركون فغطوك في الماء حتى قلت لهم كذا، إن عادوا فعد'' ورجاله ثقات مع إرساله أيضا، وهذه المراسيل تقوى بعضها ببعض. فتح الباري 12 / 312.
(2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب: الإيمان، باب: الاستسرار بالإيمان للخائف.
(3) البخاري الجهاد والسير (2895) ، مسلم الإيمان (149) ، ابن ماجه الفتن (4029) ، أحمد (5/384) .(82/331)
يخفي نفسه ويصلي سرا مخالفة من الظهور والمشاركة في الدخول في الفتنة والحروب (1) .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله حول ذلك: "فإن المؤمن المستضعف هناك قد يكتم إيمانه واستنانه، كما كتم مؤمن آل فرعون إيمانه، وكما كان كثير من المؤمنين يكتم إيمانه حين كانوا في دار الحرب" (2) .
الثاني: الاستخفاء بالدعوة إلى الله: حيث يشرع في هذه الحال وفي مثل تلك الأنظمة (المجتمعات غير الدعوية) الاستخفاء بدعوة الناس إلى الله تعالى وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك المرحلة تفتح أمام الدعاة خيارات متعددة تتناسب مع الظروف المقاربة لها بمرونة في معالجة أمورها ومواجهة
__________
(1) انظر: شرح صحيح مسلم - للنووي 1 / 180
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 4 / 149(82/332)
أحداثها (1) ليتمكن الدعاة على قدر وسعهم من بناء قاعدة صلبة تحمل هذا الدين، وتحافظ على ما لدى المستجيبين من أمور العقيدة والشريعة والأخلاق وذلك وفق عدة ضوابط.
وبهذا يعلم أنه إذا خشي المسلمون على أنفسهم ودينهم في (مجتمع غير دعوي) فإنه يسعهم بلا ريب الاستخفاء وأن يتغشاهم الاستسرار بإيمانهم ودعوتهم إلى حين يأتي أمر الله بالفرج.
الفرع الثاني: الاستخفاء بالدعوة في (المجتمعات غير الدعوية) مشروع بضوابط:
ذكرنا فيما سبق أن الاستخفاء بالدعوة في مجتمع غير دعوي مشروع وذكرنا بعض الأمثلة لمجتمعات غير دعوية كانت تهدف إلى استئصال الإسلام وإبادة أتباعه على مدى عشرات السنين. إلا أن من المهم إبان الاستخفاء بالدعوة في ظل الظروف والأحوال المذكورة أمور ينبغي مراعاتها منها ليكون الاستخفاء في إطار المشروع:
أولا: أن يكون العمل الدعوي منضبطا بالحكمة وموزونا بميزان الشرع، إذ الحماسة وحدها لا تكفي بل لا بد أن يكون العمل خالصا لله تعالى صوابا على وفق ما جاء به رسول الله.
ثانيا: ألا يتداخل الاستخفاء بالدعوة مع التحزب الذي ورد النهي
__________
(1) انظر: عثرات وسقطات - زهير سالم، ص \ 30(82/333)
عنه فقد قامت دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرحلة الاستخفاء على الشمول والعالمية.
وأما التحزب فأمر آخر وذلك لأنه وليد التفرق وسبب في ضعف الأمة خاصة في ظل الدولة الإسلامية، قال: تعالى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (2) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حلف في الإسلام (3) » .
ثالثا: أن يكون الاستخفاء بالدعوة قيادة وريادة وتوجيها وإرشادا، للعلماء الراسخين، باعتبارهم الذين يقودون الناس بكتاب الله وسنة رسوله وبعد نظرهم في فقه الموازنات بين المصالح والمفاسد، وما لم يكن الأمر كذلك فإن الدعوة ستنحرف عن مسارها إلى مسارات الله أعلم بها (4) .
رابعا: أن يكون الاستخفاء بالدعوة في ظل الظروف المشار إليها تحت الوسع والقدرة وإلا فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، قال شيخ الإسلام: "والله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الخلق بغاية الإمكان، ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان" (5) .
__________
(1) سورة الروم الآية 31
(2) سورة الروم الآية 32
(3) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جبير بن مطعم، كتاب؛ فضائل الصحابة، برقم: 2530
(4) انظر: العلاقة بين العلماء والناس - د. سيد محمد ساداتي، ص 108
(5) مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - جمع وترتيب الشيخ عبد الرحمن بن قاسم وابنه 13 / 964(82/334)
خامسا: أن يكون الاستخفاء بالدعوة مسترشدا ومستنيرا بسمات استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة وهو ما تعطرت به ورقات هذه الدراسة حتى يكون له ثمرته وفائدته المرجوة.(82/335)
الخاتمة:
بنهاية هذا المبحث تكون الدراسة قد أجابت بحمد الله تعالى عن كل التساؤلات التي أثيرت في نطاق موضوع استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى الله في العهد المكي، وانتهت إلى ما ستجمله في النتائج الآتية.
نتائج الدراسة:
1 – استخفاء النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة هو مرحلة من مراحل الدعوة وهي ثابتة من خلال النصوص والأخبار على نحو ما ذكر، واستمرت ثلاث سنوات حيث طويت مرحلة الاستخفاء وابتدأت مرحلة الجهر بالدعوة.
2 – لم يكن استخفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة استخفاء مطلقا، بل كان استخفاء له سماته العامة والخاصة، ومتميزا بالحكمة والبصيرة، وهو ما تم الحديث حوله في طيات هذه الدراسة.
3 – كان الاستخفاء بالدعوة يقوم على الدعوة الفردية بوسيلة القدوة الحسنة، والقول المباشر الذي كان يتسم بأسلوب النصح، وتم الاقتصار على ذلك بناء على ما اقتضته طبيعة الاستخفاء.(82/335)
4 – أن الاستخفاء بالدعوة بكامل تفاصيلها التي جاءت في الدراسة مرحلة من مراحل الدعوة إلى الله انتهت بقوله {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (1) وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) ولهذا فإن الاستنان بدعوته في العصر الحاضر مناط بمرحلة (الدعوة الجهرية) إذ هي الأصل وهو ما استقر عليه التشريع الإلهي هذا من جهة. من جهة أخرى العلة التي لأجلها كان (الاستخفاء بالدعوة) نجدها منتفية في العصر الحاضر في الجملة، باعتبار انتشار الإسلام اليوم وظهور مبادئه علنا على مرأى ومسمع من العالم خاصة في ظل وسائل الاتصال المتقدمة التي تصل بالدعوة إلى كل مكان دون تبعات أو خوف من وأد الدعوة كما كان في بداية الدعوة.
5 – إذا توفرت ظروف مقاربة للظروف التي مر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك المرحلة، وهذا محتمل في البلاد التي تتخذ سياسة (المجتمعات غير الدعوية) بأشكالها وأطيافها وهو ما حدث في الماضي كما تقدم، وسيحدث أيضا في آخر الزمان فقد جاءت الإشارة إليه، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما
__________
(1) سورة الحجر الآية 94
(2) سورة المائدة الآية 3(82/336)
بدأ غريبا.. (1) » ، وبناء عليه فالاستخفاء بالدعوة حينئذ مشروع في حدود مسلك الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بهدف مسايرة حال التضييق والتنكيل الذي قد تلقاه الدعوة وأتباعها مما يجعلها في أمان من الصدام لتتمكن الدعوة من البقاء حتى يتهيأ لها الانتقال من حال الضعف إلى حال القوة في الجانب الديني، كما فعل - صلى الله عليه وسلم - ولله عاقبة الأمور.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب: الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، برقم: 208(82/337)
صفحة فارغة(82/338)
الاستئذان وأنواعه في ضوء السنة
للدكتور عبد العزيز بن أحمد الجاسم
تمهيد:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فمن نعم الله - تعالى - على هذه الأمة، أن حباها بدين سماوي متكامل، من غير حول منها، ولا قوة، وإنما كان من فضل الله تعالى.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1) {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (3) .
ومن هذه النعم، نعمة الآداب الاجتماعية، التي أتى بها الإسلام، وأرسى قواعدها، بين أفراد المجتمع المسلم.
وهذه الآداب الإسلامية متميزة، من حيث الهدف، والتطبيق.
__________
(1) سورة الجمعة الآية 2
(2) سورة الجمعة الآية 3
(3) سورة الجمعة الآية 4(82/339)
فهي توافق الفطرة السليمة، لأن الفطرة السليمة، تتنافي مع الغدر، والكذب، وهتك الأعراض.
ومن هذه الآداب التي أمر بها الإسلام، الاستئذان، إذ جاءت عدة آيات، تناولته، وبينت حكمه.
وقد ذكر الاستئذان في القرآن، مرتين، في سورة واحدة، ذكر في المرة الأولى بشكل عام، وأنه لا يجوز للمرء، أن يدخل بيت أحد، إلا بعد استئذانه، وسيأتي ذكر هذه الآيات في المطلب الثالث، من المبحث الثاني.
أما في المرة الثانية فقد ذكر حكم استئذان، ممن هو داخل البيت، فبينت الآيات أنه لا يجوز الدخول على أحد، وهو في حجرته، لكن استثنت الآيات صنفين من الناس، هما الخدم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، فهؤلاء يجوز لهم الدخول، من غير استئذان، كما سيأتي بيان هذه المواطن، مع ذكر الآيات، في المطلب الثالث، من المبحث الثاني.
فهذه العناية الربانية، في هذا الأدب الاجتماعي، وذكره مرتين، في سورة واحدة، كدليل على حرمة البيوت، ودليل على أهمية الاستئذان، وأن الإنسان يجب عليه أن يمتثل لهذا الأدب الاجتماعي الرفيع.
ثم جاءت السنة النبوية، مؤكدة، ومبينة لهذا الاستئذان، الذي أمر الله به المسلم.
فذكر الاستئذان في القرآن الكريم، ثم تناول السنة له لدليل على أهميته، في حياة المسلمين.(82/340)
لأن الاستئذان من السبل الوقائية، التي شرعها الإسلام، لكي لا يقع نظر الداخل على المحارم، وما يكره صاحب المنزل، أن يطلع عليه أحد.
إن المفاسد التي تحصل من الدخول المفاجئ على الناس، وهم في بيوتهم، لا تخفى على عاقل، إذ سيقع نظر الداخل، على عورة من في البيت، مما يجعل للشيطان بابا يلج فيه، فيقع هذا الداخل في أفكار شتى، من التصورات التي لا يرضاها الإسلام، بل قد يصل الأمر إلى أبعد من ذلك، فقد يقع البصر على امرأة، فتكون سببا في إثارة الشهوة، وربما تصل الأمور إلى أشياء لا يرضاها الله تعالى.
فمن أجل ذلك كان الاستئذان بمثابة حاجز يقي الإنسان، ويحفظ مشاعره من كل الأسباب، التي تؤدي إلى الفتنة.
وعندما نطبق هذا الأدب الاجتماعي الرفيع، نكون قد حافظنا على مشاعرنا، ومشاعر غيرنا، وبالتالي يكون المجتمع الإسلامي مجتمعا نظيفا، من كل الشوائب، والانحرافات، التي تجعله هابطا، كالحيوانات.
قد يظن بعض الناس، أن الاستئذان مقتصر على البيوت، التي يقطنها الإنسان، لكنه أعم من ذلك، فالاستئذان على أصحاب البيوت، نوع من أنواعه، كما سيأتي بيان ذلك.
واقتصر القرآن عليه، لبيان أهمية حرمة البيوت، لأنه من المعروف أن الإنسان عندما يكون في بيته، يكون في حاله لا يريد أن يطلع عليه أحد.
كما أن الاستئذان ليس مقتصرا بين البشر، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستأذن ربه في عدة أمور.(82/341)
استأذنه في الدنيا، وسيستأذنه في الآخرة.
فمن ذلك ما أخرجه مسلم بسنده عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استأذنت ربي أن أستغفر لأمي، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها، فأذن لي (1) » .
أما استئذانه في الآخرة ربه، فقد أخرج البخاري بسنده عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يحبس المؤمنون يوم القيامة، حتى يهموا بذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيريحنا من مكاننا، فيأتون آدم، فيقولون: أنت أبو الناس، وخلقك الله بيده… الحديث بطوله إلى أن قال: فيأتون عيسى، فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فأستأذن على ربي ... (2) » الحديث، كما أن الجمادات تستأذن من خالقها. عن أبي ذر - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: «قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر، حين غربت الشمس: "أتدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن، فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى:
__________
(1) كتاب الجنائز - باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه في زيارة قبر أمه - 2 / 671 حديث رقم عام 976
(2) كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) - 13 / 4222 حديث 7440(82/342)
(2) » .
ولأهمية الاستئذان أفرده أهل الحديث، وسموه "كتاب الاستئذان"، كما صنع الإمام البخاري، والترمذي، ومنهم من جعله داخلا في "كتاب الأدب" فهذا دليل أيضا على أهميته، والعناية به، فمن أجل ذلك أردت أن أكتب هذا البحث، لأظهر أهمية هذا الأدب الرفيع في الإسلام، وأن الاستئذان أنواع متعددة، كاستئذان الرعية من الراعي، واستئذان الجند من أميرهم، واستئذان الزوجة من زوجها، وغير ذلك.
ومما لا شك فيه أن الاستئذان في كل الأمور المتقدمة له أهمية كبيرة في حياة المسلمين.
وإذا حدث خلل، أو تفريط في بعض أنواعه، فإن الأمور ستكون فوضى. وجعلت هذا البحث في مقدمة، ومبحثين، وكل مبحث تحته مطالب، وخاتمة.
المقدمة: بينت فيها أهمية الاستئذان في الإسلام، وأنه أدب اجتماعي رفيع.
المبحث الأول: وتحته مطلبان:
المطلب الأول: معنى الاستئذان لغة، وحكمه.
المطلب الثاني: المنهج الذي اتبعته في هذا البحث.
المبحث الثاني: وتحته أربعة مطالب:
المطلب الأول: استئذان الرسول - صلى الله عليه وسلم - زوجاته، وأصحابه.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب بدء الخلق (3027) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (159) ، سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3227) .
(2) سورة يس الآية 38 (1) {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}(82/343)
المطلب الثاني: استئذان الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
المطلب الثالث: استئذان الناس بعضهم من بعض.
المطلب الرابع: المرأة والاستئذان.
الخاتمة: تضمنت أهم الأمور التي توصلت إليها من هذا البحث.(82/344)
المبحث الأول: وتحته مطلبان:
المطلب الأول: معنى الاستئذان لغة، وكيفيته، وبيان حكمه:
الاستئذان: أصل هذا الفعل "أذن"، زيدت الألف، والسين، والتاء، لتعطي معنى الطلب.
و"أذن" كسمع، يقال: أذن بالشيء إذنا، أذنا، وأذانة، إذا علم.
تقول: ذهبت إلى كذا، بإذنه، أي بعلمه، ومثله: إذا قلت: فعلت كذا بإذنه، أي بعلمه، أما إذا أردنا أن نعلم آخر، فيقال: آذنته - بالمد - بكذا، أوذنه، إيذانا، وإذنا، إذا أعلمته، قال: تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} (1) ، معناه: أعلموا أن كل من لم يترك الربا، بأنه حرب من الله ورسوله.
أما "الآذن": بكسر الذال، فهو الحاجب، في مدرسة، أو محكمة، أطلق عليه ذلك، لأنه لا يسمح لأحد بالدخول، إلا بعدما يأذن له. أما إذا قلنا: أذن أحمد لخالد أذنا، فهو بمعني استمع إليه. وفي الحديث: «ما أذن الله لشيء، كإذنه لنبي يتغني بالقرآن (2) » أي ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبي.. ومثل ذلك قوله تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} (3) أي - استمعت.
وإذا قلنا: آذنني الشيء: أي أعجبني، فاستمعت إليه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) البخاري التوحيد (7044) ، مسلم صلاة المسافرين وقصرها (792) ، النسائي الافتتاح (1017) ، أبو داود الصلاة (1473) ، أحمد (2/285) ، الدارمي الصلاة (1488) .
(3) سورة الانشقاق الآية 2(82/344)
وأما "الأذان" فهو الإعلام بدخول الوقت، قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) أي إعلام من الله ورسوله.
قال في لسان العرب: والأذان: اسم يقوم مقام الإيذان: وهو المصدر الحقيقي، وقوله عز وجل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (2) معناه: وإذ علم ربكم. وأما "الأذن" فهي الأذن المعروفة.
قال أبو البقاء: "والأذن: بالضم، محبس جميع الصوت، قد خلقت غضروفية، لأنه لو خلقت لحمية، أو غشائية، لم يحفظ شكل التقعير، والتعميق، والتعريج الذي فيها. فسبحان من أسمع بعظم، كما أبصر بشحم، وأنطق بلحم" (3) .
وتطلق هذه الأمور على عدة أمور، ينظر لسان العرب وغيره من كتب المعاجم، ويطلق "الإذن" على الإباحة، وهذا هو المراد في هذا البحث. قال في لسان العرب: "وأذن له في الشيء إذنا: أباحه له. واستأذنه: طلب منه الإذن. وأذن له عليه: أخذ له منه الإذن". وقال أبو البقاء: "أذن له بالشيء إذنا وأذينا: أباحه له" (4) .
وقال الحافظ ابن حجر: "الاستئذان: طلب الإذن بالدخول، لمحل لا يملكه المستأذن (5) ".
__________
(1) سورة التوبة الآية 3
(2) سورة إبراهيم الآية 7
(3) الكليات: ص72
(4) المصدر السابق
(5) فتح الباري: 11 / 1(82/345)
قلت: اقتصر الحافظ ابن حجر على نوع واحد من الاستئذان، وهو الدخول إلى مكان، ليس من حقه أن يدخله. فالإنسان يطلب الإذن منه، في أي أمر، مما ليس له به حق. وشرع الاستئذان، من أجل الاحتراز من وقوع النظر إلى ما لا يريد صاحب المكان النظر إليه، ورؤيته، فيما لو دخل بغتة، من غير استئذان (1) . كما أن "الإذن" لا يستعمل إلا بما فيه مشيئة، لأن الذي يستأذن، لا يأذن إلا بإرادته، ومشيئته، فإن شاء أذن، وإن شاء لم يأذن. ومن الكلمات التي لها صلة بالاستئذان " الاستئناس " (2) .
وأصل الاستئناس: أنس: وأصل "أنس" في اللغة طلب الإيناس، فهو من الأنس، ضد الوحشة، وزيدت الألف، والسين، والتاء، لتعطي معنى الطلب. فالاستئناس: العلم بالشيء، يقال: استأنست: أي استعلمت.
قال الزجاج: معنى تستأنسوا: تستأذنوا. قلت: ونسب الحافظ ابن حجر هذا التفسير إلى الجمهور. قال رحمه الله: "والمراد بـ "الاستئناس" في قوله تعالى {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} (3) الاستئذان، بتنحنح، ونحوه، عند الجمهور (4) . ثم ذكر أن الإمام مجاهدا يقول بذلك.
وقال الفراء: "هذا مقدم ومؤخر، إنما هو: حتى تسلموا وتستأنسوا: السلام عليكم أأدخل؟ وقال: والاستئناس في كلام العرب النظر. يقال:
__________
(1) انظر: فتح الباري: 11 / 9، ولسان العرب مادة ''أنس''.
(2) ينظر لسان العرب مادة ''أنس''.
(3) سورة النور الآية 27
(4) فتح الباري: 11 / 8.(82/346)
اذهب فاستأنس، هل ترى أحدا؟ (1) . فيكون معناه: انظر من ترى في الدار.
قلت: لا يمكن أن يعلم من في الدار، إلا بعد الاستئذان. أما حكم الاستئذان: فهو واجب بلا خلاف، فلا يجوز لأحد أن يدخل مكانا، ليس من حقه دخوله، من غير إذن صاحبه، كما سيأتي حديث أبي موسى الأشعري، الدال على المنع.
المطلب الثاني: المنهج الذي اتبعته في هذا البحث:
اتبعت الأمور التالية في هذا البحث:
1 – ذكرت الأحاديث المقبولة، بقسميها الصحيحة، والحسنة.
2 – اعتمدت في هذا البحث، على مصادر السنة النبوية المشهورة، كالكتب الستة، ومسند الإمام أحمد.
3 – إذا كان الحديث في الصحيحين، أو أحدهما، فإني أكتفي بالعزو إليهما، أو أحدهما، إذ لا فائدة من كثرة التخريج، ما دام الحديث قد ثبتت صحته.
4 – شرحت الأحاديث شرحا مختصرا، ولم أتوسع بالشرح، لأن الهدف من البحث، هو إبراز أنواع الاستئذان، في السنة.
واعتمدت على كتب الشروح المعتمدة، كفتح الباري، وشرح السنة، وغيرهما.
5 – تجنبت الأحاديث الضعيفة، وشديدة الضعف.
__________
(1) المرجع السابق(82/347)
6 – لم أستوعب أحاديث الاستئذان، في كل مطلب، لأن الهدف من هذا البحث، هو ذكر نماذج مختلفة، على أنواع الاستئذان، في السنة النبوية.
فمثلا لو تتبعت الأحاديث التي استأذن فيها الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطال الموضوع، وخرج عن هدفه الذي أردته.(82/348)
المبحث الثاني: الاستئذان وأنواعه في السنة:
وتحته أربعة مطالب:
المطلب الأول: استئذان الرسول - صلى الله عليه وسلم - زوجاته، وأصحابه:
ليس الاستئذان خاصة بفئة بدون فئة، بل هو عام، ومطلوب من كل شخص، في الأمور التي تحتاج إلى استئذان.
فهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستأذن زوجاته، وأصحابه في أمور كثيرة.
وهذا دليل واضح، على أهمية الاستئذان، وأنه لا يجوز التهاون فيه. فمن الأمور التي استأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزواجه، في المبيت عند عائشة رضي الله عنها، وذلك عندما اشتد مرضه.
1 – «قالت عائشة: لما ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - واشتد به وجعه، استأذن أزواجه، في أن يمرض في بيتي، فأذن له (1) » ... الحديث.
__________
(1) أخرجه الإمام البخاري - مع الفتح - كتاب الوضوء باب الغسل والوضوء في المخضب. 1 / 302 حديث 198، ومسلم - كتاب الصلاة - باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض.. 1 / 312 حديث 91.(82/348)
وجاء عند مسلم: «أن أول ما اشتكى في بيت ميمونة - رضي الله عنه - (1) » وهذا الاستئذان من الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أزواجه، دليل على أن القسم كان واجبا عليه - كما قال أهل العلم - وإلا لما استأذنهن.
وقيل: إنه استأذنهن، تطييبا لخاطرهن، وليس القسم واجبا في حقه - صلى الله عليه وسلم - (2) . قال الإمام النووي: " ... ولأصحابنا وجهان، أحدهما - يريد أنه واجب - والثاني سنة، ويحملون هذا، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم هذا قسمي فيما أملك (3) » على الاستحباب، ومكارم الأخلاق، وجميل العشرة (4) . ودل الحديث على فضل أم المؤمنين عائشة، على سائر أزواجه اللائي كن في عصمته، وقت مرضه. قال الإمام النووي: "وفيه فضيلة عائشة - رضي الله عنها - ورجحانها على جميع أزواجه الموجودات، ذلك الوقت، وكن تسعا، إحداهن عائشة ".
__________
(1) مسلم الصلاة (418) ، أحمد (6/228) .
(2) انظر فتح الباري: 1 / 303.
(3) الحديث أخرجه أبو داود برقم 2134، وابن ماجه 1971، وابن حبان 1305 (الموارد) كلهم من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن زيد، عن عائشة، وجاء عند ابن حيان ''أحمد بن سلمة'' وهو خطأ مطبعي، وروي هذا الحديث مرسلا، وصحح العلماء المرسل، قال الإمام الترمذي - بعد ذكره للحديث -: ''… ورواه حماد بن زيد، وغير واحد، عن أيوب، عن أبي قلابة، مرسلا، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم، وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة''. وصحح الإرسال أيضا الإمام البغوي، انظر شرح السنة: 9 / 151.
(4) شرح صحيح مسلم: 3 / 139(82/349)
وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وإنما اختلفوا في عائشة، وخديجة رضي الله عنهما (1) .
أما استئذان الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه، فقد جاءت عدة أحاديث، فمن ذلك:
2 - ما أخرجه الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنه - واللفظ للبخاري - أنه قال: «أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدح، فشرب منه، وعن يمينه غلام، فقال: يا غلام أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟
قال: ما كنت لأوثر بفضلي منك أحدا، يا رسول الله! فأعطاه إياه (2) » .
وهذا الغلام هو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقيل " الفضل "، والصحيح أنه " عبد الله ". وهذا التصرف منه يدل على فطانته، ونباهته (3) ، وقد أصبح حبر الأمة رضي الله عنه. وقد استأذن منه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان عن يمينه، مباشرة، فهو أحق من غيره، لذلك استأذنه عليه الصلاة والسلام. فهذا الاستئذان من الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعليم لأمته، بحيث تراعى الآداب، والقيم الإسلامية، بغض الطرف عن الشخص الذي كان صاحب الحق؛ لأن الإسلام قد ساوى بين
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي: 3 / 139
(2) البخاري - مع الفتح - كتاب الشرف والمساقاة - باب من رأى صدقة الماء وهبته. 5 / 29 - 30 حديث 2351. ومسلم - كتاب الأشربة - باب استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما، عن يمين.. 3 / 1604 حديث رقم 2030.
(3) انظر فتح الباري: 5 / 31(82/350)
المسلمين، فلا يقدم أحد على أحد لكونه متصفا بصفات، تفضله على الآخرين، وإنما تكون الأولوية لمن هو صاحب الحق، إلا إذا تنازل عن حقه.
ومن الأحاديث التي استأذن فيها رسول الله أصحابه:
3 - ما خرجه الشيخان عن أبي مسعود رضي الله عنه «أن رجلا من الأنصار، يقال له: أبو شعيب، كان له غلام لحام. فقال له أبو شعيب: اصنع لنا طعام خمسة، لعلي أدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - خامس خمسة - وأبصر في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - الجوع، فدعاه، فتبعهم رجل لم يدع. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا قد اتبعنا، أتأذن له؟ قال: نعم! (1) » ، وفي رواية عند البخاري: «وهذا رجل قد تبعنا، فإن شئت أذنت له، وإن شئت تركته". قال: بل أذنت له (2) » .
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - استأذن صاحب الطعام، لأنه لم يعلم رضاه، أما من علم رضا صاحب الطعام، فلا حاجة إلى الاستئذان. وتصرف أبي شعيب دليل على مكارم أخلاقه، فالرجل الكريم إذا دعا أناسا لطعام، ثم جاء معهم بعض الضيوف، فعليه أن يرحب بهم جميعا،
__________
(1) البخاري مع الفتح - كتاب المظالم - باب إذا أذن إنسان لآخر شيئا. 5 / 106 حديث 2456. مسلم - كتاب الأشربة - باب ما يفعل الضيف إذا تبعه غير من دعاه صاحب الطعام.. 3 / 1608 حديث رقم عام 2036.
(2) كتاب الأطعمة - باب الرجل يتكلف الطعام لإخوانه - 9 / 559 حديث 5434(82/351)
ويظهر السرور بقدومهم.
4 - ومن الأحاديث التي استأذن فيها بعض أصحابه. ما رواه: الإمام مسلم بسنده عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت أنه قال: «خرجت أنا وأبي نطلب العلم، في هذا الحي، من الأنصار، قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا أبا اليسر، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعه غلام له، معه ضمامة، من صحف.. إلى أن قال: ثم مضينا حتى أتينا جابر بن عبد الله، في مسجده، وهو يصلي.. الحديث.
ثم قال - أي جابر -: سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كانت عشيشية، ودنونا ماء، من مياه العرب.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من رجل يتقدمنا، فيمدد الحوض، فيشرب، ويسقينا؟
__________
(1) كتاب الزهد والرقائق - باب حديث جابر الطويل، وقصة أبي اليسر - 4 / 2301 حديث رقم عام 3006
(2) تصغير: عشية (1)(82/352)
قال جابر: فقمت، فقلت: هذا رجل يا رسول الله!
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي رجل مع جابر؟
فقام جبار بن صخر، فانطلقنا إلى البئر، فنزعنا في الحوض سجلا، أو سجلين، ثم مدرناه، ثم نزعنا فيه حتى أفهقناه، فكان أول طالع علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: أتأذنان؟ قلنا: نعم يا رسول الله، فأشرع ناقته، فشربت شنق فبالت ثم عدل بها، فأناخها، ثم جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحوض فتوضأ منه (3) » .. الحديث بطوله.
يلاحظ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقترب من الحوض، حتى استأذن جابر بن عبد الله وجبار بن صخر، علما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أرسلهما للقيام بهذه المهمة، وذلك من باب التعليم للأمة. قال الإمام النووي - تعليقا على قوله "أتأذنان" -: هذا تعليم منه - صلى الله عليه وسلم - لأمته، الآداب الشرعية، والورع، والاحتياط، والاستئذان في مثل هذا، وإن كان يعلم أنهما راضيان، وقد أرصدا ذلك له - صلى الله عليه وسلم -، ثم لمن بعده (4) .
__________
(1) يمدد: أي يطين الحوض ويصلحه (2)
(2) أي ملأناه بالماء (1)
(3) (2) بها، فشحت
(4) شرح صحيح مسلم: 18 / 140.(82/353)
علما أن الصحابة الذين دخل عليهم - صلى الله عليه وسلم -، لا يوجد حرج لديهم، في دخوله - صلى الله عليه وسلم - من غير استئذان، لأنه هو الذي أرسلهم، من أجل ذلك. وإنما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستأذن، ليعلم أمته ويبين لها أنه لا يجوز لأحد أن يقدم على حق الآخرين، إلا بعد الاستئذان. وقد تكرر استئذان الرسول - صلى الله عليه وسلم - من صحابته، وما تقدم دليل على اهتمام الرسول - صلى الله عليه وسلم – به، وأن على كل مسلم أن يتأسى به - صلى الله عليه وسلم -.(82/354)
المطلب الثاني: استئذان الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
كان الصحابة رضي الله عنهم نموذجا فريدا، في أدبهم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا يرفعون أصواتهم فوق صوته، وإذا جاء أحدهم إليه كان يستأذنه على استحياء، وإذا جلسوا حوله كانوا في غاية(82/354)
الأدب، ولا يعبأ أحدهم بما حوله، ويجلسون عنده، وكأن على رءوسهم الطير.
فلا عجب إذن أن يستأذنوه، في شئون حياتهم كلها. فهو القائد، وهو المربي الذي غرس في نفوسهم الإيمان، والأخلاق الإسلامية الرفيعة.
وبما أنهم كانوا يستأذنونه في أمورهم، كبيرها، وصغيرها، وكان هذا الاستئذان متنوعا، كما سيظهر لنا ذلك، فإني سأكتفي بنماذج، من هذه الأنواع، فمن ذلك:
5 - ما رواه الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه - واللفظ للبخاري - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من لكعب بن الأشرف؟ " فقال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله؟ قال: نعم! قال: فأذن لي فأقول. قال: قد فعلت (1) » .
__________
(1) البخاري - مع الفتح - كتاب الجهاد - باب الفتك بأهل الحرب - 6 / 160 حديث 2032. ومسلم - كتاب الجهاد والسير - باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود - 3 / 1425 حديث رقم عام 1801. قلت: الحديث رواه البخاري في عدة مواضع، منها مطول، ومنها مختصر، واقتصرت على الرواية المختصرة، لأن فيها محل الشاهد. قلت: وكعب أبوه عربي من قبيلة طيئ، وأتى المدينة هاربا، إذ أصاب دما في الجاهلية، فحالف بني النضير، وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق اليهودية، فولدت له كعبا هذا، وكان يهوديا، لأن أمه يهودية.(82/355)
وسبب قتل كعب بن الأشرف، أنه كان يحرض على قتال المسلمين، وقد هجا الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين.
قال عروة - كما في الفتح -: كان يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمسلمين، ويحرض قريشا عليهم، وأنه لما قدم على قريش. قالوا له: أديننا أهدى أم دين محمد؟ قال: دينكم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من لنا بابن الأشرف، فإنه قد استعلن بعداوتنا (1) » ، وهناك أسباب أخرى في قتله، منها: أنه نقض العهد بينه، وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إذ عاهده ألا يعين عليه أحدا، لكنه نقض ذلك، فحارب، إلى جانب الهجاء، والشتم (2) .
قال الإمام البغوي: وكان كعب بن الأشرف، ممن عاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألا يعين عليه أحدا، ولا يقاتله، ثم خلع الأمان، ونقض العهد، ولحق بمكة، وجاء معلنا معاداة النبي - صلى الله عليه وسلم -، يهجوه في أشعاره، ويسبه، فاستحق القتل (3) فحينئذ طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه، إخماد صوت هذا الفاجر، فتطوع محمد بن مسلمة الأنصاري، لقتله، لكنه استأذن من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقول شيئا من الكلام، فيه تورية. فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) فتح الباري: 7 / 337 وما بعدها
(2) انظر: شرح مسلم للنووي 12 / 160 وما بعدها.
(3) شرح السنة: 11 / 45(82/356)
قال الإمام النووي: قوله "ائذن لي فلأقل" معناه: ائذن لي أن أقول عني وعنك، ما رأيته مصلحة، من التعريض وغيره، ففيه دليل على جواز التعريض. وهو أن يأتي بكلام، باطنه صحيح، ويفهم منه المخاطب غير ذلك. فهذا جائز في الحرب وغيرها، ما لم يمنع به حقا شرعيا. (1) .
6 - ومن الأمور التي استأذن فيها الصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما رواه عبد الله بن عمر، «أن عمر بن الخطاب انطلق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رهط من أصحابه، قبل ابن صياد، حتى وجده يلعب مع الغلمان، في أطم بني مغالة - وقد قرب ابن صياد يومئذ الحلم - فلم يشعر حتى ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظهره بيده، ثم قال: أتشهد أني رسول الله؟ فنظر إليه، فقال: أشهد أنك رسول الأميين. ثم قال ابن صياد: أتشهد أني رسول الله؟ فرضه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: آمنت بالله ورسوله! .. الحديث، قال عمر: يا رسول الله! أتأذن لي فيه أضرب عنقه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن يكن هو لا تسلط عليه، وإن لم يكن هو فلا خير لك في قتله (2) » .
فعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم يقدم على قتل ابن صياد في
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي: 12 / 161
(2) أخرجه البخاري في صحيحه - مع الفتح - كتاب الأدب - باب قول الرجل للرجل اخسأ - 10 / 560 وما بعدها حديث 6173، ومسلم - كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب ذكر ابن صياد - 4 / 2240 حديث رقم عام 2930، وأخرجه أيضا من حديث ابن مسعود وأبي سعيد الخدري.(82/357)
حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنما استأذنه في قتله. وهذا الموقف يبين لنا أن الإنسان، لا يجوز له، أن يتصرف في حضرة المسئول، إلا بعد استئذانه. وهذا من باب الأدب والاحترام، والمحافظة على المصلحة العامة، لأن الناس لو تصرف كل منهم، على حسب ما ظهر له من الحق، لعمت الفوضى، واختلط الحابل بالنابل، كما يقال. وقد تكرر الاستئذان من عمر للرسول - صلى الله عليه وسلم - في ضرب عنق من يقوم بعمل يخالف الإسلام.
إذ استأذنه في قتل حاطب بن أبي بلتعة (1) ، وقتل ذي الخويصرة.
وهذا العمل من أمير المؤمنين، يدل على أمرين:
1- غيرته على الإسلام وشدته في الحق.
2- أدبه مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلا يقدم على عمل إلا بعد استئذان الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
أما ابن صياد: فهو من اليهود، واختلف فيه، هل هو الدجال، أو من الكهنة، فأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يختبر حاله. روى الإمام
__________
(1) انظر صحيح البخاري حديث رقم 3007، وصحيح مسلم حديث رقم عام 2494.(82/358)
أحمد بسنده عن جابر بن عبد الله أنه قال: «ولدت امرأة من اليهود غلاما ممسوحة عينه، والأخرى طالعة، ناشئة، فأشفق النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون هو الدجال (1) » وقد كان جابر بن عبد الله يحلف أن ابن صياد هو الدجال.
روى البخاري بسنده عن محمد بن المنكدر أنه قال: «رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله، أن ابن صياد الدجال. قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر، يحلف على ذلك عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكره النبي - صلى الله عليه وسلم (2) » .
7 - وممن استأذنه - صلى الله عليه وسلم - سلمة بن الأكوع.. أن يقول رجزا بين يديه، «قال سلمة بن الأكوع: لما كان يوم خيبر، قاتل أخي قتالا شديدا، مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارتد عليه سيفه فقتله.
فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك وشكوا فيه، رجل مات في سلاحه، وشكوا في بعض أمره، قال سلمة: فقفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من خيبر، فقلت: يا رسول الله! ائذن لي أن أرجز لك، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال عمر بن الخطاب: اعلم ما تقول. قال: فقلت:
__________
(1) (الفتح الرباني) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب من رأى ترك النكير من النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة - 13 / 323 حديث 7355.
(2) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب من رأى ترك النكير من النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة، لا من غير الرسول - 13 / 323 حديث 7355.(82/359)
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا (1)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدقت..» الحديث.
فهذا الصحابي لم يقل الرجز بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى استأذنه، وهذا دليل على أدبه، وتقديره، للرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وأن الإنسان، لا يقدم على عمل يعمله، أمام القائد، أو الراعي إلا بعد استئذانه ومثل ذلك الطالب مع أستاذه، في الفصل، فلا يتكلم، أو يقول شيئا إلا بعد أن يستأذن. وهذا حسان بن ثابت، الأنصاري، الخزرجي، لم يهج المشركين، إلا بعد أن استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
8 - قالت أم المؤمنين عائشة: «استأذن حسان بن ثابت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في هجاء المشركين. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فكيف بنسبي؟ فقال حسان: لأسلنك منهم، كما تسل الشعرة من العجين (2) » . هجاء المشركين مشروع، لأن ذلك يعتبر من باب الانتصار، والرد على المشركين، الذين كانوا يبدءون بذلك، قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا الحديث جواز سب المشرك، جوابا عن سبه للمسلمين.
ولا يعارض ذلك مطلق النهي عن سب المشركين، لئلا يسبوا
__________
(1) أخرجه مسلم - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة خيبر - 3 / 1429 وما بعدها حديث 124.
(2) أخرجه البخاري - كتاب الأدب - باب هجاء المشركين - 10 / 546 حديث 6150. ومسلم - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل حسان بن ثابت - 4 / 1935، مرة: طلب الإذن في هجاء أبي سفيان، ومرة بدون ذكره.(82/360)
المسلمين، لأنه محمول على البداءة به، لا على من أجاب منتصرا، وقد كان لهذا الهجاء وقع كبير على المشركين، كما جاء في الحديث، الذي أخرجه الإمام مسلم: عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اهجوا المشركين، فإنه أشد عليهم، من رشق بالنبل.. (1) » الحديث، ويعتبر الهجاء، من أنواع الجهاد، لذلك كان جبريل يؤيد حسان بن ثابت - كما جاء في الحديث المتقدم - قالت عائشة: «فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان: إن روح القدس، لا يزال يؤيدك، ما نافحت عن الله ورسوله (2) » . وبما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، هو المشرع، كان الصحابة رضي الله عنهم، يستأذنونه، في العبادات فمن ذلك:
9 - ما أخرجه البخاري بسنده عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: «استأذن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة، ليالي منى، من أجل سقايته، فأذن له (3) » .
كان العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - مسئولا عن السقاية، بعد موت أبيه، وبقيت في يده، حتى جاء الإسلام، فأقرها له - صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) كتاب فضائل الصحابة - باب فضل حسان بن ثابت - 4 / 1935 حديث رقم عام (2490) ، والمراد بالرشق الرمي.
(2) مسلم فضائل الصحابة (2490) ، الترمذي الأدب (2846) ، أبو داود الأدب (5015) ، أحمد (6/72) .
(3) كتاب الحج - باب سقاية الحاج: 3 / 490 حديث 1634.(82/361)
ومن المعروف أن الناس بحاجة، إلى الماء، في أيام الحج، فاستأذن العباس الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ألا يبيت بمنى، ليتمكن من تجهيز (1) الماء للحجاج. وكان رضي الله عنه لا يسمح لأحد أن يغتسل منها. قال زر بن حبيش: كان العباس بن عبد المطلب في المسجد، وهو يطيف حول زمزم، ويقول: لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب، ومتوضئ، حل وبل ومشى على ذلك ابنه عبد الله رضي الله عنه، إذ كان يمنع من الاغتسال منها، واتخذ مجلسا عند البئر. (2) .
10 - وهذه أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها تستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدفع من مزدلفة قبل الناس. قالت عائشة: نزلنا المزدلفة، فاستأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - سودة أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأذن لها فدفعت، قبل حطمة الناس، وأقمنا حتى أصبحنا نحن، ثم دفعنا بدفعه، فلأن أكون استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما استأذنت سودة أحب إلي من مفروح به. كانت أم المؤمنين سودة، ثقيلة الحركة، وذلك لعظم جسمها، رضي الله عنها، فاستأذنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن تدفع، من مزدلفة، قبل دفع
__________
(1) انظر أخبار مكة للفاكهي 2 / 63.
(2) انظر المصدر السابق: 2 / 63 رقم 1155 و 70، 86(82/362)
الناس، وازدحامهم، ولو فعلت ذلك، عائشة أيضا لكان أحب إليها، من أي شيء يفرح به (1) .
11 - وهذه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - تستأذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد في سبيل الله تعالى. قالت رضي الله عنها: استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد. فقال: «جهادكن الحج (2) » . أرادت أم المؤمنين عائشة أن تشارك في الجهاد في سبيل الله، لأن أجر الشهيد عند الله عظيم، ومكانته كبيرة، فاستأذنت الرسول في ذلك، لعلها تنال ما أعده الله للشهداء، فأخبرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن جهاد النساء، في الحج، إذ الحج بالنسبة لهن، بمثابة الجهاد في سبيل الله تعالى. ولم يؤذن لها في الجهاد، لأنه قائم على القتال، وعلى المخاطر، وغالب النساء لا يستطعن ذلك، لقلة صبرهن، وجزعهن. إن استئذان الزوجة من زوجها أمر قد قرره الإسلام، فلا يجوز للمرأة، أن تتصرف في الأمور التي هي من حق الزوج، إلا بعد استئذانه.
ولو تتبعت الأحاديث الواردة في هذا، لبلغت عددا لا بأس به، لكني اقتصرت على ذلك لتكون نماذج، على هذا النوع من الاستئذان وكان
__________
(1) انظر فتح الباري: 4 / 529
(2) البخاري - مع الفتح - كتاب جهاد النساء - 6 / 75 حديث 2875(82/363)
الصحابة رضي الله عنهم، سواء كانوا رجالا، أو نساء، يستأذنون الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل أمر، له شأن.
12 - فهذه الصحابية سبيعة الأسلمية رضي الله عنها تستأذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الزواج بعد وفاة زوجها. عن المسور بن مخرمة «أن سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال، فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنته أن تنكح، فأذن لها فنكحت (1) » قلت: وسبب استئذانها من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنها بعد وفاة زوجها بليال وضعت، إذ كانت حاملا، وتزينت للخطاب، فخطبها أبو السنابل، فأبت أن تنكحه، ونكحت غيره.
فقال لها أبو السنابل: لا يحل لك الزواج، حتى تعتدي أبعد الأجلين، حينئذ جاءت واستأذنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فأذن لها، وأخبرها بأنها أصبحت حلالا، بإمكانها أن تتزوج (2) وإصدار هذا الحكم من أبي السنابل، دليل على أنه كان فقيها، قادرا على الفتوى، وإلا لأنكر عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكنه يعذر في فتواه، لأنه تمسك بالعموم، الذي يقضي على أن كل امرأة يموت عنها زوجها أن تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام، لكن الحامل خصت من هذا العموم،
__________
(1) البخاري - مع الفتح - كتاب الطلاق - باب (واللائي يئسن من المحيض) . 9 / 470 حديث 5320
(2) انظر صحيح البخاري رقم 5318، وفتح الباري: 9 / 472 وما بعدها(82/364)
فخفي عليه ذلك (1) .
__________
(1) انظر الإصابة في تمييز الصحابة: 7 ق1 / 162.(82/365)
المطلب الثالث: استئذان الناس بعضهم من بعض:
أرسى الإسلام دعائم الأخلاق، في المجتمع المسلم، كما مر بنا في المقدمة، فلا غيبة ولا نميمة، ولا تطاول على حقوق الآخرين، إلا بعد الاستئذان.
وقد جاء القرآن الكريم، مبينا حكم ذلك، بالتفصيل. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (2) {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} (3) فهذا حكم عام، تناول حرمة الدخول إلى بيوت الغير، إلا بعد الاستئذان، فإن لم يوجد فيها أحد فلا يجوز دخولها، لأنه لم يؤذن له {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} (4) . أما البيوت العامة، كالفنادق، والمحلات التجارية، فلا حاجة للاستئذان، لأنها غير مهيأة، للكشف عن العورات.
أما الأحاديث التي وردت في الاستئذان، وأنواعه فهي كثيرة.
13 - فمن الأحاديث التي بينت كيفية الاستئذان، ما رواه الشيخان
__________
(1) سورة النور الآية 27
(2) سورة النور الآية 28
(3) سورة النور الآية 29
(4) سورة النور الآية 28(82/365)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه - واللفظ للبخاري - أنه قال: «كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى، كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثا، فلم يؤذن لي، فرجعت. فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا، فلم يؤذن لي، فرجعت.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا استأذن أحدكم ثلاثا، فلم يؤذن له، فليرجع" فقال: والله لتقيمن عليه بينة. أمنكم أحد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم، فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك (1) » .
فهذا الحديث قد بين لنا كيفية الاستئذان، وأنه يكون ثلاث مرات فقط، ولا يزيد على الثلاث، إلا إذا غلب على ظنه أنه لم يسمع، فحينئذ يشرع له الزيادة. وقيل: تجوز الزيادة، على الثلاث، سواء سمع المستأذن عليه، أو لم يسمع، لأن الغاية من تحديده بالثلاثة، التخفيف عن المستأذن. والأمر فيه للإباحة (2) قلت: الصواب أن يحدد بثلاث مرات، ولا يزيد عن ذلك، إلا إذا غلب على ظنه، أن المستأذن عليه، لم يسمع. وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم، كما صنع أبو موسى الأشعري مع أمير المؤمنين عمر. كما أن المستأذن عليه، إذا كان عنده ما يمنعه، من
__________
(1) البخاري - مع الفتح - كتاب الاستئذان - باب التسليم ثلاثا - 11 / 26 - 27 حديث 6245، ومسلم - كتاب الآداب - باب الاستئذان - 3 / 1694 حديث رقم عام 2153.
(2) انظر فتح الباري: 11 / 30.(82/366)
الإذن، فله الحق ألا يأذن لأحد (1) .
أما الحكمة من كون الاستئذان ثلاث مرات، فقد روى أبو بكر بن أبي شيبة بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:
"الأولى إعلام، والثانية مؤامرة، والثالثة عزمة، إما أن يؤذنوا، وإما أن يردوا". (2) . أما من دعي فهل يستأذن عندما يأتي أم لا؟ ذهب بعض العلماء: إلى أنه يستأذن.
14 - والدليل على ذلك، ما رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة أنه قال: «دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجد لبنا في قدح، فقال: أبا هر! الحق أهل الصفة، فادعهم إلي. قال: فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا، فأذن لهم، فدخلوا (3) » .
قلت: ينظر على حسب العرف والعادة، فإذا كان المكان يحتاج إلى استئذان، استأذن، وإلا فلا. فمن جعل مكانا خاصا، للضيوف، منعزلا، فلا حاجة للاستئذان (4) . وقد حرم الإسلام النظر خلسة، من شقوق الباب، أو من فتحة صغيرة في الجدار، فمن حق صاحب المنزل أن يطعنه في عينه. قال سهل بن سعد: «اطلع رجل من جحر في حجر النبي
__________
(1) انظر فتح الباري: 11 / 30
(2) المصنف: باب في الاستئذان كم مرة يستأذن - 5 / 268 حديث 25969، ومعنى مؤامرة: المشاورة بين أهل المنزل
(3) كتاب الاستئذان - باب إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن - 11 / 31 حديث 6246.
(4) انظر فتح الباري: 11 / 32(82/367)
- صلى الله عليه وسلم -، ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - مدرى، يحك به رأسه. فقال: لو أعلم أنك تنظر، لطعنت به، في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر (1) » . لذلك شرع للمستأذن عندما يستأذن، أن يقف عن يمنى الباب، أو عن يساره.
ولا يقف مستقبل الباب، لأنه لو وقف مستقبل الباب، لوقع بصره داخل البيت.
15 - أخرج أبو داود بسنده عن طلحة، «عن هذيل أنه قال: جاء رجل! قال: عثمان بن سعد. فوقف على باب النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذن، فقام على الباب، قال عثمان: مستقبل الباب!
فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا عنك، وهكذا، فإنما الاستئذان من النظر (2) » . والمراد من قوله «هكذا عنك، وهكذا (3) » أي: قم على الباب بجانب اليمين أو الشمال، ولا تقم مستقبل الباب.
قال السهارنفوري، رحمه الله: " فإذا قام رجل قبالة الباب، يدخل بصره في البيت، فلعله يرى بعض ما يكره صاحب البيت، وهذا هو علة الاستئذان، للحفظ عن النظر " (4) ، قلت: وهذا أدب تربوي عظيم، لأن
__________
(1) أخرجه البخاري - مع الفتح - كتاب الاستئذان - باب الاستئذان من أجل البصر - 11 / 24 حديث 6241، ومسلم - كتاب الآداب - باب تحريم النظر في بيت غيره - حديث رقم عام 2151.
(2) كتاب الأدب - باب الاستئذان - 20 / 114
(3) أبو داود الأدب (5174) .
(4) بذل المجهود: 20\114.(82/368)
من أطلق العنان لبصره، فإنه سيوصله إلى ما لا يحمد عقباه، فالإسلام أمر بحفظ البصر، لأن حفظه وسيلة من الوسائل التي تقي الإنسان، من الفتنة، كما لا يخفى. ومن نظر من شقوق البيت خلسة، وطعنه صاحب البيت بعينه، فليس عليه قصاص، أو دية، إن أصابه في عينه، لأنه هدر.
أما ما ذهب إليه المالكية، وغيرهم، من أنه يقتص منه، بحجة أن المعصية، لا تدفع بالمعصية، فلا يسلم لهم، لأن هذا الفعل أذن فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلا يسمى معصية (1) .
كما أن على المستأذن، عندما يسأل وقت الاستئذان، أن يعرف بنفسه.
16 - لما رواه الشيخان عن جابر بن عبد الله - واللفظ لمسلم - أنه قال: «استأذنت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: من هذا! فقلت: أنا! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا، أنا (2) » وكره الرسول – صلى الله عليه وسلم – قوله: أنا؛ لأنه لا يقع التعريف بهذا اللفظ، قال المهلب – كما في الفتح -: "إنما كره قول "أنا" لأنه ليس فيه بيان، إلا إن كان المستأذن ممن يعرف المستأذن عليه صوته، ولا يتلبس بغيره، والغالب الالتباس ".
__________
(1) انظر شرح السنة: 10 / 254، وفتح الباري: 12 / 245.
(2) أخرجه البخاري - كتاب الاستئذان - باب إذا قال: من ذا! فقال: أنا، ومسلم - كتاب الآداب - باب كراهة قول المستأذن أنا، إذا قيل: من هذا، 3 / 1697، حديث 39.(82/369)
وهذا الحديث يستدل به، على مشروعية طرق الباب. قال ابن العربي: في حديث جابر، مشروعية دق الباب (1) .
وهذا الاستئذان واجب في كل الأحوال، حتى بين المحارم، فمن أراد الدخول على محارمه، كأمه، أو أخته، فعليه الاستئذان.
17 - روى مالك عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأله رجل، فقال: يا رسول الله! أستأذن على أمي؟ فقال: نعم، قال الرجل: إني معها في البيت! فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "استأذن عليها". فقال الرجل: إني خادمها!
فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة! قال: لا! قال: فاستأذن عليها (2) » . فمن كان ساكنا مع محارمه، ينظر إلى الوقت الذي يريد الدخول فيه، فإن كان في وقت الاستراحة، أو النوم، فلا يدخل إلا بعد الاستئذان. أما إذا لم يكن الدخول في غير أوقات الاستراحة، فيدخل من غير استئذان.
وقد حدد القرآن الكريم هذه الأوقات التي لا يجوز فيها الدخول لأحد إلا بعد الاستئذان، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (3) {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (4)
__________
(1) الفتح 11 / 36
(2) الموطأ: كتاب الاستئذان - باب الاستئذان - 2 / 963 حديث 1، قال ابن عبد البر: مرسل صحيح، ولا أعلمه يستند من وجه صحيح ولا صالح.
(3) سورة النور الآية 58
(4) سورة النور الآية 59(82/370)
تضمنت هذه الآيات، ثلاثة أوقات لا يجوز الدخول فيها إلا بعد الاستئذان، وهي:
1- قبل صلاة الفجر، لأن الإنسان حينئذ يكون في حالة القيام عن المضاجع، وعليه ثياب النوم.
2- وقت الظهر، والذي يعرف بالقيلولة.
3- بعد صلاة العشاء، لأن الإنسان يكون في حالة التجرد من ثيابه، والاستعداد للنوم.
فهذه الأوقات الثلاثة، ينهى عن الدخول فيها للخدم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم.
أما إذا بلغ الأطفال الحلم، فحينئذ لا يجوز لهم الدخول، في هذه الأوقات الثلاثة، وغيرها، إلا بعد الاستئذان، فيجب عليهم الاستئذان، في جميع الأوقات، كما هو واجب على الكبار الذين أمروا بالاستئذان، من غير استثناء (1) .
__________
(1) انظر فتح القدير: 4 / 51 و 52.(82/371)
وقد سمى الله تعالى هذه الأوقات الثلاث عورات، وهذا اللفظ عام، فيشمل عورات البدن، وعورات أثاث المنزل، قد يكون المنزل في حالة، لا يحب صاحب المنزل أن يراه على تلك الحالة، فالعورات كثيرة داخل البيوت. وهذه الاستئذان الذي أمر به الإسلام، ليس خاصا في الدخول إلى المكان فقط، بل هو أوسع، وأشمل، من ذلك فعلى الإنسان أن يستأذن الغير، في كل أمر ليس من حقه، فمن ذلك.
18 - أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، استأذن أم المؤمنين عائشة، أن يدفن في حجرتها، مع صاحبيه، قال عمرو بن ميمون الأودي: رأيت عمر بن الخطاب قال: يا عبد الله بن عمر اذهب إلى أم المؤمنين عائشة، فقل لها: يقرأ عمر بن الخطاب عليك السلام، ثم سلها أن أدفن مع صاحبي. قالت: كنت أريده لنفسي، فلأوثرنه اليوم على نفسي، فلما أقبل قال له: ما لديك؟
قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين. قال: ما كان شيء أهم إلي من ذلك المضجع، فإذا قبضت، فاحملوني، ثم سلموا، ثم قل يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت فادفنوني، وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين".
وسبب استئذان أمير المؤمنين من عائشة، أنها صاحبة الحجرة، فهي أحق بها من غيرها، قال ابن بطال - كما في الفتح -: "إنما استأذنها عمر،(82/372)
لأن الموضع كان بيتها، وكان لها فيه حق، وكان لها أن تؤثر به على نفسها، فآثرت عمر " (1) .
ومن الأمور التي يستأذن فيها - الجلوس بين شخصين؛ لأنه لا يجوز أن يفرق بين اثنين، إلا بإذنهما.
19 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل للرجل أن يفرق بين اثنين، إلا بإذنهما (2) » .
وسبب هذا النهي: هو لكي لا يضيق عليهما، حسا، أو معنى، فقد يكون المكان ضيقا، فيأتي هذا القادم، ليجلس بينهما، وفي هذا مضايقة واضحة، أو يكون بينهما حديث، لا يريدان أن يسمع حديثهما أحد، ثم يأتي هذا القادم، ليقطع بينهما حديثهما. أما إذا كان بينهما، فرجة واسعة، أو كان المكان ضيقا، لكن أذنا له، فحينئذ يجوز له (3) .
قلت: ومثل ذلك إذا كانوا ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون إذن الثالث.
ومن الأمور التي يجب فيها الاستئذان أخذ شيء من مال الغير، حتى لو كان شيئا قليلا، كحلب الشاة، وأخذ الحليب منها.
20 - عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحلبن
__________
(1) فتح الباري: 3 / 258
(2) أخرجه الترمذي - كتاب الأدب - باب ما جاء في كراهية الجلوس بين الرجلين بغير إذنهما - 5 / 89 حديث 2752، وقال عنه: حديث حسن صحيح. وأبو داود - كتاب الأدب - باب في الرجل يجلس بين الرجلين بغير إذنهما - 4 / 265 حديث 4844 و 4845.
(3) انظر: بذل المجهود 19 / 92(82/373)
أحد ماشية امرئ، بغير إذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته، فتكسر خزانته، فينتقل طعامه؟ فإنما تخزن لهم ضروع ماشيتهم، أطعماتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه (1) » . في هذا الحديث نهي عن أخذ مال الناس، إلا بعد الاستئذان، وذكر الحديث اللبن دون غيره، لتساهل الناس فيه، فغيره من باب أولى.
قال الإمام البغوي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أنه لا يجوز أن يحلب ماشية الغير بغير إذنه (2) . وقال ابن عبد البر - كما في الفتح -: "في الحديث النهي عن أن يأخذ المسلم للمسلم شيئا إلا بإذنه، وإنما خص اللبن بالذكر، لتساهل الناس فيه، فنبه به على ما هو أولى منه" (3) .
وذهب بعض العلماء: إلى جواز أخذ اللبن، ليشربه، أو أخذ فواكه من البستان، ولو لم يكن المالك موجودا.
وخص بعض أهل العلم الأخذ بأهل السبيل. أما المضطر فله أن يأخذ ما يكفيه باتفاق (4) . قلت: مثل هذه الأمور، ينظر فيها إلى العرف والعادة بين الناس، فيرخص لابن السبيل وللمحتاج، وما عداهما لا يجوز له، والله أعلم. وقد شبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضروع المواشي في حفظ
__________
(1) أخرجه البخاري - مع الفتح - كتاب اللقطة - باب تحريم حلب الماشية بغير إذن مالكها - 3 / 1352 حديث رقم عام 1726
(2) شرح السنة: 8 / 233
(3) الفتح: 5 / 89
(4) انظر: شرح السنة 8 / 233، والفتح 5 / 89، ففيه تفصيل لهذه المسألة.(82/374)
اللبن، بالغرفة التي يحفظ فيها المتاع، وعليه تكون حرزا له (1) .
ومن الأمور التي يجب فيها الاستئذان، إذا أراد أحد أن يتصرف في مال الغير، فإنه لا يجوز له التصرف قبل الاستئذان.
21 - فمن ذلك ما رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبته، في جداره، فلا يمنعه". فنكسوا (3) » .
فهذا الحديث دليل على وجوب الاستئذان، قبل استعمال أموال الآخرين.
واختلف فيمن استأذن جاره، في وضع خشبة، على جداره، فمن العلماء من ذهب إلى أنه يخير، ومنهم من قال: يجب أن يلبي ما طلب (4) .
22 - ومن الأمور التي يجب فيها الاستئذان، أن الإنسان إذا خطب، أو أراد أن يشتري شيئا فلا يجوز لأحد الإقدام على ذلك، إلا بعد استئذانه، والدليل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم - واللفظ لمسلم -
__________
(1) انظر شرح السنة: 8 / 235.
(2) كتاب الأقضية - باب أبواب من القضاء - 3 / 314 وما بعدها، حديث 3634، وأخرجه أيضا الشيخان، لكن لم يذكر لفظ الاستئذان. انظر: صحيح البخاري رقم 2463 - كتاب المظالم - باب لا يمنع جار جاره. ومسلم حديث رقم عام 1609 - كتاب المساقاة، باب غرز الخشب في جدار الجار.
(3) (2) . فقال: ما لي أراكم قد أعرضتم؟ لألقينها بين أكتافكم
(4) انظر بذل المجهود: 15 / 319 وما بعدها(82/375)
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له (1) » . وقد يكون الاستئذان، في أمر معنوي، فمن ذلك:
23 - قال أبو مسعود - رضي الله عنه - قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، وأقدمهم قراءة، فإن كانت قراءتهم سواء، فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فليؤمهم أكبرهم سنا. ولا يؤمن الرجل في أهله، ولا في سلطانه، ولا تجلس على تكرمته في بيته، إلا أن يأذن لك، أو بإذنه (2) » . والمراد أن صاحب البيت، وصاحب المجلس، وإمام المسجد، أحق من غيره، بالإمامة، وإن كان موجودا من هو أفقه منه، وأقرأ، إلا إذا أذن صاحب المكان، فحينئذ لا مانع، لأنه تنازل عن حقه بإرادته. والمراد بـ "التكرمة" في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تجلس على تكرمته في بيته ... (3) » الفراش، ونحوه، مما يخصص، لصاحب المنزل. فمن دخل على
__________
(1) البخاري - مع الفتح - كتاب النكاح باب لا يخطب على خطبة أخيه. - 9 / 198 حديث 5142، ومسلم - كتاب النكاح - باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن.. - 2 / 1032 حديث رقم 50.
