آتيهم ومصدقهم، وإلحاق ذلك بالسحر.
فهذه النصوص الصريحة من الكتاب والسنة تدل على كفر الساحر، مما يدل على أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وذهب بعض العلماء إلى قتله بدون استتابة، وروى الترمذي عن جندب - رضي الله عنه - موقوفا " حد الساحر ضربة بالسيف " وورد عن طائفة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل السحرة، أو الأمر بذلك، ولم يوجد بينهم خلاف فيه، حيث قد روي القتل في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لثلاث سواحر، عندما كتب لجزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس " أن اقتلوا كل ساحر وساحرة " وروى الإمام مالك أن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلت جارية لها سحرتها، وقد كانت دبرتها، فأمرت بها فقتلت، كما روى البخاري في التاريخ الكبير بسند صحيح عن أبي عثمان " كان عند الوليد رجل يلعب، فذبح إنسانا وأبان رأسه، فعجبنا، فأعاد رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله " كما روي قتل السحرة عن غير هؤلاء من الصحابة، فروي عن عثمان بن عفان، وابن عمر، وأبي موسى، وقيس بن سعد، رضي الله عنهم، كما روي عن سبعة من التابعين، منهم عمر بن عبد العزيز، وهذا الفعل من الصحابة - رضي الله عنهم - ثم من التابعين بعد إجماعا منهم على ذلك. يقول(78/378)
الشيخ الشنقيطي: " فهذه الآثار التي لم يعلم أن أحدا من الصحابة أنكرها مع اعتضادها بالحديث المرفوع المذكور، هي حجة من قال بقتله مطلقا، والآثار المذكورة والحديث فيهما الدلالة على أنه يقتل ولو لم يبلغ به سحره الكفر؛ لأن الساحر الذي قتله جندب - رضي الله عنه - كان سحره من نوع الشعوذة والأخذ بالعيون، حتى أنه يخيل إليهم أنه أبان رأس الرجل، والواقع بخلاف ذلك، وقول عمر: " اقتلوا كل ساحر " يدل على ذلك؛ لصيغة العموم. (أضواء البيان ج 4 ص 461) .
ولما كان السحر داء يؤثر، فيمرض الأبدان، ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، شرع أن يسعى في علاجه، والأخذ بالأسباب المباحة المؤدية إلى الشفاء؛ لأن الله - تعالى - جعل لكل داء دواء كما ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء (1) » وفيما رواه مسلم عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل (2) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ويعالج السحر بالقرآن والأدعية المشروعة والأدوية المباحة، وأما علاجه بالسحر فهذا حرام لا يجوز؛ لعموم النصوص الواردة في
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5678) ، سنن ابن ماجه الطب (3439) .
(2) صحيح مسلم السلام (2204) ، مسند أحمد (3/335) .(78/379)
تحريم السحر؛ لأنه من عمل الشيطان، كما لا يجوز علاجه بسؤال الكهنة والعرافين والمشعوذين واستعمال ما يقولون؛ لأنهم لا يؤمنون؛ لأنهم كذبة فجرة يدعون علم الغيب ويلبسون على الناس. وقد حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أنه سئل عن النشرة فقال: " هي من عمل الشيطان (1) » رواه الإمام أحمد وأبو داود بسند جيد، والنشرة هي: حل السحر عن المسحور، والمراد بالنشرة الواردة في الحديث: النشرة التي يتعاطها أهل الجاهلية، وهي سؤال الساحر ليحل السحر بسحر مثله، أما حله بالرقية والتعوذات الشرعية والأدوية المباحة فلا بأس بذلك، وكل ما ورد عن السلف في إجازة النشرة فإنما يراد به النشرة المشروعة، وهي ما كان بالقرآن والأدعية المشروعة والأدوية المباحة. ولا يصح القول بجواز حل السحر بسحر مثله بناء على قاعدة الضرورات تبيح المحظورات؛ لأن من شرط هذه القاعدة، أن يكون المحظور أقل من الضرورة كما قرره علماء الأصول، وحيث إن السحر كفر وشرك فهو أعظم ضررا، بدلالة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شرك (2) » أخرجه مسلم، والسحر يمكن علاجه بالأسباب المشروعة، فلا اضطرار لعلاجه بما هو كفر وشرك.
__________
(1) سنن أبي داود الطب (3868) ، مسند أحمد (3/294) .
(2) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبي داود الطب (3886) .(78/380)
وبناء على ما سبق فإنه يحرم الذهاب إلى السحرة مطلقا، ولو بدعوى حل السحر.
واللجنة إذ تنشر هذا لبيان وجه الحق في هذا الموضوع إبراء للذمة ونصحا للأمة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
صالح بن فوزان الفوزان ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
عضو ... عضو
عبد الله محمد المطلق ... أحمد بن علي سير المباركي
عضو ... عضو ... عضو
سعد بن ناصر الشثري ... محمد بن حسن آل الشيخ ... عبد الله بن محمد بن خنين(78/381)
صفحة فارغة(78/382)
حديث شريف
عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها (1) »
(رواه الإمام أحمد، والترمذي، وأبو داود)
__________
(1) سنن الترمذي فضائل القرآن (2914) ، سنن أبي داود الصلاة (1464) ، مسند أحمد (2/192) .(78/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (1)
(سورة الحجرات، الآية 12)
__________
(1) سورة الحجرات الآية 12(79/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارات البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(79/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(79/3)
المحتويات
الافتتاحية
دفاعا عن الشيخين ابن باز وابن عثيمين (رحمهما الله) لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.... 25
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 47
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 71
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 87(79/4)
البحوث
أقسام الناس في الإيمان بالقضاء والقدر لفضيلة الدكتور \ عبد الله بن سليمان الغفيلي 113
الولاء والبراء وأحكام التعامل مع الكفار والمبتدعة والفساق لفضيلة الدكتور \ عبد الله بن عبد العزيز الجبرين 175
مصليات الأعياد وهل تأخذ حكم المساجد لفضيلة الشيخ \ خالد بن علي العرفج 231
المماطلة مظاهرها وأضرارها وأنواعها وأسبابها في الفقه الإسلامي لفضيلة الدكتور \ عبد الله بن ناصر السلمي 253
العقل تعريفه، منزلته، مجالاته، ومداركه لفضيلة الدكتور \ عبد القادر بن محمد صوفي 339
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء حول ما ينشر من التنجيم باسم (أبراج الحظ) في وسائل الإعلام 379(79/5)
دفاعا عن الشيخين
ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله (1)
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ... وبعد:
فقد اطلعنا على مقابلة صحفية مع وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء الأسبق في دولة الكويت المفكر الإسلامي \ يوسف بن هاشم الرفاعي، في صحيفة السياسة عددها رقم (13486) والصادر يوم السبت 29 ربيع الآخر 1427 هـ الذي يوافقه 27 مايو 2006 م.
وكان مما لفت الانتباه، وحز في الخاطر كثيرا هجومه الشنيع وغير المبرر على عالمين من أعلام هذه الأمة هما سماحة الشيخ الإمام: عبد العزيز بن باز - رحمه الله -، وسماحة الشيخ العلامة: محمد العثيمين - رحمه الله -، ولفق عليهما تهما كاذبة مزورة، ولبس على الناس في شأنهما.
ولما وقفت على ذلك رأيت لزاما علي الذب عنهما صيانة لعرضهما وأداء لحقهما بعد موتهما، وأيضا بيانا للحق وإظهارا له ودحرا للباطل وردا له على قائله.
فأقول مستعينا بالله عز وجل:
إن ما نقمه الرفاعي على الشيخين جملة مزاعم وهي على قسمين:
القسم الأول: أمور اتهمهما بها كذبا وبهتانا؛ وهما لا
__________
(1) ردا على يوسف بن هاشم الرفاعي في هجومه على الشيخين(79/7)
يقولان بها، وهي:
قوله: " لأن ابن باز يعتبر أن من يحتفل بالمولد فهو مشرك فهذا تطرف ".
قوله: " ويقول إن من يحتفل بالإسراء والمعراج مشرك فهذا أيضا تطرف ".
قوله: " من ذهب ليزور المسجد ليزور النبي - صلى الله عليه وسلم - فسفره معصية ".
قوله عنهما رحمهما الله: " ألم يقولوا إن الوقوف أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء شرك ".
قوله عن كتبهما: " وكتب من يطلقون عليهم أئمة هي كتب تكفير وتشريك ".
قوله: " وهؤلاء الجماعة جهلة ويتبعون ابن باز ويقولون عنه: إنه إمام من الأئمة رغم أنه أنكر أن الإنسان وصل إلى القمر، وقال: إن الأرض ليست كروية وأصدر كتابا في ذلك، وقال: لم أصدق الوصول إلى القمر، ولم يصدق ذلك إلا عندما صعد الأمير سلطان صعد مع الرواد والذين ذهبوا إلى القمر وبعدها صدق، وقال: طالما أن الأمير سلطان رأى بعينه فهذا الكلام يعتبر حقيقيا.. على اعتبار أن بعضهم كان يردد الآية: {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} (1) .
__________
(1) سورة الرحمن الآية 33(79/8)
وللجواب عن هذه الافتراءات نقول ابتداء {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (1) ، ثم لو كان هذا الكلام صادرا من غر جاهل، لا يزن الأمور ولا يعرف المآلات، ولا يحسن أدب الخلاف، ولا يعرف عاقبة من يفتري الكذب ويؤذي عباد الله المؤمنين، أقول لو صدر الكلام من مثل هذا الغر الجاهل لهان الأمر، لكن هذا الكلام صادر من رجل كان في يوم من الأيام مسؤولا كبيرا في الدولة، ومنتسبا للعلم، وله اطلاع على كتب العلماء وكان المؤمل فيه أن ينصب نفسه للدفاع عن علماء الحق، لا أن ينتصب للطعن فيهم بالباطل، ولنأتي على مطاعنه فقرة، فقرة:
1 - أما الزعم بأن الشيخ ابن باز - رحمه الله - يرى أن من يحتفل بالمولد فهو مشرك، فهذا كذب عليه - رحمه الله - وقد ألف رسالة في حكم الاحتفال بالموالد النبوية وغيرها بين فيها أنها بدعة واستدل لذلك بأدلة قوية يطمئن إليها قلب المؤمن المجرد وكان مما قال رحمه الله: (الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فقد تكرر السؤال من كثير عن حكم الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقيام له في أثناء ذلك، وإلقاء السلام عليه، وغير ذلك مما يفعل في المولد. والجواب أن يقال: لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره؛ لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا غيرهم من
__________
(1) سورة النور الآية 16(79/9)
الصحابة رضوان الله على الجميع، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، وهم أعلم الناس بالسنة، وأكمل حبا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومتابعة لشرعه ممن بعدهم، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » أي: مردود عليه، وقال في حديث آخر: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة (2) » . ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع، والعمل بها، وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) ، وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) . وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (5) . وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (6) . وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (7) .
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن أبي داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد (4/127) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(3) سورة الحشر الآية 7
(4) سورة النور الآية 63
(5) سورة الأحزاب الآية 21
(6) سورة التوبة الآية 100
(7) سورة المائدة الآية 3(79/10)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله، وهذا بلا شك، فيه خطر عظيم، واعتراض على الله سبحانه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة. والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقا يوصل إلى الجنة، ويباعد عن النار إلا بينه للأمة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم (1) » رواه مسلم في صحيحه. ومعلوم أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل الأنبياء وخاتمهم، وأكملهم بلاغا ونصحا، فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأمة، أو فعله في حياته، أو فعله أصحابه رضي الله عنهم، فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء، بل هو من المحدثات التي حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها أمته، كما تقدم ذكر ذلك في الحديثين السابقين، وقد جاء في معناهما أحاديث أخر،
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1844) ، سنن النسائي البيعة (4191) ، سنن ابن ماجه الفتن (3956) ، مسند أحمد (2/191) .(79/11)
مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه. والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار الموالد والتحذير منها، عملا بالأدلة المذكورة وغيرها، وخالف بعض المتأخرين فأجازها إذا لم تشتمل على شيء من المنكرات، كالغلو في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكاختلاط النساء بالرجال، واستعمال آلات الملاهي، وغير ذلك مما ينكره الشرع المطهر، وظنوا أنها من البدع الحسنة، والقاعدة الشرعية: رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (3) . وقد رددنا هذه المسألة وهي: الاحتفال بالموالد إلى كتاب الله سبحانه، فوجدناه يأمرنا باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به، ويحذرنا عما نهى عنه، ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها، وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة الشورى الآية 10(79/12)
لنا، وأمرنا باتباع الرسول فيه، وقد رددنا ذلك - أيضا - إلى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم نجد فيها أنه فعله، ولا أمر به، ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم، فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين، بل هو من البدع المحدثة، ومن التشبه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في أعيادهم، وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق، وإنصاف في طلبه أن الاحتفال بالموالد ليس من دين الإسلام، بل هو من البدع المحدثات، الذي أمر الله سبحانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بتركها والحذر منها) .
وهي موجودة بكاملها في مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز رحمه الله (الجزء الأول ص 178 - 182) .
والحاضرون لهذه الاحتفالات أجناس فمنهم من يقع منه الفسق من الاختلاط المحرم وقد يكون بينهم من يشرب المسكر ومن يتعاطى المعازف وغير ذلك مما ذكره أهل العلم.
ومنهم من يحصل منه الشرك وذلك بالغلو في النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفعه فوق منزلته وإعطائه الله بعض خصائص الرب جل وعلا من علم الغيب وإغاثة الملهوف مع أنه ميت في قبره بنص القرآن: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (1) ، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (2) . وغيرها من النصوص الشرعية.
__________
(1) سورة الزمر الآية 30
(2) سورة الأنبياء الآية 34(79/13)
إلا أن أصل الاحتفال بالمولد بدعة، أما ما يقع فيه فيحكم على كل فعل أو قول بحسبه وفقا للنصوص الشرعية والقواعد المرعية.
وهذا لا يعني أن كل من يحتفل بالمولد فإنه مشرك كما زعم الرفاعي في اتهامه للشيخ ابن باز رحمه الله.
2 - زعمه أن الشيخ يرى أن من يحتفل بالإسراء والمعراج فإنه مشرك وهذا باطل وافتراء، فإن الشيخ رحمه الله قد ألف رسالة في حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج بين فيها بدعية ذلك الاحتفال، وأيد قوله بالأدلة الشرعية الصريحة الصحيحة فلتراجع (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز - رحمه الله -، الجزء الأول ص 183 - 185) . ولم يحكم على من احتفل بهذه الليلة بالشرك.
3 - وأما زعمه بأن الشيخ رحمه الله يقول: من ذهب ليزور المسجد ليزور النبي - صلى الله عليه وسلم - فسفره معصية.
فهذا باطل أيضا، والشيخ رحمه الله له فتوى في ذلك بخصوصه حيث سئل - رحمه الله - (ما حكم السفر لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من قبور الأولياء والصالحين وغيرهم؟
فأجاب رحمه الله: لا يجوز السفر بقصد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قبر غيره من الناس في أصح قولي العلماء؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (1) » متفق عليه. والمشروع لمن أراد
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبي داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .(79/14)
زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بعيد عن المدينة أن يقصد بالسفر زيارة المسجد النبوي فتدخل زيارة القبر الشريف وقبري أبي بكر وعمر والشهداء وأهل البقيع تبعا لذلك. وإن نواهما جاز؛ لأنه يجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا، أما نية القبر بالزيارة فقط فلا تجوز مع شد الرحال، أما إذا كان قريبا لا يحتاج إلى شد رحال ولا يسمى ذهابه إلى القبر سفرا، فلا حرج في ذلك؛ لأن زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - وقبر صاحبيه من دون شد رحال سنة وقربة، وهكذا زيارة قبور الشهداء وأهل البقيع، وهكذا زيارة قبور المسلمين في كل مكان سنة وقربة، لكن بدون شد الرحال؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «زوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة (1) » أخرجه مسلم في صحيحه.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية» أخرجه مسلم أيضا في صحيحه. (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز رحمه الله الجزء الثامن ص 336 - 337) .
4 - زعمه بأن الشيخين ابن باز وابن عثيمين يقولان إن الوقوف أمام قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - والدعاء شرك، وهذا كذب صريح وتلبيس على العوام فإن الوقوف أمام قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر رضي
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبي داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد (2/441) .(79/15)
الله عنهما أمر مشروع لمن كان بالمدينة، وهي من الزيارة المشروعة أما دعاء الله أمام القبر مستقبلا القبر مستدبرا القبلة فهذا غير مشروع، جاء في رسالة من الشيخ ابن باز رحمه الله إلى المرموز لاسمه بـ (ع. م. ع) وفيها، قوله رحمه الله: " ونفيدكم أن الدعاء عند القبور غير مشروع سواء كان القبر قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره، وليست محلا للإجابة، وإنما المشروع زيارتها، والسلام على الموتى، والدعاء لهم، وذكر الآخرة والموت، أحببنا تنبيهك على هذا حتى تكون على بصيرة، وفي إمكانك أن تراجع أحاديث الزيارة في آخر كتاب الجنائز من بلوغ المرام حتى تعلم ذلك وفقنا الله وإياكم لاتباع السنة والعمل بما يرضي الله سبحانه ويقرب لدينه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته " أ. هـ (مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز رحمه الله الجزء السادس ص 327) .
5 - زعمه أن كتب الشيخين مليئة بالتكفير والتشريك - حسب تعبيره -:
ونحن نقول بل كتبهم مليئة بالعلم النافع والتوجيه والنصيحة والذب عن حياض الشريعة وتعظيم السنة والذود عنها والرد على من خالفها وهذه كتبهم بين أيدينا شاهدة على هذا.
أما التكفير ونحوه فهذا حكم شرعي يتطلب العلم والبصيرة وتوفر شروطه وانتفاء موانعه، وإلا فإن الخائض فيه سيهلك.
والتكفير والتفسيق ونحوها أحكام جاءت في كتاب الله عز وجل أليس(79/16)
الله عز وجل يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (1) ، ويقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) ، وغيرها من الآيات الكثيرة في كتاب الله عز وجل التي توضح بجلاء الحكم في مثل هذه القضايا.
فوجود الحكم بالكفر على أفعال أو أقوال جاء الحكم فيها بالكفر في الكتاب والسنة أو الإجماع، هذا حق لا ريب فيه، واتباع للشرع، ووضع للأمور في مواضعها، بل إن جميع الفقهاء الذين صنفوا في أبواب الفقه، يعقدون بابا في أحكام المرتد، وهو الذي كفر بعد إسلامه. فهل مثل هذا يكون سببا للطعن عليهم؟
ومع هذا فإن الشيخين رحمهما الله من أعف الناس لسانا وأقلهم خوضا وأشدهم احتياطا في مسائل التكفير والتبديع، ومن تتبع كتبهما بتجرد وجد مصداق ما ذكرناه، أما تكفير الناس بعامة أو بدون تثبت فهما ولله الحمد أبعد ما يكون عن هذا السبيل، بل هما قد وقفا وقفة صادقة وقوية أمام التكفيريين وبينوا بطلان وفساد اعتقادهم ومنهجهم رحمهما الله رحمة واسعة.
6 - أما زعمه - عفا الله عنه - بأن الشيخ ابن باز رحمه الله أنكر وصول الإنسان إلى القمر ولم يصدقه حتى صعد الأمير سلطان إليه، وأنه
__________
(1) سورة المائدة الآية 73
(2) سورة النساء الآية 48(79/17)
يستدل بقوله تعالى: {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} (1) .
فهذا من أعجب العجب؛ وذلك أن الشيخ ابن باز رحمه الله قد ألف رسالة في إمكان الصعود إلى الكواكب في الثمانينات الهجرية، وهي موجودة ضمن مجموع الفتاوى له رحمه الله (الجزء الأول ص 254 - 265) وقد بين فيها أنه لا يوجد في الأدلة الشرعية ما يمنع وصول الإنسان إلى الكواكب، وهذه الرسالة قد ألفها رحمه الله قبل أن يوجد الأمير سلطان بن سلمان فكيف يزعم الرفاعي بأن الشيخ لم يصدق إلا بعد أن صعد الأمير سلطان إلى القمر.
أما الاستدلال بهذه الآية الكريمة على اعتبار أن (سلطان) الوارد فيها يقصد به الأمير سلطان؛ فهذا لا يفوه به من يعلم ما يقول ويعقل عن الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الخطاب، فكيف يرمى به عالم إمام محدث مجتهد سلم له بالإمامة والفقه والعلم والمعرفة بالنصوص الشرعية علماء عصره. ولا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل.
القسم الثاني: أمور نسبها إلى الشيخين وهما أو أحدهما يقول بها، ولا مطعن عليه فيها، وهي:
1 - قوله عنهما: " ويقولون إنه لا يجوز أن نعقد ختمة قرآن للميت ".
2 - قوله: " وبعضهم حرم الجلوس للعزاء ... ".
__________
(1) سورة الرحمن الآية 33(79/18)
والجواب:
1 - أما قوله: " ويقولون إنه لا يجوز أن نعقد ختمة قرآن للميت ".
فهذا غير دقيق فإن المسألة خلافية، يسع الخلاف فيها، والشيخ - رحمه الله - يقول بأن الأحوط ترك ذلك ولم يقل إنه لا يجوز، وقد سئل - رحمه الله -: (أقوم أحيانا بالطواف لأحد أقاربي أو والدي أو أجدادي المتوفين، ما حكم ذلك؟ وأيضا ما حكم ختم القرآن لهم جزاكم الله خيرا؟
[فأجاب] : الأفضل ترك ذلك؛ لعدم الدليل عليه، لكن يشرع لك الصدقة عن من أحببت من أقاربك وغيرهم إذا كانوا مسلمين، والدعاء لهم، والحج والعمرة عنهم، أما الصلاة عنهم والطواف عنهم والقراءة لهم فالأفضل تركه؛ لعدم الدليل عليه، وقد أجاز ذلك بعض أهل العلم؛ قياسا على الصدقة والدعاء، والأحوط ترك ذلك؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف وعدم القياس) . (انظر مجموع الفتاوى له - رحمه الله - الجزء الثالث عشر ص 258 - 259) .
2 - أما قوله: " وبعضهم حرم الجلوس للعزاء ".
فهذه مسألة اجتهادية والشيخ ابن باز - رحمه الله - يرى جواز الاجتماع لتلقي العزاء في بيت المتوفى أو ذويه لأن ذلك أعون على أداء السنة، وهذا نص فتواه - رحمه الله -: " لا أعلم بأسا في حق من نزلت به مصيبة بموت قريبه، أو زوجته، ونحو ذلك أن يستقبل المعزين في بيته في(79/19)
الوقت المناسب؛ لأن التعزية سنة، واستقبال المعزين مما يعينهم على أداء السنة. وإذا أكرمهم بالقهوة، أو الشاي، أو الطيب، فكل ذلك حسن ".
وأما الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - فإنه يرى المنع فيه، يقول - رحمه الله - في جواب استفتاء حول هذا الموضوع: (الاجتماع للعزاء مكروه بدعة وإذا حصل معه إطعام المجتمعين صار من النياحة. قال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (كانوا يعدون الاجتماع إلى أهل الميت وصنع الطعام من النياحة) ولم يكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا خلفاؤه الراشدون ولا أصحابه المهتدون فيما نعلم لم يكونوا يجتمعون يتلقون معزين أبدا، غاية ما في الأمر أنه «لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم (1) » ، ولم يجتمع إلى آل جعفر علي بن أبي طالب وهو أخوه ولا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن عمه ولا أحد من أقاربه فيما نعلم، لم يجتمع إلى آل جعفر ليأكلوا من هذا الطعام، ولا شك أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأن شر الأمور محدثاتها. والتعزية من العبادة والعبادة لا بد أن تكون على وفق ما جاءت به الشريعة، وقد صرح بعض أهل العلم بأن الاجتماع بدعة وصرح فقهاؤنا الحنابلة - رحمهم الله - في كتبهم (بأن الاجتماع مكروه ومن العلماء من حرمه) وكما ترى فإن الشيخ - رحمه الله - أفتى بحسب ما بلغه علمه وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، أما قول الرفاعي بأن الصحابة
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (998) ، سنن أبي داود الجنائز (3132) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610) ، مسند أحمد (1/205) .(79/20)
كانوا يعزي بعضهم بعضا في المسجد، فهذا يحتاج إلى نقل، وإن ثبت فإن فتوى الشيخ ابن عثيمين لا تعارضه هو يمنع من الاجتماع لتلقي العزاء في بيت الميت، ولا يمنع العزاء مطلقا بل يراه سنة كما سبق في النقل عنه.
وبكل حال فالمسألة محل اجتهاد ونظر.
هذه جملة المسائل التي طعن بها الأخ يوسف الرفاعي على سماحة الشيخين العلمين الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله، وسماحة العلامة الشيخ محمد العثيمين رحمه الله. وقد طوينا ما ذكره من ألفاظ التهجم والتهكم والانتقاص لشخصيهما رحمهما الله؛ لأن القصد بيان الحق في المسائل العلمية التي قد يلتبس الحق فيها بالباطل على كثير من الناس، أما السباب والشتام وألفاظ التنقص فهذا ليس له إلا الإعراض عنه فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لم يكن فاحشا ولا متفحشا (1) » . ونحن ندعو أخانا الرفاعي إلى أن يكون قلبه سليما على إخوانه المسلمين، وأن يستغفر الله ويتوب إليه ويعلن توبته عسى أن يغفر الله له، وأن تكون حالنا كحال الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) .
وكما قال السلف: فإن الحق قديم، والرجوع إلى الحق علامة على الفضل والخيرية، ونحن لا ندعي العصمة لعلمائنا إلا أن الحق أحق أن يتبع وتقويل الناس ما لم يقولوه جناية
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3559) ، صحيح مسلم الفضائل (2321) ، سنن الترمذي البر والصلة (1975) ، مسند أحمد (2/161) .
(2) سورة الحشر الآية 10(79/21)
عظيمة؛ فكيف بها حين تكون هذه الجناية في حق علماء معتبرين مقتدى بهم، لا شك أن الأمر أعظم خطرا.
نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن يغفر لموتانا وسائر موتى المسلمين، ويجزي عنا الإمامين العلمين الإمام ابن باز والإمام ابن عثيمين - رحمهما الله - خير الجزاء وأوفاه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ(79/22)
الفتاوى(79/23)
من فتاوى سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية (رحمه الله)
إذا أصاب الكفن ماء نجس وجب غسله
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم لافي بن ضافي المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن المسألتين الاثنتين:
المسألة الأولى: إذا رضع شخص من امرأة ولها أولاد ولأولادها إخوان من أبيهم فهل يكونون إخوانا للشخص المرتضع؟
والجواب: إن كانت المرضعة زوجة لأبيهم حال الرضاع ولبنها لبن أبيهم فهم إخوان له، لأن اللبن لبن الفحل فيكونون إخوة له من الأب (وأولادها إخوة من الأب والأم) وهذا كله من الرضاع.
المسألة الثانية: إذا أصاب الكفن ماء نجس فماذا يكون العمل؟
الجواب: إذا أصاب الكفن ماء نجس لزم غسله وتطهيره وتجفيفه أو يبدل بكفن غيره، ولا تصح الصلاة على الميت مع هذه النجاسة المذكورة. والله أعلم.
مفتي الديار السعودية
(ص - ف - 3298 - 1 في 24 \ 11 \ 1385 هـ)(79/25)
الصلاة على الميت الصف عن يمين الإمام فيها
السنة أن يتقدم الإمام على المأمومين كما في الصلاة. وما يفعله كثير من الناس من الصف عن يمين الإمام لا أصل له بحال، لكن إنما يتسامح في هذا لأنهم قد لا يجدون مكانا في الصفوف وليحملوه بسرعة، وإلا فليس هنا سنة أن يكون بعض أهله مع الإمام، بل الأمر المشروع في الجنائز كالأمر المشروع في الصلاة.(79/26)
الصلاة على الحائض والنفساء في المسجد
سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف والشيخ عبد العزيز العنقري عن الحائض والنفساء إذا ماتت إحداهما هل تجوز الصلاة عليها في المسجد؟
فأجابا: نعم، يجوز إذا أمن تلويثه؛ لأن الأحكام انقطعت بالموت.(79/26)
المقتول في الزنا أو غيره من الحدود
الصلاة على العاصي المستعلن بالمعاصي. من أهل العلم من قال: لا يصلى عليه، تنكيلا، أو لعظم ذنبه. ولكن الصحيح قول الجمهور أنه يصلى عليه، وأنه أحق من غيره؛ فإنه عاص، والعاصي أحق بالصلاة.
نعم هناك جرائم خاصة جاء فيها التغليظ بترك الإمام الصلاة عليه كالغال وقاتل نفسه، وأما أن ذلك في مطلق الجرائم فلا.(79/26)
والمقتول في حد أولى العصاة أن يصلى عليه، وذلك أن قتله كفارة ومن حكمتها ردع المجرمين، فكأن المقتول في حد من الحدود كفى في تأديبه على جريمته ما صنع به من الحد فيصلى عليه.(79/27)
هل يصلى على المتخلف عن الجماعة من غير عذر
والجواب: الحمد لله، يصلى على جميع من مات من المسلمين ولو عاصيا: كزان، وقاطع طريق، وقاتل، وغيرهم؛ لحديث: «صلوا على من قال لا إله إلا الله» . لكن لا يصلي الإمام - فقط - على الغال وقاتل نفسه، واختار المجد أنه لا يصلي على كل من مات على معصية ظاهرة بلا توبة، قال في (الفروع) وهو متجه.
(ص - ف - 22 في 7\1\1378 هـ)(79/27)
رفع الصوت حال اتباع الجنازة
سئل عن الجنازة إذا حملت، ثم أحدث أهلوها صوتا عاليا بأي ذكر كان. فهل يقرون على فعلهم أم ينهون؟
والجواب: الحمد لله رب العالمين. أما رفع الصوت عند اتباع الجنازة بذكر أو غيره فهو بدعة، ينهى عنه.
(ص - م - 12 في 24 \ 8 \ 1373 هـ)(79/27)
جواز إدخال الأجنبي المرأة في قبرها، وخلعه عقد أكفانها، ولو كان ثم محرم
وأما قولها في معرض استعراضها لحاجتها إلى محرم: وإذا مت فمن يدخلني القبر ويحل العقد.
فجوابه أنه لا بأس من إدخال الأجنبي المرأة قبرها وحله عقد أكفانها ولو كان ثم محرم. وبالله التوفيق. والسلام عليكم.
(ص - ف - 2182 - 1 في 12 \ 8 \ 1385 هـ)(79/28)
هل يجوز الدعاء عند قبر الميت بعد دفنه أم لا؟
وأما الدعاء للميت عند قبره بعد دفنه فقد روى أبو داود في سننه من حديث عثمان رضي الله عنه، قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: (استغفروا لأخيكم واسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل) . (1) »
وفي (الاختيارات) لعلاء الدين أبي الحسن البعلي ص 52 ضمن مجموعة الفتاوى المصرية ما نصه:
ويستحب أن يدعو للميت عند القبر بعد الدفن واقفا، وقال أحمد: لا بأس به قد فعله علي والأحنف، وروى سعيد عن ابن مسعود رضي الله عنه
__________
(1) سنن أبي داود الجنائز (3221) .(79/28)
«أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقف فيدعو،» لقوله تعالى في المنافقين: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (1) ، وهذا هو المراد على ما ذكره المفسرون. أ. هـ.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية في ج 24 من مجموع فتاواه وجه الاستدلال بالآية المذكورة بقوله: إنه لما نهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على المنافقين وعن القيام على قبورهم كان دليل الخطاب أن المؤمن يصلى عليه قبل الدفن ويقام على قبره، أي للدعاء له بعد الدفن.
(تنبيه) : قد يعمل بعض الناس حال هذا الدعاء المشروع بشكل غير مشروع وهو أن يقوم صف يتقدمهم شخص قد يكون أمثلهم ويدعون هذا الدعاء، كما أن رفع اليدين حال هذا الدعاء لم يرد فيه شيء، وهذا الشيء بدعة لم يرد به سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(ص - في - 2655 - 1)
__________
(1) سورة التوبة الآية 84(79/29)
تشجير المقابر وإضاءتها وترخيمها لا يجوز
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي
أمير منطقة مكة المكرمة سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد اطلعت على المعاملة المرفقة الواردة رفق خطاب سموكم رقم 2147 وتاريخ 19 \ 6 \ 84 هـ، حول قيام أمانة العاصمة بتشجير مقبرة(79/29)
المعلاة، مع وضع عدة صنابير فيها. إلى آخره. كما اطلعنا على خطاب فضيلة الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف بالحجاز وإجابة أمين العاصمة على خطاب وزارة الداخلية بهذا الصدد.
ونفيد سموكم أن ما ذكرته الأمانة من بناء ما قد تهدم من سور المقبرة من الجهات المؤدية إلى أطرافها، مع عمل الأبواب اللازمة لحجرها، وإقامة حارس للمراقبة، وإتمام ما يجب نحو تنظيفها، وعمل ممر بين المقابر: فكل ذلك لا بأس به.
أما تشجير المقبرة فهو لا يجوز، وفيه تشبه بعمل النصارى الذين يجملون مقابرهم أشبه ما تكون بالحدائق، فيجب إزالتها وإزالة صنابير الماء التي وضعت لسقيها، ويبقى من الصنابير ما يحتاج إليه للشرب وتلبين التربة.
وأما إضاءة المقبرة فيخشى أن يجر ذلك إلى إسراج القبور الذي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعله، ولا سيما ونفوس الجهال تتعلق كثيرا بالخرافات. فتزال هذه الأنوار سدا للذريعة.
وترخيم القبور لا يجوز أيضا، فيجب منعه؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - «نهى أن يجصص القبر أو يبنى عليه (1) » .
وهذه المسائل يجب إزالتها خشية من الوقوع في المحذور، وحماية لجانب التوحيد. ويمكن أن الذي أشار بتنوير هذه المقبرة وتشجيرها من الذين لهم
__________
(1) والحديث في صحيح مسلم.(79/30)
تعلق بالقبور والخرافات، ويريد إحياء الشرك والخرافات وهذه البلاد المقدسة قد طهرها الله - وله الحمد والمنة - من الشركيات والبدع والخرافات، فيجب علينا أن نحافظ عليها، ونبتعد عن الأسباب التي تفضي إلى شيء من ذلك. هذا ونسأل الله لكم التوفيق والسداد. والسلام عليكم.
(ص: ف - 2143 - 1 في 18 \ 8 \ 1384 هـ) .(79/31)
ردمها وجعلها طريقا للسيارات
من محمد بن إبراهيم إلى صاحب الفضيلة رئيس المحكمة الكبرى
بالمدينة المنورة
سلمه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
بالإشارة إلى خطابكم لنا رقم 125 وتاريخ 6 \ 2 \ 1388 هـ وصل، وبرفقه الأوراق المقدمة لكم من هاشم غندورة مهندس وزارة المواصلات الخاصة بالمقبرتين اللتين سيمر طريق المدينة خيبر: إحداهما قديمة وسيمر بمائة متر مربعا، وأن هذه المساحة ستردم ولن ينبش شيء من القبور وتستفتون عن حكم ذلك.
والجواب: لا يجوز نبش هذه القبور، ولا يجوز ردم المساحة المذكورة ومرور الطريق معها، لأن هذا من امتهان الأموات، ومعلوم أن لهم حرمة، والأصل في ذلك من السنة ما رواه أحمد في المسند وأبو داود وابن ماجه والبيهقي في سننهم وابن حبان في صحيحه بأسانيدهم إلى عائشة(79/31)
رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كسر عظم الميت ككسره حيا (1) » وقد سكت عنه أبو داود والمنذري، وحسنه ابن القطان، وقال ابن دقيق العيد والحافظ في (بلوغ المرام) : إنه على شرط مسلم.
ومعنى الحديث: أن كسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم، كما جاء في رواية القضاعي من وجه آخر عنها وزاد (في الإثم) قال الطيبي: إشارة إلى أنه لا يهان ميتا كما لا يهان حيا. وقال الباجي: يريد أن له من الحرمة في حال موته كما له من الحرمة في حال الحياة. انتهى كلام الباجي.
ويحتمل أن الميت يتألم كما يتألم الحي. يؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في (المصنف) عن ابن مسعود قال: (أذى المؤمن في موته كأذاه في حياته) قال ابن عبد البر: يستفاد منه أن الميت يتألم بجميع ما يتألم به الحي. ومن لازمه أن يستلذ بما يستلذ به الحي.
ومما يدل على المنع أيضا ما رواه الإمام أحمد في مسنده بسنده إلى عمرو بن حزم قال: «رآني النبي - صلى الله عليه وسلم - متكأ على قبر فقال: لا تؤذ صاحب القبر، أو لا تؤذه (2) » رواه النسائي في السنن بلفظ «لا تقعدوا على القبور (3) » ورواه الإمام أحمد بهذا اللفظ. قال الحافظ في (الفتح) : إسناده صحيح.
__________
(1) سنن أبي داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد (6/105) .
(2) مسند أحمد (5/223) .
(3) سنن النسائي الجنائز (2045) ، مسند أحمد (5/223) .(79/32)
وجه الدلالة أن الحديث فيه النهي عن إيذاء أهل القبور بالاتكاء أو الجلوس عليها، وهو يقتضي التحريم، فإذا كان هذا في الجلوس فكيف يسوغ القول في ردم هذه المساحة التي تشتمل على قبور وجعلها طريقا مسلوكا للسيارات وغيرها. ولو كانت هذه المسافة متصفة بوصف يمنع المرور مطلقا فإنهم سيعملون حلا لهذا الطريق بحيث يمر مع موضع آخر، فما هم عاملوه على هذا التقدير فليعملوه مع وجود هذه القبور؛ لأن هذا مانع شرعي لا يجوز تجاوزه.
وأما ما أشرتم إليه من وجود طريق قديم للأهالي يستعملونه حاليا فهذا يجب عمل ما يلزم من منعهم من السير معه، لما فيه من إهانة أهل القبور، وتنبيه بلدية المدينة لتقوم بتسويرها. والسلام عليكم.
مفتي الديار السعودية
(ص - ف - 1022 في 10ا5ا88 هـ)(79/33)
وجوب تعدد المقابر في نواحي مكة.
لا يجوز أن يدفن في القبر أكثر من واحد، ولا يدفن عليه حتى يتحقق بلاؤه
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي
وزير الداخلية الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد جرى الاطلاع على أوراق المعاملة المشفوعة الواردة بخطاب(79/33)
سموكم رقم وتاريخ المتعلقة بموضوع دفن الأموات في مكة المكرمة، وما دار حوله من نقاش بغية توحيد الدفن في مقبرة المعلاة أو جعله في عدة مقابر نظرا لتوسع البلد.
وبتتبع أوراق المعاملة، وتأمل ما دار فيها، وما أبدته إمارة مكة للمبررات التي أدلت بها لما فيه من راحة المواطنين والتسهيل عليهم يكون كل أهل جهة يدفنون فيما يليهم، ولأنه أقرب تناولا لزيارة موتاهم فيما بعد إذا أرادوا الزيارة المرغب فيها شرعا؛ ولأنه أطيب لنفوسهم إذا كانوا يشاهدون قبور موتاهم لم يطرأ عليها ما أشارت إليه إمارة مكة من أن القبر الواحد يدفن فيه عدة أموات ويفتح بين آونة وأخرى لاستقبال الدفن وجمع العظام. إلخ ...
وأما تخصيص مقبرة للحجاج، ومنعهم من الدفن في مقبرة المعلاة فهذا لا يسوغ شرعا، كما أن فيه تفرقه تسبب إشكالات لا تخفى. وأما ما يخشى من وجود الفوضى إذا تعددت المقابر، فهذا يزول بجعل حراس على كل مقبرة كما هو المتبع في مثل هذا والسلام عليكم.
ملاحظة: بهذه المناسبة نلفت نظر سموكم إلى أنه لا يجوز أن يدفن في القبر أكثر من ميت واحد، إلا من حاجة ككثرة الموتى، كما لا يجوز أن يدفن عليه حتى يظن أنه بلي وصار ترابا، وإذا شك في ذلك رجع فيه إلى أهل الخبرة، فإن حفر فوجد فيه عظاما لم يجز دفن آخر عليه نص عليه الإمام أحمد. فينبغي التنبيه على القبوريين بهذا، والتأكيد عليهم بمراعاته. والله يحفظكم والسلام.(79/34)
(ص - ف - 995 في 24 \ 5 \ 1383هـ)
إذا بلي الميت في قبره جاز أن يدفن فيه غيره
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي
رئيس مجلس الوزراء سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فبالإشارة إلى خطاب سموكم برقم 21714 وتاريخ 22 \ 12 \ 78 هـ بشأن ما رفعه وزير الصحة عن المقبرة التي بطريق مستشفى أبها الجديد، واستفتائه عن جواز توسيع الطريق من تلك المقبرة، ونقل رفات القبور التي بجانب الطريق إلى موضع آخر من المقبرة.
والجواب: أن مثل هذا لا يجوز شرعا؛ لأن الموتى قد سبقوا إلى هذا الموضع، وصار دارا لهم، وقد أسلمهم أهلوهم إلى ربهم، فصارت القبور أول منازل الآخرة، وهم مرتهنون فيها إلى يوم البعث والنشور، فلا يحل لأحد نبش أموات المسلمين من قبورهم إلا لغرض شرعي صحيح؛ وهو ما كان من مصلحة الميت أو كف الأذى عنه ونحو ذلك، وأما إذا كان لمصلحة غيره من الأحياء أو الأموات فلا، كما لا يجوز لأحد أن يهينهم في قبورهم أو يطأ عليهم أو يمشي فوقها، وقد دلت على هذا النصوص من الكتاب والسنة وكلام العلماء رحمهم الله، وإذا بلي الميت في قبره بعد مرور المدة الكافية لبلائه فحينئذ يجوز أن يدفن في محله ميت غيره؛ لأن المقبرة المسبلة لا يجوز استعمالها في غير ما وقفت فيه. وأما مجرد ضيق(79/35)
الطريق فليس من مسوغات نقلها، لأنه يمكن توسيع الطريق من جانب آخر، أو العدول عنه إلى طريق سواه، أو غير ذلك مما لا يخفى.
وقد كتبنا بهذا فتيا مطولة دعمناها بآيات قرآنية وأحاديث نبوية وكلام المحققين من العلماء رحمهم الله وستطبع قريبا إن شاء الله والله يحفظكم.
(ص - ف - 485 في 19 \ 4 \ 1379 هـ)(79/36)
المقابر والطرق والأسواق لها أحوال
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو
الملكي وزير الداخلية المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد جرى الاطلاع على أوراق المعاملة الواردة إلينا بخطاب سموكم برقم 37 وتاريخ 1 \ 1 \ 1382هـ، المختصة بسوق الشعف والقبور الموجودة فيه، كما جرى الاطلاع على ما كتبه رئيس دورية الشعف وعلى قراري رئيس محكمة أبها برقم 7192 وتاريخ 18 \ 11 \ 81 هـ ورقم 4881 وتاريخ 26 \ 7 \ 1381هـ.
وبتتبع أوراق المعاملة وتأمل ما دار فيها ظهر أن تلك الأرض لا تخلو من أحوال: -
الأولى: أن تكون الأرض مقبرة مسبلة قديمة قد استوعبت بالدفن ولم تبل الأموات فيها ثم طرأ عليها استعمال أهل السوق لها بالاستطراق(79/36)
والمباسط ونحوها. ففي هذه الحالة حق الموتى مقدم على غيره، ولا يجوز استعمالها في غير ما سبلت له.
الثانية: مثل الأولى، تكون الأرض مقبرة مسبلة قديمة استوعبت بالقبور، ولكن قد بلي الموتى منها وصاروا رميما. فحينئذ لا مانع من استعمالها سوقا لمصالح المسلمين، إلا أنها تقوم بقيمة مثلها، ويشترى بقيمتها مقبرة بدلها.
الثالثة: أن يثبت أقدمية السوق، وأن الأموات لم يدفنوا فيها إلا بعد أن كانت سوقا، ولم تبل الموتى منها. ففي هذه الحالة إن أمكن الجمع بين المصلحتين بأن تتسع الأرض لمرور الناس مع حفظ كرامة الموتى وصيانتهم بإحاطة حائط على جميع القبور إن كانت مجتمعة في بقعة واحدة أو إحاطة كل بقعة فيها أموات بحائط ويترك الباقي سعة للسوق والاستطراق فلا مانع. وإن لم يمكن الجمع فيتعين نبش القبور احتراما لهم؛ لأن نبش الميت لا يجوز إلا لغرض صحيح يتعلق بمصلحة الميت خاصة. فحينئذ ينقلون إلى المقبرة العامة. إلا أن تكون أجسامهم قد بليت وصارت رميما - ويعرف ذلك بواسطة أهل الخبرة والمعرفة من قبوريين وغيرهم - ففي هذه الحالة لا يحتاج إلى نبشهم بل يجوز استعمال الأرض على حالتها الراهنة. والسلام.
رئيس القضاة
(ص - ق - 939 - 1 في 4 \ 7 \ 1382هـ)(79/37)
نقل من دفن في أرض مملوكة
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي
وزير الداخلية المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
تشير إلى أوراق المكاتبة الواردة إلينا بخطاب سموكم رقم 3172 وتاريخ 14 \ 9 \ 1385 هـ المتعلقة بموضوع دفن المرأة في الأرض التي سبق وأن حيزت من قبل الحكومة لإقامة مبنى عليها لطارفة قرية نمرة التابعة لمنطقة القنفذة ومحاولة المسئولين هناك لنقل رفات المرأة ودفنها في مقبرة أخرى وامتناع ولي المرأة من نقل المتوفاة من تلك الأرض ودفنها في مقبرة أخرى ... إلى آخره.
ونحيط سموكم علما أنه بتأمل ما تضمنه خطاب سموكم من رغبتكم من إبداء رأينا في الموضوع نرى أنه والحال ما تقدم ذكره يتعين نقل رفات المتوفاة ودفنها حيث توجد مقابر أخرى. بيد أنه يلاحظ في ذلك مراعاة نقل المتوفاة من قبل أشخاص موثوق بهم؛ لأن للميت حرمة كحرمة الأحياء. هذا والسلام عليكم ورحمة الله.
مفتي الديار السعودية
(ص - ف - 142 - 1 في 1 \ 1 \ 1386 هـ)(79/38)
كونها في وسط البلد ولا ينتفع بها ليس مبررا لجواز امتهانها، وتعريضها للشوارع
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة الأخ المكرم الشيخ عبد الملك بن إبراهيم الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف بالحجاز
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد اطلعنا على كتابكم رقم 2469 وتاريخ 9 \ 4 \ 1381هـ الخاص بالمقبرة الكائنة في الحفائر بالقرب من مسجد الدهلوية وأنها قديمة العهد. كما اطلعنا على كتاب أمين العاصمة المرفق بكتابكم وعلى القرار المرفق به والمتخذ من اللجنة المشكلة للكشف على المقبرة المذكورة والمشتمل على وجود عظام في المقبرة لم تستحل.
وحيث إن المقبرة المذكورة لا زال باقيا بها أثر العظام فإنه لا ينبغي أن يتعرض لها بشيء؛ لأن القبور لها حرمة المساكن، بل هي أهم من مساكن الأحياء، فلا ينبغي لأحد الإقدام على التصرف في شيء من مقابر المسلمين، ويجب أن تحاط تلك المقابر من لدن الجهات المسئولة حتى لا تمتهن. وكونها في وسط البلد ولا ينتفع بها ليس مبررا على جواز امتهانها وتعريضها للشوارع، فمتى كانت مشغولة بقبور المسلمين فهي منتفع بها، والمسلم يجب أن ترعى حرمته حيا وميتا، فكما لا يزعج من منزله لا يتعرض له في قبره الذي هو سكنه ولا ينبغي التعرض لأي مقبرة إلا بعد صدور فتوى من الجهة المعينة وكل مقبرة لم تستحل الأموات فيها بحيث(79/39)
تكون رفاتا (ترابا) فإنها تبقى على حالها، ويعتنى بحياطتها وحفظها من الامتهان. والله يحفظكم.
(ص - ف - 69 وتاريخ 16 \ 5 \ 1381هـ)(79/40)
صورة الجواب
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي
أمير منطقة الرياض المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فبالإشارة إلى هذه المعاملة الواردة إلينا منكم مناولة خادمكم والتي وردت إليكم من سمو وزير الداخلية برقم 1095 وتاريخ 26 \ 5 \ 1386هـ، حول ما كتب بجريدة الرياض في عددها رقم 74 وتاريخ 27 \ 3 \ 85هـ، عن موضوع المقابر القديمة التي تقع في وسط مدينة الرياض وتعترض الشوارع، وما ارتآه سموه من اتصالكم بنا لمعرفة رأينا حول ذلك، فقد جرى تأمل ما نوه عنه ووجدنا هذه المسألة قد بحثت سابقا، وجرى مخابرة حولها بيننا وبين الجهات المختصة، وقد كتب عنها كتابة مستوفاة (1) نلخص لكم منها ما يلي:
لا ريب أن الميت إذا وضع في قبره فقد تبوأ هذا المنزل وسبق إليه وصار داره ومنزله وهو حبس عليه، وقد سلمه أهله إلى ربه، فهذا أول منازل
__________
(1) بتاريخ 10 \ 2 \ 76هـ وقد احتواها هذا الجواب.(79/40)
الآخرة، وهو مرتهن فيه إلى يوم البعث والنشور، فلا يحل لأحد أن ينبشه ويخرجه من قبره وينقله إلى غيره إلا لغرض صحيح شرعا وهو ما كان من مصلحة الميت أو كف الأذى عنه ونحو ذلك وأما إذا كان لمصلحة غيره من الأحياء أو من الأموات فلا يحل، كما لا يجوز لأحد أن يهينه في قبره أو يطأ عليه أو يمشي فوقه أو يجلس عليه كما يأتي. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (1) ، وقال تعالى ممتنا على عباده: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} (2) {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} (3) ، وقال تعالى في سياق امتنانه على الإنسان في خلقه وتقديره وتيسيره السبيل: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} (4) ، وقال تعالى في قصة ابني آدم: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} (5) .
فدلت هذه الآيات الكريمات على عظم منة الله ورحمته وستره لابن آدم وأنه أكرمه بالدفن وستر عورته وسوأته، ولم يجعله مثل ميتة غيره من الحيوانات التي إذا ماتت طرحت على وجه الأرض كسائر الجيف تأكلها الطيور وتنهشها السباع وتسفي عليها الرياح فله الحمد والشكر على ذلك. ونبشه من قبره وإخراجه منه مخالف لهذا كله.
وهو أيضا مما يسبب كسر عظامه وإزالة كل عضو من محله ونحو ذلك
__________
(1) سورة الإسراء الآية 70
(2) سورة المرسلات الآية 25
(3) سورة المرسلات الآية 26
(4) سورة عبس الآية 21
(5) سورة المائدة الآية 31(79/41)
فيدخل في المثلة المنهي عنها، كما أخرج البخاري من حديث عبد الله بن زيد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنه نهى عن المثلة (1) » وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر (2) » رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخسف نعلي برجلي أحب إلي من أن أمشي على قبر (3) » رواه ابن ماجه. وعن عبد الله بن مسعود قال: لأن أطأ على جمرة أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم. رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن، «وعن عمرو بن حزم قال: " رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا على قبر، فقال: يا صاحب القبر انزل من على القبر لا تؤذ صاحب القبر ولا يؤذيك (4) » رواه الطبراني في الكبير من رواية ابن لهيعة، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كسر عظم الميت ككسره حيا (5) » رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه. وعن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها (6) » رواه أبو داود. وعن بشير مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «حانت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرة فإذا رجل يمشي على القبور عليه نعلان فقال: " يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك فنظر الرجل فلما عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرمى
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4192) ، سنن أبي داود الحدود (4364) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (971) ، سنن أبي داود الجنائز (3228) ، مسند أحمد (2/389) .
(3) سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1567) .
(4) مسند أحمد (5/223) .
(5) سنن أبي داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد (6/105) .
(6) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن أبي داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد (4/135) .(79/42)
بهما (1) » رواه أبو داود (2) .
وقال ابن القيم - رحمه الله -: من تدبر نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجلوس على القبر والاتكاء عليه والوطء عليه علم أن النهي إنما كان احتراما لسكانها أن يوطأ بالنعال فوق رؤوسهم. ولهذا ينهى عن التغوط بين القبور، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الجلوس على الجمر حتى تحرق الثياب خير من الجلوس على القبر، ومعلوم أن هذا أخف من المشي بين القبور بالنعال، وبالجملة فاحترام الميت في قبره بمنزلة احترامه في داره التي كان يسكنها في الدنيا؛ فإن القبر قد صار داره، وقد تقدم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كسر عظم الميت ككسره حيا (3) » فدل على أن احترامه في قبره كاحترامه في داره. والقبور هي دار الموتى ومنازلهم ومحل تزاورهم، عليها تنزل الرحمة من ربهم، والفضل على محسنهم، فهي منازل المرحومين، ومهبط الرحمة، ويلقى بعضهم بعضا على أفنية قبورهم يتجالسون ويتزاورون كما تظافرت به الآثار. ومن تأمل (كتاب القبور) لابن أبي الدنيا رأى فيه آثارا كثيرة من ذلك، فكيف يستبعد أن يكون من محاسن الشريعة إكرام هذه المنازل عن وطئها بالنعال واحترامها، بل هذا من إتمام محاسنها. انتهى كلامه رحمه الله.
وأما كلام الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم فكثير معروف قال في " المغني ": (فصل) : وإن تيقن أن الميت قد بلي وصار
__________
(1) سنن النسائي الجنائز (2048) ، سنن أبي داود الجنائز (3230) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1568) ، مسند أحمد (5/83) .
(2) والنسائي والقزويني.
(3) سنن أبي داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد (6/105) .(79/43)
رميما جاز نبش قبره ودفن غيره فيه، وإن شك في ذلك رجع إلى أهل الخبرة، وإن حفر فوجد عظما دفنها وحفر في مكان آخر نص عليه الإمام أحمد، واستدل بأن كسر عظم الميت ككسر عظم الحي. اهـ.
قال في (الإقناع وشرحه) : ولا ينبش قبر ميت باق لميت آخر؛ أي يحرم ذلك لما فيه من هتك حرمته. ومتى علم، ومرادهم ظن، أنه بلي وصار رميما جاز نبشه ودفن غيره فيه. إلى أن قال: وإذا صار رميما جازت الزراعة والحراثة وغير ذاك كالبناء، وإلا فلا. والمراد إذا لم يخالف شرط الواقف لتعيينه الجهة، فإن عين الأرض للدفن فلا يجوز حرثها ولا غرسها. وذكر في موضع آخر عن ابن عقيل رحمه الله: أن جميع بدن الميت عورة؛ ولهذا يشرع ستر جميعه بالكفن. قال: فيحرم نظره، ولا يجوز نظره إلا لمن يتولى أمره؛ ولهذا يشرع ستره عن العيون، ولا يمس الغاسل عورته ولا سائر جسده إلا بحائل كخرقة ونحوها.
وقال في (المنتهى وشرحه) : ولا يباح نبش قبر مسلم مع بقاء رمته إلا لضرورة كأن دفن في ملك غيره بلا إذنه، أو كفن بغصب، أو بلع مال غيره بلا إذنه وبقي كالذهب ونحوه، وطلبه ربه، وتعذر غرمه. اهـ. فهذا كلام فقهاء الحنابلة رحمهم الله.
وأما كلام الشافعية فقال الإمام النووي في (المجموع شرح المهذب) : وأما نبش القبر فلا يجوز لغير سبب شرعي باتفاق الأصحاب، ويجوز للأسباب الشرعية كنحو ما سبق، ومختصره أنه يجوز نبش القبر إذا بلي الميت وصار ترابا، وحينئذ يجوز دفن غيره فيه. ويجوز زرع تلك الأرض(79/44)
وبناؤها وسائر وجوه الانتفاع والتصرف فيها باتفاق الأصحاب، وهذا كما إذا لم يبق للميت أثر من عظم أو غيره. اهـ.
وأما كلام الحنيفية فقال الإمام السرخسي في كتابه (المبسوط) : وإن دفن قبل الصلاة عليه صلى على القبر؛ لأنه قد سلم إلى الله تعالى وخرج من أيديهم. وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «القبر أول منازل الآخرة (1) » . اهـ.
وأما كلام المالكية فقال في (شرح أقرب المسالك) للشيخ أحمد بن محمد الدردير - رحمه الله -: والقبر حبس على الميت لا ينبش. أي يحرم نبشه ما دام الميت به، إلا لضرورة شرعية. إلى آخر كلامه رحمه الله.
فهذا ما تيسر إثباته هنا من النصوص الشرعية الواردة في هذه المسألة وكلام أهل العلم، وفيه كفاية ومقنع إن شاء الله، وحيث إن المقابر أوقاف على الموتى وحبس عليهم فإن مجرد الحاجة إلى الانتفاع بها لتوسعة طريق ونحوه لا يكون مسوغا لاستعمالها أصلا، ولأن استعمالها على هذه الصفة مفسدة متحققة، وتوسعة الطريق جلب مصلحة، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، مع أن الغالب في مثل هذه الأمور أن للناس مندوحة عن نبش المقابر؛ لإمكانهم من إدراك غرضهم من ناحية أخرى من دون مفسدة ولا مشقة. والله ولي التوفيق.
مفتي الديار السعودية
__________
(1) سنن الترمذي الزهد (2308) ، سنن ابن ماجه الزهد (4267) ، مسند أحمد (1/64) .(79/45)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية (رحمه الله)
حكم زكاة الدين الذي لم يوف
س: بحمد الله وتوفيقه عملت عشر سنين، كانت حصيلتها ثلاثة مبالغ، أقرضت قريبي قرضا لأجل مسمى، والأيام تجري ولا أمل في تحصيله. والمبلغ الثاني لقريب آخر يعمل به ومرت سنون دون أن يعمل في هذا المبلغ. ومبلغ ثالث أحتفظ به لنفسي.
فما حكم زكاة الذي لم يوف؟ وحكم زكاة مال التجارة الذي لم يعمل به؟ وحكم المبلغ الذي أصرف منه؟ أفيدوني أفادكم الله.
ج: يجب عليك أن تزكي المبلغ الذي عندك، والمبلغ الذي عند قريبك للتجارة فيه ولم يفعل كلما حال عليه الحول، إلا أن يكون المبلغ الذي عند قريبك قد أنفقه في حاجته، وأعسر برده فلا زكاة فيه حتى تقبضه ويحول عليه الحول.
أما المبلغ عند القريب الأول ففيه تفصيل:
فإن كان مليئا باذلا فعليك زكاته كلما حال عليه الحول، ولا مانع من تأخير إخراجه حتى تقبضه منه ثم تزكيه عما مضى من السنوات، ولكن(79/47)
زكاته كل سنة أفضل وأحوط حذرا من الموت أو النسيان.
أما إن كان معسرا أو مماطلا فلا زكاة عليك في أصح قولي العلماء حتى تقبضه ثم تستقبل به حولا جديدا؛ لأن الزكاة مواساة، ولا تجب المواساة من مال لا تدري هل تحصل عليه أم لا.(79/48)
س: لي دين عند أحد الإخوة، هل يلزمني زكاته، أو أن هناك وقتا محددا لذلك؟
ج: إذا كان الدين الذي لك على موسرين باذلين متى طلبته أعطوك حقك، فعليك أن تزكيه كلما حال عليه الحول، كأنه عندك وهو عندهم كالأمانة، أما إن كان من عليه الدين معسرا لا يستطيع أداءه لك، أو كان غير معسر لكنه يماطلك ولا تستطيع أخذه منه، فالصحيح من أقوال العلماء أنه لا يلزمك أداء الزكاة عنه حتى تقبضه من هذا المماطل أو المعسر، فإذا قبضته استقبلت به حولا وأديت الزكاة بعد تمام الحول من قبضك له، وإن أديت الزكاة عن سنة واحدة من السنوات السابقة التي عند المعسر أو المماطل فلا بأس، قال هذا بعض أهل العلم، ولكن لا يلزمك إلا في المستقبل متى قبضت المال من المعسر أو المماطل واستقبلت به حولا ودار عليه الحول لزمك الزكاة هذا هو المختار.(79/48)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم أ. س. أ. وفقه الله آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعده:
يا محب خطابكم الكريم المؤرخ بدون وصل، وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الأسئلة الثلاثة فهمته، وإليكم الجواب عنها.
الجواب عن السؤال الثالث: وهو إذا كان لك على بعض الناس ديون وحال عليها الحول، فالواجب إخراج زكاتها بعد أن يحول عليها الحول إذا كانت الديون المذكورة على مليء، أما إن كانت على غير مليء فإنها لا تجب فيها الزكاة.
وفق الله الجميع للفقه في دينه والسلام.
رئيس الجامعة الإسلامية(79/49)
س: إنه من مدة ست أو سبع سنوات استدان مني أحد أقربائي مبلغا كبيرا وإلى الآن لم يستطع رد ذلك المبلغ لي؛ لظروفه القاسية جدا، وهو عليه دين لأناس غيري، وهو يريد رد هذا المبلغ لي ولكنه لا يستطيع. فهل تجب الزكاة في ذلك المال، وهل يزكي عنه هو أم أنا، وكيف تكون طريقة الزكاة عن ذلك المال؟ .(79/49)
ج: ليس عليك زكاة في الدين الذي عند المعسر حتى تقبضيه ثم تزكيه في المستقبل كلما حال عليه الحول في أصح قولي العلماء.(79/50)
س: كان لي مبلغ من المال في مصرف فيصل الإسلامي، وقد كنت أقوم بإخراج الزكاة عليه في كل شهر رمضان، ولكن هذا العام وقبل أن يحل موعد إخراج الزكاة بحوالي خمسة عشر يوما قمت بتديين هذا المبلغ لأحد أقربائي، فهل تجب علي الزكاة على هذا المال أم لا؟
ج: عليك زكاة ذلك المال الذي دينته على أحد أقربائك كلما حال عليه الحول، إلا إذا كان معسرا فليس عليك زكاته حتى تقبضيه، ثم تزكيه بعد ذلك كلما حال عليه الحول، كما تقدم في جواب السؤال السابق. وفق الله الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(79/50)
حكم الزكاة في الدين المؤجل على أقساط
سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأرجو تكرم سماحتكم بالإجابة عن هذا الاستفتاء أثابكم الله، وهو:
رجل باع بيتا بالتقسيط، استلم جزءا من القيمة والباقي(79/50)
(480) ألفا على أقساط شهرية، مقدار القسط تسعة آلاف ريال، ومضى على البيع سنتان، والرجل المشتري منتظم في التسديد.
البائع يسأل: هل يدفع زكاة المبلغ الباقي في ذمة المستدين؟ وهل يدفع الزكاة عن هذا العام أو الأعوام السابقة مع هذا العام؟ (1) .
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
على صاحب المبلغ المذكور أن يؤدي زكاته عند تمام الحول، والذي مضى عليه الحول ولم يؤد زكاته عليه أن يؤدي زكاته عما مضى، والله ولي التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المفتي العام للمملكة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) استفتاء شخصي قدم لسماحته، وقد صدرت الإجابة عنه بتاريخ 26\9\1418 هـ.(79/51)
أقوال العلماء حول كون الدين مانعا من الزكاة
س: إذا كان عند رجل رأس مال يتجر به ويستدين من هذا ويأخذ من هذا حتى يصفي التجارة، فإذا حال عليه الحول هل يلزمه أن يزكي جميع ما عنده أو يحسب ما عليه من الدين ويزكي الباقي؟ وما هو الراجح لديكم من أقوال العلماء؟
ج: اختلف العلماء في كون الدين مانعا من وجوب الزكاة على أقوال:(79/51)
أحدها: أن الأموال الباطنة كالنقدين وعروض التجارة لا تجب فيها الزكاة إذا كان الدين ينقصها عن النصاب؛ لأن الزكاة شرعت للمواساة، ومن عليه دين ينقص النصاب أو يستغرقه لا يوصف بالغنى، بل هو أهل لدفع الزكاة إليه.
أما الأموال الظاهرة كالمواشي والثمار فإنه لما كان المنقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه رضي الله عنهم إرسال السعاة؛ لأخذ الزكاة منها دون أن يؤثر عنهم الاستفسار هل على أهلها ديون أم لا، فإن الحكم فيها يختلف عن الأموال الباطنة، وبهذا قال مالك والأوزاعي، وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد في الأموال الظاهرة.
والقول الثاني: لا تجب فيها كالأموال الباطنة لما سبق.
والقول الثالث: تجب الزكاة في الجميع لما ذكرناه من الأدلة على وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة، ولو كان على أربابها دين، ولأن الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة والباطنة ليس فيها ما يدل على مراعاة الدين، فوجب التعميم.
وهذا قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وحماد بن أبي سليمان، والشافعي في الجديد، وهو الصواب.
وعلى هذا فمحل السؤال تجب فيه الزكاة، عملا بعموم الأدلة وعدم المخصص الذي يحسن الاعتماد عليه. والله أعلم.(79/52)
الديون لا تمنع الزكاة ولو كانت أكثر من المال الموجود
س: بالنسبة لإخراج الزكاة إذا كان على المزكي ديون أكثر مما لديه، فهل يخرج على الموجود زكاة أم لا؟ .
ج: يجب على من لديه مال زكوي أن يؤدي زكاته إذا حال عليه الحول ولو كان عليه دين في أصح قولي العلماء؛ لعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة على من لديه مال تجب فيه الزكاة إذا حال عليه الحول ولو كان عليه دين؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر عماله بأخذ الزكاة ممن عليه زكاة، ولم يأمرهم أن يسألوهم هل عليهم دين أم لا؟ ولو كان الدين يمنع لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عماله أن يستفسروا من أهل الزكاة هل عليهم دين. والله ولي التوفيق.(79/53)
س: الأخ م. ع. م. من حوطة بني تميم في المملكة العربية السعودية، يقول في سؤاله:
لدي مبلغ من المال وجبت فيه الزكاة، ومن هذا المبلغ قسم هو دين علي استدنته من مؤسسة عامة تقدم قروضا من غير فائدة، وهذا الدين حال عليه الحول مع باقي المبلغ، فهل تجب الزكاة في المبلغ الذي هو دين علي؟ (1)
ج: يجب عليك إخراج الزكاة عن جميع النقود التي عندك إذا
__________
(1) نشر في (المجلة العربية) في ذي الحجة عام 1411 هـ.(79/53)
حال عليها الحول، والدين الذي للمؤسسة لا يمنع ذلك في أصح قولي العلماء، لكن لو سددت الدين من النقود التي لديك قبل أن يحول عليها الحول لم يكن فيما صرفته في قضاء الدين زكاة، وإنما الزكاة فيما بقي منه بعد قضاء الدين إذا حال عليه الحول وهو نصاب. وأقل نصاب الفضة وما يقوم مقامها من العروض ستة وخمسون ريالا من العملة الفضية العربية السعودية، أما الذهب فنصابه عشرون مثقالا ومقدارها بالعملة السعودية أحد عشر جنيها وثلاثة أسباع الجنيه. والله الموفق.(79/54)
س: إذا كان لدي مبلغ من المال وحال عليه الحول، وعلي التزام تسديد صندوق التنمية العقارية فهل أدفع زكاة المبلغ أم لا؟ أفيدوني جزاكم الله خيرا.
ج: عليك أداء الزكاة عما لديك من المال؛ لعموم الأدلة، أما الدين الذي عليك فلا يمنع الزكاة في أصح قولي العلماء؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث العمال لأخذ الزكاة، وما كانوا يسألون من عليه زكاة هل عليه دين، ولو كان الدين يمنع الزكاة لسأل عماله - صلى الله عليه وسلم - أصحاب الأموال هل عليهم دين.
وفق الله الجميع.(79/54)
المقرض يزكي القرض إذا كان عند مليء والمقترض يزكيه أيضا إذا
حال عليه الحول وهو بيده
س: هل زكاة مال القرض الحسن على المقرض أم على المقترض؟ (1)
ج: إذا أقرضت مالا وهو عند مليء فعليك زكاته، وإن كان على معسر فلا زكاة عليه، والمقترض يختلف، فإن كنت قد أعطيت إنسانا مليئا مائة ألف أو مائتي ألف أو أكثر أو أقل، وهو مليء غير مماطل بك متى طلبته أعطاك مالك، فهذا المال عليك زكاته، وهو يزكي ما عنده من المال إذا كان المال عنده حتى حال عليه الحول، وإن كان قد أنفقه في وجوه أخرى فلا شيء عليه، أما أنت فتزكي المال الذي أقرضته إياه؛ لأنه مال مملوك لك عند مليء باذل فتزكيه أنت، أما إن كان عند معسر أو عند مماطل فليس عليك فيه زكاة كما سبق.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته عقب ندوة ألقيت في الجامع الكبير بعنوان (الربا وخطره) .(79/55)
س: هل في القرض زكاة؟
ج: القرض إذا صار إليك وحال عليه الحول قبل أن تنفقه تزكيه؛ لأنه صار مالا لك لقبضك إياه، فإذا أخذت من زيد ألف ريال أو ألفين أو مائة ألف أو أكثر وحال عليه الحول وهو عندك فإنك تزكيه؛ لأنه بالقبض(79/55)
صار مالا لك وصار دينا عليك لأخيك؛ فعليك أن تزكيه كما تزكي الأموال الأخرى التي جاءتك بالعطاء والهبة أو بغير ذلك من الطرق الشرعية.(79/56)
بهيمة الأنعام إذا لم تكن سائمة أغلب الحول فلا زكاة فيها
س: رجل عنده مائة من الإبل لكن أغلب السنة يعلفها فهل فيها زكاة؟
ج: إذا كانت الماشية من الإبل أو البقر أو الغنم ليست سائمة جميع الحول أو أكثره فإنها لا تجب فيها الزكاة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرط في وجوب الزكاة فيها أن تكون سائمة، فإذا أعلفها صاحبها غالب الحول أو نصف الحول فلا زكاة فيها إلا أن تكون للتجارة فإنها تجب فيها زكاة التجارة، وتكون بذلك من عروض التجارة كالأراضي المعدة للبيع والسيارات ونحوها، إذا بلغت قيمة الموجود منها نصاب الذهب أو الفضة، كما تقدم.(79/56)
حكم ضم بعض المواشي إلى بعض لتكمل نصابا
س: رجل عنده عدد من أنواع المواشي لكن لا يبلغ كل نوع منها نصابا بمفرده فهل فيها زكاة؟ وإن كان كذلك فكيف يخرجها؟
ج: المواشي من الإبل والبقر والغنم لها نصب معلومة، لا تجب(79/56)
فيها الزكاة حتى تبلغها مع توافر الشروط التي من جملتها: أن تكون الإبل والبقر والغنم سائمة، وهي الراعية جميع الحول أو أكثره، فإذا كان نصاب الإبل أو البقر أو الغنم لم يكمل فلا زكاة فيها، ولا يضم بعضها إلى بعض. فلو كان عند إنسان ثلاث من الإبل للقنية، وعشرون من الغنم للقنية، وعشرون من البقر للقنية، لم يضم بعضها إلى بعض؛ لأن كل جنس منها لم يبلغ النصاب.
أما إذا كانت للتجارة فإنه يضم بعضها إلى بعض؛ لأنها والحال ما ذكر تعتبر من عروض التجارة، وتزكى زكاة النقدين كما نص على ذلك أهل العلم، والأدلة في ذلك واضحة لمن تأملها.(79/57)
أحكام خلطة المواشي
س: هل يجوز للرجلين أو الثلاثة أن يجمعوا مواشيهم من أجل الزكاة؟
ج: لا يجوز جمع الأموال الزكوية أو تفريقها من أجل الفرار من الزكاة، أو من أجل نقص الواجب فيها؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة (1) » خرجه البخاري في صحيحه. فلو كان عند رجل أربعون من الغنم ففرقها حتى لا تجب فيها الزكاة لم تسقط عنه الزكاة، ويكون بذلك
__________
(1) رواه البخاري في (الزكاة) باب لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع برقم (1450) .(79/57)
آثما؛ لكونه متحيلا في ذلك على إسقاط ما أوجب الله.
وهكذا جمع المتفرق خشية الصدقة لا يجوز. فلو كان لرجل غنم أو إبل أو بقر تبلغ النصاب فضمها إلى إبل أو بقر أو غنم رجل آخر حتى ينقص الواجب عنهما بسبب الخلطة التي لا أساس لها وإنما اختلطا لقصد نقص الواجب عند مجيء عامل الزكاة لم يسقط عنهما الواجب، وكانا بذلك آثمين وعليهما إخراج بقية الواجب.
فلو كان لأحدهما أربعون من الغنم، وللآخر ستون من الغنم، فاختلطا عند مجيء العامل حتى لا تجب عليهما إلا شاة واحدة، لم ينفعهما هذا الاختلاط ولم يسقط عنهما بقية الواجب؛ لكونه حيلة محرمة، وعليهما شاة أخرى تدفع للفقراء، خمسا قيمتها على صاحب الأربعين، وثلاثة أخماسها على صاحب الستين. وهكذا الشاة التي سلما للعامل بينهما على هذه النسبة. وعليهما التوبة إلى الله سبحانه، وعدم العودة إلى مثل هذه الحيلة.
أما إذا كانت الخلطة للتعاون بينهما وليست حيلة على إسقاط الواجب أو نقصه فلا بأس بها إذا توافرت شروطها الموضحة في كتب أهل العلم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح المذكور آنفا: «وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية (1) » .
__________
(1) رواه البخاري في (الزكاة) باب ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية برقم (1451) .(79/58)
تجب الزكاة فيما أعد للتجارة من بهيمة الأنعام ولو كانت معلوفة
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أبعث لكم سؤالي هذا وأرجو فيه الفتوى منكم وهو كالتالي:
عندي تجارة أغنام، وكنت قد اشتريتها دينا علي تكاثرت عندي وحال عليها الحول وفي كل سنة أزكيها، وفي هذه السنة كانت زكاتها (5700) ريال، وعلي ديون تقدر بمبلغ 3 مليون وسبعمائة ألف ريال.
ومجموع استثماري وتجارتي سوى منزلي لا يغطي هذا المبلغ، أما إذا أدخلت منزلي في المسألة فهو يغطي هذا الدين، فهل يجب علي زكاة أم لا؟ أفتونا مأجورين (1) .
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
إذا كانت الأغنام راعية جميع السنة أو أكثرها، فالواجب زكاتها منها. إذا كانت تبلغ أربعين رأسا ففيها رأس واحد، جذع ضأن أو معز أنثى إلى مائة وعشرين، فإذا زادت واحدة وجب فيها رأسان إلى مائتين، فإذا زادت عن مائتين واحدة ففيها ثلاثة أرؤس. وبعد ذلك ففي كل مائة شاة. أما إن كانت تعلف وليست سائمة فإن الواجب زكاة قيمتها، وهي ربع العشر؛ لأنها والحال ما ذكر تكون من عروض التجارة والواجب فيها
__________
(1) استفتاء شخصي مقدم من ب. ف. س. أجاب عليه سماحته بتاريخ 8 \ 6 \ 1419هـ.(79/59)
ربع العشر من قيمتها كل سنة. فإذا بلغت قيمتها أربعة آلاف ففيها مائة ريال، وهي ربع العشر، وإذا بلغت أربعين ألفا أعني قيمتها وجب فيها ألف واحد وهو ربع العشر وهكذا. أما الدين المذكور الذي عليكم فلا يمنع زكاة الغنم.
ونسأل الله أن يوفي عنكم وأن يعينكم على كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(79/60)
حكم ضرب الوالي قيمة محددة
لعين ما يجب إخراجه من بهيمة الأنعام
س: عندما يأتي العامل لأخذ زكاة بهيمة الأنعام يكون معه مضروب محدد (قيمة محددة) وهذا المضروب أقل من قيمة العين، بحيث إن صاحبها لو باعها فإن قيمتها أكثر من المضروب المحدد، فهل يكتفى بدفع المضروب المحدد؟
ج: لا بأس إذا دفع لولاة الأمور ما ضربوه عليه عن بنت المخاض وبنت اللبون وغيرهما؛ لأن الواجب الوسط، فلا حرج إن اجتهد ولي الأمر وقدر القيمة.(79/60)
حكم زكاة الفواكه والخضروات
س: تنتج بعض المزارع أنواعا من الفواكه والخضروات فهل فيها زكاة؟ وما هي الأشياء المزروعة التي تدخلها الزكاة؟
ج: ليس في الفواكه ونحوها من الخضروات التي لا تكال ولا تدخر كالبطيخ والرمان ونحوهما زكاة إلا إذا كانت للتجارة فإنه يزكى ما حال عليه الحول من قيمتها إذا بلغت النصاب كسائر عروض التجارة. وإنما تجب الزكاة في الحبوب والثمار التي تكال وتدخر كالتمر والزبيب والحنطة والشعير ونحو ذلك؛ لعموم قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (1) ، وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (2) ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة (3) » متفق على صحته، فدل على وجوبها فيما بلغ ذلك من الحبوب التي تكال وتدخر، ولأن أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكاة من الحنطة والشعير يدل على وجوبها في أمثالها، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 141
(2) سورة البقرة الآية 43
(3) رواه البخاري في (الزكاة) باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة برقم (1459) ، ومسلم في الزكاة برقم (980) .(79/61)
س: هل على الخضار والفواكه زكاة؟
ج: ليس فيها زكاة، لكن إذا تجمع منها دراهم وبلغت النصاب(79/61)
وحال عليها الحول تزكى.(79/62)
الزكاة تجب في الحبوب والثمار التي تكال وتدخر وينتفع بها حالا ومآلا.
س: يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (1) ، بهذه الآية يستدل بعض الناس بأنها تجب الزكاة في كل أنواع الزروع ولو كان عمره قصيرا مثل القوطة والخس والجزر والجرجير ... إلى آخره؟ وما هو نصاب الزكاة في الذهب؟ 2
ج: الرب جل وعلا نبه على وقت إعطاء زكاة الحبوب وأنه يوم حصادها فإذا حصدها وذراها وتحصل على ما يبلغ النصاب وجب إخراج الزكاة، والزكاة عبادة لا تثبت بالرأي، ولم يرد في الخضروات زكاة، إنما جاءت الزكاة في الحبوب والثمار التي تكال وتدخر وينتفع بها حالا ومآلا، هذه هي محل الزكاة، وأما الفواكه التي تؤكل في الحال ولا تدخر ولا تكال ولا توزن فهذه ليست فيها زكاة، كالبطيخ وأنواع الفواكه ما عدا العنب فإن فيه الزكاة كالتمر، إذا بلغ النصاب خمسة أوسق.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 141(79/62)
حكم الزكاة في التين والزيتون
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع. ع. ق. سلمه الله (1) .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 4888 وتاريخ 24 \ 10 \ 1408هـ الذي تسأل فيه عن عدد من الأسئلة.
وأفيدك بأن التين والزيتون لا تجب فيهما زكاة في أصح قولي العلماء؛ لأنهما من الخضروات والفواكه. وفق الله الجميع لما فيه رضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم (3293 \ 2) تاريخ 30 \ 10 \ 1408هـ.(79/63)
حكم الزكاة في البصل
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم \ ع. م. سلمه الله (1) .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 483 وتاريخ 5 \ 2 \ 1408هـ الذي تسأل فيه عن وجوب الزكاة في البصل الذي تنتجه مزرعتك، وفي العربة التي تستعملها في نقل البضائع.
وأفيدك بأن البصل لا زكاة فيه إلا إذا أردت به التجارة وحال عليه
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم (1188 \ 2) وتاريخ 3 \ 5 \ 1408هـ.(79/63)
الحول، أو حال على ثمنه وهو يبلغ النصاب فإن فيه الزكاة، وكذلك السيارة أو نحوها إذا أريد بها التجارة، أما إذا أريد بها الاستعمال فلا زكاة فيها، أما تأخير إخراج الزكاة عن وقتها فإنه لا يجوز إلا لمصلحة شرعية، وعليك التوبة والاستغفار عما مضى من التأخير، وعدم العود إليه مرة أخرى. وفق الله الجميع لما فيه رضاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(79/64)
ما يشترط لوجوب الزكاة في محصول المزرعة
س: م. ض. - جدة - السعودية يقول في سؤاله: لنا مزرعة تأكل الطيور نصف محصولها، فهل تجب الزكاة على النصف الآخر عند بيعه أو ادخاره؟ (1)
ج: تجب الزكاة فيما تحصل من المزرعة إذا بلغ النصاب، وهو خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان المزروع فيها مما تجب فيه الزكاة من الحبوب والثمار، كالحنطة والشعير والأرز والتمر والعنب والذرة ونحو ذلك. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سؤال من ضمن أسئلة موجهة لسماحته من (جريدة المسلمون) ، وقد صدرت الإجابة عنه بتاريخ 2 \ 4 \ 1417هـ.(79/64)
ما يسقى بالأمطار والأنهار فيه العشر
وما يسقى بالمكائن فيه نصف العشر
س: هناك بعض المزارع يعتمد أصحابها في الزراعة على الأمطار، فهل في محصول هذه الزراعة زكاة؟ وهل يختلف عن غيره الذي يسقى بالمكائن والمواطير؟
ج: ما يسقى بالأمطار والأنهار والعيون الجارية من الحبوب والثمار كالتمر والزبيب والحنطة والشعير ففيه العشر.
وما يسقى بالمكائن وغيرها ففيه نصف العشر؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر (1) » . رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
__________
(1) رواه البخاري في (الزكاة) باب العشر فيما يسقى من ماء السماء برقم (1483) ، والنسائي في (الزكاة) باب ما يوجب العشر وما يوجب نصف العشر برقم (2488) ، وأبو داود في (الزكاة) باب صدقة الزرع برقم (1596)(79/65)
ما اشتري من الحبوب قوتا لا تجب فيه الزكاة
س: أخذت كمية من الحبوب من بعض المزارعين، وقد خزنتها على أساس أنها قوت لأولادي حاضرا ومستقبلا - بإذن الله - فهل عليها زكاة؟
ج: هذه الحبوب وأشباهها من الأموال المدخرة لحاجة الإنسان(79/65)
ليس فيها زكاة، وإنما الزكاة فيما أعد للتجارة أو كان من النقدين الذهب والفضة أو ما يقوم مقامهما من العملة الورقية. وهذا من فضل الله وإحسانه ولطفه بعباده، فله الحمد والشكر على ذلك.(79/66)
العمدة في معرفة الأنصبة صاع النبي صلى الله عليه وسلم
س: اختلفت المكاييل التي تعرف بها الأنصبة في الزكاة، فما هو المعتمد في معرفتها في هذا الوقت حيث نجد اختلافا بين علمائنا المعاصرين في تحديدها؟
ج: العمدة في ذلك على صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو خمسة أرطال وثلث بالعراقي، وأربع حفنات باليدين المعتدلتين المملوءتين، كما نص على ذلك أهل العلم وأئمة اللغة. والله ولي التوفيق.(79/66)
نصاب النقدين (1)
فائدة مهمة:
النصاب الذي تجب فيه الزكاة من الذهب مقداره عشرون مثقالا، ومن الفضة مائة وأربعون مثقالا، وزنة المثقال اثنتان وسبعون حبة شعير متوسطة، فإذا بلغت قيمة الأوراق النقدية والعروض المعدة للتجارة
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية بتاريخ 27 \ 11 \ 1390هـ(79/66)
نصاب الذهب والفضة وجبت فيها الزكاة، وما كان أقل من النصاب المذكور ليس فيه زكاة؛ لما ورد من الأحاديث النبوية في ذلك، ومقدار النصاب بالجنيه السعودي والإفرنجي حتى يمكن تقدير الأوراق النقدية والعروض التجارية بذلك أحد عشر جنيها وثلاثة أسباع الجنيه؛ لأن زنة الجنيه المذكور مثقالان إلا ربع مثقال، وبالله التوفيق. والطلب جرى تحريره.
رئيس الجامعة الإسلامية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(79/67)
س: أملك خمسة وثمانين جراما من الذهب، ما هو مقدار الزكاة؟ وجهوني حول هذا الموضوع. جزاكم الله خيرا (1) .
ج: الزكاة ربع العشر، ففي أربعين جنيها جنيه واحد، فإذا كنت تملكين خمسة وثمانين جراما فهو في الأصح أقل من النصاب قليلا، فإن أديت الزكاة عنه احتياطا؛ لأن بعض أهل العلم يقول: إن الخمسة والثمانين تبلغ النصاب. وقد حررنا هذا فوجدنا النصاب اثنين وتسعين إلا كسرا يسيرا، يعني عشرين مثقالا، وهي أحد عشر جنيها ونصف جنيه سعودي.
فإذا بلغ الذهب عندك هذا المقدار أحد عشر جنيها سعوديا ونصف جنيه فأدي زكاته ربع العشر، يعني جنيها من كل أربعين جنيها
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) الشريط الخامس عشر(79/67)
ونصف جنيه من عشرين جنيها، هذا ربع العشر. أما خمسة وثمانون غراما فهي فيما حررنا أقل من النصاب، وإن أديت زكاتها احتياطا فحسن.(79/68)
س: ما مقدار الذهب الذي يجب إخراج زكاته؟ وهل كل حلي المرأة ليس عليه زكاة؟
ج: بسم الله والحمد لله، النصاب (أحد عشر جنيها ونصف الجنيه) (عشرون مثقالا) أي ما يعادل اثنين وتسعين جراما من الذهب، فإذا بلغ هذا المقدار وحال عليه الحول زكي، سواء كان حليا أو عملة أو قطعا من الذهب، ولو كانت الحلي تستعمل على الصحيح.
وهناك خلاف بين العلماء، لكن الصواب أن الحلي من الذهب والفضة فيها زكاة ولو كانت تستعمل إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول.(79/68)
س: ما هو نصاب زكاة الفضة بالريال السعودي في وقتنا الحاضر؟ وما هي النسبة التي يجب أن تدفع زكاة من ذلك النصاب بالريال السعودي؟
ج: نصاب الفضة مائة وأربعون مثقالا، ومقداره بالريال السعودي ستة وخمسون ريالا سعوديا أو ما يقابلها من العملة الورقية، والواجب ربع العشر وهو اثنان ونصف من المائة وخمسة وعشرون من الألف. والله ولي التوفيق.(79/68)
إذا بلغ النقدان النصاب ففيهما ربع العشر
س: لدي فضة عبارة عن حلي للرقبة واليدين والرأس وحزام، وقد طلبت من زوجي مرارا بأن يبيعها ويزكي عنها، فيقول: إنها لم تبلغ النصاب. ومر عليها 23 سنة تقريبا، ولم أزك عنها، فماذا يلزمني الآن؟
ج: إذا كانت لم تبلغ النصاب فلا زكاة فيها، مع العلم بأن النصاب من الفضة مائة وأربعون مثقالا، ومقدارها ستة وخمسون ريالا من الفضة، فإذا بلغت الحلي من الفضة هذا المقدار وجبت فيها الزكاة في أصح قولي العلماء، كلما حال عليها الحول، والواجب ربع العشر، وهو ريالان ونصف من كل مائة، وخمسة وعشرون من كل ألف، أما الذهب فنصابه عشرون مثقالا، ومقدارها أحد عشر جنيها ونصف بالجنيه السعودي، وبالجرام اثنان وتسعون جراما، فإذا حال الحول على الحلي من الذهب البالغ هذا المقدار أو ما هو أكثر منه وجبت فيها الزكاة، في أصح قولي العلماء، وهي ربع العشر، ومقدار ذلك جنيهان ونصف من كل مائة جنيه، أو قيمتها من العملة الورقية، أو الفضة، وما زاد فبحساب ذلك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد،(79/69)
فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار (1) » الحديث. أخرجه مسلم في صحيحه.
وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، «أنه قال لامرأة دخلت عليه - صلى الله عليه وسلم - وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا. قال لها - صلى الله عليه وسلم -: (أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟) فألقتهما، وقالت: هما لله ولرسوله (2) » . أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه مسلم في (الزكاة) باب إثم مانع الزكاة برقم (987) .
(2) رواه أبو داود في (الزكاة) باب الكنز ما هو وزكاة الحلي برقم (1563) ، والنسائي في (الزكاة) باب زكاة الحلي برقم (2479)(79/70)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: إذا قام المسلم من نومه وأدخل يديه في الماء قبل أن يغسلهما ثلاث مرات، فهل يصلح هذا الماء للوضوء، وماذا لو أدخل أصبعه ليعرف هل الماء دافئ أم لا؟
الجواب: صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده (1) » ، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرشدنا إذا قمنا من النوم ألا ندخل أيدينا في الإناء حتى نغسلها ثلاثا قبل ذلك، وهذا معلل بقوله: «فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده (2) » فلعلها باتت في موضع قذر وحملت قاذورات وهو نائم لا يشعر بما حصل منه فهذه دعوة للنظافة والبعد عن القذر والترفع عنه، فدين الإسلام جاء بما فيه خير للقلوب والأبدان معا، فإنه أمر بغسل يديه ليكون هذا الغسل منقيا لها
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب الاستجمار وترا، برقم 162، ومسلم في كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره بيده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثا برقم 278.
(2) صحيح البخاري الوضوء (162) ، صحيح مسلم الطهارة (278) ، سنن الترمذي الطهارة (24) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (441) ، سنن أبي داود الطهارة (105) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (395) ، مسند أحمد (2/507) ، موطأ مالك الطهارة (40) .(79/71)
ومنظفا لها لأنها تدخل في الماء الذي يتمضمض منه ويستنشق منه ويغسل به الأعضاء فهذه دعوة للنظافة والبعد عن أسباب الإصابة بالوباء بكل طريق وأما كون الماء ينجس أو لا ينجس فهذا موضع اختلاف بين العلماء، والصحيح عدم تنجيس الماء بذلك، والله أعلم.(79/72)
س: عندها أدخل دورة المياه - أجلكم الله - ومعي المصحف أضعه خارجا لكني أنسى مكانه وقد لا أجده وأجد أن أحدا قد أخذه حينئذ، هل يجوز أن أدخل بالمصحف دورة المياه أو لا؟
الجواب: لا ينبغي للمسلم أن يدخل الخلاء بشيء فيه ذكر الله؛ لأن في ذلك امتهانا له، والقرآن أعظم الذكر بل هو كلام الله، فعلى المسلم أن ينزهه عن تلك الأماكن؛ إلا أن يخاف عليه من الضياع أو النسيان إن هو تركه خارجا عن مكان الخلاء، فحينئذ لا بأس أن يدخل به، ولكن ليحفظه ويغطيه، والله أعلم.(79/72)
س: سائلة تقول: عندي عقد كتب عليه لفظ الجلالة وأنا ألبسه دائما في الليل والنهار، فهل حرام أن أدخل به دورة المياه وجهوني جزاكم الله خيرا؟ وإذا حال عليه الحول وأنا لم ألبسه، فهل فيه زكاة وإن كان فيه زكاة فكم نصابه وما مقدار الزكاة جزاكم الله خيرا؟
الجواب: الأولى عدم لبس هذا العقد لأني أخشى من امتهانه(79/72)
وسقوطه أحيانا وعدم احترامه، ثم دخولك به لقضاء الحاجة مكروه، وإن تركته عد الدورة يخشى عليه من الضياع، فالذي ينبغي أن تمسحي اسم الله من هذا العقد خوفا من امتهانه وأخشى أيضا أن يكون من باب التميمة واعتقاد أن تعليقه يجلب النفع ويدفع الضر، وهذا غير صحيح فإن النافع الضار هو الله عز وجل، والمطلوب من العبد أن يكون متعلقا قلبه بربه في كل أحيانه، عاملا بجوارحه في طاعة الله عز وجل متوكلا على الله في سائر شؤونه باذلا للأسباب النافعة المشروعة. المهم أن في إزالة لفظ الجلالة حماية وصيانة لهذا اللفظ من الامتهان؛ وأما الزكاة فإن الصحيح أن الحلي المعد للبس والاستعمال أو المعد للإعارة لا زكاة فيه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليس على المرء في عبده ولا فرسه صدقة (1) » .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه برقم 982.(79/73)
س: عندنا في السكن الحمام مع مكان الوضوء في مكان واحد، فهل أذكر اسم الله قبل الوضوء داخل الحمام أم لا؟ وجهوني جزاكم الله خيرا.
الجواب: اذكر الله في نفسك دون أن تجهر به، فسم الله عند الوضوء في نفسك وذاك مجزئ إن شاء الله.(79/73)
س: هل يلزم المرأة مسح جميع رأسها عند الوضوء؟ وقد يكون على رأسها حناء وعند المسح قد لا يصل الماء إلى الشعر، فهل يكفي أن تمسح(79/73)
على حناء أو تبعد شيئا من الحنة ولو قليلا وتمسح مكانه؟
الجواب: مسح الرأس أحد فروض الوضوء لقول الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (1) والواجب أن يمسح مجموع الرأس ولا يكتفي بمسح بعضه، وإذا كان عليه حائل من القماش ونحوه وجب أن يزال ولا يمسح على القماش، وأما الحناء فإنه لا يؤثر في المسح لا سيما إن كان الحناء متفرقا غير ملبد في موضع، فإذا كان الحناء عاديا يعني بمعنى أنها جعلت الحناء على رأسها فالحناء لا يمنع وصول الماء إلى الشعر فالمسح عليه مجزئ ولا مانع من ذلك إن شاء الله.
__________
(1) سورة المائدة الآية 6(79/74)
س: هل لمس عورة الطفل ينقض الوضوء، فإذا كان الجواب بالنفي فإلى كم سنة من عمر الطفل يستمر هذا الحكم؟
الجواب \ الأصل أن لمس العورة من صغير أو كبير ناقض للوضوء؛ فالمرأة عندما تريد إزالة الأذى عنه إن هي باشرت عورته بيدها فإن ذلك ناقض لوضوئها.(79/74)
س: يسأل عن حكم مصافحة النساء، وهل هي حرام؟ وهل مصافحتهن تنقض الوضوء، جزاكم الله خيرا؟
الجواب \ أولا: لا يجوز للمسلم أن يصافح امرأة ليست من محارمه(79/74)
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما مست يده يد امرأة. ثم إن لمس المرأة ينقض الوضوء إذا كان ذلك اللمس سبب تحرك الشهوة خوفا من أن يخرج منه المذي فيكون ناقضا للوضوء، أما مجرد اللمس بلا تحرك شهوة فلا أثر له، لكن يبقى أنه لمس امرأة أجنبية وهو محرم فالواجب ترك ذلك.(79/75)
س: المستمع م. ن من سوريا من محافظة الحسكة، سأل قائلا: أنا شاب في مقتبل العمر وإني والحمد لله أصلي وأقوم بالواجبات والفرائض ولكني أشكو من انتفاخ في البطن وتعرض مستمر للغازات وقد عرضت نفسي على الطبيب ولكن دون جدوى فأرجو من فضيلتكم توجيهي فيما يتعلق بالصلاة حيث أحس أثناء تأدية الفريضة بخروج الريح، فهل تفسد الصلاة أم لا؟
الجواب \ إن كانت تلك الغازات معك على صفة دائمة مستمرة فإنك معذور فتوضأ لوقت كل صلاة وصلاتك صحيحة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لما سألته فاطمة بنت حبيش قالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا، إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت، (1) » وقد أخذ العلماء من هذا الحديث أن أصحاب الأعذار ممن حدثهم دائم لهم نفس حكم المستحاضة
__________
(1) صحيح البخاري الحيض (325) ، صحيح مسلم الحيض (333) ، سنن الترمذي الطهارة (129) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (366) ، سنن أبي داود الطهارة (282) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (624) ، مسند أحمد (6/204) ، موطأ مالك الطهارة (137) ، سنن الدارمي الطهارة (774) .(79/75)
من جهة الوضوء لوقت كل صلاة، مع التحفظ لئلا يصيب اليدين أو الثوب أو البقعة التي يصلي عليها شيء من النجاسة.(79/76)
س: سائلة تقول: إذا كان في الأذن حلق وهو ملتصق بالجزء الأسفل من الأذن تماما وقد لا يصل الماء عند مسح الأذن إلى هذا الجزء، فهل يكون الوضوء صحيحا أم لا؟
الجواب \ السنة أن يدخل المتوضئ أصبعيه في أذنيه ويمسح بإبهاميه ظاهر أذنيه وكون هذه الحلق موجودة لا تؤثر في المسح إن شاء الله؛ لأنه ليس في موضع الفرض والله أعلم.(79/76)
س: تقول: هناك بعض الناس يقولون بأنه لا يجوز الوضوء في الحمام، فهل هذا صحيح؟ أين نتوضأ إذن؟ وهل من توضأ بدون أن يذكر اسم الله قبل الوضوء بأن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم لا يصح وضوءه، فقد سمعت بأنه من لم يذكر اسم الله في الوضوء فلا وضوء له، فهل هذا صحيح؟
الجواب \ أظن السائلة سمعت ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من توضأ في موضع بوله فأصابه الوسواس فلا يلومن إلا نفسه» وهذا الحديث وإن كان ضعيفا فإن المرد منه إبعاد الإنسان عن الوساوس لأنه علل النهي من خوف الوسوسة فبعض الناس لو توضأ في(79/76)
المكان القريب من موضع البول لأوشك لو جاءه رشاش أن يظن أن هذا من آثار البول فينبغي أن يبتعد عن موضع بوله ولا يتوضأ فيه، اللهم إلا أن يتبعه بالماء كحال دورات المياه الآن فإنه إذا أتبع بالماء انتهى الموضوع، المهم أن الأولى للإنسان إذا بال في مكان أن يجعل وضوءه بعيدا عن ذلك المكان ليكون أسلم لنفسه؛ وأما الوضوء في الحمام فلا مانع من أن يقضي حاجته في مكان ويتوضأ فيه؛ ثم إن السنة عند دخول الخلاء أن يقول قبل أن يدخل: «أعوذ بالله من الخبث والخبائث (1) » وأما التسمية عند الوضوء فسنة وإذا كنت داخل دورات المياه فسم الله في نفسك دون أن تجهر بها.
__________
(1) صحيح البخاري الدعوات (6322) ، صحيح مسلم الحيض (375) ، سنن الترمذي الطهارة (6) ، سنن النسائي الطهارة (19) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (298) ، سنن الدارمي الطهارة (669) .(79/77)
س: ماذا يقول المسلم إذا نسي البسملة عند الوضوء ثم تذكر قبل أن ينتهي من الوضوء بقليل هل يقول بسم الله في أوله وآخره كالبسملة على الطعام أو كيف توجهونه؟ جزاكم الله خيرا.
الجواب \ التسمية عند الوضوء واجبة، مع الذكر فإذا نسيها أول الوضوء، فإنه يسمي حينما يذكرها.(79/77)
س: هل كريمات البشرة وكريمات الشعر تمنع وصول الماء في الوضوء؟ وإذا كانت كذلك هل جميعها أم أنواع منها؟
الجواب \ الذي يظهر من الكريمات أنها لا تمنع؛ لأنها مواد لا تبقى وإنما بمجرد وضعها يمتصها الموضع، فالكريمات وأمثالها الذي يظهر أنها لا(79/77)
تمنع لأنها لا تبقى طويلا في المكان؛ إلا أن يكون هناك أنواع منها لها جرم يبقى فيمنع وصول الماء إلى البشرة، فمثل هذا يجب إزالته قبل الوضوء.(79/78)
س: سائلة من البحرين تقول بأنني أستعمل الدواء الموضعي في أجزاء متفرقة من جسمي حيث إن هذا الدواء ليس له لون ولا رائحة وأستيقظ من النوم وأصلي صلاة الصبح حيث لا أغسل مكان الدواء، فهل في هذا حرج أو أنه يبطل الوضوء أرجو من فضيلة الشيخ الإجابة؟
الجواب \ إن كان هذا الدواء ليس له جرم يمنع وصول الماء إلى العضو فإنه يكفيك أن تغسلي الأعضاء ولا يلزمك غير ذلك أما إن كان هذا الدواء يمنع وصول الماء إليه فأزيليه لكي يصل الماء إلى العضو، إلا إن كان في إزالته أو الوضوء عليه ضرر عليك، فعندئذ تتوضئين وضوء الصلاة وتتركين ذلك الموضع وبعد الانتهاء تتيممين عنه.(79/78)
س: سائلة من جمهورية مصر العربية، تقول: فضيلة الشيخ، أنا أخت لكم مسلمة وملتزمة بأمور ديني والحمد لله ولكنني دائما في حالة شك وإذا توضأت أشك هل أنا بقيت على وضوئي أو لا وأعيد الوضوء مرات ومرات، كيف توجهونني - جزاكم الله خيرا - حتى أتغلب على هذه الحالة؛ علما بأنني أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، لكني أخشى أن تكون صلاتي غير صحيحة، وجهوني جزاكم الله خيرا؟
الجواب \ أولا يا أختي اعلمي أن سنة نبينا محمد صلى الله عليه(79/78)
وسلم جاءت بما يبعد المسلم عن الوساوس ويخلصه من هذه الأوهام فإنه - صلى الله عليه وسلم - «شكا إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فهل يقطع الصلاة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: (لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (1) » ففي هذا الحديث راحة للمسلم وطمأنينة لقلبه وتخليص له من هذه الوساوس، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أرشده إلى قاعدة عظيمة وهي قاعدة البقاء على اليقين وأن اليقين لا يزول بالشك، وكما أن المسلم متيقن أنه على طهارة فليستصحب هذا اليقين حتى يأتي يقين مثله ولا تكون الشكوك والأوهام رافعة لهذا اليقين الجازم. فإذا توضأت فإنك باقية على وضوئك ما لم تحدثي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم مكة الصلوات الخمس بوضوء واحد، فالوضوء باق، والأصل لمن توضأ أنه باق على وضوئه ما لم يرتفع ذلك اليقين بيقين جازم مثله كأن يتيقن الحدث، ثم أيضا لازمي الاستعاذة بالله من الشيطان، فإن الاستعاذة بالله من عدو الله تعين المؤمن على التغلب على وساوسه والتخلص من أوهامه، وما يزال المسلم يداوم الاستعاذة حتى يدفع الله كيد الشيطان عنه، والله جل وعلا يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (2) {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (3) ، فكلما قوي الإيمان والتوكل على الله قلت وساوس الشيطان وضعفت، ونسأل الله للجميع التوفيق والهداية.
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (137) ، صحيح مسلم الحيض (361) ، سنن الترمذي الطهارة (75) ، سنن النسائي الطهارة (160) ، سنن أبي داود الطهارة (176) .
(2) سورة النحل الآية 98
(3) سورة النحل الآية 99(79/79)
س: سائل من السودان محافظة رشاد، يسأل ويقول: هل يجوز للمرء أن يقرأ القرآن من المصحف بدون وضوء؟ جزاكم الله خيرا.
الجواب \ قراءة القرآن في المصحف لا بد أن يكون القارئ فيه على وضوء، فلا يجوز للمسلم أن يقرأ القرآن في المصحف ولو كان حدثه حدثا أصغر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الكتاب الذي كتبه لعمرو بن حزم «أن لا يمس القرآن إلا طاهر (1) » ، فلا يحل لك أن تقرأ في المصحف إلا وأنت على طهارة، ولو كان الحدث حدثا أصغر؛ لكن إن أردت قراءة القرآن من حفظك وأنت محدث حدثا أصغرا فإن ذلك جائز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال علي رضي الله عنه كان يقرئنا القرآن ما لم يكن جنبا، فدل على جواز قراءة القرآن ولو على غير وضوء لمن كان حدثه أصغر إذا كان يقرأ غيبا، وأما القراءة بالمصحف لا بد فيها من الوضوء.
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ كتاب النداء للصلاة باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن برقم 468.(79/80)
س: سائل من السودان، يقول: هل تصح الصلاة بتيمم إلى مدة شهر أو أكثر، وخاصة بأن الوضوء يؤثر علي، وذلك لأنني مريض، وخاصة في فصل الشتاء، فأرجو منكم التوجيه؟
الجواب \ إذا كان الواقع كذلك بأن تكون مريضا واستعمال الماء على(79/80)
أعضائك يزيد مرضك أو يؤخر برء المرض، والله عز وجل يقول: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (1) ، فأباح الله التيمم، قال العلماء: التيمم يباح لعادم الماء ويباح لواجد الماء إذا كان استعمال الماء يشق عليه بأن يزيد مرضه أو يؤخر برءه. من قبل الأطباء المأمونين، فإذا كان استعمال الماء يزيد مرضك أو يؤخر البرء ونصحت، بأن لا تستعمل الماء، فإن تيممك يقوم مقام الماء وإن طال الزمن يقول صلى الله عليه وسلم: «الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته (2) » إذن فتيمم حتى تتمكن من استعمال الماء ولا حرج عليك والحمد لله.
__________
(1) سورة النساء الآية 43
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند، مسند الأنصار رضي الله عنهم حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه برقم 20863، وأبو داود كتاب الطهارة باب الجنب يتيمم برقم 333، والنسائي في كتاب الطهارة باب الصلوات بتيمم واحد برقم 322، والترمذي في كتاب الطهارة باب ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء برقم 124.(79/81)
س: هل التيمم لصلاة النافلة يمكن أن يصلي به الإنسان الفريضة؟
الجواب \ العلماء يقولون: إذا دخل وقت الفريضة وتيمم لسنة صلى به الفريضة والنوافل، أما لو تيمم قبل دخول الوقت فإن بعض العلماء يرون أن يجدد التيمم لدخول الوقت؛ لأنهم يقولون: إن التيمم مبيح وليس برافع(79/81)
بمعنى أنه مبيح للصلاة ولم يرفع الحدث ولكن الصحيح إن شاء الله أن حكم التيمم حكم الماء فإذا تيممت قبل دخول وقت الظهر لتصلي نافلة فصل به الفريضة ولا يضرك ذلك؛ لأنا نقول: إن حكم التيمم حكم الماء.(79/82)
سائل يقول في سؤاله: يقول الله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (1) ما معنى {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (2) وما معنى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (3) ؟
الجواب \ أما قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (4) فإن من العلماء من يرى أن المراد منها مجرد اللمس ورأى أن ملامسة النساء من نواقض الوضوء ولكن الجمهور على أن الملامسة هنا بمعنى الجماع، ومن تدبر الآية أولها وآخرها تبين له أن المراد بالملامسة هنا الجماع؛ لأن الله بعدما ذكر الوضوء، قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (5) أي بالماء {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (6) ، فذكر في أول الآية الوضوء والغسل؛ ذكر الوضوء للأعضاء للحدث الأصغر، وذكر الغسل من الجنابة في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (7) ، ثم ذكر التيمم لأمرين: للحدث الأصغر وللحدث الأكبر، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} (8) هذا هو الحدث الأصغر
__________
(1) سورة النساء الآية 43
(2) سورة النساء الآية 43
(3) سورة النساء الآية 43
(4) سورة النساء الآية 43
(5) سورة المائدة الآية 6
(6) سورة النساء الآية 43
(7) سورة المائدة الآية 6
(8) سورة النساء الآية 43(79/82)
{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1) هذا هو الحدث الأكبر {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (2) ، فالملامسة الصحيح أن المراد بها الجماع هنا، وأما قوله فتيمموا أي اقصدوا التراب بأن تضربوا التراب مرة واحدة وتمسح اليمين بالشمال ثم تمسح باليدين جميعا الوجه مرة واحدة عند عدم الماء أو عند تعذر استعماله لمرض أو نحو ذلك.
__________
(1) سورة النساء الآية 43
(2) سورة النساء الآية 43(79/83)
س: سائل من جدة يقول: هل غسل الرأس يدخل في الغسل من الجنابة أو الغسل للجسم فقط؟
الجواب \ الواجب في غسل الجنابة تعميم جميع البدن للرجال والنساء، «والنبي - صلى الله عليه وسلم - في غسله من الجنابة كان يحثي على رأسه ثلاثا تروية، ولما سألته أم سلمة: أأنقض شعر رأسي للجنابة؟ قال: لا (1) » . فلم يلزمها بنقض الرأس، لكن ألزمها أن تحثي على رأسها وأن تعم جميع رأسها بالماء، فأم المؤمنين - رضي الله عنها - سألته: هل يلزمها النقض؟ قال: لا يلزمك النقض. مما يدل على أنهن كن يغمرن الرأس بالماء، لكن أشكل عليهن حل الرأس ونقضه، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها بالنقض، فيدل على وجوب تروية شعر الرأس بالماء ولا يلزم نقضه.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (105) ، سنن النسائي الطهارة (241) .(79/83)
س: ما حكم قراءة القرآن الكريم إذا كانت المرأة في عذرها؛ علما بأننا ندرس في المدارس؟ وكيف يكون الحال عندما يكون الدرس درس قرآن؟(79/83)
الجواب \ تقرأ القرآن وتضع على يديها حاجزا تمسك به المصحف ولعل هذا جائز عند الاضطرار وإلا فالأولى عدم القراءة مع الحدث الأكبر لكن إذا اضطرت الطالبات للقراءة ولا سيما أيام الامتحان وكان الأمر ضروريا فلعل قراءتها وهي تمسك المصحف بحائل لا بأس به أو قراءته غيبا فإنه لا بأس به؛ لأن الحائض حدثها ليس بيدها رفعه ومدته تطول غالبا.(79/84)
س: أخت من القصيم البكيرية، تسأل وتقول: إذا طهرت المرأة في وقت الظهر، هل تصلي الفجر والظهر جميعا في وقت صلاة الظهر، أم تصلي الظهر في وقتها، والفجر تصليها مع الفجر في اليوم الثاني؟
الجواب \ إذا طهرت من الحيض بعد دخول وقت الظهر فلا يلزمك إلا صلاة الظهر، أما الفجر فقد انتهى وقتها بطلوع الشمس فلا صلة للفجر بصلاة الظهر، وإنما العلماء قالوا: إن الحائض إذا طهرت في آخر وقت العصر فإنها تصلي الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل طلوع وقت الفجر فإنها تصلي المغرب والعشاء، قالوا: لأن العصر والظهر يجمعان تقديما أو تأخيرا والمغرب والعشاء يجمعان تقديما وتأخيرا، فإذا طهرت الحائض قبل خروج وقت العصر فإنها تصلي الظهر والعصر معا؛ لأن الوقتين كوقت واحد، وكذلك إذا طهرت قبل أن يطلع وقت الفجر فإنها تصلي العشاء وما يجمع إليها قبلها وهي المغرب، هكذا أفتى الصحابة رضي الله عنهم.(79/84)
س: تقول السائلة: قد ينزل علي بعد الطهر شيء يسير وقد لا ينزل، فهل يصح غسلي وصلاتي وصيامي؟
الجواب \ إذا رأت الحائض الطهر، وعلامة الطهر هي القصة البيضاء، وهو الماء الأبيض الذي يخرج عقب الحيض ليعلن أن دم الحيض قد انقطع، وكذلك يعرف الطهر عند بعض النساء بالنقاء الكامل والجفاف، جفاف الدم النازل، فإذا جف ولم ينزل فإنها قد طهرت؛ فإذا رأت الطهر وتيقنت منه فما نزل من قطرات بعد ذلك فلا اعتبار لها، تقول أم عطية: كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا.(79/85)
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
من الفتوى رقم (8859)
السؤال الثامن عشر: ما حكم الصلاة بدون طهارة (حدث أصغر) ؟
جـ: لا تصح الصلاة بدون طهارة لمن كان عليه حدث أصغر أو أكبر إجماعا؛ لقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (1) ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقبل صلاة بغير طهور (2) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) أخرجه أحمد 2 \ 39، ومسلم 1 \ 204 كتاب الطهارة باب وجوب الطهارة للصلاة، والترمذي 1 \ 5 كتاب الطهارة باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور، وابن ماجه 1 \ 100 كتاب الطهارة باب لا يقبل الله صلاة بغير طهور.(79/87)
من الفتوى رقم (5611)
السؤال الرابع: هل تجوز الصلاة بوضوء الجنابة؛ حيث قيل: إن ذلك سنة؟
جـ: لا يجوز لمن توضأ للجنابة قبل أن ينام أن يصلي بهذا الوضوء فريضة أو نافلة، بل لا بد أن يغتسل من الجنابة قبل الدخول في الصلاة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/88)
الفتوى رقم (6420)
س: إذا صلى الفرد وهو غير متوضئ وتذكر في نفس الصلاة سواء كان إماما أو مأموما، فما حكمه، أو ماذا يفعل؟
جـ: إذا تذكر المصلي إماما أو مأموما أنه على غير وضوء بطلت صلاته منفردا أو إماما، وعليه أن يتوضأ ثم يصلي.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/88)
من الفتوى رقم (7632)
السؤال الثاني عشر: إذا قام الإنسان من النوم وتطهر وصلى ثم عاد إلى فراشه لينام ووجد في فراشه ما يدعوه للشك بأنه بال في فراشه، فماذا يفعل، وهو قد صلى بملابسه ولكنه مجرد شك؟
جـ: الأصل الطهارة ولا عبرة بالشك الطارئ.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن باز(79/89)
الفتوى رقم (8301)
س: أفيد فضيلتكم أني صليت فريضة صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء على وضوء صلاة الصبح، وبعدما صليت صلاة العشاء ذكرت أني أكلت لحم جزور قدام صلاة الظهر، أفيدوني عما أعمل؟ جزاكم الله خيرا.
جـ: يجب عليك أن تعيد كل صلاة صليتها بعد أكلك لحم الإبل بوضوء شرعي؛ لأن الصحيح من قولي العلماء أن أكل لحم الإبل ينقض(79/89)
الوضوء، وفي ذلك حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/90)
الفتوى رقم (10734)
س: توضأت لصلاة المغرب دون استنجاء، وحيث إنني غالبا عندي اليقين بأني لم أحدث ما يوجب الاستنجاء، ثم صليت صلاة المغرب إماما بشخص، وصليت صلاة العشاء بذلك الوضوء، وعندما أردت أن أتوضأ لصلاة الفجر استيقنت بأنني محدث حدثا يوجب الاستنجاء فقضيت صلاة المغرب وصلاة العشاء مع صلاة الفجر.
أما الشخص الذي صليت به صلاة المغرب فهو لم يعلم بشيء حتى كتابة هذا السؤال.
السؤال: هل قضائي لصلاة المغرب وصلاة العشاء صحيح أم لا؟ وإذا كان غير صحيح، ماذا أفعل؟ وهل صلاة الشخص الذي أممته صحيحة أم لا؟ وإذا كانت غير صحيحة، ماذا أفعل تجاهه؟ هذا والله يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.
جـ: أولا: الموجب للاستنجاء خروج شيء من القبل أو الدبر غير(79/90)
الريح، ويراد بالاستنجاء إزالة أثر الخارج من السبيلين بالماء أو الحجارة ونحوها.
ثانيا: لا تجب الموالاة بين الاستنجاء والوضوء، فلو أحدث شخص في الصباح وأزال أثر الخارج من السبيلين، ولما دخل وقت الظهر توضأ فقط - أجزأه ذلك وصلاته صحيحة.
ثالثا: إمامة المحدث بغيره صحيحة إذا نسي الإمام الحدث، ولا يجب على المأموم الإعادة إذا كان لم يعلم بذلك وإنما تجب الإعادة على الإمام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/91)
من الفتوى رقم (6496)
السؤال السادس: احتلمت في يوم من أيام رمضان بعد صلاة الفجر وعلمت بذلك ولكن عندما استيقظت نسيت وذهبت إلى العمل، وصليت الظهر وأنا إمام لجماعة، وصليت العصر مأموما مع إمام آخر.
السؤال: ما حكم صلاتي الظهر، وما حكم صلاة الجماعة الذين صلوا بعدي، وما(79/91)
حكم صلاة العصر، وكيف الصوم هل أقضي أم لا، علما بأنه كان كل ذلك نسيانا، وعند صلاة المغرب تذكرت واغتسلت، أفيدونا؟
جـ: إذا كان الواقع كما ذكرت صلاتك الظهر باطلة، وكذا صلاتك العصر باطلة، وعليك قضاؤهما، وليس على من صلى وراءك الظهر مأموما قضاء لصحة صلاتهم، لكونهم لم يعلموا أنك على غير طهارة حين الصلاة، أما الصوم فصحيح ولا يفسده الاحتلام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/92)
من الفتوى رقم (7223)
السؤال الثاني: رجل محدث بجنابة وسها عنها فجاء عليه الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء، ثم صلاة الفجر في اليوم الثاني صلاها بوضوء ناسيا أنه محدث ولم يتذكر إلا قبل صلاة الظهر في اليوم الثاني، فما الحكم عليه في الخمسة الفروض التي صلاها بدون غسل وهو محدث بجنابة وساهيا عنها؟
جـ: إذا كان الواقع كما ذكر فصلاته الصلوات الخمس وهو جنب باطلة، لكنه لا إثم عليه؛ لأنه معذور بسهوه، وعليه أن يغتسل من الجنابة(79/92)
حين تذكر، ويعجل بقضائها مرتبة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/93)
الفتوى رقم (9814)
س: في الأيام القليلة السابقة عندما أردت الوضوء لصلاة المغرب، لاحظت وجود مني في إزاري، فاغتسلت وصليت المغرب ولكني لا أعلم متى حصل الاحتلام: هل قبل صلاة الفجر أم في القيلولة، والمهم أني أسأل في الأمر، فأظن أني صليت الفروض الثلاث: الفجر والظهر والعصر، وأنا على جنابة دون أن أعلم، وبالصدفة فإني صليت هذه الصلوات الثلاث إماما بمجموعة من المصلين يصل عددهم إلى ثلاثمائة نفر، فكيف أفعل؟ هل أقضي هذه الصلوات الثلاث؟ وما حكم صلاة من صلى خلفي؟ وهل تترتب على فعلي هذا جناية؟ أفيدونا أفادكم الله.
جـ: يجب عليك إعادة صلاتي الظهر والعصر بعد أن تغتسل غسل الجنابة، ويجب أن تعجل بذلك، أما من صلى وراءك هذه الصلوات فلا يجب عليهم إعادتها، فإن عمر رضي الله عنه صلى بالناس صلاة الفجر وهو جنب وقد كان ناسيا فأعاد الفجر ولم يأمر من صلى وراءه تلك الصلاة أن(79/93)
يعيدها، ولأنهم معذورون لكونهم لا يعلمون حدثك، أما الفجر فليس عليك إعادة؛ لأن المني قد يكون من نوم الظهيرة، والأصل براءة الذمة من وجوب الإعادة إلا بيقين الحدث.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/94)
من الفتوى رقم (5741)
السؤال السادس: هل يجوز للمسلم أن يصلي الصبح جماعة بالتيمم من احتلام أو جنابة ليس به مرض لئلا تفوته صلاة الجماعة إذا ما اغتسل وذهب إلى المسجد لأن القائمين بشئون المساجد (إمام) لا ينتظرون الوقت الذي يلزم للغسل، هل يجوز ذلك جماعة وماذا؟
جـ: يجب عليه أن يغتسل ويتوضأ وضوء الصلاة ويصلي ولو فاتته الجماعة، ولا يجزئه التيمم، وكون الجماعة تفوته إذا اغتسل لا يجيز له التيمم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/94)
من الفتوى رقم (11188)
س: أنا امرأة تزوجت منذ سبعة عشر عاما، وكنت في بداية زواجي أجهل بعض بل كل أحكام الغسل من الجنابة؛ لجهلي بالأمور المسببة للجنابة وكذلك زوجي، وهذا الجهل ينحصر منا في أن الجنابة لا تكون إلا على الزوج فقط، وكان زواجي في 22 \ 7 \ 1391هـ، وفي أواخر شهر رمضان المبارك من نفس العام علمت بالحكم، فماذا علي أن أعمل بالنسبة للصلوات التي صليتها أثناء هذه الفترة، علما بأنني أغتسل بنية النظافة وليس لرفع الحدث، واغتسالي هذا ليس دائما أي بعد كل جماع، مع العلم بأنني محافظة على الوضوء عند كل صلاة، وكل هذا يحصل بالجهل مني بالطبع كما أشرت، وكذلك ماذا علي بالنسبة لصيامي شهر رمضان المبارك؟ أفيدونا أثابكم الله.
جـ: يجب عليك قضاء الصلوات التي صليتها بدون غسل من الجنابة لتفريطك وعدم تفقهك في الدين، وعليك مع القضاء التوبة إلى الله من ذلك، وأما الصيام فصحيح إذا لم يكن الجماع وقع في النهار.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/95)
من الفتوى رقم (5849)(79/96)
السؤال الثالث: عندما أتوضأ وآخذ مدة من الزمن مثلا ما بين صلاة العصر والمغرب، أو أمشي مسافة طويلة أحس بخروج مذي، فهل إذا أتاني وأنا في الصلاة أنصرف وأتوضأ، أم صلاتي صحيحة؟
جـ: لا ينصرف المصلي من صلاته حتى يتحقق الحدث؛ لما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه، قال: «شكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (1) » ، والمعنى أنه متى تحقق وجود الحدث وخروج المذي، أو غيره من نواقض الوضوء، فإن عليه الوضوء وإعادة الصلاة؛ لما في الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه، قال: «كنت رجلا مذاء فاستحييت أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فأمرت المقداد، فسأله فقال: يغسل ذكره ويتوضأ (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (177) ، صحيح مسلم الحيض (361) ، سنن النسائي الطهارة (160) .