(2) أخرجه مسلم - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب من أحق بالإمامة - 1 / 465 حديث 290.
(3) انظر شرح صحيح مسلم: 5 / 173، 174. جاء تفسير ''تكرمته'' في مسند أبي عوانة: 2 / 36 ''قال شعبة: قلت: أي شيء تكرمته؟ قال: الفراش''(82/376)
منزل، بعد استئذان صاحبه، وكان هناك مكان مخصص، لصاحب المنزل، فلا يحق لهذا الداخل، الجلوس، في ذلك المكان، إلا إذا أذن له صاحب البيت.
24 - ومن أنواع الاستئذان، استئذان الجند أميرهم، كما استأذن الصحابي أبو شريح الخزاعي رضي الله عنه، عمرو بن سعيد، الكلام بين يديه.
عن سعيد بن أبي سعيد «عن أبي شريح أنه قال لعمرو بن سعيد (2) ، لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار. ثم عادت حرمتها اليوم، كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب» . ففي
__________
(1) أخرجه البخاري - مع الفتح - كتاب العلم - باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب - 1 / 197 وما بعدها حديث 104، ومسلم - كتاب الحج - باب تحريم مكة وصيدها. 2 / 987 حديث رقم عام 1354.
(2) (1) وهو يبعث البعوث إلى مكة - ائذن لي أيها الأمير، أحدثك قولا قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به. حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن مكة حرمها الله تعالى، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ، يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص معنى قوله: فإن أحد ترخص لقتال رسول الله: أي إذا استدل بقول الرسول، فقولوا له.(82/377)
هذا الحديث، إنكار، من أبي شريح، لعمرو بن سعيد، على غزوه مكة، عندما كان معتصما فيها، عبد الله بن الزبير، في ولاية يزيد بن معاوية، فأراد أن ينكر على عمرو بن سعيد، فعله هذا، لكنه تلطف رضي الله عنه، فاستأذن منه، ليكون لكلامه وقع في النفس.
قال الحافظ ابن حجر: "يستفاد منه حسن التلطف، في مخاطبة السلطان، ليكون أدعى لقبولهم، النصيحة، وأن السلطان لا يخاطب إلا بعد استئذانه، ولا سيما إذا كان في أمر يعترض به عليه، فترك ذلك، والغلظة له، قد يكون سببا لإثارة نفسه، ومعاندة من يخاطبه" (1) . قلت: لا بد من الاستئذان، سواء كان واليا، أو قائدا، أو مسئولا، لأن أي إنسان إذا تكلم بما يريد، من غير استئذان، أو تصرف في أمر ما، أصبحت الأمور فوضى. وهذا ما فهمه الصحابة، إذ كانوا يستأذنون الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
25 - روى البخاري بسنده «عن أبي هريرة وزيد بن خالد قالا: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام رجل، فقال: أنشدك الله إلا ما قضيت بيننا، بكتاب الله، فقام خصمه، وكان أفقه منه. فقال: اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي! قال: قل. قال: إن ابني هذا، كان عسيفا على هذا (2) » .. الحديث.
__________
(1) فتح الباري: 4 / 43
(2) كتاب الحدود - باب الاعتراف بالزنا - 12 / 136 وما بعدها حديث 6827، 6828 - والعسيف: هو الأجير.(82/378)
فيلاحظ أن الصحابي، لم يتكلم إلا بعدما استأذن من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إذ قال: "وائذن لي".
26 - ومن الأمور التي يستأذن فيها، الذهاب إلى الجهاد، فلا يجوز لمن كان أبواه، أو أحدهما، على قيد الحياة، أن يذهب إلى الجهاد، إلا بعد استئذانهما. عن عبد الله بن عمرو أنه قال: «جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهاد! فقال: "أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما جاهد (1) » . وجاء عند أبي داود: «ارجع فاستئذنهما، فإن أذنا لك، فجاهد، وإلا فبرهما". (2) » فهذا الحديث دل على منع الجهاد إلا بعد الاستئذان من الوالدين، وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء.
قال الحافظ ابن حجر: "قال جمهور العلماء: يحرم الجهاد، إذا منع الأبوان، أو أحدهما، بشرط أن يكونا مسلمين، لأن برهما فرض عين عليه، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا إذن" (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري - مع الفتح - كتاب الجهاد - باب الجهاد بإذن الأبوين - 6 / 140 - حديث 3004.
(2) أبو داود الجهاد (2530) ، أحمد (3/76) .
(3) فتح الباري: 6 / 140 وما بعدها(82/379)
المطلب الرابع: الاستئذان والمرأة:
بما أن المرأة لها خصائصها، وطبائعها، جاءت عدة أحاديث، في الاستئذان، تخص المرأة وحدها.(82/379)
وهذا دليل على اهتمام الإسلام بالمرأة، ورعايتها، وأن لها شخصيتها، وإرادتها.
وهذه الأحاديث تناولت جانبين، من استئذان المرأة:
الجانب الأول: استئذان ولي أمرها، منها.
الجانب الثاني: استئذان الزوجة ولي أمرها، في بعض الأعمال التي تقوم بها.
أما الجانب الأول: فقد جاءت فيه عدة أحاديث، توجب على الرجل استئذانها، فمن ذلك:
27 - ما رواه الشيخان - واللفظ للبخاري - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن. قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت (1) » . والمراد من قوله: "حتى تستأمر" لا يعقد عليها إلا إذا أمرت بذلك صراحة، بخلاف البكر، فإنه يكفى سكوتها، لأنه قد تستحي من التصريح (2) . أما ما يقوم به الآن بعض الأولياء، من تزويج بناتهم، من غير إذنهن، فهذا أمر غير جائز، ومن حق هذه المرأة، أن تذهب إلى القاضي، ليفسخ هذا العقد
__________
(1) البخاري - مع الفتح - كتاب النكاح - باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما - 9 / 191 حديث 5136، ومسلم - كتاب النكاح - باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت - 2 / 1036 حديث رقم عام 1419.
(2) انظر فتح الباري: 9 / 192.(82/380)
الجائر.
28 - روى الإمام البخاري بسنده «عن خنساء بنت خذام الأنصارية، أن أباها زوجها، وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرد نكاحها (1) » فهذا الحديث صريح، في استئذان المرأة، ورضاها، وهو وإن كان صريحا في الثيب، فيقاس عليها البكر. وهذا ما ذهب إليه الإمام البخاري، إذ ترجم للحديث المتقدم بقوله: باب "إذا زوج الرجل ابنته، وهي كارهة، فنكاحه مردود".
قال الحافظ ابن حجر: "هكذا أطلق، فشمل البكر والثيب، ولكن حديث الباب، مصرح فيه، بالثيوبة، فكأنه أشار إلى ما ورد، في بعض طرقه". .
__________
(1) كتاب النكاح - باب إذا زوج الرجل ابنته، وهي كارهة، فنكاحه مردود - 9 / 194 حديث 5138.(82/381)
أما الجانب الذي تستأذن فيه المرأة ولي أمرها، فقد جاءت عدة أحاديث، فمن ذلك:
29 - ما رواه الشيخان - واللفظ للبخاري - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل أن تصوم المرأة، وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه، وما أنفقت من نفقة على غير أمره، فإنه يؤدى إليه شطره (1) » . المراد بالصوم المنهي عنه صوم النفل، فهذا الحديث دل على أن حق الزوج آكد على المرأة من التطوع.
قال الحافظ ابن حجر: "وفي الحديث أن حق الزوج آكد على المرأة من التطوع بالخير، لأن حقه واجب، والقيام بالواجب مقدم على القيام بالتطوع" (2) .
أما إدخال المرأة أحدا إلى بيت زوجها، من غير إذنه، فقد حرم الإسلام ذلك، لكن بعض الناس، يتخذون دارا خاصة بالضيوف، فإنه يجوز للمرأة إدخالهم عليها، إن كان الزوج قد أذن لها بذلك، وإن كان غائبا. أما نفقة المرأة من مال زوجها، من غير إذنه، فقد اختلف أهل العلم في ذلك. والصحيح: أنه يجوز لها أن تنفق إذا كان هذا الإنفاق بحدود العرف والعادة. أما إذا أنفقت وهي مفسدة في هذا
__________
(1) صحيح البخاري - مع الفتح - كتاب النكاح - باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه - 9 / 295 حديث 5195، ومسلم - كتاب الزكاة - باب ما أنفق العبد من مال مولاه - 2 / 711 حديث رقم عام 1026
(2) فتح الباري: 9 / 296.(82/382)
الإنفاق فعليها وزر، كما جاء في الحديث الذي:
30 - أخرجه البخاري عن أم المؤمنين عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها، غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره، بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا (1) » .
فهذا الحديث جعل الإنفاق مشروطا بعدم الإفساد. والله أعلم.
__________
(1) كتاب الزكاة - باب من أمر خادمه بالصدقة - 3 / 293 حديث 1425. ينظر: فتح الباري 3 / 303 رأي العلماء في حكم إنفاق المرأة من مال زوجها.(82/383)
الخاتمة:
أما أهم الأمور التي توصلت إليها، من خلال هذا البحث، فهي كما يلي:
1- سمو الإسلام، في تعاليمه، وآدابه، وتشريعاته.
2- أهمية الاستئذان، في حياة المجتمعات عامة، والإسلامية خاصة.
3- الاستئذان أنواعه متعددة، وليس مقتصرا على الاستئذان المعروف - وهو الاستئذان على دخول الغير - كما يتبادر إلى الذهن.
4- الإسلام هو العلاج الوحيد، الذي يخرج البشرية، من الظلمات إلى النور، ومن الفوضى، والاضطراب، إلى الاستقرار والأمان.
هذا والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(82/383)
حديث شريف
عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (1) »
رواه البخاري
__________
(1) البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6858) ، مسلم الحج (1337) ، الترمذي العلم (2679) ، النسائي مناسك الحج (2619) ، ابن ماجه المقدمة (2) ، أحمد (2/467) .(82/384)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى:
{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1)
(سورة الأعراف، الآية 158)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158(83/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارات البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(83/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(83/3)
المحتويات
الافتتاحية
خطبة عرفة 1428 هـ لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.... 47
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 59
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 71
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 79(83/4)
البحوث
الكفر مفهومه وأنواعه والغلاة فيه للدكتورة سارة بنت فراج العقلاء 99
صفات المنافقين أثناء الحروب كما جاءت في القرآن الكريم للدكتورة مديحة بنت إبراهيم بن عبد الله السدحان 167
الأحكام المتعلقة بمؤخر الصداق للدكتورة نورة بنت عبد الله بن محمد المطلق 211
المتفق والمختلف من كنى الفقهاء لفضيلة الدكتور: عبد السلام بن محمد الشويعر 297(83/5)
صفحة فارغة(83/6)
الافتتاحية
لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد الله له الخلق وله الأمر، يفضل من شاء، ويحكم ما يشاء، وهو العليم الحكيم، اصطفى من عباده رسلا وأنبياء، شرفهم بأكمل الأوصاف وعظيم الأخلاق، هم للفضل منار، وللنور حملة، خيرة الخلق، وصفوة البشر، أوذوا فصبروا، وزلزلوا فثبتوا، فلهم في أعناقنا شهادة، وفي قلوبنا محبة، بلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، ونصحوا الأمة وجاهدوا في الله حق جهاده.
والحمد لله الذي أرسل رسوله محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1) رفع الله قدره على الناس وجعل في هديه الهدى والنبراس، دعا إلى ثواب الله وبشر،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 164(83/7)
وحذر من عقابه وأنذر، وأوضح سبيل الرشاد، وجاهد في الله حق الجهاد، حتى ظهر دين الله وعلت كلمته، وشملت رحمته، وتمت نعمته فصلوات ربي وسلامه عليه أبدا دائما إلى يوم الدين، أرسله الله بالحق بشيرا ونذيرا {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (1) .
أرسله الله شاهدا على أمته وداعيا إلى صراط ربه {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (2) {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (3) {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} (4) .
أرسله الله على فترة من الرسل واندراس من الكتب: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} (5) .
بعثه الله في أمة أمية فزكاها وبالإسلام رفعها: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (6) .
أرسله الله فكان حريصا على هداية الناس حزينا على إعراضهم
__________
(1) سورة البقرة الآية 119
(2) سورة الأحزاب الآية 45
(3) سورة الأحزاب الآية 46
(4) سورة المزمل الآية 15
(5) سورة المائدة الآية 19
(6) سورة الجمعة الآية 2(83/8)
عن الحق: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) .
ختم الله به الرسل والرسالات: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (2) .
هو الرحمة وهو الهدى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (3) ، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (4) .
كلامه وحي، وفعله تشريع {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (5) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (6) .
هو النور الذي يهدي به الله من شاء من عباده: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (7) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (8) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 128
(2) سورة الأحزاب الآية 40
(3) سورة الأنبياء الآية 107
(4) سورة التوبة الآية 33
(5) سورة النجم الآية 3
(6) سورة النجم الآية 4
(7) سورة المائدة الآية 15
(8) سورة المائدة الآية 16(83/9)
أرسله الله عز وجل بالهداية العامة الشاملة للثقلين هداية الدلالة والإرشاد والبيان: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) .
هدى إلى أصول الدين وفروعه، هدى إلى العقيدة الصافية، والشريعة العادلة، والأخلاق الفاضلة.
هدى إلى أصول الإيمان: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره (2) » .
هدى إلى توحيد الرحمن فكان يقول لقومه: «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا (3) » وقال لعمه في الاحتضار، يا عم: «قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله (4) » .
هدانا لأهمية التوحيد، فجعله أساس الدين «رأس الأمر الإسلام (5) » .
وجعله أول الأمر: «فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله (6) » وفي رواية: «إلى أن يوحدوا الله (7) » .
وجعله آخر الأمر «من كان آخر كلامه في الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة (8) » .
جعل التوحيد هو الفارق بين الحق والباطل والعاصم للدم
__________
(1) سورة الشورى الآية 52
(2) مسلم الإيمان (8) ، الترمذي الإيمان (2610) ، النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، أبو داود السنة (4695) ، ابن ماجه المقدمة (63) ، أحمد (1/53) .
(3) أحمد (3/492) .
(4) البخاري المناقب (3671) ، مسلم الإيمان (24) ، النسائي الجنائز (2035) ، أحمد (5/433) .
(5) الترمذي الإيمان (2616) .
(6) البخاري التوحيد (6937) ، مسلم الإيمان (19) ، الترمذي الزكاة (625) ، النسائي الزكاة (2435) ، أبو داود الزكاة (1584) ، ابن ماجه الزكاة (1783) ، أحمد (1/233) ، الدارمي الزكاة (1614) .
(7) البخاري التوحيد (6937) ، مسلم الإيمان (19) ، الترمذي الزكاة (625) ، النسائي الزكاة (2435) ، أبو داود الزكاة (1584) ، ابن ماجه الزكاة (1783) ، أحمد (1/233) ، الدارمي الزكاة (1614) .
(8) أبو داود الجنائز (3116) ، أحمد (5/233) .(83/10)
والمال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى (1) » .
وجعله السبب لدخول الجنة والنجاة من النار: «من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله دخل الجنة (2) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله (3) » .
هدانا لمعرفة الشرك والحذر منه، يقول صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يشرك بالله شيئا دخل النار (4) » وفي الحديث القدسي يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (5) » .
حذرنا من الذبح لغير الله لأنه شرك: «لعن الله من ذبح لغير الله (6) » ، وكان يقول «لا عقر في الإسلام (7) » قال عبد الرزاق: (كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة) .
حذرنا من تعظيم القبور لأنها وسيلة للشرك: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (8) » يحذر ما صنعوا.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (9) » .
وقبل موته صلى الله عليه وسلم بخمس ليال كان يقول: «ألا إن من كان قبلكم
__________
(1) البخاري الجهاد والسير (2786) ، مسلم الإيمان (21) ، الترمذي الإيمان (2606) ، النسائي تحريم الدم (3971) ، أبو داود الجهاد (2640) ، ابن ماجه الفتن (3928) ، أحمد (1/11) .
(2) البخاري الأطعمة (5086) ، مسلم المساجد ومواضع الصلاة (33) .
(3) البخاري الصلاة (415) ، مسلم المساجد ومواضع الصلاة (33) .
(4) البخاري تفسير القرآن (4227) ، مسلم الإيمان (92) ، أحمد (1/425) .
(5) مسلم الزهد والرقائق (2985) ، ابن ماجه الزهد (4202) ، أحمد (2/301) .
(6) مسلم الأضاحي (1978) ، النسائي الضحايا (4422) ، أحمد (1/118) .
(7) أبو داود الجنائز (3222) ، أحمد (3/197) .
(8) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(9) مالك النداء للصلاة (416) .(83/11)
كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (1) » .
هدانا للإيمان بأسماء الله عز وجل وصفاته إجمالا وتفصيلا:
فمن الإجمال في الأسماء قوله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعا وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة (2) » ومن التفصيل، قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء (3) » .
ومن الإجمال والتفصيل في الصفات قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليه أنت كما أثنيت على نفسك (4) » .
هدانا للإيمان بملائكة الرحمن، يقول صلى الله عليه وسلم: «خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم (5) » .
هدانا للإيمان بالرسل عليهم السلام: «آمنت بالله ورسله (6) » كما في حديث ابن حبان وفي حديث رسولي مسيلمة، وفي حديث وسوسة الشيطان وغيرها.
هدانا للإيمان باليوم الآخر: يقول صلى الله عليه وسلم: «إنك محشورون حفاة عراة غرلا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم (8) » .
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(2) البخاري الشروط (2585) ، مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) ، الترمذي الدعوات (3507) ، ابن ماجه الدعاء (3861) ، أحمد (2/267) .
(3) مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) ، الترمذي الدعوات (3481) ، أبو داود الأدب (5051) ، ابن ماجه الدعاء (3831) ، أحمد (2/536) .
(4) الترمذي الدعوات (3566) ، النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1747) ، أبو داود الصلاة (1427) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1179) .
(5) مسلم الزهد والرقائق (2996) ، أحمد (6/153) .
(6) أحمد (1/396) ، الدارمي السير (2503) .
(7) البخاري تفسير القرآن (4349) ، مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2860) ، الترمذي تفسير القرآن (3167) ، النسائي الجنائز (2087) ، أحمد (1/253) ، الدارمي الرقاق (2802) .
(8) سورة الأنبياء الآية 104 (7) {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}(83/12)
«ما منكم أحد إلا سيكلمه الله (1) » .
هدانا لوجوب محبته صلى الله عليه وسلم واتباعه وطاعته: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين (2) » .
ويقول صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم (3) » .
هدانا للزوم السنة وحذرنا من البدعة: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة في النار (4) » .
هدانا لمعرفة حقيقة البدع، فقال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (5) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (6) » .
هدانا للإيمان بالقدر: «واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، جفت الأقلام وطويت الصحف (7) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل (8) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس (9) » .
هدانا لحقيقة الإيمان وأنه قول وفعل واعتقاد، يقول صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (10) » .
__________
(1) البخاري التوحيد (7074) ، مسلم الزكاة (1016) ، أحمد (4/256) .
(2) البخاري الإيمان (15) ، مسلم الإيمان (44) ، النسائي الإيمان وشرائعه (5013) ، ابن ماجه المقدمة (67) ، أحمد (3/278) ، الدارمي الرقاق (2741) .
(3) البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6858) ، مسلم الفضائل (1337) ، النسائي مناسك الحج (2619) ، ابن ماجه المقدمة (2) ، أحمد (2/258) .
(4) أبو داود السنة (4607) ، الدارمي المقدمة (95) .
(5) مسلم الأقضية (1718) ، أحمد (6/256) .
(6) البخاري الصلح (2550) ، مسلم الأقضية (1718) ، أبو داود السنة (4606) ، ابن ماجه المقدمة (14) ، أحمد (6/270) .
(7) أبو داود السنة (4699) ، ابن ماجه المقدمة (77) ، أحمد (5/189) .
(8) مسلم القدر (2664) ، ابن ماجه المقدمة (79) ، أحمد (2/370) .
(9) مسلم القدر (2655) ، أحمد (2/110) ، مالك الجامع (1663) .
(10) البخاري الإيمان (9) ، مسلم الإيمان (35) ، الترمذي الإيمان (2614) ، النسائي الإيمان وشرائعه (5005) ، أبو داود السنة (4676) ، ابن ماجه المقدمة (57) ، أحمد (2/414) .(83/13)
هدانا لوجوب محبته صلى الله عليه وسلم واتباعه وطاعته: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين (1) » .
ويقول صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله (2) » .
ويقول صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم (3) » .
هدانا لمعرفة حق آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم واحترامهم، يقول صلى الله عليه وسلم: «أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي (4) » .
هدانا للاجتماع والسمع والطاعة لولاة الأمر، وحذرنا من الفرقة، فقال صلى الله عليه وسلم: «آمركم بخمس: بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع (5) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة (6) » .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله ولزوم جماعة المسلمين والنصح لكل مسلم (7) » .
هدانا لأركان الإسلام: «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان،
__________
(1) البخاري الإيمان (15) ، مسلم الإيمان (44) ، النسائي الإيمان وشرائعه (5013) ، ابن ماجه المقدمة (67) ، أحمد (3/278) ، الدارمي الرقاق (2741) .
(2) البخاري الأحكام (6718) ، مسلم الإمارة (1835) ، النسائي الاستعاذة (5510) ، ابن ماجه الجهاد (2859) ، أحمد (2/387) .
(3) البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6858) ، مسلم الفضائل (1337) ، النسائي مناسك الحج (2619) ، ابن ماجه المقدمة (2) ، أحمد (2/258) .
(4) مسلم فضائل الصحابة (2408) ، أحمد (4/367) ، الدارمي فضائل القرآن (3316) .
(5) الترمذي الأمثال (2863) ، أحمد (4/130) .
(6) الترمذي الفتن (2165) ، أحمد (1/18) .
(7) ابن ماجه المقدمة (230) ، أحمد (5/183) ، الدارمي المقدمة (229) .(83/14)
وتحج بيت الله الحرام (1) » .
هدانا لإقامة الصلاة، ومن إقامتها تكميل شروطها وواجباتها.
هدانا للطهارة قبلها، «مفتاح الصلاة الطهور (2) » «لا يقبل الله صلاة حائض حتى تتوضأ» .
هدانا لصفة الوضوء.. فقد توضأ صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة ثم قال من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: لا إله إلا الله ...
هدانا لأهمية أوقات الصلوات (جاء في حديث تعليم جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم لأوقات الصلاة، قال: «الوقت ما بين هذين (3) » .
هدانا لعظم قدر الصلاة ووجوب المحافظة عليها: «العهد الذي بينا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (4) » .
ويقول صلى الله عليه وسلم في شأن الصلاة: «من حفظها وحافظ عليها كانت له نورا ونجاة وبرهانا يوم القيامة، ومن ضيعها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف (5) » .
وكان آخر ما أوصى به صلى الله عليه وسلم أمته وهو يحتضر، قوله: «الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم (6) » .
هدانا لأداء الزكاة، فقال لمعاذ رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن: «فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم، وإياك وكرائم أموالهم.. (7) » .
__________
(1) مسلم الإيمان (8) ، الترمذي الإيمان (2610) ، النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، أبو داود السنة (4695) ، ابن ماجه المقدمة (63) ، أحمد (1/52) .
(2) الترمذي الطهارة (3) ، ابن ماجه الطهارة وسننها (275) ، أحمد (1/123) ، الدارمي الطهارة (687) .
(3) النسائي الأذان (642) ، مالك وقوت الصلاة (3) .
(4) الترمذي الإيمان (2621) ، النسائي الصلاة (463) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، أحمد (5/346) .
(5) أحمد (2/169) ، الدارمي الرقاق (2721) .
(6) ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1625) ، أحمد (6/315) .
(7) البخاري الزكاة (1331) ، مسلم الإيمان (19) ، الترمذي الزكاة (625) ، النسائي الزكاة (2435) ، أبو داود الزكاة (1584) ، ابن ماجه الزكاة (1783) ، أحمد (1/233) ، الدارمي الزكاة (1614) .(83/15)
حذرنا من البخل بها فقال صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار (1) » .
هدانا لصيام رمضان «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (2) » «إن الله قد افترض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه (3) » .
هدانا لفرضية حج بيت الله الحرام: «يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقام رجل فقال أفي كل عام يا رسول الله: فقال لو قلت نعم لوجبت الحج مرة فما زاد فهو تطوع (4) » .
هدانا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم (5) » حديث حسن.
هدانا لدرجات الإنكار فقال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (6) » .
هدانا لبر الوالدين وقدمه على الجهاد في سبيل الله، «سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله قال: الصلاة على وقتها، قيل ثم أي؟
__________
(1) مسلم الزكاة (987) ، أبو داود الزكاة (1658) ، أحمد (2/384) .
(2) البخاري الإيمان (38) ، مسلم صلاة المسافرين وقصرها (760) ، الترمذي الصوم (683) ، النسائي الصيام (2203) ، أبو داود الصلاة (1372) ، أحمد (2/241) ، الدارمي الصوم (1776) .
(3) النسائي الصيام (2210) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1328) .
(4) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .
(5) الترمذي الفتن (2169) .
(6) مسلم الإيمان (49) ، الترمذي الفتن (2172) ، النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، أبو داود الصلاة (1140) ، ابن ماجه الفتن (4013) ، أحمد (3/10) .(83/16)
فقال: بر الوالدين، قيل ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله (1) » .
«وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: (أبوك) (2) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه (3) » .
حذرنا من عقوق الوالدين، وجعله من أكبر الكبائر، يقول صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين ... (4) » الحديث.
هدانا إلى صلة الأرحام وإكرام الجيران «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره (5) » .
هدانا لإكرام الضيف «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه (6) » .
هدانا لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق وكان يقول صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق (7) » .
هدانا للصدق ونهانا عن الكذب: «إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار
__________
(1) البخاري مواقيت الصلاة (504) ، مسلم الإيمان (85) ، الترمذي البر والصلة (1898) ، النسائي المواقيت (610) ، أحمد (1/439) ، الدارمي الصلاة (1225) .
(2) البخاري الأدب (5626) ، مسلم البر والصلة والآداب (2548) ، أحمد (2/391) .
(3) الترمذي البر والصلة (1900) ، ابن ماجه الطلاق (2089) ، أحمد (6/448) .
(4) البخاري الشهادات (2511) ، مسلم الإيمان (87) ، الترمذي تفسير القرآن (3019) ، أحمد (5/37) .
(5) البخاري الأدب (5672) ، مسلم الإيمان (47) ، الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2500) ، أبو داود الأدب (5154) ، ابن ماجه الفتن (3971) ، أحمد (2/433) .
(6) البخاري الأدب (5673) ، مسلم اللقطة (48) ، الترمذي البر والصلة (1967) ، أبو داود الأطعمة (3748) ، ابن ماجه الأدب (3672) ، أحمد (6/385) ، مالك الجامع (1728) ، الدارمي الأطعمة (2036) .
(7) مسلم البر والصلة والآداب (2553) ، الترمذي الزهد (2389) ، أحمد (4/182) ، الدارمي الرقاق (2789) .(83/17)
وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا (1) » ، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: «فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة (2) » .
هدانا للاستقامة على الحق، قال صلى الله عليه وسلم: لسفيان بن عبد الله: «قل آمنت بالله ثم استقم (3) » .
هدانا للنصيحة، قال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة..... (4) » .
هدانا للتعاون والتكاتف يقول صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (5) » .
هدانا للتراحم والتعاطف: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر (6) » .
هدانا للعدل وحذرنا من الظلم: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة (7) » ، «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته (8) » ، «المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين (9) » .
هدانا لأداء الحقوق والتخلص منها يقول صلى الله عليه وسلم: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء - لا قرن لها - من الشاة القرناء (10) » .
هدانا لرعاية حقوق الأخوة الإسلامية: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن
__________
(1) البخاري الأدب (5743) ، مسلم البر والصلة والآداب (2607) ، الترمذي البر والصلة (1971) ، أبو داود الأدب (4989) ، ابن ماجه المقدمة (46) ، أحمد (1/405) ، الدارمي الرقاق (2715) .
(2) الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، أحمد (1/200) .
(3) مسلم الإيمان (38) ، الترمذي الزهد (2410) ، ابن ماجه الفتن (3972) ، أحمد (3/413) ، الدارمي الرقاق (2710) .
(4) مسلم الإيمان (55) ، النسائي البيعة (4197) ، أبو داود الأدب (4944) ، أحمد (4/102) .
(5) البخاري الصلاة (467) ، مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، الترمذي البر والصلة (1928) ، النسائي الزكاة (2560) ، أحمد (4/405) .
(6) البخاري الأدب (5665) ، مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، أحمد (4/270) .
(7) مسلم البر والصلة والآداب (2578) ، أحمد (3/323) .
(8) البخاري تفسير القرآن (4409) ، مسلم البر والصلة والآداب (2583) ، الترمذي تفسير القرآن (3110) ، ابن ماجه الفتن (4018) .
(9) مسلم الإمارة (1827) ، النسائي آداب القضاة (5379) ، أحمد (2/160) .
(10) مسلم البر والصلة والآداب (2582) ، الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2420) ، أحمد (2/235) .(83/18)
فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة (1) » ، وكان يقول: «حق المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصح له وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه (2) » .
هدانا للإصلاح بين الناس، وإعانة المحتاج، والكلمة الطيبة، في جملة من مكارم الأخلاق يقول صلى الله عليه وسلم: «كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثني صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى المسجد صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة (3) » .
هدانا للتواضع، ونهانا عن الكبر، يقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد (4) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «وما تواضع أحد لله إلا رفعه (5) » .
هدانا للبذل والإنفاق، يقول صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله كلمة فهو يقضي بها ويعلمها (6) » وكان صلى الله عليه وسلم أجود الناس.
نهانا عن البخل والشح، فقال صلى الله عليه وسلم: «واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم (7) » .
__________
(1) البخاري المظالم والغصب (2310) ، مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، الترمذي الحدود (1426) ، أبو داود الأدب (4893) ، أحمد (2/68) .
(2) مسلم السلام (2162) ، الترمذي الأدب (2737) ، النسائي الجنائز (1938) ، أحمد (2/412) .
(3) البخاري الجهاد والسير (2827) ، مسلم الزكاة (1009) ، أحمد (2/316) .
(4) أبو داود الأدب (4895) ، ابن ماجه الزهد (4179) .
(5) مسلم البر والصلة والآداب (2588) ، الترمذي البر والصلة (2029) ، أحمد (2/386) ، مالك الجامع (1885) ، الدارمي الزكاة (1676) .
(6) البخاري العلم (73) ، مسلم صلاة المسافرين وقصرها (816) ، ابن ماجه الزهد (4208) ، أحمد (1/432) .
(7) مسلم البر والصلة والآداب (2578) ، أحمد (3/323) .(83/19)
هدانا للحلم والأناة، يقول صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة (1) » .
هدانا للحياء، يقول صلى الله عليه وسلم: «الحياء من الإيمان (2) » ، ويقول: «الحياء لا يأتي إلا بخير (3) » .
هدانا لحفظ الأسرار وستر العورات، يقول صلى الله عليه وسلم: «ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة (4) » .
نهانا عن الغيبة، قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا تعني أنها قصيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته (5) » .
نهانا عن النميمة، يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة نمام (6) » .
نهانا عن قول الزور وشهادة الزور، يقول صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور، فما زال يرددها حتى قلنا ليته سكت (7) » متفق عليه.
نهانا عن خلق ذي الوجهين، يقول صلى الله عليه وسلم: «وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه (8) » متفق عليه.
نهانا عن سب المسلمين يقول صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (9) » .
__________
(1) الترمذي البر والصلة (2011) .
(2) البخاري الإيمان (24) ، مسلم الإيمان (36) ، الترمذي الإيمان (2615) ، النسائي الإيمان وشرائعه (5033) ، أبو داود الأدب (4795) ، أحمد (2/147) ، مالك الجامع (1679) .
(3) البخاري الأدب (5766) ، مسلم الإيمان (37) ، أبو داود الأدب (4796) ، أحمد (4/427) .
(4) البخاري المظالم والغصب (2310) ، مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، الترمذي الحدود (1426) ، أبو داود الأدب (4893) ، أحمد (2/91) .
(5) الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2502) ، أبو داود الأدب (4875) ، أحمد (6/189) .
(6) مسلم الإيمان (105) ، أحمد (5/391) .
(7) البخاري الشهادات (2511) ، مسلم الإيمان (87) ، الترمذي تفسير القرآن (3019) ، أحمد (5/37) .
(8) البخاري المناقب (3304) ، مسلم البر والصلة والآداب (2526) ، أحمد (2/525) ، مالك الجامع (1864) .
(9) البخاري الإيمان (48) ، مسلم الإيمان (64) ، الترمذي البر والصلة (1983) ، النسائي تحريم الدم (4108) ، ابن ماجه المقدمة (69) ، أحمد (1/385) .(83/20)
نهانا عن التباغض والتدابر: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث (1) » .
نهانا عن سوء الظن فقال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث (2) » .
نهانا عن الغش «ومن غشنا فليس منا (3) » .
نهانا عن الغدر والخيانة: لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال هذه غدرة فلان.
نهانا عن الفحش والبذاءة، «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء (4) » .
وبالجملة فقد دعا إلى كل خلق حسن ونهى عن سيء الأخلاق يقول «إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا (5) » ، ويقول: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا (6) » ، ويقول: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا (7) » .
وكان يقول صلى الله عليه وسلم في دعائه: «اللهم اهدني لأحسن الأعمال وأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت وقني سيء الأعمال والأخلاق لا يقي سيئها إلا أنت (8) » .
هذا هو دين الإسلام.. وهذا هو نبي الإسلام محمد بن عبد الله القرشي صلى الله عليه وسلم.. وهذه بعض هداياته..
__________
(1) البخاري الأدب (5718) ، مسلم البر والصلة والآداب (2559) ، الترمذي البر والصلة (1935) ، أبو داود الأدب (4910) ، أحمد (3/225) ، مالك الجامع (1683) .
(2) البخاري النكاح (4849) ، مسلم البر والصلة والآداب (2563) ، الترمذي البر والصلة (1988) ، أحمد (2/465) ، مالك الجامع (1684) .
(3) مسلم الإيمان (101) ، أحمد (2/417) .
(4) الترمذي البر والصلة (1977) ، أحمد (1/405) .
(5) البخاري الأدب (5688) ، مسلم الفضائل (2321) ، الترمذي البر والصلة (1975) ، أحمد (2/193) .
(6) الترمذي الرضاع (1162) ، أحمد (2/250) ، الدارمي الرقاق (2792) .
(7) الترمذي البر والصلة (2018) .
(8) النسائي الافتتاح (896) .(83/21)
هذا هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله إلى الناس كافة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} (1) {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (2) .
هذا هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي شرفه الله عز وجل وخصه بأن عمم رسالته «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة (3) » .
هذا هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.
هذا هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي أخبر الله عز وجل برسالته {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} (4) .
هذا هو محمد صلى الله عليه وسلم دعوة إبراهيم عليه السلام {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} (5) .
هذا هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشر عيسى أمته به {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (6) .
هذا هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي يعرفه أهل الكتاب حقا {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (7) .
__________
(1) سورة سبأ الآية 28
(2) سورة الفرقان الآية 1
(3) البخاري الصلاة (427) ، مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، النسائي الغسل والتيمم (432) ، أحمد (3/304) ، الدارمي الصلاة (1389) .
(4) سورة الفتح الآية 29
(5) سورة البقرة الآية 129
(6) سورة الصف الآية 6
(7) سورة البقرة الآية 146(83/22)
هذا هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي أخذ ميثاق النبيين على الإيمان به ونصرته إذا بعث {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ} (1) .
هذا هو محمد صلى الله عليه وسلم الموصوف في التوراة والإنجيل بأكمل الصفات وأعظمها {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} (2) ....
فما أعظم خسارة من أعرض عن هداياته، وما أفدح جرم من كذبه أو استهزأ به أو سخر منه أو من سنته فتبت أيديهم وتبوا كما تبت يدا أبي لهب وتب.
وما الشأن إلا كما قال الله عز وجل {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (3) .
دين الإسلام.. دين اليسر.. دين الرفق.. دين اللين.. دين الكلمة الطيبة.. والدعوة الصادقة.. والنصيحة الخالصة..
دين يوافق الفطرة، ولا يكلف الجسد إلا ما يطيق: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 81
(2) سورة الأعراف الآية 157
(3) سورة الأنعام الآية 33
(4) سورة البقرة الآية 286(83/23)
هو يسر كما أراد الله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) .
رفع الله عنا الحرج بهذا الدين العظيم {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) .
راعى ضعف الإنسان فخفف عنه التكاليف {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (3) .
يسر هذا الدين شامل للعقائد والعبادات والمعاملات.
فعقيدة المسلمين الصحيحة يسيرة الفهم بعيدة عن تعقيدات الفلاسفة والمتكلمين، وخرافات القبوريين.
سهلة التناول، هي أركان الإسلام وأصول الإيمان، وركنا الإحسان، جاء جبريل عليه السلام فجلس النبي صلى الله عليه وسلم جلسة واحدة سأله فيها عن ذلك كله فلما ذهب قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل أتاكم ليعلمكم أمر دينكم (4) » .
والله عز وجل أجمل ذلك {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (5)
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة الحج الآية 78
(3) سورة النساء الآية 28
(4) مسلم الإيمان (8) ، الترمذي الإيمان (2610) ، النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، أبو داود السنة (4695) ، ابن ماجه المقدمة (63) ، أحمد (1/27) .
(5) سورة الذاريات الآية 56(83/24)
{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (1) فمتى تحقق التوحيد فقد أتى العبد بأعظم ما أراد الله عز وجل.
يسر في العبادات، ففي باب الطهارة الأصل أن تكون بالماء، فإن لم يوجد الماء أو شق استعماله عدل إلى التيمم بالتراب {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (2) .
وفي باب الصلاة أول ما فرضت خمسين صلاة ثم خففت إلى خمس بأجر خمسين صلاة.
والأصل أن يؤدي المسلم الصلاة قائما، فإن لم يستطع المسلم ذلك صلى قاعدا فإن لم يستطع فعلى جنبه «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا ... (3) » .
إذا سافر المسلم شرع له قصر الصلاة وجمعها تخفيفا عليه {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} (4) .
وفي الزكاة تخفيف في المال الزكوي وفي القدر المخرج، فالمال الزكوي ما كان ناميا بحيث لا يؤثر الإخراج فيه، والقدر المخرج يسير وهو في الغالب ربع العشر.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 57
(2) سورة النساء الآية 43
(3) البخاري الجمعة (1066) ، الترمذي الصلاة (371) ، أبو داود الصلاة (952) .
(4) سورة النساء الآية 101(83/25)
وفي الصيام أنواع من التخفيف منها: كونه شهرا في السنة {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} (1) ، ومنها أن من أكل أو شرب ناسيا فإنه يتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه، ومنها الرخصة للمريض والمسافر بالفطر والقضاء وقت الاستطاعة {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي} (2) .....، وفي الحج أنواع من التيسير فهو لا يجب في العمر إلا مرة واحدة، والوجوب مشروط بالاستطاعة، والفرض يسقط عن العاجز، والتوسعة في أعمال يوم النحر تقديما وتأخيرا.
أما المعاملات: فإن الأصل فيها الحل إلا ما جاء الشرع بتحريمه {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (3) والمحرم من المعاملات والمطعومات والمشروبات أقل بكثير من المباح إذ الأصل الإباحة وفي هذا أعظم التيسير.
إن المتأمل في هذا الدين العظيم يجد أنه مبني على التيسير ورفع الحرج ألم يرفع الله عنا الإثم في الخطأ والنسيان والإكراه {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (4) .
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (5) » ؟
ألم يضع الله عنا الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا؟ {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (6) ، قال الله: قد فعلت.
__________
(1) سورة البقرة الآية 184
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) سورة الجاثية الآية 13
(4) سورة البقرة الآية 286
(5) ابن ماجه الطلاق (2043) .
(6) سورة البقرة الآية 286(83/26)
ألم يجعل الله تكليفنا على قدر طاقتنا؟ {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} (1) ، قال: قد فعلت.
ألم يجعل الله لنا في ديننا رخصا إتيانها أحب إليه من تركها: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته (2) » ؟
عباد الله إن القاعدة الأساس في هذا الدين هي التيسير «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة (3) » .
شريعة الإسلام جاءت بحفظ الضرورات الخمس.. جاءت بحفظ الدين.. جاءت بحفظ النفس.. جاءت بحفظ المال.. جاءت بحفظ العقل.. جاءت بحفظ العرض.. ضرورات خمس جاء بحفظها جميع الشرائع السابقة.
جاء الإسلام بأكمل تشريع، وأعدل نظام، حفظ حق الفرد المعتدى عليه، وحفظ حق المجتمع في العيش بسلام وأمان، بل جاء التشريع الإسلامي رحمة وعدلا في حق المعتدي.
ما بالنا نسمع بين الفينة والأخرى أصواتا ساء فهمها للإسلام وتشريعاته، وربما ساءت مقاصدها وانحرفت مآربها، نسمعهم يقولون: الحدود في الإسلام قاسية، وتارة يرمونها بالوحشية، وأخرى يطالبون بإلغائها تحت مظلة حقوق الإنسان، ومظلة الرحمة بالإنسان، وذرائع لا تخفى على اللبيب.
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) أحمد (2/108) .
(3) البخاري الإيمان (39) ، النسائي الإيمان وشرائعه (5034) .(83/27)
فأين حق الإنسان المعتدى عليه، أين حق المجتمع في العيش بأمان.
أين هؤلاء القوم حين تسفك دماء الآلاف بل مئات الآلاف من المسلمين بلا جرم ولا خطيئة.
أين حقوق الإنسان، حين تهدر كرامة مجتمع كامل وتنقص هيبته.
أين حقوق الإنسان.. حين تقرر مصائر مناطق بل دول بل أقاليم عظيمة بأيدي أقوام لا يرتبطون بها لا برابطة الدين ولا اللغة ولا الجوار ولا أي رابطة، إنه الظلم والاستبداد، إنه الإقصاء بكل معانيه، إنها الوحشية، والقسوة في أوضح صورها ومظاهرها.
أين حقوق الإنسان.. حين يكون المسلم محطا لتجارب الأسلحة، واختبار القدرات العسكرية، وفرض السيطرة والإرهاب.
أين حقوق الإنسان.. حين تكون بلاد المسلمين مكانا لتطبيق النظريات السياسية، ودراسات المراكز البحثية.
ألا يخجل المنتسبون لتلك المنظمات أن يكونوا أداة لمزيد من الإهانة والإذلال للإنسان.
ألا يخجلون حين يكونون هم الوسيلة لسلب إرادة الإنسان وإرهابه، وجعله يعيش خوفا وجوعا وتشردا.
يا حكماء العالم.. إن العقوبات في الإسلام جاءت بأحكم وأعدل نظام عرفه الإنسان.(83/28)
فالقتل في الإسلام لا يشرع إلا لأعظم الجرائم وهي ثلاث لا غير، فالذي يقتل نفسا عمدا وعدوانا فإن عقوبته القتل قصاصا، فإن عفا أهل القتيل عن القاتل سقطت عنه عقوبة القتل لأن الإسلام لا يتشوف لإراقة الدماء، وإنما هو دين حقن الدماء وحفظها.
والثيب الزاني عقوبته القتل رجما في الإسلام وفي غيره من الشرائع السابقة، وذلك لشناعة جرمه وقبيح فعله.
والجريمة الثالثة.. ترك الدين والارتداد عنه يقول صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (1) » ذلك لأنه دخل الإسلام طائعا مختارا {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (2) فلا يكره، فإنه التزم بتشريعاته، ومن ذلك حد الردة، ولأن في التساهل في هذا الباب منفذا للزنادقة والمنافقين للتغرير بالجهلة والعوام بالتساهل في الدين دخولا وخروجا وهذا يسبب الوهن وخلخلة الصفوف وإضعاف الأمة.
ومن ذلك أيضا السعي في الإخلال بالنظام العام وإحداث الفرقة، ونزع يد الطاعة، فهذا شذوذ يقتل صاحبه في أقصى العقوبات، وإلا فيصلب أياما أو تقطع يده ورجله من خلاف؛ حماية لحق المجتمع في الاستقرار والأمن والرخاء.
وهذه الجرائم لا يقتل بها إلا عند اكتمال الشروط وانتفاء الموانع، ومتى عرضت شبهة فإن الحد يدرأ بها تغليبا لجانب الحفاظ على النفس وحقن الدماء.
__________
(1) البخاري الجهاد والسير (2854) ، الترمذي الحدود (1458) ، النسائي تحريم الدم (4060) ، أبو داود الحدود (4351) ، ابن ماجه الحدود (2535) ، أحمد (1/282) .
(2) سورة البقرة الآية 256(83/29)
والسارق تقطع يده التي هي أداة هذه الجريمة {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1) حتى يأمن الناس على أموالهم.
وشرب الخمر لما كان غالب الضرر فيه عائدا على صاحبه كانت عقوبته الجلد تأديبا لصاحب الجرم وتهذيبا له حتى يرجع عضوا صالحا في المجتمع.
ومن تعرض للمؤمنين والمؤمنات بالقذف والاتهام بالزنا وهم من ذلك براء فإنه يجلد ثمانين جلدة حفظا للأعراض من الانتهاك، وحماية للمجتمع من انتشار الفاحشة، لأن الشيء إذا كثرت ملابسته وانتشر قلت هيبته وسهل على الناس ملابسته.
والحدود في الإسلام مع كونها عقوبة لتأديب المجرم، وأخذ حق المعتدى عليه، وحفظ نظام المجتمع، هي كذلك تطهير للمجرم من ذنبه، فإذا أقيم عليه الحد فإنه برحمة الله وعفوه يكون مطهرا له من ذنبه الذي اقترفه، فيوافي ربه طاهرا من ذلك الذنب، وفي هذا أعظم الرحمة والإنعام.
وهذه العقوبات لا بد فيها من شروط، ولا بد فيها من إثبات إما بالإقرار الخالي من الموانع أو البينة مكتملة الشروط، ولا بد أن يحكم بذلك قاض شرعي، كل هذا لأجل الاحتياط والاحتراز.
فأين هذا ممن يقتلون الأبرياء ويفسدون في الأرض ثم يسنون أنظمة وقوانين، وينشئون هيئات ومنظمات ترعى المجرمين وتدافع
__________
(1) سورة المائدة الآية 38(83/30)
عنهم وتدعو إلى رحمتهم والشفقة عليهم {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (1) .
إخوة الإسلام.. المال عصب الحياة.. بالمال تنهض الأمم.. وبالمال تعمر الأرض.. وبالمال يتقدم المجتمع.. المال ضرورة من ضرورات الحياة.
إخوة الإسلام.. لئن كان المال سابقا وسيلة لتبادل المنافع والسلع، وثمنا تقيم به الأشياء، وأجرة للعامل على عمله، لهو اليوم يشمل هذا كله وزيادة، لقد أصبح المال والاقتصاد علما مستقلا، يتسابق إليها الأفراد، بل والمجتمعات، والأخطر من هذا أن أصبح سلاحا تستذل به الأمم وتستبز، كم دولة سقطت في براثن الربا ولم تخرج منه.
كم دولة غيرت مواقفها وتزعزعت ثوابتها بحصار اقتصادي أو تلويح بالسلاح المالي.
أيها المسلمون.. أفيقوا فإن أرض الإسلام هي منبع الخيرات للعالم كله فأين نحن من استغلالها.. أين نحن من التعاون فيما بيننا لسوق إسلامية عالمية مشتركة.. بل أين نحن من منظومة اقتصادية عالمية بعيدة عن الربا، سائرة وفق ما يرضي الله.
هبوا لنهضة شاملة، قبل أن تكبلكم الديون الربوية، وتحاصركم الحروب الاقتصادية، من قبل أقوام لا يرقبون فيكم إلا ولا ذمة،
__________
(1) سورة محمد الآية 14(83/31)
ولا يرعون عهدا ولا ميثاقا، ولا يردعهم إلا القوة، فتوحدوا ففي الوحدة القوة.
إخوة الإسلام.. اسبروا واقعكم.. وانظروا ماذا حل بنا.. تفرق المسلمون.. ضعفت شوكتهم.. ذهبت ريحهم.. تسلط عليهم أعداؤهم.. من أين أتينا؟ وما هو سبب ضعفنا؟ وهل إلى علاج من سبيل؟
إن واقع المسلمين اليوم واقع مرير.. قبور وأضرحة ومشاهد.. هذا طائف بها.. وذاك ناذر لها.. وآخر يستغيث بأصحابها.. ورابع ينزل بهم حاجاته.. فأين التوحيد يا عباد الله.. أليس الدعاء خالص حق الله.. {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1) .
ألم يقل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (2) .
ألم يقل الله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) .
ما بال أقوام جعلوا بينهم وبين الله عز وجل وسائط {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (4) .
يا قوم ارجعوا إلى أنفسكم، هؤلاء الذين تنزلون بهم حاجاتكم إنهم مهما علت بهم المنازل، وارتفعت بهم الدرجات عباد أمثالكم، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (5) .
يا قوم.. تفكروا ماذا يملك أولئك المدعوون من دون الله، هل
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة الأنفال الآية 9
(3) سورة الفاتحة الآية 5
(4) سورة يونس الآية 18
(5) سورة الأعراف الآية 194(83/32)
يستقلون بملك شيء من دون الله؟ كلا ليس لهم ذلك يقول الله عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (1) .
تدبروا أهم خالقون أم مخلوقون: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (2) .
فالله ... الله بإخلاص الدين لله وحده لا شريك فثم النصر.. وثم التمكين.. وثم الأمن.. وعدا من الله، ومن أصدق من الله قيلا، ومن أصدق من الله حديثا {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3) .
أيها الساسة في العالم الإسلامي.. إن الأمة اليوم تعيش أصعب ظروف مرت في تاريخها، إننا بحاجة ماسة بل وضرورة ملحة إلى التوحد والتمسك بدين الله عز وجل.
إن من أعظم الخيانات أن يقدم فرد أو أفراد مصالحهم الشخصية ومطامعهم الدنيوية على المصالح العظمى لأمة الإسلام، فتراهم يزيدون جراحا نزيفا وألما بتواطئهم مع الأعداء، وتقديمهم التنازلات، بل وتآمرهم ضد بلدانهم احتلالا أو تقسيما أو إضعافا وتبعية.
__________
(1) سورة سبأ الآية 22
(2) سورة الفرقان الآية 3
(3) سورة النور الآية 55(83/33)
فاتقوا الله.. واعلموا أنكم ملاقوه، واحذروا من مقته وغضبه وعقابه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} (1) {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (2) .
إخوة الإسلام.. ديننا دين اعتقاد مصحوب بعمل.. دين حياة القلوب.. وزكاء الجوارح.. دين الإسلام والإيمان.
فالإيمان قول وعمل واعتقاد، على ذلك دلت النصوص من نحو قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (3) يعني صلاتكم، وأجمع على ذلك سلف الأمة وأهل الإيمان يتفاضلون بحسب ما عندهم من الإيمان، فالإيمان يزيد وينقص {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (4) .
إخوة الإسلام.. لقد ظهر في المسلمين من خالف مدلول النصوص، وخالف الإجماع، وأرجأ العمل عن مسمى الإيمان، بل هناك طوائف زعمت أن الإيمان هو تصديق القلب فقط، وإن لم يكن هناك نطق ولا عمل، بل وهناك من زاد في ضلاله وطغيانه فزعم أن الإيمان مجرد المعرفة، وعلى قولهم هذا فإن إبليس وفرعون مؤمنون لأنهم يعرفون الله عز وجل.
إخوة الإسلام.. إن الميزان في قبول الأقوال هو موافقة الشرع، فما وافق الكتاب والسنة قبلناه واعتقدناه، وما خالفها رددناه، والحق لا يقاس بكثرة القائلين به، ولا يعرف الحق بآراء الرجال، وإنما طريق العلم به، هو الشرع فما وافقه فهو الحق وما خالفه فإنه باطل،
__________
(1) سورة النساء الآية 144
(2) سورة النساء الآية 145
(3) سورة البقرة الآية 143
(4) سورة الفتح الآية 4(83/34)
{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (1) ، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) ، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (3) .
أيها المسلمون.. إن بلاد المسلمين مهما تباعدت، فإنها وطن للمسلمين جميعا، فالمسلمون كالجسد الواحد إذا تألم أحدهم في أقصى الشرق سرى ألمه فينا حتى يصل أقصى الغرب.
بلاد الإسلام.. أمانة في أعناق المسلمين، يحمونها وينصرونها ويدافعون عن مصالحها.
فنحن نحب هذه البلاد الطاهرة بلاد الحرمين، لأن التوحيد فيها ظاهر، نحبها ونواليها لأنها وطن الإسلام الأول، نحبها ونواليها فمنها أشرقت أنوار الرسالة وعلى أرضها ولد النبي صلى الله عليه وسلم، ونشأ وبعث وفيها توفي ودفن صلى الله عليه وسلم.
ونحن في هذه البلاد الطاهرة المباركة.. المملكة العربية السعودية نعيش نعما عظيمة؛ الدين ظاهر، والأمن قائم والأرزاق من كل مكان واردة، نعم وافرة نحمد الله عليها.
إن حب أوطان المسلمين فطرة ودين يقول النبي صلى الله عليه وسلم لما أخرج من مكة: «والله إنك لأحب البقاع إلي ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت» .
نحبها ونواليها لأنها حوت أقدس بقاع الأرض وأطهرها
__________
(1) سورة الأنعام الآية 19
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) سورة النساء الآية 115(83/35)
الحرمان الشريفان.
نحبها ونواليها لأن حكامها رعوا مصالح إخوانهم المسلمين في كل مكان.
نحبها ونواليها فالخير منها إلى كل مسلم واصل، والشر عنهم قاصر.
نحبها ونواليها دينا وقربة، نحبها ونواليها فطرة، نحبها ونواليها وفاء ومروءة.
فما اللوم على المحب الباذل وإنما اللوم على المبغض الناقم العاذل.
إخوة الإسلام.. ما بالنا نرى أقواما قد امتلأت قلوبهم حقدا وكمدا على هذه البلاد الطاهرة وعلى حكامها وأهلها.
حسدونا على نعمة الدين، حسدونا على نعمة الأمن، حسدونا على نعمة التوافق بين الراعي والرعية، حسدونا على نعمة الأرزاق الوافرة.
راحوا يحركون ضدنا المؤامرات، ويجندون لها شبابا أغرارا عادوا على بلادهم وأهليهم بالتكفير والقتل والتدمير.
أرهبوا المسلمين، وخوفوا الآمنين، طاعة لإبليس وجنده، وإلا فإن الله لا يرضى بالفساد ولا يحب المفسدين {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (1) .
اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا وأصلح قادتنا واجعلنا وإياهم
__________
(1) سورة البقرة الآية 204(83/36)
متعاونين على البر والتقوى.
قادة المسلمين.. إن الله قد ولاكم أمر المسلمين فاتقوا الله فيهم.. احملوا الناس على التوحيد والسنة حكموا فيهم الشريعة، اعدلوا بين رعاياكم.. انهضوا ببلادكم.. والرفق الرفق بالرعية فإنهم مادة الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به.. (1) » .
علماء المسلمين.. إن الله قد من عليكم بنور العلم وميراث النبوة وإن العلماء ورثة الأنبياء فانشروه وعلموه حتى تنجلي ظلمات الجهل والنفاق، والتلبيس، إنكم تحملون الدين حملتموه عن أسلافكم فأوصلوه إلى من بعدكم سالما من الشبه والبدع، بريئا من النقص والزيادة، صافيا على منهاج الكتاب والسنة {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (2) .
بارك الله جهودكم.. وأعلى الله درجاتكم.. وجزاكم عن المسلمين خيرا على بذلكم.
دعاة الإسلام.. الجادة.. الجادة.. إياكم والاغترار بزخارف العصر أو الانسياق وراء مرجف أو مخذل، فإنما السبيل كتاب وسنة على منهج سلف الأمة {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) .
أيها المفتون في الحج.. اتقوا الله في إخوانكم الحجاج.. فإن
__________
(1) مسلم الإمارة (1828) ، أحمد (6/93) .
(2) سورة آل عمران الآية 187
(3) سورة يوسف الآية 108(83/37)
غالبهم قد عانى الكثير حتى وصل هذه الديار، وربما لا يعود إليها حاجا بعد هذه المرة، فاحملوهم على الكتاب والسنة، جنبوهم التشديدات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإياكم والمناسك المنفتحة من رخص المذاهب البعيدة عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه.
يا أهل التربية والتعليم.. إنكم تحملون أمانة عظيمة قلوب أبنائنا وبناتنا وعقولهم بين أيديكم ارعوا الخير الذي فيه ونموه، اربطوهم بماضيهم المجيد، وسلحوهم بالعلم النافع ليستقبلوا غدا مشرقا سعيدا نافعا لهم ولأمتهم، رافعا لراية دينهم أعانكم الله وقواكم وبالخير وعلى الخير أمدكم وسددكم.
رجال الإعلام.. إن سلاحكم في هذا العصر أمضى الأسلحة.. فالله الله بدينكم نشرا وبيانا.. ذبا عن حياضه ودفاعا.. إياكم ومزالق الشبهات.. أو مراتع الشهوات.. لتكن قنواتنا قنوات هداية.. قنوات تجلي صورة الإسلام المشرقة، قنوات تنبئ عن ديانتنا وأخلاقنا.
أيها التجار.. ويا أصحاب رؤوس الأموال.. خذوا المال من حله، واصرفوه في محله، والرحمة الرحمة بإخوانكم فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «رحم الله امرأ سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى.. (1) » يسروا عن المعسرين ولا تثقلوا كواهل إخوانكم بغلاء الأسعار، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
شباب الإسلام.. كنتم في الصغر قرة وأنتم اليوم عدة وقوة.
__________
(1) البخاري البيوع (1970) ، ابن ماجه التجارات (2203) .(83/38)
أمتكم اليوم أحوج ما تكون إليكم، تسلحوا بالدين، تسلحوا بالعلم النافع والعمل الصالح وحدوا ربكم واعبدوه واشكروا له.
فتاة الإسلام.. كم عانت المرأة قبل الإسلام وبعده في بلاد الكفر والانحلال، اسمعي وأبصري واقرئي، أين وصلت حال المرأة عندهم من الهوان والابتذال، جسدها للمتعة وجمالها للإغراء بعيدا عن بيت الزوجية والحياة الأسرية إياك ودعوات المنافقين والكفار الحاقدين.. احفظي على نفسك الحجاب والعفة والدين والاستقامة، تسلمي وتغنمي وتطمئني.
وأخص المشاركين في الحج:
فرجال الأمن لهم منا الشكر والدعاء كم بذلوا ويبذلون يسهرون لراحتنا ويتعبون لتسهيل حجنا جزاهم الله عنا خير الجزاء.
ولجنة الحج العليا لهم منا الشكر فقد لمسنا نتائج جهودهم وذقنا ثمرات أعمالهم شكر الله سعيهم وبارك في جهودهم.
إخواني المطوفين وأرباب الحملات.. اتقوا ربكم في ضيوف الرحمن أكرموهم واخدموهم قدموا مرضاة الله على الدينار والدرهم، ولا يذهب بكم الطمع إلى استغلالهم وإيذائهم وإهانتهم.
حجاج بيت الله.. ها أنتم أولاء في البلد الحرام.. قدمتم أقدس البقاع وأطهرها.. سار فيها قبلكم أزكى البشر أنبياء الله ورسله.. هنا وقف إبراهيم والأنبياء، هنا وقف محمد صلى الله عليه وسلم ونحن هاهنا نقف.(83/39)
حجاج بيت الله.. أنتم تشاهدون وتعيشون الآن أمنا مستتبا، وعيشا رغيدا.. ومشاعرا مهيأة، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه.
فاشكروا لولاة هذه البلاد المباركة هذه العناية، وادعوا لهم بمزيد من التوفيق والسداد، ادعوا لهم بالتمكين والعز ادعوا لهم بخيري الدنيا والآخرة، هذا حقهم علينا فجزاهم الله عنا وعنكم وعن سائر المسلمين خير الجزاء.
حجاج بيت الله.. نحن الآن في عرفة ذلكم اليوم الذي هو أعظم الأيام وخير يوم طلعت فيه الشمس أكثروا من الدعاء والذكر أكثروا من قول لا إله إلا الله.
حجاج بيت الله.. عرفة كلها موقف والزموا حدودها ولا تخرجوا عنها حتى تغيب الشمس ثم ادفعوا إلى مزدلفة صلوا بها المغرب والعشاء جمعا ثم بيتوا بها وبعد صلاة الفجر وحين يسفر النهار ادفعوا إلى منى وارجموا جمرة العقبة ثم احلقوا أو قصروا والحلق أفضل ثم انحروا، وطوفوا طواف الإفاضة واسعوا بعده سعي الحج للمتمتع، أما القارن والمفرد فإن كانا سعيا بعد طواف القدوم أجزأهما عن سعي الحج.
وهذا هو التحلل الثاني، والأول يحصل بالرمي والحلق، ثم يبيت الحاج بمنى أيام التشريق ويرمي الجمار الثلاث الصغرى ثم(83/40)
الوسطى ثم الكبرى كل يوم بعد الزوال مرتبا كل واحدة بسبع حصيات، ومن تعجل فإنه يرمي يوم الثاني عشر ويخرج من منى قبل غروب الشمس ومن تأخر إلى الثالث عشر رمى الجمرات، وآخر واجبات الحج طواف الوداع وهو ختام المناسك ولا يسقط إلا عن الحائض إذا كانت قد طافت للإفاضة.
حجاج بيت الله.. احرصوا على تكميل حجكم وإتمامه، بتخليصه من الرياء والسمعة، والبدع القولية والفعلية، والمعاصي بأنواعها، واعزموا على مواصلة أعمال الخير بعده فهذا هو بر الحج، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه (1) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (2) » .
اللهم يا عالم الغيب والشهادة يا رحمن يا رحيم.. اللهم أنت الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر أنت الله الخالق البارئ المصور لك الأسماء الحسنى سبحانك لا إله إلا أنت العزيز الحكيم.
يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، يا رب الأرباب ويا مجري السحاب ويا هازم الأحزاب، اللهم إنا نقف بين يديك طائعين خاشعين خاضعين، لعزتك وكبريائك وعظمتك وجبروتك ذليلين، ولرحمتك ولعفوك ولمغفرتك مفتقرين.
نسألك مسألة المحتاجين، وندعوك دعاء المضطرين يا من قلت
__________
(1) البخاري الحج (1449) ، مسلم الحج (1350) ، الترمذي الحج (811) ، النسائي مناسك الحج (2627) ، ابن ماجه المناسك (2889) ، أحمد (2/229) ، الدارمي المناسك (1796) .
(2) البخاري الحج (1683) ، مسلم الحج (1349) ، الترمذي الحج (933) ، النسائي مناسك الحج (2629) ، ابن ماجه المناسك (2888) ، أحمد (2/246) ، مالك الحج (776) .(83/41)
وقولك الحق: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (1) يا من قلت وقولك الصدق: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) . يا قريب يا مجيب يا من قلت: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (3) ....
اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تغفر ذنوبنا وتستر عيوبنا، اللهم ارحم ذل مقامنا بين يديك، ولا تجعل لنا حاجة إلا إليك، اللهم نسألك في هذا المقام العظيم، وهذا اليوم العظيم مغفرة تمحو بها ما سلف منا من الذنوب والآثام، وتوبة نصوحا تجب بها عنا ما فرط من الكبائر العظام يا كريم يا منان.
رحماك ربنا رحماك، رحماك ربنا رحماك، اللهم هؤلاء عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك نواصيهم بيدك ماض فيهم حكمك عدل فيهم قضاؤك، جاؤوك طائعين مختارين ملبين نداء أبينا إبراهيم {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} (4) جاؤوا من كل فج عميق.. يرجون رحمتك ويخافون عذابك اللهم حقق رجاءنا واقبل دعاءنا وأقل عثراتنا وارفع درجاتنا وآمن خوفنا، لا إله إلا أنت.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، يا سميع يا قريب يا مجيب الدعوات.
اللهم اغفر لأمهاتنا اللهم اغفر لأمهاتنا اللهم اغفر لأمهاتنا
__________
(1) سورة النمل الآية 62
(2) سورة غافر الآية 60
(3) سورة البقرة الآية 186
(4) سورة الحج الآية 27(83/42)
اللهم اغفر لآبائنا، ربنا ارحمهما كما ربيانا صغارا، اللهم من كان منهما حيا فزده هداية وتوفيقا واغفر اللهم لميتهم اللهم نور عليهم في قبورهم اللهم اجعلها روضة من رياض الجنة يا حي يا قيوم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين.. اللهم أظهر الهدى ودين الحق الذي بعثت به عبدك ونبيك محمدا صلى الله عليه وسلم على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم ارحم إخواننا المستضعفين في كل مكان اللهم كن لهم مولى ونصيرا وعونا وظهيرا اللهم أبدل ضعف المسلمين قوة، وذلهم عزة، وتفرقهم اجتماعا على الحق يا قوي يا عزيز يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ول على المسلمين خيارهم وأبعد عنهم شرارهم، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفق وسدد واهد وأعن عبدك خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، اللهم سدد لسانه واسلل سخيمة قلبه، ونور بصيرته، اللهم أمده بمدد من عندك وتابع إليه ألطافك ورادف عليه نعمك، واجعله على الحق معانا، وبالحق قائما وللحق ناصرا اللهم شد أزره بأخيه وولي عهده الأمير سلطان بن عبد العزيز واجعلهم هداة مهتدين وارفع بهم علم الدين يا رب العالمين.
اللهم إن عبدك الفقير إلى عفوك ورحمتك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود قد بذل جهده وسخر وقته وعمره لتأمين المسلمين(83/43)
وراحتهم والدفاع عنهم ونشر الدين وإعلاء كلمته اللهم فأمطر عليه من شآبيب رحمتك وتابع إليه ألطافك، اللهم اغفر له جزاء ما أحيا من السنة واغفر له جزاء ما أمات من البدع، واغفر له جزاء ما أمن الحجيج واغفر جزاء ما سعى في إعلاء كلمة الدين يا رب العالمين.
اللهم واغفر لأبنائه الملوك الكرام سعود وفيصل وخالد وفهد غفر الله لهم ورحمهم وجزاهم عنا خير الجزاء.
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(83/44)
الفتاوى(83/45)
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية (رحمه الله)
(نصيحتان)
الأولى: في التذكير بفريضة الزكاة، وبيان الحكمة في إيجابها، والأضرار والمفاسد المترتبة على منعها
من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ إلى من يبلغه من المسلمين، وفقني الله وإياهم إلى صراطه المستقيم، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإني أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسول الله وخاتم النبيين، نصح أمته وقال فيما صح عنه: «الدين النصيحة (1) » وأنزل الله عليه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) .
ثم إن الباعث لكتابة هذه الكلمة هو النصح والتذكير بفريضة الزكاة التي تساهل بها بعض الناس وغفلوا عنها، مشتغلين بتدبير أموالهم عن فريضة من فرائض الدين، وركن من أركان الإسلام يكفر
__________
(1) رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
(2) سورة الذاريات الآية 55(83/47)
جاحده، وتقاتل الطائفة الممتنعة من أدائه، ولقد ذكر الله في كتابه الزكاة مقرونة بالصلاة فقال: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (1) ، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2) . وأمر تعالى رسوله بأخذها حيث يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (3) . وجاء الوعيد الشديد على من بخل بها وقصر فيها، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (4) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (5) ، وفي الحديث الصحيح: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد (6) » وفي الصحيح: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة التوبة الآية 103
(4) سورة التوبة الآية 34
(5) سورة التوبة الآية 35
(6) أخرجه الستة إلا الترمذي، وفي رواية: '' من آتاه الله مالا '' إلخ.(83/48)
مثل يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان، يطوقه به يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعنى شدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك (1) » .
ولا يخفى ما من الله به على عباده من نعمة المال، ولا سيما في هذا الزمن الذي تكاثرت فيه المصالح والخيرات، واتسعت فيه أسباب الرزق، وتضخمت فيه أموال كثير من الناس، وما الأموال إلا ودائع في أيدي الأغنياء، وفتنة وامتحان لهم من الله لينظر أيشكرون أم يكفرون، ومن شكرها وقيد النعمة فيها أداء زكاتها، والصدقة على الفقراء والمساكين، والإنفاق مما استخلفهم الله فيه، قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (2) .
ومن الحكمة في تشريع الزكاة مواساة الأغنياء لإخوانهم الفقراء. فلو قام الأغنياء بهذه الفريضة حق القيام وصرفوا الزكاة مصرفها الشرعي لحصل للفقراء والمساكين ما يكفيهم، ولا يحتاجون معه إلى غيره، أما إذا منع الأغنياء ما أوجب الله عليهم من فريضة الزكاة فإنه ينشأ من هذا أضرار ومفاسد كثيرة من تعريض العبد نفسه للعذاب العظيم، وكراهة الله والناس له، وتسبب لإهلاك المال
__________
(1) البخاري الزكاة (1338) ، النسائي الزكاة (2482) ، ابن ماجه الزكاة (1786) ، مالك الزكاة (596) .
(2) سورة الحديد الآية 7(83/49)
وانتزاع البركة منه، ففي الحديث: «ما خالطت الزكاة مالا قط إلا أهلكته (1) » ومن ظلم الفقراء والمساكين وإيصال الضرر إليهم، ودعوة لهم إلى ارتكاب شتى الحيل في الحصول على لقمة العيش، والتعرض للوقوف في المواقف الحرجة، والإلحاح في السؤال، بل ربما اضطرتهم فاقتهم وشدة الحاجة إلى السرقة والإقدام على بعض الجرائم، لما يقاسونه من آلام الفقر والمسكنة التي لو أحس بها الغني يوما من الدهر لتغيرت نظرته إليهم، ولعرف عظيم نعمة الله عليه.
وإذا كان في الزكاة مصلحة للفقراء والمساكين وبهم ضرورة إليها فإن فيها مصلحة لأرباب الأموال، وبهم ضرورة إلى أدائها من تطهير وتزكية لهم، وبعد عن البخل المذموم، وقرب من فعل الكرم والجود، واستجلاب للبركة والزيادة والنماء، وحفظ للمال ودفع للشرور عنه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من أدى زكاة ماله فقد ذهب عنه شره» رواه الطبراني وابن خزيمة في صحيحه، وعن أنس رضي الله عنه قال: أتى رجل من تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني ذو مال كثير وذو أهل ومال وحاضرة فأخبرني كيف أصنع وكيف أنفق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخرج الزكاة من مالك فإنها طهرة تطهرك، وتصل
__________
(1) أخرجه البزار عن عائشة.(83/50)
أقرباءك، وتعرف حق المسكين، والجار، والسائل» رواه أحمد، وعن الحسن رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع» رواه أبو داود في المراسيل.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لمن جاء بالزكاة فتارة يقول: «اللهم بارك له (1) » وتارة يقول: «اللهم صل عليه (2) » .
هذا ولقد تولى الله قسمة الزكاة بنفسه وجزأها إلى ثمانية أجزاء.
أما الأشياء التي تجب فيها الزكاة فهي أربعة أصناف: الخارج من الأرض كالحبوب والثمار، وبهيمة الأنعام، وعروض التجارة والذهب والفضة، وقد تجب في غيرهن.
ولكل من هذه الأصناف الأربعة نصاب محدود لا تجب الزكاة فيما دونه، فنصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق، وأدنى نصاب
__________
(1) فمن الأول ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: ''كان أبي من أصحاب الشجرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان، قال فأتاه أبي بصدقته، فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى''، ومن الثاني ما رواه النسائي عن وائل بن حجر: ''أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ساعيا فأتى رجلا فآتاه فصيلا مخلولا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعثنا مصدق الله ورسوله، وإن فلانا أعطاه فصيلا مخلولا، اللهم لا تبارك فيه ولا في إبله، فبلغ ذلك الرجل فجاء بناقة حسناء، فقال أتوب إلى الله عز وجل وإلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك فيه وفي إبله''.
(2) فمن الأول ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: ''كان أبي من أصحاب الشجرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان، قال فأتاه أبي بصدقته، فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى''، ومن الثاني ما رواه النسائي عن وائل بن حجر: ''أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ساعيا فأتى رجلا فآتاه فصيلا مخلولا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعثنا مصدق الله ورسوله، وإن فلانا أعطاه فصيلا مخلولا، اللهم لا تبارك فيه ولا في إبله، فبلغ ذلك الرجل فجاء بناقة حسناء، فقال أتوب إلى الله عز وجل وإلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك فيه وفي إبله''.(83/51)
الغنم أربعون شاة، وأدنى نصاب الإبل خمس، وأدنى نصاب البقر ثلاثون، ونصاب الفضة مائتا درهم، ونصاب الذهب عشرون مثقالا. فإذا ملك الإنسان نصابا من الذهب وقدره إحدى عشر جنيها ونصفا أو ملك نصابا من الفضة وقدره ستة وخمسون ريالا عربيا تقريبا وحال عليه الحول وجبت فيه الزكاة ربع العشر، وكذلك الأوراق التي كثرت في أيدي الناس وصار التعامل بها أكثر من غيرها فإذا ملك الإنسان منها ما يقابل نصابا من الفضة وحال عليها الحول فإنه يخرج منها زكاتها ربع عشرها، أما العروض وهي ما اشتراها الإنسان للربح فإنها تقوم في آخر العام ويخرج ربع عشر قيمتها، وإذا كان للإنسان دين على أحد فإنه يزكيه إذا قبضه، فإن كان الدين على مليء فالأفضل أن يزكيه عند رأس الحول، وله أن يؤخر زكاته حتى يقبضه.
ويجب إخراج الزكاة في بلد المال إلا لعذر شرعي.
ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب.
ولا يجوز صرفها لغير أهلها الثمانية الذين ذكرهم الله بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} (1) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(83/52)
والزكاة حق الله فلا تجوز المحاباة بها ولا أن يجلب الإنسان بها لنفسه نفعا أو يدفع ضرا.
فاتقوا الله أيها المسلمون وتذكروا ما أوجب الله عليكم من الزكاة وما يقاسيه الفقراء والمساكين من ويلات الفقر والفاقة، وبادروا إلى إخراج زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، خالصة لوجه الله، لا من فيها، ولا أذى، ولا رياء ولا سمعة، اغتنموا الفرصة قبل فوات الأوان: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) .
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ونفعنا بهذه الذكرى، وهدانا جميعا إلى طريق الحق والخير والفلاح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
في يوم الجمعة 10 رمضان المبارك 1375 هـ
(هذه الفتوى قدمها لي عبد الله بن إبراهيم بن جار الله أثابه الله) .
الثانية: في الموضوع أيضا
من محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف إلى من تبلغه النصيحة من إخواننا المسلمين، سلك الله بنا وبهم صراطه المستقيم، وجنبنا
__________
(1) سورة البقرة الآية 254(83/53)
وإياهم سبل أصحاب الجحيم، ووفقنا جميعا للتمسك بشرائع الدين القويم، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالموجب لهذه الكلمة هو النصيحة والشفقة وإقامة الحجة والإعذار من كتمان ما يلزم بيانه للناس، ومن أهم ذلك في هذه الأيام بيان ما يلزم من أحكام الزكاة التي هي ثالث أركان الإسلام، وثانية الصلاة وقرينتها، قرنها الله تعالى بالصلاة في نيف وثلاثين موضعا من كتابه العزيز؛ لكون هذه الأيام غالبا وقت إخراج الزكاة، ولمزيتها بمضاعفة الحسنات، وورود الوعيد الشديد على تركها، والتغليظ في منعها، قال الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1) ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (2) ، وهذا الوعيد مفسر بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من آتاه
__________
(1) سورة آل عمران الآية 180
(2) سورة التوبة الآية 34(83/54)
الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعنى شدقيه - ويقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: وقال تعالى: الآية (3) » .
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره (4) » والآيات والأحاديث في التغليظ في مانع الزكاة وعقوبته كثيرة معروفة.
والأموال التي تجب فيها الزكاة:
أحدها: سائمة بهيمة الأنعام، وهي: الإبل، والبقر، والغنم.
الثاني: الخارج من الأرض: من الحبوب والثمار، وما يلحق بها كالعسل.
الثالث: الأثمان، وهي النقود: من الذهب، والفضة، وما يقوم
__________
(1) البخاري الزكاة (1338) ، النسائي الزكاة (2482) ، ابن ماجه الزكاة (1786) ، مالك الزكاة (596) .
(2) سورة آل عمران الآية 180 (1) {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
(3) سورة التوبة الآية 35 (2) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ}
(4) تقدم هذا الحديث، والحديث الآتي بعده في النصيحة قبله.(83/55)
مقامها من فلوس وأوراق نقدية، وكذلك حلي الذهب والفضة إذا بلغ نصابا بنفسه أو بما يضم إليه من جنسه وفي حكمه، ولم يكن معدا للاستعمال ولا للعارية، وأقل نصاب الذهب عشرون مثقالا، وبالجنيه السعودي وكذلك الإفرنجي أحد عشر جنيها ونصف جنيه تقريبا، وأقل نصاب الفضة مائتا درهم، وبالريال العربي ستة وخمسون ريالا، وبالفرنسي ثلاثة وعشرون ريالا تقريبا.
الرابع: عروض التجارة، وهي كل ما أعد للبيع والشراء لأجل الربح والتكسب من جميع سلع التجارة كالمجوهرات ونحوها، وكذلك السيارات والمكائن وغيرها من المنقولات والثابتات كالعقارات من أرض وبيوت ونحوها إذا تملكها بفعله بنية التجارة فإنها تعتبر سلعة تجارة، ويلزمه أن يقومها عند الحول بما تساوي من الثمن لدى أهل الصنف، ولا ينظر إلى رأس مالها الذي اشتراها به، وعليه أن يؤدي قيمتها عند الحول إذا بلغت نصاب الذهب والفضة، لعموم حديث سمرة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع (1) » رواه أبو داود، كما عليه أن يزكي الديون التي له في ذمم الناس إذا قبضها.
وإذا استفاد مالا مستقلا خارجا عن ربح التجارة كالأجرة والراتب ونحوها فإنه يبتدئ له حولا من حين استفاده، ويزكيه إذا تم حوله.
__________
(1) أبو داود الزكاة (1562) .(83/56)
وأما مصرفها فقد بينه الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) . فلا يجوز صرفها إلى غير هؤلاء الأصناف الثمانية كبناء المساجد والمدارس وتكفين الموتى ووقف المصاحف وكتب العلم وغير ذلك من جهة الخير.
ويجب إخراجها عند تمام الحول فورا إلا لعذر شرعي.
ولا يدفعها إلا لمن يغلب على الظن أنه من أهلها لأنها لا تحل لغني ولا لقوي مكتسب كما في حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار رواه أبو داود والنسائي، فليتق الله من لا تحل له أن يأخذ منها شيئا فإنها سحت ومحق لما في يده قبلها من المال.
ولا يجزئ إخراجها إلا بنية سواء أخرجها بنفسه أو بوكيله، وسواء دفعها إلى مستحقها أو إلى نائب الإمام ليفرقها على مستحقيها لحديث: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (2) » .
ولا يجوز دفعها إلى أصوله أو إلى فروعه أو زوجته أو إلى أحد ممن تلزمه نفقته، ولا يحابي بها قريبه، أو يقي بها ماله، ولا يدفع بها مذمة.
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) متفق عليه.(83/57)
وينبغي للإنسان الاستكثار من صدقة التطوع أيضا في هذا الشهر الكريم والموسم العظيم، لحديث أنس: «سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الصدقات أفضل؟ فقال: صدقة في رمضان (1) » رواه الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمنه ثم يربيها لصاحبها حتى تكون مثل الجبل العظيم (2) » متفق عليه، وعن أنس مرفوعا: «إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء (3) » والآيات والأحاديث في هذا كثيرة معروفة.
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يشملنا وإياكم بعفوه ومغفرته ورحمته، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويذل أعداءه، ويؤيد إمام المسلمين، ويأخذ بناصيته لما فيه الخير والصلاح، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. في 10-9-1376 هـ.
(هذه النصيحة قدمها لي ناصر الخطيب - أثابه الله) .
__________
(1) الترمذي الزكاة (663) .
(2) البخاري الزكاة (1344) ، مسلم الزكاة (1014) ، الترمذي الزكاة (661) ، النسائي الزكاة (2525) ، ابن ماجه الزكاة (1842) ، أحمد (2/331) ، مالك الجامع (1874) ، الدارمي الزكاة (1675) .
(3) الترمذي الزكاة (664) .(83/58)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله)
مفتي عام المملكة العربية السعودية
مرتبات فيها تفصيل (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 2790 وتاريخ 8\9\1405 هـ الذي تسأل فيه عن زكاة المرتبات.
ج: زكاة المرتبات من النقود فيها تفصيل: فإن كانت قد حال عليها الحول وهي في حوزته وقد بلغت النصاب ففيها الزكاة. أما إن كانت أقل من النصاب أو لم يحل عليها الحول بل أنفقها قبل ذلك فلا زكاة فيها.
الرئيس العامة لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم 1847/ 2 في 20 \ 8 \ 1406 هـ.(83/59)
س: أنا موظف راتبي الشهري ما يعادل (3000) ريال فهل تجب علي الزكاة وما مقدارها؟ مع العلم بأني لا أصرف منها إلا اليسير (600) ريال.
ج: إذا حال الحول على شيء من المرتب يبلغ النصاب فعليك زكاته، وإن كان دون ذلك فلا زكاة فيه.(83/60)
الزكاة تكون فيما دار عليه الحول وهو بحوزة الإنسان
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم وفقه الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل كتابكم وما تضمنه من الإفادة عن وجودك بالأردن ضمن القوات السعودية المرابطة به، وأنه يتوفر لديك بعض النقود، وترغب في زكاتها، إلى ما ذكرت كان معلوما.
ج: الزكاة تكون فيما دار عليه الحول وهو بحوزة الإنسان من النقود وغيرها من العروض التجارية، والواجب في النقود هو ربع(83/60)
العشر فيما بلغ النصاب، والنصاب الواحد يعادل ستة وخمسين ريالا بالعملة الفضية السعودية الحالية، وعليك إخراج الزكاة فيما يتوفر لديك من النقود ويحول عليه الحول بالمعدل المذكور، سواء بالعملة السعودية أو ما يعادلها من عملة الأردن أو غيرها. وفق الله الجميع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة(83/61)
كيفية ضبط الموظف ومن له دخل للحول
س: أنا موظف أتقاضى راتبا طيبا والحمد لله إلا أنني لا أعرف كيف أدفع زكاته، هل أخرجها عن كل شهر أم أضع لنفسي حولا معينا لكل ما تحت يدي مما حصلت عليه عن طريق الوظيفة أو غيرها، وإذا نفد المبلغ وتحصلت على مبلغ جديد يصل للنصاب، فهل أبدأ باحتساب الحول من تاريخ المبلغ الأول الذي نفد أم من تاريخ الحصول على المبلغ الجديد؟ (1)
ج: كلما حصلت على مبلغ يكون بدء الحول من المبلغ الجديد، وكلما جاءك مال ترسم خطة تضبطه بكتابة، فإذا دار الحول على هذا
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته عقب ندوة ألقيت في الجامع الكبير بعنوان ''الربا وخطره''.(83/61)
المال الجديد فزكه، فالذي جاء في محرم زكه في محرم، والذي جاءك في صفر زكه في صفر، والذي جاءك في ربيع آخر زكه في ربيع آخر وهكذا، لكن لو قدمت الأخير مع الأول وعجلت زكاة الأخير مع الأول فأنت مشكور ولا بأس، ولو كان عندك راتب شهر محرم وصفر وربيع أول وربيع ثاني إلى آخره، كل شهر مكتوب عندك، ثم أخرجت زكاة الشهور هذه مع محرم - قدمتها مع محرم - فلا بأس عليك، فتخرج زكاة الجميع بعد تمام الحول على الأول، ولا بأس عليك في ذلك بل ذلك أفضل، لكن الواجب عليك أن تخرج كل زكاة في وقتها، كلما تم الحول على المال أخرجت الواجب حسب ما كتبت عندك ووقت عندك، وإن عجلت بعض ذلك مع زكاة ما قبله فلا بأس عليك كما تقدم.
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم وفقه الله لكل خير أمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل كتابكم وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الإفادة أنك تدخر شهريا مبلغا من المال يختلف من شهر إلى شهر في حساب الأمانات في البنك، ولا تأخذ عليه فائدة، لإيمانك العميق بتحريم ذلك، وإنما الإيداع في البنك فقط للحفظ والضمان، وسؤالك(83/62)
عن كيفية إخراج الزكاة عن هذه الأموال المودعة، لأن بعضها مضى عليه سنة والبعض الآخر دون ذلك كان معلوما.
والجواب: من المعلوم أن الزكاة لا تجب إلا فيما حال عليه الحول، والذي أرى في الموضوع هو أن تضع بيانا: لديك تسجل فيه ما تودعه في البنك أولا بأول، حتى تعرف تاريخ حصولك على المال، ومن ثم يسهل معرفة ما دار عليه الحول منه.
وإن أمكن إيداع المال المذكور في غير البنك فهو أولى، لأن أكثر البنوك تتعامل بالأعمال الربوية، وإيداع المال عندهم يعينهم على عملهم الخبيث، وفقنا الله وإياك لما فيه رضاه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
س: إذا ادخر المسلم مبلغا من المال فكيف يكون حساب زكاته في نهاية العام؟
ج: يزكي المسلم كل شيء ملكه من النقود أو عروض التجارة(83/63)
إذا تم حوله، فالذي ملكه في رمضان يزكيه في رمضان، والذي ملكه في شعبان من راتبه أو غيره من النقود أو عروض التجارة يزكيه في شعبان، والذي ملكه في شوال يزكيه في شوال، والذي ملكه في ذي الحجة يزكيه في ذي الحجة، وهكذا كل مال من الأموال المذكورة تتم سنته يزكيه على رأس الحول، وإذا أحب أن يعجل الزكاة قبل تمام الحول لمصلحة شرعية فلا بأس وله في ذلك أجر عظيم، أما اللزوم فلا يلزمه الإخراج إلا بعد تمام الحول.(83/64)
يجوز تعجيل الزكاة قبل تمام الحول
س: أنا موظف أتسلم راتبا، وكل شهر أدخر جزءا منه، وليس هناك نسبة معينة للادخار، فكيف أخرج زكاة هذا المال (1) ؟
ج: الواجب عليك أن تخرج زكاة كل قسط توفره، إذا تم حوله وكان نصابا، وإن أخرجت زكاة الجميع عند تمام حول القسط الأول كفى ذلك، وصارت زكاة الأقساط الأخيرة معجلة قبل تمام حولها وتعجيل الزكاة قبل تمام الحول جائز، ولا سيما إذا دعت الحاجة، أو المصلحة الشرعية لذلك.
س: أنا إنسان مسلم أعمل في القطاع الحكومي ويأتيني دخل
__________
(1) نشر في كتاب '' فتاوى إسلامية '' جمع وترتيب الشيخ محمد المسند، ج 2، ص 77.(83/64)
شهري مثل أي موظف حكومي، في كثير من الأوقات أدخر من الراتب الشهري مبلغا من المال غير محدد حسب الظروف، مثلا في شهر من الشهور قد أستطيع أن أدخر (2000) ريال، وفي شهر آخر (4000) ريال، وشهر آخر قد لا أستطيع أن أدخر أي شيء، ومع مرور الأيام والشهور تكون عندي مبلغ من المال لا بأس به، فهل تجب فيه الزكاة؟ وكيف أستطيع أن أحدد؟ هل بمضي الحول الكامل على كل مبلغ من المال، حيث إنني لا أتبع نظاما معينا للادخار مما يجعل تحديد الحول صعبا، وأنا أخشى أن أكون عصيت أمر الله في الزكاة دون علم ودراية، لذلك أرجو من سماحتكم توضيح ذلك؟ وجزاكم الله خيرا.
ج: الواجب عليك أن تخرج زكاة كل مبلغ إذا حال حوله، وعليك أن تقيد ذلك بالكتابة حتى تكون على بصيرة، وإذا أخرجت زكاة الجميع إذا حال الحول على أول الادخار كفى ذلك وبرئت ذمتك؛ لأن تعجيل الزكاة قبل تمام حولها لا بأس به، والله ولي التوفيق.
س: ما كيفية إخراج زكاة المال بحيث إذا وضع الإنسان جزءا(83/65)
من المال ثم بعد فترة وضع عليه جزءا آخر فكيف يخرج زكاته؟
ج: إذا حال الحول على ما يبلغ النصاب من النقود أو عروض التجارة أخرج زكاته، وهكذا بقية المال كل جزء يحول عليه الحول يخرج زكاته وإن أخرج عن الجميع عندما يحول الحول على أول المال كفى ذلك؛ لأن تعجيل الزكاة قبل أن يحول الحول جائز، فإذا ملك عشرة آلاف مثلا في رمضان من عام 1403 هـ، ثم ملك عشرة آلاف أخرى في ذي القعدة من عام 1403 هـ فإنه يزكي العشرة الأولى في رمضان من عام 1404 هـ، ويزكي العشرة الثانية في ذي القعدة من عام 1404 هـ وإن زكى الجميع في رمضان من عام 1404 هـ فلا بأس، فيكون بذلك قد عجل زكاة العشر الثانية قبل أن تجب فيها الزكاة ولا حرج في ذلك. والله ولي التوفيق.(83/66)
حكم زكاة ما يستلمه الطلاب من المكافأة الشهرية
س: نحن مجموعة طلاب من خارج المملكة، فهل يجب علينا دفع الزكاة، مع العلم أننا نأخذ مكافأة شهرية كالطلاب، وإذا كان ذلك فكم يجب علينا دفعه؟ وهل يجوز لنا أن نتصدق بها لمساكين(83/66)
هنا، أو تكون كتبرع لبناء مسجد، ومتى نصرفها؟ جزاكم الله خيرا.
ج: بالنسبة لزكاة الفطر، فهي عليكم كغيركم من المسلمين، وهي صاع من قوت البلد من بر أو أرز أو غيرهما، ومقداره ثلاثة كيلو غرامات تقريبا تدفع إلى الفقراء صباح العيد قبل صلاة العيد، أو قبل ليلة العيد بيوم أو يومين، كما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفعلون ذلك، ولا يجوز تأخيرها إلى ما بعد صلاة العيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة (1) » أخرجه الإمام البخاري في صحيحه.
أما مرتباتكم الشهرية فليس عليكم فيها زكاة إلا إذا ادخرتم منها شيئا وحال عليه الحول، فإنه يجب عليكم زكاته إذا كان يبلغ النصاب، وهو مائة وأربعون مثقالا من الفضة، أو عشرون مثقالا من الذهب، أو ما يعادلها بالقيمة من العملات الأخرى.
والأفضل دفعها إلى المساكين الموجودين لديكم من المسلمين، ولا يجوز دفعها لتعمير المساجد عند جمهور أهل العلم.
والواجب ربع العشر فيما يزكى من الذهب والفضة والعملات التي تقوم مقامها من الدولار وغيره، والله الموفق.
__________
(1) البخاري الزكاة (1432) ، النسائي الزكاة (2504) ، أحمد (2/157) .(83/67)
الربح تبع الأصل وحوله حول أصله إلا إذا كان ربا
س: الأخ\ ع. م. ج. من نواكشوط في موريتانيا، يقول في سؤاله: في شهر رمضان من عام 1415 هـ كان عندي مبلغ أربعين ألف أوقية، وقد أخرجت زكاتها في وقتها، وفي شهر رمضان من عام 1416 هـ زاد المبلغ عشرين ألف أوقية أي أنه أصبح ستين ألف أوقية، وهذه العشرون ألفا جاءتني قبل رمضان 1416 هـ بشهرين، فكيف أزكي هذه المبالغ السابقة واللاحقة، أفتونا جزاكم الله خيرا.
ج: إذا كانت العشرون الأخيرة من أرباح الأربعين الأولى فإنها تزكى مع أصلها إذا تم حوله لأن الربح تبع الأصل، وحوله حول أصله، أما إن كانت العشرون حصلت من غير الأرباح كثمن مبيع لم يعد للبيع، وكهدية من بعض إخوانك فزكاتها إذا تم حولها، ولا تكون تابعة لحول الأربعين السابقة كما أوضح ذلك أهل العلم. والله ولي التوفيق.
س: الأخ\ ع. م. م. من عنيزة يقول في سؤاله: كان رصيد حسابي في البنك في شهر رمضان عام 1415 هـ خمسين ألف ريال،(83/68)
وقد أخرجت زكاتها في حينه، وفي رمضان عام 1416 هـ أصبح رصيد حسابي تسعين ألف ريال، فهل أزكي التسعين ألف ريال كاملة أو الفرق بين الرصيدين يعني أربعين ألف ريال، لأنني سبق أن أخرجت زكاة الخمسين ألف ريال، وما هو العمل في حالة كون الرصيد في رمضان عام 1416 هـ أقل من العام الذي قبله؟ أفتونا جزاكم الله خيرا.
ج: عليك إخراج زكاة التسعين ألفا؛ لأن الربح تابع للأصل وحكمه في الحول حكم الأصل إذا كان الربح المذكور حصل من طرق شرعية. أما إذا كان عن طريق الربا فليس عليك إلا زكاة الأصل وهو خمسون ألفا، أما الربح الذي حصل من طريق الربا فإنه محرم وليس ملكا لك وإنما الواجب إنفاقه للفقراء والمساكين والتخلص منه مع التوبة إلى الله سبحانه من ذلك. نسأل الله لنا ولك الهداية والاستقامة على الحق، وفق الله الجميع.
حول الدين
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخوين الكريمين(83/69)
.. وفقهما الله لكل خير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
وصل كتابكم وصلكم الله بهداه، وما به علم، ونفيدكم بأن حول الأرباح هو حول الأصل، فتجب زكاتها مع الأصل الذي هو رأس المال، إلا إذا كان شيء منها أو من الأصل دينا عند الناس، فإنه يزكى عند القبض، إلا إذا كان الذي عليه الدين مليئا غير مماطل، يسلم ما عليه متى طلب منه، فإن مثل هذا حكمه حكم الحاضر في اليد، فيزكى عند تمام الحول إذا كان حالا.
أما إذا كان الدين على معسر لا يدري هل يحصل منه المال أو يتلف، فإن مثل هذا المال لا تجب زكاته في أصح أقوال العلماء؛ لأنه ليس في يد المالك حتى يواسي منه الفقراء، ومتى قبضه استقبل به حولا، أما ما مضى فلا يلزمه عنه شيء.
والاعتبار في حول الزكاة بمرور السنة على المال من حين ملك بإرث أو غيره، سواء كان أول السنة الهجرية أو غيره، وفق الله الجميع للفقه في الدين والثبات عليه إنه خير مسؤول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(83/70)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: هل على القارن سعي مع طواف الوداع؟
ج: إذا سعى مع طواف الإفاضة أو القدوم كفى، وإن لم يسع فعليه سعي بعد طواف الإفاضة، فإن أخر طواف الإفاضة إلى وقت خروجه من مكة آخر أعمال الحج؛ فيكون طواف إفاضته ويجزئه عن الوداع، ويسعى بعده سعي الحج.
س: حججت هذا العام قارنا لكن بعد طواف القدوم خرجت من الحرم للاطمئنان على الأهل وبعد ذلك ذهبت إلى المسعى للسعي هل هذا الفاصل بين الطواف والسعي يؤثر؟
الجواب: لا بد من الموالاة بين الطواف والسعي، والفصل اليسير لا يؤثر بإذن الله، لكن إذا خرج خارج الحرم وطال الفصل فإنه يعيد الطواف، والله أعلم.(83/71)
س: ما حكم زيارة القبور يوميا من أجل أخذ أجر الجنازة؟
الجواب: الذين يزورون المقابر يوميا يشاركون في الجنائز وحفر(83/71)
القبر وتنزيل الميت ومواراته هذا عمل صالح وكان السلف يتنافسون في ذلك، قال بعضهم كان ابن سيرين وأيوب السختياني في البصرة ما يغسل الأموات إلا هما وكانا يحضران الجنائز في المقابر، فكان الناس حريصين على الخير والأعمال الصالحة، فمساعدة أهل الجنازة والمشي معهم هذه كلها أعمال طيبة لمن قدر عليها.(83/72)
س: ما حكم الدعوة والنصح والموعظة عند القبور، هل هو جائز؟
الجواب: النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كفى بالموت واعظا» والنبي صلى الله عليه وسلم شيع كثيرا من أصحابه في حياته ما ذكر أنه كان يعظ عند الإتيان بالجنازة ولا بعد دفنها، إنما في حديث البراء فقط، لكن ما كان يعتاد كلما شيع جنازة قام خطيبا فيهم هذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
إنما عثمان رضي الله عنه عندما حضر الجنازة وقف على القبر، فبكى وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «القبر أول منازل الآخرة فإما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار من نجا منه فما بعده أيسر منه (1) » وبكى رضي الله عنه لكن ما كان الصحابة يعتادون الخطب عند الجنائز في المقابر ورفع الأصوات وإشغال الناس عن ما هم فيه وما جاؤوا لأجله بهذه المواعظ والناس في أمر قد أهمهم والميت أمامهم، فهذا الموقف نفسه واعظ للإنسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كفى بالموت واعظا» ، فنحن لا نرى هذا مشروعا في كل وقت.
__________
(1) الترمذي الزهد (2308) ، ابن ماجه الزهد (4267) .(83/72)
س: ما حكم التنورة بدلا من الإحرام؟
الجواب: إن كان هذا إزارا فهو جائز وإن كان غير إزار فلا.(83/73)
س: لي أخ في الله قدم إلى الحج عن طريق الطائرة وعند محاذاة الميقات قال المضيف بعد قليل سوف نمر بالميقات وأحرم بعد قول المضيف بدقيقتين، هل عليه شيء؟
الجواب: ليس عليه شيء وإحرامه وقع في محله.(83/73)
س: هل يجوز لبس الكمامات للمحرم؟
الجواب: إن كان الكمام هذا مغطيا لجميع الوجه؛ ففيه الفدية المخير فيها بين ثلاثة أمور هي: الإطعام أو الصيام أو الدم، هذا إن احتاج إلى لبسه ولبسه، أما إن لم يكن محتاجا لذلك فلا يلبسه، أما إن كان جزءا يسيرا على الأنف أو الفم فقط ولم يستوعب الوجه كله فأرجو أن لا حرج فيه.(83/73)
س: ما حكم رمي جمرة يوم الثاني عشر قبل الزوال؟
الجواب: الأصل أن رميها يكون بعد الزوال، والحمد لله الأمر يسير والجمرات قد وسعت، وهيئت، وأرجو - إن شاء الله - أن لا يعاني المسلمون أي مضايقة بعد هذه التوسعة.(83/73)
س: هل يجوز للنساء تغيير الملابس يعني في النهار لبس وفي الليل لبس آخر؟(83/73)
الجواب: لا مانع من هذا.(83/74)
س: من صلى الظهر بمنى يوم التروية وهو غير محرم وينوي الحج هل يقصر أم يتم؟
الجواب: يقصر مع الحجاج؛ لأنه في حكمهم.(83/74)
س: أرجو الإفادة عن أعمال يوم التروية وما يجب أن يفعله الحاج في هذا اليوم؟
الجواب: يشرع في هذا اليوم الإحرام بالحج لمن كان محلا من المتمتعين، أما القارن والمفرد فهو على إحرامه، ويشرع للجميع إتيان هذا المكان في هذا اليوم، والمبيت فيه هذه الليلة، وصلاة الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر فيه، يقصر الصلاة الرباعية فيصليها ركعتين، هذه أعماله.(83/74)
س: سائلة تقول امرأة لبت بحج التمتع وعند الوصول إلى مكة جاءتها العادة الشهرية، ماذا تفعل وهي مرتبطة بحملة من الرياض؟
الجواب: لا بد من إكمال النسك، ولا يحل لها الطواف إلا بطهر والنبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: «اصنعي كل شيء غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري (1) » ، فعليها أن تصنع ما يصنعه الحاج فإن لم تطهر إلا بعد الوقوف بعرفة تكون قارنة وتدخل الحج على العمرة وتطوف طواف الإفاضة إذا طهرت وتسعى سعي الحج.
__________
(1) البخاري الحيض (299) ، مسلم الحج (1211) ، ابن ماجه المناسك (2963) .(83/74)
س: أنا في هذه السنة حاج عن ابن أخي وهو متوفى في هذه السنة وذلك ابتغاء وجه الله تعالى وقد أحرمت مفردا ولكن حصل أمر هو إني وأنا أطوف طواف القدوم غلبني النوم حتى إني لا أدرك من أمامي من شدة التعب هل على شيء وفقكم الله وسدد خطاكم، وهل السعي للقدوم يكفي عن سعي الإفاضة يوم العيد لقد نويت ذلك وأنا حاج بالإفراد والله يرعاكم.
الجواب: أنت الآن مفرد وطواف القدوم هذا هو سنة لا يؤثر عليك والواجب عليك هو طواف الحج وسعي الحج، وهذا الطواف الذي ذكرت أنك نعست فيه وأنك أحيانا لا تشعر بمن حولك فأخشى أن يكون نوما مستغرقا؛ فإن كان الأمر كذلك فالنصيحة لك أن تسعى يوم النحر بعد طواف الحج، ولا تعتد بالسعي الأول.(83/75)
س: هل في تأخير طواف الإفاضة مع الوداع بأس، وأيهما أفضل؟
الجواب: لا بأس به، الأفضل الطوافان طواف الإفاضة في يوم النحر أو ما بعده من أيام وليال التشريق، وطواف الوداع مستقلا هذا أفضل وأكمل؛ لموافقته للسنة، لكن من اكتفى بطواف الإفاضة في آخر أعمال وأيام حجه كفاه عن طواف الوداع إذا خرج من مكة بعد الطواف، لأنه قد تحقق فيه جعل آخر عهده بالبيت الطواف.(83/75)
س: إن بعض الحملات ينصرف من منى هذا اليوم يوم ثمانية(83/75)
الساعة الحادية عشرة ليلا ولا يبيتون بها ولا يصلون الفجر في منى، ما حكم ذلك، أفتونا مأجورين؟
الجواب: المبيت بمنى هذه الليلة سنة لمن تمكن من ذلك ومن لم يبت هذه الليلة بمنى فلا شيء عليه، لكن الحرص على تطبيق السنة قدر الاستطاعة هو الأولى.(83/76)
س: أفتونا عن بعض الحجاج الذين يذهبون من منى إلى عرفة من منتصف الليل هل هذا جائز أم لا بد أن يكون الذهاب بعد شروق الشمس؟
الجواب: السنة والكمال أن يكون الذهاب إلى عرفة بعد طلوع الشمس من اليوم التاسع، ولكن من تقدم لأمر ما فلا حرج عليه.(83/76)
س: ما حكم إزالة الشعر ناسيا؟
الجواب: الأصل أن حلق شعر الرأس للمحرم حرام لأن الله تعالى قال: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} (1) وقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (2) فإن اضطر فليحلق وليفد وإن وقع منه إزالة شعره نسيانا فالأولى له إخراج الفدية؛ لأن من العلماء من يرى أن الحلق يساوى فيه بين العمد والنسيان في وجوب الفدية، يقول إن هذا إتلاف؛ فالأحوط أن يفدي خروجا من الخلاف.
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) سورة البقرة الآية 196(83/76)
س: هل يجوز للمحرم أن يغتسل بالصابون المعطر أو الشامبو؟(83/76)
الجواب: الصابون المعطر من العلماء من يكرهه ويقول إنه طيب فتركه أولى ومكث هذه المدة القليلة (يومين) مع ترك هذا الأمر المشتبه والذي تردد الأمر فيه بين مانع له ومحل له، فكون الإنسان يتركه يترك ما فيه عطورات وإن خفت اتقاء للشبهات لا شك أن هذا أسلم لدين الإنسان.(83/77)
س: معي ابن أخي وينوي الحج والعمرة متمتعا بهما لكنه لا يملك ثمن الهدي هل من الممكن أن أدفع عنه ثمن هديه؟ أم لا يصح ذلك؟
الجواب: لا مانع إن كان محتاجا إما هبة أو قرضا.(83/77)
س: ما حكم وضع المرهم أو الدواء للعلاج في الجلد؟
الجواب: لا شيء فيه إن شاء الله.(83/77)
من فتاوى
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
من الفتوى رقم 3262
السؤال الثالث: أحيانا يحين وقت الصلاة وأنا في بيت أحد النصارى فآخذ سجادتي الخاصة وأصلي أمامهم، فهل صلاتي صحيحة؛ لكونها في بيت من بيوتهم؟
ج: نعم تصح صلاتك، زادك الله حرصا على طاعته، وخاصة أداء الصلوات الخمس في أوقاتها. والواجب أن تحرص على أدائها في جماعة، وتعمر بها المساجد ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(83/79)
من الفتوى رقم 5133
السؤال الثاني: ما حكم الخروج من المسجد بعد النداء، وهل(83/79)
الحكم واحد في من كان في مبنى داخل حدود المسجد لكنه لا يصلي فيه، وعند خروجه يمر بساحة المسجد؟
ج: لا يجوز الخروج من المسجد بعد سماع الأذان لغير الوضوء وقضاء الحاجة وما تدعو إليه الضرورة حتى يصلي؛ لحديث أبى هريرة أنه رأى رجلا خرج بعد الآذان فقال: «أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم (1) » رواه مسلم في صحيحه، والذي في الحجرة التي في داخل المسجد حكمه حكم من في المسجد لكونها تابعة له في الأحكام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) الإمام أحمد 2/ 410 و 416 و 471 و 506 و 537، ومسلم 5/ 157 ط. دار الفكر، والنسائي 2/ 29، دار إحياء التراث العربي، بيروت.(83/80)
من الفتوى رقم 8290
السؤال السادس: إذا كان الإنسان مجنبا وله ماء داخل المسجد هل يجوز له أن يتيمم ويدخل للماء؟(83/80)
الجواب: يجوز للجنب الدخول إلى المسجد مرورا فقط من غير مكث لقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النساء الآية 43(83/81)
من الفتوى رقم 5167
السؤال الأول: ما حكم الشرع في حق المرأة التي تدخل المسجد وهي حائض للاستماع إلى الخطبة فقط؟
الجواب: لا يحل للمرأة أن تدخل المسجد وهي حائض أو نفساء، والأصل في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: «وجهوا هذه البيوت عن المسجد (1) » ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا؛ رجاء أن ينزل فيهم رخصة، فخرج إليهم فقال: «وجهوا
__________
(1) أبو داود الطهارة (232) .(83/81)
هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب (1) » .
رواه أبو داود. وروي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته: «إن المسجد لا يحل لحائض ولا لجنب (2) » رواه ابن ماجه. فهذان الحديثان يدلان على عدم حل اللبث في المسجد للجنب والحائض، أما المرور فلا بأس إذا دعت إليه الحاجة وأمن تنجيسها المسجد لقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} (3) والحائض في معنى الجنب، ولأنه أمر عائشة أن تناوله حاجة من المسجد وهي حائض.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) رواه أبو داود 1/ 60 كتاب الطهارة باب في الجنب يدخل المسجد.
(2) رواه ابن ماجه 1/ 212 كتاب الطهارة وسننها باب فيما جاء في اجتناب الحائض للمسجد.
(3) سورة النساء الآية 43(83/82)
من الفتوى رقم 8833
السؤال الأول: ما رأيكم إذا قمت بزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم لأول مرة لمدة 24 ساعة إلا أن الحيض فاجأني قبل دخول مسجده الشريف فإذا دخلت وأديت الزيارة دون إقامة الصلاة بالنسبة للشوق الشديد وعدم إمكان تكرار الزيارة لبعد المسافة وما يلزم نتيجة فعل ذلك؟
الجواب: أ- ليس للنساء زيارة القبور لا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره؛ لأن رسول الله لعن زائرات القبور ولم يستثن قبره صلى الله عليه وسلم ولا غيره.
ب- يجوز للجنب المرور بالمسجد للحاجة؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (1) والحائض والنفساء لهما حكم الجنب في ذلك.
جـ- يكفيك أن تصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم وأن تسلمي عليه في المسجد وفي بيتك وفي غيرها من الأماكن التي يذكر فيها اسم الله، أما زيارة القبور للنساء فلا تشرع، بل منهي عنها، كما تقدم؛ للحديث المذكور آنفا وغيره.
د- استغفري الله وتوبي إليه مما قد حصل منك من دخول
__________
(1) سورة النساء الآية 43(83/83)
المسجد وأنت حائض للزيارة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(83/84)
من الفتوى رقم 6278
السؤال الرابع: س: ما حكم دخول الأطفال والمجانين المسجد؟
الجواب: على ولي أمر المجنون منعه من دخول المسجد؛ دفعا لأذاه عن المسجد والمصلين، والسعي في علاجه، أما الأطفال فلا يمنعون من دخول المسجد مع أولياء أمورهم أو وحدهم إذا كانوا مميزين وهم أبناء سبع سنين فأكثر؛ ليؤدوا الصلاة مع المسلمين.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(83/84)
من الفتوى رقم 2922
السؤال السابع: ما حكم دخول غير المسلمين المساجد؟
الجواب: يحرم على المسلمين أن يمكنوا أي كافر من دخول المسجد الحرام وما حوله من الحرم كله؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (1) الآية، أما غيره من المساجد فقال بعض الفقهاء يجوز لعدم وجود ما يدل على منعه، وقال بعضهم لا يجوز قياسا على المسجد الحرام.
والصواب جوازه لمصلحة شرعية أو لحاجة تدعو إلى ذلك: لسماع ما قد يدعوه للدخول في الإسلام، أو حاجته إلى الشرب من ماء في المسجد أو نحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ربط ثمامة بن أثال الحنفي في المسجد قبل أن يسلم، وأنزل وفد ثقيف ووفد نصارى نجران قبل أن يسلموا في المسجد؛ لما في ذلك من الفوائد الكثيرة، وهي: سماعهم خطب النبي صلى الله عليه وسلم ومواعظه، ومشاهدتهم المصلين والقراء، وغير ذلك من الفوائد العظيمة التي تحصل لمن لازم المسجد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة التوبة الآية 28(83/85)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(83/86)
من الفتوى رقم 11967
السؤال الثالث والعشرون: هل يجوز دخول الكفار والنصارى واليهود إلى المساجد وجلوسهم فيها ومشاهدتهم للصلاة أو سماعهم لخطبة الجمعة؟ وهل يشترط شيء بالنسبة للرجل منهم أو المرأة فيما يتعلق بالطهارة أو اللباس أو مكان الجلوس، وما الحكم في حالة احتياج أحدهم للعمل في إصلاحات داخل المسجد؟ الجواب: لا مانع من دخولهم المسجد للأمور المذكورة في السؤال إذا لم يترتب على ذلك مفسدة أرجح من المصلحة في دخولهم أو أذى للمسلمين، أما العمل في تعمير المسجد وترميمه فلا يجوز؛ لأنهم لا يؤمنون في ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(83/86)
من الفتوى رقم 10768
السؤال الثاني: هل النوم في المساجد حرام، لقد شاهدت الناس في شهر رمضان ينامون، وبعض الناس لا توجد لهم بيوت ينامون في المساجد، هل حرام أو حلال؟ جزاكم الله خيرا.
الجواب: النوم في المساجد ليس محرما، ولكن الجنب ليس له أن يمكث في المسجد وهو يعلم أنه جنب حتى يغتسل، وهكذا الحائض والنفساء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(83/87)
من الفتوى رقم 5612
السؤال الثامن: كثيرا يوجد أناس من المصلين في منطقتنا يمكثون في المساجد دون أن يخرجوا بعد أدائهم صلاة المغرب؛ ينتظرون الأذان لصلاة العشاء، وأثناء هذا الانتظار يوجد منهم من يحادث غيره بكلام الدنيا وهما في المسجد، حتى يوجد فيهم من يأتي بمذياع إلى المسجد لسماع أخبار الدنيا، بينوا لنا هل في ذلك(83/87)
الفعل بأس أم لا؟
الجواب: بنيت المساجد لعبادة الله وحده من صلاة وتلاوة قرآن ودراسة علم والوعظ والتذكير بالله والتشاور في المعروف، ونحو ذلك من القربات، قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (1) {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (2) {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} (3) . ولم تبن لتكون مجالس للهو ولغو الحديث والقيل والقال. فينبغي للمسلمين أن يعمروا المساجد بما بنيت من أجله، وأن يصونوها عما هو من شؤون الدنيا إلا ما كان قليلا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النور الآية 36
(2) سورة النور الآية 37
(3) سورة النور الآية 38(83/88)
من الفتوى رقم 8236
السؤال الثاني: قبل مجيئي إلى السعودية كنت مهيئا نفسي من أجل السفر إلى أوروبا وذلك للعمل، وعندما دخلت الأردن وقفت في جامع وكان في بداية بنائه ونذرت فقلت: ذاك نذرا لله تعالى بأن إذا وفقني الله سبحانه وتعالى بعدم الذهاب إلى أوروبا على أن أذهب إلى السعودية موفقا بعونه تعالى أن أبذل إلى الجامع المذكور مبلغ مائة وخمسين دينارا أردنيا، والحمد لله وفقني الله برحمته وسافرت إلى السعودية بدلا من أوروبا، وفي السنة الثانية عدت إلى المسجد الذي نذرت له الـ (150) دينارا فوجدت كل شيء قد أنجز في الجامع والحمد لله، هل أستطيع أن أدفع النذر إلى الجامع نفسه، أو أدفع لأحد الجوامع في الضفة الغربية، حيث إنها بحاجة أكثر من الجامع المذكور؛ لأننا في الضفة الغربية عند بناء المساجد نجد صعوبة في ذلك من قلة المال؟ أفيدوني جزاكم الله خيرا.
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكرت فلك أن تجعل ذلك المبلغ في مسجد آخر في الضفة الغربية، وفي ذلك وفاء بنذرك، تقبل الله منك، ونوصيك بعدم النذر مرة أخرى.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(83/89)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(83/90)
من الفتوى رقم 7720
السؤال التاسع والعاشر: ما حكم الصلاة في المسجد الذي بني ابتغاء وجه الله تعالى، وقد خلط مال بنائه بمال ربا؟
السؤال العاشر: ما حكم الصلاة في المسجد الذي بني من التبرعات ومنها مال مسروق؟
الجواب: تجوز الصلاة في كل منهما وإثم كل من المرابي والسارق على نفسه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(83/90)
من الفتوى رقم 9564
السؤال العاشر: ما حكم من صلى بمسجد بناؤه كسب غنائه(83/90)
- أي المطربة أو المغني الذي يغنى في الأفراح والإعلام - ويكسب من غنائه أموالا كثيرة، وبنى من هذه الأموال مسجدا، فهل تصح صلاته فيه أم لا؟
الجواب: الصلاة في هذا المسجد صحيحة وأما الكسب بالغناء وآلات اللهو فمحرم وإثمه على صاحبه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(83/91)
من الفتوى رقم 6192
السؤال الأول: هل يجوز للمسلم أن يطلب المساعدة لبناء مسجد أو مدرسة من المسلم، لماذا؟
الجواب: يجوز ذلك، لأن هذا من التعاون على البر والتقوى، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(83/91)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(83/92)
من الفتوى رقم 2156
السؤال: في مدينة فلفلال من مقاطعة ملبسبا مساجد بنيت على دور واحد في أراضي متسعة المساحة وليس لها غلة وقد وفق الله بعض أهل الخير على إعادة بناء المسجد من طابقين: الطابق العلوي للعبادة، والطابق السفلي يبنى فيه دكاكين تؤجر على المسلمين، وما يرد منها ينفق على المسجد لسد حاجاته، فما رأي الشرع في ذلك؟
الجواب: يجوز جعل الطابق الذي تحت المسجد حوانيت تؤجر لصالح المسجد من أجل سد حاجاته.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(83/92)
من الفتوى رقم 5173
السؤال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه لقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال المقدم من معالي وزير الحج والأوقاف إلى سماحة الرئيس العام والمحال إليها برقم 2100 في 5\11\1402 هـ، ونصه: أن المواطن عبد الله صالح يذكر في خطابه إلينا بتاريخ 20 \ 4 \ 1402 هـ أن مسجد الإخاء الإسلامي في مدينة جدة جنوبي دكاكين ابن لادن يوجد فوقه بيت يسكنه أهله وهو يظن أنه لا يجوز أن يقوم السكن فوق المسجد، فما حكم الشرع في ذلك؟ وأجابت بما يلي:
الجواب: إذا أنشئ بناء مسجد مستقلا كان سقفه وما علاه تابعا له جاريا عليه حكمه، فلا يجوز بناء سكن عليه لأحد.
أما إذا كان المسجد طارئا على المسكن، مثل ما لو أصلحت الطبقة السفلى من منزل ذي طبقات وعدلت لتكون مسجدا جاز إبقاء ما عليه من الطبقات مساكن لسبق تملكها على جعل الطبقة السفلى مسجدا، فلم يكن ما فوقه تابعا له.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(83/93)
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(83/94)
من الفتوى رقم 2851
السؤال: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
قد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة الرئيس العام من المستفتي وكيل وزارة العدل للشؤون القضائية والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم 25\2\ في 5\1\1400 هـ والسؤال هو: أفيد فضيلتكم بأن مسجد الشربتلي مزدحم بالمصلين ويوجد في الناحية الشرقية حمامات ونرغب ضم الحمام إلى المسجد للضرورة فهل يجوز ذلك أم لا ... ؟
الجواب: تنقل المراحيض والحمامات التابعة للمسجد إلى الأرض التي حصلوا عليها، وتجعل أرض المراحيض والحمامات توسعة للمسجد إذا كانت المصلحة العامة تقتضي ذلك، وليس فيه محذور شرعي لكن يكون بعد تنظيف الأرض التي شغلت بالمراحيض والحمامات.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(83/94)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(83/95)
من الفتوى رقم 12844
السؤال الرابع: هل يجوز بناء القبب في المساجد إذا كانت لغرض الإضاءة والتهوية؟
الجواب: لا نعلم حرجا في ذلك إذا كان الأمر كما ذكر في السؤال.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(83/95)
من الفتوى رقم 6011
السؤال الأول: لنا مسجد وعليه دائرة إذا كان وقت الشتاء داخل المسجد سخن، هل يجوز لنا أن نصلي في الدائرة التي على المسجد لسبب السخانة؟(83/95)
الجواب: تعتبر الدائرة التي على المسجد من المسجد فتجوز الصلاة فيها في فصل الشتاء وغيره.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(83/96)
من الفتوى رقم 5276
السؤال التاسع: إذا أصلحت شيئا في المسجد فهل هذا صدقة أم لا؟ وما حكمه مع أن للمسجد مزارع؟
الجواب: يعتبر ذلك صدقة وإحسانا سواء كان للمسجد مزارع أم لا، ولكن لا يصرف من الزكاة المفروضة، وتؤجر على هذه الصدقة إذا أخلصت النية لله في ذلك، وكانت من كسب حلال.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(83/96)
البحوث(83/97)
الكفر مفهومه وأنواعه والغلاة فيه
للدكتورة سارة بنت فراج العقلاء
ملخص البحث:
عنوان البحث: الكفر مفهومه وأنواعه والغلاة فيه.
فكرة البحث ونتائجه: تعرض البحث للمعنى اللغوي للكفر وهو: الستر والتغطية، وأما المعنى الشرعي: فهو: ضد الإيمان، وهو: أي الإيمان عند السلف: قول وعمل ونية، يزيد وينقص، وهو شعب متعددة كذلك الكفر ذو شعب متعددة متفاوتة، وهو: أي الكفر على مراتب كفر دون كفر، وينقسم إلى قسمين: أكبر مخرج عن الملة، وأصغر موجب لاستحقاق الوعيد، أما أمثلة الكفر الأكبر: الشرك بالله مثل: دعاء الأموات والأصنام والأشجار والكواكب ونحو ذلك، كذلك جحد ربوبية الله أو وحدانيته، وتجويز الكذب على الأنبياء، والاستهانة بالمصحف، كذلك من أنكر شيئا مما جاء به الرسول وكان معلوما من الدين بالضرورة فهو كافر، مثل من ينكر الملائكة أو(83/99)
الكتب أو الرسل أو البعث، وكذلك من جحد ما علم من الدين بالضرورة أنه واجب كالصلاة والزكاة، ومن جحد ما علم من الدين بالضرورة أنه محرم كالزنا والسرقة فهو كافر.
ومن أمثلة القسم الثاني: سباب المسلم لأخيه المسلم، وقتاله له، ورميه له بالكفر، وارتكاب المحرمات مثل: الزنا والسرقة وشرب الخمر، والكذب في الحديث، وإخلاف الوعد، والخيانة، والغدر، والحكم بغير ما أنزل الله، وإتيان الكهان، ونحو ذلك، مع أن هذه الأعمال وصفت في النصوص بأنها كفر أو شرك أو نفاق، وقد اتفق أئمة السنة على حملها على الكفر الأصغر.
وكان من أبرز المخالفين في هذه المسألة: الخوارج الذين كان أول خروج لهم في عهد علي رضي الله عنه وكانوا يرون تكفير مرتكب الكبيرة، وقد جاءت نصوص كثيرة في التنفير منهم، وكان السبب الذي أوقعهم في هذا الغلو والتشدد في الدين وفهم القرآن على غير فهم أئمة الدين وهم الصحابة ومن بعدهم..
وحذر أئمة السنة من رمي المسلم بالكفر، ذلك أن التكفير من الأحكام الشرعية ولا بد من التثبت فيه غاية التثبت ولا يصار إليه بمجرد الظن والهوى، فهو من أعظم القول على الله بلا علم، وللكفر آثار خطيرة منها ما ذكره الفقهاء من الأحكام الخاصة بالمرتد مثل: قتله، وعدم صحة تزويجه وتحريم ذبيحته، وما إلى ذلك من الأحكام.(83/100)
المقدمة:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد؛ فإن الخلاف في حقيقة الكفر من المسائل التي عظمت فيها الفتنة والمحنة، وكثر الافتراق، وتشتت الأهواء فيها والآراء، وتعارضت فيها الدلائل، وهي من أول المسائل التي ظهر فيها الخلاف بين الأمة، فقد ظهر مبكرا منذ عهد الصحابة - رضوان الله عليهم - حين خرجت الخوارج وقالوا بكفر صاحب الكبيرة، أو بما يظنونه هم كبيرة، ورد الصحابة عليهم مذهبهم، وبينوا خطأهم في مناظرات جرت بينهم، وهكذا أئمة أهل السنة من بعدهم، ومما يرد به على الخوارج: بيان الفرق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر، وإيراد النصوص التي ذكر فيها الكفر وأريد به الكفر الأصغر، فلذا كان من الأهمية بحث هذه المسألة وبيان الصحيح في مفهوم الكفر وأقسامه، وأمثلة على كل قسم، والشخص المؤهل لإصدار هذا الحكم، وذكر الأحاديث النبوية التي ورد فيها الكفر وبيان المراد منها كما فهمه أئمة أهل السنة، وذلك لمسيس الحاجة لتجلية هذا الأمر، ولتحقيق الفائدة للجميع ولا سيما صاحبة هذا البحث، وقد اخترت لهذا البحث عنوان: [الكفر مفهومه وأنواعه والغلاة فيه] .