(2) أخرجه أحمد 1 \ 80، 82، 124، 125، 129، 145، 6 \ 5، والبخاري 1 \ 42، 52، 71، ومسلم 1 \ 247 برقم (303) ، وأبو داود 1 \ 142 - 143 برقم (206 - 209) ، والنسائي 1 \ 96، 111، 215 الأرقام (153، 193، 194، 440) ، والبيهقي 1 \ 115، وأبو عوانة 1 \ 272.(79/96)
الفتوى رقم (7619)
س: إنه في يوم السبت الموافق 20 من رجب عام 1404هـ، قد خلعت ضروسي في المستشفى بأملج، وقد وجب علي أداء فرائض الصلاة، فتوضأت، وذهبت إلى الصلاة، وفي أثناء الصلاة أصبح يخرج مني نزيف دم من مكان خلع الضروس وهو دم كثير، وبعد انتهاء الصلاة أخرجت الدم من فمي عقب كل فرض: العصر والمغرب والعشاء والفجر.. إلخ، فما حكم صلاتي في تلك الحال هل علي الإعادة أم لا؟
ج: إذا كان الواقع من حالك ما ذكرت فصلاتك صحيحة، ولا إعادة عليك؛ لأن ما ذكرته لا يعتبر فاحشا، ولكن ينبغي لك مستقبلا إن حصل هذا - لا قدر الله - أن تأخذ معك منديلا أو نحوه في الصلاة لتأخذ فيه ما يجتمع في فمك من دم أولا فأول، بدلا من أن يتكاثر في فمك ويشغلك عن الصلاة، ويعوقك عن القراءة والتسبيح والتكبير ونحو ذلك من أذكار الصلاة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/97)
من الفتوى رقم (3923)
السؤال الثالث: نزل مني نزيف وأنا في الصلاة في الصف الأول فهل يجوز لي إكمال الصلاة أو لا؟
جـ: تقطع الصلاة إلا أن يكون النزيف يسيرا عرفا فضع عليه قطنا أو نحوه وأكمل صلاتك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/98)
الفتوى رقم (11297)
س: بلغت الحلم وأنا ابن أربعة عشر عاما تقريبا، وبعد سنتين أي وأنا ابن ستة عشر عاما تقريبا أديت فريضة الحج، ومضى على بلوغي أكثر من سنتين، وأنا أجهل الفرق بين المذي والمني وإن كنت أعلم أن المني يوجب الغسل، والمذي يكفي له الاستنجاء والوضوء، ثم أذهب وأصلي، وتارة يخرج المذي فأظنه منيا فأغتسل لخروجه أثناء فريضة الحج وقبل(79/98)
طواف الإفاضة خرج مني المني بسبب النظر والتفكير، فتحيرت لا أدري هل هو مني يوجب الغسل، أو مذي يكفي له الاستنجاء والوضوء، ثم قلت في نفسي: لو كنت في البيت لاغتسلت احتياطا ولكن لعله مذي؛ لأنه كما أسمع هو الذي يخرج عند اشتداد الشهوة أو التفكير، فاكتفيت بالاستنجاء والوضوء، ثم طفت طواف الإفاضة، بعد ذلك علمت الفرق بينهما. السؤال هو:
1 - ما حكم حجي هذا، مع العلم بأنه حج الفريضة وقد حجيت بعده مرة أخرى ولكن بنية النافلة، وكذلك طفت في غير أشهر الحج طوافا نويت به عن طواف الإفاضة الركن الذي حينما طفته لم أكن على طهارة، وأطعمت ستة مساكين كفارة خروج المني في أثناء الحج. وماذا يجب علي؟
2 - ما حكم صلواتي خلال تلك المدة؟ علما أنني كنت محافظا على الصلاة محافظة تامة ولله الحمد والمنة. وماذا يجب علي؟
3 - ما حكم العمرة التي أديتها خلال تلك المدة حيث إنني خلال تلك المدة اعتمرت ثلاث أو أربع مرات، وماذا يجب علي؟ هذا والله تعالى يحفظكم ويوفقكم لما فيه الصواب.
ج: لا قضاء عليك لا من جهة الحج ولا العمرة ولا الصلاة، لكونك لم تجزم بأن الحدث الذي أصابك مني حين أديت تلك الواجبات،(79/99)
والأصل السلامة وصحة العبادة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/100)
من الفتوى رقم (2677)
السؤال الثامن: هل يجوز للمسلم أن يصلي بوضوء واحد عدة فروض ولتكن خمسة بدون نية سابقة؟
ج: نعم يجوز للمسلم أن يصلي بوضوء واحد عدة فروض خمسا أو أكثر، ولو لم ينو حين وضوئه أن يصليها بهذا الوضوء، وله أيضا أن يصلي مع تلك الفرائض الكثيرة من النوافل ما شاء بهذا الوضوء ما لم ينتقض بإجماع أهل العلم؛ لثبوت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
از(79/100)
من الفتوى رقم (8419)
السؤال الثاني: إذا توضأ الرجل لصلاة المغرب فصلى ولم ينو بهذا الوضوء إلا للمغرب، ثم جاءت صلاة العشاء وما زال على هذا الوضوء وصلى فهل صلاته جائزة أم لا؟
ج: تجوز الصلاة بعد الطهارة فروضا ونوافل ولو لم ينوها عند الوضوء؛ لما أخرج مسلم عن بريدة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد (1) » ، وعلى هذا فصلاة العشاء بوضوء المغرب صحيحة وإن لم ينوها، وهكذا لو توضأ لصلاة الضحى ولم ينو صلاة الظهر، ثم جاء الظهر وهو على طهارة فإنه يصلي بها الظهر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) أخرجه أحمد 5 \ 350، ومسلم 1 \ 232 كتاب الطهارة باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد، وأبو داود 1 \ 44 كتاب الطهارة باب الرجل يصلي الصلوات بوضوء واحد، والنسائي 1 \ 86 كتاب الطهارة باب الوضوء لكل صلاة، والترمذي 1 \ 89 كتاب الطهارة باب ما جاء أنه يصلي الصلوات بوضوء واحد، وابن ماجه 1 \ 170 كتاب الطهارة وسننها باب الوضوء لكل صلاة والصلوات كلها بوضوء واحد.(79/101)
من الفتوى رقم (2615)
السؤال الثاني: ما قولكم عن وضوء النافلة هل يصلي بها الفريضة أم لا؟
ج: إذا توضأ بنية الطهارة من الحدث لصلاة النافلة فإنه يصلي النوافل والفرائض ويفعل غير ذلك مما تشترط له الطهارة من الحدث الأصغر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/102)
من الفتوى رقم (7551)
السؤال الرابع: رجل بال ولم يستنج ثم توضأ وصلى فهل صلاته صحيحة، وإذا كانت غير صحيحة فهل يعيدها ولو بعد زمن طويل أو لا يعيدها؟
ج: إذا كان قد استجمر بثلاثة أحجار منقيات أو أكثر طاهرات قبل الوضوء صحت صلاته. وإذا كان لم يستنج ولم يستجمر الاستجمار(79/102)
المذكور قبل الوضوء فصلاته باطلة وعليه إعادتها طاهرا ولو طالت المدة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/103)
من الفتوى رقم (8314)
السؤال الثالث: إذا رأى المسلم في ثوبه أو بدنه نجاسة بعد ما فرغ من الصلاة ماذا عليه هل يعيد الصلاة أم لا؟
ج: لا يعيدها إذا كان لم يعلمها إلا بعد الصلاة، أو كان ناسيا لها فلم يذكر إلا بعد الصلاة؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل عليه السلام أخبره وهو في الصلاة أن في نعليه قذرا فخلعهما واستمر في صلاته عليه الصلاة والسلام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن باز(79/103)
من الفتوى رقم (3225)
السؤال السادس: إذا صلى الإنسان في أرض طاهرة وشك في طهارة ما أمامه بقدر شبر فهل تصح صلاته؟
جـ: نعم تصح صلاته إذا كان المكان الذي صلى عليه طاهرا ولا تضره نجاسة ما حوله من الجهات الأربع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/104)
من الفتوى رقم (6576)
السؤال الرابع: هل يصلي الرجل في الثوب الذي جامع زوجته فيه أم لا؟
ج: لا حرج في ذلك إلا أن يصيبه شيء من النجاسة كالبول والمذي فعليه حينئذ ألا يصلي فيه حتى يغسل ما أصابه من النجاسة، أما المني فليس بنجس على الصحيح من قولي العلماء،
ولكن يستحب غسله إذا(79/104)
كان رطبا وحكه إن كان يابسا، ويكفي المذي النضح على محله.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/105)
الفتوى رقم (12428)
س: ما حكم من صلى وعليه ثوب نجس ولم يتذكر إلا وهو في الصلاة؟
ج: يجب على من صلى وعليه ثوب نجس وذكر أثناء الصلاة أن يقطع صلاته ويغير الثوب النجس بثوب طاهر، أو يغسل النجاسة، لكن إن كان عليه ثوب طاهر تحت الثوب النجس كفى خلع الثوب النجس ويستمر في صلاته؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نبهه جبرائيل عليه السلام على وجود خبث في نعليه خلعهما واستمر في صلاته.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/105)
الفتوى رقم (11201)
السؤال الثاني: صليت بجماعة، اثنين وأنا الثالث وأنا على وضوء لم يصدر مني شيء مما ينقض الوضوء، ولكن وأنا في الحمام قبل أن يكمل وضوئي رأيت في ثوبي بعض النجاسة وقمت بتنظيفه، أي مكان موقع النجاسة فقط، ولم يظهر على الثوب أي لون أو ما يدل على أن النجاسة باقية، ولكن بقيت الرائحة ليست بكثيرة ولكنها قليلة في الثوب مع العلم أنني لم أتقدم للإمامة إلا بعد إلحاح من أحد الإخوة بالتقدم؛ لكي أصلي بهم، وإنني الآن لا أعرف هؤلاء الناس الذين صليت بهم فماذا أفعل في صلاتي التي صليتها بهم، أعلي شيء أم لا؟ أفيدوني أثابكم الله.
ج: إذا غسلت النجاسة التي على ثوبك أو بدنك وزالت عينها ثم صليت فصلاتك صحيحة وصلاة من خلفك، ولا يضرك إن كان بقي شيء من الريح ما دام أن عين النجاسة قد زالت.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/106)
من الفتوى رقم (9780)
السؤال الرابع: رجل صلى وفي آخر الصلاة جاء طفل وبال على مكان سجوده وهو في صلاة الجماعة قبل آخر سجدة فماذا يفعل لو سجد على هذه النجاسة وهو يعلم بوجودها، وماذا كان يجب عليه أن يعمل لو حدث له ذلك مرة أخرى؟
ج: إذا كان الواقع كما ذكر بطلت صلاته إذا سجد على مكان البول وهو يعلم، وكان الواجب عليه أن يتجنب مكان النجاسة إذا أراد السجود.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/107)
الفتوى رقم (9797)
السؤال الثالث: امرأة في غرفة واحدة هي وطفلها، ويحصل من الطفل في الغرفة مثل البول وغيره الذي ينجس بعضا من الغرفة، وهي تصلي في بعض من الغرفة وعلى حصر، هل يجوز لها أن تصلي في هذه الغرفة حسبما ذكرت أن بعضا من الغرفة ليس طاهرا لضيق المحل هل يجوز(79/107)
أم لا، وإذا قد حدث منها وصلت في الغرفة التي ذكرتها سابقا أنها غير طاهرة من جهة الطفل مع العلم أنها تصلي على حصيرة طاهرة ماذا عليها أن تفعل؟ أفيدونا جزاكم الله خير الجزاء. ونسأل الله أن يزيدكم نورا وعلما وأن يوفقنا جميعا لما فيه الخير.
ج: يشترط للصلاة الطهارة في البدن والثوب والمكان، والطفل إذا بال في مكان ووضع على هذا المكان حصير طاهر ونحوه وصلي عليه فالصلاة صحيحة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/108)
الفتوى رقم (3051)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه.. وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفتاء المقدم لسماحة الرئيس العام من مدير عام الشئون الإدارية بوزارة التجارة المحال من سماحته برقم 1939 في 29 \ 4 \ 1400 هـ، ونصه: أود إحاطة فضيلتكم علما أن هذه الوزارة قد انتهت منذ بضعة شهور من إنشاء(79/108)
مسجد ضمن مبنى الوزارة في الرياض أعني وزارة التجارة لتمكين الموظفين من أداء الصلاة فيه. ويقع هذا المسجد في الدور الأول من مبنى الوزارة، وتحته مباشرة مكاتب للموظفين ودورة مياه (حمام) تحت مؤخرة المسجد، وقد ذكر بعض موظفي الوزارة أن الصلاة لا تجوز في جزء المسجد الواقع فوق سطح دورة المياه؛ بحجة وجود نص شرعي معناه عدم جواز الصلاة في أرضية الحمام، وأن هناك من يرى أن هذا الحكم ينسحب على سطح الحمام باعتباره جزءا من بنائه ونظرا لأهمية هذا الموضوع فقد رأينا استفتاء فضيلتكم في ذلك ... مع إحاطتكم علما بأن المسافة بين أرضية الحمام وسقفه هي ثلاثة أمتار، وأن سماكة الصبة الخرسانية المسلحة التي تكون السقف هي 15 سم، يلي ذلك بلاطة بسماكة سم، وأن أرضية المسجد مفروشة بكاملها ببساط سميك ... أرجو إفادتنا عن الحكم الشرعي في ذلك.
وأجابت بما يلي:
إذا كان الواقع كما ذكر جاز أن يصلى على سطح دورة المياه المذكورة ولا حرج إن شاء الله ولا كراهية في ذلك؛ لأن السطح لا يتبع الأصل في مثل هذا، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء في هذه المسألة، كما صرح بذلك أبو محمد بن قدامة المقدسي رحمه الله في كتابه المغني.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز(79/109)
من الفتوى رقم (5078)
السؤال الأول: ما هو الحكم الشرعي في الرجل الذي يواظب على الصلاة المكتوبة في الحمام؟
ج: روى الخمسة إلا النسائي عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (1) » ، صححه الحاكم في المستدرك، وابن حزم الظاهري، وأشار ابن دقيق العيد في الإلمام إلى صحته. ففي هذا الحديث بيان أن كلا من المقبرة والحمام ليس موضعا للصلاة، وبذلك تعلم عدم صحة الصلاة في الحمام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن باز
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 3 \ 83، وأبو داود 1 \ 114 كتاب الصلاة باب المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة، والترمذي 2 \ 131 كتاب الصلاة باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، وابن ماجه 1 \ 246 كتاب المساجد باب المواضع التي تكره فيها الصلاة(79/110)
الفتوى رقم (758)
س: حصل خلاف في حكم دخول المساجد بالأحذية والصلاة فيها، فما حكم الشرع في ذلك؟
ج: من هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - دخول المسجد بالنعل والصلاة فيها؛ فروى أبو داود في سننه بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: «بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم. فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ ، قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن جبريل - عليه السلام - أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا. وقال: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما. وفي رواية قال: فيهما خبث (1) » ، قال في الموضعين: " خبث ". وروى أبو داود أيضا عن يعلى بن شداد بن أوس عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم (2) » ، وروى أبو داود أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) سبق تخريجه، وانظر الرواية في سنن أبي داود 1 \ 176
(2) رواه أبو داود 1 \ 176 كتاب الصلاة باب الصلاة في النعل(79/111)
يصلي حافيا ومنتعلا (1) » ، وأخرجه ابن ماجه لكن بعد أن فرشت المساجد بالفرش الفاخرة - في الغالب - ينبغي لمن دخل المسجد أن يخلع نعليه رعاية لنظافة الفرش ومنعا لتأذي المصلين بما قد يصيب الفرش مما في أسفل الأحذية من قاذورات وإن كانت طاهرة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) أخرجه أبو داود 1 \ 176 كتاب الصلاة باب الصلاة في النعل، وابن ماجه1\330 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب الصلاة في النعال(79/112)
أقسام الناس في الإيمان بالقضاء والقدر
لفضيلة الدكتور: عبد الله بن سليمان الغفيلي (1)
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) ، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3) ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) .
__________
(1) الأستاذ المشارك بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71(79/113)
أما بعد: فإن إيضاح مباحث العقيدة الصحيحة المستمدة من كتاب الله -عز وجل- وسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وبيانها للناس من أهم الأمور وأعظمها، خصوصا في هذا الزمن الذي كثر فيه القيل والقال وبعد الناس عن العلم الشرعي المبني على الكتاب والسنة، وقد وفقني الله -عز وجل- وقمت ببحث أقسام الناس في القضاء والقدر وبيان القول الصحيح في هذا الركن العظيم من أركان الإيمان الذي كان عليه سلفنا الصالح أهل السنة والجماعة، مع بيان فساد الأقوال الأخرى المخالفة لأهل السنة والجماعة، وكما يقال: " وبضدها تتبين الأشياء"، فالإيمان بالقدر هو تمام التوحيد، كما قال ابن عباس: القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله تعالى فآمن بالقدر، فهي العروة الوثقى التي لا انفصام لما، ومن وحد الله وكذب بالقدر؛ فإن تكذيبه بالقدر نقض للتوحيد (1) .
هذا، وقد جعلت هذا البحث في مقدمة وثلاثة مباحث، وخاتمة.
أما المقدمة: فذكرت فيها أهمية الموضوع وخطة البحث.
وأما المبحث الأول: ففي تعريف القضاء والقدر، والفرق بينهما وفيه ثلاثة مطالب:
__________
(1) أخرجه الآجري في الشريعة ص (215)(79/114)
المطلب الأول: تعريف القضاء.
المطلب الثاني: تعريف القدر.
المطلب الثالث: الفرق بين القضاء القدر.
وأما المبحث الثاني: ففي ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الأدلة من الكتاب.
المطب الثاني: الأدلة من السنة.
المطب الثالث: أقوال الصحابة والتابعين.
وأما المبحث الثالث: ففي بيان أقسام الناس في القضاء والقدر، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في بيان قول القدرية.
المطلب الثاني: في بيان قول الجبرية.
المطلب الثالث: في بيان قول أهل السنة والجماعة.
وأما الخاتمة: فذكرت فيها أهم نتائج البحث.
وقد قمت بعزو الآيات القرآنية إلى سورها من القرآن، وخرجت الأحاديث مع نقل كلام العلماء عليها صحة وضعفا إلا ما كان منها في الصحيحين أو أحدهما، وترجمت للأعلام غير المشهورين، وعرفت بالفرق والطوائف والمصطلحات الواردة، ووثقت النقول، وشرحت الكلمات الغريبة، وختمت البحث بفهرس للمصادر والمراجع وآخر(79/115)
للموضوعات.
وأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به من قرأه أو سمعه وأن يجزل علي الأجر والمثوبة، إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(79/116)
المبحث الأول: معنى القضاء والقدر والفرق بينهما وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف القضاء.
القضاء في اللغة: الإحكام والإتمام وأصله الحكم والقطع وإنفاذ الأمر.
قال ابن فارس: " القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على إحكام أمر، وإتقانه، وإنفاذ لجهته، قال الله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (1) ، أي: أحكم خلقهن.
والقضاء: الحكم، قال الله سبحانه في ذكر من قال: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} (2) أي: اصنع واحكم (3) .
وقال ابن منظور: "القضاء: الحكم، وأصله: قضاي؛ لأنه من " قضيت " إلا أن الياء لما جاءت بعد الألف الزائدة طرفا همزت ... وقد تكرر في الحديث ذكر القضاء، وأصله: القطع والفصل، يقال: قضى يقضي قضاء، فهو قاض: إذا حكم وفصل، وقضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه " (4) .
أما في الشرع فقد عرف القضاء بتعريفات، منها: (هو إرادة الله الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال) (5) .
__________
(1) سورة فصلت الآية 12
(2) سورة طه الآية 72
(3) معجم مقاييس اللغة (5 \ 99)
(4) لسان العرب (15 \ 186)
(5) لوامع الأنوار البهية (1 \ 347)(79/117)
المطلب الثاني: تعريف القدر
أما في اللغة فقد قال ابن فارس: (القاف والدال والراء: أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته، فالقدر: مبلغ كل شيء يقال: قدره كذا، أي: مبلغه، وكذلك: القدر، وقال: والقدر: قضاء الله تعالى الأشياء على مبالغها ونهاياتها التي أرادها لها، وهو: القدر أيضا) (1) .
وقال ابن منظور: القدر والقدر: القضاء والحكم، وهو ما يقدره الله - عز وجل- من القضاء ويحكم به من الأمور، قال الله - عز وجل-: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (2) أي: الحكم (3) .
أما القدر في الشرع فقد عرف بتعريفات، منها:
(تقدير الله تعالى للكائنات، حسب ما سبق به علمه، واقتضته حكمته) (4) . والمراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته، وعلى هذا كان السلف من الصحابة وخيار التابعين (5) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (لفظ القدر يراد به التقدير، ويراد
__________
(1) معجم مقاييس اللغة (5\ 62)
(2) سورة القدر الآية 1
(3) لسان العرب (5 \ 74)
(4) شرح ثلاثة الأصول للعلامة محمد بن صالح العثيمين: ص (109)
(5) انظر فتح الباري 1 \ 118(79/118)
به المقدر؛ فإن أردت أن أفعال العباد نفس تقدير الله الذي هو علمه وكلامه ومشيئته ونحو ذلك من صفاته، فهذا غلط وباطل؛ فإن أفعال العباد ليست شيئا من صفات الله تعالى، وإن أردت أنها مقدرة قدرها الله تعالى فهذا حق؛ فإنها مقدرة كما أن سائر المخلوقات مقدرة) (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى (8 \ 410)(79/119)
المطلب الثالث: الفرق بين القضاء والقدر
اختلفت عبارات العلماء -رحمهم الله تعالى- في تعريف القضاء والقدر، فقال الراغب الأصفهاني: (والقضاء من الله تعالى أخص من القدر؛ لأنه الفصل بين التقدير، فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع، وقد ذكر بعض العلماء أن القدر بمنزلة المعد للكيل والقضاء بمنزلة الكيل، وهذا كما قال أبو عبيدة لعمر لما أراد الفرار من الطاعون بالشام: (أتفر من القضاء؟) قال: (أفر من قضاء الله إلى قدر الله) (1) ؛ تنبيها أن القدر ما لم يكن قضاء فمرجو أن يدفعه الله، فإذا قضى فلا مدفع له ... ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} (2) ، وقوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (3) ، وقوله: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} (4) . أي فصل تنبيها أنه
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب (7 \ 21) ، ومسلم في صحيحه، كتاب السلام (4 \ 1740)
(2) سورة مريم الآية 21
(3) سورة مريم الآية 71
(4) سورة البقرة الآية 210(79/119)
صار بحيث لا يمكن تلافيه (1) .
وقال الجرجاني: (القدر خروج الممكنات من العدم إلى الوجود واحدا بعد واحد مطابقا للقضاء، والقضاء في الأزل، والقدر فيما لا يزال، والفرق بين القدر والقضاء هو أن القضاء وجود جميع الموجودات في اللوح المحفوظ مجتمعة، والقدر وجودها متفرقة في الأعيان بعد حصول شرائطها، والقضاء في الاصطلاح: عبارة عن الحكم الكلي الإلهي في أعيان الموجودات على ما هي عليه من الأحوال الجارية في الأزل إلى الأبد) (2) .
وذكر الحافظ ابن حجر: أن العلماء قالوا: (القضاء: الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله) (3) .
ويرى بعض العلماء: أن القدر هو تقدير الشيء قبل قضائه، والقضاء هو الفراغ من الشيء، ومن الشواهد التي يذكرونها للتفريق بين القضاء والقدر أن القدر بمنزلة تقدير الخياط للثوب فهو قبل أن يفصله يقدره فيزيد وينقص؛ فإذا فصله فقد قضاه وفرغ منه وفاته التقدير، وعلى هذا يكون القدر سابقا للقضاء.
وخلاصة القول: أن الأقوال في التفريق بين القضاء والقدر كثيرة؛ وليس في الكتاب والسنة دليل واضح يدل على الفرق بينهما (4) ، وإنما هي
__________
(1) المفردات ص (406 - 407)
(2) التعريفات ص (176 - 177)
(3) فتح الباري لابن حجر (11 \ 477)
(4) انظر: القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس فيه للدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود(79/120)
اجتهادات من العلماء - رحمهم الله تعالى-، وأحسن الأقوال في هذا ما قال الخطابي: (جماع القول في هذا الباب - أي القضاء والقدر - أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه) (1) .
__________
(1) معالم السنن للخطابي (4 \ 323)(79/121)
المبحث الثاني: الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر
يجب على كل مسلم ومسلمة الإيمان بالقضاء والقدر؛ لأنه ركن من أركان الإيمان، وأصل من أصوله ومبانيه العظام، ولا يتم إيمان العبد إلا بالإيمان به، وقد وردت أدلة كثيرة في الكتاب والسنة تدل على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر، وسوف يكون الكلام على ذلك في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الأدلة من الكتاب:
1 - قال الله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (1) .
قال ابن كثير: في تفسيره عند هذه الآية: (أي كل شيء مما سواه مخلوق مربوب، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، وكل شيء تحت قهره وتدبره وتسخيره وتقديره) (2) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 2
(2) تفسير ابن كثير (3 \ 290)(79/121)
2 - قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (1) ، أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره عند هذه الآية عن ابن زيد قال: إن الله كان علمه معه قبل أن يخلق الأشياء كلها فأتم في علمه أن يخلق خلقا، ويأمرهم وينهاهم، ويجعل ثوابا لأهل طاعته، وعقابا لأهل معصيته، فلما أتم ذلك الأمر قدره، فلما قدره كتبه وغاب عليه، فسماه الغيب وأم الكتاب، وخلق الخلق على ذلك الكتاب أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وما يصيبهم من الأشياء من الرخاء والشدة من الكتاب الذي كتبه أن يصيبهم ... وكان أمر الله الذي مضى وفرغ منه وخلق عليه الخلق {قَدَرًا مَقْدُورًا} (2) (3) . إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة في كتاب الله - عز وجل- التي تدل على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، مثل قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (4) ، وقوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (5) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 38
(2) سورة الأحزاب الآية 38
(3) تفسير ابن جرير الطبري (22 \ 15)
(4) سورة القمر الآية 49
(5) سورة الرعد الآية 8(79/122)
المطلب الثاني: الأدلة من السنة
وردت أحاديث كثيرة عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - تدل على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر، وأنه أصل من أصول الإيمان، وركن من أركانه العظام، ومن ذلك:
1 - حديث عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال: «بينما نحن(79/122)
عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلوس ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت (1) » .... الحديث) (2) .
2 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان (3) » .
3 - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء (4) » .
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبي داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد (1/52) .
(2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان (1 \ 36)
(3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر (4 \ 2045)
(4) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر (4 \ 2044)(79/123)
4 - حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر (1) » .
__________
(1) أخرجه الترمذي: كتاب القدر (4 \ 452) ، والحاكم في المستدرك (1 \ 32) ، وقال: هذا حديث صحيح، ووافقه الذهبي(79/124)
المطلب الثالث: أقوال بعض الصحابة والتابعين
1 - عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت: أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم (1) ، وذكر من شأنهم، وأنهم
__________
(1) يتقفرون العلم: أي يطلبونه ويتتبعونه. النهاية لابن الأثير (4 \ 90)(79/124)
يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر، لو أن لأحدكم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل منه حتى يؤمن بالقدر (1) .
2 - عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قال: (القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضا للتوحيد، ومن وحد الله وآمن بالقدر كان العروة الوثقى لا انفصام لها) (2) .
3 - عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: (إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستقر يقينا غير ظن أنه ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطئه لم يكن ليصيبه، ويقر بالقدر كله) (3) .
4 - عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر كله، خيره وشره، ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه) (4) .
5 - وعن الحسن البصري: أنه كان يقول في مرضه الذي مات فيه: (وإن الله قدر أجلا وقدر معه مرضا وقدر معه معافاة، فمن كذب بالقدر فقد كذب بالقرآن، ومن كذب القرآن فقد كذب الحق) (5) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان (1 \ 36)
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (4 \ 670)
(3) المصدر السابق ص (4 \ 666)
(4) المصدر السابق ص (4 \ 678)
(5) المصدر السابق (4 \ 682)(79/125)
المبحث الثالث: أقسام الناس في الإيمان بالقضاء والقدر
انقسم الناس في الإيمان بالقضاء والقدر إلى ثلاثة أقسام:
قسم سلبوا قدرة العبد واختياره، وهم الجبرية.
وقسم نفوا القدر، وهم القدرية.
وقسم توسطوا فأثبتوا القدر وأثبتوا للعبد قدرة واختيارا، وهم أهل السنة والجماعة، وبيان هؤلاء في المطالب الآتية:
المطلب الأول: الجبرية
أ - التعريف بهم:
الجبرية هم الذين سلبوا العبد قدرته واختياره، فزعموا أنه لا فعل للعبد أصلا، وأن حركاته بمنزلة حركات الجماد ولا قدرة له عليها، ولا اختيار، وأن كل ما خلقه الله فقد رضيه وأحبه، هؤلاء قد أعرضوا عن الأمر والنهي والوعد والوعيد، وأفرطوا حتى أفضى بهم الأمر إلى الإلحاد، وتركوا الأعمال الصالحة والأخذ بالأسباب المنجية من عذاب الله، فصاروا من جنس المشركين الذين قالوا ما ذكره الله عنهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (1) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 148(79/126)
وأول من قال بهذا المذهب الباطل هو الجعد بن درهم، وعن الجعد بن درهم أخذ هذا المذهب تلميذه الجهم بن صفوان مؤسس فرقة الجهمية. فقد تلقى عنه هذه البدعة مع بدع أخرى أصبحت فيما بعد من أسس الجهمية، حتى أن هذه الفرقة هي التي قامت بهذا المذهب ونشرته وأيدته ببعض الشبهات الباطلة، وأصبح يطلق عليهم الجبرية لقولهم بهذا المذهب الباطل، وقد تبعهم على ذلك الأشاعرة.(79/127)
ب - عقيدتهم في القدر:
عقيدة الجبرية في هذه المسألة أنه لا فعل لأحد غير الله تعالى، والإنسان مجبور على عمله، والأعمال تنسب إليه مجازا كما تنسب إلى(79/127)
الجماد، فالإنسان والجماد لا يختلفان، فكتب فلان وقتل مجاز كما يقال: أثمر الشجر وتحرك الحجر.
والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال جبر: وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضا كان جبرا (1) .
يقول البغدادي: (وقال - أي الجهم - لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز كما يقال: زالت الشمس ودارت الرحى من غير أن تكونا فاعلتين أو مستطيعتين لما وصفتا به) (2) .
ويقول الشهرستاني - وهو يعدد آراء الجهم بن صفوان -: ( ... ومنها قوله في القدرة الحادثة: إن الإنسان ليس يقدر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور في أفعاله، لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار، وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وينسب إليه الأفعال مجازا، كما ينسب إلى الجمادات، كما يقال: أثمرت الشجرة وجرى الماء ... إلى غير ذلك، والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال جبر، وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضا جبر) (3) .
ج - شبهاتهم والردود عليها:
عرفنا أن الجبرية أثبتوا مشيئة الله العامة، وخلقه الشامل، ونفوا
__________
(1) انظر: التبصير في الدين (107) ، والفصل (3 \ 22) ، والملل والنحل (1 \ 110 - 111)
(2) الفرق بين الفرق ص (211)
(3) الملل والنحل (1 \ 110 - 111)(79/128)
ذلك عن العبد، واستدلوا على ذلك بكثير من نصوص الشرع منها:
قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (1) .
وقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (2) .
وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3) .
وقوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (4) .
وقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (5) .
وغير ذلك من الآيات التي زعموا أنها تدل على أقوالهم الباطلة.
وقبل الرد على استدلالهم بالآيات السابقة لا بد من بيان أنهم أخطئوا في جانبين:
الأول: زعمهم أن كل ما قدره الله وأراده فإنه يحبه ويرضاه، أن ما وقع في الأرض من الكفر والفسوق والعصيان محبوب ومراد لله ما دام الله قد خلقه؛ لأنه في زعمهم لا يخلق إلا ما يحبه ويريده (6) ، وكلامهم هذا
__________
(1) سورة الزمر الآية 62
(2) سورة الرعد الآية 16
(3) سورة التكوير الآية 29
(4) سورة الأنفال الآية 17
(5) سورة الواقعة الآية 64
(6) مجموعة الرسائل والمسائل (5 \ 127) .(79/129)
باطل لأنهم ظنوا أن كل مخلوق لا بد أن يكون محبوبا ومرادا لله، فخلطوا بين الإرادتين؛ الإرادة الكونية والإرادة الدينية الشرعية، فالإرادة الكونية تستلزم وقوع المراد، وهو ما قدره الله عز وجل وشاءه من الحوادث، والتي منها الكفر وسائر المعاصي والله عز وجل أرادها ولم يأمر بها ولم يرضها ولم يحبها؛ لأن الله عز وجل لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا مشيئة الله وقدرته وخلقه لما كانت، ولما وجدت، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومن أدلة هذا النوع قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (1) . وأما النوع الثاني من الإرادة فهو الإرادة الدينية الشرعية وهي التي تستلزم محبة المراد ورضاه، ومحبة أهله، والرضا عنهم، والتي منها ما أمر الله به عز وجل من الأعمال الصالحة، فإن الله عز وجل أراد ذلك دينا وشرعا، فأمر به وأحبه ورضيه، وأراده إرادة كون فوقع، ولولا ذلك لما كان، ومن أدلة هذا النوع قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2) .
الثاني: أنهم سلبوا العبد قدرته ومشيئته واختياره، وهذا الزعم في الحقيقة مخالف للشرع والعقل والحس.
والأدلة الشرعية متضافرة في نسبة أفعال العباد إليهم، وأن العبد يمدح أو يذم على ما يصدر عنه من أفعال ممدوحة أو مذمومة، وليس لأحد أن يفعل
__________
(1) سورة البقرة الآية 253
(2) سورة البقرة الآية 185(79/130)
المعاصي ويحتج بأنه مسلوب القدرة والاختيار، وأنه فعل ما فعل مجبرا دون إرادة منه.
ويقول ابن الوزير اليماني: (وقد تتبعت القرآن والسنة والآثار الصحابية فلم أجد لما ادعوه في ذلك أصلا، بل وجدت النصوص في جميع هذه الأصول رادة لهذه البدعة) (1) .
ثم ذكر كثيرا من الآيات والأحاديث والآثار الدالة على أن العباد هم الفاعلون حقيقة، فالنصوص الشرعية متواترة في بيان أن للعبد قدرة ومشيئة، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (2) ، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (3) ، وقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} (4) ، وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} (5) وغير ذلك من الآيات.
__________
(1) إيثار الحق على الخلق ص (330) .
(2) سورة التكوير الآية 28
(3) سورة البقرة الآية 79
(4) سورة آل عمران الآية 112
(5) سورة فصلت الآية 46(79/131)
وكما أن هذا المذهب النافي لقدرة العبد واختياره مخالف للشرع فهو مخالف للحس كذلك، فإن الشخص السوي يشعر ويعلم بأن له قدرة واختيارا، ويفرق بين أفعاله التي يفعلها باختياره كصلاته ومشيه ونحو ذلك، وبين ما يصدر عنه من أفعال لا قدرة له فيها ولا اختيار، كحركة يد المرتعش، ونبضات القلب.
فالجبر الذي أنكره سلف الأمة وعلماء السنة هو أن يكون الفعل صادرا عن الشيء من غير إرادة ولا مشيئة ولا اختيار، مثل حركة الأشجار بهبوب الريح، وحركة المحموم والمرتعش، فإن كل عاقل يجد تفرقة بديهية بين قيام الإنسان وقعوده وصلاته وجهاده وزناه وسرقته، وبين انتفاض المحموم، ونعلم أن الأول قادر على الفعل، مريد له مختار، وأن الثاني غير قادر عليه، ولا مريد له، ولا مختار، والجبرية جعلوا جميع أفعال العباد من قسم الاضطرار، وهو قول ظاهر الفساد؛ إذ إن كل شخص يفرق بين فعله الاضطراري، وفعله الاختياري (1) .
وقول الأشاعرة مثل قول الجبرية في ذلك - كما سبق - إلا أن الأشاعرة قالوا بالكسب، وهذا المذهب في الحقيقة يرجع إلى الجبر، فهم فسروا الكسب بأنه عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، من غير أن يكون لها أثر فيه، وعليه فما دام العبد ليس بفاعل ولا له قدرة مؤثرة في الفعل، فالزعم بأنه كاسب وتسمية فعله كسبا لا حقيقة له، فإنه لا يمكن
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (8 \ 393 - 394، 463) ، وشفاء العليل ص (312 - 313) .(79/132)
أن يوجد فرق بين الفعل الذي نفي عن العبد والكسب الذي أثبت له (1) .
ثم إنه (من المستقر في فطر الناس أن من فعل العدل هو عادل، ومن فعل الظلم فهو ظالم، ومن فعل الكذب فهو كاذب، فإذا لم يكن العبد فاعلا لكذبه وظلمه وعدله، بل الله فاعل ذلك لزم أن يكون هو المتصف بالكذب والظلم) (2) ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
فالأشاعرة لم يجعلوا العبد فاعلا حقيقة، بل جعلوا ما يصدر عنه من أفعال حاصلا بالقدرة القديمة عند الاقتران بالقدرة الحادثة، دون أن يكون للعبد أي تأثير في الفعل.
يقول الإيجي مقررا مذهب الأشاعرة في هذا الأمر: (المقصد الأول في أفعال العباد الاختيارية وأنها واقعة بقدرة الله وحدها وليس بقدرتهم تأثير فيها، بل الله تعالى أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما فيكون فعل العبد مخلوقا لله إبداعا وإحداثا، ومكسوبا للعبد، والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون منه تأثير) . (3) .
والظاهر أن الذي حملهم على ذلك هو عدم تصورهم للجمع بين كون الله خالقا لأفعال العباد، وكون العباد فاعلين حقيقة، وهم بقولهم هذا أرادوا أن
__________
(1) انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة ص (1419) .
(2) مجموع الفتاوى (8 \ 119 - 120) .
(3) انظر المواقف في علم الكلام للإيجي ص (237) .(79/133)
يوفقوا بين الجبرية والقدرية ولكنهم عجزوا عن فهمها فضلا عن إفهامها لغيرهم.
وقد بين هذا الأمر شيخ الإسلام ابن تيمية: وأزال ما فيه من اشتباه فقال: " قول القائل: هذا فعل هذا، وفعل هذا، ... لفظ فيه إجمال، فإنه تارة يراد بالفعل نفس الفعل، وتارة يراد به مسمى المصدر - أي المفعول - فيقول: فعلت هذا أفعله فعلا، وعملت هذا أعمله عملا، فإذا أريد بالعمل نفس الفعل الذي هو مسمى المصدر، كصلاة الإنسان وصيامه ونحو ذلك، فالعمل هنا هو المعمول، وقد اتحد هنا مسمى المصدر والفعل، وإذا أريد بذلك ما يحصل بعمله كنساجة الثوب، وبناء الدار، ونحو ذلك، فالعمل هنا غير المعمول، قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} (1) ، فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن.
والمقصود هنا أن القائل إذا قال هذه التصرفات فعل الله أو فعل العبد، فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعنى المصدر فهذا باطل باتفاق المسلمين، وبصريح العقل، ولكن من قال: هي فعل الله، وأراد به أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات فهذا حق ... " (2) .
__________
(1) سورة سبأ الآية 13
(2) أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل (8 \ 121 - 122) .(79/134)
وعلى هذا فإضافة الفعل إلى العبد هي من باب إضافة المسبب إلى سببه، وإضافته إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى الخالق.
يقول ابن القيم: (الفعل وقع بقدرة الرب خلقا وتكوينا، كما وقعت سائر المخلوقات بقدرته وتكوينه، وبقدرة العبد سببا ومباشرة، والله خالق الفعل، والعبد فعله وباشره، والقدرة الحادثة وأثرها واقعان بقدرة الرب ومشيئته) . (1) .
وأما استدلالهم بالآيات التي قد يفهم من ظاهرها سلب العبد قدرته واختياره، وأن الفاعل هو الله وحده، كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (2) ، وقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} (3) ، ونحو ذلك من الآيات ... فيقال فيه: نعم، إن ظاهر قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (4) أنه سبحانه هو الخالق وحده، وما سواه مخلوق، وهذا حق، فالله سبحانه بذاته وصفاته الخالق، وكل ما عداه فهو مخلوق، ولا يخص شيء من هذا العموم، فتدخل أفعال العباد من جمله المخلوقات، ولكن لا يلزم من قولنا: إن الله خالق أفعال العباد، أن يكون العباد مجبورين ومضطرين على أفعالهم، بل لهم قدرة ومشيئة واختيار، كما جاءت بذلك النصوص الشرعية، وليس في إثبات القدرة
__________
(1) شفاء العليل ص (311) .
(2) سورة الزمر الآية 62
(3) سورة الرعد الآية 16
(4) سورة الزمر الآية 62(79/135)
والاختيار للعبد جعل خالق مع الله، وإثبات شريك له، بل الله سبحانه هو الخالق، والعباد فاعلون مختارون حقيقة غير خالقين لأفعالهم، ولا مضطرين عليها (1) ، وهذا معلوم بالاضطرار حسا وشرعا.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2) فنقول: إن هذه الآية تثبيت لمشيئة الله سبحانه وتعالى وحده، وهذا حق، ولكنها تدل أيضا على إثبات المشيئة للعباد، وهذا يؤيد قول أهل السنة بإثبات المشيئة للعباد ولكنها واقعة وخاضعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى، وهذه الآية قد استدل بها المعتزلة على مذهبهم، وهذا يبين بطلان قول كل من المعتزلة والجبرية، وأن أدلة كل طرف ترد على أدلة الطرف الآخر؛ لأن كلا منهم أخذ بشيء من الدليل وترك شيئا.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (3) ، فهو في الحقيقة دليل عليهم لا لهم، وليس فيه دليل على قولهم، وذلك أن القتل الذي حصل في وقعة بدر، والتي نزلت فيها هذه الآيات إنما حصل بأمور خارجة عن قدرتهم، مثل إنزال الملائكة، وإلقاء الرعب في قلوبهم، فقتلهم حاصل بأمر خارج للعادة، ولم ينفرد المسلمون بقتلهم، بل قتلهم الملائكة، فصارت رؤوس
__________
(1) انظر شفاء العليل ص (118) .
(2) سورة التكوير الآية 29
(3) سورة الأنفال الآية 17(79/136)
المشركين تطير قبل وصول السلاح إليها بالإشارة (1) .
وكذلك الرمي، لم يكن في قدرته - صلى الله عليه وسلم - أن التراب يصيب أعينهم كلهم، فهذا الرمي الخارج عن قدرة العباد المعتادة هو الذي نفاه الله عنه، فلم يكن من فعله - صلى الله عليه وسلم - بل من فعل الله، فالرمي يراد به الحذف والطرح، كما يراد به الإيصال والإصابة، فنفى عنه الإيصال والإصابة، بقوله: {وَمَا رَمَيْتَ} (2) ، وأثبت له الطرح والحذف بقوله: {إِذْ رَمَيْتَ} (3) ، ثم قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (4) أي: أصاب.
يقول الإمام البغوي: في هذه الآية: (ليس في وسع أحد من البشر أن يرمي كفا من الحصى إلى وجوه جيش فلا يبقى فيهم عين إلا ويصيبها منه شيء، وقيل: معناه: وما بلغت إذ رميت، ولكن الله بلغ) . (5) .
ويقول العلامة ابن القيم: (اعتقد جماعة أن المراد بالآية: سلب فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنه، وإضافته إلى الرب تعالى، وجعلوا ذلك أصلا في الجبر، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد، وتحقيق نسبتهما إلى الرب وحده. وهذا غلط منهم في فهم القرآن. فلو صح ذلك لوجب طرده في جميع الأعمال، فيقال: ما صليت إذ صليت، وما صمت إذ صمت، وما ضحيت إذ ضحيت، ولا فعلت كل فعل إذ فعلته، ولكن الله فعل ذلك؛ فإن طردوا
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام (1 \ 633) .
(2) سورة الأنفال الآية 17
(3) سورة الأنفال الآية 17
(4) سورة الأنفال الآية 17
(5) معالم التنزيل للبغوي (2 \ 238) ، وانظر تفسير ابن كثير (3 \ 295) .(79/137)
ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد - طاعاتهم ومعاصيهم - إذ لا فرق؛ فإن خصوه بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وحده وأفعاله جميعها، أو رميه وحده: تناقضوا. فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية.
وبعد. فهذه الآية نزلت في شأن رميه - صلى الله عليه وسلم - المشركين يوم بدر بقبضة من الحصباء، فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصابته، ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ. فكان منه - صلى الله عليه وسلم - مبدأ الرمي. وهو الحذف، ومن الله سبحانه وتعالى: نهايته، وهو الإيصال، فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه، ونفى عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته، ونظير هذا قوله في الآية نفسها: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} (1) . ثم قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (2) فأخبره: أنه هو وحده هو الذي تفرد بقتلهم، ولم يكن ذلك بكم أنتم، كما تفرد بإيصال الحصى إلى أعينهم، ولم يكن ذلك من رسوله، ولكن وجه الإشارة بالآية: أنه سبحانه أقام أسبابا ظاهرة، كدفع المشركين، وتولي دفعهم، وإهلاكهم بأسباب باطنة غير الأسباب التي تظهر للناس، فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافا إليه، وبه وهو خير الناصرين (3) .
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (4) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 17
(2) سورة الأنفال الآية 17
(3) مدارج السالكين (3 \ 426 - 427) .
(4) سورة الواقعة الآية 64(79/138)
فالجواب: أن معنى الآية: أأنتم تنبتونه وتجعلونه زرعا، أم نحن المنبتون له، الجاعلون له زرعا لا أنتم؟ (1) .
يقول ابن كثير في تفسير الآية: " {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} (2) أي: تنبتونه، {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (3) أي: بل نحن الذين نقره قراره وننبته في الأرض ". (4) .
فالله سبحانه نفى عنهم قدرتهم على إنبات ما حرثوا، ولهذا أثبت لهم فعل الحرث، الذي هو وضع الحب في باطن الأرض، كما قال في الآية التي قبل هذه الآية: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} (5) ، فأثبت لهم فعلا لقدرتهم عليه، وهو الحرث، ونفى عنهم ما هو خارج عن قدرتهم، وهو الإنبات.
والجواب عن بقية الآيات التي ربما يستدل بها الجبرية ومن قاربهم لا يخرج في الغالب عن نحو الجواب عن الآيات التي سبق إيرادها، كما أنه بفهم المسائل التي سبق طرقها وبيان الحق فيها تزول الإشكالات والشبه التي تثيرها الجبرية وتفهم الآيات التي يدعون فيها التعارض، ويتضح وجهها ومعناها، وأن قول سلفنا الصالح أهل السنة والجماعة هو القول الوسط الذي يتفق مع نصوص الكتاب والسنة، وقول الجبرية قول فاسد باطل مخالف لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأمة من السلف والخلف.
__________
(1) انظر: زاد المسير (8 \ 148) ، فتح القدير (5 \ 157) .
(2) سورة الواقعة الآية 64
(3) سورة الواقعة الآية 64
(4) تفسير ابن كثير (6 \ 532) ، وانظر: فتح القدير للشوكاني (5 \ 157) .
(5) سورة الواقعة الآية 63(79/139)
المطلب الثاني: القدرية
أ - التعريف بهم:
القدرية: القدرية اسم يطلق على من نفى القدر، يقول البغدادي: (وقد زعموا أن الناس هم الذين يقدرون أكسابهم وأنه ليس لله عز وجل في أكسابهم وفي أعمال سائر الحيوانات صنع ولا تقدير، ولأجل هذا القول سماهم المسلمون قدرية) (1) .
وكان أول ظهورهم بالبصرة في العراق على يد رجل ينسب إلى الزهد، يقال له معبد الجهني، حيث قال بنفي القدر، وأن العبد حر في تصرفاته.
وكان ذلك في أواخر زمن الصحابة - رضي الله عنهم - فأنكروا ذلك عليه كما أنكره عليه عامة التابعين، جاء في صحيح الإمام مسلم رضي الله عنه عن يحيى بن يعمر قال: «كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن (2) الحميري
__________
(1) الفرق بين الفرق ص (94) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان (1 \ 36 - 37) .(79/140)
حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدكم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما ... فذكر حديث جبريل» .
وقد أخذ معبد هذه المقالة عن رجل نصراني أسلم ثم تنصر، قال الأوزاعي: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق، يقال له: سوسن، كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد (1) .
وبعد أن أخذ غيلان بن مسلم هذه المقالة عن معبد رفع أمره إلى عمر بن عبد العزيز: فأتي به، وناظرهم، فأظهر توبته وأنه رجع عما كان عليه فأطلقه عمر: فلما توفي عمر بن عبد العزيز وتولى هشام بن عبد الملك،
__________
(1) أخرجه الآجري في الشريعة ص (242) ، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4 \ 750) .(79/141)
تكلم غيلان وقال بنفي القدر، فأحضره هشام، وذكره بتوبته في عهد عمر، فقال غيلان: أقلني يا أمير المؤمنين، فوالله لا أعود، قال: لا أقالني الله إن أقلتك، هل تقرأ فاتحة الكتاب، قال: نعم، قال: اقرأ " {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) "، فقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (3) {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (4) {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) ، قال: قف على ما استعنته؟ على أمر بيده لا تستطيعه أو على أمر في يدك - أو بيدك -؟ اذهبا فاقطعا يديه ورجليه واضربا عنقه واصلباه (6) .
فأخذت هذه المقالة المعتزلة بعد أن انضم إليها عمرو بن عبيد، فضموا إلى بدعتهم في الإيمان، ومرتكب الكبيرة إنكارهم للقدر.
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 2
(2) سورة الفاتحة الآية 2
(3) سورة الفاتحة الآية 3
(4) سورة الفاتحة الآية 4
(5) سورة الفاتحة الآية 5
(6) أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة (2 \ 429) ، واللالكائي في شرح أصول أهل السنة (4 \ 715) .(79/142)
ب - عقيدتهم في القدر:
نفي القدر كانت له مرحلتان:
المرحلة الأولى: مرحلة غلاة القدرية الأوائل الذين كانوا ينكرون العلم السابق، وكان على هذا معبد الجهني وبعض القدرية وقد كفرهم الأئمة بهذا، وقد انقرض هذا المذهب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وغلاة القدرية ينكرون علمه المتقدم، وكتابته السابقة، ويزعمون أنه أمر ونهي، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، بل الأمر أنف، أي مستأنف، وهذا القول أول ما حدث في(79/142)
الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين بني أمية في أواخر عصر عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وغيرهما من الصحابة، وكان أول من ظهر عنه ذلك بالبصرة معبد الجهني، فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرؤوا منهم، وأنكروا مقالتهم، كما قال عبد الله بن عمر - لما أخبر عنهم -: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، وكذلك كلام ابن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين، فيهم كثير، حتى قال فيهم الأئمة كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم: إن المنكرين لعلم الله المتقدم يكفرون " (1) .
ويقول الحافظ ابن حجر: " وقد حكى المصنفون في المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون الباري عالما بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها، قال القرطبي وغيره: قد انقرض هذا المذهب، ولا نعرف أحدا ينسب إليه من المتأخرين، قال: والقدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم، وواقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبا باطلا أخف من المذهب الأول " (2) .
__________
(1) مجموع الفتاوى (8 \ 450) .
(2) فتح الباري (1 \ 119) .(79/143)
وما أشار إليه القرطبي: هو المرحلة الثانية من مراحل القدرية حيث إن عمرو بن عبيد - زعيم المعتزلة - أخذ بمقالة معبد الجهني في القدر وتبعه على ذلك خلق من أهل البصرة فتبنى المعتزلة هذا الرأي وقالوا: بنفي القدر وأن العبد لا يعمل ضمن حدود القدر، وإنما هو حر طليق، وفعله الشر منشؤه مشيئته واختياره هو وحده، وليس لله عليه مشيئة البتة، وقد ستروا هذا الرأي تحت كلمة العدل، وهو أحد أصولهم الخمسة التي بنوا عليها مذهبهم فقالوا: إن الله عادل لا يخلق الشر ولا يقضي به، إذ لو خلقه ثم يعذبهم عليه لكان ذلك جورا، والله عادل لا يجور، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر، وكذلك العاصي شاء المعصية، وخالف مشيئة الله. يقول القاضي عبد الجبار: " اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم، وأن من قال: إن الله سبحانه خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه " (1) .
ويقول أيضا في تعريفه للعدل: " هو توقير حق الغير واستيفاء الحق منه "، ثم قال في تطبيق هذا التعريف على عدل الله: " وأما علوم العدل فهو أن يعلم أن أفعال الله تعالى كلها حسنة، وأنه لا يفعل القبيح ولا يخل
__________
(1) المغني في أبواب التوحيد والعدل (3 \ 8) .(79/144)
بما هو واجب عليه، وأنه لا يكذب في خبره، ولا يجور في حكمه " (1) .
ويقول أيضا: " والذين يثبتون المجبرة، فأما نحن فإنا ننفيه وننزه الله تعالى عن أن تكون الأفعال بقضائه وقدره " (2) .
ويقول أيضا: " ولو كان الختم منعا لما جاز أن يذم تعالى الكفار الذين وصف بأنه ختم على قلوبهم، ولما جاز أن يقول: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3) لأنه إن كان تعالى منعهم عن الخروج من الكفر وأوجد ذلك فيهم حتى لا يصح منهم الانفكاك؛ فكيف يحسن أن يعذبهم به؟ ولئن جاز ذلك ليجوزن أن يعذبهم على طولهم ولونهم وصحتهم؟! " (4) .
ومنشأ ضلالهم وبدعتهم أنه لما عجزت عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه ووعده ووعيده شبهوا أفعال الله بأفعال عباده، وجعلوا ما يحسن من العباد يحسن منه وما يقبح من العباد يقبح منه وقالوا: يجب عليه أن يفعل كذا، ولا يجوز له أن يفعل كذا، وهم مشبهة الأفعال (5) .
__________
(1) شرح الأصول الخمسة ص (132 - 133) .
(2) شرح الأصول الخمسة ص (776) .
(3) سورة البقرة الآية 7
(4) متشابه القرآن ص 53
(5) انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص (468) .(79/145)
ج - شبهاتهم والردود عليها:
الشبهة الأولى:
يقول القاضي عبد الجبار: " ومما يستدل له من جهة السمع، قوله(79/145)
تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} (1) الآية.
وجه الاستدلال:
أن الله تعالى نفى التفاوت عن خلقه، ولا يجوز أن يكون المراد به التفاوت من جهة الخلقة؛ لأن في خلقة المخلوقات من التفاوت ما لا يخفى، فليس إلا أن المراد به التفاوت من جهة الحكمة على ما قلناه، وإذا ثبت هذا لم يصح في أفعال العباد أن تكون من جهة الله تعالى لاشتمالها على التفاوت وغيره (2) .
نقول: إن استدلالهم بهذه الآية استدلال باطل لأن الآية وردت في خلق السماوات، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} (3) ، وإن كان الأولى تعميم الآية لتقرر تناسب خلقه سبحانه وتعالى، وإتقانه، وتناهي حسنه، فيشمل خلق السماوات وغيرها (4) . وعلى هذا فقد تولى ابن حزم، رحمه الله تعالى، مناقشة المعتزلة، فقال: " وأما قوله تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} (5) ، فلا حجة لهم في هذا أيضا؛ لأن التفاوت المعهود، هو ما نافر النفوس، أو خرج عن المعهود، فنحن نسمي الصورة المضطربة بأن فيها تفاوتا، فليس هذا التفاوت الذي نفاه الله
__________
(1) سورة الملك الآية 3
(2) انظر: شرح الأصول الخمسة ص (355) .
(3) سورة الملك الآية 3
(4) انظر محاسن التأويل (16 \ 5878) ، وتفسير ابن كثير (4 \ 396) .
(5) سورة الملك الآية 3(79/146)
تعالى عن خلقه، فإذا ليس هو هذا الذي يسميه الناس تفاوتا، فلم يبق إلا أن التفاوت الذي نفاه الله تعالى عما خلق، هو شيء غير موجود فيه البتة؛ لأنه لو وجد في خلق الله تعالى تفاوت، لكذب قول الله عز وجل: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} (1) ، ولا يكذب الله تعالى إلا كافر، فبطل ظن المعتزلة، أن الكفر، والظلم، والكذب، والجور، تفاوت؛ لأن كل ذلك موجود في خلق الله عز وجل، مرئي فيه، مشاهد بالعيان فيه، فبطل احتجاجهم، والحمد لله رب العالمين.
فإن قال قائل: فما هذا التفاوت الذي أخبر الله عز وجل أنه لا يرى في خلقه؟ قيل: ... إن العالم كله ما دون الله تعالى هو مخلوق لله تعالى أجسامه وأعراضه كلها، لا نحاشي منها شيئا، ثم إذا نظر الناظر في تقسيم أنواع أعراضه، وأنواع أجسامه، جرت القسمة جريا مستويا في تفصيل أجناسه، وأنواعه، بحدودها المميزة لها، وفصولها المفرقة بينها، على رتبة واحدة، وهيئة واحدة، إلى أن يبلغ إلى الأشخاص التي تلي هذه الأنواع، لا تفاوت في شيء من ذلك البتة، بوجه من الوجوه، ولا تخالف في شيء منه أصلا ... وكذلك أيضا نعلم أن الكفر والإيمان بالقلب واقعان تحت نوع من الاعتقاد، ثم تحت نوع فعل النفس، ثم تحت الكيفية والعرض، وقوعا مستويا، لا تفاضل فيه، ولا تفاوت من هذا الوجه من التقسيم ... " (2) .
ومن ثم فلا حجة للمعتزلة في هذه الآية. أما الاختلاف والتفاوت بين البشر
__________
(1) سورة الملك الآية 3
(2) الفصل في الملل والنحل (3 \ 67 - 69) .(79/147)
إيمانا وكفرا، وطاعة وعصيانا، وعدلا وظلما، فإرادة الله اقتضت وجود ذلك، ليمتحن الله الخلق، ويبتليهم بالشر والخير فتنة، ثم إلى الله الرجوع، ومطلق الاختلاف هو سنة الله تعالى، فقد خلق من كل شيء زوجين، فالسماء والأرض، والذكر والأنثى، والحرارة والبرودة، وهذا تناسب، وليس اختلافا في خلقه تعالى.
وأيضا: فإن أول الآية حجة عليهم، وهو قوله تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} (1) .
يقول الباقلاني في معرض رده على استدلال المعتزلة بهذه الآية: " إن أول الآية حجة عليهم؛ لأنه سبحانه وتعالى قال: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} (2) الآية، وبين الموت والحياة تفاوت؛ وهو خالق الجميع، لا خالق لذلك غيره، فكذلك كفر الكافرين، وإيمان المؤمنين، وإن كان بينهما تفاوت في الحكم، فليس بينهما تفاوت في الإيجاد والاختراع، وإحكام الخلق، فصح أن الآية حجة عليهم لا لهم " (3) . وبهذا يظهر بطلان استدلال المعتزلة بهذه الآية. والله أعلم.
__________
(1) سورة الملك الآية 2
(2) سورة الملك الآية 2
(3) الإنصاف ص (133) .(79/148)
الشبهة الثانية:
قال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (1) .
__________
(1) سورة النمل الآية 88(79/148)
وجه الاستدلال بالآية:
يقول القاضي عبد الجبار - بعد أن أورد هذه الآية للاستدلال على أن العباد يخلقون أفعالهم: " ... إن الله - سبحانه وتعالى - بين أن أفعاله كلها متقنة، والإتقان يتضمن الإحكام والحسن جميعا، حتى لو كان محكما ولا يكون حسنا لكان لا يوصف بالإتقان، ألا ترى أن أحدنا لو تكلم بكلام فصيح يشتمل على الفحش والخنا، فإنه وإن وصف بالإحكام لا يوصف بالإتقان؛ ثم قال: إذا ثبت هذا ومعلوم أن في أفعال العباد ما يشتمل على التهود والتنصر والتمجس وليس شيء من ذلك متقنا؛ فلا يجوز أن يكون الله تعالى خالقا لها " (1) .
نقول: أما قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (2) ، فمعناها: أن الجبال صنع الله تعالى، وهو سبحانه أتقن كل شيء، أي: أتقن كل ما خلق، وأحكمه، وأودع فيه من الحكمة ما أودع، {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (3) : تعليل لما قبلها من كونه صنع ما صنع، وأتقن كل شيء، ومعناها أنه عليم بما يفعل عباده من خير وشر، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء. أما ما يقع من الكفر، والمعاصي، والقبائح، فقد قدرها سبحانه أزلا، ولو شاء ألا توجد لما وجدت، والعباد هم الذين يفعلونها، وتنسب إليهم، وهي من مخلوقاته تعالى، لكنه لم يجبرهم عليها، والكفر والتنصر والتمجس، وإن كان غير متقن في ذاته، بل هو من أعظم الباطل إلا أن
__________
(1) شرح الأصول الخمسة ص (358) .
(2) سورة النمل الآية 88
(3) سورة النمل الآية 88(79/149)
الله شاء وجودها لحكم عظيمة، منها الامتحان لعباده، من الذي يعبده حق العبادة، ومن الذي يكفر به ويشرك معه غيره، فهم خلطوا بين ما هو خلق لله ينسب إليه، وبين ما هو من مخلوقاته، كالقبائح، والطعوم، والروائح وغيرها.
واستدلالهم بهذه الآية حجة عليهم لا لهم، يقول ابن حزم: " إن هذه الآية حجة عليهم، لا لهم؛ لأن الله تعالى أخبر أنه بصنعه أتقن كل شيء، وهذا على عمومه وظاهره، فالله تعالى صانع كل شيء، وإتقانه له أن خلقه جوهرا أو عرضا جاريين على رتبة واحدة أبدا، وهذا عين الإتقان " (1) .
وبهذا يتبين بطلان الاستدلال بهذه الآية.
__________
(1) الفصل (3 \ 65) .(79/150)
الشبهة الثالثة:
يقول القاضي عبد الجبار: "ومن الأدلة على أن العباد خالقون أفعالهم قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} (1) . ثم قال: فقد نفى الله تعالى أن يكون في خلقه باطل، فلولا أن هذه القبائح وغيرها من التصرفات من جهتنا ومتعلقة بنا؛ وإلا كان يجب أن تكون الأباطيل كلها من قبله، فيكون مبطلا كاذبا تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا " (2) .
__________
(1) سورة ص الآية 27
(2) شرح الأصول الخمسة ص (362) .(79/150)
مناقشة الشبهة:
إن معنى الآية أن الله - سبحانه وتعالى - ما خلق السماوات والأرض وما بينهما - عبثا ولعبا - على ما يتوهمه من زعم أنه لا حشر ولا نشر ولا ثواب ولا عقاب، بل خلقهما بالحق للاعتبار بهما والاستدلال على خالقهما؛ ومن ثم إثابة المتقين الطائعين، ومجازاة المذنبين والكافرين. ولذا قال تعالى بعدها: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} (1) يعنى من إنكارهم الثواب والجزاء والعقاب (2) .
وعلى ذلك فقولهم: إن معنى الآية " نفي أن يكون في خلقه باطل غير صحيح "، وإذا كان غير صحيح؛ بطل استدلالهم بالآية، والله أعلم.
يقول الحافظ ابن القيم: وهو يرد على من يزعم أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الخلق لغاية ولا لحكمة، يقول: النوع الحادي عشر إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لغاية ولا لحكمة لقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} (3) ، وقوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (4) ، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} (5) {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (6) ، والحق هو الحكم والغايات
__________
(1) سورة ص الآية 27
(2) التسهيل لابن جزي (3 \ 400) ، وانظر تفسير الطبري (2 \ 173) ، وتفسير القرطبي (5 \ 191) .
(3) سورة المؤمنون الآية 115
(4) سورة القيامة الآية 36
(5) سورة الدخان الآية 38
(6) سورة الدخان الآية 39(79/151)
المحمودة التي لأجلها خلق ذلك كله، وهو أنواع كثيرة منها أن يعرف الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وآياته، ومنها أن يحب ويعبد ويشكر ويذكر ويطاع، ومنها أن يأمر وينهى ويشرع الشرائع، ومنها أن يدبر الأمر ويبرم القضاء ويتصرف في المملكة بأنواع التصرفات، ومنها أن يثيب ويعاقب؛ فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فيوجد أثر عدله وفضله موجودا مشهودا، فيحمد على ذلك ويشكر ... إلى أن قال: " وقد أثنى على عباده المؤمنين حيث نزهوه عن إيجاد الخلق لا لشيء ولا لغاية، فقال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} (1) ، وأخبر أن هذا ظن أعدائه لا ظن أوليائه فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (2) ، وكيف يتوهم أنه عرفه من يقول: إنه لم يخلق لحكمة مطلوبة له، ولا أمر لحكمة، ولا نهى عن حكمة، وإنما يصدر الخلق والأمر عن مشيئة وقدرة محضة لا لحكمة ولا لغاية مقصودة، وهل هذا إلا إنكار لحقيقة حمده، بل الخلق والأمر إنما قاما بالحكم والغايات، فهما تظهران بحمده وحكمته، فإنكار الحكمة إنكار لحقيقة خلقه وأمره، فإن الذي أثبته المنكرون من ذلك ينزه عنه الرب ويتعالى عن نسبته إليه، فإنهم أثبتوا خلقا وأمرا لا رحمة فيه ولا مصلحة ولا حكمة، بل يجوز عندهم، أن يقع أو يأمر بما لا مصلحة
__________
(1) سورة آل عمران الآية 191
(2) سورة ص الآية 27(79/152)
للمكلف فيه البتة، وينهى عما فيه مصلحة، والجميع بالنسبة إليه سواء، ويجوز عندهم أن يأمر بكل ما نهى عنه، وينهى عن جميع ما أمر به، ولا فرق بين هذا وهذا إلا لمجرد الأمر والنهي، ويجوز عندهم أن يعذب من لم يعصه طرفة عين، بل أفنى عمره في طاعته وشكره وذكره، وينعم على من لم يطعه طرفة عين بل أفنى عمره في الكفر به والشرك والظلم والفجور، فلا سبيل إلى أن يعرف خلاف ذلك منه إلا بخبر الرسول وإلا فهو جائز عليه، وهذا من أقبح الظن وأسوئه بالرب سبحانه، وتنزيهه عنه كتنزيهه عن الظلم والجور، بل هذا هو عين الظلم الذي يتعالى الله عنه " (1) . وبهذا يتبين بطلان استدلال القدرية بهذه الآية.
__________
(1) شفاء العليل ص (416 - 418) .(79/153)
الشبهة الرابعة:
قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (1) الآية.
وجه الاستدلال:
يقول القاضي عبد الجبار: " لا تخلو الآية؛ إما أن يكون المراد بها أن جميع ما فعله الله سبحانه وتعالى فهو إحسان أو المراد أن جميعه حسن. ولما كان لا يجوز أن يكون المراد بها الإحسان؛ لأن في أفعاله تعالى ما لا يكون إحسانا كالعقاب، فليس إلا أن المراد بها الحسن على ما نقول، إذا ثبت هذا ومعلوم أن أفعال العباد تشتمل على الحسن والقبيح، فلا يجوز أن تكون
__________
(1) سورة السجدة الآية 7(79/153)
مضافة إلى الله تعالى " (1) .
مناقشة الشبهة:
يقال لهم: ليس " أحسن " من معنى " حسن "؛ وإنما معناها أنه يحسن ويعلم كيف يخلق، كما يقال: فلان يحسن الظلم، ويحسن السفه، ويحسن فعل الخير والجميل، أي: يعلم كيف يفعل ذلك (2) .
يقول ابن الجوزي: " قوله تعالى: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (3) الآية، أي: لم يتعلمه من أحد كما يقال: فلان يحسن كذا، إذا علمه، قاله مقاتل والسدي " (4) ، وعلى ذلك، فقولهم: إن أحسن من معنى حسن باطل، وعليه فيبطل استدلالهم بالآية، وقد سبق الرد على مثل هذه الشبهة في الرد على الشبهة الأولى.
ومن شبه القدرية قولهم:
لما كانت القبائح - من الكفر والظلم والمعاصي وغير ذلك - كلها غير متقنة ولا حسنة قطعنا بأن الله لم يخلقها.
كما قالوا: إن هذه القبائح لو كانت مرادة لكان الله مريدا خلاف ما يأمر به، وهذا سفه، أو لكان الفاعل لهذه الأشياء موافقا لمراد الله فيكون مثابا طائعا، ولو كانت مرادة لله لوجب الرضا بها، ومعلوم أن الرضا
__________
(1) شرح الأصول الخمسة ص (357) .
(2) التمهيد للباقلاني ص (312) .
(3) سورة السجدة الآية 7
(4) زاد المسير في علم التفسير (6 \ 334) .(79/154)
بالكفر كفر، فوجب ألا تكون مرادة لله.
ونرد على هذه الشبهة بأن نقول: إن هذه الشبهة ناشئة من أمرين:
أحدهما: عدم التفريق بين الخلق والمخلوق.
الثاني: عدم التفريق بين نوعي الإرادة والأمر، والظن بأن الإرادة توافق الأمر، وتستلزم المحبة والرضا دائما.
وبمعرفة الصواب في هاتين المسألتين تزول أكثر الإشكالات في هذا الباب، كما أنه يمكن الرد على كل الشبه التي يثيرها القدرية، والتأويلات التي يؤولون بها النصوص الشرعية المخالفة لآرائهم بذلك.
- فأما المسألة الأولى، وهي الفرق بين الخلق والمخلوق، فالصواب في ذلك ما عليه أهل الحق أهل السنة والجماعة من أن الفعل غير المفعول، والخلق غير المخلوق، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: في بيان هذه المسألة: " والتحقيق ما عليه أئمة السنة، وجمهور الأئمة، من الفرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق، فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة، مفعولة لله، كما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة مفعولة لله، وليس ذلك نفس خلقه وفعله، بل هي مخلوقة ومفعولة، وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به ليست قائمة بالله، ولا يتصف بها، فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته، وإنما يتصف بخلقه وفعله، كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته، والعبد فاعل لهذه الأفعال، وهو المتصف بها، وله عليها قدرة، وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل(79/155)
العبد، وهي مفعولة للرب " (1) .
ففرق بين فعل الله تعالى القائم به، ومفعولاته المنفصلة عنه الكائنة بفعله، يقول الحافظ ابن القيم: " اعلم أن الرب سبحانه فاعل غير منفعل، والعبد فاعل منفعل، وهو في فاعليته منفعل للفاعل الذي لا ينفعل بوجه.. ".
ثم ذكر أمثلة وأدلة على ذلك، ومنها: نطق العبد، فإن نطقه حقيقة وإنطاق الله له حقيقة، كما قال سبحانه: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (2) .
ثم قال ابن القيم: " فالإنطاق فعل الله الذي لا يجوز تعطيله، والنطق فعل العبد الذي لا يمكن إنكاره، كما قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (3) ، فعلم أن كونهم ينطقون هو أمر حقيقي حتى شبه به في تحقيق كون ما أخبر به، وأن هذا حقيقة لا مجاز ". (4) .
فالحق " أن الله سبحانه أفعل العبد، والعبد فعل، فهو الذي أقام العبد، وأضله، وأماته، والعبد هو الذي قام وضل ومات ". (5) .
__________
(1) مجموع الفتاوى (2 \ 119 - 120) ، وانظر أيضا: (6 \ 230 - 232) .
(2) سورة فصلت الآية 21
(3) سورة الذاريات الآية 23
(4) شفاء العليل ص (285) .
(5) المصدر السابق ص (288) .(79/156)
والصواب أن الشر لا يضاف إلى الرب لا وصفا ولا فعلا، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " ولهذا لا يجيء في كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - إضافة الشر وحده إلى الله، بل لا يذكر الشر إلا على أحد وجوه ثلاثة:
إما أن يدخل في عموم المخلوقات ... وإما أن يضاف إلى السبب الفاعل وإما أن يحذف فاعله.
فالأول: كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (1) ، ونحو ذلك.
وأما حذف الفاعل فمثل قول الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} (2) .
وإضافته إلى السبب كقوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (3) وقوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} (4) ".
وعلى هذا يقال في الرد على شبهة القدرية: إنه لا تناقض بين كون فعل الله وخلقه حسنا ومتقنا، ووجود القبائح والمعاصي التي هي من مخلوقات الله، فخلق الله الذي هو فعله، وصفته كله حسن وخير، أما مخلوقاته فهي موطن الانقسام.
__________
(1) سورة الزمر الآية 62
(2) سورة الجن الآية 10
(3) سورة الفلق الآية 2
(4) سورة الكهف الآية 79(79/157)
وأما المسألة الثانية وهي خلطهم بين الإرادة والأمر، والمحبة والرضا، فإن الحق والصواب هو التفريق بين الإرادة والأمر الكوني، والإرادة والأمر الديني الشرعي، وأن النوع الأول يستلزم الوقوع ولا يستلزم المحبة والرضا، بخلاف الثاني فإنه مستلزم للمحبة والرضا غير مستلزم للوقوع.
فلا يصح إطلاق القول بأن الله مريد لهذه القبائح، ولا أنه غير مريد لهذه القبائح، ولا أنه غير مريد له، بل لا بد من الاستفصال، فإن أريد بكونه مريدا لها الإرادة الكونية القدرية فنعم، وإن أريد الإرادة الدينية الشرعية فلا.
وعلى هذا فقد يريد الله ما لا يحبه ولا يرضاه، وذلك كالكفر الواقع. إنه مراد كونا وقدرا، وغير محبوب ولا مرضي، وقد يحب سبحانه وتعالى ما لا يريده كونا وقدرا، وذلك كمحبته الإيمان من الكفار الذي لم يرد الله أن يهديهم.
وبهذا التفصيل وبمعرفة الفرق بين الإرادتين يزول الإشكال.
يقول ابن القيم: " فإذا قيل: هو مريد للشر أوهم أنه محب له، راض به، وإذا قيل: إنه لم يرده أوهم أنه لم يخلقه، ولا كونه، وكلاهما باطل، ولذلك: إذا قيل إن الشر فعله أو أنه يفعل الشر، أوهم أن الشر فعله القائم به، وهذا محال، وإذا قيل: لم يفعله، أو ليس بفعل له، أوهم أنه لم يخلقه ولم يكونه، وهذا محال " (1) .
__________
(1) شفاء العليل ص (565) .(79/158)
وعلى هذا فلا تلازم بين خلق الله الشيء والرضا به.
ولا يلزم الرضا بكل ما خلق، بل من مخلوقاته ما لا يجوز الرضا به، كالكفر والفساد، كما قال تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (1) ، وقال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (2) .
كما أنه سبحانه لا يأمر شرعا بكل ما يريده كونا، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} (3) .
وبهذا ندرك أن الله تعالى خالق كل شيء، وأن وجود الشرور والفساد والقبائح في مخلوقاته لا يخرجها عن كونها مخلوقة له، ولا يلزم من كون الله خالقا لها تنقص ولا قدح في ذات الرب ولا صفاته سبحانه وتعالى؛ لأن إيجاد الله سبحانه وتعالى ومشيئته لها لحكم يعلمها عز وجل، منها الاختبار للعباد.
وأما تأويلهم للآيات التي علقت الهداية بمشيئة الله، كقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (4) ، ونحوها من الآيات التي أولوها، على معنى: لو شئنا لأجبرناهم على الإيمان، ولكن هذا لم يحصل (5) .
فالجواب عنه: بأن نعلم أن القدرية إنما أرادوا بهذا التأويل نفي هداية
__________
(1) سورة الزمر الآية 7
(2) سورة البقرة الآية 205
(3) سورة الأعراف الآية 28
(4) سورة السجدة الآية 13
(5) انظر متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار ص 371، وشرح الأصول الخمسة ص 362.(79/159)
التوفيق والإلهام من الله، وهذا النفي باطل، فإن الآية تدل على ذلك، وهي كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ} (1) وهذا لم يحصل؛ لأن الله سبحانه إنما وفق للإيمان بعضهم دون بعض (2) ، حكمة منه وفضلا، فهداية البيان والدلالة عامة، وأما هداية التوفيق والإلهام فهي خاصة، يختص الله بها من يشاء من عباده، كما قال سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (3) .
ثم إن زعمهم بأن معنى الآية: لو شئنا لأجبرناهم وألجأناهم إلى الإيمان، ولكن هذا لم يحصل لئلا تزول حكمة التكليف، هذا الزعم باطل؛ لأنه يقتضي أن الله تعالى لا يقدر أن يهديهم إلا بطريق الإلجاء، ولا يخفى ما في هذا من تنقص الرب تعالى، ونسبته إلى ما لا يليق به سبحانه وتعالى.
والحق أن هداية الله تعالى لعباده وتوفيقه لهم ليست من باب الإلجاء والاضطرار، ولو كانت من هذا الباب لم يسم ذلك إيمانا، ولم ينتفع به صاحبه.
يقول ابن القيم: في ذكره لرد أهل السنة والجماعة على شبهة القدرية هذه: " هذا كلام باطل، فإنه سبحانه قادر على أن يخلق فيهم
__________
(1) سورة يونس الآية 99
(2) انظر: معالم التنزيل للبغوي (3 \ 499) ، وتفسير ابن كثير (5 \ 408) ، وفتح القدير للشوكاني (4 \ 252) .
(3) سورة البقرة الآية 272(79/160)
مشيئة الإيمان وإرادته ومحبته، فيؤمنون بغير قسر ولا إلجاء، بل إيمان اختيار وطاعة، كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ} (1) ، وإيمان القسر والإلجاء لا يسمى إيمانا، ولهذا يؤمن الناس كلهم يوم القيامة، ولا يسمى ذلك إيمانا؛ لأنه عن إلجاء واضطرار، قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (2) .
وما يحصل للنفوس من المعرفة والتصديق بطريق الإلجاء والاضطرار والقسر لا يسمى هدى، وكذلك قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} (3) .
فقولكم: لم يبق طريق إلى الإيمان إلا بالقسر باطل، فإنه بقي إلى إيمانهم طريق لم يرهم الله إياه، وهو مشيئته وتوفيقه وإلهامه وإمالة قلوبهم إلى الهدى، وإقامتها على الصراط المستقيم، وذلك أمر لا يعجز عنه رب كل شيء ومليكه، بل هو القادر عليه كقدرته على خلقه ذواتهم ... ولكنه عز وجل منع الكفار من ذلك لحكمته وعدله فيهم، وعدم استحقاقهم وأهليتهم لبذل ذلك لهم، كما منع السفل خصائص العلو، ومنع الحار خصائص البارد، ومنع الخبيث خصائص الطيب، ولا يقال: فلم فعل هذا؟ فإن ذلك من لوازم ملكه وربوبيته، ومن مقتضيات
__________
(1) سورة يونس الآية 99
(2) سورة السجدة الآية 13
(3) سورة الرعد الآية 31(79/161)
أسمائه وصفاته ... (1) .
وأما تأويلهم قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} (2) ، بمعنى: يكلف من يريد، أو الهداية إلى الثواب، فهذا خلاف ظاهر الآية، بل معناها: أنه سبحانه يهدي من يشاء إلى طريق الحق ابتداء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في ذلك (3) .
ويجوز أن يكون معناها أنه سبحانه يزيد من اهتدى هدى (4) .
وتأويلهم لهذه الآية ونحوها بمعنى: يكلف من يريد، باطل، فإن التكليف عام، والهدى المذكور في الآية خاص، والهدى للثواب حاصل لكل من استحقه، بل ذلك واجب على أصل القدرية، فلا يكون للتقييد بالإرادة معنى، فوجب أن يكون الهدى المذكور خاصا ببعض المكلفين، وليس هذا إلا التوفيق الذي يمن الله به على من يشاء من عباده، وهم المؤمنون المهتدون.
وقد رد عليهم الجويني في تأويلهم للهداية على معنى الإرشاد إلى طريق الجنان، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5) ، فقال: (فخصص الهداية وعمم الدعوة.
__________
(1) شفاء العليل ص (191 - 192) .
(2) سورة الحج الآية 16
(3) انظر تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار ص (271) .
(4) انظر: تفسير ابن كثير (4 \ 621) ، وفتح القدير للشوكاني (3 \ 441) .
(5) سورة يونس الآية 25(79/162)
ولا وجه لحملها على الإرشاد إلى طريق الجنان، فإن الله تعالى علق الهداية على مشيئته وإرادته واختياره، وكل مستوجب الجنان فحتم على الله - عند المعتزلة - أن يدخله الجنة) . (1) .
وأما تأويلهم إضلال الله تعالى لبعض خلقه على معنى: وجده ضالا، أو عاقبه، أو حكم عليه وسماه، وشهد عليه بذلك، وجعل له علامة على ذلك، أو أضله عن زيادة الهدى، أو عن طريق الجنة، وحملهم آيات الإضلال على ذلك فغير صحيح، لا لغة ولا شرعا (2) .
يقول أبو الحسن الأشعري في رده على تأويلات القدرية هذه: (فمن أين وجدتم في لغة العرب أن يقال: أضل فلان فلانا، أي: سماه ضالا؟ فإن قالوا: وجدنا القائل يقول: إذا قال رجل لرجل ضال: " قد ضللته "، قيل لهم: قد وجدنا العرب يقولون: " ضلل فلان فلانا " إذا سماه ضالا، ولم نجدهم يقولون: " أضل فلان فلانا " بهذا المعنى، فلما قال الله عز وجل: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} (3) ، لم يجز أن يكون معنى ذلك الاسم والحكم، إذا لم يجز في لغة العرب أن يقال: " أضل فلان فلانا " إذا سماه ضالا، بطل تأويلكم إذ كان خلاف لسان العرب) . (4) .
__________
(1) الإرشاد للجويني ص (212) .
(2) انظر متشابه القرآن ص (65 - 67) .
(3) سورة إبراهيم الآية 27
(4) الإبانة للأشعري ص (66، 67) .(79/163)
فسياق النصوص الشرعية يبطل تأويلات القدرية، ويبين أنها قيلت وصيغت بعيدا عن النصوص الشرعية، ثم حاولوا بعد ذلك تأويل النصوص التي تخالفها لتوافق هذه المعاني التي سطروها، والتي لا تتوافق مع بدعتهم وضلالهم.
ومن الآيات الصريحة في ذلك قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} (1) ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (2) ، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} (3) .
فهذه النصوص وغيرها صريحة في خلق الله تعالى للضلالة، وفيها إبطال لهذه التأويلات البعيدة التي لا تشهد لها لغة ولا شرع.
يقول ابن القيم: عن تحريفات القدرية للنصوص بما ذكروه من معان باطلة: " فهذه أربع تحريفات لكم، وهو أنه سماهم بذلك، وعلمهم بعلامة يعرفهم بها الملائكة، وأخبر عنهم بذلك، ووجدهم كذلك.
فالإخبار من جنس التسمية، وقد بينا أن اللغة لا تحتمل ذلك، وأن النصوص إذا تأملها المتأمل وجدها أبعد شيء من هذا المعنى.
__________
(1) سورة الجاثية الآية 23
(2) سورة الرعد الآية 33
(3) سورة الكهف الآية 57(79/164)
وأما العلامة فيا عجبا لفرقة التحريف وما جنت على القرآن والإيمان! ففي أي لغة وأي لسان يدل قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (1) على معنى: إنك لا تعلمه بعلامة، ولكن الله هو الذي يعلمه بها، وقوله: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} (2) من يعلمه الله بعلامة الضلال لم يعلمه غيره بعلامة الهدى ... وفي أي لغة يفهم من قول الداعي: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (3) علمنا بعلامة يعرف الملائكة بها أننا مهتدون، وقولهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (4) لا تعلمها بعلامة أهل الزيغ ... " (5) .
وأما قولهم بأن الله نسب الإضلال إلى الكفار والشياطين فيقال: نعم، إن الإضلال قد يحصل من هؤلاء، ولكن لا بمعنى الخلق، بل بمعنى التزيين والإغراء والإغواء، والفرق بين الأمرين ظاهر.
ثم إن الشبهة التي نفوا بها أفعال الله من الإضلال ونحوه (6) ، حيث زعموا أنه يلزم من نسبة هذه الأفعال إلى الله الظلم منه تعالى لعباده، فهذه الشبهة ناشئة من مذهبهم العقلي، وتشبيههم الله بخلقه.
__________
(1) سورة القصص الآية 56
(2) سورة الأعراف الآية 186
(3) سورة الفاتحة الآية 6
(4) سورة آل عمران الآية 8
(5) شفاء العليل ص (179) ، وانظر أيضا ص (177، 121، 140) .
(6) انظر المغني للقاضي عبد الجبار (8 \ 193) ، وشرح الأصول الخمسة ص (779) .(79/165)
فعندهم أن ما حسن من المخلوق حسن من الخالق، وما قبح من المخلوق قبح من الخالق، وهذا الكلام ليس على إطلاقه، فالله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) " كما أننا لا نحيط علما بحكمته سبحانه، وإن كنا نقطع أن الله سبحانه حكيم عليم، وأن جميع أفعاله لحكم وغايات محمودة قد ندرك بعضها، ونجهل الكثير منها.
ومما يزيل الشبهة في ذلك أيضا التفريق بين الخلق والمخلوق كما سبق إيضاحه، فلا تلازم بين فعل الله ومفعولاته، ففعله سبحانه كله حسن وحكمة وخير، وأما مفعولاته ففيها الخير والشر، والصلاح والفساد، والجميع خلقه سبحانه وتعالى.
- وأما تأويلاتهم الطبع والختم على القلوب وجعل الأكنة عليها على معنى تسميتها بذلك، أو وسمها، أو الحكم والشهادة عليهم بذلك (2) " فهذه التأويلات لا يشهد لها شرع، ولا لغة، بل هي من بدع القدرية، وقد قصدوا بها إنكار أن يكون لله أي فعل حقيقي في إضلال من ضل من عباده، والختم والطبع على بعض القلوب بحيث يمتنع عليها قبول الهداية أو الخروج من الغواية.
ومما يدل على بطلان تأويلاتهم هذه أن الله سبحانه ذكر الطبع والختم ونحو ذلك في معرض امتناع الإيمان منهم لأجل ذلك (3) ، كما قال
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) انظر: الكشاف للزمخشري (1 \ 158) ، ومتشابه القرآن ص (53) .
(3) انظر: تأويلات الطبع والرد عليها في: المواقف ص (319) .(79/166)
تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) ، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} (2) .
ومعنى الآية: أن الله أضله عالما به وبأقواله وما يناسبه ويليق به، ولا يصلح له غيره قبل خلقه وبعده، وأنه أهل للضلال وليس أهلا أن يهدى.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الإضلال نوعان:
- أحدهما: عقوبة لمن رد الحق، أو أعرض عنه فلم يقبله، فإنه يصرف عنه ويختم على قلبه.
- والثاني: إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى ولا يليق به، وأن محله غير قابل له، فالله أعلم حيث يضع هدايته وتوفيقه (3) .
وعلى كلا الأمرين: فالإضلال والختم والطبع هو من فعل الله وهو مانع من قبول الحق واعتناقه.
يقول ابن كثير: في معرض رده على الزمخشري في تأويله للختم على القلوب، بعد أن ذكر أن تأويلاته كلها ضعيفة: وما جرأه على ذلك
__________
(1) سورة النساء الآية 155
(2) سورة الجاثية الآية 23
(3) انظر: شفاء العليل ص (68 - 70) .(79/167)
إلا اعتزاله؛ لأن الختم على قلوبها، ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده، تعالى الله عنه في اعتقاده، ولو فهم قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (1) ، وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (2) ، وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق، وهذا عدل منه تعالى حسن، وليس بقبيح، فلو أحاط علما بهذا لما قال ما قال (3) .
وهذه الردود على القدرية تدل على فساد قولهم وتأويلاتهم الباطلة: (فإن اطراد قولهم ولازمه وحاصله هو إخراج أفعال العباد عن خلقه وملكه وأنها ليست داخلة في ربوبيته عز وجل، فلا يستعينون على طاعته ولا ترك معصيته، ولا يعوذون به من شرور أنفسهم، ولا سيئات أعمالهم، ولا يهتدون الصراط المستقيم، فقول: إياك نعبد وإياك نستعين وقول: لا حول ولا قوة إلا بالله لا معنى له عندهم، وربما استنكروه، كما جحدوا قوله تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4) . هذا مع إنكارهم علم الله عز وجل وقدرته ومشيئته وإرادته،
__________
(1) سورة الصف الآية 5
(2) سورة الأنعام الآية 110
(3) تفسير ابن كثير (1 \ 81) .
(4) سورة الأنعام الآية 39(79/168)
وغير ذلك من صفاته تبارك وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا) . (1) .
كما أنها تبين لنا أن سبب ضلال من ضل في هذا الباب هو تفريقهم بين النصوص وإيمانهم ببعضها دون بعض، وتقديم عقولهم على شرع الله سبحانه وتعالى، كما يتضح لنا أن قول أهل السنة والجماعة هو القول الحق الذي تفهم به نصوص الكتاب والسنة، وهو ما سيتضح لنا إن شاء الله تعالى في المطلب الثالث.
__________
(1) انظر معارج القبول (2 \ 353، 354) .(79/169)
المطلب الثالث: قول أهل السنة والجماعة
قول أهل السنة والجماعة في الإيمان بالقضاء والقدر هو القول الحق الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وهو ما كان عليه السابقون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله عز وجل خالق كل شيء ومليكه، وأنه سبحانه وتعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته، فهو القادر على كل شيء، وأنه سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، من أفعال العباد وغيرها، وأنه عز وجل قد قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم فقدر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم، وكتب ذلك فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون، كما(79/169)
يؤمنون بأن للعباد مشيئة وقدرة، يفعلون بمشيئتهم وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه مع قولهم: إن العباد لا يشاءون إلا أن يشاء الله كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} (1) {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} (2) {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (3) ، (4) .
هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان بالقضاء والقدر وهو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وأجمع السلف الصالح عليه، يقول ابن بطة: وهو يبين معتقد أهل السنة والجماعة في مسألة القضاء والقدر: ( ... ثم من بعد ذلك الإيمان بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وقليله وكثيره، مقدور واقع من الله عز وجل على العباد في الوقت الذي أراد أن يقع، لا يتقدم الوقت ولا يتأخر على ما سبق بذلك علم الله، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما تقدم لم يكن ليتأخر، وما تأخر لم يكن ليتقدم، وفي هذا من صحة الدلائل وثبوت الحجة في جميع القرآن وأخبار المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ما لا يمكن دفعه، ولا يقدر على رده إلا بالافتراء على الله عز وجل ومنازعته في قدره، وإلى ما وصفناه دعت الرسل وأنزلت الكتب، وعليه اتفق أهل التوحيد ممن أقر لله بالربوبية وعلى نفسه بالعبودية من ملك مقرب ونبي مرسل، منذ كان الخلق إلى انقضائه مجمعون على أنه ليس
__________
(1) سورة المدثر الآية 54
(2) سورة المدثر الآية 55
(3) سورة المدثر الآية 56
(4) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8 \ 449 - 452) .(79/170)
شيء كان ولا شيء يكون في السماوات ولا في الأرض إلا ما أراده الله عز وجل وشاءه وقضاه، والخلق كلهم أضعف في قوتهم وأعجز في أنفسهم من أن يحدثوا بسلطان الله عز وجل شيئا يخالفون فيه مراده، ويغلبون مشيئته ويردون قضاءه، فالإيمان بهذا حق لازم فريضة من الله عز وجل على خلقه، فمن خالف ذلك أو خرج عنه أو طعن فيه ولم يثبت المقادير لله عز وجل ويضيفها ويضيف المشيئة إليه فهو أول الزنادقة) . (1) .
ويقول النووي: (وقد تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى ... ) . (2) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهب أهل السنة والجماعة أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، لا رب غيره ولا خالق سواه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، والعبد مأمور بطاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، منهي عن معصيته ومعصية رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن أطاع كان ذلك نعمة، وإن عصى كان مستحقا للذم والعقاب، وكان لله عليه الحجة البالغة، ولا حجة لأحد على الله تعالى، وكل ذلك كائن بقضائه وقدره ومشيئته وقدرته، لكن يحب الطاعة ويأمر بها ويثيب أهلها على فعلها، ويكرمهم،
__________
(1) الشرح والإبانة لابن بطة ص (193 - 196) .
(2) شرح صحيح مسلم للنووي (1 \ 155) .(79/171)
ويبغض المعصية، وينهى عنها ويعاقب أهلها ويهينهم، وما يصيب العبد من النعم فالله أنعم بها عليه، وما يصيبه من الشر فبذنوبه ومعاصيه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (1) ، وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (2) أي: ما أصابك من خصب ونصر وهدى، فالله أنعم به عليك، وما أصابك من حزن وذل وشر فبذنوبك وخطاياك، وكل الأشياء كائنة بمشيئة الله وقدرته وخلقه، فلا بد أن يؤمن العبد بقضاء الله وقدره وأن يوقن العبد بشرع الله وأمره (3) .
وبهذا يتبين صحة ما عليه أهل السنة والجماعة من الاعتقاد وفساد ما عليه أهل الأهواء والبدع من الجبرية والقدرية وغيرهم ممن سلك سبيلهم وسار على نهجهم، فمن أراد النجاة والسعادة في الدارين فليسلك ما سلكه سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى.
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة النساء الآية 79
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (8 \ 63 - 64) .(79/172)
الخاتمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
فأجمل أهم ما توصلت إليه من فوائد في هذا البحث في الأمور(79/172)
التالية:
1 - أن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، وأصل من أصوله، لا يتم التوحيد إلا بالإيمان به.
2 - أن القضاء والقدر متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، ولم يرد دليل في الكتاب والسنة لبيان الفرق بينهما.
3 - دلت الأدلة الكثيرة في كتاب الله عز وجل وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر وفق فهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
4 - أن الأقوال المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة أقوال باطلة ومنحرفة زينها الشطان لهم وجعلهم يردون النصوص ويحرفونها من أجل ذلك.
5 - أن قول أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر هو القول الحق الذي يجب اعتقاده والأخذ به.
وفي الختام أسال الله تبارك وتعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم وأن ينفع بهذا البحث وأن يكتب لي فيه الأجر والثواب إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(79/173)
الولاء والبراء
وأحكام التعامل مع الكفار والمبتدعة والفساق
لفضيلة الدكتور: عبد الله بن عبد العزيز الجبرين (1)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:
فنظرا لأهمية موضوع الولاء والبراء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله (2) » ، وللحاجة الملحة لكثير من المسلمين لمعرفة أحكام التعامل مع الكفار ومع المبتدعة والعصاة لوجودهم في كثير من الأحيان بينهم، ولاضطرارهم للتعامل معهم أحببت أن أبين بعض المسائل والأحكام التي تتعلق بهذا الموضوع.
ومما ينبغي أن يعلم أنه لو طبق المسلمون أحكام هذه المسائل على الوجه الصحيح لما حصلت كثير من المآسي التي نراها أو نسمع بها والتي تقع من كثير من المسلمين والتي هي ما بين غلو أو جفاء في هذا الباب. وقد حرصت على توضيح أحكام هذه الموضوعات ومسائلها وتبسيطها ليستفيد منها طالب العلم والمبتدئ، وقد توسعت في تفصيل
__________
(1) عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بالرياض.
(2) مسند أحمد (4/286) .(79/175)
بعض المسائل في حواشي الكتاب؛ ليستفيد من ذلك من يريد التوسع في مسائل هذا الموضوع.
أسأل الله أن ينفع بهذا العمل كاتبه وجميع المسلمين إنه جواد كريم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(79/176)
المبحث الأول: تعريف الولاء والبراء وبيان حكمهما
الولاء في اللغة: المحبة والنصرة، والقرب. والولي: المحب والصديق والنصير، وهو ضد العدو. والموالاة والولاية: ضد المعاداة.
والولاء في الاصطلاح هو: محبة المؤمنين لأجل إيمانهم، ونصرتهم والنصح لهم، وإعانتهم، ورحمتهم، وما يلحق بذلك من حقوق المؤمنين.
وهذا الولاء يكون في حق المسلم الذي لم يصر على شيء من كبائر الذنوب.
أما إذا كان المسلم مصرا على شيء من كبائر الذنوب، كالربا، أو الغيبة، أو إسبال الثياب، أو حلق شعر العارضين والذقن (اللحية) أو غير ذلك؛ فإنه يحب بقدر ما عنده من الطاعات، ويبغض بقدر ما عنده من المعاصي.
والمحبة للمسلم العاصي تقتضي أن يهجر إذا كان هذا الهجر يؤدي إلى إقلاعه عن هذه المعصية وإلى عدم فعل ما يشبهها من قبله أو من قبل غيره، كما هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وأمر الصحابة أن يهجروهم، فلم يكلموهم خمسين يوما. متفق عليه، ومن الهجر لهم: أن لا يبدءوا بالسلام، ولا يرد عليهم إذا سلموا،(79/177)
ويقاطعوا بالكلام والزيارة ونحو ذلك.
هذا وإذا كان العاصي لا يزيده الهجر إلا تماديا في السوء وركونا إلى أهل السوء أو غير ذلك من المفاسد فإنه لا يهجر.
كما أن المحبة للمسلم العاصي تقتضي مناصحته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ليفعل الخير ويجتنب المعصية، فينجو من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، كما تقتضي المحبة للعاصي إقامة الحدود والتعزيرات عليه ليتوب ويرجع إلى الله تعالى، ولتكون تطهيرا له من ذنوبه.
وقريب من العاصي: المتهم بالنفاق، فيوالى بقدر ما يظهر منه من الخير، ويعادى بقدر ما يظهر منه من الخبث، وإذا تبين نفاقه وحكم عليه بالنفاق فحكمه في باب الولاء والبراء حكم بقية الكفار على ما سيأتي بيانه في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى.
أما المبتدعة كالجهمية والقدرية والرافضة والأشاعرة ونحوهم فهم(79/178)
ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من كان منهم داعيا إلى بدعته أو مظهرا لها وكانت بدعته غير مكفرة فيجب بغضه بقدر بدعته (1) ، كما يجب هجره ومعاداته، وهذا مجمع عليه بين أهل العلم، فلا تجوز مجالسته، ولا التحدث معه إلا في حال دعوته ونصحه، وهذه المجالسة إنما تجوز في حق العلماء خاصة (2) .
أما من لم يكن من العلماء فلا يجوز له مجالسة المبتدع، ولا أن يسمع كلامه، ولا أن يجادله، ولا أن يقرأ ما يكتبه، لئلا يقع في قلبه شيء من بدعته، ولئلا يؤثر عليه بما يثيره من الشبهات بين الحين والآخر.
__________
(1) موقف أهل السنة من أهل الأهواء والبدع للرحيلي ص 529 - 564.
(2) ينظر: شرح لمعة الاعتقاد لشيخنا محمد بن عثيمين ص 159، 160.(79/179)
قال الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ - رحمه الله -: (مواكلة الرافضي والانبساط معه وتقديمه في المجالس والسلام عليه لا يجوز؛ لأنه موالاة وموادة، والله تعالى قد قطع الموالاة بين المسلمين والمشركين.. وقال الحسن: لا تجالس صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك، وقال النخعي: لا تجالسوا أهل البدع، ولا تكلموهم، فإني أخاف أن ترتد قلوبكم؛ فانظر رحمك الله: إلى كلام السلف الصالح، وتحذيرهم عن مجالسة أهل البدع، والإصغاء إليهم، وتشديدهم في ذلك، ومنعهم من السلام عليهم. فكيف بالرافضة: الذين أخرجهم أهل السنة والجماعة من الثنتين والسبعين فرقة؟ مع ما هم عليه من الشرك البواح، من دعوة غير الله في الشدة والرخاء، كما هو معلوم من حالهم، ومواكلتهم، والسلام عليهم - والحالة هذه - من أعظم المنكرات، وأقبح السيئات، فيجب هجرهم والبعد عنهم، والهجر مشروع لإقامة الدين، وقمع المبطلين، وإظهار شرائع المرسلين، وردع لمن خالف طريقتهم من المعتدين) . (1) .
وقال المروذي لأحمد بن حنبل: أيستعان باليهودي والنصراني وهما مشركان ولا يستعان بالجهمي؟ فقال: يا بني، يغتر بهم المسلمون، وأولئك لا يغتر بهم المسلمون. وقال الإمام أحمد أيضا: (يجب هجر من كفر أو فسق ببدعة، أو دعا إلى بدعة مضلة أو مفسقة على من عجز عن الرد عليه أو خاف الاغترار به والتأذي، دون غيره) .
__________
(1) الدرر السنية 8 \ 439، 440.(79/180)
وقال ابن قدامة: (كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع والنظر في كتبهم والاستماع لكلامهم) . (1) .
أما السلام على المبتدع والرد عليه إذا سلم فهو جائز، لكن يستحب ترك السلام عليه، وترك إجابة سلامه، إذا كان في ذلك مصلحة، كأن يكون ذلك سببا في تركه لها، أو ليعلم من حوله قبح عمله وعقيدته، ليحذره العامة، ونحو ذلك.
والقسم الثاني من المبتدعة: من كانت بدعته مكفرة، كغلاة الصوفية الذين يدعون الأموات والمشايخ، وكغلاة الرافضة (الشيعة الإمامية) الذين يزعمون أن القرآن محرف أو بعضه غير موجود أو يستغيثون بالمخلوقين، فهؤلاء إذا أقيمت عليهم الحجة وحكم بكفرهم فحكمهم في باب الولاء والبراء حكم بقية الكفار على ما سيأتي تفصيله في المبحث الآتي - إن شاء الله تعالى -.
__________
(1) الآداب الشرعية 1 \ 232 - 237، 256.(79/181)
والقسم الثالث: من كان يخفي بدعته ولا يدعو إليها ولا يحسن شيئا من ضلالاتها ولا يمدح أهلها ولا يثير بعض الشبه التي تؤيدها فهو كالعاصي المخفي لمعصيته، يجالس ويسلم عليه، ولا يهجر.
والبراء في اللغة: التباعد عن الشيء ومفارقته، والتخلص منه، يقال: تبرأت من كذا، فأنا منه براء، وبريء منه. وفي الاصطلاح: بغض أعداء الله من المنافقين وعموم الكفار، وعداوتهم، والبعد عنهم، وجهاد الحربيين منهم بحسب القدرة.
وحكم الولاء والبراء أنهما واجبان، وهما أصل عظيم من أصول الإيمان.
فقد وردت أدلة كثيرة جدا تدل على وجوب موالاة المؤمنين ووجوب البراء من جميع الكافرين من يهود ونصارى وبوذيين وعباد أصنام ومنافقين وغيرهم، وعلى تحريم موالاتهم، حتى قال بعض أهل العلم: (أما معاداة الكفار والمشركين: فاعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب ذلك وأكد إيجابه، وحرم موالاتهم وشدد فيها، حتى إنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده) . ولهذا قال النبي صلى الله عليه(79/182)
وسلم: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله (1) » . .
ومن وأوضح الأدلة على وجوب الولاء للمؤمنين قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) ، ومن أوضح الأدلة على وجوب البراء من الكافرين وتحريم موالاتهم قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (3) ، وقد أجمع أهل العلم على وجوب الولاء للمؤمنين وعلى تحريم الولاء للكافرين.
__________
(1) مسند أحمد (4/286) .
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة الممتحنة الآية 4(79/183)
المبحث الثاني: مظاهر الولاء المشروع والولاء المحرم وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مظاهر الولاء المشروع
هناك أمور كثيرة تدخل في الولاء المشروع، وأهم هذه الأمور والمظاهر ما يلي:
1 - محبة جميع المؤمنين في جميع الأماكن والأزمان ومن أي جنسية كانوا من أجل إيمانهم وطاعتهم لله تعالى، وهذه المحبة واجبة على كل مسلم، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم (1) » . .
وينبغي للمسلم الحذر من معاداة أحد من المؤمنين من أجل دنيا أو تعصب قبلي أو مذهبي أو من أجل مشاجرة حصلت بينهما، فإن معاداة المؤمن الذي هو من أولياء الله تعالى حرب لله تعالى، فقد جاء في الحديث
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (54) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2688) ، سنن أبي داود الأدب (5193) ، سنن ابن ماجه الأدب (3692) ، مسند أحمد (2/512) .(79/184)
القدسي أن الله تعالى قال: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب (1) » . رواه البخاري.
2 - نصرة المسلم لأخيه المسلم إذا ظلم أو اعتدي عليه في أي مكان، ومن أي جنسية كان، وذلك بنصرته باليد، وبالمال، وبالقلم، وباللسان فيما يحتاج إلى النصرة فيه، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما (2) » . رواه البخاري. والأمر للوجوب.
فيجب على المسلم أن ينصر المسلمين إذا اعتدى عليهم الأعداء، فإذا اعتدى الكفار على بلد من بلاد المسلمين وعجز أهلها عن صد عدوانهم وجب على من يليهم من المسلمين نجدتهم والدفاع عنهم بالأموال والأنفس، وكذلك يجب على المسلم أن يعين أخاه على أخذ حقه ممن ظلمه، وأن يذب عن عرض أخيه المسلم إذا اغتيب أو قدح فيه وهو يسمع، كما يجب على المسلم أن يدافع عن المسلمين بلسانه أو قلمه عندما يقدح فيهم أحد في كتاب أو غيره، وهذا كله من فروض الكفايات.
3 - مساعدتهم بالنفس والمال عند اضطرارهم إلى ذلك. فيجب على المسلم أن يعين أخاه المسلم ببدنه عند اضطراره إلى
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6502) .
(2) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد (3/201) .(79/185)
ذلك، فيجب عليه مثلا إذا وجده منقطعا في سفر أن يعينه بإصلاح ما يحتاج إليه لمواصلة سفره، ونحو ذلك، ويجب عليه أن يعينه بماله - عند اضطراره إلى ذلك، كأن يكون فقيرا ولم يجد ما يأكله هو وأولاده فيجب على الأغنياء من المسلمين مساعدته، وهذا كله من فروض الكفايات، فإن لم يوجد ممن يستطيع مساعدته إلا شخص واحد كان فرض عين عليه.
4 - التألم لما يصيبهم من المصائب والأذى، والسرور بنصرهم، وجميع ما فيه خير لهم، والرحمة لهم، وسلامة الصدر نحوهم، قال تعالى في وصف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (1) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (2) » . رواه البخاري ومسلم.
هذا وهناك أمور أخرى تدخل في الولاء للمسلمين يطول الكلام بذكرها، منها ما هو فرض عين على المسلم، كتشميت العاطس، وكف أذاه عنهم.
ومنها ما هو فرض كفاية، كرد السلام، وتجهيز الميت، والصلاة عليه، ودفنه، والقيام بما يحتاج إليه المسلمون في أمور دينهم من طلب للعلم، ومن تعليم له، ومن دعوتهم إلى الله تعالى وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ومن القيام بما يحتاجون إليه في أمور دنياهم من أمور
__________
(1) سورة الفتح الآية 29
(2) صحيح مسلم الإيمان (45) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2515) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5039) ، سنن ابن ماجه المقدمة (67) ، سنن الدارمي الرقاق (2741) .(79/186)
الطب والصناعة والزراعة وغيرها، ومن تحذيرهم مما يضرهم، وإرشادهم إلى ما ينفعهم في أمور حياتهم. ومنها ما هو مستحب، كعيادة المريض، ومساعدة المحتاج غير المضطر بالبدن والمال، والدعاء لهم، والسلام على من لقيه منهم، وغير ذلك.(79/187)
المطلب الثاني: مظاهر الولاء المحرم
موالاة أعداء الله من عباد الأصنام والبوذيين والمجوس واليهود والنصارى والمنافقين وغيرهم والتي هي ضد البراء بجميع أقسامها وأمثلتها محرمة بلا شك - كما سبق بيانه - وهي تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الموالاة الكفرية
بعض مظاهر وأمثلة الولاء المحرم مظاهر كفرية تخرج مرتكبها من ملة الإسلام، وهي كثيرة، أهمها:
1 - الإقامة ببلاد الكفار اختيارا لصحبتهم مع الرضى بما هم عليه من الدين، أو مع القيام بمدح دينهم، وإرضائهم بعيب المسلمين، فهذه الموالاة ردة عن دين الإسلام، قال الله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} (1) فمن تولى الكافرين ورضي عن دينهم، وابتعد عن المسلمين
__________
(1) سورة آل عمران الآية 28(79/187)
وعابهم فهو كافر عدو لله ولرسله ولعباده المؤمنين.
2 - أن يتجنس المسلم بجنسية دولة كافرة تحارب المسلمين، ويلتزم بجميع قوانينها وأنظمتها بما في ذلك التجنيد الإجباري، ومحاربة المسلمين ونحو ذلك، فالتجنس على هذه الحال محرم لا شك في تحريمه، وقد ذكر بعض أهل العلم أنه كفر وردة عن دين الإسلام بإجماع المسلمين (1) ، وقد سئلت لجنة الفتوى بمصر برئاسة الشيخ علي محفوظ عن حال من يتجنس بجنسية دولة كافرة حالها كما ذكر آنفا، فقالت: (إن التجنس بجنسية أمة غير مسلمة على نحو ما في السؤال هو تعاقد على نبذ أحكام الإسلام عن رضى واختيار، واستحلال لبعض ما حرم الله، وتحريم لبعض ما أحل الله، والتزام لقوانين أخرى يقول الإسلام ببطلانها، وينادي بفسادها، ولا شك أن شيئا من ذلك لا يمكن إلا بالردة، ولا ينطبق عليه حكم إلا حكم الردة، فما بالك بهذه الأربعة مجتمعة في ذلك التجنس الممقوت) . وهذا كله فيما إذا كان ذلك عن رغبة ورضى من المسلم، أما إن كان ملجأ إلى ذلك لعدم وجود بلد مسلم يمكنه الهجرة إليه أو لعدم وجود بلد كافر أحسن
__________
(1) كما قال علامة مصر محمد رشيد رضا. ينظر مجلة المنار (مجلد 25، ج 1، ص 22) .(79/188)
حالا من حال هذا البلد المحارب للمسلمين ينتقل إليه، فحكمه حكم المكره، فلا يحرم عليه ذلك إذا كره ذلك بقلبه.
3 - التشبه المطلق بالكفار، بأن يتشبه بهم في أعمالهم، فيلبس لباسهم، ويقلدهم في هيئة الشعر وغيرها، ويسكن معهم، ويتردد معهم على كنائسهم، ويحضر أعيادهم، فمن فعل ذلك فهو كافر مثلهم بإجماع أهل العلم (1) ، وقد ثبت عن عبد الله بن عمرو قال: " من بنى ببلاد الأعاجم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة " (2)
4 - أن يتشبه بهم في أمر يوجب الخروج من دين الإسلام، كأن يلبس الصليب تبركا به مع علمه بأنه شعار للنصارى وأنهم يشيرون بلبسه إلى عقيدتهم الباطلة في عيسى عليه السلام، حيث يزعمون أنه قتل وصلب، ومع علمه بأن الله تعالى نفى ذلك في كتابه بقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (3)
5 - أن يزور كنائسهم معتقدا أن زيارتها قربة إلى الله تعالى (4) .
6 - الدعوة إلى وحدة الأديان، أو إلى التقريب بين الأديان، فمن
__________
(1) ينظر التعليق الذي يلي التعليق الآتي، وينظر الاقتضاء 1 \ 242.
(2) ''رواه البيهقي في سننه في الجهاد 9 - 234 بإسنادين '''' وهو حسن بمجموع الطريقين. ''
(3) سورة النساء الآية 157
(4) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 27 - 14، مختصر الفتاوى المصرية ص 514.(79/189)
قال: إن دينا غير الإسلام دين صحيح ويمكن التقريب بينه وبين الإسلام أو إنهما دين واحد صحيح فهو كافر مرتد، بل إن من شك في بطلان جميع الأديان غير دين الإسلام كفر، لرده لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (1) ولرده لما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة من أن دين الإسلام قد نسخ جميع الأديان السابقة، وأنها كلها أديان محرفة، وأن من دان بشيء منها فهو كافر مشرك.
والدعوة إلى توحيد الأديان دعوة إلحادية قديمة، دعا إليها بعض ملاحدة الصوفية المتقدمين، كابن سبعين، والتلمساني وغيرهم، وجدد الدعوة إليها في هذا العصر بعض المنتسبين إلى الإسلام، ومن أشهرهم جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده المصري، ورجاء جارودي وغيرهم (2) .
7 - موالاة الكفار بإعانتهم على المسلمين:
إعانة الكفار على المسلمين سواء أكانت بالقتال معهم، أم بإعانتهم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2) ينظر: الصفدية 1 \ 98، 99، 268، مجموع الفتاوى 14 \ 164، 165.(79/190)
بالمال أو السلاح، أم كانت بالتجسس لهم على المسلمين أم غير ذلك، تكون على وجهين.
الوجه الأول
أن يعينهم بأي إعانة، محبة لهم ورغبة في ظهورهم على المسلمين، فهذه الإعانة كفر مخرج من الملة) .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) : (وذلك الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان توليا تاما، كان ذلك كفرا مخرجا عن دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ وما هو دونه) .
وقال أيضا في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (2) : إن التولي التام يوجب الانتقال إلى دينهم، والتولي القليل يدعو إلى الكثير، ثم يتدرج شيئا فشيئا حتى يكون العبد منهم) .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بعد ذكره لقصة حاطب ونزول صدر سورة الممتحنة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (3)
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 9
(2) سورة المائدة الآية 51
(3) سورة الممتحنة الآية 1(79/191)
الآيات في شأن حاطب، قال: (فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه، وله خصوص السبب، الدال على إرادته، مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل، لكن قوله: (صدقكم، خلوا سبيله) ظاهر في أنه لا يكفر بذلك، إذ كان مؤمنا بالله ورسوله، غير شاك ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي، ولو كفر لما قال: خلوا سبيله. ولا يقال، قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم (1) » هو المانع من تكفيره؛ لأنا نقول: لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من لحاق الكفر وأحكامه؛ فإن الكفر يهدم ما قبله، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (2) ، وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع؛ فلا يظن هذا.
وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (4) ، وقوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (5) وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (6)
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3007) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2494) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3305) ، سنن أبي داود الجهاد (2650) ، مسند أحمد (1/80) .
(2) سورة المائدة الآية 5
(3) سورة الأنعام الآية 88
(4) سورة المائدة الآية 51
(5) سورة المجادلة الآية 22
(6) سورة المائدة الآية 57(79/192)
فقد فسرته السنة وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة.
وأصل الموالاة هو: الحب، والنصرة، والصداقة، ودون ذلك، مراتب متعددة، ولكل ذنب حظه وقسط من الوعيد والذم انتهى كلام الشيخ عبد اللطيف - رحمه الله -.
وقد حكى غير واحد من أهل العلم إجماع العلماء على أن إعانة الكفار على المسلمين محبة لهم ورغبة في انتصارهم على المسلمين كفر مخرج من الملة.
الوجه الثاني:
أن يعين الكفار على المسلمين بأي إعانة ويكون الحامل له على(79/193)
ذلك مصلحة شخصية، أو خوفا، أو عداوة دنيوية بينه وبين من يقاتله الكفار من المسلمين، فهذه الإعانة محرمة، وكبيرة من كبائر الذنوب، ولكنها ليست من الكفر المخرج من الملة.
ومن الأدلة على أن هذه الإعانة غير مكفرة: ما حكاه الإمام الطحاوي من إجماع أهل العلم على أن الجاسوس المسلم لا يجوز قتله، ومقتضى ما حكاه الطحاوي أنه غير مرتد.
ومستند هذا الإجماع: أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه قد جس على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى المسلمين في عزوة فتح مكة،
فكتب كتابا إلى مشركي مكة يخبرهم فيه بمسير النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، وكان النبي - عليه الصلاة والسلام - قد أخفى وجهة سيره؛ لئلا تستعد قريش للقتال، وكان الدافع لحاطب ولكتابة هذا الكتاب هو مصلحة شخصية، ومع ذلك لم يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بردته، ولم يقم عليه حد الردة، فدل ذلك على أن ما عمله ليس كفرا مخرجا(79/194)
من الملة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عند كلامه على الكفار: (وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة، فتكون ذنبا ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافرا، كما حصل من حاطب لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل الله فيه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (1) ، وكما حصل
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 1(79/195)
لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أبي في قصة الإفك، فقال لسعد بن معاذ: والله لا تقتله، ولا تقدر على قتله. قالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية. ولهذه الشبهة سمي عمر حاطبا منافقا.. فكان عمر متأولا في تسميته منافقا للشبهة التي فعلها.
فإذا ثبت أن ما فعله حاطب ليس ردة - وهذا مجمع عليه - مع أن رسالته لو وصلت إلى مشركي مكة لاستعدت قريش للحرب، وهذا خلاف ما قصد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من تعمية خبر غزوه لهم، فما عمله حاطب إعانة عظيمة للكفار في حربهم للمسلمين في غزوة من أهم الغزوات الفاصلة في الإسلام - إذا ثبت ذلك علم أن الإعانة لا تكون كفرا حتى يكون الحامل عليها محبة الكفار والرغبة في انتصارهم على المسلمين.
وهذا كله إنما هو في حق من كان مختارا لذلك، أما من كان مكرها أو ملجئا إلى ذلك إلجاء اضطراريا كمن خرج مع الكفار لحرب المسلمين مكرها ونحو ذلك فلا ينطبق عليه هذا الحكم لقوله تعالى:(79/196)
{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (1) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 28(79/197)
القسم الثاني: المولاة المحرمة غير الكفرية:
هناك مظاهر وأمثلة من الولاء المحرم - الذي هو ضد البراء - لا تخرج صاحبها من الإسلام، ولكنها محرمة -كما سبق - وهي كثيرة، أهمها:
1- محبة الكفار واتخاذهم أصدقاء قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) والمودة: المحبة، وقال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (2) .
__________
(1) سورة المجادلة الآية 22
(2) سورة الممتحنة الآية 4(79/197)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحب رجل قوما إلا جاء معهم يوم القيامة (1) » .
والواجب على المسلم بغض جميع الكفار والمشركين، والبعد عنهم، وهذا مجمع عليه بين المسلمين، وذلك لأن الكفار يحادون الله تعالى ويبارزونه بأعظم المعاصي بجعل شريك معه في عبادته أو بادعاء أن له صاحبة أو ولدا أو بغير ذلك مما فيه تنقص لله تعالى، فهم أعداء الله تعالى، فيجب التقرب إلى الله تعالى ببغضهم ومعاداتهم، وعدم الركون إليهم، قال شيخنا محمد بن عثيمين: (الكافر عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، ويجب علينا أن نكرهه بكل قلوبنا) .
2 - الاستيطان الدائم في بلاد الكفار، فلا يجوز للمسلم الانتقال
__________
(1) رواه أبو يعلى (4666) وسنده صحيح رجاله رجال الصحيحين، وله طرق أخرى وشواهد تنظر في مجمع الزوائد 1 \ 37، والسلسلة الصحيحة (1387) .(79/198)
إلى بلاد الكفار للاستيطان فيها. قال الشيخ عبد الله الأهدل اليماني الشافعي في السيف البتار على من يوالي الكفار: (وحكم من ينتقل إلى البلدة التي استولى عليها أهل الشرك أنه عاص فاسق مرتكب لكبيرة من كبائر الإثم إن لم يرض بالكفر وأحكامه، وإلا فإن رضي بها فهو كافر مرتد، تجري عليه أحكام المرتد، وليتأمل العاقل ما الحامل لهذا المسلم من النقلة من دار الإسلام الخالية عن الكفار إلى الدار التي أخذها الكفار وأظهروا فيها كفرهم وقهروا من فيها بأحكامهم الطاغوتية الكفرية إلا الزيغ - والعياذ بالله تعالى - وحب الدنيا التي هي رأس كل خطيئة وجمع حطامها من غير مبالاة بالدين وعدم الأنفة من إهانة أهل التوحيد، ومحبة جوار أعداء الله على جوار أوليائه) (1) .
قال شيخنا محمد بن عثيمين: (كيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر، ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله، وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بأذنه ويرضى به، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين، مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه، وعلى أهله وأولاده في دينهم وأخلاقهم) (2) .
كما لا يجوز للمسلم التجنس بجنسية الدولة الكافرة ولو كان
__________
(1) السيف البتار ص 7.
(2) ينظر: مجموع فتاويه 3 \ 30.(79/199)
يستطيع إظهار شعائر دينه فيها إلا في حال الضرورة، «لقول جرير بن عبد الله رضي الله عنه: بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على النصح لكل مسلم، وعلى مفارقة المشرك (1) » .
وإذا أسلم الكافر وبلده بلا كفر فإن كان لا يستطيع إظهار شعائر دينه ويستطيع الهجرة وجبت عليه الهجرة إلى بلد من بلاد المسلمين بإجماع أهل العلم، ولا يجوز له البقاء في هذا البلد إلا في حال الضرورة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (2)
__________
(1) رواه الإمام أحمد 4 \ 365 والنسائي (4186، 4187) بسند صحيح، وله شاهد بنحو رواه أحمد 5 \ 3، 4، 5 بسند حسن، وله شاهد آخر رواه أبو داود (2645) ، والترمذي (1604) بسند الراجح أنه مرسل، بلفظ: ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تتراءى ناراهما)) ، وله شاهد ثالث رواه أبو داود (2787) بسند ضعيف، فيه رجل ليس بالقوي، وآخر مجهول، ورجلان لم يوثقا، ولفظه: ((من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله)) .