وجعلته في مقدمة وفصلين وخاتمة.
أما المقدمة ففيها أهمية الموضوع، والمنهج المتبع فيه، والهدف منه. والفصل الأول بعنوان: مفهوم الكفر وأنواعه، وفيه ثلاثة مباحث.(83/101)
المبحث الأول: الكفر في اللغة والشرع.
المبحث الثاني: الكفر الأكبر حده وحكمه وبعض الأمثلة عليه.
المبحث الثالث: الكفر العملي حده وحكمه وبعض الأمثلة عليه.
والفصل الثاني بعنوان: الغلاة في التكفير والتحذير منهم. وفيه أربعة مباحث.
المبحث الأول: التعريف بالخوارج وبيان نشأتهم.
المبحث الثاني: النصوص الواردة في التنفير منهم.
المبحث الثالث: أساس بدعة الخوارج.
المبحث الرابع: خطورة التكفير وآثاره.
ثم الخاتمة وفيها أهم نتائج البحث.
وقد التزمت في كتابتي لهذا البحث بالمنهج العلمي المتبع في كتابة البحوث، وذلك بالرجوع إلى المصادر الأصلية في الموضوع، وتوثيق النصوص، وعزوت الأحاديث إلى مصادرها مع ذكر رقم الحديث تسهيلا لقارئ البحث، وترجمت للأعلام الوارد ذكرهم في هذا البحث.
وأما الهدف من البحث فهو: بيان أنواع الكفر وأقسامه والتعريف بكل نوع وذكر أمثلة له، وبيان الغلاة فيه وهم الخوارج والتعريف بمذهبهم وذكر النصوص الواردة في التنفير منهم، والتحذير من الغلو في التكفير..
هذا وأسأل الله التوفيق في القول والعمل، وأن يجنبني الزلل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(83/102)
الفصل الأول
مفهوم الكفر وأنواعه
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الكفر في اللغة والشرع.
المبحث الثاني: الكفر الأكبر حده وحكمه وبعض الأمثلة عليه.
المبحث الثالث: الكفر العملي حده وحكمه وبعض الأمثلة عليه.
المبحث الأول: الكفر في اللغة والشرع:
الكفر في اللغة: مصدر كفر يكفر كفرا، وكفورا، وكفرانا، وكفره بالتشديد: نسبه إلى الكفر، أو قال له: كفرت بالله، وأكفره إكفارا: أي حكم بكفره.
قال ابن فارس: " الكاف والفاء والراء أصل صحيح يدل على معنى واحد، وهو الستر والتغطية ".(83/103)
فأصل الكفر هو تغطية الشيء، وسمي الفلاح كافرا لتغطيته الحب بتراب الأرض؛ قال تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} (1) .
وسمي الليل كافرا لتغطيته كل شيء؛ قال لبيد بن ربيعة:
حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها (2)
يريد الليل لأنه يغطي كل شيء ويستره بظلمته.
وجاء في كتاب العين: " والكافر: الليل والبحر ومغيب الشمس، وكل شيء غطى شيئا فقد كفره ". (3)
وليس الكافر اسما للفلاح أو الليل ولكنه وصف لهما، وكفران النعمة: جحودها وسترها، وهو ضد الشكر. وتستعمل كلمة الكفر في الدين أكثر من استعمالها في كفران النعمة، والكفران في جحود
__________
(1) سورة الحديد الآية 20
(2) الشعر والشعراء، عبد الله بن مسلم بن قتيبة، تحقيق: أحمد شاكر، القاهرة 1966م، 156.
(3) كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، 5/ 357.(83/104)
النعمة، والكفور فيهما جميعا.
وأما الكفر في الاصطلاح الشرعي فهو: ضد الإيمان، سمي بذلك لأنه تغطية وستر للحق.
والإيمان عند أهل السنة والجماعة: قول وعمل ونية، وأنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكارا شديدا، وأهم الأعمال عندهم عمل القلب؛ وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب، ويرى أهل السنة أن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلب ولازمة له " فإذا كان القلب صالحا بما فيه من الإيمان علما وعملا قلبيا لزم ضرورة صلاح الجسد ".
ومن اعتقادات أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص، وممن نقل الإجماع على ذلك البغوي: - رحمه الله - فقال: " اتفقت الصحابة(83/105)
والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان، وأن الإيمان قول وعمل وعقيدة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء في الحديث بالنقصان في وصف النساء ".
والإيمان عند أهل السنة ذو شعب متعددة كما في الحديث الثابت: «الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (1) » .
وهذه الشعب متفاوتة: منها ما يزول الإيمان بزوالها مثل: الشهادة، ومنها ما لا يزول الإيمان بزواله - بالاتفاق مثل: الإماطة،
__________
(1) أخرجه البخاري (9) ، ومسلم (35) ، وأبو داود (4676) ، والترمذي (2614) ، والنسائي: 8/ 110، وابن ماجه (57) ، وأحمد: 2/ 414.(83/106)
ومنها ما يضعف الإيمان بزواله. فليست شعب الإيمان على درجة واحدة، فالإيمان مثل شجرة لها أصل، وفروع، وشعب، فاسم الشجرة يشمل ذلك كله، ولو زال شيء من شعبها وفروعها، لم يزل عنها اسم الشجرة، وإنما يقال: هي شجرة ناقصة أو غيرها أتم منها (1) .
وكذلك الكفر - عند أهل السنة - ذو شعب متعددة منها ما يوجب الكفر، ومنها ما هو من خصال الكفار؛ فالكفر على مراتب: كفر دون كفر، كما أن الإيمان على مراتب: إيمان دون إيمان.
وقد أورد محمد بن نصر المروزي - رحمه الله - هذا الأصل وحكاه عن السلف فقال: " والكفر ضد الإيمان، إلا أن الكفر كفران: كفر هو جحد بالله وبما قال، فذلك ضد الإقرار بالله، والتصديق به، وبما قال، وكفر هو عمل ضد الإيمان الذي هو عمل ".
__________
(1) ينظر الفتاوى، ابن تيمية، 7/ 597، كتاب الصلاة، ابن القيم، ص 53.(83/107)
المبحث الثاني: الكفر الأكبر حده وحكمه وبعض الأمثلة عليه:
ينقسم الكفر إجمالا إلى نوعين (1) :
الأول: كفر اعتقادي ينقل عن الملة، وهذا هو الكفر الأكبر، وهو موجب للخلود في النار.
والثاني: كفر عملي لا اعتقادي، وهو الكفر الأصغر. وهذا النوع موجب لاستحقاق الوعيد، دون الخلود في النار.
فأمر الكفر الاعتقادي: فيكون بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مخالفته ومعاداته بدون تكذيب، وهو مضاد للإيمان من كل وجه؛ ذلك أنه " لا بد في الإيمان الذي في القلب من تصديق بالله ورسوله، وحب الله ورسوله، وإلا فمجرد التصديق مع البغض لله ولرسوله، ومعاداة الله ورسوله ليس إيمانا باتفاق المسلمين ".
وهذا الكفر لما كان مضادا للإيمان من كل وجه فإنه يخرج صاحبه من الدين والملة، ويحبط عمله، ويوجب له الخلود في النار. وهو يتنوع إلى ستة أنواع هي:
1- كفر الإنكار: وهو أن ينكر بقلبه ولسانه؛ بأن لا يعرف الله
__________
(1) ينظر مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 7/ 228.(83/108)
أصلا، ولا يعترف به، ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد.
2- كفر الجحود: وهو أن يعرف الله بقلبه ولا يقر ولا يعترف بلسانه؛ قال تعالى عن كفر فرعون وأتباعه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (1) .
3- كفر الإباء والاستكبار: مثل كفر إبليس فإنه لم يجحد أمر الله ولم ينكره، فهو لم يخبر بخبر، وإنما أمره الله بالسجود فقابله بالإباء والاستكبار، وكذلك كان كفر كثير من الأمم.
4- كفر الإعراض: وذلك بأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول، لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغي إليه البتة.
5- كفر الشك: بأن لا يجزم بصدق النبي ولا كذبه، بل يشك في أمره.
6- كفر النفاق: وذلك بأن يظهر بلسانه الإيمان ويطوي بقلبه التكذيب؛ قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (2) .
__________
(1) سورة النمل الآية 14
(2) سورة البقرة الآية 8(83/109)
فهذه أنواع الكفر الأكبر التي ذكرها العلماء، وهي كلها تضاد الإيمان كما سبق، قال ابن تيمية: (الكفر عدم الإيمان بالله ورسله سواء كان معه تكذيب، أو لم يكن معه تكذيب، بل شك وريب، أو إعراض عن هذا كله حسدا أو كبرا أو اتباعا لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة) (1) .
أمثلة الكفر الأكبر:
تحصل الردة التي هي الكفر بعد الإسلام بالقول، والفعل، والاعتقاد، والشك.
__________
(1) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 12 / 335.(83/110)
وأعظم المكفرات: الشرك بالله: مثل دعاء الأموات، والاستعانة بهم، ودعاء الأصنام، والأشجار، والكواكب، ونحو ذلك.
وكذلك جحد ربوبية الله، أو وحدانيته؛ قال القاضي عياض: " كل مقالة صرحت بنفي الربوبية، أو الوحدانية، أو عبادة أحد غير الله أو مع الله فهي كفر ".
وقال: " وكذلك من اعترف بإلهية الله ووحدانيته، ولكنه اعتقد أنه غير حي، أو غير قديم، وأنه محدث، أو مصور، أو ادعى له ولدا، أو صاحبة، أو والدا، أو أنه متولد من شيء، أو كائن عنه، أو أن معه في الأزل شيئا قديما غيره، أو أن ثم صانعا للعالم سواه، أو مدبرا غيره، فذلك كله كفر بإجماع المسلمين " (1) .
وقال: " كذلك من ادعى مجالسة الله، والعروج إليه، ومكالمته،
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص 605.(83/111)
أو حلوله في أحد الأشخاص.. وكذلك من قال بقدم العالم أو بقائه أو شك في ذلك ".
أيضا من المكفرات التي أجمع العلماء على كفر صاحبها: سب الله، أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلا له، أو كان ذاهلا عن اعتقاده.
ومن المكفرات: تجويز الكذب على الأنبياء، وادعاء النبوة، أو تصديق من ادعاها؛ لأن مسيلمة الكذاب لما ادعى النبوة فصدقه قومه صاروا مرتدين، وكذلك ذو الخمار ومصدقوه (1) .
__________
(1) ينظر: الشفا، القاضي عياض: 2/ 67- 69، المغني ابن قدامة: 12/ 298.(83/112)
ومنها الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسله (1) .
وكذلك لو استهان بالمصحف وألقاه في القاذورات؛ قال القاضي عياض: " واعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف، أو بشيء منه، أو سبهما، أو جحده، أو حرفا منه أو آية، أو كذب به، أو بشيء منه، أو بشيء مما صرح به فيه من كلم أو خبر، أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك، أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماع " (2) .
ويكفر من أنكر شيئا مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان معلوما من الدين بالضرورة؛ فهو كافر، مثل من ينكر: الملائكة، أو الكتب، أو الرسل، أو الجنة والنار، والبعث، وغير ذلك.
وكذلك من جحد ما علم من الدين بالضرورة أنه واجب؛ كالصلاة والزكاة، ومن جحد ما علم من الدين بالضرورة أنه محرم كالزنا والسرقة فهو كافر (3) .
__________
(1) ينظر: المغني، بن قدامة: 12/ 298.
(2) الشفا، القاضي عياض: 2/ 646.
(3) ينظر: المصدر السابق: 2/ 613 - 615، فتاوى اللجنة الدائمة: 2/ 3-4.(83/113)
قال القاضي عياض: " وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب وأنكر قاعدة من قواعد الشرع، وما عرف يقينا بالنقل المتواتر من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ووقع الإجماع المتصل عليه " (1) .
وقد اتفق المسلمون على أن من لم يأت بالشهادتين فهو كافر (2) ، أما بقية أركان الإسلام الأربعة فاختلفوا في تكفير تاركها، وأشهر ما اختلفوا فيه تكفير تارك الصلاة تهاونا وكسلا - مع إقراره بوجوبها - فالأكثرون على كفره ومن أدلتهم قوله صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل والكفر ترك الصلاة (3) » .
وكذلك حديث عبد الله بن شقيق قال: «كان أصحاب رسول الله لا يرون من الأعمال شيئا تركه كفر غير الصلاة (4) » .
وذهب إلى هذا القول جماعة من السلف والخلف، وهو قول ابن
__________
(1) الشفا، القاضي عياض: 2/ 612.
(2) ينظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية: 7/ 302، جامع العلوم والحكم، ابن رجب 1/ 327.
(3) أخرجه مسلم (82) ، وأبو داود (4678) ، والترمذي (2618) ، وابن ماجه (1078) .
(4) أخرجه الترمذي (2622) ، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف: 11/ 49.(83/114)
المبارك وأحمد وإسحاق، وحكى إسحاق عليه إجماع أهل العلم.
وقال محمد بن نصر المروزي: هو قول جمهور أهل الحديث (1) .
والمذهب الثاني: عدم تكفير تارك الصلاة، وهو مذهب كثير من الفقهاء، وقول أبي حنيفة ومالك والشافعي، واختيار
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة، المروزي 2 / 636، وينظر: جامع العلوم والحكم، ابن رجب 1 / 147.(83/115)
ابن بطة.
قال ابن الوزير: (أما إطلاق الكفر عليه فصحيح، ولكنه يحتمل كفرا دون كفر، ودلت على هذا دلائل منها حديث عبادة عنه صلى الله عليه وسلم: «ومن لم يحافظ عليها فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له (1) » .
__________
(1) رواه أبو داود (425) و (1420) ، والنسائي 1/ 230، وابن ماجه (1401) ، وأحمد: 5/ 315، 317، 319، 323.(83/116)
على أن ابن تيمية - رحمه الله - ذكر أن هذا الحديث لا دلالة فيه لعدم تكفير تارك الصلاة - وإن كان أجود ما اعتمدوا - لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها، لا من ترك، ونفي المحافظة يقتضي أنهم صلوا ولم يحافظوا عليها.
ثم ذكر أن الفقهاء الذين يقولون بعدم تكفيره يقولون بأنه يقتل مع إسلامه، مع أنه لا يتصور أن يقر مسلم بأن الله أوجب الصلاة عليه، ويأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمنا، فهذه مسألة يمتنع وقوعها وهي من باب فرض ما لا يقع؛ بل من يفعل هذا الفعل لا يكون إلا كافرا غير مقر بوجوبها (1) .
ومن جحد وجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين (2) .
__________
(1) ينظر الفتاوى، ابن تيمية، جـ7 ص: 218، 615-616.
(2) المصدر نفسه، جـ28/ 308.(83/117)
المبحث الثالث: الكفر العملي حده وحكمه؛ وبعض الأمثلة عليه:
أما الثاني من أنواع الكفر: فهو الكفر الأصغر، الذي يسميه أهل السنة: الكفر العملي، وهو: مخالفة حكم من أحكام الشريعة، ومعصية عملية، لا تخرج عن أهل الإيمان، وإنما توجب لصاحبها الوعيد بالنار، دون الخلود فيها، وسميت كفرا لأنها من خصال الكفر.(83/117)
قال ابن القيم: " الكفر ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، والصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر، والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان، وتركها من شعب الكفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان " (1) .
فللكفر فروع دون أصله: " لا تنقل صاحبه عن ملة الإسلام، كما أن للإيمان من جهة العمل فرعا للأصل، لا ينقل تركه عن ملة الإسلام " (2) .
وعلى هذا فإنه يجتمع في الإنسان كفر عملي لا ينقل عن الملة وإيمان؛ وهذا من أصول أهل السنة، وخالفهم المبتدعة على اختلاف أصنافها في هذا.
__________
(1) كتاب الصلاة، ابن القيم، ص: 53.
(2) تعظيم قدر الصلاة، محمد بن نصر المروزي، ص: 520.(83/118)
وعلى هذا الأصل فبعض الناس يكون معه شعبة من شعب الكفر، ومعه إيمان؛ فلا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر بإنسان ما(83/119)
أن يكون كافرا الكفر المطلق، حتى تقوم به حقيقة الكفر.
وقد ورد عن سلف الأمة تقسيم الكفر إلى ما يخرج عن الملة، وإلى ما لا يخرج عن الملة، ومن هؤلاء: ابن عباس رضي الله عنهما، وطاوس، وعطاء، وغيرهم.
واختلف العلماء: هل يسمى مرتكب الكبائر كافرا كفرا أصغر،(83/120)
أو منافقا النفاق الأصغر (1) ، على أنه لا يترتب على هذا الخلاف اختلاف في حكم مرتكب الكبيرة عند أهل السنة.
أمثلة هذا النوع من الكفر:
ورد في كثير من نصوص الكتاب والسنة تسمية بعض الذنوب كفرا، وأجمع أهل السنة على أن صاحبها لا يكفر الكفر الناقل من الملة، ومن هذه النصوص:
الأول: قال صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر (2) » متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض (3) » .
والكفر الوارد في هذين النصين هو الكفر الأصغر، الذي لا يخرج عن الملة، لأن الله تعالى لم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخا لولي القصاص أخوة الدين، وذلك في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) .
__________
(1) جامع العلوم والحكم، ابن رجب، جـ1، 111.
(2) أخرجه البخاري 48 و (6044) و (70760) ومسلم 64، وابن ماجه (69) و (3939) ، وأحمد 1 (385) و (411) و (433) والنسائي 7 / 122.
(3) أخرجه البخاري (4403) و (6166) و (6785) و (7077) ومسلم (66، 120) والنسائي 7 / 126 و 127، وأبو داود (4686) وابن ماجه (3943) وأحمد 2 \ 85، 87، 104.
(4) سورة البقرة الآية 178(83/121)
وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) .
فسماهم مؤمنين مع الاقتتال، وجعلهم جميعا إخوة، والمراد أخوة في الدين.
واستدل البخاري - رحمه الله - وغيره بهذه الآية على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت فقال:
" باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (3) ، فسماهم المؤمنين " (4) .
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2) سورة الحجرات الآية 10
(3) سورة الحجرات الآية 9
(4) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، 1 \ 84 (الصحيح مع الفتح) .(83/122)
وعنده أيضا " باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها إلا بالشرك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك امرؤ فيك جاهلية (1) » .
قال ابن حجر: وأما قصة أبي ذر فإنما ذكرت ليستدل بها على أن من بقيت فيه خصلة من خصال الجاهلية سوى الشرك لا يخرج عن الإيمان بها، سواء كانت من الصغائر أو الكبائر.
كذلك مواقف السلف العملية فإنها تؤكد على هذا فقد كانوا " مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا موالاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض،
__________
(1) نفس المصدر والصفحة.(83/123)
ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون معاملة المسلمين مع ما كان بينهم من القتال (1) ، بل الراوي لحديث «لا ترجعوا بعدي كفارا (2) » الصحابي أبو بكرة الثقفي لم يمتنع من الصلاة خلف الصحابة المتقاتلين، وكذا كان يمتثل أوامرهم، مما يدل على أنه لم يكن يعتقد فيهم الكفر الناقل عن الملة (3) . ومن المعاني والتأويلات التي ذكرها العلماء في هذين الحديثين:
1- أن الكفر الحقيقي الناقل عن الملة إنما هو في المستحل.
2- أو أن المراد كفر الإحسان والنعمة وأخوة الإسلام لا كفر الجحود.
3- أو أنه قد يؤول إلى الكفر بشؤمه، لأن من اعتاد الهجوم على كبار المعاصي جره شؤم ذلك إلى أشد منها فيخشى أن لا يختم له بخاتمة الإسلام.
4- أو أنه كعمل الكفار لأن قتال المؤمن من شأن الكافر.
5- أو أن المراد الكفر اللغوي وهو التغطية والستر، لأن حق
__________
(1) الفتاوى، ابن تيمية 3 / 285.
(2) البخاري الحج (1654) ، مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، أحمد (5/39) .
(3) فتح الباري، ابن حجر: 1 / 112.(83/124)
المسلم على المسلم أن يعينه وينصره ويكف عنه أذاه، فلما قاتله كأنه غطى على هذا الحق.
6- أو أن إطلاق الكفر مبالغة في التحذير.
فهذا كله يؤكد - كما سبق - على أن المتقاتلين من المسلمين لم يخرجوا من الإيمان بالكلية، ولكن فيهم ما هو كفر وهي هذه الخصلة (1) .
الثاني: قال صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما (2) » متفق عليه.
والكفر المراد هنا هو الكفر العملي: يدل على ذلك أنه سماه أخاه حين القول، وقد أخبر أن أحدهما باء بها، فلو خرج أحدهما عن الإسلام بالكلية لم يكن أخاه (3) .
وقد ذكر النووي - رحمه الله - أن هذا الحديث عده بعض
__________
(1) مجموع الفتاوى ابن تيمية: 7 / 355.
(2) أخرجه البخاري (6103) (6104) ومسلم 11، 60، والترمذي (2137) وأحمد (2 / 18) وأبو داود (4687) .
(3) الفتاوى، ابن تيمية: 7 / 355.(83/125)
العلماء من المشكلات لأن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر المسلم بالمعاصي، فيحمل هذا الحديث على المستحل لذلك، أو أن نقيصته لأخيه ترجع عليه، أو أن ذلك محمول على الخوارج، وهذا غير صحيح؛ لأن الصحيح أن الخوارج لا يكفرون (1) ، أو أن المعنى أن ذلك يؤول به إلى الكفر، فالمعاصي بريد الكفر، أو أن تكفيره لأخيه المؤمن كأنه تكفير لنفسه؛ ذلك أنه كفر من هو مثله (2) .
وذكر ابن حجر - رحمه الله - أن الحديث سيق لزجر المسلم عن أن يقول ذلك لأخيه المسلم وذلك قبل وجود فرقة الخوارج وغيرهم (3) .
ومهما اختلفت التأويلات فالحاصل أن العلماء مجمعون على أن هذا الفعل لا يعد من الكفر الأكبر؛ بل هو من الكفر الأصغر.
الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر (4) » متفق عليه.
__________
(1) سيأتي التعريف بهم في الفصل القادم.
(2) شرح النووي: 2 / 49.
(3) فتح الباري، ابن حجر: 10 / 466.
(4) أخرجه البخاري 34 و 2459 و 3178 ومسلم 58 وأبو داود 4688 والترمذي 2634 والنسائي 8 / 116 وأحمد 2 / 189.(83/126)
وقد فسر أهل العلم النفاق هنا بالنفاق الأصغر؛ ذلك أن النفاق عندهم نفاقان: نفاق أكبر وهو نفاق القلب، ونفاق أصغر، وهو نفاق العمل، قال ابن حجر معلقا على ترجمة البخاري باب علامة المنافق: لما قدم أن مراتب الكفر متفاوتة وكذلك الظلم أتبعه بأن النفاق كذلك؛ (1) فالنفاق هنا هو نفاق العمل، وذلك بأن يظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك، والنفاق في اللغة من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير.
وقال الإمام البغوي: والنفاق ضربان: أحدهما أن يظهر صاحبه الإيمان وهو مسر للكفر، كالمنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني: ترك المحافظة على حدود أمور الدين سرا، ومراعاتها علنا، فهذا يسمى منافقا، ولكنه نفاق دون نفاق (2) .
وقال ابن تيمية: فالإسلام يتناول من أظهر الإسلام وليس معه شيء من الإيمان وهو المنافق المحض، ويتناول من أظهر الإسلام مع التصديق المجمل في الباطن، ولكنه لم يفعل الواجب كله لا من
__________
(1) فتح الباري، ابن حجر: 9 \ 89.
(2) شرح السنة، البغوي: 1 / 76.(83/127)
هذا ولا هذا، وهم الفساق يكون في أحدهم شعبة نفاق، ويتناول من أتى بالإسلام الواجب وما يلزمه من الإيمان، ولم يأت بتمام الإيمان الواجب، وهؤلاء ليسوا فساقا تاركين فريضة ظاهرة، ولا مرتكبين محرما ظاهرا، لكن تركوا من حقائق الإيمان الواجبة علما وعملا بالقلب يتبعه بعض الجوارح ما كانوا به مذمومين، وهذا هو النفاق الذي كان يخافه السلف على نفوسهم (1) .
ولما تقرر عند الصحابة - رضي الله عنهم - أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية، خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر بالرجوع إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال؛ خشي أن يكون ذلك منه نفاقا؛ جاء في الحديث عن حنظله الأسيدي أنه مر بأبي بكر وهو يبكي، فقال: ما لك؟
قال: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة
__________
(1) مجموع الفتاوى، ابن تيمية: 7 / 427.(83/128)
والنار كأنا رأي عين، فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فوالله إنا لكذلك، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا رسول الله، وذكر له مثل ما قال لأبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة (1) » . (2) .
فالخصال المذكورة في الحديث هي خصال المنافقين، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلق بأخلاقهم، وأطلق النفاق هنا تحذيرا للمسلم من ارتكاب هذه الخصال، مع أن المؤمن يجتمع فيه " إيمان ونفاق، وبعض شعب الإيمان، وشعبة من شعبة الكفر " (3) كما في هذا الحديث.
فالحديث دليل على أن النفاق يتبعض ويتشعب، كما أن الإيمان ذو شعب يزيد وينقص، فكذلك شعب النفاق من الكذب والخيانة والفجور والغدر فمن ارتكبها كلها وكان في قلبه أصل النفاق من: غل النبي صلى الله عليه وسلم أو حرج من قضاياه، أو يجوز أن دين النصارى أو اليهود
__________
(1) أخرجه مسلم 2750.
(2) ينظر جامع العلوم والحكم ابن رجب 2 / 480 - 495.
(3) مجموع الفتاوى، ابن تيمية: 7 / 520. ينظر: شرح النووي: 2 / 47 فتح الباري ابن حجر: 1 / 90.(83/129)
دين صحيح ويميل إليهم، فهذا لا شك في أنه كامل النفاق، وأنه في الدرك الأسفل من النار، ومن كان فيه شعبة من نفاق الأعمال، وكان في قلبه جزم بالإيمان بالله ورسله وملائكته وكتبه وبالمعاد، فله قسط من المقت حتى يدعها ويتوب منها وليس هو بكافر (1) .
الرابع: قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد (2) » . متفق عليه.
والمراد بالإيمان المنفي هنا: كمال الإيمان الواجب، وإن كان مع الإنسان أصل الإيمان؛ ذلك أن العاصي يصير أنقص حالا في الإيمان ممن لا يعصي، فلا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان؛ فأهل السنة مجمعون على أن مرتكب الكبائر لا يكفر إلا بالشرك (3) .
ولفظ الحديث يفهم منه هذا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، ولو أراد نفي حقيقة الإيمان عن أصحاب هذه المعاصي، وإخراجهم منه
__________
(1) ينظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي: 11 / 364
(2) أخرجه البخاري (2475) و (5578) و (6772) و (6810) ومسلم 57 وأبو داود (4689) الترمذي (2625) وابن ماجه (3936) والنسائي 8 / 64، 65، 313 وأحمد 2 / 243، 317، 376، 386، 479.
(3) ينظر: شرح النووي 2 / 41 فتح الباري، ابن حجر 1 / 34 مجموع الفتاوى ابن تيمية: 7 / 524.(83/130)
إلى الكفر لقال: إن الزاني والسارق غير مؤمنين، أو أنهما ليسا من المؤمنين، ولم يعدل إلى هذه العبارة المقيدة بحال المباشرة للذنب والملابسة له، ولا يخلو عدوله إليها من معنى لطيف لبلاغته التامة (1) ، فنفي الإيمان عنهم كان لانتفاء ذوق حقائقه، ونقص بعض واجباته، فمن كان مخلصا لله حق الإخلاص، وقام بقلبه خشية الله التي تقهر الشهوة لم يزن، وإنما يزني لخلوه عن ذلك، وهذا هو الإيمان الذي ينزع منه، ولم ينزع منه أصله فلهذا قيل هو مسلم (2) .
قال أبو جعفر: هذا الإسلام، ودور دارة واسعة، وهذا الإيمان، ودور دارة صغيرة في وسط الكبيرة، فإذا زنى أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الكفر بالله (3) .
__________
(1) العواصم والقواصم لابن الوزير: 9 / 233.
(2) ينظر مجموع الفتاوى ابن تيمية 7 / 306 جامع العلوم والحكم ابن رجب 1 / 113.
(3) الإبانة، ابن بطة، 2 / 713.(83/131)
وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: معناه ينزع عنه اسم المدح الذي سمى الله به أولياءه، فلا يقال في حقه مؤمن، ويستحق اسم الذم فيقال سارق وزان وفاجر وفاسق.
وقد بوب البخاري - رحمه الله - في كتاب الحدود أحد أبوابه بعنوان: باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج عن الملة (1) .
وقال ابن أبي شيبة في هذا الحديث: «لا يزني الزاني حين
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الحدود 12 / 75 (الصحيح مع الفتح) .(83/132)
يزني وهو مؤمن (1) » : لا يكون مستكمل الإيمان، يكون ناقصا من إيمانه (2) .
الخامس: قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (3) .
جاء عن السلف تفسير الكفر الوارد في هذه الآية بالكفر الأصغر، وعلى رأس هؤلاء ابن عباس - رضي الله عنهما - الذي قال: هي به كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله (4) .
وقال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه. قال سفيان: أي ليس كفرا ينقل عن الملة (5) .
وعن عطاء قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق (6) .
__________
(1) البخاري الأشربة (5256) ، مسلم الإيمان (57) ، الترمذي الإيمان (2625) ، النسائي الأشربة (5659) ، أبو داود السنة (4689) ، ابن ماجه الفتن (3936) ، أحمد (2/386) ، الدارمي الأشربة (2106) .
(2) مجموع الفتاوى، ابن تيمية: 7 / 329.
(3) سورة المائدة الآية 44
(4) الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ابن بطة العكبري رقم 1005 جـ2.
(5) الإبانة ابن بطة: 2 / 736 رقم 1010.
(6) المصدر السابق نفسه رقم 1009.(83/133)
وعن طاوس قال: ليس بكفر ينقل عن الملة (1) .
وهذه النصوص أوردها الإمام ابن بطة تحت عنوان: باب: ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج عن الملة (2) .
وهي كلها تفيد أن الحكم بغير ما أنزل الله معصية وكبيرة، وليست بكفر ناقل عن الملة، على أن هناك نصوصا أخرى عن ابن عباس أيضا تفيد أنه كفر أكبر ناقل عن الملة، منها قوله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن وجحدا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر ".
وقوله: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به فهو ظالم فاسق.
ولا تعارض بين هذه النصوص وما قبلها، ذلك أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة، وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة، وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما
__________
(1) المصدر السابق نفسه رقم 1007.
(2) الإبانة: ابن بطة: 2 / 723.(83/134)
أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة، وعدل عنه لرشوة دفعت إليه، أو عداوة للمحكوم عليه، أو قرابته أو صداقته للمحكوم له ونحو ذلك، مع اعترافه أنه مستحق للعقوبة فهذا عاص ويسمى كافرا كفرا أصغرا (1) .
السادس: قال صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنا فصدقه، أو أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد (2) » .
والكفر المراد هنا هو الكفر الأصغر، وأورد ابن بطة هذا الحديث تحت باب ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج عن الملة (3) .
والكاهن: هو الذي يأخذ عن مسترق السمع، وكانوا قبل المبعث كثيرا، أما بعد المبعث فإنهم قليل، لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب، وأكثر ما يقع في هذه الأمة إخبار الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة؛ ومما يؤكد على أن المراد بالكفر هنا الكفر الأصغر ما رواه مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) شرح الطحاوية، ابن أبي العز، 2 / 493 فتاوى اللجنة الدائمة: 2 / 93.
(2) أخرجه أبو داود (3904) والترمذي (135) ، وابن ماجه (639) ، وأحمد: 2 / 408، 429، 476.
(3) الإبانة ابن بطة: 2 / 730.(83/135)
أنه قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يوما (1) » .
والعراف هو الكاهن؛ ففي هذا الحديث نص على عدم قبول صلاته، فلا ثواب له فيها وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه، ولكنه لم يشر إلى كفره، فيجمع بينه وبين الحديث الأول بأن المراد بالكفر هناك: كفر دون كفر أي الكفر الأصغر.
السابع: قال صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (2) » .
وقد حمل العلماء ذلك على الكفر والشرك الأصغر، وهما من أكبر الكبائر، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم (2230) وأحمد 4 / 68.
(2) أخرجه الترمذي (1535) وصححه الحاكم 1 / 18.
(3) أخرجه الإمام أحمد 3 / 230 وابن ماجه (4203) وإسناده حسن كما قال الألباني في صحيح سنن ابن ماجه.(83/136)
مع أنه من المعلوم أن الحلف بالله كاذبا كبيرة من الكبائر، لكن الشرك أكبر من الكبائر، وإن كان أصغر، وإلا لما أقدم عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - على هذا القول، فالحلف بالله توحيد، والحلف بغيره شرك، وعلى تقدير الصدق في الحلف بغير الله، فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك.
الثامن: قال صلى الله عليه وسلم: «ثنتان في أمتي هما كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت (1) » .
والكفر هنا هو الكفر الأصغر، وأطلق على هذين الفعلين هذا الوصف لأنهما من أعمال الكفار، وأخلاق الجاهلية. والمراد تغليظ تحريم الطعن في النسب والنياحة (2) .
والمراد بالطعن في النسب هو الوقوع فيها بالعيب والتنقص، ولما عير أبو ذر - رضي الله عنه - رجلا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية (3) » . متفق عليه.
__________
(1) أخرجه مسلم (67) ، وأحمد 2 / 377، 441، 496.
(2) ينظر شرح النووي: 2 / 57.
(3) أخرجه البخاري (30) ومسلم (1661) .(83/137)
فالطعن في النسب من عمل الجاهلية، والمسلم قد يكون فيه شيء من خصال الجاهلية ولا يوجب ذلك كفره (1) .
والنياحة هي: رفع الصوت بالندب على الميت، وهي من الكفر العملي، لأنها تسخط بقضاء الله، وهذا ينافي الصبر الواجب، وهي من الكبائر لشدة الوعيد والعقوبة (2) .
التاسع: قال صلى الله عليه وسلم: «لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كفر (3) » .
والكفر الوارد هنا ليس هو الكفر الذي يخرج عن ملة الإسلام، ورد على سبيل التغليظ والزجر لفاعل ذلك لعظم حق الوالد، فهو أصل الولد الذي منه خلق، والولد من كسبه، فالجحد له شعبة من شعب الكفر؛ لأنه جحد لما منه خلقه ربه، فكان فيه كفر بالله من هذا الوجه، ولكن ليس هذا كمن جحد الخالق بالكلية (4) .
إلى غير ذلك من الأحاديث، والقاعدة هي أن يقال:
إن أهل السنة مجمعون على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا ينقل عن الملة - كما قالت الخوارج - إذ لو كفر كفرا ينقل عن الملة
__________
(1) ينظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية: 7 / 540.
(2) ينظر: فتح المجيد، عبد الرحمن بن حسن ص 262.
(3) أخرجه البخاري (113) وأخرجه مسلم (6768) وأحمد: 5 / 526.
(4) مجموع الفتاوى، ابن تيمية: 7 / 356.(83/138)
لكان مرتدا يقتل على كل حال، فلا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجرى الحدود، فدل هذا على أنه ليس بمرتد، بل ما زال مسلما تجري عليه أحكام الإسلام، وإن كان غير كامل الإيمان، فمن لم يقترف تلك المعاصي أكمل منه إيمانا.
قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام:
" أما هذا الذي فيه ذكر الذنوب الجرائم، فإن الآثار جاءت بالتغليظ على أربعة أنواع: فاثنان منها فيها نفي الإيمان، والبراءة من النبي صلى الله عليه وسلم والآخران فيها تسمية الكفر، وذكر الشرك ".
ثم قال: " وإن الذي عندنا في الباب كله أن المعاصي والذنوب لا تزيل إيمانا ولا توجب كفرا، ولكن إنما تنفي من الإيمان حقيقته وإخلاصه الذي نعت الله به أهله واشترطه عليهم في مواضع من كتابه " (1) .
__________
(1) المصدر نفسه ص 93.(83/139)
الفصل الثاني
غلاة التكفير والتحذير منهم
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: التعريف بالخوارج وبيان نشأتهم.
المبحث الثاني: النصوص الواردة في التنفير منهم.
المبحث الثالث: أساس بدعة الخوارج.
المبحث الرابع: التحذير من الغلو في التكفير.
المبحث الأول: التعريف بالخوارج وبيان نشأتهم:
الخوارج: جمع خارجة، أي: طائفة، وهم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ولهم عدة أسماء منها:
الحرورية والشراة والمحكمة وغيرها..
فأما الخوارج فسموا به - على رأي ابن حجر - " لخروجهم عن الدين، وخروجهم على خيار المسلمين " (1) ، أو " لخروجهم عن الجماعة وقيل لخروجهم عن طريق الجماعة " (2) لأن " كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم
__________
(1) فتح الباري، ابن حجر: 12 / 283.
(2) شرح النووي 7 / 164.(83/140)
على التابعين بإحسان، والأئمة في كل زمان " (1) .
وسموا بالحرورية لنزولهم بحروراء في أول أمرهم.
وبالمحكمة لإنكارهم أمر الحكمين، وقولهم: لا حكم إلا الله.
وبالشراة لقولهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله، أي بعناها بالجنة (2) .
إلا أن اسم الخوارج في معناه الأول الذي يشير إلى الانشقاق ومفارقة الجماعة أصبح الاسم السائر على هذه الجماعة.
ويجمعهم القول بتكفير عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأصحاب الجمل، وصفين، والحكمين، ومن رضي بالتحكيم، وصوب الحكمين أو أحدهما، ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة حقا واجبا، وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر، وأن مرتكبي الذنوب كفار إلا النجدات خالفتهم في ذلك، وكذلك أجمعوا على أن الله سبحانه يعذب أصحاب الكبائر عذابا دائما إلا النجدات.
__________
(1) الملل والنحل والشهرستاني 1 / 114.
(2) مقالات الإسلاميين، الأشعري 1 / 206.(83/141)
ويرى بعض المؤلفين في الفرق أن أول قرن طلع من الخوارج ظهر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم في قسمته، واسمه عبد الله ذو الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: «ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ (1) » فأراد عمر - رضي الله عنه - قتله فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث في صفة الخوارج وأنهم يخرجون من ضئضيء هذا الرجل (2) .
ورغم هذه الصلة القوية إلا أن الخوارج لم يظهروا كجماعة إلا بعد حادثة التحكيم (3) .
ويرى جماعة من العلماء أن أصل الخوارج الجماعة التي أنكرت على عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وكان يقال لهم القراء لشدة اجتهادهم في العبادة، واجتمعوا من بلدان شتى، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنكروا سيرة بعض أقارب عثمان بن عفان، فطعنوا على عثمان بذلك، جاء في البداية والنهاية أن أهل البصرة خرجوا ومعهم حرقوص بن زهير - الذي صار من قادة الخوارج فيما بعد.
__________
(1) البخاري المناقب (3414) ، أحمد (3/56) .
(2) أخرجه البخاري: 6933.
(3) دراسة عن الفرق جلي ص 40.(83/142)
ومع ذلك فلم يجتمعوا، ولم تتبلور عقائدهم على ما صارت إليه إلا بعد حادثة التحكيم.
فالصحيح أن هؤلاء كانوا نواة للخوارج، إلا أن خروجهم الحقيقي كان في عهد علي - رضي الله عنه - فقد كانوا معه في حربه، فلما رفعت المصاحف في موقعة صفين، ألجئوا عليا إلى قبول ذلك وقالوا له: يا علي أجب إلى كتاب الله إذ دعيت إليه، وإلا دفعنا برمتك إلى القوم، أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان، إنه غلبنا أن يعمل بكتاب الله فقتلناه، والله لتفعلنها أو لنفعلن بك (1) .
فلما قبل علي بذلك وكتب الكتاب بقبول التحكيم، أنكرت الخوارج ذلك، وحين رجع إلى الكوفة فارقته إلى مكان يقال له حروراء، ثم أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع جماعة منهم، ثم خرج إليهم علي - رضي الله عنه - فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة، وأشاعوا أن عليا تاب من الحكومة، فخطبهم وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد: لا حكم إلا لله، فقال - رضي الله عنه -: كلمة حق يراد بها باطل، وقال لهم: لكم علينا ثلاثة: أن لا نمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم من
__________
(1) البداية والنهاية، ابن كثير: 7 / 283.(83/143)
الفيء، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تحدثوا فسادا.
وخرجوا شيئا فشيئا إلى أن اجتمعوا بالمدائن، وأصروا على الامتناع من طاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حتى يشهد على نفسه بالكفر لرضاه بالتحكيم - مع أنهم هم الذين ألجؤوه إلى قبوله - ويتوب من ذلك، وأرادوا قتل رسول أمير المؤمنين، ثم قتلوا عبد الله ابن خباب بن الأرت، وكان واليا لعلي، وبقروا بطن سريته عن ولد له، فخرج إليهم علي - رضي الله عنه - في الجيش الذي هيأه للخروج إلى أهل الشام، وقاتلهم في موقعة النهروان، ولم ينج منهم إلا دون العشرة، ولم يقتل من جيش علي إلا عشرة.
وقد عرف عن الخوارج الشدة في القتال والثبات والإقدام على الموت (1) .
ولكن لم تضع معركة النهروان نهاية للخوارج؛ بل أذكت فيمن
__________
(1) فتح الباري، ابن حجر: 12 / 291.(83/144)
بقي منهم روح القتال، وانضم إليهم من مال إلى رأيهم، حتى كان منهم عبد الرحمن بن ملجم المرادي الذي قتل عليا بعد أن دخل في صلاة الصبح، وقال لما ضربه: لا حكم إلا لله، ليس لك يا علي، ولا لأصحابك، وجعل يتلو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (1) ، ومدحه على فعله عمران بن حطان في ذلك:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا (2)
ثم كانوا مقموعين في إمارة زياد وابنه عبيد الله على
__________
(1) سورة البقرة الآية 207
(2) سير أعلام النبلاء، الذهبي 4 / 215.(83/145)
العراق، وظهروا ثانية لما ادعى مروان بن الحكم الخلافة وغلب على الشام ومصر، فظهر الخوارج بالعراق مع نافع بن الأزرق، وباليمامة مع نجدة بن عامر، وزاد نجدة على معتقد الخوارج: أن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر، ولو اعتقد معتقدهم " وعظم البلاء بهم وتوسعوا في معتقدهم الفاسد فأبطلوا رجم المحصن وقطعوا يد السارق من الإبط، وأوجبوا الصلاة على(83/146)
الحائض في حال حيضها " (1) . ثم لم يزل منهم بقايا في طول الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، ودخل طائفة منهم المغرب.
وسيأتي في المبحث القادم في النصوص الواردة في ذمهم الإشارة إلى صفة الرجل الذي يقتل معهم وهو ذو الثدية، وهي - كما يقول ابن تيمية -: علامة أول من يخرج منهم ليسوا مخصوصين بأولئك القوم، فإنه قد أخبر في غير هذا الحديث أنهم لا يزالون يخرجون إلى زمن الدجال، وقد اتفق المسلمون على أن الخوارج ليسوا مختصين بذلك العسكر (2) . ومثلما كان للخوارج حضور في أول الفتن فسيكون لهم حضور في آخرها؛ قال حذيفة: أول الفتن: قتل عثمان، وآخر الفتن: الدجال (3) .
فلا يزال الخوارج يخرجون حتى يدرك آخرهم الدجال، جاء عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينشأ نشأ يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج قرن قطع، قال ابن عمر: سمعت رسول الله يقول: " كلما خرج قرن قطع " أكثر من عشرين مرة، حتى يخرج في عراضهم الدجال (4) » .
__________
(1) فتح الباري ابن حجر 12 / 284.
(2) مجموع الفتاوى ابن تيمية: 28 / 495.
(3) البداية والنهاية ابن كثير: 7 / 201.
(4) سنن ابن ماجه المقدمة باب ذكر الخوارج (174) قال البوصيري: الحديث حسن.(83/147)
وهذا ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما قتل أهل النهروان وصار الناس يقولون له: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي قطع دابرهم، فقال علي: كلا والله، إنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء، فإذا خرجوا من بين الشرايين فقل ما يلقون أحدا إلا أبوا أن يظهروا عليه (1) .
__________
(1) البداية والنهاية ابن كثير 7 / 300.(83/148)
المبحث الثاني: النصوص الواردة في التنفير منهم:
جاءت نصوص كثيرة تحذر من الخوارج، وتذم مذهبهم، وذلك في السنة النبوية، وكذلك في أقوال الأئمة.
قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه.
وقال ابن تيمية: وقد رواها مسلم في صحيحه، وروى البخاري منها ثلاثة أوجه: حديث علي وأبي سعيد الخدري، وسهيل بن حنيف،(83/148)
وفي السنن والمسانيد طرق أخرى متعددة (1) .
وذكر الحافظ ابن كثير أكثر من ثلاثين حديثا وردت في الصحاح والسنن والمسانيد (2) .
فمنها الحديث الصحيح في الرجل الذي أنكر قسمة النبي صلى الله عليه وسلم، واستأذن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في ضرب عنقه فلم يأذن له وقال: «دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نعله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيه فلم يوجد فيه شيء (4) » .
قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليا
__________
(1) مجموع الفتاوى ابن تيمية: 28 / 512.
(2) البداية والنهاية ابن كثير: 7 / 301.
(3) البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6534) ، أحمد (3/56) .
(4) (3) ، قد سبق الفرث والدم. آيتهم رجل إحدى يديه - أو قال ثدييه - مثل ثدي المرأة، أو قال: مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس(83/149)
قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الخوارج، وبين أن في قتلهم أجرا لمن قتلهم، ففي الصحيحين عن علي - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيخرج قوم في آخر الزمان، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة (1) » .
فأكرم الله عليا بقتلهم وقاتل معه الصحابة " فصار سيف علي بن أبي طالب في الخوارج سيف حق إلى أن تقوم الساعة " (2) .
قال الإمام البخاري: وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله، وقال: انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين.
وكان علي - رضي الله عنه - يقول: هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (3) {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري (6930) ، ومسلم (1066) ، وأحمد: 1 / 113.
(2) الشريعة، الآجري، ص: 22.
(3) سورة الكهف الآية 103
(4) سورة الكهف الآية 104(83/150)
منهم أهل النهروان ورب الكعبة (1) .
وجاء عن أبي أمامة أنه لما أتي برؤوس الأزارقة فنصبت ورآهم دمعت عيناه وقال: كلاب النار، كلاب النار، كلاب النار، ثلاث مرات، هؤلاء شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء، فسئل: وما شأنك دمعت عيناك؟ قال: رحمة لهم لأنهم كانوا من أهل الإسلام، هؤلاء الذين تفرقوا واتخذوا دينهم شيعا (2) .
والنصوص الواردة في ذم الخوارج أكثر من النصوص الواردة في ذم غيرهم من الفرق، مع أن غيرهم من الفرق قد يكون أشد ابتداعا منهم، ولكن بدعتهم واضحة، أما هؤلاء فالفتنة بهم أعظم لأن لهم إيمانا وحالا ظاهرة من الصلاح توجب موالاتهم، ودخلوا في تلك البدعة التي تفسد الدين، فلذا جاء النص في التحذير منهم، وعلى هذا فلا بد من التحذير ممن تلبس ببدعتهم، وإن اقتضى ذلك
__________
(1) السيرة النبوية، ابن حبان ص 546.
(2) السنة، عبد الله بن أحمد: 2 / 643، 644.(83/151)
ذكرهم وتعيينهم، ذلك أن بدعة التكفير أشد من غيرها من البدع (1) .
__________
(1) ينظر مجموع الفتاوى ابن تيمية 28 / 233.(83/152)
المبحث الثالث: أساس بدعة الخوارج:
جاء في الأحاديث السابقة - وغيرها - الإشارة إلى اجتهاد الخوارج في العبادة من صلاة، وصيام، وتلاوة قرآن وما إلى ذلك من إظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك جاء التحذير الشديد منهم في الأحاديث وعلى لسان الصحابة - كما سبق من وصف ابن عمر لهم بأنهم شرار الخلق، وذلك أن أساس بدعتهم كما يقول الآجري - أنهم " قوم يتأولون القرآن على ما يهون، ويموهون على المسلمين " (1) . فمذهبهم قام على الغلو والتشدد في فهم الدين (2) .
فهم كانوا جهالا فارقوا السنة والجماعة يتأولون القرآن على غير المراد منه، ويستبدون برأيهم، ويتنطعون في الزهد والخشوع (3) ، ووصفهم ابن عباس عند ذهابه لمناظرتهم فقال: " فأتيت فدخلت
__________
(1) الشريعة، الآجري ص: 21.
(2) تاريخ المذاهب الإسلامية أبو زهرة ص: 79.
(3) فتح الباري، ابن حجر: 12 / 283.(83/152)
على قوم لم أر أشد اجتهادا منهم، أيديهم كأنها ثفن الإبل، ووجوههم معلمة من آثار السجود) (1) .
وكان لعسكرهم مثل دوي النحل من قراءة القرآن، وفيهم أصحاب البرانس الذين كانوا معروفين بالزهد والعبادة (2) .
فالخوارج كان فيهم غلو في الديانة وتشديد في غير موضع التشديد، وتنطع في العبادة بحمل النفس على ما لم يأذن فيه الشرع مع وصف الشارع الشريعة بأنها سهلة سمحة، ومع أنه ندب إلى الشدة مع الكفار وإلى الرأفة بالمؤمنين فعكس ذلك الخوارج (3) .
ولما ذكر لابن عباس الخوارج وما يلقون عند قراءة القرآن، قال: يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه (4) .
وكان علي يقول وهو يمشي بين القتلى منهم: بؤسا لكم، لقد ضركم من غركم. فقال أصحابه: يا أمير المؤمنين: ومن غرهم؟ قال: الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، غرتهم بالأماني، وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون (5) .
__________
(1) تلبيس إبليس ابن الجوزي: 91، فتح الباري، ابن حجر: 12 / 289.
(2) فتح الباري، ابن حجر: 12 / 296.
(3) فتح الباري، ابن حجر: 12 / 301 ينظر شرح النووي: 7 / 166.
(4) فتح الباري، ابن حجر: 12 / 300 وقال: إسناده صحيح.
(5) البداية والنهاية، ابن كثير: 7 / 299.(83/153)
وكان عبد الله بن وهب الراسبي - أحد أمراء الخوارج - قد قحلت مواضع السجود منه من شدة اجتهاده وكثرة السجود (1) .
فلا ينازع في أن الخوارج كان لهم من الصلاة والصيام والقراءة والعبادة والزهادة ما لم يكن لعموم الصحابة، ولكن ضلالهم كان في اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل، وأنهم ضالون، وأنهم هم - أي الخوارج - أعلم من علي بن أبي طالب وسائر الصحابة الذين عاصروا التنزيل فهم أعلى بالتأويل منهم، وهذا ما ذكره ابن عباس لهم عندما ذهب لمناظرتهم فقال: أتيتكم من عند المهاجرين والأنصار، ومن عند صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله منكم (2) .
فالخوارج لم يتحملوا ما فعله أميرا المؤمنين عثمان وعلي رضي الله عنهما من أنواع التأويل فجعلوا - كما يقول ابن تيمية: " موارد الاجتهاد بل الحسنات ذنوبا، وجعلوا الذنوب كفرا، ولهذا لم يخرجوا في زمن أبي بكر وعمر لانتفاء تلك التأويلات وضعفهم " (3) .
ولا غرو في أن ينكر الخوارج على الصحابة رضوان الله عليهم
__________
(1) المصدر نفسه 7 / 300.
(2) تلبيس إبليس ابن الجوزي 92.
(3) مجموع الفتاوى ابن تيمية 28 / 495.(83/154)
وعلى علي رضي الله عنه ما فعله من قصد المصلحة من التحكيم ومحو اسمه وما تركه من سبي نساء المؤمنين وصبيانهم، فقد أنكر أولهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إعطاء المؤلفة قلوبهم مع ما فيه من المصلحة، وهذا إنما ينكره ذوو الدين الفاسد الذي لا يصلح به دنيا ولا آخرة، فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم وقال: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد (1) » أي قتلا عاما مستأصلا، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة (2) .
قال الآجري: " فلا ينبغي لمن رأى اجتهاد خارجي قد خرج على إمام عدلا كان الإمام أو جائرا، فخرج وجمع جماعة، وسل سيفه، واستحل قتال المسلمين، فلا ينبغي له أن يغتر بقراءته للقرآن، ولا بطول قيامه في الصلاة، ولا بدوام صيامه، ولا بحسن ألفاظه في العلم، إذا كان مذهبه مذهب الخوارج " (3) .
ويجدر هنا التأكيد على أن حسن النية، وسلامة القصد بمجردها لا تكفي، فالخوارج ضلوا من حيث أرادوا الخير (4) . وهذا يذكرنا بقول ابن مسعود - رضي الله عنه - لما رأى قوما في المسجد ينتظرون الصلاة معهم حصى وفيهم رجل يقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، ثم يقول:
__________
(1) أخرجه مسلم (1064) .
(2) ينظر: مجموع الفتاوى ابن تيمية 28 / 497، 502.
(3) الشريعة، الآجري: 21.
(4) تاريخ المذاهب الإسلامية أبو زهرة ص: 76.(83/155)
هللوا مائة، فيهللون مائة، ثم يقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، فعاتبهم فاعتذروا بأنهم إنما أرادوا الخير، فقال لهم: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم.
فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج.(83/156)
المبحث الرابع: خطورة التكفير وآثاره:
المسائل والقضايا المتعلقة بالإسلام والإيمان والكفر والنفاق مسائل عظيمة جدا؛ فإن الله علق بهذه الأسماء السعادة والشقاوة واستحقاق الجنة والنار، والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في دائرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار، واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم، ثم بعد(83/156)
خلافهم هذا ظهرت بقية الفرق وصارت الأمة شيعا وأحزابا (1) .
وكان من الفوائد التي أخذت من قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما (2) » الزجر عن التكفير، والتحذير منه، والوعيد الشديد لمن تلبس به (3) .
فالتكفير من الأحكام الشرعية التي مردها إلى الكتاب والسنة، فيجب التثبت فيه غاية التثبت، فلا يكفر ولا يفسق إلا من دل الكتاب والسنة على كفره أو فسقه، والأصل في المسلم الظاهر العدالة بقاء إسلامه وبقاء عدالته حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي.
فلا يصار إلى التكفير بمجرد الظن والهوى، فهو من أعظم القول على الله بلا علم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (4) .
__________
(1) ينظر: جامع العلوم والحكم، ابن رجب 1 / 114.
(2) سبق تخريجه ص: 12.
(3) ينظر: شرح النووي: 2 / 49، فتح الباري: ابن حجر: 10 / 466.
(4) سورة الأعراف الآية 33(83/157)
فالحكم على إنسان ما بالكفر حكم شرعي، مضبوط بضوابط معلومة من الكتاب والسنة، فلا يصار إليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة عليه بالكفر، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت، (1) ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب: باب النهي عن البغي، وذكر فيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما؟ أو كنت على ما في يدي قادرا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار (2) » . قال أبو هريرة: والذي
__________
(1) ينظر شرح الطحاوية ابن أبي العز: 2 / 485.
(2) أخرجه أبو داود (4901) .(83/158)
نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
وقال القاضي عياض في مطلع فصل المكفرات القولية: اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف اللبس فيه مورده الشرع، ولا مجال للعقل فيه (1) .
وقال ابن تيمية مؤكدا على هذا: الكفر حكم شرعي متلقى عن صاحب الشريعة، والعقل قد يعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كل ما كان خطأ في العقل يكون كفرا في الشرع.
وقال ابن الوزير: إن التكفير سمعي محض لا مدخل للعقل فيه، وإن الدليل على الكفر لا يكون إلا سمعيا قطعيا، ولا نزاع في ذلك (2) .
فلا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، ولا يخرج إنسان من الإسلام بمجرد الفهم واستحسان العقل، فإن إخراج رجل من الإسلام، أو إدخاله فيه، أعظم أمور الدين، وما تنازع العلماء في كونه كفرا؛ فالاحتياط للدين التوقف وعدم الإقدام ما لم يكن في
__________
(1) الشفا، القاضي عياض جـ2 ص: 604.
(2) العواصم والقواصم، ابن الوزير: 4 / 178 - 179.(83/159)
المسألة نص صريح من الكتاب أو السنة؛ فإن استباحة دماء المصلين الموحدين خطر عظيم، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد (1) .
ولما أن كان التكفير حكما شرعيا فقد كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون، فالكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، فكما لا يجوز للإنسان أن يكذب على من كذب عليه، أو يزني بأهل من زنى بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، فكذلك التكفير حق الله تعالى، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله (2) .
ومن الآثار المترتبة على التكفير والدالة على خطورته: ما ذكره الفقهاء من الأحكام الخاصة بالمرتد مثل: قتله لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس
__________
(1) ينظر الشفا، القاضي عياض 22 / 595.
(2) ينظر الرد على البكري، ابن تيمية الدار العلمية، دلهي الطبعة الثانية 1405 هـ، ص: 257.(83/160)
، والتارك لدينه المفارق للجماعة (1) » .
وكون ماله يصير فيئا لا يرث ولا يورث، وعدم صحة تزويجه لأنه لا ولاية له، وتحريم ذبيحته، وترك الصلاة عليه، وما إلى ذلك من أحكام (2) ؛ بل إن عقوبة الكافر المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه، منها: أن المرتد يقتل بكل حال، ولا يضرب عليه جزية، ولا تعتمد له ذمة؛ بخلاف الكافر الأصلي، ومنها أن المرتد يقتل وإن كان عاجزا عن القتال، بخلاف الكافر الأصلي الذي ليس هو من أهل القتال، فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء، ومنها أن المرتد لا يزوج ولا تؤكل ذبيحته، خلاف الكافر الأصلي فهو - أي المرتد - شر من اليهود والنصارى (3) .
ثم مما يبين خطورة التكفير والحكم على شخص بأنه كافر مستحق للقتل: خطورة القتل؛ روى الترمذي من حديث ابن عباس
__________
(1) أخرجه البخاري (6878) ومسلم (1676) وأبو داود (4352) والترمذي (1402) والنسائي 7 / 90-91 وابن ماجه (2534) وأحمد 1 / 382، 428، 444.
(2) ينظر: المغني ابن قدامة 12 / 264.
(3) ينظر مجموع الفتاوى ابن تيمية: 28 / 234 مجموعة الرسائل والمسائل: 4 / 43.(83/161)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة، ورأسه وناصيته بيده، وأوداجه تشخب دما، يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني (1) » وقال: حديث حسن.
وفيه أيضا عن نافع قال: نظر عبد الله يوما إلى الكعبة، فقال: ما أعظمك، وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك.
وفي صحيح البخاري: «ومن استطاع أن لا يحول بينه وبين الجنة كف من دم أهراقه فليفعل (2) » .
في صحيحه أيضا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) أخرجه الترمذي (3029) وأخرجه أحمد: 1 / 240، 294 والنسائي: 7 \ 85، 87 وابن ماجه: 2621.
(2) أخرجه البخاري رقم: 7152.(83/162)
«لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما (1) » .
وفيه: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما (2) » .
فإذا كانت هذه عقوبة قاتل عدو الله إذا كان في عهده وأمانه، فكيف عقوبة قاتل عبده المؤمن الذي صح أن الله يعادي من يؤذيه ويؤذنه بالحرب (3) .
فإذا كان للتكفير هذه الآثار والتي من أعظمها القتل، فإنه لا يحكم به إلا القضاة الذين يتولون الفصل والقضاء في سائر الحدود، فمن باب أولى ألا يحكم بارتداد المرتد غيرهم.
ويؤخذ من قول الفقهاء وعامة أهل العلم أن قتل المرتد إلى الإمام حرا كان أو عبدا؛ أن الإمام أو نائبه هو الذي يتولى إقامة حد القتل (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري: 6862 وأخرجه أحمد: 2 / 94.
(2) أخرجه البخاري (3166) .
(3) العواصم والقواصم ابن الوزير: 9 / 34.
(4) ينظر: المغني ابن قدامة: 12 / 272.(83/163)
الخاتمة:
الحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد، فقد كان أهم ما(83/163)
تضمنه البحث ما يلي:
1- أن الكفر في اللغة هو الستر والتغطية، وهو في الشرع ضد الإيمان، وسمي بذلك لأنه تغطية للحق وستر له، ولما كان الإيمان عند أهل السنة والجماعة ذا شعب متعددة، منها ما يزول الإيمان بزوالها، ومنها ما يضعف الإيمان بزوالها، فكذلك الكفر ذو شعب متعددة، منها ما يوجب الكفر ومنها ما هو من خصال الكفار، وموجبة للذم والعقاب، فما كان من النوع الأول سمي الكفر الأكبر الاعتقادي، وأما النوع الثاني فهو الكفر الأصغر العملي.
2- تحصل الردة بالقول والفعل والاعتقاد والشك، وأعظم المكفرات الشرك بالله، ومن المكفرات التي ذكرها العلماء: جحد ربوبية الله أو وحدانيته، أو سب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، تجويز الكذب على الأنبياء، والقاعدة في هذا: من أنكر شيئا معلوما من الدين بالضرورة فهو كافر، وكذلك من جحد ما علم بالضرورة أنه واجب أو أنه محرم.
3- جاء في كثير من النصوص تسمية بعض الذنوب كفرا، ومن تلك الذنوب: قتال المسلمين بعضهم لبعض، تكفير المسلم لأخيه المسلم، الحكم بغير ما أنزل الله، إتيان الكهان، إتيان النساء في أدبارهن، الحلف بغير الله، الطعن(83/164)
في النسب، والنياحة على الميت؛ وأجمع أهل السنة أن صاحبها لا يكفر الكفر الأكبر المخرج عن الملة. وأتى في نصوص أخرى نفي الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر، وأجمع أهل السنة أن المراد نفي كمال الإيمان. كذلك جاء في النصوص إطلاق النفاق على الكذب والخيانة والغدر والفجور، وأجمع أهل السنة أن المراد النفاق الأصغر. فأهل السنة مجمعون إجمالا على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا مخرجا عن الملة، إذ لو كان كذلك لكان مرتدا يقتل على كل حال، فلا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجرى الحدود.
4- كان الخوارج أشهر من خالف في مسألة التكفير فقالوا بكفر صاحب الكبيرة، وكان خروجهم الحقيقي في عهد علي - رضي الله عنه - وقد جاءت نصوص كثيرة في ذمهم والتنفير منهم في السنة النبوية وفي أقوال الصحابة - رضي الله عنهم -.
5- يتمثل منهج الخوارج في تأويل القرآن على غير المراد منه وعلى التشدد في فهم الدين والتنطع والاستبداد بالرأي ولا ينازع أن لهم من العبادة ما لم يكن لغيرهم، وهذا بمجرده لا يغني من الحق شيئا..
6- أن التكفير من الأحكام الشرعية والتي يجب التثبت فيها(83/165)
غاية التثبت، فلا يصار إليه بمجرد الظن والهوى، فمن أعظم البغي أن يشهد على مؤمن معين أنه مخلد في النار، ومما يدل على خطورته ما ذكره الفقهاء من الأحكام الخاصة بالمرتد مثل: قتله، وترك الصلاة عليه، وتحريم ذبيحته، وعدم صحة تزويجه، وكون ماله يصير فيئا، وما إلى ذلك من عقوبات هي أعظم من عقوبة الكافر الأصلي، ولما كان الأمر بهذه الخطورة وللتكفير هذه الآثار والتي من أعظمها القتل فإنه لا يحكم به إلا القضاة المشهود لهم بالعلم والفقه، ولا يقيم الحدود ومن أعظمها حد الردة إلا الإمام أو نائبه.
ختاما أسأل الله بمنه وكرمه أن ينفع بهذا البحث وأن يجعله خالصا لوجهه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(83/166)
صفات المنافقين أثناء الحروب
كما جاءت في القرآن الكريم
للدكتورة مديحة بنت إبراهيم بن عبد الله السدحان (1)
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فقد أرسل الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلينا فانقسم الناس تجاه دعوته إلى ثلاثة أقسام: مؤمن به، وكافر معاند، ومنافق آمن بلسانه وكفر بقلبه، فهو يتظاهر بالإسلام لكن أقواله وأعماله تضاد الإسلام وأحكامه.
وهذا الصنف الثالث هو العدو الحقيقي الذي حذرنا الله منه قال
__________
(1) أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة المساعد بقسم الدراسات الإسلامية كلية التربية للبنات بالرياض.(83/167)
تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} (1) ، فحصر العداوة فيهم لبيان أولويتهم في هذه العداوة، ولهذا وجب على المسلمين جميعا أن يجعلوهم أول اهتماماتهم، وأن يعلموا أن من أعظم الواجبات عليهم مجاهدتهم؛ لأنهم أخطر مصيبة حلت بالمسلمين قديما وحديثا، والمتأمل للتاريخ يجد للمنافقين دورا خطيرا في كل عصر من عصوره خاصة في أزمنة الحروب؛ فخياناتهم وتعاونهم مع أعداء المسلمين المحاربين يشهد لها التاريخ، وسنة الله ماضية في استمرار الحروب بين أهل الحق والباطل، قال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (2) ، فأعداء الله لا يألون جهدا في حرب الإسلام وأهله، وأمة الإسلام وبفضل الله لم تزل وستستمر بحول الله في مدافعة ما يكاد لها مما يخططه أعداؤها ومن يوالونهم من المنافقين، لكن طبيعة عمل هؤلاء المنافقين وهو الخيانة يستلزم التخفي والتستر فهم يفسدون سرا ويظهرون الإسلام والإصلاح، ولهم براعة في الكلام إن يقولوا تسمع لقولهم، لهذا كان من الواجب التحذير منهم وكشف أستارهم، وبيان صفاتهم حتى يعرفوا بها، وبخاصة تلك الصفات التي تعرف بها عقائدهم ونفاقهم أثناء الحرب، ولطول الموضوع اكتفيت بما جاء من ذلك في
__________
(1) سورة المنافقون الآية 4
(2) سورة البقرة الآية 217(83/168)
القرآن الكريم لأهميته وتأكد الاعتناء به في كل زمان، وبخاصة في هذا الزمان لأمور منها:
1- ما تمر به الأمة اليوم من أخطار وحروب، وما يعصف بها من أحداث وفتن كقطع الليل، يعمي الإنسان فيها أن يسمع ويرى الحق إذا لم يكن معه علم شرعي يخرج منه بفقه ما ينبغي عليه عمله، ويأخذ العبر والعظات من التاريخ، فإذا قامت الحرب كان المسلم المجاهد قد تهيأ بعلم شرعي وعسكري، يعرف به هؤلاء المنافقين ويحذرهم.
2- علو أهل الباطل في كثير من المجالات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية مما يسهل دخول كثير من المنافقين ضمن جند المسلمين.
3- التقدم التقني الهائل والسريع الذي يساعد الخائن ويسهل أمره والأعين قلما تراقبه.
4- سذاجة بعض المؤمنين، وسرعة تقييمهم للأشخاص بمجرد ما يرونه من ظاهرهم.
ولهذا رأيت أن الكتابة في هذا الموضوع من أهم المهمات، أسأل الله أن يجعلني ممن تفقه في دينه لينذر قومه لعلهم يحذرون، وحسب علمي فإني لم أجد أحدا كتب في هذا الموضوع بهذه الصورة وأفرده مع شدة الحاجة إليه.(83/169)
خطة البحث:
أتبعت هذه المقدمة بتقسيم البحث إلى فصلين وخاتمة.
الفصل الأول: تعريف النفاق، وأنواعه، وخطورته وأسبابه، وأشهر صفات المنافقين إجمالا، وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: تعريف النفاق لغة واصطلاحا.
المبحث الثاني: أنواعه.
المبحث الثالث: خطورته.
المبحث الرابع: أسبابه.
المبحث الخامس: أشهر صفات المنافقين إجمالا.
الفصل الثاني: صفات المنافقين أثناء الحرب، وفيه سبعة مباحث هي:
المبحث الأول: الصفة الأولى الانسحاب من المعركة والرجوع.
المبحث الثاني: الصفة الثانية، ظهور علامات الفرح عليهم بعد تخلفهم عن الحرب.
المبحث الثالث: الصفة الثالثة، عدم المشاركة في القتال مع خروجهم مع الجيش، أو القتال قليلا.
المبحث الرابع: الصفة الرابعة، السعي بالفتنة بين جنود المسلمين لا يألونهم خبالا.
المبحث الخامس: الصفة الخامسة، تجريح القيادة، ونسبة ما يصيب المسلمين من سيئة لسوء تصرفها.(83/170)
المبحث السادس: الصفة السادسة، الخوف والجبن.
المبحث السابع: الصفة السابعة، موالاة الكفار.
الخاتمة: وفيها أهم ما توصلت إليه من نتائج.
هذا والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المؤمنين، ويجعلهم يدا واحدة على أعدائهم، وأن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم إنه سميع مجيب.(83/171)
الفصل الأول: تعريف النفاق، وأنواعه، وخطورته، وأسبابه، وأشهر صفات المنافقين إجمالا
وفيه إجمالا، خمسة مباحث:
المبحث الأول: تعريف النفاق لغة واصطلاحا.
المبحث الثاني: أنواعه.
المبحث الثالث: خطورته.
المبحث الرابع: أسبابه.
المبحث الخامس: أشهر صفات المنافقين إجمالا.
المبحث الأول: تعريف النفاق لغة واصطلاحا:
النفاق في اللغة:
النفاق فعل المنافق يقال: نافق ينافق منافقة ونفاقا، أما أصله فقد اختلف فيه على قولين، فقيل: إنه مأخوذ من النفق؛ لأن المنافق(83/171)
يستر كفره، فهو كمن يدخل النفق يستتر فيه.
وقيل: إنه مأخوذ من نافقاء اليربوع أي جحره، فإنه يخرق الأرض حتى إذا كاد أن يبلغ ظاهر الأرض ترك قشرة رقيقة حتى لا يعرف مكان هذا المخرج، فإذا رابه ريب دفع تلك القشرة برأسه فخرج، ومنه اشتقاق النفاق لأن صاحبه يكتم خلاف ما يظهر، فكأن الإيمان يخرج منه، أو يخرج هو من الإيمان في خفاء. وظاهر جحر اليربوع تراب كالأرض وهو في الحقيقة حفرة. وكذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر.
النفاق في الاصطلاح:
هو ستر الكفر وإظهار الإسلام.
وقد يسمى المنافق زنديقا كما يفعله بعض الفقهاء (1) . وقد يسمى النفاق الاعتقادي وهو النفاق الأكبر كما سيأتي.
__________
(1) انظر: الإيمان الأوسط لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى (7 / 471) وطريق الهجرتين لابن القيم (374) .(83/172)
المبحث الثاني: أنواع النفاق
ينقسم النفاق إلى نوعين:
أحدهما: النفاق الأكبر، وهو النفاق الاعتقادي، أي في أصل الدين، وهو مخرج من الإسلام، وصاحبه في الدرك الأسفل من النار، وعامة الآيات القرآنية يقصد بها هذا المعنى (1) .
والثاني: النفاق الأصغر، وهو النفاق العملي أي النفاق في فروع الدين، وهو دون الكفر، لكنه اختلاف بين السريرة والعلانية، فمن أظهر أنه صادق أو موف أو أمين، وأبطن الكذب والغدر والخيانة ونحو ذلك فهذا هو النفاق الأصغر الذي يكون صاحبه فاسقا، لا أن يبطن في قلبه كفرا وشكا وتكذيبا يخفيه عن الناس، ويظهر إسلاما لا حقيقة له. وهذا النوع من النفاق جاءت به السنة. والأصل فيه ما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو وأبي هريرة وغيرهما من الصحابة - رضي الله عنهم - في ذكر آية المنافق فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي
__________
(1) انظر النفاق وأثره د. عادل الشدي ص (46) .(83/173)
صلى الله عليه وسلم أنه قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان (1) » .
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر (2) » .
فهذه كلها أعمال إذا كان فاعلها مؤمنا بالله وحده، قد سلم اعتقاده مما يخرجه من الدين، فنفاقه نفاق أصغر، وهذه الخصال قد توجد في المسلم الصادق الذي ليس فيه شك. قال النووي - رحمه الله - عند شرح هذا الحديث: " وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقا بقلبه ولسانه، وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق يخلد في النار، فإن إخوة يوسف - عليه السلام - جمعوا هذه الخصال " (3) ، وهذا النفاق الأصغر هو النفاق الذي كان يخافه السلف على نفوسهم (4) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الإيمان (1 / 89) ومسلم في كتاب الإيمان (1 / 78) رقم (59) .
(2) رواه البخاري في الإيمان (1 / 89) ، ومسلم في الإيمان (1 / 78) رقم (58)
(3) صحيح مسلم بشرح النووي (2 / 46 و 47) .
(4) مجموع الفتاوى لابن تيمية (7 / 428) وفتح الباري (1 / 111) .(83/174)
قال ابن أبي مليكة (ت 17 هـ) : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، (1) قال ابن حجر (ت 852 هـ) : " والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة من أجلهم عائشة وأختها أسماء وأم سلمة والعبادلة الأربعة وأبو هريرة ... ، وقد أدرك بالسن جماعة أجل من هؤلاء كعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص. وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك، فكأنه إجماع، ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى - رضي الله عنهم - " (2) .
فخوفهم كان من النفاق الأصغر لا الأكبر، لأنه لا يعقل أن يكون النفاق الذي خافه أولئك الصحابة هو إبطان الكفر، فإنهم يعلمون من أنفسهم أنهم لا يبطنون كفرا، وقد زكاهم الله وأثنى عليهم، فهم يعلمون براءتهم من هذا النفاق المخرج من الإسلام، فتعين أن يكون مقصودهم النفاق الأصغر.
__________
(1) رواه البخاري معلقا في صحيحه كتاب الإيمان (1 / 109) .
(2) فتح الباري (1 / 110 و 111) .(83/175)
المبحث الثالث: خطورة النفاق:
إن أكبر خطر تهددت به الأمة الإسلامية على مر العصور هو النفاق، ولذلك قال الله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} (1) ، والحصر في الآية لبيان أولويتهم في العداوة، ولهذا كان مصيرهم يوم القيامة أسوأ مصير في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم شر من الكفار الصرح، فبلية المؤمنين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين؛ لأنهم لا يظهرون ما يعتقدون، يعملون في الخفاء، ويظهرون لباس الإخوان والأصدقاء فهم مستأمنون لا يحسب لهم حساب ولا يراقبون ولا يحترز منهم إلا القليل من المؤمنين، والعدو المخالط المداخل المساكن أخطر وأشد كيدا من العدو الظاهر البعيد، فهم أخطر من الجيوش العسكرية، والانحرافات الفكرية لأن أصحابها أعداء معروفون واضحون لا يقبل كثير من الناس أقوالهم.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان (2) » .
__________
(1) سورة المنافقون الآية 4
(2) رواه أحمد (1 / 22) والفريابي في صفة النفاق ص (52) رقم (23 و 24) وابن حبان في صحيحه (1 / 148) والطبراني في الكبير (18 / 237) قال الهيثمي في الزوائد (1 / 192) : رواه الطبراني في الكبير والبزار ورجاله رجال الصحيح. وذكر نحوه عن البزار وأحمد وأبي يعلى وقال: رجاله موثقون، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2 / 44) رقم (1550) .(83/176)
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أخطر المصائب في تاريخ الأمة الإسلامية قديما وحديثا عن طريق المنافقين، ولا نكاد نرى عصرا من عصور تاريخ المسلمين إلا ونجد للمنافقين فيه دورا خطيرا، فقد أفسدوا عقائد كثير من الناس، والمتتبع لجذور الانحراف العقدي في تاريخ المسلمين يجد المنافقين وراءه، ومن أبرز الأمثلة في ذلك فرقة السبئية التي وضع أسسها المنافق اليهودي عبد الله بن سبأ، الذي أظهر الإسلام في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وأخذ يطوف البلاد الإسلامية ينشر معتقده، وقد لبس على العامة في زمن كان فيه كثير من الصحابة، حتى إن بعض أتباعه هددهم علي - رضي الله عنه - بالموت حرقا إن لم يرجعوا عن هذه العقيدة الضالة، فأصروا وفضلوا الموت على الرجوع عن ضلالهم، وقد كان من نتيجة فتنة عبد الله بن سبأ مقتل الخليفة الثالث الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -.
وكان سقوط بغداد مركز الخلافة الإسلامية العباسية عام (656 هـ) على يد المنافق الخبيث ابن العلقمي الرافضي الذي تعاون مع التتار الذين قتلوا جميع من يقدرون عليه من الرجال والنساء والولدان(83/177)
والمشايخ والشبان حتى بلغوا مليون قتيل، وقد كان ابن العلقمي وزيرا عند الخليفة المستعصم يظهر الولاء والنصرة، له فضل في الإنشاء والأدب لكنه كان منافقا يضمر الحقد على الإسلام وأهله، كاتب التتار وزين لهم اجتياح بغداد، وكان ذلك بعد أن سرح الجند وصرف الجيوش عن بغداد حتى لم يبق منهم إلا عشرة آلاف ثم أرسل إلى التتار يسهل عليهم أمر اجتياح المدينة فقدموا وحدث ما حدث (1) .
والأمثلة كثيرة جدا ولهذا كان الواجب التحذير من النفاق، وبيان صفات أهله، وكشف جهودهم في هدم الإسلام وخدمة أعدائه وموالاتهم وتنفيذ مخططاتهم.
__________
(1) انظر البداية والنهاية لابن كثير (13 / 200 وما بعدها) .(83/178)
المبحث الرابع: أسباب النفاق:
المنافق كافر في الباطن يستتر بالإسلام، وتظاهره بالإسلام له أسباب كثيرة ترجع إلى حب الشهوات أو تأثير الشبهات، فشهوة حب الحياة والخوف على أنفسهم من القتل أو السبي، والخوف على المنصب والرياسة والجاه والزعامة تجعله ينافق، وكذلك شهوة حب حظوظ الدنيا والطمع في الغنائم إذا انتصر المسلمون في حروبهم، أما الشبهات فإن بعض المنافقين كان أول أمره مؤمنا لكن الإيمان لم يخالط بشاشة قلبه، يعبد الله على شفا جرف هار، فإذا جاءت فتنة أو حلت(83/178)
بالمؤمنين نكبة نافق، ولهذا يمكن القول أن أهم أسباب النفاق ما يلي:
أولا: حب الشهوات ومنها:
أ- حب أنفسهم والخوف عليها من القتل أو السبي.
وهذا السبب يبدو واضحا في نفاق من نافق بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكثرة أتباعه، وانتصاره يوم بدر، فحينئذ أصبحت للمسلمين قوة تهاب فظهر النفاق، أما في مكة فلم يكن هناك منافقون لأنهم كانوا يظهرون كفرهم ولا يخشون شيئا فلما قوي الإسلام وأهله خافوا على أنفسهم من القتل أو الطرد أو السبي.
قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} (1) {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} (2) .
قال قتادة: ذكر لنا أن المنافقين كانوا يظهرون ما في أنفسهم من النفاق فلما أوعدهم الله بهذه الآية أسروا ذلك وكتموه.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ) أن المنافقين بعد ظهور الإسلام وذل النفاق وأهله لم يستطيعوا أن يظهروا ما كانوا
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 60
(2) سورة الأحزاب الآية 61(83/179)
يظهرونه من الكفر قبل ذلك قبل بدر وبعدها، وقبل أحد وبعدها، فأخفوا النفاق وكتموه فلهذا لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
ب- حب الجاه والرياسة والزعامة والخوف من ضياعها.
قد يكون لبعض المنافقين جاه ورياسة يخاف إن أظهر كفره أن يتفرق عنه أتباعه وأعوانه فيخفيه ويظهر الإسلام، كما فعل عبد الله ابن أبي ابن سلول فإنه كان قاب قوسين أو أدنى من الرياسة في قومه، ثم تفاجأ بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سيدا فيها وحاكما لها، فكان هذا ما حمله على النفاق في مبدأ الأمر.
جـ- حب حظوظ الدنيا والطمع في الغنائم:
من المنافقين من يكون سبب نفاقه حب الدنيا والطمع في الغنائم، ولهذا نراهم يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يقاتلون، ومنهم من لا يخرج وإذا رجع رسول الله جاء معتذرا طمعا في عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه عنه. فهم لحبهم للدنيا يؤملون الغنائم وقد ذكر الله سبحانه صفتهم هذه في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (2) .
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (13 / 20) ، (7 / 214 و215) ومختصر منهاج السنة (1 / 91) .
(2) سورة التوبة الآية 42(83/180)
وقد كان هذا في غزوة تبوك لما رأى المنافقون شدة الحر وبعد المسافة تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية موبخا لهم، مبينا أن السفر لو كان قريبا سهلا، والغنيمة قريبة المتناول حاضرة، لخرجوا معك أما قولهم لما جاءوا يعتذرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مجرد كذب لأنهم كانوا مستطيعين (1) .
«ولما رجع المسلمون من غزوة بني المصطلق (3) » .
وقد سأل المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم السماح لهم بالخروج معه إلى خيبر لما أملوا من الغنائم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأذن لهم لأن غنائم خيبر كانت خاصة بمن ذهب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمرا وكان المنافقون حينئذ قد تخلفوا عنه، وقد وعد الله المؤمنين لما
__________
(1) انظر: الطبري (10 / 141) المجلد السادس، وابن كثير (2 / 361) .
(2) دلائل النبوة للبيهقي (4 / 60) .
(3) (2) فقدت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسعى لها الرجال يلتمسونها، فقال رجل من المنافقين كان في رفقة من الأنصار: أين يسعى هؤلاء؟ قال أصحابه: يلتمسون راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلت، فقال المنافق: أفلا يحدثه الله بمكان راحلته؟ فأنكر عليه أصحابه ما قال. وقالوا: قاتلك الله، نافقت فلم خرجت وهذا في نفسك؟ قال: خرجت لأصيب عرضا من الدنيا(83/181)
انصرفوا من الحديبية فتح خيبر، وجعل الله غنائمها لمن شهد الحديبية خاصة عوضا عن غنائم أهل مكة فإنهم انصرفوا على صلح ولم يصيبوا منهم شيئا. فلما رأى المنافقون أن الله وعد رسوله مغانم كثيرة عجلت له منها خيبر طلبوا الخروج قال تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) .
فالمخلفون هم الذين تخلفوا عن عمرة الحديبية سيقولون إذا انطلقتم إلى مغانم خيبر ذرونا نخرج معكم، بعد أن تخلفوا وقت محاربة الأعداء ومصابرتهم فأمر الله رسوله ألا يأذن لهم عقابا لهم من جنس ذنبهم.
ومعنى قوله تعالى: {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} (2) أي هكذا قال الله لنا أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية (3) .
ثانيا: الفتن والشبهات:
سنة الله في عباده أن يمتحنهم ليعرف الصادق من الكاذب، فإذا جاءت الفتنة كانت سببا في نفاق من كان إيمانه ضعيفا، ومن أمثلة ذلك
__________
(1) سورة الفتح الآية 15
(2) سورة الفتح الآية 15
(3) انظر: تفسير الطبري (26 / 80) المجلد 13، والبغوي (4 / 192) وابن كثير (4 / 190) .(83/182)
حادثة تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، فقد كانت اختبارا وابتلاء من الله ومحنة امتحن الله بها الناس، وبعدها ارتد طائفة عن الإيمان قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) ، ومن هذه الفتن هزيمة المسلمين يوم أحد فإنه لما حصل ذلك ارتد طائفة ونافقوا قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} (3) .
قال ابن تيمية: " قوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} (4) ظاهر فيمن أحدث نفاقا، وهو يتناول من لم ينافق من قبل، ومن نافق ثم جدد نفاقا ثانيا) (5) .
ثم ذكر أن الذين انخذلوا يوم أحد مع عبد الله بن أبي رأس المنافقين كانوا ثلاثمائة لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين (6) .
وهذا حال الناس اليوم، إذا ابتلوا بالمحنة ينقص إيمانهم كثيرا
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) سورة آل عمران الآية 166
(3) سورة آل عمران الآية 167
(4) سورة آل عمران الآية 167
(5) مجموع فتاوى ابن تيمية (7 / 279) .
(6) المرجع السابق.(83/183)
وينافق كثير منهم، وإذا انتصر الأعداء على المسلمين ارتدوا عن الإسلام، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - والشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ت 1285 هـ) - رحمه الله - في فتح المجيد حال من رأوه من هؤلاء الناس.
قال ابن تيمية: " وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم، إذا ابتلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان، ينقص إيمانهم كثيرا، وينافق أكثرهم أو كثير منهم، ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالبا، وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة، وإذا كانت العافية أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم، كانوا مسلمين، وهم مؤمنون بالرسل باطنا وظاهرا، لكن إيمانا لا يثبت على المحنة " (1) .
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ معلقا على كلام شيخ الإسلام: " ونحن كذلك رأينا من ذلك ما فيه عبرة عند غلبة العدو من إعانتهم العدو على المسلمين، والطعن في الدين، وإظهار العداوة والشماتة، وبذل الجهد في إطفاء نور الإسلام وذهاب أهله، وغير ذلك مما يطول ذكره والله المستعان " (2) ، ونحن كذلك رأينا في عصرنا عند غلبة أعدائنا ما فيه عبرة للمعتبرين وسنة الله ماضية إلى قيام الساعة.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (8 / 280) .
(2) فتح المجيد لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص (477) .(83/184)
المبحث الخامس: أشهر صفات المنافقين إجمالا:
المنافق في حقيقته كافر يحقد على الإسلام وأهله، ويكيد لهم، ويتمنى زوال دولتهم، وقد حذرنا الله منهم، وأخذ الحذر لا يمكن إلا بمعرفة صفاتهم لأنهم لا يعلنون كفرهم، ولكنهم يعرفون بما يجري على فلتات ألسنتهم، وما يظهر من أفعالهم، وقد فضحهم الله سبحانه في أكثر من موضع من كتابه، وذكر أوصافهم فعراهم وأخزاهم وقد كانت عامة السور المدنية يذكر فيها المنافقون (1) . وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم وصفهم وحذر منهم.
وصفات المنافقين تنقسم إلى قسمين:
أولا: صفات تظهر في زمن السلم والحرب.
ثانيا: صفات تظهر في أزمنة الحروب.
أما الصفات التي تظهر أزمنة السلم والحرب فأشهرها ما يلي:
1- الكذب.
2- إخلاف الوعد.
3- خيانة الأمانة.
4- الفجور في الخصومة.
5- موالاة الكفار، ومعاداة المؤمنين.
__________
(1) قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية انظر مجموع فتاواه (7 / 463) .(83/185)
6- الكيد للمسلمين وخداعهم.
7- الاستهزاء بالله وبرسوله وبالمؤمنين.
8- الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
9- إظهار الإصلاح والحرص على المصلحة العامة، مع الإفساد في الأرض ومحبة نشر الفاحشة والزنا بين المؤمنين، والاهتمام بقضايا تحرير المرأة ونحوها لهذا الغرض.
10- إفساد الحرث والنسل.
11- كثرة الحلف، وعامته كذب.
12- التحاكم إلى القوانين الوضعية، إلا إذا علم أن حكم الشرع معه.
13- التكاسل عن الصلاة.
14- قلة ذكر الله.
15- الاستكبار عن قبول الحق وعدم التوبة.
16- اعتدادهم بأنفسهم وازدراؤهم بالصالحين.
17- السفه وقلة العلم الشرعي.
18- البخل عن الصدقات.
19- حسن المظهر، وذلاقة اللسان، وزخرفة القول.
والصفات التي تظهر أزمنة الحروب تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- صفات تظهر قبيل الحروب. وقد أفردت لها بحثا مستقلا.
2- صفات تظهر أثناء الحروب. وهي موضوع هذا البحث.(83/186)
3- صفات تظهر بعد الحروب. وأفردت لها بحثا مستقلا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(83/187)
الفصل الثاني: صفات المنافقين أثناء الحرب
وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: الصفة الأولى الانسحاب من المعركة والرجوع.
المبحث الثاني: الصفة الثانية ظهور علامات الفرح عليهم بعد تخلفهم عن الحرب.
المبحث الثالث: الصفة الثالثة عدم المشاركة في القتال مع خروجهم مع الجيش، أو القتال قليلا.
المبحث الرابع: الصفة الرابعة السعي بالفتنة بين جنود المسلمين لا يألونهم خبالا.
المبحث الخامس: الصفة الخامسة تجريح القيادة، ونسبة ما يصيب المسلمين من سيئة لسوء تصرفها.
المبحث السادس: الصفة السادسة الخوف والجبن.
المبحث السابع: الصفة السابعة موالاة الكفار.
المبحث الأول: الصفة الأولى، الانسحاب من المعركة والرجوع:
المؤمن التقي الذي عقد قلبه على حب الله ورسوله إذا كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر جامع يجمعهم من حرب حضرت، أو صلاة(83/187)
اجتمع لها، أو تشاور في أمر هام، لا ينصرف حتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قائد المسلمين بعده، وفي هذا يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، أما المنافق فيتحين الفرص للتسلل والانسحاب لا يرجوا ثوابا ولا يخاف عقاب الله المطلع على سرائره فهو في شك من دينه، وهذه الصفة وهي الانسحاب من المعركة متأصلة في المنافقين، تظهر واضحة قبل المعركة وأثناءها، وقد ذكر الله عنهم هذه الصفة وهي الانسحاب قبيل بدء المعركة في أكثر من موضع من كتابه، فقال تعالى واصفا حالهم في معركة أحد لما انسحب عبد الله ابن سلول رأس المنافقين ومعه ثلث الجيش من أتباعه قال سبحانه: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} (2) .
وفي غزوة تبوك تخلف كثير منهم قبل المعركة
__________
(1) سورة النور الآية 62
(2) سورة آل عمران الآية 167(83/188)
قال تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (1) {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (2) {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (3) {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (4) {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} (5) {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (6) {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} (7) {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} (8) {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} (9) .
وفي سورة التوبة يقول سبحانه: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} (10) {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} (11) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 42
(2) سورة التوبة الآية 43
(3) سورة التوبة الآية 44
(4) سورة التوبة الآية 45
(5) سورة التوبة الآية 46
(6) سورة التوبة الآية 47
(7) سورة التوبة الآية 48
(8) سورة التوبة الآية 49
(9) سورة التوبة الآية 50
(10) سورة التوبة الآية 86
(11) سورة التوبة الآية 87(83/189)
وفي غزوة الخندق انسحب المنافقون ولم يشاركوا المؤمنين.
فإنه لما جاءت الأحزاب قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم حفر الخندق حول المدينة وعمل المسلمون معه في هذا العمل الشاق مع الخوف والبرد والجوع، وكان المنافقون يرجعون إلى بيوتهم بغير إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويورون بالضعيف من العمل ويتسللون مختفين يعلمون أن عملهم هذا لا يحبه الله ورسوله، قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) (2) .
يحذر الله عباده من دعاء الرسول عليهم إذا أسخطوه فإن دعاءه موجب لنزول البلاء، فليس دعاءه كدعاء غيره، ومن أسباب سخطه صلى الله عليه وسلم الانصراف عنه في الأمر الذي يجمعهم، والله يعلم حال المنافقين الذين يخرجون في تستر وخفية منه صلى الله عليه وسلم يستر بعضهم بعضا ويروغ لواذا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم وعن كتابه، وقيل يلوذ بعضهم ببعض، وقيل لواذا من الصف. وفعلهم هذا وإن خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يخفى على الله فليتق الله من يفعل ذلك أن تصيبه فتنة فيطبع الله على قلبه فلا يأمن أن يظهر الكفر بلسانه فتضرب عنقه في الدنيا، أو يصيبه
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) انظر: السيرة لابن هشام (3 / 226) ودلائل النبوة للبيهقي (3 / 409) .(83/190)
عذاب أليم في الآخرة.
وفي سورة الأحزاب يقول الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (1) {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} (2) ، وقد كان ذلك يوم الأحزاب حين ظهر النفاق، وكان المنافقون يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجوع للمدينة ويتعللون بأعذار واهية، والشاهد هنا قوله تعالى: {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} (3) أي ما يريدون إلا الفرار والهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لا يؤمنون بقضاء الله وقدره، ولا يعلمون أن الفرار لا ينفعهم، فما كتبه الله عليهم سينزل بهم لا محالة، سواء كان موتا أو قتلا، فإن من حضر أجله مات أو قتل، قال تعالى مبينا سوء عقيدتهم واعظا لهم: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (4) ، وباستقراء الآيات من كتاب الله نجد أن أعذار المنافقين حين يتخلفون عن المعركة تتلخص في الأمور الآتية:
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 12
(2) سورة الأحزاب الآية 13
(3) سورة الأحزاب الآية 13
(4) سورة الأحزاب الآية 16(83/191)
1- عدم توقع حصول قتال (1) .
2- عدم مناسبة زمن القتال ككونه شديد الحر (2) .
3- خوف الوقوع في الفتنة كالافتتان بنساء العدو مثلا (3) .
4- الضعف وعدم القدرة على القتال (4) .
5- حاجة بيوتهم إليهم لعدم وجود من يحرسها من السراق (5) .
6- الانشغال بالأهل والمال (6) .
ولأجل هذا يجب على قادة المسلمين في المعارك ألا يغيروا في حساباتهم إذا خرج معهم المنافقون بل يجب الحذر منهم والاستعداد لهم، فهم ليسوا قوة لهم، بل قوة في حساب عدوهم.
__________
(1) انظر الآية (167) من سورة آل عمران.
(2) انظر الآية (81) من سورة التوبة.
(3) انظر الآية (49) من سورة التوبة.
(4) انظر الآية (93) من سورة التوبة.
(5) انظر الآية (13) من سورة الأحزاب.
(6) انظر الآية (11) من سورة الفتح.(83/192)
المبحث الثاني: الصفة الثانية: ظهور علامات الفرح عليهم بعد تخلفهم عن الحرب:
المؤمن الذي قد استقر الإيمان في قلبه، وخالطته بشاشته، يحزن إذا فاته شيء من الخير ويتحسر على ذلك، وقصة كعب بن مالك حين(83/192)
تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك من الأمثلة على ذلك حيث ندم على تخلفه، يقول - رضي الله عنه -: «كنت إذا خرجت في الناس - بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم - فطفت فيهم، أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء (1) » ، ويقول: «فلما بلغني أنه توجه قافلا - أي راجعا - حضرني همي (2) » ، لكن المنافقين لشكهم في دينهم، وإيثارهم الدنيا على الآخرة، يفرحون إذا خرج المسلمون للجهاد ولم يخرجوا معهم، لظنهم بأنهم قد فازوا بهذا الاختيار.
قال تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} (3) .
وصف الله هؤلاء الذين تخلفوا عن غزوة تبوك التي كانت في شدة الحر وطيب الظلال والثمار، حيث فرحوا بتخلفهم عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، وجهاد أعدائه، فحساباتهم المادية تشعرهم بأنهم قد انتصروا بهذا الاختيار، فهم مسرورون، وهم في الحقيقة مخذولون خاسرون ثواب الله وجنته فكان الواجب عليهم الحزن لفوات الأجر.
__________
(1) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب المغازي (8 / 114) .
(2) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب المغازي (8 / 114) .
(3) سورة التوبة الآية 81(83/193)
وتزداد فرحة هؤلاء المنافقين إن كان النصر للكفار، لما لله في هذا من حكمة الابتلاء، يفرحون بالنجاة وبما نال المسلمين من المصيبة، قال تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} (1) ، أي إن أصابتك مصيبة من قتل أو هزيمة يقولوا قد أخذنا حذرنا بالتخلف والقعود عن القتال، ويتولوا ويدبروا وهم فرحون مسرورون بهذا التخلف (2) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 50
(2) انظر: تفسير الطبري (10 / 150) المجلد السادس وتفسير البغوي (2 / 299) .(83/194)
المبحث الثالث: الصفة الثالثة: عدم المشاركة في القتال مع خروجهم مع الجيش، أو القتال قليلا:
المنافقون الذين يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر، يريدون أن يستروا كفرهم بالخروج مع المسلمين للقتال، فقد يخرجون مع جيوشهم، كما أنهم يصلون معهم مع كسلهم وتخلفهم عن بعض الصلوات، ويصومون معهم، لكنهم بهذا الخروج لا يزيدون المؤمنين قوة لجبنهم وإفسادهم، قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (1) ، أي لو خرج فيكم أيها المؤمنون هؤلاء المنافقون لم
__________
(1) سورة التوبة الآية 47(83/194)
يزيدوكم بهذا الخروج إلا فسادا وضرا (1) .
وفي موضع آخر يقول سبحانه: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} (2) ، أي أن المنافقين من خوفهم وهلعهم يظنون الأحزاب لم ينصرفوا عن القتال، وإن كانوا قد انصرفوا، وإن يرجع الأحزاب للقتال بعد ذهابهم يتمنى المنافقون أنهم كانوا في البادية مع الأعراب، لشدة خوفهم يسألون عن أخباركم وما آل إليه أمركم، ولو كانوا فيكم أي: لو كان هؤلاء المنافقون معكم ما نفعوكم وما قاتلوا المشركين إلا تعذيرا، فيقولون: قد قاتلنا، وربما لا يكون هذا القتال إلا شيئا يسيرا كرميهم الكفار بالحجارة.
وقد ذكر ابن هشام وغيره أن رسول الله في غزوة الأحزاب ضرب الخندق على المدينة، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل المسلمون معه، فدأب فيه ودأبوا، وأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، وجعلوا يورون - أي يستترون - بالضعيف من العمل (3) .
__________
(1) انظر: تفسير الطبري (10 / 144) المجلد السادس.
(2) سورة الأحزاب الآية 20
(3) السيرة النبوية لابن هشام (3 / 266) ودلائل النبوة للبيهقي (3 / 409) .(83/195)
وذلك لأن المنافقين لا يقاتلون إيمانا واحتسابا، بل رياء وسمعة وبحثا عما يقيمون به عذرهم. وهذا دليل جنبهم وذلتهم وضعف إيمانهم.(83/196)
المبحث الرابع: الصفة الرابعة: السعي بالفتنة بين جنود المسلمين، لا يألونهم خبالا والتجسس عليهم.
الحرب النفسية من أقوى الأسلحة التي تضعف المقاتلين، ولهذا كان خروج المنافقين مع جند المسلمين ليس في صالحهم، بل هم عامل من عوامل إضعافهم، لما يفعلونه بالجند من تخذيل، وإضعاف للعزائم، وسعي بالنميمة، وتهويل للأمور، يقولون: قد جمع لكم عدوكم وفعل وفعل، أو: إنكم مهزومون وسيظهر عليكم عدوكم لا محالة، قال تعالى عنهم: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (1) {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} (2) ، وقد كان ذلك في غزوة تبوك، يقول سبحانه: لو خرج المنافقون معكم للغزو لم يزيدوكم
__________
(1) سورة التوبة الآية 47
(2) سورة التوبة الآية 48(83/196)
بخروجهم إلا فسادا، وضرا وشرا، واضطرابا بإيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين، يخوفونهم بأعدائهم ويعظمون الأمور، فيخذلونهم ويضعفون شجاعتهم، ولأسرع المنافقون في الدخول بينكم بالتفريق والإفساد وإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بالنميمة ونقل الحديث يبغونكم الفتنة: أي يطلبون لكم ما تفتتنون به يقولون: إنكم مهزومون وسيظهر عليكم عدوكم ونحو ذلك.
وقيل معنى الفتنة: العنت والشر، وقيل: الكفر. قال تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} (1) أي مطيعون لهم يستمعون كلامهم ويطيعونهم، لو صحبوكم أفسدوا عليكم بتثبيط الناس عن السير معكم، وقيل معنى سماعون: جواسيس لهم يخبرونهم بما يسمعون منكم، ومن العلماء من رجح القول الأول وهو أن معنى سماعون: مطيعون، بدليل قوله تعالى في الآية الأخرى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} (2) ، أي قابلون له، وأيد ابن القيم - رحمه الله - هذا القول فقال: " ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين، فإن المنافقين كانوا مختلطين بالمؤمنين ... ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم، فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة ولم يخالطها " (3) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 47
(2) سورة المائدة الآية 41
(3) تفسير ابن القيم ص (295) .(83/197)
والتأويل الثاني هو ما رجحه الطبري في تفسيره، فعنده أن المطيع يقال له سامع ولا تكاد تقول: هو له سماع مطيع (1) ، فيكون عنده معنى سماعون: جواسيس. ثم وصف سبحانه المنافقين بأنهم ابتغوا الفتنة من قبل أي: طلبوا صد أصحابك عن دينهم، وردهم إلى الكفر، وخذلوا الناس عنك قبل هذا اليوم كما فعلوا يوم أحد.
وقلبوا لك الأمور، أي: أجالوا في إبطال الدين الذي جئت به، بتشتيت أمرك وتخذيل الناس عنك، وإنكار ما تأتيهم به، حتى نصرك الله وظهر الإسلام وهم كارهون.
ومن الأمثلة على ما يبثونه من شر وفساد أثناء الحرب:
أ- قولهم في غزوة بدر لما رأوا قلة المسلمين وكثرة الكفار أعدائهم، وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك، قالوا: غر هؤلاء دينهم قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) ، أي غر هؤلاء الذين يقاتلون المشركين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دينهم، يريدون أن يوهنوا عزائم المقاتلين، ويضعفونهم.
__________
(1) تفسير الطبري (10 / 146) المجلد السادس.
(2) سورة الأنفال الآية 49(83/198)
ب- وفي غزوة الأحزاب لما كان المسلمون قلة محاصرين، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرهم بالنصر ويعدهم فتح بلاد فارس والروم، فقال ناس من المنافقين: كان محمد يعدنا فتح فارس والروم وقد حصرنا هاهنا حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته، قال تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (1) ولا يخفى ما في هذا القول من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والشك في نبوته وصدقه، وإذا صدر مثل هذا الكلام ممن يظهر الإسلام، ويمشي بين المسلمين الذين خرجوا لقتال أعدائهم أحدث بلبلة وفتنة بينهم.
وقد سمى الله - سبحانه وتعالى - المنافقين المرجفين في المدينة، قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} (2) ، فالذين في قلوبهم مرض: هم أهل النفاق الذين يطلبون النساء فيبتغون الزنا، والمنافقون أصناف فهؤلاء صنف منهم، مرضهم من أمر النساء.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 12
(2) سورة الأحزاب الآية 60(83/199)
والمرجفون في المدينة: هم أهل النفاق، الذين يرجفون برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، والإرجاف الكذب الذي نافقه أهل النفاق، وكانوا يقولون: أتاكم عدد وعدة، ليوقعوا في الناس الرعب. فتوعدهم الله سبحانه لئن لم ينتهوا لنحرشنك عليهم فلا يسكنون المدينة معك، ملعونين على كل حال أخذوا وقتلوا تقتيلا، إذا هم أظهروا النفاق.(83/200)
المبحث الخامس: الصفة الخامسة: تجريح القيادة، ونسبة ما يصيب المسلمين من سيئة لسوء تصرفها:
وصف الله المنافقين بأنهم قوم إذا أصابتهم حسنة من خير أو نصر أو غنيمة قالوا: هذه من عند الله، وإذا أصابتهم سيئة كالهزيمة والقتل تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: هذه من عندك يا محمد، أسأت التصرف وأسأت النظر، ما أحسنت التدبير وما أصابنا من شر فهو بسبب اتباعنا لك، وإذا كانوا يقولون هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم، فهم يقولونه لغيره من قيادات الجيوش بعده من باب أولى، وهم بهذا يلبسون على العوام، ويوهمون الناس بخلاف الواقع، ويجرحون القيادة ويحطمونها، قال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (1) ،
__________
(1) سورة النساء الآية 78(83/200)
وقد شابهوا في هذا قوم موسى - عليه السلام - قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (1) .
والمنافقون دخلوا في الإسلام ظاهرا، وإلا فهم كارهون له في نفس الأمر، ولهذا إذا أصابهم شر نسبوه إلى اتباعهم للإسلام، ولو فهموا وعقلوا لعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا بالخير والبركة والفلاح لمن آمن به واتبعه.
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأن الحسنة والسيئة والنصر والظفر والقتل والهزيمة كل ذلك من الله دون محمد صلى الله عليه وسلم ودون غيره، ولما كانت هذه المقولة من المنافقين ناشئة عن شك وريب، وعدم توكل على الله، وقلة فهم وعلم، وكثرة جهل، عيرهم سبحانه بهذا الجهل فقال: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (2) فهم لا يكادون يعلمون حقيقة ما تخبرهم به من أن كل ما أصابهم من خير أو شر فمن عند الله، ولا يصيب أحدا شيء إلا بتقديره فإن مفاتيح الأشياء بيده لا يملك غيره شيئا منها (3) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 131
(2) سورة النساء الآية 78
(3) انظر: تفسير الطبري (5 / 174) المجلد الرابع وتفسير البغوي (1 / 454) وتفسير ابن كثير (1 / 528) .(83/201)
وما أصاب هؤلاء المنافقين سببه أفعالهم وكفرهم وسوء عقيدتهم وقبح أعمالهم، وذلك بقضاء الله وقدره وحكمته وعدله، لكن المنافق يعبد الله على حرف قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (1) ، على حرف أي على شك، فإن أصابه خير وهو النصر والسعة من العيش وما يشبهه من أسباب الدنيا، اطمأن به واستقر على الإسلام، وثبت عليه، وإن أصابته فتنة وهو العذاب والمصيبة والضيق بالعيش وما يشبهه انقلب على وجهه أي: ارتد كافرا (2) ، قال الحسن البصري: هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه (3) ، والمنافق حين ينسب الهزيمة إلى القيادة يكون قد تطير وأشرك، والطيرة هي: التشاؤم بمرئي أو مسموع ولا يكون إلا في قلوب أهل الشرك والعقائد الضعيفة الذين لا يجعلون توكلهم على الله، ولا يعلمون أن للكون إلها مدبرا وأن ما أصابهم من الله وليس من قادتهم.
والتطير شرك ينافي كمال التوحيد الواجب، لأن التوحيد عبادة واستعانة، قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (4) ، كما أن
__________
(1) سورة الحج الآية 11
(2) انظر تفسير الطبري (17 / 122) المجلد العاشر.
(3) تفسير البغوي (3 / 277) .
(4) سورة الفاتحة الآية 5(83/202)
تطيرهم هذا وتشاؤمهم بقادتهم من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته (1) .
__________
(1) انظر: حاشية كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن قاسم (212) والقول المفيد لمحمد بن صالح العثيمين (2 / 93) .(83/203)
المبحث السادس: الصفة السادسة: الخوف والجبن:
المنافق لا يؤمن بالله حقيقة، فلا يقاتل في سبيله يرجو النصر أو الشهادة، بل يقاتل تعذيرا يستر كفره ليأمن من العقاب، ويطمع في الغنائم، فهو يحب الدنيا وملذاتها ويكره الموت، ولهذا كان من صفاته إذا جاءت الحرب الخوف والجبن، قال تعالى واصفا حالهم في غزوة الخندق: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (2) {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} (3) ، أي أن هؤلاء المنافقين إذا جاءت الحرب ظهرت علامات الخوف بادية على وجوههم تدور أعينهم. فهم عند الناس جبناء إذا حضر القتال هابوا الهلاك هيبة من لا يرجو ما بعده.
ثم بين سبحانه أنهم يظنون أن القبائل التي تجمعت لغزو
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 18
(2) سورة الأحزاب الآية 19
(3) سورة الأحزاب الآية 20(83/203)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم ينصرفوا، وذلك لشدة خوفهم وجبنهم، وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب: أي وإن ترجع هذه الأحزاب إليهم للقتال بعد أن ذهبوا يتمنى المنافقون لو كانوا في البادية مع الأعراب جبنا وهلعا وخوفا من القتل، يسألون عن أخباركم هل هلك محمد وأصحابه، يتمنون أن يسمعوا أخبارا بهلاك المؤمنين.(83/204)
المبحث السابع: الصفة السابعة: موالاة الكفار:
موالاة الكفار صفة متأصلة في نفوس المنافقين لا تنفك عنهم لحظة، ولو لم يكن من صفات المنافقين إلا هي لكفت لمعرفتهم، وأصل الموالاة: إظهار المودة بالأقوال والأفعال.
وهي عند العلماء: متابعة غير المسلمين، ومحبتهم، والميل إليهم، وما يتبع ذلك من نصرتهم ومصاحبتهم، ومصادقتهم، ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم (1) .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله (2) » .
__________
(1) تفسير ابن كثير (1 / 571) .
(2) رواه الطبراني في الكبير (11 / 215) والطيالسي ص (50) والحاكم في المستدرك (2 / 480) وصحح إسناده وخالفه الذهبي، ونحوه عند الإمام أحمد في مسنده (4 / 28) والحديث حسنه الألباني في الصحيحة (2 / 734) .(83/204)
والموالاة محرمة بالإجماع، ومن تولى المشركين فهو مشرك. وقد أوجب الله سبحانه معاداة الكفار وأكد إيجابها، وحرم موالاتهم وشدد فيها، حتى إنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم الشرك (1) .
ولما كان قلب المنافق مملوءا بحب الكافرين لم نجد فيه أي محبة المؤمنين إذ كيف يجتمع في قلبه حبهم وحب من يخالفهم في كثير من الأمور قال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (2) {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (3) فعلم بهذه الآية أن المنافقين هم أشد الناس ولاء للكفار وتشبها بهم.
وشيخ الإسلام ابن تيمية عندما تحدث عن الرافضة وأنهم أكثر الطوائف نفاقا ذكر أن كثيرا منهم يواد الكفار من وسط قلبه أكثر من موادته للمسلمين. ولهذا لما خرج الترك الكفار من جهة المشرق فقاتلوا المسلمين وسفكوا دماءهم، ببلاد خرسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها، كانت الرافضة معاونة لهم على قتال المسلمين،
__________
(1) بيان النجاة والفكاك لحمد بن عتيق ص (257 و 260) .
(2) سورة النساء الآية 138
(3) سورة النساء الآية 139(83/205)
ووزير بغداد المعروف بالعلقمي هو وأمثاله كانوا من أعظم الناس معاونة لهم على المسلمين، وكذلك الذين كانوا بالشام بحلب وغيرها من الرافضة كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتال المسلمين. وكذلك النصارى الذين قاتلهم المسلمون بالشام كانت الرافضة من أعظم أعوانهم. وكذلك إذا صار لليهود دولة بالعراق وغيره تكون الرافضة من أعظم أعوانهم، فهم دائما يوالون الكفار من المشركين واليهود والنصارى، ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم (1) .
ومن صور موالاة المنافقين أعداء الله الكفار أثناء الحروب:
الاستحواذ على الكفار بترك قتالهم، أو بإفشاء أسرار المؤمنين إليهم.
يتودد المنافقون إلى الكفار، ويمنون عليهم دوما بأنهم ينصرونهم
__________
(1) مختصر منهاج السنة لابن تيمية اختصره عبد الله الغنيمان (1 / 111)(83/206)
ويشاركونهم الحرب في الباطن ضد المسلمين، ويذكرونهم أنهم إذا جاءت الحرب تركوا القتال فلم يخرجوا مع المسلمين، أو انسحبوا قبل بدء القتال، وأنهم إن خرجوا مع الجند أبقوا علاقتهم وثيقة وطيدة مع الكفار حيث تدوم بينهم المراسلات يخبرونهم فيها بحال المسلمين، وقد ذكر الكلبي أن قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (1) ، نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية.
وقد ذكر الله هذه الصفة عنهم أيضا في قوله سبحانه: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (2) ، يصف الله المنافقين الذين ينتظرون بالمسلمين الدوائر فإن كان للمسلمين نصر وغنيمة قالوا: ألم نكن على دينكم فاجعلوا لنا نصيبا من الغنيمة، وإن كان
__________
(1) سورة آل عمران الآية 28
(2) سورة النساء الآية 141(83/207)
للمشركين نصيب: أي ظهور على المسلمين قالوا للكافرين: ألم نبين لكم أنا معكم على ما أنتم عليه، ألم نخبركم بعورة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ونطلعكم على سرهم ونستحوذ عليكم والاستحواذ هو الاستيلاء والغلبة: أي نحن دفعنا عنكم صولة المؤمنين بتخذيلهم عنكم، ومراسلتنا إياكم بأخبارهم فنحن ساعدناكم في الباطن يتوددون بهذا إلى الكفار ويصانعونهم كما توددوا إلى المسلمين لما غلبوا منهم يصانعون هؤلاء وهؤلاء لضعف إيمانهم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(83/208)
الخاتمة:
الحمد اله الذي أعان على إتمام هذا البحث بمنه وكرمه، وقد كان من نتائجه وتوصياته:
1- بيان خطورة النفاق، والتحذير منه.
2- أهمية أخذ العبرة من التاريخ ففيه بيان كيد هؤلاء المنافقين، وتعاونهم مع أعداء المسلمين وكثرة هذه الوقائع تدل على كثرة من يغتر بهم من المسلمين.
3- تحذير قادة المسلمين، وقادة جيوشهم في كل زمان ومكان(83/208)
من المنافقين، ولو كان من سبقنا يعلم كيد المنافقين الذي حل بهم ما قربوهم ولا تابعوهم، والحكمة تستدعي أخذ العظة من التاريخ.
4- وضوح صفات المنافقين أزمنة الحروب، وهذا من رحمة الله سبحانه، فالحاجة لمعرفتهم أزمنة الحروب تشتد ليحذر منهم تحقيقا لمصلحة البلاد والعباد.
5- على قادة جيوش المسلمين، وأفرادهم أن يعلموا أن المنافقين الخارجين معهم للقتال قوة لا يقام لها وزن، بل هي قوة لحساب أعدائهم، والخيانة متوقعة منهم.
6- أهمية تدريب جند المسلمين على مواجهة كيد المنافقين وشبهاتهم، والاستعداد لها ومحاربتها، وهذا أعظم من الاستعداد بالأسلحة المادية.
7- المنافقون يتعاونون مع جميع أعداء المسلمين وتعاونهم مع اليهود وموالاتهم أشد، وهذه من أوضح الصفات التي يعرف بها المنافقون.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(83/209)
الأحكام المتعلقة بمؤخر الصداق
للدكتورة نورة بنت عبد الله بن محمد المطلق (1)
المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3) {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) .
__________
(1) الأستاذ المساعد بكلية الشريعة قسم الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71(83/211)
أما بعد..
فإن من أهم الأسباب التي أدت إلى عزوف بعض الشباب عن الزواج غلاء المهور، وما يتبعه من تكاليف إقامة الزواج غلاء مبالغا فيه؛ حيث إن كثيرا من الشباب لا يستطيع أن يفي بجميع متطلبات هذا الزواج، وما يتبعه من تكاليف إقامته؛ لذا فقد كان من بعض الحلول أن اتجه كثير من الأزواج وأولياء الأمور إلى الاتفاق على أن يدفع الزوج جزءا من هذا الصداق معجلا، والجزء الآخر مؤخرا، ويسمى مؤخر الصداق، وهذا التأخير للصداق ليس وليد هذا العصر بل إنه قد عمل به من سابق العصور؛ فموسى عليه السلام تزوج ابنة صاحب مدين مقابل العمل عند أبيها ثماني سنين، قال الله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (1) .. الآية، فقد جعل الرعي صداقا وهو مؤجل، والنبي صلى الله عليه وسلم «زوج أحد الصحابة بما معه من القرآن (2) » ، ولا شك أن تعليم وتحفيظ الزوجة للقرآن مؤجل عن عقد النكاح.
__________
(1) سورة القصص الآية 27
(2) الحديث في صحيح البخاري مع الفتح، كتاب النكاح، باب التزويج على القرآن وبغير صداق 9 / 112 برقم (5149) وصحيح مسلم بشرح النووي كتاب النكاح باب أقل الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد 9 / 211.(83/212)
وهذا النوع من الصداق معمول به الآن في كثير من الدول العربية أكثر مما هو عندنا، وفيه مصلحة مشتركة للطرفين، ففيه للزوج تخفيف التكاليف المالية عنه، حيث يدفع جزءا منه في وقت، والآخر في وقت آخر، وفيه للزوجة ضمان حقها مستقبلا بدفع الزوج لهذا المؤخر.
ولما كانت المناداة بالعمل بالصداق المؤخر من بعض العلماء والدعاة في بلادنا، وفي البلاد الإسلامية الأخرى، أحببت أن أبحث في مسألة الصداق المؤخر، وما يتعلق بها من أحكام، فكان موضوع هذا البحث " الأحكام المتعلقة بمؤخر الصداق " وأسأل الله تعالى العون والتوفيق، وأن ينفع به العباد.(83/213)
منهج البحث:
سلكت في كتابة هذا البحث المنهج الآتي
1- عند تناول المسائل الفقهية المختلف فيها أحرر محل النزاع، وذلك بذكر محل الاتفاق، ثم أذكر أقوال أهل العلم في المسألة، وأوثق أقوال كل مذهب من المذاهب الأربعة من المراجع الأصلية له قدر الإمكان.
2- أذكر بعد كل قول أدلته، وبعد كل دليل ما نوقش به، أو ما يمكن أن يناقش به قدر الإمكان، ثم أذكر ما يظهر لي(83/213)
رجحانه من الأقوال مع بيان وجه الترجيح.
3- أعزو الآيات القرآنية الواردة في البحث إلى سورها، وذلك ببيان اسم السورة ورقم الآية.
4- أخرج الأحاديث والآثار الواردة في البحث، وذلك بذكر من أخرج الحديث أو الأثر مع ذكر الكتاب والباب، ورقم الحديث إن كان الكتاب مرقما، وإلا ذكرت الجزء والصفحة، وإذا تعدد المخرجون للحديث واختلف اللفظ بينت لمن اللفظ بقولي واللفظ لفلان. مع ذكر درجته، وهذا فيما عدا الأحاديث الواردة في الصحيحين أو أحدهما فأكتفي به.
5- أترجم للأعلام الوارد ذكرهم في البحث بتراجم مختصرة، ما عدا المشهورين؛ كالخلفاء الأربعة، والأئمة الأربعة، وغيرهم ممن شهرتهم تغني عن التعريف بهم.
6- ذكرت المعاني اللغوية والاصطلاحية للمصطلحات الفقهية الواردة في البحث.
7- ذيلت البحث بخاتمة بينت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال بحث هذا الموضوع.
8- ألحقت بالبحث فهارس للمراجع التي رجعت إليها في(83/214)
البحث، ثم ختمت بفهرس لمحتويات البحث.
خطة البحث:
اشتمل هذا البحث على مقدمة، وأحد عشر مبحثا، وخاتمة.
المقدمة: وتشتمل على خطة البحث، ومنهجه.
المبحث الأول: التعريف بمصطلحات البحث
وتحته ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف مؤخر الصداق.
المطلب الثاني: أدلة مشروعيته.
المطلب الثالث: حكم تسمية الصداق في العقد.
المبحث الثاني: أقسام الصداق بالنسبة للأجل.
المبحث الثالث: وقت وجوب الصداق المؤجل.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الوقت الذي يجب فيه الصداق.
المطلب الثاني: الأسباب الموجبة لتسليم الصداق المؤجل المطلق.
المبحث الرابع: تأجيل مهر المثل.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: بم يكون الاعتبار في تحديد مهر المثل؟(83/215)
المطلب الثاني: هل يقبل مهر المثل التأجيل أم لا؟
المبحث الخامس: امتناع المرأة من تسليم نفسها حتى تقبض الصداق المؤجل.
المبحث السادس: هبة المرأة لمؤخر الصداق.
المبحث السابع: الإبراء من مؤخر الصداق والمصالحة على الحط منه.
المبحث الثامن: زكاة مؤخر الصداق.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: بيان ما إذا كان مؤخر الصداق يؤثر في وجوب الزكاة في مال الزوج أم لا.
المطلب الثاني: هل تجب الزكاة في مؤخر الصداق؟
المبحث التاسع: المخالعة بمؤخر الصداق.
المبحث العاشر: تعجيل الصداق المؤخر في مقابل التنازل عن بعضه.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في تعجيل الدين المؤجل في مقابل التنازل عن بعضه.
المطلب الثاني: في تعجيل مؤخر الصداق في مقابل(83/216)
التنازل عن بعضه.
أما الخاتمة: فأذكر فيها أهم النتائج التي توصلت إليها.
هذا، وأشكر الله تعالى أولا وآخرا على إتمام هذا البحث، وأسأله أن يغفر لي ما حصل مني فيه من التقصير والزلل؛ إنه سبحانه غفور رحيم، جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(83/217)
المبحث الأول: التعريف بمصطلحات البحث:
وتحته ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف مؤخر الصداق:
يتكون هذا المركب من كلمتين، الأولى: كلمة مؤخر، والثانية: كلمة صداق، وسوف نتحدث أولا عن معنى المؤخر لغة واصطلاحا.
فالمؤخر في اللغة يطلق ويراد به: ضد المقدم، يقال: مؤخر الشيء بالتشديد: ضد مقدمه (1) .
واصطلاحا هو: المدة المستقبلية التي يضاف إليها دفع الصداق أو الثمن، سواء حددت بوقت معين، أو أطلقت، وسواء كانت باشتراط
__________
(1) مختار الصحاح ص 5 مادة (أخ ر) .(83/217)
أحد الطرفين أو كليهما.