(2) سورة النساء الآية 97(79/200)
{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (1) .
أما إن كان المسلم يستطيع إظهار شعائر دينه من توحيد وصلاة وتعلم لأحكام الإسلام وتمسك بالحجاب للمرأة وغيرها فالهجرة إلى بلاد المسلمين مستحبة في حقه حينئذ، ويجوز له أن يبقى في بلده الأول، فقد روى أبو سعيد الخدري «أن أعرابيا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الهجرة، فقال: (إن شأن الهجرة لشديد، فهل لك من إبل؟) قال: نعم. قال: (فهل تؤتي صدقتها؟) قال: نعم. قال: (فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئا (2) » متفق عليه.
وقد يستحب له البقاء في بلده الأول إذا كان في ذلك مصلحة شرعية، كالدعوة إلى الإسلام، ونحو ذلك.
3 - السفر إلى بلاد الكفر في غير حال الحاجة، فيحرم على المسلم أن يسافر إليها إلا في حال الحاجة، فإن كانت هناك حاجة إلى السفر إلى
__________
(1) سورة النساء الآية 98
(2) صحيح البخاري الأدب (6165) ، صحيح مسلم الإمارة (1865) ، سنن النسائي البيعة (4164) ، سنن أبي داود الجهاد (2477) ، مسند أحمد (3/64) .(79/201)
تلك البلاد سواء كانت خاصة بالمسافر أو عامة للمسلمين جاز له السفر بثلاثة شروط:
الأول: أن يكون من يذهب إلى تلك البلاد ذا علم بأمور دينه، وعنده علم ودراية بالأمور النافعة والضارة.
الثاني: أن يكون في مأمن وبعد عن أسباب الفتنة في الدين والخلق. الثالث: أن يكون قادرا على إظهار شعائر دينه.
ومن الحاجات التي يجوز السفر من أجلها: السفر للدعوة إلى الله تعالى، والسفر للتجارة، والسفر للعلاج، والسفر لحاجة المسلمين في تلك البلاد كسفراء الحكومات المسلمة ونحوهم، والسفر لتعلم علم يحتاجه المسلمون ولا يوجد إلا في بلاد الكفر.
قال شيخنا محمد بن عثيمين عند ذكره لأقسام السفر إلى بلاد الكفار، وبعد ذكره للشرطين الثاني والثالث السابقين، قال: (القسم الخامس: أن يقيم للدراسة وهي من جنس الإقامة للتجارة والعلاج، فهي لها حاجة لكنها أخطر منها وأشد فتكا بدين المقيم وأخلاقه، فإن الطالب يشعر بدنو مرتبته وعلو مرتبة معلميه، فيحصل من ذلك تعظيمهم والاقتناع بآرائهم وأفكارهم وسلوكهم، فيقلدهم إلا من شاء الله عصمته وهم قليل، ثم إن الطالب يشعر بحاجته إلى معلمه فيؤدي إلى التودد إليه ومداهنته فيما هو عليه من الانحراف والضلال، والطالب في مقر تعلمه له زملاء يتخذ منهم أصدقاء يحبهم ويتولاهم ويكتسب منهم، ومن أجل(79/202)
خطر هذا القسم وجب التحفظ فيه أكثر مما قبله، فيشترط فيه بالإضافة إلى الشرطين الأساسيين شروط.
الشرط الأول: أن يكون الطالب على مستوى كبير من النضوج العقلي الذي يميز به بين النافع والضار وينظر به إلى المستقبل البعيد، فأما بعث الأحداث (صغار السن) وذوي العقول الصغيرة فهو خطر عظيم على دينهم، وخلقهم، وسلوكهم، ثم هو خطر على أمتهم التي سيرجعون إليها وينفثون فيها من السموم التي نهلوها من أولئك الكفار كما شهد ويشهد به الواقع، فإن كثيرا من أولئك المبعوثين رجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا منحرفين في ديانتهم، وأخلاقهم وسلوكهم، وحصل عليهم وعلى مجتمعهم من الضرر في هذه الأمور ما هو معلوم مشاهد، وما مثل بعث هؤلاء إلا كمثل تقديم النعاج للكلاب الضارية.
الشرط الثاني: أن يكون عند الطالب من علم الشريعة ما يتمكن به من التمييز بين الحق والباطل، ومقارعة الباطل بالحق، لئلا ينخدع بما هم عليه من الباطل فيظنه حقا أو يلتبس عليه أو يعجز عن دفعه فيبقى حيران أو يتبع الباطل.
الشرط الثالث: أن يكون عند الطالب دين يحميه ويتحصن به من الكفر والفسوق، فضعيف الدين لا يسلم مع الإقامة هناك إلا أن يشاء الله، وذلك لقوة المهاجم وضعف المقاوم، فأسباب الكفر والفسوق هناك قوية وكثيرة ومتنوعة فإذا صادفت محلا ضعيف المقاومة عملت عملها.(79/203)
الشرط الرابع: أن تدعو الحاجة إلى العلم الذي أقام من أجله بأن يكون في تعلمه مصلحة للمسلمين ولا يوجد له نظير في المدارس في بلادهم) (1) .
أما السفر إلى بلاد الكفر من أجل السياحة ونحوها فهو سفر محرم، لعموم الأحاديث المذكورة في الفقرة السابقة، فإن فيها المنع من الإقامة في بلد الكفر، وهذا يشمل الإقامة اليسيرة، كاليوم واليومين، ولما في ذلك من تعرض دين المسلم وخلقه للخطر من غير ضرورة أو حاجة.
4 - مشاركة الكفار في أعيادهم الدينية، كعيد رأس السنة الميلادية
__________
(1) ينظر: مجموع فتاويه 3 \ 28، 29، وينظر: المقدمات لابن رشد 2 \ 612، 613.(79/204)
(الكرسمس) ، فلا يجوز للمسلم مخالطة أو مشاركة الكفار في أعيادهم الدينية بإجماع أهل العلم (1) ؛ لأن في ذلك إقرارا لعملهم ورضى به وإعانة عليه، وقد قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) ولا شك أن مشاركتهم في أعيادهم الباطلة المحرمة من الإعانة على الإثم.
كما يحرم تهنئتهم بهذه الأعياد بإجماع أهل العلم، ويحرم حضور أعيادهم الدنيوية وتهنئتهم بها، لأنها أعياد مبتدعة محرمة في ديننا، كما يحرم جعل هذه الأيام التي لهم فيها عيد ديني أو دنيوي عيدا،
__________
(1) الدواهي المدهية ص 58.
(2) سورة المائدة الآية 2(79/205)
لأن هذا من التشبه المنهي عنه.
5 - التشبه بهم فيما هو خاص بهم مما يتميز به الكفار عن المسلمين، فيحرم على المسلم أن يقلدهم في كل ما هو خاص بهم من عبادات أو عادات وتقاليد أو آداب أو هيئات، سواء أكان أصل ذلك مباحا في ديننا أم محرما، فلا يجوز للمسلم أو المسلمة أن يقلدهم مثلا في اللباس أو هيئة الأكل أو الشرب، أو طريقة تسريح أو حلق شعر الرأس أو شعر الوجه، أو طريقة الأكل والشرب أو طريقة الجلوس أو المشي أو كيفية السلام أو طريقتهم في بناء مساكنهم أو في أنظمتهم في الحكم والإدارة والاقتصاد ونحو ذلك مما لا فائدة فيه ظاهرة للمسلمين.(79/206)
ومن المعلوم أن التقليد للغير دليل على الشعور باحتقار الذات، وأن هذا المقلد يرى بأن من قلده أفضل منه وأرفع منه قدرا (1) ، ولذلك حاول أن يتشبه به. وهذا لا يليق بالمسلم تجاه الكافر.
فالمسلم أرفع قدرا من جميع الكفار بنص القرآن وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى:
__________
(1) ينظر مقدمة ابن خلدون: الفصل الثالث والعشرون في أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب ص 147.(79/207)
{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) .
وقال سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} (2) والألباب هي العقول التامة السالمة من شوائب النقص، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه (3) » .
وينبغي للمسلم أن ينظر إلى الكفار بالنظرة الشرعية الصحيحة، قال الله تعالى عنهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (4) ، وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} (5) ، وقال جل وعلا: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (6) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 18
(2) سورة الطلاق الآية 10
(3) رواه البيهقي 6 \ 205، والدارقطني 3 \ 252، والروياني كما في التغليق 2 \ 489 من حديث عائذ بن عمرو، وفي سنده مجهولان، ورواه بحشل في تاريخ واسط 1 \ 155 من حديث معاذ، وفي سنده رجل ضعيف، وبقية رجاله ثقات، فالحديث محتمل للتحسين، وله شاهد موقوف على ابن عباس يتقوى به، رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 3 \ 257 بسند صحيح.
(4) سورة الروم الآية 7
(5) سورة محمد الآية 12
(6) سورة الفرقان الآية 44(79/208)
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن مجرد التشبه بالكفار إذا كان عن قصد للتشبه بهم من الكفر الأكبر المخرج من الملة، وعلى هذا القول فلو تشبه بهم من غير قصد للتشبه بهم، ولكن لأنه استحسن هذا العمل وأعجبه ففعله فهذا محرم وليس بكفر، قال القاضي حسين الشافعي: (لو تقلنس المسلم بقلنسوة المجوسي أو تزنر بزنار النصراني صار كافرا؛ لأن الظاهر أنه لا يفعل ذلك إلا عن عقيدة الكفر)) ، قال الشيخ جميل اللويحق عند ذكره لهذا القول: (وممن أطلق ذلك الحنفية والمالكية وجمهور الشافعية، وعللوا ذلك بأن عوائد الكفار الخاصة بهم هي علامة الكفر، ولا يفعلها إلا من التزم الكفر، والاستدلال بالعلامة والحكم بما دلت عليه مقرر في العقل والشرع)) ، كما استدل أصحاب هذا القول بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (1) والتشبه من التولي، ولعل الأقرب أن هذا التشبه محرم ولا يخرج من الملة، كما هو قول كثير من أهل العلم، وهذه النصوص من باب الوعيد (2) .
وقد وردت أدلة شرعية كثيرة تدل على تحريم التشبه بالكفار:
قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} (3) فنهى الله
__________
(1) سورة المائدة الآية 51
(2) ينظر: روضة الطالبين: كتاب الردة 10 \ 6، الاقتضاء 1 \ 242، 420.
(3) سورة الحديد الآية 16(79/209)
سبحانه وتعالى في هذه الآية المؤمنين أن يتشبهوا بالذين أوتوا الكتاب من قبلنا، وهم اليهود والنصارى، ومنها ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم (1) » ومنها ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - مخبرا عما سيفعله كثير من ضعفاء الإيمان الذين يشعرون بالنقص واحتقار أنفسهم أمام الكفار، منكرا عليهم صنيعهم: « (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لتبعتموهم) قال أبو سعيد الخدري: قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى) قال: (فمن؟) (2) » رواه البخاري ومسلم، والسنن هي الطريقة،
__________
(1) رواه الإمام أحمد (5114) ، وأبو داود (4031) ، وابن أبي شيبة 5 \ 313، والطحاوي في مشكل الآثار (231) وفي سنده اضطراب. وينظر: فيض القدير 6\ 104، 105، الإرواء (1269) .
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) ، صحيح مسلم العلم (2669) ، مسند أحمد (3/94) .(79/210)
وهذا الحديث من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا ترى كثيرا من المسلمين والمسلمات اليوم يقلدون الكفار في كثير من الأمور، حتى فيما لا فائدة لهم فيه، كهيئة اللباس، وهيئة شعر الرأس، وحلق شعر العارضين والذقن، حتى إن من المسلمين والمسلمات من يبحث في المجلات أو غيرها عن آخر ما يفعله الكفار في الغرب أو الشرق فيفعله.
وقد وردت أحاديث كثيرة متواترة في النهي عن كثير من الأفعال وعلل النهي فيها بالتشبه باليهود والنصارى، فدل ذلك على أن مخالفتهم أمر مطلوب شرعا، وعلى أن التشبه بهم محرم.
وقد أجمع أهل العلم على تحريم التشبه بالكفار (1) .
6 - تركهم يظهرون شعائر دينهم من عبادات وأعياد ونحوهما بين المسلمين، أو تركهم يبنون كنائس أو معابد لهم في بلاد المسلمين، أو تركهم يظهرون المعاصي بين المسلمين.
7 - اتخاذهم بطانة، فلا يجوز للمسلم أن يجعل الكافر بطانة له، بأن يطلعه على بواطن أموره، ويستشيره في أموره الخاصة، أو يستشيره في أمور المسلمين، أو يعتمد عليه في قضاء شيء من أمورهم التي يطلع فيها على أسرارهم، كأن يكون كاتبا يطلع على أخبار المسلمين؛ لأن الكافر عدو
__________
(1) كشاف القناع: الجهاد باب الهدنة 3 \ 131.(79/211)
للمسلم لا ينصح له، بل يفرح بما يعنته - أي ما يشق عليه ويضره - وما فيه خبال للمسلم - أي فساد عليه - قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (1) {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (2) {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (3) ، ولا يستثنى من هذا إلا ما اضطر إليه المسلم ضرورة ملجئة مع الأمن من ضرر الكافر.
8 - السكن مع الكافر، فيحرم على المسلم أن يسكن مع الكافر في مسكن واحد ولو كان قريبا له أو زميلا له، كما لا يجوز له أن يسكن معه من أجل مصلحة دنيوية كأن يريد أن يتعلم منه لغته أو لتجارة أو لغير ذلك، كما لا
__________
(1) سورة آل عمران الآية 118
(2) سورة آل عمران الآية 119
(3) سورة آل عمران الآية 120(79/212)
يجوز أن يزوره في منزله من أجل مجرد إيناسه أو الاستئناس به، أو للعب، ونحو ذلك، كما لا يجوز طلب زيارتهم للمسلم من أجل ذلك؛ لأن هذا من الموالاة لهم، ولأن الكفار أعداء لنا، ولا يؤمن على المسلم من ضررهم في دينه أو بدنه، أما إن زاره من أجل قرابته له أو جواره له فلا بأس، وهكذا إن زاره المسلم أو طلب منه أن يزوره وكان ذلك لحاجة شرعية، كتأليف قلبه ودعوته إلى الإسلام وأمن من ضرره على دين المسلم وبدنه أبيح بقدر الحاجة، كما تباح ضيافته واستضافته.(79/213)
المبحث الثالث: ما يجوز أو يجب التعامل به مع الكفار مما لا يدخل في الولاء المحرم
بعد أن بينت حكم الولاء والبراء، ومظاهر كل منهما، أحببت أن أبين بعض الأمور التي لا تدخل في الولاء المحرم، والتي يجوز أو يستحب التعامل بها مع الكفار، وأن أذكر أيضا ما يجب لهم على المسلم. وقبل أن(79/213)
أبين هذه الأمور ينبغي أن يعلم أن الكفار ينقسمون إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: المعاهدون: وهم الذين يسكنون في بلادهم، وبينهم وبين المسلمين عهد وصلح وهدنة، وذلك ككفار قريش وقت صلح الحديبية، وككفار الدول الكافرة في عصرنا هذا التي بينها وبين الحاكم المسلم الذي يخضع المسلم لسلطانه عهود وسفارات، فيجوز أن يصالح المسلمون الكفار على السلم وترك الحرب إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، قال الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 61(79/214)
القسم الثاني: الذميون: وهم الكفار الذين يسكنون بلاد المسلمين وصالحهم المسلمون على أن يدفعوا للمسلمين الجزية.
فيجوز السماح للكافر الموجود أصلا في بلاد المسلمين أو في بلاد يحكمها المسلمون بالاستمرار في سكنى بلاد المسلمين - سوى جزيرة العرب كما سيأتي - وذلك في حال دفعهم الجزية للمسلمين - قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 29(79/214)
القسم الثالث: المستأمنون. وهم الذين يدخلون بلاد المسلمين بأمان من ولي الأمر أو من أحد من المسلمين.
فيجوز السماح للمشرك بدخول بلاد المسلمين والإقامة فيها فترة مؤقتة للتجارة أو للعمل ونحوهما إذا أمن شرهم وضررهم على المسلمين، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (1) ، وهذا الأمان يعرف الآن بـ (تأشيرة الدخول) (2) .
ويستثنى من ذلك جزيرة العرب، فلا يجوز دخولهم لها إلا للحاجة، ولا يسمح لهم بالاستيطان فيها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - عند موته: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب (3) » رواه البخاري ومسلم، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يترك بجزيرة العرب دينان (4) » ، لكن إن كانت هناك حاجة تدعو إلى دخولهم لهذه الجزيرة فلا بأس، كما أقر
__________
(1) سورة التوبة الآية 6
(2) اختلاف الدارين ص 129، 130.
(3) صحيح البخاري المغازي (4431) ، صحيح مسلم الوصية (1637) ، سنن أبي داود الخراج والإمارة والفيء (3029) ، مسند أحمد (1/222) .
(4) رواه الإمام أحمد 6 \ 275 بإسناد حسن، رجاله رجال مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان آخر ما عهد رسول - صلى الله عليه وسلم - أن قال.. فذكره.(79/215)
النبي - صلى الله عليه وسلم - يهود خيبر على البقاء فيها للعمل للحاجة الماسة لعملهم فيها، ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه لما زالت الحاجة إليهم (1) ، وعليه فلا يجوز استقدامهم إلى جزيرة العرب كعمال أو خدم أو سائقين أو غيرهم مع وجود من يقوم بعملهم من المسلمين.
__________
(1) رواه البخاري (2338) ، ومسلم (1551) .(79/216)
القسم الرابع: الحربيون: وهم من عدا الأصناف الثلاثة السابقة من الكفار.(79/216)
فهؤلاء يشرع للمسلمين جهادهم وقتالهم بحسب الاستطاعة، قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} (1) .
أما الأمور التي تجب للكفار غير الحربيين على المسلمين فمن أهمها:
1 - حماية أهل الذمة والمستأمنين ما داموا في بلاد الإسلام، وحماية المستأمن إذا خرج من بلاد المسلمين حتى يصل إلى بلد يأمن فيه، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
2 - العدل عند الحكم فيهم وعند الحكم بينهم وبين المسلمين وبين بعضهم بعضا عند وجودهم تحت حكم المسلمين، قال الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (3) ومعنى الآية: لا يحملنكم بغض قوم على أن لا تعدلوا عند الحكم فيهم أو بينهم وبين غيرهم، بل اعدلوا، فإن العدل أقرب إلى تقوى الله تعالى، والعدل إنما يكون بالحكم بما جاء في كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) سورة النساء الآية 91
(2) سورة التوبة الآية 6
(3) سورة المائدة الآية 8(79/217)
3 - دعوتهم إلى الإسلام، فإن دعوة الكفار فرض كفاية على المسلمين، وذلك لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولإخراجهم من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق جل وعلا، وإن زار أو عاد المسلم كافرا من أجل دعوته فحسن، فقد «عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - غلاما يهوديا في مرضه، ودعاه إلى الدخول في الإسلام، فأسلم (1) » . رواه البخاري.
4 - يحرم إكراه اليهود والنصارى والمجوس على تغيير أديانهم، قال الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (2) .
5- يحرم على المسلم أن يعتدي على أحد من الكفار غير الحربيين في بدنه بضرب أو قتل أو غيرهما، فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما (3) » ، وروى الإمام أحمد والنسائي عن رجل من
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1356) ، سنن أبي داود الجنائز (3095) ، مسند أحمد (3/280) .
(2) سورة البقرة الآية 256
(3) صحيح البخاري: الجزية والموادعة (3166) ، وروى مسلم في صحيحه (2613) عن هشام بن حكيم بن حزام أنه مر على أناس من الأنباط في الشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم. قالوا: حبسوا في الجزية، فقال: أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:. (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)) .(79/218)
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل رجلا من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة (1) » .
6 - يحرم على المسلم أن يغش أحدا من الكفار غير الحربيين في البيع أو الشراء، أو أن يأخذ شيئا من أموالهم بغير حق، ويجب عليه أن يؤدي إليهم أماناتهم، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة (2) » .
7 - يحرم على المسلم أن يسيء إلى أحد من الكفار غير الحربيين بالقول، ويحرم الكذب عليهم، لعموم قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (3) ، بل ينبغي له أن يلين القول لهم، وأن يخاطبهم بكل ما هو من مكارم الأخلاق مما ليس فيه إظهار للمودة وليس فيه تذلل لهم ولا إيثار من المسلم لهم على نفسه.
__________
(1) رواه أحمد 4 \ 237، و 5 \ 369، والنسائي (4763) وإسناده صحيح.
(2) رواه أبو داود (3052) ، والبيهقي 9 \ 250 بأسانيد كثيرة، يقوي بعضها بعضا، فهو حديث صحيح. وقد قوى إسناده العراقي والسخاوي، وله شواهد كثيرة. ينظر: المقاصد الحسنة، رقم (1044) ، السلسلة الصحيحة، رقم (445) .
(3) سورة البقرة الآية 83(79/219)
8 - يجب إحسان الجوار لمن كان له جار من الكفار غير الحربيين بكف الأذى عنه، ويستحب أن يحسن إليه بالصدقة عليه إن كان فقيرا، وأن يهدي إليه، وأن ينصح له فيما ينفعه لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه (1) » . متفق عليه.
9 - يجب على المسلم أن يرد السلام على الكافر، فإذا سلم على المسلم بقول: (السلام عليكم) وجب على المسلم أن يرد عليه بقوله: (وعليكم) فقط، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم (2) » . متفق عليه. لكن لا يجوز أن يبدأ الكافر
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6015) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2625) ، مسند أحمد (2/85) .
(2) صحيح البخاري الاستئذان (6258) ، صحيح مسلم السلام (2163) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3301) ، سنن أبي داود الأدب (5207) ، سنن ابن ماجه الأدب (3697) .(79/220)
بالسلام عليه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام (1) » . رواه مسلم (2) .
ويجوز للمسلم أن يتلطف بالكافر، فيناديه بكنيته، ويسأله عن حاله وحال أولاده، ويهنئه بمولود ونحوه، ويبدأه بالتحية كـ (أهلا) ونحوها إذا اقتضت المصلحة الشرعية ذلك، كترغيبه في الإسلام، وإيناسه بذلك ليقبل الدعوة إلى الإسلام ويستمع لها، أو كان في ذلك مصلحة للمسلم بدفع ضرر عنه أو جلب مصلحة مباحة له، ونحو ذلك.
كما يجوز للمسلم أن يعزي الكافر في ميته إذا رأى مصلحة شرعية في ذلك، لكن لا يدعو لميتهم بالمغفرة؛ لأنه لا يجوز الدعاء لموتى الكفار بالرحمة والمغفرة.
وعلى وجه العموم فإنه يجوز للمسلم أن يتلطف بالكافر بالقول
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2167) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2700) ، سنن أبي داود الأدب (5205) ، مسند أحمد (2/266) .
(2) صحيح مسلم (2167) .(79/221)
وبالفعل الذي ليس فيه إهانة للمسلم عند وجود مصلحة شرعية في ذلك) .
ويدل على جواز ذلك قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (1) ، والتقية إظهار الموالاة مع إبطان البغض والعداوة لهم، وعلمه فيحرم أن يتكلم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 28(79/222)
معهم بكلام يقصد به الموادة لهم - أي كسب محبتهم - من غير تحقيق مصلحة شرعية.
وهناك أمور يباح أو يستحب للمسلم أن يتعامل بها مع الكفار، منها:
1 - يجوز استعمالهم واستئجارهم في الأعمال التي ليس فيها ولاية على مسلم وليس فيها نوع استعلاء من الكافر على المسلم، فيجوز أن يعمل عند المسلم في صناعة أو بناء أو في خدمة، فقد «استأجر النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أريقط في الهجرة (1) » ، «واستعمل يهود خيبر في أرضها ليزرعوها ولهم نصف ما يخرج منها (2) » ، أما الأعمال التي فيها ولاية على المسلمين أو فيها اطلاع على أخبارهم فلا يجوز توليتهم إياها، كما سبق بيانه عند الكلام على تحريم اتخاذهم بطانة.
__________
(1) رواه البخاري (2263) .
(2) رواه البخاري (2285) ، ومسلم (1551) .(79/223)
2- يستحب للمسلم الإحسان إلى المحتاج من الكفار، كالصدقة على الفقير المعوز منهم، وكإسعاف مريضهم، لعموم قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1) ، ولعموم حديث «في كل كبد رطبة أجر (2) » رواه البخاري ومسلم (3) .
3 - تستحب صلة القريب الكافر، كالوالدين والأخ بالهدية والزيارة ونحوهما، لكن لا يتخذه المسلم جليسا، وبالأخص إذا خشيت فتنته وتأثيره على دين المسلم، قال الله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} (4) ، وقال تعالى في حق الوالدين: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} (5) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) صحيح البخاري المساقاة (2363) ، صحيح مسلم السلام (2244) ، سنن أبي داود الجهاد (2550) ، مسند أحمد (2/521) ، موطأ مالك الجامع (1729) .
(3) صحيح البخاري (2363) ، وصحيح مسلم (2244) .
(4) سورة الإسراء الآية 26
(5) سورة لقمان الآية 15(79/224)
4 - يجوز برهم بالهدية ونحوها لترغيبهم في الإسلام، أو في حال دعوتهم، أو لكف شرهم عن المسلمين، أو مكافأة لهم على مسالمتهم للمسلمين وعدم اعتدائهم عليهم، ليستمروا على ذلك، أو لما يشبه هذه الأمور من المصالح الشرعية، قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) ، والبر هو: الإحسان إليهم بالمال أو غيره، والقسط هو: العدل؛ أما إذا كانت الهدية من باب الصداقة أو المحبة ونحوهما فهي محرمة.
5 - يستحب إكرامه عند نزوله ضيفا على المسلم، كما يجوز أن ينزل المسلم ضيفا على الكافر، لكن لا يجوز إجابة المسلم لدعوته، لما في
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 8(79/225)
ذلك من الموادة له.
6 - يجوز الأكل العارض معهم، من غير أن يتخذ المسلم الكافر صاحبا وجليسا وأكيلا، فيجوز أن يأكل مع الكافر في وليمة عامة، أو وليمة عارضة، وأن يأكل مع خادمه الكافر (1) ، أو في حال كون الكافر ضيفا عند المسلم أو إذا نزل المسلم ضيفا عند الكافر، من غير قصد التحبب إليه بذلك، ومن غير قصد للاستئناس به، أما إن جالسه بقصد التحبب إليه من غير تحقيق مصلحة شرعية، أو جالسه للاستئناس به فذلك محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب (2) .
7 - يجوز التعامل معهم في الأمور الدنيوية التي هي مباحة في دين الإسلام، فقد عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود وبايعهم واشترى منهم، كما يجوز للمسلم أن يأخذ عنهم وأن يتعلم منهم ما فيه منفعة
__________
(1) ينظر: مجموع فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز 3\1039، 1040، 1045، 1054.
(2) ينظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر (الكبيرة 441) .(79/226)
للمسلمين من أمور الدنيا مما أصله مباح في دين الإسلام، وقد يكون ذلك مستحبا أو واجبا، وقد ثبت «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل فداء بعض أسرى بدر ممن لم يكن عنده فداء من المال تعليم أولاد الأنصار الكتابة (1) » .
8 - يجوز للمسلم أن يتزوج بالكافرة الكتابية فقط إذا كانت عفيفة عند الأمن من ضررها على الدين والنفس والأولاد (2) ، قال الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (3) ، والمحصنة هي العفيفة عن الزنى، وإن كان الأولى للمسلم أن لا يتزوج بكافرة؛ لأن ذلك أسلم له ولذريته، ولذلك
__________
(1) رواه الإمام أحمد (رقم 2216 تحقيق شاكر) بإسناد حسن.
(2) ينظر المراجع الآتية بعد تعليقين.
(3) سورة المائدة الآية 5(79/227)
عاتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض من تزوج بكافرة، وأمره أمر ندب بطلاقها.
أما بقية الكافرات غير الكتابيات فلا يجوز للمسلم أن يتزوج بواحدة منهن بإجماع أهل العلم، لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (1) ، فإن تزوج بها فالنكاح باطل.
أما المسلمة فلا يجوز لأي كافر كتابي أو غيره أن يتزوج بها بإجماع المسلمين (2) .
9- يجوز للمسلمين أن يستعينوا بالكفار في صد عدوان على المسلمين، وذلك بشرطين أساسيين:
الأول: الاضطرار إلى إعانتهم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 221
(2) حكى هذا الإجماع ابن جرير في تفسير الآية السابقة 4 \ 367.(79/228)
الثاني: الأمن من مكرهم وضررهم، بحيث يكونون جنودا مرؤوسين عند المسلمين، وتحت إشرافهم ومتابعتهم بحيث لا يمكن أن يحصل منهم أي ضرر على المسلمين.
10 - يجوز للمسلم أن يذهب إلى الطبيب الكافر للعلاج إذا وثق به.
11 - يجوز دفع الزكاة إلى المؤلفة قلوبهم من الكفار، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} (1) .
12 - يجوز للمسلم أن يشارك الكافر في التجارة، لكن بشرط أن يلي المسلم أمرها أو يشرف عليها، لئلا يقع في تعامل محرم عند إشراف
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(79/229)
غير المسلم على هذه التجارة وتصريفه لها (1) .
13 - يجوز قبول الهدية من الكافر، إذا لم يكن فيها إذلال للمسلم ولا موالاة منه للكافر، فقد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدية من أكثر من مشرك، لكن إن كانت هذه الهدية بمناسبة عيد من أعياد الكفار فينبغي عدم قبولها.
14 - يجوز للمسلم أن يعمل عند الكافر، ويجوز أن يعمل في عمل يديره بعض الكفار، لكن لا يجوز أن يعمل في خدمة الكافر الشخصية، لما في ذلك من إذلال نفسه له.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) ينظر: أحكام أهل الذمة 1 \ 205.(79/230)
حكم مصليات الأعياد
وهل تأخذ حكم المساجد
لفضيلة الشيخ \ خالد بن علي العرفج (1)
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا بحث في حكم مصليات الأعياد وهل تأخذ أحكام المساجد، وهل يجوز استبدال أو بيع تلك المصليات عند الاستغناء عن الصلاة فيها. وقد جعلنا بحثنا هذا في خمسة مباحث هي:
المبحث الأول: تعريف المساجد وبيان بعض أحكامها.
المبحث الثاني: مصليات الأعياد وهل تأخذ أحكام المساجد.
المبحث الثالث: استبدال الوقف أو بيعه إذا تعطلت منافعه.
المبحث الرابع: استبدال أو بيع مصليات الأعياد عند الاستغناء عن الصلاة فيها.
المبحث الخامس: أهم نتائج البحث.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
__________
(1) الباحث الشرعي بالرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء.(79/231)
المبحث الأول: تعريف المساجد وبيان بعض أحكامها
فالمسجد لغة: الموضع الذي يسجد فيه، ثم اتسع المعنى إلى البيت المتخذ لاجتماع المسلمين لأداء الصلاة فيه، قال الزركشي رحمه الله: (ولما كان السجود أشرف أفعال الصلاة لقرب العبد من ربه اشتق اسم المكان منه فقيل مسجد، ولم يقولوا مركع، ثم إن العرف خصص المسجد بالمكان المهيأ للصلوات الخمس حتى يخرج المصلى المجتمع فيه للأعياد ونحوها فلا يعطى حكمه (1) .
والمسجد في الاصطلاح الشرعي: هو المكان الذي أعد للصلاة فيه على الدوام، وأصل المسجد شرعا: كل موضع من الأرض يسجد لله فيه لحديث جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( ... «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل (2) » .
والمساجد لها مكانتها وفضلها عند الله تعالى، فقد أضافها إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم وذكرها عز وجل في كتابه في ثمانية عشر موضعا، ومن أهم أحكام المساجد ما يلي:
1 - أنها أفضل البلاد.
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها (3) » .
__________
(1) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي ص 27 - 28.
(2) متفق عليه. البخاري حديث 335، ومسلم حديث 521
(3) رواه مسلم، كتاب المساجد حديث 671.(79/232)
وقال الإمام القرطبي رحمه الله: «أحب البلاد إلى الله مساجدها (1) » أي أحب بيوت البلاد أو بقاعها، وإنما كان ذلك لما خصت به من العبادات والأذكار واجتماع المؤمنين وظهور شعائر الدين وحضور الملائكة (2) .
2 - المشي إلى المساجد ترفع به الدرجات، وتحط الخطايا، وتكتب الحسنات، لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط بها عنه سيئة (3) » .
3 - صيانة المساجد من الروائح الكريهة، لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته (4) » .
وفي لفظ لمسلم: «فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس (5) » .
وفي لفظ لمسلم: «من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم (6) » .
4 - صلاة تحية المسجد لمن دخلها، لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (671) .
(2) المفهم لما أشكل في تلخيص مسلم للقرطبي 2 \ 295.
(3) مسلم حديث رقم 654.
(4) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7359) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (564) ، سنن الترمذي الأطعمة (1806) ، سنن النسائي المساجد (707) ، سنن أبي داود الأطعمة (3822) ، مسند أحمد (3/400) .
(5) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (564) ، سنن النسائي المساجد (707) .
(6) متفق عليه. البخاري حديث رقم 855، ومسلم حديث رقم 564.(79/233)
يجلس حتى يصلي ركعتين (1) » .
5 - التزين والتجمل عند كل مسجد، لقول الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (2) .
6 - تقديم الرجل اليمنى عند الدخول للمسجد، وتقديم الرجل اليسرى عند الخروج من المسجد بعكس دخوله.
فيقول عند الدخول: «بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، وإذا خرج يقول: اللهم إني أسألك من فضلك (3) » .
7 - عدم تشبيك الأصابع في الطريق إلى المسجد، لحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه فإنه في صلاة (4) » .
8 - النظر في النعلين قبل دخول المسجد، فإن رأى فيهما أذى مسحه بالتراب، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه: ... «إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما (5) » .
__________
(1) متفق عليه. البخاري حديث رقم 44، ومسلم حديث رقم 714.
(2) سورة الأعراف الآية 31
(3) رواه مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها حديث رقم 113.
(4) الترمذي حديث 387، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1 \ 121.
(5) أبو داود كتاب الصلاة حديث 650، وابن خزيمة حديث 1017، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1\128.(79/234)
9 - تنظيف المساجد وتطييبها وصيانتها، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب (1) » .
10 - إقامة صلاة الجماعة فيها، فالمساجد يجب أن تقام صلاة الجماعة فيها ولا يجوز للرجال فعلها إلا في المسجد، والأدلة على ذلك هي البراهين الدالة على وجوب صلاة الجماعة، وأنها فرض عين، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (من تأمل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة، فترك حضور المسجد لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر، وبهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار ... فالذي ندين الله به أنه لا يجوز لأحد التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر، والله أعلم بالصواب) (2) .
11 - تحريم اتخاذ القبور مساجد، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (3) » .
12 - تحريم السؤال عن الضالة في المسجد، لحديث أبي هريرة
__________
(1) أحمد في المسند 6 \ 279، أبو داود حديث 455، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1 \ 92.
(2) كتاب الصلاة لابن القيم ص 89.
(3) متفق عليه. البخاري كتاب الصلاة حديث 436، ومسلم حديث، 530.(79/235)
رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا (1) » .
13 - تحريم البيع والشراء في المساجد، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا لا ردها الله عليك (2) » .
14 - رفع الأصوات في المساجد ممنوع، لأنه يشوش على المصلين ولو بقراءة القرآن، لحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: «اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فسمعهم يجهرون بالقرآن فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة (3) » أو قال: (في الصلاة) (4) .
15 - النهي عن التحلق قبل صلاة الجمعة، جاء فيه حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة وعن الشراء والبيع في المسجد، (5) » ولفظ الترمذي: «نهى عن تناشد الأشعار في المسجد وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق
__________
(1) مسلم كتاب المساجد حديث 568.
(2) الترمذي كتاب البيوع حديث 1321، والنسائي حديث 176، وغيرهما.
(3) سنن أبي داود الصلاة (1332) ، مسند أحمد (3/94) .
(4) أبو داود حديث 1332، وأحمد 2 \ 67.
(5) سنن الترمذي الصلاة (322) ، سنن النسائي المساجد (714) ، سنن أبي داود الصلاة (1079) .(79/236)
الناس فيه يوم الجمعة قبل الصلاة (1) » .
16 - لا يجلس الجنب والحائض في المسجد، لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (2) .
والمعنى: لا تقربوا المصلى للصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوه جنبا إلا عابري سبيل، يعني: إلا مجتازين فيه للخروج منه، فقد أقيمت الصلاة هنا مقام المصلى والمسجد إذ كانت صلاة المسلمين في مساجدهم، ورجح هذا التفسير الإمام ابن جرير رحمه الله (3) ، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: " ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء أيضا في معناه " (4) ، ولكن على الحائض والنفساء أن تتحفظ حتى لا تلوث المسجد، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «ناوليني الخمرة من المسجد، فقالت إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك (5) » .
__________
(1) النسائي كتاب المساجد حديث 714، وأبو داود كتاب الجمعة حديث 1039، الترمذي كتاب الصلاة حديث 322.
(2) سورة النساء الآية 43
(3) انظر جامع البيان للطبري 8 \ 384.
(4) تفسير القرآن العظيم 2 \ 327.
(5) مسلم كتاب الحيض حديث 298.(79/237)
المبحث الثاني: مصليات الأعياد وأحكام المساجد
وبعد أن عرضنا أهم أحكام المساجد نأتي الآن إلى أقوال بعض أئمة المذاهب في حكم مصليات الأعياد وهل تنطبق عليها الأحكام التي ذكرناها آنفا أم لا؟ وهي على النحو التالي:
1 - قال ابن نجيم (1) في البحر الرائق ما يلي: (وفي الخانية مسجد اتخذ لصلاة الجنازة أو لصلاة العيد، هل يكون له حكم المسجد اختلف المشايخ فيه، فقال بعضهم: يكون مسجدا حتى لو مات لا يورث عنه، وقال بعضهم: ما اتخذ لصلاة الجنازة فهو مسجد لا يورث عنه، وما اتخذ لصلاة العيد لا يكون مسجدا مطلقا وإنما يعطى له حكم المسجد في صحة الاقتداء بالإمام وإن كان منفصلا عن الصفوف، وأما فيما سوى ذلك فليس له حكم المسجد، وقال بعضهم: له حكم المسجد حال أداء الصلاة لا غير، وهو والجبانة سواء، ويجنب هذا المكان كما يجنب المسجد احتياطا) . اهـ.
2 - وقال ابن الهمام الحنفي (2) :
(واختلفوا في مصلى العيد والجنازة والأصح أنه إنما له حكم المسجد في جواز الاقتداء لكونه مكانا واحدا) .
3 - وفي النوادر والزيادات (3) لابن أبي زيد القيرواني ما يلي: (ومن
__________
(1) البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن النجيم 5 \ 417.
(2) شرح فتح القدير 1 - 421.
(3) النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني 1\504.(79/238)
كتاب ابن حبيب: إذا صلوا (1) في المسجد لمطر، فروى أشهب وابن وهب عن مالك أنه لا بأس بالتنفل فيه بعدها، ولا يتنفل قبلها، وقال: وبه أقول، وروى عنه ابن القاسم أن له أن يتنفل في المسجد قبلها وبعدها، وقال: وله أن يتنفل في بيته قبلها وبعدها، وقال قوم: سبحة ذلك اليوم فليقتصر عليها إلى الزوال، قال ابن حبيب: وهو أحب إلي، واستحب في موضع آخر نحو رواية ابن وهب عن مالك.
4 - وفي بداية المجتهد لابن رشد (2) ما يلي: (وفرق قوم بين أن تكون الصلاة في المصلى أو في المسجد، وهو مشهور مذهب مالك، وسبب اختلافهم أنه ثبت «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم فطر أو يوم أضحى فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين) (3) » وترددها أيضا من حيث هي مشروعة، بين أن يكون حكمها في استحباب التنفل قبلها وبعدها حكم المكتوبة أو لا يكون ذلك حكمها، فمن رأى أن تركه الصلاة قبلها وبعدها هو من باب ترك الصلاة قبل السنن وبعدها ولم يطلق اسم المسجد عنده على المصلى لم يستحب تنفلا قبلها ولا بعدها، ولذلك تردد المذهب في الصلاة قبلها إذا صليت في المسجد لكون دليل الفعل معارضا في ذلك القول، أعني: أنه من حيث هو داخل في مسجد يستحب له
__________
(1) المراد بالصلاة هنا صلاة العيد.
(2) بداية المجتهد ونهاية المقتصد ص 512، 513.
(3) صحيح مسلم صلاة العيدين (884) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1587) ، سنن أبي داود الصلاة (1159) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1291) ، مسند أحمد (1/368) .(79/239)
الركوع، ومن حيث هو مصلى صلاة العيد يستحب له ألا يركع تشبها بفعله صلى الله عليه وسلم، ومن رأى أن ذلك من باب الرخصة ورأى أن اسم المسجد يطلق على المصلى ندب إلى التنفل قبلها، ومن شبهها بالصلاة المفروضة استحب التنفل قبلها وبعدها كما قلنا، ورأى قوم أن التنفل قبلها وبعدها من باب المباح الجائز لا من باب المندوب ولا من باب المكروه، وهو أقل اشتباها إن لم يتناول اسم المسجد المصلى) .
5 - وقال أبو عبد الله المواق من المالكية ما يلي (1) :
(نص أصحابنا أنه يكره دخول المسجد والجامع برائحة الثوم وعندي أن مصلى العيد والجنائز كذلك، ولابن وهب في الذي يأكل الثوم يوم الجمعة وهو ممن تجب عليه الجمعة لا أرى أن يشهد الجمعة في المسجد ولا في رحابه، وهل يجوز أن يدخل المسجد من أكل الثوم إذا لم يكن به أحد؟ الظاهر عندي أنه لا يجوز، قال مالك: البصل والكراث كالثوم قال: وإن كان الفجل يؤذي ويظهر فلا يدخل من أكله المسجد، انظر من أكل ذلك وعثر عليه بالمسجد. قال الباجي: إنه يخرج منه قال: وليس أكلها بحرام، قال: وأما من أكل الثوم بعد الإنضاج بالنار فلا يمنع لحديث عمر فليمتها نضجا ولم يخالفه أحد) .
6- وفي المدونة الكبرى (2) ما يلي: (فقلت لمالك: إنا نكون في بعض
__________
(1) التاج والإكليل 2 - 183.
(2) المدونة الكبرى للإمام مالك من رواية سحنون 1 \ 170.(79/240)
السواحل فنكون في مسجد على الساحل يصلي بنا إمامنا صلاة العيد في ذلك المسجد فهل يكره للرجل أن يصلي قبل صلاة العيد في ذلك المسجد إذا أتى وهو ممن يصلي معهم صلاة العيد في ذلك المسجد؟ قال: لا أرى بذلك بأسا، قال: وإنما كره مالك أن يصلى في المصلى قبل صلاة العيد وبعدها شيء، قال: فقلت لمالك: فإن رجعت من المصلى أأصلي في بيتي؟ قال: لا بأس بذلك، قال: (وإنما كان يكره مالك الصلاة في المصلى يوم الأضحى والفطر قبل صلاة العيد وبعدها، فأما في غير المصلى فلم يكن يرى في ذلك بأسا) .
7- وقال النووي في المجموع (1) ما يلي: (33) (المصلى المتخذ للعيد وغيره الذي ليس مسجدا لا يحرم المكث فيه على الجنب والحائض على المذهب وبه قطع الجمهور، وذكر الدارمي فيه وجهين وأجراهما في منع الكافر من دخوله بغير إذن، ذكره في باب صلاة العيد، وقد يحتج له بحديث أم عطية في الصحيحين: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الحيض أن يحضرن يوم العيد ويعتزلن المصلى (2) » ، ويجاب عنه بأنهن أمرن باعتزاله ليتسع على غيرهن وليتميزن. والله أعلم.)
8 - وقال الإمام الزركشي في إعلام الساجد (3) ما يلي: (سئل الغزالي في فتاويه عن المصلى الذي بني لصلاة العيد خارج البلد، فقال:
__________
(1) المجموع شرح المهذب للنووي 2 \ 196.
(2) صحيح البخاري الحج (1652) ، صحيح مسلم صلاة العيدين (890) ، سنن الترمذي الجمعة (539) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1559) ، سنن أبي داود الصلاة (1139) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1308) ، مسند أحمد (5/84) ، سنن الدارمي الصلاة (1609) .
(3) إعلام الساجد بأحكام المساجد لمحمد عبد الله الزركشي ص 1 \ 386.(79/241)
لا يثبت له حكم المسجد في الاعتكاف ومكث الجنب وغيره من الأحكام؛ لأن المسجد هو الذي أعد لرواتب الصلاة وعين لها حتى لا ينتفع به في غيرها، موضع صلاة العيد معد للاجتماعات ولنزول القوافل ولركوب الدواب ولعب الصبيان ولم تجر عادة السلف بمنع شيء من ذلك فيه، ولو اعتقدوه مسجدا لصانوه عن هذه الأسباب، ولقصد لإقامة سائر الصلوات، وصلاة العيد تطوع وهو لا يكثر تكرره، بل يبنى بقصد الاجتماع، والصلاة تقع فيه بالتبع) .
9 - وقال سليمان بن محمد الشافعي البجيرمي ما يلي: (1) :
(ولو حوط بقعة لأجل جعلها مسجدا صار مسجدا وإن لم يتلفظ به، أو لم يبن فيه أو لم يسقف ومثله مصلى العيد واعتبر السبكي في المسجد السقف) .
10 - وقال ابن مفلح الحنبلي ما يلي (2) :
(والصحيح أن مصلى العيد مسجد لأنه أعد للصلاة حقيقة لا مصلى الجنائز ذكره أبو المعالي لم يمنع في النصيحة حائضا من مصلى العيد ومنعها في المستوعب، وأمر عليه السلام برجم ماعز في المصلى، قال جابر: رجمناه في المصلى. متفق عليه)
11 - وقال علي بن سليمان المرداوي ما يلي (3) :
ومنها مصلى العيد مسجد على الصحيح من المذهب قال في الفروع
__________
(1) حاشية البجيرمي 3 - 193.
(2) الفروع 1 - 170.
(3) الإنصاف 1 - 276.(79/242)
هذا هو الصحيح، ومنع في المستوعب الحائض منه، ولم يمنعها في النصيحة منه، وأما مصلى الجنائز فليس بمسجد قولا واحدا.
12_ وفي الفتح (1) قال ابن حجر العسقلاني (قوله باب الرجم بالمصلى) أي: عنده والمراد المكان الذي كان يصلى عنده العيد والجنائز وهو من ناحية بقيع الغرقد، وقد وقع في حديث أبي سعيد عند مسلم، «فأمرنا أن نرجمه، فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد (2) » ، وفهم بعضهم كعياض من قوله بالمصلى أن الرجم وقع داخله وقال: يستفاد منه أن المصلى لا يثبت له حكم المسجد، إذ لو ثبت له ذلك لاجتنب الرجم فيه، لأنه لا يأمن التلويث من المرجوم خلافا لما حكاه الدارمي أن المصلى يثبت له حكم المسجد، ولو لم يوقف، وتعقب بأن المراد أن الرجم وقع عنده لا فيه، كما تقدم في البلاط، وأما في حديث ابن عباس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم اليهوديين عند باب المسجد، (3) » وفي رواية موسى بن عقبة أنهما رجما قريبا من موضع الجنائز قرب المسجد، وبأنه ثبت في حديث أم عطية الأمر بخروج النساء حتى الحيض في العيد إلى المصلى وهو ظاهر في المراد، والله أعلم.
وقال النووي ذكر الدارمي من أصحابنا أن مصلى العيد وغيره إذا لم يكن مسجدا أيكون في ثبوت حكم المسجد، له وجهان: أصحهما لا.
وقال البخاري وغيره في رجم هذا بالمصلى دليل على أن مصلى الجنائز والأعياد إذا لم يوقف مسجدا لا يثبت له حكم المسجد إذ لو كان
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 12 \ 129، 130.
(2) صحيح مسلم الحدود (1694) ، سنن أبي داود الحدود (4431) ، مسند أحمد (3/62) ، سنن الدارمي الحدود (2319) .
(3) صحيح البخاري التوحيد (7543) ، صحيح مسلم الحدود (1699) ، سنن الترمذي الحدود (1436) ، سنن أبي داود الحدود (4449) ، سنن ابن ماجه الحدود (2556) ، مسند أحمد (2/151) ، موطأ مالك الحدود (1551) ، سنن الدارمي الحدود (2321) .(79/243)
له حكم المسجد لاجتنب فيه ما يجتنب في المسجد، قلت: وهو كلام عياض بعينه وليس للبخاري منه سوى الترجمة. اهـ.
13 - وفي شرح النووي لصحيح مسلم (1) : (قولها «وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين (2) » هو بفتح الهمزة والميم في أمر، فيه منع الحيض من المصلى، واختلف أصحابنا في هذا المنع، فقال الجمهور: هو منع تنزيه لا تحريم، وسببه الصيانة والاحتراز بمقارنة النساء للرجال من غير حاجة ولا صلاة، وإنما لم يحرم لأنه ليس مسجدا، وحكى أبو الفرج الدارمي من أصحابنا عن بعض أصحابنا أنه قال: (يحرم المكث في المصلى على الحائض كما يحرم مكثها في المسجد لأنه موضوع للصلاة، فأشبه المسجد، والصواب الأول) .
ومن الكتب المعاصرة التي تحدثت عن موضوعنا كتاب: أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية للشيخ إبراهيم الخضيري.
__________
(1) مسلم بشرح النووي 6 \ 179.
(2) صحيح البخاري الحج (1652) ، صحيح مسلم صلاة العيدين (890) ، سنن الترمذي الجمعة (539) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1559) ، سنن أبي داود الصلاة (1139) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1308) ، مسند أحمد (5/84) ، سنن الدارمي الصلاة (1609) .(79/244)
وكذلك كتاب أحكام المساجد في الإسلام لمحمود الحريري.(79/245)
المبحث الثالث: استبدال الوقف إذا تعطلت منافعه
لما كانت المساجد لا تكون إلا وقفا فإنه يحسن بنا هنا أن نذكر بعضا من أقوال أئمة المذاهب الأربعة في حكم استبدال الوقف إذا تعطلت منافعه، وهي كالتالي:
أولا: المذهب الحنفي: نقل ابن عابدين فيما لفظه (1) : (في فتاوى قاري الهداية، سئل عن استبدال الوقف ما صورته هل هو على قول أبي حنيفة وأصحابه؟
__________
(1) البحر الرائق شرح كنز الدقائق 5 \ 244.(79/246)
أجاب: الاستبدال إذا تعين بأن كان الموقوف عليه لا ينتفع فيه وثمة من يرغب فيه ويعطي بدله أرضا أو دارا لها ريع يعود نفعه على جهة الوقف، فالاستبدال في هذه الصورة قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى، وإن كان للوقف ريع ولكن يرغب شخص باستبداله إن أعطي بدله أكثر ريعا منه في سقع أحسن من سقع الوقف جاز عند القاضي أبي يوسف والعمل عليه، وإلا فلا يجوز) .
ثانيا: المذهب المالكي وقال سحنون في المدونة (1) : (وهذه جل الأحباس قد خربت فلا شيء أدل على سنتها منها، ألا ترى أنه لو كان البيع يجوز فيها ما أغفله من مضى، ولكن بقاءه خرابا دليل على أنا بيعه غير مستقيم وبحسبك حجة في أمر قد كان متقادما أن تأخذ منه ما جرى الأمر عليه) .
وجاء في منح الجليل ما يلي (2) : (قول الشيخ في رسالته وابن شعبان وابن رشد: إن كانت هذه القطعة من الأرض المحبسة انقطعت منفعتها جملة وعجز عن عمارتها وكرائها فلا بأس بالمعاوضة فيها بمكان حبسا مكانها، ويكون ذلك بحكم من القاضي بعد ثبوت ذلك السبب والغبطة في المعوض عنه ويسجل ذلك ويشهد به) .
ثالثا. المذهب الشافعي، وفي فتاوى الرملي ما يلي: قال
__________
(1) المدونة 5\418.
(2) منح الجليل شرح مختصر خليل 5 \ 154.(79/247)
السبكي (1) وغيره: إن منع بيعها هو الحق لأن جوازه يؤدي إلى موافقة القائلين إلى الاستبدال) .
وقال سليمان بن منصور العجيلي الشهير بالجمل ما يلي (2) :
(ولا يباع موقف وإن خرب كشجرة جفت ومسجد انهدم وتعذرت إعادته وحصره الموقوفة البالية وجذوعه المنكسرة إدامة للوقف في عينه، ولأنه يمكن الانتفاع به كصلاة واعتكاف في أرض المسجد وطبخ جص أو آجر له بحصره وجذوعه، وما ذكرته فيهما بصفتهما المذكورة هو ما اقتضاه كلام الجمهور وصرح به الجرجاني والبغوي والروياني وغيرهم وبه أفتيت، وصحح الشيخان تبعا للإمام أنه يجوز بيعهما لئلا يضيعا ويشتري بثمنهما مثلهما، والقول به يؤدي إلى موافقة القائلين بالاستبدال، أما الحصر الموهوب أو المشتراة للمسجد من غير وقف لها فتباع للحاجة وقلة وقفه عند تعذر إعادته، قال الماوردي: تصرف للفقراء والمساكين، والمتولي لأقرب المساجد إليه، والروياني هي كمنقطع الآخر، والإمام تحفظ لتوقع عوده، وتعبيري بما ذكر أولى مما عبر به) .
رابعا: المذهب الحنبلي قال ابن قدامة في المغني (3) ما يلي: قال الخرقي: (وإذا خرب الوقف ولم يرد شيئا بيع واشتري به ما يرد على أهل الوقف وجعل وقفا كالأول) .
__________
(1) فتاوى الرملي 3 \ 65.
(2) حاشية الجمل 3 \ 591.
(3) المغني 8 \ 120.(79/248)
وقال ابن قدامة في المغني (1) ما يلي: (مثل له ابن قدامة بدار انهدمت وأرض عادت مواتا ولو تمكن عمارتها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلى فيه) . وفي رواية بكر بن محمد عن أبيه في مسجد ليس بحصين من الكلاب وله منارة فرخص أحمد في نقلها وبناء حائط المسجد بها للمصلحة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (2) ما يلي:
(وأما ما وقف للغلة إذا أبدل بخير منه، مثل أن يقف دارا أو حانوتا أو بستانا أو قرية يكون مغلها قليلا فيبدلها بما هو أنفع للوقف فقد أجاز ذلك أبو ثور وغيره من العلماء مثل أبي عبيد ابن حرمويه قاضي مصر وحكم بذلك وهو قياس قول أحمد، وقيل تبدل المسجد من عرصة إلى عرصة للمصلحة) .
وبعد أن ذكر منع الإبدال عن الشافعي وغيره قال: (لكن النصوص والآراء والقياس تقتضي جواز الإبدال للمصلحة، والله سبحانه وتعالى أعلم) . وهو كلام واضح وصريح في اعتبار المصلحة في الإبدال والمناقلة.
__________
(1) المغني 8 \ 120.
(2) الفتاوى الكبرى 4 \ 360.(79/249)
المبحث الرابع: استبدال أو بيع مصليات الأعياد عند الاستغناء عن الصلاة فيها
لما كان موضوع استبدال أو بيع مصليات الأعياد يبنى على مسألتين هما:
هل تلك المصليات لها أحكام المساجد؟ وهل يجوز استبدال أو بيع(79/249)
الأوقاف إذا تعطلت أو وجد ما هو أصلح منها. إذا كانت هذه المصليات موقوفة فقد بسطنا أقوال الفقهاء في هاتين المسألتين كما مر معنا ذلك سابقا، ويمكن أن يفهم من كلام الحنفية أن بعضهم يعد مصلى العيد مسجدا (1) ، وبعضهم يراه مسجدا في حال الاقتداء فقط، وبعضهم يعده مسجدا في حال الصلاة فقط وهو والجبانة سواء (2) . وقال بعض الشافعية: إن مصلى العيد لا يأخذ أحكام المسجد (3) . وعند الحنابلة أن مصلى العيد مسجد وله أحكامه (4) ، فمن لم ير أن مصلى العيد مسجد فإنه يرى جواز استبداله وبيعه إذ هو والجبانة سواء ما لم يوقف، ومن يرى أنه مسجد فإنه يلحقه بمسألة بيع الوقف واستبداله كما مر معنا سابقا في المبحث الثالث.
وقد أفتى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى عن حكم استبدال مسجد العيد إذا كان أصلح لأهل البلد، فقال: (فأنتم اطلعوا على موضع المسجد وموضعه الجديد، فإذا كان القديم أصلح لأهل البلد فليبق على ما كان عليه، وإذا كان الجديد أصلح منه لهم فلا مانع من انتقال صلاة العيد إليه ويبقى موضع القديم بعد ذلك على حكمه قبل أن يصلى فيه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته) .
مفتي الديار السعودية ص \ ف 898 \ 1 في 24 \ 3 \ 1378 هـ) .
__________
(1) صفحة 238 من بحثنا هذا.
(2) صفحة 238 من بحثنا هذا.
(3) صفحة 241 من بحثنا هذا.
(4) صفحة 242 من بحثنا هذا.(79/250)
أهم النتائج:
1 - أن المساجد لها أحكام خاصة بها، منها ما هو واجب نحوها، ومنها ما هو مستحب عمله نحوها.
2 - أن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أداء صلاة العيدين في المصلى ولم يأذن بصلاتها في المسجد إلا من عذر.
3 - الجمهور من الحنفية والشافعية وغيرهم من شراح الأحاديث كابن حجر والنووي يرون أن تلك المصليات ليست مساجد، ولا تأخذ أحكام المساجد لما ذكروه سابقا، والحنفية ألحقوا تلك المصليات ببعض أحكام المساجد.
4 - يرى الحنابلة أن مصلى العيد مسجد له ما للمساجد من أحكام وعمدتهم حديث: «وليعتزلن المصلى (1) » ، وقد سبق توجيه الجمهور له في أثناء البحث.
5 - يرى القاضي عياض والدارمي أن هذه المصليات لا تأخذ حكم المساجد إلا إذا أوقفت.
هذا والله نسأل أن يرزقنا جميعا العلم النافع والعمل الصالح وأن يبلغنا والمسلمين كل خير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1652) ، صحيح مسلم صلاة العيدين (890) ، سنن الترمذي الجمعة (539) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1559) ، مسند أحمد (5/84) .(79/251)
المماطلة
مظاهرها وأضرارها وأنواعها وأسبابها في الفقه الإسلامي
لفضيلة الدكتور: عبد الله بن ناصرالسلمي (1)
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد:
فإن من أعظم سمات الخير في المجتمع هو أداء الحقوق والواجبات، والإنسان مدني بالطبع، ولا يمكن أن ينفك عن العلاقات الإنسانية، ومن هنا فإن من أهم واجبات تلك العلاقة بين الناس في مجتمعاتهم هو حسن التعامل، والوفاء، وعدم المماطلة في الحقوق والاستيفاء، وإذا كان من المستقر لدى المطلعين في الشريعة الإسلامية أن حقوق العباد مبناها على المشاحة، وحقوق الله مبناها على المسامحة، فلا غرو إذا أن نجد النصوص الشرعية، والآثار السنية، تؤكد على هذا الأمر وتهتم به أيما اهتمام، فتعالج هذه القضية قبل حصولها وبعد حصولها، للعلم بأن مشكلة المطل
__________
(1) الأستاذ المساعد في المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.(79/253)
في الوفاء بالحقوق من أعظم الأضرار على المجتمعات الإنسانية، فلا يكاد يوجد المطل في أداء الحقوق والواجبات في مجتمع إلا وتكثر الحيل، ويفشو الخداع والمكر ويتفاقم المين والكذب كما قال - صلى الله عليه وسلم - حينما سئل ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول الله؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف (1) » .
ولا يمكن أن يتوصل إلى الحلول الناجعة، والتنظيمات الرادعة، قبل معرفة أسباب المطل ومظاهره، وصوره في أداء الحقوق، فهذا هو هدف الدراسة في هذا الموضوع.
أولا: أسباب اختيار الموضوع:
1 - هو انتشار ظاهرة المماطلة والتسويف في الوفاء بالحقوق لدرجة أنك لا تكاد تجد إلا القلة من الناس الذين يقومون بإقراض الناس القرض الحسن لأنهم مع إحسانهم للغير، لا يستطيعون رد حقوقهم إلا بالمشقة والعنت.
2 - الإحصاءات الرسمية في كثرة الشيكات المرتجعة، والتي لا يوجد لها رصيد لأداء الحقوق، يظهر مدى كثرة المماطلات، وضرورة الاهتمام بمعالجة هذه القضية الخطيرة، بمعرفة أسبابها ومظاهرها وصورها وأضرارها.
3 - تهاون بعض الناس بسرعة أداء الحقوق، واستثمار أموال
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأذان باب الدعاء قبل السلام برقم 833.(79/254)
الغير مع مطالبتهم بها، يعد من أكل أموال الناس بالباطل، لذا كان من الواجب بيان حكم الشريعة الإسلامية في مثل هؤلاء.
ثانيا: خطة البحث:
جعلت البحث مشتملا على مقدمة وتمهيد وأربعة مباحث وخاتمة.
أولا: المقدمة وتشمل على أهمية الموضوع وأسباب اختياره، ومفردات البحث.
ثانيا: التمهيد، وفيه ثلاثة مطالب:
: المطلب الأول: تعريف المماطلة في اللغة والاصطلاح.
المطلب الثاني: تعريف الحقوق في اللغة والاصطلاح.
المطلب الثالث: أسباب شيوع ظاهرة الاستدانة.
ثالثا: المباحث:
المبحث الأول: وجوب إبراء الذمة من الحقوق، وتحته ثلاثة مطالب:
المطب الأول: أهمية إبراء الذمم.
المطلب الثاني: أنوع الحقوق.
المطلب الثالث: أهمية توثيق الحقوق ووسائلها.
المبحث الثاني: مظاهر المماطلة والتسويف وأنواع الضرر المترتب عليها، وتحته مطلبان:
المطلب الأول. مظاهر المماطلة والتسويف.
المطلب الثاني: أنواع الضرر المترتب على المماطلة، وتحته فرعان:(79/255)
الفرع الأول: الضرر المادي.
الفرع الثاني: الضرر الأدبي.
المبحث الثالث، أنواع المطل، وتحته ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مطل المدين المعسر.
المطلب الثاني: مطل المدين الغني المعذور.
المطلب الثالث: مطل المدين الموسر بلا عذر.
المبحث الرابع، أسباب المطل، وتحته أربعة مطالب.
المطلب الأول: أسباب تعود إلى من عليه الحق.
المطلب الثاني: أسباب تعود إلى صاحب الحق.
المطلب الثالث: أسباب تعود إلى العلاقة بينهما.
المطلب الرابع: أسباب تعود إلى غير ما سبق.
رابعا: الخاتمة: وفيها أهم النتائج التي توصلت إليها في البحث.(79/256)
التمهيد وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف المماطلة في اللغة والاصطلاح:
المماطلة لغة: من المطل، وهو كما يقول الأزهري: هو إطالة المدافعة وكل مضروب طولا من حديد وغيره فهو ممطول (1) .
والمطل أصل يدل على مد الشيء وإطالته كما يقول ابن فارس (2) .
وهو مشتق من مطلت الحديدة إذا ضربتها ومددتها لتطول.
ومنه يقال: مطله بدينه مطلا، وماطله مماطلة: إذا سوفه بوعد الوفاء مرة بعد أخرى (3) .
وفي الاصطلاح الفقهي: فقد حكى النووي، وملا علي القاري أن المطل شرعا: منع قضاء ما استحق أداؤه وزاد القرطبي قيدا فقال: " عدم قضاء ما استحق أداؤه مع التمكن منه (4) .
وقال الحافظ ابن حجر: ويدخل في المطل كل من لزمه حق، كالزوج لزوجته والسيد لعبده، والحاكم لرعيته، وبالعكس (5)
__________
(1) انظر: الزاهر ص 231.
(2) انظر: معجم مقاييس اللغة (5 \ 331) .
(3) انظر: المصباح المنير (2 \ 700) أساس البلاغة ص 432، تحرير ألفاظ التنبيه ص 101.
(4) انظر: المفهم فيما أشكل على صحيح الإمام مسلم (4 \ 438) .
(5) فتح الباري (4 \ 466) .(79/257)
وعلى هذا فلا تعتبر المدافعة والتسويف في قضاء الدين مطلا إذا كان الدين مؤجلا في الذمة؛ لأن الدائن لما رضي بتأجيل دينه، فقد أسقط حقه في التعجيل، ولم يعد له قبل المدين حق في استيفائه قبل حلول الأجل، ومن ثم فلا يعتبر الممتنع عن الوفاء في هذه الحالة مماطلا، بل متمسكا بحق شرعي (1) .
وقد أوضح الباجي هذا المعنى بقوله: " المطل: هو منع قضاء ما استحق عليه قضاؤه فلا يكون منع ما لم يحل أجله من الديون مطلا، وإنما يكون مطلا بعد حلول أجله، وتأخير ما بيع على النقد عن الوقت المعتاد في ذلك على وجه ما جرت عليه عامة الناس من القضاء " (2) .
ولا يعتبر مماطلا أيضا من امتنع عن الوفاء لأجل عذر طرأ عليه مثل العجز المالي أو نقص في السيولة، وقد صالح الدائن ببعض ما له عليه من الحق بأشياء عينية من عقار أو سلع ونحوه. لأنه ربما يحصل كساد لبعض السلع، فلا يمكن بيعها، وليس عنده من المال ما يوفي به الدين الذي عليه، فالدائن إما أن يصبر وإما أن يعتاض عن دينه بهذه الأشياء العينية التي يمتلكها المدين.
مسألة: وهل يتصف بالمطل، من ليس القدر الذي استحق عليه حاضرا عنده، لكنه قادر على تحصليه بالتكسب والعمل والتجارة مثلا؟
__________
(1) انظر: دليل الفالحين (4 \ 459) ، قضايا فقهية معاصرة، د \ نزيه حماد، ص 322.
(2) المنتقى شرح الموطأ للباجي (5 \ 66) .(79/258)
اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال.
- قول بعدم الوجوب وهو إطلاق أكثر فقهاء الشافعية.
- وقول بالوجوب مطلقا.
- وقول بالتفصيل بين أن يكون أصل الدين وجب بسبب يعصى به فيجب، وإلا فلا. وقال جمال الدين الإسنوي، وهو واضح؛ لأن التوبة فيما فعله واجبة وهي متوقفة في حقوق الآدميين على الرد، وقال العراقي: " ولو قيل: بوجوب التكسب مطلقا لم يبعد، كالتكسب لنفقة الزوجة والقريب، وكما أن القدرة على الكسب كالمال في منع أخذ الزكاة (1) .
وعلى هذا التفصيل فإذا وجب عليه نفقة زوجته أو ولده وليس عنده القدر الكافي لنفقتهم لكنه قادر على العمل والوظيفة فيجب، وإلا فلا. لأن نفقة الزوجة والأبناء الصغار واجبة. والله أعلم.
__________
(1) انظر: طرح التثريب (6 \ 261) ، فتح الباري (4 \ 465) .(79/259)
المطلب الثاني: تعريف الحقوق في اللغة والاصطلاح:
الحق في اللغة خلاف الباطل، وهو مصدر حق الشيء، يحق إذا ثبت ووجب (1) ويطلق على العدل، والإسلام، والمال، والملك، والموجود الثابت والصدق (2) ، ويقال: حق الله الأمر: إذا أثبته وأوجبه (3)
__________
(1) انظر: لسان العرب (10 \ 49 وما بعدها) .
(2) انظر: القاموس المحيط (ص 1129) ولسان العرب (10 \ 50) والصحاح (4 \ 1460)
(3) انظر: أساس البلاغة ص 187 والمصباح المنير (1 \ 174) .(79/259)
وعرفه الجرجاني بقوله: " هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره (1) والحق اسم من أسماء الله تبارك وتعالى.
أما في الاصطلاح، فقد عرفه عبد العزيز البخاري صاحب كشف الأسرار بأنه: " الموجود من كل وجه الذي لا ريب في وجوده " (2) .
وعرفه الأستاذ السنهوري بأنه: مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون (3) أما الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا فقد قال: لم أر للحق بمفهومه العام تعريفا صحيحا جامعا لأنواعه كلها لدى فقهاء الشريعة أو القانون، ثم عرفه بأنه: اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفا (4) . وذلك كحق الولي في التصرف على من تحت ولايته، فإنه سلطة لشخص على شيء.
والمراد بالاختصاص: علاقة تشمل الحق الذي موضوعه مالي، كاستحقاق الدين في الذمة بأي سبب كان، والذي موضوعه ممارسة سلطة شخصية كممارسة الولي ولايته، والوكيل وكالته.
وهذه العلاقة لكي تكون حقا يجب أن تختص بشخص معين أو بفئة، إذ لا معنى للحق إلا عندما يتصور فيه ميزة ممنوحة لصاحبه، وممنوعة عن غيره. أما ما كان من قبيل الإباحات العامة، كالاصطياد، والاحتطاب فلا تعتبر حقا بالمعنى المراد هنا، إذ لا يوجد شخص مطالب
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص 48.
(2) كشف الأسرار (3 \ 134) .
(3) مصادر الحق في الفقه الإسلامي (1 \ 9) .
(4) المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي ص 11.(79/260)
بأداء هذا الحق لصاحبه.
ثم إن هذا الاختصاص لا يكون معتبرا ما لم يعتبره الشرع، ولذا اشترط إقرار الشرع له، إذ لا حق إلا ما اعتبره الشرع حقا.
والمراد بالسلطة: ما يشمل سلطة شخص على شخص كحق الولاية على النفس فهي للولي على القاصر، إذ له حق تأديبه وتطبيبه، والسلطة على شيء معين كحق الملكية، فهي سلطة على ذات الشيء.
والمراد بالتكليف: تكليف الغير بأداء ما في عهدته لصاحب الحق، كقيام الأجير بعمله، وقيام المدين بأداء دينه (1) .
وما ذكره فضيلة الشيخ الزرقا في تعريفه وجيه وجامع، غير أن الفقهاء المتقدمين - رحمهم الله - لم يلتزموا في تعاريفهم ما التزمه المناطقة والأصوليون ومتأخرو الفقهاء بأن التعريف لا بد وأن يكون جامعا مانعا؛ لأن أكثر تعاريفهم إنما هو تعريف شمولي في الجملة وهو ما يعرف عند المناطقة بالتعريف بالرسم ولهذا نجد أن الفقهاء - رحمهم الله - يستعملون الحق بمعان عديدة، ومواضع مختلفة، وكلها ترجع إلى المعاني اللغوية للحق.
__________
(1) انظر: المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي (ص 11 وما بعدها) .(79/261)
أ - فقد استعملوه بمعنى عام يشمل كل ما يثبت للشخص من ميزات، سواء أكان الثابت شيئا ماليا أو غير مالي.
ب - كما استعملوه في مقابل الأعيان والمنافع المملوكة، بمعنى المصالح الاعتبارية الشرعية التي لا وجود لها إلا باعتبار الشارع، كحق الشفعة وحق الطلاق، وحق الحضانة والولاية.
ج - كما أنهم يلاحظون أحيانا المعنى اللغوي فقط في الاستعمال كما في قولهم حقوق الدار، أي مرافقها كحق التعلي وحق الشرب وحق المسيل ونحو ذلك؛ لأنها ثابتة للدار ولازمة لها، ويقولون حقوق العقد، ويقصدون بذلك ما يتبع العقد من التزامات ومطالبات تتصل بتنفيذ حكمه، فعقد البيع مثلا حكمه نقل ملكية المبيع، وحقوقه: تسليم المبيع ودفع الثمن.(79/262)
المطلب الثالث: أسباب شيوع ظاهرة الاستدانة:
إن من أعظم أسباب الغنى، وأهم وسائل السعادة الاعتدال في تدبير المال والاقتصاد في النفقة، وذلك لأن الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، كان الإسراف في الإنفاق والتبذير في المال داعية للفقر، وسببا لتحمل الديون والالتزامات المالية، وهو أشد أنواع الفقر، فالدين هم بالليل، وذل بالنهار، وهو يحمل المدين على انتحال الأسباب الكاذبة،(79/262)
واختلاق المعاذير الواهية وخلف المواعيد المحترمة، وعدم الوفاء بالواجب، فيجعل الآمن خائفا والمطمئن مضطربا، والصادق كاذبا، وكم تورطت أنفس بالديون فأصابها الفقر بعد الغنى، والذل بعد العز، والضعف بعد القوة وأصبحت تئن تحت أعباء الديون أنين الثكلى (1) ولقد تساهل كثير من الناس في الديون حتى أصبحت ذمم كثير منهم مشغولة منهكة وإذا نظرنا وسبرنا أسباب شيوع الاستدانة نجد أنها أسباب كثيرة لا تقتصر على شيء واحد، ولعل من أهمها:
أولا: التوسع في الشهوات، والترف البالغ، والتنعم الزائد، وحب الظهور الكاذب، واستهواء المظاهر الباطلة، ومجاراة المدنية المسرفة، فكل هذا أدى بالبعض لمجاراة هذه المظاهر إلى الاستدانة وإظهار خلاف الواقع، كي يظهر بالمظهر الكاذب من التنعم والترف.
ثانيا: تحكم العادات القبيحة في الأفراح والحفلات والمناسبات والتشبه بالأغنياء في أساليب معيشتهم ومناسباتهم، فبسبب هذه العادات جعلت محدودي الدخل، ينافس هؤلاء، فيستدين للإسراف غير العقلاني في الإنفاق البذخي، والمجاراة غير المحدودة مغترا براتبه الشهري، ومكتفيا
__________
(1) انظر: مجلة الإسلام العدد (23) ص 22.(79/263)
بما تحققه له اللحظة الحاضرة دون النظر إلى المستقبل، وما يحمل وراءه من أثقال الدين، وأحماله.
ثالثا: ومن أسباب الاستدانة، أن يقوم التاجر بدراسة مشروع استثماري، يستغرق مالا كثيرا، والجدوى الاقتصادية لهذا المشروع ناجحة، فيستدين لإتمام هذا المشروع، ويغطى الدين الذي عليه من أرباح هذا المشروع.
رابعا: ومن الأسباب أيضا العمل غير المشروع المقتضي لثبوت الدين على الفاعل، كالقتل العمد الذي عفا أولياء المقتول عن القصاص إلى الدين، أو كالجنايات الموجبة للأرش، وإتلاف مال الغير، وكتعدي يد الأمانة، أو تفريطها في المحافظة على ما كانت بيده - فكل هذه الأعمال غير المأذون فيها يترتب عليها أموال والتزامات للغير (1) ، فربما لا يكون عنده من المال ما يقضي به لأصحاب الحقوق حقوقهم فيضطر للاستدانة.
خامسا: ومن الأسباب هلاك المال في يد الحائز إذا كانت يد ضمان مهما كان سبب الهلاك، كهلاك الشيء في يد الأجير المشترك فهلاك السيارات عند أصحاب الورش مثلا وتعرضها لحريق يجعل أصحاب المحلات مسؤولين مسؤولية تامة لأنهم أجراء مشتركون والأجير المشترك يضمن سواء تعدى أو لم يتعد (2) فيضطر أصحاب المؤسسات للاستدانة
__________
(1) انظر: القوانين الفقهية لابن جزي ص: 360، والموسوعة الفقهية الكويتية 21 \ 110.
(2) انظر: المغني (8 \ 103) .(79/264)
لتسديد الأموال التي يطالب بها أصحاب السيارات مثلا.
سادسا: ومن الأسباب أيضا، أن المرء قد يكون قليل ذات اليد وعنده زوجة لا يستطيع الإنفاق عليها، مع العلم بأن نفقة الزوجة واجبة سواء أكان الزوج موسرا أم معسرا، فإن كان الزوج حاضرا وله مال، أنفق من ماله جبرا عنه، وإن كان معسرا، فإن فقهاء الحنفية يرون أن القاضي يفرض لها النفقة، ثم يأمرها بالاستدانة عليه، فإن لم تجد من تستدين منه، أوجب القاضي نفقتها على من تجب عليه من أقاربها لو لم تكن متزوجة، أما إن كان غائبا، وليس له مال حاضر، فإنه لا تفرض لها نفقة عليه، خلافا لزفر من الحنفية، علما بأن قوله هو المفتى به عند الحنفية.
ومذهب الشافعية والحنابلة قريب من ذلك حيث يرون أنه يجب عليه أن يستدين لها، ولها أن تستدين، ولو بغير إذن، وترجع عليه بما استدانت.
وبهذا الوجوب تجعل كثيرا من المعدمين يستدينون لأجل إطعام من تحت أيديهم.(79/265)
المبحث الأول، وجوب إبراء الذمم من الحقوق وتحته ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: أهمية إبراء الذمم من الحقوق
حقوق العباد مبناها على المشاحة، فلا يجوز إسقاط حق الغير بغير إذنه ولا يجوز أخذ ماله من غير رضاه، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس (1) »
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (24 \ 241) والدارقطني في السنن (3 \ 26) والحديث حسن بشواهده راجع إرواء الغليل (5 \ 279) .(79/265)
ولقد حرص الإسلام بتعاليمه وتوجيهاته أن لا تكون ذمة المرء مشغولة بحقوق العباد ومظالمهم، فحذر ورغب، ووعد وتوعد، تارة بالتهديد والتخويف، وتارة بالترغيب والتحفيز، كي يلقى المرء ربه، وليس أحد يطلبه في مظلمة في عرض ولا مال.
ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه، فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه (1) » .
وفي هذا الحديث العظيم دلالة ظاهرة على وجوب التخلص من حقوق العباد في الدنيا، وطلب التحلل والسماح منهم، قبل أن يأتي يوم القيامة، ولا ينفع بعد ذلك دينار ولا درهم، {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} (2) {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} (3) {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} (4) {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} (5) .
والمصيبة والفضيحة يوم أن لا يكون عند المرء حسنات يقتص بها منه لصاحبه، فحينئذ يؤخذ من سيئات صاحبه فتطرح عليه ثم يلقى في النار. وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من مغبة أخذ أموال الناس بأي وسيلة كانت وهو ينوي عدم إرجاعها إلى
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6534) .
(2) سورة المعارج الآية 11
(3) سورة المعارج الآية 12
(4) سورة المعارج الآية 13
(5) سورة المعارج الآية 14(79/266)
أصحابها، سواء كانت باسم البيع أو الإجارة أو القرض أو الوديعة، بأن مآله الخسران في الدنيا، والعذاب الشديد ينتظره في الآخرة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله (1) » .
فمن كانت نيته الوفاء بالديون التي عليه وهو قادر على ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى يعينه على ذلك، ولو مات أدى الله عنه ذلك لما يعلم سبحانه من عبده الصدق في الوفاء.
وهل إذا أخذها، وهو يعلم من نفسه العجز عن الوفاء، يكون كمن أخذها يريد أداءها أم يريد إتلافها؟
ذكر ابن المنير أن الأخذ مقيد بالعلم بالقدرة على الوفاء، قال: لأنه إذا علم من نفسه العجز، فقد أخذ لا يريد الوفاء، إلا بطريق التمني، والتمني خلاف الإرادة.
وقد تعقب الحافظ ابن حجر فهم ابن المنير هذا وقال: وفيه نظر؛ لأنه إذا نوى الوفاء مما سيفتحه الله عليه، فقد نطق الحديث بأن الله يؤدي عنه، إما بأن يفتح عليه في الدنيا، وإما بأن يتكفل عنه في الآخرة فلم يتعين التقييد بالقدرة في الحديث، ولو سلم ما قال، فهناك مرتبة ثالثة، وهو أن لا يعلم هل يقدر أو يعجز (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2387) وفتح الباري (5 \ 53)
(2) انظر: فتح الباري (5 \ 54) .(79/267)
أما من كانت نيته المماطلة والجحود وعدم الوفاء - كما هو عمل بعض المسلمين اليوم والله المستعان - فقد قصد إتلاف حق الدائن، ومن أراد إتلاف حق الدائن أتلفه الله سبحانه وتعالى، والويل لمن يكون الله تعالى خصمه، وظاهر الحديث أن الإتلاف يقع له في الدنيا، وذلك في معاشه أو في نفسه كما قال الحافظ ابن حجر ثم قال: وهو علم من أعلام النبوة، لما نراه بالمشاهدة ممن يتعاطى شيئا من الأمرين (1) .
وقيل المراد بالإتلاف عذاب الآخرة، غير أن إطلاق الحديث يفيد العموم والله أعلم.
وفي هذا الحديث الشريف الحض على ترك استئكال أموال الناس والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة، وأن الجزاء قد يكون من جنس العمل، كما قال ابن بطال - رحمه الله - (2) .
وقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على عدم التسارع إلى أخذ أموال الناس حتى لا يبقى المسلم مدينا، وحذر من مغبة الدين، فمن تشديد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك: أنه «كان عليه الصلاة والسلام إذا مات الميت وأتي به للصلاة عليه سأل عليه الصلاة والسلام هل عليه دين، فإن قيل نعم قال: فهل ترك شيئا، فإن قالوا: ترك صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم (3) »
__________
(1) انظر: فتح الباري (5 \ 54)
(2) انظر: فتح الباري (5 \ 54)
(3) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2289 و 2298) ومسلم في صحيحه (3 \ 1237) .(79/268)
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: وفي هذا الحديث إشعار بصعوبة أمر الدين، وأنه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة " (1) .
وكأن الذي فعله - صلى الله عليه وسلم - من ترك الصلاة على من عليه دين ليحرض الناس على قضاء الديون في حياتهم، والتوصل إلى البراءة منها لئلا تفوتهم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) .
وهل كانت صلاته على من عليه دين محرمة عليه الصلاة والسلام أو جائزة؟ فيه وجهان عند أهل العلم رجح النووي - رحمه الله - الجزم بجوازه مع وجود الضامن كما في حديث مسلم " ا. هـ (3) .
ولم يكتف عليه الصلاة والسلام بترك الصلاة على المدين، ليبين خطورة بقاء أموال الناس في ذممهم، ووجوب المسارعة بإبراء الذمم من حقوق العباد، بل أخبر عليه الصلاة والسلام «أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه (4) » .
ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - «معلقة بدينه (5) » أي محبوسة عن
__________
(1) انظر: فتح الباري (4 \ 468) .
(2) انظر: شرح الإمام مسلم للنووي (11 \ 60) وفتح الباري (4 \ 478) .
(3) انظر: فتح الباري (4 \ 478) .
(4) أخرجه الترمذي في جامعه (3 \ 389) وابن ماجه في سننه (2 \ 806) وأحمد في مسنده (15 \ 425) والحديث حسن الإسناد حسنه الترمذي. وصححه يحيى بن سعيد القطان انظر التمهيد لابن عبد البر (23 \ 236) .
(5) سنن الترمذي الجنائز (1079) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2413) ، مسند أحمد (2/507) ، سنن الدارمي البيوع (2591) .(79/269)
مقامها الكريم وقال العراقي: أي أمرها موقوف لا حكم لها بنجاة، ولا هلاك حتى ينظر هل يقضى ما عليها من الدين أم لا (1) .
وظاهر الحديث على عمومه سواء ترك الميت وفاء أم لا، وهذا ما عليه أكثر الشافعية.
وقال الشوكاني - رحمه الله -: وفي الحديث الحث للورثة على قضاء دين الميت، والإخبار لهم بأن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى عنه، وهذا مقيد بمن له مال يقضى منه دينه، وأما من لا مال له ومات عازما على القضاء، فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله تعالى يقضي عنه ... " (2) .
ولقد كان السلف الصالح يحرصون على أداء ديون موتاهم لعلمهم الأكيد أن الميت محبوس بدينه، قال معمر بن راشد - رحمه الله - قيل لابن طاوس بن كيسان التابعي المشهور في دين أبيه: لو استنظرت الغرماء قال: أستنظرهم، وأبو عبد الرحمن - يعني أباه طاوسا - عن منزله محبوس!: قال: فباع مال ثمنه ألف بخمسمائة " (3) استعجالا لتسديد الدين فرحمهم الله رحمة واسعة.
__________
(1) انظر: تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (4 \ 164) دار الكتب العلمية.
(2) انظر: نيل الأوطار (4 \ 53) ط. دار الجيل. 1973.
(3) انظر: شرح السنة للبغوي (8 \ 203)(79/270)
فإذا كان الدين بهذه المثابة من التغليظ والتشديد والوعيد، فلماذا إذن يتساهل الكثير بأمره، ولم يقدروه حق قدره، حتى أصبح غالب الناس إما مدينا يطالبه غرماؤه، وإما منتظرا حلول أقساطه التي عليه، وإذا كان من أعظم القربات وأجل الطاعات هو إراقة الدماء في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وبذل النفس في الجهاد في سبيله تعالى وقد جاء في فضله وفضل المجاهد في سبيله من الفضائل والمكرمات، والشرف في القرب عند الرحمن ما جاء.
ومع ذلك كله فإن حقوق العباد تقف حاجزا منيعا دون نيل هذه المكرمات والفضائل، «فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل، فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نعم إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف قلت: قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك) (1) » رواه مسلم (2) . فانظر رحمك الله فضل المجاهد في سبيل الله وأنه إن قتل وهو صابر محتسب مقبل غير مدبر فإن خطاياه كلها مكفرة، وذنوبه
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1885) ، سنن الترمذي الجهاد (1712) ، سنن النسائي الجهاد (3157) ، الجهاد (3158) ، مسند أحمد (5/304) ، موطأ مالك الجهاد (1003) ، سنن الدارمي الجهاد (2412) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (13 \ 1501) .(79/271)
مغفورة، وسيئاته معفوة، ومعايبه مستورة، إلا الدين، فهذا يدل على عظم حقوق الآدميين ولهذا قال النووي - رحمه الله - وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - (إلا الدين) ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر، لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوق الله تعالى ا. هـ (1) فإذا كان كبار الصحابة الذين شهدوا بدرا وأحدا والخندق وغيرها من الغزوات العظيمة الذين شهد بصدقهم الكتاب والسنة وإجماع سلف هذه الأمة يخاطبون بذلك، ويطبق عليهم هذا الحكم، فما ظنك بغيرهم الذين هم أقل منهم في المنزلة، والعبادة والتقوى، فالبدار البدار والنجاة النجاة فلقد نزل من السماء تشديد ووعيد في الدين وحقوق الآدميين جعلت الحبيب عليه الصلاة والسلام يتعجب منه فهذا محمد بن جحش الصحابي رضي الله عنه يقول: «كنا جلوسا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع رأسه إلى السماء، ثم وضع راحته على جبهته ثم قال: سبحان الله ماذا نزل من التشديد، فسكتنا وفزعنا، فلما كان من الغد سألته يا رسول الله ما هذا التشديد الذي نزل فقال: والذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه (2) » .
وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من أعظم الذنوب بعد
__________
(1) انظر: شرح مسلم للنووي (13 \ 29) والتمهيد لابن عبد البر (23 \ 232) .
(2) أخرجه النسائي في المجتبى (7 \ 314) .(79/272)
الكبائر أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء (1) » .
فالسعيد كل السعادة من لقي ربه وليس أحد من العباد يطلبه بمظلمة في عرض ولا مال، فلا يحجب عن خير له، ولا يحبس بسبب دين عليه.
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3 \ 637) وأحمد في المسند (32 \ 246) والحديث في إسناده أبو عبد الله القرشي، قال عنه الذهبي لا يعرف، وقال الحافظ مقبول، وفي الباب أحاديث تقويه راجع تخريج المسند (32 \ 247) . فائدة: قال الطيبي - رحمه الله -: فإن قلت قد سبق أن حقوق الله مبناها على المساهلة، وليس كذلك حقوق الآدميين في قوله يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين وهاهنا جعله دون الكبائر فما وجه التوفيق قلت: قد وجهناه أنه على سبيل المبالغة تحذيرا وتوقيا عن الدين، وهذا مجرى على ظاهره ا. هـ وقال بعض العلماء: فعل الكبائر عصيان الله تعالى، وأخذ الدين ليس بعصيان، بل الاقتراض والتزام الدين جائز، وإنما شدد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من مات وعليه دين ولم يترك ما يقضي دينه كيلا تضيع حقوق الناس. راجع عون المعبود في شرح سنن أبي داود (9 \ 137) .(79/273)
المطلب الثاني: أنوع الحقوق:
الحق له أنواع وتقسيمات باعتبارات عدة ومختلفة..
ومرجع هذه التقسيمات، إما بالنظر إلى صاحب الحق، أو بالنظر إلى من عليه الحق، أو بالنظر إلى الشيء المستحق، أو بالنظر إلى ما يتعلق به الحق. (1)
__________
(1) انظر: كشف الأسرار (4 \ 134) والتلويح على التوضيح لمتن التنقيح (1 \ 150) وما بعدها.(79/273)
والذي يهمنا في هذا البحث هو تقسيمه باعتبارين اثنين:
أولا: باعتبار المستحق أو باعتبار عموم النفع وخصوصه يقسم الحق بهذا الاعتبار إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: حق خالص لله تعالى، وهو ما يتعلق به النفع العام للعالم، فلا يختص به أحد، وإنما هو عائد على مجموع الأفراد والجماعات وشرع حكمه للمصلحة العامة، وإنما نسب إلى الله تعظيما لشأنه، أو لئلا يتجرأ أحد على دعوى اختصاصه به وقدرته على إسقاطه عن نفسه أو عن غيره، وإلا فالله الغني عن كل شيء؛ لأن الله تعالى وتقدس أن ينتفع بشيء، فلا يجوز أن يكون شيء حقا له بهذا الوجه.
وهذا القسم تحته أنواع ثمانية (1) :
1 - العبادات المحضة (الخالصة) : كالصلاة والصيام، والزكاة، والحج وما بنيت عليه هذه العبادات من الإيمان والإسلام، وهذه العبادات فرض على المكلف الإتيان بها، وفي ترك بعضها ترك للإيمان والإسلام كما في ترك الإيمان أو الإسلام، أو في ترك الصلاة على الخلاف فيه عند الفقهاء. وهذه العبادات فيها مصلحة للعباد والبلاد، إذ بها قيام الدين، وهو ضروري لقيام المجتمع على أسس سليمة ونظم فاضلة.
__________
(1) هذا التقسيم عند الحنفية راجع كشف الأسرار (4 \ 135) .(79/274)
2 - العبادات التي فيها معنى المؤونة مثل صدقة الفطر، فإنها عبادة من جهة أنها تقرب إلى الله تعالى بالصدقة على الفقراء والمساكين، وهي طهرة للصائم يشترط في صحة أدائها النية، ولكنها ليست عبادة محضة بل فيها معنى التحمل عن الغير؛ لأنها وجبت على الإنسان بسبب نفسه وبسبب غيره، وهم الأشخاص الذين يمونهم ويلي عليهم، ولكونها وجبت على المخرج بسبب الغير لم تكن عبادة خالصة، وإنما كان فيها معنى المؤونة؛ لأن العبادة المحضة (الخالصة) لا تجب بسبب الغير.
3 - مؤونة فيها معنى العبادة، وهي العشر: وهو ما يؤخذ مما تخرجه الأرض العشرية المملوكة لمسلم، كزكاة الزروع والثمار المقدرة بالعشر، أو نصف العشر حسب شروطها، وإنما كانت مؤونة؛ لأنها وظيفة مقدرة شرعا على نماء الأرض من الزروع والثمار، وتجب بسبب ما يخرج منها، اعترافا بفضل الله تعالى؛ لأنه سبحانه هو المنبت والرزاق ووجه العبادة فيها لأمور منها:
أ - أنها وجبت ابتداء على المسلم فقط، ولم تجب ابتداء على غير المسلم من الزراع، والعبادة لا يكلف بها غير المسلم.
ب - أنها تعطى لفئات معينة ممن تستحق الأخذ من الزكوات.
4 - مؤونة فيها معنى العقوبة، مثل الخراج على الأرض الزراعية ووجه المؤونة، فلتعلق بقاء الأرض لأهل الإسلام بالمقاتلين الذين هم مصارف الخراج. ووجه العقوبة أنه فرض بسبب بقاء أهل الأرض على(79/275)
غير الإسلام، ففرضت الجزية على رقابهم، والخراج على أرضهم.
5 - عقوبات كاملة، وهي كحد الزنى، وحد السرقة وحد شرب الخمر ونحو ذلك، وكونها عقوبة ظاهر، وأما تسميتها كاملة، فلأنها كانت على جنايات كاملة، والمراد بالجناية الكاملة، ما لا يشوبها معنى الإباحة، فإنها لا تحل بحال، ولأن المقصود بالجزاء حماية المجتمع كله من هذه الجرائم، فكانت حقا خالصا لله لا يملك أحد إسقاطه.
6 - عقوبات قاصرة: مثل حرمان القاتل من الإرث ومن الوصية وسميت قاصرة؛ لأنها عقوبة سلبية لم يلحق القاتل بها تعذيب بدني أو غرم مالي، وهو حق لله؛ لأن المقتول لا ينتفع بهذا الحرمان.
7 - عقوبات فيها معنى العبادة: وهي الكفارات ككفارة اليمين، وكفارة الإفطار في نهار رمضان، عمدا بلا عذر، وكفارة القتل والظهار، ووجه العقوبة فيها أنها وجبت جزاء على معصية لتسترها، ووجبت في مقابل أفعال محظورة في الأصل، ووجه العبادة فيها هو أن فعل الكفارة يكون بعبادة كالصوم في كفارة الظهار والقتل واليمين أو الإعتاق أو الصدقة.
8 - حق قائم بذاته، وهو الحق الذي ثبت لله تعالى ابتداء من غير أن يتعلق بذمة إنسان يؤديه، كخمس الغنائم، وزكاة المعادن، والكنوز التي توجد في باطن الأرض.(79/276)
القسم الثاني: حق خالص للعباد:
والمراد به ما تعلقت به مصالح العباد، وصح إسقاطه من قبلهم (1) .
__________
(1) انظر: الفروق للقرافي (1 \ 256) .(79/276)
وهو ما يكون نفعه مختصا بشخص معين، مثل الحقوق المالية للأشخاص، أو المتعلقة بالمال، كحق الدية، وحق استيفاء الدين، وحق استرداد المغصوب إن كان موجودا، أو حق استرداد مثله أو قيمته إن كان المغصوب هالكا وحبس العين المرهونة وغير ذلك.
ومما ينبغي التنبيه عليه ما ذكره الإمام القرافي بقوله: ونعني بحق العبد المحض أنه لو أسقطه لسقط، وإلا فما من حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه، فيوجد حق الله تعالى دون حق العبد، ولا يوجد حق العبد إلا وفيه حق الله تعالى وإنما يعرف ذلك بصحة الإسقاط، فكل ما للعبد إسقاطه فهو الذي نعني به حق العبد، وكل ما ليس له إسقاطه، فهو الذي نعني بأنه حق الله تعالى " ا. هـ (1) .
فجعل هذا الشيء حقا للعبد إنما هو من قبل الله تعالى، وإيصال الحق إلى صاحبه طاعة لله، وطاعة الله حق لله على العباد (2) ، وهذا ما يميز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الأنظمة الوضعية، فالأنظمة الوضعية يطبقها المكلفون خوفا من عقوبة السلطة، فإذا أمنوا من رقابتها لم يردعهم شيء، وأما الشريعة الإسلامية فإن المسلم يتقيد بأحكامها بوازع من داخله، وهو خشيته من الله تعالى ومراقبته له، سواء اطلع عليه الخلق أم لم يطلعوا (3)
__________
(1) الفروق للقرافي (1 \ 256) وانظر الموافقات للشاطبي (2 \ 333) .
(2) انظر: الموافقات للشاطبي (2 \ 333) .
(3) لفقهاء المالكية وغيرهم تقسيم باعتبار وجود حق للعبد، وعدم وجود حق له راجعه في كل من تهذيب الفروق..(79/277)
القسم الثالث: ما اجتمع فيه الحقان، وكان حق الله هو الغالب، مثل حد القذف بعد تبليغ المقذوف، وثبوت الحد على القاذف وإلا فقبل رفع الأمر للحاكم وتبليغه بالقذف هو حق خالص للعبد، ولذلك يملك التبليغ عنه ويملك عدم التبليغ (1) .
ووجه كونه فيه حق لله، فلأن في إقامته صيانة لأعراض الناس ومنعا للخصومات بينهم، وهذا يحقق مصلحة عامة، فكان حقا لله، وأما أن فيه حقا للعبد، فلأنه يدفع العار عن المقذوف، ويظهر براءته، وكذب المفتري عليه، وهذه مصلحة خاصة.
وكون حق الله تعالى غالبا فلأمور منها:
أ - تداخل العقوبة فيه، بمعنى أنه لو قذف جماعة بكلمة أو كلمات متفرقة، لا يقام عليه إلا حد واحد فقط.
ب - ولأن القصاص في حقوق العباد مبني على المماثلة، ولا مماثلة القذف بالزنى والجلد.
ج - ولأن استيفاءه يكون بواسطة السلطان، وليس كذلك شأن حقوق العباد (2) .
__________
(1) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (18 \ 18) .
(2) انظر: كشف الأسرار (4 \ 160) والموسوعة الفقهية الكويتية (18 \ 18) .(79/278)
القسم الرابع: ما اجتمع فيه الحقان، وحق العباد فيه غالب: مثل القصاص في القتل العمد، فإن القصاص فيه حياة للناس وتأمين لهم على(79/278)
أنفسهم كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) . وهذه مصلحة عامة، فكانت حقا لله تعالى، ومن جهة أخرى فإن فيه حقا للعباد من جهة أن القصاص شفاء لصدور أولياء المقتول وإطفاء نار غضبهم وحقدهم على القاتل، وهذه مصلحة خاصة للعبد.
ويرى الفقهاء - رحمهم الله - أن في جواز عفو ولي الدم عن القصاص والتنازل عنه إلى الدية أم إلى غير مال، دلالة على أن حق العبد في هذا غالب (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 179
(2) انظر: تيسير التحرير (2 \ 174 - 182) .(79/279)
ثانيا: تقسيم الحق باعتبار متعلق الحق.
ينقسم الحق بهذا الاعتبار إلى قسمين: مالي وغير مالي.
أولا: الحق المالي: وهو ما كان متعلقا بالمال، كملكية الأعيان، أو الديون أو المنافع.
وهذا القسم يتنوع إلى نوعين:
النوع الأول: الحق العيني:
وهو علاقة حقوقية بين شخص وشيء مادي معين بذاته تخوله سلطة مباشرة عليه (1) وذلك كحق الملكية، فإنه سلطة قانونية مباشرة
__________
(1) انظر: المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي ص 20.(79/279)
لصاحبه المالك على الشيء المملوك. وهذا الحق لا يحتاج وجوده إلى شخص آخر غير صاحبه، فليس في الحق العيني سوى أمرين هما صاحبه ومحله.
النوع الثاني: الحق الشخصي:
وهو مطلب يقره الشرع لشخص على آخر، وهو كل علاقة شرعية بين شخصين يكون أحدهما فيها مكلفا تجاه الآخر على أن يقوم بعمل فيه مصلحة ذات قيمة للآخر، أو أن يمتنع عن عمل مناف لمصلحته، ويقابل هذا الحق التزام من الآخر بأداء هذا الحق. وهذا الحق يتنوع فتارة يقتضي القيام بفعل، وتارة يقتضي امتناعا عن فعل.
فمثال الأول: حق المشتري في تسليم المبيع، والتزام القاتل بدفعها (1) .
ومثال الثاني: حق المودع على المستودع في أن يمتنع عن استعمال الوديعة.
__________
(1) انظر: المدخل إلى نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي (ص 17 - 20) .(79/280)
ثانيا: الحق غير المالي:
وهذا الحق ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ - حق غير مالي، يتعلق بالأموال، ولكن لا يجوز الاستعاضة عنه بمال، مثل الشفعة حيث إن حق الشفعة قبل بيع الشريك، حق مجرد، وبعد البيع حق ثابت، وهو حق ضعيف لا يصح الاستعاضة عنه بمال؛ لأنه شرع لدفع الضرر (1) إلا أن الشفعة حق يتعلق بالعقار وهو مال بالإجماع.
__________
(1) انظر: شرح منتهى الإرادات (2 \ 265) بدائع الصنائع (6 \ 49) ، تحفة الفقهاء (3 \ 425) .(79/280)
ب - حق غير مالي، لا يتعلق بالأموال، ولكن يجوز الاستعاضة عنه بمال، مثل القصاص؛ لأنه حق غير مالي، ولا يتعلق بالأموال؛ لأنه عقوبة القتل العمد، وهذا ليس مالا، ولكن يجوز الاستعاضة عن القصاص بمال، وذلك عند الصلح على مال (1) .
ج - حق غير مالي، ولا يتعلق بالأموال، ولا يجوز الاستعاضة عنه بمال، ولكن قد يترتب عليه حقوق مالية مثل الأبوة والأمومة والبنوة، وحق الولي في التعرف على الصغير.
__________
(1) انظر: المغني (7 \ 458) .(79/281)
المطلب الثالث: أهمية توثيق الحقوق ووسائلها:
التوثيق له عدة معان لا تكاد تخرج عن معنيين:
الأول: الإحكام، والتقوية: يقال: وثق الشيء إذا أحكم ويقال: وثق الأمر توثيقا: أحكمه وقواه، فهو وثيق أي ثابت محكم (1) .
الثاني: الشد والربط والإلزام: فالتوثيق مصدر وثق الشيء إذا شده وربطه لأنها تربط المتعاقدين، أو من ألزم نفسه ما يلزمه ومنه سمي الحبل والقيد وثاقا (2) .
وأما في الاصطلاح الفقهي: فقد ذكر الإمام الكيا الهراسي في كتابه
__________
(1) انظر: القاموس المحيط ص 1197، لسان العرب (10 \ 371) معجم مقاييس اللغة (6 \ 85) .
(2) المراجع السابقة.(79/281)
" أحكام القرآن " أن معنى الوثيقة في الديون " ما يزداد بها الدين وكادة " (1) .
أما التوثيق فهو أعم وهو علم فيه عن كيفية إثبات العقود والتصرفات وغيرها على وجه يصح الاحتجاج والتمسك به، واستيفاء الحق منه (2) . التعريف عام يشمل استعمالات الفقهاء لمصطلح توثيق الدين الذي لا يخرج عن أمرين:
الأول: تقوية وتأكيد حق الدائن فيما يكون له في ذمة المدين من مال، بشيء يعتمد عليه، كالكتابة أو الشهادة - لمنع المدين من الإنكار وتذكيره عند النسيان، أو لدفع دعاواه بأن الدين أقل من المطلوب أو دعوى الدائن بأن الدين أكثر منه، أو لدفع دعوى عدم حلول الأجل إن كان تم أجل، ونحو ذلك، بحيث إذا حصل نزاع أو خلاف بين المتعاملين فيعتبر هذا الكتاب أو الشهادة وثيقة ووسيلة يحتج بها لإثبات الدين المتنازع فيه أمام القضاء (3) .
الثاني: تأمين حق الدائن، والتمكين من استيفائه عند امتناع المدين عن الوفاء - لأي سبب من الأسباب، مثل الرهن أو الكفيل ونحو ذلك من عقود التوثيقات. (4)
__________
(1) أحكام القرآن للكيا المراسي (1 \ 421) .
(2) انظر: وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية (1 \ 27) .
(3) انظر: دراسات في أصول المداينات ص 76، الديون وتوثيقها في الفقه الإسلامي ص 126.
(4) انظر: دراسات في أصول المداينات ص 77، وسائل الإثبات في الفقه الإسلامي (1 \ 27) .(79/282)
ومن هنا نلاحظ أن ثمة توافقا بين مفهوم " إثبات الدين " وبين مفهوم " توثيق الدين "؛ لأن الإثبات والتوثيق كلاهما يهدفان إلى غاية واحدة وهي حماية الحقوق ومنع التلاعب بها، والقضاء بها لأصحابها وقطع دابر المنازعة والخصومة بين الناس، مع أن التوثيق يعتبر مقدما للإثبات حيث إنه يوجد عند إنشاء التصرف المقتضي ثبوت الدين في الذمة، فهو يسبق الإثبات، وكذلك فإن توثيق الدين بالطرق التي تقويه، وتؤكده يمثل بعض وسائل الإثبات، كالكتابة والشهادة، لا كلها، حيث إن وسائل الإثبات وطرق الإثبات كثيرة تعتبر حججا معتبرة تحكم بموجبها في القضاء، وإن كانت ليست توثقه (1) .
وللتوثيق أهمية كبيرة في تنظيم سير المعاملات، وجعلها على أساس مكين، وركن ركين من الاطمئنان والراحة حين التعامل بين الأطراف وتظهر أهميته في أمور أهمها:
أولا: إن التوثيق يعد ذا أهمية بالغة لكشف نوايا المتعاقدين لأنه لا يقوم - غالبا - من أراد التلاعب، وجحد حقوق الآخرين، لتوثيق الحق الذي عليه، فإثبات التصرفات والعقود والوثائق والحقوق، والتصديق على التصرفات النظامية الواردة فيها، والحكم بصحتها ولزومها، يكفل تحقيق الطمأنينة التامة على الحقوق، واستقرار المعاملات، وإغلاق أبواب
__________
(1) انظر: المراجع السابقة.(79/283)
الحيل والتحايل، والشر والمنازعات.
ثانيا: إن في التوثيق صيانة للأموال من أن تكون عرضة للضياع بإنكارها، وعدم التمكن من إثباتها.
فوجود الوثائق الكتابية مثلا وتصديقها أوكد وأضمن في صيانة الأموال ولا يغني الشهود عن الوثيقة الكتابية؛ لأنه وإن كان الشهود يثبتون الحقوق، ويلزمون بالحكم بهم، إلا أنهم عرضة لأن يموتوا، أو يوجد لديهم ما يمنعهم من الحضور أمام القضاء لأداء الشهادة وقد يرد القاضي شهادتهم لقصور فيها أو لطروء الفسق عليهم، وقد ينسون أو يخافون من عقاب، أو يرغبون في مال، وغير ذلك من الصوارف التي تصرف الشهود على الإدلاء بشهادتهم.
ثالثا: إن في التوثيق قطع المنازعة بين المتعاملين ذلك أن الزمن كفيل بنسيان أحد الأطراف مقدار الأصل أو مقدار الثمن، أو غير ذلك من الشروط، فيكون إنكاره على بعض الحق لا جحودا، ولكن نسيانا، فيكون ذلك موجبا للنزاع ووجود التوثيق يمنع كل ذلك غالبا؛ لأنهما يرجعان إليه، فيعرفان الحق من الباطل قال ابن العربي في حكمة مشروعية كتابة الدين قال: ليستذكر به عند أجله، لما يتوقع من المدة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل فالنسيان موكل بالإنسان والشيطان ربما حمل على الإنكار والعوارض من موت وغيره تطرأ، فيشرع الكتاب الإشهاد.
رابعا: إن في التوثيق تحرزا من بطلان العقود وفسادها. فإذا كتبا بما(79/284)
تعاقدا عليه، ووثق ذلك من قبل كاتب العدل مثلا أو عند عارف بأصول المعاملات وبالقواعد الشرعية؛ لأن الفقيه يعلم بما يلزم من الشروط في التوثيق، وأدرى بما يجب ذكره، وما يجب تركه، وقد لا يهتدي المتعاقدان إلى الأسباب المفسدة للعقود، فإذا لم يكتبا ذلك عند عارف بالشروط المفسدة للعقود والتصرفات فقد يكون ما تعاقدا عليه مشتملا على ما يفسده وهما لا يدريان فيبقى عقدهما قابلا للبطلان في المستقبل، خاصة إذا حصل بينهما اختلاف وترافعا إلى قاض للحكم بينهما.
خامسا: إن في التوثيق رفعا ودفعا للشك والارتياب بين المتعاملين.
فقد يشتبه على المتعاملين أو على ورثتهما إذا تطاول الزمان في مقدار الأجل أو الثمن أو في بعض الشروط، فقد يقعان في النزاع والمخاصمة من غير قصد لإبطال حق كل واحد منهما فإذا كان ثم توثيق للعقود، ورجعا إليه، فلا يبقى بعد ذلك شك ولا ارتياب.
سادسا: إن في التوثيق تأمينا لحق الدائن. فإذا توثق الدائن من حقه بكفيل أو ضمان أو رهن، ثم عجز المدين عن السداد أو ماطل أمكن استيفاء الدائن حقه من هذه الوثيقة.
إذا ثبت هذا فإن للتوثيق وسائل متعددة، وطرقا متفاوتة، فقد تكون بعقد - وهو ما يسمى عقود التوثيقات كالرهن والكفالة والضمان - وقد(79/285)
يكون عقدا كالكتابة والإشهاد وحق الحبس والاحتباس، ومنه ما هو وثيقة بمال، كالرهن والمبيع في يد البائع، ومنه ما هو وثيقة بذمة كالكفالة (1) .
وبيان ذلك فيما يلي:
أ - الكتابة: كتابة المعاملات التي تجري بين الناس، وسيلة قوية لتوثيقها وقد أمر الله سبحانه وتعالى بها في أطول آية في القرآن وهي آية المداينة بقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) ، وقد وثق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكتابة في معاملاته، فباع وكتب ومن ذلك الوثيقة التالية: هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشترى منه عبدا أو أمة، لا داء ولا غائلة، ولا خبثة بيع المسلم المسلم.
وقد ذهب جماهير الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى صحة توثيق الدين بالكتابة، وأنها بينة معتبرة في الإثبات إذا كانت صحيحة النسبة إلى كاتبها.
قال ابن تيمية - رحمه الله -: والعمل بالخط مذهب قوي، بل
__________
(1) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (14 \ 138) .
(2) سورة البقرة الآية 282(79/286)
هو قول جمهور السلف " (1) .
وقال ابن فرحون في تبصرة الحكام: " وإن قال لفلان عندي أو قبلي كذا وكذا بخط يده قضي عليه به؛ لأنه خرج مخرج الإقرار بالحقوق ".
وهذا القول بلا شك هو الراجح والأدلة كثيرة ومنها ما جاء في الصحيحين.
عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين، وله شيء يريد أن يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوية عند رأسه (2) » .
وأما دعوى أن الخطوط تتشابه، وقد يعتريها التبديل والتزوير والمحاكاة وقد يكتب من غير قصد للبيع ولا مريد له، فهذا غير مسلم؛ لأن الاعتماد على الخط والكتابة إنما هو لمجرد معرفة خط كاتبه، ثم بعد ذلك يكون الخط كالعلم بنسبة قائله إليه.
يقول ابن القيم - رحمه الله -: فإن القصد حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه، فإذا عرف ذلك وتيقن، كان كالعلم بنسبة اللفظ إليه، فإن الخط دال على اللفظ، واللفظ دال على القصد والإرادة، وغاية ما يقدر اشتباه الخطوط، وذلك كما يفرض من اشتباه الصور والأصوات وقد جعل الله سبحانه في خط كل كاتب ما يتميز به عن خط غيره كتميز صورته
__________
(1) مختصر الفتاوى المصرية (ص601)
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري 5 \ 355) ومسلم في صحيحه (5 \ 70) .(79/287)
وصوته " (1) .
وعليه فإذا كتب إقراره على الدين الذي عليه، أو قيد ذلك، بالقيود والسندات والوصولات الرسمية وغيرها، فإن ذلك يعتبر حججا معتمدة في توثيق الدين وإثباته.
جاء في مجلة العدلية مادة (1609) : " إذا كتب أحد سندا أو استكتبه من كاتب، وأعطاه لآخر موقعا بإمضائه أو مختوما، فإذا كان مرسوما - أي حرر موافقا للرسم والعادة - فيكون إقرارا بالكتابة، ويكون معتبرا ومرعيا كتقريره الشفاهي، والوصولات المعتاد إعطاؤها هي من هذا القبيل " (2) .
ب - الإشهاد: إشهاد الشهود على التصرفات والعقود وسيلة لتوثيقها، واحتياط للمتعاملين عند التجاحد، إذ هي إخبار لإثبات حق، أو دفع باطل ولقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الشهود بينة لوقوع البيان بقولهم، وارتفاع الإشكال بشهادتهم فقال - صلى الله عليه وسلم -: «البينة أو حد في ظهرك (3) » وقد اتفق الفقهاء على مشروعية الشهادة، وأنها مشروعة لتوثيق الدين والمعاملات (4) ، وقد أوجبها الظاهرية (5)
__________
(1) انظر: الطرق الحكمية لابن القيم (ص 207) .
(2) انظر: درر الحكام شرح مجلة الأحكام (4 \ 139) .
(3) أخرجه البخاري من كتاب الشهادات باب إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمس البينة وينطلق لطلب البينة، فتح الباري (5 \ 283) .
(4) انظر: أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص (1 \ 482) .
(5) انظر: المحلى لابن حزم (8 \ 80) .(79/288)
لظاهر الأمر في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (1) غير أن الذي عليه عامة أهل العلم هو استحباب الشهادة لا وجوبها قال ابن العربي - رحمه الله -: والظاهر الصحيح أن الإشهاد ليس واجبا، وإنما الأمر به أمر إرشاد للتوثق والمصلحة، وهو في النسيئة محتاج إليه لكون العلاقة بين المتعاقدين باقية، توثقا لما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغير القلوب " (2) .
وقد جاء تقييد الشهادة بقوله: " {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (3) ... " وهم أهل العدالة والفطنة، وسبب ذلك؛ لأن الشهادة ولاية عظيمة تقتضي تنفيذ القول على الغير بدون رضاه ... ولهذا وجب أن يكون لصاحبها شمائل ينفرد بها وفضائل يتحلى بها، حتى يكون له على غيره مزية توجب له رتبة الاختصاص بقبول قوله على غيره، والحكم بشغل ذمة المطلوب بالدين بشهادته عليه (4) . والبينات مرتبة بحسب الحقوق المشهود فيها، ويختلف عدد الشهود من حكم لآخر حسب الشهود فيه أيضا، كما هو موضح في كتب الفقه ولا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء حتى
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) انظر أحكام القرآن لابن العربي (1 \ 258) .
(3) سورة البقرة الآية 282
(4) انظر أحكام القرآن لابن العربي (1 \ 254) .(79/289)
يحصل له به العلم، إذ لا يجوز الشهادة إلا بما علم وقطع بمعرفته لا بما يشك فيه، ولا بما يغلب على الظن معرفته له مع إمكان حصول العلم فيه، وإلا فيجوز الشهادة على غلبة الظن في مسائل ذكرها العلماء وهو ما يسمى عندهم الشهادة بالاستفاضة.
ج - الرهن: يطلق الرهن ويراد به أحيانا العقد فيعرفونه بقولهم: حبس شيء مالي بحق يمكن استيفاؤه منه" (1)) .
ويطلق ويراد به أحيانا المرهون، ويعرفونه بقولهم: المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه (2) .
وإذا رهن الدائن حقه، فإنه يصير أحق بالرهن من سائر الغرماء فإذا كان على الراهن ديون والتزامات مالية لا تفي بها أمواله ثم بيع الرهن لسداد ما على الراهن من ديون، كان للمرتهن الحق أولا أن يستوفي دينه من ثمنه، فإذا بقي شيء فهو لسائر الغرماء (3) .
والرهن ثابت مشروعيته في الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ففي الكتاب قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (4) .
وأما السنة فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله
__________
(1) المصباح المنير (1 \ 287) .
(2) شرح منتهى الإرادات (2 \ 288) .
(3) انظر: أحكام القرآن للجصاص (1 \ 523) .
(4) سورة البقرة الآية 283(79/290)
عنها أنها قالت: «اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه (1) » .
وأما الإجماع فقد أجمع سائر أهل العلم على جواز توثيق الدين بالرهن (2) .
وقد اختلف العلماء في شروط الدين الذي يصح الارتهان به على أقوال أربعة ليس هذا موطن بحثها فلتراجع في مظانها (3) .
د - الكفالة (الضمان) : كفالة الدين هي ضم ذمة الكفيل إلى ذمة المكفول في الالتزام بالدين فيثبت في ذمتهما جميعا، ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما (4) . وكون الدائن يحق له مطالبة الكفيل بدينه مع التزام الكفيل بذلك خاصة عند تعذر استيفائه من الأصيل، فهذا يعتبر توثقة في الدين الذي له على الغير.
وقد جاءت مشروعية الكفالة في الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (5) .
وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الزعيم غارم (6) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم 2509 و 2513، ومسلم في صحيحه 3 \ 1226.
(2) انظر: المغني (6 \ 444) .
(3) انظر: دراسات في أصول المداينات د \ نزيه حماد ص 109.
(4) شرح منتهى الإرادات (2 \ 245) .
(5) سورة يوسف الآية 72
(6) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (36 \ 628) وعبد الرزاق في المصنف رقم (7277) بإسناده حسن.(79/291)
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جواز الكفالة في الجملة وإن اختلفوا في بعض فروعها (1) .
هـ - حق الحبس والاحتباس، ومعناه: حق المالك بإبقاء العين المنقولة عن ملكه، لحين استيفاء حقه إذا كان الدين يتعلق به.
إذ إن المقصود الأعظم من التوثيق، هو صيانة الحقوق والاحتياط لها؛ لذلك كان من حق الدائن أن يتوثق لحقه بحبس ما تحت يده لاستيفاء حقه ولذلك صور فمنها:
1 - حق احتباس المبيع إلى قبض الثمن.
يقول ابن عابدين - رحمه الله -: للبائع حبس المبيع إلى قبض الثمن، ولو بقي منه درهم، ولو كان المبيع شيئين بصفقة واحدة وسمى لكل ثمنا فله حبسهما إلى استيفاء الكل، ولا يسقط حق الحبس بالرهن، ولا بالكفيل، ولا بإبرائه عن بعض الثمن حتى تستوفي الباقي ".
2 - حق المؤجر في حبس المنافع إلى أن يتسلم الأجرة المعجلة.
7 - حق المستصنع في حبس العين المصنوعة بعد الفراغ من العمل حتى يستوفي حقه، إذا كان لعمله أثر.
__________
(1) انظر: المغني (7\ 72) .(79/292)
المبحث الثاني: مظاهر المماطلة والتسويف وأنواع الضرر المترتب عليه وتحته مطلبان:
المطلب الأول: مظاهر المماطلة والتسويف:
للمماطلة مظاهر وأساليب يستخدمها ضعاف النفوس وربما يحصل تسويف عند الوفاء بسبب ظروف تطرأ على التعامل بين الطرفين. وعدم التسديد والوفاء يحصل إما بالامتناع كليا أو بالإهمال والتسويف أو بجحود بعض الحق.
1 - الامتناع كليا عن الوفاء بالدين لصاحبه: من صور المماطلة أن يمتنع من عليه الحق في الوفاء والتسديد لصاحب الحق كليا، وهذا الامتناع يحصل إذا لم يكن لصاحب الحق دليل وحجة يمكن أن يلزم بها المدين، فحينئذ ربما يمتنع المدين عن التسديد ويجحد هذا الدين وينكره لسوء نيته وقلة مراقبته، وضعف خشيته من الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، مع علمه بأن الدائن له حق بذلك. والجحود هو الإنكار مع العلم به (1) .
قال الراغب الأصبهاني: الجحود نفي ما في القلب إثباته، أو إثبات ما في القلب نفيه (2) .
وقال العلامة ابن القيم: لا يكون الجحد إلا بعد الاعتراف بالقلب
__________
(1) انظر: المصباح المنير (1 \ 112) ، كشاف اصطلاحات الفنون (1 \ 192) و (2 \ 1437) .
(2) المفردات ص 121.(79/293)
أو اللسان. وعلى هذا لا يحسن استعمال لفظ الجحود في مطلق الإنكار في باب الدعاوى وغيرها؛ لأن المنكر قد يكون محقا فلا يسمى جاحدا (1) .
ولهذا يقول النووي في معنى الجاحد من أنكر شيئا سبق اعترافه به (2) .
فإذا أنكر المدين الدين وجحده فقد تعذر حصول الدائن على دينه ولا شك أن فعل المدين إثم وكبيرة يخشى عليه منها ولهذا قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (3) قال ابن عباس رضي الله عنه: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه وهو يعلم أنه آثم آكل حرام (4) .
ربما يكون امتناعه عن الوفاء بالدين ليس لأجل عدم وجود بينة عند الدائن؛ ولكن لأن المدين ربما يكون صاحب نفوذ، أو أن الدائن يكون له مصلحة عند المدين، فيخشى أن لو تقدم بالمطالبة بدينه الذي على المدين، لحصل له ضرر وترتب على ذلك ترك المدين التعامل معه، مثل أصحاب الوكالات مع الموزعين المعتمدين فلربما يكون لأصحاب الوكالات في المناطق مع الموزع المعتمد في الدوقة حقوق وديون متراكمة
__________
(1) بدائع الفوائد (4 \ 118) .
(2) انظر: تحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 50.
(3) سورة البقرة الآية 188
(4) انظر تفسير ابن كثير (1 \ 225) .(79/294)
ويمانع الموزع من تسديده، ولأصحاب الوكالات مصالح وعلاقة مع الموزع، فيضطرون لترك حقوقهم لما يحصل لهم من مصالح وعلاقات مع الموزع المعتمد.