والصداق في اللغة:
الصداق بفتح الصاد وكسرها: مهر المرأة، وكذا الصدقة بضم الدال، ومنه قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (1) الآية. وأصدق المرأة سمى لها صداقا (2) ، والصداق مأخوذ من الصدق - بفتح الصاد - اسم للشديد الصلب، فكأنه أشد الأعواض لزوما من جهة عدم سقوطه بالتراضي. وقيل: بكسرها مأخوذ من الصدق؛ لإشعاره بصدق رغبة الزوج في زوجه (3) ، وجمعه أصدقة، وصدق (4) .
وقيل سمي الصداق بذلك؛ لإشعاره بصدق رغبة باذله في النكاح الذي هو الأصل في إيجاب المهر (5) .
__________
(1) سورة النساء الآية 4
(2) مختار الصحاح ص 151 مادة (ص د ق) أنيس الفقهاء ص: 150.
(3) لسان العرب 10 / 197، مادة (ص د ق) منح الجليل: 3 / 415.
(4) معجم لغة الفقهاء ص: 272.
(5) مغني المحتاج: 4 / 366 نهاية المحتاج: 6 / 335.(83/218)
ثانيا: في الاصطلاح:
عند الحنفية: المال الواجب في عقد النكاح على الزوج في مقابلة منافع البضع إما بالتسمية أو العقد (1) .
وعند المالكية: ما يعطى للزوجة في مقابلة الاستمتاع بها (2) .
وعند الشافعية: أنه ما وجب بنكاح أو وطء أو تفويت بضع قهرا كرضاع، ورجوع شهود (3) .
وعند الحنابلة: أنه العوض في النكاح سواء سمي في العقد أو فرض بعده، بتراضيهما أو الحاكم، ونحوه؛ كوطء الشبهة، والزنا بأمة، أو مكرهة (4) .
وللصداق أسماء متعددة، منها: المهر، والنحلة، والفريضة، والعلائق (5) .
قال الكاكي: وللمهر سبعة أسماء في القرآن: أحدها:
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار: 4 / 230.
(2) الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي عليه: 2 / 293 منح الجليل: 3 / 415.
(3) نهاية المحتاج: 6 / 334 مغني المحتاج: 4 / 366.
(4) كشاف القناع: 5 / 128.
(5) شرح الزركشي على مختصر الخرقي 5 / 277.(83/219)
الصداق، والثاني: النحلة، قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (1) ، والثالث: الأجر، قال الله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (2) ، الرابع: الفريضة، قال الله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} (3) ، الخامس: المهر، قال صلى الله عليه وسلم: «فإن مسها فلها المهر بما استحل (4) » ، السادس: العليقة، قال عليه الصلاة والسلام: «أدوا العلائق، قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما العلائق؟ قال: ما تراضى به الأهلون (5) » ، والسابع: العقر، قال
__________
(1) سورة النساء الآية 4
(2) سورة النساء الآية 25
(3) سورة البقرة الآية 237
(4) ذكره ابن حجر في التلخيص الحبير: 3 / 156 كتاب أركان النكاح حديث رقم (1504) من رواية عائشة رضي الله عنها وقد ذكر أنه أخرجه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو عوانة وابن حبان والحاكم من طريق ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عنها قال: (وأعل بالإرسال، قال الترمذي: حديث حسن.) .
(5) أخرجه الدارقطني في سننه كتاب النكاح باب المهر: 3 / 244 والبيهقي في سننه كتاب الصداق باب ما يجوز أن يكون مهرا: 7 / 239 وسعيد بن منصور في سننه باب ما جاء في الصداق: 1 / 170 وذكره ابن حجر في التلخيص الحبير 3 / 190 كتاب الصداق حديث رقم (1550) وقال: (إسناده ضعيف جدا فإنه من رواية محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عنه واختلف فيه فقيل عن ابن عمر أخرجه الدارقطني أيضا والطبراني ورواه أبو داود في المراسيل من طريق عبد الملك بن المغيرة الطائفي عن عبد الرحمن البيلماني مرسلا حكى عبد الحق أن المرسل أصح ورواه الدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري وإسناده ضعيف أيضا وأخرجه البيهقي من حديث عمر بإسناد ضعيف أيضا) .(83/220)
عليه السلام: «لها عقر نسائها (1) » انتهى.
ومن أسمائه أيضا: حباء، والحباء هو: العطاء (2) ، قال الإمام مالك في المرأة ينكحها أبوها ويشترط في صداقها الحباء يحبى به (3) ، ويسمى نكاحا، قال الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} (4) الآية،
__________
(1) هذا ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم وإنما من قول عمر رضي الله عنه ذكره ابن حجر في تلخيص الحبير 3 / 192 كتاب الصداق حديث رقم (1554) وقال: حديث عمر أنه قال: فيها عقر نسائها لم أجده ولكن تقدم في باب الخيار قول عمر فيمن تزوج امرأة بها جنون أو جذام أو برص فمسها فلها صداقها وذلك لزوجها غرم على وليها فيمكن أن يكون ورد عنه بلفظ: لها عقر نسائها وأن العقر هو الصداق أو لمن وطئت بشبهة.
(2) مختار الصحاح ص: 52 مادة (ح ب ا) .
(3) المنتقى شرح الموطأ: 3 / 283.
(4) سورة النور الآية 33(83/221)
ويسمى خرسا.
وقد نظم بعض الفقهاء أسماء المهر في بيتين هما:
أسماء مهر مع ثلاثة عشر ... مهر صداق طول خرس أجر
عطية حباء علائق نحلة ... فريضة نكاح صدقة عقر(83/222)
المطلب الثاني: أدلة مشروعيته.
الأصل في الصداق: الكتاب الكريم، والسنة الشريفة، والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (1) الآية. وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي أراد أن يتزوج وليس معه شيء: «انظر ولو خاتما من حديد (2) » متفق عليه.
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على مشروعية الصداق
__________
(1) سورة النساء الآية 4
(2) أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح كتاب النكاح باب التزويج على القرآن وبغير صداق: 9 / 112 برقم (5149) وباب المهر بالعروض وخاتم من حديد بلفظ تزوج ولو بخاتم من حديد: 9 / 124 برقم (5150) وأخرجه مسلم في صحيحه بشرح النووي كتاب النكاح باب أقل الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد 9 / 213 واللفظ له.(83/222)
في النكاح (1) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 10 / 97.(83/223)
المطلب الثالث: حكم تسمية الصداق في العقد:
يستحب أن يعقد النكاح بصداق مسمى قبل العقد لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج وزوج بناته بصداق، ولأنه أقطع للنزاع والخصومة فيها، والصداق شرط من شروط صحة النكاح، وهذا متفق عليه بين الفقهاء، وإذا تواطأ الزوجان، أو الزوج وولي المرأة على إسقاطه فإنه يبطل النكاح، قال القرطبي رحمه الله عند قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (1) : (هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه؛ إلا ما روي عن بعض أهل العلم
__________
(1) سورة النساء الآية 4(83/223)
من أهل العراق أن السيد إذا زوج عبده من أمته أنه لا يجب فيه صداق، وليس بشيء؛ لقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (1) فعم. وقال: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) الآية (3) .
والصداق لا يشترط تسميته عند العقد، بل يجوز العقد بدونه، لقول الله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (4) الآية.
فأثبت الطلاق مع عدم الفرض (5) .
فيصح النكاح بلا تسمية المهر للآية السابقة، والتي تليها؛ فهما واضحتان في صحة العقد من غير ذكر للصداق، وانعقد الإجماع على ذلك، وإذا عقد بغير تسمية المهر فإن للمرأة مهر مثلها لا وكس ولا شطط إن دخل بها أو مات عنها (6) .
__________
(1) سورة النساء الآية 4
(2) سورة النساء الآية 25
(3) الجامع لأحكام القرآن: 5 / 17.
(4) سورة البقرة الآية 236
(5) المهذب: 4 / 194 الكافي لابن قدامة: 3 / 84.
(6) المبسوط 5 / 62 البناية شرح الهداية 4 / 647، المهذب 4 / 194 المغني 10 / 98.(83/224)
وإن طلقها قبل المس ولم يكن فرض لها صداقا وجب لها المتعة بالمعروف. وإن طلقها قبل المس، وكان قد فرض لها صداقا فلها نصف الصداق. قال الله عز وجل: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (1) {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 236
(2) سورة البقرة الآية 237(83/225)
المبحث الثاني: أقسام الصداق بالنسبة للأجل:
ينقسم الصداق بالنسبة للأجل إلى قسمين معجل ومؤجل، وبما أن الصداق حق للمرأة وحدها فإنه يستحب دفعه كله معجلا عند العقد، ويجوز تأخيره كله، ويصح أن يكون بعضه معجلا وبعضه مؤجلا، على حسب ما يتم الاتفاق عليه عند عقد الزواج وهذا باتفاق الفقهاء.(83/225)
وذلك لأن الصداق عوض في معاوضة فجاز ذلك فيه كالثمن (1) ، وهو عقد على منفعة فجاز بما ذكرنا كالإجارة (2) . ويرى المالكية استحباب تقديم شيء من المهر المؤجل قبل الدخول بالزوجة ولا يشترطونه (3) .
وأما شيخ الإسلام فقد مال إلى كراهة التأجيل (4) ، واستنبط ذلك من قصة الرجل الذي قال: لم أجد إلا إزاري، ولم يجد ولو خاتما من حديد، فزوجه النبي صلى الله عليه وسلم بما معه من القرآن، وكان من الممكن أن يؤجل الصداق، ولقوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (5) الآية، وقد يستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم (6) » ،
__________
(1) المغني: 10 / 115، الكافي: 3 / 91، الشرح الكبير لابن قدامة: 21 / 127.
(2) المهذب: 4 / 196، تكملة المجموع: 16 / 328.
(3) المنتقى شرح الموطأ: 3 / 277، الشرح الصغير للدردير: 1 / 410، منح الجليل: 3 / 421، 422.
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 32 / 194 - 195.
(5) سورة النور الآية 33
(6) أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح، كتاب النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، 9 / 8 برقم (5065) واللفظ له، ومسلم في صحيحه بشرح النووي، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة: 9 / 172.(83/226)
وهذا الحديث ليس قوي الدلالة؛ إذ قد يقول قائل: إن قوله: (من استطاع) يعم المعجل والمؤجل، وقال الشيخ ابن عثيمين: لكن لا شك أنه إذا أمكن الزواج بدون تأجيل فهو الأفضل، لا ريب في هذا؛ لأن إلزام الإنسان نفسه بالدين ليس بالأمر الهين (1) .
وإذا ذكر الزوج أو المرأة أو وليها الصداق وفرضه وأطلق اللفظ اقتضى الحلول (2) ؛ لأن الأصل عدم الأجل (3) .
وتأجيل الصداق له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: التأجيل إلى وقت محدد. وقد اتفق الفقهاء على صحة الأجل فيما يقبل التأجيل إذا كان الأجل معلوما، لأن عقد
__________
(1) الشرح الممتع 12 / 271.
(2) منح الجليل: 3 / 419 الشرح الكبير لابن قدامة: 21 / 127، الإنصاف: 21 / 127، كشاف القناع: 5 / 134.
(3) كشاف القناع: 5 / 134.(83/227)
النكاح عقد معاوضة فجاز ذلك فيه كالثمن (1) .
الحالة الثانية: التأجيل إلى وقت وزمن مجهول:
إذا كانت الجهالة متقاربة كالحصاد والدياس ونحوه فهو كالمعلوم الصحيح، فيصح إلى أجله. وهذا عند الحنفية (2) ، والمالكية (3) ، والحنابلة (4) ، وإن كانت الجهالة متفاحشة كإلى هبوب الريح، ومجيء المطر، ونحوه مما لا يعلم له وقت، لم يصح للجهالة، فيبطل الأجل، ويجب المهر حالا. وهذا عند الحنفية (5) ، والمالكية (6) ، والحنابلة (7) ؛ لأن جهالة الأجل تفضي إلى المنازعة في التسلم والتسليم، فهذا يطالبه في قريب المدة، وذاك في بعيدها، وكل ما
__________
(1) انظر: كشاف القناع: 5 / 134.
(2) بدائع الصنائع: 2 / 288، رد المحتار على الدر المختار: 4 / 291.
(3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي عليه: 2 / 297.
(4) المغني لابن قدامة: 10 / 115 الشرح الكبير لابن قدامة: 21 / 128.
(5) بدائع الصنائع: 2 / 288، رد المحتار على الدر المختار: 4 / 291.
(6) الشرح الصغير للدردير: 1 / 414، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 2 / 297.
(7) المغني لابن قدامة: 10 / 115 الشرح الكبير لابن قدامة: 21 / 128 كشاف القناع: 4 / 135.(83/228)
يفضي إلى المنازعة يجب إغلاق بابه، ولأنه سيؤدي إلى عدم الوفاء بالعقود، وقد أمرنا بالوفاء بها (1) .
وعند الشافعية تفسد التسمية في التأجيل إلى زمن مجهول، ويجب لها مهر المثل؛ لأنه عوض مجهول المحل ففسد كالثمن في البيع (2) .
وإنما صح الأجل المطلق دون المجهول؛ لأن أجل المطلق الفرقة - طلاق أو فسخ أو موت - بحكم العادة، وقد صرفه هاهنا عن العادة بذكر الأجل ولم يبينه فبقي مجهولا (3) .
الحالة الثالثة: التأجيل مطلقا:
إذا اشترط الزوج تأجيل الصداق ولم يذكر وقتا محددا، فقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في صحة ذلك، ووقت حلوله، على أقوال:
القول الأول: إنه يصح الأجل، ومحله الفرقة بطلاق أو فسخ أو موت، وإليه ذهب بعض الحنفية، وروي عن أبي يوسف ما يؤيده (4) ،
__________
(1) الموسوعة الفقهية: 2 / 33.
(2) الإشراف على مذاهب أهل العلم 1 / 42، نهاية المحتاج: 6 / 336.
(3) المغني لابن قدامة: 10 / 115 - 116، الشرح الكبير لابن قدامة: 21 / 128، كشاف القناع: 4 / 135.
(4) رد المحتار: 4 / 291، بدائع الصنائع: 2 / 288.(83/229)
وبعض المالكية (1) ، وهذا رواية عن أحمد؛ حيث قال: إذا تزوج على العاجل والآجل لا يحل إلا بموت أو فرقة، وقال به القاضي أبو يعلى وعليه أكثر الأصحاب، وبه قال النخعي
__________
(1) بداية المجتهد: 2 / 39، منح الجليل: 3 / 422.(83/230)
والشعبي (1) ، وهو الصحيح (2) ، والمذهب (3) ، وهو من مفردات المذهب (4) ورجحه الشيخ ابن عثيمين (5) .
دليل هذا القول: أن كل لفظ مطلق يحمل على العرف والعادة، والعرف في الصداق المؤجل ترك المطالبة به إلى حين الفرقة فحمل عليه، فيصير حينئذ معلوما بذلك (6) .
القول الثاني: يبطل الأجل ويكون حالا، وإليه ذهب بعض الحنفية (7) ،
__________
(1) الإشراف على مذاهب أهل العلم: 1 / 41 مصنف ابن أبي شيبة: 4 / 160.
(2) الإنصاف: 21 / 127.
(3) الإنصاف: 21 / 129.
(4) الإنصاف: 21 / 129.
(5) الشرح الممتع: 12 / 273.
(6) الشرح الكبير لابن قدامة 21 / 128.
(7) بدائع الصنائع 2 / 288 شرح فتح القدير 2 / 473.(83/231)
ورواية عن أحمد وبه قال الحسن وحماد بن أبي سليمان، والثوري(83/232)
وأبو عبيد. .
ولم أعثر لهم على أدلة تعضد ما ذهبوا إليه.
القول الثالث: يبطل الأجل والمهر فاسد، ولها مهر المثل، وإليه ذهب الشافعي (1) ، وراية عن أحمد (2) ، وبها قال أبو الخطاب
__________
(1) الإشراف على مذاهب أهل العلم 1 / 38، 42 نهاية المحتاج 6 / 336، مغني المحتاج 4 / 400.
(2) المغني 10 / 115 الشرح الكبير 21 / 128، الكافي 3 / 92 الفروع 8 / 320 الإنصاف 21 / 128.(83/233)
من الحنابلة (1) .
دليل هذا القول: أن المهر المؤجل دون ذكر وقته عوض مجهول المحل ففسد كالثمن في البيع (2) .
ويمكن أن يجاب على هذا الاستدلال: أن عدم إطلاق الأجل لا يقتضي الفساد؛ بل ينصرف اللفظ إلى ما يجري به العرف، والعرف ينصرف إلى الفرقة، والقاعدة الفقهية: أن المعروف عرفا كالمشروط شرطا (3) .
القول الرابع: يصح الأجل، ولا يحل حتى يطلق أو يخرج من مصرها، أو يتزوج عليها، وبه قال إياس بن معاوية (4) .
__________
(1) المغني 10 / 115 الشرح الكبير 21 / 128، المقنع 21 / 127، الإنصاف 21 / 128.
(2) المغني 10 / 115، الكافي 3 / 92 الشرح الكبير 21 / 128، كشاف القناع 5 / 134 - 135.
(3) شرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقاء القاعدة الثانية، والأربعون ص 237.
(4) الإشراف على مذاهب أهل العلم 1 / 42، المغني 10 / 115 الشرح الكبير 21 / 127.(83/234)
ولم أعثر لهم على أدلة تعضد ما ذهبوا إليه.
القول الخامس: يصح الأجل ويحل بعد سنة من الدخول بها، وبه قال مكحول والأوزاعي (1) .
ولم أعثر لهم على أدلة تعضد ما ذهبوا إليه.
الراجح ووجه الترجيح:
بالنظر إلى الأقوال السابقة نجد خلو أكثرها من الأدلة، ولعل الراجح - والله أعلم - القول الأول، وهو صحة الأجل وحلول
__________
(1) الإشراف على مذاهب أهل العلم 1 / 42، المغني 10 / 115 الشرح الكبير 21 / 128.(83/235)
المهر بالفرقة؛ لوجاهة ما عللوا به، وللإجابة عما استدل به أصحاب القول الثالث.(83/236)
المبحث الثالث: وقت وجوب الصداق المؤجل:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الوقت الذي يجب فيه الصداق:
اتفق العلماء على أن الصداق المعجل يجب كله بالدخول أو الموت. أما وجوبه كله بالدخول فلقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (1) ... الآية، وأما وجوبه بالموت فلانعقاد الإجماع على ذلك (2) ومستنده حديث بروع بنت واشق؛ فقد سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا، ولم يدخل بها حتى مات؛ فقال ابن مسعود: لها مثل صداق نسائها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا مثل ما قضيت، ففرح بها ابن مسعود.
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) بداية المجتهد 2 / 40.(83/236)
فعند الحنفية: " وأما بيان ما يتأكد به المهر، فالمهر يتأكد بأحد معان ثلاثة: الدخول، والخلوة الصحيحة، وموت أحد الزوجين، سواء كان مسمى، أو مهر المثل " (1) .
وعند المالكية: " ومما يتقرر به الصداق المسمى على الزوج الموت لأحد الزوجين، أو لهما معا قبل الدخول، ولو غير بالغ وهي غير مطيقة " (2) .
وعند الشافعية: " ويستقر الصداق بالوطء في الفرج..... ويستقر بالموت قبل الدخول " (3) .
وقالوا أيضا: " والقسم الثاني: أن يطلقها بعد الدخول بوطء تام تغيب به الحشفة؛ فقد استقر لها جميع المهر الذي كانت مالكة له بالعقد " (4) .
وعند الحنابلة: " ويقرر الصداق المسمى وهو المهر كاملا حرة
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 291.
(2) الخرشي على مختصر خليل 3 / 260، وانظر: حاشية العدوي 3 / 260 منح الجليل 3 / 432.
(3) المهذب 4 / 202.
(4) الحاوي الكبير 12 / 173.(83/238)
كانت الزوجة أو أمة موت، وقتل كالدخول " (1) . " أن الرجل إذا خلا بامرأته بعد العقد الصحيح استقر عليه مهرها، ووجبت عليها العدة وإن لم يطأ " (2) .
وقالوا أيضا: " فإن استمتع بامرأته بمباشرة فيما دون الفرج، من غير خلوة كالقبلة ونحوها؛ فالمنصوص عن أحمد أنه يكمل به الصداق، فإنه قال: إذا أخذ فمسها وقبض عليها من غير أن يخلو بها، لها الصداق كاملا إذا نال منها شيئا لا يحل لغيره، وقال في رواية منها: إذا تزوج امرأة ونظر إليها وهي عريانة تغتسل أوجب عليه المهر، ورواه عنه إبراهيم: إذا اطلع منها على ما يحرم على غيره فعليه المهر " (3) .
__________
(1) المغني 10 / 153.
(2) المغني 10 / 157.
(3) كشاف القناع 5 / 150.(83/239)
المطلب الثاني: الأسباب الموجبة لتسليم الصداق المؤجل المطلق:
مما سبق يتبين لنا أنه يجب الصداق المؤجل تأجيلا مطلقا للمرأة في ثلاث حالات:
الحالة الأولى: عند الطلاق والفسخ؛ فإذا طلق الزوج زوجته(83/239)
طلاقا بائنا، أو فسخ النكاح، أو طلقها طلاقا رجعيا وانتهت عدتها، وجب لها المؤخر من صداقها.
الحالة الثانية: عند وفاة الزوج؛ فإذا مات زوجها وجب لها المؤخر من الصداق، ويخرج من التركة، وهو مقدم على حق الورثة؛ فتستوفيه الزوجة من تركة زوجها قبل توزيعها على الورثة.
الحالة الثالثة: عند وفاة الزوجة؛ فإذا ماتت ولها صداق مؤخر، فإنه يضم إلى مالها ويوزع على ورثتها.
جاء في البناية شرح الهداية: " وإذا مات الزوجان وقد سمى لها مهرا، فلورثتها أن يأخذوا ذلك المسمى من ميراث الزوج، إنما يأخذ الورثة جميع المسمى من ميراث الزوج إذا ماتا معا، أو لم يعلم سبق أحدهما، أو علم أن الزوج مات أولا؛ لأن المسمى دين في الذمة، وقد تقرر بالموت، وإن علم أن المرأة ماتت أولا يسقط من المهر قدر نصيب الزوج من التركة؛ لأنه ورث دينا على نفسه " (1) .
وأما إذا كان الصداق المؤجل مقيدا بزمن معلوم، فإنه يجب بحلول الأجل.
سئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله: هل يصح
__________
(1) 4 / 731.(83/240)
تأجيل صداق المرأة؟ فأجاب: " الصداق المؤجل جائز ولا بأس به، لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) الآية والوفاء بالعقد يشمل الوفاء به وبما شرط فيه، فإذا اشترط الرجل تأجيل الصداق أو بعضه فلا بأس، ولكن يحل إن كان قد عين له أجلا معلوما فيحل بهذا الأجل، وإن لم يؤجل فيحل بالفرقة بطلاق أو فسخ أو موت ".
__________
(1) سورة المائدة الآية 1(83/241)
المبحث الرابع: تأجيل مهر المثل:
فيه مطلبان:
المطلب الأول: بم يكون الاعتبار في تحديد مهر المثل؟
يرى الحنفية أنه يعتبر مهر المثل للمرأة بمهر مثل نسائها من أخواتها لأبيها وأمها، أو لأبيها، وعماتها، وبنات أعمامها، في بلدها، وعصرها، على مالها، وجمالها، وسنها، وعقلها، ودينها (1) .
ويرى المالكية: أنه يزيد وينقص بحسب المعاني المقصودة
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 287.(83/241)
وهي المال، والحسب، والجمال، والدين، والعقل، والتساوي في الأزمنة والبلاد، ولا يقتصر ذلك على الحسب دون غيره. ووجه آخر عندهم أنه صلى الله عليه وسلم حض على ذات الدين، فوجب أن يكون الاعتبار بهذه الصفات أولى.
ودليل الأول من جهة القياس أن هذه زوجة فوجب أن يعتبر في مهر مثلها من كان على مثل حالها، وإن لم تكن من قومها كالتي لا عشيرة لها (1) .
وعند الشافعية: " ويعتبر بمهر من هي على صفتها في الحسن، والعقل، والعفة، واليسار، ولأنه قيمة متلف فاعتبر فيها الصفات التي يختلف بها العوض، والمهر يختلف بهذه الصفات ويجب من نقد البلد كقيم المتلفات " (2) .
وعند الحنابلة: " يعتبر بمن يساويها في صفاتها من سنها، وبلدها، وعقلها، وعفتها، وجمالها، ويسارها، وبكارتها، وثيوبتها " (3) .
ويقول شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: " ولا يقال مهر المثل بدل متلف فوجب أن لا يختلف كسائر المتلفات؛ لأن النكاح يخالف سائر المتلفات باعتبار أن المقصود منه أعيان
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ 3 / 282.
(2) المهذب 4 / 213.
(3) الكافي لابن قدامة 3 / 106.(83/242)
الزوجين، بخلاف بقية المتلفات، فإن المقصود منها المالية خاصة، فكذلك لم تختلف باختلاف العوائد " (1) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 160.(83/243)
المطلب الثاني: هل يقبل مهر المثل التأجيل؟
إذا ثبت مهر المثل للمرأة فهل يقبل التأجيل؟
نقول: لا يجب مهر المثل - لمن مهرها حال أو معجل - إلا حالا، فلا مدخل للتأجيل فيه، لأنه بدل متلف فأشبه قيم المتلفات، فإن كانت عادة نسائها تأجيل المهر ففيه قولان:
القول الأول: يفرض مؤجلا وهذا وجه عند الشافعية (1) ، والمذهب عند الحنابلة (2) .
تعليلهم: لأن مهر مثلها مؤجل (3) .
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 353.
(2) المغني 10 / 152، الكافي 3 / 106 كشاف القناع 5 / 160.
(3) المغني 10 / 152، الكافي 3 / 106 منتهى الإرادات 4 / 161 كشاف القناع 5 / 160.(83/243)
القول الثاني: يفرض حالا. وهو قول الشافعية (1) ، ووجه عند الحنابلة (2) .
تعليلهم: لأنه بدل متلف فأشبه قيم المتلفات (3) .
الراجح ووجه الترجيح:
يترجح - والله أعلم بالصواب - القول الأول، وهو: أن مهر المثل يفرض مؤجلا؛ لأننا إذا رجعنا في مقدار الصداق إلى صداق مثلها ونسائها فإننا نرجع إليه في الحلول والتأجيل؛ إذ لا فرق بين الحالين.
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 350، 353.
(2) المغني 10 / 152، الكافي 3 / 106، كشاف القناع 5 / 160.
(3) تكملة المجموع 16 / 377 المغني 10 / 151.(83/244)
المبحث الخامس: امتناع المرأة من تسليم نفسها حتى تقبض الصداق المؤجل:
إذا طالبت المرأة بالصداق (المعجل أو الحال) فإنه يجب على الزوج تسليمه أولا؛ لأن حق الزوج في المرأة متعين، وحق المرأة في الصداق لم يتعين بالعقد، وإنما يتعين بالقبض؛ فوجب على الزوج التسليم عند المطالبة؛ ليتعين كما في البيع (1) .
وللمرأة قبل دخول الزوج بها أن تمنع الزوج عن الدخول حتى
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 288 الحاوي الكبير 12 / 162.(83/244)
يعطيها جميع المهر (المعجل أو الحال) ثم تسلم نفسها إليه، حتى وإن انتقلت إلى بيته، وذلك لما يلي:
أولا: " لأن بتسلمها مهرها كاملا يتعين حقها؛ فيكون تسليم بتسليم " (1) .
ثانيا: " لأن المهر عوض عن بضعها كالثمن عوض عن المبيع، وللبائع حق حبس المبيع لاستيفاء الثمن، فكان للمرأة حق حبس نفسها لاستيفاء المهر " (2) .
وإذا اتفق الزوجان على التأجيل، أو ذكر الزوج وقتا معلوما للمهر؛ ورضيت الزوجة؛ فهل يحق لها أن تمنع نفسها حتى تستلم المهر كاملا؟
لا تخلو هذه المسألة من أربع حالات:
الحالة الأولى: أن يشترط الزوج الدخول.
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 288.
(2) بدائع الصنائع 2 / 288، وانظر: منح الجليل 3 / 424.(83/245)
إذا شرط الزوج الدخول قبل حلول الأجل ورضيت المرأة فليس لها الامتناع عن تسليم نفسها اتفاقا (1) .
الحالة الثانية: أن لا يشترط الزوج ذلك ويكون المهر بعضه مؤجل وبعضه حال.
إذا كان بعض المهر معجلا وبعضه مؤجلا فليس للمرأة أن تمنع نفسها إذا قبضت المعجل، وهذا بالإجماع. لأن الدخول عند أداء المعجل مشروط عرفا فصار كالمشروط نصا (2) ، ولأنه لو كان المهر كله مؤجلا لكان للزوج أن يدخل بها، فإذا كان البعض معجلا وأعطاها ذلك كان أولى (3) .
الحالة الثالثة: أن لا يشترط الزوج ذلك ويكون المهر كله مؤجلا.
فإذا أجل الزوج المهر وحدد له وقتا، ولم يشترط الدخول، فقد اختلف الفقهاء في منع المرأة نفسها حتى تستلم المهر على قولين:
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 4 / 292.
(2) رد المحتار على الدر المختار 4 / 292.
(3) رد المحتار على الدر المختار 4 / 292 بدائع الصنائع 2 / 289.(83/246)
القول الأول: ليس للمرأة أن تمنع نفسها. وهذا قول أبي حنيفة، ومحمد (1) ، ومالك (2) ، والشافعي (3) ، وإليه ذهب الحنابلة (4) ، ورجحه ابن عثيمين (5) .
أدلة هذا القول:
أولا: " أن المرأة بالتأجيل رضيت بإسقاط حق نفسها، فلا يسقط حق الزوج، كالبائع إذا أجل الثمن أنه يسقط حق حبس المبيع " (6) .
ثانيا: أن رضاها بتأجيله رضى بتسليم نفسها قبل قبضه، كالثمن
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 288.
(2) التلقين 1 / 294 الشرح الصغير للدردير 1 / 411.
(3) الحاوي الكبير 12 / 163 مغني المحتاج 4 / 371 نهاية المحتاج 6 / 338.
(4) المغني 10 / 171 الكافي لابن قدامة 3 / 95.
(5) الشرح الممتع 12 / 314-315.
(6) بدائع الصنائع 2 / 289، وانظر: البناية شرح الهداية 4 / 720 الحاوي الكبير 12 / 163.(83/247)
المؤجل في البيع لا يمنع من تسلم المبيع (1) .
القول الثاني: للمرأة أن تمنع نفسها سواء كانت المدة طويلة أو قصيرة، وهذا قول أبي يوسف، وبعض الحنفية (2) .
أدلة هذا القول:
أولا: أن ملك البضع لا يعرى عن ملك البدل (3) .
ثانيا: " أن من حكم المهر أن يتقدم تسليمه على تسليم النفس بكل حال، ألا ترى أنه لو كان معينا أو غير معين وجب تقديمه، فلما قبل الزوج التأجيل كان رضا بتأخير حقه في القبض " (4) .
يمكن أن يناقش هذا الدليل: بالقياس على البائع إذا أجل الثمن فلا يحق له حبس المبيع.
__________
(1) المغني 10 / 171 الكافي لابن قدامة 3 / 95.
(2) رد المحتار على الدر المختار 4 / 292.
(3) البناية شرح الهداية 4 / 720.
(4) بدائع الصنائع 2 / 288 - 289.(83/248)
أجيب عنه:
بأن القياس على البائع إذا أجل الثمن قياس مع الفارق، لأن " البائع إذا أجل الثمن ليس له أن يحبس المبيع، ويبطل حقه في الحبس بتأجيل الثمن؛ لأنه ليس من حكم الثمن تقديم تسليمه على تسليم المبيع، ألا ترى أن الثمن إذا كان عينا يسلمان معا فلم يكن قبول المشتري التأجيل رضا منه بإسقاط حقه في القبض " (1) .
ثالثا: أن في تأجيل المهر كاملا الدخول على الزوجة غير مشروط لا عرفا ولا نصا، فلم يكن له ذلك (2) .
الراجح ووجه الترجيح:
يترجح - والله أعلم بالصواب - القول الأول وهو: أنه ليس للمرأة أن تمنع نفسها بعد رضاها بتأجيل المهر؛ لقوة أدلته، وللإجابة عما استدل به أصحاب القول الثاني.
الحالة الرابعة: إذا كان المهر مؤجلا أجلا معلوما وحل الأجل قبل تسليم نفسها، فهل لها أن تمنع نفسها؟ على قولين:
القول الأول: لها أن تمنع نفسها. وهذا على أصل أبي يوسف (3) ، وقول عند الشافعية (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 289.
(2) رد المحتار على الدر المختار 4 / 292.
(3) بدائع الصنائع 2 / 289.
(4) مغني المحتاج 4 / 371 نهاية المحتاج 6 / 338.(83/249)
دليل هذا القول:
أن لها أن تمنع نفسها قبل حلول الأجل فبعده أولى (1) .
القول الثاني: ليس لها منع نفسها. وهذا على أصل أبي حنيفة ومحمد (2) ، والأصح عند الشافعية والمعتمد (3) ، وإليه ذهب الحنابلة (4) .
أدلة هذا القول:
أولا: أن التسليم قد وجب عليها واستقر قبل حلول الأجل فلم يكن لها أن تمنع منه (5) .
ويجاب عنه: بأن الزوج لم يطالب بالتسليم إلا بعد أن صار المهر حالا، فلا فرق بينه وبين امتناعها في حال كون المهر حالا وامتنعت عن التسليم حتى تقبض المهر (6) .
ثانيا: " لأن حق الحبس قد سقط بالتأجيل، والساقط لا يحتمل
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 289، مغني المحتاج 4 / 371 نهاية المحتاج 6 / 338.
(2) بدائع الصنائع 2 / 289.
(3) الحاوي الكبير 12 / 164 مغني المحتاج 4 / 371 نهاية المحتاج 6 / 338.
(4) المغني 10 / 171 الكافي لابن قدامة 3 / 95.
(5) المغني 10 / 171 الكافي لابن قدامة 3 / 95 نهاية المحتاج 6 / 338.
(6) الشرح الممتع 12 / 316.(83/250)
العود كالثمن في المبيع " (1) .
الراجح ووجه الترجيح:
الراجح - والله أعلم - القول الأول وهو: أنه إذا حل الأجل ولم تسلم نفسها وطلب الزوج التسليم فلها أن تمنع نفسها؛ لأنه صدق عليه الآن أنه حال، والضرر الذي يحصل لها فيما إذا سلمت نفسها في الحال يحصل لها الآن، وهذا ما رجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 289.
(2) الشرح الممتع 12 / 316.(83/251)
المبحث السادس: هبة المرأة لمؤخر الصداق:
للمرأة الرشيدة الجائزة التصرف أن تهب مهرها للزوج دخل بها أو لم يدخل؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (1) الآية. وليس لأحد من أوليائها الاعتراض عليها، سواء كان أبا أو غيره؛ لأنها وهبت خالص ملكها، وليس لأحد في عين المهر شيء، فتجوز الهبة وتلزم.
__________
(1) سورة النساء الآية 4(83/251)
وذكر القرطبي رحمه الله في تفسير الآية السابقة: " {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} (1) مخاطبة للأزواج، ويدل بعمومه على أن هبة المرأة صداقها لزوجها بكرا كانت أو ثيبا جائزة. وبه قال جمهور الفقهاء، ومنع مالك من هبة البكر الصداق لزوجها، وجعل ذلك للولي مع أن الملك لها. وزعم الفراء أنه مخاطبة للأولياء؛ لأنهم كانوا يأخذون الصداق ولا يعطون المرأة منه شيئا، فلم يبح لهم منه إلا ما طابت به نفس المرأة. والقول الأول أصح؛ لأنه لم يتقدم للأولياء ذكر. والضمير في (منه) عائد على الصداق، وكذلك قال عكرمة وغيره.
__________
(1) سورة النساء الآية 4(83/252)
وسبب الآية فيما ذكر: أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوه إلى الزوجات فنزلت {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ} (1) ".
وقال ابن سعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن: " {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (2) أي لا حرج عليكم في ذلك ولا تبعة، وفيه دليل على أن للمرأة التصرف في مالها - ولو بالتبرع - إذا كانت رشيدة، فإن لم تكن كذلك فليس لعطيتها حكم، وأنه ليس لوليها من الصداق شيء غير ما طابت به " (3) .
وعلى ذلك فإنه يجوز للمرأة أن تهب مؤخر الصداق لزوجها؛ لأن هبة الدين لمن عليه الدين تصح مطلقا (4) .
__________
(1) سورة النساء الآية 4
(2) سورة النساء الآية 4
(3) 1 / 231.
(4) رد المحتار على الدر المختار 4 / 316.(83/253)
المبحث السابع: الإبراء من مؤخر الصداق، والمصالحة على الحط منه:
للمرأة أن تبرئ الزوج من المؤخر، وتصالحه على الحط منه، وهذا ما عليه جمهور الفقهاء من الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) ، وذلك لقول الله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} (4) الآية، فرفع الله تعالى الحرج فيما تراضى به الزوجان بعد الفريضة وهو التسمية، وذلك هو الزيادة في المهر والحط منه، وأحق ما تصرف إليه الآية الزيادة؛ لأنه ذكر لفظة التراضي وأنه يكون بين اثنين، ورضا المرأة كان في الحط، ولأن الزيادة تلحق العقد ويصير كأن العقد ورد على الأصل والزيادة جميعا (5) . كما أن المهر ملك لها وتملك التصرف فيه، فتملك الإبراء والحط منه، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " ويجوز للمرأة أن تتنازل عن مؤخر الصداق إن كانت رشيدة، أما إن أكرهها، أو هددها بالطلاق إن لم تفعل فلا
__________
(1) البناية شرح الهداية 4 / 661 بدائع الصنائع 2 / 290.
(2) المهذب 4 / 209 تكملة المجموع 16 / 362 مغني المحتاج 4 / 397 نهاية المحتاج 6 / 363.
(3) المغني 10 / 307 الشرح الكبير 6 / 327، 335 الفروع 8 / 429 كشاف القناع 5 / 145، 146.
(4) سورة النساء الآية 24
(5) بدائع الصنائع 2 / 290.(83/254)
يسقط؛ لأنه لا يجوز إكراهها على إسقاطه " (1) .
فاشترط الفقهاء لصحة إبراء المرأة زوجها من مهرها عدة شروط:
الأول: أن تكون الزوجة بالغة عاقلة رشيدة، غير محجور عليها لسفه أو غفلة.
فإن كانت غير أهل للتبرع فلا يجوز الإنقاص من المهر مطلقا، سواء منها أو من وليها (2) .
الثاني: ألا يرد الزوج النقصان؛ لأن النقص إبراء وهو منة.
الثالث: ألا تكون الزوجة مكرهة.
الرابع: أن يكون المهر مما يثبت في الذمة كالنقدين، فإن كان عينا من الأعيان لم يصح حطه؛ لأن الحط في الأعيان لا يصح، بمعنى أنه لا يفيد التمليك، وإنما يصير وديعة عند الزوج.
جاء في الشرح الكبير: " فإن كان الصداق دينا فأبرأت الزوج منه بعد مضي الحول، ففيه روايتان، إحداهما: عليه الزكاة؛ لأنها
__________
(1) مجموع فتاوى، ورسائل الشيخ بن عثيمين فتاوى الفقه الزكاة 18 / 30 سؤال رقم (19) .
(2) الأم 5 / 63.(83/255)
تصرفت فيه أشبه ما لو قبضته، والثانية: زكاته على الزوج ... " (1) .
وجاء أيضا: " وظاهر كلام أحمد (أي في الديون) أنه لا فرق بين الحال والمؤجل؛ لأن البراءة تصح من المؤجل، ولولا أنه مملوك لم تصح منه البراءة ... " (2) .
وأما إبراء ولى المرأة للزوج من المهر، أو مصالحته على الحط منه فلا يصح، قال ابن قدامة في المغني: " إذا قال الأب طلق ابنتي وأنت بريء من صداقها وطلقها وقع الطلاق رجعيا، ولم يبرأ من شيء، ولم يرجع على الأب، ولم يضمن له؛ لأنه أبرأه مما ليس له الإبراء منه، فأشبه الأجنبي " (3) .
__________
(1) الشرح الكبير لابن قدامة 6 / 335.
(2) الشرح الكبير لابن قدامة 6 / 327.
(3) المغني 10 / 307.(83/256)
المبحث الثامن: زكاة مؤخر الصداق:
فيه مطلبان:
المطلب الأول: بيان ما إذا كان مؤخر الصداق يؤثر في وجوب الزكاة في مال الزوج أم لا:
الزوج إذا لم يدفع المهر المؤخر لزوجته فإنه يكون باقيا في ذمته، وهو دين إذا مات الزوج قبل وفائه سدد من تركته، فإن لم تف التركة بجميع الديون قسمت التركة بين الدائنين بالحصص (1) ، والصداق في الذمة دين للمرأة حكمه حكم الديون (2) .
وهل يؤثر في وجوب الزكاة في مال الزوج المدين، فيحسم مقدار الدين من ماله الزكوي قبل إخراج الزكاة، فيه خلاف بين الفقهاء رحمهم الله تعالى، وهذا الخلاف أساسا في الدين، هل يمنع من وجوب الزكاة بعد مضي الحول في الأموال الظاهرة والباطنة، أو لا يمنع، أو يمنع في الباطنة دون الظاهرة؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة مطلقا في الأموال
__________
(1) المغني 10 / 188 - 189.
(2) الحاوي الكبير 12 / 165 المغني 4 / 277.(83/257)
الظاهرة والباطنة. وهذا قول الشافعي في الجديد، وهو المذهب (1) ، ورواية عن أحمد (2) ، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (3) ، وبه قال بعض الحنفية في المهر المؤجل، وبعض المالكية في المهر خاصة.
أدلة هذا القول:
__________
(1) الوسيط 2 / 1033، روضة الطالبين 2 / 108.
(2) الفروع 2 / 331، الإنصاف 6 / 339.
(3) القواعد النورانية الفقهية ص 63.(83/258)
الدليل الأول: العمومات الموجبة للزكاة كحديث أنس بن مالك رضي الله عنه في كتاب الصدقات الذي كتبه أبو بكر رضي الله عنه والذي ذكر فيه: وفي الرقة في كل مائتي درهم ربع العشر ... ثم ذكر سائمة الأنعام «في كل خمس من الإبل شاة وفي كل أربعين شاة شاة» (1) . فهذه العمومات لم تستثن الدين ولا غيره.
الدليل الثاني: ما رواه ابن السعدي المالكي قال: استعملني عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الصدقة فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لي بعمالة، فقلت: إنما عملت لله وأجري على الله فقال: خذ ما أعطيت، فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني فقلت مثل قولك، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أعطيت شيئا من غير أن تسأل
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح، كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم 3 / 371 - 372 برقم (1454) .(83/259)
فكل وتصدق (1) » .
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث العمال الذين يقبضون الزكاة من أصحاب المواشي، ومن أصحاب الثمار، ولا يأمرهم بالاستفصال: هل عليهم دين أم لا؟ مع أن الغالب أن أهل الثمار عليهم ديون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لأن من عادتهم أنهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فيكون على صاحب البستان دين سلف، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرص عليهم ثمارهم ويزكونها (2) .
الدليل الثالث: استدلوا بأدلة عقلية وهي:
أولا: أن المديون مالك للنصاب، نافذ التصرف فيه، فوجبت الزكاة فيه كغيره (3) .
ثانيا: أن الزكاة تتعلق بالعين، والدين يتعلق بالذمة، فلا يمنع أحدهما الآخر كالدين وأرش الجناية (4) .
القول الثاني: أن الدين يسقط الزكاة في الأموال الباطنة، وأما الظاهرة
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه بشرح النووي كتاب الزكاة، باب جواز الأخذ بغير سؤال ولا تطلع 7 / 137.
(2) الشرح الممتع 6 / 35.
(3) مغني المحتاج 2 / 125.
(4) المهذب 1 / 464.(83/260)
فلا يسقط الدين وجوب الزكاة فيها وهذا قول زفر من الحنفية (1) ومذهب المالكية، وقول عند الشافعية ورواية عن أحمد، واختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي (2) .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 1 / 131.
(2) إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب للسعدي ص 74 - 75.(83/261)
أدلة هذا القول:
الدليل الأول: قول الله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (1) الآية.
وجه الاستدلال: أن مقتضى هذا النص العام أن تؤخذ الزكاة من الأموال كلها، ولو كان على مالكها دين، فخرج من ذلك الأموال الباطنة بإجماع الصحابة، فإن عثمان رضي الله عنه قد صاح بالصحابة: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤد دينه، حتى تخلص أموالكم، فتؤدون منها الزكاة.
وقال هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكر عليه أحد، فصار إجماعا، وهذا في الأموال الباطنة، فبقي ما سوى ذلك على العموم
__________
(1) سورة التوبة الآية 103(83/262)
فلا يسقط الدين زكاة الحرث والماشية (1) .
نوقش هذا الاستدلال: بأن الآية عامة تشمل الأموال الباطنة أيضا (2) .
وأما أثر عثمان رضي الله عنه فإننا نسلم أنه إذا كان على الإنسان دين حال وقام بالواجب وهو أداؤه، فليس عليه زكاة، لأنه سيؤدى من ماله، وسبق الدين يقتضي أن يقدم في الوفاء على الزكاة، لأن الزكاة لا تجب إلا إذا تم الحول، والدين سابق فكان لسبقه أحق بالتقديم من الزكاة ونقول لمن اتقى الله وأوفى ما عليه لا زكاة عليك إلا فيما بقي أما إذا لم يوف ما عليه وماطل لينتفع بالمال، ثم نقول هذا الدين الذي عليك يسقط الزكاة فهذا لا يتطابق مع الأثر (3) .
الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده أبو بكر وعمر، وعثمان رضي الله عنهم كانوا يرسلون السعادة إلى أرباب الأموال الظاهرة فكانوا يأخذون من المواشي والحبوب والثمار، ولا يسألون أرباب هذه الأموال إن كان عليهم دين أم لا؟ (4) .
__________
(1) المقدمات الممهدات 1 / 280، 332 البيان والتحصيل 2 / 394.
(2) الشرح الممتع 6 / 38.
(3) الشرح الممتع 6 / 36.
(4) الشرح الكبير لابن قدامة 6 / 342، شرح الزركشي 2 / 484، المبدع 2 / 271.(83/263)
نوقش هذا الدليل:
بأن كون النبي صلى الله عليه وسلم يبعث العمال ولا يستفصلون يدل على أن الزكاة تتعلق بالمال، ولا علاقة للذمة فيها، وهذا لا فرق فيه بين المال الظاهر والمال الباطن، لأن الدين أمر باطن تستوي فيه الأموال الظاهرة والأموال الباطنة (1) .
الدليل الثالث: استدلوا بأدلة عقلية وهي:
أولا: أن الأموال الظاهرة أمرها موكول إلى الإمام، فجاز أن يأخذها قهرا بخلاف الأموال الباطنة إذ يقبل فيها قول رب المال في ادعاء الدين، أو إخراجها (2) .
ثانيا: أن الأموال الباطنة لا مطالب لها من جهة العباد، لأن الأداء للمالك (3) .
ثالثا: أن الدين يمنع تنمية العين إذ يجوز لصاحب المال أن يقوم مطالبا بدينه، فيؤدي ذلك إلى أن يحجر على رب المال التصرف في ماله وهذا يمنع نماءه في الذهب والفضة، وأما الحرث
__________
(1) الشرح الممتع 6 / 38.
(2) الفواكه الدواني 1 / 386 - 387 شرح الخرشي 2 / 202.
(3) الاختيار لتعليل المختار 1 / 131.(83/264)
والماشية فلا يمنع الحجر نماءها لأنها نامية بنفسها وليست محتاجة في نمائها إلى تصرف ربها بها (1) .
رابعا: أن الدراهم والدنانير لا تتعلق الحقوق بأعيانها بل بالذمة، فيتعلق بالذمة في الأموال الباطنة حقان: حق الزكاة، وحق الدين، فيقدم حق الدين، بخلاف الأموال الظاهرة فإن الزكاة تتعلق بأعيانها، ولا يتعلق الدين بأعيانها، فتقدم الزكاة (2) .
خامسا: أن المال الظاهر ينمو بنفسه والباطن إنما ينمو بالتصرف فيه والدين يمنع من ذلك، ويحوج إلى صرفه في قضائه (3) .
سادسا: أن تعلق الأطماع من الفقراء بالأموال الظاهرة أكثر، والحاجة إلى حفظها أوفر بخلاف الباطنة.
سابعا: أن وجوب الزكاة في الأموال الباطنة أضعف من وجوبها في الظاهرة، بدليل أن للإمام حقا في المطالبة في الظاهرة، ويجب
__________
(1) الفواكه الدواني 1 / 386 - 387 شرح الخرشي 2 / 202 البيان والتحصيل 2 / 394.
(2) المنتقى شرح الموطأ 2 / 114.
(3) مغني المحتاج 2 / 125 - 126.(83/265)
الرفع إليه، فيصير كأنه قد تعلق به حقان: حق الله تعالى، وحق للإمام وهو الأخذ وهذا المعنى معدوم في الأموال الباطنة، فكانت أضعف، فجاز أن تسقط الزكاة فيها بالدين لضعف سببها، ولأن من أصلنا أنه إذا كان عليه دين وله مال ناض وعروض من ماشية وغيرها، فإنه يجعل الدين في مقابلة الناض دون المواشي والحيوان، وهذا أيضا يدل على نقصان الملك في الأموال الباطنة لتوجه المطالبة نحوها، وقوة الملك في الأموال الظاهرة، لسلامتها عن المطالبة (1) .
ثامنا: أن المصدق لو جاء فوجد إبلا وغنما لم يسأل صاحبها أي شيء عليك من الدين، ولكن يزكيها، وليس المال كذلك (2) .
نوقشت التعليلات السابقة: بأن ما ذكر من الأموال الباطنة فيه نظر، فالتاجر عند الناس تاجر ومعروف فقد يكون عنده معارض سيارات ومخازن وأدوات وأنواع عظيمة من الأقمشة، ودكاكين كثيرة من المجوهرات، فأيهما أظهر هذا، أو غنيمات في فلاة بين
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 1 / 131 الروايتين والوجهين 1 / 244.
(2) المغني 4 / 149 - 150.(83/266)
رمال عند بدوي لا يعرف في السوق؟ وما من شك أن الأول هو الأظهر فالخفاء والظهور أمر نسبي، فقد يكون الظاهر باطنا وقد يكون الباطن ظاهرا (1) .
القول الثالث: إن الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال كلها، وقد روي هذا القول عن ابن عباس رضي الله عنه ومكحول والثوري (2) وهو مذهب الحنفية وقول الشافعي في القديم ورواية عن أحمد
__________
(1) الشرح الممتع 6 / 39.
(2) المغني 4 / 150.(83/267)
وهي المذهب وعليها جماهير الأصحاب (1) .
أدلة هذا القول:
الدليل الأول:
ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه على اليمن: « ... فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم.. (2) » الحديث.
__________
(1) الإنصاف 6 / 340.
(2) جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء، وترد في الفقراء حيث كانوا 3 / 418 برقم (1496) ، ومسلم في صحيحه بشرح النووي كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين، وشرائع الإسلام 1 / 196.(83/268)
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برد الزكاة إلى الفقراء والمدين فقير، فلا تجب عليه الزكاة كالفقير الذي ليس عنده نصاب (1) .
نوقش هذا الاستدلال: بأن الخبر لا حجة فيه، لأن أول دليله لا ينفي أخذ الصدقة ممن ليس بغني، وثاني دليله مدفوع بالإجماع على وجود قسم ثالث يؤخذ منه ويدفع إليه، وهو ابن السبيل تؤخذ منه الصدقة عن أمواله الغائبة، وتدفع إليه الصدقة في سفره للحاجة الماسة (2) .
الدليل الثاني:
قوله صلى الله عليه وسلم «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى (3) » .
وجه الاستدلال: أن المدين محتاج، والصدقة إنما تجب على الأغنياء (4) .
__________
(1) المبسوط 2 / 184، بدائع الصنائع 2 \ 817 - 818، رؤوس المسائل ص 218، الحاوي الكبير 4 / 324.
(2) الحاوي الكبير 4 / 325.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى 3 / 345 برقم (1426) ، ومسلم في صحيحه بشرح النووي، كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى 7 / 125، واللفظ لهما.
(4) المغني 4 / 150.(83/269)
نوقش هذا الاستدلال: بأن المدين أحد الأصناف الذين تدفع إليهم الزكاة لقضاء حاجتهم فهو من الغارمين فنقول نحن نقضي دينك من الزكاة، وأنت تتعبد الله بأداء الزكاة (1) .
الدليل الثالث: أثر عثمان رضي الله عنه السابق وقد قاله عثمان بمحضر من الصحابة، ولم ينقل عن أحد منهم مخالفته فيكون إجماعا (2) وهو شامل للأموال كلها الظاهرة والباطنة.
نوقش هذا الأثر: بأنه لا دليل فيه على إسقاط الزكاة بالدين، وإنما يدل على تقديم قضاء الدين على الزكاة (3) .
الدليل الرابع: استدلوا بأدلة عقلية وهي:
أولا: أن الزكاة أنما وجبت لمواساة الفقير ودفع حاجته، وحاجة المدين إلى وفاء دينه مقدمة على حاجة الفقير، فليس من الحكمة تعطيل حاجة المالك للوفاء بحاجة غيره (4) .
نوقش هذا التعليل: بقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: نمانع من هذا الشيء فأهم شيء في الزكاة ما ذكره الله عز وجل
__________
(1) الشرح الممتع 6 / 37.
(2) شرح الزركشي 2 / 484، شرح منتهى الإرادات 1 / 369.
(3) الحاوي الكبير 4 / 325.
(4) شرح الزركشي 2 / 484، شرح منتهى الإرادات 1 / 369.(83/270)
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (1) الآية فهي عبادة يطهر بها الإنسان نفسه من الذنوب فإن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وتزكو بها النفوس، ويشعر الإنسان إذا بذلها بانشراح صدر واطمئنان قلب، فليس المقصود من الزكاة هو المواساة فقط، ثم على فرض أن من أهدافها المواساة فإن هذا لا يقتضي تخصيص العمومات، لأن تخصيص العمومات معناه إبطال جانب منها، وهو الذي أخرجناه بالتخصيص، وإبطال جانب من مدلول النص ليس بالأمر الهين الذي تقوى عليه علة مستنبطة قد تكون عليلة، وقد تكون سليمة، وقد تكون حية وقد تكون ميتة (2) .
ثانيا: أن مال المدين مشغول بحاجة صاحبه الأصلية إليه، لقضاء الدين فكان كالمعدوم، وكمن عنده ماء لكن يحتاجه لدفع العطش فإنه يتيمم (3) .
ثالثا: أن ملكه غير مستقر، لأنه ربما أخذه الحاكم بحق الغرماء (4)
__________
(1) سورة التوبة الآية 103
(2) الشرح الممتع 6 / 36 - 37.
(3) البناية شرح الهداية 3 / 355.
(4) المهذب 1 / 464.(83/271)
كما أن ملكه له ضعيف لتسلط المستحق (1) .
رابعا: أن الزكاة حق يجب بوجود المال، فوجب أن يمنع الدين منه كالحج، فإنه يجب بوجود الزاد والنفقة لكن يمنع ذلك الدين (2) .
نوقش هذا التعليل:
بأن القياس على الحج غير صحيح، لوجوب الزكاة على الصبي والمجنون وإن لم يجب الحج عليهما، ولوجوب الحج على الفقير إذا كان مقيما بمكة، وإن لم تجب الزكاة عليه فثبت أن اعتبار أحدهما بالآخر في الوجوب غير صحيح (3) .
خامسا: قياس الأموال الظاهرة على الأموال الباطنة في سقوط الزكاة بالدين بجامع أن كلا منهما مال تجب فيه الزكاة (4) .
سادسا: أن مستحق الدين تلزمه الزكاة فلو أوجبنا على المديون أيضا لزم منه تثنية الزكاة في المال الواحد (5) .
نوقش هذا التعليل: بأن قولهم إن هذا يؤدي إلى إيجاب زكاتين
__________
(1) المجموع 4 / 346، الانتصار 3 / 259.
(2) الحاوي الكبير 4 / 324 الروايتين والوجهين 1 / 244، الانتصار 2 / 259.
(3) الحاوي الكبير 4 / 325.
(4) الروايتين والوجهين 1 / 244.
(5) الحاوي الكبير 4 / 324، المجموع 4 / 346.(83/272)
في مال واحد دعوى بلا برهان، بل هما مالان لرجلين، فزكاة هذا المال في عينه، وزكاة الدين على مالكه، والعين غير الدين (1) .
سابعا: أنه بالقضاء يصير موفيا ما كان عليه، ورب الدين يصير مستوفيا ما كان له في الحقيقة لا أنه متملك ابتداء، والزكاة لا تجب على الإنسان لأجل مال يستحقه غيره، لأنه كالملك لذلك الغير في الحقيقة فصار كملك المكاتب (2) .
ثامنا: أن المدين ناقص الملك فلا تجب الزكاة عليه كالمكاتب، فإن الدين سبب في الحجر عليه ويمنع تبرعاته كما يمنع المكاتب (3) .
تاسعا: أنه مال يستحق إزالة يده عنه، فوجب أن لا تجب فيه الزكاة كمال المكاتب (4) .
نوقش قياس المدين على المكاتب:
بأنه قياس مع الفارق، لأنه ليس المعنى في المكاتب أنه ممن يستحق إزالة يده عن ماله، وإنما المعنى فيه أنه غير تام الملك، ألا ترى أن المكاتب لو كان معه قدر دينه فأكثر لم يستحق إزالة يده عنه،
__________
(1) الحاوي الكبير 4 / 326.
(2) الانتصار 3 / 259.
(3) الانتصار 3 / 258 - 259.
(4) الحاوي الكبير 4 / 324.(83/273)
ثم مع هذا لا زكاة عليه (1) .
عاشرا: أن الزكاة مال يملك بغير عوض، فوجب أن يكون الدين مانعا منه كالميراث، لا يستحق مع ثبوت الدين (2) .
نوقش هذا التعليل:
بأن قياسهم على الميراث قياس مع الفارق، فليس الدين مانعا من الميراث لأن الميراث حاصل، وقضاء الدين واجب، ألا ترى أن الوارث لو قضى الدين من ماله لاستحق ميراث ميته، على أنه باطل بزكاة الفطر (3) .
الراجح ووجه الترجيح:
يترجح - والله تعالى أعلم بالصواب - القول الأول وهو: أن الزكاة واجبة مطلقا، ولو كان عليه دين ينقص النصاب، إلا دينا وجب قبل حلول الزكاة ويريد المدين أداءه، فإنه يؤديه ثم يزكي ما بقي بعده، وإنما ترجح هذا القول لقوة أدلته، ولمناقشة أدلة الأقوال الأخرى، ولأن مال المدين يتعلق به حقان حق للدائن وحق لله، فإذا سقط حق الله ولم يف بحق الدائن تعطل الحقان معا، ولأنه بذلك
__________
(1) الحاوي الكبير 4 / 326.
(2) الحاوي الكبير 4 / 324.
(3) الحاوي الكبير 4 / 326.(83/274)
تبرأ الذمة ونحن إذا قلنا بهذا القول نحث المدينين على الوفاء كما ذكر ذلك الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى (1) .
__________
(1) الشرح الممتع 6 / 39.(83/275)
المطلب الثاني: هل تجب الزكاة في مؤخر الصداق:
وحيث إن مؤخر الصداق دين للمرأة في ذمة زوجها، فهل تجب زكاته عليها كل سنة أو لا تجب إلا بعد تسلمه؟ خلاف بين الفقهاء في وجوب الزكاة على الدائن على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا زكاة عليها ما لم تقبضه ويحول عليه الحول، روي هذا عن عثمان وابن عمر رضي الله عنهما (1) وهو قول قتادة، وإسحاق، وأبي ثور، وأهل العراق (2) ومذهب الحنفية، (3) وقول الشافعي في القديم (4) ورواية عن أحمد واختارها شيخ الإسلام (5) .
__________
(1) المبدع 2 / 269.
(2) المبدع 2 / 269.
(3) المبسوط 2 / 195، بدائع الصنائع 2 / 10.
(4) المجموع 6 / 20-22، السنن الكبرى للبيهقي 4 / 150.
(5) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25 / 48، الإنصاف 6 / 328، المبدع 2 / 269.(83/275)
أدلة هذا القول:
استدلوا بأدلة عقلية منها:
أولا: أنه بدل عما ليس بمال، فلم تجب الزكاة فيه قبل قبضه، كدين الكتابة (1) .
ثانيا: أنه مال ممنوع منه غير قادر على الانتفاع به، أشبه الدين على المكاتب (2) .
ثالثا: أنه مال غير نام وهو خارج عن يده وتصرفه، أشبه دين الكتابة (3) .
رابعا: أن الزكاة وجبت في مقابلة الانتفاع بالنماء حقيقة أو مظنة وهو مفقود هنا (4) .
القول الثاني: تزكيه إذا قبضته لعام واحد وهو قول عمر بن عبد العزيز، والحسن، والأوزاعي (5) وهو مذهب مالك (6) وقول عند الحنابلة (7) .
__________
(1) الشرح الكبير 6 / 334.
(2) الشرح الكبير 6 / 325.
(3) المبدع 2 / 269.
(4) المبدع 2 / 269.
(5) الشرح الكبير لابن قدامة 6 / 326.
(6) المنتقى 2 / 114، مواهب الجليل 3 / 185، 186، منح الجليل 2 / 61، أسهل المدارك 1 / 376.
(7) الشرح الكبير 6 / 326، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25 / 47.(83/276)
دليل هذا القول:
"لأن كان في ابتداء الحول في يده ثم حصل بعد ذلك في يده، فوجب أن لا تسقط الزكاة عن حول واحد " (1) .
نوقش هذا الدليل:
بأن قولهم أنه حصل في يده في كل الحول فإن هذا لا يؤثر؛ لأن المانع إذا وجد في بعض الحول منع كنقص النصاب، ولا فرق بين كون الغريم يجحده في الظاهر دون الباطن أو فيهما (2) فضلا عن أن المرأة في المهر المؤخر لم تستلمه أصلا لا في أول الحول ولا وسطه.
القول الثالث: تزكيه إذا قبضته لما مضى، وهذا قول الثوري، وأبي عبيد (3) وهو قول الشافعي في الجديد (4) وهو الأصح (5)
__________
(1) الشرح الكبير 6 / 326.
(2) الشرح الكبير 6 / 326.
(3) المقنع 6 / 325، الشرح الكبير 6 / 325، المحرر 1 / 219، الإنصاف 6 / 326، المبدع 2 / 268.
(4) المجموع 6 / 20 - 21، السنن الكبرى للبيهقي 4 / 150.
(5) المجموع 6 / 20 - 21.(83/277)
ورواية عن أحمد (1) وهو الصحيح من المذهب واختاره الأكثر (2) .
أدلة هذا القول:
استدلوا بأدلة عقلية منها:
أولا: ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في الدين الظنون: إن كان صادقا فليزكه إذا قبضه لما مضى وعن ابن عباس نحوه.
ثانيا: أنه مال يجوز التصرف فيه فتصح الحوالة به والإبراء أشبه الدين على المليء (3) .
ثالثا: أن ملكه فيه تام أشبه ما لو نسي عند من أودعه (4) .
رابعا: لعموم الأدلة الموجبة للزكاة وكسائر أمواله (5) .
__________
(1) المقنع 6 / 325 الشرح الكبير 6 / 325 المحرر 1 / 219 الإنصاف 6 / 326 المبدع 2 / 268.
(2) الإنصاف 6 / 326 المبدع 2 / 268.
(3) الشرح الكبير 6 / 326 المبدع 2 / 268.
(4) الشرح الكبير 6 / 326.
(5) المبدع 2 / 268.(83/278)
نوقشت هذه الأدلة: بقول شيخ الإسلام رحمه الله: وأضعف الأقوال من يوجبها للسنين الماضية حتى مع العجز عن قبضه فإن هذا القول باطل فإما أن يجب لهم ما يأخذونه مع أنه لم يحصل له شيء فهذا ممتنع في الشريعة ثم إذا طال الزمان كانت الزكاة أكثر من المال ثم إذا نقص النصاب وقيل إن الزكاة تجب في عين النصاب لم يعلم الواجب إلا بحساب طويل يمتنع إتيان الشريعة به ... (1) ولأننا لو أوجبنا عليه الزكاة في كل عام وهو بيد غيره ونماؤه له لأدى ذلك إلى أن تستهلكه الزكاة (2) .
الراجح ووجه الترجيح:
يترجح - والله أعلم بالصواب - القول الأول وهو أن الزكاة لا تجب إلا بعد قبض الصداق ومرور حول على قبضه وإنما ترجح هذا القول لقوة أدلته ولمناقشة أدلة الأقوال الأخرى كما أنه مقتضى العدل لأن الغرم بالغنم.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25 / 48.
(2) المنتقى شرح الموطأ 2 / 114.(83/279)
المبحث التاسع: المخالعة بمؤخر الصداق:
المرأة إذا كرهت زوجها لخلقه أو دينه أو كبره أو ضعفه أو نحو ذلك وخشيت أن لا تؤدي حق الله تعالى في طاعته جاز لها أن تفتدي نفسها منه بطلب المخالعة بعوض لقول الله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (1) الآية.
ولما رواه البخاري رحمه الله: «جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس (2) إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ما أنقم على ثابت في
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح كتاب الطلاق، باب الخلع، وكيف الطلاق فيه؟ 9 / 307 برقم (5276) .(83/280)
دين ولا خلق إلا أني أخاف الكفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتردين عليه حديقته قالت نعم فردت عليه وأمره ففارقها» .
قال ابن قدامة وبهذا قال جميع الفقهاء بالحجاز والشام قال ابن عبد البر: ولا نعلم أحدا خالفه إلا بكر بن عبد الله المزني فإنه لم يجزه وزعم أن آية الخلع منسوخة بقوله سبحانه {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (1) الآية (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) المغني 10 / 268، وانظر كذلك: المحرر 2 / 44 - 45 كشاف القناع 5 / 219 شرح فتح القدير 4 \ 58.(83/281)
ومن المعلوم أنه يشترط في الخلع أن يكون على عوض فلا خلع بلا عوض وهذا مذهب أبي حنيفة (1) ومالك والشافعي (2) ورواية عن أحمد قدمها ابن قدامة وقال: والعوض في الخلع كالعوض في النكاح والبيع (3) .
وقال أيضا: كل ما جاز صداقا جاز عوضا في الخلع قليلا كان أو كثيرا (4) .
وجاء في المنتقى شرح الموطأ: فأما الخلع بكل ما أصدقها أو أقل فجائز عند جميع الفقهاء (5) .
وبناء على ما سبق تجوز المخالعة بمؤخر الصداق؛ لأنه عوض.
__________
(1) حاشية رد المحتار 3 / 462 شرح فتح القدير 4 \ 58.
(2) المهذب 4 / 256 تكملة المجموع 16 / 343.
(3) المغني 10 / 287.
(4) الكافي 3 / 152.
(5) المنتقى 4 / 62، وانظر كذلك الشرح الصغير للدردير 1 / 443.(83/282)
ومما يؤيد ذلك: ما جاء في الدر المختار (1) قال: وإذا قال الزوج خالعتك، فقبلت المرأة، ولم يذكر مالا، طلقت لوجود الإيجاب والقبول، وبرئ عن المهر المؤجل لو كان عليه، وإلا يكن عليه من المؤجل شيء ردت عليه ما ساق من المهر المعجل، لما مر أنه معاوضة فتعتبر بقدر الإمكان.
وما جاء في نهاية المحتاج (2) قال: ولو خالعها قبل الدخول على غير الصداق استحقه وله نصف الصداق، وإن خالعها على جميع الصداق صح في نصيبها دون نصيبه، ويثبت له الخيار إن جهل التشطير ... وإن خالعها على أن لا تبعة لها عليه في المهر صح، وجعلناه على ما يبقى لها منه.
وما جاء في الفروع قال: وإن خالعته في مرض موتها بزائد على إرثه، وقيل: وعلى مهرها فللورثة منعه.
وما جاء في كشاف القناع (3) قال: وإن خالعها قبل الدخول بمثل جميع الصداق في ذمتها، أو خالعها بصداقها كله صح الخلع لصدوره من أهله في محله، ويرجع عليها بنصفه
__________
(1) 5 / 115.
(2) 6 / 363 - 364.
(3) 5 / 147.(83/283)
وسقط عنه الصداق.(83/284)
المبحث العاشر: تعجيل الصداق المؤخر في مقابل التنازل عن بعضه:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في تعجيل الدين المؤجل في مقابل التنازل عن بعضه:
هذه المسألة هي مسألة تعجيل الدين المؤجل في مقابل التنازل عن بعضه، وهي المسألة المعروفة بـ «ضع وتعجل» .
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: جواز تعجيل الدين المؤجل في مقابل التنازل عن بعضه، وبه قال بعض الحنفية (1) ، وبعض الشافعية (2) وهو رواية عند الحنابلة (3) ، وهو رأي ابن عباس، والنخعي وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية (4) . وابن القيم (5) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 4 / 248.
(2) فتاوى ابن السبكي 1 / 379.
(3) الإنصاف 13 / 131.
(4) الاختيارات ص 134، الإنصاف 13 / 131
(5) إغاثة اللهفان 2 / 9، إعلام الموقعين 5 / 331.(83/284)
أدلة هذا القول:
أولا: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: «لما أمر بإخراج بني النضير جاء ناس منهم فقالوا: يا نبي الله إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعوا وتعجلوا (1) » فالنبي صلى الله عليه وسلم أجاز لبني النضير أن يعجلوا ديونهم مقابل التنازل عن بعضها وهذا دليل الجواز.
ثانيا: ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنه كان لا يرى بأسا أن يقول أعجل لك وتضع عني.
__________
(1) أخرجه البيهقي في سننه، كتاب البيوع، باب من عجل له أدنى من حقه قبل محله فقبله، ووضع عنه طيبة به أنفسهما 6 / 28، وسكت عنه، والدارقطني في سننه كتاب البيوع 3 / 46، وقال: اضطرب في إسناده مسلم بن خالد، وهو سيئ الحفظ ضعيف، مسلم بن خالد ثقة إلا أنه سيئ الحفظ، وقد اضطرب في هذا الحديث، ورواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين 2 / 61 برقم (2325) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط 2 / 249، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4 / 130: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه مسلم بن خالد الزنجي، وهو ضعيف، وقد وثق، وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان 2 / 11: هو على شرط السنن، وقد ضعفه البيهقي، وإسناده ثقات، وإنما ضعف بمسلم بن خالد الزنجي، وهو ثقة فقيه روى عنه الشافعي، واحتج به.(83/285)
ثالثا: أنه لا بأس أن يعجل الكاتب لسيده ويضع عنه، فكذلك يجوز في بقية الديون (1) .
أجيب عنه: بأن السيد يبيع بعض ماله ببعض فدخلت المسامحة فيه، ولأنه سبب العتق فسومح فيه بخلاف غيره (2) كما أن معاملة السيد مع مكاتبه من باب الإرفاق لا من باب المعاوضة، ولهذا قالوا: لا يجري الربا بين السيد والمكاتب، فإن السيد يضع عن مكاتبه جزءا من البدل تيسيرا عليه، والمكاتب يعجل بما بقي من الدين مسارعة إلى الحصول على شرف الحرية (3) .
رابعا: أن الدائن آخذ لبعض حقه تارك لبعضه، فجاز كما لو كان الدين حالا (4) .
القول الثاني: لا يجوز تعجيل الدين المؤجل في مقابل التنازل عن
__________
(1) الإنصاف 13 / 131 المبدع 4 / 280.
(2) المبسوط 13 / 126.
(3) تبيين الحقائق 5 / 43 المبدع شرح المقنع 4 / 280، كشاف القناع 3 / 392.
(4) المغني 7 / 21.(83/286)
بعضه وبه قال جمهور الفقهاء من الحنفية (1) والمالكية والشافعية وهو الصحيح والمذهب عند الحنابلة وإليه ذهب الظاهرية (2) .
أدلة هذا القول:
أولا: ما روي «عن المقداد بن الأسود (3) رضي الله عنه قال: أسلفت رجلا مائة دينار، ثم خرج سهمي في بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له
__________
(1) المبسوط 13 / 126، البناية شرح الهداية 9 / 33، تبيين الحقائق 5 / 41، البحر الرائق 7 / 259.
(2) المحلى 8 \83.
(3) رواه البيهقي في سننه في كتاب البيوع، باب لا خير في أن يعجله بشرط أن يضع عنه 6 / 28 قال ابن القيم في إغاثة اللهفان 2 / 10: وفي سنده ضعف.(83/287)
عجل لي تسعين دينارا، وأحط عشرة دنانير، فقال: نعم، فذكر ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فقال: أكلت ربا يا مقداد وأطعمته» .
ثانيا: ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن الرجل يكون له الدين على الرجل إلى أجل، فيضع عنه صاحب الحق ويعجله الآخر، فكره ذلك.
ثالثا: قياس هذه المسألة على مسألة زيادة الدين مقابل الأجل.(83/288)
رابعا: أنه بيع الحلول، فلم يجز كما لو زاده الذي له الدين فقال: أعطيك عشرة دراهم وتعجل لي المائة التي عليك (1) .
نوقشت هذه الأدلة: بأن حديث المقداد رضي الله عنه في سنده ضعف (2) وبأن هذا عكس الربا، فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل، وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل، فانتفع به كل واحد منهما، ولم يكن هنا ربا لا حقيقة ولا لغة ولا عرفا، والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله: (عجل لي) و (أهب لك مائة) فأين أحدهما من الآخر، فلا نص في تحريم ذلك، ولا إجماع ولا قياس صحيح (3) .
الراجح ووجه الترجيح:
الراجح - والله أعلم - القول الأول وهو: القول بالجواز، لوجاهة أدلته وبه أخذ مجمع الفقه الإسلامي حيث جاء في القرار رقم 66 2 7 ما يلي (الحطيطة من الدائن أو المدين (ضع وتعجل) جائزة شرعا، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق
__________
(1) المغني 7 / 21، الشرح الكبير 13 / 131.
(2) إغاثة اللهفان 2 / 10.
(3) إعلام الموقعين 3 / 331 - 332.(83/289)
مسبق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية، فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز، لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية. ورجحه الشيخ عبد الرحمن بن سعدي والشيخ ابن باز (1) وابن عثيمين رحمهم الله تعالى ولأنه ليس في المنع دليل صحيح، والأصل في المعاملات الحل.
__________
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ بن باز، فتاوى الفقه، البيوع 19 / 301، سؤال رقم (173) .(83/290)
المطلب الثاني: في تعجيل مؤخر الصداق في مقابل التنازل عن بعضه:
وعن المسألة السابقة تتفرع هذه المسألة وهي: إذا صالحت المرأة عن الصداق المؤجل ببعضه حالا.
القائلون بالجواز استدلوا بأنه دين، فتجوز المصالحة عنه ببعضه حالا وبأنه لما جاز تعجيل دين المكاتب جاز تعجيل بقية الديون، والصداق المؤخر يعتبر من الديون كما ذكر الفقهاء ذلك سابقا (1) ونصوا قائلين: وأما التنازع في مؤجل الصداق فالقول لها كسائر الديون (2) وهذا القول هو الراجح، والله أعلم؛ لأن الصداق حق خالص للمرأة تتصرف فيه كما تشاء.
فعند أبي حنيفة رحمه الله في مسألة الجامع، وهي: مسألة الألف الحالة والألفين إلى سنة، إن كان مهر مثلها ألفي درهم أو أكثر فالخيار للمرأة، إن شاءت أخذت الألف الحالة، وإن شاءت كان لها الألفان إلى سنة، لأنها التزمت أحد وجهي الحط، إما القدر وإما
__________
(1) انظر: ص 257.
(2) الشرح الصغير مع شرحه بلغة السالك لأقرب المسالك 1 / 434.(83/291)
الأجل، والمقاصد في ذلك مختلفة فوجب التخيير. (1)
وأيضا: وصح حطها لكله أو بعضه عنه قبل أو لا (2) ...
وعند المالكية في فصل في الكلام على الخلع: أو تعجيلها دينا له عليها، أي لأن من عجل ما أجل عد مسلفا، كمن أخر ما عجل فإذا عجلت ماله عليها من الدين المؤجل كانت مسلفة له، وقد انتفعت بالعصمة (3) وكمخالعتها على تعجيله لها دينا عليه، لا يجب عليها قبوله قبل أجله بأن كان طعاما.
وعند الشافعية في الكلام لو كان مهر مثلها مؤجلا واعتادت نساؤها على التأجيل: لو اعتدن التأجيل فرض الحاكم حالا وينقص لائقا بالأجل (4) .
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولو صالحت عن صداقها المسمى بأقل جاز لأنه إسقاط لبعض حقها، ولو صالحته على أكثر
__________
(1) كشف الجامع للبخاري 2 / 148 - 149.
(2) رد المحتار على الدر المختار 4 / 248.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 350، وانظر كذلك: شرح الخرشي على مختصر خليل 4 / 15.
(4) نهاية المحتاج 6 / 353.(83/292)
من ذلك بطل الفضل، لأن في ذلك ربا لأنه زيادة على حقها، وقياس المذهب جوازه؛ لأنه زيادة على المهر بعد العقد وذلك جائز، وصححنا أنه يصح أن يصطلحا على مهر المثل بأقل منه وأكثر مع أنه واجب بالعقد (1) .
__________
(1) الفتاوى الكبرى 5 / 471.(83/293)
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشكره - سبحانه - على ما وفقني إليه من هذا البحث وأعتذر عما ورد فيه من زلل وهفوات، وحسبي أن هذا جهدي وما توفيقي إلا بالله.
وقد ظهر لي من خلال هذا البحث نتائج، من أهمها ما يلي: -
1- الصداق شرط من شروط النكاح، وهذا مجمع عليه بين الفقهاء.
2- يستحب تسمية الصداق عند العقد، ولا تشترط؛ فيجوز العقد من غير ذكر للصداق وهذا أيضا مجمع عليه.
3- ينقسم الصداق بالنسبة للأجل إلى قسمين معجل ومؤجل، ويجوز دفعه كله معجلا، أو تأخيره كله، ويصح أن يكون بعضه معجلا وبعضه مؤجلا على حسب ما يتم الاتفاق(83/293)
عليه عند العقد.
4- إذا ذكر الزوج أو المرأة أو وليها الصداق وفرضه وأطلق اللفظ اقتضى الحلول، لأن الأصل عدم الأجل.
5- إذا أجل الصداق إلى وقت معين صح الأجل ووجب التسليم عند حلول الأجل.
6- إذا أجل الصداق وأطلق ولم يذكر وقتا محددا فإنه يصح الأجل ومحله الفرقة بطلاق أو فسخ، أو موت.
7- إذا أجل الصداق إلى وقت وزمن مجهول فإن كانت الجهالة متقاربة كالحصاد فهو كالمعلوم الصحيح، وإن كانت الجهالة متفاحشة كمجيء المطر لم يصح الأجل بل يبطل، ويجب المهر حالا.
8- يجب المهر كله ويستقر بالدخول أو الموت.
9- يجب الصداق المؤجل للمرأة عند الطلاق والفسخ، وعند وفاة الزوج أو الزوجة.
10- لا يجب مهر المثل إلا حالا، وإذا كانت عادة نسائها التأجيل للمهر فإنه يفرض مؤجلا.
11- للمرأة قبل دخول الزوج بها أن تمنعه عن الدخول حتى يعطيها جميع المهر ثم تسلم نفسها إليه.(83/294)
12- إذا اتفق الزوجان على التأجيل، وذكرا وقتا معلوما للمهر ورضيا به فإذا اشترط الزوج الدخول فليس للمرأة أن تمنع نفسها اتفاقا، وإن لم يشترط والمهر كله مؤجل فليس للمرأة أن تمنع نفسها، لأنها رضيت بالتأجيل فرضيت بإسقاط حق نفسها فلا تسقط حق الزوج كالبائع إذا أجل الثمن فإنه يسقط حق حبس المبيع.
13- إذا لم يشترط الدخول وكان المهر بعضه معجل وبعضه مؤجل، فليس للمرأة أن تمنع نفسها إذا قبضت المعجل بالإجماع.
14- إذا كان المهر مؤجلا أجلا معلوما وحل الأجل قبل تسليم نفسها فلها أن تمنع نفسها حتى تستلم المهر.
15- للمرأة أن تهب مؤخر صداقها لزوجها دخل بها أو لم يدخل لأن المهر ملك لها وهو دين على الزوج وهبة الدين لمن عليه الدين تصح مطلقا.
16- للمرأة أن تبرئ الزوج من مؤخر الصداق، لأن المهر لها تملك التصرف فيه بالإبراء بشروط: أن تكون بالغة عاقلة رشيدة، غير محجور عليها لسفه أو غفلة، وألا يرد الزوج(83/295)
النقص والإبراء، وألا تكون الزوجة مكرهة، وأن يكون المهر مما يثبت في الذمة كالنقدين.
17- مؤخر الصداق دين في ذمة الزوج، ولا يمنع من وجوب الزكاة في أمواله الظاهرة والباطنة، وإذا مات الزوج قبل وفائه سدد من تركته.
18- مؤخر الصداق دين للمرأة حكمه حكم الدين، فتجب زكاته عليها بعد قبضه ومضي حول على ذلك.
19- تجوز المخالعة بمؤخر الصداق لأنه عوض فتصح المخالعة به.
20- يجوز تعجيل الصداق المؤخر في مقابل التنازل عن بعضه لأنه دين فتجوز المصالحة عنه ببعضه حالا.(83/296)
المتفق والمختلف من كنى الفقهاء
لفضيلة الدكتور: عبد السلام بن محمد الشويعر (1)
المقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ... أما بعد:
فهذا بحث جديد في موضوعه في الفقه وفن من أفنانه، بكر المرعى، أردت أن أكون أول من خاض غماره، وجمع شتاته، فجمعت من الكتب متفرقه، للتفريق بين متفقه، وإيضاح مشتبهه، ليكون لي السبق عذرا إن حدث خطأ أو زلل، أو وهم وخطل، ولا بد لهذا النوع من متتبع وناقد ومستدرك وزائد ... فرحم الله امرءا أنصف من نفسه، وانتصف من خصمه.
وقد سميته " المتفق والمختلف من كنى الفقهاء " جمعت فيه
__________
(1) أستاذ الفقه المشارك بقسم العلوم الشرعية، والقانونية بكلية الملك فهد الأمنية.(83/297)
الكنى التي يذكرها الفقهاء في أمهات كتبهم مطلقة من غير تقييد، وكان يحمل هذه الكنية أكثر من شخص فلم أذكر من اشتهر بكنيته في الفقهاء دون غيره كأبي حنيفة الإمام، وأبي يوسف صاحبه.
فأصبحا شرطين، أن تصدق الكنية على أكثر من شخص، وأن تذكر في كتب الفقهاء على أكثر من فقيه.
وهذا المبحث من دقيق العلم لا من حشوه، وقد استدل على أهميته بما جاء عن الإمام الشافعي أنه قال: من تعلم علما فليدقق لكيلا يضيق دقيق العلم (1) .
وقد جعلت بين يدي هذا البحث مقدمات ثلاث:
المبحث الأول: معنى المتفق والمختلف.
المبحث الثاني: أهمية معرفة هذا الموضوع.
المبحث الثالث: الدراسات السابقة في الموضوع.
ثم شرعت في بيان ما وقفت عليه من الكنى المتفقة في الرسم والمختلفة في المسمى، ويلحظ أني كثيرا ما أذكر هذه الكنى على سبيل الحكاية، فألزمها الرفع بالواو، ولا ألتزم بإعرابها حسب موقعها أحيانا.
ولا يفوتني أداء للأمانة، ورجاء بركة العلم، إلا أن أدعو للمشايخ
__________
(1) الأنساب المتفقة لأبي الفضل محمد بن طاهر القيسراني ص 24.(83/298)
الفضلاء الذين تفضلوا وتكرموا بمراجعة أجزاء من هذه الوريقات أو الإفادة بحل بعض مشكله وهم من فقهاء المذاهب الأربعة جميعا غفر الله لهم ووفقهم وسددهم.
أسال الله أن ينفع به كاتبه وقارئه وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(83/299)
المبحث الأول: معنى المتفق والمختلف:
(المتفق والمختلف) في أصل اللغة اسما فاعل من الاتفاق والاختلاف، وهما لفظتان متضادتان، أحدهما عكس الأخرى.
أما معناها الاصطلاحي: فهو أن يتفق شيئان في الاسم (رسما وضبطا وشكلا) ، ويختلفان في المسمى.
وبنحو ذلك عرفه علماء مصطلح الحديث ...
قال ابن حجر في (النخبة) : اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم فصاعدا، واختلفت أشخاصهم.
قال السخاوي (1) : وهو ما لفظه وخطه متفق، لكنه مفترق إذ كانت مسمياته لعدة.
وهذا النوع من قبيل ما يسميه الأصوليون (بالمشترك اللفظي) لا المعنوي.
__________
(1) فتح المغيث 2 / 54.(83/299)
المبحث الثاني: أهمية معرفة هذا الموضوع:
معرفة هذا النوع من العلوم في الفقه بالخصوص من الأهمية بمكان، وذلك أن معرفة منشئ القول وقائله من أهم وسائل المقاصد لدى العقلاء في جميع الفنون، لما يبنى عليه من فوائد وآثار لا تخفى.
وقد بني عليه التصنيف في تواريخ الرجال وتراجمهم ليتصور القائل ويعرف حاله لأن القول يزدان بقائله.
وهذا النوع من العلوم وهو (المتفق والمختلف) من هذا الباب، ومعرفته تفيد التمييز بين المشتركين باللفظ في الكنى والألقاب.
لذا قال السخاوي في فتح المغيث عن معرفة المتفق والمختلف: (وهو نوع جليل يعظم الانتفاع به ... وقد زل فيه جماعة من الكبار كما هو شأن المشترك اللفظي في كل علم) .
وقد عني بعض الفقهاء بذكر كنى الفقهاء بالخصوص كابن أبي الوفاء القرشي الحنفي في كتابه (الجواهر المضية) وغيره.
والمطالع للكثير من الكتب المحققة، بل وبعض الرسائل الجامعية يرى الخطأ والخلط بين الأسماء والكنى من غير تمييز للقائل ولا توثيق للمقول، ولولا خشية الوقوع في إثم تتبع عورات المسلم والتحدث بما يكره لذكرت أمثلة كثيرة متعددة لمن وقع في هذه الأخطاء عند تحقيق هذه النصوص العلمية والنقول الفقهية بالخصوص.(83/300)
بل وقع اللبس لأئمة كبار وفقهاء مقدمين في مذهبهم، كالإمام الفقيه الأصولي أبي عمرو ابن الحاجب المالكي قال محمد بن عبد السلام الأموي (من علماء القرن التاسع) (1) والتبس على الشيخ أبي عمرو القاضي أبو الوليد ابن رشد بالقاضي الباجي في سبعة مواضع ... وغيره كثير ...
وكثيرا ما يذكر بعض الفقهاء كنية لبعض أهل العلم ويختلف في بيان المقصود بها، ومن أمثلة ذلك ما ذكره صاحب الهداية فقال: (وما رواه الشافعي من حديث القلتين ضعفه أبو داود) ا. هـ.
فذكر عبد الحي اللكنوي (ت 1303هـ) (2) : أنه اختلف في المراد بأبي داود هنا، فقيل: إنه صاحب السنن، وقيل: أبو داود الطيالسي.
وجاء نقل في بعض كتب الحنفية عن أبي القاسم، قال ابن أبي الوفاء القرشي (ت 775 هـ) (3) (لا أدري أهو أحد المذكورين قبله أم لا) .
فجمع هذا النوع في مكان فيه من تسهيل العلم ومعرفته ما لا يخفى.
__________
(1) التعريف برجال جامع الأمهات ص 279.
(2) مذيلة الدراية لمقدمة الهداية للكنوي 1 / 47.
(3) الجواهر المضية 4 \80.(83/301)
المبحث الثالث: الدراسات السابقة في الموضوع:
لا يوجد كتاب مفرد في هذا الموضوع وهو (المتفق والمختلف) من أسماء الفقهاء، ولم يتطرق له في باب مفرد، وإنما هي نتف في كتب التراجم والفقه.
لكن كتب في (المتفق والمختلف) عند غير الفقهاء فوجدت كتابات في الحديث، والأقاليم (جغرافيا البلدان) وفي الأنساب والقبائل.
أولا: المؤلفات في (المتفق والمختلف) من أسماء رجال الحديث.
وعلماء الحديث هم أول من تطرق لهذا الفن فصنفوا فيه العديد من الكتب ومنها:
1/ كتاب (المتفق والمفترق) للحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) .
وقد قام بتحقيقه د. محمد صادق قايدن، رسالة للدكتوراه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1408 هـ وطبع في دار القادري بدمشق عام 1417 هـ.
2- كتاب (المتفق والمفترق) للحافظ أبي عبد الله محمد بن النجار البغدادي (ت 643 هـ) (1) .
__________
(1) كشف الظنون 2 / 1585.(83/302)
3/ كتاب (المتفق والمفترق) للحافظ أبي بكر الجوزقي (ت 388 هـ) (1) .
ثانيا: المؤلفات في (المتفق والمختلف) من أسماء البلدان: -
1/ كتاب (ما اتفق لفظه وافترق معناه من أسماء البلدان والأماكن المشتبهة في الخط) لأبي بكر محمد بن موسى الحازمي (2) .
2/ كتاب (ما اتفق لفظه وافترق معناه من أسماء البلدان والأماكن) لأبي موسى المديني، اختصره من كتاب ألفه أبو الفتح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري النحوي (3) .
3/ كتاب (المتفق وضعا والمختلف صقعا) للشيخ مجد الدين أبي طاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادي الشيرازي (ت 817 هـ) (4)
4/ كتاب (المشترك وضعا والمفترق صقعا) لياقوت الحموي وسماه في (معجم البلدان) (5) (المتفق) .
__________
(1) التقييد لابن نقطة 1 / 74، معجم البلدان 2 / 184 الرسالة المستطرفة 115.
(2) الرسالة المستطرفة 115.
(3) الرسالة المستطرفة 115.
(4) الرسالة المستطرفة 115.
(5) معجم البلدان 2 / 521.(83/303)
ثالثا: المؤلفات في (المتفق والمختلف) من أسماء القبائل والأنساب: -
1/ كتاب (الأنساب المتفقة في الخط المتماثلة في النقط والضبط) لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي (ت 507 هـ) طبع عدة طبعات الأولى في ليدن سنة 1865 هـ.
2/ وذيل عليه أبو موسى الأصفهاني (ت 581 هـ) وهو مطبوع معه.
3/ كتاب (التمييز والفصل بين المتفق في الخط والنقط والشكل) للشيخ إسماعيل بن باطيش (ت 655 هـ) وقد طبع منه مجلدان بالدار العربية للكتاب بتونس عام 1983 م بتحقيق عبد الحفيظ منصور.(83/304)
المتفق والمختلف من كنى الفقهاء: -
1 - أبو محمد:
المكتنون بأبي محمد من الفقهاء كثير جدا، ولكن الفقهاء إذا أطلقوا هذه الكنية فإنهم يعنون بها علماء مخصوصين كان لهم سبق في ميدان الفقه عموما، ومقدمون عند أصحابهم بالخصوص وهذا ما يتضح بمعرفة المشهورين بهذه الكنية وكيف أنهم أعلام في فقه مذاهبهم على اختلافها ...
أولا: فقهاء المالكية كثيرا ما يطلقون كنية أبي محمد في كتبهم الفقهية ويعنون بها شخصين مع اختلاف في التسمية.(83/304)
أ- فإذا أطلقوا أبا محمد أو الشيخ أبا محمد فيعنون به الشيخ أبا محمد ابن أبي زيد القيرواني صاحب كتاب الرسالة، والجامع والنوادر والزيادات (المتوفى سنة 386 هـ) (1) .
وقد ورد ذكره بهذه الكنية مجردة في غالب كتب المالكية يقول محمد بن عبد السلام الأموي (من علماء القرن التاسع) (2) عند حديثه عن الأسماء التي وقعت مبهمة في جامع الأمهات: قال (أبو محمد هو الشيخ ابن أبي زيد القيرواني) .
ب- وإذا قيد عندهم بالقاضي فقيل: القاضي أبو محمد
__________
(1) انظر ترجمته في: الديباج المذهب 1 / 137، شجرة النور الزكية ص 96.
(2) التعريف برجال جامع الأمهات للأموي صـ 279.(83/305)
فإن فقهاء المالكية يعنون به (القاضي عبد الوهاب التغلبي البغدادي (ت 422 هـ)) (1) .
نص على ذلك حطاب (ت 954 هـ) في (مواهب الجليل) (2) .
ومن الاتفاق أن القاضي أبا محمد (التغلبي) قيل: إنه أول من شرح الرسالة للشيخ أبي محمد (ابن أبي زيد) وهذا الشرح توجد منه قطعة في شرح المقدمة وقد طبعت، وقد أشار القاضي أبو محمد عبد الوهاب للشيخ أبي محمد ابن أبي زيد بأبي محمد فقط (3) .
ومن الفوائد أن [أبو] سقطت من أصل ابن شاس (ت 610 هـ) في (عقد الجواهر الثمينة) فصارت [محمد] ففهم أنه المواز (4) .
ثانيا: أما عند فقهاء الشافعية.. فتطلق كنية أبو محمد مجردة عن الاسم على الفقيه المقدم (أبي محمد الجويني (ت 438 هـ) واسمه عبد الله بن يوسف الطائي، وهو والد إمام الحرمين (5)
__________
(1) انظر: ترجمته في: الديباج المذهب 1 / 159.
(2) مواهب الجليل 1 \87، ونصه،: (وإليه ذهب القاضي أبو محمد عبد الوهاب) .
(3) انظر: شرح رسالة ابن أبي زيد للقاضي عبد الوهاب ص 23، وغيرها.
(4) انظر: ص 70 من مقدمة تحقيق (عقد الجواهر الثمينة) .
(5) انظر: ترجمته في المصادر التالية: سير أعلام النبلاء 17 / 617.(83/306)
وغالبا يسمى بالشيخ أبي محمد أو الإمام، وهذا الإطلاق كثير جدا عندهم.
ومما يحسن التنبيه إليه أنه وقع في كتاب الأم في غير ما موضع عبارة: قال أبو محمد منها ...
ما في الأم 1 / 231: قال أبو محمد: وفيها قول آخر إذا كان الإمام قد أفسد الصلاة عامدا فصلاة من خلفه علم بإفسادها أو لم يعلم باطلة) .
وفي 2 / 67، قال أبو محمد: وفيه قول آخر أن زكاة الفطر على البائع وغيرها من المواضع (1) .
والمقصود بأبي محمد هنا هو (الربيع بن سليمان المرادي صاحب الإمام الشافعي وناقل علمه (ت 270 هـ) وقد صرح
__________
(1) انظر مثلا: 1 / 29، 169، 3 / 186، 223، 5 / 239، 257، 6 / 7، 15، 172، 218.(83/307)
بذلك في مواضع (1) .
وهنا فائدة عن هذا الكتاب بخصوصه.. فقد ذكر ابن الصلاح (ت 643 هـ) أن كتاب (الأم) يسمى (بكتاب الربيع بن سليمان) (2) .
ثالثا: وأما عند فقهاء الحنابلة فيقصد بإطلاق أبي محمد (الفقيه الموفق عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (ت 620 هـ)) (3) .
وقد يقال: الشيخ أبو محمد أو الفقيه أبو محمد أو أبو محمد المقدسي (4) وهذا الإطلاق للكنية كثير جدا في كتب الحنابلة وممن نص على أن المراد بإطلاق أبي محمد أن المراد به الموفق ابن قدامة، القاضي علاء الدين المرداوي (ت 885 هـ) (5) .
__________
(1) انظر: الأم 1 / 110، 2 / 46، 6 / 11.
(2) طبقات الفقهاء الشافعية لابن الصلاح 1/.
(3) انظر ترجمته في: ذيل طبقات الحنابلة 2 / 133 المقصد الأرشد 2 / 15.
(4) انظر: حاشية تهذيب السنن لابن القيم 6 / 300، القواعد الأصولية للبعلي ص 260، الإنصاف 1 / 446.
(5) انظر: (الإنصاف 1 / 138) وعبارته: [أبو محمد: يعني به المصنف] .(83/308)
وأما إذا قيد عندهم بالبغدادي (1) فهو (الفخر إسماعيل بن علي الأزجي، أبو محمد البغدادي (ت 610 هـ)) (2) .
رابعا: وأما فقهاء المذهب الظاهري فإنهم عند إطلاق هذه الكنية فإنما يعنون بأبي محمد (علي بن أحمد بن حزم الأندلسي (ت 456 هـ)) مقرر المذهب وناشره.
__________
(1) المسودة ص 6، شرح غاية السول لابن عبد الهادي ص 273.
(2) انظر ترجمته في: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2 / 66، سير أعلام النبلاء 22 / 28.(83/309)
2 - أبو إسحاق:
هذه الكنية مما اشتهر بها جماعة من فقهاء المذاهب المتبوعة الأربعة جميعا، وذلك على النحو التالي:
أولا: أ. تطلق كنية أبي إسحاق مجردة عند بعض فقهاء الحنفية على (إبراهيم بن يوسف الماكياني (ت 241 هـ) شيخ الحنفية في بلخ) (1) وممن استخدم هذا الإطلاق الفقيه ابن عابدين (ت 1252 هـ) في بعض كتبه (2) .
__________
(1) انظر ترجمته في: الجواهر المضية 1 / 119، تذكرة الحفاظ 2 / 453.
(2) انظر: شرح رسم المفتي لابن عابدين صـ 32.(83/309)
ب- ويشتبه به عندهم (أبو إسحاق الحافظ) وهو أحد فقهاء الحنفية في القرن السادس الهجري (1) .
ثانيا: وأما فقهاء المالكية فلهم في ذلك أساليب:
أ- فإذا ذكروا أبا إسحاق مجردة عن وصف آخر وأطلقوا هذه الكنية فيقصدون به الفقيه (أبا إسحاق محمد بن شعبان المصري المتوفى سنة 355 هـ)) (2) وقد ورد ذكره كثيرا في كتب المالكية بكنيته مجردة.
قال ابن فرحون (ت 799 هـ) : (3) (أبو إسحاق هو ابن شعبان) وقال محمد بن عبد السلام الأموي (من علماء القرن التاسع) : (4)
__________
(1) انظر ترجمته في: الطبقات السنية رقم 2793، والجواهر المضية 4 / 11.
(2) انظر ترجمته في: الفكر السامي 2 / 10.
(3) كشف النقاب الحاجب ص 172.
(4) التعريف برجال جامع الأمهات صـ 279.(83/310)
(أبو إسحاق: هو ابن شعبان..) (عند ذكره الأسماء التي وقعت مبهمة في جامع الأمهات) .
وقال الخطاب (ت 954 هـ) (1) : (الشيخ أبو إسحاق: يعني ابن شعبان) .
ب- أما إذا قيدوه بالقاضي فقالوا: القاضي أبو إسحاق فإنهم يعنون الإمام إسماعيل بن إسحاق المتوفى سنة 282 هـ (2) وقد ورد ذلك في عدد من كتب المالكية.
وإذا أرادوا غيرهما فإنهم يقيدونه بالتونسي أو الشاطبي أو غير ذلك.
ثالثا: وأما فقهاء الشافعية فلهم في ذلك ثلاث استخدامات متغايرة لفقهاء مختلفين:
أ - فإذا أطلقوا كنية أبي إسحاق مجردة عن وصف آخر.
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 488.
(2) انظر ترجمته في: ترتيب المدارك 4 / 293، شجرة النور الزكية ص 66.(83/311)
فيراد به عند الإطلاق: (الفقيه إبراهيم بن أحمد، أبو إسحاق المروزي (ت 340 هـ)) (1) .
قال النووي في المجموع (2) : (فأما أبو إسحاق فهو المروزي) .
وقال أيضا في التهذيب (3) : وحيث أطلق أبو إسحاق في المذهب فهو المروزي.
ب- وأما إن قيدوه بـ «الشيخ أبي إسحاق» فيعنون به (الشيخ أبا إسحاق الشيرازي (ت 478 هـ)) صاحب المهذب (4) .
ج- وإن قيدوه بالأستاذ فقالوا: الأستاذ أبو إسحاق فالمراد به عندهم (الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني (ت 418 هـ) ،
__________
(1) انظر ترجمته في: العقد المذهب رقم 66، سير أعلام النبلاء 15 / 429.
(2) المجموع للنووي 1 / 200.
(3) تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 175.
(4) انظر ترجمته في المصادر التالية: طبقات الشافعية لابن السبكي 4 / 215، سير أعلام النبلاء 18 / 453.(83/312)
واسمه إبراهيم بن محمد) (1) قال النووي (2) : (أبو إسحاق الإسفراييني الفقيه ... يقال له: الأستاذ أبو إسحاق) .
رابعا: وعند الحنابلة فإذا أطلق أبو إسحاق فيراد به غالبا (الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عمر بن شاقلا (ت 369 هـ)) (3) وكثير من فقهاء الحنابلة يطلق هذه الكنية قاصدا بها ابن شاقلا.
أما إذا قالوا: رواه أبو إسحاق فالمراد به (أبو إسحاق الجوزجاني) ، وهنا فائدة: فقد ذكر الشيخ تقي الدين (4) أن عادة السلف في الأسماء والكنى ... تارة يكنون الرجل بولده كما يكنون من لا ولد له إما بالإضافة إلى اسمه أو اسم أبيه، أو ابن سميه، أو بأمر له تعلق به كما كنى النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بابن أختها عبد الله وكما يكنون داود أبا
__________
(1) انظر ترجمته في: العقد المذهب في طبقات حملة المذهب رقم 167.
(2) تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 169.
(3) انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة 2 / 128، سير أعلام النبلاء 16 / 292.
(4) مجموع الفتاوى 26 / 311.(83/313)
سليمان لكونه باسم داود عليه السلام الذي اسم ولده سليمان، وكذلك كنية إبراهيم أبو إسحاق..)
خامسا: في كتب الأصول وعلم الكلام ...
أ: إذا قيل: الأستاذ أبو إسحاق فالمراد به عندهم الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني (ت 418 هـ) .
ب: وإذا أطلق الشيخ أبو إسحاق فهو الشيرازي.(83/314)
3 - أبو البركات:
أولا: إذا أطلق أبو البركات عند فقهاء الحنفية فهو (أبو البركات ابن النجيب (ت 667 هـ)) (1) .
قال ابن أبي الوفاء القرشي في ذكر من اشتهر بكنيته من فقهاء الحنفية (2) : (أبو البركات: أبو البركات بن أبي الحسن بن النجيب بن معمر بن البناء المدائني) .
__________
(1) انظر ترجمته في: الطبقات السنية رقم 2796، الجواهر المضية 4 / 14.
(2) الجواهر المضية 4 / 14.(83/314)
ثانيا: وأما فقهاء الحنابلة فإن كنية أبي البركات تطلق عندهم في الأشهر على شخصين هما: أبو البركات ابن تيمية (ت 625 هـ) ، وأبو البركات ابن المنجى (ت 695 هـ) .
ولكن فإنهم إذا أطلقوا كنية أبي البركات مجردة فإنهم يعنون به (المجد ابن تيمية، واسمه عبد السلام بن عبد الله الحراني جد الشيخ تقي الدين (ت 652 هـ) (1) .
__________
(1) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 23 / 291، المقصد الأرشد لابن مفلح 2 / 162.(83/315)
4 - أبو بكر:
التكني بأبي بكر كثير في الفقهاء وغيرهم، ولذا يختلف المقصود بهذه الكنية بحسب اختلاف مكانها.
أولا: أما فقهاء الحنفية فلهم في ذلك استخدامات مختلفة..(83/315)
أ- فكثيرا ما يوجد في كتبهم نقولات عن الفقيه أبي بكر ومقصودهم به (الفقيه أبو بكر البلخي الإسكافي (ت 333 هـ) (1) .
ب- كذا كثيرا ما يطلقون الشيخ الإمام أبا بكر ويعنون به (الشيخ محمد بن الفضل أبا بكر الفضلي الكماري البخاري (ت 381 هـ)) (2) وقد يطلق عليه تمييزا: أبو بكر محمد (3) .
ج- أما صاحب القنية ومن تبعه في النقل فإنه إذا أطلق (أبا بكر) فيعني به: (أبا بكر الفضل) .
قال ابن أبي الوفا القرشي (4) : (أبو بكر الفضل ذكره صاحب القنية.. وكثيرا ما يذكره في الكتاب بتجريد الكنية فقط) .
كذا في الجواهر، ولعله [محمد بن الفضل] الكماري.
__________
(1) انظر ترجمته في: الفوائد البهية في تراجم الحنفية للكنوي ص 160.
(2) انظر ترجمته في: الفوائد البهية ص 184.
(3) انظر الفتاوى: التاتارخانية 1 / 39، 119.
(4) الجواهر المضية 4 / 23.(83/316)
د- وفي كتب الجصاص ك (أحكام القرآن) (وأدب القاضي) ، و (مختصر اختلاف الفقهاء) (والفصول) وغيرها.
إذا أطلق فيها أبو بكر مجردا فإنه مؤلفها (أبو بكر الرازي أحمد بن علي الجصاص (ت 370 هـ)) (1) .
ثانيا: وأما فقهاء المالكية.. فإن لهم اصطلاحا خاصا في ذلك..
أ- فإذا أطلق أبو بكر أو قيد بـ "الشيخ أبي بكر " فالمعني به أبو بكر الأبهري محمد بن عبد الله التميمي البغدادي (ت 375 هـ)) (2) قال حطاب (3) عند نقله كلاما لابن شاس في الجواهر عن الشيخ أبي بكر قال: (الشيخ أبو بكر يعني الأبهري ا. هـ.
وكذا القاضي عبد الوهاب إذا نقل في كتبه عن أبي بكر فيعني به الأبهري لأنه شيخه (4) .
__________
(1) تهذيب الأسماء الواقعة في الهداية والخلاصة ص 58، 208.
(2) انظر ترجمته في: ترتيب المدارك 4 / 466، الديباج ص 255.
(3) مواهب الجليل 6 / 367.
(4) انظر مثلا: التاج والإكليل 3 / 267.(83/317)
ب- وإذا قيدوه بالأستاذ فقالوا: الأستاذ أبو بكر أو أطلق الأستاذ فهو أبو بكر الطرطوشي محمد بن خلف الفهري (ت 520 هـ) (1) .
ج- وأما إذا قيد عندهم بالقضاء فقيل: القاضي أبو بكر فالمراد به القاضي أبو بكر ابن العربي، محمد بن عبد الله الإشبيلي (ت 345 هـ) (2) صاحب أحكام القرآن وعارضة الأحوذي (3) .
ثالثا: وأما الشافعية فيختلف عندهم المراد بأبي بكر باختلاف الكتب، ولهم في ذلك إطلاقات مختلفة (4) ومن ذلك مثلا.
__________
(1) انظر ترجمته في: الديباج المذهب 276.
(2) انظر ترجمته في: الديباج المذهب 2 / 252.
(3) انظر مقدمة محقق: عقد الجواهر الثمينة ص127.
(4) انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 192، المغني لابن باطيش 2 / 427.(83/318)
أ- في كتاب (حلية العلماء) إذا ورد (قال أبو بكر) فالمراد به أبو بكر القفال (ت 507 هـ) مؤلف الكتاب (1) .
وفي كتب ابن المنذر الأوسط (2) والإشراف والإقناع المراد به مؤلفها (أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر (ت 309 هـ)) .
رابعا: عند الحنابلة نجد أنهم كثيرا ما يطلقون هذه الكنية أبو بكر ويراد به عندهم (أبو بكر عبد العزيز صاحب التنبيه المعروف بغلام الخلال (ت 363 هـ) (3) .
قال ابن بدران (ت 1346 هـ) (4) وأما أبو بكر فهو عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد، كان يعرف بغلام الخلال فهو صاحب كتابي (الشافي) ، و (التنبيه) في فقه المذهب الأحمدي وصاحب (الخلاف مع الشافعي) وكانت وفاته سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ا. هـ.
__________
(1) وكثير جدا في كتاب (الحلية) عبارة: (قال الإمام أبو بكر) .
(2) مثلا: الأوسط 1 / 109، 127.
(3) انظر: ترجمته في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 2 / 119، المقصد الأرشد لابن مفلح 2 / 126.
(4) المدخل لابن بدران ص 125.(83/319)
ب: أما إذا أطلقوا أبا بكر وكان راويا عن الإمام أحمد وناقلا عنه فمقصودهم تلميذه (أبو بكر المروذي (ت 275 هـ) أحمد بن محمد بن الحجاج (1) .
خامسا: وعند علماء الظاهرية فإذا أطلقت هذه الكنية (2) فالمراد به عندهم (أبو بكر محمد بن داود الطائي الظاهري (ت 297 هـ)) (3) .
سادسا: وأما في النقل في مسائل علم الكلام والمباحث الأصولية.
أ- فالغالب أنه أبو بكر الباقلاني (ت هـ) (4) وخصوصا إذا قيد بالقاضي، فقيل: القاضي أبو بكر.
ب- أما إذا نقل في كتب المباحث الكلامية عن الأستاذ أبي بكر فإنه (أبو بكر بن فورك (ت 406 هـ) (5) .
__________
(1) انظر: ترجمته في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1 / 56.
(2) انظر مثلا: الإحكام لابن حزم 3 / 310، 4 / 609، التقرير والتحبير 3 / 69.
(3) انظر: ترجمته في سير أعلام النبلاء 13 / 109.
(4) انظر: مثلا حواشي الشرواني 9\85 الذخيرة 1 / 119.
(5) انظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى 4 / 127، سير أعلام النبلاء 17 / 214.(83/320)
5 - أبو ثابت: -
كنية أبي ثابت عند الإطلاق من الإضافة والوصف من الكنى المشتركة بين عدد من الفقهاء، على النحو التالي:
أولا: فقهاء الحنفية (1) يعنون به عند الإطلاق (الفقيه أبا ثابت البزدوي، واسمه الحسن بن علي (ت 557 هـ) (2) .
قال عبد الحي اللكنوي (ت 1303 هـ) (3) عند ذكر من اشتهر بكنيته من الحنفية: (أبو ثابت البزدوي الحسن بن فخر الإسلام) .
ثانيا: وعند فقهاء المالكية فإن كنية أبي ثابت مجردة تطلق على (أبي ثابت محمد بن عبد الله بن محمد بن زيد المديني مولى عثمان بن عفان) (4) وهو أحد الرواة النقلة عن ابن القاسم.
ثالثا: وعند فقهاء الحنابلة فإن هذه الكنية تطلق مجردة (5) على
__________
(1) الفتح المبين في تعريف مصطلحات الفقهاء، والأصوليين للحفناوي ص 67.
(2) انظر: ترجمته في المصادر التالية: الجواهر المضية.
(3) انظر: الفوائد البهية ص 234.
(4) انظر ترجمته في المصادر التالية: الديباج المذهب 230، طبقات الفقهاء ص158.
(5) كذا، ورد مطلقا في: الفروع لابن مفلح 2 / 148، والآداب الشرعية 1 / 310.(83/321)
أبي ثابت الحطاب (ت 294 هـ) (1) وهو أحد الرواة عن الإمام أحمد.
__________
(1) انظر: ترجمته طبقات الحنابلة 1 / 424، المقصد الأرشد لابن مفلح 1 / 374.(83/322)
6- أبو جعفر:
هذه الكنية تطلق على عدد من الفقهاء..
أولا: عند فقهاء الحنفية تطلق هذه الكنية مجردة على الفقيه (أبي جعفر، محمد بن عبد الله الهندواني (ت 362 هـ) (1) ويعرف كثيرا بأبي جعفر الفقيه (2) .
قال عبد القادر بن نصر الحنفي (ت 775 هـ) (3) . أبو جعفر هكذا هو مذكور في صدقة الفطر، وهو الفقيه محمد بن عبد الله الهندواني.
وقال عبد الحي اللكنوي (ت 1303 هـ) (4) (أبو جعفر هو البلخي الهندواني كان بارعا في الفقه شيخ زمانه يقال له أبو حنيفة الأصغر توفي ببخارا سنة اثنتين وستين وثلاثمائة) .
__________
(1) انظر: ترجمته في الفوائد البهية للكنوي ص 179.
(2) انظر: الفوائد البهية ص 179، مقدمة الفتاوى التاتارخانية 1 / 39.
(3) تهذيب الأسماء الواقعة في الهداية والخلاصة ص 209
(4) مقدمة الهداية للكنوي 1 / 21.(83/322)
وإذا أرادوا غيره فإنهم يقيدونه فيقولون مثلا: أبو جعفر الطحاوي (1) .
ثانيا: وأما فقهاء المالكية فإنهم يذكرون أبا جعفر ويذكرون له اختيارات فقهية وهم يعنون به أبا جعفر ابن رزق، أحمد بن محمد (ت 477 هـ) (2) ومتأخرو المالكية في الحقيقة تابعون للشيخ أبي الوليد ابن رشد إذ كثيرا ما ينقل في كتبه عن شيخه أبي جعفر، ويعني به ابن رزق هذا، لذا نجد عنده كثيرا عبارة " شيخنا الفقيه أبو جعفر " (3) .
ثالثا: وعند فقهاء الشافعية فإنهم يطلقون كنية أبي جعفر مجردة على (أبي جعفر الترمذي، محمد بن أحمد (ت 295 هـ)) (4) .
__________
(1) انظر: تهذيب الأسماء الواقعة في الهداية والخلاصة ص 209.
(2) انظر: ترجمته في شجرة النور الزكية ص 121.
(3) انظر مثلا: فتاوى ابن رشد 1 / 503، 2 / 912، 988، 991، البيان والتحصيل لابن رشد.
(4) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 13 / 545، طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 2 \82.(83/323)
قال النووي (1) : (أبو جعفر: اسمه: محمد بن أحمد بن نصر، أحد الأئمة الذين تنشرح بذكرهم الصدور، وترتاح لذكر مآثرهم القلوب كان - رضي الله عنه - حنفيا، ثم صار شافعيا) .
رابعا: ويطلق عند فقهاء الحنابلة على (الشريف أبي جعفر، واسمه عبد الخالق بن عيسى الهاشمي (ت 470 هـ) .
خامسا: وعند المفسرين إذا أطلق فإنما يعنون به (الإمام أبا جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) (2) .
وقد ينقل عنه مسائل فقهية واختيارات في بعض الكتب (3) .
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 294. وانظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 202.
(2) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 14 / 267.
(3) انظر: مثلا: الجامع لأحكام القرآن 5 / 393.(83/324)
7 - أبو حامد:
هذه الكنية عند الإطلاق يشترك فيها عدد من الفقهاء ...(83/324)
أولا: عند فقهاء الحنفية إذا أطلق أبو حامد فإنهم يعنون به أحد شخصين:
أ- أحدهما: (الفقيه أبو حامد المروزي، أحمد بن الحسن (ت 376 هـ) (1) وهذا هو الأغلب.
جاء في مقدمة (الفتاوى التاتارخانية) (2) (أبو حامد هو أحمد بن حسن بن علي، أبو حامد الفقيه المروزي) .
ب- والثاني (أبو حامد السرخسي، أحمد بن محمد الشجاعي الثلجي (ت 482 هـ)) (3) .
وهذا يكثر من النقل عنه صاحب "القنية" قال ابن أبي الوفا القرشي (4) : (أبو حامد السرخسي تفقه على عبد الرحيم بن عبد السلام الغياتي وانقطع إليه وبه تخرج. وأبو حامد هذا أحد من عزا إليه صاحب "القنية" وعلم به (جم)) .
__________
(1) انظر ترجمته في: الفوائد البهية ص 18.
(2) مقدمة الفتاوى التاتارخانية 1 / 39.
(3) انظر ترجمته في: الطبقات السنية رقم 2850.
(4) الجواهر المضية 4 / 33.(83/325)
ثانيا: وأما فقهاء الشافعية فإنه يشترك عندهم في هذه الكنية عدد من كبار فقهائهم لذا فإن لهم إطلاقين..
أ- فإذا أطلقوا أبا حامد مجردا أو سمي بـ"الشيخ أبي حامد " فإنهم يقصدون به (الشيخ الفقيه أبا حامد الاسفراييني أحمد بن أبي طاهر (ت 406 هـ)) .
كما بينه غير واحد منهم: ابن باطيش (ت 655 هـ) (1) وغيره، وقال النووي (676 هـ) (2) (أبو حامد الاسفراييني.. يعرف بالشيخ أبي حامد هكذا تكرر في كتب المذهب وهو متكرر في هذه الكتب أكثر تكرر.
ب- وإذا قيد عندهم بالقاضي فقيل القاضي أبو حامد
__________
(1) المغني لابن باطيش 2 / 456.
(2) تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 208.(83/326)
فهو (القاضي أبو حامد المروذي (ت 362 هـ)) (1) واسمه أحمد بن بشر بن عامر العامري.
قال النووي (676 هـ) (2) (أبو حامد المروذي ... بميم مفتوحة ثم راء مضمومة مشددة ثم واو ثم ذال معجمة، وقد يقال بتخفيف الراء ويقال المروذي بتشدد الراء المضمومة.... والأول هو المشهور، ويعرف بالقاضي أبي حامد بخلاف الذي قبله فإنه معروف في كتب المذهب بالشيخ أبي حامد فغلب في الأول استعمال الشيخ، وفي الثاني القاضي.
ثالثا: يشتبه به عند فقهاء الحنابلة ابن حامد، وهو (أبو عبد الله بن حامد البغدادي (ت 403 هـ) .
وقد يقع تصحيف في بعض الكتب فيجعل بلفظ الأبوة (أبو حامد) وهو تصحيف.
__________
(1) انظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 3 / 12.
(2) تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 211.(83/327)
8- أبو الحسن:
التكني بأبي الحسن كثير جدا عند الفقهاء، ويسبب اشتباها(83/327)
ولبسا كثيرا عند بعض المتفقهة ... ويمكن تفصيله على النحو التالي:
أولا: فقهاء الحنفية إذا أطلقوا هذه الكنية فإنما يعنون به (شيخ الحنفية في العراق أبا الحسن الكرخي عبيد الله بن الحسين (ت 340 هـ)) (1) .
ثانيا: أما فقهاء المالكية فلهم مسالك متعددة في إطلاق أبي الحسن أو الشيخ أبي الحسن ولم أر أحدا منهم فرق بين هذه الإطلاقات مما يسبب لبسا لدي كثير من الباحثين، وقد حاولت أن أستقرئ إطلاقهم في ذلك بحسب القرينة في الكلام على النحو التالي:
أ- فالقاضي عبد الوهاب البغدادي، وابن شاس (2) وابن
__________
(1) انظر ترجمته في: الفوائد البهية ص 108.
(2) انظر: عقد الجواهر الثمينة 1 / 14، 24، 34، 188.(83/328)
الحاجب (1) ومن نقل عنهم (2) يعنون بأبي الحسن عند إطلاقه (علي بن عمر البغدادي، أبا الحسن ابن القصار (ت 397 هـ)) (3) .
قال ابن فرحون (ت 799 هـ) في بيان مصطلحات ابن الحاجب في (مختصره) الفقهي (4) : (أبو الحسن: هو أبو الحسن ابن القصار البغدادي) . وقال محمد بن عبد السلام الأموي (من علماء القرن التاسع) (5) عند حديثه عن الأسماء التي وقعت مبهمة في (جامع الأمهات) قال: أبو الحسن: هو القاضي ابن القصار البغدادي ... )
ب- وإذ أطلق عندهم القاضي أبو الحسن فإنه (أبو الحسن ابن القصار (ت 397 هـ)) أيضا.
قال حطاب - عندما نقل نقلا عن الجواهر -: (القاضي
__________
(1) انظر: جامع الأمهات لابن الحاجب ص.
(2) انظر مثلا: أحكام القرآن لابن العربي 2 / 603، 3 / 344، الجامع للقرطبي 2 / 325.
(3) انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 12 / 14، الديباج المذهب ص199.
(4) كشف النقاب الحاجب ص 172.
(5) التعريف برجال جامع الأمهات ص 279.(83/329)
أبو الحسن: يعني ابن القصار (1) .
ج- وأما إذا قيده ابن شاس (ت 610 هـ) في عقد الجواهر الثمينة بالشيخ فقال: الشيخ أبو الحسن (2) فهو (أبو الحسن القابسي، علي بن محمد بن خلف المعافري (ت 403 هـ)) (3) .
د- وأما عند شراح الرسالة المتأخرين ومن نقل عنهم من شراح خليل المصريين المتأخرين (4) فيعنون به أبا الحسن الشاذلي، علي بن محمد المنوفي المالكي (ت 939 هـ) (5) صاحب الشروح الستة على الرسالة (6) .
هـ - وأما إذا قيد عندهم (بالصغير) فقيل: أبو الحسن الصغير
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 257.
(2) انظر: عقد الجواهر الثمينة 1 / 24، 34.
(3) ترجمته في: الديباج المذهب 2 / 101، المدارك 7 / 92، شجرة النور الزكية ص 108.
(4) انظر: تنوير المقالة للتتائي 1 / 28، وفيه أن هذا الشرح مأخوذ من شروح أبي الحسن الشاذلي.
(5) انظر: ترجمته في شجرة النور الزكية ص 272.
(6) دليل السالك للمصطلحات، والأسماء في فقه الإمام مالك د. حمدي شلبي ص 86.(83/330)
فإنه (علي بن محمد بن عبد الحق الزرويلي، يكنى أبا الحسن، ويعرف بالصغير بضم الصاد وفتح الغين والياء مشددة (ت 719 هـ) (1) .
وكذا إذا قيل: أبو الحسن المغربي (2) أو أبو الحسن شارح المدونة قال حطاب (3) ويعني (4) بالمغربي: أبا الحسن الصغير.
ثالثا: وعند فقهاء الحنابلة فهناك جماعة من فقهائهم كلهم يكنى بأبي الحسن أشهرهم الآمدي والتميمي ففي الغالب يقيد الشخص المراد به.
رابعا: وفي مسائل علم الكلام والعقائد فأبو الحسن عند الإطلاق (5) هو أبو الحسن الأشعري علي بن إسماعيل (ت بعد
__________
(1) ترجمته في: الديباج المذهب ص 212.
(2) انظر مثلا: مواهب الجليل 2 / 164 الفواكه الدواني 1 / 102، 151، 2 / 164، حاشية العدوي 1 / 239.
(3) مواهب الجليل 3 / 453.
(4) يقصد ابن ناجي (ت 838 هـ) شارح المدونة، فإنه ينقل كثيرا عن (المغربي) ، وقد يسميه (أبو الحسن) .