وربما يكون امتناعه عن الوفاء أيضا لعلمه أن مطالبة الدائن تحتاج إلى وقت وجهد ومال، خاصة في ظل غياب الإجراءات النظامية، والقوانين الحاسمة، فيلجأ ضعاف النفوس إلى الامتناع كليا عن أداء الحقوق المتراكبة عليهم.
ب - تأخير الوفاء به لوقت لاحق أو بعضه:
في أحيان كثيرة لا يمانع الدين بالدين وربما أعطى الدائن بعض حقه غير أنه ربما يسوف في التسديد، ويتأخر في الوفاء، إما طمعا في حصول إرادات مالية عند توظيفه لهذه الأموال بدلا من إعطائه الدائن، واستفادة من السيولة التي عنده، وربما يبقيها عنده تحسبا لمتغيرات الحياة الاقتصادية والعالمية. فيتأخر ويؤجل سداد الديون الحالة إلى تاريخ لاحق.
وربما يتعرض لنقص في السيولة أو لعدم تصريف بضاعته التي أخذها بالدين أو بالتصريف، فيضطر إلى تأخير الوفاء لبعض الأقساط الحالة لوقت لاحق. كما سوف يأتي تفصيله في الفصل الثاني.
ومما يدخل في هذا أيضا ما ذكره محمد العبدلي المعروف بابن الحاج المالكي في المدخل بقوله: " ومنهم من يكون قادرا على إعطاء الثمن كله في الوقت ثم إنه يقطعه على صاحبه مرارا كثيرة وهذا ملتحق بما تقدم لقوله(79/295)
- صلى الله عليه وسلم -: «مطل الغني ظلم (1) » إذ لا فرق بين المطل بجميع الثمن أو بعض لأن البائع يتضرر بتأخير بعضه، كما يتضرر بتأخير كله غالبا ومنهم من يفرق الثمن على مرات عديدة كما تقدم وقصده بذلك أن يضجر البائع من كثرة التردد إليه سيما إن كان غريبا يقصد السفر فيفعل المشتري ذلك معه حتى يضطر إلى أن يترك له بعض الثمن الذي ترتب في ذمته، ليتخلص منه ويذهب لشأنه، وأما إن كان البيع وقع بينهما على التأجيل فإذا حل الأجل المعين بينهما صار الحكم في ذلك حكم الحال سواء بسواء (2) .
ج - جحود بعض الحق وإقرار بعضه:
بعض التعاملات التجارية تحصل بين التجار أخذا وإعطاء كما يسميه الفقهاء بيع المعاطاة ويكون سبب هذا كثرة التعاملات والمبادلات التجارية التي ربما تكون في اليوم الواحد أكثر من عشرين عملية تجارية تحصل بين الطرفين، وفي أحيان كثيرة يحصل اختلاف وجحود لدى بعض المتعاملين في بعض الصفقات التجارية، وليس عند الطرف الآخر ما يثبت حقه، فيؤدي ذلك إلى جحود بعض الحق، وإقرار بعضه، أو يكون ثمة
__________
(1) صحيح البخاري الحوالات (2288) ، صحيح مسلم المساقاة (1564) ، سنن الترمذي البيوع (1308) ، سنن النسائي البيوع (4691) ، سنن أبي داود البيوع (3345) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2403) ، مسند أحمد (2/465) ، موطأ مالك البيوع (1379) ، سنن الدارمي البيوع (2586) .
(2) انظر: المدخل (4 \ 59) .(79/296)
اتفاق وعقد بين الطرفين، يحصل من جراء التعامل التجاري بينهما وفقا وطبقا لما أبرماه من اتفاق وعقود بعض التعاملات التجارية الثانوية، التي تكون غير داخلة في الاتفاق المبرم بينهما فيختلف المتعاقدان في السعر، هل هو على حسب سعر السوق أم هو على حسب سعر نفس الشركة (أحد المتعاقدين) التي تبرمه مع المتعاقدين الآخرين، فبسبب ذلك تحصل. مماطلات وتسويفات، لبعض تلك الحقوق والالتزامات.(79/297)
المطلب الثاني: أنواع الضرر المترتب على المماطلة:
إن ضرر التخلف عن تسديد الديون، والمماطلة في مديونية من يتعامل بنظام الفائدة التراكمية الربوية، سواء سميت فائدة، أو عقوبة لأجل المماطلة، أو شرط جزائي، تعويض لدفع الضرر كما تتعامل به بعض الشركات أو المصارف التقليدية، لا تواجه بنفس الحدة والتخوف والريبة التي تواجه من لا يتعامل بنفس النظام كما يوجد لدى شرائح كثيرة من القطاعات والمشاريع الخاصة. ويعود سبب ذلك إلى أن إعمال الفائدة المركبة على المماطلين يحفظ للبنوك الربوية والشركات التي تتعامل بالفائدة، جريان العائد على ديونها طيلة فترة التأخير مما يجعل هذا حافزا لهم للسداد، بينا تواجه بعض المشاريع والقطاعات والأفراد بسبب التأخير في التسديد والمماطلة في ذلك أضرارا جسيمة مما يترتب عليه فوات فرصة إعادة استثمار هذه الأموال خلال مدة التأخير، وبالتالي حرمانهم من العوائد المتوقعة لهذا الاستثمار، ولسنا بصدد الحديث عن حكم إلزام(79/297)
المدين المماطل بدفع مبلغ تناسبي أو مقطوع فهذا له مبحث خاص في ذلك.
ولكننا في هذا المطلب نشير إلى بعض الأضرار التي تترتب جراء تأخير المدين عن الوفاء بالالتزامات المالية، وهذه الأضرار تنقسم إلى قسمين، قد جعلناها في هذا المطلب في فرعين:
الفرع الأول: الضرر المادي:
تمثل الديون المتعثرة مشكلة خطيرة، ذات نتائج باهظة التكاليف، وآثار ومشكلات معقدة، وليس فقط على الدائن نفسه، سواء كان فردا أو شركة، بل على الدولة جميعها لتأثيرها الخطير والمتشابك على النشاط الاقتصادي بشكل عام، ليس فقط في الحاضر، ولكن وبشكل أكثر خطورة على المستقبل، ومن هنا كان لزاما على كل فرد يمارس العمل التجاري أن يحيط بهذه الأضرار المتشابكة حتى يمكنه أن يتفادى الكثير منها فمن تلك الأضرار المادية.
أولا: تجميد أموال الدائنين نتيجة عدم قدرة أو مماطلة المدينين على السداد، ومن ثم تعطيل استثمار أموال الدائنين، وحرمانه من عائد استثمارها، مما يترتب على ذلك إضاعة فرص، وتفويت مشاريع ناجحة تعود على الدائنين بالعائد المثمر الجيد، كان أعظم أسبابها قلة السيولة لدى(79/298)
الدائنين بسبب مماطلة وتسويف المدينين.
ثانيا: تعريض الدائنين وأصحاب رؤوس الأموال إلى خسائر باهظة التكاليف بسبب تقليل الربحية، وانخفاض قدرة التجار على التوسع والانتشار، مما يسبب ترك المساهمين التعامل مع هذه الشركات والتجار بسبب قلة الربحية.
ثالثا: تحتاج القروض والديون المتعثرة إلى معالجات خاصة مع المدينين، مما يتطلب وجود كفاءات إدارية وإشرافية وتنفيذية مؤهلة ومدربة، ولديها الخبرة والمعرفة والدراية، والإلمام بمختلف نواحي العمل الذي يعمله المدين؛ لأنه ربما يكون سبب مماطلة المدين هو سوء الإدارة في تصريف الإنتاج والتسويق، أو خلل في إدارة المشروع الذي أبرمه مع صاحب المال (الدائن) فيتكلف الدائن جراء ذلك إلى إيجاد كوادر إدارية وإشرافية لمعالجة التعثر في التسديد من قبل المدين ومعالجة ذلك، وكل هذا يكلف أصحاب رؤوس الأموال أموالا باهظة لإيجاد هذه الكوادر الإدارية والإشرافية.
رابعا: وقد تستغرق معالجة الديون، وقتا وجهدا وتكلفة سواء من جانب المسؤولين (أصحاب رؤوس الأموال) أو من جانب الأفراد العاملين مع أصحاب رؤوس الأموال، مما يؤثر على قدرتهم على إنجاح مشاريع أخرى ومتابعتها، وبالتالي تتأثر درجات الجودة في الأداء الوظيفي لأعمال الشركة أو المؤسسة، وتزداد معها الخسائر وتنخفض الإيرادات، وبالتالي(79/299)
تقل قدرة المؤسسات والشركات على النمو وعلى إنعاش الاقتصاد.
خامسا: أن بعض شركات المقاولة قد تتأثر تأثرا كبيرا بسبب تأخر أصحاب المشاريع عن إعطائهم الالتزامات المالية، المتفق عليه في العقد، مما يسبب تأخر رواتب الموظفين والعمال العاملين في شركات المقاولة، فيتبرم العمال وربما يضربون عن العمل، ناهيك عن أن هذه الشركات قد تكون ملتزمة بمشاريع أخرى، فربما تأخرت عن الإنجاز لما أبرم بينها وبين أصحاب المشاريع الأخرى مما يترتب عليه شرطا جزائيا يعود على كاهل هذه الشركات المقاولة بالالتزامات والأموال الباهظة، حتى إنه ربما تفلس كثير من تلك الشركات بسبب ذلك، وهذا ضرر محض بلا شك.
سادسا: وقد تؤدي المماطلة والتسويف في الديون أيضا إلى إثقال كاهل الدائنين؛ لأنهم قد يحتاجون إلى استفسارات اقتصادية، واستشارات شرعية وقانونية وقد يلجأ أصحاب الأموال إلى القضاء والمحاكم لاستيفاء ديونهم وهذا بلا شك يتطلب وجود محامين ومستشارين يقيمهم الدائن، وهو ما يعني تكاليف وأعباء إضافية من الأموال على الدائن بسبب مماطلة المدينين. وربما تقوم بعض الشركات والمؤسسات ذات النشاط الواسع إلى تعيين عدد من الخبراء والمستشارين داخل الشركات بصفة دائمة تسند إليهم مهمة التعامل مع الديون المتعثرة، وهو ما يمثل تكلفة مالية، خاصة بعد انتهاء أعمال هؤلاء الخبراء حيث تضطر تلك الشركات إلى تحويلهم إلى أعمال أخرى عادية دون الاستفادة من مهاراتهم وخبراتهم المتخصصة،(79/300)
ولا تستطيع إلغاء عقودهم لوجود اتفاقية زمنية مسبقة (1) .
الفرع الثاني: الضرر الأدبي:
المؤسسات المالية كائن حي، تتأثر تأثرا مباشرا بظروف المتعاملين معها، وبظروف البيئة المحيطة بها، ويجب أن تأخذ بكل أسباب الحيطة والحذر تجاه كل ذلك كي تتجنب بقدر الإمكان مغبة التعثر والمماطلة المالية المتوقعة، وكذا المواقف الصعبة التي قد تصيب نشاطاتها، وأعمالها باعتبارها شخصا اعتباريا تتمتع بالشخصية الاعتبارية الحكمية، كما يتمتع بها الشخص الطبيعي، وأن هذا الوصف الشرعي مقدر ومفترض فيه، كما هو مقدر في الإنسان يدل على ذلك أحكام الفروع الفقهية كما هي عند أئمة المذاهب الإسلامية - رحمهم الله -.
وبالتالي فالتأثر والضرر ربما يصيب كيان المؤسسة المالية لا أعني به الضرر المادي فحسب - كما سبق بيانه وتوضيحه - بل أعني به الضرر الأدبي، مما قد يسبب خسائر فادحة بل وإفلاس هذه المؤسسات المالية بسبب الضرر الأدبي، فليس من السهولة تجاهل هذه الأضرار، بل إن بعض الشركات العملاقة لتدفع أموالا باهظة خيالية للتصدي حول الدعايات الكاذبة، والدعاوى الكيدية خشية الأضرار الأدبية في سمعتها وتعاملاتها، ولعلنا نشير إلى بعض الأضرار الأدبية التي تحصل من جراء
__________
(1) انظر بعض هذه الأسباب في الديون المتعثرة ص 45 د \ محسن الخضيري.(79/301)
المماطلة والتسويف في تسديد الديون فإلى تلك الأضرار.
أولا: قد يؤثر التأخير في الوفاء بالحقوق والالتزامات المالية، على الجو النفسي للعمل، فيؤدي إلى إيجاد مناخ من التوتر وعدم الاستقرار، والعصبية والتشدد والمبالغة والمغالاة في الإجراءات وطلب البيانات والمعلومات، وإجراء البحوث والدراسات والتحريات عن جميع العملاء سواء الجدد منهم أو العملاء الذين يتعاملون معهم لفترة طويلة ولهم مراكز مالية متوازية، الأمر الذي يدفع العملاء إلى إنهاء التعامل معهم، واللجوء إلى مؤسسات أو شركات أكثر مرونة، واستعدادا للتعامل بلا مبالغة في الإجراءات والبيانات، مما يؤدي إلى تقليل الزبون وبالتالي تقليل الربحية، وقلة التوسع والنفوذ.
ثانيا: إن أي مؤسسة أو شركة لها تعامل تجاري مع عامة الناس، إذا ما رأت كثرة المماطلين والمسوفين في تسديد ديونهم فسوف تضطر إلى رفع الهامش الربحي لتغطية الخسائر جراء تأخير الديون، وهذا بلا شك يستدعي اهتمام رجال الصحافة والإعلام، واستخدام تحقيقاتهم الصحفية والإعلامية ومقابلة الجماهير في تعين أخطاء المؤسسات أو الشركات ذات التعامل المعين، ومن ثم مهاجمتهم والقائمين على إدارتها، مما يؤدي إلى خلق انطباع سلبي وغير إيجابي لدى جمهور عريض من الذي يتعاملون مع تلك المؤسسات أو الشركات، مما يؤثر على حجم أعمال تلك المؤسسات أو الشركات حاليا ومستقبلا.(79/302)
ثالثا: وقد يسبب التأخير في الوفاء بالالتزامات والحقوق أيضا خلق مناخ مضطرب لدى المؤسسات أو الشركات التي تعمل في نطاق المقاولات المعمارية أو عقود المناقصات الحكومية أو الشركات الكبيرة، فإذا تؤخر بالتسديد لهذه المؤسسات التي تعمل في المقاولات فسوف تتأخر هي أيضا بالوفاء بالتزاماتها مع المحلات والمصانع والوكالات التجارية، مما يؤدي إلى عدم تعامل تلك المحلات أو المصانع أو الوكالات التجارية مع تلك المؤسسات والشركات، مما يؤدي أحيانا إلى إعلان إفلاسها وإعسارها، وفرض الوصاية عليها، وهذا ضرر أدبي يمنعها من مقاومته لفترة طويلة حتى بعد تسديدها الديون التي لها أو عليها.
رابعا: إن انتشار ظاهرة المماطلة والتسويف في الوفاء بالحقوق كما يظهر ذلك في الإحصاءات الرسمية عن الشيكات المرتجعة يجعل كثيرا من العملاء وأصحاب رؤوس الأموال لا يطمئنون بالشيكات كوسيلة وفاء، كما يؤدي إلى ضعف التعاملات التجارية وتأخير أكثرها، وعدم الاهتمام بالشيكات أو الأوراق التجارية بصفة عامة، مما يخلق جوا من الضعف والتراجع في المسيرة التجارية لدى تلك الدولة.
خامسا: التوجه نحو اجتذاب الاستثمارات الأجنبية وإعطائها دورا فاعلا في نقل التكنولوجيا، وتشغيل العمالة وإنشاء مشروعات منتجة، مطلب تسعى إليه الحكومات وفقها الله، ولذا فإن تحقيق الجذب الكامل لهذه الاستثمارات لا يمكن أن يتم دون وجود مناخ استثماري مناسب،(79/303)
ومما لا شك فيه أن المماطلة والتسويف في الوفاء بالحقوق يكون لها أثر سلبي على سمعة السوق التجاري، مما يدفع المستثمر الأجنبي والوطني إلى وضع هذا العامل في حسبانه عند اتخاذ قراره بالاستثمار في المملكة.
سادسا: إن انتشار ظاهرة المماطلة في المملكة، باعتبارها دولة والتي تعد نموذجا للدول التي تطبق الشريعة الإسلامية في نواحي الحياة سيؤثر سلبا على سمعة المملكة، ومما لا شك أن هذه السمعة السيئة ستؤثر أيضا على أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب الحقوق مما يجعل كثيرا من التعاملات التجارية يعتريها نوع من التوجس والتخوف.(79/304)
المبحث الثالث: أنواع المطل
سبق أن ذكرنا في التمهيد، في المبحث الثاني مظاهر التسويف، والأساليب التي يستخدمها المماطلون من الامتناع كليا عن التسديد والرفض التام، والإباء الشديد في ذلك، أو يظهر عجزه ويسوف، إلى وقت آخر طمعا في حصول إرادات مالية، أو لانتظار أرباح في مشاريع استثمارية، فيتأخر عن تسديد دينه لحين حصول أرباح من تلك المشاريع.
أو يجحد بعض الحق الذي عليه إما لظنه عدم مصداقية ذلك، أو لعلمه أن الدائن لا يستطيع أن يثبت ذلك عليه أو غير ذلك من الإرادات التي مرجعها قصد التسويف أو الامتناع أو الجحود عن أداء الحقوق والوفاء بها.
أما في هذا المبحث فسوف نبين أن المطل الذي يفعله بعض المدينين، ليسوا على وتيرة واحدة، ولا على ملاءة ثابتة، بل منهم الصادق في مطله(79/304)
وتأخره، ومنهم المعذور في ذلك ومنهم الكاذب المخادع الذي يأكل أموال الناس بغير حق، فلنذكر ذلك على سبيل التفصيل، في هذه المطالب الثلاثة.(79/305)
المطلب الأول: مطل المدين المعسر:
اتفق الفقهاء - رحمهم الله - على أن المعسر الذي لا يجد وفاء، ولا يقدر على أداء ما عليه من دين، يجب إنظاره، ولا تحل مطالبته إلى أن يوسر وذلك لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1) .
2 - ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مطل الغني ظلم (2) » .
وجه الدلالة من الآية والحديث: هو أن الشارع جعل وقت وفاء المدين المعسر إلى الميسرة، فدل على أن امتناعه عن وفاء الدين مع حلوله ومطالبة دائنه لا تعد ظلما ولا جرما.
قال الشافعي - رحمه الله -: فلم يجعل على ذي دين سبيلا في العسرة حتى تكون الميسرة، ولم يجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) سورة البقرة الآية 280
(2) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2287 و 2400) ومسلم في صحيحه رقم (1564) .(79/305)
مطله ظلما إلا بالغنى فإذا كان معسرا فهو ليس ممن عليه سبيل إلا أن يوسر " (1) .
3 - ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما حرم المطل إذا كان المماطل غنيا، والمعسر ليس غنيا.
قال أبو الوليد الباجي - رحمه الله -: ووصفه بالظلم إذا كان غنيا خاصة، ولم يصفه بذلك مع العسر " (2) .
وقال ابن رشد - رحمه الله -: لأن المطالبة بالدين إنما تجب مع القدرة على الأداء، فإذا ثبت الإعسار فلا سبيل إلى المطالبة، ولا إلى الحبس بالدين؛ لأن الخطاب مرتفع عنه إلى أن يوسر " (3) .
وقال الإمام الشافعي - رحمه الله -: " لو جازت مؤاخذاته لكان ظالما، والغرض أنه ليس بظالم لعجزه " (4) .
وقال ابن حجر - رحمه الله -: واستدل به على أن العاجز عن الأداء لا يدخل في الظلم، وهو بطريق المفهوم؛ لأن تعليق الحكم
__________
(1) الأم (3 \ 206) .
(2) المنتقى للباجي (5 \ 66) وانظر إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد (2 \ 145) .
(3) المقدمات الممهدات (2 \ 306) .
(4) انظر: فتح الباري (4 \ 466) .(79/306)
بصفة من صفات الذات يدل على نفي الحكم عن الذات عند انتفاء تلك الصفة، ومن لم يقل بالمفهوم أجاب بأن العاجز لا يسمى مماطلا " (1) .
4 - ولأن في قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2) .
فجملة فنظرة إلى ميسرة جواب الشرط، والخبر محذوف، والتقدير: فنظرة له وهذه جملة خبرية خرجت مخرج الأمر (3) ، أي فإن كان معسرا، فانظروه إلى وقت الميسرة، وهو أبلغ من صريح الأمر لأن المتكلم لشدة طلبه نزل المطلوب بمنزلة الواقع لا محالة (4) فكانت مطالبة المعسر مع إثبات عسره مخالفة للأمر، ومخالفة المأمور محظور.
قال ابن العربي المالكي - رحمه الله -: إذا لم يكن المديان غنيا، فمطله عدل، وينقلب الحال على الغريم، فتكون مطالبته ظلما؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (5) .
__________
(1) فتح الباري (4 \ 466) .
(2) سورة البقرة الآية 280
(3) انظر: شرح الكوكب المنير (3 \ 32) .
(4) انظر: شرح الكوكب المنير (3 \ 32) .
(5) سورة البقرة الآية 280(79/307)
5 - بل إن بعض أهل العلم يرى أن في تسمية المدين مماطلا نظرا؛ لأن المماطل إنما هو في حق من منع قضاء ما استحق أداؤه مع التمكن منه من غير عذر (1) .
وعلى هذا فلا تجوز مطالبة المعسر، ولا يجوز حبسه ولا أذيته للآية الكريمة، ولما جاء من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: «أصيب رجل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك (2) » .
وجه الدلالة من الحديث: هو أن قوله: (وليس لكم إلا ذلك) يفيد أنه ليس لأصحاب الديون إذا أخذوا ما وجدوه أن يسجنوا المدين، أو يلازموه ...
قال ابن القيم - رحمه الله -: والذي يدل عليه الكتاب والسنة وقواعد الشرع أنه لا يحبس في شيء من ذلك إلا أن يظهر بقرينة أنه قادر مماطل سواء كان دينه عن عوض أو عن غير عوض، وسواء لزمته باختياره أو بغير اختياره ... " (3) وهل يجوز لصاحب الحق ملازمة المدين المعسر؟
__________
(1) انظر: المفهم شرح تلخيص الإمام مسلم للقرطبي (4 \ 438) وفتح الباري (4 \ 465) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (3 \ 1191) .
(3) الطرق الحكمية (ص 63) .(79/308)
اختلف في ذلك أهل العلم على قولين:
القول الأول: جواز ملازمة المدين المعسر، وإن وجب إنظاره.
وهذا مذهب أبي حنيفة واستدلوا بما رواه ابن عباس رضي الله عنه «أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما عندي شيء أعطيكم، فقال: لا والله لا أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل، فجره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كم تستنظره؟ فقال: شهرا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فأنا أحمل له فجاءه في الوقت الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم (1) » - ... ) الحديث.
وجه الدلالة من الحديث: أن المدين بين أنه ليس عنده شيء، ومع ذلك لازمه صاحب الحق، ولم يمنعه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فدل على جواز ملازمة المدين سواء كان مليا أو معسرا (2) .
وأجيب:
أ - بأن الحديث ضعيف؛ لأنه في سنده عمرو بن أبي عمرو فإن روايته عن عكرمة مولى ابن عباس ضعيفة قال الإمام أحمد: كل شيء
__________
(1) سنن أبي داود البيوع (3328) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2406) .
(2) انظر: أحكام القرآن للجصاص (1 \ 477) .(79/309)
يرويه عن عكرمة مضطرب، وقال البخاري: روى عن عكرمة مناكير، ولم يذكر في شيء منها أنه سمع عكرمة (1) .
ب - ولو صح فهو محمول على جواز ملازمة المدين المجهول الحال، الذي لم يعلم عسره، وما نحن بصدده إنما هو في المدين الذي ثبت إعساره إما بإقرار الدائن، أو بإثبات الإعسار.
القول الثاني: عدم جواز ملازمة المدين المعسر إلى حين يساره وهذا مذهب جماهير أهل العلم من المالكية (2) والشافعية (3) والحنابلة (4) وهو مذهب أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية (5) .
أدلتهم:
أولا: قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (6) .
وجه الدلالة: قالوا: إن الله سبحانه أمر بإنظار المدين إذا أعسر إلى أن يغتني ويقدر على دفع الدين، وإذا كان ذلك كذلك فلا تجوز ملازمته؛ لأن هذا يتنافى مع الإنظار فيخالف ظاهر النص (7) .
__________
(1) انظر: تهذيب الكمال (22 \ 168) العلل الكبير للترمذي (ص 427) ميزان الاعتدال (3 \ 281) .
(2) انظر: حاشية الدسوقي (3 \ 280) الإشراف على مسائل الخلاف (2 \ 12) .
(3) انظر: مغني المحتاج (3 \ 115) أسنى المطالب (2 \ 186) .
(4) انظر: المغني (6 \ 585) كشاف القناع (3 \ 418) .
(5) انظر: تبيين الحقائق (4 \ 181) البحر الرائق (6 \ 483) الاختيار لتعليل المختار (2 \ 352) .
(6) سورة البقرة الآية 280
(7) انظر: تفسير الإمام الطبري (3 \ 110 - 112) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3 \ 372) .(79/310)
ثانيا: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «أصيب رجل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال - صلى الله عليه وسلم -: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك (1) » .
وجه الدلالة: هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الغرماء أن يأخذوا ما وجدوه من مال للمدين، فإذا لم يبق له مال، فنهاهم عن التعرض له بأي طريق، فدل ذلك على عدم جواز ملازمته والتضييق عليه (2) .
المناقشة:
ناقش الحنفية أدلة الجمهور، واعترضوا عليها ومن ذلك ما قاله أبو بكر الجصاص: فقوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (3) لا يدل على نفي الملازمة وذلك لأنه ينصرف على أحد وجهين:
الأول: إما أن يكون وقوع الإنظار هو تخليته من السجن، وترك عقوبته إذ كان غير مستحق لها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل مطل الغني ظلما، فإذا ثبت إعساره فهو غير ظالم بترك القضاء، فأمر الله ترك لزومه.
الثاني: أو أن يكون المراد الندب والإرشاد إلى إنظاره بترك لزومه
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) انظر: شرح النووي (10 \ 218) الإشراف على مسائل الخلاف (2 \ 12) .
(3) سورة البقرة الآية 280(79/311)
ومطالبته فلا يكون منظرا إلا بنظرة الطالب بدلالة الأخبار التي أوردناها.
وأما حديث أبي سعيد الخدري «خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك (1) » فلا يدل على نفي ملازمة المعسر؛ لأنه معلوم أنه لم يرد سقوط ديونهم؛ لأنه لا خلاف أنه متى وجد كان الغرماء أحق بما فضل عن قوته، وإذا لم ينف ذلك بقاء حقوقهم في ذمته فكذلك لا يمنع بقاء لزومهم له ليستوفوا ديونهم مما يكسبه فاضلا عن قوته وهذا هو معنى اللزوم.. " (2) .
والراجح - والله أعلم - هو قول جماهير أهل العلم في عدم جواز ملازمة المدين المعسر، وما أجاب به أبو بكر الجصاص على أدلة الجمهور، خروج عن ظاهر النص كما قال القرطبي في تفسيره، وذلك لأن معنى الإنظار: الإمهال والتأجيل بلا مطالبة، وإذا انتفت المطالبة، فلا معنى للملازمة إذن لأن الملازمة مطالبة وزيادة.
وكذا رده، رحمه الله - على حديث أبي سعيد ليس بجيد؛ لأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وليس لكم إلا ذلك) عام، فيشمل حتى الملازمة، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال كما قال الأصوليون (3) . بل إن ابن حجر الهيثمي - رحمه الله - عد ملازمة الدائن لمدينه المعسر، أو التسبب في حبسه بالدين مع علمه بإعساره من الكبائر وقال: ما ذكرته من أن فعل الدائن بمدينه ما ذكر - يعني من
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1556) ، سنن الترمذي الزكاة (655) ، سنن النسائي البيوع (4678) ، سنن أبي داود البيوع (3469) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2356) ، مسند أحمد (3/36) .
(2) أحكام القرآن للجصاص (1 \ 478 - 479) .
(3) انظر: المستصفى (2 \ 68) شرح الكوكب المنير (3 \ 171) .(79/312)
الملازمة والحبس - كبيرة ظاهر جدا، وإن لم يصرحوا به إلا أنه داخل في إيذاء المسلم الشديد الذي لا يطاق عادة " (1) .
__________
(1) الزواجر عن اقتراف الكبائر (1 \ 179) .(79/313)
ولا شك أن ملازمة الدائن لمدينه المعسر محرمة كما سبق بيان ذلك أما عده كبيرة فيحتاج إلى دليل، وقد استدل ابن حجر الهيثمي على ذلك بمفهوم المخالفة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أنظر معسرا، أو وضع له وقاه الله من فيح جهنم (1) » وقال: " ومفهوم الحديث أن من لم ينظر مدينة المعسر لا يوقى فيح جهنم، وذلك وعيد شديد، وبه يتأكد عد ذلك كبيرة " (2) .
بيد أن ضابط الكبيرة على الصحيح هو كل ما وجب فيه حد أو ورد فيه توعد بالنار، أو جاءت فيه لعنة " (3) وليس كذلك في ملازمة المدين المعسر، فلم يوجب به حد ولا ورد فيه توعد بالنار ولا جاءت فيه لعنة تدل على تحريمه ولا جعله كبيرة والله أعلم.
وهل المدين المعسر الذي يجب إنظاره على حال واحدة؟
ذكر الفقهاء - رحمهم الله - أن للمدين المعسر حالين: الإعدام، والقلة.
أ - أما الإعدام: فهو المدين الذي نفذ ماله، وليس عنده ما يدفع
__________
(1) مسند أحمد (1/327) .
(2) الزواجر عن اقتراف الكبائر (1 \ 179) .
(3) انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر (1 \ 6) .(79/313)
حاجته من العروض، فهذا يجب على الدائن إنظاره (1) ؛ لأنه عاجز عن أداء الدين ومطالبته بالوفاء مع عجزه أذية له وتأنيب.
قال ابن رشد الجد: " وأما المعسر المعدم، فتأخيره إلى أن يوسر واجب والحكم بذلك لازم، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2) .
وقال الطحاوي - رحمه الله -: " وأما المعسر العديم الذي لا شيء عنده، فلا ثواب له على إنظاره، إذ هو مغلوب على ذلك لا يقدر على سواه " (3) .
ب - الإقلال: فالمدين المقل هو الذي لا يملك وفاء كل الدين، وإن كان يملك بعضه، مع ضيق وضرر يحصل له جراء نفقة نفسه وعياله،
__________
(1) انظر: الأشباه والنظائر لابن السبكي (1 \ 187)
(2) سورة البقرة الآية 280
(3) المعتصر من المختصر (2 \ 30) .(79/314)
مثل من يملك عقارا أو سكنا يتضرر ببيعها في الحال، ولا نقد عنده يؤدي منه الدين (1) .
فهذه يشرع في حق الدائن أن ينظره، وهل يجب؟ فيه خلاف عند أهل العلم.
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره " التحرير والتنوير " في قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2) قال: " ... وإن أريد بالعسرة ضيق الحال، وإضرار المدين بتعجيل القضاء، فالطلب يحتمل الوجوب، وقد قال به بعض الفقهاء - ويحتمل الندب وهو قول مالك والجمهور، فمن لم يشأ لم ينظره، ولو ببيع جميع ماله؛ لأن هذا حق يمكن استيفاؤه، والإنظار من المعروف، والمعروف لا يجب، غير أن المتأخرين من الفقهاء بقرطبة كانوا لا يقضون عليه بتعجيل الدفع، ويؤجلونه بالاجتهاد، لئلا يدخل عليه مضرة بتعجيل بيع ما به الخلاص " (3) .
وقال ابن رشد الجد - رحمه الله -: وأما المعسر الذي ليس بمعدم، وهو الذي يخرجه تعجيل القضاء، ويضر به - فتأخيره إلى أن يؤسر، ويمكنه القضاء من غير مضرة تلحقه؛ مرغب فيه ومندوب إليه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (4) » ، والآثار في ذلك كثيرة، والمطل بالأداء وهو جاهد فيه غير
__________
(1) انظر: قضايا فقهية معاصرة د. نزيه حماد (ص 328) .
(2) سورة البقرة الآية 280
(3) التحرير والتنوير (3 \ 96) .
(4) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه رقم 3006، والإمام أحمد في مسنده 24 \ 279 واللفظ له.(79/315)
مقصر ولا متوان غير محظور عليه إن شاء الله.
وكان الشيوخ بقرطبة - رحمهم الله - يفتون بتأخيره بالاجتهاد على قدر المال وقلته، ولا يوكلون عليه في بيع عروضه وعقاره في الحال، وعلى ذلك تدل الروايات، خلاف ما كان يفتي به سائر فقهاء الأندلس من التوكيل عليه ببيع ماله، وتعجيل إنصافه.
والمدين المعسر سواء كان معدما (1) أو مقلا فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - فضل إنظاره، وثوابه وما أعده الله له.
فمن تلك الأحاديث: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي اليسر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كان لي على فلان ابن فلان الحرامي مال فأتيت أهله فسلمت، فقلت ثم هو، قالوا: لا، فخرج علي ابن له صغير، فقلت: أين أبوك، قال، سمع صوتك، فدخل أريكة أمي، فقلت: أخرج إلي، فقد علمت أين أنت فخرج فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني، قال: أنا والله أحدثك ثم قال لا أكذبك: خشيت والله أن أحدثك فأكذبك، وأن أعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وكنت - والله - معسرا، قال: قلت: آلله قال:
__________
(1) خلافا للطحاوي؛ لأن الدائن قد يلح على المدين ليستدين له فإذا علم فضل إنظاره فإنه ينظره.(79/316)
الله، قلت: آلله، قال: الله، قلت: آلله، قال: الله، فأتى - يعني أبا اليسر - بصحيفته ثم محاها بيده، وقال: إن وجدت قضاء فاقضني وإلا فأنت في حل، فأشهد بصر عيني هاتين، ووضع أصبعيه على عينيه، وسمع أذني هاتين، ووعاه قلبي هذا: وأشار إلى نياط قلبه: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: (من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله في ظله) (1) » .
2- ومنها أيضا ما رواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أنظر معسرا أو وضع عنه، وقاه الله من فيح جهنم (2) » .
3 - ومنها ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا جئت معسرا فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، قال: فلقي الله، فتجاوز عنه (3) » .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4 \ 2299 - 2300) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند (5 \ 149) . وفي سند الحديث ضعف لأن فيه نوح بن جعونة مجهول، وله شاهد من حديث أبي هريرة في المسند (2 \ 359) وإسناده صحيح.
(3) ''أخرجه البخاري في صحيحه (4 \ 309) ومسلم في صحيحه (3 \ 1196) وقال النووي - رحمه الله -: '''' التجاوز عن المدين معناه، المسامحة في الاقتضاء والاستيفاء، وقبول ما فيه نقص يسير، وتجاوز الله عن العبد عفوه عنه '''' شرح مسلم (10 \ 224) . ''(79/317)
4 - ومنها أيضا ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسر أو يضع عنه (1) » .) . (2) .
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1563) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (3 \ 1196) .(79/318)
المطلب الثاني: مطل المدين الغني المعذور:
والمقصود به تأخير المدين الغني التسديد والوفاء لعذر منعه عن ذلك كغيبة ماله، وعدم وجوده بين يديه وقت الوفاء؛ بغير تعمده (1) ، وربما تعرض المدين الغني لنقص في السيولة مع غناه بالموجودات والأصول الثابتة أو لعدم تصريف بضاعته، أو إنهاء مساهمته، أو ربما حصلت له ظروف كالتي تحصل للتجار غالبا، فمطله حينئذ غير محرم، ولا إثم عليه في ذلك؛ لأن المطل المنهي عنه، هو تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر (2) .
قال النووي - رحمه الله -: ولو كان غنيا، ولكنه ليس متمكنا من الأداء، لغيبة ماله، أو لغير ذلك، جاز له التأخير إلى الإمكان، وهذا مخصوص من مطل الغني، أو يقال: المراد بالغني المتمكن من الأداء، فلا يدخل هذا فيه ... أ. هـ (3) .
وقد عقب العراقي في طرح التثريب على كلام النووي هذا وقال:
__________
(1) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (38 \ 116) .
(2) انظر: تعريف المطل ومحترزاته.
(3) شرح مسلم للنووي (10 \ 227) .(79/318)
(وقوة كلامه تقتضي ترجيح الأول، والظاهر الثاني - يعني أن المراد بالغني المتمكن من الأداء - لأن من هو بهذه الصفة، يجوز له الأخذ من الزكاة، ولو كان غنيا لم يأخذ منها؛ لأنها للفقراء، ومن ذكر معهم دون الأغنياء) أ. هـ (1) .
وجاء في مرقاة المصابيح أيضا: (إن المطل منع أداء ما استحق أداؤه، وهو حرام من المتمكن، ولو كان غنيا، ولكنه ليس متمكنا، جاز له التأخير إلى الإمكان) (2) .
__________
(1) طرح التثريب (6 \ 162) .
(2) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3 \ 337) .(79/319)
المطلب الثالث: مطل المدين الموسر بلا عذر:
مطل المدين الموسر القادر على قضاء الدين بلا عذر، وذلك بعد مطالبة صاحب الحق، محرم شرعا، ومن الظلم الموجب للعقوبة الحاملة على الوفاء وقد عد السبكي والهيثمي في الزواجر والمناوي مطل الغني(79/319)
من غير عذر بعد مطالبته من الكبائر، حيث إن وصفه بالظلم وحل العرض والعقوبة من أكبر الوعيد (1) .
والدليل على ذلك:
أ - ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مطل الغني ظلم (2) » .
قال الحافظ ابن حجر: (المعنى أنه من الظلم، وأطلق ذلك للمبالغة في التنفير من المطل) (3) .
وقد جاء في بعض روايات الحديث «إن من الظلم مطل الغني (4) » ... ) (5) .
وقال ابن حزم - رحمه الله -: " ومن المنكر مطل الغني، فمن صح غناه، ومنع خصمه، فقد أتى منكرا، وظلما، وكل ظلم منكر، فواجب على الحاكم تغييره باليد " ولأجل هذا الحديث استدل سحنون وأصبغ من المالكية على أن المماطل فاسق مردود الشهادة، ونازعهما غيرهما في ذلك، وقالوا لا يلزم من تسميته ظلما أن يكون كبيرة، فإن الظلم يطلق على كل معصية كبرت أو صغرت، فلا ترد شهادته حتى يتكرر ذلك منه ويصير عادة له.
__________
(1) انظر: الزواجر (1 \ 249) فتح الباري (4 \ 664) فيض القدير (5 \ 523) .
(2) سبق تخريجه.
(3) فتح الباري (4 \ 465) .
(4) مسند أحمد (2/315) .
(5) انظر: طرح التثريب (6 \ 161) .(79/320)
وقال النووي: مقتضى مذهبنا اشتراط التكرار.
هذا ومما يدخل في مطل الأغنياء مع قدرتهم على الوفاء ما ذكره العز بن عبد السلام في قواعده بقوله: " فإن طولب بدين أو حق واجب على الفور لزمه أداؤه ولا يحل له أن يقول لخصمه لا أدفعه إلا بالحاكم؛ لأنه مطل، والمطل بالحقوق المقدور عليها محظور، لقوله عليه الصلاة والسلام «مطل الغني ظلم (1) » وكثيرا ما يصدر هذا من العامة مع الجهل بتحريمه، وإثمه أعظم من إثم المطال المجرد، لما فيه من تعطيل المدعي بانطلاقه إلى الحاكم ومثوله بين يديه وبما يغرمه لأعوان الحاكم على الإحضار " (2) .
ومما يدخل في التأخير في أداء الحقوق مع قدرته على الوفاء ما ذكره محمد العبدري المعروف بابن الحاج المالكي في مدخله بقوله: " ومنهم من لا يسأل البائع أن ينقص عنه، ولكنه يسأله التأخير مع كون البيع وقع على الحلول، وذلك لا يجوز، وهو ملتحق بالقسم الأول أعني في نقصان الثمن بعد عقد البيع عليه كما تقدم، ومنهم من لا يسأله نقصان الثمن، ولا التأخير، ولكن يماطله بقوله: غدا وبعد غد، وغدوة وعشية إلى غير ذلك مما هو معلوم من عوائدهم مع وجود القدرة على أداء الثمن في
__________
(1) صحيح البخاري الحوالات (2288) ، صحيح مسلم المساقاة (1564) ، سنن الترمذي البيوع (1308) ، سنن النسائي البيوع (4691) ، سنن أبي داود البيوع (3345) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2403) ، مسند أحمد (2/465) ، موطأ مالك البيوع (1379) ، سنن الدارمي البيوع (2586) .
(2) قواعد الأحكام في إصلاح الأنام (2 \ 63) .(79/321)
الوقت، وهذا يدخل في ضمن قوله عليه الصلاة والسلام «مطل الغني ظلم (1) » نسأل الله السلامة بمنه " (2) .
__________
(1) صحيح البخاري الحوالات (2288) ، صحيح مسلم المساقاة (1564) ، سنن الترمذي البيوع (1308) ، سنن النسائي البيوع (4691) ، سنن أبي داود البيوع (3345) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2403) ، مسند أحمد (2/465) ، موطأ مالك البيوع (1379) ، سنن الدارمي البيوع (2586) .
(2) المدخل (4 \ 59) .(79/322)
المبحث الرابع، أسباب المطل وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: أسباب تعود إلى من عليه الحق:
كثيرا ما يكون المدين هو السبب في تأخير الوفاء وتعثر الديون سواء كان عن عمد أو عن غير عمد، وتتنوع هذه الأسباب وتتعدد ولعلنا نذكر أهم هذه الأسباب:
أ - الإعسار: الإعسار كما يقول ابن فارس: " العين والسين والراء، أصل صحيح واحد يدل على صعوبة وشدة، فالعسر نقيض اليسر، والإقلال أيضا عسرة؛ لأن الأمر ضيق عليه شديد " (1) .
وقد ذكرنا تعريف الإعسار في الاصطلاح بأنه عدم قدرة المرء على أداء ما عليه من مال.
فإذا أعسر المرء عجز عن تسديد الديون والوفاء بها، ووجب إنظاره كما سبق تفصيل ذلك، وربما كان من أسباب هذا الإعسار هو دخول المدين في أنشطة لا معرفة له بها دون علم الدائن (الممول) واستخدام تسهيلات الدائن في تمويل مشروعاته مع أن هذه المشروعات
__________
(1) معجم مقاييس اللغة (4 \ 319) وانظر المصباح المنير (2 \ 487) المطلع للبعلي ص 255.(79/322)
تحتمل على قدر كبير من المخاطر، وربما تكون غير مشروعة تتم في الخفاء من غير علم الدائن فيقع المدين في خسارة باهظة تؤدي به إلى إعساره.
ومن ذلك أيضا عدم الفصل بين أموال المدين الخاصة، وبين أموال المشروع الذي يديره والذي استقرض من أجله، وبالتالي استخدام جانب من أموال المشروع في الإنفاق على احتياجاته الخاصة والأسرية والاجتماعية، مما يؤدي إلى استهلاك لجزء من رأس المال العامل للمشروع، وإصابته بإعسار، أو توسع المدين في الاقتراض باسم المشروع لتغطية نفقاته الشخصية (1) .
ب - الإفلاس: الإفلاس مصدر أفلس، يفلس، إفلاسا بمعنى: صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم (2) ، كما يقال: ألبن الرجل إذا صار ذا لبن.
ويقال أيضا: أفلس الرجل، كأنه صار إلى حال ليس له فلوس (3) .
وفي الاصطلاح الفقهي هو أن يكون الدين الذي على الشخص أكثر من ماله، سواء أكان غير ذي مال أصلا، أم كان له مال، إلا أنه أقل من دينه
__________
(1) انظر: الديون المتعثرة ص 82 د \ محسن الخضيري.
(2) انظر: المصباح المنير (2 \ 578) تاج العروس (4 \ 210) .
(3) المراجع السابقة.(79/323)
قال ابن قدامة - رحمه الله -: " وإنما سمي من غلب دينه ماله مفلسا، وإن كان له مال؛ لأن ماله مستحق الصرف في جهة دينه فكأنه معدوم (1) . وعلى هذا، فإذا زاد دين المدين على ماله، وخرجه أكثر من دخله، فهو المفلس عند الفقهاء.
أما التفليس فهو منع الحاكم الشخص من التصرفات المالية لتعلق الدين بها (2) ، والتفليس والحجر بالدين بمعنى واحد، ومن الفقهاء من يعبر بالأول، ومنهم من يعبر بالثاني.
والمفلس والمعسر بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل معسر مفلس، وليس كل مفلس معسر.
فالمعسر المعدم الذي قد نفذ ماله كله، فلم يبق عنده ما ينفقه على نفسه وعياله، أو المعسر المقل الذي يملك بعض المال، ولكنه قليل لا يكاد يكفيه للإنفاق على نفسه وعياله بالمعروف وقضاء دينه إلا بضرر أو مشقة وضيق، فهذا معسر وهو في نفس الوقت مفلس - وينفرد المفلس عن
__________
(1) المغني (6 \ 537) .
(2) انظر: حاشية قليوبي على شرح المحلي على المهاج (2 \ 285) شرح الخرشي (5 \ 263) كشاف القناع (3 \ 404) .(79/324)
المعسر حيث إن ماله أكثر مما استثنى له غير أنه لا يفي بالدين الذي عليه (1) .
وهناك فروق فقهية بين الإفلاس والإعسار ومن أهمها:
1 - أن المفلس يحجر عليه أما المعسر فلا يجوز الحجر عليه لأنه عاجز ولا ينفع حبسه ولا الحجر عليه الوفاء ولو ببعض الدين الذي عليه.
2- أن الإفلاس لا بد أن يكون عن دين، أما الإعسار فقد يكون عن دين أو عن قلة ذات اليد (2) .
3- أن مدعي العسر وحاله مجهولة يسجن حتى يثبت عدمه، أو يعطي ضامنا بوجهه (3) أما المفلس فإنه يسجن بهدف عقوبته، وإكراهه لتأدية حقوق الدائنين.
4- الديون المؤجلة لا تحل بالإعسار بل قد يوجب التأجيل، وفي حالة الإفلاس هل تبقى على تأجيلها أو تحل؟ موضع خلاف بين الفقهاء على قولين وإفلاس المدين قد يحصل بسبب ضعف التخطيط التمويلي، وعدم قدرة المدين في مشروعه التجاري على إحداث توافق بين احتياجات
__________
(1) انظر: تصرفات المفلس خلال فترة الريبة ص 15، الوسائل الواقية من الإفلاس ص 39.
(2) المراجع السابقة.
(3) انظر: القوانين الفقهية لابن جزي المالكي ص 209.(79/325)
المشروع الاستثماري وبين إيراداته، ومن أسباب الإفلاس أيضا ضعف تقدير المدين التاجر للسوق، ومبالغته في تسعير ثمن البضاعة وعدم تقديره للمنافسة بشكل صحيح، مما يؤدي إلى انخفاض صافي المبيعات، وازدياد تكاليف الإنتاج. واتساع نطاق نفقات التشغيل والصيانة بشكل لا يتناسب وحجم المبيعات.
ومن الأسباب الموجودة أيضا هو أن الشركة المدينة قد يخرج أحد كبار مساهميها ولا يوجد من يحل محله في تعويض الجزء المتخارج من رأس مال الشركة، مما يؤدي إلى أن تفقد الشركة المدينة جانبا هاما من مواردها خاصة رأس المال العامل الذي يؤدي إلى اختناق السيولة لديها، وعدم قدرتها على الوفاء باحتياجات المشروع من مستلزمات التشغيل وبالتالي عدم القدرة على تسديد الديون الحالة عليها.
ج - ومن أسباب المطل التي تعود إلى من عليه الحق أيضا.
هو علم المدين المماطل بأن مطالبته من قبل الدائن تحتاج إلى إجراءات إدارية أو قضائية طويلة الأمد، ولا يوجد إجراءات صارمة فربما أعطى شيكا غير مغطى، مع أن هذا يعد اعتداء ومسؤولية جنائية في حق النظام، غير أن ضعف التطبيق أو المحسوبية أو البيروقراطية الموجودة في المؤسسات ربما تساعد هؤلاء العابثين بأموال المسلمين. وقد سبق أن ذكرنا كلام العز بن عبد السلام الذي جعل أشد أنواع المطل هو تأخير المدين(79/326)
بالوفاء إلى بعد التقاضي وهذا كثر في الآونة الأخيرة، ووجد بعض المحامين الذين ربما ساعدوا هذا المدين المماطل، وأوجدوا له بعض الثغرات في النظام أو الإجراءات الإدارية التي تساعده على تأخير الوفاء مما يجعل بعض أصحاب الحق يتركون حقوقهم والمطالبة بها بسبب هذا التعسف في المطل من قبل المدينين.
د - ومن الأسباب أيضا: جحد الدين وإنكاره أو إنكار بعضه، ويعمد بعض ضعفاء النفوس من المدينين لجحد الدين أو إنكاره أو إنكار بعضه إذا لم يكن للدائن دليل على دينه، وهذا محرم وكبيرة من كبائر الذنوب، قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ} (1)
قال ابن عباس رضي الله عنه: (هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس فيه بينة، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل حرام) (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 188
(2) انظر: تفسير الطبري (3 \ 277) .(79/327)
المطلب الثاني: أسباب تعود إلى صاحب الحق:
كثيرا ما يقع الدائنون ضحية أخطائهم أو تقصيرهم في عدم وفاء وتسديد الغير لحقوقهم، ولهذا فمشكلة تعثر الديون من أسبابها هو صاحب الحق نفسه. يظهر هذا بالأسباب الآتية:(79/327)
1 - عدم حصول الدائن أيا كان موقعه على ضمانات ذات تأثير خاصة على المدين، تجعله لا يقدم على مثل هذه الديون إلا عندما تكون عنده جدية في التسديد والوفاء، فوجود الضمانات المعنوية والنفسية والعينية أمر يؤثر على جدية المدين والتزامه.
2 - عدم الأخذ بالأسباب الفنية، والوسائل العلمية المطلوبة من دراسة الجدوى الاقتصادية الجادة، ودراسة الشركات أو الأفراد الذين يطلبون التمويل عن طريق الالتزامات الآجلة، ولهذا فعدم مضاعفة الجهد عند دراسة عمليات التحويل قبل الموافقة عليها وتنفيذها ليتم التأكد من جدواها، والقدرة على الوفاء بالالتزامات المترتبة عليها، قد يكون سببا من أسباب تأخر تسديد الديون وربما جحودها وعدم الوفاء بها كليا.
3 - عدم إجراء الزيارات التفتيشية الدورية لبعض الشركات المدينة أو بعض المؤسسات التي ترغب في تحويل مشاريعها، للتأكد من وجود الضمانات المرهونة للدائن - من آلات ومعدات ومبان وعقارات ونحو ذلك - وأنها بحالة سليمة تسمح ببيعها، وعدم هلاكها أو تصرف المدين بها.
4 - ومن الأسباب أيضا: المجاملات والوسائط التي تحول دون الأخذ بتنفيذ الوسائل والإجراءات المطلوبة، وربما يعطى المدين الحق والموافقة بسحب جزء من الضمانات المأخوذة منه سلفا أو التصرف فيها، دون سداد القيمة المطلوبة التي كان يغطيها هذا الضمان، وبالتالي فربما يخسر المدين أو يعجز أو يتأخر عن التسديد فلا يجد الدائن إلا بعض ماله(79/328)
المرهون أو ربما لا يجد شيئا.
5 - ومن الأسباب أيضا: توسع بعض الشركات والمؤسسات على التمويل بالبيوع الآجلة مثل بيع المرابحة للآمر بالشراء وبالأخص المرابحات الاستهلاكية التي لا يبقى محل العقد فترة طويلة وعدم التركيز على أساليب الاستثمار الأخرى مثل المشاركات المنتهية بالتمليك، أو المضاربات الشرعية أو الاستصناع.(79/329)
المطلب الثالث: أسباب تعود إلى العلاقة بينهما:
قد تحدث بعض الممارسات اللاأخلاقية من قبل بعض المتعاملين في التجارة، فلربما يكون البائع مثلا بالبيع الآجل عنده بعض الممارسات التعسفية وليس عنده المرونة في التعامل مما يغضب بعض عامليه ومرتاديه وبعض زبائنه، فربما يطلب المدين أن يسهل الدائن له بعض المعاملات أو ينظره أو يخفف عنه مثلا بعض الدين فيمانع الدائن بذلك وربما هدده، فتحدث بعض الخلافات النفسية، والمشاحنات الكلامية، فيمتنع المدين جراء ذلك من تسديد ديونه، وإرغام البائع بالتخفيف وإلا امتنع عن تسديد كامل الدين. قال ابن الحاج المالكي - رحمه الله -: ويتعين عليه إذا اشترى بثمن معلوم أن لا ينقص البائع منه شيئا، فإن نقصه فذلك من باب أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن الذمة قد تعمرت بالثمن كله، وغالب(79/329)
أحوال الناس المشاحة في البيع والشراء، فإذا نقصه من ذلك وإن كان ظاهر البائع الرضا فالغالب عدم رضاه لما تقرر من العوائد ومن رغبة النفوس في أخذها جميع حقها، ولو لم يكن فيه إلا ذل السؤال في أن يحط عنه شيئا مما له عليه لكان كافيا في الذم، فكيف وقد جمع مع ذلك استشراف النفس والشره سيما إن كان غنيا والبائع فقيرا (1) .
ولا شك أن سوء تصرف البائع وعدم مرونته وسوء خلقه، لا يمكن أن يخول المدين بالمماطلة والتسويف؛ لأن الخطأ لا يعالج بالخطأ، وربما تكون تصرفات البائع غير أخلاقية ودليلا على سوء الأدب، أما المدين بمماطلته الحقوق يكون آثما بذلك.
وأكثر التعاملات التجارية التي تكون في المحاكم من أسباب تأخير الوفاء منها هو سوء العلاقة بين الطرفين، وعدم المرونة في التعامل والتسامح فيه وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى (2) » ، قال الحافظ ابن حجر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا اقتضى: أي طلب قضاء حقه بسهولة وعدم إلحاف، في رواية حكاها ابن التين (وإذا اقتضى) أي أعطى الذي عليه بسهولة بغير مطل، وللترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعا «إن الله يحب سمح البيع، سمح الشراء سمح القضاء (3) » وللنسائي من حديث عثمان رفعه
__________
(1) المدخل (4 \ 58 - 59) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه. فتح الباري (4 \ 306) .
(3) سنن الترمذي البيوع (1319) .(79/330)
«أدخل الله الجنة رجلا كان سهلا مشتريا وبائعا وقاضيا ومقتضيا (1) » ولأحمد من حديث عبد الله بن عمرو نحوه، وفيه الحض على السماحة في المعاملة واستعمال معالي الأخلاق وترك المشاحة والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة وأخذ العفو منهم " اهـ (2) .
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4696) ، سنن ابن ماجه التجارات (2202) ، مسند أحمد (1/70) .
(2) فتح الباري (4 \ 307) .(79/331)
المطلب الرابع: أسباب تعود إلى غير ما سبق:
هناك أسباب تؤدي إلى تعثر الديون وتأخير الوفاء بها لا تعود إلى العلاقة بين الدائن والمدين ولا إلى أي منهما، بل تعود إلى أمور أخرى لا علاقة لواحد منهما بها.
وهذه الأسباب هي ما يسمى عند الفقهاء بالجوائح.
والجائحة كما يقول ابن قدامة - رحمه الله -: كل آفة لا صنع للآدمي فيها " (1) .
وعرفها أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - بقوله: " الجائحة هي الآفات السماوية التي لا يمكن معها تضمين أحد " (2) .
غير أن المذهب المالكي له تفصيل في معنى الجائحة على ثلاثة أقوال:
الأول: منهم من يرى إلى أن الجائحة في الأمور السماوية وحدها، ولا خلاف بينهم أنها جائحة.
الثاني: ومنهم من يرى أن الجائحة تشمل أيضا أعمال الآدميين
__________
(1) المغني (6 \ 179) .
(2) مجموع الفتاوى (30 \ 278)(79/331)
التي لا يمكن التحرز عنها وكان غالبا مثل الجيش يمرون بالنخل، فيأخذون ثمرته هو جائحة.
الثالث: ومنهم من يرى أن الجائحة تشمل جميع أعمال الآدميين حتى تلك التي يمكن التحرز منها ما دامت من غير فعل المتعاقدين.
وهذه تسمى عند الفقهاء المعاصرين بنظرية الظروف الطارئة، وبعضهم يرى أن ثمة فرقا بين نظرية الجوائح وبين نظرية الظروف والحوادث الطارئة ومنهم الدكتور عبد الرزاق السنهوري الذي فرق بينهما بقوله: " نظرية الحوادث الطارئة تفترض أن عقدا يتراضى تنفيذه إلى أجل، أو آجال كعقد التوريد، وعند حلول أجل التنفيذ تكون الظروف الاقتصادية قد تغيرت تغيرا فجائيا لحادث لم يكن في الحسبان بحيث يختل التوازن الاقتصادي للعقد اختلالا خطيرا ... ولو أن هذا الحادث الطارئ قد جعل تنفيذ الالتزام مستحيلا لكان قوة قاهرة، ولا نقضي به الالتزام. ولو أنه لم يكن من شأنه إلا أن يجعل تنفيذ الالتزام يعود بخسارة على التاجر لا تخرج عن الحد المألوف لما كان له من أثر ولا التزام المدين بتنفيذ التزامه التزاما كاملا، ولكنا نفترض من جهة أن تنفيذ الالتزام لم يصبح مستحيلا، ونفرض من جهة أخرى أن تنفيذه يعود بخسارة على المدين تخرج عن الحد المألوف ثم نفرض أن هذا كله لم يكن قائما وقت نشوء العقد، بل وجد(79/332)
عند تنفيذه. فماذا يكون الحكم في المثل الذي أسلفناه؟ تقول نظرية الحوادث الطارئة: لا ينقضي التزام المدين؛ لأن الحادث الطارئ ليس قوة قاهرة، ولا يبقى التزامه كما هو؛ لأنه مرهق، ولكن يرد القاضي الالتزام إلى الحد المعقول، حتى يطيق المدين تنفيذه، يطيقه بمشقة ولكن في غير إرهاق ... ".
فالظروف الطارئة قد تكون سببا من أسباب تأخير الحقوق والالتزامات العقدية، فمثلا لو أن عقد مقاولة قد تم بين طرفين على إنشاء بناية كبيرة يحتاج إنشاؤها إلى مدة طويلة، وحدد فيه سعر المتر المكعب من البناء وكسوته بمبلغ 1000 ريال مثلا، وكانت كلفة المواد الأولية من حديد وأسمنت وأخشاب وسواها وأجور عمال تبلغ عند العقد للمتر الواحد (800) ريال، فوقعت حرب غير متوقعة، أو حادث آخر خلال التنفيذ قطعت الاتصالات والاستيراد وارتفعت بها الأسعار ارتفاعا كبيرا مما يجعل تنفيذ الالتزام مرهقا جدا في حق المقاول، مما يترتب على ذلك تأخير التزامه بالعقد ويماطل في الالتزام، وربما تأخر رب العمل أيضا بتسديد المبالغ المستحقة عليه لأن المقاول قد تأخر فيتأثر الالتزام بسبب هذه الظروف، وكذلك لو أن متعهدا في عقد توريد أرزاق عينية يوميا من لحم وجبن ولبن وبيض وخضروات وفواكه ومشروبات ونحوها إلى مستشفى أو إلى جامعة(79/333)
فيها أقسام داخلية أو إلى دار ضيافة حكومية بأسعار اتفق عليها في كل صنف لمدى عام، فحدثت جائحة في البلاد أو طوفان أو زلزال أو جاء جراد جرد المحاصيل الزراعية فارتفعت الأسعار إلى أضعاف كثيرة عما كانت عليه عند العقد، فيترتب على ذلك تأخير التزام المورد، وبالتالي تأخير تسديد الأموال التي استحقت له.
ولا شك أن هذا يسبب التنازع بين الطرفين مما يكون سببا إلى الاتجاه إلى القضاء للفصل بين الطرفين، وقد عرض موضوع هذه الظروف الطارئة على مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من رابطة العالم الإسلامي وقرر ما يلي:
1 - في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلا غير الأوضاع والتكاليف والأسعار تغييرا كبيرا، بأسباب طارئة عامة، لم تكن متوقعة حين التعاقد، فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي، يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة، من تقلبات الأسعار في طرق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحالة عند التنازع، وبناء على الطلب تعديل الحقوق والالتزامات العقدية، بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز له أن يفسخ العقد، فيما لم يتم تنفيذه منه، إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له(79/334)
صاحب الحق في التنفيذ، يجبر له جانبا معقولا من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد، بحيث يتحقق عدل بينهما، دون إرهاق للملتزم، ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعا رأي أهل الخبرة الثقات.
2 - ويحق للقاضي أيضا أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيرا بهذا الإمهال " (1) .
ونظرية الظروف الطارئة تناولها الفقهاء - رحمهم الله - عندما تحدثوا عن " الفسخ بالأعذار " وعن " الجوائح في بيع الثمار " وعن " تعديل العقد في حالة تقلب النقود " ووضعوا ضابطا للعذر الطارئ الذي يجيز فسخ عقد الإجارة وهو أن عجز العاقد عن المضي في موجب العقد إلا بتحمل ضرر زائد لم يلتزمه بموجب العقد يحق له بعد التقاضي التخفيف عنه أو الفسخ.
وقد ذكر ابن تيمية، رحمه الله، في مختصر الفتاوى المصرية: " أن من استأجر ما تكون منفعة إجارته لعامة الناس، مثل الحمام والفندق والقيسارية فنقصت المنفعة المعروفة، لقلة الزبون، أو لخوف، أو حرب، أو تحول سلطات ونحوه، فإنه يحط عن المستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة " (2) .
__________
(1) انظر: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي (ص 107 - 108) .
(2) مختصر الفتاوى المصرية ص 376.(79/335)
وقال الكاساني: "إن الفسخ في الحقيقة امتناع من التزام الضرر، وأن إنكار الفسخ عند تحقق العذر، خروج عن العقل والشرع؛ لأنه يقتضي أن من اشتكى ضرسه فاستأجر رجلا لقلعها، فسكن الوجع يجبر على القلع، وهذا قبيح عقلا وشرعا" (1) .
وقد ذكر بعض الباحثين صورا من جوائح القرض فقال: القروض قد تكون عرضة للجوائح فإنها إن كانت نقودا مثلا فقد تكسد، وقد ترخص وقد تغلو وقد يبطل التعامل بها إلى غير ذلك من جوائح النقود (2) .
2 - ومن الأسباب أيضا تلك الأسباب التي تتعلق بالعوامل السياسية والاقتصادية والنظامية التي تؤثر على النشاط الائتماني، وكلما كانت هذه العوامل تتصف بعدم الاستقرار كلما زادت درجة المخاطر، وتزايدت ظروف عدم التأكد عما سيكون عليه الحال مستقبلا، وأثر ذلك بالسلب على الوفاء بالالتزامات المالية. وترجع هذه العوامل إلى اعتبارات محلية داخلية أو إلى اعتبارات عالمية دولية. من ذلك:
أ - سياسات التسعير بغير ضوابط شرعية وما لها من أثر مباشر أو غير مباشر على الأرباح، ومن ثم المقدرة المالية على الوفاء بالالتزامات المالية.
ب - السياسات المالية للدولة وبصفة خاصة السياسات الضريبية
__________
(1) بدائع الصنائع (4 \ 197) .
(2) انظر: الجوائح وأحكامها ص 241 د \ سليمان الثنيان.(79/336)
المرهقة أو الباهظة والمغالى فيها وبغير ضوابط شرعية.
ج - السياسات النقدية وما تقوم عليه من سياسة ائتمانية وسياسة أسعار الصرف، وسياسة إدارة الدين العام وعدم قدرتها على تحقيق الاستقرار المنشود مما يؤثر سلبا على قدرة الأفراد والمؤسسات والمشروعات المدينة على سداد ديونها وبخاصة إذا كانت بالعملات الأجنبية.(79/337)
الخاتمة
وفيها أهم النتائج التي اشتمل عليها هذا البحث:
1 - ثبت بنصوص الكتاب والسنة أن مماطلة الغني القادر على الوفاء في أداء الحقوق المالية ظلم وجريمة منكرة.
2 - لا يتصف بالمطل من ليس القدر الذي استحق عليه حاضرا عنده، ولو كان قادرا على تحصيله بالتكسب والعمل والتجارة، إلا أن يكون أصل الدين وجب بسبب يعصى به، فيجب، وإلا فلا.
3 - إن من أهم أسباب شيوع الاستدانة هي الترف والتوسع في الشهوات والكماليات أو تحكم العادات القبيحة والمباهات في الأفراح والمناسبات.
4 - ضرورة إظهار الأضرار المادية والأدبية جراء تأخير المدين عن الوفاء بالالتزامات.(79/337)
5 - المعسر الذي لا يجد وفاء، ولا يقدر على أداء ما عليه من دين يجب إنظاره - ولا تحل مطالبته إلى أن يوسر.
5 - الغني الذي لا يستطيع الوفاء بالحقوق التي في ذمته لسبب من الأسباب يعذر في التأخير ولا يأثم.
6 - توسع بعض الشركات والمؤسسات على التمويل بالبيع بما يسمى ببيع المرابحة للأمر بالشراء، من أسباب توسع الناس في الدين والمماطلة فيها.(79/338)
العقل
تعريفه، منزلته، مجالاته، ومداركه
لفضيلة الدكتور \ عبد القادر بن محمد بن عطا صوفي (1)
الحمد لله الذي أوجدنا من العدم، وجعل أمتنا خير الأمم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ندب أصحاب العقول إلى إعمال عقولهم، وحثهم على التفكر في مخلوقاته التي تحيط بهم.
والصلاة والسلام على نبينا محمد أفضل من عقل وفهم، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم. وبعد:
فإن ديننا الإسلامي لم يحجر على العقول، أو يهملها، بل رفع من شأنها، وأعلى من قدرها، وجعلها مناط التكليف، وفرق بين الذين يعقلون، والذين لا يعقلون.
والعقل له منزلة في الإسلام لا تنكر، ومجالاته فيه كثيرة، وجديرة بأن تذكر.
وقبل الحديث عن منزلته، والخوض في مجالاته ومداركه، لا بد من وقفة أبين بها المراد به في اللغة والاصطلاح.
__________
(1) أستاذ الفرق والعقيدة والوافدات الفكرية المساعد بكلية المعلمين بأبها.(79/339)
وهذا يستلزم تقسيم البحث إلى ثلاث مسائل:(79/340)
المسألة الأولى: تعريف العقل لغة واصطلاحا:
أولا: العقل في اللغة:
العقل في اللغة يطلق على المنع والحبس. يقال: اعتقل الرجل، إذا حبس.
ومرض فلان، فاعتقل لسانه، إذا امتنع عن الكلام، فلم يقدر عليه (1) .
ومنه قول ذي الرمة:
ومعتقل اللسان بغير خبل ... يميد كأنه رجل أميم (2)
ويقال: أعطني عقولا أشربه، إذا طلب دواء يمسك بطنه (3) .
ويقال كذلك: عقلت البعير أعقله عقلا، إذا منعته من الحركة، وذلك بأن تثني وظيفه مع ذراعه، فتشدهما جميعا في وسط الذراع (4) .
ومن هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم - لصاحب الناقة:
__________
(1) ''الزمخشري، 1409 هـ، مادة '''' عقل ''''. ''
(2) ''الحربي، 1405هـ، 3 \ 1232، قوله '''' جعل دية المقتولة على عاقلة القاتلة ''''. ''
(3) الفيروزآبادي، القاموس المحيط، 1407 هـ، مادة العقل.
(4) ''الجوهري، 1402 هـ، مادة '''' عقل ''''. ''(79/340)
«أعقلها وتوكل (1) » .
وذلك الحبل الذي تعقل به الناقة يقال له العقال، والجمع عقل (2) .
ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - عن القرآن الكريم: «لهو أشد تفصيا من الإبل في عقلها (3) » .
وإنما يعقل البعير لحبسه، ومنعه من الهرب، والشرود.
واعتقلت الشاة، إذا وضعت رجلها بين فخذيك أو ساقيك لتحلبها (4) ؛ فأنت بفعلك هذا تمنعها من الحركة.
وعقل الوعل، إذا امتنع في الجبل العالي، يعقل عقولا. والمكان الممتنع فيه يسمى " المعقل " (5) . وبه سمي الوعل عاقلا.
يقول النابغة الذبياني:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل (6)
__________
(1) ''أخرجه الترمذي في جامعه، ك القيامة، باب رقم 60، من حديث أنس رضي الله عنه، وقال: '''' هذا حديث غريب من حديث أنس، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد صححه الألباني في '''' صحيح سنن الترمذي '''' 1408 هـ، 2 \ 309 ح 2044 ''
(2) ''الجوهري، مصدر سابق، مادة '''' عقل ''''. ''
(3) أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب استذكار القرآن وتعاهده. ومسلم، صلاة المسافرين، باب فضائل القرآن) .
(4) ''الزمخشري، مصدر سابق، مادة '''' عقل ''''. ''
(5) الحربي، مصدر سابق.
(6) النابغة: ديوانه، 1405 هـ، ص 129.(79/341)
وتسمى الدية عقلا ومعقلة؛ فيقال: القوم على معاقلهم الأولى؛ أي على ما كانوا يتعاقلون في الجاهلية، كذا يتعاقلون في الإسلام (1) .
وقد جاء في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب بين المهاجرين من قريش، والأنصار، أنهم على رباعتهم (2) ؛ يتعاقلون معاقلهم الأولى (3) .
وعقلت عن فلان؛ أي غرمت عنه جنايته إذا لزمته دية، فأديتها عنه (4) . وعاقلة الرجل: عصبته؛ وهم القرابة من قبل الأب الذين يعطون دية من قتله خطأ (5) .
ويشهد لهذا المعنى، ما جاء في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: «أن امرأتين قتلت إحداهما الأخرى، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية المقتولة على عاقلة القاتلة (6) » .
وإنما أطلقوا على الدية، وأدائها عقلا؛ لأن الإبل كانت تعقل
__________
(1) ''الجوهري، مصدر سابق، مادة '''' عقل ''''. ''
(2) أي أمرهم الذي كانوا عليه. (الفيروزآبادي، مصدر سابق، ص 928، 929) .
(3) أخرجه أحمد في المسند 1 \ 271 من حديث ابن عباس، و2 \ 204 من ابن عمرو رضي الله عنه.
(4) ''الزمخشري، مصدر سابق، مادة '''' عقل ''''. ''
(5) الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مصدر سابق، مادة العقل.
(6) ''أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الديات، باب دية الجنين. وصححه الألباني في '''' صحيح سنن أبي داود ''''، 1409هـ، 3 \ 865، ح 3826. ''(79/342)
- تحبس - بفناء ولي المقتول (1) .
والعقيلة هي كريمة الحي، وسميت بذلك لحبسها نفسها في بيتها (2) .
يقول امرؤ القيس:
عقيلة أتراب لها لا دميمة ... ولا ذات خلق إن تأملت جأنب (3)
أي ليست دميمة، ولا قصيرة.
وخلاصة القول: أن العقل في اللغة يطلق على المنع والحبس.
ووجه تسمية العقل بهذا الاسم: كونه يمنع صاحبه عن التورط في المهالك، ويحبسه عن ذميم القول والفعل (4) .
والفهم والبيان يسمى عقلا أيضا؛ لأنه عن العقل كان، فيقول الرجل للرجل: أعقلت ما رأيت، أو سمعت؟ فيقول: نعم، يعني: أني قد فهمت، وتبينت. والعرب إنما سمت الفهم عقلا؛ لأن ما فهمته فقد قيدته بعقلك، وضبطته (5) .
وهذا التعريف اللغوي للعقل يوضح مراد أمير المؤمنين عمر بن
__________
(1) الجوهري، مصدر سابق، مادة عقل.
(2) ''الحربي، مصدر سابق، قوله '''' اعقلها وتوكل ''''. ''
(3) امرؤ القيس: ديوانه، 1404 هـ، ص 30.
(4) ''ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، 1366 هـ، مادة '''' ع ق ل ''''. ''
(5) المحاسبي، 1406هـ، ص 24(79/343)
الخطاب رضي الله عنه من قوله " عقلناها "، في قوله: «إن الله قد بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم؛ قرأناها، ووعيناها، وعقلناها (1) » .
و" عقلناها ": أي فهمناها، وضبطناها، وأمسكناها.
فما سمي العقل عقلا إلا لأنه يمسك ما علمه، ويضبطه، ويفهمه؛ فيقال: عقل الشيء، إذا فهمه، فهو عقول.
وعقل الشيء، إذا علمه، أو علم صفاته؛ من حسن وقبح، وكمال ونقصان، فأمسكها، وأمكن أن يميز بين القبيح والحسن، والخير والشر (2) .
فالعاقل خلاف الجاهل؛ يحبس نفسه، ويمنعها عما يوبقها، ويردها عن هواها، ويمسك ما يعلمه، ويميز بين ما ينفعه وما يضره، في عاجله وآجله.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب رجم الثيب في الزنى.
(2) الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مصدر سابق، مادة العقل.(79/344)
ثانيا: تعريف العقل اصطلاحا:
تنوعت التعريفات المقولة في العقل، واختلفت، وأغلبها عليه ملاحظات (1) .
والتعريف الذي اخترته تفصيلي، يشتمل على أربعة معان قيلت في
__________
(1) ابن حسن، 1412 هـ، 1 \ 157، 158.(79/344)
العقل، لا ينفك واحد منها عن الآخر، متى فقد واحد منها قيل لصاحبه: ليس له عقل:
المعنى الأول: الغريزة التي في الإنسان، والتي يمتاز بها عن سائر الحيوان؛ فبها يعلم، وبها يعقل، وبها يميز، وبها يقصد المنافع دون المضار.
يقول أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) عن هذا المعنى، إنه: (الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم، وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية، وتدبير الصناعات الخفية الفكرية) (1) .
ويقول الماوردي (ت 450 هـ) : (فالغريزي هو العقل الحقيقي، وله حد يتعلق به التكليف، لا يجاوزه إلى زيادة، ولا يقصر عنه إلى نقصان، وبه يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان) (2) .
ويقول الحارث بن أسد المحاسبي (ت 243 هـ) : (فأما هو في المعنى
__________
(1) الغزالي، 1406 هـ، ص 58.
(2) الماوردي، 1407 هـ، ص 6.(79/345)
والحقيقة لا غيره، فهو غريزة وضعها الله سبحانه في أكثر خلقه، لم يطلع عليها العباد بعضهم من بعض، ولا اطلعوا عليها من أنفسهم برؤية، ولا بحس، ولا ذوق، ولا طعم. وإنما عرفهم الله سبحانه وتعالى إياه بالعقل منهم؛ فبذلك العقل عرفوه، وشهدوا عليه بالعقل الذي عرفوه به من أنفسهم، بمعرفة ما ينفعهم، ومعرفة ما يضرهم) (1) .
فبإمكان العباد أن يطلعوا بعقولهم على هذه الغريزة؛ أهي موجودة عند فلان، أو ليست كذلك، بالنظر إلى أفعال جوارحه؛ فـ (إذا رأوا من أفعاله ما يدلهم على أنه قد عرف ما ينفعه في دنياه وما يضره، وإذا رأوه طالبا عاملا فيما ينفعه من دنياه، مجانبا لما يضره من دنياه، سموا من كان كذلك: عاقلا، وشهدوا له أن له عقلا، وأنه لا مجنون، ولا تياه، ولا أحمق) (2) .
ويمكن الاستئناس في بيان بعض هذه الصفات - التي تمكن ملاحظتها في العاقل - بقول ابن القرية (ت 84 هـ) : (الرجال ثلاثة:
__________
(1) المحاسبي، مصدر سابق، ص 17.
(2) المحاسبي، مصدر سابق، ص 18.(79/346)
عاقل، وأحمق، وفاجر: فالعاقل إن كلم أجاب، وإن نطق أصاب، وإن سمع وعى. والأحمق إن تكلم عجل، وإن تحدث وهل (1) ، وإن حمل على القبيح فعل..) (2) .
وكلام ابن تيمية عن الفرق بين المجنون والعاقل يشبه هذا الكلام، ومنه قوله: (فالمجنون الذي لا يميز بين الدراهم والفلوس، ولا بين أيام الأسبوع، ولا يفقه ما يقال له من الكلام ليس بعاقل. أما من فهم الكلام، وميز بين ما ينفعه وما يضره، فهو عاقل) (3) .
يقول أحد الشعراء معددا بعض الصفات التي يستدل بها على عقل العاقل:
يعرف عقل المرء في أربع ... مشيته أولها, والحرك
ودور عينيه, وألفاظه ... بعد عليهن يدور الفلك
وربما أخلفن إلا التي ... آخرها منهن سمين لك (4)
فهذه بعض صفات من وهبه الله المعنى الأول من معاني العقل - وهو الغريزة -: فهم الخطاب، ورد الجواب، وصلاح المشية، واتزان الحركات، واستقرار العينين، ونحو ذلك.
__________
(1) ضعف، وجبن، وفزع. (أنيس ورفاقه، 1972م، ص 1060) .
(2) ابن أبي الدنيا، 1409 هـ، ص 47.
(3) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 1404، 9 \ 287
(4) ابن عبد ربه، 1404 هـ، 2 \ 106.(79/347)
وهذه الغريزة، التي هي إحدى معاني العقل، شرط في المعقولات والمعلومات، وهي مناط التكليف؛ فإذا عدمت في الإنسان، سقطت عنه التكاليف الشرعية.
وفي ذلك يقول الحارث المحاسبي (ت 243 هـ) : (فالعقل غريزة، جعلها الله في الممتحنين من عباده؛ أقام به على البالغين للحلم الحجة، وأنه خاطبهم من جهة عقولهم، ووعد، وتوعد، وأمر، ونهى، وحض، وندب) (1) .
وهذا العقل المشروط في التكليف لا بد أن يكون علوما يميز بها الإنسان بين ما ينفعه وما يضره.
وعن هذا المعنى نفسه، يقول ابن تيمية (ت 728هـ) : (العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، ولكنه ليس مستقلا بذلك، لكنه غريزة في النفس، وقوه فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين) (2) .
ويلاحظ تشبيهه العقل بالبصر.
وقد سبقه إلى هذا التشبيه البليغ قوم، قالوا عن العقل: (هو نور وضعه الله طبعا وغريزة، يبصر به، ويعبر به. نور في القلب، كالنور في العين، وهو البصر..) (3) .
__________
(1) المحاسبي، مصدر سابق، ص 19.
(2) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مصدر سابق، 3 \ 338.
(3) المحاسبي، مصدر سابق، ص 19.(79/348)
لكن هذا البصر إن اتصل به نور الشمس، أو ضوء النار، صار أشد قوة وإبصارا، وإن انفرد بنفسه، ضعف.
كذلك صاحب العقل إن وصله بنور الإيمان والقرآن، اهتدى وسعد. وإذا لم يتصل بهما عجز عن إدراك الأمور التي لا يكمن أن يستقل بإدراكها.
وهذا معنى قول ابن تيمية (ت 728هـ) عن العقل، إنه: (بمنزلة قوة البصر التي في العين؛ فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار. وإن انفرد بنفسه، لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها) (1) .
وهذا التشبيه الرائع من ابن تيمية - وممن سبقه - ينطبق على أولئك الذين اعتصموا بالكتاب والسنة، وعلى مخالفيهم الذين اتكلوا على عقولهم، معرضين عن الاهتداء بنور الوحي، فعموا عن الحق، وضلوا عنه، وآل أمرهم إلى التخبط والحيرة.
ويصدق علمهم قول الله عز وجل عن بنى أدم عليه السلام: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (2) {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (3) {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} (4) {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (5)
__________
(1) ابن تيمية، مجموع الفتاوى؛ مصدر سابق، 3 \ 339.
(2) سورة طه الآية 123
(3) سورة طه الآية 124
(4) سورة طه الآية 125
(5) سورة طه الآية 126(79/349)
المعنى الثاني: العلوم التي تلازم الإنسان العاقل؛ فتقع في نفسه ابتداء، ولا تنفك عن ذاته؛ كالعلم بالممكنات، والواجبات، والممتنعات.
وهذا معنى من معاني العقل؛ إذ ثمة علوم (تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز، بجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات؛ كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد) (1) ، وأن (الشيء لا يخلو من وجود أو عدم، وأن الموجود لا يخلو من حدوث أو قدم، وأن من المحال اجتماع الضدين) (2) . وهذه العلوم " تشمل جميع العقلاء " (3) .
المعنى الثالث: العلوم المستفادة من التجارب، والمكتسبة بواسطة العقل، والتي يضبطها الإنسان، ويمسكها (4) .
وهذا العقل يعد نتيجة للعقل الغريزي، وهو (نهاية المعرفة، وصحة السياسة، وإصابة الفكرة. وليس لهذا حد؛ لأنه ينمو إن استعمل، وينقص إن أهمل " (5) .
__________
(1) الغزالي، مصدر سابق، ص 59.
(2) الماوردي، مصدر سابق، ص 7.
(3) ابن حسن، مرجع سابق، 1 \ 159.
(4) الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، 1403هـ، 4 \ 85.
(5) الماوردي، مصدر سابق، ص 7.(79/350)
وعنه يقول الغزالي (ت 505هـ) : (الثالث: علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال؛ فإن من حنكته التجارب، وهذبته المذاهب، يقال إنه عاقل في العادة، ومن لا يتصف بهذه الصفة، يقال إنه غبي، غمر، جاهل. فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلا) (1) .
ونماء هذا النوع يكون بأحد أمرين، هما:
1 - كثرة الاستعمال؛ كالذي يحصل لذوي الأسنان من الحنكة، وصحة الرؤية، بكثرة التجارب، وممارسة الأمور.
2 - وفرط الذكاء، وحسن الفطنة (2) .
ولقد كانت العرب تقول: " العقل: التجارب " (3) ، وقد سئل بعضهم عن العقل، فقال: لب أعنته بتجريب (4) .
وهذه التجارب ليس لها غاية، والعقل منها في ازدياد، كما قال أحدهم:
ألم تر أن العقل زين لأهله ... وأن كمال العقل طول التجارب (5)
فكلما كثرت تجارب الإنسان، زاد عقله، بسبب ازدياد علومه.
__________
(1) الغزالي، مصدر سابق، ص: 60
(2) الماوردي، مصدر سابق، ص 7، 8.
(3) ابن أبي الدنيا، مصدر سابق، ص 52.
(4) المصدر نفسه، ص 50.
(5) ابن عبد ربه، مصدر سابق، 2 \ 109.(79/351)
ومكان ضبط هذه العلوم هو القلب؛ إذ هو وعاء العلم.
وإلى هذا العقل أشار معاوية رضي الله عنه بقوله: (العقل عقلان، عقل تجارب، وعقل نخيزة. فإذا اجتمعا في رجل، فذاك الذي لا يقام له. وإذا تفردا، كانت النخيزة أولاهما) (1) .
وهو يشبه قول من قال: (العقل ضربان: عقل الطبيعة، وعقل التجربة. وكلاهما يحتاج إليه، ويؤدي إلى المنفعة) (2) .
فعقل النخيزة - المذكور في قول معاوية رضي الله عنه - هو الغريزة التي في الإنسان، والتي يمتاز بها عن سائر الحيوان. وعقل التجارب هو العلوم المكتسبة بواسطتها.
ومما تنبغي ملاحظته: (أن العقل المكتسب لا ينفك عن العقل الغريزي؛ لأنه نتيجة منه. وقد ينفك العقل الغريزي عن العقل المكتسب، فيكون صاحبه مسلوب الفضائل، موفور الرذائل؛ كالأنوك (3) الذي لا تجد له فضيلة، والأحمق الذي قلما يخلو من رذيلة) (4) .
__________
(1) ابن أبي الدنيا، مصدر سابق، ص 50.
(2) ابن عبد ربه، مصدر سابق 2 \ 108.
(3) الأحمق. (الزمخشري، مصدر سابق، ص 658) .
(4) الماوردي، مصدر سابق، ص 14، 15.(79/352)
المعنى الرابع: الأعمال التي يستوجبها العلم؛ من إيمان بالله، وتصديق بكتبه، ورسله، والتزام بأمره ونهيه؛ كحبس النفس على الطاعات، وإمساكها عن المعاصي.
وهذا معنى رابع من معاني العقل، وعنه يقول ابن تيمية (ت 728 هـ) : (.. لفظ العقل يطلق على العمل بالعلم) (1) .
فالعمل من لوازم العقل؛ لأن صاحب العقل إذا لم يعمل بعلمه، قيل: إنه لا عقل له (2) ؛ فإن العقل مستلزم لعلوم ضرورية يقينية، وأعظمها في الفطرة: الإقرار بالخالق " (3) .
فحال من لم يعمل بعلمه، أنه صاحب عقل يمسك علوما ضرورية فطرية، يعرف بها ربه عز وجل، ولكن هواه صده عن اتباع موجب العقل، فصار لا عقل له بهذا الاعتبار.
وقد اتصف هذا بمعاني العقل الثلاثة المتقدمة؛ فمعه غريزة العقل التي فرق الله بها بين العقلاء والمجانين، ومعه علوم ضرورية فطرية، ولديه علوم مكتسبة؛ فقد جاءته الرسل بالبينات، ولكنه لم يحظ بشرف الاتصاف بهذا المعنى الرابع؛ وهو العمل بعلمه، لذلك يقال عنه: إنه غير عاقل عن الله عز وجل.
__________
(1) ابن تيمية، بغية المرتاد، 1408 هـ، ص 250، 251.
(2) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مصدر سابق، 16 \ 336.
(3) المصدر نفسه.(79/353)
وقد وصف الله عز وجل في كتابه رجالا بالعقل، وأخبر في الوقت، نفسه أنهم لم يستفيدوا منها؛ فقال: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (1) .
فهؤلاء قد عقلوا البيان الذي لزمتهم من أجله الحجة، لكنهم لم يعملوا بما عقلوا؟ فحالهم أن لهم عقولا يعرفون بها الحق، ولكن هواهم صدهم عن اتباع موجب العقل، فلا عقل لهم بهذا الاعتبار (2) .
وقد وصفهم سبحانه وتعالى في موضع آخر بالعقل الذي يميزون به، ويعقلون به أمور الدنيا كلها في الجليل والدقيق، لكنهم للآخرة لا يعقلون، فقال عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (3) .
فهم " بالدنيا أهل بصر وسمع وعقل. فلم يعن أنهم صم خرس مجانين، وإنما عذبهم لأنهم يعقلون. ولو تدبروا ما يرون ويسمعون من الدلائل عليه؛ من آيات الكتاب، وآثار الصنعة، واتصال التدبير، الذي يدل على أنه واحد لا
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 26
(2) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مصدر سابق، 16 \ 337.
(3) سورة الأعراف الآية 179(79/354)
شريك له " (1) ؛ أي لدلهم ذلك على أنه المعبود بحق وحده.
فالعاقل - كما قال سفيان بن عيينة (ت 198هـ) -: " ليس الذي يعرف الخير من الشر، ولكن العاقل الذي يعرف الخير فيتبعه، ويعرف الشر فيجتنبه " (2) .
لذلك لما وصف رجل - ممتنع عن الدخول في الإسلام - بالعقل أمام أحد العلماء، قال: (مه، إنما العاقل من وحد الله، وعمل بطاعته) (3) .
والله تعالى قد حكى عنهم قولهم - وهم في النار -: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (4) .
" وقد كانت لهم عقول وأسماع، لزمتهم بها الحجة لله عز وجل، وإنما عنى عز وجل أنها لم تعقل عن الله فهما لما قال؛ من عظيم قدره، وقدر عذابه، فندمت، وتأذت بالويل والندم، لا لأنها لم تكن تسمع ولا تعقل، ولا كانوا مجانين، ولكن يعقلون أمر الدنيا، ولا يعقلون عن الله ما أخبر عنه، وتوعد ووعد " (5) .
__________
(1) المحاسبي، مصدر سابق، ص 31.
(2) ابن أبي الدنيا، مصدر سابق، ص 59.
(3) الأصفهاني، 1408 هـ، ص 96.
(4) سورة الملك الآية 10
(5) المحاسبي، مصدر سابق، ص 31.(79/355)
وليس عدم العقل في عدم الإيمان فحسب، بل عدم العقل في ارتكاب المعاصي، وتضييع الفرائض؛ فمن ضيع الفرائض، وارتكب المحرمات، لم يعقل عظيم قدر الله في جلاله وهيبته، وعظيم قدر ثوابه وعقابه في القيام بفرائضه، وارتكاب معاصيه؛ فالعاقل من يغلب إيمانه هواه، وحلمه جهله. لذلك قال عامر بن عبد قيس (ت 55 هـ) : (إذا عقلك عقلك عما لا ينبغي، فأنت عاقل) (1) .
وسئل أعرابي: (أي منافع العقل أعظم؟ قال: اجتناب الذنوب) (2) .
فالعمل ثمرة العقل وفائدته، ولا عقل لمن لم يعمل بموجب ما دله إليه عقله.
إذا تبينت هذا، فاعلم أن العقل يطلق على كل هذه المعاني الأربعة مجتمعة: الغريزة، والعلوم الضرورية، والعلوم المكتسبة، والعمل بالعلم.
ويشهد لهذا قول ابن تيمية (ت 728هـ) عن العقل: (هو علم، أو عمل بالعلم، وغريزة تقتضي ذلك) (3) .
__________
(1) الماوردي، مصدر سابق، ص 9.
(2) ابن عبد ربه، مصدر سابق، 2 \ 111.
(3) ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، 1402 هـ، 10 \ 302.(79/356)
فالعقل لا يسمى به مجرد العلم الذي لم يعمل به صاحبه، ولا العمل بلا علم؛ بل إنما يسمى به العلم الذي يعمل به، والعمل بالعلم، ولهذا قال أهل النار: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (1) ، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (2) .
__________
(1) سورة الملك الآية 10
(2) سورة الحج الآية 46(79/357)
المسألة الثانية: منزلة العقل في الإسلام:
لقد امتن الله عز وجل على الإنسان بأن منحه نعمة العقل الذي يميزه عن سائر الحيوانات؛ فقال: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (1) ؛ فبالسمع تسمعون، وبالأبصار تبصرون، وبالأفئدة تعقلون، ولكن قليلا ما تشكرون (2) .
فالأفئدة هي محل العقول، كما قال سبحانه وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (3) ؛ فجعل العقل في القلب، ثم أخبر أنه يتغطى على هذا العقل الذي في الصدور.
__________
(1) سورة الملك الآية 23
(2) ابن جرير الطبري، 1412 هـ 12 \ 172.
(3) سورة الحج الآية 46(79/357)
يقول الإمام الشوكاني (ت 1250 هـ) : (وأسند التعقل إلى القلوب لأنها محل العقل، كما أن الآذان محل السمع) (1) . ويستأنس لهذا بقول الفاروق عمر رضي الله عنه عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: (ابن عباس فتى الكهول، له لسان سئول، وقلب عقول) (2) .
وإضافة العرب الشيء إلى الشيء إما لكونه هو هو، أو مكانه. وليس القلب عقلا بإجماع. لم يبق إلا أنه محل العقل، بإضافة الشيء إلى محله. ومن خلق العقل أعلم بمحله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (3) . فالعقل محله القلب، وهو نعمة، وهبة من الله، أعطاه عباده بلا عوض.
وهذه النعمة هي التي ترفع صاحبها إلى مستوى التكاليف الشرعية الإلهية، وتؤهله لإدراكها وفهمها؛ فالعقل مناط التكليف. يقول أبو الوفاء ابن عقيل (ت 513 هـ) موضحا معنى التكليف:
__________
(1) الشوكاني، 1383 هـ، 3 \ 459.
(2) ابن عبد البر، 1398 هـ، 2 \ 352.
(3) سورة الملك الآية 14(79/358)
(وهو المطالبة بالفعل أو الاجتناب له، وذلك لازم في الفرائض العامة؛ نحو التوحيد، والنبوة، والصلاة، وما جرى مجرى ذلك، لكل عاقل، بالغ ... ) (1) ، فالتكليف للعاقل.
ويقول الآمدي (ت 631 هـ) : (اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلا، فاهما للتكليف؛ لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال؛ كالجماد، والبهيمة) (2) . ويقول الطوفي (ت 716 هـ) : (من شروط المكلف: العقل، وفهم الخطاب؛ أي: يكون عاقلا، يفهم الخطاب، ولا بد منهما جميعا) (3) .
فالمكلف لا بد أن يكون عاقلا يفهم الخطاب. ومن هنا لم يكلف المجنون؛ لأن مقتضى التكليف: الطاعة والامتثال، ولا تمكن إلا بقصد
__________
(1) ابن عقيل، مصدر سابق، 1 \ 68.
(2) الآمدي، 1388هـ، 1 \ 150.
(3) الطوفي، 1419هـ، 1 \ 180.(79/359)
الامتثال. وشرط القصد: العلم بالمقصود، والفهم للتكليف؛ إذ من لا يفهم، كيف يقال له: افهم، ومن لا يسمع، لا يقال له: تكلم. وإن سمع ولم يفهم كالبهيمة، فهو كمن لا يسمع ... ) (1) . فالعقل هو الذي يرفع الإنسان إلى مستوى التكاليف الإلهية.
وليس ثمة عقيدة تقوم على احترام العقل الإنساني، وتكريمه، والاعتزاز به والاعتماد عليه في فهم النصوص، كالعقيدة الإسلامية.
بل إن العقيدة الإسلامية تدعو العقل إلى تشغيل طاقاته وتستثيره ليؤدي دوره الذي خلقه الله من أجله وتنبهه ليتدبر ويتفكر وينظر ويتأمل مدللة بذلك على أن الدعوة إلى الإيمان قامت على الإقناع العقلي.
ويبدوا هذا واضحا في آيات كثيرة من كتاب الله الكريم تكررت عشرات المرات في السياق القرآني، مدح الله عز وجل من خلالها مسمى العقل ورفع من شأنه (2) من خلال توجيهه إلى النظر والتفكر والتدبر والتأمل؛ مثل قوله سبحانه وتعالى {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3) ، وقوله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (4) ، وقوله جل جلاله:
__________
(1) ابن قدامة المقدسي، روضة الناظر، 1404 هـ، 1 \ 137.
(2) ابن تيمية، النبوات، 1405هـ، ص 93.
(3) سورة البقرة الآية 73
(4) سورة يوسف الآية 2(79/360)
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) . وقوله عز وجل: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (2) وقوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} (3) ، وقوله عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (4) وقوله سبحانه وتعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (5) وغير ذلك من الآيات إلى لا يمكن حصرها في مكان واحد.
وقد اعتنى الإسلام بالعقل؛ فأمر جل جلاله بالمحافظة عليه، ونهى عن كل ما يضر به، أو يعطل عمله.
فحرم سبحانه وتعالى المسكرات والمخدرات لما لها من أثر سيئ على عمل الإنسان؛ فالخمر سميت خمرا بسبب تخمرها العقل؛ أي ستره وتغطيته. يقال: خمر إناءك، إذا طلب منك أن تغطيه (6) .
من أجل ذا حرمها المولى جل جلاله في قوله:
__________
(1) سورة النور الآية 61
(2) سورة يونس الآية 24
(3) سورة الأنعام الآية 98
(4) سورة ص الآية 29
(5) سورة النساء الآية 82
(6) الرازي، 1973 م، ص 189.(79/361)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) .
فالخمر في حال سترها للعقل تجعل متعاطيها أشبه بالسفيه الذي لا يحسن التصرف، أو المجنون الذي لا يشعر بما يرتكب من جرائم تخل بالدين والشرف.
وأشد من الخمر في الفتك بالعقل: المخدرات، التي تزيل العقل، وتفسد القلب، وتجعل متعاطيها يعيش في غيبوبة دائمة، هاربا من واقعه.
من أجل ذا حرمها الإسلام - كما حرم الخمر - لجامع السكر في الاثنين؛ فرسولنا صلى الله عليه وسلم «نهى عن كل مسكر ومفتر (3) » .
وأخبر أن «ما أسكر كثيره، فقليله حرام (4) » ، وأن «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام (5) » . وقد قاس ابن تيمية (ت 728 هـ) حكم قليل " الحشيش " على قليل
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91
(3) سنن أبي داود، كتاب الأشربة، باب في النهي عن المسكر. وأحمد في المسند 4 \ 273.
(4) سنن أبي داود، كتاب الأشربة، باب في النهي عن المسكر. وسنن ابن ماجه، كتاب الأشربة، باب ما أسكر كثيره فقليله حرام. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، مرجع سابق، 2 \ 702، ح 3128، وصحيح سنن ابن ماجه، 1408 هـ، 2 \ 245، ح 3393.
(5) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن. وكتاب الأدب، باب ما لا يستحيا من الحق، وكتاب الأحكام، باب أمر الوالي إذا وجه أميرين إلى موضع. وصحيح مسلم، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر.(79/362)
" المسكر "، بجامع مخامرة كل منهما للعقل، فقال: (وأما قليل الحشيشة المسكرة، فحرام عند جماهير العلماء، كسائر القليل من المسكرات) (1) .
والمخدرات كلها مسكرة، والوعيد المترتب على تعاطي الخمر، هو الوعيد المترتب على تعاطي أنواع المخدرات المختلفة، بجامع اشتراك الكل في إزالة العقل، ولعموم نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن كل مسكر ومفتر.
فكل ما جاء في وعيد شارب الخمر، يأتي في مستعمل شيء من هذه المذكورات؛ (لاشتراكهما في إزالة العقل المقصود للشارع بقاؤه؛ لأنه الآلة للفهم عن الله تعالى، وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمتميز به الإنسان عن الحيوان، والوسيلة إلى إيثار الكمالات عن النقائص. فكان في تعاطي ما يزيله وعيد الخمر) (2) .
ولا ريب أن النهي عن هذه الأشياء المضرة بالعقل، من أقوى الأدلة على عناية الإسلام به، ومحافظته عليه.
وعلينا أن لا ننسى أن العقل واحد من الضروريات الخمس التي عني الإسلام - كسائر الشرائع - بحفظها.
فالشريعة الإسلامية تدور أحكامها حول حماية خمسه أمور، هي أمهات لكل الأحكام الفرعية، ويسمونها الضروريات الخمس، وهى: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ العرض، حفظ المال.
__________
(1) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مصدر سابق، 34 \ 254.
(2) الهيتمي، (د. ت) ، 1 \ 212.(79/363)
وتتجلى حماية الإسلام للعقل في (1) :
1 - تربيته على حسن المعرفة، والمنطق العلمي، والفكر الاستدلالي، والمنهج التجريبي.
2 - النهي عن كل ما يضر به، أو يعطل وظيفته؛ كالنهي عن المنكرات والمفترات، كما مر.
3 - الأمر بتغذيته بالعلوم النافعة، واستعماله في الخير.
4 - النهي عن الاعتداء عليه بأي نوع من أنوع الاعتداء؛، كالضرب ونحوه.
ولقد جعل الإسلام الدية كاملة في حق من ضرب آخر، فأذهب عقله.
يقول عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل، رحمهما الله -: (سمعت أبي يقول: في العقل دية؛ يعني إذا ضرب، فذهب عقله) (2) .
وهذا لا خلاف فيه بين علماء المسلمين (3) ؛ لأن العقل (أكبر المعاني
__________
(1) النحلاوي، 1399 هـ، ص 67.
(2) الإمام أحمد، المسائل برواية عبد الله، 1408هـ، ص 417.
(3) ''نص على ذلك الإمام ابن قدامة المقدسي في كتابه ''''المغني''''، 1410 هـ، 12 \ 151. ''(79/364)
وأعظم الحواس نفعا؛ فإن به يتميز من البهيمة، ويعرف به حقائق المعلومات، ويهتدي إلى مصالحه، ويتقي ما يضره، ويدخل به في التكليف. وهو شرط في ثبوت الولايات، وصحة التصرفات، وأداء العبادات، فكان بإيجاب الدية أحق من بقية الحواس) (1) .
فأي تكريم أعظم من هذا التكريم! !
__________
(1) ابن قدامة، المغني، مصدر سابق، 12 \ 152.(79/365)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1)
(سورة المائدة الآية 3)
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(80/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(80/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(80/3)
المحتويات
* الافتتاحية *
خطبة عرفة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
*الفتاوى *
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 43
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 59
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 75
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 87(80/4)
البحوث
القرآن يهدي للتي هي أقوم لمعالي الدكتور محمد بن سعد الشويعر 101
الفتوى وأثرها في حماية المعتقد وتحقيق الوسطية لفضيلة الدكتور فهد بن سعد الجهني 153
أحكام الصلاة في المقابر لفضيلة الدكتور \ فهد بن عبد الله العمري 223
المنهج الأصولي لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأثره في الأحكام الشرعية إزاء المرأة للدكتورة \ أسماء بنت عبد الله الموسي 275
المنة مفهومها والتحذير منها وعلة ذلك للدكتورة سارة بنت فراج بن علي العقلا 333
التيسير في الحج لفضيلة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان 379(80/5)
صفحة فارغة(80/6)
خطبة عرفة 1427هـ
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى، واشكروه على مزيد إفضاله وواسع عطائه، جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، هدانا لدينه الذي ليس فيه التباس، أرسل إلينا أفضل رسله، وأنزل علينا خير كتبه، كتاب محكم البيان، واضح البرهان، فيه الوعد والوعيد، فيه النهي عن الشرك، والأمر بالتوحيد، وكل خلق كريم.(80/7)
أيها المسلمون، هذا كتاب الله؛ معجزة نبيكم صلى الله عليه وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله من نبي إلا آتاه من الآيات ما على مثله آمن البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا (1) » .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} (2) ، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (3) ، {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (4) ، {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (5) ، هو الحق ويهدي للحق {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (6) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (7)
__________
(1) البخاري: كتاب الفضائل، باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل، حديث رقم 4981، ومسلم كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، حديث رقم 152
(2) سورة الكهف الآية 1
(3) سورة الفرقان الآية 1
(4) سورة هود الآية 1
(5) سورة فصلت الآية 3
(6) سورة المائدة الآية 15
(7) سورة المائدة الآية 16(80/8)
فيه البيان والتبيين، فيه الأمر والنهي، فيه الخبر والإخبار {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1) ، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2) ، كتاب أنزله الله لنتدبره ونتعقل معانيه؛ ليكون وسيلة إلى صلاح قلوبنا وأعمالنا {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) ، أنزله الله ليعبد وحده لا شريك له {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (4) ، محفوظ بحفظ الله من أيدي العابثين زيادة أو نقصانا. قال جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (5) ، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} (6) {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (7) ، هو أحسن الحديث وخير الكلام {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} (8) ، أنزله الله ليكون شرفا لهذه الأمة {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (9) ،
__________
(1) سورة الأنعام الآية 38
(2) سورة النحل الآية 89
(3) سورة ص الآية 29
(4) سورة الزمر الآية 2
(5) سورة الحجر الآية 9
(6) سورة فصلت الآية 41
(7) سورة فصلت الآية 42
(8) سورة الزمر الآية 23
(9) سورة الأنبياء الآية 10(80/9)
أنزله الله ليخرج العباد من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والهدى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} (1) ، أنزله الله هدى ورحمة {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2) ، نعم، إنه الهداية العظمى والبشارة الكبرى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (3) ، أجل، لقد هدانا إلى أقوم السبل في كل أمورنا في ديننا ودنيانا.
ففي عقيدتنا بين لنا - جل وعلا - عظيم مخلوقاته لنستدل بها على عظيم كبريائه وجلاله وقدرته على كل شيء، وكمال ربوبيته سبحانه، خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (4) ، تعاقب
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 1
(2) سورة الأعراف الآية 52
(3) سورة الإسراء الآية 9
(4) سورة الأعراف الآية 54(80/10)
الليل والنهار آيات من آياته الدالة على عظيم شأنه {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} (1) ، خلق من كل شيء زوجين لبقاء نوع ذلك المخلوق {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (2) هدانا لأقوم السبل في التبصر في أنفسنا ومعرفة أطوار خلقنا لنعرف ربنا وخالقنا؛ فنعبده وحده لا شريك له {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} (3) ، هدانا لمعرفة الرازق سبحانه {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} (4) .
هدانا - جل وعلا - لنستدل بآياته الكونية وعظيم مخلوقاته على أنه المستحق للعبادة دونما سواه
__________
(1) سورة الإسراء الآية 12
(2) سورة الذاريات الآية 49
(3) سورة الحج الآية 5
(4) سورة العنكبوت الآية 17(80/11)
{آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} (1) {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (2) ، هدانا للغاية التي من أجلها خلقنا {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) .
وبالتوحيد أمر الله {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (4) ، وبالتوحيد بعثت الرسل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (5) .
الشرك أعظم الظلم {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (6) الشرك نقص في العقل {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (7) ، المشرك لا يغفر الله ذنبه إن لم يتب قبل لقاء الله {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (8) دعاء غير الله شرك أكبر وذنب لا يغفر {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (9) ،
__________
(1) سورة النمل الآية 59
(2) سورة النمل الآية 60
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة البينة الآية 5
(5) سورة الأنبياء الآية 25
(6) سورة لقمان الآية 13
(7) سورة الأعراف الآية 191
(8) سورة النساء الآية 48
(9) سورة المؤمنون الآية 117(80/12)
يتبرأ كل معبود من عابده يوم القيامة {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} (1) ، {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} (2) .
هدانا للإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3) ، إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4) .
هدانا للإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر؛ خيره، وشره {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (5) ، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (6) ، هدانا للإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (7) ، هدانا لاتباعه ومحبته {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (8) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 166
(2) سورة العنكبوت الآية 25
(3) سورة الأعراف الآية 180
(4) سورة الشورى الآية 11
(5) سورة البقرة الآية 177
(6) سورة القمر الآية 49
(7) سورة النساء الآية 136
(8) سورة آل عمران الآية 31(80/13)
هدانا لنصرته وتأييده {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) ، هدانا لتحكيم شريعته والتحاكم إليها والرضا بها {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (2) ، هدانا لكونه صلى الله عليه وسلم بشرا مثلنا لا يستحق شيئا من العبادة، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (3) ، هدانا لمعرفة عظيم ما جاء به وأنه وحي من الله إليه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (4) ، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (5) .
هدانا القرآن الكريم لكمال الدين وتمامه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (6) ، فهذا دين معصوم؛ لأنه من وحي الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وأصحابه نقلوا ذلك إلينا، حتى وصلنا بالأسانيد الصحيحة، والكتب الموثوقة.
أيها المسلمون، هدانا القرآن في عباداتنا إلى أقوم السبل، فبين لنا
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة النساء الآية 65
(3) سورة الكهف الآية 110
(4) سورة النجم الآية 3
(5) سورة النجم الآية 4
(6) سورة المائدة الآية 3(80/14)
أنه شرع لنا عبادات مالية، وعبادات بدنية، وعبادات قلبية ولسانية، مراعاة لطبيعة البشر وتسهيلا لأداء تلك الأعمال، تحقيقا للابتلاء والامتحان.
فهدانا لإقام الصلاة بأن أمرنا بها {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} (1) ، وأمرنا بالمحافظة عليها {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (2) ، وبين لنا أنها من سنن المرسلين {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (3) ، {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (4) .
هدانا لأداء الزكاة في وقتها وإيصالها إلى مستحقها {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (5) هدانا لأنها طهرة للمال وزكاة لقلب وخلق المزكي {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (6) .
هدانا للإيمان بصيام رمضان وفرضيته وأنه الوسيلة لتحقيق التقوى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (7) .
__________
(1) سورة هود الآية 114
(2) سورة البقرة الآية 238
(3) سورة مريم الآية 54
(4) سورة مريم الآية 55
(5) سورة التوبة الآية 103
(6) سورة التوبة الآية 103
(7) سورة البقرة الآية 183(80/15)
وهدانا للحج لأداء هذه الفريضة التي فيها الخير لنا كما قال - جل وعلا -: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (1) .
هدانا للدعوة إليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالطرق الشرعية {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) هدانا فأخبرنا أن الأصل في تعاملنا الحل إلا ما دل الدليل على منعه {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (3) .
أمرنا بالأكل من الطيبات {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} (4) .
أباح لنا البيع والشراء وجعل التجارة مقرونة مع الجهاد {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (5) أباح لنا البيع الذي فيه تبادل المنافع، وحرم علينا الربا الذي فيه الظلم والعدوان {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (6)
__________
(1) سورة الحج الآية 28
(2) سورة آل عمران الآية 104
(3) سورة البقرة الآية 29
(4) سورة البقرة الآية 168
(5) سورة المزمل الآية 20
(6) سورة البقرة الآية 275(80/16)
أمرنا بالأمانة في تعاملنا {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (1) .
حرم علينا الميسر وهو القمار {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) ، حرم علينا الرشوة فإنها من السحت وقد ذم الله اليهود بقوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (3) حرم علينا التعدي على الأموال العامة بالغلول والأخذ من غير الطريق الشرعي {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (4) حرم علينا الإسراف {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (5) ، وحرم علينا التبذير والإنفاق في الباطل {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (6) ، {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (7) ، أقر الرهن وأتى بوثيقة في المداينات في آية من القرآن، لن تستطيع عقول البشر أن تأتي بمثلها؛
__________
(1) سورة النساء الآية 58
(2) سورة المائدة الآية 90
(3) سورة المائدة الآية 42
(4) سورة آل عمران الآية 161
(5) سورة الأعراف الآية 31
(6) سورة الإسراء الآية 26
(7) سورة الإسراء الآية 27(80/17)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} (1) .
وفي نظام الأسرة نرى أن القرآن هدانا لأقوم السبل، فأمرنا بالنكاح الشرعي ورغبنا فيه {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (2) ، {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (3) ولكنه حرم سبيل الفساد، وهو الزنا؛ المضاد للنكاح الشرعي {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (4) ، جعل القوامة للرجل لما بذل من مال ولما فضله الله في خلقته، وجعله أهلا لذلك قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (5) ، نظم الفرق في النكاح، وبين عدد الطلاق {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (6) .
وفي الروابط الاجتماعية بين المسلمين نرى القرآن يهدينا لأقوم السبل، فأمرنا ببر الوالدين وقرن حقه مع حقهما {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (7) ، نهانا عن طاعتهما في
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة النور الآية 32
(3) سورة النساء الآية 3
(4) سورة الإسراء الآية 32
(5) سورة النساء الآية 34
(6) سورة البقرة الآية 229
(7) سورة النساء الآية 36(80/18)
المعصية مع الالتزام بالإحسان إليهما {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (1) أمر بإكرام الجار {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} (2) أمر بصلة الرحم {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (3) ، أمر المسلمين بالتناصر والتعاون والتناصح فيما بينهم {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (4) ، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (5) .
وهدى الرعية قيادة وأفرادا إلى التعاون في الخير، فأوجب على الرعية طاعة ولاتهم بالمعروف {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (6) وأوجب على الراعي الحكم بالعدل قال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (7) ، وأمرنا أن نرد المهمات من الأشياء إلى ولاة أمرنا قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (8) ،
__________
(1) سورة لقمان الآية 15
(2) سورة النساء الآية 36
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة التوبة الآية 71
(5) سورة المائدة الآية 2
(6) سورة النساء الآية 59
(7) سورة النساء الآية 58
(8) سورة النساء الآية 83(80/19)
وفي باب القضاء هدى الأمة المسلمة إلى أقوم السبل فأمر بالحكم بالعدل {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (1) هدانا لحفظ الحقوق بالبينات والشهود {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (2) نهى عن كتمان الشهادة، {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} (3) وحرم شهادة الزور {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (4) ، {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (5) .
وفي الحدود جاء بنظام عادل، فأمر بقطع يد السارق إذا سرق؛ تقطع يده في ربع دينار وإن كانت قيمتها نصف الدية، لكنه أمر بقطعها؛ حماية للأموال {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (6) أمر بجلد الزاني غير المحصن لانتهاكه المحرمات فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (7) ، أمر بجلد القاذف، الذين
__________
(1) سورة النحل الآية 90
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) سورة البقرة الآية 283
(4) سورة الفرقان الآية 72
(5) سورة الحج الآية 30
(6) سورة المائدة الآية 38
(7) سورة النور الآية 2(80/20)
يقذفون الناس وينتهكون أعراضهم ويتسلطون عليهم ظلما وعدوانا {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) ، أمر بقتل القاتل ظلما وعدوانا لتأمن الرعية ويستتب الأمن {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (2) ، {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (3) ، وأمر بقطع دابر المفسدين وقطاع الطرق والمخلين بالأمن والمزعزعين لأمن الأمة {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (4) .
أيها المسلمون، وجانب الأخلاق في الإسلام له شأنه الكبير، فهدانا القرآن الكريم لأفضل الأخلاق وأكملها، فأخبر أن الخلق الكريم خلق محمد صلى الله عليه وسلم {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (5) هدانا للصدق فأمرنا به {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (6) هدانا إلى الإخلاص في الأقوال والأعمال {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (7) ،
__________
(1) سورة النور الآية 4
(2) سورة البقرة الآية 179
(3) سورة المائدة الآية 45
(4) سورة المائدة الآية 33
(5) سورة القلم الآية 4
(6) سورة التوبة الآية 119
(7) سورة الزمر الآية 2(80/21)
هدانا للتوبة {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ، هدانا للاستغفار والذكر، هدانا لبذل المعروف، هدانا لكل خلق كريم، أمرنا بالوفاء بالعهود والتزام المواثيق، {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (2) أمرنا بالعدل مع العدو والصديق {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (3) نهانا عن الأخلاق السيئة فحرم علينا الكذب {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} (4) وحرم علينا الخيانة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) ، حرم علينا الفساد في الأرض {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (6) ، {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (7) ، حرم
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة المعارج الآية 32
(3) سورة المائدة الآية 8
(4) سورة النحل الآية 105
(5) سورة الأنفال الآية 27
(6) سورة البقرة الآية 204
(7) سورة البقرة الآية 205(80/22)
علينا السحر فحذرنا منه وأخبرنا أنه كفر فقال - جل وعلا -: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} (1) فاحذروا السحرة والمشعوذين، ولا تثقوا بأقوالهم ولا تركنوا إليهم، ولا تبحثوا عن قنواتهم، احذروا واحفظوا إيمانكم من ذلك.
أيها المسلمون، هذه بعض هدايات القرآن، إنه كتاب هدى ورحمة، إيمان صادق وعمل صالح، عقيدة خالصة وشريعة عادلة، جمع الله فيه الخير كله، وصدق الله {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2) .
فأين واقع الناس من تعاليم القرآن؟
أيها المسلمون لقد جرب العالم صنوفا من الأفكار؛ ما بين مناهج سياسية ومذاهب فلسفية، ما بين سياسة نفعية، وما بين اشتراكية شيوعية، وما بين ليبرالية متحررة وأخرى غالية متشددة.
انظروا وقلبوا النظر، هل تجدون إلا نزاعا وقتالا، ودماء وأشلاء وإرهابا وفسادا، كل ذلك نتيجة للصراعات الفكرية الخاطئة، ماذا استفاد العالم من هذه الأفكار؟ بل ماذا استفادوا من عزل الإسلام عن واقع الحياة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 102
(2) سورة الإسراء الآية 9(80/23)
يا صناع القرار، إن العالم لا استقرار له ولا انتظام لحياته إلا إذا طبق عليه منهج رباني؛ منهج خالق الخلق، رب العالمين الذي خلق الخلق وهو أعلم بما يصلحهم {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) كل صانع أدرى بما يصلح صنعته، فلا بد من عود إلى هذا القرآن الكريم.
يا صناع القرار إن عالمنا اليوم يسير نحو الهاوية، مادية طاغية، أخلاق منهارة، حروب متأججة، أوضاع متأزمة.
إن سياسات بالية، قامت على مناهج بائدة، صنعتها عقول حائرة، لن تعود على العالم إلا بالدمار والبلاء، الحل كل الحل في نظام الإسلام الذي خاطب الروح بعقيدة راسخة، ملأت القلب نورا وسرورا، الحل في تعاليم الإسلام، جاء بهذه الشريعة العادلة التي تراعي مصالح الخلق باعتدال تام واتزان بديع، وتعطي كل ذي حق حقه، الحل في تعاليم الإسلام الذي جاء بمنظومة اقتصادية فيها تشجيع العمل والإنتاج، الحل في تعاليم الإسلام الذي حدد علاقة المسلم بالمسلم وعلاقته بغيره والعلاقة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، الحل في تعاليم الإسلام؛ لأن مصدره من رب العالمين لم تصنعه أيدي البشر وإنما هو تنزيل من حكيم حميد.
أمة الإسلام، من كرم الله علينا أن اختار لنا الإسلام فسمانا
__________
(1) سورة الملك الآية 14(80/24)
مسلمين، وارتضى لنا هذا الاسم، وهو الذي سمى به الموحدين من عباده على لسان خليله إبراهيم عليه السلام {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (1) ، نحن شهداء على الناس بما نحمله من هذه الشريعة العادلة الصالحة المصلحة.
يا أيها المسلمون إن كل شعارات ترفع، وكل نداءات تعلن خالية عن الإسلام فهي باطلة، إن عالمنا اليوم يزخر بألوان من الشعارات الحزبية والعصبية القومية البغيضة، إننا أمة أعزنا الله بالإسلام، جمع الله به شتاتنا، ووحد به صفوفنا، وألف به بين قلوبنا، فمتى ابتغينا الهدى من غيره أذلنا الله، اختصم مهاجري وأنصاري في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فنادى المهاجري: يا للمهاجرين. ونادى الأنصاري: يا للأنصار. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم (2) » .
ليس في ديننا عصبية لقومية عربية ولا فارسية ولا تركية ولا لأي فئة كائنة ما كانت، إنما هو الإسلام دين الوحدة {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (3) .
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) البخاري: كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (سواء عليهم أستغفرت لهم) ، حديث رقم 4905، مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: نصر الأخ ظالما أو مظلوما، حديث رقم 2584.
(3) سورة المؤمنون الآية 52(80/25)
أيها المسلمون، إن من نعمة الله علينا هذه الوحدة التي من الله بها علينا، وأمرنا بها {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) وحدة بلغت ذروتها في عصر النبوة حتى صار المسلم أخا المسلم لا يظلمه ولا يكذبه ولا يحقره ولا يخذله، وحدة قامت على أسس ثابتة؛ فالرب واحد، والنبي واحد، والدين واحد والقبلة واحدة، مقومات باقية ما بقيت الدنيا، مقومات ثابتة بإجماع المسلمين، مظاهر الوحدة في الشريعة متنوعة: الصلاة وراء إمام واحد، والصوم في شهر واحد، والحج إلى جهة واحدة، كل ذلك لتربية المسلم على الوحدة في كل أموره، فأعيدوها وحدة صالحة خالصة بعيدة عن البدع والخرافات والانحرافات، وحدة تجمع قلوب المسلمين، وحدة فيها اتصالهم، وفيها قوتهم، ليكونوا كما أراد الله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (2) ، إن عدوا سعى في تفكيك دولتنا الأولى، وشتات خلافتنا العظمى لن يكون يوما سببا في وحدتنا، فكفى اغترارا بهم، وارتماء في أحضانهم.
أمة الإسلام، إن الله - جل وعلا - اختار دين الإسلام، فجعله خير الأديان، واختار محمدا - صلى الله عليه وسلم - فجعله خاتم أنبيائه
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة آل عمران الآية 110(80/26)
ورسله، أرسله بالهدى ودين الحق بشيرا ونذيرا وإليه داعيا، وكان الله له حفيظا وعليه وكيلا وله ناصرا، دين أكمله الله وارتضاه وأتمه، دين جمع الفضائل: العدل، والرحمة، والفضل، والإحسان، دين أراد الله إكماله وبقاءه وتكفل الله بنصر من ينصره {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (1) .
لقد ابتلي المؤمنون بمصائب عظيمة تمحيصا لما في قلوبهم {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} (2) ، فمن وفقه الله وقبل هذا الدين ثبت ورسخت قدمه، فما يزيده إرجاف المرجفين إلا إيمانا وتصديقا، ولا كيد الكائدين إلا إيمانا ورسوخا، عرضت عليهم الدنيا بزخارفها، فأبوا إلا الثبات على الدين، داهنهم الكفار والمشركون فأبوا إلا أن يكون ولاؤهم لهذا الدين، فقاتلوهم وآذوهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم فصبروا وصابروا حتى كانت العاقبة لهم.
ألا تنظرون ماذا حل بالمسلمين، أصبنا في ديننا، أصيب المسلمون في دينهم، أصيبوا في بلادهم، أصيبوا في خيراتهم، أصيبوا في حرماتهم، أصيبوا بتكالب الأعداء عليهم، ولا ناصر إلا الله {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (3) .
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة آل عمران الآية 154
(3) سورة الفرقان الآية 31(80/27)
ولكن أشد من ذلك أن يخرج من بيننا فئة يتاجرون بمصالح أمتهم الكبرى؛ إما لمصالح سياسية أو لأطماع إقليمية أو لأغراض مادية، كفى غفلة، كفى غفلة فانتبهوا لما حولكم، فقضايا الأمة المصيرية تباع بأرخص الأثمان في سوق الخيانة والغدر، أفيقوا فالمنافقون قد ظهر سوقهم، هذا يبيع أعداء الإسلام قلمه بما يخط ويكتب، وذا يبيعهم نفوذه، وذا يبيعهم فصاحته وخطابته، سلع تباع بأرخص الأثمان، حتى استرخص قوم دينهم ودماء إخوانهم ومصالح أمتهم من غير خجل ولا حياء. فبئست الصفقة وشاهت الوجوه وتربت الأيدي.
أمة الإسلام، إن أساس نجاح كل دعوة أن تقوم على قواعد راسخة ثابتة تكون سببا لاستمراريتها وثبوتها، وإن مما ميز دعوة الإسلام وضوح معالمها وسلامة منهجها وصدق دعاتها.
بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فدعا إلى الله وإلى توحيده، وحذر من الشرك به، هذا أساس دعوته ومحور رسالته كما عليه الأنبياء السابقون، بدأ بعشيرته والأقربين إليه امتثالا لقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (1) فدعاهم واحدا تلو الواحد، وكان مختفيا؛ خوفا على نفسه وعلى الثلة التي معه،
__________
(1) سورة الشعراء الآية 214(80/28)
وقريش يعلمون حقيقية ما يدعوهم إليه، قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (1) ، فلما قويت شوكته أمره الله بالصدع بدعوته {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (2) ، وأخبره أنه عاصمه من كيد الكائدين {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (3) ، فدعا إلى الله وعرض نفسه على قبائل العرب، حتى إذا أراد الله إعزار دينه هدى فئة من الأوس والخزرج وهم الأنصار بايعوه على أن يحموه مما يحمون منه أولادهم ونساءهم وأهليهم، فانتقل إليهم فصار سببا لعز الإسلام وقوته.
أمة الإسلام، لقد ظهر في العالم دعوات ضالة، قامت على غير هدى، دعوات قائمة على السرية التامة، دعوات غامضة معالمها، غامضة أهدافها، مقاصدها غير واضحة، دعوات شبكية يحسن دعاتها اقتناص فرائسهم بالتدرج بهم شيئا فشيئا، والارتقاء بهم في درك الضلال، ليمسخوا انتماءهم الديني والوطني، والقبلي وكل انتماء، سوى الانتماء إلى دعوتهم الباطلة، دعوات قادتها مجهولون، قصد أربابها زعزعة العالم وتفكيكه وإيجاد الفوضى بين صفوفه، وتحريك
__________
(1) سورة ص الآية 5
(2) سورة الحجر الآية 94
(3) سورة المائدة الآية 67(80/29)
المؤامرات، كم من مؤامرات قادوها؟ وكم من بلاد دمروها؟ وكم من جاهل وقع في شبكاتهم فصار ألعوبة في أيديهم بمنصب يرجوه أو مال يؤمله أو لذة فانية يحصل عليها؟!
فيا أهل العقول والأفهام، احذروا تلك الدعوات وأنديتها، إن المسلم الذي كرمه الله بالإسلام وشرفه بهذا الدين الواضح في معالمه وأهدافه وغاياته، قائده محمد صلى الله عليه وسلم، سيرته واضحة، هديه محفوظ، لا غش ولا خداع، الداعي إليه مأجور، والطريق إليه الصراط المستقيم، والرفقة في طريقه صالحة.
قادة المسلمين، قادة المسلمين وساستهم، المسئولية عليكم جسيمة، أهل الإسلام وأرض الإسلام أمانة في أعناقكم، عالمنا الإسلامي يمر بظروف عصيبة، أعداؤنا يريدون مسخ هويتنا الإسلامية، يريدون عزل ديننا عن قضايا الحياة، يريدون أن نكون ذليلين تابعين للقوى العالمية، أعداؤنا في رغد من العيش، واستمرار في الحال، وتمتع في تقدم المعلومات، وخيرات بلادنا يتمتعون بها، وأرضنا مسرح لنزاعاتهم السياسية والعسكرية وتجاربهم الحربية.
يا قادة المسلمين، المسلمون بحاجة إلى المحافظة على هويتهم الإسلامية، وكيانهم التشريعي، بحاجة إلى تحصين أجيالهم دينا وثقافة، وبحاجة إلى إحكام الثغور وإلى القوة، بحاجة إلى موقف شجاع وصلب(80/30)
على أسس من الهدى، بحاجة إلى حل قضايا الأمة بداخلها فلا يكون للعدو مجال، ولا نبحث عن حلول من هنا أو هناك ونحن أمة الإسلام.
يا علماء الإسلام، يا ورثة الأنبياء، يا أهل الفتوى، ابحثوا عن حلول شرعية لقضايا أمتكم، الأمة بحاجة إلى موقف شرعي واضح لقضايا أراضيها السليبة، إلى موقف شرعي واضح فيما دخل على الأمة من ثقافات وآراء فيها التكفير والغلو والتميع والانحلال، موقف - يا أهل الإسلام - من التأمل والتدبر فيما يخططه أعداء الإسلام ضد المسلمين، موقف للنظر في ضعفنا وماذا أصاب عامة المسلمين من التعلق بالخرافات والبدع التي أقصتهم عن حقيقة دينهم.
شباب الإسلام، مرحلة الشباب من أخطر المراحل، شباب الإسلام، الله الله في دينكم، الله الله في أنفسكم، الله الله في أمتكم، كونوا على وعي مما يراد بكم، فأعداؤنا يريد شبابا لا هوية له حتى يسهل انقياده، وينفذ ما أرادوه من مخططات الفساد والدمار.
يا رجال التربية والتعليم، عقول أبنائنا بين أيديكم فاتقوا الله فيهم، نريد مناهج ترسخ العقيدة الصحيحة، نريد أن تكون مناهجنا مقررة للأخلاق الكريمة، نريد أن تكون مناهجنا مواكبة للعصر، نريد من مناهجنا أن تربط حاضرنا بماضينا وتقوي الأمل والثقة بحاضرنا(80/31)
وتبين وعد الله لهذه الأمة وأن مستقبل هذا الدين خير كله، وأن هذا الدين لا يزال باقيا «ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم (1) » .
يا رجال الإعلام، الإعلام هو اللسان المعبر عن الأمة، فكونوا على صدق في إعلامكم، فبلادكم قلب العالم ومنبع الخيرات، فليكن هذا الإعلام على مستوى يخدم العقيدة والدين، ويرسم الخطط النافعة للأمة في حاضرها ومستقبلها، ليكن إعلام الإسلام يقارع حجج الضلال ويدمغ الباطل بالحق، من قنوات إجرامية، ما بين إلحادية وما بين إجرامية في الأخلاق، وما بين قنوات تفكك جسد الأمة وتنشر البلاء والكذب والأباطيل.
أيتها الفتاة المسلمة، أنت ثمرة الفؤاد، وأنت قرة العين، سهام الأعداء موجهة نحوك، ومؤتمراتهم تدور حول إفسادك، الزمي العفة والحجاب فهو يعصمك من أن تقعي في الرذيلة، لا تغتري بالدعايات ولا تنجرفي معها، فنتائجها معصية الله، ثم تلويث سمعتك وأخلاقك، فاثبتي على هذا الدين لتكوني امرأة صالحة تقية بتوفيق الله.
__________
(1) مسلم كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: '' لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم '' حديث رقم 1920.(80/32)
يا رجال الأعمال والخبراء، إن بلادنا بلاد خيرات، بلاد الإسلام بلاد خيرات، تستفيد منها الدول الصناعية على اختلافها، فهلا خطة اقتصادية تكفل استغلال خيرات الأمة في بلادها.
يا رجال الأعمال، الربا قد طغى وأصبح أمرا عاما وشرا وبلاء، فهلا تشمير عن ساعد الجد لإيجاد مركز مالي إسلامي يخلص الناس من وبال الربا.
إخوتي في فلسطين، إخوتي في العراق، إخوتي في الصومال، إخوتي في الأفغان، إخوتي المسلمين في كل مكان، أناشدكم في هذا المقام العظيم، من هذا المنبر العظيم، في هذا اليوم العظيم والشهر العظيم، أناشدكم لأبين لكم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا اليوم إذ قال في خطبته المشهورة: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا (1) » ، وأنا أقتدي برسول الله وأمتثل أمر رسول الله فأقول لإخوتي: الدماء الدماء، الله الله في أنفسكم، عودوا إلى رشدكم، نظموا شؤونكم، ارتفعوا عن الشخصيات وارتفعوا عن هذه الترهات، اجعلوا الغاية المصلحة العليا العامة فقدموها على كل شيء، العدو في ساحتكم
__________
(1) البخاري كتاب المغازي، باب حجة الوداع، حديث رقم 4406، مسلم كتاب القسامة والمحاربين، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، حديث رقم 1679.(80/33)
وأنتم مشغولون بأنفسكم، جمع الله شملكم، ووحد كلمتكم، وأذل أعداءكم إنه على كل شيء قدير.
أمه الإسلام، إن من نعم الله على المسلمين وجود هذه القيادة الصالحة المصلحة المتواصية بالحق وبالخير في سبيل خدمة الحرمين وإكرام ضيوف الرحمن، قاد هذه المسيرة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل غفر الله له وأسكنه فسيح جنته، وتعاقب بعده أبناؤه الملوك، فما من واحد إلا وله لمسات خير في هذه المشاعر، فمضى الملك سعود وفيصل وخالد وفهد رحم الله الجميع وأسكنهم فسيح جنته، وهذا دور إمامنا عبد الله بن عبد العزيز خادم الحرمين الشريفين يكمل المسيرة إن شاء الله بالنمو والخير والبذل والعطاء، وتهيئة الحرمين وتوسعتهما وكل أمر فيه خدمة هؤلاء الحجيج، فقادة هذا البلد خططوا ونظموا وأقاموا المراكز المختصة بخدمة الحجيج فجزاهم الله عما قدموا خيرا، شقوا الطرق بين المشاعر وهيؤوها لكل قادم، فجزاهم الله عما ما بذلوا خيرا ووفقهم لما يحبه ويرضاه.
أيها المسلمون تدبروا كتاب الله ففيه الهدى، وأكثروا من تلاوته ففيه الخشوع وحضور القلب، أكثروا من تلاوته، لقد هدانا القرآن لأمر أكيد وهو أن الموت مصير كل حي {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (1) {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (2) ، هدانا لأن
__________
(1) سورة الزمر الآية 30
(2) سورة الزمر الآية 31(80/34)
يذكرنا بساعة الاحتضار {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} (1) {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} (2) {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} (3) {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (4) هدانا لأن نعلم هول ذلك اليوم وحالتنا يوم قيامنا من قبورنا {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} (5) {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (6) هدانا فبين لنا أهوال يوم القيامة {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (7) وقال جل وعلا: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} (8) {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} (9) {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (10) {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} (11) {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (12) {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (13) هدانا فبين لنا أن أقوالنا وأعمالنا محصاة علينا {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (14)
__________
(1) سورة القيامة الآية 26
(2) سورة القيامة الآية 27
(3) سورة القيامة الآية 28
(4) سورة ق الآية 19
(5) سورة المعارج الآية 43
(6) سورة المعارج الآية 44
(7) سورة إبراهيم الآية 48
(8) سورة الحاقة الآية 13
(9) سورة الحاقة الآية 14
(10) سورة الحاقة الآية 15
(11) سورة الحاقة الآية 16
(12) سورة الحاقة الآية 17
(13) سورة الحاقة الآية 18
(14) سورة ق الآية 18(80/35)
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (1) {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (2) {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (3) هدانا فبين لنا أهوال ذلك اليوم ومآل أهل السعادة {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} (4) .
حجاج بيت الله، ها أنتم أجبتم الدعاء، ها أنتم وصلتم إلى بلاد الله المعظمة، الطريق إليها آمن، والمشاعر مهيأة، فاعبدوا الله وأخلصوا له الدين، اتقوا الله في أنفسكم، سيروا برفق وتحركوا بنظام واحترموا الأنظمة الموضوعة لكم، وأكثروا من ذكر الله والتضرع بين يديه وسؤاله لا سيما في هذا اليوم المبارك، فعسى الله أن يمن علي وعليكم بالقبول.
حجاج بيت الله، إن هذا المنسك ليس مجالا للمزايدات والشعارات والقيل والقال وإنما هو لذكر الله والتقرب إليه بصالح الأعمال.
أمة الإسلام، اليوم يوم عرفة و «الحج عرفة (5) » ، حج النبي صلى الله
__________
(1) سورة الكهف الآية 49
(2) سورة الإسراء الآية 13
(3) سورة الإسراء الآية 14
(4) سورة الفرقان الآية 24
(5) سنن الترمذي كتاب الحج، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج حديث رقم 889 سنن ابن ماجه كتاب المناسك، باب من أتى ليلة عرفة قبل الفجر ليلة جمع، حديث رقم 3015، وقال الشيخ الألباني: صحيح.(80/36)
عليه وسلم حجة الوداع، عام عشر، تلك الحجة التي وافقت يوم الجمعة؛ يوم استدار الزمان كهيئته يوم خلق السماوات والأرض.
فيوم الجمعة هو أفضل أيام الأسبوع، يوم خلق الله فيه آدم وأسكنه الجنة وأخرجه منها، ويوم تقوم فيه الساعة، فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله من فضله إلا أعطاه، أضل الله عنه اليهود والنصارى، وهدانا لهذا اليوم العظيم، فالحمد لله إذ وافق حجتنا حجة محمد صلى الله عليه وسلم.
قفوا بعرفة إلى الغروب، وبيتوا معظم الليل بمزدلفة، وإن بقيتم إلى الفجر فأفضل، ارموا يوم العيد جمرة العقبة، واحلقوا أو قصروا، والحلق أفضل، وقد حل لكم كل شيء إلا النساء، طوفوا بالبيت، وبالصفا والمروة إن لم تكونوا سعيتم من قبل أو كنتم متمتعين، وبذلك تتحللون التحلل الكامل، ودعوا بيت الله الحرام وكونوا متخلقين بالحلم والصبر، إن الحج جهاد في سبيل الله كما قالت عائشة: «يا رسول الله، على النساء جهاد؟ قال: نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: حج مبرور (1) » ، فما أصابك من أي شيء فتحمل واصبر، فإن ذاك جهاد في سبيل الله.
__________
(1) البخاري كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير، حديث رقم 2784.(80/37)
اللهم يا حي يا قيوم، يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين، يا أجود الأجودين، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اعتقنا من عذابك، اللهم اجعلنا في هذا اليوم من العتقاء من عذابك، اللهم أقل عثرتنا واغفر زلتنا وارحم ضعفنا.
اللهم وقفنا بين يديك في هذا اليوم العظيم، في هذا المكان العظيم، واليوم المشهود، موقف الخاضع الذليل، موقف الفقير المسكين، موقف الوجل الخائف، من يرجو رحمتك ويخاف عذابك، فرحمتك أرجى من أعمالنا ومغفرتك أوسع من ذنوبنا، اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن تجعل حجنا مبرورا وسعينا مشكورا وذنبنا مغفورا.
اللهم اغفر لآبائنا، اللهم اغفر لأمهاتنا، اللهم أصلح ذرياتنا، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الخير، اللهم أبدل ذلهم عزا وضعفهم قوة وتشتتهم اجتماعا على الخير والهدى، اللهم ول عليهم خيارهم.
اللهم اغفر وارحم عبدك فهد بن عبد العزيز رحمه الله، اللهم إنه أحسن لعباد الله فأحسن إليه، اللهم اغفر زلته وارفع درجته إنك على كل شيء قدير.(80/38)
اللهم وفق إمامنا عبد الله بن عبد العزيز لكل خير، اللهم اجعله إمام هدى وتقوى، اللهم انصره بالإسلام وانصر الإسلام به، اللهم اجعله ممن لزم شرعك وحكم كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم شد أزره، واربط على قلبه وأمده بمدد من عندك، اللهم وفقه لسبيل الرشاد، اللهم اجمع على يده كلمة المسلمين، اللهم اجعل في بقية عمره خيرا للإسلام والمسلمين، اللهم اختر له جلساء صالحين ناصحين يعينونه إن ذكر، ويذكرونه إن نسي، اللهم اجعله مخلصا لك في أقواله وأعماله، واجعل الخير على يده، إنك على كل شيء قدير.
اللهم شد أزره بولي عهده سلطان بن عبد العزيز، اللهم وفقه للصواب، اللهم أمده بسلامة الدين وصحة البدن والعافية، اللهم قوه على الخير، واجعله من أنصار الخير والهدى، إنك على كل شيء قدير.
والدعاء والشكر موصول أيضا لرئيس هيئة الحج العليا نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية، وفقه الله، الذي طالما عمل وطالما اجتهد، وطالما بذل، وطالما أشرف، فجزاه الله خيرا، وجزى أعوانه والقائمين بذلك ومن قاد الحجيج خيرا، ووفقهم جميعا لما يحبه ويرضاه.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1)
__________
(1) سورة الحشر الآية 10(80/39)
عباد الله في هذا اليوم ينزل الله إلى سمائه الدنيا فيباهي بأهل الموقف أهل السماء، ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من هذا اليوم، إن خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قال النبي والأنبياء قبله يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، يقول صلى الله عليه وسلم: «ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما أري يوم بدر (1) » ، فأخلصوا لله الدعاء، وتوجهوا بقلوبكم إلى ربكم وارفعوا أكف الضراعة إليه، سلوه الثبات على الإسلام، سلوه الاستقامة، سلوه للمسلمين جمع الكلمة، سلوه أن يوحد الله صفوفهم ويكفيهم شر من أرادهم بشر، إنه على كل شيء قدير.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم، ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربنا رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أعاده الله علي وعليكم وعلى إمامنا بالخير واليمن والبركة، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) موطأ مالك كتاب الحج، باب جامع الحج، حديث رقم 962.(80/40)
الفتاوى(80/41)
صفحة فارغة(80/42)
من فتاوى سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية (رحمه الله)
توسعة شارع بدون ضرر على القبور
من محمد بن إبراهيم إلى صاحب السمو الملكي وزير الداخلية سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد جرى الاطلاع على المعاملة المحالة إلينا منكم برفق خطابكم رقم 1886 في 19 / 2 / 1383هـ المتعلقة بصدد طلب أمين العاصمة توسعة شارع الحجون المار بين مقبرتي المعلاة، وذلك بإقامة أعمدة على أرض المقبرة على يمين الصاعد إلى الريع، وإنشاء كوبري من المسلح المشتملة على مشروط بعدم التعرض للقبور إن وجدت، وذلك بأن تقام أعمدة من المسلح على شكل كوبري مستو بالشارع، مرتفع عن أرضية المقبرة، غير متعرض للقبور والخاسكيات إلى آخر ما ذكره.
ونفيد سموكم أنه نظرا للحاجة الماسة إلى توسيع الشارع المذكور ونظرا إلى أنه محاط الجانبين بالمقبرة، ولا يتم له توسيع إلا بأخذ السعة من أحدهما، ونظرا إلى أن المصلحة العامة تقتضي ذلك من غير أن تؤثر على القبور أي تأثير كان، فإنه لا يظهر لنا وجه في الاعتراض(80/43)
على التوسعة المذكورة، إلا أنه يشترط لذلك ما يلي:
أولا: أن تكون التوسعة عبارة عن أعمدة يقام عليها كوبري بمستوى الشارع مرتفع عن أرضية المقبرة ارتفاعا كبيرا.
ثانيا: ألا يتعرض للمقابر والخسكيات إن وجدت، وذلك بأن تقام الأعمدة بعيدا عما يظن به وجود قبور.
ثالثا: تصان المقبرة بسور مرتفع يضمن للمقبرة حرمتها وعدم إهانتها.
رابعا: يقوم رئيس المحكمة بالاشتراك مع أمين العاصمة ورجلين عدلين ممن لهما مزيد من العلم والخبرة بحال، هذا الطرف من المقبرة وما فيه من قبور أو خلافه للتقيد بهذه القيود لا سيما حفريات الأعمدة وبعدها عن القبور.
أما ما ذكره أمين العاصمة من طلبه قاعدة عامة للقبور التي تعترض توسعة الشارع.
فنفيد سموكم الكريم أنه ليس هناك قاعدة عامة، إذ ليست المقابر على وضع موحد، فلكل مقبرة وصفها الخاص ونظرها المستقل وقد يجوز في واحدة إجراءات لا تجوز في أخرى، نظرا لما يحيط بها من صفات خاصة بها، وبالله التوفيق. والسلام عليكم.
رئيس القضاة
(ص ـ ق ـ 702 ـ 1 في 10 / 4 / 1383هـ)(80/44)
إذا بليت العظام وهي واقعة بين المنازل
وكانت عرضة للامتهان فما الحكم، بأي شيء يعرف بلاؤها
من محمد بن إبراهيم إلى فضيلة رئيس محكمة أبها سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد جرى الاطلاع على المعاملة المرفوعة إلينا منكم برقم 3162 في 27 5 84هـ بخصوص الأرض التي يطلب س. م. تعويضه عن الأرض التي قيل عنها بأنها مقبرة، وتذكر البلدية أن الأرض واقعة بين المنازل وهي ملقى للقمائم، وتستفتي البلدية عن حكم نبش ما فيها من قبور ونقل الرفات وصيانتها، وتشير إلى فتوانا السابقة موجب خطابنا رقم 942 في 4 7 82هـ، القاضية بأن المقبرة إذا كانت قديمة موغلة في القدم وبليت بلاء أحال عظام الموتى إلى رفات يقرب من التراب، فينبغي والحال هذه تقوية أغطيتها بما يمنع انهيارها واستعمالها مرفقا للبلاد كتوسعة للسوق ونحوه.
أما إن كانت عظام الموتى لا تزال فيها صلبة أو فيها بعض الصلابة فينبغي تسويرها بسور يحميها من الامتهان والاستطراق.
ويذكر رئيس البلدية أن قطعة الأرض المشار إليها ليس بها قبور مسنمة، ولا توجد شواهد لها ويستفتي هل تعتبر في حكم المقبرة الموغلة في القدم. ونفيدكم بما يلي:(80/45)
أولا: ما دامت هذه الأرض مقبرة قديمة فكيف ساغ لـ س. م. نسبتها إليه، وما هو مستند تملكه إياها.
ثانيا: ما ذكره رئيس البلدية عن فتوانا فنحن عليها فإذا كانت قبور هذه الأرض قد بليت بلى أحال عظامها إلى رفات يقرب من التراب وهي واقعة بين المنازل مما يجعلها عرضة للاستطراق وإلقاء القمائم والامتهان فلا بأس من تقوية أغطيتها بما يمنع انهيارها ثم استعمالها كفناء للبيوت المجاورة لها أو توسعة لما حولها من شوارع، وذلك بعد أن تقدر قيمتها بمبلغ يشترى به عوضا عنها مقبرة أخرى، إذ المقابر من أوقاف المسلمين لا يباح أخذ شيء منها إلا بمسوغ شرعي، مع ملاحظة تقدير ثمنه وجعله في مكان آخر.
أما إن كانت القبور لا تزال العظام فيها صلبة أو فيها بعض الصلابة فينبغي تسويرها بسور يحميها من الامتهان والاستطراق.
ثالثا: ذكر رئيس البلدية أن الأرض المشار إليها ليس فيها قبور مسنمة ولا شواهد لها. ونفيدكم أن هذا ليس مقياسا لبلاء العظام وتحولها إلى رفات يقرب من التراب، وإنما معرفة ذلك بشق الأرض ورؤية عظام الموتى فيها.
هذا ونعيد إليكم كامل الأوراق. والسلام عليكم.
مفتي الديار السعودية
(ص ـ ف ـ 2068 ـ 1 في 12 8 84هـ) .(80/46)
الأخذ مما لم يدفن فيه لحاجة الشارع
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم أمين مدينة الرياض سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد:
فبالإشارة إلى خطابكم رقم 699 وتاريخ 29 / 2 / 1376هـ المرفق به المعاملة الخاصة بطلب سكان السبالة النائب عنهم (ع. ن) توسيع الشارع المؤدي إلى الحلة حتى يتسع لمرور السيارات معه.
أفيدكم أننا نوافق على توسيع الشارع المذكور من أرض السبالة (المقبرة) لحاجة الطريق إلى ذلك. ولكون تلك الأرض التي ستؤخذ توسعة للطريق (صفا) لا تصلح للدفن فيها، ويكون ذلك بعد وقوف هيئة النظر عليها وتقدير الأرض بما يبرئ الذمة. والله يحفظكم.
(ص ـ ف 138 في 29 / 2 / 1376هـ)(80/47)
هدم ما بني فيها من المساكن وعدم تعويضهم
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي
رئيس مجلس الوزراء حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فقد جرى الاطلاع على المعاملة المحالة إلينا رفق خطاب سموكم برقم 12713 وتاريخ 20 6 79هـ بشأن الأرض التي اشتراها ح. س.(80/47)
من ع. ج. في جيزان، ثم ظهر أنها ضمن أراضي المقبرة، المشتملة على خطاب فضيلة رئيس محكمة جيزان الموجه إلى إمارتها برقم 1666 وتاريخ 17 / 5 / 1379هـ حول القضية.
وبتتبع المعاملة ومرفقاتها، وتأمل خطاب فضيلة رئيس المحكمة المذكور أعلاه المتضمن ثبوت أن الأرض موضوعة الدعوى من ضمن الأراضي الواقعة في المقبرة، وأنه قد بني على المقبرة المذكورة عشرات البيوت ما بين حجر ومسلح وعشاش، وبعض الذين بنوا عليها بيدهم إقطاع ورخص من البلدية، وبعضهم بدون ذلك.
نفيد سموكم أن تمليكهم قبور أموات المسلمين وانتهاك حرمتها أمر لا يقرون عليه، وذلك محرم شرعا، وينبغي حفظ كرامة الأموات بهدم البيوت الواقعة في المقبرة، وترحيل أهلها منها، وتسويرها بما يحفظها، أما مسألة تعويض أهل البيوت فهم مخطئون في تملك أراضي المقابر، ومن رخص لهم بذلك أو أقطعهم مخطئ أيضا، لذا يكون التعويض مقسوما قسمين: قسما يلتزم بدفعه من رخص لهم أو اقتطعهم، والقسم الآخر يلزمون به. فيعوضون نصف تكاليفهم وذلك على من مكنهم بالبناء والعمارة. أما من بنى ولم يكن معه إقطاع أو ترخيص فلا تعويض له مطلقا، لانفراده بالتعدي. وبالله التوفيق. والله يحفظكم.
(ص ـ ف ـ 819 وتاريخ 4 / 7 / 1379هـ)(80/48)
نقل الميت من بلده إلى المدينة
من محمد بن إبراهيم إلى صاحب السمو الملكي
وزير الداخلية سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فقد جرى الاطلاع على الاستفتاء الموجه إلينا رفق خطاب سموكم رقم 6734 وتاريخ 1 6 82هـ من المدعو س. أ. م. المتضمن استفتاءه عن حكم نقله بعد موته من بلده إلى المدينة المنورة لدفنه فيها.
نفيد سموكم أنه لا يظهر لنا جواز ذلك، لما روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم (1) » ، وروى الطبراني بإسناد حسن من حديث ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره» ، ولا شك أن في نقله تأخيرا لجنازته وحبسا لها، زيادة على تعريضها للتغيير والانتهاك، وإلزام تركته بزيادة كبيرة في مؤنة نقله وما يستتبعه النقل من تصبير ونحوه، وهذا هو الذي دفع عائشة - رضي الله عنها - أن تقول بشأن أخيها عبد الرحمن ما قالت، مما رواه الحاكم في مستدركه بسنده إلى
__________
(1) البخاري الجنائز (1252) ، مسلم الجنائز (944) ، الترمذي الجنائز (1015) ، النسائي الجنائز (1910) ، أبو داود الجنائز (3181) ، ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1477) ، أحمد (2/240) ، مالك الجنائز (574) .(80/49)
صفية بنت شيبة قالت: قدمت عائشة رضي الله عنها فأتيتها أعزيها بأخيها عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت: رحم الله أخي إن أكثر ما أجد في نفسي أنه لم يدفن حيث مات.
قالت: وكان أخوها قد توفي بالحبشي فخرجت إليه فئة قريش فحملوه إلى أعلى مكة.
قال في " المغني والشرح الكبير ": ولا ينقل الميت من بلد إلى بلد آخر إلا لغرض صحيح، وهذا قول الأوزاعي وابن المنذر. قال عبد الله بن أبي مليكة: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبشي فحمل إلى مكة فدفن، فلما قدمت عائشة أتت قبره، ثم قالت: والله لو حضرتك ما دفنت إلا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك. ولأن ذلك أخف لمؤنته وأسلم له من التغيير. أهـ.
وقال في " فتح القدير" لابن الهمام الحنفي: أما إذا أرادوا نقله قبل الدفن وتسوية اللبن فلا بأس بنقله نحو ميل أو ميلين. قال المصنف في " التجنيس" لأن المسافة إلى المقابر قد تبلغ هذا المقدار. وقال السرخسي: قول محمد بن مسلمة ذلك دليل على أن نقله من بلد إلى بلد مكروه، والمستحب أن يدفن كل في مقبرة البلدة التي مات بها ـ إلى أن قال: ثم قال المصنف: وذكر أنه إذا مات في بلده كره نقله إلى أخرى لأنه اشتغال بما لا يفيد بما فيه تأخير دفنه وكفى بذلك كراهة. أهـ.
ولم ينقل إلينا أن أحدا من الصحابة رضوان الله عليهم نقل بعد موته من بلد إلى بلد، اللهم إلا ما ورد عن حمل سعد بن أبي وقاص(80/50)
وسعيد بن زيد من العقيق إلى المدينة، وكذلك ما ذكره ابن عيينة من أن ابن عمر مات هنا، يعني: في مكة، فأوصى ألا يدفن هاهنا وأن يدفن بسرف، فهذان الموضعان قريبان، مع أن عائشة رضي الله عنها أنكرت نقل أخيها من الحبشي إلى مكة، والحبشي موضع قريب من مكة. وبالله التوفيق. والسلام عليكم.
(ص ـ ف ـ 168 ـ 1 وتاريخ 28 / 8 / 1383هـ)(80/51)
قوله: ولا تكره القراءة على القبر
على هذا القول. وهو مرجوح، والراجح المنع من ذلك، للعموم، وفي الحديث: «فلا تتخذوا القبور مساجد (1) » فإن المساجد من شأنها أن يقرأ فيها القرآن، وفي حديث الأعرابي: «إنما هي لذكر الله وتلاوة القرآن (2) » ، وقراءة القرآن عندها من الغلو فيها المسبب للشرك، فإن ما فعله قوم نوح ليس من باب الحزن على الميت، بل من باب تعظيمه فانجر إلى عبادتها.
وهذا الحديث لا يصح. والله أعلم.
__________
(1) أخرجه مسلم عن جندب
(2) أول هذا الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: '' من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبين لهذا ''.(80/51)
وحديث ابن عمر، لا يدل على الإطلاق، ولو لم يعارضه شيء لقيل إنه دل على الجنس، ولكن جاء ما يعارضه، وهو النهي عن اتخاذها مساجد واللعن، واتخاذها مساجد استعمالها فيما شرع أن يستعمل في المساجد، فالذي يقصد القبور لقراءة القرآن عندها قد اتخذها مساجد ويظهر أنه ليس من عادة الصحابة ولا من فعلهم، ولا فعله أبوه ولا أبو بكر ولا بقية العشرة والصحابة. والمسألة ذكرها شيخ الإسلام في " الاقتضاء " وذكر الخلاف فيها (1) .
__________
(1) انظر '' الاقتضاء'': ص3 - 381.(80/52)
القراءة على الميت في المسجد أو عند القبر أو في بيته بدعة
،
وعمل الطعام بعد ثلاثة أيام أو بعد الختمة، القراءة المشروعة
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم أ. م. ع. سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فجرى الاطلاع على استفتائك الموجه إلينا بخصوص ذكرك عن القراءة على الميت عند القبر أو في المسجد أو في بيته ثم يوهب ثواب هذه القراءة لروح الميت، وبعد ثلاثة أيام من وفاة الميت، وبعد ختم(80/52)
القرآن يعمل طعام من أرز ولحم لأهل القرية، وتسأل عن حكم ذلك.
والجواب: الحمد لله. القراءة على الميت سواء كان في المسجد أو عند القبر أو في البيت، ثم عمل طعام بعد الختمة وبعد الوفاة بثلاثة أيام يوزع على الفقراء من الأمور المبتدعة.
وأما القراءة المشروعة فهي ما كان قبل الموت وعند الاحتضار كقراءة سورة "يس" أو " الفاتحة" أو " تبارك" أو غير ذلك من كتاب الله.
أما حكم صرف ثواب قراءة القرآن للميت فلا يظهر لنا بأس في جوازه إذا لم يكن محددا بوقت أو مكان أو صفة فيها ميزان البدع والمنكرات. وبالله التوفيق. والسلام عليكم.
(ص ـ ف ـ 1326 ـ 1 وتاريخ 20 / 5 / 1384هـ)(80/53)
إهداء ثواب القرب
وصول الثواب المهدى من الحي إلى الميت جنسه معروف في الأدلة. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك في شيء مخصوص، نزعا منه بآية {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (1) وهذا هو مذهب الشافعي، ويستثنى من ذلك «إذا مات ابن آدم (2) » ، وقالوا هو نفي ويقاس عليه نحوه.
والذي عليه الجمهور والمحققون وصول ذلك إلى الميت، وليس
__________
(1) سورة النجم الآية 39
(2) '' انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له '' أخرجه مسلم.(80/53)
الإهداء تقربا إليهم وطلبا للشفاء والنفع، بل هذا نفع من الحي للميت، والآخر طلب من الميت، والنصوص دالة على أن الحي ينفع الميت، لا العكس.(80/54)
إهداء ثواب صلاة النوافل والذبح والصدقة
أما صلاة النوافل وإهداء ثوابها إلى أقربائه، وكذلك ذبح الذبيحة والصدقة بها، وإهداء ثوابها إليهم: فلا بأس بذلك إن شاء الله.
(ص ـ ف ـ 59 وتاريخ 24 / 1 / 1377هـ)(80/54)
إهداء ثواب الدعاء
" الثانية": ذكرك أن رجلا كان يدعو لوالديه ويكثر الدعاء ويقول في ختام دعائه: اللهم تقبل مني هذا الدعاء، واجعله منه لروح والدي، وتسأل: هل يجوز هذا.
ونفيدك أنه لا يظهر لنا به بأس. وبالله التوفيق. والسلام عليكم.
مفتي البلاد السعودية
(ص ـ ف ـ 218 ـ 1 وتاريخ 22 / 8 / 1384هـ)(80/54)
صنع الطعام للمعزين ولقراء القرآن ثلاثة أيام
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ص. ن. حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تسأل فيه عما يفعله بعض الناس إذا مات عندهم الميت من صنع طعام للناس الذين يأتون للعزاء من(80/54)
قريب وبعيد ويقرءون القرآن مدة ثلاثة أيام يجلسون فيها ويسمونها العزاء إلى آخره.
والجواب: كل هذا من البدع المحدثة التي لم يرد فيها نص من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها أحد من السلف الصالح من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولهذا ينهى عنها لما ذكر، وفيها من إظهار الجزع المنافي للصبر. وقد صرح الفقهاء رحمهم الله أنه يكره لأهل الميت صنع الطعام للناس، وأن هذا طعام المأتم المنهي عنه. وإن كان الطعام في تركة الميت وفي الورثة قصار أو غائبون أو من لم يرض من الورثة فهو حرام لما فيه من التصرف بأموال الغير بدون إذن شرعي.
قالوا: ويستحب صنع الطعام لأهل الميت، لأن المصيبة قد أشغلتهم، ولحديث: «اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم (1) » والله الموفق. والسلام.
مفتي الديار السعودية
(ص ـ ف ـ 1352 ـ 1 وتاريخ 8 / 5 / 1386هـ)
وفي تقرير له قال: هو من البدع ومن النياحة، لأنه يجتمع مع أهل الميت من يجتمع للبكاء معهم، فصناعة أهل الميت الطعام مما يساعد على ذلك.
__________
(1) رواه الخمسة إلا النسائي، وحسنه الترمذي.(80/55)
إقامة المأتم في أي يوم كان غير مشروعة
وأما إقامة المآتم على الميت في أي يوم كان فغير مشروعة، وقد حكى أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي في كتابه " الحوادث والبدع " إجماع العلماء على منعها.
قال في ص166: فأما المآتم ممنوعة بإجماع العلماء. قال الشافعي: وأكره المآتم وهو اجتماع الرجال والنساء، لما فيه من تجديد الحزن. قال: ويكره المبيت في المقبرة، لما فيه من الوحشة. والمآتم هو الاجتماع في الصبحة، أي: الاجتماع حول القبر صباحا غداة الدفن، وهو بدعة منكرة لم ينقل فيه شيء، وكذلك ما بعده من الاجتماع في الثاني والثالث والسابع والشهر والسنة فهو طامة، وقد بلغني عن الشيخ ابن عمران الفاسي وكان من أئمة المسلمين: أن بعض أصحابه حضر صبحة فهجره شهرين وبعض الثالث، حتى استعان الرجل عليه فقبله وراجعه وأظنه استتابه ألا يعود. فأما ما يوقد فيها من الشمع والبخور فتبذير وسرف. وإن أنفقه الوصي من مال التركة ضمنه وسقطت به عدالته واستأنف الحاكم النظر في الوصية. قال ابن السمان: سألت بعض رهبان الأكواخ: لم يسمى الاجتماع في المصيبة مأتما قال: فبكى. ثم قال: لأن المجتمع عليه ومن أجله لم يتم. أهـ.(80/56)
وقد أطال الشيخ علي محفوظ في كتابه " الإبداع في مضار الابتداع " (ص218 و219) : أما بدع المآتم فمعلوم أن كل مجتمع للحزن على الميت فيه النساء لا يخلو من المحظورات شرعا من الندب والنياحة ولطم الخدود، والتهتك بكشف العورات، وإضاعة الكثير من الأموال، إلى غير ذلك مما عمت به البلوى، حتى استعصى الداء، وعز الدواء. وأما اجتماع الرجال في المآتم لداعية الحزن فمعلوم أيضا ما يستلزم هذا الاجتماع من النفقات الطائلة لغرض المباهاة والرياء بإعداد محل الاجتماع وإحضار البسط والسجاجيد ونحوها، ولا شك في حرمة ذلك، لما فيه من إضاعة المال لغير غرض صحيح، هذا إذا لم يكن في الورثة قاصر، فما بالك إذا كان فيهم قاصر، وقد يتكلفون ذلك بالقرض بطريق الربا نعوذ بالله من سخطه. وأن ما يقع بعد الدفن من عمل المأتم ليلة أو ثلاثا مثلا لا نزاع في أنه بدعة، ولم يثبت عن الشارع ولا عن السلف أنهم جلسوا بقصد أن تذهب الناس إلى تعزيتهم، وكانت سنته صلى الله عليه وسلم أن يدفن الرجل من أصحابه وينصرف كل إلى مصالحه، وهذه كانت سنته، وهذه كانت طريقته، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (1) فلنتأس به فيما ترك كما
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21(80/57)
نتأسى به فيما فعل، والجمهور على كراهة ذلك؛ لأنه يجدد الحزن للمعزى. قال الإمام الأذرعي: الحق أن الجلوس للتعزية على الوجه المتعارف في زماننا مكروه أو حرام. انتهى.
ومر صاحب " الإبداع " إلى أن قال في ص220: وصفوة القول أن المآتم اليوم لا تخلو من المنكرات ومخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وناهيك ما يكون من القراء في تلاوة القرآن، وما يفعله المستمعون في المأتم من الخروج عن حد الأدب حال تلاوته من رفع أصوات الاستحسان أو الاشتغال عن استماعه أو شرب الدخان، وغير ذلك مما يحول بين المجلس وبين نزول الرحمة، نسأل الله السلامة والهداية. انتهى المراد من كلام صاحب " الإبداع في مضار الابتداع" والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
مفتي الديار السعودية
(ص ـ ف ـ 2655 ـ 1 في 86هـ)(80/58)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية (رحمه الله)
مسألة الزكاة في حلي الذهب والفضة من مسائل الخلاف (1)
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد تكرر السؤال من كثير من الناس عن حكم زكاة الحلي من الذهب والفضة وما ورد في ذلك من الأدلة، ولتعميم الفائدة أجبت بما يلي، والله الموفق والهادي إلى الصواب:
لا ريب أن هذه المسألة من مسائل الخلاف بين أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم، وقد دل الكتاب والسنة على وجوب رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - عملا بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) .
__________
(1) كلمة لسماحته نشرت في مجلة (راية الإسلام) العددان (11، 12) رمضان وشوال عام 1380هـ
(2) سورة النساء الآية 59(80/59)
وإذا رددنا هذه المسألة إلى الكتاب والسنة وجدناهما يدلان دلالة ظاهرة على وجوب الزكاة في حلي النساء من الذهب والفضة وإن كان هذا للاستعمال أو العارية؛ سواء كانت قلائد أو أسورة أو خواتم أو غيرها من أنواع الذهب والفضة، ومثل ذلك ما تحلى به السيوف والخناجر من الذهب والفضة إذا كان الموجود من ذلك نصابا، أو كان عند مالكه من الذهب أو الفضة أو عروض التجارة ما يكمل النصاب، وهذا القول هو أصح أقوال أهل العلم في هذه المسألة، والدليل على ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (2) .
ومن السنة المطهرة ما ثبت في صحيح مسلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا صفحت له يوم القيامة صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار (3) » فهذان النصان
__________
(1) سورة التوبة الآية 34
(2) سورة التوبة الآية 35
(3) رواه مسلم في الزكاة باب إثم مانع الزكاة برقم (987) .(80/60)
العظيمان من الكتاب والسنة يعمان جميع أنواع الذهب والفضة، ويدخل في ذلك أنواع الحلي من الذهب والفضة، ومن استثنى شيئا فعليه الدليل المخصص لهذا العموم، لو لم يرد إلا العموم في هذه المسألة، فكيف وقد ورد في هذه المسألة بعينها أحاديث صحيحة دالة على وجوب الزكاة في الحلي، منها: ما خرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما: «أن امرأة دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتعطين زكاة هذا، قالت: لا. قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار، فألقتهما وقالت: هما لله ولرسوله (1) » . قال الحافظ ابن القطان: إسناده صحيح.
وخرج أبو داود بإسناد جيد عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها كانت تلبس أوضاحا من ذهب فقالت: يا رسول الله، أكنز هو؟ فقال - عليه الصلاة والسلام -: «ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز (2) » .
ففي هذا الحديث فائدتان جليلتان، إحداهما: اشتراط النصاب وأن ما لم يبلغ النصاب فلا زكاة فيه، ولا يدخل في الكنز المتوعد عليه
__________
(1) رواه أبو داود في (الزكاة) باب الكنز ما هو وزكاة الحلي برقم (1563) والنسائي في الزكاة باب زكاة الحلي برقم (2479) .
(2) رواه أبو داود في (الزكاة) باب الكنز ما هو وزكاة الحلي برقم (1564) .(80/61)
بالعذاب.
والفائدة الثانية: أن كل مال وجبت فيه الزكاة فلم يزك فهو من الكنز المتوعد عليه بالعذاب.
وفيه أيضا فائدة ثالثة: وهي المقصودة من ذكره، وهي الدلالة على وجوب الزكاة في الحلي؛ لأن أم سلمة - رضي الله عنها - سألت عن ذلك كما هو صريح الحديث، ومن ذلك ما ثبت في سنن أبي داود عن عائشة - رضي الله عنها - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى عليها فتخات من فضة فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله. فقال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا. أو ما شاء الله. قال: هو حسبك من النار (1) » .
ففي هذه النصوص الدلالة الظاهرة على وجوب الزكاة في حلي الذهب والفضة، وإن أعدت للاستعمال أو العارية؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنكر على عائشة والمرأة المذكورة في حديث عبد الله بن عمرو ترك زكاة حليهما، وهما مستعملتان له، ولم يستثن - صلى الله عليه وسلم - من الحلي شيئا، لا المستعار، ولا غيره، فوجب الأخذ بصريح النص وعمومه، ولا يجوز أن تخصص النصوص إلا بنص ثابت يقتضي التخصيص. وأما ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ليس في الحلي زكاة (2) » ، فهو حديث ضعيف
__________
(1) رواه أبو داود في (الزكاة) باب الكنز ما هو وزكاة الحلي برقم (1565) .
(2) رواه الدارقطني في باب (زكاة الحلي) برقم (1926) وقال: أبو حمزة هذا ميمون ضعيف الحديث.(80/62)
لا يصلح للاحتجاج ولا يقوى على معارضة أو تخصيص هذه النصوص المتقدم ذكرها، بل قال الحافظ البيهقي: " إنه حديث باطل لا أصل له " نقل عنه ذلك الحافظ الزيلعي في نصب الراية، والحافظ ابن حجر في التلخيص.
ولتكميل الفائدة نوضح للقارئ نصاب الذهب والفضة حتى يكون على بصيرة فنقول: أما نصاب الذهب فهو عشرون مثقالا، ومقدار ذلك من العملة للذهب الموجودة حاليا هو أحد عشر جنيها سعوديا، وثلاثة أسباع جنيه؛ لأن زنة الجنيه الواحد بتحرير أهل الخبرة من الصاغة مثقالان إلا ربع، وأما نصاب الفضة فهو مائة وأربعون مثقالا، ومقدار ذلك من العملة الفضية الحالية ستة وخمسون ريالا سعوديا فضة، فمن ملك المبلغ المذكور من الذهب والفضة، أو ملك من النقود الورقية، أو عروض التجارة ما يساوي المبلغ المذكور من الذهب والفضة فعليه الزكاة إذا حال عليه الحول، وما كان دون ذلك فليس فيه زكاة. والحجة في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة (1) » . والأوقية: أربعون درهما، والدرهم: نصف مثقال، وخمس مثقال، بتحرير أهل العلم. والدرهم السعودي الفضي: مثقالان ونصف، فإذا نظرت في زنة الستة والخمسين الدرهم
__________
(1) رواه البخاري في (الزكاة) باب ما أدي زكاته فليس بكنز برقم (1405) ، ومسلم في (أول الزكاة) برقم (979) .(80/63)
السعودي وجدتها تبلغ خمس أواق، وهي مائة وأربعون مثقالا، وأما دليل نصاب الذهب فهو ما رواه أحمد وأبو داود بإسناد حسن، واللفظ لأبي داود عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء - يعني في الذهب - حتى يكون لك عشرون دينارا، فإذا كان لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك، وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول (1) » . انتهى. والدينار: عملة ذهبية وزنته مثقال واحد بتحرير أهل العلم، فيكون النصاب من الذهب عشرون مثقالا كما تقدم. والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
المدرس في كلية الشريعة بالرياض
__________
(1) رواه أبو داود في (الزكاة) باب زكاة السائمة برقم (1572) .(80/64)
س: هناك إسراف من بعض النساء في لبس الذهب مع أن لبسه حلال، فما حكم الزكاة في الذهب؟ طبعا الزكاة فرع من فروع موضوعنا عن الاستهلاك وعن الإنفاق.(80/64)
ج: الذهب والحرير قد أحلا للإناث دون الرجال، كما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها (1) » . خرجه أحمد والنسائي والترمذي، وصححه من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه.
واختلف العلماء في الزكاة: هل تجب في الحلي أم لا؟ فذهب بعض العلماء إلى أنها لا تجب في الحلي الذي تلبسه المرأة وتعيره، وقال آخرون: إنها تجب، وهذا هو الصواب، أي وجوب الزكاة فيه إذا بلغ النصاب، وحال عليه الحول؛ لعموم الأدلة.
والنصاب: هو عشرون مثقالا من الذهب، ومائة وأربعون مثقالا من الفضة، فإذا بلغ الحلي من الذهب من القلائد أو الأسورة أو نحوها عشرين مثقالا وجبت فيها الزكاة، والعشرون مثقالا تعادل أحد عشر جنيها ونصفا من الجنيهات السعودية.
ومقداره بالجرام (92) جراما، فإذا بلغ الحلي من الذهب هذا المقدار (92) جراما - أحد عشر جنيها ونصفا - فإنه تجب فيه الزكاة، والزكاة ربع العشر من كل ألف خمسة وعشرون كل حول.
وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أن امرأة دخلت
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (أول مسند الكوفيين) حديث أبي موسى الأشعري برقم (19008) ، والنسائي في (الزينة) باب تحريم الذهب على الرجال برقم (5148) .(80/65)
عليه وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا. فقال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار (1) » ؟ قال الراوي وهو عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: «فخلعتهما فألقتهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت: هما لله ولرسوله (2) » . رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.
وقالت أم سلمة - رضي الله عنها -، وكانت تلبس أوضاحا من ذهب: أكنز هذا يا رسول الله؟ فقال - عليه الصلاة والسلام -: «ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز (3) » . رواه أبو داود والدارقطني وصححه الحاكم.
وأخرج أبو داود من حديث عائشة - رضي الله عنها - بسند صحيح قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يدي فتخات من ورق، فقال: «ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله. قال: أتؤدين زكاتهن؟ قالت: لا، أو ما شاء الله. قال: هو حسبك من النار (4) » وقد صححه الحاكم كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، والمراد بالورق: الفضة.
فدل ذلك على أن الذي لا يزكى هو كنز يعذب به صاحبه يوم
__________
(1) الترمذي الزكاة (637) ، النسائي الزكاة (2479) ، أبو داود الزكاة (1563) ، أحمد (2/204) .
(2) النسائي الزكاة (2479) ، أبو داود الزكاة (1563) .
(3) أبو داود الزكاة (1564) .
(4) أبو داود الزكاة (1565) .(80/66)
القيامة والعياذ بالله.
نسأل الله للجميع التوفيق والإعانة والهداية وصلاح العمل، كما نسأله سبحانه أن يوفقنا وإياكن وجميع المسلمين لما فيه خير الإسلام، وأن يتوفانا الله جميعا عليه، إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(80/67)
المسائل الخلافية المعمول فيها على الدليل
س: يرد بعض الفقهاء وجوب زكاة الحلي المعد للاستعمال بعدم انتشار ذلك بين الصحابة والتابعين، مع أنه مما لا يخلو منه بيت تقريبا، فهو كالصلاة في وجوبها وتحديد أوقاتها، وكذا الزكاة عموما بوجوبها وتحديد أنصبتها. . . إلخ. وبالرغم من ذلك، فقد ثبت عن بعض الصحابة القول بعدم الوجوب كعائشة - رضي الله عنها - وابن عمر - رضي الله عنهما - وغيرهما. فكيف يجاب عن ذلك؟ (1) .
ج: هذه المسألة كغيرها من مسائل الخلاف المعول فيها وفي غيرها على الدليل، فمتى وجد الدليل الذي يفصل النزاع وجب الأخذ به؛ لقول الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2)
__________
(1) نشر في كتاب (تحفة الإخوان) لسماحته ص147، وفي (جريدة الندوة) العدد (12207) بتاريخ 4 / 9 / 1419هـ.
(2) سورة النساء الآية 59(80/67)
وقوله عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) ولا يضر من عرف الحكم الشرعي وقال به من خالفه من أهل العلم. وقد تقرر في الشريعة أن من أصاب الحكم من المجتهدين المؤهلين فله أجران، ومن أخطأ فله أجر على اجتهاده، ويفوته أجر الصواب. وقد صح بذلك الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحاكم إذا اجتهد، وبقية المجتهدين من أهل العلم بشرع الله حكمهم حكم الحاكم المجتهد في هذا المعنى. وهذه المسألة قد اختلف فيها العلماء من الصحابة ومن بعدهم كغيرها من مسائل الخلاف، فالواجب على أهل العلم فيها وفي غيرها بذل الوسع في معرفة الحق بدليله، ولا يضر من أصاب الحق من خالفه في ذلك، وعلى كل واحد من أهل العلم أن يحسن الظن بأخيه وأن يحمله على أحسن المحامل، وإن خالفه في الرأي ما لم يتضح من المخالف تعمده مخالفة الحق، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الشورى الآية 10(80/68)
س: لقد اختلفت أقوال العلماء بالنسبة لزكاة حلي النساء المستعملة بين موجب للزكاة ومسقط لها؛ لذا أرجو وضع حد لهذه الاختلافات وقولا فاصلا، وإذا كان الجواب بالوجوب فماذا تفعل المرأة التي ليس لديها سوى حليها؟ (1) .
__________
(1) من ضمن أسئلة موجهة لسماحته بعد محاضرته عن (الزكاة ومكانتها في الإسلام) في الجامع الكبير بالرياض.(80/68)
ج: قد اختلف العلماء - رحمهم الله - والصحابة قبلهم في زكاة الحلي للنساء من الذهب والفضة من القلائد والأسورة والخواتم وأشباه ذلك إذا بلغت النصاب، وهو عشرون مثقالا من الذهب ومائة وأربعون مثقالا من الفضة، مقداره من الذهب المستعمل أحد عشر جنيها وثلاثة أسباع الجنيه، ومقداره من الفضة ستة وخمسون درهما أو ما يعادلها من العمل الورقية، هذا أقل نصاب وما زاد عليه فمن باب أولى، فقال بعض أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم: إن عليها الزكاة في الحلي إذا بلغت النصاب؛ لعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في الذهب والفضة. وقال آخرون: لا تجب فيها الزكاة، لكونها معدة للاستعمال.
والراجح وجوب الزكاة فيها، لعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في الذهب والفضة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سألته أم سلمة عن الحلي: أكنز هو؟ قال: «ما بلغ أن يزكى فزكي فليس بكنز (1) » ، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - سأل امرأة عليها سواران من ذهب: «هل تؤدين زكاتهما؟ فقالت: لا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار. . . (2) » . الحديث. وإذا كانت المرأة ليس لديها ما تزكي به سوى الحلي فعليها أن تبيع من
__________
(1) أبو داود الزكاة (1564) .
(2) النسائي الزكاة (2479) ، أبو داود الزكاة (1563) ، أحمد (2/204) .(80/69)
الحلي أو تقترض ما تزكي به، وإن زكى عنها زوجها أو غيره بإذنها فلا بأس، والله ولي التوفيق.(80/70)
س: إن والدتي تملك حليا من الذهب معدا للاستعمال، وقد كنت أقول لها: إنه يجب عليها أن تزكيه، ولكنها تقول: إن العلماء مختلفون في زكاة الذهب المعد للاستعمال، هل تجب زكاة الذهب المعد للاستعمال أم لا؟ (1) .
ج: هذا مثل ما قالت أمك فيه خلاف بين العلماء، منهم من قال فيه الزكاة ومنهم من قال ليس فيه الزكاة، والصواب أن فيه الزكاة فأخبرها بذلك، وأن الصواب فيه الزكاة إذا بلغ النصاب، فعليها فيه الزكاة على الصحيح، وهي ربع العشر، ومقدار النصاب من الذهب أحد عشر جنيها وثلاثة أسباع الجنيه، يعني: أحد عشر جنيها ونصف، فإذا بلغ هذا ما عندها يزكى، وإن كان أقل فلا زكاة فيه إذا كان ذهبا، أما الماس واللؤلؤ والجواهر الأخرى فهذه ليس فيها زكاة إذا كانت للبس، إنما الزكاة فيها إذا كانت للبيع والتجارة، أما إذا كانت للبس فلا زكاة فيها، إنما الزكاة في الذهب والفضة، فهذان المعدنان هما اللذان فيهما الزكاة.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته عقب ندوة ألقيت في الجامع الكبير بعنوان '' الربا وخطره ''.(80/70)
وجوب الزكاة في الحلي
الملبوس أو المعد للبس أو العارية
س: من المعلوم أنه حصل خلاف بين أهل العلم في إخراج زكاة الحلي الملبوس أو المعد للبس أو العارية، فما رأي سماحتك في ذلك؟ وعلى فرض القول بوجوب الزكاة في ذلك فهل فيه نصاب؟ وإن كان فيه نصاب فيظهر من الأحاديث الدالة على الوجوب في الحلي التي توعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها بالنار، أنها لا تبلغ نصابا. فكيف يجاب عن ذلك؟ (1) .
ج: في وجوب زكاة الحلي الملبوس، أو المعد للبس أو العارية من الذهب والفضة خلاف مشهور بين العلماء، والأرجح وجوبها فيه؛ لعموم الأدلة في وجوب الزكاة في الذهب والفضة، ولما ثبت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - «أن امرأة دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتعطين زكاة هذا؟ ! فقالت: لا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين
__________
(1) نشر في كتاب (تحفة الإخوان) لسماحته ص145، وفي (مجلة الدعوة) العدد (1519) بتاريخ 8 / 7 / 1416هـ.(80/71)
من نار؟ فألقتهما، وقالت: هما لله ولرسوله (1) » .
ولما ثبت من حديث أم سلمة - رضي الله عنها - أنها كانت تلبس أوضاحا من ذهب، فقالت: يا رسول الله، أكنز هو؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «ما بلغ أن يزكى، فزكي فليس بكنز (2) » . ولم يقل لها؟ - صلى الله عليه وسلم -: إن الحلي ليس فيها زكاة.
وكل هذه الأحاديث محمولة على الحلي التي تبلغ النصاب، جمعا بينها وبين بقية الأدلة؛ لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا، كما أن الآيات القرآنية يفسر بعضها بعضا، وكما أن الأحاديث تفسر الآيات، وتخص عامها، وتقيد مطلقها؛ لأن الجميع من عند الله سبحانه، وما كان من عند الله فإنه لا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضا، ويفسر بعضه بعضا. وهكذا لا بد من تمام الحول كسائر أموال الزكاة من النقود، وعروض التجارة، وبهيمة الأنعام، والله ولي التوفيق.
__________
(1) النسائي الزكاة (2479) ، أبو داود الزكاة (1563) .
(2) أبو داود الزكاة (1564) .(80/72)
يجب إخراج زكاة الحلي منذ العلم بوجوبها
الأخت ل. ع. ع. من الهفوف في المملكة العربية السعودية، تقول في سؤالها: عندي قطع من الذهب منذ مدة طويلة وهي معدة للزينة(80/72)
وأحيانا أقوم ببيعها، ثم أضيف بعض المال على قيمتها وأشتري أحسن منها، والآن عندي بعض الحلي، وقد سمعت بوجوب الزكاة في الذهب المعد للزينة، فهل هذا صحيح؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هو الحكم في المدة الماضية التي لم أزك فيها؟ مع العلم أنني لا أستطيع أن أقدر ما عندي من ذهب طوال هذه المدة الطويلة. أفتونا أثابكم الله ووفقكم؟ .
ج: يجب عليك الزكاة منذ علمت وجوبها في الحلي، وأما ما مضى قبل ذلك من الأعوام قبل علمك، فليس عليك فيها زكاة، لأن الأحكام الشرعية إنما تلزم بعد العلم.
والواجب ربع العشر إذا بلغت الحلي النصاب وهو عشرون مثقالا، ومقداره بالجنيه السعودي أحد عشر جنيها ونصف الجنيه، فإذا بلغت الحلي من الذهب هذا المقدار أو ما هو أكثر منه. ففيها الزكاة في كل ألف خمسة وعشرون.
وأما الفضة فنصابها مائة وأربعون مثقالا ومقدارها من الفضة ستة وخمسون ريالا، أو ما يعادلها من العملة الورقية. والواجب في ذلك ربع العشر كالذهب.
وأما الماس والأحجار الأخرى فليس فيها زكاة إذا كانت للبس.(80/73)
أما إن كانت للتجارة ففيها الزكاة على حسب قيمتها مثل الذهب والفضة إذا بلغت النصاب. والله ولي التوفيق.(80/74)
س: امرأة كان لديها ذهب، ولم تزك عنه لجهلها بحكم الزكاة، وحاليا قد باعت الذهب، وبعد معرفتها لحكم الزكاة ووجوبها زكت ما عندها من ذهب، فهل هي آثمة لذلك؟ وهل عليها زكاة لذهبها السابق؟ وإذا كان كذلك فكيف تزكيه وهي تجهل مقدار نصابه، أفيدونا مأجورين؟ (1) .
ج: عليها الزكاة عن حليها من حين علمت على القول الصحيح، أما المدة السابقة التي لم تعلم فيها الحكم الشرعي فلا شيء عليها. وفق الله الجميع.
__________
(1) نشر في (مجلة الدعوة) ، العدد (1638) بتاريخ 26 / 12 / 1418هـ.(80/74)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: سائلة من مصر تقول: هل يجوز للمرأة الحائض أن تقرأ بعض الكتب والكتيبات الدينية التي يوجد فيها بعض آيات القرآن الكريم، وما الحكم فيما إذا قرأت بالمصحف وهي حائض بدون لمسه وهي تقرأ بالنظر فقط؟
الجواب: قراءة الحائض للكتيبات أو الكتب العلمية وإن كان في بعض صفحاتها آيات من القرآن لا بأس بذلك، لأن هذه القراءة لم تكن الآيات المقصودة بالتلاوة إنما المقصود قراءة الكتاب ومرور هذه الآيات في ضمن القراءة وأنت حائض لا يؤثر – إن شاء الله – وفي سؤالها الثاني تقول: هل للحائض أن تقرأ القرآن في المصحف من غير أن تمسه وإنما مجرد نظر إليه وقراءة فيه من غير ملامسة للمصحف.
نقول أيضا: لا مانع من ذلك أن تضع المصحف وتنظر إليه وتقلب أوراقه بحائل بينه وبين يدها، فإن ذلك لا بأس به إن شاء الله؛ لأن مدة الحائض تطول غالبا؛ ولأن رفع حدثها ليس بيدها.(80/75)
س: سائلة تقول: ذهبت إلى مكة المكرمة وأديت العمرة وبعد أداء العمرة وخروجي من الحرم أتتني الدورة الشهرية فهل علي من إثم إذا دخلت الحرم؟ أفتوني جزاكم الله خيرا.
الجواب: الزمي بيتك وادعي الله ولا تدخلي المسجد فإنك ممنوعة من دخوله وأنت في العادة الشهرية.(80/76)
س: ما حكم من أخذ من لحيته أو حلقها بالكلية؟ جزاكم الله خيرا.
الجواب: إبقاء اللحية وتوفيرها وعدم التعرض لها سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا ربنا عز وجل أن نقتدي به ونتأسى به في قوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) فنحن مأمورون بالتمسك بالسنة والعمل بها ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان يوفر لحيته وهذا هدي أنبياء الله قبله {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (2) ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المجوس، قصوا الشوارب، وأرخوا اللحى (3) » وقال لوفد كسرى لما
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2) سورة الأنعام الآية 90
(3) مسلم الطهارة (260) ، أحمد (2/366) .(80/76)
رآه حالقا لحيته موفرا شاربه «من أمرك بهذا؟ قال: ربي كسرى، قال: بل أمرني ربي أن أقص شاربي وأوفر لحيتي» ، هذا هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبهذا يعلم أن الأخذ من اللحية أو حلقها مخالف للسنة مصادم لها، فليحذر المسلمون ذلك، وليتأدبوا بآداب سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ففي سنة نبيهم الخير والهدى والصلاح.
وأسوأ من الحلق وأقبح منه من يسخر باللحية وببقائها وينظر إليها شزرا (1) ويراها نقصا وعيبا، فإن هذا يخشى عليه من أن يقع في أمر عظيم؛ لأن من استهزأ بالسنة، فقد استهزأ بصاحبها صلى الله عليه وسلم، ومن سخر بها؛ فقد سخر بصاحبها صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، وأحسنهم خلقا، صلوات الله وسلامه عليه، والله تعالى يقول في حق المستهزئين: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (2) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (3) ، نعوذ بالله من الخذلان.
__________
(1) والمعنى أنه ينظر إليها نظرة فيها إعراض؛ احتقارا لها. راجع القاموس المحيط مادة (شزر) .
(2) سورة التوبة الآية 65
(3) سورة التوبة الآية 66(80/77)
س: يسأل فضيلتكم عن حلق اللحية هل يأثم من حلق لحيته لأنني سمعت من يقول إن السنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها؟
الجواب: حلق اللحية حرام وتوفير اللحية واجب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خالفوا المشركين؛ قصوا الشوارب، وأعفوا اللحى (1) » ، «خالفوا المجوس؛ قصوا الشوارب (2) » وفي رواية «خالفوا المشركين (3) » فالسنة إبقاء اللحية وعدم التعرض لها، وإذا عبر عن الواجب بالسنة فليس معناه أن الفعل والترك مستويان، لا بل حلقها موجب للإثم؛ لأنه مخالف لسنة محمد صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه مخالف لهديه وطريقه؛ لا أن المراد بالسنة هنا ما اصطلح عليه عند المتأخرين بأنه يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
__________
(1) مسلم الطهارة (259) .
(2) مسلم الطهارة (260) ، أحمد (2/366) .
(3) مسلم الطهارة (259) .(80/78)
س: ما حكم كل من تارك الصلاة وحالق اللحية وشارب السجائر والتمباك ومجالس أهل الفسوق؟
الجواب: أولا ترك الصلاة، لا يخلو تاركها إما أن يكون جاحدا لوجوبها منكرا لأصلها، فهذا كافر مرتد عن الإسلام بإجماع الأمة.
وإما أن يتركها تهاونا وكسلا مع اعترافه وإقراره بركنيها، فلا شك أنه على خطر عظيم، وقد جاءت الأحاديث تصفه بالكفر، والله قد أطلق الكفر على تارك الصلاة {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (1)
__________
(1) سورة التوبة الآية 11(80/78)
، دل على أن من لم يصل ليس أخا لنا في الدين، وفي قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (1) دليل على أن تاركي الصلاة لا يرفع القتال عنهم.
وقال سبحانه: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (2) {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (3) {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} (4) {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} (5) {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} (6) ، فجعل ترك الصلاة موجبا للدخول في النار نسأل الله العفو والعافية، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر (7) » فلا شك أن تاركها يوصف بالكفر، إلا أن جاحد وجوبها مجمع على خروجه من الإسلام، ومن تركها تهاونا بها فإنه يوصف بالكفر، وهو مرتكب إثما عظيما ويخشى عليه أن يلقى الله على غير الإسلام والعياذ بالله.
أما اللحية، فيجب إبقاؤها وإعفاؤها وعدم التعرض لها؛ لأن هذه هي سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المجوس؛ قصوا الشوارب، وأرخو اللحى (8) » .
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) سورة المدثر الآية 42
(3) سورة المدثر الآية 43
(4) سورة المدثر الآية 44
(5) سورة المدثر الآية 45
(6) سورة المدثر الآية 46
(7) الترمذي الإيمان (2621) ، النسائي الصلاة (463) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، أحمد (5/346) .
(8) مسلم الطهارة (260) ، أحمد (2/366) .(80/79)
أما الدخان، فإنه محرم؛ لما يشتمل عليه من الضرر، ولما يجلبه من المفاسد؛ ولأن صاحبه يلحق الضرر بنفسه فيجلب عليه أمراضا كثيرة، ويحصل بتعاطيه نقص على الإنسان في نفسه، فالطب الحديث كشف لنا من أضرار التدخين الأمر العظيم الذي لا يبقي شكا عند أي مسلم أن الشريعة محرمة له؛ لأنه ضار لا منفعة فيه، وهو من الخبائث التي أخبر الله عز وجل في كتابه أنه بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتحريمها: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (1) .
ومجالس أهل الفسوق على قسمين: فهناك من يجالسهم ليدعوهم إلى الله عز وجل، ويحاول إنقاذهم وتخليصهم عما هم فيه، لعل الله أن يفتح على قلوبهم ويهديهم على يديه، وهناك من يجالسهم مستسيغا لأفعالهم، لا يغار مما فعلوه من محارم الله عز وجل، ولا يصيبه حزن على ما اقترفوه، وإنما يجاملهم وإن كان يعلم أنهم على باطل. فإن هذا عاص لله ومرتكب خطأ عظيما، نسأل الله لنا ولكم العافية، يقول الله عز وجل في صفة عباده: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (2) ويقول سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (3) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة الفرقان الآية 72
(3) سورة الأنعام الآية 68(80/80)
س: هل استعمال السواك له فترة محددة بحيث إذا انتهى طعم المادة اللاذعة الموجودة به ينتهي استعماله؟ أم يجوز للمسلم أن يستعمله حتى مع عدم وجود هذه المادة ويحصل له نفس الفائدة والأجر؟
الجواب: لا نحفظ في هذا شيئا. والذي يظهر أنه مشروع ما دام ذلك العود يمكن الاستياك به ويحصل به تطهير الفم، لحديث «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب (1) » .
__________
(1) النسائي الطهارة (5) ، أحمد (6/238) ، الدارمي الطهارة (684) .(80/81)
س: إذا اغتسل الرجل لتنظيف جسمه فهل يكفيه هذا الغسل عن الوضوء للصلاة أم لا بد من الوضوء بعد انتهاء الاستحمام؟
الجواب: إذا أراد الإنسان الغسل للتبرد والتنظيف فإن نوى بهذا الغسل أيضا الوضوء الشرعي وتمضمض واستنشق معه فإنه مجزئ.(80/81)
س: سائلة تقول: إذا كان زوجي يصلي ولكن لا يحرص على أداء الصلاة في وقتها بل قد يذهب للمسجد متأخرا جدا بالرغم من سماعه الإقامة وينام عن صلاة الفجر ويطلق لنظره العنان فيما حرم الله، وإذا نصح قال: إن الله غفور رحيم، ومع ذلك فإنه يطلب من(80/81)
والدته الدعاء له بالهداية ويقرأ القرآن، والمذياع لديه مفتوح دائما على إذاعة القرآن الكريم، فهل مثل هذا الشخص تجوز مؤاكلته ومجالسته؟
الجواب: أولا إذا كان دائما يخل بحضور صلاة الجماعة ويترك أداء الصلاة جماعة فهو آثم، أما إن كان يخرج للمسجد قاصدا الصلاة في الجماعة، ثم لا يدركها، وقد قصد إتيانها، فهذا على خير، وإن نقص ثوابه، لكن أوصي الأخ بأن يحافظ على الصلوات في أوقاتها، وأن يحافظ عليها جماعة في المسجد، فيحرص على التبكير للصلاة حتى يدركها مع الجماعة، أما كونه يؤخر صلاة الفجر ويصليها بعد خروج وقتها، فقد أثم بذلك، وارتكب كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن تأخير الصلاة عن وقتها بلا عذر شرعي من كبائر الذنوب، قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (1) ، فسر بعض السلف قوله تعالى: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} (2) أن الإضاعة هنا فعلها بعد خروج وقتها، فإن فعلها بعد خروج وقتها لغير عذر شرعي، يرى بعض العلماء أنه يكفر بهذا الفعل، فالواجب على المسلم أن يحرص على أداء الصلاة في أوقاتها، وأن يهتم بالوقت فإن الوقت مقدم على الطهارة، وعلى كل شروط
__________
(1) سورة مريم الآية 59
(2) سورة مريم الآية 59(80/82)
الصلاة، فالوقت مهم لأداء الفريضة، ويحرص المسلم على أدائها جماعة.
أما ما تذكرون عنه، من أنه يطلق نظره في الحرام، فالواجب عليه أن يتوب إلى الله ويغض بصره ويحصن فرجه {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} (1) فإن النظر سهم من سهام إبليس، من تركه مخافة لله؛ أورثه الله حلاوة الإيمان في قلبه، فيجب على المسلم أن يغض بصره، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي لما سأله عن نظر الفجأة: «اصرف بصرك، فإن لك الأولى، وليست لك الثانية (2) » .
وأما قول هذا الزوج: إن الله غفور رحيم بعدما يفعل المعاصي ويصر عليها، فهذا لا شك أنه استدلال في غير محله، فالله غفور لمن تاب إليه وأناب: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (3) ، أما أن يستمر على المعصية، ثم يقول: الله غفور رحيم، فهذا استدلال في غير محله، وهذا من تزيين الشيطان له، يزين له المعاصي والشرور، ثم يقول له: الله غفور رحيم، لا شك أن الله غفور رحيم، وأنه قوي شديد العقاب {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) فمغفرة الله عز وجل
__________
(1) سورة النور الآية 30
(2) مسلم الآداب (2159) ، الترمذي الأدب (2776) ، أبو داود النكاح (2148) ، أحمد (4/361) ، الدارمي الاستئذان (2643) .
(3) سورة طه الآية 82
(4) سورة المائدة الآية 98(80/83)
لمن طلبها وتعرض لأسبابها، أما من أعرض عنها، وأتى بما يناقضها ويخالف مقتضاها، فإنه مستحق للعقاب، وهذا من عدل الله جل وعلا.
وكونه يقرأ القرآن ويسمعه في المذياع ويطلب من أمه أن تدعو له بالهداية فهذه أمارة خير، إن أتبع ذلك بالعمل الصالح، وإلا كان ما يقرؤه ويسمعه حجة عليه يوم القيامة. وأرجو من أمه أن تدعو له، وأن تلح على الله بأن يشرح صدره وينير قلبه ويرزقه الإقبال على الله، ويهديه للمحافظة على الصلوات في أوقاتها، وأن يغض بصره، وأن يكف عما حرم الله عليه، وينبغي على المسلمين إذا رأوا من أخيهم خيرا وشرا ألا يجعلوا ما يرونه من شر سببا لبغضهم، وكراهيتهم له؛ بل يحرصون عليه وعلى هدايته، فما دام فيه سبب خير فاغتنموا ذلك السبب لعل الله أن يوفقه في كل أحواله لما يحب ويرضى.(80/84)
س: سائلة من المدينة المنورة تقول: تزوجت منذ خمس سنوات ولدي أطفال. وقبل الزواج كنت لا أصلي لأني لم أر أحدا من الأسرة يحثني على الصلاة، وبعد الزواج رأيت أن من الواجب علي أن أصلي، فصليت فترة، وانقطعت عن الصلاة فترة، والآن أحمد الله، فقد داومت على الصلاة، فهل يجب علي إعادة عقد النكاح مع زوجي أم لا؟
الجواب: يا أختي احمدي الله الذي من عليك بالمحافظة على(80/84)
الصلوات ورزقك المحافظة عليها، والقيام بها، واستمري على زواجك وأكثري من نوافل العبادة، فعسى الله أن يغفر ما مضى. ولا شك أن الأبناء والبنات يتأثرون بواقع بيتهم؛ فالصغار من ذكور وإناث ينشؤون في الغالب على وفق ما رباهم عليه الآباء والأمهات بالقول أو بالقدوة، فالابن إذا رأى أباه يصلي ويهتم بالصلاة ويأمر أبناءه بالصلاة ينشأ هذا الابن محبا للصلاة، معظما لها في الغالب بتوفيق من الله، والبنت إذا رأت أمها تصلي وتحافظ على الصلاة وتحافظ على أوقاتها، فإنها في الغالب تنشأ على هذا الخلق.
وينشأ ناشئ الفتيان فينا ... على ما كان عوده أبوه
وخير من هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه. . . (1) » الحديث.
فالآباء والأمهات قدوة حسنة للبنين والبنات، أو قدوة سيئة والعياذ بالله للبنين والبنات، فاهتموا أيها الآباء والأمهات، اهتموا بتربية البنين والبنات، حافظوا على الصلوات، وأظهروا الاهتمام بها ومروا أولادكم بها لقول الله عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (2)
__________
(1) البخاري الجنائز (1292) ، مسلم القدر (2658) ، الترمذي القدر (2138) ، أبو داود السنة (4714) ، أحمد (2/315) ، مالك الجنائز (569) .
(2) سورة طه الآية 132(80/85)
والزموا طاعة الله، وحافظوا على الواجبات، وامتنعوا عن المحرمات حتى لو قدر أنك مبتلى بشيء من المعاصي، أسأل الله لي ولك العافية، فلا تحاول ممارستها أمام البنين والبنات، حتى لا تهون المعصية في نفوسهم، ولا يستهينوا بها، فعظم أوامر الله ونواهيه أمامهم عسى أن ينشؤوا على خير، ويكون لك الأجر والثواب في توجيههم وتربيتهم، ففي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى خير كان له مثله» ، وفي لفظ: «من دعا إلى خير كان له مثل أجور من عمل به إلى يوم القيامة» ، فأنتم أيها الآباء والأمهات مسؤولون عن تربية الأبناء والبنات بالأمر بالخير، والقدوة الحسنة، وأسأل الله للجميع التوفيق والهداية.(80/86)
من فتاوى اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء
فتوى رقم (2703)
س: هل تجوز الصلاة في النعال وبالأحرى ما يسمى الزنوبة، وذلك في المسجد وعلى البساط، ويقابل بها وجوه إخوانه المصلين؟
ج: من السنة أن يصلي الرجل بنعليه إذا كانتا طاهرتين، والأصل ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سلمة سعيد بن زيد قال: «سألت أنسا: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم (1) » . وما رواه أبو داود عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم (2) » . لكن إذا كانت النعال زنوبة أو غيرها فيها شيء من الأوساخ والرطوبة، التي تؤذي المصلين وتوسخ الفرش فينبغي
__________
(1) رواه أحمد 3 / 100 والبخاري 1 / 102 كتاب الصلاة باب الصلاة في النعال ومسلم 1 / 391 كتاب المساجد، باب جواز الصلاة في النعلين، والترمذي 2 / 249 كتاب الصلاة باب ما جاء في الصلاة في النعال، والنسائي 2 / 74 كتاب القبلة باب الصلاة في النعلين.
(2) أبو داود الصلاة (652) .(80/87)
لصاحبها أن يحملها في يديه حتى يضعها في مكان مناسب لا يحصل به أذى لأحد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(80/88)
من الفتوى رقم (10494)
السؤال الثاني: ما حكم دخول المسجد بالحذاء (البسطار) خاصة وأن العسكريين يتطلب عملهم لبس الحذاء دائما، علما بأن المساجد مفروشة؟
ج: يجوز دخول المسجد بالحذاء والصلاة به، إذا كان طاهرا مع مراعاة العناية به عند دخول المسجد حتى لا يكون به أذى. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(80/88)
من الفتوى رقم (1813)
السؤال الثاني: ما حكم الصلاة بالنعال مع ذكر الأدلة، فإن بعض إخواننا أجازها ومنهم من منعها، ويرى أن الصلاة بالنعال إنما تكون في الخلاء في الأرض التي تشرق عليها الشمس، أما الأراضي غير المكشوفة للشمس فيحتمل أن تكون لها نجاسة؟
ج: الأحاديث الصحيحة تدل على استحباب الصلاة في النعلين، أو إباحية ذلك على الأقل، فمن ذلك أن أنس بن مالك رضي الله عنه سئل: «أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم (1) » رواه أحمد والبخاري ومسلم.
ومن ذلك أيضا أن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم (2) » رواه أبو داود.
ولم تفرق الأحاديث بين الصلاة بالنعلين في المسجد المسقوف والصلاة بهما في غيره من صحراء ومزارع وبيوت ونحوها، بل ذكر في بعضها الصلاة بهما في المسجد، من ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما (3) » ومن ذلك ما أخرجه أبو داود أيضا
__________
(1) البخاري الصلاة (379) ، مسلم المساجد ومواضع الصلاة (555) ، الترمذي الصلاة (400) ، النسائي القبلة (775) ، أحمد (3/189) ، الدارمي الصلاة (1377) .
(2) أبو داود الصلاة (652) .
(3) أخرجه أحمد 3 / 92، وأبو داود 1 / 175 كتاب الصلاة باب الصلاة في النعل.(80/89)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذ بهما أحدا ليجعلهما بين رجليه أو ليصل فيهما (1) » ، وقد قال العراقي رحمه الله في هذا الحديث صحيح الإسناد، وما أخرجه أبو داود أيضا، وأحمد وابن ماجه بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافيا ومنتعلا (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أخرجه أبو داود 1 / 176 كتاب الصلاة، باب المصلي إذا خلع نعليه أين يضعهما.
(2) أبو داود الصلاة (653) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1038) ، أحمد (2/206) .(80/90)
من الفتوى رقم (1319)
السؤال الأول: ما هو المسجد لغة وشرعا؟
ج: المسجد لغة: موضع السجود، وشرعا: كل ما أعد ليؤدي فيه المسلمون الصلوات الخمس جماعة، وقد يطلق على ما هو أعم من هذا، فيدخل فيه ما يتخذه الإنسان في بيته ليصلي النافلة، أو ليصلي فيه(80/90)
الفريضة عند وجود مانع شرعي يمنعه من أدائها جماعة في المسجد الذي يقيم الناس فيه الجماعة، ومن ذلك ما رواه البخاري وغيره عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل. . (1) » .
__________
(1) أخرجه أحمد 3 / 304، والبخاري 1 / 87 كتاب التيمم، ومسلم 1 / 370 كتاب المساجد، باب في مواضع الصلاة، والنسائي 1 / 209 كتاب الغسل والتيمم، باب التيمم بالصعيد، والترمذي 4 / 104 كتاب السير، باب ما جاء في الغنيمة.(80/91)
السؤال الثاني: ما هي حدود المسجد المعتبرة شرعا، وهل تعتبر الشوارع المجاورة للمسجد تابعة للمسجد تصح فيها صلاة الجمعة عند ضيق المسجد لكثرة الناس مع أنه توجد مساجد أخرى لم تمتلئ بالمصلين؟
ج: حدود المسجد الذي أعد ليصلي فيه المسلمون الصلوات الخمس جماعة هي ما أحاط به من بناء أو أخشاب أو جريد أو قصب أو نحو ذلك، وهذا هو الذي يعطي حكم المسجد من منع الحائض والنفساء والجنب ونحوهم من المكوث فيه، ويجوز لمن جاء إلى المسجد وقد ضاق بالمصلين أن يصلي خارج المسجد الجمعة وغيرها من الفرائض والنوافل في أقرب مكان إلى المسجد من الطريق المجاور له(80/91)
ما دام يضبط بصلاة إمامه للحاجة إلى ذلك، بشرط ألا يكون أمام الإمام، لكن لا يكون لها حكم المسجد. والله أعلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(80/92)
من الفتوى رقم (1127)
السؤال الأول: أنا من قرية باليمن لا تزال تعيش في جهل شديد وبها خمسون رجلا تقريبا ولا يوجد بها مسجد ولا مدرسة، والأولاد يزيدون فيها، وأريد أن أبني مسجدا لله، فأرجو إرشادي إلى ما فيه الخير لي ولهم من الخطب المتفقة مع الكتاب والسنة للجمع والأعياد والخسوف والكسوف، ومن كتب السنة النبوية ونحو ذلك.
ج: بناء المساجد من أعمال البر والخير، فإن من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة، فاحرص أيها الأخ الكريم على تنفيذ ما عزمت عليه ما دمت قادرا على تنفيذه، وأخلص النية لله في ذلك، وتخير أنسب المواضع من البلد لبناء المسجد، وتعاون مع أهل الخبرة في القبلة على تحديد قبلته، واختر له إماما يحسن تلاوة القرآن والصلاة.(80/92)
متفقها في دينه بقدر الإمكان عسى أن يتولى تحفيظ الأولاد القرآن ومن يرغب من الرجال ويفقههم في أمور دينهم.
وأما الكتب فمن أحسنها وأنسبها لكم كتاب (رياض الصالحين) للنووي، وكتاب (التوحيد) و (كشف الشبهات) و (ثلاثة الأصول) للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتاب (تطهير الاعتقاد) للعلامة الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني، وكتاب (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) لابن القيم، و (تفسير ابن كثير) وكتاب (بلوغ المرام) لابن حجر وشرحه (سبل السلام) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(80/93)
من الفتوى رقم (3543)
السؤال الثامن: إذا عمر مسجد في القرية فهل الصلاة في المسجد القديم أفضل أم في المسجد الجديد؟
ج: تفضيل الصلاة في أحد المسجدين على الآخر يختلف باختلاف القرب والبعد وكثرة الجماعة وقلتها ونية المصلي، إلى غير(80/93)
ذلك من وجوه التفضيل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(80/94)
من الفتوى رقم (6267)
السؤال الرابع: هل ثواب الصلاة في مكة كلها مضاعف مثل الصلاة في المسجد الحرام نفسه. وهل العقاب على المعاصي مضاعف في مكة كما يضاعف الثواب على الحسنات؟
ج: أ- في المسألة خلاف بين أهل العلم، والأرجح أن المضاعفة للثواب تعم الحرم كله؛ لأنه كله يطلق عليه المسجد الحرام في القرآن والسنة.
ب: أما السيئات فلا تضاعف عددا لا في الحرم ولا غيره وإنما تضاعف من جهة الكيفية، وذلك باختلاف شدة الإثم وعظم الجريمة بسبب الزمان والمكان في رمضان والحرم الشريف والمدينة المنورة وأشباه ذلك؛ لقول الله سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} (1)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 160(80/94)
وللأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(80/95)
فتوى رقم (3102)
س: نفيدكم أن في أوقات شهر رمضان تحتاج الأمة إلى السفر لأداء العمرة وغيرها أفيدونا: هل الأفضل الصوم، أم الإفطار للصائم المسافر للعمرة، وأملي من الله، ثم من سماحتكم، الإفادة مفصلا عن ذلك مع الإفادة أيضا عما يلي: أيها أفضل للمعتمر، أن يصلي ما استطاع من الفرائض بعد إنهاء أعمال العمرة، أم يسافر مباشرة بمجرد انتهاء عمرته؟
ج: أولا: السنة في حق من سافر إلى العمرة في شهر رمضان أن يفطر؛ لأن الله رخص له في ذلك، والله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته، فإن صام فلا حرج.(80/95)
ثانيا: لا شك أن الإقامة بمكة للصلاة فيها أفضل لمن تيسر له ذلك؛ لأن الصلاة في المسجد الحرام تضاعف بمائة ألف صلاة، وإن سافر بعد فراغه من العمرة فلا حرج في ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(80/96)
من الفتوى رقم (1559)
السؤال الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة (1) » هل يختص بحدود مسجده التي كانت في عهده، أو يعم المبنى الحالي؟
ج: مسجده صلى الله عليه وسلم كان أصغر مما هو اليوم، لكن زاد فيه الخلفاء الراشدون ومن بعدهم، وحكم الزيادة حكم المزيد عليه في جميع الأحكام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) البخاري الجمعة (1133) ، مسلم الحج (1394) ، الترمذي الصلاة (325) ، النسائي مناسك الحج (2899) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1404) ، أحمد (2/485) ، مالك النداء للصلاة (461) .(80/96)
من الفتوى رقم (2021)
السؤال الخامس: هل الصلاة في توسعة المسجد النبوي تحت المظلات تعتبر كالصلاة داخل المسجد النبوي؟
ج: الأماكن التي تدخل في المساجد عند التوسعة تعطى بعد دخولها فيها أحكام المساجد، وعلى هذا يعتبر ما زيد في المسجد النبوي وأدخل فيه من المسجد النبوي، وتجري عليه أحكامه من مضاعفة الأجر وغيرها من الأحكام وإن كان الأجر يتفاوت بتفاوت أداء الصلاة في الصف الأول عن أدائها في الصف الثاني وهكذا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(80/97)
من الفتوى رقم (5611)
السؤال الأول: ما هو المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم؟
ج: المراد به في الآية الكريمة من سورة التوبة المسجد النبوي، على(80/97)
الصحيح من قولي العلماء، وقيل مسجد قباء، وكلاهما أسس على التقوى.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(80/98)
فتوى رقم (5387)
س: هل المسجد الأقصى حرم مثل المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف ومن الذي بناه؟
ج: أولا: لا نعلم دليلا يدل أن المسجد الأقصى حرم مثل المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، نعم ثبتت شرعية شد الرحل إليه وفضل الصلاة فيه، والذي يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى (1) » ، خرجه مالك والبخاري ومسلم من
__________
(1) أخرجه أحمد 2 / 232 والبخاري 2 / 76 كتاب مسجد مكة باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، ومسلم 2 / 1014 كتاب الحج باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وأبو داود 2 / 216 كتاب المناسك باب في إتيان المدينة، والترمذي 2 / 148 كتاب الصلاة باب ما جاء في أي المساجد أفضل والنسائي 2 / 37 كتاب المساجد، باب ما تشد الرحال إليه من المساجد، وابن ماجه 1 / 452 كتاب إقامة الصلاة باب ما جاء في الصلاة في مسجد بيت المقدس.(80/98)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا لفظ مسلم.
وأما الدليل على فضل الصلاة فيه، فما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، وصلاة في مسجدي بألف صلاة، وفي بيت المقدس خمسمائة صلاة (1) » .
ثانيا: اختلف في من بنى المسجد الأقصى، فقيل: نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وهو أشبه، وقيل: سليمان، والصحيح أن بناء سليمان تجديد لا تأسيس؛ لأن بينه وبين إبراهيم أزمانا كثيرة أكثر من أربعين؛ كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في أرض أولا؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال:
__________
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 8 / 80، 81. وأخرج البخاري 2 / 76 كتاب مسجد مكة باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، ومسلم 2 / 1012 كتاب الحج باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة - حديث: '' صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ''. وأخرج أحمد 3 / 343 وابن ماجه 1 / 451 كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام حديث: '' صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه ''. وأخرج أحمد 2 / 278 حديث: '' صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الأقصى ''.(80/99)
أربعون سنة، وأينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد (1) » . وفي حديث أبي كامل: «ثم حيثما أدركتك الصلاة فصله فإنه مسجد (2) » .
وأخرج النسائي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن سليمان بن داود عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثة: سأل الله حكما يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله عز وجل ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه (3) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) البخاري أحاديث الأنبياء (3186) ، مسلم المساجد ومواضع الصلاة (520) ، النسائي المساجد (690) ، ابن ماجه المساجد والجماعات (753) ، أحمد (5/156) .
(2) أخرجه أحمد 5 / 105، والبخاري 4 / 197 كتاب الأنبياء باب قول الله تعالى: (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب) ، ومسلم 1 / 370 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، والنسائي 2 / 32 كتاب المساجد باب ذكر أي مسجد وضع أولا، وابن ماجه 1 / 248 كتاب المساجد باب أي مسجد وضع أولا.
(3) أخرجه أحمد 2 / 176، والنسائي 2 / 34 كتاب المساجد باب فضل المسجد الأقصى والصلاة فيه.(80/100)
القرآن يهدي للتي هي أقوم
لمعالي الدكتور/ محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد:
فقد ختم ابن كثير رحمه الله (700 - 774 هـ) تفسيره بفضائل القرآن، وهو ذيل التفسير، متمما له، في طبعة البابي الحلبي بمصر، التي قوبلت على عدة نسخ خطية، بدار الكتب المصرية، وصححها نخبة من العلماء.
حيث قال: وجدنا هذا الذيل، في آخر النسخة المكية الوحيدة، والمقابلة على نسخة المؤلف، ولكنه غير موجود في النسخة المطبوعة، بمطبعة بولاق وتقع هذه الفضائل في 58 صفحة، ولكنها غير متوفرة في جميع الطبعات.
وإن كان كثير من المفسرين، يذكرون فضائل القرآن باختصار، عند مرورهم ببعض الآيات الكريمات، مثل هذه الآية في سورة الإسراء: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (1) {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (2) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة الإسراء الآية 10(80/101)
فقد قال ابن الجوزي (508 - 597 هـ) في تفسيره: قال ابن الأنباري: للتي وصف للجمع، والمعنى: يهدي إلى الخصال التي هي أقوم الخصال. قال المفسرون: وهي توحيد الله والإيمان به، وبرسله والعمل بطاعته، {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ} (1) أي بأن لهم {أَجْرًا} (2) وهو الجنة {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} (3) أي: ويبشرهم بالعذاب لأعدائهم، وذلك أن المؤمنين كانوا في أذى من المشركين، فعجل الله لهم البشرى في الدنيا بعقاب الكافرين.
ويقول الشيخ محمد المكي الناصري في إملائه: وانتقل كتاب الله إلى الحديث عن الميزة الخاصة التي امتاز بها القرآن الكريم: وأنه اشتمل على لب الدين الصحيح، وجوهره الكامل، وعلى شريعة الله الفاضلة، في أسمى أطوارها، وأنه بعد نزوله لم تبق هناك طريقة أقوم من طريقته، ولا شريعة أفضل من شريعته، فهو الحري والأحق بالاتباع من جميع الشيع والأتباع وذلك ما يشير إليه قوله تعالى، وفي
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة الإسراء الآية 10(80/102)
إيجاز وإعجاز: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) أي يهدي للعقيدة التي هي أقوم، والشريعة التي هي أقوم، والحياة التي هي أقوم.
ويقول أبو السعود (900 - 982 هـ) في تفسيره: بعد أن جعل لتفسير هذه الآية الكريمة عنوانا بارزا هو: (القرآن هدى العالم) ثم قال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ} (2) الذي آتيناكه {يَهْدِي} (3) أي الناس كافة لا فرقة مخصوصة منهم، كدأب الكتاب الذي آتيناه موسى {لِلَّتِي} (4) الطريقة التي {هِيَ أَقْوَمُ} (5) أي أقوم الطرائق وأسدها، أعني ملة الإسلام والتوحيد، وترك ذكرها ليس لقصد التعميم لها، وللحالة والخصلة ونحوها، مما يعبر به عن المقصد المذكور، بل للإيذان بالغنى عن التصريح بها، لغاية ظهورها، لا سيما بعد ذكر الهداية التي هي من روادفها، والمراد بهدايته لها، كونه بحيث يهتدي إليها من يتمسك به، لا تحصيل الاهتداء بالفعل، فإنه مخصوص بالمؤمنين حينئذ {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} (6) بما في تضاعيفه من الأحكام، والشرائع. وقرئ بالتخفيف {الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} (7) التي شرعت فيه {أَنَّ لَهُمْ} (8) أي: بأن لهم بمقابلة تلك الأعمال {أَجْرًا كَبِيرًا} (9) بحسب الذات، وبحسب التضعيف
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة الإسراء الآية 9
(4) سورة الإسراء الآية 9
(5) سورة الإسراء الآية 9
(6) سورة الإسراء الآية 9
(7) سورة الإسراء الآية 9
(8) سورة الإسراء الآية 9
(9) سورة الإسراء الآية 9(80/103)
عشر مرات فصاعدا (1) .
أما في السنة النبوية، فقد وردت أحاديث عديدة في فضل القرآن بصفة عامة، وفي فضل سور منه أو أحاديث خاصة، ففي موطن الهداية، والمخرج من الفتن، أورد ابن الأثير، في كتابه: (جامع الأصول في أحاديث الرسول) عن الحارث بن عبد الله الهمداني - الأعور - قال: «مررت في المسجد، فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي رضي الله عنه، فأخبرته فقال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا إنها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا:
__________
(1) تفسير أبي السعود: إرشاد العقل السليم، إلى مزايا الكتاب الكريم 3 / 427.(80/104)
من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، خذها إليك يا أعور (3) » .
كما جاءت أحاديث كثيرة في فضل سور من القرآن العظيم، نأخذ من ذلك حديثا واحدا، في فضل سورة الفاتحة، فقد حدث أبو هريرة، رضي الله عنه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على أبي بن كعب وهو يصلي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبي، فالتفت أبي ولم يجبه، وصلى وخفف، ثم انصرف، فقال: السلام عليك يا رسول الله، قال: وعليك السلام، ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ قال: كنت في صلاة، قال: أفلم تجد فيما أوحي إلي أن قال أبي (5) : لا أعود إن شاء الله، قال: تحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة،
__________
(1) جامع الأصول 8 / 461 - 462 رواه الترمذي برقم 2908 في ثواب القرآن: باب في فضل القرآن، ورواه أيضا الدارمي برقم 2 / 435، ورواه أحمد في المسند برقم 704.
(2) سورة الجن الآية 1 (1) {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}
(3) سورة الجن الآية 2 (2) {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}
(4) أخرجه البخاري في ثواب القرآن برقم 2878، باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب.
(5) سورة الأنفال الآية 24 (4) {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(80/105)
ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها؟ قال: نعم، قال: كيف تقرأ في الصلاة؟ قال: فقرأ أم القرآن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، ما أنزل الله في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها، وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم، الذي أعطيته» .
كما ذكر ابن الأثير (544 - 606 هـ) أحاديث كثيرة، في فضل سور عديدة من كتاب الله، ووقعها في قلوب من يقرأ بتمعن، وتدبر (1) .
وعن الآيات، فقد جاءت أحاديث في فضل ومكانة آية الكرسي، فقد حدث أبو هريرة رضي الله عنه قال: «وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام فأخذته، وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج وعلي عيال، وبي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود،
__________
(1) ينظر جامع الأصول الجزء 8 ص 465 - 495.(80/106)
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصدته، فجاء يحثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: دعني، فإني محتاج وعلي عيال لا أعود. فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته، فخليت سبيله قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم لا تعود ثم تعود، فقال: دعني فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي حتى ختم الآية، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله. فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هر، ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولن يقربك شيطان حتى تصبح - وكان
__________
(1) أخرجه البخاري تعليقا 4 / 396 - 398 والحديث عند الحافظ في الفتح 4 / 398.
(2) سورة البقرة الآية 255 (1) {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}(80/107)
الصحابة أحرص شيء على الخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ قال: قلت: لا. قال: ذاك شيطان (1) » .
فالقرآن الكريم، قد فتح الله به عند سماعه، قلوبا من الجن والإنس، واستجابوا لنور الحق، وهداهم الله بالتمعن في دلالته وبلاغته، إلى طريق الخير والرشاد.
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والهداية إلى طريق الحق، نعمة كبيرة من الله على عباده يهبها لمن يشاء: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 255 (2) {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
(2) سورة القصص الآية 56(80/108)
وسوف نمر إن شاء الله بنماذج مما دل عليه القرآن الكريم فمن ذلك. . .
اليهود وهم أهل الكتاب، نذكر مثالا لذلك بثلاثة من علمائهم وكبرائهم فتح الله قلوبهم للتمعن في الحق، وآذانهم لسماع آيات من كتاب الله، بصرتهم بما في كتبهم من دعوتهم إلى الخير، وحث على حسن اتباع، وفق ما جاءهم من بشارة برسول يأتي من بعد عيسى(80/108)
اسمه أحمد، هو خاتم أنبياء الله وكتابه هو خير كتاب، والدين الذي جاء به، هو دين الله الخالد، إلى يوم القيامة.
ومن أراد الله له الخير، هيأ له سماع آيات من القرآن، فوجد فيها فتحا مبينا، ونورا أحيا الله به قلبه، فاستجاب لدعوة الرشاد، وطبق ما عرف من الوصف، على ما سمع من الحق وهم كثير على كر الأيام، ومر العصور.
لعل الله جلت قدرته أراد من هؤلاء الذين أوردناهم نموذجا - حتى لا يتشعب بنا الحديث - لأهل الكتاب، الذين عاندوا، وهم يعرفون الحق، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، كما يعرفون أبناءهم، لتقوم عليهم الحجة، يوم يحصل ما في الصدور.
مع عظم أجر من استجاب من أهل الكتاب، كما قال سبحانه عمن دخل الإسلام منهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} (1) {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (2) {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (3) .
وقد بين الدلالة بمكانة من دخل الإسلام من أهل الكتاب المفسرون، ومنهم ابن الجوزي، الذي شارك في تفسيره، على قول الله
__________
(1) سورة القصص الآية 52
(2) سورة القصص الآية 53
(3) سورة القصص الآية 54(80/109)
تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} (1) قائلا: في المشار إليه قولان: أحدهما: أنهم مؤمنو أهل الكتاب، وهذا قول الجمهور، وهو الظاهر، واستدل على ذلك، بحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به، واتبعه وصدقه، فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله تعالى، وحق سيده، فله أجران، ورجل كانت له أمة فغذاها، فأحسن غذاءها، ثم أدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران (2) » متفق عليه واللفظ لمسلم. وذكره السيوطي في الدر المنثور 5 / 133، وزاد نسبته لأحمد والترمذي، والنسائي وابن ماجه، وابن مردويه والبيهقي (3) .
ثم قال ابن الجوزي: وفيما صبروا عليه قولان:
أحدهما: أنهم صبروا على الكتاب الأول، وصبروا على اتباعهم محمدا، قاله قتادة، وابن زيد.
والثاني: أنهم صبروا على الإيمان بمحمد قبل أن يبعث، ثم على اتباعه حين بعث. . قاله الضحاك.
والقول الثاني: أنهم قوم من المشركين، أسلموا فكان قومهم يؤذونهم فصبروا على الأذى، قاله مجاهد (4) .
__________
(1) سورة القصص الآية 54
(2) البخاري النكاح (4795) ، مسلم الإيمان (154) ، الترمذي النكاح (1116) ، النسائي النكاح (3344) ، أبو داود النكاح (2053) ، ابن ماجه النكاح (1956) ، أحمد (4/414) ، الدارمي النكاح (2244) .
(3) زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 6 / 229 مع الحاشية.
(4) المصدر السابق.(80/110)
1 - وأول هؤلاء الثلاثة الذي دخل الإيمان قلبه، واستجاب للإسلام دينا خالصا لله: بصدق وإخلاص، فكان في إسلامه ممن تأثر ببعض المواقف، التي انفتحت لها العقول، قبل الأبصار، ووعاها الفؤاد قبل تلقفها بالآذان، إنه عبد الله بن سلام ( ... - 43 هـ) الذي كان من أحبار اليهود، فتحول إلى الخيرية في الإسلام، وكان هو وأمثاله ممن برأه الله من صفة الأنعام، من عدم الإدراك والفهم والغفلة، فسعدوا في دنياهم وأخراهم، بحسن النية والاتجاه إلى الله سبحانه وتعالى، والاستجابة لشرعه جل وعلا محبة وعقيدة، ثم عملا ودفاعا، ونرجو لأولهم وآخرهم الأجر من الله تعالى، حتى تتحقق العاقبة الحسنة في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
وعبد الله بن سلام، في طريقة إسلامه، وثباته على الحق، بعد ما عرفه، نموذج لكثير من الرجال الذين رفعهم الله بهذا الدين، ممن نزلت في قصة إسلامهم آيات كريمات، وهم بحمد الله كثير في تاريخ الإسلام، على مختلف العصور، وما يرصد من تاريخ بعضهم ففيه عبرة وقدوة، بل إن كثيرا من هؤلاء إذا انكشف أمره، خشي على لذة الإيمان أن ينطفئ نورها من قلبه، ولا يجاهر أو يحب الظهور، خوفا من مداخل الرياء، والعجب بالنفس، ولكنه يشكر الله، ويكثر من(80/111)
الخيرات عسى أن يبعثه ربه مع الفائزين، برضا الله يوم البعث والنشور.
ولما كان اليهود في المدينة، قد كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهروه العداء، وكتموا ما عرفوه عن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وما عندهم من الحق عنه، وعن رسالته، مما علمهم الله به على ألسنة أنبيائهم، وما جاء في كتبهم فقد أراد الله أن تكون فضيحتهم على رجل منهم، له ولوالده مكانة عندهم.
فقد ذكر قصة إسلامه، كل من كتب عن سيرته وهم لا يقلون عن عشرين مصدرا، ومنهم الذهبي في موسوعته في التراجم، فقال عنه: عبد الله بن سلام بن الحارث، الإمام الحبر، المشهود له بالجنة، أبو الحارث الإسرائيلي، حليف الأنصار، من خواص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان فيما بلغنا ممن: شهد فتح بيت المقدس، نقله الواقدي، وله إسلام قديم، بعد أن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهو من أحبار اليهود. ثم قال في مبدأ إسلامه:
قال عوف الأعرابي: حدثنا زرارة بن أوفى، عن عبد الله بن(80/112)
سلام، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، انجفل الناس عليه، وكنت فيمن انجفل، فلما رأيته عرفت، أن وجهه ليس كذابا - وهذا من فراسته رضي الله عنه - فكان أول شيء سمعته يقول: «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام (1) » .
وحتى يتوثق عبد الله عن صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أول لقاء حتى يقدم على الإسلام، بيقين ثابت، وقلب مطمئن. فقد أورد الذهبي رواية أخرى عن حميد عن أنس: «أن عبد الله بن سلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه، إلى المدينة فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمها إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول ما يأكل أهل الجنة؟ ومن أين يشبه الولد أباه وأمه؟
فقال: أخبرني بهن جبريل آنفا، قال عبد الله بن سلام: ذلك عدو اليهود من الملائكة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أول أشراط الساعة، فنار تخرج من المشرق، فتحشر الناس إلى المغرب، وأما ما يأكله أهل الجنة، فزيادة كبد حوت. وأما الشبه: فإذا سبق ماء الرجل، نزع إليه
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 5 / 451، والترمذي برقم 2487، وابن ماجه برقم 1334 وصححه الحاكم 3 / 13.
(2) سير أعلام النبلاء للذهبي ج 2 ص 414 - 415 الطبعة الثانية تحقيق شعيب الأرناؤوط 1402 هـ - 1982م.(80/113)
الولد، وإذا سبق ماء المرأة، نزع إليها، عندها قال عبد الله بن سلام: أشهد أنك رسول الله. . . ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي بهتوني، فأرسل إليهم، فسلهم عني.
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: أي رجل ابن سلام فيكم؟ قالوا: حبرنا وابن حبرنا، وعالمنا وابن عالمنا، قال أرأيتم إن أسلم تسلمون؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عليهم عبد الله بن سلام، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا، وجاهلنا وابن جاهلنا. فقال عبد الله: يا رسول الله ألم أخبرك أنهم قوم بهت (1) » .
وأما رواية ابن هشام فقد قال: قال ابن إسحاق: وكان من حديث عبد الله بن سلام، كما حدثني بعض أهله عنه، وعن إسلامه حين أسلم، وكان حبرا عالما قال: «لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه، الذي كنا نتوكف له، فكنت مسرا ذلك، صامتا عليه، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما نزل بقباء، في بني عمرو بن عوف، أقبل رجل حتى أخبر قومه بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت
__________
(1) جاء في بعض الروايات '' الحوت '' بالتعريف. (2)
(2) السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 163 - 164 الطبعة الثالثة تحقيق مصطفى السقا وزميله، عام 1391 هـ 1971 م نشر دار إحياء التراث بيروت لبنان.(80/114)
الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت. فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: خيبك الله، والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت!! .
فقلت لها: أي عمه، هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بعث بما بعث به.
فقالت: أي ابن أخي، أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ فقلت لها: نعم. فقالت: فذاك إذن.
قال: ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا. قال: وكنت كتمت إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إن يهود قوم بهت وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك، وتغيبني عنهم، ثم تسأله عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم، قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني.
قال عبد الله: فأدخلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض بيوته، ودخلوا على رسول الله، فكلموه وساءلوه، ثم قال لهم: أي رجل الحصين بن سلام فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا
__________
(1) يعني: نترقب ونتوقع. (2)
(2) البهت الباطل يعني أنهم يبهتون الإنسان بما ليس فيه. (1)(80/115)
وعالمنا. . . قال: فلما فرغوا من قولهم، خرجت عليهم، فقلت لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله، وأومن به، وأصدقه وأعرفه.
فقالوا: كذبت ثم وقعوا بي، فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور، قال: فأظهرت إسلامي، وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث، فحسن إسلامها (1) » .
وجاء في أسد الغابة لابن الأثير (555 - 636 هـ) : أن ابن سلا م من ولد يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وأورد (بسنده إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه (20 ق هـ - 18 هـ) لما حضره الموت، قيل له: يا أبا عبد الرحمن أوصنا، فقال: أجلسوني ثم قال: إن العلم والإيمان بمكانهما، من ابتغاهما وجدهما، فالتمسوا العلم عند أربعة رهط: عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام، الذي كان يهوديا فأسلم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه عاشر عشرة في
__________
(1) الحصين هو اسمه قبل الإسلام وقد غيره رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ: عبد الله. (2)(80/116)
الجنة، وأورد حكايته مع عثمان رضي الله عنه وهو محاصر قبل مقتله، عندما طلب منه أن يطرد الناس عنه، فخرج وتكلم معهم، وكان مما قال: ونزلت في آيات من كتاب الله عز وجل:
- نزل في: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (1) .
- ونزل في: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} (2) .
وقال ابن إسحاق نزلت في عبد الله بن سلام وغيره من يهود الذين أسلموا، في بيان فضلهم ومكانتهم بعدما هداهم الله للإسلام، وثبتوا على ذلك متحملين، حملة اليهود عليهم، وسمى من نزلت فيه، وسمى ثلاثة منهم، قال نزلت في هؤلاء هذه الآية: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (3) {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (4) .
__________
(1) سورة الرعد الآية 43
(2) سورة الأحقاف الآية 10
(3) سورة آل عمران الآية 113
(4) سورة آل عمران الآية 114(80/117)
فأما الآية الأولى الخاصة بعبد الله بن سلام، وهي قوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (1) ، فقد قال بعض المفسرين: إن الدلالة فيمن عنده علم الكتاب، بأنه عبد الله بن سلام رضي الله عنه، منهم مجاهد في تفسيره، فقد قال: أنبأنا عبد الرحمن، نا إبراهيم، نا آدم، نا ورقاء، عن ابن أبي نجيح: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (2) قال: هو عبد الله بن سلام.
وقال السيوطي (849 - 911 هـ) في تفسيره: أخرج ابن مردويه، من طريق عبد الملك بن عمير، عن جندب رضي الله عنه قال: جاء عبد الله بن سلام رضي الله عنه، حتى أخذ بعضادتي باب المسجد، ثم قال: أنشدكم بالله، أتعلمون أني أنا الذي أنزلت فيه {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (3) ، قالوا: اللهم نعم.
وقال أيضا: أخرج ابن سعد وابن أبي شيبة، وابن جرير وابن المنذر، عن مجاهد أنه كان يقرأ: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (4) قال: هو عبد الله بن سلام (5) .
__________
(1) سورة الرعد الآية 43
(2) سورة الرعد الآية 43
(3) سورة الرعد الآية 43
(4) سورة الرعد الآية 43
(5) الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 4 / 668 نشر دار الفكر بيروت لبنان 1413 هـ - 1993م.(80/118)
وابن كثير (700 - 774 هـ) جمع بين الرأيين فقال: عبد الله بن سلام، أول من أسلم من علماء وأحبار اليهود، وجاء نقلا عن الحافظ أبي نعيم الأصبهاني (336 - 430 هـ) في كتاب (دلائل النبوة) وهو كتاب جليل، بالسند «عن محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه عن جده: عبد الله بن سلام، أنه قال لأحبار اليهود: إني أردت أن أحدث بمسجد أبينا إبراهيم، وإسماعيل عهدا، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة فوافاهم وقد انصرفوا من الحج، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمنى والناس حوله، فقام مع الناس، فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنت عبد الله بن سلام، قلت: نعم. قال: ادن. فدنوت منه، قال: أنشدك بالله يا عبد الله بن سلام، أما تجدني في التوراة: رسول الله؟ فقلت: انعت ربنا؟ قال فجاء جبريل حتى وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: إلى آخرها، فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ابن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. . . ثم انصرف ابن سلام إلى المدينة، فكتم إسلامه، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأنا فوق نخلة لي أجذها، فألقيت نفسي، فقالت أمي: لله أنت، لو كان موسى بن عمران، ما كان أن تلقي نفسك، من رأس النخلة،
__________
(1) تفسير ابن كثير: تفسير القرآن العظيم ج 2 ص 521 مطبعة البابي الحلبي بمصر.(80/119)
فقلت: والله لأنا أسر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، من موسى بن عمران (1) » .
وأما الآية الثانية التي قال رضي الله عنه: إنها نزلت فيه، فهي قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} (2) .
فقد جاء في تفسير العلامة أبي السعود (900 - 982 هـ) قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (3) ، وما بعده، من الفعلين، فإن الكل أمور محققة عندهم، وإنما مرادهم في أنها شهادة وإيمان بما، من عند الله تعالى.. {فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} (4) للدلالة على أنه سارع إلى الإيمان بالقرآن، لما علم أنه من عند الله، من جنس الوحي الناطق بالحق، وهو عبد الله بن سلام، لما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونظر في وجهه الكريم، فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر، فقال له: إني سائلك عن ثلاث. . . . ثم ذكر بقية القصة.
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1 (1) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
(2) سورة الأحقاف الآية 10
(3) سورة الأحقاف الآية 10
(4) سورة الأحقاف الآية 10(80/120)
أما ابن الجوزي (508 - 597 هـ) في تفسيره، فقد قال عندما مر بهذه الآية {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (1) فيه قولان: أحدهما أنه عبد الله بن سلام: رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن ومجاهد، وقتادة وابن زيد والضحاك.
والثاني: أنه موسى عليه السلام قاله الشعبي ومسروق، فعلى القول الأول، يكون المثل صلة، فيكون المعنى، وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه، أي على أنه من عند الله {فَآمَنَ} (2) الشاهد، وهو ابن سلام، {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} (3) يا معشر اليهود.
وعلى الثاني: يكون المعنى: وشهد شاهد هو موسى على التوراة، التي هي مثل القرآن أنها من عند الله، كما شهد محمد على القرآن أنه كلام الله {فَآمَنَ} (4) من آمن بموسى والتوراة {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} (5) ، أنتم يا معشر العرب، أن تؤمنوا بمحمد والقرآن.
وكتب التفسير كلها لم تخرج عن هذين الرأيين، إلا أن الترجيح، في دلالة الآية الكريمة، على عبد الله بن سلام، الذي زكاه الله سبحانه في القرآن الكريم، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة في موضعين من السنة: وبين فضله (6) .
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 10
(2) سورة الأحقاف الآية 10
(3) سورة الأحقاف الآية 10
(4) سورة الأحقاف الآية 10
(5) سورة الأحقاف الآية 10
(6) ينظر جامع الأصول لابن الأثير في فضائل عبد الله بن سلام ج 9 ص 81 - 85.(80/121)
«وما حدث به معاذ بن جبل رضي الله عنه، وهو في مرض الموت بما سمعه عن رسول الله صلى الله علمه وسلم، بأنه يلتمس العلم عند أربعة منهم: عبد الله بن سلام، الذي كان يهوديا فأسلم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمعه يقول: إن عبد الله بن سلام عاشر عشرة في الجنة (1) » .
أما الموطن الثالث من كتاب الله الكريم: القرآن العظيم، الذي جاء فيه تفضيل لمجموعة من أهل الكتاب سبقوا إلى الإسلام، وشهدوا شهادة الحق أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه تزكية لهم، فيبرز ذلك في قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (2) .
فقد قال محمد بن جرير الطبري (324 - 410 هـ) في تفسيره: يعني بقوله جل ثناؤه: {لَيْسُوا سَوَاءً} (3) ، لأن فيه ذكر الفريقين من أهل الكتاب، الذين ذكرهما الله في قوله: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) .
أهل الإيمان منهم والكفر سواء: يعني بذلك، أنهم غير متساويين.
__________
(1) أخرجه الترمذي عن يزيد بن عميرة رحمه الله برقم 3806 في باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه وإسناده حسن.
(2) سورة آل عمران الآية 113
(3) سورة آل عمران الآية 113
(4) سورة آل عمران الآية 110(80/122)
يقول: ليسوا متعادلين، ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد، والخير والشر، ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الفريقين عنده، فقال: {لَيْسُوا سَوَاءً} (1) أي ليس هؤلاء سواء، المؤمنون منهم والكافرون، ثم ابتدأ سبحانه الخبر عن صفة الفرقة المؤمنة من أهل الكتاب، ومدحهم وأثنى عليهم، بعكس ما جاء عن الفرقة الفاسقة منهم، بما وصفهم به من الهلع وتحمل خزي الدنيا، وفضيحة الآخرة. . . إلى أن قال: وقد نزلت الآيات الثلاث، في جماعة من اليهود أسلموا فحسن إسلامهم، وذكر في الحديث رقم 7644، الذي روي بالسند إلى ابن عباس قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، وممن أسلم من يهود معهم، فآمنوا وصدقوا إلى آخر الحديث.
ثم ذكر في الحديث 7647 بالسند إلى ابن جريج قال: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} (2) : عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سلام أخوه، وسعية ومبشر، وأسيد وأسد ابنا كعب، ليسوا سواء: أي لا يستوي أهل الكتاب، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 113
(2) سورة آل عمران الآية 113(80/123)
2 - أما الثاني فهو كعب الأحبار (000 - 32 هـ) ، الذي تحدث عنه الزركلي في قاموسه الأعلام، وأخذ ترجمته من عشرة مصادر، قال(80/123)
عنه، هو كعب بن ماتع بن ذي هجن الحميري، تابعي كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في اليمن، وأسلم في زمن أبي بكر، وقدم المدينة في دولة عمر، فأخذ عنه الصحابة وغيرهم، كثيرا من أخبار الأمم الغابرة، وأخذ هو من الكتاب والسنة عن الصحابة، وخرج إلى الشام، فسكن حمص، وتوفي فيها عن مائة وأربع سنين (104) (1) .
وفي قصة إسلامه يروي أبو نعيم أن سبب ذلك سماعه لآية من القرآن، عندما مر برجل يقرأ، فخاف من وعيد الله، فبادر للإسلام، عندما قال: إن كعبا قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه - وأسلم في ولايته - وذلك أنه مر برجل، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} (2) الآية.
فأسلم كعب ثم قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاستأذنه بعد ذلك في الغزو إلى الروم، فأذن له. فانتهى إلى راهب قد حبس نفسه في صومعة أربعين سنة، فناداه كعب فأشرف عليه الراهب فقال: من أنت؟ قال: أنا كعب الحبر، قال: قد سمعت بك، فما
__________
(1) الأعلام لخير الدين الزركلي ج 6 ص 85 الطبعة الثانية.
(2) سورة النساء الآية 47(80/124)
حاجتك؟ قال: جئت أسألك عن حالك، نشدتك بالله، هل حبست نفسك في هذه الصومعة، إلا لآية تجدها في التوراة؟ إن أصحاب رؤوس الصوامع البيض، هم خيار عباد الله، عند الله يوم القيامة!
قال: اللهم نعم، قال: فنشدتك بالله، هل تجد في الآية التي تتلوها، أنهم الشعث الغبر الذين أولادهم يتامى، لغيبة آبائهم، وليسوا يتامى، ونساؤهم أيامى لغيبة أزواجهن، ولسن بأيامى، أزودتهم على عواتقهم، تحملهم أرض، وتضعهم أخرى، يجاهدون في سبيل الله، هم خيار عباد الله؟
قال: اللهم نعم، قال كعب: فإن هذه ليست تلك الصوامع، إنما هي فساطيط أمة محمد عليه الصلاة والسلام، يغزون في سبيل الله، وليس هذه الصومعة التي حبست نفسك فيها، فنزل إليه الراهب، فأسلم وشهد معه شهادة الحق، وغزا معه الروم، وانصرف إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأعجب عمر بإسلامهما. . . فكانت الرهبانية بدعة منهم، كما أخبر الله سبحانه عن قوم عيسى عليه السلام: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (1) الآية.
__________
(1) سورة الحديد الآية 27(80/125)
وجاء عند أبي نعيم تكملة في سبب إسلامه، بسياق آخر، من طريق أبي محمد بن حبان يتصل إلى يزيد بن شريح، قال: قال كعب: لما قرأت: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} (1) أسلمت حينئذ، شفقة أن يحول وجهي نحو قفاي (2) .
أما الذهبي (673 - 748 هـ) : فقد روى بعض أخباره، التي استقاها من عشرين مصدرا، كما وضح ذلك المحققان: محمد نعيم العرقسوسي ومأمون صاغرجي في الهامش، أو لعله من عمل شعيب الأرناؤوط، الذي أشرف على تحقيق الكتاب، وخرج أحاديثه (3) .
وقد قال عنه الذهبي: قدم المدينة من اليمن، فجالس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية، ويحفظ عجائب، ويأخذ السنن عن الصحابة، وكان حسن الإسلام، متين الديانة من نبلاء العلماء، حدث عن عمر وصهيب وغيرهما، وحدث عنه من الصحابة: أبو هريرة ومعاوية وابن عباس، وهو نادر عزيز، كما حدث عنه مجموعة عدة من التابعين.
__________
(1) سورة النساء الآية 47
(2) حلية الأولياء لأبي نعيم أحمد الأصبهاني ج 6 ص 706.
(3) سير أعلام النبلاء ج 3 ص 489 الهامش الطبعة الثانية.(80/126)
وكان خبيرا بكتب اليهود، له ذوق في معرفة صحيحها من باطلها في الجملة (1) .
وجاء من التحقيق، تعليق على كلمة ويحفظ عجائب: هذا نصه، قال الحافظ ابن كثير (700 - 774هـ) في تفسير سورة النمل، بعدما أورد طائفة من الأخبار، في قصة ملكة سبأ مع سليمان عليه السلام: والأقرب في مثل هذه السياقات، أنها مستقاة من أهل الكتاب، مما وجد في صحفهم، كروايات كعب الأحبار، ووهب بن منبه، سامحهما الله تعالى، فيما نقلا إلى هذه الأمة، من أخبار بني إسرائيل، ومن الأوابد والغرائب، والعجائب، مما كان، ومما لم يكن، ومما حرف وبدل ونسخ، وقد أغنانا الله سبحانه، بما هو أصح منه، وأنفع وأوضح، وأبلغ ولله الحمد والمنة (2) .
وقد جاء عند البخاري (194 - 256هـ) ، فتح الباري شرح صحيح البخاري للعسقلاني (773 - 852هـ) تصحيح وتحقيق بإشراف الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، في باب لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء: أن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية، يحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال: إن كان من أصدق
__________
(1) المصدر السابق ص: 490.