(5) انظر مثلا: الجامع لأحكام القرآن 1 / 251، الإحكام للآمدي 2 / 158.(83/331)
320 هـ) (1) وهو الذي يقصد الغزالي في المنخول بقوله: شيخنا أبو الحسن، وكذا الجويني.
__________
(1) انظر ترجمته في: الجواهر المضية 4 / 33.(83/332)
9 - أبو الحسين:
تصدق هذه الكنية على عدد من الأعلام كل بحسب فنه.
أولا: فقهاء الحنفية إذا أطلقوا أبا الحسين (1) فإنهم يعنون (2) الشيخ أبا الحسين القدوري أحمد بن محمد بن أحمد (ت 428 هـ) (3) "صاحب التجريد" و "المختصر ".
ثانيا: وأما فقهاء الحنابلة فإنه يكثر جدا عندهم إطلاق كنية أبي الحسين (4) ويسمونه أحيانا القاضي أبا الحسين (5) ، ويعنون به الفقيه القاضي أبا الحسين ابن أبي يعلى محمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن الفراء البغدادي (ت 526 هـ) (6) صاحب التمام وغيرها.
__________
(1) وردت هذه الكنية مطلقة في عدد من كتب الحنفية، ومنها تبيين الحقائق 1 / 334.
(2) انظر: الجواهر المضية لابن أبي الوفاء 4 / 36.
(3) انظر ترجمته في: الفوائد البهية ص30، الجواهر المضية 2 / 247.
(4) انظر مثلا: الإنصاف 1 \86، 94، حاشية الزركشي 7 / 617.
(5) كذا مطلقا في تصحيح الفروع 2 / 140 (ط التركي) ، والإنصاف 1 / 76.
(6) انظر ترجمته في: ذيل طبقات الحنابلة 1 / 176، المقصد الأرشد 2 / 499.(83/332)
ثالثا: وأما عند المعتزلة، وفي المباحث الكلامية فالمقصود بأبي الحسين عند الإطلاق (أبو الحسين البصري، محمد بن علي البغدادي المعتزلي (ت 436 هـ)) (1) صاحب كتاب المعتمد في أصول الفقه.
رابعا: وقد يشتبه به عند فقهاء الشافعية القاضي الحسين وهو القاضي أبو محمد الحسين المروزي (ت 462 هـ) (2) صاحب "التعليقة" و "الفتاوى" وغيرها.
__________
(1) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 17 / 587.
(2) انظر ترجمته في: طبقات ابن السبكي 4 / 356، سير أعلام النبلاء 18 / 260.(83/333)
10 - أبو حفص:
تشهر كنية أبي حفص عند الفقهاء على جماعة منهم، وتطلق عند الإطلاق على بعض أعلام المذاهب الفقهية.. .
أولا: عند فقهاء الحنفية لهم في ذلك إطلاقان في الأشهر:
أ: فإذا أطلقوا أبا حفص ويسمونه أبا حفص الكبير(83/333)
فيعنون به (أبا حفص الكبير أحمد بن حفص (ت 217 هـ) (1) .
قال عبد القادر ابن أبي الوفاء القرشي الحنفي (ت 775 هـ) (2) . أبو حفص تكرر ذكره في الهداية هكذا، وأصله أبو حفص الكبير ... )
وقال عبد الحي اللكنوي (ت 1303 هـ) (3) : أبو حفص الكبير هو أحمد بن حفص أخذ عن محمد بن الحسن ووفاته سنة سبع عشر ومائتين.
ب- وله ابن اسمه محمد، وكنيته (أبو عبد الله) وهو معروف عند فقهاء الحنفية بأبي حفص الصغير (ت 264 هـ) (4) .
ثانيا: وعند فقهاء المالكية فإنهم إذا أطلقوا أبا حفص فإنهم تبع للبرزلي يعنون به (أبا حفص ابن العطار (ت 428 هـ)) (5) .
__________
(1) انظر: ترجمته في المصادر التالية.
(2) تهذيب الأسماء الواقعة في الهداية والخلاصة ص 210
(3) مقدمة الهداية للكنوي 1 / 24 مقدمة الفتاوى التاتاخانية 1 / 39.
(4) مقدمة الهداية للكنوي 1 / 24.
(5) انظر ترجمته في: كفاية المحتاج 1 / 243، شجرة النور الزكية 1 / 256.(83/334)
ثالثا: أما عند فقهاء الشافعية فيعنون عند إطلاق هذه الكنية (أبا حفص الباب شامي (ت 310 هـ) (1) .
قال ابن باطيش (ت 655 هـ) (2) أبو حفص البابشامي هو أبو حفص ابن الوكيل اشتهر بكنيته ... ) ويطلق كثيرا في كتب فقهاء الشافعية (3) .
رابعا: وأما فقهاء الحنابلة فإنهم كثيرا ما يرد في كتبهم نقولات عن أبي حفص ويعنون به إذا أطلق (أبا حفص عمر بن إبراهيم العكبري (ت 387 هـ)) (4) .
أما إذا قال الحنابلة: رواه أبو حفص فإنهم يعنون به أبا حفص ابن شاهين أو العكبري فإن له أيضا كتبا مسندة في الآداب وغيرها.
__________
(1) انظر ترجمته في: طبقات الفقهاء للشيرازي ص90، طبقات الشافعية للإسنوي 2 / 303.
(2) المغني لابن باطيش 2 / 455، وانظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 215.
(3) انظر مثلا: العزيز 6 / 350.
(4) انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة 2 / 163، المقصد الأرشد لابن مفلح 2 / 29.(83/335)
11 - أبو خازم:
أبو خازم بالخاء المعجمة والزاي المعجمة أيضا تطلق هذه الكنية على عدد من الفقهاء، ومن أشهرهم ...
أولا: عند فقهاء الحنفية إذا حكي قول عن أبي خازم (القاضي أبي خازم) فإنهم يعنون به القاضي أبا خازم، عبد الحميد بن عبد العزيز السكوني البصري ثم البغدادي الحنفي (ت 292 هـ) (1) .
قال ابن أبي الوفاء (2) أبو خازم اسمه عبد الحميد ...
ثانيا: وعند فقهاء الحنابلة فإنهم كثيرا ما يطلقون هذه الكنية أبا خازم أو القاضي أبا خازم لكنهم يعنون به أبا خازم محمد ابن القاضي أبي يعلى (ت 527 هـ) (3) .
__________
(1) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 13 / 539، الجواهر 2 / 366.
(2) الجواهر المضية 4 / 43.
(3) انظر ترجمته في: ذيل طبقات الحنابلة 1 / 184، شذرات الذهب 4 \82.(83/336)
والقاضي أبو خازم اسمه يشابه اسم أخيه القاضي أبي الحسين فكلاهما محمد، وهما ابنان للقاضي أبي يعلى بن الفراء، لكن أبا الحسين سبق أخاه أبا خازم بالوفاة بسنة واحدة فقط.(83/337)
12 - أبو الخطاب:
أبو الخطاب بالخاء المعجمة المفتوحة، ثم الطاء المهملة المشددة، هذه الكنية تطلق على عدد من الفقهاء.
أولا: فأشهرهم على الإطلاق هو الشيخ أبو الخطاب الكلوذاني، واسمه محفوظ بن أحمد (ت 510 هـ) (1) وهو أشهر من تطلق عليه هذه الكنية في كتب الأصول والفروع الفقهية معا.
وهو من أجلة فقهاء الحنابلة المتوسطين، وله العديد من الكتب في الفروع الفقهية والأصول على مذهب الحنابلة، ويكثر النقل عنه في كتب الحنابلة، وغيرهم.
ثانيا: وعند فقهاء الحنفية تطلق هذه الكنية على أبي الخطاب الكعبي من علماء القرن الخامس (2) قال ابن أبي الوفا القرشي (3)
__________
(1) انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 2 / 258، سير أعلام النبلاء 19 / 348.
(2) انظر ترجمته في: الطبقات السنية 2862، الجواهر المضية 4 / 44.
(3) الجواهر المضية 4 / 44.(83/337)
أبو الخطاب الكعبي اسمه محمد بن إبراهيم بن علي الظفري القاضي الإمام البخاري ...
ثالثا: ويطلق عند فقهاء المالكية على ابن واجب (ت 614 هـ) (1) ولكن لم أقف على نقل عنه في الفقه.
رابعا: وأما عند الظاهرية فهو أبو الخطاب ابن دحية الكلبي (ت 633 هـ) (2) وهو صاحب التصانيف المشهورة في علوم الحديث وغيرها.
خامسا: وإذا كان النقل في اللغة فهو أبو الخطاب الأخفش الكبير، عبد الحميد بن عبد المجيد شيخ سيبويه (ت 177 هـ) .
__________
(1) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 22 / 44.
(2) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 22 / 389.(83/338)
13 - أبو زيد:
تطلق هذه الكنية في كتب الفقهاء على عدد من العلماء ...
أولا: فعند فقهاء الحنفية إذا أطلقوا " أبو زيد " (1) أو "القاضي
__________
(1) انظر مثلا: البحر الرائق 1 / 180، فتح القدير 7 / 227.(83/338)
أبو زيد " أو " أبو زيد الكبير " (1) فإنما يعنون به (الفقيه أبا زيد الدبوسي (ت 430 هـ)) (2) .
ثانيا: وأما " أبو زيد " عند المالكية فهو يروي عن ابن القاسم، وأصحاب الإمام مالك، وهو أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم القرطبي (ت 258 هـ) (3) صاحب كتاب الثمانية.
قال ابن فرحون (ت 799 هـ) (4) غلبت عليه كنيته أبو زيد.
ثالثا: عند الشافعية إذا أطلق أبو زيد أو الشيخ أبو زيد
__________
(1) انظر مثلا: المبسوط للسرخسي 3 / 159، 176، تبيين الحقائق 1 / 61.
(2) انظر ترجمته في المصادر التالية: الجواهر المضية 4 / 47، تاج التراجم 86، الفوائد البهية ص 109.
(3) انظر ترجمته في: الديباج المذهب ص 147.
(4) الديباج المذهب ص 147.(83/339)
فيعنون به أبا زيد المروزي، الفقيه محمد بن أحمد بن عبد الله الفاشاني (ت 371 هـ) (1) .
ذكره النووي في (تهذيب الأسماء واللغات) (2) .
رابعا: عند نقل المسائل اللغوية فالمراد بأبي زيد (أبو زيد الأنصاري سعيد بن أوس (ت 215 هـ)) .
__________
(1) انظر ترجمته في المصادر التالية: طبقات ابن السبكي 3 / 71، سير أعلام النبلاء 16 / 313.
(2) تهذيب الأسماء واللغات 2 / 234.(83/340)
14 - أبو سعد:
هذه الكنية يشترك فيها عدد من الفقهاء..
أولا: فيطلقها فقهاء الحنفية على (أبي سعد السمان إسماعيل بن(83/340)
علي الرازي (ت 445 هـ)) (1) قال ابن أبي الوفا الحنفي (ت 774 هـ) (2) (أبو سعد. أبو سعد السمان إسماعيل بن علي بن الحسين عرف بابن زنجويه) .
ثانيا: وهذه الكنية تطلق مجردة عند فقهاء الشافعية على (القاضي أبي سعد الهروي، محمد بن أحمد بن أبي يوسف (ت في حدود الخمسمائة) (3) صاحب (الإشراف على غوامض الحكومات) ويسمونه القاضي أبا سعد، أو القاضي أبا سعد بن أحمد.
ثالثا: وقد يقصد به أبو سعد السمعاني (ت هـ) (4) إذا كان النقل يتعلق بالأنساب أو بالحديث وضبطه.
__________
(1) انظر ترجمته في: الجواهر المضية 1 / 424.
(2) الجواهر المضية لابن أبي الوفا القرشي 4 / 49.
(3) انظر ترجمته في: طبقات ابن السبكي 5 / 366.
(4) انظر ترجمته في: طبقات ابن السبكي.(83/341)
15 - أبو سعيد:
أبو سعيد من الكنى المشتركة بين الفقهاء، ويعنون بها عند الإطلاق عددا من الفقهاء بحسب اختلاف مذاهبهم.(83/341)
أولا: فعند فقهاء الحنفية إذا أطلق فهو (أبو سعيد البردعي أحمد بن الحسين (ت 317 هـ) (1) بالدال المهملة.
ثانيا: وعند فقهاء المالكية إذا أطلقوا أبا سعيد فإنهم يعنون به أبا سعيد البراذعي (ت هـ) (2) صاحب تهذيب المدونة بالذال المعجمة.
قال محمد بن عبد السلام الأموي (من علماء القرن التاسع) (3) عند حديثه عن الأسماء التي وقعت مبهمة في جامع الأمهات. قال: (أبو سعيد: خلف بن أبي القاسم الأزدي البراذعي) .
ثالثا: وعند فقهاء الشافعية فإنهم إذا أطلقوا أبا سعيد
__________
(1) انظر ترجمته في: الجواهر المضية 1 / 163، الفوائد البهية ص19.
(2) انظر ترجمته في: ترتيب المدارك 7 / 256 الديباج المذهب 1 / 349.
(3) التعريف برجال جامع الأمهات صـ 274، وأشار إلى ذلك أيضا الدسوقي في حاشيته 2 / 433.(83/342)
فإنهم يعنون به (الحسن بن أحمد بن يزيد أبا سعيد الإصطخري النيسابوري (ت 328 هـ) (1) .
قال ابن باطيش (ت 655 هـ) (2) (اسمه الحسن بن أحمد، أبو سعيد الإصطخري..)
__________
(1) انظر ترجمته في: طبقات ابن السبكي 3 / 230، سير أعلام النبلاء 15 / 250.
(2) المغني لابن باطيش 2 / 472.(83/343)
16 - أبو سلمة:
إذا أطلق (أبو سلمة) في كتب الفقهاء والخلاف فإنه ينصرف في الغالب لأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف (ت 94 هـ) أحد الفقهاء السبعة (1) بل وأحد فقهاء الإسلام المشهورين.
ب- ولكن لفقهاء الحنفية بالخصوص اصطلاحا خاصا بهم فإنه يعنون بإطلاق كنية أبي سلمة (2) أبا (سلمة الفقيه، محمد بن محمد أبا سلمة السمرقندي) (3) .
__________
(1) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 4 / 287.
(2) وردت هذه الكنية مطلقة في عدد من المواضع منها: البحر الرائق 8 / 363، حاشية ابن عابدين 6 / 713.
(3) انظر ترجمته في: تاج التراجم ص 233، الجواهر المضية 3 / 326.(83/343)
17- أبو سليمان:
أبو سليمان تطلق هذه الكنية مجردة على عدد من الفقهاء.. .
أولا: إذا أطلق أبو سليمان عند فقهاء الحنفية فيعنون به (أبا سليمان الجوزجاني موسى بن سليمان (ت بعد 200 هـ) (1) .
قال عبد الحي اللكنوي (ت 1303 هـ) أبو سليمان هو موسى بن سليمان الجوزجاني أخذ الفقه عن محمد بن الحسن.. وأصل محمد بن الحسن المتعارف عليه في ديار الروم رواية عنه ... ووفاته بعد المائتين من الهجرة اهـ.
والنسخة المطبوعة من كتاب الأصل لمحمد بن الحسن جاءت من رواية أبي سليمان الجوزجاني، كما يظهر ذلك في غير موضع في الكتاب فكل ما فيه أبو سليمان عن محمد، فالمراد الجوزجاني.
__________
(1) انظر ترجمته في: الجواهر المضية 1714.(83/344)
ثانيا: وأما فقهاء الشافعية فإنهم إذا أطلقوا هذه الكنية (1) فيعنون به (أبا سليمان حمد بن محمد البستي الخطابي (ت 388 هـ) (2) .
ثالثا: وأما الظاهرية فالمراد بأبي سليمان عندهم عند الإطلاق مؤسس المذهب وإمامه (داود بن علي الطائي أبو سليمان الأصبهاني الظاهري (ت 270 هـ)) (3) .
__________
(1) العزيز للرافعي 3 / 373، 377، المجموع للنووي، روضة الطالبين.
(2) انظر ترجمته في المصادر التالية: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 2 / 156.
(3) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 13 / 97.(83/345)
18 - أبو شجاع:
هذه الكنية مشتركة بين عدد من أهل العلم.
أولا: فعند فقهاء الحنفية نجد أنهم يطلقون هذه الكنية بصيغ متعددة مثل أبو شجاع (1) أو السيد أبو شجاع (2) أو الإمام أبو شجاع (3) ويعنون به (السيد أبا شجاع، محمد بن أحمد بن حمزة
__________
(1) كذا ورد في: المبسوط للسرخسي 8 / 133، البحر الرائق 2 / 152، حاشية ابن عابدين 1 / 230، 2 / 137.
(2) كذا ورد في فتح القدير 1 / 126، البحر الرائق 1 / 152، 4 / 222، حاشية ابن عابدين 3 / 754.
(3) كذا في المراجع التالية: البحر الرائق 8 / 205، تبيين الحقائق 5 / 183، حاشية ابن عابدين 4 / 360.(83/345)
من فقهاء القرن الخامس (1) .
قال عبد الحي اللكنوي (ت 1303) هـ (2) السيد أبو شجاع محمد بن أحمد بن حمزة، وقال (3) : المشتهر بالسيد أبي شجاع، وقال ابن أبي الوفاء القرشي (ت 774 هـ) (4) : أبو شجاع ذكره الخاصي: قال السيد الإمام أبو شجاع والقاضي الماتريدي....
وأبو شجاع هذا والقاضي الماتريدي كانا في زمن الإمام علي السغدي ومات السغدي سنة إحدى وستين وأربعمائة ... اهـ.
ثانيا: وأما عند فقهاء الشافعية فهو صاحب المتن المشهور باسمه متن أبي شجاع، واسم هذا المتن الغاية في الاختصار ويسمى غاية الاختصار، وفي بعض النسخ متن الغاية والتقريب (5) .
__________
(1) انظر ترجمته في: الطبقات السنية رقم 2872 الجواهر المضية 4 / 53 الفوائد البهية ص 155.
(2) الفوائد البهية ص235.
(3) الفوائد البهية ص 155.
(4) الجواهر المضية 4 / 53.
(5) انظر: كتاب (المذهب عند الشافعية الشيخ محمد الطيب ص 234) .(83/346)
وأبو شجاع هو القاضي أحمد بن الحسن بن أحمد أبو شجاع الأصبهاني ت بعد 500 هـ.
وهذا المتن هو الذي شرحه الحصني (ت 829 هـ) في كتابه كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار.
ثالثا: أما إذا قيل رواه أبو شجاع أو الحافظ أبو شجاع (1) فهو الديلمي شيرويه بن شهردار (ت 509 هـ) صاحب كتاب الفردوس (2) .
__________
(1) كذا أطلقه ابن الهمام في فتح القدير 1 / 290.
(2) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 19 / 294.(83/347)
19 - أبو طاهر:
هذه الكنية مشتركة بين ثلاثة من الفقهاء حنفي وشافعي ومالكي على النحو التالي ...
أولا: فعند فقهاء الحنفية يطلق غير واحد منهم نقولات وآراء فقهية عن أبي طاهر ويعنون به أبا طاهر الدباس واسمه محمد بن محمد بن سفيان من علماء القرن الثالث (1) .
__________
(1) انظر ترجمته في الجواهر المضية 3 / 313 الفوائد البهية ص187.(83/347)
كذا أطلقه غير واحد من فقهائهم ومؤلفيهم.
قال ابن أبي الوفاء (ت 774 هـ) فيمن اشتهر بكنيته من فقهاء الحنفية: أبو طاهر هو أبو طاهر الدباس اسمه محمد بن محمد بن سفيان.
ثانيا: وورد إطلاق أبي طاهر عند بعض فقهاء المالكية كابن شاس (1) والقرافي (2) ويعنون به ابن بشير وهو إبراهيم بن عبد الصمد، أبا الطاهر ابن بشير التنوخي ت بعد 526 هـ (3) .
ويدل على ذلك أن هذه النقول التي نقلها القرافي عن أبي طاهر منسوبة في غيره من الكتب لابن بشير وكنيته أبو طاهر.
ثالثا: وعند فقهاء الشافعية تطلق هذه الكنية مجردة أبو طاهر
__________
(1) عقد الجواهر الثمينة 1 / 15.
(2) الذخيرة 1 / 197، 198، 2 / 239، 259، 3 / 166، 359.
(3) انظر ترجمته في: الديباج المذهب 1 \87.(83/348)
أو الأستاذ أبو طاهر على الفقيه الشيخ أبو طاهر الزيادي واسمه محمد بن محمد بن محمش النيسابوري (ت 410 هـ) (1) .
__________
(1) انظر ترجمته في: طبقات ابن السبكي 4 / 198 العقد المذهب ص 71.(83/349)
20 - أبو الطيب:
يشترك في هذه الكنية عدد من الفقهاء..
أولا: أبو الطيب عند فقهاء الشافعية هو طاهر بن عبد الله القاضي أبو الطيب الطبري (ت 450 هـ) . (1) ذكره ابن باطيش (ت 655 هـ) (2) وغيره.
والنقل عنه كثير في كتب الشافعية بكنيته مجردة أو القاضي أبو الطيب وهو الذي يقصده فقهاء الحنابلة وغيرهم بأبي الطيب الشافعي (3) .
__________
(1) انظر ترجمته في: طبقات ابن السبكي 5 / 12، سير أعلام النبلاء 17 / 668.
(2) المغني لابن باطيش 2 / 485.
(3) الإنصاف 9 / 29 الفروع 5 / 315، وانظر أيضا: فتح القدير لابن الهمام 4 / 390، حاشية العدوي 1 / 557.(83/349)
ثانيا: أما عند الحنفية فإن ابن عابدين يذكر كثيرا في حاشيته أبا الطيب (1) وينقل عنه بواسطة المدني ولما يظهر لي من المقصود به وقد سألت عددا من فقهاء الحنفية المعاصرين والمعتنين بهذا المذهب فلم أجد شيئا.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 457، 680، 16 / 13، 7 / 45، 395، 410، 449.(83/350)
21 - أبو عاصم:
يشترك بهذه الكنية عند الإطلاق فقيهان..
الأول: حنفي وهو القاضي أبو عاصم الحنوي (1) وهو الذي يعنيه فقهاء الحنفية عند قولهم القاضي أبو عاصم.
والثاني: شافعي فعند فقهاء الشافعية إذا أطلق أبو عاصم أو الشيخ أبو عاصم فإنهم يعنون به الشيخ أبا عاصم العبادي
__________
(1) انظر ترجمته في: الجواهر 4 / 58.(83/350)
محمد بن أحمد الهروي (ت 458 هـ) (1) .
__________
(1) انظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 4 / 104، سير أعلام النبلاء 18 / 180.(83/351)
22 - أبو العباس:
تطلق هذه الكنية على عدد من الفقهاء والأعلام ...
أولا: فعند فقهاء الحنفية تطلق هذه الكنية من الفقهاء على جماعة من علماء المذهب الحنفي (1) .
لكن إن قيل: قاضي القضاة أبو العباس (2) فإنه أبو العباس السرجي، أحمد بن إبراهيم (ت 710 هـ) (3) .
ثانيا: وأما فقهاء الشافعية فغالبا إذا أطلق أبو العباس فيعنى به الشيخ أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي (ت 306 هـ) (4) أحد فقهاء الشافعية المقدمين.
قال النووي (5) (متى أطلق في المهذب أبا العباس فهو ابن سريج) .
__________
(1) انظر: الفوائد البهية ص 235.
(2) كذا ورد مطلقا في (فتح القدير لابن الهمام 1 / 174) .
(3) انظر ترجمته في: الفوائد البهية ص 13.
(4) انظر ترجمته في: العقد المذهب رقم 39، سير أعلام النبلاء 14 / 201.
(5) المجموع للنووي 1 / 217.(83/351)
وقد جاء هذا الإطلاق في عدد من كتب فقهاء الشافعية مقصودا به (أبو العباس ابن سريج) .
وقد يقصد به عندهم (أبو العباس ابن القاص) لكنهم يقيدونه قال النووي (1) وعادتهم أن يصفوا أبا العباس أي ابن القاص بأحد أوصاف ثلاثة، فتارة يقال: أبو العباس ابن أبي أحمد، وتارة أبو العباس صاحب التلخيص أو صاحب التلخيص بلا كنية كما يفعله الغزالي وغيره، وتارة يجمعون بين الوصفين الأولين كما فعله صاحب المهذب) .
ثالثا: يراد به عند فقهاء الحنابلة وغيرهم (شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيمية (ت 728 هـ) وهذا كثير جدا عندهم.
وكذا عند الإشارة إليه عند غير الحنابلة؛ كقول بدر الدين ابن جماعة (2) (قال أبو العباس الحنبلي) ويعني به الشيخ تقي الدين.
__________
(1) المجموع للنووي 2 / 478.
(2) هداية السالك لابن جماعة 3 / 10.(83/352)
رابعا: وفي المسائل اللغوية (1) فإنه أبو العباس ابن المبرد، واسمه محمد بن يزيد الثمالي (ت 285 هـ) في الغالب إلا لمن كان له اصطلاح خاص من اللغويين، كالأنباري (ت هـ) مثلا فإنه يعني بأبي العباس شيخه ثعلبا (ت 291 هـ) وهذا الاصطلاح الخاص أوقع بعض علماء في وهم كأبي عبد الله القرطبي (ت 671 هـ) فإنه نقل عن ابن الأنباري في (الزاهر) كلاما لأبي العباس ثعلب فذهب وهمه إلى أنه أبو العباس المبرد فقال زعم المبرد (2) .
__________
(1) انظر مثلا: حاشية ابن عابدين 2 / 287، حاشية الطحطاوي 1 / 130.
(2) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1 / 160 ط: مؤسسة الرسالة.(83/353)
23- أبو عبد الرحمن:
يشهر بهذه الكنية جمع من أهل العلم، ومنهم: -
أولا: عند فقهاء الشافعية إذا أطلقوا أبا عبد الرحمن (1) فالمراد به (ابن بنت الشافعي واسمه أحمد بن محمد (ت هـ))
__________
(1) انظر على سبيل المثال: المجموع للنووي 2 / 468، 8 / 76، 122، روضة الطالبين 3 / 91.(83/353)
قال ابن باطيش (ت 655 هـ) (1) أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي اسمه أحمد بن محمد.
ثانيا: ويقصد بأبي عبد الرحمن في التفسير وعلم القراءات التي ينقلها الفقهاء (2) أبو عبد الرحمن السلمي (ت 74 هـ) واسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة الكوفي (3) وهو الإمام المعروف في القراءات.
وهو غير (أبي عبد الرحمن السلمي (ت 412 هـ) واسمه محمد بن الحسين الأزدي (4) صاحب الحقائق في التفسير الإشاري (5) .
__________
(1) المغني في الإنباء عن غريب المهذب والأسماء لابن باطيش 2 / 455.
(2) انظر مثلا: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1 / 452، 3 / 220، الإنصاف 2 / 58.
(3) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 4 / 267.
(4) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 17 / 252.
(5) انظر مثلا: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1 / 133.(83/354)
24 - أبو عبد الله:
هذه الكنية متفقة بين عدد من أهل العلم ...
أولا: تطلق كنية أبي عبد الله على العديد من فقهاء الحنفية الذين ينقل عنهم في الكتب الفقهية، كأبي عبد الله البلخي (1) وأبي
__________
(1) انظر: المبسوط للسرخسي 2 / 169، البحر الرائق 6 \86 بدائع الصنائع 5 / 75.(83/354)
عبد الله الجرجاني (1) وأبي عبد الله الدمشقي (2) وأبي عبد الله الصيميري (3) وأبي عبد الله الثلجي (4) وغيرهم.
ولكنه في الأشهر عند الإطلاق، يصرف لاثنين من فقهائهم.
أ: فأولهما: أبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة، وراوية كتبه وناقل فقهه.
فإذا أطلق أبو عبد الله في مقابلة أبي حنيفة، أو أبي يوسف فإنه أبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني (ت 189 هـ) (5) .
ب: أما إذا أطلق أبو عبد الله أو الفقيه أبو عبد الله عند المتأخرين من غير تقييد (6) فإنهم يعنون أبا عبد الله الجرجاني
__________
(1) انظر: المبسوط للسرخسي 10 / 190، بدائع الصنائع 1 / 162، 178، البحر الرائق 1 / 95، 4 / 390.
(2) انظر: البحر الرائق 5 / 265.
(3) انظر: البحر الرائق 7 / 33.
(4) انظر: بدائع الصنائع 2 / 3، شرح الجامع الصغير 1 / 473، وانظر ترجمته: في الفوائد البهية ص 171.
(5) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 9 / 134.
(6) انظر: فتح القدير 2 / 428، وفيه: (الفقيه أبو عبد الله) فتاوى السغدي 1 / 39، 49، 51، 76.(83/355)
محمد بن يحيى (ت 398 هـ) (1) .
وهو شيخ أبي الحسين القدوري، فإذا نقل عنه قال: شيخنا أبو عبد الله (2) .
ثانيا: وفقهاء المالكية لهم في ذلك اصطلاحان.
أ: فالأغلب أنهم إذا أطلقوا أبا عبد الله أو الإمام أبا عبد الله فيعنون به أبا عبد الله المازري (ت 536 هـ) (3) .
ب: أما الأبي (ت هـ) في شرحه صحيح مسلم فإنه إذا قال: شيخنا أبو عبد الله فإنه يعني به ابن عرفة (ت هـ) كما نص على ذلك حطاب في مواهب الجليل (4) .
ثالثا: يطلق أبو عبد الله أو الإمام أبو عبد الله (5) عند فقهاء الحنابلة على الإمام المبجل أبي عبد الله أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) وهو الأصل عندهم، وغالب الاستعمال.
__________
(1) انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 3 / 433، الجواهر المضية 3 / 397.
(2) انظر: البحر الرائق 1 / 103.
(3) انظر ترجمته في: الديباج المذهب 2 / 250.
(4) مواهب الجليل 2 / 494.
(5) انظر على سبيل المثال: الإنصاف 2 / 347، وهذا الاستخدام كثير جدا.(83/356)
لكن هناك استثناء مخصوص فعند القاضي أبي يعلى بن الفراء إذا قال شيخنا أبو عبد الله (1) فإنه يعني به شيخه ابن حامد الشيخ الفقيه الحسن بن حامد البغدادي إمام الحنابلة (ت 403 هـ) (2) .
__________
(1) انظر مثلا: المسائل الأصولية في الروايتين، والوجهين ص 60، 61.
(2) انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 2 / 171، المنتظم 7 / 263.(83/357)
25- أبو علي:
هذه الكنية يشترك بها عند الإطلاق عدد من فقهاء المذاهب وغيرهم، وذلك على النحو التالي: -
أولا: عند فقهاء الحنفية فلهم في ذلك استخدامات..
أ: فإذا أطلق القاضي أبو علي فهو القاضي أبو علي النسفي (ت 424 هـ) .
ب: وأما إذا قيد عندهم بالحافظ فقيل: أبو علي الحافظ (1) فإنه أبو علي الحافظ الحسن بن زياد اللؤلؤي (ت 204 هـ) (2) .
__________
(1) انظر مثلا: الفتاوى التاتارخانية 1 / 142، وطبقات الحنفية لابن أبي الوفاء 1 / 37.
(2) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 9 / 543.(83/357)
ثانيا: وعند بعض فقهاء المالكية المتأخرين كالدسوقي في حاشيته (1) فيعني به (أبا علي المسناوي) (2) .
ثالثا: وعند فقهاء الشافعية فإنهم إذا أطلقوا كنية أبي علي أو الشيخ أبي علي فإنما يعنون به الشيخ أبا علي الطبري واسمه الحسن بن القاسم (ت 350 هـ) (3) .
رابعا: وعند فقهاء الحنابلة فإنهم إذا أطلقوا أبا علي (4) فيعنون به فيما يظهر (أبا علي النجاد الحسن بن عبد الله (ت 360 هـ) (5) .
__________
(1) حاشية الدسوقي، وقد جاء مطلقا في 1 / 408.
(2) انظر ترجمته في:
(3) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 16 / 62.
(4) انظر مثلا: الإنصاف 11 / 12.
(5) انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 2 / 140، المقصد الأرشد 1 / 322.(83/358)
ويشتبه به عند الحنابلة ابن أبي علي (1) ويعنون به أبا القاسم الخرقي (ت 334 هـ) صاحب المختصر.
خامسا: وعند المحدثين إذا أطلق أبو علي الحافظ فهو، أبو علي النيسابوري الحسين بن علي (ت 349 هـ) (2) وهو شيخ أبي عبد الله الحاكم.
سادسا: وأما عند النقول اللغوية في الكتب الفقهية فيعنون به في الغالب أبا علي الفارسي (ت هـ) .
سابعا: وأبو علي عند الأصوليين والمتكلمين يعنون به أبا علي الجبائي المعتزلي (ت 302 هـ) (3) .
__________
(1) انظر التمام لابن أبي يعلى 1 / 93.
(2) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 16 / 51.
(3) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 14 / 135.(83/359)
ومن أمثلة النقول عنه ما في بعض كتب الحنفية (1) عن أبي علي أنه تحل ذبيحة المجبرة إن كان آباؤهم مجبرة فإنهم كأهل الذمة، وإن كان آباؤهم من أهل العدل لم تحل لأنهم بمنزلة المرتدين ا. هـ.
قال ابن عابدين: ومراده بأبي علي الجبائي رئيس أهل الاعتزال، وبالمجبرة أهل السنة والجماعة فإنهم يسمون أهل السنة بذلك كما يفصح عنه كلام البيهقي الجشمي منهم في تفسيره، والمراد بأهل العدل أنفسهم كما علم ذلك في علم الكلام.. ا. هـ.
__________
(1) انظر: حاشية ابن عابدين 6 / 298، ونقله عن (القنية) ، (والأشباه) .(83/360)
26- أبو عمرو:
يشترك في هذه الكنية جماعة من الفقهاء
أولا: عند فقهاء المالكية إذا أطلقوا أبا عمرو (1) فيعنون به (أبو عمرو ابن الحاجب (ت 646 هـ)) .
ثانيا: وعند فقهاء الشافعية (2) فهو أبو عمرو ابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري (ت 643 هـ) .
__________
(1) انظر: مواهب الجليل 4 / 470، التاج والإكليل 3 / 234، 352.
(2) انظر: المجموع للنووي 1 / 132، 157، 237، 261، 2 / 380، روضة الطالبين 3 / 21، 11 / 111، 118.(83/360)
ثالثا: وفي كتب أصول الفقه فإن أبا عمرو أو الشيخ أبا عمرو هو أبو عمرو ابن الحاجب (ت 646 هـ) .
رابعا: وإذا كان عند ذكر القراءات (1) فالمقصود به أبو عمرو ابن العلاء (ت 154 هـ) .
خامسا: وإذا كان عند المسائل اللغوية والعربية (2) فالمقصود به أيضا أبو عمرو ابن العلاء (ت 154 هـ) .
__________
(1) انظر: أحكام القرآن لابن العربي 4 / 403، الجامع لأحكام القرآن 2 / 24.
(2) انظر: إعانة الطالبين 3 / 42، المبدع 8 / 357.(83/361)
27 - أبو عمر:
أولا: أبو عمر إذا أطلق فيقصد به عند علماء المالكية (1) وعند علماء الحديث الحافظ الفقيه أبو عمر ابن عبد البر (ت 463 هـ) (2) وقد يسمونه أبا عمر بن عبد العزيز (3) .
__________
(1) انظر: عقد الجواهر الثمينة لابن شاس 1 / 331، 3 / 1156، التاج والإكليل للمواق 1 / 427.
(2) انظر ترجمته في: ترتيب المدارك 4 / 308، سير أعلام النبلاء 18 / 153.
(3) انظر عقد الجواهر الثمينة لابن شاس 1 / 315.(83/361)
ثانيا: وعند فقهاء الحنابلة يطلق أبو عمر على الشيخ الزاهد أبو عمر (ت 607 هـ) (1) والد الشارح ولذا يسمى بابن أبي عمر.
ثالثا: وعند احتجاجهم اللغوي فيعنون به أبا عمر الزاهد غلام ثعلب محمد بن عبد الواحد البغدادي (ت 345 هـ) شارح الفصيح (2) والنقل عنه كثير في كتب الفقهاء.
__________
(1) انظر ترجمته في: ذيل طبقات الحنابلة 2 / 52، المقصد الأرشد 2 / 346.
(2) انظر ترجمته في: طبقات النحويين واللغويين للزبيدي ص 209.(83/362)
28 - أبو الفرج:
هذه الكنية من الكنى المشهورة في الكتب الفقهية جميعا مع اختلاف المراد بصاحبها بحسب الفن الذي نقل عنه والكتاب الناقل ...
أولا: فعند فقهاء الحنفية نجد عددا من الفقهاء يكنى بذلك منهم أبو الفرج العماني وأبو الفرج البغدادي، عبد الرحمن بن شجاع (1) .
__________
(1) الفوائد البهية للكنوي ص 236، وانظر ترجمته في المصدر السابق ص 88.(83/362)
وقد تتبعت عددا من الكتب الفقهية في المذهب الحنفي فإذا هم كثيرا ما يذكرون نقولات عن أبي الفرج هكذا من غير تقييد، ويعنون به أبا الفرج ابن الجوزي الحنبلي (ت هـ) (1) والملاحظ أنهم إنما ينقلون عنه في الحكم على الأحاديث دون الأحكام.
ثانيا: وعند فقهاء المالكية يلحظ كثرة النقول (أبي الفرج) أو أبي الفرج البغدادي ويعنون به الشيخ أبا الفرج عمرو بن محمد الليثي البغدادي القاضي (ت 331 هـ) (2) .
__________
(1) انظر ترجمته في المصادر التالية:
(2) انظر ترجمته في: الديباج المذهب 215، شجرة النور الزكية ص 79.(83/363)
قال ابن فرحون (ت 799 هـ) (1) أبو الفرج هو القاضي أبو الفرج البغدادي.
قال محمد بن عبد السلام الأموي من علماء القرن التاسع (2) عند حديثه عن الأسماء التي وقعت مبهمة في جامع الأمهات قال أبو الفرج هو القاضي أبو الفرج البغدادي مؤلف الحاوي، وقال العدوي ت 1189 هـ في حاشيته (3) عند قول صاحب الأصل، وقال أبو الفرج: قال أبو الفرج: عمرو بن محمد بن عمر الليثي أبو الفرج القاضي البغدادي له الكتاب المعروف بالحاوي في مذهب مالك، وكتاب اللمع في أصول الفقه. ا. هـ
ثالثا: وعند فقهاء الشافعية إذا أطلق أبو الفرج (4) أو الشيخ أبو الفرج (5) ، القاضي أبو الفرج (6) فيعنون به الزاز، عبد الرحمن بن أحمد بن زاز السرخسي النويزي الأستاذ أبا الفرج الزاز صاحب
__________
(1) كشف النقاب الحاجب ص 172.
(2) التعريف برجال جامع الأمهات للأموي صـ 278.
(3) حاشية العدوي 1 / 325.
(4) كما ورد في: المجموع للنووي 6 / 188.
(5) كما ورد مطلقا في روضة الطالبين 6 / 167، 7 / 197، 227، 266، 284، 347، 353، 11 / 208، 234.
(6) كما ورد مطلقا في مغني المحتاج 3 / 76.(83/364)
التعليقة (ت 494 هـ) .
وقد يقيد إذا أرادوا غيره كأبي الفرج السرخسي أو أبي الفرج الدارمي.
رابعا: أما فقهاء الحنابلة فإنهم إذا أطلقوا أبا الفرج فيعنون به الشيخ عبد الواحد بن محمد أبا الفرج الشيرازي المعروف بالمقدسي (ت 406 هـ) صاحب المبهج (1) .
وهو الذي يعينه ابن تميم إذا قال: قال شيخنا أبو الفرج (2) .
__________
(1) انظر ترجمته في المصادر التالية: طبقات الحنابلة 2 / 248.
(2) انظر (الإنصاف 1 / 36) .(83/365)
29 - أبو الفضل:
يتفق بهذه الكنية عند الإطلاق جماعة من الفقهاء على النحو التالي:
أولا: فقد استشكل إطلاق هذه الكنية عند فقهاء الحنفية ... فذكر ابن أبي الوفاء القرشي (ت 774 هـ) أن صاحب القنية نقل عن فتاوى أبي الفضل قال: ولا أدري من هو؟ (1)
__________
(1) الجواهر 4 / 77.(83/365)
وذكر أيضا في موضع آخر أن الخاصي نقل عن تجريد أبي الفضل، قال ابن أبي الوفاء: فلا أدري هل هو الدهستاني أم غيره (1) .
كما أن عددا من فقهاء الحنفية المتأخرين ذكروا نقولا عن أبي الفضل.
ولعل مقصودهم به في أحايين كثيرة: أبو الفضل الحاكم الشهيد محمد بن محمد بن أحمد البلخي (ت 344 هـ) (2) لأنه يكثر النقل عنه بلفظ أبو الفضل الحاكم أو أبو الفضل محمد.
ثانيا: وعند فقهاء المالكية فإذا قالوا: القاضي أبو الفضل فهو القاضي أبو الفضل عياض اليحصبي (ت 544 هـ) (3) .
بخلاف إذا أرادوا غيره فإنهم يقيدونه فيقولون مثلا: أبو الفضل
__________
(1) الجواهر 4 / 75
(2) انظر ترجمته في الفوائد البهية ص 185.
(3) انظر ترجمته في: التعريف بالقاضي عياض، لابنه محمد بن القاضي عياض.(83/366)
بن راشد (1) .
ثالثا: وأما عند فقهاء الشافعية فإنهم إذا أطلقوا هذه الكنية فيعنون به الفقيه أبا الفضل بن عبدان، عبد الله بن عبدان الهمداني (ت 433 هـ) (2) .
__________
(1) انظر: مواهب الجليل 3 / 243، حاشية الدسوقي 1 / 43.
(2) انظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 5 / 65.(83/367)
30 - أبو القاسم:
التكني بأبي القاسم من المسائل التي أطال الفقهاء البحث في حكمها لورود النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتكني بها حين قال: «ولا تكنوا بكنيتي (1) » .
وقد تحرج بعض الفقهاء من تكنية غيره بهذه الكنية بالخصوص يقول ابن السبكي (2) وقد تكنى جماعة من العلماء بأبي القاسم كأنهم رأوا تقييد النهي وذلك عذر لهم منهم كالرافعي وأقرانه.
وعندي تحرج إذا ذكرتهم أن أذكر هذه الكنية، وإن كان ذكري
__________
(1) رواه البخاري (110) ، ومسلم (2131) .
(2) نقله عنه ابنه في (طبقات الشافعية الكبرى 10 / 173) .(83/367)
ليس تكنية حتى يدخل في النهي، لأن التسمية وضع اللفظ للمعنى والتسمي قبول المسمى ذلك وهما الواردان في النهي، وأما الإطلاق فأمر ثالث لكنه يظهر امتناعه أيضا إما لأنه في معنى التسمي لأنه رضي بذلك، وإما لأن ذلك كالتقرير على المنكر اللهم إلا أن يكون ذلك الشخص لا يعرف إلا به فيكون عذرا مانعا من الإلحاق مع عدم دخوله في النهي فليتنبه لذلك اهـ.
وقد اشتهرت هذه الكنية عن عدد من فقهاء المذاهب الأربعة جميعا.
أولا: فعند فقهاء الحنفية إذا أطلقوا هذه الكنية أبا القاسم أو الشيخ أبا القاسم (1) أو الشيخ الإمام أبا القاسم فيقصدون به في الغالب الفقيه أبا القاسم الصفار البلخي، أحمد بن عصمة (ت 336 هـ) (2) .
__________
(1) انظر النتف في الفتاوى للسغدي 2 \878.
(2) انظر ترجمته في: الفوائد البهية ص 26.(83/368)
ثانيا: وعند فقهاء المالكية فيعنون بأبي القاسم عند الإطلاق أبا القاسم عبيد الله بن الحسن، أبو القاسم بن الجلاب (ت 378 هـ) (1) .
ثالثا: وعند فقهاء الشافعية يراد به جماعة فلذلك يقيد كأبي القاسم الرافعي والأنماطي والصيمري وابن كج والداركي (2) .
رابعا: وعند فقهاء الحنابلة إذا أطلقوا أبا القاسم (3) يراد به أبو القاسم الخرقي (ت 334 هـ) (4) صاحب المختصر. وقد يقيد عنده فيقال أبو القاسم ابن منده (5) أو أبو القاسم التيميمي.
__________
(1) انظر ترجمته في: طبقات الفقهاء للشيرازي ص 157، ترتيب المدارك 7 / 76، الديباج المذهب 1 / 146.
(2) انظر ترجمته في: طبقات الفقهاء للشيرازي ص 157، ترتيب المدارك 7 / 76، الديباج المذهب 1 / 146.
(3) انظر مثلا: التمام 1 / 80، المغني 1 / 424، المبدع 5 / 157، الإنصاف 1 / 357، 11 / 36.
(4) انظر تهذيب الأسماء واللغات 2 / 264.
(5) الإنصاف 3 / 270.(83/369)
خامسا: وعند نقلهم في علم التصوف والسلوك (1) فيعنون به أبا القاسم القشيري (ت هـ) صاحب الرسالة (2) .
سادسا: أما عند المتكلمين وفي مباحث علم الكلام (3) فهو أبو القاسم الكعبي البلخي المعتزلي (ت 329 هـ) (4) .
__________
(1) يكثر النقل عنه في بعض الكتب الفقهية انظر مثلا: المجموع 3 / 421.
(2) انظر مثلا التمام 1 \80، المغني 1 / 424، المبدع 5 / 157، الإنصاف 1 / 357، 11 / 36.
(3) يوجد في بعض الكتب الفقهية نقل عنه في مسائل الكلام مثلا.
(4) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 14 / 313.(83/370)
31 - أبو الليث:
هذه الكنية يشترك فيها ثلاثة من فقهاء الحنفية كلهم اسمه أبو الليث السمرقندي (1) .
أ- فإذا قيل الفقيه أبو الليث فالمعني به نصر بن محمد السمرقندي (ت 373 هـ) (2) وهو أشهرهم بل في الغالب إذا أطلق أبو الليث فهو المتبادر
__________
(1) انظر الجواهر المضية لابن أبي الوفا القرشي 4 \83،، والطبقات السنية 1 / 416، المذهب الحنفي ص 271.
(2) انظر ترجمته في: الجواهر المضية 4 \83، الفوائد البهية ص 220.(83/370)
وهو المذكور في الهداية وغيرها (1) .
قال عبد الحي اللكنوي (ت 1303 هـ) (2) أبو الليث هو الفقيه الإمام نصر بن محمد السمرقندي الحنفي كان من معتمدي الحنفية.
ب- وإذا قيل: الحافظ أبو الليث فالمعني هو نصر بن سيار (ت 294 هـ) (3) .
ج- وإن قيل المجد فهو أحمد بن عمر (ت 552 هـ) (4) .
__________
(1) تهذيب الأسماء الواقعة في الهداية والخلاصة ص 217، وانظر الفتاوى التاتارخانية 1 / 120.
(2) مقدمة الهداية للكنوي 1 / 24.
(3) انظر ترجمته في: الجواهر المضية 4 \83.
(4) انظر ترجمته في الجواهر المضية.(83/371)
32 - أبو المعالي:
هذه الكنية تطلق مجردة على اثنين من الفقهاء الأجلة ...
أولا: إذا أطلق أبو المعالي أو الإمام أبو المعالي فيراد به إمام الحرمين أبو المعالي الجويني عبد الملك بن عبد الله الطائي (ت 478 هـ) (1) كذا إذا أطلق في كتب فقهاء الشافعية (2) وغيرهم
__________
(1) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 18 / 468، طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 5 / 165.
(2) والنقل عنه كثير بهذه الكنية انظر على سبيل المثال مغني المحتاج 3 / 296.(83/371)
وهو المقصود في الإطلاق عند علماء الأصول وعلماء علم الكلام، والفقهاء غير ما سيأتي من تواضع فقهاء الحنابلة.
ثانيا: وأما فقهاء الحنابلة فلهم تعارف بهذه الكنية فيعنون به عند الإطلاق أبا المعالي بن المنجى وجيه الدين أسعد بن المنجى (ت 606 هـ) صاحب النهاية شرح الهداية.(83/372)
33 - أبو منصور:
تشهر هذه الكنية بين جمع من الفقهاء ويشتركون بها عند الإطلاق.
أولا: ففقهاء الحنفية يطلقون الشيخ أبا منصور ويعنون به أبا منصور الماتوريدي، محمد بن محمد بن محمود (ت 333 هـ) (1) قال ابن أبي الوفاء (ت 774 هـ) (2) أبو منصور الماتريدي
__________
(1) انظر ترجمته في: الجواهر المضية 3 / 360، الفوائد البهية ص 195.
(2) تهذيب الأسماء الواقعة في الهداية والخلاصة ص217.(83/372)
اسمه محمد بن محمد بن محمود كان من كبار العلماء.
ثانيا: ويطلق أبو منصور عند فقهاء الشافعية وقد يقال الأستاذ أبو منصور أو أبو منصور الفقيه، ويعنون به الشيخ عبد القاهر بن طاهر أبا منصور البغدادي (ت 429 هـ) .
قال ابن الملقن (ت 804 هـ) (1) أبو منصور البغدادي أحد الأئمة وهو الذي نقل عنه الرافعي في آخر باب الرجعة وغيرها.
ثالثا: وأما عند ذكر المسائل الكلامية والمباحث العقدية فالمقصود بأبي منصور: أبو منصور الماتوريدي، محمد بن محمد بن محمود (ت 333 هـ) .
__________
(1) العقد المذهب في طبقات حملة المذهب لابن الملقن ص 85.(83/373)
رابعا: وعند احتجاجهم باللغة ونقلهم المسائل اللغوية فالمعني بأبي منصور عند الإطلاق أبو منصور الأزهري واسمه محمد بن أحمد بن الأزهر (ت 370 هـ) .
قال ابن السبكي (1) أبو منصور الأزهري الإمام في اللغة نقل عنه الرافعي في مواضع تتعلق باللغة منها في ضبط النسب.
__________
(1) طبقات الشافعية لابن السبكي 2 / 144.(83/374)
34 - أبو موسى:
يوجد عدد من العلماء الذين ينقل عنهم في كتب الفقهاء مشهورون بهذه الكنية.
أولا: فعند فقهاء الحنفية يعنون عند إطلاق القاضي أبي موسى عيسي بن أبان بن صدقة أبا موسى القاضي (ت 221 هـ) (1) .
لكن وقع في بعض كتب الحنفية المطبوعة ذكر نقولات عن أبي موسى الضرير مثل ما قال السرخسي (2) ذكره أبو موسى - رحمه
__________
(1) الفوائد البهية ص 151، الجواهر المضية 2 / 678.
(2) المبسوط 3 / 211.(83/374)
الله تعالى في مختصره، وقال الكاساني (1) وذكر أبو موسى الضرير في مختصره.
وقد حاولت أن أبحث في فقهاء الحنفية من تصدق عليه هذه الكنية فلما أجد، ولعل الصواب أن المقصود أبو عبد الله بن أبي موسى الضرير واسمه محمد بن عيسى (ت 330 هـ) (2) .
كما هو ظاهر من نفس النقول في مراجع أخرى في الفقه الحنفي ولم يظهر لي وجه هذا اللبس إلا أن يكون تصحيفا من النساخ.
ثانيا: وأما أبو موسى الحافظ والذي ينقل عنه عدد من الفقهاء أحكاما وروايات في الحديث فهو الحافظ أبو موسى المديني الأصبهاني (ت 581 هـ) (3) .
ثالثا: وقد يشتبه به عند فقهاء الحنابلة ابن أبي موسى وهو
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 275 ومثله في تحفة الفقهاء ص 166، وحاشية الطحطاوي 1 / 344.
(2) انظر ترجمته في:
(3) انظر ترجمته في: طبقات ابن السبكي 6 / 160، سير أعلام النبلاء 21 / 152.(83/375)
الفقيه أبو علي محمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي (ت 428 هـ) صاحب كتاب الإرشاد.(83/376)
35 - أبو نصر:
يشترك بهذه الكنية عدد من الفقهاء على النحو التالي:
أولا: أبو نصر عند فقهاء الحنفية إذا أطلق ففي الغالب، فهو أبو نصر الدبوسي (1) كذا أطلقه غير واحد من فقهاء الحنفية (2) .
ثانيا: وعند فقهاء المالكية يعنون به أبا نصر الأبهري (ت هـ) قال حطاب (3) الشيخ أبو نصر يعني الأبهري.
ثالثا: وعند فقهاء الشافعية إذا أطلقوا أبا نصر فهو الفقيه
__________
(1) انظر ترجمته في: الجواهر المضية 268.
(2) انظر: الفتاوى التاتارخانية 1 / 100، 125، 127، البحر الرائق 1 / 80، 5 / 206، 6 / 239.
(3) مواهب الجليل 3 / 50.(83/376)
عبد السيد بن محمد أبو نصر بن الصباغ (ت 477 هـ) (1) .
__________
(1) انظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 2 / 251، سير أعلام النبلاء 18 / 463.(83/377)
36 - أبو الوليد:
هذه الكنية من الكنى المشكلة، وقد أخطأ فيها بعض أجلة الفقه وعلمائه كما سيأتي، وسبب ذلك خفاء المصطلح الذي تواضع عليه بعض أهل الفن فيها.
لذا لا بد من العناية بالتمييز بين أهل العلم المنقول عنهم، والتمحيص في ذلك.
أولا: أبو الوليد يطلق عند فقهاء المالكية على رجلين من أعلام فقهاء المالكية في الأندلس وهما فقيهان متعاصران الشيخ أبو الوليد الباجي (ت 494 هـ) والشيخ أبو الوليد ابن رشد (ت 520 هـ) ويخطئ من يحسبه ابن رشد الحفيد أبا الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد الفيلسوف (ت هـ) (1) صاحب بداية المجتهد فإنه غير مقصود في كتب المالكية الفقهية.
وقد أدى اشتراك هذين العالمين في الكنية إلى وقوع الخلط بينهما من أجلة من الفقهاء ومن أشهرهم الشيخ أبو عمرو بن
__________
(1) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 21 / 307.(83/377)
الحاجب المالكي (ت 646 هـ) قال محمد بن عبد السلام الأموي من علماء القرن التاسع (1) والتبس على الشيخ أبي عمرو القاضي أبو الوليد ابن رشد بالقاضي الباجي في سبعة مواضع.
وقال الشيخ خليل في التوضيح (2) وقد التبس هذا على المصنف أي ابن الحاجب فنسب للباجي ما لابن رشد وذلك في سبعة مواضع.
وللمالكية المتأخرين اصطلاح في هذه الكنية بالخصوص للتفريق بينهما تبعوا فيه الفقيه عبد الله ابن شاس (ت 610 هـ) في كتابه عقد الجواهر الثمينة.
أ- فإذا قيدوا هذه الكنية بالقاضي فقالوا قال القاضي أبو الوليد فهو أبو الوليد الباجي سليمان بن خلف (ت 494 هـ) (3) .
ب- وإذا وصف بالشيخ أبي الوليد فالمراد به أبو الوليد
__________
(1) التعريف برجال جامع الأمهات صـ 279.
(2) نقلا عن.. مواهب الجليل 4 / 43.
(3) انظر ترجمته في: الديباج المذهب 1 / 120.(83/378)
ابن رشد، محمد بن أحمد بن رشد الجد (ت 520 هـ) (1) صاحب المقدمات والبيان والتحصيل.
قال حطاب (ت 954 هـ) في مواهب الجليل (2) نقلا عن صاحب التوضيح - الشيخ خليل - واعلم أن اصطلاحه في الجواهر (3) إذا أراد الباجي قال: قال القاضي أبو الوليد وإذا أراد ابن رشد قال: قال الشيخ أبو الوليد.
وقال إثر ذلك ولو عكس ابن شاس ما وصف به كل واحد من الشيخين لكان أولى أي جعل ابن رشد قاضيا والباجي شيخا ثم قال خليل أيضا، وقد التبس هذا على المصنف يعني ابن الحاجب فنسب للباجي ما لابن رشد وذلك في سبعة مواضع هنا، وفي القراض وفي المزارعة وفي الوقف، وخامسها في الأقضية وسادسها في الشهادات وسابعها قوله بإثر هذه المواضع.
ثانيا: وعند فقهاء الشافعية فإنهم إذا أطلقوا أبا الوليد (4) أو أبا
__________
(1) انظر ترجمته في: الديباج المذهب 1 / 287.
(2) مواهب الجليل 4 / 43.
(3) أي كتاب (عقد الجواهر الثمينة) لابن شاس.
(4) انظر: المجموع للنووي 5 / 205، الإقناع للشربيني 1 / 116.(83/379)
الوليد الفقيه (1) أو الأستاذ أبا الوليد (2) فمرادهم به أبو الوليد النيسابوري واسمه حسان بن محمد القرشي الأموي (ت 349 هـ) (3) وأما الذي يروي عن الإمام الشافعي كتاب الأمالي فهو موسى بن أبي الجارود أبو الوليد المكي (4) وهو متقدم.
ثالثا: والمراد في كتب الفلسفة والكلام عند إطلاق أبي الوليد ابن رشد الحفيد الفيلسوف.
__________
(1) انظر طبقات ابن السبكي 2 / 90، 151.
(2) انظر المجموع للنووي 1 / 566، طبقات ابن السبكي 3 / 14، 173.
(3) انظر ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى 3 / 226، وانظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2 / 271.
(4) انظر ترجمته في: طبقات الشافعية الكبرى 2 / 161.(83/380)
37 - أبو يعلى:
يشترك بهذه الكنية عدد من الفقهاء
أولا: فعند فقهاء المالكية إذا أطلقوا أبا يعلى (1) فإنما يعنون أبا يعلى العبدي واسمه أحمد بن محمد البصري (ت 489 هـ) (2) وقد طبع من كتبه الخصال الصغير.
__________
(1) ، وردت هذه الكنية مطلقة في عدد من كتب المالكية انظر مثلا: مواهب الجليل 2 / 162.
(2) انظر ترجمته في: ترتيب المدارك 8 / 99، الديباج المذهب 2 / 175.(83/380)
ثانيا: وعند فقهاء الحنابلة في ذلك إطلاقات مختلفة وقد تشتبه.
أ- فيطلقون كنية أبي يعلى أو القاضي أبي يعلى في كتبهم كثيرا على شيخ المذهب الإمام القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن الفراء البغدادي (ت 458 هـ) (1) .
وقد يسمى بالقاضي أبي يعلى الكبير (2) . وقد يشتبه به بعض فقهاء الحنابلة الآخرين والذين هم من ذريته وأخذوا هذا الاسم منه وهم..
ب- أبو يعلى الصغير ويقصد به عند الحنابلة محمد بن محمد بن محمد بن الحسين الفراء (ت 560 هـ) حفيد القاضي أبي يعلى المتقدم (3) (4) .
وقد يطلق عليه القاضي أبو يعلى بن أبي خازم (5) .
وقد جمع له هذا الأوصاف الثلاثة للتعريف به الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله (6) حين قال: قال القاضي أبو يعلى الصغير
__________
(1) انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 2 / 193، المقصد الأرشد 2 / 395.
(2) انظر مثلا: المطلع لابن أبي الفتح البعلي ص 455.
(3) انظر مثلا: فتح المالك العزيز 3 / 43.
(4) انظر ترجمته في: ذيل طبقات الحنابلة 1 / 244 المقصد الأرشد 2 / 500.
(5) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 21 / 501، الإنصاف 12 / 141.
(6) شرح عمدة الفقه للشيخ تقي الدين (قسم الطهارة) 132.(83/381)
ابن القاضي أبي خازم ابن القاضي أبي يعلى ...
ج- ويشتبه به أيضا ابن أبي يعلى ويقصد به عند الحنابلة الفقيه القاضي أبو الحسين ابن أبي يعلى، محمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن الفراء البغدادي (ت 526 هـ) (1) وهو عم أبي يعلى الصغير.
قال الشيخ عبد القادر ابن بدران (ت 1346 هـ) (2) إذا قالوا أبو يعلى وأطلقوه فالمقصود محمد أبو الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء الملقب بأبي يعلى، وإذا قالوا أبو يعلى الصغير فالمراد به ولده محمد صاحب الطبقات.
وهذا الكلام من الشيخ عبد القادر غير دقيق وفيه نظر كما سبق.
ثالثا: أما عند الرواية للحديث فإذا أطلق رواه أبو يعلى فيقصد به الشيخ الإمام أبو يعلى الموصلي واسمه أحمد بن علي بن المثنى التميمي (ت 307 هـ) (3) صاحب المسند.
__________
(1) انظر ترجمته في: ذيل طبقات الحنابلة 1 / 176، المقصد الأرشد 2 / 499.
(2) المدخل لابن بدران ص 409.
(3) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 14 / 174.(83/382)
حديث شريف
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي. نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة (1) »
(رواه البخاري)
__________
(1) البخاري الصلاة (427) ، مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، النسائي الغسل والتيمم (432) ، أحمد (3/304) ، الدارمي الصلاة (1389) .(83/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (1) {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (2)
سورة المائدة، الآيتان 55، 56
__________
(1) سورة المائدة الآية 55
(2) سورة المائدة الآية 56(84/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارات البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(84/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة علمية دورية محكمة تصدر عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(84/3)
المحتويات
الافتتاحية لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ....... 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ....... 19
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز....... 37
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ....... 51
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء....... 73(84/4)