(2) نهاية كلام ابن كثير في تفسيره ج 3 ص 366 مطبعة البابي الحلبي بمصر.(80/127)
هؤلاء المحدثين، الذي يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب، وقد أورد الشيخ عبد العزيز بن باز، في شرحه المطول لهذا الحديث، ما يزكى فيه كعب الأحبار ويوثقه.
وفي قول معاوية: (لنبلو عليه الكذب) والمراد بالمحدثين: أنداد كعب، ممن كان من أهل الكتاب وأسلم، فكان يحدث عنهم، وكذا من نظر في كتبهم، فحدث عما فيها. قال: ولعلهم كانوا مثل كعب، إلا أن كعبا أشد منهم بصيرة، وأعرف بما يتوقاه، وقال ابن حبان في كتاب الثقات أراد معاوية أنه يخطئ أحيانا فيما يخبر به، ولم يرد أنه كان كذابا، وقال غيره: الضمير في قوله: (لنبلو عليه) للكتاب لا لكعب، وإنما يقع في كتابهم الكذب، لكونهم بدلوه وحرفوه.
وقال عياض: يصح عوده على الكتاب، ويصح عوده على كعب وعلى حديثه، وإن لم يقصد الكذب، ويتعمده، إذ لا يشترط في مسمى الكذب التعمد، بل هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، وليس فيه تجريح لكعب بالكذب، وقال ابن الجوزي (508 – 597 هـ) المعنى أن بعض الذي يخبر به كعب، عن أهل الكتاب يكون كذبا، لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان من أخيار الأحبار.
ثم جاء في الختام، ما يدل على أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، يميل إلى نفي الكذب، عن كعب وتعمده، استنادا على أقوال(80/128)
العلماء فيه، حيث أورد عن ابن سعد عن طريق عبد الرحمن بن جبير، قال: قال معاوية إلا أن كعب الأحبار، أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالبحار، وإن كنا فيه لمفرطين) ثم قال رحمه الله: فالمراد بأهل الكتاب اليهود، لكن الحكم عام، فيتناول النصارى، قوله: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم (1) » هذا لا يعارض حديث الترجمة، فإنه نهي عن السؤال، وهذا نهي عن التصديق والتكذيب، فيحمل الثاني على ما إذا بدأهم أهل الكتاب بالخبر.
وما دام ظهر لنا من توثيق المحدثين لكعب الأحبار، ونفي الكذب عنه، فإننا نأخذ من أخباره، ما لا يتنافى مع نص شرعي وفيه فائدة، ومن ذلك ما جاء عند الذهبي، رواية عن محمد بن سيرين، عن أبي الرباب قال: دخلنا على أبي الدرداء رضي الله عنه نعوده، وهو يومئذ أمير وكنت أحد خمسة ولوا قبض السوس، فأتاني رجل بكتاب، فقال: بيعونيه، فإنه كتاب الله، أحسن قراءته ولا تحسنون، فنزعنا دفتيه، فأخذه بدرهمين.
__________
(1) جزء من حديث رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه برقم 8 / 139 في تفسير الآية من سورة البقرة.(80/129)
فلما كان بعد ذلك خرجنا إلى الشام، وصحبنا شيخ على حمار، بين يديه مصحف يقرؤه، ويبكي، فقلت: ما أشبه هذا المصحف، بمصحف شأنه كذا وكذا. فقال: إنه هو.. قلت: فأين تريد؟ قال: أرسل إلي كعب الأحبار، عام الأول فأتيته، ثم أرسل إليه فهذا وجهي إليه.
قلت فأنا معك، فانطلقنا حتى قدمنا الشام، فقصدنا عند كعب، فجاء عشرون من اليهود، فيهم شيخ كبير، يرفع حاجبيه بحريرة، فقالوا: أوسعوا أوسعوا، فأوسعوا وركبنا أعناقهم، فتكلموا. فقال كعب: يا نعيم أتجيب هؤلاء، أو أجيبهم؟ قال: دعوني حتى أفقه هؤلاء ما قالوا.
إن هؤلاء، أثنوا على أهل ملتنا خيرا، ثم قلبوا ألسنتهم، فزعموا أنا بعنا الآخرة بالدنيا، هلم فلنواثقكم، فإن جئتم بأهدى مما نحن عليه، اتبعناكم، وإلا فاتبعونا إن جئنا بأهدى منه. قال: فتواثقوا، فقال كعب: أرسل إلي ذلك المصحف، فجيء به، فقال: أترضون أن يكون ما بيننا؟ قالوا: نعم. لا يحسن أحد أن يكتب مثله اليوم. فدفع إلى(80/130)
شاب منهم، فقرأ كأسرع قارئ، فلما بلغ إلى مكان منه، نظر إلى أصحابه، كالرجل يؤذن صاحبه بالشيء، ثم جمع يديه فقال: يه ... فنبذه، فقال كعب: آه وأخذه، فوضعه في حجره، فقرأ ... فأتى على آية منه، فخروا سجدا، وبقي الشيخ يبكي.
قيل: ما يبكيك؟ قال: وما لي لا أبكي، رجل عمل في الضلالة كذا وكذا سنة، ولم أعرف الإسلام حتى كان اليوم.
قال مطرف بن مالك وكان معهم في السوس: فبدا لي أن آتي بيت المقدس، فبينما أنا في الطريق، إذا أنا براكب، شبهته بذلك الأجير النصراني، فقلت: نعيم؟ قال: نعم. قلت: ما فعلت بنصرانيتك؟ قال: تحنفت بعدك - أي دخلت الحنيفية وهي الإسلام.
ثم أتينا الشام (دمشق) فلقيت كعبا الحبر، ثم انطلقنا ثلاثتنا حتى أتينا أبا الدرداء، فقالت أم الدرداء لكعب: ألا تعينني على أخيك؟ يقوم الليل، ويصوم النهار، قال: فجعل لها من كل ثلاث ليال ليلة.
ثم أتينا بيت المقدس، فسمعت يهود بنعيم وكعب، فاجتمعوا فقال: كعب: هذا كتاب قديم وإنه بلغتكم، فاقرءوه.
فقرأه قارئهم، حتى أتي على ذلك المكان {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) ،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85(80/131)
فأسلم منهم اثنان وأربعون حبرا، ففرض لهم معاوية، وأعطاهم.
والحبر هو العالم الكبير في علمه، ومكانته عند اليهودي وهذا من معاوية رضي الله عنه تثبيتا لإيمانهم، وترغيبا في الإسلام.
وروى أبو نعيم الأصبهاني، بسنده إلى عكرمة، عن كعب الأحبار قال: أول ما أنزل من التوراة، عشر آيات، وهي العشر التي نزلت في آخر سورة الأنعام (1) .
وحدث أبو نعيم بالسند، من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه عن السلوي، عن كعب الأحبار قال: اختار الله البلاد: فأحب البلاد إلى الله البلد الحرام، واختار الله الزمان، فأحب الزمان إلى الله الأشهر الأوائل الحرم، وأحب الشهور إلى الله، ذو الحجة وأحب ذي الحجة إلى الله العشر الأول، واختار الله الأيام فأحب الأيام إلى الله يوم الجمعة، واختار الله الليالي، فأحب الليالي إلى الله ليلة القدر، واختار الله ساعات الليل والنهار، فأحب ساعات الليل والنهار إلى الله، ساعات المكتوبات، واختار الله الكلام، فأحب الكلام إلى الله: لا إله إلا الله، والله أكبر وسبحان الله، والحمد لله (2) .
__________
(1) حلية الأولياء لأبي نعيم ج 6 ص 13 الناشر دار أم القرى بمصر.
(2) المصدر السابق ص 113.(80/132)
إن نور الله إذا أراد سبحانه بالعبد خيرا، يقذفه الله بحاسة القلب، فينفتح لهذا النور الذي هو هبة من الله جل وعلا، ويتغير إحساس صاحبه من الانغلاق إلى التبصر، ومن الظلمة إلى النور، ليتأصل هذا الإحساس، في أعماق القلب، ومن ثم يدفع صاحبه إلى البحث عن الحقيقة التي يجدها في عمق ما يقرأ، أو يسمع من آية في كتاب الله، تربطه بمفهوم دقيق في نفسه، أو فيما حوله، أو بموازنة بما لديه من معتقد، ليقارب ويتبصر، ومن ثم يبرز عنده الحق، ويتضاءل الباطل بعلامات كل منهما ... وهذا من فضل الله على ذلك الإنسان، أن يسر الله طريق الهداية، كما قال سبحانه لنبيه الكريم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1) ويقول سبحانه: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (2) .
ويظهر هذا جليا، في حالات من أهل الكتاب - وهم اليهود والنصارى - أتباع موسى وعيسى عليهما السلام، ليسترشد من أراد الله له الهداية، والخير، ويعاند من تقوم عليه الحجة، لأنهم يعرفون الله في الكتب المنزلة على أنبيائهم، وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حق وأن القرآن المنزل عليه حق من عند الله، مثبت لما عندهم. وناسخ
__________
(1) سورة القصص الآية 56
(2) سورة الشورى الآية 52(80/133)
لما في أيديهم من أحكام، خفف الله بها عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، رحمة ورأفة، من الله سبحانه بهذه الأمة، كما جاء في حديث الإسراء والمعراج، في موضوع فرض الصلاة، التي بدأت بخمسين، وموسى عليه السلام، يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارجع إلى ربك واسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق، فقد جربت قبلك بني إسرائيل، واسأل ربك التخفيف، وما زالت المراجعة حتى صارت خمس صلوات في اليوم والليلة، وجعلها الله سبحانه، خمسا في الأداء، خمسين في الأجر (1) .
ونختم الحديث عن كعب الأحبار، وسيرته التي اعتنى بها علماء الإسلام، لأنه من كبار أحبار اليهود، والمرجع لهم في كل ما نزل، من تشريعات في التوراة، علاوة على اطلاعه على أخبار الأمم السابقة، وما فيها من معلومات عن تلك الأمم، إذ كان خبيرا، بكثير من الكتب القديمة، ومنها التوراة، ومدركا لما فيها بالذات مما يبشر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وصفاته، مما دفعه إلى المبادرة بالإسلام، خوفا من عقاب الله، كما مر بنا آنفا.
وعن وفاته التي ارتبطت بذلك المصحف - الكتاب - الذي وجد
__________
(1) يراجع في هذا الحديث حديث الإسراء والمعراج المطول، عند ابن كثير في تفسيره لسورة الإسراء.(80/134)
في " السوس " والتي وجدوا فيها النبي دانيال في لحد من صفر، وكان أهل " السوس " إذا أجدبوا استخرجوه، فاستسقوا به، فلما كتب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه في ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كتب إليه: إن نبي الله دعا أن لا يرثه إلا المسلمون، فصل عليه وادفنه، قال همام بن يحيى وحدثنا فرقد، حدثنا أبو تميمة: أن كتاب عمر جاء: أن اغسله بالسدر وماء الريحان.
ثم قال الذهبي لتلك الرواية ما يوضح إسلام كبار علماء من اليهود معقبا بقوله: ثم رجع إلى حديث مطرف بن مالك قال: فبدا لي أن آتي بيت المقدس، فبينما أنا في الطريق، إذا أنا براكب، شبهته بذلك الأجير النصراني، فقلت: نعيم؟ قال: نعم. قلت: ما فعلت بنصرانيتك؟ قال: تحنفت بعدك - أي دخلت في الإسلام - بعدك، ثم أتينا الشام (دمشق) فلقيت كعبا الحبر.
ثم انطلقنا ثلاثتنا حتى أتينا أبا الدرداء، فقالت أم الدرداء لكعب: ألا تعني على أخيك؟ يقوم الليل، ويصوم النهار، قال: فجعل لها من كل ثلاث ليال ليلة.(80/135)
ثم أتينا بيت المقدس، فسمعت يهود بنعيم وكعب، فاجتمعوا فقال: كعب: هذا كتاب قديم وإنه بلغتكم، فاقرءوه.
فقرأه قارئهم، حتى أتى على ذلك المكان: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) ، فأسلم منهم اثنان وأربعون حبرا، ففرض لهم معاوية، وأعطاهم.
ثم قال همام: وحدثني بسطام بن مسلم، حدثنا معاوية بن قرة، أنهم تذاكروا ذلك الكتاب، فمر بهم شهر بن حوشب، فقال: على الخبير سقطتم ثم ذكر حكاية إخفاء كعب لمعالم ذلك الكتاب، قال: إنها التوراة، ولكن خشيت أن يتكل على ما فيها، ولكن قولوا: لا إله إلا الله ولقنوها موتاكم.
ثم قال الذهبي رحمه الله: هكذا رواه ابن أبى خيثمة في تاريخه عن هدبة عن همام.
وهذا القول من كعب، دال على أن تيك النسخة، من التوراة، وأن ما عداها بخلاف ذلك، فمن الذي يستحل أن يورد اليوم، من التوراة شيئا على وجه الاحتجاج، معتقدا أنها التوراة المنزلة؟ كلا والله.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85(80/136)
ومتأسيا في إخفاء معالمها، بما حصل لعمر بن الخطاب، عندما جاء إلى رسول الله، ومعه ورقة من التوراة، فتأثر وقال لعمر: «أفي شك مما جئت به يا ابن الخطاب، والله لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي (1) » فرماها عمر وتاب من عمله.
__________
(1) توجد أخبار وسيرة كعب عن أبي نعيم في الحلية 5 / 364، إلى آخر الجزء، و 6 / 3.(80/137)
3 - والثالث: هو وهب بن منبه (34 - 114 هـ) ، الأبناوي - يعني أنه من أبناء الفرس، الذين أرسلهم كسرى إلى اليمن، يقول الزركلي: كثير الأخبار عن الكتب القديمة، عالم بأساطير الأولين، ولا سيما الإسرائيليات، يعد من التابعين، ولاه عمر بن عبد العزيز قضاء صنعاء، وقال: وفي وفاته خلاف، وأنه من أصل يهودي، ويتقن اليونانية والسريانية والحميرية (1) .
ذكر ابن عساكر (630 هـ - 711 هـ) ، في مختصر تاريخه (تاريخ دمشق) : أن سماك بن الفضل قال: كنا عند عروة بن الزبير (22 - 92 هـ) وإلى جنبه وهب بن منبه، فجاء قوم، فشكوا من عاملهم شيئا، فتناول وهب عصا، كانت في يد عروة، فضرب بها رأس العامل، حتى سال دمه، فضحك، واستلقى على قفاه، وقال: يعيب علينا أبو عبد الله الغضب، وهو يغضب.
__________
(1) الأعلام للزركلي الطبعة الثانية ج 9 ص، 150.(80/137)
فقال وهب: وما لي لا أغضب، وقد غضب الذي خلق الأحلام، إن الله تبارك وتقدس يقول: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} (1) يقول: أغضبونا.
وقيل له: كيف ترى الرؤيا تحدثنا بها، فلا تلبث أن نراها، كما رأيت. قال: هيهات، ذهب ذلك عني منذ وليت القضاء (2) .
وأورد الذهبي (673 - 748) نبذة عن سيرته، استقاها من (25) مصدرا، ومن ذلك قوله: عن عبد الرزاق عن أبيه عن وهب، قال: يقولون: عبد الله بن سلام، كان أعلم أهل زمانه، وإن كعبا أعلم أهل زمانه، أفرأيت من جمع علمهما، أهو أعلم أم هما؟
وعن كثير أنه سار مع وهب، فباتوا بصعدة عند رجل، فخرجت بنت الرجل، فرأت مصباحا، فاطلع صاحب المنزل، فنظر إليه صافا قدميه في ضياء كأنه بياض الشمس فقال الرجل: رأيتك البارحة، في هيئة وأخبره، فقال: اكتم ما رأيت.
وعن عباد بن كعب قال: حدث المثنى بن الصباح قال: لبث وهب بن منبه، أربعين سنة، لم يسب شيئا فيه الروح، ولبث عشرين سنة، لم يجعل بين العشاء والصبح وضوءا، وقال: قال وهب: لقد قرأت ثلاثين كتابا نزلت على ثلاثين نبيا.
__________
(1) سورة الزخرف الآية 55
(2) مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر لابن منظور ج 26 ص 387 - 388.(80/138)
وعن مقدرته، على استظهار الدليل من القرآن الكريم في رده على الحرورية من الخوارج، أورد في نصيحته من الابتعاد عنهم، ودحض حججهم أكثر من عشر آيات مما يبرهن على فهمه العميق، للقرآن الكريم، وتدبره لمعانيه، علاوة على إدراكه للسنة المطهرة.
ويجد المتابع لأحاديث ومواعظ وهب بن منبه، أنها مستمدة، من فهمه لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، دقة في التوضيح، وتجليه للسامع، حتى يدرك المراد من حكمة الله، في توزيع الأرزاق، وتهيئتها لعباده ويبلو عباده جل وعلا بالرضا والصبر وحسن التوكل، يقول سبحانه: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} (1) وقوله: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} (2) .
ويقول صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم كنتم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا (3) » .
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 32
(2) سورة النحل الآية 71
(3) أخرجه الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه برقم 2345 في الزهد، وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه والحاكم، ينظر جامع الأصول لابن الأثير 10 / 140.(80/139)
ومن الآيات الكثيرة، والأحاديث العديدة، في تكفل الله سبحانه، بأرزاق عباده ومعاشهم، منذ خلقهم حتى يفارقوا الحياة الدنيا، ولا يطلب منهم سبحانه إلا: شكره وحسن عبادته، وأداء حق هذه النعم له عملا وتوكلا.
من هذا المطلوب فهمه جيدا، نجد كثيرا من أحاديث ومواعظ وهب، يحرص فيها على تمكين هذا المعنى، في قلوب الناس، وقد أورد أبو نعيم (336 - 430 هـ) في الحلية، خاصة، وغيرها عامة، ومن ذلك ما رواه أبو نعيم الأصبهاني (336، 430 هـ) ، بالسند إلى عقيل بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لا يشكن ابن آدم، أن الله عز وجل يوقع الأرزاق، متفاضلة ومختلفة، فإن تقلل ابن آدم شيئا من رزقه، فليزده رغبة إلى الله عز وجل، ولا يقولن لو اطلع الله هذا، وشعر به غيره، فكيف لا يطلع الله الشيء الذي هو خلقه وقدره؟
أولا يعتبر ابن آدم في غير ذلك، مما يتفاضل فيه الناس، فإن الله فضل بينهم في الأجسام، والألوان والعقول والأحلام، فلا يكبر على ابن آدم أن يفضل الله عليه في الرزق والمعيشة، ولا يكبر عليه أنه قد فضل عليه في علمه وعقله، أولا يعلم ابن آدم أن الذي رزقه في ثلاثة أوان من عمره، لم يكن له في واحد منهن كسب ولا حيلة، أنه سوف يرزقه في الزمن الرابع.(80/140)
أول زمن من أزمانه، حين كان في رحم أمه، يخلق فيه ويرزق من غير كسبه، في قرار مكين، لا يؤذيه فيه حر ولا قر، ولا شيء يهمه، ثم أراد الله سبحانه أن يحوله من تلك المنزلة، إلى غيرها، ويحدث له في الزمن الثاني: رزقا من أمه، يكفيه ويغنيه من غير حول ولا قوة، ثم أراد الله أن يعصمه من ذلك اللبن، ويحوله في الزمن الثالث: في رزق يحدثه له، من كسب أبويه، يجعل له الرحمة في قلبيهما، حتى يؤثراه على أنفسهما بكسبهما ويستغنيا روحه، بما يعنيهما، ولا يعينهما في شيء من ذلك، بكسب ولا حيلة يحتالها، حتى يعقل ويحدث نفسه أن له حيلة وكسبا.
فإنه لن يغنيه في الزمن الرابع، إلا من أغناه ورزقه في الأزمان الثلاثة التي قبلها، فلا مقال له ولا معذرة، إلا برحمة الله هو الذي خلقه، فإن ابن آدم كثير الشك، يقصر به حلمه وعقله، عن علم الله ولا يتفكر في أمره، ولو تفكر حتى يفهم ويفهم، وحتى يعلم علم أن علامة الله، التي بها يعرف خالقه الذي خلقه، ورزقه لما خلق (1) ، كما أن له رأيا في الخوارج، يحذر منهم، ومن خفايا نواياهم (2) .
__________
(1) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني نشر دار أم القرى بالقاهرة ج 4 ص 25.
(2) ينظر سير أعلام النبلاء للذهبي 4 / 553 – 555.(80/141)
4 - وأما الجن المكلفون بشرع الله، وتوحيد العبادة له سبحانه: عقيدة وعملا، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) ، فقد كان من سبب إسلامهم، وهدايتهم إلى دين الحق سماعهم القرآن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، قائم يصلي في الليل، بعد ما صرفهم الله إليه عليه الصلاة والسلام كما قال سبحانه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (2) {قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (4) .
ذكر ابن الجوزي (508 - 597 هـ) في تفسيره في سبب صرفهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال:
الأول: أنهم صرفوا إليه بسبب ما حدث من رجمهم بالشهب، رواه البخاري ومسلم، من حديث ابن عباس قال: «انطلق رسول الله صلى الله علمه وسلم، في طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين، وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الأحقاف الآية 29
(3) سورة الأحقاف الآية 30
(4) سورة الأحقاف الآية 31(80/141)
الشهب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: وما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. فمر الذين توجهوا نحو تهامة، بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو بـ (نخلة) قائم يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن، قالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فرجعوا لقومهم، (3) » .
والثاني: أنهم صرفوا إليه، لينذرهم، وأمر أن يقرأ عليهم القرآن هذا مذهب جماعة منهم قتادة. وفي رواية لمسلم من «حديث علقمة، قال: لعبد الله: من كان منكم مع النبي، ليلة الجن؟ فقال: ما كان معه أحد، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكة، فخفنا عليه فانطلقنا نطلبه في الشعاب، فلقيناه مقبلا من نحو حراء، فقلنا: يا رسول الله أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك. فقال: إنه أتاني داعي الجن، فذهبت أقرئهم القرآن (4) » .
وقال قتادة: «ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني أمرت أن أقرأ على الجن، فأيكم يتبعني؟» .
والثالث: أنهم مروا به وهو يقرأ، فسمعوا القرآن.
__________
(1) البخاري الأذان (739) ، مسلم الصلاة (449) ، الترمذي تفسير القرآن (3323) ، أحمد (1/252) .
(2) سورة الجن الآية 1 (1) {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}
(3) سورة الجن الآية 2 (2) {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}
(4) مسلم الصلاة (450) ، الترمذي تفسير القرآن (3258) ، أحمد (1/436) .(80/143)
فذكر بعض المفسرين: أنه لما يئس من أهل مكة أن يجيبوه، خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام، فلما كان ببطن نخلة، قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر، فمر به نفر من أشراف جن نصيبين، فاستمعوا القرآن، فعلى هذا القول، والقول الأول لم يعلم بحضورهم، حتى أخبره الله تعالى. وعلى القول الثاني علم بهم، حين جاءوا، وفي المكان الذي سمعوا فيه تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم قولان: أحدهما الحجون وبه قال ابن مسعود وقتادة، والثاني بطن نخلة عن ابن عباس، وبه قال قتادة. وأما النفر فقد اختلف في عددهم، أما دينهم فاليهودية (1) .
وذكر هود بن محكم الهواري (من علماء القرن الثالث الهجري) في تفسيره، على سورة الأحقاف قائلا: ذكر بعضهم «أن جن نصيبين، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم القرآن، فقالوا: يا رسول الله زودنا، فقال: كل روثة لكم خضرة، وكل عظم لكم عرق، فقالوا: يا رسول الله إن أمتك ينجسونه علينا، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يستنجى بعظم أو روثة» .
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي ج 7 ص 387 - 390 باختصار.(80/144)
وقال: ذكروا عن عون بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود قال: خرجنا حاجين، ومعتمرين حتى إذا كنا بالطريق، هاجت ريح فارتفعت عجاجة من الأرض حتى إذا كانت على رءوسنا، انكشفت عن حية بيضاء؟ فنزلنا وتخلف صفوان بن المعطل فأبصرها، فصب عليها من مطهرته، وأخرج خرقة من عيبته، فكفنها فيه، ثم دفنها، ثم اتبعنا.
فإذا بنسوة قد جئن عند العشاء، فسلمن ثم قلن: أيكم دفن عمرو بن جابر؟ فقلنا: والله ما نعرف عمرو بن جابر.
فقال صفوان بن المعطل: أبصرت جانا أبيض، فدفنته. قلن: ذاك والله عمرو بن جابر، بقية من استمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قراءة القرآن من الجن التقى زحفان من الجن: زحف من المسلمين، وزحف من فسقة الجن، فاسشهد رحمه الله (1) .
وعند ابن كثر في تفسيره رحمه الله (700 - 774 هـ) ، على أول سورة الجن قال: يقول تعالى، آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يخبر قومه: أن الجن استمعوا القرآن، فآمنوا به وصدقوه، وانقادوا له، فقال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (2) {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} (3)
__________
(1) تفسير كتاب الله العزيز للهواري ج 5 ص 152 - 154 الطبعة الأولى دار الغرب الإسلامي بيروت.
(2) سورة الجن الآية 1
(3) سورة الجن الآية 2(80/145)
أي إلى السداد والنجاح {فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (1) وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} (2) وقد قدمنا الحديث في ذلك، ثم قال على قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} (3) أي طرائق متعددة، مختلفة وآراء متفرقة.
قال ابن عباس ومجاهد، وغير واحد: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} (4) أي: منا المؤمن ومنا الكافر.
وأورد عن أحمد بن سليمان النجاد، في أماليه بالسند إلى الأعمش يقول: تروح إلينا جني، فقلت له: ما أحب الطعام إليكم؟ قال: الأرز. قال: فأتيناهم به، فجعلت أرى اللقم ترفع، ولا أرى أحدا، فقلت: فيكم من هذه الأهواء التي فينا؟ قال: نعم. فقلت: فما الرافضة فيكم؟ قال: شرنا.
وأورد عن الدمشقي، أنه سمع بعض الجن، وهو في منزل بالليل ينشد:
قلوب براها الحب حتى تعلقت ... مذاهبها في كل غرب وشارق
__________
(1) سورة الجن الآية 2
(2) سورة الأحقاف الآية 29
(3) سورة الجن الآية 11
(4) سورة الجن الآية 11(80/146)
تهيم بحب الله، والله ربها ... معلقة بالله دون الخلائق (1)
وجاء عند السيوطي في تفسيره: رواية عن سهل بن عبد الله، قال: كنت في ناحية عاد، إذ رأيت مدينة من حجر، منقورة في وسطها، قصر من حجارة تأوي إليه الجن، فدخلت فإذا شيخ عظيم الخلق، يصلي نحو الكعبة، وعليه جبة صوف، فيها طراوة، فلم أتعجب من عظم خلقته، كتعجبي من طراوة جبته فسلمت عليه، فرد علي السلام، وقال: يا سهل إن الأبدان لا تخلق الثياب، وإنما يخلقها روائح الذنوب، ومطاعم السحت، وإن هذه الجبة، علي منذ ستمائة سنة، لقيت بها عيسى، ومحمدا عليهما السلام فآمنت بهما، فقلت له: ومن أنت؟ قال: أنا من الذين نزلت فيهم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} (2) .
قال: كان من جن نصيبين (3) .
وابن كثير رحمه الله ذكر في تفسيره لسورة الجن، أن عبد العزيز بن
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، كتاب الشعب بالقاهرة ج 8 ص 268 - 269 وقد أورد أشياء كثيرة عنهم.
(2) سورة الجن الآية 1
(3) تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ج 8 ص 297 دار الفكر في بيروت 1414 هـ.(80/147)
عمر قال: أما الجن الذين لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة فجن نينوى، وأما الجن الذين لقوه بمكة فجن نصيبين، وجن حران، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل سبعة من أهل نصيبين، رسلا إلى قومهم (1) . فدل هذا على أن وافدهم جاءوا أكثر من مرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد ما سمعوا القرآن، ليتعلموا أمور دينهم.
وفيما ذكرناه دليل واضح، على أن هذا القرآن هو نور الله الساطع، يهدي به سبحانه من يشاء ويفتح الله بما فيه من آيات ومعجزات، آذانا صما، وقلوبا غلفا، فتبهرهم ما أودع الله فيه، من معجزات وآيات، يدركها من أنار الله بصيرته، في مشارق الأرض ومغاربها، ليدخلوا الإسلام، كل حسب اختصاصه.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، المطابع عيسى البابي الحلبي وشركاهم ج 4 ص 167.(80/148)
5 - فقد دخل الإسلام عالم جيولوجيا في جامعة أكسفورد ببريطانيا، عندما احتار في الصخور وألوانها، وسبب ذلك، وطال بحثه ولم يجد نتيجة، فقرأ عليه مساعده في المعمل وهو مسلم من الهند، هاتين الآيتين، من سورة فاطر، وبعد ما أفهمه دلالتهما وشرح له معناهما، شرح الله صدره للإسلام، وأسلم، والآيتان هما:(80/148)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} (1) {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (2) .
6 - ودخل في دين الله الحق ربان سفينة أسباني، عاش حياته كلها في البحار، وفى يوم من الأيام، تلاطمت المياه، وارتفع الموج، وترادفت السحب، فازداد الظلام، وأيقن بالهلاك، فصار من رجال بحارته، رجل مسلم، لاحظ عليه الهدوء، والهمهمة بكلمات باللغة العربية لم يفهمها (الربان) ، فتعجب منه وهدوئه، وكل من في السفينة، قد أصابهم الهلع لما يرون من بوادر الهلاك، فاستدعاه (الربان) ، ليسأله عما يقول، وما رأيه في الوضع ... فقال: كنت أدعوا ربي وأقرأ آيات من كتاب الله.... قال: ما هي؟ فقرأ عليه قول الله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (3) {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (4) .
__________
(1) سورة فاطر الآية 27
(2) سورة فاطر الآية 28
(3) سورة النور الآية 40
(4) سورة النور الآية 41(80/149)
فلما كرر عليه معنى هاتين الآيتين الكريمتين، وجه الربان، لهذا الرجل المسلم القول: هل كان محمد ممن يركبون البحر؟ فأجابه بلا، وأنه لم يعرف عنه حتى السفر بالبحر.
قال: أنا لي أربعون سنة أعمل في البحر، وأول مرة يمر بي مثل هذا الاضطراب في البحر، وهذه الظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض، وهذا - ما دام محمد لم يكن ممن يسافر في البحر - يدلنا على أن ما قلته: عن كتابكم القرآن، أنه ليس من كلام محمد - كما يصور لنا - غير صحيح ... والآن نؤمن بأنه جاء من قوة أعلا.... بمثل هذا الوصف الدقيق.
وبعد ما نصل لليابسة، وينقذنا الله من هذا الهلاك والأعاصير، سأتعلم الإسلام وأتفهم القرآن.. وقد حصل هذا بعد ذلك وأسلم.
7 - ومن يقرأ حكايات من أسلموا في كل مكان، يجد آثار القرآن، منطبعة في قلوبهم، بعدما جذبتهم عظمة القرآن، ودلالاته العميقة، التي سبقت العلوم الجديدة في حياة البشر، ذلك أنه شرع الله إلى الثقلين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد أحاط من أنزله سبحانه كل شيء علما.(80/150)
وما أشرنا إليه فما هو إلا شواهد فقط، تدل على بعض أدوار القرآن الكريم، والسنة المطهرة، في جذب من أراد الله له الخير، إلى نور الإيمان، الذي به الإرشاد وحسن التوجيه: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (1) .
8 - وفى الآيات الكريمات، في السور الكبار الأربع: الأولى من كتاب الله: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة خاصة وفى غيرها عامة، ما يوضح دور أهل الكتاب، في أمرين: الاستجابة لمن أراد الله بهم الخير، عندما عرفوا الحق، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، من عند ربه، مصدقا لما معهم كما حصل مع وفد نجران النصارى، الذين عاندوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفضوا الإسلام في البداية، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم مباهلتهم، عندما جاء مع أهل بيته، فقال زعيمهم يا قوم نطلب التأجيل، لأنه ما باهل قوم نبيا إلا هلكوا. وفي رواية ما لاعن قوم نبيا إلا أبادهم الله فطلبوا المهلة وأن يرسل معهم أمينا فأرسل معهم أبا عبيدة (2) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 54
(2) يراجع في قصتهم تفسير ابن كثير عند تفسير الآية 59 وما بعدها، من سورة آل عمران.(80/151)
أو العناد والجحود، لمن حقت عليه الشقاوة، ولم ينفعه علمه الذي أخبرتهم به كتبهم، وجاء على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وفق ما بعث الله به الرسل من قبله، ولله الحكمة البالغة في الهداية، ولذلك خلق الثقلين، كما قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1) .
__________
(1) سورة القصص الآية 56(80/152)
الفتوى وأثرها في حماية المعتقد وتحقيق الوسطية
للدكتور: فهد بن سعد الجهني (1)
فاتحة: الحمد لله الذي هدانا للدين القويم، ومن علينا بأن جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وأصلي وأسلم على خير مبعوث بعث لخير أمة؛ نبي الهدى والرحمة، حبيب الله أبي القاسم، سيد بني هاشم، الذي تركنا على البيضاء! ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وأزواجه أجمعين، وبعد:
فإن حياة الناس لا تستقيم إلا بشريعة تبين للناس المصالح والمفاسد، وتخرجهم من دواعي الهوى والضلال إلى دواعي الحق والفلاح، ليحققوا معنى الدينونة الحقة لله رب العالمين، حتى يكونوا عبادا لله اختيارا كما هم عباد له اضطرارا (2) ، ولا يكون ذلك إلا بالدخول تحت أمره ونهيه، والأصل في ذلك قول الحق سبحانه وتعالى:
__________
(1) أستاذ أصول الفقه المساعد بقسم الشريعة بجامعة الطائف.
(2) انظر: (الموافقات) للشاطبي (2 / 289) .(80/153)
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) .
وقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (2) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3) .
فقد حصر الأمر في سبيلين: الوحي وهو الشريعة، والهوى، ولا ثالث لهما، والعلاقة بينهما علاقة تضاد، فاتباع الهوى مضاد لاتباع الحق.
من أجل ذلك أنزل الله شريعته وابتلى الخلق بطاعته، فلا تستقيم الحياة كما ذكر آنفا إلا بهذه الشريعة، التي جاءت ممثلة في نصوص الوحيين العظيمين: الكتاب والسنة.
إلا أن الاهتداء بهذا الدين (الشريعة) والانتفاع بها مشروط بالفقه فيه الذي هو الفهم الصحيح لمراد الله عز وجل. والفقه في الدين - كما هو معلوم - مفتاح الخير، وآية السعادة، فقد صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حيث قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (4) » ، ومفهوم المخالفة من الحديث يقتضي: أن الذي لا يفقه في الدين لم يرد به خير.
وبذلك يتقرر أن الفقه في الدين له مكانة مهمة وخطيرة، بيد أن
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة النجم الآية 3
(3) سورة النجم الآية 4
(4) رواه البخاري في كتاب فرض الخمس، باب قوله تعالى: (فأن لله خمسه وللرسول) رقم الحديث (3116) .(80/154)
الفقه في أحكام الله وتنزيلها على واقع المكلفين وأحوالهم، ليس بالأمر الهين، وليس مرتعا لكل من شاء أن يقول ما شاء!
والفقيه الذي قصر علمه على حفظ الأقوال في المذهب من غير معرفة الأدلة صحيحها من سقيمها فهو مقلد، فلعله بنى حكما على نص ضعيف لا تقوم به الحجة، أو قاعدة غير صحيحة، أو قول غير معصوم، منقوض بقول المعصوم (1) .
إذن لا بد من أصول وقواعد تبين مصادر الاستدلال ومظان الدليل، وتوضيح قواعد الاستنباط وطرقه، وهو ما قام به علماء الأمة - رحمهم الله - الذين رسموا للأمة المناهج الصحيحة القويمة التي تضبط عملية الاجتهاد في دين الله، وتبين سبيله وضوابطه وشروطه، وتبين ثبات هذه الشريعة بثبات مصادرها، وتبين كذلك شمول الشريعة واستيعابها لحوادث الزمان والمكان، وذلك تحقيقا لقول الحق سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2) .
ومع كثرة الغبش في هذه العصور المتأخرة، وولوج من ليس من العلم في صدر ولا ورد إلى ميدان التأصيل والتفريع، فإن المفزع لمعرفة الحق ومن ثم التمسك به هو العودة الصحيحة لكتاب الله وسنة
__________
(1) انظر: مقدمة (معالم السنن) للخطابي (1 / 4، 5) .
(2) سورة النحل الآية 89(80/155)
رسوله صلى الله عليه وسلم وبذل الوسع في فهمها الفهم الصحيح مستنيرين بما قعده وأصله علماء الأمة الراسخون.
لذلك فإن الفتوى في دين الله من أعظم الأمور التي يجب العناية بها، ومقامها مقام عظيم، وأثرها في الناس أثر خطير؟ لذا لا بد من توافر الكتابات واستنهاض الهمم المؤهلة والقادرة على ضبط هذا الباب، وحماية هذا الجناب من التلاعب أو التوهين.
ومن أجل ذلك حاولت - مستعينا بالله - وبرغبة كريمة من مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة - حرسها الله - أن أبين - بقدر المستطاع - مدى أثر الفتوى في جانبين مهمين وهما (حماية المعتقد، وتحقيق الوسطية) ، وأسأل الله تعالى الإعانة، ومنه أستمد التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا به.
وقد تضمن هذا البحث ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في الفتوى وما يتعلق بها من أحكام، وفيه مطالب:
المطلب الأول: تعريف الفتوى.
المطلب الثاني: بيان خطورة مقام المفتي وأهميته.
المطلب الثالث: الشروط العلمية الواجب توفرها في العالم ليتأهل للإفتاء، وآداب المفتي.
المطلب الرابع: حكم الفتوى التكليفي.(80/156)
المبحث الثاني: أهمية الفتوى في حماية العقيدة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: وسائل حفظ الدين، وعلاقة ذلك بالفتوى.
المطلب الثاني: الالتفاف حول " المحكمات " وأثره في الفتوى.
المبحث الثالث: أثر الفتوى في تحقيق وسطية الأمة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تحرير معنى الوسطية.
المطلب الثاني: أثر الفتوى في بيان المنهج الوسط.
الخاتمة: وهي في نتائج البحث.(80/157)
المبحث الأول: الفتوى وما يتعلق بها من أحكام:
المطلب الأول: تعريف الفتوى:
أولا: التعريف اللغوي:
الإفتاء مصدر الفعل (أفتى) ، والفتيا مأخوذة من فتى وفتو، وهي بمعنى (الإبانة) ، يقال: أفتاه في الأمر إذا أبانه له.
وأصل (الفتوى) من الفتى وهو الشاب القوي الحدث فكأنه - أي المفتي - يقوي ما أبهم ببيانه وقوته العلمية.
وقد وردت هذه الكلمة بتصاريف مختلفة في كتاب الله، تدور(80/157)
حول معنى الإبانة والتوضيح، ومنه قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} (1) قال ابن عطية في تفسيره: " أي يبين لكم ما سألتم عنه " (2) .
ثانيا: التعريف الاصطلاحي:
عرفت الفتوى أو الإفتاء بتعريفات عدة يجدها الباحث مبسوطة في مظانها، وحسبنا من التعاريف ما يقرب المعنى ويخدم موضوع البحث.
وبالنظر إلى التعاريف المتعددة نجد أنها تجتمع حول تعريف واحد تقريبا؛ وهو أنها: الإخبار عن حكم الشرع لا على وجه الإلزام (3) .
وهذا القيد (لا على وجه الإلزام) للتفريق بين الفتوى والقضاء، أو بين المفتي والقاضي، فالمفتي يبين الحق للسائل ولا يلزمه، أما حكم القاضي فهو ملزم واجب التنفيذ.
وقد ذكر العلماء فروقا أخرى بين الإفتاء والقضاء، من أهمها:
1 - من حيث عموم الأثر: أن الفتوى أعظم أثرا وأعم تعلقا من القضاء، حيث إن فتوى المفتي إذا صدرت تعد تشريعا عاما
__________
(1) سورة النساء الآية 127
(2) (المحرر الوجيز) (4 / 267) .
(3) انظر: (منار أصول الفتوى) للقاضي المالكي (ص 231) .(80/158)
يتعلق بالسائل وغيره، في حين أن حكم القاضي لا يتجاوز - في الغالب - غير المتحاكمين (1) .
2 - من حيث الاختصاص: فالقضاء خاص بالمعاملات، أما الفتوى فهي داخلة في أحكام الشرع كلها.
3 - ما ذكره الإمام القرافي من أن القضاء يعتمد الحجاج، والفتيا تعتمد الأدلة (2) .
ومن هنا فإن المفتي هو: المخبر بحكم الله تعالى لمعرفته بدليله (3) .
__________
(1) (مباحث في أحكام الفتوى) د. عامر الزيباري.
(2) (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام) (ص 56) .
(3) انظر: (الغياثي) للجويني ص 81، (صفة الفتوى) (ص 44) .(80/159)
المطلب الثاني: خطورة مقام المفتي وأهميته:
يصور الإمام الشاطبي - رحمه الله - مكانة المفتي أدق تصوير بقوله: " المفتي هو القائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم" (1) .
ووجه القيام مقام النبي يكون بجملة أمور، منها: الوراثة في علم الشريعة بوجه عام، ومنها: إبلاغها للناس، وتعليمها للجاهل، والإنذار بها كذلك، ومنها: بذل الوسع في استنباط الأحكام في مواطن الاستنباط المعروفة (2) .
__________
(1) (الموافقات) (5 / 253)
(2) المرجع نفسه.(80/159)
ولا أبلغ في بيان مكانة المفتين في هذه الأمة من أن رب العالمين؛ أوجب على عموم المؤمنين طاعتهم بنص كتابه العزيز، قال الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) .
واستنباطا من هذا المعنى القرآني عبر ابن القيم وغيره من العلماء - رحم الله الجميع -: أن المفتي موقع عن رب العالمين! فطبيعة عمل المفتي عند تحليلها بدقة نجد أنها: قول على الله وإخبار عنه، بما سيعد فيما بعد تشريعا داخلا في دين الله، يتعبد المكلف به ربه تعالى، فإذا صدرت الفتوى من أهلها المعتبرين بشروطها المعتبرة كانت أقرب إلى الحق بإذن الله؛ وبالتالي ستكون دلالة على الخير والرشاد، وإذا كانت خلاف ذلك فقد ضل صاحبها وأضل! وكم من فتوى طارت بها الركبان وطبقت الآفاق؛ وقد جانب الحق والصواب، عمل بها أقوام ورثها من بعدهم آخرون حتى أضحت من دين الله، وهي ليست منه، فكانت مثل السنة السيئة التي على صاحبها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فخطر المفتي عظيم، فإنه موقع عن الله ورسوله، زاعم أن الله أمر بكذا، وحرم كذا، أو أوجب كذا!
وهذا كله عند التفريط في إعطاء المسألة حقها من النظر، أو إذا كان المخبر بالحكم مفتئت متقول على الله ليس من أهل الاجتهاد، أما
__________
(1) سورة النساء الآية 59(80/160)
إذا كان من أهله، وبذل وسعه فلم يوافق اجتهاده الحق؛ فهو مأجور على اجتهاده غير مأزور بإذن الله، كما دلت على ذلك النصوص، ولكن: الفتوى إذا جانبت الصواب وخالفت الحق لا سيما في المسائل العامة أو الخطيرة الأثر والتي تعم بها البلوى؛ فإن عدم الوزر لا ينفي عدم الأثر!
خطأ المفتي وما يترتب عليه:
إن خطأ المفتي في فتواه، ليس بالأمر الهين، وكلما كان تعلقها عاما وموضوعها دقيقا؛ كان أثر الخطأ عظيما!
ومما يترتب على هذا الخطأ أمور، منها:
1 - تأثيم المفتي إذا لم يكن من أهل الاجتهاد، أو أفتى فيما لا يحسنه من أبواب العلم، أو قصر في البحث وتلمس الحق؟ أو أفتى اتباعا للهوى أو ابتغاء عرض من الدنيا!
لذلك كان الصحابة رضي الله عنهم: وتبعهم سلف الأمة؛ من أهل القرون المفضلة، كانوا يقدرون هذا الأمر حق قدره، وهذا ما يفسر تجنبهم وتدافعهم الفتوى قدر الإمكان! وينبني على هذا أن من أفتى ولم يكن من أهل الفتوى فهو آثم عاص، ومن ولاه ذلك وأقره فهو آثم كذلك.
وقد حمى رب العالمين سبحانه جناب الفتوى، ورفع من شأنها، فقد نص كتاب الله على تحريم القول عليه بغير علم في الفتيا(80/161)
والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل في المرتبة العليا منها، قال تعالى اسمه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) قال ابن القيم: "فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو: القول عليه بلا علم " (2) .
قال أبو الفرج ابن الجوزي - رحمه الله -: " ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب، وليس له علم بالطريق وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم! وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟ " (3) .
ومن هنا نجد أن العلماء الكبار الربانيين تصدر عنهم إشراقات تدل على شدة ورعهم وخوفهم من الله، وتقديرهم للإفتاء حق قدره،
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) (إعلام الموقعين) (1 / 31) .
(3) (إعلام الموقعين) (4 / 167) .(80/162)
فقد صح عن إمام دار الهجرة مالك - رحمه الله - قوله: " إن المسألة إذا سئل عنها العالم فلم يجب، فاندفعت عنه، فإنما هي بلية صرفها الله عنه " (1) .
ومن هنا فقد كان الإمام الشافعي - رحمه الله - دقيقا صادقا عندما وصل - بثاقب بصره ودقيق فهمه لموارد الشرع وأسراره - إلى أن الحكمة من شرع الاجتهاد هي (الابتلاء) . قال - رحمه الله - في الرسالة: " ومنه ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم " (2) .
ولو وعى هذا كله أو بعضه أولئك الذين يتجرءون على الفتوى ويتطلعون لها؛ لكفوا عن كثير مما شغبوا على الناس به، ولأوكلوا الأمر إلى أهله، وحمدوا الله على بلية صرفت عنهم!
قال الإمام القرافي: "وأما اتباع الهوى في الحكم أو الفتيا فحرام إجماعا" (3) .
2 - أن الفتوى الغير صحيحة كما سبق ذكره، ينسحب أثرها على تصرفات المكلفين أو معتقداتهم وتصوراتهم.
3 - ذكر بعض العلماء مسألة "ضمان المفتي " بمعنى: من أفتى شخصا
__________
(1) (التبصرة) لابن فرحون (1 / 52) .
(2) (ص 22) .
(3) (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام) (ص 92) .(80/163)
وانبنى على الفتوى إتلاف مال، أو تفويت مصلحة، ففرق بعضهم - كالإمام اللقاني المالكي في منار أصول الفتوى - بين من كان مجتهدا فلا يضمن، ومن كان غير مجتهد فيضمن (1) .
وجاء في (صفة الفتوى) لابن حمدان الحنبلي قوله: " وقيل: يضمن - أي من ليس أهلا للفتوى - لأنه تصدى لمن ليس بأهل، وغر من استفتاه بتصديه لذلك " (2) .
وفد فصل ابن القيم في هذه المسألة، وقارن بين خطأ المفتي وخطأ الحاكم (3) .
والذي يتوجه - والله أعلم - عدم ضمانه؛ تفريعا على أنه مخبر، وليس منشئا، وأن الفتوى غير ملزمة.
ويستأنس لهذا الرأي بالحديث الذي فيه: أن رجلا من الصحابة كان في سرية فأصابه جرح ثم أجنب، فسأل من معه عما يفعل؟ هل يغتسل أم لا؟ فأفتوه بوجوب الغسل، فاغتسل فمات، فلما علم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزد على أن قال: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال ... (4) » .
__________
(1) (منار أصول الفتوى) (ص 295) .
(2) (صفة الفتوى والمفتي والمستفتي) (ص 30) .
(3) انظر: (إعلام الموقعين) (ص 432) .
(4) أبو داود، كتاب الطهارة، باب: في المجروح يتيمم، رقم (337) ، وابن ماجه، كتاب الطهارة، باب: في المجروح تصيبه جنابة، رقم (572) .(80/164)
ونخلص من ذلك: أن مقام المفتي مقام كبير القدر، عظيم الأثر، وأن أي مجتمع مسلم لا ينبغي أن يخلو من أهل الفتوى والاجتهاد، وإلا أدى ذلك إلى تخبط الناس في دينهم، وابتعادهم عن السنة، واختلاط الحلال بالحرام! فيضلون على الصراط السوي وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!
بل ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا لم يوجد مفت في بلد ما حرم السكن فيه! ووجب الرحيل منه إلى حيث من يفتيه في أحكام الدين؛ وما يستجد من نوازل! (1) .
قلت: ولا ينبغي أن يكون في حياة المسلم أعظم من دين الله ليهتم به ويسأل عنه، وهذا من صدق الديانة وأمارات الإيمان. وكما قال ابن القيم، فإن " حاجة الناس إليهم - يعني المفتين - أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم عليهم أفرض من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب العزيز " (2) .
فإذا كان مقام المفتي بهذه الدرجة من الأهمية، وبهذه الخطورة، فلا بد إذا من بيان المؤهلات والشروط التي بتحصيلها يتأهل العالم لهذه المرتبة الرفيعة في الدين.
__________
(1) انظر: (المجموع) للنووي (1 / 47) .
(2) (إعلام الموقعين) (1 / 8) .(80/165)
المطلب الثالث: الشروط العلمية الواجب توفرها في العالم ليتأهل للإفتاء، وآداب المفتي:
شروط المفتي هي ذاتها شروط المجتهد، قال د. عبد الله التركي في كتابه (أصول الإمام أحمد) : " تقدم أن المفتي هو المجتهد، ومن لم يبلغ درجة الاجتهاد هو: المقلد، وعند الكلام على المجتهد؛ وما يلزم له ذكرنا طرفا مما يشترط له، وهى شروط المفتي في الواقع " (1) .
وفي اصطلاح المتقدمين لا فرق بين الفقيه والمجتهد والمفتي، فهي أسماء لمسمى واحد، فالفقيه الذي لا يملك أدوات الاجتهاد، ويكتفي بحفظ الفروع؛ لا يسمى فقيها على الحقيقة! فالفقه أساسه الفهم، وقد أشار إلى ذلك الزركشي - رحمه الله - نقلا عن غيره من الأصوليين، جاء في البحر المحيط: " تنبيه علم من تعريفهم الفقه " باستنباط الأحكام ": أن المسائل المدونة في كتب الفقه ليست بفقه اصطلاحا، وأن حافظها ليس بفقيه، وبه صرح العبدري في باب الإجماع من شرح (المستصفى) قال: وإنما هي نتائج الفقه، والعارف بها " فروعي "، وإنما الفقيه هو المجتهد الذي ينتج تلك الفروع عن أدلة صحيحة، فيتلقاها منه الفروعي تقليدا ويدونها ويحفظها، ونحوه، قال ابن عبد السلام: هم نقلة فقه لا فقهاء، وذكر الشافعي في (الرسالة) : صفة
__________
(1) (أصول الإمام أحمد) (ص 726) ، وانظر: (مجلة مجمع الفقه الإسلامي) (11 / 2) .(80/166)
المفتي وهو الفقيه.. " (1) .
والشروط التي يذكرها الأصوليون في باب الاجتهاد واللازمة للتأهيل لرتبة الاجتهاد أو الإفتاء، هي في حقيقتها شروط الاجتهاد العامة والتي تشترط في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع مسائل الفقه ونوازله، يقول الإمام أبو حامد الغزالي - رحمه الله - بعد عرضه العلوم التي لا بد للمجتهد منها: " اجتماع هذه العلوم الثمانية: إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع " (2) .
وقد تنوعت أساليب الأصوليين في طريقة عرض الشروط والمعارف المطلوب توفرها للوصول لهذه الرتبة (الاجتهاد / الإفتاء) .
ومن أول وأحسن من كتب في شروط الاجتهاد الإمام الكبير الشافعي - رحمه الله -، فقد سطر جملا رائعة ودقيقة في هذا المقام، حيث يقول: " ولا يقيس إلا من جمع الآلة التي له القياس بها، وهي العلم بأحكام كتاب الله! فرضه، وأدبه، وناسخه، ومنسوخه، وعامه، وخاصه، وإرشاده، ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يجد سنة فبإجماع المسلمين، فإذا لم يكن إجماع فبالقياس،
__________
(1) (البحر المحيط) (1 / 23 - 24) ، وانظر: (أصول الإمام أحمد) للتركي (ص 694) .
(2) (المستصفى) (2 / 389) .(80/167)
ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالما بما مضى قبله من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس، واختلافهم، ولسان العرب (1) ".
ومن الأصوليين من جمع الشروط في شرطين كالغزالي حيث قال: " المجتهد: وله شرطان:
أحدهما: أن يكون محيطا بمدارك الشرع، متمكنا من استثارة الظن، بالنظر فيها، وتقديم ما يجب تقديمه، وتأخير ما يجب تأخيره.
الثاني: أن يكون عدلا، مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة " (2) .
وكذلك الإمام الشاطبي - رحمه الله - في الموافقات، إذ قال: " إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
والثاني: التمكن من الاستنباط، بناء على فهمه فيها " (3) .
وقد جمع تقي الدين السبكي - رحمه الله. ما يجب على العالم تحصيله، والعلم به من المعارف في أمور ثلاثة، وهي:
1 - التآليف في العلوم التي يتهذب بها الذهن: كالعربية، وأصول الفقه، وما يحتاج إليه من العلوم العقلية في صيانة الذهن عن الخطأ، بحيث تصير هذه العلوم ملكة للشخص، فإذ ذاك يثق
__________
(1) (الرسالة) (ص 509 – 510) .
(2) (المستصفى) (2 / 382) .
(3) (الموافقات) (5 / 41 – 42) .(80/168)
بفهمه لدلالات الألفاظ من حيث هي، وتحريره، وتصحيح الأدلة من فاسدها.
2 - الإحاطة بمعظم قواعد الشريعة، حتى يعرف أن الدليل الذي ينظر فيه مخالف لها أو موافق.
3 - أن يكون له من الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم منها مراد الشارع من ذلك، وما يناسب أن يكون حكما له في ذلك المحل، وإن لم يصرح به (1) .
إلا أن من أبرز العلوم التي تتعلق تعلقا مباشرا بعملية الاجتهاد هو (علم أصول الفقه) ، فهو العلم الذي يبين منهجية الاستنباط وآلية التعامل مع النصوص، وهو كما اصطلح على تعريفه عند كثيرين (القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة) (2) .
وهو علم مستمد في كثير من مباحثه من (علم اللغة العربية) ، فلا بد للمشتغل به من العلم باللسان؛ بالقدر الذي يمكن صاحبه من الفهم الدقيق للنصوص الشرعية بأساليبها اللغوية المتنوعة (3) .
__________
(1) انظر: (الإبهاج في شرح المنهاج) (3 / 273 - 274) .
(2) (أصول الفقه؛ الحد والموضوع والغاية) د. يعقوب الباحسين (ص 107) .
(3) انظر: (المستصفى) (2 / 386) .(80/169)
وقد ذكر الإمام الرازي - رحمه الله - " أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه " (1) .
وقبله إمام الحرمين الجويني. رحمه الله - إذ يقول: " ولا يرقى المرء إلى منصب الاستقلال دون الإحاطة بهذا الفن " (2) .
ويقول الإمام الشوكاني - رحمه الله - عن أصول الفقه أنه " عماد فسطاط الاجتهاد، وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه ".
والعلم بقواعد هذا (الفن) علم بمقاصد التشريع التي هي نتاج من نتائجه، وثمرة من ثماره، والدراية بمقاصد الشريعة وأصولها الكلية من الأمور المهمة جدا في تكوين ملكة الاجتهاد عند الفقيه، حتى
__________
(1) (المحصول) (2 / 499) .
(2) (الغياثي) (ص 181) .(80/170)
يصبح مع كثرة المطالعة والتدقيق فيها؛ على بصيرة بما يصلح أن يكون مناسبا للتشريع وما لا يكون كذلك.
يقول إمام الحرمين: " ومن لم يتفطن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي فليس على بصيرة في وضع الشريعة " (1) .
فالشريعة مبناها على مقاصد وأصول لا بد للمفتي من مراعاتها واعتبارها حالا ومآلا قبل أن يصدر فتواه.
وقد ذهب الإمام الشاطبي وهو يناقش القدر الذي يجب على المجتهد تحصيله من هذه العلوم والمعارف، ويقرر بعد بحث علمي شائق، أنه ليس من الواجب على العالم أن يتعمق في كل علم من العلوم المذكورة في شروط الاجتهاد حتى يصل لدرجة الاجتهاد فيها! بل يكفيه أن يمتلك القدرة العلمية على الاستفادة من كل فن ما يساعده في بناء الفتوى بناء صحيحا، سواء أكان في الحديث أو اللغة أو غيرهما من العلوم، قال - رحمه الله -: " ولو كان مشترطا في المجتهد الاجتهاد في كل ما يفتقر إليه الحكم، لم يصح لحاكم أن ينتصب للفصل بين الخصوم حتى يكون مجتهدا في كل ما يفتقر إليه الحكم الذي يوجهه على المطلوب للطالب، وليس الأمر كذلك بالإجماع ". (2) .
__________
(1) (البرهان) (1 / 295) .
(2) (الموافقات) (5 / 47) .(80/171)
تنبيه:
عند التأمل في شرط الاجتهاد من لدن أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - إلى عصور متأخرة، يلمس الباحث تطورا وتوسعا في تلك الشروط، وبما يتناسب مع تغير العصور والجو العلمي السائد، فالأدوات العلمية المقدمة هي الأصل المستصحب في كل عصر! إلا أنه قد يزاد عليها بالقدر الذي تقتضيه ظروف ذلك العصر، فما قرره الشافعي في القرن الثاني من شروط " لا يمكن أن تكون كافية للنظر الاجتهادي في القرن الثالث الهجري؛ الذي تبدل فيه الواقع الفكري والسياسي؛ إذ إنه بينما كان الصراع في القرن الثاني الهجري صراعا فقهيا بين المدارس الفقهية، فإن الصراع غدا من منتصف القرن الثالث الهجري صراعا كلاميا بين المدارس الكلامية - أشاعرة ومعتزلة وماتريدية - وامتزج بشيء من الفكر الأصولي، مما يبرر القول في هذا القرن بضرورة أن يتوفر في الراغب في التصدي للنظر الاجتهادي على زاد معرفي غير مغشوش من الفكر الأصولي والكلامي.. " (1) .
وقد تناقل العلماء في كتبهم قديما وحديثا أن مرتبة المجتهد المطلق لم تعد موجودة من قديم الزمان، وذهب آخرون إلى انعدام أنواع
__________
(1) (أدوات النظر الاجتهادي المنشود) ، د. قطب سانو (ص 47) .(80/172)
أخرى من المجتهدين؛ كمجتهد التخريج مثلا، وقد تكررت دعوى انعدام المجتهدين في عصور متعددة، وممن ذكر ذلك ابن أبي الدم الشافعي المتوفى سنة 624 هـ إذ يقول: "واعلم أن هذه الشروط - يقصد شروط الاجتهاد المطلق - يعز وجودها في زماننا هذا في شخص من العلماء، بل لا يوجد في البسيطة اليوم مجتهد مطلق " (1) .
ولعل السؤال المهم لا سيما مع تكرر هذه الدعوى من قرون طويلة، ما هي الأسباب المؤدية إلى انتشار هذه الدعوى، وندرة المجتهدين، وانتشار التقليد حتى أصبح هو الأصل؟
وقبل ذكر شيء من ذلك بحسب ما نلمسه من واقع موجود، أنقل تفسيرين لعالمين من العلماء الذين اجتهدوا في تلمس هذا الأمر، ومن قرنين مختلفين.
أولهما: أبو المعالي الجويني - رحمه الله - حيث قال في كتابه (الغياثي) وهو يتألم من انتشار التقليد وانحسار الاجتهاد!: "وإنما بلائي كله من ناشئة في الزمان شدوا طرفا من مقالات الأولين، وركنوا إلى التقليد المحض، ولم يتشوفوا إلى انتحاء درك اليقين، وابتغاء ثلج الصدور، فضلا على أن يشمروا للطلب ... " (2) .
__________
(1) (أدب القضاء) للحموي.
(2) (الغياثي) (ص 183) .(80/173)
وثانيهما: العالم الحنبلي (أحمد بن حمدان الحراني) المتوفى سنة 695 هـ حيث اجتهد في ذلك قائلا: " لكن الهمم قاصرة، والرغبات فاترة، ونار الجد والحذر خامدة، اكتفاء بالتقليد، واستعفاء من التعب الوطيد، وهربا من الأثقال، وأربا في تمشية الحال، وبلوغ الآمال، ولو بأقل الأعمال " (1) . وقد أصاب الداء أو كاد رحمه الله!
فخلاصة النقلين: فتور الهمم، والركون إلى الأسهل، وهما سببان لا يزالان موجودين في واقعنا المعاصر.
ويضيف بعض الباحثين أسبابا أخرى منها:
1 - الشعور بعدم الحاجة للاجتهاد عند طلبة العلم الناتج عن الثروة الفقهية الكبيرة المدونة، فلا تكاد تجد مسألة إلا وفيها رواية عن صحابي أو تابعي أو إمام.
2 - تركز الاهتمام بكتب المذاهب الفقهية.
3 - الهالة الكبيرة التي أحاطها تلاميذ الأئمة حول آراء شيوخهم، مما منعهم ومنع غيرهم من تناول بعضها بشيء من النقد والتمحيص.
4 - سبب آخر ومهم - وهو في نظري - من الأسباب التي حان الوقت للوقوف عندها طويلا؛ والاجتهاد العاجل في محاولة حلها، وهو: طريقة التعليم أو التفقيه الشرعي التي باتت تعتمد
__________
(1) (صفة الفتوى) (ص 17) .(80/174)
بصورة غالبة على التفقيه المذهبي ومكتفى به، بل وبمجرد النظر والدراسة في كتب المذاهب، وهذا جيد ومطلوب، ولكن الواجب أن يقترن به تفتيح ذهن الطالب للتأمل في مدارك الأئمة وطرق الاستدلال والنظر في القواعد والضوابط الفقهية والأشباه والنظائر، لتعويد الطالب على التخريج ومعرفة الحكم بدليله.
وقديما أشار العلامة ابن خلدون - رحمه الله - لمثل هذا، حيث قال: " اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم، والوقوف على غاياته؛ كثرة التآليف، واختلاف الاصطلاحات في التعاليم، وتعدد طرقها، ثم مطالبة المعلم والتلميذ باستحضار ذلك، وحينئذ يسلم له منصب التحصيل، فيحتاج المعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها، ومراعاة طرقها، ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها، فيقع في القصور " (1) .
لذا أقول - وبالله التوفيق -: إن طريقة التعليم أو التفقيه الشرعي الموجودة حاليا في الكليات والأقسام الشرعية ليس من ثمارها، بل ولا حتى من شأنها؛ أن تهيئ طالب علم فقيها بالمعنى الصحيح لهذا الوصف، ففي الغالب يتخرج الطالب المتميز منها، وقد حصل كما
__________
(1) (المقدمة) (ص 531) .(80/175)
منوعا من العلوم والمعارف، ولكنك قلما تجده متعمقا متبحرا في نوع منها، ومن وفق لمواصلة دراساته العليا تجده قد تخصص في جزئية يسيرة من علم ما؛ هي عنوان بحثه!
أما الاهتمام بأدوات الاجتهاد، والسعي لتكوين العقلية الفقهية، التي تمكن صاحبها من النظر والقياس والتخريج والتنزيل الصحيح، فيندر وجود مثل هذا في أجوائنا العلمية، فيخرج الطالب ولو كان حاصلا على الدرجات العلمية العليا، منبتا عن نوازل العصر بمسائله الشائكة المعقدة، من اقتصادية وطبية واجتماعية وسياسية ونحوها.
لذا بات من المتعين على أصحاب القرار والمسئولين عن هذه الكليات الشرعية أن يتنبهوا لهذا الخلل، حفاظا على جناب الاجتهاد وسعيا في إحيائه واستمراريته، حتى لا نصل لجيل لا تجد فيه من يستطيع الاجتهاد والاستنباط! فيقع الناس في عماية وتنتزعهم الأهواء؛ لأنهم لم يجدوا أهل الذكر الذين أوجب الله عليهم سؤالهم!
صفات وآداب في المجتهد أو المفتي:
من أهم هذه الصفات والآداب التي لا يتصور من عالم مسلم إلا أن يتخلق بها أمور منها:
1 - النية الصالحة الصادقة، فهي رأس الأمر وأسه، وهي الجالبة بإذن الله للتوفيق والقبول، وبعدمها يحصل الخذلان ويكثر التخبط " فكم من مريد بالفتوى وجه الله ورضاه والقرب منه(80/176)
وما عنده، ومريد بها وجه المخلوق ورجاء منفعته؟ فيفتي الرجلان بالفتوى الواحدة وبينهما في الفضل والثواب أعظم مما بين المشرق والمغرب. . . وقد جرت عادة الله التي لا تتبدل وسنته التي لا تحول أن يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغضة ما هو اللائق به؛ فالمخلص له المهابة والمحبة، وللآخر المقت والبغضاء " (1) .
2 - كما تقرر من قبل فإن مكانة المفتي في الدين وفي نفوس أهل هذا الدين عظيمة، وحتى يكون صادقا مع ربه ومع الناس، وحتى يحقق معنى القدوة المنتظر من أمثاله، لا بد أن يوافق قوله عمله، ولا يكون من الذين قال الله فيهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (2) .
3 - أن يتجرد من كل هوى وحظ نفس، ولا يتطلع في فتواه إلى إرضاء أحد من الناس أو إسخاطه، ويكون رائده ومقصده هو (إصابة الحق) تحقيقا لرضوان الله ونفعا للأمة، وكما نص القرآن وحكم الرحمن؛ فإن حكم الحاكم لا يخلو من حالين لا ثالث
__________
(1) (إعلام الموقعين) (4 / 153) .
(2) سورة البقرة الآية 44(80/177)
لهما: إما اتباع الحق أو الهوى، قال الله: {يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (1) .
4 - شعوره أنه مفتقر إلى الله دائما، ولا يغتر بعلمه، ويلح دائما على ربه بأن يلهمه الصواب، وأن يثبته على الحق دائما، وكان شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - كثيرا ما يخر ساجدا لله معفرا وجهه بالتراب؛ يلح على ربه ومولاه أن يفتح عليه في مسألة أشكلت عليه وهو يقول: " يا معلم إبراهيم علمني ".
ومن وصايا الإمام الكبير الشافعي - رحمه الله - للعلماء وطلبة العلم قوله: "فحق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه (أي القرآن) ، والصبر على كل عارض دون طلبه،
__________
(1) سورة ص الآية 26(80/178)
وإخلاص النية لله في استدراك علمه، نصا واستنباطا، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خير إلا بعونه " (1) .
__________
(1) (الرسالة) (ص 19) .(80/179)
المطلب الرابع: حكم الفتوى التكليفي:
ذكر الأصوليون أن (الفتوى) تعتريها الأحكام الخمسة التكليفية وهي: الوجوب، والندب، والإباحة، والتحريم، والكراهة.
وفيما أحسب. والله أعلم - أن الفتوى لها حكم أصلي؛ والأحكام الأخرى عوارض تعتري الحكم بحسب ما يتعلق به أو بالنظر إلى آثاره وهكذا.
فالإفتاء من فروض الكفايات من حيث الأصل، وذلك بالنظر إلى مكانته وخطورته وأنه يتعلق به بيان هذا الدين وحفظه في نفوس المكلفين، وحفظ الدين مقصد ضروري، وهو في أعلى درجات الوجوب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قال الإمام النووي - رحمه الله - في مقدمته العلمية العظيمة لسفره الكبير: (المجموع) : " الإفتاء فرض كفاية، فإذا استفتي، وليس في الناحية غيره؛ يتعين عليه الجواب " (1) .
وفي روضة الطالبين - له أيضا - قال ما نصه: " ومتى لم يكن في
__________
(1) (المجموع) (1 / 47) .(80/179)
الموضع إلا واحد يصلح للفتوى، تعين عليه أن يفتي، وإن كان هناك غيره، فهو من فروض الكفايات، ومع هذا فلا يحل التسارع إليه " (1) .
ويستدل على هذا بعدد من النصوص الدالة على وجوب البيان وتحريم الكتمان، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (2) .
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم نص في تحريم كتمان العلم؛ " من كتم علما يعلمه؛ جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار ".
وترتب هذا الوعيد الشديد على هذا الوصف (الكتمان) يدل على شدة الحرمة، وبالتالي على وجوب ضدها وهو (البيان) والله أعلم.
إلا أن هذا الواجب الكفائي، قد يتحول إلى:
1 - واجب عيني؛ إذا لم يكن في البلد أو المجتمع المسلم غيره، أو إذا ضاق وقت الحادثة وخشي فواتها.
وفى منتهى الإرادات من كتب الحنابلة: " ولمفت رد الفتيا؛ إذا
__________
(1) (روضة الطالبين) (8 / 86) .
(2) سورة آل عمران الآية 187(80/180)
كان في البلد عالم قائم مقامه، وإلا لم يجز له ردها؛ لتعينها عليه " (1) .
2 - وقد يكون مندوبا، إذا سئل عن قضايا متوقعة الحدوث، ولما تحدث بعد، فليس بملزم بالجواب؛ لعدم وجود وقت الحاجة.
3 - وقد يكون الإفتاء حراما في حق البعض، وهم الذين لم تتوفر فيهم شروط الاجتهاد، أو لم يكونوا على علم دقيق في المسألة مدار السؤال، أو إذا ترتب على قوله - وإن كان وجيها - مفسدة أعظم من مفسدة السكوت، فدرء المفسدة الأعظم متعين.
4 - وقد يكون مكروها بالنظر إلى الموضوع ذاته، فبعض السائلين قد يسأل عن مسائل بعيدة أو مستحيلة الوقوع، فلا يجارى في تكلفه هذا.
5 - ويكون مباحا فيما عدا هذه الحالات الأربع.
__________
(1) (شرح منتهى الإرادات) (3 / 458) .(80/181)
المبحث الثاني - أهمية الفتوى في حماية العقيدة:
إن قضايا وسائل المعتقد من أهم المسائل التي يخوض فيها أهل الاجتهاد والفتوى؛ لأن أثرها ينسحب إلى علاقة الإنسان مع ربه وإيمانه بعدد من القضايا الخطيرة، وكل كلمة تخرج من فم فقيه، وكل(80/181)
حكم يصدره مفت، يصبح منهجا ينتهجه المقلدون، وسلوكا يسلكه السائرون، ليس تقديسا لهذا العالم أو ذاك - فهو في نظرهم غير معصوم - وإنما للعلم الذي يحمله؛ ولما جبل عليه عامة المسلمين من توقير العلماء وتقدير أقوالهم، وطاعة لأمر الحكيم الخبير في قوله المبين {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
فهؤلاء العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم الذين بسببهم يهتدي الناس للحق والنور؛ إذا ادلهمت الخطوب، وتنازعتهم الأهواء، وتفرقت بهم السبل، فما أعظم أمانتهم، وما أخطر تأثيرهم!
ومن هنا يتكرر الوعد في القرآن مشددا على هؤلاء النفر أن يتقوا الله في الناس، وأن يجتهدوا في قيادتهم ودلالتهم للحق {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} (2) .
قال الإمام الشوكاني في تفسيره " {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} (3) قيل: المراد بهذه الآية علماء اليهود؛ لأنهم كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم. والاشتراء هنا: الاستبدال، وقد تقدم تحقيقه، وسماه قليلا؛ لانقطاع مدته، وسوء عاقبته، وهذا السبب وإن كان خاصا
__________
(1) سورة النحل الآية 43
(2) سورة البقرة الآية 174
(3) سورة البقرة الآية 174(80/182)
فالاعتبار بعموم اللفظ، وهو يشمل كل من كتم ما شرعه الله وأخذ عليه الرشا ... " (1) .
وتتضح أهمية (الفتوى) في هذا الجانب العظيم من خلال هذين المطلبين:
__________
(1) (فتح القدير) للشوكاني (1 / 252) .(80/183)
المطلب الأول: وسائل حفظ الدين، وعلاقة ذلك بالفتوى:
إن أعظم ما يجب حفظه وبيانه والذب عنه؛ هو دين الله الخاتم الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والذي لن يقبل الله من أحد دينا سواه.
وحماية جناب التوحيد وصحة المعتقد من أولى الواجبات، بل هو أهم الضروريات الخمس التي جاءت الشرائع بحفظها، والضروريات كما عرفها الإمام الشاطبي - رحمه الله - هي: " ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين " (1) .
وهذه الضروريات خمس، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسب.
وأعظمها شأنا والتي من أجلها خلق الله الخلق (حفظ الدين) !
__________
(1) (الموافقات) (2 / 17 - 18) .(80/183)
" وحين نتكلم عن الدين وكونه ضروريا للحياة فإنا نعني بذلك الدين الحق الصحيح المنزل من رب العالمين، الخالص من التحريف، لا مطلق الدين، وإنما نخصه بالدين المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الدين الإسلامي الحنيف لكون ما عداه منسوخا لا يجوز العمل به {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) . (2) .
بعد تقرير أن حفظ الدين أهم مقاصد الشريعة، فلا يمكن أن تترك الشريعة هذا المقصد عرضه للضياع أو التحريف، ففي ضياعه ضياع للمقاصد الأخرى، وخراب لنظام الحياة بأسرها.
ومن خلال استقراء أدلة الشرع من كتاب وسنة، وجد العلماء أن (مقصد الدين) يحفظ من جانبين: جانب الوجود، وجانب العدم.
فجانب الوجود بمعنى: المحافظة عليه بما يقيم أركانه ويثبت قواعده.
ومن جانب العدم بمعنى: درء الفساد عنه الواقع أو المتوقع.
ومن الجانب الأول تأتي الوسائل الآتية: العمل به، الحكم به، الدعوة إليه، الجهاد من أجله.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2) (مقاصد الشريعة) لليوبي (ص 193) .(80/184)
ومن الجانب الثاني: بالرد على كل ما يخالفه من البدع والأهواء.
وسأتحدث بما يتناسب وطبيعة البحث وهو عن دور " الفتوى والمفتين " في حماية المعتقد.
فقد جاء الأمر في كتاب الله بالدعوة إلى هذا الدين وبيان حقيقته، وأعظم قضية تناولها القرآن وجاهد من أجلها محمد صلى الله عليه وسلم قضية (التوحيد) {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) ، وفي هذا المقام يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " ولهذا يتغير الدين بالتبديل تارة، وبالنسخ أخرى، وهذا الدين لا ينسخ أبدا، لكن يكون فيه من يدخل من التحريف، والتبديل، والكذب، والكتمان ما يلبس به الحق من الباطل، ولا بد أن يقيم الله فيه من تقوم به الحجة خلفا عن الرسل، فينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فيحق الله الحق، ويبطل الباطل ولو كره المشركون " (2) .
ويقول الشيخ د. بكر أبو زيد - وفقه الله - في سياق بيانه لوجوب الذب عن حياض الحق بالفتوى الصحيحة والكلمة المقنعة " ويزداد الأمر شدة حينما يكون مع صاحب الهوى: حق يلبس به بدعته
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) (الفتاوى) (11 / 434) .(80/185)
وهكذا! حتى إذا طفحت الكأس: هب من شاء الله من حملة الشريعة ينزعون من أنوارها بذنوب وافرة، يطفئون بها جذوة الهوى والبدعة، فهم مثل العافية في الناس لدينهم وأبدانهم، بما يقيمونه من حجج الله وبيناته القاهرة، فتهب بذلك ريح الإيمان، وتقوم سوق الانتصار للكتاب والسنة (1) ".
وللنظر في تأثير (الفتوى) في مثل المسائل الإيمانية والعقدية المهمة، فإن ذلك الأثر لا يبدو ظاهرا واقعا إلا من خلال ذكر نماذج لمواقف عدد من العلماء من أهل الفتوى والاجتهاد، الذين كان لفتاواهم واجتهاداتهم في مواقف معينة أثرها البالغ والظاهر في حفظ الدين وحماية العقيدة الصحيحة في نفوس وعقول المكلفين من الذين يدخلون بإذن الله في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (2) وهم كثير ولله الحمد، ومنهم: إمام دار الهجرة العالم المجتهد صاحب المذهب مالك بن أنس، المتوفى سنة 179 هـ رحمه الله الذي أثرت عنه الأقوال المتواترة في تقدير الفتوى وبيان عظم شأنها! ومنها: ما نقله ابن خلكان عن الحميدي في كتابه (جذوة المقتبس) قال: وحدث القعنبي قال: دخلت
__________
(1) (الردود) (ص 15 - 16) .
(2) سورة السجدة الآية 24(80/186)
على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه؛ فسلمت عليه، فجلست فرأيته يبكي! فقلت: يا أبا عبد الله وما يبكيك؟ فقال لي: يا ابن قعنب، وما لي لا أبكى؟ ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددت أني ضربت لكل مسألة أفتيت فيها برأيي بسوط، وقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي!! " (1) .
ولقد سئل هذا الإمام العلم عن مسألة عقدية تتعلق بصفات الله تعالى، فأفتى فيها عن علم وفقه، فكانت فتواه شافية كافية في المسألة ذاتها، إلا أن أثرها تعدى خصوص المسألة لتكون منهجا علميا ينسحب على هذه المسألة ومثيلاتها من مسائل الصفات أو الأمور الغيبية التي يعجز العقل عن إدراكها.
ساق الإمام الذهبي - رحمه الله - بسنده هذه المسألة؛ إلى جعفر بن عبد الله قال: كنا عند مالك، فجاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض، وجعل ينكت بعود في يده، حتى علاه الرحضاء (العرق) ثم رفع رأسه، ورمى بالعود، وقال: " الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به
__________
(1) (وفيات الأعيان) (4 / 137 - 138) .
(2) سورة طه الآية 5(80/187)
واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة، وأمر به فأخرج (1) ".
ولقد فتح الله على الإمام مالك - رحمه الله - بهذه الفتوى العظيمة؛ التي هي المذهب الحق والمنهج القويم عند الحديث في صفات الله تعالى، نؤمن بها ونمرها على ظاهرها اللائق بجلال الله من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف تحت قاعدة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) .. فهو سبحانه أعلم بنفسه، ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق به سبحانه، فمتى جاءنا نص من كتاب أو سنة صحيحة بإثبات صفة أو نفيها فلا يجوز العدول إلى رأي أو قياس مهما كان قائله.
وهو ما قرره مالك وعلماء السلف في فتاواهم للخلق، رحم الله الجميع.
ومن هذه الكوكبة أيضا: الإمام الرباني والفقيه المجتهد الإمام أحمد بن حنبل الشيباني: المتوفى سنة 241 هـ رحمه الله، الذي ظهر في أيامه بدعة خلق القرآن وهي من البذور الأولى لبدعة الجهمية في تقديم المعقولات على الوحي، وامتحن الناس بها، وفتحت السجون من أجلها، فتصدى الإمام أحمد لهذه الفتنة التي كادت أن تفسد على الناس دينهم لولا أن ثبته الله لبيان الحق، وفي ذلك يقول الإمام الناقد
__________
(1) (سير أعلام النبلاء) (9 / 100) .
(2) سورة الشورى الآية 11(80/188)
الذهبي رحمه الله: " فإن الأمة ما زالت على أن القرآن العظيم كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله، لا يعرفون غير ذلك، حتى نبغ لهم القول بأن كلام الله مخلوق، مجعول.. فأنكر ذلك العلماء " (1) .
فكانت فتوى الإمام متطابقة مع نصوص الوحيين؛ الكتاب والسنة، ومنهج السلف في فهم هذه النصوص؛ ولم يحد عنهما قيد أنملة! ولم تأخذه في الله لومة لائم، بل صبر لمدة أربعة عشر عاما كاملة توالى على سجنه وتعذيبه ثلاثة خلفاء من كبار خلفاء بني العباس وعلى التوالي! إلا أنه رحمه الله حسم القضية من بدايتها، وشعر بعظم الأمانة التي تحملها، وهو من علماء هذه الأمة، وعلم أن كل فتوى تصدر منه سيكون لها بالغ الأثر في هداية الناس أو تضليلهم والعياذ بالله، وبالتالي حماية العقيدة أو الانتقاص منها!
لذلك لما جاءه تلميذه المروذي وهو بين الهنبازين! قال: يا أستاذ! قال الله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (2) قال: يا مروذي، اخرج وانظر، فخرجت إلى رحبة دار الخلافة، فرأيت خلقا لا يحصيهم إلا الله، والصحف في أيديهم؛ والأقلام والمحابر، فقال لهم المروذي: ماذا تعملون؟ قالوا ننظر ما يقول أحمد؟ فنكتبه، فدخل فأخبره؛ فقال: يا مروذي! أضل هؤلاء كلهم؟ " (3) .
__________
(1) (سير أعلام النبلاء) (11 / 236) .
(2) سورة النساء الآية 29
(3) (سير أعلام النبلاء) (11 / 253) .(80/189)
وفي هذا السياق سياق (الفتوى) المؤثرة في باب الاعتقاد لا سيما وهي إذا صدرت من عالم مجتهد، ما كان يصل للإمام أحمد من سؤالات واستفتاءات في قضايا أشكلت على بعض طلبة العلم، فيفتي فيها الإمام بما يصحح المعتقد ويهدي سواء السبيل.
ومن ذلك: ما جاء في طبقات الحنابلة: أنه لما أشكل على مسدد بن مسرهد أمر الفتنة وما وقع الناس فيه من اختلاف في القدر والرفض والاعتزال، وخلق القرآن والإرجاء، كتب إلى أحمد بن حنبل: اكتب إلي بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ورد كتابه على أحمد بن حنبل بكى وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! يزعم هذا البصري أنه قد أنفق على العلم مالا عظيما، وهو لا يهتدي إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، وينهونه عن الردى يحيون بكتاب الله تعالى الموتى وبسنة رسول الله أهل الجهالة والردى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه؟ وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن آثارهم على الناس ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الضالين؛ الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا عنان الفتنة، يقولون عن الله وفي الله - تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا - وفي كتابه بغير علم، فنعوذ بالله من كل فتنة مضلة.. وصلى الله(80/190)
على محمد ... أما بعد: ... ثم شرع رحمه الله في الإفتاء والبيان " (1) .
ومات الإمام أحمد، ومات معذبوه، ومات أهل الفتن والأهواء؛ وبقيت فتاواه والحق الذي جاهد من أجله راسخا في قلوب المسلمين، وظل كتاب الله محفوظ الجناب من الزيغ والضلال، فلله الحمد من قبل ومن بعد {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
ومع صورة مشرقة أخرى لعالم رباني مجتهد آخر، كان لفتاواه واجتهاداته أثرها البالغ في تصحيح المفاهيم وحماية المعتقد، وهو الإمام الأصولي المالكي أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المتوفى سنة 790 رحمه الله.
فقد عاش هذا الإمام المجتهد عصرا - كما يذكر - انتشرت فيه البدع، وكادت أن تندثر معالم السنة في كثير من أحكامها لا سيما في جانب الأمور التعبدية وفي منهج التلقي عموما حتى عادت، ويصف تلك الفترة فيقول: " وكنت في أثناء ذلك قد دخلت في بعض خطط الجمهور من الخطابة والإمامة ونحوها، فلما أردت الاستقامة على الطريق؛ وجدت نفسي غريبا في جمهور أهل الوقت لكون خططهم
__________
(1) (طبقات الحنابلة) لأبي يعلى (1 / 342) .
(2) سورة يوسف الآية 21(80/191)
غلبت عليها العوائد، ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد " (1) .
ومع ضغط الواقع الذي كان يعيشه الشاطبي - رحمه الله - وإحساسه بالغربة فيه وما حصل له من تردد كما يقول هو نفسه؛ إلا أن ذلك لم يثنه عن قولة الحق وموقف الصدق، فقد استشعر عظم الأمانة وخطورة الفتوى والقول في دين الله، ووجوب حماية المعتقد وسلامة المنهج حتى وصل إلى القناعة الواجبة، يصورها قوله: " فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئا، فأخذت في ذلك في حكم التدريج في بعض الأمور، قامت علي القيامة! " (2) .
فتوكل على ربه، وألف، وأفتى، وجاهد، وكان كما قال عن نفسه: " ولم أزل أتتبع البدع التي نبه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذر منها، ويبين أنها ضلالة وخروج عن الجادة، لعلي أجتنبها فيما استطعت، وأبحث عن السنن التي كادت أن تطفئ نورها تلك المحدثات لعلي أجلو بالعمل سناها، وأعد يوم القيامة فيمن أحياها" (3) .
__________
(1) (الاعتصام) (ص 25) .
(2) (الاعتصام) (ص 27) .
(3) المصدر نفسه (ص 30) .(80/192)
فألف رحمه الله كتابه العظيم الفريد في بابه الموسوم بـ (الاعتصام) الذي حرر فيه معنى البدعة وقواعد التفريق بينها وبين السنة، وعرض فيه الكثير من الشبه التي قد تفسد على المكلفين صحة المنهج وسلامة المعتقد، ثم كر عليها بالبيان والنقض.
وكذلك كانت له فتاوى مشهورة (1) ، ومن تلك الفتاوى أذكر هذا النموذج الذي يتعلق ببيان البدعة من السنة:
فقد سئل - رحمه الله - عن تكبير العيدين بصوت واحد، وأنه كما جاء في السؤال (من بدع الخير التي شهد الشرع باعتبار حسنها..) .
فأجاب: الحمد لله أما من لم يكبر في مواضع التكبير فقد فاتته سنة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء بالسلف الصالح، وكفى بذلك خسرانا، وأما قول القائل: إن التكبير على صوت واحد فيه الأجر! فإن أثبت ذلك نقلا صريحا لا احتمال فيه عن السلف صح الأجر، وإلا فلا أجر فيه ألبتة، وأما قوله: إنه من بدع الخير التي شهد الشرع بحسنها فغلط؛ إذ لا بدعة في الدنيا يشهد الشرع باعتبار حسنها، بل الأمر بضد ذلك لقوله عليه السلام: «كل بدعة ضلاله (2) » وأشباهه.
والمسألة وإن كانت في فرع فقهي، إلا أن الذي يعنينا هو بيان
__________
(1) انظر: (فتاوى الإمام الشاطبي) تحقيق: د. محمد أبو الأجفان.
(2) (فتاوى الشاطبي) (ص 202) .(80/193)
المنهج السليم في التلقي، وأن الأصل فيه هو التوقيف، وبيان ذلك وتمييز السنة من البدعة من أهم مسائل الاعتقاد ولا ريب. وهذه الفئة من الناس - العلماء والمفتون الربانيون - مضت سنة الله - ولأمر خير أراده الله في هذه الطائفة الذابة عن دين الله وشرعه - أن يصيبهم بسبب صدعهم بالحق؛ الأذى والمحاربة، زيادة في مضاعفة الأجر، وخلود الذكر، ومن أسوأ ذلك: نفثات المخذلين المقصرين! فترى المثخن بجراح التقصير، الكاتم للحق، البخيل ببذل العلم؛ إذا قام إخوانه بنصرة السنة يضيف إلى تقصيره؛ مرض التخذيل، ومن وراء هذا ليوجد لنفسه عند المناشدة والمطالبة العذر في التولي يوم الزحف على معتقده (1) .
قلت: إذا أظهر أهل الباطل باطلهم، وتقول في دين الله كل دعي أفاك متعالم، وأهل العلم والحق ما بين ساكت أو مخذل أو متشاغل أو لا يدري عن الواقع! فمتى بربك يتبين الناس الحق، وكيف يحفظ الدين ويسلم المعتقد؟!
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا وأخيرا أسوة حسنة، وفي سلف هذه الأمة كذلك، وكل من سار على هذا النهج القويم.
وممن ينتظم في سلك هذه الكوكبة المضيئة من العلماء العاملين
__________
(1) انظر: (الردود) للشيخ المحقق بكر أبو زيد (ص 16) .(80/194)
المجتهدين المؤثرين، علم كبير القدر، جليل الأثر؛ هو الشيخ العالم الفقيه صاحب الفتاوى المشهورة أبو العباس تقي الدين شيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، المتوفى سنة 728 هـ.
فقد برز هذا العالم المجتهد في أمور كثيرة، من أهمها وأظهرها: جهاده العظيم في الذب عن حياض المعتقد الصحيح؛ وحمله لواء البيان عن الله ورسوله! فقد كرس حياته ووظف علمه قي بيان الحق ومناظرة أهل الأهواء والبدع، ولقد " تميزت حياة ابن تيمية بهذه الميزة العظيمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، فلم يكن العالم القابع في بيته، المتفرغ للإفتاء والتدريس والتأليف؛ وإنما كان - رحمه الله - رابطا العلم بالعمل! فعلمه يدفعه إلى تحمل مسئوليته فيبادر إلى القيام بالحق والجهاد في سبيل الله وردع أهل الباطل " (1) .
والحديث عن سيرته العلمية والعملية يطول، وقد ألفت فيها الكتب، وعني بها العلماء قديما وحديثا؛ إلا أني أشير إلى القدر الذي يقتضيه السياق، وبالقدر الذي يتحمله المقام، فالمتأمل لحياته - رحمه الله - يجد أنه عني كثيرا بإرسال الفتاوى المحققة والمؤصلة المبنية على القواعد المنهجية والشرعية لمن يسأله ويراسله مستفتيا وطالبا للحق، فرسائله
__________
(1) (موقف ابن تيمية من الأشاعرة) ، د. عبد الرحمن محمود (1 / 159) .(80/195)
العلمية المشهورة المسماة بالعقيدة الحموية أو التدمرية أو الواسطية؛ إنما هي في أصلها فتاوى عقدية صدرت منه - رحمه الله - بناء على أسئلة وردت إليه من أهل حماة أو تدمر أو واسط تتعلق بمسائل عقدية عظيمة.
فالواسطية: فتوى تتعلق بسؤال موضوعه: أسماء الله وصفاته الواردة في القرآن والسنة والمنهج الشرعي الصحيح في فهمها، وقد جاءت هذه الفتوى الكبرى بأسلوب تقريري متقن؛ حيث إنها مليئة بالقواعد الأصولية والمنهجية التي تقرر مذهب السلف.
وكذلك فتواه المسماة بالتدمرية، فهي من الفتاوى المهمة والنافعة في بابها، واحتوت على فوائد عظيمة منهجية في مسائل عقدية مهمة؛ كان لها كبير الأثر في فهم منهج السلف؛ وفى مناقشة المخالف بمنهج وأسلوب علميين رصينين.
ومن المسائل العقدية المهمة والخطيرة التي أفتى بها شيخ الإسلام وأكد عليها في كثير من فتاواه مسألة (التكفير) فقد كان لفتاواه أثرها الكبير في ضبط هذه المسألة ووضعها في إطارها العلمي الصحيح، وتحقيق مبدأ الوسطية التي جاءت به الشريعة لتكون أحكامها وسطا بين الطرفين الغالي في الحق أو الجافي عنه.
ومما قرره في تلك الفتاوى: أن للتكفير شروطا وضوابط علمية(80/196)
لا بد من توفرها، وأن لا يجوز تكفير إلا من قامت الأدلة الشرعية الصحيحة على تكفيره، ومن شروط التكفير التي ذكرها: قصد المعنى المكفر، وقيام الحجة من حيث إخبار القائل أو الكاتب بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وتوضيح هذه الحجة وإزالة الشبهة إن وجدت، والتفريق بين تكفير المعين والتكفير المطلق، ومن جملة قوله في هذا - رحمه الله -: " والأصل الثاني: أن التكفير العام كالوعيد العام، يجب القول به بإطلاقه وعمومه، وإطلاق حكم التكفير على الفعل شيء، وإطلاقه على الأشخاص المعينين شيء آخر، فقد يكون الفعل كفرا، ولا يكون فاعله كافرا؛ لانتفاء أحد الشروط، كقيام الحجة مثلا، أو لوجود شيء من موانع التكفير، كالجهل مثلا " (1) .
وجملة القول: أن فتاوى هذا الإمام العلم كان لها أكبر الأثر في بيان مسائل الاعتقاد، وفق المنهج الوسط المستمد من الأدلة الشرعية والمنهج الشرعي. ولعل من أظهر سمات منهجه - رحمه الله - هي: العناية الشديدة بالدليل الشرعي من الكتاب والسنة والإجماع وتعظيم الآثار: وتقديمها على غيرها من الأدلة، وتأكيده وإثباته لمسألة مهمة - كانت مزلة أقدام وأقلام لكثيرين - وهى دفع التعارض بين النقل والعقل، وإنزال كل منهما منزلته الصحيحة التي تليق به.
__________
(1) (مجموع الفتاوى) (12 / 497) ، وانظر: (الفتاوى) (1 / 106) ، (10 / 434) .(80/197)
المطلب الثاني: الالتفاف حول " المحكمات " وأثره في الفتوى وحماية المعتقد:
إن الانفتاح العلمي والفكري والإعلامي الذي يعيشه المسلمون اليوم حالة فريدة لم يسبق لها مثيل، ولم يعد - كما كان سابقا منذ عقد أو عقدين من الزمان - بالإمكان تحديد وضبط قنوات التلقي والتوجيه والفتوى!
بل وبسبب: تنوع وسائل الإعلام المشاهد منه والمقروء، ولسهولة التعاطي معه ولكل أحد؛ بات المسلم يسمع الفتوى والتوجيه من أكثر من مكان، ومن مشارب مختلفة ومذاهب شتى واتجاهات متباينة؛ وفي كل: الغث والسمين، والقريب والبعيد، والجيد والرديء!
لذلك أرى لزاما أنه لا بد من الاتفاق على قدر مشترك من العلم والفتوى لا ينبغي بل لا يجوز التساهل فيه والإفتاء بغيره! وإلا لوقع المكلفون في خلط عظيم، وارتكبت جناية على الدين! وهذا القدر الذي يجب الالتفاف حوله والانطلاق من خلاله واستحضاره جيدا عند كل فتوى أو اجتهاد هو "المحكمات في الدين".
والمحكمات التي نقصدها في هذا السياق - وبعد استعراض لتعريف المفسرين والأصوليين لهذا المصطلح - هي ما لوحظ في تعريفها الأوصاف التالية وهي:(80/198)
1 - الحفظ وعدم التغيير والتبديل.
2 - الوضوح والبيان.
3 - كونها أصلا ومرجعا.
وهذه الصفات تتوفر في الأحكام الداخلة في قواعد الدين وأصوله حال التشريع ووقت الرسالة، التي لا يتصور ورود النسخ عليها ولا تخصيصها وهي واضحة الدلالة على معانيها، بحيث أنها لا تحتاج إلى تأويل، وهي أصول ترد إليها المتشابهات والجزئيات.
وهي بذلك كما وصفها القرآن أم الكتاب وعمدته وأساسه، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (1) .
قال الإمام محمد بن إسحاق - رحمه الله - في تفسير الآية: " المحكمات هن حجة الرب وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه " (2) .
وقال الإمام المفسر القرطبي - رحمه الله – " فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع " (3) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) (تفسير ابن كثير) .
(3) (الجامع لأحكام القرآن) (4 / 9 - 11) .(80/199)
ومن أمثلة المحكمات: المقاصد الخمس الكلية التي جاءت الشريعة برعايتها، أو ما يعرف بالضروريات الخمس، وهي (حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض) .
وهذه الضروريات تمثل في الحقيقة قاعدة المحكمات، فالنصوص الدالة عليها محفوظة لا تقبل تغييرا أو نسخا، وواضحة لا تحتاج لتأويل، وهي أصول ترد إليها ما يشتبه على أفهام المكلفين.
ومن خلال هذه الصفات المهمة والخطيرة لهذا النوع من الأحكام (المحكمات) تأتي أهميتها ووجوب رعايتها من قبل المفتين وعامة المكلفين، فالفتوى عند صدورها من المفتي مهما كان مذهبه أو زمانه أو مكانه يجب أن تنسجم وتتوافق مع حفظ هذه الضروريات ولا يجوز أن تعارضها أو تعود عليها بشيء من الإبطال أو النقص.
ومن أمثلة رد ما يشتبه على المكلفين لهذه المحكمات والأصول:
(حفظ الدين) مثلا: هو الضروري الأول، ويحفظ من جانبين - كما قرر العلماء - من جانب الوجود؛ وذلك: بالأمر بالتوحيد والإيمان وإظهار أحكام الشريعة، ومن جانب العدم، وذلك: بمنع الارتداد عن الدين والسخرية منه، من خلال إقامة حكم الردة، والذب عنه بكشف شبهات أهل الزيغ والضلال والأهواء والبدع.
واستحضارا لهذا الأصل العظيم، فإن الفقهاء والمفتين يردون فروعا كثيرة لا تحصى، تجتمع كلها على حفظ هذا المقصد.(80/200)
فإذا دخل على بعض المكلفين إشكال في فهم (حرية المعتقد أو الرأي) بحسب مبلغ فهمه من قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (1) وفهم أن حرية الدين مطلقة، بحيث يسوغ للمكلف أن ينحل من أي دين أو معتقد متى ما شاء!
فإنه يفتى ويبين له من خلال الرد لهذا المقصد المحكم (حفظ الدين) ، وبيان ذلك: أن الشريعة كفلت لأهل الأديان الأخرى؛ إذا كانوا تحت ولاية المسلمين (أهل ذمة) حرية البقاء على ما هم عليه، أو اتباع الإسلام، وهذا الحق مشروط بشروط ذكرها الفقهاء في كتبهم، ومنها: أن لا تؤدي هذه الحرية للإخلال بحفظ الدين، فيمنع الإلحاد، وتسد جميع الوسائل المفضية إليه، وكذلك منع الإباحية ووسائلها، ونشر الخرافة والضلالات.
وكذلك فإن في منع المسلم من الانتقال من الإسلام للكفر حفظا لهذا الدين من الانتقاص من قدره وتهوين شأنه في نفوس أهله وغيرهم.
وبذلك يرد كل ما أشكل فهمه في هذه المسألة إلى هذا المحكم، فتكون الفتوى بحول الله من وسائل حماية المعتقد وبيان الشريعة (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 256
(2) المحكمات في الشريعة وأثرها في وحدة الأمة. د. عابد السفياني.(80/201)
آثار الالتفاف حول المحكمات على الفتوى والمكلفين:
بما أن المحكمات هن أصل هذا الدين وقاعدته المتينة، فإن الحفاظ على القاعدة فوق أنه واجب ضروري شرعا وعقلا، فإن آثار هذا الحفظ محمودة الغب ظاهرة الأثر، ومن آثار ذلك في مقام الفتوى وانعكاسه بالتالي على المكلفين:
1 - ضبط الفتوى، وذلك بردها إلى أصول محكمة هي محل إجماع بين أهل العلم، فلا يستطيع المفتي تجاوز هذه الحدود؛ وإلا تكون فتواه بعيدة عن الصواب بقدر ابتعاده عن هذه الحدود.
2 - تقليل دائرة الاضطراب في الفتوى قدر الإمكان، ومرد ذلك إلى توحيد جهة الرد (إلى المحكمات) فإذا استحضرت هذه المقاصد الضرورية عند تحرير الفتوى، ورعاها المفتي حق رعايتها؛ فإن كثيرا من المسائل المتعلقة بالاعتقاد والقضايا الكلية التي تهم مجموع الأمة ستكون محل اتفاق؛ أو على الأقل فإن دائرة الخلاف ستكون ضيقة إلى حد كبير، مما سيؤدي إلى جمع الأمة على رأي واحد - قدر الإمكان - في القضايا والمسائل الكلية لا سيما المتعلقة بباب الاعتقاد.
3 - من آثار هذا الحفظ على المكلفين (المجتمع الإسلامي) منع الفساد في الأرض، وإبراز المنهج الرباني الذي يقدم التصور الصحيح(80/202)
لقضايا الدين والدنيا؛ ومنه: تحريم الشرك والأهواء المضلة لمعارضتها لأصل التوحيد، وكذلك تحريم الاعتداء على النفوس، والأعراض ماديا أو معنويا، وتحريم ومنع كل الوسائل المفضية إلى الانحلال الخلقي والإباحية، واستحلال المحرمات، وتحريم كل ما يضر بالعقل من أفكار ضالة وأهواء منحرفة وخرافات ساقطة.(80/203)
المبحث الثالث: أثر الفتوى في تحقيق وسطية الأمة:
المطلب الأول: تحرير معنى الوسطية:
إن الحديث عن أي مصطلح أو معنى من المعاني يستوجب الوقوف والبحث للوصول إلى مفهوم دقيق لهذا المصطلح؛ وفق منهج علمي سليم.
والوسطية من المعاني الشرعية المهمة، وقد بات هذا المصطلح لا سيما في السنوات الأخيرة مثار جدل ومحط استعمال في كثير من الأطروحات الفكرية، وكثر المنادون به، وكل يدعي وصله والأولوية به!
ومبدأ الوسطية محل إجماع على صحته؛ ووجوب الانطلاق منه، باعتباره سمة من سمات هذه الشريعة الغراء، إلا أن ذلك لا يعني الخلاص من إشكالية تحديد المراد من هذا المفهوم تحديدا يرفع الخلاف(80/203)
القائم في اختيار الصيغة النهائية لهذا المفهوم أو يرفع الجدل القائم حول تطبيقه! والمنهج العلمي الصحيح لتحديد المراد من هذه المعاني الشرعية هو ردها للمعاني اللغوية والاستعمال الشرعي لها؛ بحسب ورودها في النصوص والسياقات التي جاءت فيها، والنظر في كلام أئمة التفسير وشراح الأحاديث عند بيانهم للمراد من هذه المعاني.
المعنى اللغوي:
مادة (وسط) في اللغة تدل على معان متقاربة كما يقول ابن فارس: " الواو والسين والطاء بناء صحيح يدل على: العدل والنصف، وأعدل الشيء أوسطه ووسطه" (1) .
وتأتي هذه الكلمة لمعان متقاربة أشهرها معنيان (العدل والخيار) ، قال في القاموس: " الوسط من كل شيء أعدله " (2) .
وقال في النهاية: " يقال: هو من أوسط قومه أي من خيارهم " (3) .
ومنه قول الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة عن قريش: " هم أوسط العرب نسبا ودارا " (4) ".
__________
(1) (معجم مقاييس اللغة) : كتاب الواو، باب (الواو والسين) 6 / 108
(2) (القاموس المحيط) مادة: (وسط) ، باب الطاء، فصل الواو.
(3) (النهاية في غريب الحديث) (5 / 184) .
(4) (تاريخ الطبري) (2 / 234 - 236) .(80/204)
الاستعمال الشرعي:
ينبغي أن تستحضر هذه المعاني اللغوية السابقة للوسطية عند محاولة تحديد المراد من المصطلح، ونجد أن الوسطية أو الوسط كما جاء في الكتاب والسنة يدور حول المعنيين اللغويين السابقين (العدل والخيار) ففي القرآن: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (1) .
وفى السنة: ما جاء في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجيء نوح وأمته فيقول الله تعالى هل بلغت؟ فيقول نعم أي رب، فيقول لأمته هل بلغكم؟ فيقولون لا، ما جاءنا من نبي، فيقول لنوح من يشهد لك؟ فيقول محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فنشهد أنه قد بلغ، وهو قوله جل ذكره والوسط العدل (3) » .
والشاهد؛ قوله صلى الله عليه وسلم: «والوسط العدل (4) » ، وقد بين الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في الفتح أن هذا الجزء من الحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس مدرجا كما توهم البعض (5) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه) رقم (3339) .
(3) سورة البقرة الآية 143 (2) {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}
(4) البخاري أحاديث الأنبياء (3161) ، الترمذي تفسير القرآن (2961) ، أحمد (3/58) .
(5) انظر: (فتح الباري) لابن حجر (8 / 172) .(80/205)
إضافة إلى أنه هو التفسير المتفق مع تفسير الآية السابقة.
وتفسير الوسطية بالعدالة والخيرية هو المنسجم كذلك مع مرتبة الشهادة التي نالتها الأمة، فالشاهد من شروطه العدالة، قال الحافظ في الفتح: " وشرط قبول الشهادة العدالة، وقد ثبتت لهم هذه الصفة بقوله: وسطا؛ والوسط: العدل ".
وهذا التفسير مروي عن جمع غفير من أئمة السلف في التفسير والفقه، ومنهم: ابن عباس - رضي الله عنهما – ومجاهد، وقتادة، وعطاء، وغيرهم رحم الله الجميع.
معنى العدالة والخيرية:
العدالة والخيرية هما أظهر صفات هذه الأمة الوسط، والعدالة من العدل الذي هو خلاف الظلم.
أما الخيرية فقد جاء ذكر ملامحها وصفاتها في كتاب الله عز وجل:(80/206)
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) فقد ذكر الله بعد حكمه على هذه الأمة بالخيرية؛ وصفين مناسبين هما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله.
وقد تقرر في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونا بوصف مناسب يشعر بعلية هذا الوصف لذلك الحكم، فكأن علة (الخيرية) هما هذان الوصفان العظيمان.
فهذه الأمة أمة خير؛ لأنها كذلك، فهي أمة خير للناس! لأنها أنفع الأمم للخلق جميعا، وأي خير وأي نفع أعظم وأمضى أثرا من هداية الخلق للحق.
وفي الأثر عن أبي هريرة رضي الله عنه - في المعنى نفسه - {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (2) قال: خير الناس للناس؛ تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام " (3) .
فهذه الأمة المحمدية المباركة - بما وهبها الله من نعم - تحمل الخير لكل الناس، وتكره لهم أن ينتهوا إلى المصير البائس الذي توعد الله به كل منحرف وضال عن معرفة ربه ودينه الحق، وتجهد نفسها - من غير
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) البخاري، كتاب التفسير، باب كنتم خير أمة، حديث رقم (4557) .(80/207)
من ولا أذى - في سبيل أن تحول بين البشرية وبين الضلال والشقاء؛ بأمرهم بالإيمان بالله ونهيهم عن الشرك به سبحانه.
الوسطية ليست وسطا بين رذيلتين مطلقا:
المقصود من ذلك بيان أن المنهج الوسط ليس منهجا توفيقيا أو تلفيقيا بين طرفين متضادين، نضطر للتقريب بينهما حتى نصل لرتبة وسط!
فإنه وإن كان في الغالب أنه يوجد في كل قضية طرفان مذمومان بينهما وسط ممدوح، إلا أن ذلك ليس بحتم لازم، فالصدق مثلا يقابله الكذب، ومثله العدل يقابله الظلم، وليس أي منهما وسطا بين رذيلتين!
والوسط بحسب اجتهاد البشر ليس بالضرورة أن يكون حقا أو خيرا، بل قد يرى الناظر - في بادي الرأي - قولا أو موقفا وسطا بين باطلين، ومع ذلك لا يكون خيرا؛ بل قد يكون باطلا مثلهما، ومثاله: أن المعتزلة قد توسطوا - بحسب اجتهادهم - بين طرفين؛ في باب الأسماء؛ بين الخوارج القائلين بتكفير مرتكب الكبيرة، وبين المرجئة القائلين بأن أهل الكبائر كاملو الإيمان، فذهبت المعتزلة إلى مرتبة بين المرتبتين فقالت: إن مرتكب الكبيرة فاسق خرج من الإيمان ولم يدخل الكفر، فوسطية هذا المذهب هنا ليست هي الحق في هذا الباب؛ لأنها تخالف القول الوسط نفسه الذي بمعنى (الخيرية والعدل) الذي دلت عليه النصوص، والتي لا تدل دائما إلا على الوسط قولا واعتقادا وتوجها.(80/208)
خلاصة القول: أن الدعوة للوسطية هي الدعوة للدين الحق والقول الحق والمنهج الحق، الذي دلت عليه النصوص الشرعية الصحيحة، الذي هو في حقيقته عدل كله وخير كله لا غلو فيه ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط؛ لأنه من لدن لطيف خبير.(80/209)
المطلب الثاني: أثر الفتوى في بيان المنهج الوسط:
من الأمور المقررة أهمية الفتوى وخطورة أثرها على المستفتين، ومن أجل ذلك لا بد من أن يتحرى المفتي في اجتهاده إصابة الحق ما وسعه ذلك.
ومن مقاصد الشارع من المكلفين: حملهم على التوسط في شأنهم كله من أمور الدنيا والدين؛ من غير إفراط ولا تفريط (1) . وأي خروج عن هذا المنهج الوسط هو في حقيقته خروج عن قصد الشارع.
والوسطية في (الفتوى) نستطيع أن ننظر لها من خلال أمرين مهمين غاية الأهمية، وهما:
أولا: الوسطية من جهة المنهج العلمي في الإفتاء الذي يسلكه المفتي.
ثانيا: الوسطية فيما يصدر عن هذا المفتي.
ووسطية الفتوى نتاج طبيعي لوسطية منهج الإفتاء، وهذه الوسطية لا تعني - وكما قررناه سابقا - التوفيق والتلفيق وإحداث منهج جديد يلائم أهواء المكلفين ومتطلبات العصر كما يقال! بل إن هذا المنهج وإن زعم أصحابه أنه منهج وسط إلا أنه أبعد ما يكون عن
__________
(1) (الموافقات) (5 / 276) .(80/209)
الوسطية! وإذا لم يكن ليس ثمة خلاف بين المسلمين في أن (الكتاب والسنة) هما المرجعان الرئيسان لمعرفة أحكام الله عقيدة وشريعة، إلا أنهم اختلفوا في مناهج الاستثمار أو الاستنباط؛ بمعنى كيفية استنباط الأحكام من هذين المصدرين، ولهذا الاختلاف في المناهج أسبابه وخلفياته التي ليس هذا أوان ذكرها.
والذي يهمنا هو معرفة كيف يكون منهج التوسط في كيفية الاستنباط والاجتهاد، ولا يظهر ذلك جليا إلا بعد تصور المناهج المطروقة والسبل المسلوكة في هذا الباب.
فمن العلماء قديما وحديثا من اختار الاقتصار على ما تفيده ظواهر الألفاظ الواردة في النصوص الشرعية، ويعد الاقتصار على ذلك أمرا متعينا؛ لأن فيه الأمن من البعد عن مرادات النصوص قدر الإمكان، وعن تحكيم العقل فيما لا سلطة له فيه.
ومنهم من غلب جانب التعليل وإعمال العقل في النصوص؛ بحجة أن الشريعة أحكامها معقولة المعنى، فلا بد من إظهار هذه المعاني والعلل، وبناء الأحكام عليها، ومنهم لا سيما من المتأخرين من يغلو في هذا الجانب وينادي بأنه يكفي أن تكون الأحكام الفقهية منطوية تحت معان عامة تدل عليها النصوص إجمالا.
وقد أدى التمادي في هذا الاتجاه إلى بعد كثير من الفتاوى والاجتهادات عن مقتضيات النصوص، ومن العلماء من اختار سبيل(80/210)
الاقتصاد والتوسط، فنهج مسلك الأخذ بظواهر النصوص؛ مع اعتبار المعاني بما لا يؤدي إلى تعطيل مدلولات النصوص أو نقضها، بل بالقدر الذي يوسع دلالات النص بحسب القواعد العلمية المرسومة، وهم في ذلك لم يجمدوا على ظواهر الألفاظ؛ فيعطلوا المعاني، ولم يغرقوا في إعمال المعاني ويطرحوا النصوص!
يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله -: " وإن كانت المذاهب كلها طرقا إلى الله، ولكن الترجيح فيها لا بد منه: لأنه أبعد من اتباع الهوى كما تقدم، وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد؛ فقد قالوا في مذهب داود لما وقف مع الظاهر مطلقا: إنه بدعة حدثت بعد المائتين، وقالوا في مذهب أصحاب الرأي: لا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السنة، فإذا كان ثمة رأي بين هذين؛ فهو أولى بالاتباع، والتعيين في هذا المذهب موكول إلى أهله، والله أعلم "(80/211)
فالوسطية إذا في باب الفتوى " موقف بين موقفين في فهم النصوص والتعامل معها، وهي اتجاه بين اتجاهين بين ظاهرية مفرطة وباطنية مفرطة " (1) .
فإذا ثبت وتقرر المنهج الصحيح للفتوى المنضبط بقواعد أهل العلم في هذا الفن، وبانت ملامحه، والذي هو في نهايته المنهج الوسط، أقول: إذا تقرر هذا المنهج؛ فإن العالم الذي بلغ درجة الاجتهاد وصار مؤهلا للاجتهاد والفتوى، فعليه واجب كبير ومن خلال ذلك المنهج العلمي الوسط أن يجتهد - قدر وسعه - في تحقيق مقصد الشارع من المكلفين المشار إليه سابقا وهو: (حمل المكلفين على الوسط) .
وذلك يتأتى من جهة حمل المكلفين على موارد الشرع وأدلته، دون إفراط ولا تفريط؛ فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرق الانحلال والتفلت.
وهذا كله من نتاج المقدمة الأولى المشار إليها وهي: " وسطية منهج الإفتاء ".
وهو من واجبات المفتي، ومن الأمانة الملقاة على عاتقه. وقد نبه إلى ذلك عدد من المحققين من أهل العلم، ومنهم الإمام الشاطبي حيث قال: " المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود
__________
(1) المؤتمر الدولي في الكويت بعنوان (الوسطية منهج حياة) 21 - 23 مايو 2005.(80/212)
الوسط فيما يليق بالجمهور! فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرق الانحلال ... فإذا خرج عن ذلك في المستفتين؛ خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين " (1) .
والذي يليق بجمهور المكلفين هو الذي دلت عليه القواعد الشرعية الكلية المستنبطة من مجمل النصوص من كتاب وسنة، من مثل: رفع الحرج، والمشقة تجلب التيسير، واليقين لا يزول بالشك، إلا أن ذلك كله لا بد وأن يكون بعيدا كل البعد عن اتباع الهوى؛ المضاد لأصل التكليف.
وهذا الحمل على التوسط هو المنهج الذي طبقه النبي صلى الله عليه وسلم والمفهوم من شأنه عليه الصلاة والسلام، فقد رد التبتل، وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة " يا معاذ أفتان أنت " (2) ، وقال: «عليكم من الأعمال ما تطيقون (3) » .
ولكن: ما الذي سيحدث لو حاد المكلفون عن هذا المنهج الوسط سواء في الاعتقاد أم في الفقه؟
الذي سيحدث - والله تعالى أعلم - هو جنوح المكلف لأحد
__________
(1) (الموافقات) (5 / 276) .
(2) مسلم؛ كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، رقم (465) .
(3) البخاري؛ كتاب الصوم؛ باب صوم شعبان؛ رقم (1970) .(80/213)
الطرفين المذمومين الخارجين عن الجادة، وهما: الجفاء أو الغلو.
والغلو هو: مجاوزة الحد الذي رسمه الشرع، سواء في الاعتقاد، أو الفقه، أو التصورات (1) .
والجفاء: خلاف البر، والجفاء في اللغة: ما نفاه السيل (2) .
وفي الحديث: «اقرءوا القرآن، واعملوا به، ولا تجفوا عنه؛ ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به (3) » .
فهذا الحديث نهي عن اتباع الطرفين المجانبين للمنهج الشرعي الوسط وهما (الغلو والجفاء) بمعنى الابتعاد عنه وهجرانه.
فالجفاء في الجملة هو: الابتعاد عن الهدي الشرعي في السلوك أو الاعتقاد، وهو نوع من التفريط كذلك.
فدين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له أيضا، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بمجاوزته الحد (4) .
وتحرير الأعمال والأقوال التي يسوغ وصفها بالغلو، أمر غاية في الأهمية، لكيلا يدخل تحت وصف الغلو أعمال وأقوال هي من دين
__________
(1) انظر: (تفسير الطبري) (6 / 43) ، (اقتضاء الصراط المستقيم) (1 / 289) .
(2) (لسان العرب) ، مادة: (جفأ) .
(3) (مسند أحمد) (3 / 428) . وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (1168) .
(4) انظر: (مدارج السالكين) لابن القيم (2 / 469) .(80/214)
المسلمين وتكاليف الشرع القويم، وهل الغلو في العمل نفسه أم في الوسيلة المؤدية إليه؟
وعدم تحرير هذه المصطلحات والمعاني بشكل دقيق: يوقع في كثير من الخلط والنزاع، ويؤدي إلى فساد التصور الذي ينبني عليه - في الغالب - عدم صحة الأحكام.
وإلى هذا نبه المحققون من أهل العلم؛ ومنهم الغزالي - رحمه الله - كما في شفاء الغليل! حيث قال: " معظم الأغاليط والاشتباهات ثارت من الشغف بإطلاق ألفاظ دون الوقوف على مداركها ومآخذها " (1) .
وبتعبيره بكلمة (الشغف) فإنه يصور الواقع أبلغ تصوير!
ومثله قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله -: " إن كثيرا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة، ومعان مشتبهة، حتى تجد الرجلين يتخاصمان؛ ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره، فضلا عن أن يعرف دليله " (2) .
ومن صور الغلو؛ والجفاء كذلك التي قد يمارسها أو يعتقدها بعض المسلمين - هدى الله الجميع - إذا لم يجدوا البيان الشافي والفتوى المنضبطة بالمنهج العلمي؛ المحققة لمقاصد الشرع، من صور ذلك:
__________
(1) (شفاء الغليل) (ص 199) .
(2) (الفتاوى) (112 / 114) .(80/215)
1 - الغلو في فهم النصوص على نحو مرادها الصحيح، وهذا يأتي من الخلل في معرفة المنهج العلمي في التفسير والاستنباط، ومرده إلى (الجهل بالعلم الشرعي) ، و (فقد التوجيه) .
2 - الغلو المتعلق بالأحكام؛ إما بإلزام النفس أو الآخرين بمسائل وأفعال لم يوجبها الشرع، أو تحريم شيء من الطيبات المباحة على وجه التعبد.
3 - الغلو في الموقف من الموافق أو المخالف، فالأول قد يمدح حتى يوصل به إلى مرتبة التقديس أو العصمة! والثاني قد يذم حتى قد يحكم عليه بالكفر أو الفسق والمروق من الدين؛ دون بينة أو دليل! وكلا الموقفين خلاف المنهج الوسط، وآثاره على المجتمع المسلم وخيمة جدا.
4 - وهو من صور (الجفاء) : التفريط في كثير من العبادات من فرائض وسنن ونوافل، كالجفاء في محبة النبي صلى الله عليه وسلم من حيث عدم الاهتمام الواجب بهديه وسمته، وتأدية الواجب واللائق في مكانته الشريفة من الإكثار من الصلاة والسلام عليه، وزيارة مسجده الشريف، ونحو ذلك من السنن المشروعة، ومنه: الإقلال من ذكر الله تعالى، وعقوق الوالدين، وهجران المساجد وقراءة القرآن ... إلخ.(80/216)
وحاصل القول: أن هذه الأمة أمة الوسط، الوسط في القول والعمل، الوسط في التصورات والمواقف، والوسط - وتأكيدا لما سلف - ليس معناه الأخذ من كل قول أو مذهب بطرف، والتجميع لنصل لقول أو موقف متوسط بين طرفين، فهذا يعني أن يكون القول الوسط ردة فعل جاءت للتوفيق بين قولين أو رأيين على طرفين متقابلين، بل القول والمنهج الوسط - بحسب ما أفهمه - هو: القول الحق الذي دلت عليه النصوص الشرعية، وبينه علماء الأمة؛ فهو الحق الموجود أصلا، علمه من علمه وجهله من جهله!!
وهذا (الحق) تجده دائما وسطا عدلا لا إفراط فيه ولا تفريط، لا تمييع ولا غلو، والناس فيه ما بين مصيب له أو مجانف عنه، وهذا يدفعني إلى القول هنا بلزوم التوازن في معالجة قضايا الغلو.
فالغلو له جانبان أو صورتان: غلو في التمسك والتشدد في التطبيق؛ لم يأذن به الله، ولم تأت بها شريعته؛ التي من أصولها (رفع الحرج، والتيسير) ، ونبيها صلوات الله وسلامه عليه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.
والصورة الأخرى للغلو: غلو في الانحلال والتميع، والتفلت من نصوص الشرع وقواعده؛ يؤدي إلى التطاول على محكماته، وهو أيضا(80/217)
مما يأباه الله ورسوله والمسلمون، وقد أمرنا جميعا بالذب عن دينه وحماية حدوده ومعالمه، والضرب على يد المتطاول المتهاون والقائل على الله بغير علم ولا هدى!
فلا ننس في غمرة الانشغال بالأول: الإنكار على الثاني، وبالدرجة نفسها، فإن الصورة الثانية من الغلو (في جانب التفريط) تكون غالبا من أسباب الغلو في صورته الأولى، والواقع خير دليل.
وإن من أهم أسباب حمل المكلفين على المنهج الوسط؛ هو (التحصن بالعلم الشرعي) إذ لا بد من اتخاذ كافة الوسائل المتاحة لبث العلم الشرعي المؤصل، وتوفير سبله لكل راغب فيه، وتسهيل اتصال عامة الناس بدور الفتوى ومجالس العلماء، وأن يحتسب العلماء والمفتون الأجر في الصبر على تعليم الناس وتفقيههم بأمور دينهم، ومن المتفق على صحته: أن الإنسان كلما ازداد علما صيحا ازداد بصيرة وقربا من المنهج الوسط الذي ارتضاه الله لعباده، وهي قاعدة مطردة، الأصل فيها قول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » .
وأختم بنقل شذرات مهمة من قرارات مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة، حيث أوصى
__________
(1) البخاري، كتاب العلم، حديت رقم (71) .(80/218)
المجتمعون من فقهاء الأمة بتوصيات مهمة؛ تصب في السياق الذي نتحدث فيه؛ من حيث ضبط الفتوى، ودور المفتين والفقهاء في التوجيه وضبط المصطلحات. ومن تلك التوصيات:
1 - الاتفاق على ميثاق بشأن الإفتاء، ومعالجة الفتاوى الفردية في قضايا الأمة.
2 - تحديد المصطلحات والتعريفات الشرعية ودلالاتها؛ لإزالة اللبس الحاصل بشأنها لدى بعض الناس، في مثل: (جماعة المسلمين، الطائفة المنصورة، دار الإسلام، دار الحرب، الولاء والبراء، الجهاد، الحوار، حقوق ولي الأمر وواجباته) . وطباعة ذلك في كتاب، وتعميمه بين المسلمين.
3 - دعوة علماء الأمة لتقوية الصلة مع الشباب والناشئة من أبناء المسلمين، وتفقيههم بما يلزمهم من أمور الدين، دونما إفراط أو تفريط.
4 - دعوة مجامع الفقه والكليات الشرعية للتعاون في تيسير ما يحتاج إليه أبناء المسلمين من كتب الفقه الإسلامية؛ بغية تحصينهم من الشذوذ الفكري والانحراف السلوكي والثقافي.
5 - مطالبة علماء الأمة بإعداد البحوث والدراسات التي تعالج الفكر المنحرف والغلو في الدين، ودعوة الأمانة العامة لرابطة(80/219)
العالم الإسلامي للإسهام في تكليف عدد من الباحثين المخصصين لإنجاز البحوث المطلوبة) (1) .
أسأل الله تعالى رب العرش العظيم أن يوفق علماء المسلمين للهدى والحق، وأن يثبتهم عليه، ويعينهم على نشره ودلالة الخلق إليه، وأن يرد المسلمين للحق ردا جميلا.
وأقول - في نهاية هذا المبحث - بقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من كان مستنا فليستن بمن مات! فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" (2) .
وأختم بما كان يدعو به الإمام المبجل أحمد بن حنبل - رحمه الله - في سجوده: " اللهم من كان من هذه الأمة على غير الحق؛ ويظن أنه على الحق! فرده إلى الحق ليكون من أهل الحق " (3) .
اللهم ما كان منه صوابا فبتوفيقك كان، وما لم يكن فأنت أهل
__________
(1) مجلة المجمع الفقهي، العدد (17) .
(2) (جامع الأصول) لابن الأثير (1 / 292) .
(3) (البداية والنهاية) لابن كثير (10 / 443) .(80/220)
للعفو والمسامحة عن الخطأ والنسيان، وصلى الله وسلم على سيد الخلق وحبيب الحق وآله وصحبه أجمعين.(80/221)
الخاتمة ونتائج البحث:
الحمد لله على إعانته وتوفيقه، ثم إنه وبعد هذه الجولة في كلام أهل العلم، خلصت للنتائج التالية:
أولا: عظم شأن الفتوى، وخطورة أثرها إيجابا وسلبا على حد سواء، لذا جاءت النصوص الشرعية بتحريم القول على الله بغير علم ولا هدى.
ثانيا: أن المفتي إذا أخطأ في فتواه فإنه قد يضمن ما تسببه في بعض الحالات كما فصل ذلك أهل العلم.
ثالثا: من أهم آداب المفتي وخصاله النبيلة: النية الصادقة، والتجرد من كل هوى، والشعور الدائم بالافتقار إلى الله تعالى، وأن يكون نصح الخلق وبيان الحق هو هدفه وهمه.
رابعا: الإفتاء الأصل في حكمه أنه: من فروض الكفايات على القادرين المؤهلين، وقد تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة باختلاف الأحوال.
خامسا: الفتوى المؤصلة الصادرة من أهلها المعتبرين؛ من وسائل حفظ الأمن والمعتقد الصحيح؛ من جانبي الوجود والعدم.
سادسا: في تاريخ المسلمين وفي مختلف القرون نماذج مضيئة لأئمة(80/221)
أعلام؛ كان لفتاواهم الأثر الكبير والممتد والمتعدي في حفظ الشريعة وصيانة المعتقد الصحيح.
سابعا: العناية بالمحكمات وعدم الاختلاف حولها لا سيما عند (الإفتاء) من أهم أسباب الحفاظ على جناب الشريعة وتضييق هوة الخلاف بين المسلمين.
ثامنا: وجوب العناية بتحرير المصطلحات ومعرفة المراد من الألفاظ، لا سيما في كثير من الكتابات المعاصرة، فكثير من النزاعات بين الكاتبين والمتحدثين: سببه ألفاظ مجملة ومعان متشابهة.
تاسعا: الوسطية هي الدين الحق (دين الإسلام) الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فهي: الحق الموجود أصلا بجعل الله لهذه الشريعة كذلك (منهجا وسطا) ، وليست الوسطية التجميع بين مذهبين أو التلفيق بين رأيين، بل هي الحق الموجود أصلا علمه من علمه وجهله من جهله!
عاشرا: فتاوى العلماء المعتبرين؛ لها أثرها الكبير في حمل الناس على المنهج الوسط؛ في السلوك والاعتقاد والتصورات، وفي إبعادهم عن الجفاء والغلو.
الحادي عشر: حتى يكون للفتوى القبول والأثر على المكلفين، لا بد من مواكبتها للأحداث وعدم تأخيرها عن وقت الحاجة والبيان.
والله الموفق والمعين، والحمد لله في البدء والختم.(80/222)
أحكام الصلاة في المقابر
للدكتور فهد بن عبد الله العمري (1)
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن شريعتنا الغراء أتت صالحة لكل زمان ومكان، فبينت قواعد هذا الدين في العبادات والمعاملات وجميع جوانب هذه الحياة؛ حتى يعيش المسلم على بصيرة من الأمر يتبعها، قال عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (2) .
فالشرع المطهر لا يأمر إلا بما هو خير وفلاح، ولا ينهى إلا عن شر وبلاء.
__________
(1) عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة وأصول الدين قسم الفقه - جامعة القصيم.
(2) سورة الأنعام الآية 38(80/223)
ومن ذلك ما يتعلق بالصلاة في المقابر سواء كانت الفرائض أو صلاة الجنائز.
فلقد قمت بدراسة هذا الموضوع، تحت عنوان: أحكام الصلاة في المقابر، وقد كان من أهم الأسباب في اختياره:
أهمية هذا الموضوع في حياة الناس، لأن كثيرا من الناس وقعوا في أخطاء كثيرة تتعلق بالقبور من ذلك الصلاة عندها، والبناء على القبور، وتعظيمها، فكان لا بد من دراسة علمية مؤصلة، تبين أحكامه، تبصيرا للناس، وإعانة لهم على البر والتقوى.
فلهذا وغيره عزمت - مستعينا بالله عز وجل - أن أكتب في هذا الموضوع وفق الخطة التالية:
جعلت هذا البحث في مقدمة وتمهيد وفصلين وخاتمة.
أولا: المقدمة: ذكرت فيها أهمية الموضوع وسبب اختياره وخطة البحث، ومنهجه.
ثانيا: التمهيد: وفيه بيان تعريف الصلاة والمقابر وتحته مبحثان:
المبحث الأول: تعريف الصلاة لغة وشرعا.
المبحث الثاني: تعريف المقابر لغة وشرعا.
ثالثا: الفصل الأول: الصلاة في المقابر، وتحته ستة مباحث:
المبحث الأول: حكم الصلاة في المقبرة من حيث الفعل.
المبحث الثاني: حكم الصلاة في المقبرة من حيث الإجزاء.(80/224)
المبحث الثالث: حكم الصلاة في المقبرة بقصد التبرك.
المبحث الرابع: حكم الصلاة عند القبر الواحد والقبور الكثيرة.
المبحث الخامس: حكم الصلاة في أماكن القبور إذا أزيلت.
المبحث السادس: حكم بناء المساجد في المقابر.
رابعا: الفصل الثاني: صلاة الجنازة في المقابر، وتحته خمسة مباحث:
المبحث الأول: حكم الصلاة على الجنازة في المقابر.
المبحث الثاني: حكم الصلاة على القبر إذا دفن الميت قبل الصلاة عليه.
المبحث الثالث: حكم الصلاة على قبر صلي عليه لمن فاتته الصلاة عليه قبل الدفن.
المبحث الرابع: حكم إخراج الميت من القبر لأجل الصلاة عليه.
المبحث الخامس: بيان المدة التي يشرع فيها الصلاة على الميت في القبر.
خامسا: الخاتمة: وتشتمل على أبرز النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث.(80/225)
أما منهجي في البحث:
فقد اتبعت في دراسة هذا الموضوع ما يلي:
أولا: أصور المسألة التي تحتاج إلى بيان.
ثانيا: إذا كانت المسألة من مواضع الاتفاق بين الفقهاء أشير إلى ذلك مع توثيقه من مصادره المعتمدة.
ثالثا: إذا كانت المسألة من مواضع الخلاف، فأتبع ما يلي:
أ - تحرير محل النزاع.
ب - أذكر الأقوال في المسألة مع بيان من قال به من أهل العلم.
ج- الاقتصار على المذاهب الفقهية المعتبرة مع العناية بذكر ما تيسر الوقوف عليه من أقوال السلف، والمذهب الظاهري أحيانا.
د - توثيق الأقوال من كتب أهل المذهب.
هـ - ذكر أدلة الأقوال، مع بيان وجه الدلالة، وما يرد على هذه الأدلة من مناقشات، وما يجاب عنها.
والترجيح مع بيان أسبابه.
رابعا: الاعتماد على المصادر والمراجع الأصيلة في التحرير والتوثيق والاستدلال.
خامسا: ترقيم الآيات، وبيان سورها.
سادسا: تخريج الأحاديث، وبيان ما ذكره أهل العلم في درجتها، إذا لم(80/226)
تكن في الصحيحين، أو أحدهما، فإن كانت فيهما أو في أحدهما فأكتفي حينئذ بتخريجهما فقط.
سابعا: العناية بقواعد اللغة العربية والإملاء، وعلامات الترقيم.
ثامنا: ختمت البحث بخاتمة بينت فيها أبرز النتائج التي توصلت إليها من خلال البحث.
هذا ولا يفوتني أن أنبه على أن ما قمت به من بحث ودراسة لهذا الموضوع، هو عمل بشري قابل للصواب والخطأ، فما كان صوابا فهو من توفيق الله - عز وجل - كرما منه وفضلا.
وما كان من خطأ فمني وأستغفر الله تعالى، وأسأل الله - جل وعلا - أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم وأن يمن علي بالهداية والتوفيق، إنه على كل شيء قدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(80/227)
التمهيد: بيان تعريف الصلاة والمقابر:
المبحث الأول: تعريف الصلاة:
أولا: تعريف الصلاة لغة: الصلاة في اللغة مشتقة من الصلوين، وإحداهما: صلا كعصا وهما عرقان من جانبي الذنب.
وقيل: عظمان ينحنيان في الركوع والسجود.
وقيل: من صليت العود إذا لينته؛ لأن المصلي يلين ويخشع.(80/227)
وهي في اللغة الدعاء بخير، قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} (1) ، أي: ادع لهم، وعدي بعلى لتضمنه معنى الإنزال. أي: أنزل رحمتك عليهم (2) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرا فليطعم، وإن كان صائما فليصل (3) » .
ثانيا: تعريف الصلاة شرعا: هي أقوال وأفعال مخصوصة، مفتتحة بالتكبير، ومختتمة بالتسليم (4) .
المبحث الثاني: تعريف المقابر:
أولا: تعريف المقابر لغة: المقابر: جمع مقبرة، أو مقبرة، بفتح الباء وضمها، فالقاف والباء والراء، أصل صحيح يدل على غموض في الشيء وتطامن. ويطلق على المقبرة الكدى وهي في الأصل جمع كدية، وهي القطعة الصلبة من الأرض. والقبر إنما يحفر في الأرض الصلبة لئلا ينهار.
ثانيا: تعريف المقابر شرعا: هي مدافن الأموات، وهي ديار الموتى ومنازلهم.
__________
(1) سورة التوبة الآية 103
(2) ينظر: تهذيب اللغة للأزهري 12 / 238.
(3) أخرجه مسلم في النكاح، حديث 1431.
(4) كشاف القناع 2 / 6.(80/228)
وهذه منة من الله - عز وجل - على عباده؛ حيث جعلهم مقبورين أي: مدفونين في الأرض، ولم يجعلهم مما يلقى على وجه الأرض للطير والسباع (1) .
__________
(1) ينظر: الجامع لأحكام القرآن 19 / 219.(80/229)
الفصل الأول: الصلاة في المقابر:
المبحث الأول: حكم الصلاة في المقبرة من حيث الفعل:
اختلف الفقهاء - رحمهم الله - في حكم الصلاة في المقبرة، من حيث الفعل سواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن فعل الصلاة في المقبرة محرم:
وقال بذلك الشافعية في المقبرة المنبوشة، أو المشكوك في نبشها على قول عندهم (1) ، وهو المذهب عند الحنابلة وعليه أكثر الأصحاب (2) وقال به الظاهرية (3) ، وجماعة من السلف (4) .
ولا فرق في هذا القول بين المقابر القديمة والحديثة، ولا بين مقابر المسلمين والكفار (5) .
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
__________
(1) ينظر: المجموع 3 / 164.
(2) ينظر: الإنصاف 1 / 489.
(3) ينظر: المحلى 4 / 30.
(4) ينظر: المصدر السابق.
(5) ينظر: المغني 2 / 470.(80/229)
أولا: حديث أبي مرثد الغنوي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها (1) » .
ففي هذا الحديث نهي عن الصلاة إلى القبر (2) ، وهذا دليل على تحريم فعل الصلاة في المقبرة.
ثانيا: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (3) » .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه 2 / 668، رقم (972) .
(2) ينظر: إغاثة اللهفان 1 / 162.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في المواضع التي لا يجوز فيها الصلاة 1 / 130 رقم (492) ، والترمذي في أبواب الصلاة باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام 2 / 131، رقم 317 وابن ماجه في كتاب المساجد والجماعات، باب المواضع التي تكره فيها الصلاة 1 / 246 رقم 745، والحاكم في كتاب الصلاة من طريقين 1 380، 381 رقم (919، 920) ، والبيهقي: في كتاب الصلاة باب ما جاء في النهي عن الصلاة في المقبرة والحمام 2 / 609، رقم 4272، وأحمد 3 / 83، 96. والحديث قال عنه الترمذي: وهذا حديث فيه اضطراب يعني بين الوصل والإرسال ورجح الترمذي إرساله برواية الثوري قال: وهي أثبت وأصح الجامع الصحيح 2 / 131. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن أسانيد الحديث جيدة، ومن تكلم فيه فما استوفى طرقه: اقتضاء الصراط المستقيم 2 / 677. ينظر: تعليق أحمد شاكر على الترمذي وتقويته للحديث 2 / 133.(80/230)
ثالثا: حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بين القبور (1) » .
فهذان الحديثان يدلان على النهي عن فعل الصلاة في المقبرة: لأن الأصل في النهي التحريم.
رابعا: حديث ابن عمر، رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا ... (2) » .
فالحديث دليل على أن المقبرة ليست موضع صلاة. وهذا دليل على التحريم.
خامسا: حديث عائشة - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرضه الذي توفي فيه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدا. قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا (3) » .
__________
(1) أخرجه ابن حبان في كتاب الصلاة، باب شروط الصلاة 4 / 596 رقم (1698) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2 / 30 رجاله رجال الصحيح وأخرجه الطبراني في الأوسط 6 / 293، برقم (9627) ، بلفظ '' نهى أن يصلى على الجنائز بين القبو ر ''
(2) أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب التطوع في البيت 1 / 351؛ برقم 1187، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها؛ باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد 1 / 538 برقم (777) .
(3) أخرجه البخاري في الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور 1 / 395 رقم (1330) ، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها 1 / 376 برقم (529) .(80/231)
حيث دل هذا الحديث على أن الصلاة عند القبور هو من اتخاذها مساجد وهو محرم؛ بل هو من كبائر الذنوب.
سادسا: عن ثابت البناني عن أنس قال: رآني عمر، وأنا أصلي عند قبر، فجعل يقول: القبر، فحسبته أنه يقول: القمر، فجعلت أرفع رأسي إلى السماء فأنظر، قال: إنما أقول القبر لا تصل إليه. قال ثابت: فكان أنس يأخذ يدي إذا أراد أن يصلي فيتنحى عن القبور (1) .
وهذا يدل على أن المستقر عند الصحابة رضي الله عنهم ما نهاهم عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عند القبور (2) .
سابعا: إن الصلاة في المقابر يترتب عليها مفاسد عظيمة منها التشبه باليهود والنصارى والمشركين ممن يعظمون القبور، ويصلون عندها.
ومن المفاسد – أيضا – مفسدة الشرك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الصلاة عند القبور، حماية لحمى التوحيد، لئلا تتخذ ذريعة إلى الشرك بالعكوف عندها وتعلق القلوب بها (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري تعليقا مختصرا في كتاب الصلاة، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية.. 1 / 152.
(2) ينظر: إغاثة اللهفان 1 / 163.
(3) ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2 / 684.(80/232)
القول الثاني: أن الصلاة في المقبرة مكروهة:
وقال بذلك الحنفية إلا أن تكون نجسة فلا تصح الصلاة فيها، لانعدام طهارة المكان (1) وهو قول في مذهب المالكية (2) ، والشافعية إذا لم تكن المقبرة منبوشة أو مشكوكا في نبشها على الصحيح عندهم (3) وهو رواية في مذهب أحمد (4) .
والقول بالكراهة روي عن عمر، وعلي، وأبي هريرة، وأنس وابن عباس رضي الله عنهم (5) .
وقال به عطاء، والنخعي، وإسحاق، وأبو ثور (6) .
__________
(1) ينظر: تحفة الفقهاء 1 / 257، بدائع الصنائع 1 / 115.
(2) ينظر: التفريع 1 / 267، المعونة 1 / 287.
(3) ينظر: الأم 1 / 187، والمجموع 3 163، 164.
(4) ينظر: الإنصاف 1 / 289.
(5) ينظر: المحلى 4 / 32.
(6) ينظر: المغني 2 / 468، والمحلى 4 / 32.(80/233)
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
أولا: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (1) » .
ثانيا: حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بين القبور (2) » .
فهذان الحديثان يدلان على النهي عن الصلاة في المقبرة، وهذا النهي حمله أصحاب هذا القول على الكراهة؛ لأن العلة عندهم في النهي عن الصلاة في المقبرة هي مظنة النجاسة (3) .
ويجاب عن هذا الاستدلال بما يلي:
1 - أن هذا التعليل الذي ذكروه ليس مذكورا في الحديث لا نصا ولا ظاهرا؛ بل هي علة مظنونة (4) .
2 - أن العلة في النهي عن الصلاة في المقبرة، ليست هي مظنة النجاسة، لأن النجاسة على الأرض مانع من الصلاة عليها سواء كانت مقبرة، أو لم تكن كذلك (5) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 230.
(2) تقدم تخريجه ص 231.
(3) ينظر: رد المحتار 1 / 380، 2 / 471.
(4) ينظر: الفتاوى 27 / 159، إغاثة اللهفان 1 / 163.
(5) ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2 / 678.(80/234)
3 - أن نجاسة تراب المقبرة محل نظر، حيث إنه مبني على مسألة (الاستحالة) ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرض تطهر بما يصيبها من الشمس والريح ونحوه (1) .
4 - أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد كان مقبرة للمشركين فنبشت، وجعل مكانها المسجد، ولو كان ذلك التراب نجسا، لوجب أن ينقل من المسجد (2) .
5 - أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يبلون وتراب قبورهم طاهر، ومع ذلك جاء النهي الأكيد والوعيد الشديد لمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد.
مما يدل على أن النهي عن الصلاة في المقبرة ليس لأجل أنها مدفن النجاسة (3) .
6 - أنه قد جاء النهي عن الصلاة إلى القبور، وهذا يدل على أن المراد بالنهي عن الصلاة في المقبرة ليس مظنة النجاسة. لأن النجاسة إذا كانت أمام المصلي لا تبطل الصلاة (4) .
ومما سبق يتبين أن المقصود من النهي عن الصلاة في المقابر، أو
__________
(1) ينظر: الفتاوى 21 / 322.
(2) ينظر: الفتاوى 21 / 321.
(3) ينظر: الفتاوى 27 / 160.
(4) ينظر: المغني 2 / 473، 474.(80/235)
الصلاة إليها، ما ذكره المحققون من أهل العلم وهو ما في ذلك من التشبه بأهل الشرك والبدع ولئلا يكون ذلك ذريعة ووسيلة إلى الشرك (1) .
القول الثالث: أن الصلاة في المقبرة جائزة.
وقال بذلك مالك في المشهور عنه (2) . وروي ذلك عن أبي هريرة، وواثلة بن الأسقع، وقال به الحسن البصري (3) .
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
أولا: حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ... (4) » الحديث.
حيث دل هذا الحديث على جواز الصلاة في المقبرة؛ إذا كان المكان طاهرا (5) .
__________
(1) ينظر: المبسوط 2 / 206، الفتاوى 21 / 159.
(2) ينظر: المدونة 1 / 90، التفريع 1 / 267.
(3) ينظر: الأوسط 2 / 185
(4) أخرجه البخاري في كتاب التيمم 1 / 125، برقم 335، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة 1 / 370 رقم 521.
(5) ينظر: شرح السنة للبغوي 2 / 147.(80/236)
ويجاب عن هذا الاستدلال: بأن هذا الحديث عام، وأحاديث النهي عن الصلاة في المقابر خاص، فلا يبقى الحديث على عمومه، ثم إن حديث جابر فيه بيان لفضل هذه الأمة حيث رخص لهم في الطهور في الأرض، والصلاة في البقاع التي لم تبن، لأجل الصلاة كالمساجد، وهذا بخلاف الأمم السابقة التي لا يصلون إلا في بيعهم وكنائسهم (1) .
ثانيا: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «إن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، وفي رواية: كانت تلتقط الخرق والعيدان من المسجد، ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها فقالوا: ماتت، قال: أفلا كنتم آذنتموني؟! قال: فكأنهم صغروا أمرها وفي رواية: قالوا: ماتت من الليل ودفنت فكرهنا أن نوقظك. فقال: دلوني على قبرها، فدلوه على قبرها فصلى عليها ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم (2) » .
حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر هذه المرأة ومن المعروف أن قبرها في المقبرة، فدل ذلك على جواز الصلاة في المقابر.
__________
(1) ينظر: المصدر السابق 2 / 147.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان 1 / 160 برقم (458) ؛ وفي كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر بعدما يدفن 1/ 397 رقم (1337) ، ومسلم في الجنائز، باب الصلاة على القبر 2 / 659 رقم (956) .(80/237)
ويجاب عن هذا الاستدلال:
أن هذا الحديث ليس في محل النزاع، وهو الصلاة في المقبرة، وإنما يدل على جواز صلاة الجنازة على القبر بعد الدفن؛ لفعله عليه الصلاة والسلام.
ثالثا: استدل أصحاب هذا القول ببعض الآثار، ومنها:
1 - ما روي عن نافع مولى ابن عمر، قال: صلينا على عائشة وأم سلمة وسط البقيع، والإمام يوم صلينا على عائشة أبو هريرة، وحضر ذلك ابن عمر (1) .
2 - فعل بعض الصحابة - رضي الله عنهم - قال الإمام مالك رحمه الله: "بلغني أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون في المقبرة" (2) .
3 - ما روي أن واثلة بن الأسقع كان يصلي صلاة الفريضة في المقبرة، غير أنه لا يستتر بقبر (3) .
ويجاب عن هذا: بأن هذا الفعل من بعض الصحابة - إن صح عنهم - معارض لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن الصلاة في المقبرة، ومعارض - أيضا - لعدد من الصحابة الذين قالوا: بكراهة الصلاة في المقبرة، كما بينت ذلك سابقا.
__________
(1) الأوسط لابن المنذر 2 / 185.
(2) المدونة 1 / 90.
(3) الأوسط لابن المنذر 2 / 185.(80/238)
الترجيح: إذا نظرنا إلى الأقوال السابقة في هذه المسألة وأدلتها وما ورد عليها، يظهر - والله تعالى أعلم - أن القول الأول وهو أن الصلاة في المقبرة لا تجوز هو الراجح، وذلك:
أولا: قوة أدلتهم وصراحتها في النهي عن ذلك.
ثانيا: أن أدلة القول الثاني والثالث قد أجيب عنها بما يكفي - إن شاء الله -.
ثالثا: أن الصلاة في المقابر يترتب عليها مفاسد عظيمة من الفتنة بالقبور، وتعلق القلوب بها، والعكوف عندها مما يكون وسيلة إلى الشرك، فصيانة لحمى التوحيد يمنع من ذلك؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والله أعلم.(80/239)
المبحث الثاني: حكم الصلاة في المقبرة من حيث الإجزاء:
بينت - سابقا - أن القول الراجح هو حرمة الصلاة في المقبرة، فهل تكون هذه الصلاة صحيحة مع التحريم، أم أنها باطلة وغير مجزئة.
اختلف الفقهاء - رحمهم الله - في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الصلاة في المقبرة لا تصح بحال.
وقال بذلك الشافعية في المقبرة المنبوشة (1) ، وهو رواية عن أحمد، وهي أشهر وأصح في المذهب، واختاره الأصحاب (2) .
__________
(1) ينظر: المجموع 2 / 164
(2) ينظر: المغني 2 / 468، والإنصاف 1 / 489.(80/239)
وعللوا ذلك: بأن الصلاة عبادة وقد أتى بها المصلي على الوجه المنهي عنه! فلم تصح؛ كصلاة الحائض وصومها؛ لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه (1) .
قال أحمد - رحمه الله -: " من صلى في مقبرة، أو إلى قبر أعاد أبدا " (2) .
القول الثاني: أن الصلاة في المقبرة لا تصح إن علم بالنهي وإلا صحت.
وهو رواية عن أحمد (3) .
وعللوا ذلك: بأن المصلي إذا كان عالما بالنهي، فهو عاص بفعله، والمعصية لا تكون قربة ولا طاعة.
وإن لم يكن عالما بالتحريم، فهو معذور بالجهل (4) .
ويجاب عن ذلك: بأن الجهل لا يكون مسوغا للفعل، ومصححا له، وإنما يكون عذرا في رفع الإثم.
القول الثالث: أن الصلاة في المقبرة صحيحة مع التحريم، وهو رواية عن أحمد (5) .
__________
(1) ينظر: المغني 2 / 477.
(2) ينظر: المحلى 4 / 32.
(3) ينظر: المغني 2 / 469، والإنصاف 1 / 489.
(4) ينظر: المغني 2 / 469.
(5) ينظر: الكافي 1 / 110، الإنصاف 1 / 489.(80/240)
وعللوا ذلك: بأن النهي الوارد على الفعل لمعنى في غير الصلاة أشبه المصلي وفي يده خاتم من ذهب (1) .
ويجاب عن ذلك: بأن أفعال الصلاة في نفسها منهي عنها فقياس ذلك على المصلي وفي يده خاتم من ذهب قياس مع الفارق.
الترجيح: إذا نظرنا إلى هذه الأقوال وما عللوا به، وما أجيب عن بعضها يظهر والله تعالى أعلم أن القول الأول هو الراجح، وهو أن الصلاة في المقبرة لا تصح بحال، لما ذكروه من التعليل، وهذا هو المختار عند المحققين من أهل العلم (2) والله تعالى أعلم.
__________
(1) ينظر: الكافي 1 / 110.
(2) ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2 / 286، الاختيارات الفقهية ص 44، القواعد لابن رجب ص 11.(80/241)
المبحث الثالث: حكم الصلاة في المقبرة بقصد التبرك:
بينت سابقا أن القول الراجح هو تحريم الصلاة في المقبرة، ولو لم يقصد التبرك سدا لذريعة الشرك وصيانة لحمى التوحيد.
أما إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض القبور، وخاصة قبور الأنبياء والصالحين متبركا بالصلاة في تلك البقعة؛ فهذا عين المحادة لله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله – عز وجل -.
فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله(80/241)
صلى الله عليه وسلم من أن الصلاة عند القبر أي قبر كان لا فضل فيها لذلك، ولا للصلاة في تلك البقعة مزية خير أصلا، بل هي مزية شر (1) ...
هذا وقد ذكر بعض أهل العلم: أن الصلاة عند رأس قبر النبي صلى الله عليه وسلم متوجها إليه حرام (2) .
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم 2 / 680، 681.
(2) ينظر: المجموع 3 / 165.(80/242)
المبحث الرابع: حكم الصلاة عند القبر الواحد والقبور الكثيرة:
بينت - فيما سبق - أن الصواب تحريم الصلاة في المقبرة، وهذا يشمل تحريم الصلاة عند القبر الواحد، وحريمه المضاف إليه، وعند القبور الكثيرة بطريق الأولى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ما نصه: "وليس في كلام أحمد، وعامة أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور، وهو الصواب، والمقبرة كل ما قبر فيه لا أنه جمع قبر " (1) اهـ.
وقد ذهب طائفة من أهل العلم إلى أن وجود القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة.
وعللوا ذلك بأن القبر والقبرين لا يناوله اسم المقبرة، وإنما المقبرة عندهم تطلق على الثلاثة فصاعدا (2) .
__________
(1) ينظر: الاختيارات الفقهية ص 44.
(2) ينظر: المغني 2 / 470، الإنصاف 1 / 490.(80/242)
ولا شك أن ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - هو الصواب وهو أن كل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبر الواحد أو القبور الكثيرة لا يصلى فيه.
إن العلة التي من أجلها منع من الصلاة في المقبرة متحققة في القبر الواحد، والقبور الكثيرة على حد سواء، والله أعلم.(80/243)
المبحث الخامس: حكم الصلاة في أماكن القبور إذا أزيلت:
إن المقبرة إذا أزيلت بسبب شرعي، وتغير اسمها. صحت الصلاة فيها على الصحيح من مذهب الحنابلة (1) وقال بذلك الظاهرية (2) .
ويدل على صحة الصلاة في أماكن القبور إذا أزيلت، أن مكان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان مقبرة للمشركين فنبش قبورهم وسواها، واتخذه مسجدا.
ويدل على ذلك حديث أنس - رضي الله عنه- في بناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم - قال: كان فيه قبور المشركين.. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقبور فنبشت.
قال ابن حجر: " في الحديث جواز نبش القبور الدارسة، إذا لم
__________
(1) ينظر: الإنصاف 1 / 496، وكشاف القناع 1 / 298.
(2) ينظر: المحلى 4 / 27.(80/243)
تكن محترمة، وجواز الصلاة في مقابر المشركين بعد نبشها، وإخراج ما فيها وجواز بناء المساجد في أماكنها " (1) اهـ.
ومثل ذلك - أيضا - في جواز الصلاة في أماكن القبور، ما أعد للدفن، ولم يدفن فيه (2) ، لأنه لا يصير مقبرة حتى يدفن فيه.
ومثل ذلك - أيضا - ما دفن في الدار من الموتى؛ لأن الدار لا تصير بذلك مقبرة (3) .
لكن لا تجوز الصلاة إلى القبر، حتى لو كان في الدار لعموم النهي عن ذلك.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها (4) » .
ولأن في ذلك سدا لذريعة الشرك.
__________
(1) فتح الباري 3 / 526.
(2) ينظر: كشاف القناع 1 / 294.
(3) ينظر: الإنصاف 1 / 490، كشاف القناع 1 / 294.
(4) تقدم تخريجه ص 230.(80/244)
المبحث السادس: حكم بناء المساجد في المقابر:
ذهب عامة الفقهاء - رحمهم الله - إلى النهي عن بناء المساجد على القبور (1) ، وقد استدلوا على ذلك بالأحاديث الواردة في النهي عن
__________
(1) ينظر: تحفة الفقهاء 1 / 257، مواهب الجليل 2 / 339، الأم 1 / 465، كشاف القناع 2 / 141.(80/244)
ذلك، ومنها:
1 - حديث عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال: وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر مثل ما صنعوا (1) » .
2 - حديث جندب بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك (2) » .
3 - وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (3) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة 1 / 154 رقم (435، 436) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور 1 / 377 رقم (531) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور. 1 / 377 برقم (532) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في البيعة 1 / 154 رقم (437) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة؛ باب النهي عن بناء المساجد على القبور.. 1 / 376، رقم (530) .(80/245)
والأحاديث والآثار في النهي عن اتخاذ القبور مساجد كثيرة، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن من يتخذ القبور مساجد هم شرار الخلق عند الله.
فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد (1) » .
وإنما خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من ذلك العمل؛ لأن اتخاذ القبور مساجد، وبناء المساجد على القبور وسيلة إلى الشرك؛ لأن الشرك إنما وقر في الأمم السابقة بسبب تعظيم قبور الصالحين والغلو بهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " والمساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم يتعين إزالتها بهدم وغيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين " (2) .
وقال ابن القيم - رحمه الله -: " ولا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا، فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع
__________
(1) أخرجه أحمد 1 / 405، 435، 454، والطبراني في الكبير 10 / 788 رقم (10413) ، وابن خزيمة في أبواب المواضع التي تجوز الصلاة عليها.، باب الزجر عن اتخاذ القبور مساجد 2 / 6، رقم (789) ، والحديث حسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد 2 / 30 وقال ابن تيمية: إسناده جيد، اقتضاء الصراط المستقيم 2 / 674.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم 2 / 675.(80/246)
القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله تعالى" (1) اهـ.
وبناء على ذلك فلا يجوز بناء المساجد على القبور، وإذا بني في المقبرة بين القبور فحكمه حكمها، فلا تجوز الصلاة فيه.
وإن حدثت المقبرة بعد المسجد حوله أو في قبلته، فالصلاة فيه كالصلاة إلى القبر لا تجوز.
وكذا لو حدث القبر والمسجد معا لم تصح الصلاة فيه.
لأن الصحيح من أقوال أهل العلم أن الصلاة لا تصح في المقبرة وأن المساجد المبنية على القبور، أو المساجد التي فيها قبور أو قبر كلها يشملها هذا الحكم فلا تصح الصلاة فيها.
كما أنه لا يجوز دفن الميت في المسجد، وأن ذلك نوع من اتخاذ القبور مساجد، وأنه يجب نبش ما دفن في المسجد وإزالته (2) .
__________
(1) زاد المعاد 5 / 506.
(2) ينظر: الفتاوى الكبرى 2 / 198.(80/247)
الفصل الثاني: الصلاة على الجنازة في المقابر:
المبحث الأول: حكم الصلاة على الجنازة في المقبرة:
الأفضل في الصلاة على الجنازة أن يكون في مصلى الجنائز، وهو المكان المعد للصلاة عليها؛ لفعله صلى الله عليه وسلم.(80/247)
كما يجوز أن يصلى عليها في المسجد؛ لقول عائشة - رضي الله عنها -: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد (1) » وصلي على أبي بكر وعمر فيه ".
أما الصلاة على الجنازة في المقبرة، فقد اختلف فيها الفقهاء - رحمهم الله - في جوازها، وعدمه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الصلاة على الجنازة في المقبرة جائزة.
وقال بذلك بعض الحنفية (2) ، والمالكية (3) ، وهو المذهب عند
__________
(1) أخرجه مسلم 2 / 668 في كتاب الجنائز برقم 99، 100.
(2) ينظر: الفتاوى الهندية 1 / 165.
(3) ينظر: بداية المجتهد 1 / 410.(80/248)
الحنابلة (1) ، وقال به الظاهرية (2) .
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «إن امرأة سوداء كانت تقم المسجد ... ، فقال: دلوني على قبرها، فدلوه على قبرها فصلى عليها.. (3) » الحديث.
وهذا دليل على جواز صلاة الجنازة في المقبرة؛ لفعله صلى الله عليه وسلم.
2 - وحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعدما دفن، فكبر عليه أربعا وفي رواية قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب فصلى عليه، وصفوا خلفه، وكبر أربعا (4) » .
فهذا الحديث دليل على أن المقبرة محل للصلاة على الجنازة سواء كان الميت في قبره أو خارج القبر (5) . وهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم تخصيص للنهي عن الصلاة في المقبرة.
3 - ما روي عن نافع قال: "لقد صلينا على عائشة وأم سلمة وسط البقيع بين القبور، والإمام يوم صلينا على عائشة أبو هريرة،
__________
(1) ينظر: المغني 3 / 423 والإنصاف 1 / 490.
(2) ينظر: المحلى 4 / 32.
(3) تقدم تخريجه ص 237.
(4) أخرجه البخاري في صفة الصلاة باب وضوء الصبيان ومتى يجب عليهم الغسل 1 / 259، برقم (857) وأخرجه مسلم في الجنائز، باب الصلاة على القبر 3 / 658 برقم (954) .
(5) ينظر: المغني 3 / 423.(80/249)
وحضر ذلك ابن عمر " (1) .
فهذا الأثر دليل على جواز الصلاة على الجنازة في المقبرة؛ لأن الصحابة الذين حضروا جنازة أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - صلوا عليها وسط القبور بالبقيع، ولم ينقل عن أحد منهم نهي أو مخالفة لهذا الفعل. فدل ذلك على جوازه وإقراره.
القول الثاني: أن الصلاة على الجنازة في المقبرة مكروهة.
وقال بذلك جماعة من الحنفية (2) ، والمالكية (3) ، وهو مذهب الشافعية (4) ورواية عن أحمد (5) .
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1- حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن الصلاة بين القبور (6) » .
وفي رواية: «نهى أن يصلى على الجنائز بين القبور (7) » ".
__________
(1) الأوسط 2 / 185.
(2) ينظر: بدائع الصنائع 1 / 320.
(3) ينظر: بداية المجتهد 1/ 410.
(4) ينظر: المجموع 5 / 231.
(5) ينظر: المغني 3 / 423، والإنصاف 1 / 490.
(6) تقدم تخريجه ص 231.
(7) خرج هذه الرواية الطبراني في الأوسط 6 / 293 برقم (9627) وهي من طريق حسين بن يزيد الطحان، وقد تفرد بذلك وهو (لين الحديث) . وبهذا تكون هذه الزيادة شاذة أو ضعيفة. ينظر: التقريب ص 169.(80/250)
حيث دل هذا الحديث وخاصة الرواية الثانية على كراهة الصلاة على الجنائز في المقبرة.
ويجاب عن هذا الدليل:
بأن هذه أدلة عامة مخصصة بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، من صلاته على المرأة في قبرها، مما يدل على أن المقبرة محل للصلاة على الجنازة.
وأما الرواية الثانية في حديث أنس "على الجنائز" فهي رواية شاذة مخالفة لسائر روايات الحديث؛ لأنها من رواية غير الثقات فلا تكون مقبولة (1) .
2 - حديث أبي سعيد - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (2) » .
حيث دل هذا الحديث على أن المقبرة ليست محلا للصلاة، ومن ذلك صلاة الجنازة فتكون مكروهة.
ويجاب عن هذا الدليل:
بأن هذا الحديث عام مخصص بما ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يصح استثناء صلاة الجنازة من عموم النهي عن الصلاة في المقبرة.
3 - ما روي عن أنس - رضي الله عنه - أنه كان يكره أن يصلى على الجنائز بين القبور.
__________
(1) ينظر: الأوسط 6 / 293، والتقريب ص 169.
(2) تقدم تخريجه ص 230.(80/251)
ويجاب عن ذلك بأن هذا معارض لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولفعل غيره من الصحابة وهو اجتهاد منه رضي الله عنه، خالفه غيره من الصحابة والعبرة بما يؤيده الدليل.
4 – قالوا: إن صلاة الجنازة يمكن فعلها في غير المقابر، فيكره فعلها في المقابر كسائر الصلوات (1) .
ويجاب عن ذلك: بأن هناك فرقا واضحا بين ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وحذر أمته منه وهي الصلاة المفروضة أو النافلة؛ لأنها وسيلة إلى الشرك وبين ما فعله وهو صلاة الجنازة على القبر (2) .
5 - وقالوا: أيضا إن المقابر ليست بمكان للصلاة سوى صلاة الجنازة، فتكره فيها صلاة الجنازة كما تكره في الحمام (3) .
ويجاب عن ذلك: بأن هذا قياس مع النص، فلا يعتبر.
القول الثالث: أن صلاة الجنازة في المقبرة لا تصح.
وهو رواية عن أحمد (4) .
وقد استدل أصحاب هذا القول بما سيق من أدلة القول الثاني وحملوا النهي على التحريم.
__________
(1) ينظر: المسائل الفقهية من كتاب (الروايتين والوجهين) 1 / 414.
(2) ينظر: إعلام الموقعين 2 / 346، 347.
(3) ينظر: المغني 3/ 423.
(4) ينظر: الإنصاف 1 / 490.(80/252)
ويجاب عن ذلك بأن هذا مخالف لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الترجيح: إذا نظرنا إلى ما سبق من الأقوال وأدلتها وما ورد عليها يظهر – والله أعلم - أن القول الأول: وهو أن الصلاة على الجنازة في المقبرة جائزة هو الراجح وذلك لأمرين:
أولا: قوة أدلة هذا القول من فعله صلى الله عليه وسلم؛ لأن من أدنى درجات الفعل الجواز والمشروعية.
ثانيا: أن أدلة القول الثاني والثالث قد أجيب عليها مما يدل على ضعفها.(80/253)
المبحث الثاني: حكم الصلاة على القبر إذا دفن الميت قبل الصلاة عليه:
من المشروع الصلاة على الجنازة قبل الدفن، وهي فرض كفاية ولا يجوز أن يدفن الميت قبل الصلاة عليه، ومن فعل ذلك فهو آثم، وتارك للواجب، ومسقط لحق الميت (1) .
وقد ذهب عامة الفقهاء - رحمهم الله - من الحنفية (2) والمالكية،
__________
(1) ينظر: المجموع 5 / 210.
(2) ينظر: المبسوط 2 / 69، والفتاوى الهندية 1/ 165.(80/253)
والشافعية (1) ، والحنابلة (2) ، إلى أن الميت إذا دفن قبل الصلاة عليه، فإنه يشرع أن يصلى عليه في قبره، تداركا للواجب ووفاء بحق الميت؛ لأن الصلاة على الميت في قبره تسقط الواجب.
ويدل على ذلك الأحاديث المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على القبر، فمن ذلك:
أولا: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: «أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: " دلوني على قبرها فدلوه فصلى عليها (3) » .
ثانيا: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعدما دفن، فكبر عليه أربعا. وفي رواية قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب فصلى عليه وصفوا خلفه وكبر أربعا (4) » .
ثالثا: ما روي عن أنس - رضي الله عنه - «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر (5) » .
قال الإمام أحمد - رحمه الله -: ومن يشك في الصلاة على القبر يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه كلها حسان (6) .
__________
(1) ينظر: الأم 1/ 454، الحاوي الكبير3 / 59.
(2) ينظر: المغني 3 / 444، الفروع 2 / 250.
(3) تقدم تخريجه ص 237.
(4) تقدم تخريجه ص 249.
(5) أخرجه مسلم في الجنائز، باب الصلاة على القبر 2/ 658، رقم (955) .
(6) ينظر: المغني 3/ 445.(80/254)
فهذه. الأحاديث تدل على أن الصلاة على القبر هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه.(80/255)
المبحث الثالث: حكم الصلاة على قبر من صلي عليه عن فاتته الصلاة:
اختلف الفقهاء - رحمهم الله - في حكم الصلاة على قبر من صلي عليه ممن فاتته الصلاة عليه قبل الدفن على قولين:
القول الأول: أن الصلاة على قبر من دفن لمن فاتته الصلاة عليه قبل الدفن جائزة.
وقال بذلك الشافعية (1) ، والحنابلة (2) ، والظاهرية (3) ، بل صرح فقهاء الشافعية والحنابلة بأن الصلاة على من دفن لمن لم يصل عليه مستحبة (4) ، وهو قول الأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، وقال
__________
(1) ينظر: الأم 1 / 454، والمجموع 5/ 205.
(2) ينظر: المغني 3 444، الإنصاف 2 / 533.
(3) ينظر: المحلى 5 / 139.
(4) ينظر: الأم 1 / 454، وكشاف القناع 2 / 121.(80/255)
بذلك من الصحابة - رضوان الله عليهم. علي وابن عمر، وابن مسعود (1) ، وأنس بن مالك، وأبو موسى الأشعري وعائشة، وغيرهم (2) .
ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وابن سيرين، وقتادة، والزهري، وهو اختيار ابن المنذر (3) ، وابن عبد البر (4) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية (5) وتلميذه ابن القيم (6) .
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
أولا: الأدلة من السنة التي تدل على جواز الصلاة على القبر. ومنها:
1 - حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - «أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، وفي رواية: كانت تتلقط الخرق والعيدان من المسجد، ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها، فقالوا: ماتت قال: " أفلا آذنتموني " قال: فكأنهم صغروا أمرها.
__________
(1) ينظر: المحلى 5 / 140.
(2) ينظر: المحلى 5/ 142، التمهيد 6 / 260، 274، 277.
(3) ينظر: الأوسط 5 / 211.
(4) ينظر: الاستذكار 8 / 252.
(5) ينظر: الفتاوى 23 / 387.
(6) ينظر: أعلام الموقعين 2 / 346.(80/256)
وفي رواية، قالوا: ماتت بالليل، ودفنت فكرهنا أن نوقظك فقال: " دلوني على قبرها "، فدلوه على قبرها فصلى عليها ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها. وإن الله - عز وجل - ينورها لهم بصلاتي عليهم (1) » .
2 - حديث ابن عباس - رضي الله عنه - «أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعدما دفن، فكبر عليه أربعا، وفي رواية قال: " انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب فصلى عليه، وصفوا خلفه وكبر أربعا (2) » .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على القبر من وجوه ستة (3) وزاد عليها ابن عبد البر ثلاثة وجوه (4) .
وهذا يدل على مشروعية الصلاة على القبر! لفعله صلى الله عليه وسلم.
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:
أولا: قالوا: إن الصلاة على القبر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث (5) : «إن هذه القبور مملوءة ظلمة، على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم (6) » .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 237
(2) تقدم تخريجه ص 249
(3) ينظر: المغني 3 / 445
(4) ينظر: التمهيد 2 / 271
(5) ينظر: المحلى 5 / 140
(6) تقدم تخريجه ص 237(80/257)
ويجاب عن ذلك: بأن هذه السنة لو كانت خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم لمنع الصحابة أن يصطفوا خلفه، ويصلوا معه على القبر.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها.... (1) » الحديث. فيدل على بركة صلاته صلى الله عليه وسلم وفضلها (2) .
ثانيا: احتج الإمام مالك - رحمه الله - على ترك العمل بهذه الأحاديث السابقة الدالة على مشروعية الصلاة على القبر بأن عمل أهل المدينة لم يكن على ذلك (3) .
ويجاب عن ذلك: بأن عمل أهل المدينة ليس بحجة شرعية على القول الراجح، وخصوصا إذا كان مخالفا لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم (4) .
ثانيا: فعل الصحابة رضوان الله عليهم، حيث دلت الآثار المروية عنهم على جواز الصلاة على القبر، وقد ذكرت جماعة من الصحابة قالوا بذلك، ولا يعرف لهم مخالف في ذلك (5) .
القول الثاني: أن الصلاة على قبر الميت إذا كان قد صلي عليه مكروهة.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 237
(2) ينظر: المحلى 5 / 140
(3) ينظر: المدونة 1 / 181، 182
(4) ينظر: الإحكام لابن حزم 4 / 584، إرشاد الفحول 1/ 318
(5) ينظر: المحلى5/ 142(80/258)
وقال بذلك الحنفية، والمالكية (1) .
وقال بذلك النخعي، والحسن البصري، والثوري والأوزاعي، والحسن بن صالح بن حيي والليث بن سعد (2) .
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
أولا: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (3) » .
ثانيا: حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بين القبور (4) » .
فهذان الحديثان يدلان على النهي عن الصلاة في المقبرة، وبين
__________
(1) ينظر: المدونة 1/ 184، مواهب الجليل 2 / 250
(2) ينظر: الاستذكار 8 / 246
(3) تقدم تخريجه ص 230
(4) تقدم تخريجه ص 231(80/259)
القبور وحملوا ذلك على عموم الصلوات. ومن ذلك صلاة الجنازة بين القبور أو على القبر، وهذا النهي حمله أصحاب هذا القول على الكراهة، ويجاب عن هذا الاستدلال:
بأن النهي عن الصلاة بين القبور المقصود به سائر الصلوات دون صلاة الجنازة على القبر، ودليل ذلك فعله صلى الله عليه وسلم حيث ثبت أنه صلى على القبر.
ثالثا: قالوا: إن الميت إذا صلي عليه، فإن الفرض قد تأدى بمن صلى عليه، والتنفل في الصلاة على الجنازة غير مشروع (1) .
ويجاب عن هذا الدليل:
بأن صلاة من يصلي على القبر إذا فاتته الصلاة الأولى على الميت ليست نافلة؛ بل صلاته فرض كفاية، وليست نفلا، وذلك مثل لو صلت جماعة بعد جماعة على الجنازة، فصلاة الجميع تقع فرضا (2) .
رابعا: قالوا: لو جاز الصلاة على قبر من صلي عليه، لكان أولى أن يصلى على قبر النبي صلى الله عليه وسلم (3) .
ويجاب عن ذلك: بأن ابن قدامة وغيره من العلماء نقلوا إجماع
__________
(1) ينظر: المبسوط 2 / 67
(2) ينظر: المجموع 5 / 206، 207
(3) ينظر: القدير 2 / 123(80/260)
أهل العلم على عدم جواز الصلاة على قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيترك ذلك لأجل الإجماع؛ لأنه حجة (1) .
والسبب في ذلك أن الصلاة على قبر النبي صلى الله عليه وسلم تفضي إلى جعله مسجدا ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدا (2) » .
وذلك خوفا من الافتتان بقبره وأن يؤدي ذلك إلى تعظيمه وعبادته من دون الله - عز وجل -.
يضاف إلى ذلك أن قياس قبر غير النبي صلى الله عليه وسلم بقبره في عدم جواز الصلاة عليه لا يمكن؛ لأن الفقهاء القائلين بالجواز لا يجيزون الصلاة على القبور القديمة. بل نقل ابن عبد البر - رحمه الله - إجماع أهل العلم الذين قالوا بجواز الصلاة على القبر أنه لا يصلى على قبر إلا بقرب ما يدفن، وأكثر ما قالوا في ذلك شهر) (3) .
الترجيح: إذا نظرنا إلى القولين السابقين وأدلتهما وما ورد عليهما، يظهر - والله تعالى أعلم - أن القول الراجح هو القول الأول،
__________
(1) ينظر: المغني 3 / 455
(2) تقدم تخريجه ص 231
(3) ينظر: الاستذكار 8 / 251(80/261)
وهو أن من فاتته الصلاة على الجنازة قبل الدفن جاز له أن يصلي على القبر، بل ذلك مستحب، كما ذهب إلى هذا فقهاء الشافعية والحنابلة، وذلك لسببين:
أولا: قوة أدلتهم وصراحتها وسلامتها من المعارض.
ثانيا: أن أدلة القول الثاني قد تمت الإجابة عليها، بما لا يدع فيها حجة قائمة - والله تعالى أعلم -.(80/262)
المبحث الرابع: حكم إخراج الميت من القبر لأجل الصلاة عليه:
اتفق الفقهاء - رحمهم الله - على أن الميت إذا دفن قبل الصلاة عليه فإنه لا يخرج من قبره لأجل الصلاة عليه إذا كان قد تغير (1) .
واختلفوا فيما إذا كان قبل تغيره، هل يجب إخراجه، من قبره لأجل الصلاة عليه، أو لا يخرج، ويصلى على قبره. فقط على قولين:
القول الأول: أن الميت إذا دفن قبل الصلاة عليه، فإنه لا يخرج بل يصلى عليه في قبره.
وقال بذلك الحنفية (2) والشافعية (3) ، وهو رواية عند الحنابلة (4) .
__________
(1) ينظر: المبسوط 2 / 69 مواهب الجليل 2 / 250، الحاوي الكبير 3/ 59، المغنى 3/ 444
(2) ينظر: المبسوط 2/ 69 فتح القدير 2 / 124
(3) ينظر: الحاوي الكبير 3/ 22 المجموع 5 210
(4) ينظر: المغني 5 / 500 والإنصاف 2 / 471(80/262)
وقيد الحنفية ذلك بما إذا وضع اللبن على اللحد وأهيل التراب عليه، أما إذا لم يوضع اللبن على اللحد، أو وضع ولكن لم يهل التراب عليه فإنه يخرج ويصلى عليه (1) .
وتقييد الحنفية لهذا القول حسن، فهو يدل على أن إخراج الميت من قبره إذا لم يصل عليه في لحظات الدفن، أو قبل اكتماله؛ لأجل الصلاة عليه جائز؛ لأن الدفن لم يكتمل بعد.
لأن الأفضل في حق الميت هو الصلاة عليه خارج القبر لينتفع بدعاء الحاضرين وفي هذا مصلحة للميت.
وعللوا ذلك:
أن الميت إذا قبر فقد سلم إلى ربه - عز وجل - وخرج من أيديهم (2) .
ولأن إخراج الميت من قبره لغير ضرورة انتهاك له، ولأن تدارك واجب الصلاة عليه ممكن وهو في قبره، فهي مجزئة ومسقطة للفرض (3) .
القول الثاني: أنه يجب إخراج الميت؛ لأجل الصلاة عليه إذا دفن قبل أن يصلى عليه.
__________
(1) ينظر: فتح القدير 2 / 124
(2) ينظر: المبسوط 2 / 69
(3) ينظر: المجموع 5 / 210(80/263)
وقال بذلك فقهاء المالكية (1) وهو الصحيح من مذهب الحنابلة (2) .
وعللوا ذلك: بأن الميت دفن قبل واجب، وهو الصلاة عليه؛ فيجب إخراجه من قبره لأجل إسقاط هذا الفرض، كما لو دفن من غير غسل؛ لأنه لا يصلى على القبر إلا عند الضرورة (3) .
ويجاب عن ذلك:
بأن قياس الصلاة على الميت على غسله، قياس مع الفارق؛ لأن الصلاة على الميت يمكن تداركها بعد الدفن وهي مجزئة، بدليل فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما بينت ذلك سابقا؛ بخلاف غسل الميت فلا يمكن إلا بإخراجه.
الترجيح: إذا أمعنا النظر في القولين السابقين وما عللوا به، وما أجيب على القول الثاني: يظهر - والله أعلم - أن القول الأول، وهو أن الميت إذا دفن قبل الصلاة عليه فإنه لا ينبش بل يصلى على قبره هو الراجح، والله أعلم.
__________
(1) ينظر: الذخيرة 2 / 474، القوانين الفقهية ص 65
(2) ينظر: المغني 3/ 500، والإنصاف 2 / 471
(3) ينظر: المغني 3 / 500.(80/264)
المبحث الخامس: بيان المدة التي يشرع فيها الصلاة على الميت في القبر:
اختلف الفقهاء - رحمهم الله - في المدة التي إليها يصلى على القبر، سواء صلي على الميت قبل الدفن، أو لم يصل عليه. على أقوال:(80/264)
القول الأول: أن الصلاة على القبر تشرع لكل من كان من أهل فرض الصلاة على الميت عند موته.
وهذا هو الأرجح عند جمهور الشافعية.
وحكي عن بعض الشافعية: أنه يصلي على القبر من كان من أهل الصلاة عليه عند موته، وإن لم يكن من أهل الفرض؛ فيدخل في ذلك الصبي (1) .
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
قالوا: إن حكم الخطاب يتعلق بكل من هو من أهل الصلاة، وفعل غيرهم لم يسقط الواجب في حقهم وإنما أسقط الحرج (2) .
وبناء على ذلك يجوز لمن كان من أهل الخطاب عند وفاة الميت أن يصلي على قبر ذلك الميت، لكن ذلك ليس مستحبا؛ لعدم ورود الدليل عليه.
القول الثاني: أن الصلاة على القبر تجوز إلى شهر من دفن الميت. وهذا القول وجه عند الشافعية (3) ، وهو المذهب عند الحنابلة (4) .
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
أولا: بما روي أن أم سعد ماتت، والنبي صلى الله عليه وسلم غائب، فلما قدم
__________
(1) ينظر: المجموع 5 / 208، 209، مغني المحتاج 2 / 28
(2) ينظر: المجموع 5 / 208
(3) ينظر: المصدر السابق 5 / 208
(4) ينظر: المغني 3 / 455، والإنصاف 2 / 532(80/265)
صلى عليها وقد مضى لذلك شهر.
قالوا: فتصح الصلاة إلى شهر؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، ولا تصح بعد ذلك لعدم وروده (1) .
قال الإمام أحمد - رحمه الله -: أكثر ما سمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر (2) .
وقالوا - أيضا -: ولأن الشهر مدة يغلب على الظن بقاء الميت فيها فجاز الصلاة عليه فيها (3) .
ويجاب عن هذا الدليل:
بأن ما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته على أم سعد بن عبادة بعد شهر إنما وقع اتفاقا من غير قصد التحديد (4) فلا يدل على المنع مما زاد على ذلك.
__________
(1) ينظر: المغني 3/ 456
(2) مسائل الإمام أحمد برواية أبي داود ص 157
(3) ينظر: المغنى 3 / 455
(4) ينظر: شرح الزركشي 2 / 332(80/266)
وأما قولهم: إن الشهر مدة يغلب على الظن بقاء الميت فيها.
فيجاب على هذا: بأن هذا يختلف باختلاف الأرض، وأن العظام في الغالب تبقى مدة طويلة (1) فلا يصلح هذا دليلا على التحديد.
القول الثالث: أن الميت إذا دفن قبل أن يصلى عليه، فإنه يصلى على قبره إلى ثلاثة أيام.
وقال بذلك أبو حنيفة وصاحباه (2) ، وهو وجه عند الشافعية (3) .
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
ما روي أن الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أيام (4) .
ويجاب عن هذا الدليل:
بأن هذا الأثر لا يعلم له صحة، وقد ذكر بعض أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما دفن حتى صلى عليه الصحابة كلهم (5) .
ثم إن صلاته صلى الله عليه وسلم على قبر أم سعد بعد شهر (6) يرد دعواهم.
__________
(1) ينظر: تهذيب السنن 9 / 44
(2) ينظر: المبسوط 2 / 69، فتح القدير 2 / 124
(3) ينظر: المجموع 5 / 208
(4) المبسوط 2/ 69، ولم يذكر من رواه ولا من أخرجه ولم أعثر على هذا الأثر في شيء من كتب السنة
(5) ينظر: طبقات ابن سعد 2 / 220
(6) تقدم تخريجه ص266(80/267)
القول الرابع: أن الغائب يصلي على القبر إلى شهر والحاضر إلى ثلاثة أيام.
وقال بذلك إسحاق بن راهويه (1) رحمه الله.
ولعل دليله الجمع بين أدلة القولين السابقين وقد أجيب عنهما.
القول الخامس: أنه يصلى على الميت في القبر ما لم يبل جسده.
وهذا قول عند الحنفية (2) ، والمالكية (3) ، ووجه عند الشافعية (4) ، وهو رواية عند الحنابلة (5) .
واختلف أصحاب هذا القول فيما إذا شك في بقاء الميت، هل يصلى عليه أم لا؟ على قولين:
الأول: لا يصلى على القبر مع الشك في بقاء الميت، بل لا بد من غلبة الظن ببقاء شيء من الميت.
وقال بذلك أكثر أصحاب الشافعي، وهو الصحيح عند الحنابلة (6) .
__________
(1) ينظر: المحلى 5/ 141، والمغني 3 / 455
(2) ينظر: المبسوط 2 / 69، الهداية مع فتح القدير 2 / 125
(3) ينظر: مواهب الجليل 2 / 251
(4) ينظر: الحاوي الكبير 3 / 60، والمجموع 5/ 208
(5) ينظر: المغني 3/ 454، الإنصاف 2 / 531
(6) ينظر: المجموع 5 / 209، والإنصاف 2/ 531(80/268)
الثاني: أنه يصلى على القبر مع الشك؛ لأن الأصل بقاء الميت، ولا ينتقل من هذا الأصل إلا بيقين (1) .
وقد علل أصحاب هذا القول: تعليق الحكم بالجواز وعدمه بفناء الميت؛ قياسا على ما لو كان الميت خارج القبر على وجه الأرض (2) .
ويجاب عن هذا: بأن التحديد بفناء الميت، لا يمكن؛ لأنه مختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، والأشخاص، وهو أمر لا يعلمه إلا الله عز وجل.
فالتقدير لا بد أن يكون على أمر معلوم لا مجهول.
ثم إن التقدير بفناء الميت لا يصح؛ بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلى، ومع ذلك لا يصلى على قبره بالإجماع (3) .
القول السادس: أن الصلاة على القبر تجوز أبدا.
وهذا وجه عند الشافعية (4) ، وقال به ابن عقيل من الحنابلة (5) ،
__________
(1) ينظر: رد المحتار على الدر المختار 2 / 224
(2) ينظر: الذخيرة 2 / 473
(3) ينظر: المغنى 3/ 455
(4) ينظر: المجموع 5 / 208، ومغني المحتاج 2 / 28
(5) ينظر: المغنى 3/ 455؛ الإنصاف 2 / 532(80/269)
والظاهرية (1) .
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي: بحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات (2) » .
فالحديث يدل على أن الصلاة على الميت في قبره لا يتقيد بزمن، لا بشهر ولا غيره (3) .
وقد أجيب عن هذا الحديث بما يلي:
أولا: أن هذه الصلاة؛ ليست هي الصلاة على الميت، بل هذه كالتوديع للأموات (4) .
فالمراد بالصلاة هنا الدعاء لهم، أو أنه دعا لهم بمثل الدعاء الذي كانت عادته أنه يدعو به للموتى (5) .
__________
(1) ينظر: المحلى 5 / 142
(2) أخرجه بهذا اللفظ البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة أحد 3 / 1234، برقم (4043) . ومسلم في كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته 4 / 1795 برقم (2296) ، لكن ليس عند مسلم ذكر المدة
(3) ينظر: تهذيب السنن 9 / 43
(4) ينظر: زاد المعاد 3 / 218
(5) ينظر: المجموع 5 / 226(80/270)
ثانيا: أن هذه واقعة عين، وهي من خصائصه صلى الله عليه وسلم (1) .
ثم إن هذا القول يلزم منه جواز الصلاة على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقد أجمع الفقهاء على عدم جواز ذلك (2) .
الترجيح: إذا أمعنا النظر فيما سبق من الأقوال وما ورد عليها، يظهر - والله تعالى أعلم - أن الصلاة على القبر ليس لها مدة معينة، لا تصح الصلاة بعده؛ لأنه لا يصح في الدلالة على التحديد شيء من النصوص.
لكن القبور القديمة لا يصلى عليها، وهذا ما أجمع عليه عامة أهل العلم؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنهم صلوا على قبور قديمة، وأكثر ما روي في ذلك شهر؛ كما في قصة أم سعد، والله تعالى أعلم.
__________
(1) ينظر: فتح الباري 3 / 250
(2) ينظر: المغني 3 / 455، الاستذكار 8 / 251(80/271)
الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، أحمده - سبحانه وتعالى - وأثني عليه، وأستغفره وأتوب إليه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه؛ إنه جواد كريم، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فمن خلال دراستي لهذا الموضوع، أحب أن أقف مع القارئ الكريم على أهم ما توصلت إليه من خلال هذا البحث من نتائج، أشير إلى أبرزها.
أولا: أن القبر ودفن الإنسان بعد موته! مما أكرم الله - جل وعلا - به بني آدم.
ثانيا: أن الصلاة عند القبور لا تجوز على القول الراجح؛ لما يترتب عليها من المفاسد العظيمة؛ من الفتنة بالقبور؛ وتعلق القلوب بها والعكوف عندها؛ مما يكون وسيلة إلى الشرك؛ فصيانة لحمى التوحيد يمنع من ذلك.
ثالثا: أن المصلي إذا قصد بالصلاة عند القبر، أو القبور التبرك بتلك البقعة، وخاصة قبور الأنبياء والصالحين، فقد حاد الله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم، وخالف دينه وشرعه.(80/272)
رابعا: أن الصواب: أن كل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبر الواحد أو القبور الكثيرة، لا تجوز الصلاة فيه، على حد سواء.
خامسا: أن المقبرة إذا أزيلت - لمسوغ شرعي وتغير اسمها، صحت الصلاة فيها، على الصحيح من أقوال أهل العلم.
سادسا: لا يجوز بناء المساجد على القبور، وأن المساجد المبنية على القبور، أو المساجد التي فيها قبور، أو قبر، لا تصح الصلاة فيها، على الصحيح.
كما لا يجوز دفن الميت في المسجد، وأن ذلك نوع من اتخاذ القبور مساجد وأنه يجب نبش ما دفن في المسجد وإزالته.
سابعا: أن الصلاة على الجنازة في المقبرة جائزة على الراجح من أقوال أهل العلم.
ثامنا: ذهب عامة الفقهاء - رحمهم الله - إلى أن الميت إذا دفن قبل الصلاة عليه، فإنه يصلى عليه في قبره؛ تداركا للواجب ووفاء بحق الميت.
تاسعا: أن الراجح جواز الصلاة على القبر، لمن فاتته الصلاة على الجنازة قبل الدفن، بل ذلك مستحب.
عاشرا: اتفق الفقهاء - رحمهم الله - على أن الميت إذا دفن قبل الصلاة عليه، فإنه لا يخرج من قبره لأجل الصلاة عليه، إذا كان قد تغير.(80/273)
وأما قبل تغيره فعلى الراجح أنه لا يخرج من قبره، لأجل الصلاة عليه، بل يصلى عليه في قبره.
حادي عشر: أن الصلاة على القبر، ليس لها مدة معينة، لا تصح الصلاة بعده. لكن القبور القديمة لا يصلى عليها بالإجماع؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنهم صلوا على قبور قديمة، وأكثر ما روي في ذلك شهر، والله تعالى أعلم.
هذا ما ظهر لي من خلال البحث والدراسة لهذا الموضوع، فما كان صوابا فهو من توفيق الله عز وجل، وما كان من خطأ فمني، وأستغفر الله، وأسال الله تعالى لي وللقارئ الكريم السداد والتوفيق للصواب، وأن يلهمنا الرشد والفلاح، وأن يمن علينا بالفقه في الدين، وأن يرزقنا العمل الصالح الرشيد، وأن يختم أعمالنا بخير، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(80/274)
المنهج الأصولي لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
وأثره في الأحكام الشرعية إزاء المرأة
للدكتورة أسماء بنت عبد الله الموسى (1)
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} (2) {قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} (3) {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} (4) وصلى الله وسلم وبارك على من أرسله الله رحمه للعالمين؛ محمد خاتم النبيين والمرسلين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وإخوانه من النبيين والمرسلين أجمعين. وبعد:
فقد أرسل الله سبحانه وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم، فكان هدى ونورا للإنسانية، وآتاه الحكمة فكانت مبينة للقرآن الكريم، واختار له أصحابا حوله آمنوا به، وحملوا عنه القرآن والسنة ومقاصد الشريعة؛ لملازمتهم وصحبتهم له، فامتاز فهمهم على الأفهام، وعلمهم على العلوم. وكان من أكثر هؤلاء الصحابة الذين اختارهم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أستاذ أصول الفقه المساعد - جامعة البنات - كلية الآداب - الرياض
(2) سورة الكهف الآية 1
(3) سورة الكهف الآية 2
(4) سورة الكهف الآية 3(80/275)
ملازمة وصحبة وقربا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فهي الزوجة المحببة إلى رسول الله وابنة أبي بكر الصديق، فكانت تسمع منه ما لا يسمعه غيرها، وترى من أحواله ما لا يراه غيرها، وتفهم منه ما لا يفهم غيرها.
روى الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: " ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما "، ولما قد زعم البعض أن فقه الصحابة كيف يوثق به وهو لم يقعد ولم يؤسس؟
فاستخرت الله سبحانه وتعالى في تأصيل فقه الصحابة، فوقع اختياري على عائشة - رضي الله عنها -.
وعنونت للبحث " المنهج الأصولي لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأثره في الأحكام الشرعية إزاء المرأة ".
وهذا البحث يتكون من مقدمة، وتمهيد وفصلين، وخاتمة:
والمقدمة: في بيان أهمية البحث وسبب اختياره.
التمهيد: ويشتمل على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الصحابة وأصول الفقه.
الأمر الثاني: حقيقة المنهجية.(80/276)
الأمر الثالث: نبذة مختصرة عن عائشة - رضي الله عنها -.
الفصل الأول: منهج عائشة - رضي الله عنها - الأصولي من خلال اجتهاداتها، ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: التزامها بالنصوص، ويشتمل على ما يلي:
أولا: أخذها، رضي الله عنها - بظاهر الآيات والأحاديث.
ثانيا: أخذها - رضي الله عنها - بعموم الآيات والأحاديث.
ثالثا: أخذها - رضي الله عنها - بالتأويل في الآيات والأحاديث.
رابعا: منهج أم المؤمنين - رضي الله عنها - في رفع التعارض الظاهري.
خامسا: أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - والأحاديث الضعيفة.
المبحث الثاني: أخذها - رضي الله عنها - بالأدلة الشرعية المختلف فيها ويشتمل على ما يلي:
أولا: أخذها - رضي الله عنها – بالقياس.
ثانيا: اعتمادها - رضي الله عنها - على الاستحسان المبني على الدليل.
ثالثا: أخذها - رضي الله عنها – بالعرف.
رابعا: أخذها - رضي الله عنها – بالاستصحاب.
الفصل الثاني: أثر منهج عائشة - رضي الله عنها - الأصولي في(80/277)
الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة، ويشتمل على خمسة مباحث:
المبحث الأول: خروج المعتدة من وفاة من بيتها.
المبحث الثاني: أحكام الاستمتاع بالمرأة، ويشتمل على ما يلي:
أولا: الاستمتاع بالمرأة الحائض.
ثانيا: أحكام المرأة المستحاضة.
ثالثا: مقدار الاستمتاع من المرأة في الصيام.
المبحث الثالث: صلاة المرأة في المسجد.
المبحث الرابع: لبس الحلي للمرأة في الزينة.
المبحث الخامس: وصل وإزالة شعر المرأة.
الخاتمة: وتتضمن أهم نتائج البحث.(80/278)
التمهيد: نبذة مختصرة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
هي عائشة بنت أبي بكر الصديق القرشي التيمي، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست أو سبع، ودخل بها وهي بنت تسع، وقبض وهي بنت ثماني عشرة سنة، ولم ينكح الرسول بكرا غيرها، قالت: أنزل الله براءتي من السماء وكان ينزل على رسول الله الوحي وهو معي وكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد وكان يصلي وأنا معترضة بين يديه وقبض بين سحري ونحري في بيتي، وكنت أحب نسائه إليه.
احتلت منزلة رفيعة من بين العلماء من الصحابة وكانت مرجعا لهم(80/278)
في كثير من القضايا، لا سيما التي تخص الشئون العائلية، وحياة الرسول في بيته.
ويروي ابن سعد أنها كانت تفتي في عصر عمر وعثمان رضي الله عنهما وأنهما كانا يرسلان إليها فيسألانها عن السنن.
وإذا كان ابن حزم، وابن القيم اعتبراها من ضمن السبعة المكثرين من الفتوى في عصر الرسول، فقد سبق وعرف لها هذه المنزلة كبار العلماء.
فيقول الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل.
ويقول مسروق: رأيت مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض.
ويقول هشام بن عروة: ما رأيت أحدا أعلم بفقه، ولا بطب، ولا بشعر من عائشة (1) .
ويقول عطاء: كانت عائشة أفقه النساء وأحسن الناس، وأعلم الناس رأيا في العامة.
ويقول أبو سلمة: ما رأيت أحدا أعلم بسنن الرسول، ولا أفقه في رأي إن احتيج إلى رأيه، ولا أعلم بآية فيما نزلت، ولا فريضة من عائشة (2) .
__________
(1) انظر: تاريخ التشريع (د مناع القطان، ص 121)
(2) انظر: طبقات ابن سعد (3/ 375)(80/279)
الفصل الأول:
منهج عائشة الأصولي من خلال اجتهاداتها.
المبحث الأول: التزامها بالنصوص:
فقد كانت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تلتزم بالنصوص، لكن قد تأخذ بظاهرها أحيانا، أو بتأويلها، أو بعمومها، أو باعتقاد نسخها، أو عدم نسخها، وسنتعرض بشيء من التفصيل لهذه الأمور:
أولا: أخذها - رضي الله عنها - بظاهر الآيات والأحاديث:
كان لأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - طرق متعددة للأخذ بظاهر الآيات المحكمة التي لم تنسخ، منها ما يلي:
أ - ظاهر الدلالة:
إذا كانت الآية ظاهرة الدلالة، لا تحتمل التأويل، أو التوقف عن الأخذ بها، فإن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - لا تلتفت إلى غيرها من الأدلة، بل تأخذ بها دليلا لرأيها الفقهي، وهذا كثير عندها (1) .
من ذلك أنها ترى أن السعي بن الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة، ولا يتم الحج إلا بالسعي بين الصفا والمروة، لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (2)
__________
(1) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 558)
(2) سورة البقرة الآية 158(80/280)
وهذه الآيات الظاهرة الدلالة أنواع:
1 - ظاهرة الدلالة مجتمعة:
هناك آيات متفرقة في القرآن لا تعطى بمفردها حكما مستقلا ولكن إذا جمع بعضها إلى بعض أعطت حكما ظاهرا، وأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - تجمع مثل هذه الآيات بعضها إلى بعض لتأخذ الحكم المراد منها.
من ذلك أنها ترى وجوب مهر المثل لليتيمة إذا تزوجها من هي تحت ولايته.
وهذا الحكم دلت عليه الآيات التالية مجتمعة في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (1) .
وقوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 3
(2) سورة النساء الآية 127(80/281)
2 - ظاهرة الدلالة متفرفة:
الآيات إلى تدل كل واحدة منها على حكم مستقل عن الآية الأخرى لا يتوقف على تلك الآية، فإن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - تأخذ حكم هذه الآيات مستقلة عن الأخرى.
من ذلك أنها ترى أن الرضاع بعد الحولين محرم، أخذا بعموم الآيات التي تدل على التحريم، وهي قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (1) إن هذه الآيات تدل على الحكم متحدة، لا دخل لها بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (2) (3) .
ثانيا: أخذها - رضي الله عنها - بعموم الآيات والأحاديث:
إذا دلت آيات بعمومها على حكم من الأحكام، ولم يرد ما يخرج من هذا العموم شيئا فإن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها – تأخذ
__________
(1) سورة النساء الآية 23
(2) سورة البقرة الآية 233
(3) انظر: موسوعة فقه عائشة - رضي الله عنها - (ص/ 559)(80/282)
بحكم العموم (1) .
فمن ذلك أنها ترى وجوب السكن والنفقة للمطلقة البائن حتى تنتهي عدتها، أخذا بعموم قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) (3) .
لا تقف أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أمام ألفاظ الآيات للأخذ بما تدل عليه من الأحكام، بل إنها تتعمق في تلك الآيات لأن الآيات لها مفهوم تدل عليه، كما أن لها منطوقا، فتأخذ بالمفهوم كما تأخذ بالمنطوق.
من ذلك أنها ترى أن الإنسان لا يؤاخذ بذنب غيره في الدنيا والآخرة، وأن كل إنسان يتحمل عاقبة ذنبه لا يتحملها غيره، فولد الزنا ترى جواز إمامته في الصلاة، وأنه يعتق في الكفارات مستدلة بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (4) .
معلله ذلك بقولها - رضي الله عنها - " ليس عليه من خطيئة أبويه شيء " (5)
__________
(1) انظر: موسوعة فقه عائشة - رضي الله عنها - (ص 561)
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) انظر: سنن البيهقي (7/ 432) ، ومصنف ابن أبي شيبة (5 / 146)
(4) سورة الأنعام الآية 164
(5) أخرجه: ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 30) ، وانظر: مسند عائشة رضي الله عنها (ص/ 73)(80/283)
ثالثا: أخذها - رضي الله عنها - بالتأويل في الآيات والأحاديث:
أ - تأويل الآيات:
هناك آيات في القرآن ليست ظاهرة الدلالة على الحكم المأخوذ منها، وإنما تشير إلى ذلك الحكم إشارة، فأم المؤمنين - رضي الله عنها - لها في الأخذ بتلك الآيات طريقان:
1 - التأويل:
تئول أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - الآيات تأويلا خاصا - قد توافق غيرها على ذلك، وقد تختلف عنه.
ومن ذلك أنها ترى أن المعتدة للوفاة لا يجب عليها أن تعتد في بيت زوجها، وإنما يجوز لها الانتقال إلى غيره من البيوت وترى أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (1) .
فهذه الآية قد حددت الزمان فقط، ولم تحدد المكان، فيجوز للمعتدة الاعتداد في غير بيت زوجها (2) .
2 - التعليل:
قد يحتاج الحكم المأخوذ من بعض الآيات إلى تعليل ذلك الحكم، وذلك لعدم ظهور الدلالة عليه في الآيات.
__________
(1) سورة البقرة الآية 234
(2) انظر: مصنف عبد الرازق (7 / 29) ، مصنف ابن أبي شيبة (5 / 183) .(80/284)
من ذلك أنها ترى أن الرجل إذا آلى من زوجته أنها لا تطلق بعد انقضاء مدة الإيلاء، بل لا بد من أن يوقف حتى يطلق وتعلل ذلك، وتقول: كيف قال الله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (1) .
ب - تأويل الأحاديث:
يرد حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر أو نهي فتصرفه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن ظاهره إلى معنى آخر موردة المعنى الذي حملته عليه، والسبب في ذلك (2) .
ومن ذلك أنها ترى جواز صيام يوم الثلاثين من شعبان. فقد روى عبد الله بن أبي موسى قال: " سئلت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اليوم الذي يختلف فيه من رمضان؟ فقالت: لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان ". مع أنه قد ورد حديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن ذلك، فقد قال:
__________
(1) سورة البقرة الآية 229
(2) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص/ 565)(80/285)
«لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجلا كان يصوم، فليصم ذلك اليوم (1) » .
فقد أولت النهى الذي في الحديث فيما إذا كان يوم الثلاثين من شعبان صحوا لا غيوم فيه، أما إذا كان ذا غيوم فلا بأس بصيامه لاحتمال كونه من رمضان (2) .
رابعا: منهج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في رفع التعارض الظاهري:
التعارض في الواقع ونفس الأمر لا يقع في الشريعة، فلا يقع كذلك في القرآن الكريم، وذلك لقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (3) .
فهناك آيات في القرآن الكريم يظهر لقارئها أن بينها تعارضا، فالحكم الذي يدل عليه أحدها يعارضه الحكم الذي تدل عليه الأخرى، وأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وهى التي تلقت القرآن مشافهة غضا طريا من فم الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعلم علم اليقين أن
__________
(1) أخرجه: البخاري في صحيحه (4/ 127) ، كتاب الصوم، باب لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين، حديث رقم (1914) ، ومسلم في صحيحه (ص 546) ، في كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، حديث رقم (1082)
(2) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص/ 566)
(3) سورة النساء الآية 82(80/286)
القرآن لا يعارض بعضه بعضا، وإنما يحتاج من المسلم إلى دقة النظر، وإمعانه، والوقوف عند الآيات قبل الحكم عليها، ثم التوفيق بينها والأخذ بها جميعا، وهذا ما تفعله.
ومن ذلك أنها ترى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ير ربه حينما عرج به إلى السماء وإنما رأى جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية التي خلق عليها وأن البشر لا قدرة لهم على رؤية الله سبحانه وتعالى في هذه الحياة الدنيا (1) .
وهي بهذا الرأي قد وفقت بين قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (2) ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} (3)
خامسا: أم المؤمنين والأحاديث الضعيفة:
ليس في عهد أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أحاديث ضعيفة، وإنما حكم عليها بالضعف فيما بعد لضعف من رواها.
__________
(1) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 559)
(2) سورة الأنعام الآية 103
(3) سورة التكوير الآية 23(80/287)
والضعيف يتفاوت ضعفه بحسب شدة ضعف رواته وخفته، كما يتفاوت الصحيح، فمنه الضعيف، ومنه الضعيف جدا، ومنه الواهي ومنه المنكر، وشر أنواعه الموضوع (1) .
قد ترى أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها – رأيا يوافق حديثا ضعفه العلماء. فهذا الرأي منها يكون هو المقدم على من لا دليل له، لأن الضعيف في الحديث قد يكون طرأ عليه بعد زمنها ممن تناقله عن الصحابة وتابعيهم (2) .
ومن ذلك أنها ترى أن أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام، وهذا قد ورد فيه حديث رواه واثلة بن الأسقع، قال: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام (3) » .
وقد ضعف العلماء هذا الحديث. ولكن تضعيفهم له، كان سنده بعد عصر الصحابة؛ حيث إن بين واثلة بن الأسقع وبين من ضعفوهم راويين لم يضعفا، فدل على أن الضعف بالحديث جاء متأخرا عن عصر الصحابة، وهذا مما يقوي الحديث، ويجعل رأي أم المؤمنين
__________
(1) انظر: علوم الحديث (ص/ 89) ، تيسير مصطلح الحديث (ص 63)
(2) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 566)
(3) أخرجه: الدارقطني في سننه (1 / 225) ، كتاب الحيض، والطبراني في المعجم الكبير (8 / 129) وقد ضعفه العلماء كالبيهقي في معرفة السنن والآثار (1 / 381) وابن الجوزي والذهبي كما في تلخيص العلل المتناهية (ص 131) ، وغيرهم(80/288)
عائشة - رضي الله عنها - في محله؛ حيث إنها تستند على حديث (1) .
__________
(1) انظر: نصب الراية (1 / 191) ، العلل المتناهية لابن الجوزي (1 / 385) .(80/289)
المبحث الثاني: أخذها - رضي الله عنها - بالأدلة الشرعية المختلف فيها:
أولا: أخذها - رضي الله عنها - بالقياس الأصولي:
قد كانت عائشة - رضي الله عنها - إن لم تجد الحكم في القرآن الكريم والسنة النبوية فإنها كانت تلجأ إلى القياس.
ومن ذلك ما يلي:
1 - قياس صوت الخلخال على الجرس الذي نص عليه الرسول، فقد روي أن جارية دخلت على عائشة - رضي الله عنها - وفي رجلها جلاجل من الخلخال، فقالت عائشة: أخرجوا عني مفرق الملائكة (1) حيث قاست صوت الخلخال على صوت الجرس، فكما أن الجرس لا يجوز لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تصحب الملائكة رفقة بها كلب ولا جرس (2) » أو قال صلى الله عليه وسلم: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه جرس (3) » حيث
__________
(1) أخرجه: عبد الرزاق في المصنف (10 / 459) ، وابن أبي شيبة بلفظ قريب منه (6 / 44) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (ص 1171) ، كتاب اللباس والزينة في باب كراهة الكلب والجرس في السفر، حديث رقم (2113) ، والترمذي في سننه (4 / 207) ، كتاب الجهاد، باب ما جاء في كراهية الأجراس على الخيل، حديث رقم (1703) والنسائي في السنن الكبرى (5 / 458) ، والإمام أحمد في المسند (2 / 444) رقم الحديث (8319)
(3) أخرجه مسلم في صحيحه (ص 1171) ، كتاب اللباس والزينة في باب كراهة الكلب والجرس في السفر، حديث رقم (2113) ، والترمذي في سننه (4 / 207) ، كتاب الجهاد، باب ما جاء في كراهية الأجراس على الخيل، حديث رقم (1703) والنسائي في السنن الكبرى (5 / 458) ، والإمام أحمد في المسند (2 / 444) رقم الحديث (8319)(80/289)
إن كلا من الخلخال والجرس له صوت، ولذلك منعت عائشة - رضي الله عنها - الجارية التي كانت تلبس خلخالا، لأن الخلخال صوت يمنع دخول الملائكة.
2 - قياسها أكل الغراب على الفواسق والخبائث، فقد روي أن عائشة قالت: «إني لأعجب ممن يأكل الغراب، وقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم في قتله، وسماه فاسقا والله ما هو من الطيبات (1) » ؛ حيث فهمت أنه طالما أنه من الفواسق والخبائث التي نهي المسلم عن أكلها وبالتالي فلا يحل أكله (2) .
ثانيا: أخذها - رضي الله عنها - بالاستحسان المبني على الدليل:
والاستحسان العدول عن دليل إلى دليل أقوى منه، فهذا مما لا ينكره أحد، أما إن كان بما يستحسنه الإنسان ويشتهيه من غير دليل فهو باطل، ولا يقول به أحد.
وقد كانت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - ترى أنه يجب العدول في مسألة ما عن حكمها بالقياس المتبادر من النص لأول وهلة إلى حكم آخر لوجه أقوى أثرا وأكثر تحقيقا لمقصد الشارع من هذا النص.
__________
(1) انظر: مصنف عبد الرازق (4 / 519) ، وابن أبي شيبة (5 / 400) . وهو عند البزار كما في مختصر زوائد مسند البزار (1/ 494) وقال: إسناده حسن، وعند البيهقي في السنن الكبرى (9 / 317) ، وفي المصدر نفسه عن عروة بن الزبير، وعند ابن ماجه (2 / 3248) كتاب الصيد، باب الغراب.
(2) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين - رضي الله عنها - (ص 567)(80/290)
والاستحسان حجة شرعية يحتج بها. والدليل على ذلك ما يلي:
1 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) .
2 - قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (2)
3 - قول ابن مسعود: " فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ ".
المصدر الرابع من مصادر الأحكام إلى تستمد منها أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها – الاستحسان، فقد ترى أنه يجب العدول في مسألة ما عن حكمها القياسي المتبادر من النص لأول وهلة إلى حكم آخر لوجه أقوى أثرا وأكثر تحقيقا لمقصد الشارع من هذا النص (3) .
ومن ذلك أنها ترى منع المرأة من الذهاب إلى المسجد لأداء صلاة جماعة، لما يحدث خروجها إلى المسجد من الفتن التي يحرص الشارع الحكيم على اجتثاثها من المجتمع.
__________
(1) سورة الزمر الآية 18
(2) سورة الزمر الآية 55
(3) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 569)(80/291)
فقد قالت - رضي الله عنها - " لو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل ".
وقد عدلت بهذا الرأي عن أحكام "الصلاة جماعة في المسجد أفضل من صلاة الفرد" الواردة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تفضل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا، وفي رواية تفضلها بسبع وعشرين درجة (1) » .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله (2) » .
ثالثا: أخذها - رضي الله عنها – بالاستصحاب:
وقد كانت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - ترى وجوب العمل بالحكم الأصلي الثابت لشيء حتى يثبت ما يرفع هذا الحكم قطعا، وهذا بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة.
فقد أنزل الله هذه الشريعة بفضله ورحمته تحلل الحلال وتحرم
__________
(1) أخرجه: البخاري في صحيحه (2 / 137) ، كتاب التفسير، باب إن قرآن الفجر كان مشهودا، حديث رقم (4717) .
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (ص 180) ، كتاب الجمعة، باب: حدثنا عبد الله، رقم 900، ومسلم في الصحيح (ص 232) ، كتاب المساجد، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة رقم 442.(80/292)
الحرام، وقد جعل الله عز وجل الأصل في الأشياء أنها حلال وباستثناء تلك النصوص من رب العالمين بتحريمها.
وقد جاءت آيات الله تؤكد عموم فضل الله على خلقه، وأنه سبحانه سخر لعباده الأشياء ليبتغوا بها من فضله، فما دام هذا الشيء ليس من المحرمات، فالأصل أنه من المباحات (1) . فقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (2) .
ولذلك رأت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - حل أكل الجبن، ولا كراهة في ذلك.
فقد أخرج البيهقي: أن امرأة سألت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن أكل الجبن فقالت عائشة: " إن لم تأكليه فأعطنيه آكل " (3) .
وقول أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - هذا بنته على أن الأصل في الأشياء الإباحة، ولأن الله سبحانه وتعالى قد فصل ما حرم، فقال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) .
__________
(1) انظر: أصول الأحكام الإسلامية د. يوسف قاسم (ص/ 209)
(2) سورة الجاثية الآية 13
(3) انظر: سنن البيهقي (10 / 6) ، مصنف عبد الرزاق (4 / 538)
(4) سورة الأنعام الآية 145(80/293)
ولذلك نجد الفقهاء يرون أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فرؤية أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بوجوب العمل بالحكم الأصلي الثابت لشيء حتى يثبت ما يرفع هذا الحكم قطعا، فإن لم يثبت رفعه يبقى العمل به استصحابا لحكمه القديم (1) .
رابعا: أخذها - رضي الله عنها – بالعرف:
من المصادر التي تستمد منها أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - الأحكام الفقهية ما كان سائدا في مجتمعها، ولم يكن له حكم ينص عليه بموافقة أو معارضة (2) .
ومن ذلك أنها ترى أن سن الإياس للمرأة إذا بلغت خمسين سنة، ما لم تكن قرشية، فقد قالت: " قل امرأة تجاوز الخمسين فتحيض إلا أن تكون قرشية " (3) .
وقد اعتمدت في هذا الحكم على غالب نساء عصرها وما كان سائدا في بيئتها التي عاشت بها.
__________
(1) انظر: موسوعة فقه عائشة (ص 571)
(2) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 572)
(3) انظر: المنتقى شرح الموطأ (1/ 125 – 126) ، والمغني لابن قدامة (1 / 372)(80/294)
وذهاب أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - إلى أن السن الذي إذا بلغته المرأة تكون آيسة هو خمسون سنة، وافقها على ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه (1) .
وأم المؤمنين عائشة وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - لم يطلقا هذا الحكم مجازفة، بل لا بد أن يكون هناك أمر استندا إليه، وهذا الأمر هو الاستقراء؛ حيث وجدت غالب نساء عصرها وما كان سائدا في بيئتها هو أن السن الذي ينقطع الحيض فيه هو بلوغ الخمسين سنة.
وكذلك ترى أن المرأة إذا بلغت تسع سنين فهي بالغة يجب عليها الحجاب وغيره من الأحكام الشرعية.
فقد أخرج البيهقي: " قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة " (2) . وهذا الرأي من أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بناء على المنطقة التي كانت تعيش بها؛ حيث الجو الحار الصحراوي الذي يساعد على سرعة البلوغ، بخلاف المناطق الباردة التي يتأخر فيها سن البلوغ (3) .
__________
(1) انظر: المنتقى شرح الموطأ جـ 1 / 125
(2) أخرجه البيهقي في سننه (1 / 32) ، وكذلك ذكره الترمذي معلقا في السنن (3/ 417)
(3) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 572)(80/295)
الفصل الثاني: أثر منهج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الأصولي في الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة:
المبحث الأول: خروج المعتدة من وفاة من بيتها:
اتفق السلف والخلف على أنه إذا توفي الرجل وجب على زوجته أن تعتد أربعه أشهر وعشرا واختلف فيما إن كانت حاملا، والراجح أنها تعتد بوضع حملها.
واختلف أيضا في المكان الذي تقضي المرأة عدتها فيه. فذهبت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - إلى أن المعتدة من الوفاة تعتد حيث شاءت، ولا يجب عليها البقاء في بيت زوجها الذي توفي وهي به (1) ويجوز لها الانتقال إلى غيره من البيوت.
الأدلة:
واستدلت السيدة عائشة - رضي الله عنها - لما ذهبت بما يلي:
1 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (2) .
وجه الاستدلال:
إن الله أوجب على المتوفى عنها زوجها العدة، ولم يحدد لها مكان
__________
(1) انظر: مصنف عبد الرازق (7 / 29) ، سنن البيهقي (7 / 436) ، مصنف ابن أبي شيبة (5 / 188)
(2) سورة البقرة الآية 234(80/296)
العدة، فدل ذلك على أن الأمر فيه يسر وسهولة وسعة لها، فتعتد حيث شاءت، لأن المقصود هو الزمان الذي تمكثه، لا المكان الذي تعتد به (1) .
2 - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) .
وجه الاستدلال:
قالوا: إن الله تعالى أباح لها الخروج والانتقال، وأن هذا مرجعه إليها، لا إلى الأولياء، قال ابن عباس: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها، فتعتد حيث شاءت، وهو قول الله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (3) (4) .
وقال عطاء: إن شاءت عند أهله سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت؛ لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} (5) (6) .
دليلها بالرأي:
أن المنزل لا يخلو من أن يكون ملكا للميت، أو ملكا لغيره، فإن كان ملكا لغيره وهو مكترى، أو مباح فقد بطل العقد بموته، فلا يحل
__________
(1) انظر: موسوعة فقه عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - (ص 693)
(2) سورة البقرة الآية 240
(3) سورة البقرة الآية 240
(4) انظر: البخاري (8/ 193) تفسير الآية
(5) سورة البقرة الآية 240
(6) انظر: صحيح البخاري (8/ 193) تفسير الآية(80/297)
لأحد سكناه إلا بإذن صاحبه، وطيب نفسه. قال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفسه (1) » .
وإن كان ملكا للميت، فقد صار للغرماء أو للورثة، أو للوصية، فلا يحل لها مال الغرماء، أو الورثة أو الموصى لهم، وإنما لها منه مقدار ميراثها إن كانت وارثة فقط (2) .
وقد وافقها على ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وابن عباس، وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم أجمعين - وتابعها الحسن البصري، وعطاء، وطاووس، وعمر بن عبد العزيز - رحمهم الله - (3) ، ومن الفقهاء ابن حزم - رحمه الله - (4) .
وهذا هو الراجح، لأن الهدف الأكبر من عدة المتوفى عنها زوجها هو براءة الرحم من الحمل، وهذا الهدف يتحقق في أي مكان تعتد به (5) .
ورؤية عائشة في المعتدة من وفاة لا يجب عليها أن تعتد في بيت زوجها مبني على فكرة عند الأصوليين، هي التأويل، حيث أولت
__________
(1) أخرجه: الدارقطني في سننه (3 / 22) ، كتاب البيوع، البيهقي في سننه (8/ 182) ، وهو حديث ضعيف، وقد ضعفه الزيلعي في نصب الراية (4/ 169)
(2) انظر: المحلى لابن حزم (10/ 283)
(3) انظر: مصنف عبد الرزاق (7 / 30 - 31)
(4) انظر: المحلى لابن حزم (10/ 282)
(5) انظر: موسوعة فقه عائشة - رضي الله عنها - (ص 700)(80/298)
عائشة الآية من خلال الخفاء الوارد في الآية من عدم تحديدها المكان، قد توافق غيرها على ذلك وقد تختلف (1) .
ومن الممكن أن تكون القاعدة الأصولية التي بنت عليها أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - حكمها في عدم وجوب اعتداد المرأة المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها، هو سدا للذرائع، وغلقا لأبواب الشجار والخلاف، لأن بيت الزوج هذا إما أن يكون مكترى وإما أن يكون ملكا فإن كان مكترى بطل العقد بموته، وإن كان ملكا فقد صار للورثة فيه نصيب، فلا يحل لها مال الغير.
__________
(1) انظر: الإصابة في الفكر الأصولي لدى فقهاء الصحابة (ص 219)(80/299)
المبحث الثاني: أحكام الاستمتاع بالمرأة:
أولا: الاستمتاع بالمرأة الحائض:
خلق الله سبحانه وتعالى المرأة وركبها تركيبا جسميا ونفسيا يختلف عن الرجل، وهذه التركيبة تنم عن عظيم حكمة الله تعالى في خلقه، إذ أن المرأة خلقت لأداء وظيفة معينة في الحياة تختلف عن وظيفة الرجل، ومن هذه الاختلافات التي خلقها الله تعالى في المرأة تلك الانهدامات الرحمية التي تسمى بالحيض، والتي تنتابها كل شهر في أيام معينة.
والمرأة في فترة الحيض تنتابها آلام، وتتغير نفسيتها فتميل إلى الاضطراب والنفور من الرجل، لذا من رحمة الله بهذه المرأة خفف الله(80/299)
تعالى عنها العبادات، فلم يأمرها بالصلاة، ولا بالصوم، ولا بغيرهما من العبادات التي تشترط لها الطهارة، كذلك حرم الله على الرجل وطأها وقد كان الناس قبل الإسلام؛ سواء كانوا يهودا أو مشركين، يعتبرون المرأة في فترة الحيض نجسة، فلا يضاجعونها، ولا يقبلون منها الخدمة في البيت، فجاء الإسلام بتعاليمه السمحة، فأزال تلك النظرة السيئة، وأباح للرجل أن يتعامل مع زوجته كما كان قبل الحيض إلا الوطء فإنه محرم عليه. عند ذلك اختلف السلف والخلف في كيفية الاستمتاع بالمرأة الحائض (1) .
اتفق السلف والخلف على أن للرجل الاستمتاع بزوجته الحائض بما فوق الإزار (2) لكن اختلفوا بما تحت الإزار والاستمتاع به (3) .
فذهبت عائشة - رضي الله عنها - إلى أنه يجوز للرجل أن يستمتع بزوجته الحائض بكل شيء دون الفرج (4) .
الأدلة:
استدلت السيدة عائشة - رضي الله عنها - لما ذهبت إليه بما يلي:
1 - قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (5) .
__________
(1) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص/ 710)
(2) انظر: المجموع شرح المهذب (2 / 364) ، المغني لابن قدامة (1 / 350)
(3) انظر: مصنف عبد الرازق (10 / 327)
(4) انظر: تفسير الماوردي (1 / 236)
(5) سورة البقرة الآية 222(80/300)
وجه الاستدلال:
أن المحيض هو اسم لمكان الحيض، كالمقيل، والمبيت، فتخصيصه موضع الدم بالاعتزال دليل على إباحته فيما عداه من المرأة، وهو ما تحت الإزار (1) .
2 - ما ورد في سبب نزول الآية السابقة عن أنس - رضي الله عنه - (أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة عندهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (2) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح (3) » ، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه.
وجه الاستدلال:
قالوا: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين المباح للرجل من زوجته الحائض، وأنه لا يحرم عليها إلا النكاح الذي هو الجماع، ومحله الفرج، فدل
__________
(1) انظر: المغني لابن قدامة (1/ 350)
(2) سورة البقرة الآية 222
(3) مسلم الحيض (302) ، الترمذي تفسير القرآن (2977) ، النسائي الحيض والاستحاضة (369) ، أبو داود النكاح (2165) ، ابن ماجه الطهارة وسننها (644) ، أحمد (3/133) ، الدارمي الطهارة (1053) .(80/301)
على أن ما عداه مباح للرجل (1) .
3 - ما رواه عكرمة - رحمه الله - عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن «النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوبا (2) » .
وكذلك ما روي «عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها – قالت: " كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض (3) » .
وجه الاستدلال:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يمتنع إلا عن فرجها فقط، فدل على حل ما سواه من المرأة الحائض (4) .
4 - دليل من القياس: أن تحريم الوطء للحائض لأجل الحيض، فاختص التحريم بمكانه كالدبر (5) .
وقد وافق أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - في ذلك أمهات المؤمنين حفصة وميمونة - رضي الله عنهما - (6) .
__________
(1) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 711)
(2) أخرجه: أبو داود في سننه (1 / 71) ، كتاب الطهارة، باب في الرجل يصيب منها ما دون الجماع، حديث رقم (272) . قال عنه ابن حجر: إسناده قوي، وقال المناوي: انفرد بإخراجه أبو داود، وإسناده صحيح، فيض القدير (5/ 95)
(3) أخرجه: البخاري في صحيحه باب مباشرة الحائض، من كتاب الحيض، باب اغتسال المعتكف من كتاب الاعتكاف (1 / 82) (3 / 63) ، ومسلم في صحيحه، باب مباشرة الحائض فوق الإزار، من كتاب الحيض (1 / 242)
(4) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 714)
(5) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 714)
(6) انظر: تفسير الماوردي (1 / 236)(80/302)
وقد تبعها على ذلك أيضا مجاهد والنخعي وعكرمة وسفيان والشعبي - رحمهم الله – ومن الفقهاء الحنابلة(80/303)
والظاهرية - رحمهم الله - (1) .
والراجح في ذلك هو ما ذهبت إليه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وذلك لما يلي:
1 - إن أمهات المؤمنين: عائشة، وميمونة، وحفصة - رضي الله عنهن أجمعين - هن اللاتي روين أحاديث مباشرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهن بما فوق الإزار، وهن القائلات بجواز ما تحت الإزار مما يدل على أنهن قد فهمن من فعله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على الجواز، وهن أعلم بهذه الأمور المختصة بالنساء اللاتي لا يطلع عليها إلا هن، ولو فهمن المنع لأخبرن به.
2 - أن الآية قد نزلت لتغيير وضع كان سائدا في المجتمع آنذاك، وهو اعتزال المرأة الحائض، وعدم قربها، فنزلت هذه الآية لبيان جواز قربها، والاستمتاع بها بما دون محل الحيض (2) .
والفكرة الأصولية التي بنت عائشة عليها هذا الحكم هو التزامها بالنصوص. حيث التزمت بما رواه الرسول صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى فعل الرسول صلى الله عليه وسلم - مع نسائه؛ خصوصا أن هذه الأمور مما لا يطلع عليها أحد غيرهن. وعائشة - رضي الله عنها - هنا لم تئول، ولم تنسخ، ولم تغير ما قاله الرسول أو فعله، مما يدل على مدى التزام عائشة بالسنة النبوية.
__________
(1) انظر: المغني لابن قدامة (1/ 350)
(2) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 717)(80/304)
ثانيا: أحكام المرأة المستحاضة:
من طبيعة المرأة التي خلقها الله عليها هذا الحيض الذي يعتادها في كل شهر وهذا الحيض له أيام محددة لا يتجاوزها، ودمه له صفات معينة لا تختلف عنه، فإذا ما تجاوز الدم حده الزمني أو صفاته، فمعنى ذلك أنه لم يعد حيضا، وإنما استحاضة، مما يلزم أن تختلف أحكام هذا الأمر الجديد عن الحيض وأحكامه (1) .
وسنستعرض بعض الأحكام التي تتعلق بالمرأة المستحاضة، ورأي أم المؤمنين عائشة:
المسألة الأولى: تطهر المرأة المستحاضة:
الطهارة من الحدث شرط في صحة الصلاة، والطواف بالبيت، واختلف السلف والخلف في المرأة المستحاضة إذا أرادت أن تتطهر لتأدية هذه العبادات.
فذهبت عائشة - رضي الله عنها - إلى أن المستحاضة يجب عليها غسل واحد فقط، وتتوضأ لكل صلاة
__________
(1) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 718)(80/305)
الأدلة:
استدلت لما ذهبت إليه - رضي الله عنها - بما يلي:
1 - ما روته - رضي الله عنها - «من أن فاطمة بنت أبي حبيش أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني أستحاض فلا ينقطع مني الدم، فأمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل، وتتوضأ لكل صلاة، وتصلي وإن قطر الدم على الحصير قطرا (1) » .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرها بما يجب عليها، وهو الغسل بعد انقضاء أيام عادتها، ثم تتوضأ لكل صلاة فقط، فدل ذلك أنه هو الواجب عليها (2) .
2 - ما رواه أبو داود والترمذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في المستحاضة «تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي، والوضوء عند كل صلاة (3) » .
__________
(1) أخرجه: ابن أبي شيبة في المصنف (1/ 118) ، والإمام أحمد في المسند (6 / 204) ، والنسائي في سننه الكبرى بلفظ مقارب (1 / 97) ، وابن ماجه في السنن (1 / 204) ، كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام أقرائها قبل أن يستمر بها الدم، حديث رقم (624) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1 / 344) ، وقد ضعفه البيهقي في معرفة السنن والآثار (1 / 379)
(2) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 719)
(3) أخرجه: أبو داود في سننه (1/ 73) ، كتاب الطهارة، باب في المرأة تستحاض ومن قال تدع الصلاة..، الحديث رقم (281) ، وضعفه الترمذي في سننه (1/ 220) ، أبواب الطهارة، باب ما جاء في أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، الحديث رقم (126) ، وقال: حديث تفرد به شريك، عن أبي اليقظان(80/306)
وجه الاستدلال:
دل الحديث على أن المستحاضة تغتسل عند انتهاء أيام عادتها، ثم تتوضأ لكل صلاة (1) .
3 - دليل من الرأي:
أن دم الاستحاضة حدث لا يوجب الغسل، بخلاف الدم الخاص بالحيض، أو النفاس، أو الجما ع (2) .
وقد وافق السيدة عائشة - رضي الله عنها - في ذلك عروة، وابن المسيب - رحمهما الله - (3) .
ومن الفقهاء: الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والمالكية، إلا أنهم قالوا: لا يجب عليها الوضوء لكل صلاة إلا لحدث جديد غير خروج وقت الصلاة (4) .
ولعل الراجح والله أعلم هو ما ذهبت إليه عائشة - رضي الله عنها - أن المستحاضة تغتسل مرة واحدة لطهرها، وتتوضأ لكل صلاة. ومن الممكن أن تكون الفكرة الأصولية التي بنت عائشة - رضي الله عنها - عليها حكمها في أن المستحاضة تغتسل مرة واحدة،
__________
(1) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 720)
(2) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 720)
(3) انظر: مصنف عبد الرزاق (1 / 304)
(4) انظر: المنتقى شرح الموطأ (1 / 127)(80/307)
وتتوضأ لكل صلاة هو التزامها بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش، بالإضافة إلى استقرائها المنطقي من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الأمور التي تلحق المشقة، فإنه كان يأخذ بالأيسر لرفع الحرج والمشقة عن المرأة. فما خير الرسول بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.
وأسباب الرجحان ترجع لما يلي:
1 - أن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وهي التي روت أغلب أحاديث المستحاضة قد صدر منها فتوى بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن الواجب على المستحاضة هو غسل واحد، وتتوضأ لكل صلاة، مما يدل على أن هذا الذي استقر عليه الأمر وأن ما سبقه منسوخ بذلك.
2 - أن اختلاف الأحاديث التي وردت قد يكون مرجعه إلى اختلاف حالات الاستحاضة في المستحاضات، فمستحاضة تعرف أيام حيضها، فأمرت بما يتناسب مع حالتها، وأخرى كان في الماء علاج لها كالتي يثج الدم منها ثجا، فأمرت بأن تكثر منه، والاغتسال منه، لعل ذلك يكون فيه تقليل لخروج الدم منها، خاصة إذا كان الماء باردا، وأن في غسلها لكل صلاة احتياطا لها حتى لا تصلي وهي نجسة، فلكل حالة من ذلك حكم يستحب الأخذ به تقديرا لحالة هذه المرأة المستحاضة (1) .
__________
(1) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 723 – 724)(80/308)
المسألة الثانية: وطء المرأة المستحاضة:
المرأة المستحاضة محكوم بطهارتها، لذا أمرت بأن تؤدي جميع العبادات من صلاة أو صيام أو طواف، ولكن محل الوطء ملطخ بالدماء، وقد سماه الله أذى في حالة الحيض، وهو لا يزال باقيا في المستحاضة، لذا اختلف السلف والخلف في حكم وطء المستحاضة (1) .
فذهبت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - إلى أن المستحاضة لا يحل وطؤها.
واستدلت رضي الله عنها لما ذهبت إليه بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} (2) .
وجه الاستدلال:
أن الله تعالى حرم وطء الحائض لوجود الأذى بخروج الدم، وهذه العلة موجودة في المستحاضة، فيحرم وطؤها لوجود العلة بها (3) .
وتبع السيدة عائشة - رضي الله عنها - بهذه الرواية النخعى في
__________
(1) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 724)
(2) سورة البقرة الآية 222
(3) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 725)(80/309)
رواية، وابن سيرين، والشعبي، وسليمان بن يسار (1) .
ومن الفقهاء الإمام أحمد إلا إذا خشي على نفسه فيجوز له الوطء (2) .
ولعل الراجح والله أعلم: أنه يكره وطء المرأة المستحاضة، إلا إذا خشي على نفسه الوقوع في الحرام، فحينئذ يجوز له ذلك، لأن حكم المستحاضة فيه تخفيف.
والقاعدة الأصولية التي بنت عليها أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - هذه الرواية هي أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وذلك للأسباب الآتية:
1 - أن وطء المرأة الحائض والنفساء فيه ضرر صحي عليهما، لكون الرحم منهكا بهذه الدماء التي تخرج منه، وهذا موجود في المستحاضة.
2 - إن ما ورد عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - من النهي عن وطء المستحاضة يمكن حمله على الكراهة لا على التحريم، لعدم دلالة الآية على ذلك (3) .
ومن المكن أيضا أن تكون الفكرة الأصولية التي بنت عليها
__________
(1) انظر مصنف عبد الرزاق (1/ 311) ، مصنف ابن أبي شيبة (4/ 278)
(2) انظر: المغني لابن قدامة (1/ 353)
(3) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 724)(80/310)
عائشة - رضي الله عنها - كراهة وطء المستحاضة هو قياسها دم الاستحاضة على دم الحيض، فكما أن دم الحيض أذى تعتزل فيه النساء فكذلك دم الاستحاضة، غاية ما هناك أن دم الحيض (طلب ترك جازم) فيأخذ التحريم. أما دم الاستحاضة فقياس عليه فيأخذ الكراهة.
ثالثا: الاستمتاع في حالة الصيام:
المرأة جزء من الرجل، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) ، وتقتضى هذه الجزئية أن يرتبط كلا الزوجين بصاحبه، وترتفع بينهما العلاقة حتى ترقى بينهما إلى درجة الائتلاف الكلي، حتى لا يبقى هناك حاجز يمنع أحدهما أن يستمتع بالآخر، وأن يفضي له بما يكنه له في قلبه، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة، قال تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (2) .
ولكن هناك حالات تطرأ على المرأة تحد من هذا الاستمتاع الكلي، وتقتصر على بعض معانيه، ومن ذلك حينما يكون كلا الزوجين صائمين، أو أحدهما فإن الجماع يحرم على الزوج، أما باقي
__________
(1) سورة الروم الآية 21
(2) سورة النساء الآية 21(80/311)
الاستمتاع بزوجته فالسلف والخلف اختلفوا في ذلك (1) .
ذهبت السيدة عائشة - رضي الله عنها - إلى أنه يجوز للزوج الاستمتاع بزوجته بكل شيء سوى الجماع إذا كان يملك إربه.
الأدلة:
1 - ما روته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملككم لإربه (2) » .
وجه الاستدلال:
أن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - دليل على جواز المباشرة للصائم (3) .
2 - ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - «أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المباشرة للصائم؟ فرخص له، فأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا
__________
(1) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 728)
(2) أخرجه: البخاري في صحيحه (4 / 149) ، كتاب الصوم، باب القبلة للصائم، حديث رقم (1928) ، والترمذي في سننه (3/ 107) ، كتاب الصوم، باب ما جاء في مباشرة الصائم، الحديث رقم (728 - 729) ، والنسائي في السنن الكبرى (5 / 352) ، كتاب النكاح، الرخصة في أن تحدث المرأة بما يكون بينها وبين زوجها، البيهقي في سننه (1 / 314) .
(3) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 729)(80/312)
الذي رخص له شيخ، وإذا الذي نهاه شاب (1) » .
وجه الاستدلال:
أن ترخيص الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمباشرة للسائل دليل على جوازها لمن ملك إربة (2) .
وقد وافق أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - لما ذهبت إليه أم سلمة، وابن عباس، وابن عمر في رواية عنهما، وابن مسعود، وأبو هريرة، وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهم أجمعين - (3) .
وتبعها على ذلك عكرمة، وعطاء، والشعبي - رحمهم الله - (4) ، ومن الفقهاء الحنفية، والظاهرية، والحنابلة في القبلة فقط (5) .
__________
(1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ (ص/ 176) ، وأبو داود في سننه (2 / 312) ، كتاب الصوم، باب كراهيته للشاب حديث رقم (3787) ، قال المباركفوري: سكت عنه أبو داود والمنذري، وقال ابن الهمام: إسناده جيد، ورواه ابن ماجه عن ابن عباس (1 / 539) كتاب الصيام، باب ما جاء في المباشرة للصائم، حديث رقم (1688) وإسناده ضعيف، والبيهقي في السنن الكبرى (4 / 232)
(2) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص / 730)
(3) انظر: معاني الآثار للطحاوي (2 / 88) وما بعدها، مصنف ابن أبي شيبة (3 / 63)
(4) انظر: مصنف عبد الرزاق (3 / 183) ، وابن أبي شيبة (3 / 63)
(5) انظر: المبسوط (3 / 58) ، المحلى (6 / 205) ، المغني لابن قدامة (3 / 48)(80/313)
ولعل الراجح والله أعلم: ما قالت به أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن المباشرة للصائم جائزة إذا كان مالكا لإربه، والفكرة الأصولية التي بنت عليها - رضي الله عنها - هذه الرواية هي صريح الأدلة القولية والفعلية؛ لقربها من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه أمور خفية لا يعلمها إلا هي وزوجاته صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن أجمعين -.
ومن الممكن أن تكون الفكرة الأصولية: تحقيق المصالح ودرء المفاسد؛ خصوصا إذا كانت المباشرة لا يترتب عليها مفاسد، وتحقق ألفة ومودة بين الزوجين، يؤيد ذلك سؤال عمر - رضي الله عنه - للرسول - صلى الله عليه وسلم - عن قبلة الصائم، فقال: «أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه؟ قال: لا، قال: فكذلك القبلة (1) » .
كما أن تصريح جمع من الصحابة بذلك دليل على أن ذلك هو الغالب بينهم (2) .
__________
(1) أخرجه: الإمام أحمد في مسنده، (1 / 21) ، وابن خزيمة في صحيحه (3 / 245) ، باب جماع أبواب الأفعال التي تفطر الصائم؛ باب تمثيل النبي قبلة الصائم بالمضمضة بالماء، وقال عنه محققه: صحيح، وأبو داود في سننه (2 / 311) كتاب الصوم، باب القبلة للصائم
(2) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 732)(80/314)
المبحث الثالث: صلاة المرأة في المسجد:
المساجد بيوت الله في الأرض، ويتعين عمارتها بإقامة الصلاة فيها؛ حيث أمر الله بذلك، والصلاة في المسجد جماعة أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكدها في أحاديث كثيرة، حتى بلغ الأمر إلى أن هدد المتأخرين عنها من الرجال بالعقاب الشديد، بل إن بعض العلماء يذهبون إلى أن الصلاة جماعة في المسجد شرط لصحتها، ولا تصح الصلاة بغير المساجد إلا من عذر - خوف أو مرض -، والمرأة مأمورة بأن تبقى في البيت حتى لا تختلط بالرجال الأجانب، وإذا كانت الشريعة الإسلامية أباحت لها الصلاة في المساجد، فإن ذلك مشروط بالمحافظة على حيائها وعفتها، وخروجها إلى المساجد مقيد بعدم تعرضها لما يخل بشرفها وأخلاقها.
واختلف السلف والخلف في حكم صلاة المرأة في المسجد جماعة (1) .
فذهبت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - إلى أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، وأنه يكره لها الخروج إلى المسجد (2) .
__________
(1) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 664)
(2) انظر: مصنف عبد الرزاق (1/ 34) ، سنن البيهقي (3/ 133)(80/315)
الأدلة:
1 - قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (1) {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (2) .
وجه الاستدلال:
أن تخصيص الله من يسبح له في المساجد بالرجال يدل بمفهومه على أن النساء يسبحن له في بيوتهن، لا في المساجد (3) .
2 - ما رواه ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا نساءكم المساجد، ودورهن خير لهن (4) » .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأن صلاة المرأة في البيت خير من صلاتها في المسجد، لذا يجب عليها أن تفعل ما فيه خير لها (5) .
__________
(1) سورة النور الآية 36
(2) سورة النور الآية 37
(3) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 665)
(4) أخرجه: الإمام أحمد في مسنده (2 / 76) ، وأبو داود في سننه (1 / 155) كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد حديث رقم (566 - 568) ، والحاكم في المستدرك (1 / 327) ، كتاب الإمامة وصلاة الجماعة، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، والبيهقي في سننه (3 / 76)
(5) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 666)(80/316)
3 - ما أخرجه الإمام أحمد «أن أم حميد (2) » .
وجه الاستدلال:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، قد بين للسائلة ما هو خير لها وهو أن تصلي في بيتها لأنه أفضل لها من صلاتها في المسجد (3) .
4 - ما روته أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها - عن رسول الله
__________
(1) أخرجه: الإمام أحمد في مسنده (6 / 371) ، وابن خزيمة في صحيحه (3 / 95) جماع أبواب صلاة النساء في الجماعة، رقم الحديث (1688) وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (2/ 350) : إسناده حسن، ونقله ووافقه عليه صاحب تحفة الأحوزي (3 / 131) ، وابن خزيمة في صحيحه (3 / 95) . وحسنه الشيخ ناصر الدين الألباني
(2) (1) الساعدية جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك. فقال: قد علمت، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجد الجماعة
(3) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 666)(80/317)
صلى الله عليه وسلم - قال: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن (1) » .
وجه الاستدلال:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر بالشيء الذي فيه خير في الدنيا والآخرة، ومنه أن تصلي المرأة في بيتها لا في المسجد (2) .
5 - ما رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها (3) » .
وجه الاستدلال:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن المرأة كلما كانت مختفية عن أنظار الرجال، والاختلاط بهم في صلاتها، كان أفضل لها، حتى إنه فاضل بين صلاتها في البيت وبين صلاتها في المخدع (4) .
__________
(1) أخرجه: الإمام أحمد في مسنده (6/ 297) ، وابن خزيمة في صحيحه (3 92) ، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني، ومستدرك الحاكم (1/ 327) ، والبيهقي في سننه (3/ 131) ، وقال المناوي في فيض القدير (1/ 560) تعقيبا على ذكر ابن الجوزي والسيوطي لهذا الحديث في الموضوعات: فلعله لم يقف على تعقيب الحافظ ابن حجر بأن ابن عساكر خرجه من وجه آخر في أماليه وحسنه. . . فالحديث إلى الحسن أقرب
(2) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 667)
(3) أخرجه: أبو داود في سننه (1/ 156) ، كتاب الصلاة، باب التشديد في ذلك، حديث رقم (570) . قال في مجمع الزوائد (2/ 155) : رواه الطبراني في المعجم الكبير، ورجاله رجال الصحيح
(4) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 668)(80/318)
ووافق أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - لما ذهبت إليه من السلف عمر بن الخطاب، وابن مسعود وابن عمر في رواية - رضي الله عنهم أجمعين -، وقد تبعهم عروة والقاسم والنخعي، والبصري، وعطاء - رحمهم الله - (1) .
ومن الفقهاء الحنفية مطلقا (2) والمالكية في الشابة البارعة الجمال، والشافعية (3) والحنابلة في الحسناء (4) .
ولعل الراجح والله أعلم:
ما ذهبت إليه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - من أن
__________
(1) انظر: مصنف عبد الرزاق (3/ 146 – 147) ، ومصنف ابن أبي شيبة (2/ 183 – 383)
(2) انظر: بدائع الصنائع (1/ 46) ، حاشية ابن عابدين (1/ 566)
(3) انظر: حاشية الدسوقي (1/ 335)
(4) انظر: المغني لابن قدامة (3 / 35 - 36) ، وكشاف القناع (1/ 551)(80/319)
الأفضل عدم خروج المرأة للمساجد، لا سيما إذا كانت الآثار المترتبة على الخروج أسوأ من عدم الخروج، فقالت: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد.
وتصريح أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بهذا القول مع وجود نص من الرسول يثبت عدم منع النساء المساجد ما هو إلا اجتهاد منها، بناء على فكرة أصولية، وهي سد الذرائع، فمن الممكن أن تكون عائشة - رضي الله عنها - رأت أن الأفضل عدم خروج المرأة للمساجد لأن الزمان اختلف عن زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - فضعفت النفوس، وفشت الرذائل، حفظا على صيانة المرأة وعفتها وغلقا لأبواب الفساد الذي يحدث من وراء ذلك فمنعته.
فلما رأت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - تطور الزمن أدى إلى أن المصلحة المتوخاة من خروجهن قد تكون أقل من المضرة التي يؤدي إليها الخروج، ووجدت فساد الزمن أدى إلى أن الخروج يكون أسوأ من عدم الخروج، فمنعت من الخروج، وهو بلا شك مفسدة من وجهة نظر عائشة - رضي الله عنها -، وعدم الخروج يؤدي إلى مصلحة وبالتالي فهي لا ترى بأسا من تغير الأحكام بتغير الأزمان.
ومن الممكن بأن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - ربطت مشروعية هذا الحكم على ما يترتب عليه من المصلحة في خروجهن ودفع المفسدة، فلما رأت أن النساء قد تغيرن في عهدها وأن الفساد(80/320)
الذي يترتب على خروجهن إلى المساجد قد يفوق المصلحة الدينية التي قصدها الشارع في إباحة خروجهن - قالت هذا القول درءا للفساد المترتب على خروجهن، وهذا فهم منها لمقاصد النصوص، وتعليل منها لهذا النص بأن حكم النص معلل بوجود المصلحة في خروجهن، وعدم تعرضهن للفساد (1) .
__________
(1) انظر: الإصابة في الفكر الأصولي لدى فقهاء الصحابة (ص 213 - 214)(80/321)
المبحث الرابع: لبس الحلي للمرأة في الزينة:
المرأة مأمورة أن تظهر أمام زوجها بمظهر حسن يجعله يقصر نظره عليها من أجل ذلك أباح لها الإسلام من الزينة ما لم يبحه للرجل، وحتى إذا كان في تلك المرأة نقص، فإن هذه الزينة تغطي ذلك النقص، ويجعلها كاملة الجمال في نظر زوجها.
ومن أدوات الزينة التي من شأنها أن تضفي جمالا على المرأة، ومنظرا حسنا، هي لبس الحلي على مختلف أشكاله وأنواعه (1) .
وقد اختلف السلف والخلف في ذلك.
ذهبت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - إلى جواز تحلي المرأة بالذهب والفضة وغيرهما من الحلي (2) .
__________
(1) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 672)
(2) أخرجه: البخاري في صحيحه (10/ 330) في اللباس تعليقا، وعبد الرزاق في مصنفه (4/ 83)(80/321)
الأدلة:
1 - قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (1)
وجه الاستدلال:
أن الله سبحانه تعالى أخبر بأن من طبيعة المرأة أن تربى وتنشأ في الزينة، فدل ذلك على الترخيص لها في التحلي بالذهب والفضة وغيرهما من الحلي. قال مجاهد: " رخص للنساء بالذهب والحرير " (2) .
2 - ما أخرجه الترمذي وغيره " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم (3) » .
__________
(1) سورة الزخرف الآية 18
(2) انظر: تفسير القرطبي (6 / 71) ، أحكام القرآن للجصاص (3 387)
(3) أخرجه: الإمام أحمد في مسنده (4 / 392) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (5 151) ، والترمذي في سننه (4 / 217) ، كتاب اللباس، باب ما جاء في الحرير والذهب، رقم الحديث (1720) وقال: حسن صحيح، والنسائي في السنن الكبرى (5 / 437) ، وفي المجتبي (سنن النسائي) (8 / 161) ، وابن ماجه في سننه (2 / 1189) كتاب اللباس، باب لبس الحرير والذهب للنساء، حديث رقم (3595) ، والسنن الكبرى للبيهقي (3 / 275) . قال الشوكاني في نيل الأوطار (2 / 75) : وبين النسائي الاختلاف فيه على يزيد بن حبيب، قال الحافظ: وهو اختلاف لا يغير ونقل عبد الحق عن ابن المديني أنه قال: حديث حسن ورجاله معروفون. وهذه الطرق متعاضدة، بكثرتها ينجبر الضعف الذي لم تخل واحدة منها(80/322)
وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صرح بجواز تحلي النساء بالذهب مطلقا من غير تقيد لنوع أو هيئة أو وزن (1) .
3 - ما روته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: «إن أسامة عثر بعتبة الباب فدمي. قالت: فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يمصه ويقول: لو كان أسامة جارية لحليتها ولكسوتها حتى أنفقها (2) » .
وجه الاستدلال:
عزم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على تحلية أسامة لو كان جارية دليل على جواز التحلي للمرأة (3) .
ووافق أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - في روايتها: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر في رواية، وحذيفة، وابن مسعود - رضي الله عنهم أجمعين - وتبعها مجاهد - رحمه الله - (4) .
__________
(1) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 674)
(2) أخرجه: الإمام أحمد في مسنده (6 / 139) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (6 / 392) ، وابن ماجه في سننه (1 / 635) ، كتاب النكاح، باب الشفاعة في التزويج، حديث رقم (1976) . قال المناوي (5 / 325) : قال الحافظ العراقي بعدما عزاه لأحمد: إسناده صحيح. هكذا جزم
(3) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 674)
(4) انظر: مصنف ابن أبي شيبة (8 / 382) ، ومصنف عبد الرزاق (11/ 69) (6/ 54)(80/323)
ومن الفقهاء الأئمة الأربعة:
أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد - رحمهم الله -.
والراجح، والله أعلم:
هو ما قالت به أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - من جواز تحلي المرأة بالذهب والفضة وغيرهما.
والفكرة الأصولية التي بنت عليها أم المؤمنين - رضي الله عنها - روايتها هذه هي أنه يضيف إلى المرأة الجمال المطلوب أمام الزوج، حتى يغض طرفه عن سواها وهذا ما أجمع عليه المسلمون.
ومن الممكن أن تكون الفكرة الأصولية التي بنت عائشة عليها جواز تحلي المرأة بالذهب والفضة هي أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل يغير تلك الإباحة، ولم يأت دليل من الشرع يقول بالمنع من ذلك، بل وجدت الأدلة التي أجازت ذلك.
ومن الممكن أيضا أن تكون الفكرة الأصولية التي بنت عائشة - رضي الله عنها - عليها جواز تحلي المرأة بالذهب والفضة هو تحقيق المصالح، ودرء المفاسد؛ حيث إن المرأة عندما تتحلى بالذهب والفضة تكون أخذت بزينتها أمام زوجها، فتساعده على غض النظر، فتحقق العفة للمجتمع المسلم، وتدرأ عنه المفاسد.(80/324)
المبحث الخامس: وصل وإزالة شعر المرأة:
من الأشياء التي تزين المرأة - شعرها الذي تتميز به عن الرجل، ولكن هذا الشعر قد يصاب بآفة فيسقط، أو يحتاج إلى زيادة في طوله، أو أن هذا الشعر يكثر في أماكن من جسم المرأة مما يجعله مشوها لمنظرها أمام زوجها، فتحتاج لإزالته، أو التخفيف منه. ولقد اختلف السلف والخلف في ذلك (1) .
أولا: حكم وصل المرأة شعرها:
ذهبت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنهما - إلى أنه يحرم وصل الشعر بشعر مثله، أما وصله بصوف ونحوه فيجوز (2) .
الأدلة:
1 - ما روته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: «إن جارية من الأنصار تزوجت، وإنها مرضت فتمرط شعرها، فأرادوا أن يصلوه، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؟ فلعن الواصلة والمستوصلة (3) » .
__________
(1) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 681)
(2) انظر: عمدة القارى (22 / 64) ، مشكل الآثار للطحاوي (2 / 42)
(3) أخرجه: البخاري في صحيحه (10/ 374) ، كتاب اللباس، باب الوصل في الشعر، حديث رقم (5934) ، ومسلم في صحيحه (ص 1174) ، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة حديث رقم (2123) .(80/325)
وجه الاستدلال:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن من وصل الشعر ولا يلعن إلا على فعل محرم (1) .
2 - ما رواه ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة (2) » .
وجه الاستدلال:
لعن الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الفعل دليل على تحريمه، وأنه من كبائر الذنوب (3) . وقد وافقها رضي الله عنها في هذا الرأي ابن عباس رضي الله عنه (4) ، وتبعها سعيد بن جبير والليث بن سعد - رحمهما الله
__________
(1) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها (ص 681)
(2) أخرجه: البخاري في صحيحه (10 / 374) ، كتاب اللباس، باب الموصولة، حديث رقم (5940) ، ومسلم في صحيحه (ص/ 1157) ، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة.. حديث رقم (2123)
(3) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص 682)
(4) انظر: عمدة القارئ (22 / 64) ، مشكل الآثار للطحاوي (2 / 42)(80/326)
تعالى - (1) ، ومن الفقهاء الحنفية (2) والشافعية (3) ، والحنابلة (4) - رحمهم الله تعالى -
والراجح والله أعلم:
جواز وصل الشعر بالصوف فقط، لا بشعر مثله.
والفكرة الأصولية التي بنت عليها أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - هذه الرواية هي: سد الذرائع الموصلة للتدليس والغش والفساد على الزوج، وهذا محرم، وكذلك فيه استعمال شعر مختلف في نجاسته.
أما وصل الشعر بصوف فهو لا توجد فيه هذه المعاني، فلا يحرم، ولوجود مصلحة من تحسين المرأة أمام زوجها من غير مضرة (5) .
ثانيا: حكم إزالة الشعر:
ذهبت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - إلى أنه يجوز للمرأة أن تزيل ما في جسمها ووجهها من شعر خشن لتتزين لزوجها بذلك (6)
__________
(1) انظر: فتح الباري (10 / 375) في اللباس
(2) انظر: حاشية ابن عابدين (6 / 372)
(3) انظر: شرح صحيح مسلم (14 / 103)
(4) انظر: المغني لابن قدامة (1/ 76)
(5) انظر: انظر: المغني لابن قدامة (1/ 76) ، شرح صحيح مسلم للنووي (14/ 104)
(6) انظر: مصنف عبد الرزاق (3 / 146) ، الإمام أحمد (6 / 146) .(80/327)
الأدلة: دليل من الرأي:
إن المرأة مأمورة بأن تتزين لزوجها حتى تقصر نظره عليها وترك هذا الشعر الخشن في وجهها وجسمها مما يشوه منظرها أمام زوجها، ويصرف نظره ورغبته فيها وهذا ما لا يريده الإسلام، فالمقصود من الزوج هو غض البصر، وحفظ الفرج، قال - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج (1) » .
وقد تبعها - رضي الله عنها - في ذلك من الفقهاء: الحنفية (2) ، والشافعية فيما إذا نبتت لها لحية، أو شوارب، فيجوز لها إزالتهما (3) ، وفي رواية في المذهب الحنبلي (4) .
والراجح والله أعلم:
أنه يجوز إزالة الشعر الخشن الذي ينبت في وجه المرأة أو جسمها فقط. بدليل قول المرأة التي سألت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -:
__________
(1) أخرجه: البخاري في صحيحه (9 / 106) ، كتاب النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من استطاع منكم الباءة.. حديث رقم (5065) ، ومسلم في صحيحه (ص 725) ، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ... حديث رقم (1400)
(2) انظر: حاشية ابن عابدين (6 / 373)
(3) انظر: شرح مسلم للنووي (14 / 106)
(4) ذكره ابن حجر في فتح الباري (10 / 378)(80/328)
" إن في وجهي شعرات أفأنتفهن " وكان الجواب لها: " أميطي عنك الأذى " فدل على أن تلك الشعرات كانت مصدر أذى لها، وكلا الفريقين متفقان على جواز إزالة ما ينبت من شعر يكون به أذى للمرأة.
أما النمص فإنه لا تجوز إزالته، لأن الحديث نص على تحريم ذلك. كما أن الشعر يختلف عن النمص، فالشعر يرى والنمص لا يرى (1) .
والفكرة الأصولية التي بنت عليها أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - هذه الرواية هي الاستحسان المبني على دليل؛ حيث استحسنت عائشة - رضي الله عنها - أنه يجوز للمرأة إزالة الشعر الخشن الذي ينبت في وجه المرأة أو جسمها، لكي تعف زوجها بمنظرها الحسن، ولا تفتح الباب أمام زوجها للنظر إلى الأخريات، أما لو كانت غير متزوجة، فإن هذا الشعر يشوه منظرها ويصرف عنها الأزواج، وهذا مما يرفضه الشارع.
__________
(1) انظر: موسوعة فقه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - (ص/ 687)(80/329)
الخاتمة
بعد هذا العرض الذي تقدم عن منهج عائشة - رضي الله عنها - الأصولي وأثره في بعض الأحكام الشرعية التي تتعلق بالمرأة، نستطيع أن نقرر النتائج التالية:
أولا: أن أصول الفقه كان ملكة عند الصحابة بحكم معايشتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، غاية ما هناك أنه لم تكن أصول الفقه بالمسميات المستحدثة عند أصحاب علم الأصول.
ثانيا: إظهار أن القضايا التي اجتهدت فيها عائشة - رضي الله عنها - كانت على أسس أصولية، وقواعد إجمالية.
ثالثا: كانت عائشة - رضي الله عنها - تسلك في استدلالها بالقرآن الكريم طرقا كثيرة متنوعة، منها الظاهر، والمؤول، والمحكم، والمنطوق، والمفهوم، والنسخ، والعموم، والخصوص، والتعليل.
رابعا: كانت عائشة - رضي الله عنها - تشترط في السنة أن يكون الحديث قد ثبت وروده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يثبت الحديث ترده. وكانت تأخذ بظاهره، وتأويله، وتعليله، ونسخه، وكانت تأخذ بالرأي الذي يوافق الحديث الضعيف.(80/330)
خامسا: كانت عائشة - رضي الله عنها - إذا لم تجد في القرآن الكريم والسنة المطهرة دليلا على ما يستجد من الأمور في الحياة - تأخذ بالقياس.
سادسا: كانت عائشة - رضي الله عنها - ترى وجوب العدول عن القياس الظاهر من النص لأول وهلة إلى حكم آخر لوجه أقوى أثرا، وأكثر تحقيقا لمقصد الشارع من هذا النص، وهو ما يسمى بالاستحسان.
سابعا: كانت عائشة - رضي الله عنها - ترى وجوب العمل بالحكم الأصلي الثابت لشيء حتى يثبت ما يرفع هذا الحكم قطعا، فإن لم يثبت رفعه بقي العمل به استصحابا للحال القديم، أو الحكم القديم.
ثامنا: كانت عائشة - رضي الله عنها - تأخذ بالعرف السائد في مجتمعها، إن لم يكن له حكم ينص عليه بموافقة أو معارضة.
تاسعا: ثبت أثر فكر عائشة - رضي الله عنها - الأصولي في كثير من الأحكام الشرعية التي تتعلق بالمرأة.
عاشرا: انفردت عائشة - رضي الله عنها - باجتهادات وآراء عن باقي الصحابة في أمور تتعلق بالمرأة، وكان ذلك الانفراد هو في مصلحة المرأة على وجه العموم.(80/331)
صفحة فارغة(80/332)
المنة مفهومها والتحذير منها وعلة ذلك
للدكتورة: سارة بنت فراج بن علي العقلاء (1)
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين؛ وبعد.
فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق كما صح عنه الحديث، وكان لحسن الخلق منزلة عظيمة في الدين الإسلامي الذي نهى عن جملة من الأخلاق المذمومة ومنها المنة، والتي لها آثار خطيرة على العمل وعلى العامل، إلى جانب ما تسببه من انكسار لدى الشخص الذي وقع عليه هذا الفعل، لذلك رغبت في بحث هذا الموضوع وجعله بعنوان " المنة مفهومها والتحذير منها وعلة ذلك " وجعلته في مقدمة وتمهيد وستة مباحث وخاتمة.
المقدمة: وفيها سبب اختيار الموضوع والهدف منه والمنهج المتبع فيه.
والتمهيد: منزلة حسن الخلق في الإسلام.
__________
(1) أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة المشارك بكلية التربية للبنات، الأقسام الأدبية بالرياض.(80/333)
والمبحث الأول: مفهوم المنة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: معنى المنة في اللغة.
المطلب الثاني: المعنى المذموم للمنة.
والمبحث الثاني: الآثار في النهي عنها.
والمبحث الثالث: الرياء وعلاقته بالمنة، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: معنى الرياء والنهي عنه.
المطلب الثاني: علاج الرياء.
المطلب الثالث: علاقة الرياء بالمنة.
والمبحث الرابع: محبة الحمد بما لم يفعل وعلاقته بالمنة.
والمبحث الخامس: العلاقة في النهي عن المنة.
والمبحث السادس: اختصاص الله تعالى بالمنة، ثم الخاتمة وفيها أهم نتائج البحث، أما الهدف من البحث فهو: بيان معنى المنة، والتحذير منها وذلك بذكر النصوص الواردة في التنفير منها، وبيان وجه تشبيه المان بالمرائي، وبيان علة النهي عنها واختصاص الله تعالى وحده بالمنة.
منهج البحث: سيكون المنهج المتبع في هذا البحث هو المنهج التحليلي.
هذا وأسأل الله التوفيق في القول والعمل، وأن يجنبني الزلل، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(80/334)
التمهيد: منزلة حسن الخلق في الإسلام
الأخلاق جمع خلق، وهو الصورة الباطنة في الإنسان: يعني السجايا والطبائع، وهي أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، أو هي ما صار عادة للنفس وسجية لها على سبيل الرسوخ ويستحق الموجود بها المدح أو الذم، وهي تنقسم إلى قسمين: محمودة ومذمومة، فالمحمودة هي الحسنة، وللخلق الحسن منزلة عظيمة في الإسلام، وتعددت الأحاديث الدالة على ذلك وتنوعت؛ ففي حين يجعل حسن الخلق من الإيمان، بل ويجعله أكمل خصال الإيمان فيقول صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا (1) » فإيمان الذين أحسنوا الخلق زائد على من دونهم في حسن الخلق.
__________
(1) رواه أحمد، 2 / 250، والترمذي 261، وأبو داود 4682(80/335)
وفي حين آخر يصرح بأن حسن الخلق من أفضل ما أعطي الإنسان، «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ما أفضل ما أعطي المرء المسلم؟ قال: الخلق الحسن (1) » .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن صاحب الخلق الحسن يبلغ بخلقه درجة الصائم القائم، فقال: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجات الصائم القائم (2) » .
كذلك أخبر أن حسن الخلق أثقل ما يوضع في الميزان، فقال: «ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة الصوم والصلاة (3) » .
وبين صلى الله عليه وسلم أن صاحب الخلق الحسن أحب الناس إلى الله وأقربهم منه من النبي صلى الله عليه وسلم مجلسا؛ فقال: «ألا أخبركم بأحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة؟ قالوا: بلى، قال: أحسنكم خلقا (4) » .
كذلك ذكر أن أكثر ما يدخل الناس الجنة: حسن الخلق؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن الخلق (5) » .
__________
(1) رواه أحمد 4 / 278. ابن ماجه 3436
(2) رواه أحمد 6 / 94، أبو داود 4798
(3) رواه أحمد 6 / 442، 446 و 448. وأبو داود 4799. والترمذي 2002، 2003 وقال: حديث حسن صحيح.
(4) صحيح ابن حبان 485
(5) رواه أحمد 2 / 292، 442 ابن ماجه 29، الترمذي 62. صحيح ابن حبان 476.(80/336)
وقال صلى الله عليه وسلم في بيان منزلة صاحب الخلق الحسن ودرجته في الآخرة وأنها أشرف المنازل «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه (1) » .
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بمكارم الأخلاق (2) ، وكان هو ذاته مثلا أعلى للخلق الحسن حتى قال عنه ربه سبحانه وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (3) .
وأوصى من كان من خواص أصحابه معاذ بن جبل بحسن الخلق فقال له: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن (4) » .
وفي المقابل ذكر أن سوء الخلق ينقص من الإيمان؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «وإن المرء ليكون مؤمنا وإن في خلقه شيئا فينقص ذلك من إيمانه (5) » .
__________
(1) رواه أبو داود 4800
(2) البخاري 3861
(3) سورة القلم الآية 4
(4) رواه أحمد 5/ 153، 158، 177 – 236. الترمذي 1987
(5) تعظيم قدر الصلاة، محمد بن نصر المروزي. تحقيق: د. عبد الرحمن الفريوائي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، الطبعة الأولى - 1406 هـ، ص 454(80/337)
وجاء في الحديث: «سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل (1) » .
وفسر صلى الله عليه وسلم البر بقوله «البر حسن الخلق (2) » . يعني أن حسن الخلق أعظم خصال البر كما قال صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة (3) » .
أو أن البر يكون بمعنى الصلة، وبمعنى اللطف والمبرة وحسن الصحبة والعشرة، وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامع حسن الخلق.
وقد تنوعت عبارات السلف في تفسير حسن الخلق، وإن كانت كلها تدور حول خصال هي: العطاء، والاحتمال، والعفو، وكظم الغيظ، وبسط الوجه.
فعن الحسن قال: " حسن الخلق: الكرم والبذلة والاحتمال ".
__________
(1) المستدرك، الحاكم
(2) رواه مسلم 2553، وأحمد 4 / 182، والترمذي 2389
(3) رواه أحمد 4/ 309، وأبو داود 1949، والترمذي 889، والنسائي 5 / 264، وابن ماجه 3015(80/338)
وعن ابن المبارك قال: " هو بسط الوجه وبذل المعروف وكف الأذى ".
وعن الإمام أحمد أنه قال: " حسن الخلق أن تحتمل ما يكون من الناس ".
وقال ابن تيمية: " وجماع الخلق الحسن مع الناس: أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام والدعاء له والاستغفار والثناء عليه والزيارة(80/339)
له. وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال، وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض ".
وقال القرطبي (1) : " فالمحمودة على الإجمال: أن تكون مع غيرك على نفسك فتنتصف منها ولا تنتصف لها ".
وقد اختلف في حسن الخلق هل هو غريزة أو مكتسب؟
ورجح ابن حجر - رحمه الله - أن منه ما هو جبلي ومنه ما هو مكتسب (2) .
__________
(1) المفهم للقرطبي
(2) فتح الباري، 10/ 459.(80/340)
وعلى هذا فالإنسان مأمور بالمجاهدة في خلقه حتى يصير محمودا حسنا بأن يحمل نفسه على كل عمل يوجب حسن خلقها (1) .
وما ذكر من الآثار الدالة على فضل حسن الخلق دليل على أنها مكتسبة مقدور عليها؛ ذلك أن الله تعالى لم يكلف العباد إلا ما يطيقون، كما قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) .
وقال: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3) .
__________
(1) ينظر المفهم، فتح الباري ابن حجر: 10/ 459 - الزواجر 1/ 86
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) سورة الأنعام الآية 152(80/341)
المبحث الأول: مفهوم المنة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: معنى المنة في اللغة:
للمنة في اللغة أصلان كما يقول ابن فارس:
" أحدهما يدل على قطع وانقطاع، والآخر على اصطناع خير ".
فالأول: المن: القطع، فيقال: منه يمنه منا: قطعه (1) .
__________
(1) لسان العرب، ابن منظور، دار المعارف، 6/ 4277، مادة منن(80/341)
ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} (1) .
قال ابن كثير: ومعنى غير ممنون: أي غير مقطوع.
وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (2) .
وقال ابن عباس: غير منقوص، وقال مجاهد
__________
(1) سورة القلم الآية 3
(2) سورة الانشقاق الآية 25(80/342)
والضحاك: غير محسوب.
قال ابن كثير: وحاصل قولهما: أنه غير مقطوع (1) .
وكذلك قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (2) . أي غير مقطوع. بل هو أجر دائم في أبد لا يزول ونعيم لا يحول.
ومن هذا الباب: المنون: الموت وهى جمع منية، سميت بذلك لأنها تنقص العدد وتقطع المدد (3) .
وأما الأصل الثاني: من عليه يمن منا: أحسن وأنعم وصنع جميلا، والاسم المنة.
ومن هذا الباب المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل في التيه.
قال تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} (4) .
__________
(1) تفسير ابن كثير 4 / 524
(2) سورة الانشقاق الآية 25
(3) معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، 5/ 267. مادة: من، لسان العرب، ابن منظور، 6 / 4279، مادة: منن
(4) سورة البقرة الآية 57(80/343)
وهذا المن اختلفت عبارات المفسرين فيه فمنهم من جعله طعاما، ومنهم من جعله شرابا. قال ابن عباس: " كان المن ينزل عليهم من الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا ".
وقال الربيع بن أنس "المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه ".
وجمع ابن كثير - رحمه الله - بين هذه الأقوال بقوله: " والظاهر والله أعلم أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد " (1) .
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين (2) » .
والكمأة نبات لا أوراق لها ولا ساق، توجد في الأرض من غير أن تزرع، ووصفت بأنها من المن؛ لأن الله امتن بها على عباده عفوا بغير علاج إذ إنها تنبت من غير تكلف ببذر ولا سقي، فهي من قبيل المن الذي امتن الله به على بني إسرائيل، والمن في الحديث: مصدر بمعنى المفعول أي ممنون به، لأنه لم يكن للعبد فيه شائبة كسب فهو من
__________
(1) تفسير ابن كثير 1 / 98
(2) رواه البخاري 5708، مسلم 5310، الترمذي 2067، ابن ماجه 343(80/344)
محض، وإن كانت جميع نعم الله على عبيده منا منه عليهم، لكن خص هذا باسم المن لكونه لا صنع فيه لأحد.
ومن هذا الباب أي العطاء والإحسان، قوله تعالى {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1) جاء في تفسيرها، أي: هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا، فأعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك (2) .
وكذلك قوله تعالى {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} (3) .
قال ابن عباس: " لا تعط العطية تلتمس أكثر منها " (4) . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة (5) » أي هو أكثرهم جودا لنا بنفسه وماله، وليس هو من المن الذي هو الاعتداد بالصنيعة (6) . فهذان المعنيان اللذان ذكرهما ابن فارس
__________
(1) سورة ص الآية 39
(2) تفسير ابن كثير 4 / 42
(3) سورة المدثر الآية 6
(4) تفسير ابن كثير 4 / 470
(5) البخاري 467
(6) فتح الباري، ابن حجر، 1 / 558(80/345)
للمن، وإن كان هناك معان أخرى ذكرها أيضا منها: القوة التي بها قوام الإنسان. ومنها ما جاء في الحديث «أبصر النبي صلى الله عليه وسلم نساء، وصبيانا مقبلين من عرس، فقام ممتنا. فقال: اللهم أنتم من أحب الناس إلي (1) » .
فقوله "فقام ممتنا" أي قام قياما قويا، مأخوذ من المنة، بضم الميم، كما قال ابن حجر: وهي القوة: أي قام إليهم مسرعا مشتدا في ذلك فرحا بهم (2) .
__________
(1) رواه البخاري 5180
(2) فتح الباري - ابن حجر 9 / 248(80/346)
المطلب الثاني: المعنى المذموم للمنة:
أما المعنى المذموم للمنة، والذي جاء النهي عنه في النصوص - ستأتي - فهو: ذكر الإحسان وتعداده والفخر به. وفي هذا قطع للإحسان الذي عمله المرء، فتكون بهذا المعنى داخلة في المعنى اللغوي الأول من معاني المنة الذي هو القطع. وهي كبيرة من الكبائر (1) .
وكما تكون المنة باللسان، فإنها قد تكون بالقلب. كما قال ابن
__________
(1) الكبائر، شمس الدين الذهبي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 17 / 1(80/346)
القيم: المن نوعان: أحدهما: من بقلبه من غير أن يصرح به بلسانه، ثم أوضح أن هذا لا يبطل ثواب الصدقة، وإن كان من نقصان شهود منة الله تعالى على العبد في إعطائه المال (1) .
فهذا هو المحذور القلبي الأول للمنة، وأما الثاني فإن المان في حقيقة نفسه وداخل ذاته يرى نفسه خيرا من الذي قبل منه إحسانه.
فقال الهيتمي في هذا المعنى: هو أن يرى لنفسه مزية على المتصدق عليه بإحسانه إليه، ولذلك لا ينبغي أن يطلب منه دعاء، ولا يطمع فيه؛ لأنه ربما كان في مقابلة إحسانه فيسقط أجره.
وأما المن باللسان فيكون بأن يعدد نعمته على الآخذ. فيعتدي على من أحسن إليه بإحسانه، ويريه أنه اصطنعه، وأنه أوجب عليه
__________
(1) طريق الهجرتين، ابن القيم 365(80/347)
حقا أو طوقه في عنقه، فيقول: أما أعطيتك كذا وكذا ويعدد أياديه عنده، أو يذكرها لمن لا يحب الآخذ إطلاعه عليها (1) .
قال ابن الأثير: المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه، واعتد به على من أعطاه (2) .
ولما سمع ابن سيرين رجلا يقول للآخر: " أحسنت إليك، وفعلت وفعلت، فقال له ابن سيرين: اسكت فلا خير في معروف إذا أحصي " (3) .
وبالغ السلف في النهي عنها حتى قال ابن زيد: " كان أبي يقول إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه، أي لكونه
__________
(1) ينظر: طريق الهجرتين، ابن القيم 3650. الزواجر، الهيتمي 1 / 188
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، 4 / 366
(3) الزواجر، الهيتمي 1 / 189(80/348)
يتكلف لك قياما ونحوه، لأجل إحسانك عليه، فكف سلامك عنه. قال ابن زيد: فشيء خير من السلام " (1) .
وتحصل المنة في كل ما أنفق من وجوه القربات، فلا تقتصر على الصدقات بل تكون في الإنفاق على النفس. والأهل والولد والأقربين، فليست خاصة بالصدقة، بل في جميع النفقات الواجبة والمستحبة (2) .
__________
(1) تفسير الطبري، 4 / 656، الزواجر للهيتمي 1 / 189
(2) الزواجر للهيتمي 1 / 188(80/349)
المبحث الثاني: الآثار في النهى عنها:
1 - جاء النهي عن المنة في نصوص كثيرة منها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (1) .
فنهى الله تعالى عن إبطال أجور الصدقات بالمن والأذى، وشبهه بإبطال كفر الذي ينفق ماله رئاء الناس أجر نفقته، ونهى عباده أن يكونوا كالمنافقين الذين هذا المثل صفة أعمالهم (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 264
(2) تفسير الطبري، 4 / 659، 663(80/349)
فالصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى، فما بقي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى، فلا بد من انتفاء كل منهما، أي المن والأذى، وإن كان بعضهم يرى أنهما ملازمان وذلك مثل أن يقول: قد أعطيتك فما شكرت، ففيها منة وأذى (1) .
وكان سبحانه قبل هذه الآية مدح الذين ينفقون في سبيله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات منا على من أعطوه، فلا يمنون على أحد، ولا يمنون به لا بقول ولا بفعل (2) ، فقال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) . ونبه بقوله " ثم " على أن المن والأذى ولو تراخى عن الصدقة وطال زمنه ضر بصاحبه ولم يحصل له مقصود الإنفاق (4) .
وإذا كانت المنة في النفقة في سبيل الله مذمومة، فمن باب أولى ذمها وذم صاحبها في غيرها من النفقات (5) .
وقال الضحاك: ألا ينفق الرجل ماله خير من أن ينفقه ثم يتبعه منا وأذى، فضرب الله مثله كمثل كافر أنفق ماله، لا يؤمن بالله ولا باليوم
__________
(1) تفسير ابن كثير 1 / 325، وينظر الزواجر للهيتمي 1 / 189
(2) تفسير ابن كثير 1 / 325،
(3) سورة البقرة الآية 262
(4) طريق الهجرتين، ابن القيم 366
(5) ينظر: فتح الباري، ابن حجر 3 / 298(80/350)
الآخر، فضرب الله مثلهما جميعا {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} (1) فكذلك من أنفق ماله ثم أتبعه منا وأذى (2) .
على أن غيره من المفسرين يرى أن مثل الصفوان خاص بالمرائي، وأما المان فمثله كمثل الجنة التي أصابها إعصار فيه نار فاحترقت - كما سيأتي في المبحث القادم. .
2 - عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره (3) » .
وفي رواية «ثلاث لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله! قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (4) » .
والمراد بنفي تكليمهم أي لا يكلمهم كلاما ينفعهم ويسرهم (5) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 264
(2) تفسير الطبري، 4 / 664
(3) رواه مسلم 106
(4) رواه مسلم 105
(5) ينظر: شرح النووي 2 / 114(80/351)
وقد فسر المنان بالحديث بأنه الذي لا يعطي شيئا إلا منه، أي امتن به على المعطى له، فإن الامتنان بالعطاء مبطل لأجره (1) .
3 - عن أبي بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة خب ولا بخيل ولا منان (2) » .
فنفى دخول الجنة – دخولا أوليا - عن المنان الذي يمن على الفقراء بعد العطاء.
4 - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه والمرأة المترجلة والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنان بما أعطى (3) » .
__________
(1) بذل المجهود السهار نفوري 16 / 413
(2) الترمذي، 1963
(3) النسائي 5 / 80، أحمد 2 / 134، 69، 128(80/352)
المبحث الثالث: الرياء وعلاقته بالمنة
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: معنى الرياء والنهي عنه:
ضرب الله تعالى مثلا للذي يتبع صدقته بالمن والأذى بالمرائي فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1) .
وذلك لأن الرياء مثل المنة مبطل لأجر الصدقة كما سبق.
والرياء مأخوذ من الرؤية، هو أن يعمل العبادة ويقصد بها رؤية الخلق وملاحظتهم له، فلا يريد بعبادته وجه الله بل يقصد إطلاع الناس على عبادته حتى يحصل له منهم مال أو جاه أو ثناء، وهو من الكبائر لما سيأتي من النصوص، والمرائي حين يقصد غير الله ينبئ عن اعتقاده أنه أقدر على تحصيل مراده من الله فيرفع العبد الضعيف العاجز على الله المولى القادر، كذلك هو يلبس على الخلق بإيهامه لهم أنه مخلص مطيع لله وهو بخلاف ذلك (2) .
وقد شهد بتحريمه الكتاب والسنة، أما الكتاب فمنه قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (3) وقال تعالى: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (4)
__________
(1) سورة البقرة الآية 264
(2) ينظر: الزواجر، للهيتمي، 1 / 43
(3) سورة الماعون الآية 6
(4) سورة الكهف الآية 110(80/352)
أي لا يرائي بعمله.
وأما السنة فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله! قال: الرياء، يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء (1) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك (2) » .
وذكر صلى الله عليه وسلم أن المرائي بأعماله الصالحة سواء أكانت جهادا في سبيل الله، أو تعليم القرآن والعلم وتعلمه، أو الإنفاق في سبيل الله، ذكر أنه أول من تسعر بهم النار، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت
__________
(1) رواه أحمد؛ 5 / 428، 429
(2) رواه أحمد؛ 5 / 215، 3154، والترمذي 3154، وابن ماجه 4203(80/354)
القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار (1) » .
وهذا دليل على تغليظ تحريم الرياء وشدة عقوبته وعلى الحث على وجوب الإخلاص في الأعمال (2) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (3) » .
قال النووي: ومعناه أنا غني من المشاركة وغيرها فمن عمل
__________
(1) رواه مسلم، 1905
(2) شرح النووي 13 / 50
(3) رواه مسلم 2985(80/355)
شيئا لي ولغيري لم أقبله، بل أتركه لذلك الغير، والمراد أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه، ويأثم به (1) .
فالشيء إذا انقسم ووقعت فيه الشركة نقص ما يحصل لكل واحد، فمن كان متبعا للشريعة في الظاهر وكان قصده الرياء والسمعة وتعظيم الناس له، كان عمله باطلا لا يقبله الله (2) .
ومن رأى بعمله، وسمعه الناس ليكرموه ويعظموه ويعتقدوا فيه خيرا سمع الله به يوم القيامة الناس وفضحه، وكان حظه من عمله ما حصل له في الحياة الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: «من سمع سمع الله به، ومن رآى رآى الله به (3) » ، (4) .
والآثار في النهي عن الرياء وبيان خطورته وعقوبة صاحبه كثيرة يطول المقام لو أريد استقصاؤها فيكتفى بما ذكر.
هذا، وقد تكلم العلماء في درجات الرياء، وأنها متفاوتة في القبح، فأقبحها الرياء المحض وهو الرياء في أصل الإيمان، كحال المنافقين الذين أكثر الله من ذمهم، ويليهم المراءون بأصول العبادات الواجبة
__________
(1) رواه مسلم 2289
(2) ينظر: مجموع الفتاوى – ابن تيمية، 11 / 613، 17 / 146
(3) رواه مسلم 2290
(4) ينظر: شرح النووي 18 / 117(80/356)
كأن يعتاد تركها في الخلوة ويفعلها في الملأ خوف المذمة، ويليهم المراءون بالنوافل، ثم المراءون بأوصاف العبادات كتحسينها وإطالة أركانها (1) .
وذكروا أن مجرد السرور باطلاع الناس على العمل إذا لم يبلغ أثره بحيث يؤثر في العمل. بل بقي العمل صادرا عن نية خالصة، فلا يفسد العمل لبقاء أصل النية الباعثة عليه والحاملة على إتمامه (2) .
فإذا فرح المؤمن بالثناء الحسن واستبشر بذلك لم يضره ذلك، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يعمل العمل لله من الخير ويحمده الناس عليه؟ فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن (3) » .
قال ابن كثير: إن من عمل عملا لله فاطلع عليه الناس فأعجبه ذلك، أن هذا لا يعد رياء (4) .
وإظهار العبادة قد يكون في حق بعض الناس أفضل، وذلك إذا خلصت نياتهم من شائبة الرياء، وكان في إظهار العمل حمل للناس على الاقتداء بهم، والتأسي في فعل ذلك الخير، والمبادرة إليه، لكونه
__________
(1) ينظر: الزواجر - الهيتمي 1 / 46 جامع العلوم والحكم لابن رجب 1 / 79
(2) ينظر: الزواجر 1 / 45 جامع العلوم والحكم لابن رجب 1 / 79
(3) رواه مسلم 2642
(4) تفسير ابن كثير، 4 / 983(80/357)
من العلماء أو الصلحاء الذين تبادر العامة إلى الاقتداء بهم (1) .
وأما مسألة ترك الطاعات خوف الرياء فهذا ليس بمحمود مطلقا.
فمن كان له ورد مشروع فإنه يفعله حيث كان، ولا ينبغي له أن يدعه لأجل كونه بين الناس، فإذا علم الله من قلبه أنه يفعله سرا لله مع اجتهاده في سلامته من الرياء ومفسدات الإخلاص، فإنه يثيبه عليه، قال الفضيل بن عياض: " ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك " (2) .
__________
(1) ينظر: الزواجر: الهيتمي 1 / 48
(2) ينظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية 23 / 174 الزواجر، الهيتمي 1 / 48(80/358)
المطلب الثاني: علاج الرياء:
وعلاج الرياء يتلخص في النظر إلى حكمه: وأنه محبط للعمل، وسبب للمقت، وأنه من كبائر الذنوب، وسبب للعقاب الأليم، ولو لم يكن في الرياء إلا إحباط عبادة واحدة لكفى في شؤمه وضرره.
كذلك يتأمل من ابتلي به بالخلق وأي غرض له في مدحهم(80/358)
وإيثاره على ذم الله وغضبه، وكيف يطلب رضا الخلق في سخط الله تعالى عليه، مع أن مدحهم لا يفيد، ولا يدفع عنه ضرا وإنما ذلك لله وحده، فلا رازق ولا معطي ولا ضار ولا نافع إلا الله سبحانه وتعالى، على أن الخلق لو اطلعوا على ما في قلبه من الرياء لطردوه ومقتوه وذموه وحرموه، ويردد النظر بعين البصيرة إلى هذه الأمور.
ثم هناك دواء عملي وهو أن يتعود إخفاء العبادات حتى يقنع قلبه بعلم الله تعالى، واطلاعه عليه ولا تنازعه نفسه إلى طلب علم غير الله تعالى به، وقد يشق عليه هذا ابتداء لكن مع الصبر يعينه الله فيجاهد نفسه حتى يشفى من هذا (1) .
كذلك يلجأ إلى الله تعالى ضارعا ويدعوه مضطرا أن يشفيه من هذا المرض؛ قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (2) .
__________
(1) ينظر: الزواجر، الهيتمي 1 / 49
(2) سورة النمل الآية 62(80/359)
المطلب الثالث: علاقة الرياء بالمنة:
نهى الله تعالى في كتابه عن إبطال الصدقة بالمن، وشبه فاعل ذلك بالمرائي، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 264(80/359)
فشبه الله تعالى مقارنة المن والأذى للصدقة أو إتباعها بذلك بإنفاق الكافر المرائي، الذي لا يجد بين يديه شيئا منه، مع أن مقارنة الرياء للصدقة أقبح من مقارنة الإيذاء ذلك أن المشبه بالشيء يكون أخفى من المشبه به، ولما كان الإنفاق رياء من غير المؤمن ظاهر في إبطال الصدقة، شبه به الإبطال بالمن والأذى، ثم إن حال المان شبيه بحال المرائي، لأنه لما من، ظهر أنه لم يقصد وجه الله، مع أن حال المرائي أشد من حال المان، فأمر الرياء أشد (1) .
ومما يوضح هذه المسألة ما ذكره المفسرون في تفسير الآيات من سورة البقرة وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (2) .
قالوا: ضرب الله تعالى في هذه الآيات ثلاثة أمثله: للمرائي، وللمنفق ابتغاء وجه الله ولم يتبع نفقته منا ولا أذى، ولمن أتبعها منا وأذى.
فأما الآية الأولى فمثل فيها عمل المرائي بالصخر الأملس الذي
__________
(1) ينظر: فتح الباري، ابن حجر 3 / 277
(2) سورة البقرة الآية 264(80/360)
عليه تراب، ثم أصابه مطر شديد فغسله وتركه أملس يابسا وقد ذهب عنه ذلك التراب، وكان يظن الرائي لهذا الصخر أنه إذا أصابه مطر أنبت، ولكنه كالحجر، وهكذا أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله، وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس، فكما أن قلب المرائي ليس فيه إيمان بل قاس لا يلين ولا يخشع، فهكذا أعماله ونفقاته لا أصل لها تؤسس عليه بل هي باطلة.
وفي الآية الثانية ضرب مثلا للمؤمنين المنفقين أموالهم في سبيل الله فإنه لما كانت نفقتهم مقبولة مضاعفة عند الله لصدورها عن الإيمان والإخلاص فهم مثل الجنة المرتفعة، وهذا الوصف أعلى ما يطلبه الناس لأنها معرضة للرياح والشمس، والماء فيها غزير، ولهذا تؤتي أكلها متضاعفا حتى وإن أصابها طل فإنها لا تمحل أبدا، وأياما كان فهو كفايتها، وهكذا عمل المؤمن لا يبور أبدا، بل يقبله الله ويكثره وينميه، وهو بأعلى المنازل.
وأما الآية الثالثة ففيها مثل من أنفق لله، ثم أتبع نفقته منا وأذى، أو عمل عملا صالحا أتى بمبطل لهذا العمل، فمثله مثل صاحب جنة فيها نخيل وأعناب وأنهار، لكن سلط الله عليها ريحا شديدة فأحرقتها، وذلك في حال ضعفه قد أصابه الكبر وله ذرية ضعفاء، فتلفت الجنة دفعة واحدة وجرى عليها ما جرى حين اشتدت ضرورته إليها (1) .
__________
(1) ينظر: تفسير ابن كثير 1 / 326، 327 تفسير السعدي 1 / 327(80/361)
وقد سأل عمر رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} (1) قالوا: الله أعلم، فغضب عمر فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين! قال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل، قال عمر: أي عمل، قال ابن عباس: لعمل، فقال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث الله الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله (2) .
قال ابن القيم: " فلو فكر العاقل في هذا المثل، وجعله قبلة قلبه لكفاه، وشفاه، فهكذا العبد إذا عمل بطاعة الله، ثم أتبعها بما يبطلها ويفرقها من معاصي الله كانت كالإعصار ذي النار المحرقة للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح، فالمرائي ضرب الله سبحانه مثله بالصفوان الذي عليه التراب، فإنه لم ينبت شيئا أصلا، بل ذهب بذره ضائعا لعدم إيمانه وإخلاصه، وأما مثل المان: بالجنة التي هي من أحسن الجنان ثم سلط عليها الإعصار الناري فأحرقها، فهذا نبت له شيء وأثمر له عمله، ثم احترق، والأول لم يحصل له شيء يدركه الحريق (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 266
(2) البخاري 4538
(3) طريق الهجرتين، ابن القيم 2373(80/362)
المبحث الرابع: محبة الحمد بما لم يفعل وعلاقته بالمنة:
نهى الله سبحانه في كتابه عن حب الحمد بما لم يفعل الإنسان فقال: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) .
وقد جاء في تفسيرها أن مروان بن الحكم قال لبوابه: اذهب إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي، وأحب أن يحمد بما لم يعمل معذبا لنعذبن أجمعين. فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه. إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم. ثم قرأ ابن عباس {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (2) .
كذلك حتى قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} (3) (4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 188
(2) سورة آل عمران الآية 187
(3) سورة آل عمران الآية 188
(4) البخاري 4568(80/363)
وأما أبو سعيد الخدري فقد جعل المراد هنا المنافقين فقال: " إن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} (1) " (2) .
قال ابن كثير: " ولا منافاة بين ما قاله ابن عباس وما قاله أبو سعد لأن الآية عامة في جميع ما ذكر (3) .
فالآية عامة ويدخل فيها كل من فرح بما أتي من القبائح والباطل القولي والفعلي، وأحب أن يحمد بالخير الذي لم يفعله، والحق الذي لم يقله، فجميع بين فعل الشر وقوله، والفرح بذلك، ومحبة أن يحمد على الخير الذي لم يفعله، وعمومها يتناول كل من أتى بحسنة ففرح بها فرح إعجاب، وأحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بما ليس فيه (4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 188
(2) البخاري 4567
(3) تفسير ابن كثير 1 / 446. وينظر: فتح الباري، ابن حجر 8 / 233
(4) ينظر فتح الباري، ابن حجر 8 / 233. تفسير السعدي 1 / 471(80/364)
وأما من أحب أن يحمد بما فعل من الخير فلا يدخل في العذاب لأنه قد جاء في الحديث «أن ثابت بن قيس (2) » .
فعلى هذا وعلى مفهوم الآية فإن من أحب أن يحمد ويثنى عليه بما فعله من الخير واتباع الحق إذا لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة أنه غير مذموم، بل هذا من الأمور المطلوبة التي أخبر الله تعالى أنه يجزي بها المحسنين في الأعمال والأقوال، وأنه تعالى جازى بها صفوة خلقه من الأنبياء بل وسألوها منه، كما قال إبراهيم عليه السلام:
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 3 234، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في الفتح: إسناده قوي لكنه مرسل كما قال الحافظ في الفتح 6 / 621، وعزاه ابن كثير في تفسيره 1 / 446 إلى ابن مرد ويه
(2) (1) قال: " يا رسول الله! والله لقد خشيت أن أكون هلكت، قال: لم؟ قال: نهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل وأجدني أحب الحمد، ونهى الله عن الخيلاء، وأجدني أحب الجمال، ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك، وأنا امرؤ جهير الصوت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة، فقال: بلى يا رسول الله، فعاش حميدا وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب(80/365)
{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (1) وقال: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} (2) {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (3) .
وكذلك قال عباد الرحمن: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (4) .
وهذه من نعم الباري ومننه التي تحتاج إلى الشكر (5) .
فلا يعد هذا من المنة المذمومة في الشرع، ومن حكمة الشارع أن دعا إلى شكر من أسدى المعروف، ودعا إلى مكافأته لئلا يقع في قلبه ما يكدر معروفه من من أو أذى، كما قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (6) وقال صلى الله عليه وسلم: «من أتى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه (7) » .
__________
(1) سورة الشعراء الآية 84
(2) سورة الصافات الآية 79
(3) سورة الصافات الآية 80
(4) سورة الفرقان الآية 74
(5) تفسير السعدي 1 / 471
(6) سورة الرحمن الآية 60
(7) رواه أبو داود (1672، 5109) ، والنسائي (2566) ، وأحمد 2 / 68(80/366)
المبحث الخامس: العلة في النهي عن المنة:
إضافة إلى ما سبق من النصوص التي تنهى عن المنة، وتبين بطلان أجر صاحبها مع ما له من الوعيد الشديد، تكمن العلة في النهى عنها لاشتمالها على أمور منهي عنها، منها:(80/366)
1 - أن المنفق ماله في سبيل الله، إنما يبتغي وجه الله، وطلب ما عنده، " فلا وجه لمن المنفق على من أنفق عليه ولا إيذائه بسبب إنفاقه، لأنه لا يدله قبله، ولا صنيعة يستحق بها إن لم يكافئه عليها المن والأذى. إذ كانت نفقته ما أنفق عليه احتسابا، وابتغاء ثواب الله، وطلب مرضاته، وعلى الله مثوبته دون من أنفق ذلك عليه " (1) فإذا كان الله تعالى قد تولى ثوابه، ورد عليه أضعاف ما أعطى فأي حق بقي للمان عند الآخذ (2) .
2 - أن في المنة إيذاء للمسلم وإدخال الحزن إلى قلبه، وهذا مما نهى الله عنه، وكان من أعظم الصدقة إدخال السرور على قلب المسلم، (ففي المنة تعيير وتكدير، إذ آخذ الصدقة منكسر القلب لأجل حاجته إلى غيره، معترف له باليد العليا، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك إظهار إنعامه تعديدا عليه، أو ترفعا، أو طلبا لمقابلته عليه بخدمة أو شكره زاد ذلك في مضرة الآخذ وانكسار قلبه، وإلحاق العار والنقص به، وهذه قبائح عظيمة) (3) .
3 – أن المنة في الغالب تقع ممن به شعور بالنقص كالبخيل
__________
(1) تفسير الطبري 4 / 655
(2) طريق الهجرتين، ابن القيم 366
(3) الزواجر، الهيتمي 1 / 188(80/367)
والمعجب (فالبخيل تعظم في نفسه العطية وإن كانت صغيرة في نفسها، والمعجب يحمله العجب على النظر لنفسه بعين العظمة، وأنه منعم بما له على المعطى، وإن كان أفضل منه في نفس الأمر) (1) .
4 - أن المنة تتضمن أو يوجبها (الجهل ونسيان نعمة الله فيما أنعم به) (2) ، على المعطي، فالمعطي أنفق من المال الذي رزقه الله إياه، والله هو الذي فضله وجعله صاحب اليد العليا، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (3) .
" فالله هو المالك الحقيقي وهو الذي يسر الإعطاء وأقدر عليه، فوجب النظر إلى جناب الحق والقيام بشكره على ذلك، والإعراض عما يؤدي إلى منازعة الحق في فضل وجوده؛ إذ لا يمن إلا من غفل أن الله تعالى هو المعطي والمتفضل " (4) .
فكيف يشهد قلب المان منة لغير الله الذي أعطاه المال، وحرم غيره منه، ووفقه للبذل ومنع غيره منه، ومن فعل هذا فهو من نقصان شهود منة الله عليه في إعطائه المال وحرمان غيره (5) .
__________
(1) فتح الباري، ابن حجر 3 / 298
(2) نفس المصدر والصفحة
(3) سورة النحل الآية 53
(4) الزواجر، الهيتمي 1 / 189
(5) طريق الهجرتين، ابن القيم 365(80/368)
5 - كذلك المان بعطائه يشهد نفسه مترفعا على الآخر مستعليا عليه غنيا عنه عزيزا، ويشهد ذل الآخذ وحاجته إليه وفاقته ولا ينبغي ذلك للعبد (1) .
6 - أن نفع الصدقة والنفقة عائد على المنفق، والله هو الغني لا يناله شيء من الصدقة، والحظ الأوفر فيها عائد على المتصدق (2) .
__________
(1) نفس المصدر والصفحة
(2) ينظر: طريق الهجرتين، ابن القيم 367(80/369)
المبحث السادس: اختصاص الله تعالى بالمنة
المنان: اسم من أسماء الله الحسنى التي ثبتت في السنة، فقد جاء في السنن «عن أنس بن مالك (2) » .
فالله عز وجل منان على عباده بإحسانه وإنعامه عليهم بشتى
__________
(1) رواه أبو داود (1495) ، النسائي 3 / 52، ابن ماجه 3858
(2) (1) قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى(80/369)
النعم التي لا تحصى، قال الحليمي: " وهو العظيم المواهب، فإنه أعطى الحياة والعقل والمنطق، وصور فأحسن الصور، وأنعم فأجزل وأسنى النعم، وأكثر العطايا والمنح ".
وقال الخطابي: " وأما المنان فهو كثير العطاء ".
وقال الأنباري في شرح اسم المنان: " معناه المعطي ابتداء، ولله المنة على عباده، ولا منة لأحد منهم عليه، تعالى الله علوا كبيرا " (1) .
__________
(1) لسان العرب، ابن منظور 6 / 4279(80/370)
وقال الزجاجي: المنان فعال من قولك: مننت على فلان إذا اصطنعت عنده صنيعة، وأحسنت إليه، فالله عز وجل منان على عباده بإحسانه وإنعامه ورزقه إياهم.
وقال ابن الأثير: في أسماء الله تعالى المنان هو المنعم المعطي من المن: العطاء، لا من المنة، وكثيرا ما يرد المن في كلامهم بمعنى الإحسان إلى من لا يستثيبه، ولا يطلب الجزاء عليه. فالمنان من أبنية المبالغة كالسفاك والوهاب (1) .
وقول ابن الأثير بأنه من المن: العطاء لا من المنة، غير مسلم فالمعنيان صحيحان في حق الله تعالى، فالله سبحانه وتعالى يدر العطاء على عباده منا عليهم بذلك وتفضلا، كذلك هو سبحانه يعدد نعمه ويذكرها ويمتن على عباده بفعلها.
__________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير 4 / 365(80/371)
قال ابن كثير في قوله تعالى: {غَيْرُ مَمْنُونٍ} (1) قال بعضهم: غير ممنون عليهم، وهذا القول الأخير عن بعضهم قد أنكره غير واحد، فإن الله عز وجل له المنة على أهل الجنة في كل حال وآن ولحظة، وإنما دخلوها بفضله ورحمته، لا بأعمالهم فله المنة عليهم دائما سرمدا، والحمد لله وحده أبدا، ولهذا يلهمون تسبيحه وتحميده كما يلهمون النفس (2) .
ثم إن منه تعالى على عباده من صفاته سبحانه العليا، لأن منه تعالى إفضال وتذكير بما يجب على الخلق من أداء واجب شكره (3) . فهذه الصفة في حقه تعالى صفة كمال، وفي حق المخلوق، - بهذا المعنى - صفة نقص، فلا يلزم أن يكون كل كمال في الخالق كمالا في المخلوق.
قال ابن القيم: حظر الله على عباده المن بالصيغة، واختص به صفة لنفسه لأن من العباد تكدير وتعيير، ومن الله سبحانه وتعالى إفضال وتذكير (4) .
__________
(1) سورة فصلت الآية 8
(2) تفسير ابن كثير 4 / 524
(3) الزواجر، الهيتمي 1 / 188
(4) طريق الهجرتين، ابن القيم 365(80/372)
والمنة هي النعمة الثقيلة (1) ، كما يقول الراغب.
ومن أعظم ما من الله تعالى به على عباده بعثة الرسل عليهم السلام، قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (2) .
وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (3) ، فبعثته صلى الله عليه وسلم هي النعمة العظمى، والمنة الجسيمة التي من الله بها على عباده لأن في بعثته تخليصا لهم من عذاب النار بسبب الإيمان والابتعاد عن الشرك (4) .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} (5) .
__________
(1) المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت، ص 414
(2) سورة إبراهيم الآية 11
(3) سورة آل عمران الآية 164
(4) تفسير ابن كثير 4 / 21
(5) سورة الصافات الآية 114(80/373)
وذلك بالنبوة والنجاة بمن آمن معهما من قهر فرعون وقومه، وإنزال الكتاب العظيم الواضح الجلي المبين وهو التوراة (1) .
كذلك من الله تعالى على المؤمنين بأن هداهم للإيمان، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (2) وقال تعالى في حق الأعراب: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (3) .
فنهى الله تعالى الأعراب عن المن بإسلامهم وبين أن نفع ذلك يعود عليهم، والله هو الذي يمن عليهم أن هداهم للإيمان، فمنه عليهم بذلك أفضل من كل شيء.
ومما من الله تعالى به على المؤمنين دخول الجنة ونجاتهم من النار، فقال تعالى: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} (4) {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} (5) {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} (6)
__________
(1) المصدر نفسه 4 / 235. وينظر: تفسير السعدي 7 / 142
(2) سورة النساء الآية 94
(3) سورة الحجرات الآية 17
(4) سورة الطور الآية 26
(5) سورة الطور الآية 27
(6) سورة الطور الآية 28(80/374)
فالمنة لله على الإطلاق ويجب على كل مؤمن الاعتراف بهذا وهذا دأب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومن ذلك أنه لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم قسم على المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم، فقال: «يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، كلما قال شيئا: قالوا: الله ورسوله أمن (1) » .
وفي رواية: بل المن علينا لله ولرسوله (2) .
كذلك قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما ذكر له ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين مآثره الصالحة وأعماله، ووفاته رضي الله عنه وهو عنه راض، قال عمر: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه، فإنما ذاك من من الله تعالى من به علي وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر
__________
(1) البخاري: 4330
(2) أحمد 2 / 482، 3 / 76، 105، 253. وقال ابن حجر: وإسناده صحيح، الفتح 8 / 51(80/375)
ورضاه، فإنما ذاك من من الله جل ذكره من به علي (1) .
فالمنة لله تعالى وحده في كل خير يصيب المرء في دنياه وفي آخرته، ولا منة لأحد عليه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
__________
(1) البخاري 3692(80/376)
الخاتمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد.
فقد كان أهم ما تضمنه البحث ما يلي:
* حث الإسلام على حسن الخلق وذكر الأجر العظيم لصاحبه في الدنيا والآخرة وهذا مما يدل على أن حسن الخلق مقدور عليه.
* المنة في اللغة مشتقة من القطع، أو من الإحسان والإنعام، وأما المعنى المنهي عنه فهو ذكر الإحسان وتعداده وهذا لا شك أنه يكون باللسان، وقد تكون بالقلب من غير تصريح باللسان.
* جاءت الآثار في النهي عن السنة وبيان إبطالها لأجر صاحبها في الدنيا، وكذلك أنه من الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ونفى عن صاحبها دخول الجنة - أي دخولا أوليا؛ وهذا كله كان في بيان أنها من الكبائر لأن العلماء ذكروا أن الكبيرة هي ما توعد عليه بعذاب في الآخرة، أو كان له حد في الدنيا.(80/376)
* شبهة المنة بالرياء بجامع أن كليهما يبطل العمل، ولا شك أن الرياء أعظم منها.
* أما محبة الحمد بما لم يفعل الإنسان فهذا منهي عنه، ولا يدخل فيه محبة الإنسان ما فعل من الخير بشرط ألا يكون قصده بذلك الرياء والسمعة، بل هذا عاجل بشرى المؤمن، فلا يعد هذا من المنة المذمومة في الشرع.
* تكمن العلة في النهي عن المنة أنها مشتملة على إيذاء المسلم وأن صاحبها مترفع على غيره معجب بعمله قد نسي أن المنعم الحقيقي هو الله، ثم إنه يدعي أنه يريد وجه الله، فعلى هذا لا وجه لمنه على من أنفق عليه، لأن الله هو الذي يتولى مجازاته، فنفع الصدقة عائد على المتصدق، لا على المتصدق عليه.
* كان من أسماء الله تعالى الثابتة في السنة: المنان، وقد تنوعت عبارات العلماء في تفسيره، على أن أقوالهم متفقة على المعنى الذي يتضمن العطاء والإحسان، كذلك هو الذي يعدد نعمه ويذكرها لعباده، فلله تعالى المنة العظمى بالخلق والرزق وبعث الأنبياء، لا سيما أفضلهم: محمد صلى الله عليه وسلم، فيجب على كل مؤمن الاعتراف بهذا، ويقوم بحق الله تعالى في شكر هذه النعم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(80/377)
صفحة فارغة(80/378)
التيسير في الحج
لفضيلة الشيخ الدكتور: صالح بن فوزان الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء
الحمد لله الذي شرع فيسر {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فإن التيسير في الحج وغيره من أحكام الدين يكون حسب الأدلة الصحيحة مع التقيد بأداء الأحكام كما شرع الله سبحانه وتعالى ومن ذلك عبادة الحج والعمرة قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (2) وإتمامها يكون بأداء مناسكهما على الوجه الذي أداهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (3) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم (4) » ، أي أدوها على الصفة التي أديتها بها، لا على الرخص التي قال بها
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) سورة الأحزاب الآية 21
(4) أخرجه مسلم في كتاب الحج باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر.. برقم 1297(80/379)
بعض العلماء، من غير دليل من كتاب أو سنة، وتلقفها بعض الكتاب والمنتحلين للفتوى، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) ، ففي هذه الآية الكريمة أنه يجب علينا أن نأخذ من أقوال العلماء ما دل عليه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ما يوافق أهواءنا ورغباتنا من أقوال العلماء التي لا مستند لها من الأدلة الصحيحة، ولا أن تستعمل الأدلة الشرعية على غير مدلولها، وفي غير مواضعها كمن يستدل بقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن تقديم أعمال يوم العيد بعضها على بعض: «افعل ولا حرج (2) » على كل تقديم وتأخير، وترك لبعض واجبات الحج وأفعاله، فاستعمل هذا الدليل في غير محله، ونسي قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (3) ، ولا يحصل إتمام الحج والعمرة الذي أمر الله به في هذه الآية الكريمة إلا بأداء كل منسك من منسكهما في زمانه ومكانه، كما حدده الله ورسوله، لا كما يقوله فلان أو يفتي به فلان، من غير دليل وإنما تحت
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) أخرجه البخاري في كتاب العلم باب الفتيا وهو واقف على الدابة، وغيرها برقم 83 ومسلم في كتاب الحج باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي برقم 1306
(3) سورة البقرة الآية 196(80/380)
مظلة: (افعل ولا حرج) ، وفي غير الزمان والمكان والأفعال التي وردت فيها هذه الكلمة النبوية. هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمن انصرف من عرفة قبل الغروب: (افعل ولا حرج) ، هل قالها لمن يرمي قبل الزوال في أيام التشريق، هل قالها لمن وقف بنمرة ووادي عرنة ولم يقف بعرفة منتصف الليل، هل قالها لمن لم يبت في مزدلفة في ليلتها، ومنى ليالي أيام التشريق، وهو يقدر على المبيت في مزدلفة، وفي منى هل قالها لمن طاف بالبيت من غير طهارة، إنه لا بد أن توضع الأمور في مواضعها، والأدلة في أماكنها، ولا بد أن يبين الإطلاق والإجمال كما قال العلامة ابن القيم:
فعليك بالتفصيل والتمييز فالـ ... إطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ ... أذهان والآراء كل زمان
ولا ننس أن الحج جهاد، والجهاد لا بد فيه من مشقة وليس هو رحلة ترفيهية، وقد وسع الله الزمان والمكان لأداء المناسك، أما المكان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرفة: «وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرنة، وقال في مزد لفة: وقفت هاهنا وجمع كلها موقف (1) » . وطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت ماشيا
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحج باب ما جاء في أن عرفة كلها موقف برقم 1218.(80/381)
وراكبا يستلم الحجر بمحجن، ووقت طواف الإفاضة والسعي يبدأ من منتصف الليل ليلة العيد، ولا حد لنهايتها، ووقت رمي جمرة العقبة يوم العيد يبدأ من منتصف ليلة العاشر، إلى آخر المساء من ليلة الحادي عشر، ووقت رمي الجمرات الثلاث يبدأ من الزوال إلى آخر المساء من ليلة الثاني عشر وليلة الثالث عشر لمن تعجل وغروب الشمس من اليوم الثالث عشر لمن تأخر، وفج منى كله مكان للمبيت، وهو فج واسع لولا تصرفات الناس واتباع أطماعهم فإنه لا يضيق بالحجاج لو استغل استغلالا صحيحا، واقتصر كل على ما يكفيه، وترك الباقي لإخوانه، وإلا فإنه سيتحمل إثم من أخرجه من منى باستيلائه على أكثر من حاجته:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق
إن الذي يجب إعلانه للناس هو قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم (2) » أما قوله صلى الله عليه وسلم: «افعل ولا حرج (3) » ، فإنما يقال لمن وقع منه تقديم وتأخير في المناسك التي تفعل في يوم العيد حيث قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، في هذا اليوم لمن حصل منه تقديم وتأخير في
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .
(3) البخاري الأيمان والنذور (6288) ، مسلم الحج (1306) ، أبو داود المناسك (2014) ، أحمد (2/192) ، مالك الحج (959) ، الدارمي المناسك (1907) .(80/382)
المناسك الأربعة: الرمي والنحر والحلق أو التقصير، والطواف والسعي، ولم يقله ابتداء فكل شيء يوضع في مواضعه. وأما إعلان: (افعل ولا حرج) لكل الناس وقبل حصول الخلل فهذا يحدث تساهلا وبلبلة في أعمال الحج.
نسأل الله عز وجل أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح والإخلاص لوجهه الكريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
بقلم: صالح بن فوزان الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء
عضو اللجنة الدائمة للإفتاء(80/383)
حديث شريف
«قال رجل من اليهود لعمر: يا أمير المؤمنين لو أن علينا نزلت هذه الآية لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فقال عمر: إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية نزلت يوم عرفة في يوم جمعة (2) »
(رواه البخاري ومسلم)
__________
(1) البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6840) ، مسلم التفسير (3017) ، الترمذي تفسير القرآن (3043) ، النسائي الإيمان وشرائعه (5012) ، أحمد (1/28) .
(2) سورة المائدة الآية 3 (1) {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}(80/384)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1)
سورة آل عمران: الآية 18
__________
(1) سورة آل عمران الآية 18(81/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
معالي الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
فضيلة الشيخ الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
فضيلة الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
معالي الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(81/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(81/3)
المحتويات
* الافتتاحية *
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
* الفتاوى *
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 15
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 31
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 37
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 51(81/4)
البحوث
مقاصد دراسة التوحيد وأسسها لفضيلة الدكتور محمد بن عبد الرحمن الجهني 63
الأحكام الفقهية المتعلقة بالأيمان الالتزامية لفضيلة الدكتور عبد السلام بن سالم السحيمي 91
موقف الإسلام من الاختلاط (شبهات وردود) لفضيلة الدكتور \ مفرح بن سليمان القوسي 145
حكم الإسقاط من الدين المؤجل عوضا عن التعجيل لفضيلة الدكتور \ إبراهيم بن محمد قاسم رحيم 213
الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز وأصول منهجه لفضيلة الدكتور \ عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس 237
إبطال تلبيسات الرفاعي لفضيلة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان 349
بيان في أن اجتماع الأمة يكون بالتمسك بالكتاب والسنة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 371
بيان حول مشاهدة قنوات السحر والاتصال بها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 379(81/5)
الافتتاحية
لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن العلم هو أجل ما طلب، وأهم ما اكتسب، كيف لا والعلم هو شرط تحقيق التوحيد لله رب العبيد، يقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (1) ، والله عز وجل حين شهد لنفسه سبحانه بالوحدانية استشهد على ذلك خاصة خلقه وهم الملائكة المقربون، ثم استشهد من البشر أفضلهم وخاصتهم وهم العلماء، يقول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) .
ومن اكتسب علما وحصله فقد حاز خيرا عظيما، وربنا عز وجل نفى مساواة العالم بغير العالم في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (3) .
__________
(1) سورة محمد الآية 19
(2) سورة آل عمران الآية 18
(3) سورة الزمر الآية 9(81/7)
ومن كان من أهل العلم، فإنه مؤهل ليكون أخشى لله عز وجل وأتقى له سبحانه، لما يعلمه من آياته ومخلوقاته، ولما يعرفه من حق الله تبارك وتعالى عليه، يقول سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1) ، والعلم الشرعي هو ميراث نبينا صلى الله عليه وسلم، بل هو ميراث الأنبياء عليهم السلام جميعا، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «وإن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر (2) » .
والمتحدث عن فضل العلم لا يجد عناء في بيان فضله، إذ الجميع متفق على ذلك العالم، والجاهل؛ فإن الجاهل ينفر من صفة الجهل ولا يرضى أن يوصم بها، وإذا ما وسم بالعلم فإنه يفرح بذلك، وما ذاك إلا لإقراره بمكانة العلم وفضله، والعلم الحقيقي، هو العلم بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، وما يجب له من حق على عباده، والتفكر في مخلوقاته، والنظر في آياته الشرعية للعمل بما فيها من الأوامر اتباعا، والنواهي اجتنابا، ومن ثم دعوة الخلق إلى ذلك ونشره فيهم فإن هذا العلم
__________
(1) سورة فاطر الآية 28
(2) رواه الإمام أحمد في مسند الأنصار، حديث أبي الدرداء رضي الله عنه برقم 21208.(81/8)
هو الذي يورث العبد زيادة في الإيمان، ورضا من ربه الرحيم الرحمن، ومنزلة عالية في الجنان.
والعلم الحقيقي ليس بتزويق الألفاظ، وتنميق العبارات، ورصف الجمل، واختيار التراكيب المعقدة، وحوشي الكلام، والألفاظ نادرة الاستعمال، مما يجعل طريق الوصول إلى المعنى وعرا، ومن ثم يكون فهمه متعسرا إن لم يكن متعذرا، وربما كانت العبارة حمالة أوجه، بلا بيان يسفر عن الوجه المراد، ولا مرجح يمكن من اعتماد أحد معانيه، وإنما العلم الحقيقي كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (بحث محقق، أو نقل مصدق، وما سوى ذلك فهذيان مزوق) .
وهذا ما سار عليه سلف هذه الأمة، وأخذ ذلك عنهم الخلف الصالح، حتى كان سمة بارزة في علمهم، حتى قيل عنهم: كلام السلف قليل، كثير الفائدة، وعلى هذا سار علماء الأمة يتبعون في ذلك آثار سلفهم، وممن سار على هذا الطريق، ونهج هذا النهج أئمة الدعوة السلفية في نجد - غفر الله لهم ورحمهم -، وورث ذلك عنهم طلابهم في هذه البلاد وخارجها، إلى هذا العصر، وقد كانت جهود هؤلاء العلماء الأفاضل متواكبة مع تأييد حكام هذه البلاد المباركة الذين أيدوا هذه الدعوة السلفية ونصروها، ومن تأييدهم لها إنشاء هيئة لكبار العلماء في هذه البلاد، لتكون مرجعا للفتوى في هذه البلاد المباركة، وهذه الهيئة(81/9)
تضطلع بأعمال جليلة، منذ إنشائها عام 1391هـ وحتى الآن، وقد صدر عنها بحوث مفيدة، وفتاوى هامة، جمعت بعض البحوث منها فخرجت في سبع مجلدات، ومما يتبع لهذه الهيئة مجلة البحوث الإسلامية، التي تعنى بنشر فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وفتاوى المفتي العام، فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، وفتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، والفتاوى الصادرة منا، وما يستجد من قرارات هيئة كبار العلماء إضافة إلى عنايتها بالبحوث العلمية الموثقة التي يكتبها الباحثون ويرسلونها فيتم تحكيمها من قبل لجنة المحكمين، وتنشر بعد تحكيمها في المجلة.
وهذه المجلة المباركة صدر أول عدد منها عام 1395هـ بناء على المرسوم الملكي رقم (1 / 137) وتاريخ 8 / 7 / 1391هـ الذي تشكل به لأول مرة مجلس هيئة كبار العلماء المملكة العربية السعودية وبيان لائحة سير العمل في هيئة كبار العلماء ... ونصت المادة (11) من اللائحة على إصدار مجلة دورية، وهي مجلة علمية دورية محكمة، تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا، وقد صدر من أعدادها إلى الآن (81) عددا، ورأس تحريرها في بداية إصدارها الشيخ عثمان الصالح رحمه الله، إلى العدد(81/10)
الخامس، وقد أثرى المجلة بخبراته وسار بها سيرا حثيثا إلى أن سلمها إلى معالي الدكتور/ محمد بن سعد الشويعر، الذي تولى رئاسة التحرير من العدد السادس الذي صدر في عام 1403هـ وحتى الآن - مد الله في عمره على طاعته - وكان لخبرة معالي الدكتور الطويلة في الإعلام - إضافة إلى علميته وسعة أفقه، وجده في العمل أثر كبير في تطوير المجلة والانتقال بها مرحلة مرحلة لتصل إلى ما وصلت إليه الآن.
هذا وإن هذه المجلة المباركة وهي تصدر الآن عددها (الواحد والثمانين) لتعد من أهم المراجع العلمية، والبحثية لطلاب العلم، نظرا لثرائها بالبحوث المحكمة إضافة إلى ما تميزت به من نشر فتاوى العلماء، وما سبقت به من متابعة لقرارات هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية وبحوثها.
وإني إذ أحمد الله عز وجل على هذه النعمة، لأشكر لأخي معالي الدكتور جهوده المتواصلة والحثيثة في هذا السبيل، وأشكر لجميع الإخوة العاملين في المجلة، وقبل ذلك أشكر أصحاب المعالي والفضيلة في لجنة تحكيم البحوث، كما أشكر كل من تواصل مع المجلة ببحث، أو فائدة، أو استدراك، أو اقتراح، والمجلة ترحب بذلك كله سعيا وراء الارتقاء بمستوى المجلة، واستمرار قوتها العلمية، ورائد الجميع تقوى الله عز وجل، والحرص على نشر الدين والدعوة إليه.(81/11)
أسأل الله عز وجل أن يوفق ولاة أمرنا لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلهم هداة مهتدين ويعلي بهم منار الدين، كما أسأله سبحانه أن يوفقنا وإخواننا العلماء لما فيه نصر دينه وبيانه للناس وأن يسددنا في أقوالنا وأعمالنا، وأن يبارك في جهود الجميع، وأن يجعل هذه المجلة منبر هدى، ومنار خير إنه سبحانه سميع مجيب.
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ(81/12)
الفتاوى(81/13)
من فتاوى سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية (رحمه الله)
إقامة المأتم في أي يوم كان غير مشروعة
وأما إقامة المآتم على الميت في أي يوم كان فغير مشروعة، وقد حكى أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي في كتابه الحوادث والبدع إجماع العلماء على منعها.
قال في ص166: فأما المآتم فممنوعة بإجماع العلماء. قال الشافعي: وأكره المآتم وهو اجتماع الرجال والنساء، لما فيه من تجديد الحزن. قال: ويكره المبيت في المقبرة، لما فيه من الوحشة. والمآتم هو الاجتماع في الصبحة أي الاجتماع حول القبر صباحا غداة الدفن، وهو بدعة منكرة لم ينقل فيه شيء، وكذلك ما بعده من الاجتماع في الثاني والثالث والسابع والشهر والسنة فهو طامة، وقد بلغني عن الشيخ ابن عمران الفاسي وكان من أئمة المسلمين: أن بعض أصحابه حضر صبحة فهجره شهرين وبعض الثالث، حتى استعان الرجل عليه فقبله وراجعه(81/15)
وأظنه استتابه ألا يعود. فأما ما يوقد فيها من الشمع والبخور فتبذير وسرف. وإن أنفقه الوصي من مال التركة ضمنه وسقطت به عدالته واستأنف الحاكم النظر في الوصية. قال ابن السمان: سألت بعض رهبان الأكواخ: لم يسمى الاجتماع في المصيبة مأتما قال: فبكى. ثم قال: لأن المجتمع عليه ومن أجله لم يتم. اهـ.
وقد أطال الشيخ علي محفوظ في كتابه الإبداع في مضار الابتداع (ص218، 219) : أما بدع المآتم فمعلوم أن كل مجتمع للحزن على الميت فيه النساء لا يخلو من المحظورات شرعا من الندب والنياحة ولطم الخدود، والتهتك بكشف العورات، وإضاعة الكثير من الأموال، إلى غير ذلك مما عمت به البلوى، حتى استعصى الداء، وعز الدواء، وأما اجتماع الرجال في المآتم لداعية الحزن فمعلوم أيضا ما يستلزم هذا الاجتماع من النفقات الطائلة لغرض المباهاة والرياء بإعداد محل الاجتماع وإحضار البسط والسجاجيد ونحوها، ولا شك في حرمة ذلك؛ لما فيه من إضاعة المال لغير غرض صحيح، هذا إذا لم يكن في الورثة قاصر، فما بالك إذا كان فيهم قاصر، وقد يتكلفون ذلك بالقرض بطريق الربا نعوذ بالله من سخطه.
وأن ما يقع بعد الدفن من عمل المأتم ليلة أو ثلاثا مثلا لا نزاع في أنه بدعة، ولم يثبت عن الشارع ولا عن السلف أنهم جلسوا بقصد أن تذهب الناس إلى تعزيتهم، وكانت سنته صلى الله عليه وسلم أن يدفن الرجل من(81/16)
أصحابه وينصرف كل إلى مصالحه، وهذه كانت سنته، وهذه كانت طريقته، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (1) ، فلنتأس به فيما ترك كما نتأسى به فيما فعل، والجمهور على كراهة ذلك لأنه يجدد الحزن للمعزى، قال الإمام الأذرعي: الحق أن الجلوس للتعزية على الوجه المتعارف في زماننا مكروه أو حرام، انتهى.
ومر صاحب (الإبداع) إلى أن قال في ص220: وصفوة القول أن المآتم اليوم لا تخلو من المنكرات ومخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وناهيك ما يكون من القراء في تلاوة القرآن، وما يفعله المستمعون في المأتم من الخروج عن حد الأدب حال تلاوته من رفع أصوات الاستحسان أو الاشتغال عن استماعه أو شرب الدخان وغير ذلك مما يحول بين المجلس وبين نزول الرحمة نسأل الله السلامة والهداية. انتهى المراد من كلام صاحب (الإبداع في مضار الابتداع) . والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
مفتي الديار السعودية
(ص - ف - 2655 - 1 في 86 هـ)
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21(81/17)
المستحب أن يصلح أقرباء الميت وجيرانه طعاما لأهله
أما الطعام للميت بعد ثلاثة أيام من موته أو سبعة أو عشرة أو أقل أو أكثر فذلك بدعة محدثة، وكل محدثة ضلالة. والمستحب في ذلك أن يصلح أقرباء الميت وجيرانه طعاما لأهله فلقد روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه نعي جعفر قال: «اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنهم قد أتاهم أمر شغلهم (1) » . أما صنع أهل الميت الطعام للناس فذلك خلاف المشروع، فيه زيادة على مصيبتهم وشغل لهم مع انشغالهم وحزنهم.
وبالله التوفيق. والسلام عليكم.
مفتي الديار السعودية
(ص - ف - 2101 - 1 في 21 / 7 / 1388هـ)
__________
(1) الترمذي الجنائز (998) ، أبو داود الجنائز (3132) ، ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610) .(81/18)
زيارة القبور
أحوال زيارة القبور، وانقسام الزيارة إلى: شرعية، وبدعية زيارة القبور لها أحوال بالنسبة إلى البيانات الشرعية من النبي صلى الله عليه وسلم.
أحدها: زيارتها في مبدأ بعثته صلى الله عليه وسلم.
الثانية: النهي عن ذلك الذي كان قبل مباحا أو مستعملا.(81/18)
الثالثة: الإذن فيها.
فما كان من (الأول) فلأجل ما فيها من المصلحة.
أما الثانية: فخشية المفسدة وهو التعلق بالمقبور والاستنجاد به، ويضم إلى هذا أفعال وتصورات جاهلية مما يفضي إلى الشرك أو دونه. والله أعلم.
فنهى صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور وإن كانت مشتملة على مصلحة وهي تذكر الموت والآخرة خشية جر مفسدة أكبر من فوات هذه المصلحة وهو أنهم كانوا حدثاء عهد بالتعلق بالأوثان من قبر عظيم ونحو ذلك حسما لمادة الغلو في المقبورين وقطعا للتعلق بالوثنية. فلما استقر ذلك في قلوب الصحابة وامتلأت نورا أذن في ذلك، وجاء النهي وبيان النسخ له في حديث واحد (1) .
ومن مصالحها إحسان الإنسان إلى نفسه بفعل هذا الإحسان بما يذكر قلبه أولا، وإحسان إلى النفس بالصدقة على القريب ثانيا.
ومنه نعرف أن الزيارة تنقسم إلى (شرعية) و (بدعية) :
فالشرعية هي الدعاء للميت وتذكر الآخرة.
والبدعية الشركية هي زيارتها لدعائهم والاستغاثة بهم وتوسيطهم كصنيع المشركين الأولين وهذا مما ابتلي به كثير من المنتسبين إلى الإسلام، وإن كانت قد خفت لأمرين أولا: لبيان العلماء أن هذا من الخرافات،
__________
(1) كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها..(81/19)
الثاني: استيلاء الإلحاد والانحلال عن الديانات. وهذا أشر من نواحي، وقد استولى على الشبيبة: فمن غارق، وميت، ومن دنف، ومن متشبث.
وهذا (1) ، شفاؤه كتاب الله وتلاوته ومعرفة مواقف النبي مع المشركين من لدن بعث إلى أن توفي.
وأما قبور الكفار فلا تزار إلا لمصلحة خاصة هو تذكير الموت أما الدعاء فلا، وكذلك شهود جنائزهم {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ} (2) .
ومن الزيارة غير الشرعية زيارتها لأجل النياحة على القبر كفعل بعض أهل الجاهلية.
ومن شرط الزيارة الشرعية أن لا يتخذها عيدا أيضا، كما أن من شرطها أمرا آخر فيها وفي غيرها إنكار المنكر إذا وجد.
__________
(1) يعني الزيارة الشركية
(2) سورة التوبة الآية 114(81/20)
تحريم زيارة النساء للقبور
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم الطبيب ع. ف المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:(81/20)
فقد وصل إلينا كتابك المؤرخ - بدون - المتضمن منع النساء من زيارة القبور من قبل حارس المقبرة المختص، وسؤالك عن حكم ذلك؟.
فالجواب: أن النساء منهيات عن زيارة القبور؛ لما تفضي إليه زيارتهن من الندب والنياحة وغيرها من الأمور المحظورة، لما فيهن من الضعف والجزع وقلة الصبر، وقد استدل العلماء لهذا بحديث ابن عباس: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج (1) » رواه أهل السنن، وفي الباب حديث أبي هريرة وحديث حسان بن ثابت، وهذا خاص بالنساء. وأما الرجال فإن زيارة القبور مشروعة في حقهم لقوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة (2) » ، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(ص - ف - 1017 وتاريخ 17 / 8 / 1381هـ)
__________
(1) الترمذي الصلاة (320) ، النسائي الجنائز (2043) ، أبو داود الجنائز (3236) ، ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1575) ، أحمد (1/337) .
(2) رواه مسلم وأصحاب السنن(81/21)
قوله: إلا لنساء
بل الراجح تحرم؛ لما فيه من اللعن، واللعن لا يكون على مكروه وهو من أجل ما اتصفن به من الضعف والخور وعدم الصبر.(81/21)
ثم لعلك أن تقول: إن بعض النساء قد تكون أقوى قلبا من الرجال، وعكسه لبعض الرجال.
قيل: الحكم إذا علق بمظنة استوى وجودها وعدمها.
وقد زعم أن ما في حديث (فزوروها) يتناول النساء، وهذا جهل وغلط.
النهي له وجهان لكل وجه علة، فالنهي بالنسبة إلى الجميع عن الزيارة مطلق، ثم أذن للرجال؛ لزوال العلة، ولما فيه من الإحسان للميت بالدعاء له، وتذكر الآخرة، ولم يؤذن للنساء؛ لعلة أخرى لم تزل، فالعلة الأولى زالت برسوخ الإيمان، وانقطاع التعلق بالقبور المسببة للوثنية، لقوله (نهيتكم) . وهنا نهي آخر خاص بالنساء وعلة أخرى وهو من أجل ما اتصفن به من الخور والضعف وعدم الصبر؛ ولهذا في الحديث «ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت (1) » فتنة الحي ظاهرة لا سيما الشباب، وإيذاؤهن الميت بالبكاء والصراخ.
ويمنعن من زيارة قبره صلى الله عليه وسلم أيضا
__________
(1) ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1578) .(81/22)
قوله: غير قبره صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه.
وهذا ذكر هنا، والصحيح في المسألة منعهن من زيارة قبره لأمرين:(81/22)
(أولا) عموم الأدلة، والنهي إذا جاء عاما فلا يجوز لأحد تخصيصه إلا بدليل، ثم العلة موجودة هنا.
وجاء فيما يتعلق بضريح المصطفى أشياء خاصة من نهيه أن يتخذ قبره عيدا، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم وخشيته ذلك «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد (1) » ، وأجاب الله دعوته، وحمى ضريحه، وتربته، بأن هيأ أسبابا تمنع الجهال البعيدين من شم سنته.
(أولا) أن الواقع أنه دفن في مكان محوط ومغلق، وبعد ذلك سد باب ذلك الموضع، ثم بعد ذلك زيد أشياء وهو الشبك والجدران التي وضعت حماية للنبي صلى الله عليه وسلم وكرامة لقبره أن يباشر بالأرجاس التي بعث بمحقها وإزالتها.
مع أن هنا شيئا آخر وهو أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم لا مأمور، ولا مقدور. ما جاء الأمر بزيارة قبره خاصة. وصنيع الصحابة
__________
(1) رواه مالك في الموطأ.(81/23)
أيضا وابن عمر مع تحريه للسنة لا يأتي للقبر إلا إذا أراد سفرا أو رجع من سفر، ويكتفي ما دام في المدينة بالصلاة والسلام عند دخوله المسجد. وما يفعله كثير من الجهال هو من اتخاذه عيدا، فليس مأمورا بزيارته كزيارة بقية الناس.
وغير مقدور. يعني الوصول إليه. والذي يقدر عليه يفعل للرجال. فإن قلت: إذا كان غير مقدور فلم لا يؤذن للنساء. قيل إنهن يعتقدنها زيارة، وإن قيل: إنهن لا يعتقدنها زيارة. قيل: في الظاهر إنهن زائرات.(81/24)
حكم وقوف النساء عند دخولهن المسجد
على قبر النبي وسلامهن على قبر اجتزن به
ورد إلى دار الإفتاء بواسطة الإذاعة سؤال عن حكم وقوف النساء عند دخولهن المسجد النبوي على قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم للسلام عليه.
فأجاب سماحة المفتي بالجواب التالي:
يستدعي البحث في هذا الموضوع التعرض لأمرين هامين:(81/24)
أحدهما: قصد المرأة بخروجها أول ما تخرج زيارة القبر.
الثاني: وقوفها عند قبر اجتازت به في طريقها إلى مقصودها للسلام عليه.
أما الأول: وهو قصد المرأة بخروجها أول ما تخرج زيارة القبر فقد جاء نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه من رواية عبد الله بن عباس وأبي هريرة وحسان بن ثابت رضي الله عنهم.
أما حديث ابن عباس فقد روى أحمد وأصحاب السنن والبزار وابن حبان والحاكم من رواية أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور» والتعبير في هذه الرواية بزائرات القبور يدل على عدم تخصيص النهي بالإكثار من الزيارة كما توهمه بعضهم من التعبير في الروايات الأخرى بلفظ: «زوارات القبور (1) » .
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فروى أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح، وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور (2) » . وأما حديث حسان بن ثابت رضي الله عنه فروى أحمد وابن ماجه والحاكم عن حسان بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور» .
__________
(1) الترمذي الجنائز (1056) ، ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1576) .
(2) الترمذي الجنائز (1056) ، ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1576) .(81/25)
فهذه الروايات تدل على تحريم زيارة القبور على النساء؛ فإن لعنة الشارع على الفعل من أدل الدلائل على تحريمه.
أما دعوى نسخ هذه الأحاديث بما في الحديث الصحيح: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها (1) » بناء على أن الإناث يدخلن في خطاب الذكور. فيرده أن محل دخولهن فيه حيث لم يوجد دليل صريح قاض بعدم الدخول كوجود أحاديث لعنة زائرات القبور هنا؛ فإن ذلك من أظهر القرائن على عدم تناول خطاب الإذن لهن، كما بينه العلامة ابن القيم في (تهذيب سنن أبي داود) قال: فإن قيل: إن تعليل الإذن في زيارة القبور في بعض روايات حديث الإذن بتذكر الآخرة يؤيد القول بالنسخ؛ فإن تذكر الآخرة مصلحة يشترك فيها الرجال والنساء. نقول إن مصلحة تذكرهن الآخرة عارضها ما يقارن زيارتهن من فتنة الأحياء وإيذاء الأموات والتبرج وغير ذلك من المفاسد التي لا سبيل إلى دفعها إلا بمنعهن، ومبنى الشريعة على تحريم الفعل إذا كانت مفسدته أرجح من مصلحته، ورجحان هذه المفسدة لا خفاء فيه، فمنعهن زيارة القبور من محاسن الشريعة.
ولهذا مال كثير من أهل العلم إلى استمرار النهي عن زيارة القبور في حق النساء، فقال الحافظ المنذري في (الترغيب والترهيب) : قد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهاهن عن زيارة القبور نهيا عاما للرجال والنساء، ثم أذن للرجال في زيارتها، واستمر النهي في حق النساء. وقال جامع
__________
(1) مسلم الأضاحي (1977) ، النسائي الضحايا (4429) ، أبو داود الأشربة (3698) ، أحمد (5/355) .(81/26)
اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية أبو الحسن البعلي: ظاهر كلام أبي العباس - يعني شيخ الإسلام - ترجيح التحريم، لاحتجاجه بلعن النبي صلى الله عليه وسلم زائرات القبور وتصحيحه إياه، ولا يصح دعوى النسخ؛ بل هو - أي النهي - باق على حكمه، والمرأة لا تشرع لها زيارة القبور لا الزيارة الشرعية ولا غيرها. وقال العلامة السندي في حاشيته على (سنن النسائي) في استمرار النهي عن زيارة القبور في حق النساء: هو الأقرب إلى تخصيصهن بالذكر - أي في أحاديث لعنة زائرات القبور. وقال صديق حسن خان في (حسن الأسوة) : الراجح نهي النساء عن زيارة القبور، وإليه ذهب عصابة أهل الحديث كثر الله سوادهم. اهـ.
وما ذكر هؤلاء من استمرار النهي في حق النساء هو ظاهر رواية الإمام أبي داود عن الإمام أحمد بن حنبل، وبه جزم صاحب المهذب وصاحب البيان من الشافعية. قال أبو داود في (مسائل الإمام أحمد) : سألت أحمد عن زيارة النساء القبر. قال: لا. قلت: فالرجال أيزورون. قال: نعم، ثم ذكر حديث ابن عباس رحمهما الله تعالى: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور» . وقال النووي في شرح المهذب (المجموع) : أما النساء فقال المصنف وصاحب البيان من الشافعية لا تجوز لهن الزيارة، وهو ظاهر هذا الحديث، يريد حديث لعنة زائرات القبور.
وأما الأمر الثاني: وهو سلام المرأة على قبر اجتازت به في طريقها إلى(81/27)
مقصودها، فلا بأس به، ففي (الاختيارات) ما نصه: إذا اجتازت المرأة بقبر بطريقها فسلمت عليه ودعت له فهذا حسن. اهـ.
وعلى هذا حمل الإمام ابن القيم في (تهذيب سنن أبي داود) (1) ، ما رواه الترمذي في سننه عن عبد الله بن أبي مليكة قال: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبشي (2) ، قال فحمل إلى مكة فدفن فلما قدمت عائشة أتت قبر عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ثم قالت: والله لو حضرتك ما دفنت إلا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك. قال ابن القيم بعدما قرر أن هذه الرواية هي المحفوظة قال: وعائشة إنما قدمت مكة للحج فمرت على قبر أخيها في طريقها فوقفت عليه، وهذا لا بأس به، وإنما الكلام في قصدهن الخروج. قال: ولو قدر أنها عدلت إليه وقصدت زيارته فهي قد قالت: لو شهدتك لما زرتك.
وهذا يدل على أن من المستقر المعلوم عندها أن النساء لا يشرع لهن زيارة القبور.
ثم تكلم ابن القيم على رواية البيهقي من طريق يزيد بن زريع عن
__________
(1) الجزء الرابع.
(2) بضم الحاء وسكون الباء وكسر الشين والتشديد موضع قريب من مكة وقال الجوهري هو جبل بأسفل مكة.(81/28)
بسطام بن مسلم عن أبي التياح أن أثر عائشة المذكور بلفظ: أيا أم المؤمنين من أين أقبلت. قالت: من قبر أخي عبد الرحمن. فقلت لها: أليس قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور. قالت: نعم. ثم أمر بزيارتها. قال ابن القيم في هذه الرواية: هي رواية بسطام بن مسلم، ولو صح فهي تأولت ما تأول غيرها من دخول النساء، والحجة في قول المعصوم لا في تأويل الراوي، وتأويله إنما يكون مقبولا حيث لا يعارضه ما هو أقوى منه، وهذا قد عارضه أحاديث المنع. اهـ. هذا موقفنا من زيارة النساء للقبور.
والخلاصة: أنه لا يجوز للنساء قصد القبور للزيارة بحال، ولا يدخلن في عموم الإذن، بل الإذن خاص بالرجال، لما تقدم. والله أعلم.
(من الفتاوى المذاعة عام 84 هـ)(81/29)
بناء مظلة عند المقبرة للمعزين
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم رئيس ديوان جلالة الملك وفقه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فبالإشارة إلى المعاملة الواردة إلينا منكم برقم 15 / 11 / 1215 في 19 / 2 / 1377هـ، المختصة بطلب بلدية الطائف بناء مظلة عند المقبرة(81/29)
الواقعة جنوبي مسجد ابن عباس رضي الله عنهما، وما عارضت به رئاسة القضاء ورئيس هيئة الأمر بالمعروف بالطائف معللين بقصد اتخاذ المظلة مجلسا لعزاء المصاب بالميت وهو أمر لا ينبغي شرعا، وبأنه شيء لم يكن على عهد السلف، وربما يكون ذريعة إلى مفاسد أخرى.
وبتأمل ذلك، وجدت تلك المعارضة في محلها، وحينئذ ينبغي منع البلدية من بناء تلك المظلة. والله يحفظكم.
في 16 / 5 / 1377هـ(81/30)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز (رحمه الله)
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: امرأة عندها ذهب يبلغ النصاب، ولم تعلم بأنه تجب فيه الزكاة إلا بعد مضي حوالي خمس سنوات عليه عندها، فلما علمت بذلك أرادت أن تزكيه، ولا يوجد عندها غير هذا الذهب شيء. فماذا تفعل من أجل تزكيته بالنسبة للسنوات الخمس الماضية؟ هل تبيع جزءا منه أم ماذا تفعل؟ وكيف تفعل بالنسبة للسنوات القادمة؟ علما بأنها إن أرادت أن تزكي دفعة واحدة لا تستطيع إلا أن تبيع بعضه كل سنة حيث لا يوجد لديها دخل لا قليل ولا كثير.
ج: عليها أن تخرج الزكاة مستقبلا عن حليها كل سنة إذا بلغ النصاب، وهو عشرون مثقالا، ومقدارها بالجنيه السعودي أحد عشر جنيها وثلاثة أسباع الجنيه، وبالجرام اثنان وتسعون جراما، ولو بيع بعض الذهب أو غيره من أملاكها، فإن أداها عنها زوجها أو أبوها أو غيرهما بإذنها فلا بأس؛ وإلا فإن الزكاة تبقى دينا في ذمتها حتى تؤديها. وأما السنوات الماضية قبل علمها بوجوب الزكاة في الحلي فلا شيء عليها(81/31)
عنها؛ لجهلها وللشبهة في ذلك، لأن بعض أهل العلم لا يرى وجوب الزكاة في الحلي التي تلبس أو المعدة لذلك، ولكن الأرجح وجوب الزكاة فيها إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول، لقيام الدليل من الكتاب والسنة على ذلك. والله ولي التوفيق.(81/32)
يجب تكميل زكاة الحلي إذا كان المخرج أقل من الواجب
س: كنت بعد الزواج لا أعرف عن زكاة الذهب إلا أن ما يلبس لا تجب فيه الزكاة، ولذلك لم أزك على ذهبي؛ لأنه يلبس جميعه ولا يدخر، أما الآن وقبل أربع سنوات تقريبا سمعت من سماحتكم أن الذهب تجب فيه الزكاة سواء كان يلبس أو لا يلبس، لذلك أصبحت أزكي عليه، مع العلم أنني زكيت قبل سنتين دون أن آخذ الذهب وأزنه، وإنما زكيت على الهامش وأخرجت نقوده للمحتاجين، أما الآن فأخذت الذهب وذهبت به للصائغ ووزنه لي وأخبرني بزكاته فزكيت عنه، فما الحكم عن السنوات التي لم أزك فيها؟ وهل زكاتي التي زكيت بها على الهامش جائزة أم لا؟ أرجو نصحي وإرشادي؟ (1)
__________
(1) نشر في كتاب (مجموع فتاوى سماحة الشيخ) إعداد د. عبد الله الطيار، والشيخ أحمد الباز ج5، ص72.(81/32)
ج: تجب عليك زكاة الحلي من حين علمت الحكم الشرعي إذا كانت الحلي تبلغ النصاب، وهو عشرون مثقالا. ومقداره بالغرام اثنان وتسعون غراما، وبالجنيه السعودي أحد عشر جنينها ونصف كلما حال الحول.
والواجب ربع العشر، وهو خمسة وعشرون من الألف، تصرف لبعض الفقراء والمساكين.
والواجب عليك أن تكملي زكاة السنوات التي أخرجتها على الهامش يعني بالظن، إذا كان المخرج أقل من الواجب بعدما وزنت الحلي وعرفت سعره، مع التوبة إلى الله سبحانه عما حصل من التأخير. والله الموفق.(81/33)
لا يجب إخراج زكاة الحلي منها
س: يوجد عند أمي تسع حبات غوائش من الذهب وقلادة صغيرة وعدد من الخواتم وهي معدة للاستعمال، فهل عليها زكاة؟ وهل يجوز أن أؤدي الزكاة عن أمي من مالي؟ (1)
ج: إذا بلغت الغوائش المذكورة والقلادة والخواتم نصاب الزكاة وهو عشرون مثقالا، ومقداره بالجنيه السعودي أحد عشر جنيها ونصف،
__________
(1) استفتاء شخصي وقد صدرت الإجابة عنه من مكتب سماحته بتاريخ 6 / 5 / 1410هـ.(81/33)
ومقداره بالغرام اثنان وتسعون غراما، فإن عليها الزكاة في أصح قولي العلماء؛ لعموم الأدلة الشرعية، ولا يجب إخراجها منها بل لا مانع من إخراج الزكاة عنها من غيرها، ولا بأس أن تخرج الزكاة من مالك عن أمك إذا أذنت لك في ذلك وهي ربع العشر ومقدار ذلك خمسة وعشرون من الألف وخمسون من الألفين، وهكذا كلما زاد المال زاد الواجب. وأسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(81/34)
زكاة الحلي على مالكها
س: عند زوجتي ذهب تلبسه يبلغ النصاب، فهل فيه زكاة؟ وهل دفع زكاته واجب علي أم على زوجتي؟ وهل تخرج الزكاة منه أم يقوم بما يساوي القيمة ويزكي بموجبه؟
ج: الزكاة واجبة في الحلي من الذهب والفضة إذا بلغ وزنها النصاب، وهو عشرون مثقالا من الذهب ومائة وأربعون مثقالا من الفضة، ومقدار نصاب الذهب بالعملة الحالية أحد عشر جنيها سعوديا وثلاثة أسباع الجنيه، فإذا بلغ الحلي من الذهب هذا المقدار أو أكثر وجبت فيه الزكاة ولو كان يلبس في أصح قولي العلماء.
ومقدار نصاب الفضة بالريال السعودي ستة وخمسون ريالا، فإذا بلغت الحلي من الفضة هذا المقدار أو أكثر وجبت فيها الزكاة، والزكاة ربع(81/34)
العشر من الذهب والفضة وعروض التجارة، وهو اثنان ونصف في المائة، أو خمسة وعشرون في الألف، وهكذا ما زاد على ذلك.
والزكاة على مالكة الحلي، وإذا أداها زوجها أو غيره عنها بإذنها فلا بأس، ولا يجب إخراج الزكاة منه بل يجزي إخراجها من قيمته، كلما حال عليها الحول، حسب قيمة الذهب والفضة في السوق عند تمام الحول. والله ولي التوفيق.(81/35)
حكم زكاة الذهب بعد بيعه
س: سائلة تقول: أنا بعت ذهبا قديما لم أزكه من قبل، فأرجو أن توضحوا لنا كيف تكون زكاته؟ وإذا بعته بأربعة آلاف ريال (4000) هل أدفع الزكاة عن هذا المبلغ؟ (1)
ج: إذا كنت لم تعلمي وجوب الزكاة إلا بعد ذلك فلا شيء عليك، وإن كنت تعلمين ذلك فزكي هذه الأربعة في كل ألف خمسة وعشرون، وهي ربع العشر. وهكذا السنوات التي قبلها بحسب قيمة الذهب في السوق ذلك الوقت، ربع العشر من العملة المعروفة. أما إن كنت لا تعلمين ذلك إلا في السنة الأخيرة، فعليك الزكاة عن السنة الأخيرة عن كل ألف خمسة وعشرون، إذا كان الذهب الذي تم بيعه يبلغ وزنه عشرين مثقالا، ومقدارها أحد عشر جنيها ونصف الجنيه من العملة السعودية.
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) .(81/35)
كيفية زكاة الذهب المرصع بفصوص وأحجار كريمة
س: ما صفة إخراج زكاة الحلي إذا لم يكن الذهب فيها خالصا وحده بل مرصعا بأنواع عديدة من الفصوص والأحجار الكريمة فهل يحسب وزن هذه الأحجار والفصوص مع الذهب لأنه من الصعب فصل الذهب عنها؟ (1)
ج: الذهب هو الذي فيه الزكاة، وأما الأحجار الكريمة والماس فلا زكاة فيها إذا لم تكن للتجارة، فإذا كانت القلائد ونحوها فيها هذا وهذا، فينظر من جهة أهل الخبرة ويقدر ما فيها من الذهب، فإذا بلغ ما فيها من الذهب النصاب وجب أن يزكى، والنصاب عشرون مثقالا، ومقداره بالجنيه السعودي أحد عشر جنيها وثلاثة أسباع الجنيه، وبالجرامات (92) جراما فيزكى كل سنة، والواجب في ذلك ربع العشر ومقداره من كل ألف خمسة وعشرون، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم في الحلي من الذهب والفضة المعدة للبس أو العارية، أما إذا كانت للتجارة فالزكاة واجبة عن الحلي كلها وما فيها من الأحجار حسب القيمة كسائر عروض التجارة عند جمهور أهل العلم، وحكاه بعضهم إجماعا.
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته إجابة عن استفتاء شخصي.(81/36)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
من ينام عن الصلاة ثم يصليها بعد خروج وقتها
س: يقول لدي أخ أكبر مني يحافظ على صلاة الجماعة عدا صلاة العصر فإنه يتكاسل عنها ولا يصليها إلا بعد ساعة من دخول الوقت وقد نصحته، ولكنه يحتج بأنه متعب ويريد النوم فماذا أفعل معه؟
وكذلك أخ آخر أيضا يحافظ على الجماعة عدا صلاة الفجر، وذلك لثقل نومه، ولكن إذا رجعنا من الصلاة أيقظناه بشتى الوسائل فيصلي ولله الحمد. فهل عليه إثم وما حكم من نام عن صلاة الفجر إلى طلوع الشمس وكان هذا هو حاله في أكثر الأيام؟
الجواب: صلاة الجماعة واجبة في المسجد، ولا ينبغي للمسلم أن يشغله عن الصلاة شاغل بل يجعلها أهم أشغاله وإذا أعطى نفسه مناها واسترخى بعد العمل وبعد تناول الطعام فغلب عليه النوم فإن هذا تفريط منه ينبغي أن يكون يقظا حذرا بعيدا عن وساوس الشيطان الذي يثقل عليه الطاعة ويعسرها عليه، ويمنيه ويرغبه في الكسل والخمول حتى تفوته،(81/37)
وهذا من الحرمان، نسأل الله العافية.
فعليك أخي أن تحافظ على صلاة العصر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلى البردين دخل الجنة (1) » والبردان هما العصر والفجر. وأما أخوك الثاني الذي ينام عن صلاة الفجر حتى تطلع الشمس فهذا قد ارتكب خطأ عظيما فإن تأخير الصلاة عن وقتها بلا عذر شرعي هذا يرى قسم من العلماء أنه لا يقضيها ويعدونه قد وقع في ضلال عظيم، حيث يرونه أنه قد كفر بذلك والعياذ بالله. والنوم ليس عذرا على الدوام كحال من يتخذ النوم عادة يترك لأجلها الصلاة ويضيعها فهذا من الخطأ، ومن نام دائما عن صلاة الجماعة وبإمكانه القيام فلم يقم فهو آثم بلا شك ومخطئ. وأما أخوكم ثقيل النوم إذا أيقظتموه، ولم يستيقظ لثقل نومه والله يعلم منه ذلك وأنه يحتاج إلى وقت طويل ولا يؤثر معه المنبه، فأرجو من الله أن يعذره على ما يحصل من تقصير لكن عليه الاجتهاد وبذل الجهد لعل الله أن يعينه. وقد ذكروا أن صفوان بن معطل كان ثقيل النوم حتى إن النبي انتقل وأصحابه رضي الله عنهم من المكان الذي هم فيه وساروا ولم يشعر بذلك ولم يستيقظ إلا بحر الشمس دل على أن هذا ثقل نوم ملازم له والأمر الذي يخرج عن قدرة الإنسان يعذر به، فالله تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) .
__________
(1) البخاري مواقيت الصلاة (549) ، مسلم المساجد ومواضع الصلاة (635) ، أحمد (4/80) ، الدارمي الصلاة (1425) .
(2) سورة البقرة الآية 286(81/38)
كان الزوجان لا يصليان ثم التزما، فهل يجددان عقد الزواج؟
س: يقول تزوج رجل بامرأة وكانا لا يصليان حتى بعد الزواج، ولكن هداهم الله وبدأ الاثنان بالصلاة، فهل يجب عليهما تجديد العقد أو كيف توجهونهما؟
ج: أرجو الله لهما التوفيق وأن يرزقهما الله عملا صالحا يكفر الله به ما سبق من سيئات الأقوال والأعمال، ويثبتهما على الحق. وعليهما تجديد العقد، والالتزام بالصلاة؛ لأنها عظيمة، وتركها كفر في أصح قولي العلماء لظواهر الأدلة.(81/39)
زوجها لا يصلي رغم نصيحتها له، هل تستمر معه؟
س: سائلة تقول: زوجي لا يصلي وكلما أنصحه يقول: إن شاء الله سوف أصلي ونحن متزوجون منذ اثنتي عشرة سنة، ودائما يترك المنزل غضبا مني ويقول: لن أعود إلى المنزل حتى تعرفي كيف تتكلمين معي وتتركين مضايقتي بهذا الكلام وعندي خمسة أولاد هل أترك نصيحتي له أم كيف توجهونني جزاكم الله خيرا؟
ج: يا أختي واصلي نصيحته ولا يضرك كونه يغضب وكونه يترك المنزل وابقي مع أولادك وتولي تربيتهم وانصحي زوجك وأكثري من النصح له وامتنعي عن الفراش، فلعل ذلك من أسباب هدايته وتبصره في(81/39)
واقعه إن شاء الله، وإن علمت أحدا له تأثير عليه من أقاربك فاطلبي منه أن ينصحه، وعليك بالرفق في شأنك معه حتى يلين قلبه لقبول الحق.(81/40)
من مات وعليه صلاة
س: هل هناك كفارة من يموت، وعليه صلاة وما هي الكفارة وجهونا جزاكم الله خيرا؟
ج: الأصل أن الصلاة يجب أن يصليها المسلم على أي حال كان قائما، قاعدا، مضطجعا على جنبه، مستلقيا، ما دام العقل حاضرا، فيؤدي الصلاة على قدر استطاعته، وأما لو أغمي عليه وفقد عقله ومات في إغمائه فإنا نقول الصلاة سقطت عنه؛ لأنه أغمي عليه وفقد التكليف فلا يقضى عنه؛ لأن الصلاة لا تقبل النيابة ولا يكفر عنه، لكن بعض المرضى قد يشق عليه أن يصلي يقول أنا على غير طهارة أنا على غير قبلة، ملابسي قذرة نقول يا أخي هذه كلمة ليست أعذارا صل على قدر استطاعتك ولكن لو قدر أن هذا وقع ومات وهو يظن أنه لا تجب عليه الصلاة إلا إذا استكمل الطهارة وسائر شروط الصلاة فنقول لعل الله أن يعفو عنه والله يعلم بسره وعلانيته، ولا كفارة في ذلك ولا نيابة، وأمره إلى الله عز وجل.(81/40)
من ترك صلاة هل تقبل صلواته الأخرى؟
س: ماذا على الإنسان إذا ترك إحدى الصلوات كالفجر مثلا هل تقبل منه الصلوات الباقية وما نصيحتكم لمن يفعل ذلك؟
ج: أوجب الله عليك في يومك وليلتك خمس صلوات فإذا تركت فريضة بلا عذر من نوم أو نسيان فإنه يخشى عليك من عقوبة الله بل من العلماء من يقول من ترك فرضا متعمدا فإنه يكفر بهذا الأمر فإن الله أوجب عليك خمس صلوات فاجتهد أخي في المحافظة عليها وإن كان قد جرى منك شيء من ذلك فيما مضى فتب إلى الله في مستقبل عمرك وتقرب إليه بنوافل العمل واسأله العفو والتجاوز عما مضى مع المحافظة التامة على الصلاة فيما بقي من عمرك، لعل الله أن يقبل توبتك ويقيل عثرتك.(81/41)
س: سائلة من مصر تقول: زوج أختي لا يصلي وتزجره أختي كثيرا وتنصحه دائما فما موقف أختي الشرعي بالنسبة لهذا الزوج؟
ج: يجب على الأخوات المسلمات تقوى الله والتعامل مع أزواجهن ونصيحة الأزواج وحملهم على الخير فإن المرأة الصادقة المسلمة إذا اتقت الله وصبرت على زوجها وناصحته وجعلت نصحها ممزوجا بمحبة له حتى يرتاح منها ويقبل نصيحتها وتوجيهها وأخلصت لله نيتها فإني أرجو من الله أن يجعل على يديها أثرا في صلاح قلبه واستقامة حاله(81/41)
فإياك أيتها المسلمة أن تضجري من زوجك وإياك أن تسأمي بمجرد خطأ منه بل استعيني بالله وواصلي الخير وادعيه إلى الله بحكمة وموعظة حسنة ورفق ولين واغتنام لكل فرصة وإنك على أجر وفي جهاد، وأسأل الله أن يجعلك من الدعاة إليه على علم وبصيرة، وأما زجره وتعنيفه فهذا لا يليق بل هو مدعاة لنفرته وعدم قبوله للحق.(81/42)
س: سائلة من سوريا تقول: أخي مريض جدا ولم ينفع معه الدواء وحالته تسوء يوما بعد يوم، وأسأل فضيلتكم عن أدعية نبوية شريفة أتوجه بها إلى الله سبحانه وتعالى كي يستجيب دعاءنا ويشفي أخانا مع العلم أننا والحمد لله نصلي وندعو الله ليلا ونهارا حتى أذان الصبح راجين الله أن يستجيب دعاءنا، نرجو نصحكم وجزاكم الله خيرا؟
ج: أولا يا أختي انصحي أخاك بالصبر والاحتساب وذكريه أن المصائب سبب لحط الذنوب والخطايا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المؤمن من مصيبة حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه (1) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة (2) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فعليه السخط (3) » .
__________
(1) البخاري المرضى (5318) ، مسلم البر والصلة والآداب (2573) ، الترمذي الجنائز (966) ، أحمد (3/19) .
(2) الترمذي الزهد (2398) ، ابن ماجه الفتن (4023) ، أحمد (1/180) ، الدارمي الرقاق (2783) .
(3) الترمذي الزهد (2396) .(81/42)
فأوصوه بالصبر والاحتساب وأنتم كذلك والجئوا إلى الله واسألوه كشف الضر عن أخيكم، وابذلوا الأسباب النافعة من العلاج النافع بالقرآن والأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك أيضا عليكم مراجعة الأطباء المختصين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «تداووا عباد الله ولا تتداوو بحرام (1) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله من داء إلا أنزل دواء علمه من علمه وجهله من جهله (2) » والله جل وعلا قد ذكر لنا من دعاء أنبيائه عليهم السلام لما نزلت بهم الكربات، قال الله جل وعلا: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (3) ، قال الله عز وجل: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} (4) ، والله تعالى يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (5) ، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا يرد القضاء إلا الدعاء (6) » ، فالدعاء ينفع مما كان، ومما لم يكن، فالدعاء مطلوب من المؤمن، سواء تحقق مطلوبه بالشفاء أو عاد عليه الدعاء بخير، رفعة في درجاته أو حطا عن خطاياه أو دفعا لما هو أعظم من البلاء، ونسأل الله أن يشفي أخاك وسائر مرضى المسلمين.
__________
(1) أبو داود الطب (3874) .
(2) ابن ماجه الطب (3438) ، أحمد (1/413) .
(3) سورة الأنبياء الآية 83
(4) سورة الأنبياء الآية 84
(5) سورة النمل الآية 62
(6) الترمذي القدر (2139) .(81/43)
س: هل تجوز غيبة الذين لا يؤدون الصلاة إطلاقا والاستهزاء بهم؟
ج: الواجب عليك في هذه الحال نصيحة من لا يصلي وتذكيره بالله عز وجل وتبين له خطورة ترك الصلاة، فإن استجاب فالحمد لله،(81/43)
وإلا إن علمت أن نصيحة غيرك له أبلغ فاذهب وأخبره بالواقع بقصد النصح لا الشماتة والاغتياب المحض، وهذه الصور من الصور المستثناة من تحريم الغيبة بالإجماع.(81/44)
س: كانت جدتي لا تصلي وكنت أحاول معها كثيرا ولكن بدون فائدة لأنها كانت مريضة، وقد تجاوزت السبعين عاما وهي أمية وطيبة جدا، وقد أديت عنها العمرة في شهر رمضان، فهل تقبل هذه العمرة؟
أفيدونا جزاكم الله خيرا.
ج: إن كانت أمك حية فأكثر من نصيحتها وخوفها من الله ورغبها فيما عند الله وحثها على أداء الصلاة، وأن الصلاة تجب على المسلم سواء أكان صحيحا أو مريضا أو مسافرا أو مقيما خائفا أو آمنا يؤديها على قدر استطاعته ولا يحل له أن يعطل الفريضة بعذر أنه مريض، وواصل نصحها عسى الله أن يفتح على قلبها؛ وأما عمرتك عنها فإن كانت أمك لقيت الله وهي لا تصلي فإني أخشى ألا تنتفع بتلك العمرة؛ لأن من ترك الصلاة متعمدا فإنه لا ينفعه أي عمل وأما إن كانت حية فلعل الله أن ينفعها لكن بشرط أن تتبع ذلك بأداء الصلاة، فأما إذا أصرت على عدم الصلاة فإنه لا يقبل منها أي عمل إلا أن يكون مرضها خرفا نظرا لكبر سنها بحيث لا تدرك ولا تعي ما حولها فإنها معذورة وقد سقط عنها قلم التكليف بذلك، نسأل الله السلامة والعافية.(81/44)
س: امرأة لا تصلي إلا في رمضان وفي بعض الأيام، ولكنها، تتصدق وتساعد المحتاجين، فهل تارك بعض الفروض كافر وخارج عن الملة، وهل أعمال هذه المرأة الصالحة تكفر عنها وهل نأكل من طعامها؟
ج: صلاتها في رمضان وتركها الصلاة في خارج رمضان دليل على ضعف الإيمان في قلبها فكونه يمر عليها أشهر لا تصلي فيها وإنما تكتفي بالصلاة في رمضان دليل على جهلها وقلة إيمانها وقلة خوفها من الله، الواجب عليها أن تصلي لله في كل شهور العام في رمضان وفي غيره وتركها للصلاة في غير رمضان هذا خطير جدا فإن من العلماء من يقول إن من ترك صلاة متعمدا حتى خرج وقتها فإنه يكفر بذلك فيخشى عليها والعياذ بالله من الضلال، فالواجب عليها أن تتوب إلى الله وتحافظ على جميع الصلوات وصدقاتها وإحسانها مع تضييعها للصلاة لا ينفعها ولا يفيدها.(81/45)
س: تقول هل نأكل من طعامها؟
ج: الطعام غير اللحم يؤكل منه، أما الذبائح لو ذبحها من لا يصلي فلا يؤكل من ذبيحته.(81/45)
س: قرأت أن تارك الصلاة كافر وملحد، وقرأت أنه لا يخلد في النار غير المشركين بالله، فهل تارك الصلاة مخلد في النار، وهل يعتبر مشركا؟
ج: الأخت تسأل عن تارك الصلاة هل إذا قلنا بكفره يكون حكمه(81/45)
حكم عباد الأوثان، وحكم الملحدين الكافرين بالله خالدا مخلدا في النار أم لا؟ وتقول إنها قرأت أن عصاة الموحدين يخرجون من النار، نقول يا أختي أما عصاة الموحدين مرتكبو الكبائر فإنه إن تابوا إلى الله قبل الله توبتهم وإن لقوا الله بلا توبة فإن الله جل وعلا إن شاء عذبهم على قدر معاصيهم وإن شاء غفر لهم والله غفور رحيم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) ، لكن تارك الصلاة هذا له شأن آخر، فالصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام وقد اختلف العلماء في حكم تارك الصلاة أعني من تركها عامدا مع إقراره بوجوبها هل يكون هذا الترك كفرا ينقل عن الملة أم لا؟ أما كون تارك الصلاة يوصف بالكفر، هذا لا إشكال فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «بين العبد وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة (3) » لكن هل هذا الكفر كفر ينقل عن الملة ويخرج عن الإسلام أم لا؟ أجمع المسلمون على أن من أنكر أو جحد وجوب الصلاة فإنه يكفر الكفر الأكبر؛ لكن من أقر بوجوبها مع تركه لها فإن هناك خلافا بين العلماء في الحكم عليه، فمنهم من حكم عليه بالكفر الأكبر، وأخرجه بهذا من الإسلام، وقال إن النصوص أطلقت عليه الكفر في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (4) » وقول عمر رضي الله عنه: (ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة) والله جل وعلا جعل من صفات سكان النار عدم أداء الصلاة: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (5)
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) الترمذي الإيمان (2621) ، النسائي الصلاة (463) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، أحمد (5/346) .
(3) مسلم الإيمان (82) ، الترمذي الإيمان (2618) ، أبو داود السنة (4678) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، أحمد (3/389) ، الدارمي الصلاة (1233) .
(4) الترمذي الإيمان (2621) ، النسائي الصلاة (463) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، أحمد (5/346) .
(5) سورة المدثر الآية 42(81/46)
{قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (1) {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} (2) {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} (3) {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} (4) ، ومن العلماء من قال هذا كفر أصغر لا ينقل عن الملة وعلى كل حال فترك الصلاة مصيبة عظيمة وذنب عظيم يخشى على صاحبه أن يلقى الله على غير هدى، فالواجب تقوى الله والمحافظة على الصلوات الخمس والاهتمام بها.
__________
(1) سورة المدثر الآية 43
(2) سورة المدثر الآية 44
(3) سورة المدثر الآية 45
(4) سورة المدثر الآية 46(81/47)
س: إذا كان هناك إنسان متخلف عقليا وأبكم لا يستطيع الكلام ولا يفهم شيئا ويبلغ من العمر عشرين عاما فهل عليه صلاة وصيام أم أنه ليس عليه شيء من أحكام الإسلام، أفيدونا مأجورين؟
ج: الله جل وعلا جعل خطاب الشرع لأهل العقول، يقول الله عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1) فالذين يعقلون عن الله هم المكلفون بالأوامر الشرعية من صلاة وزكاة وصوم وحج وغير ذلك وأصل ذلك إخلاص الدين لله وإفراد الله بالعبادة، أما فاقد العقل فإنه لا شيء عليه، في الحديث: «رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يبلغ (2) » فمن تخلف عقليا فإنه غير مخاطب والله يعلم بحاله وأمره إلى الله لكنا في الدنيا لا نأمره لأن من شرط الأوامر أن يكون المأمور بالغا عاقلا وهذا غير عاقل فلا يخاطب بالشريعة.
__________
(1) سورة الرعد الآية 4
(2) الترمذي الحدود (1423) ، ابن ماجه الطلاق (2042) ، أحمد (1/140) .(81/47)
حكم بول الغنم وروثها
س: فضلات الأغنام هل تؤثر على طهارة الملابس وطهارة الجسم أم يجوز له أن يصلي وإن أصابه شيء من ذلك حفظكم الله؟ وجزاكم خيرا.
ج: الأصل أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهر، فالنبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم لما جاءه العرنيون وهم يريدون المدينة واجتووا المدينة فلم تناسب حالهم أمرهم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، فيدل ذلك على طهارة أبوال ما يؤكل لحمه وألبانها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل (1) » وليس أعطان الإبل لأجل نجاستها لكن خوفا من أن يتأثر المصلي بشيء من أجزائها لما فيها من الغلظة والشراسة، وقال صلوا في مرابض الغنم، فلما أذن بالصلاة في مرابض الغنم، دل على طهارة بول الغنم وروثه فما أصاب الثوب من ذلك فإنه ليس بنجس.
__________
(1) الترمذي الصلاة (348) ، ابن ماجه المساجد والجماعات (768) ، الدارمي الصلاة (1391) .(81/48)
بقاء بقع النجاسة بعد الغسل
س: ما حكم الصلاة في ثوب فيه بقع من جرح دم علما بأن الثوب قد غسل وجف ولكن ما زالت آثاره باقية جزاكم الله خيرا.
ج: النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء رضي الله عنها في دم(81/48)
الحيض: «ثم تقرصيه ثم تنضحيه بالماء ثم تصلي فيه (1) » وفي لفظ قالت يا رسول الله إن لم يذهب قال: «يكفيك الماء ولا يضرك أثره (2) » فإذا غسلت الثوب وغسلت بقع الدم واجتهدت في غسلها ولكن هذه البقع لم تذهب بعد غسلها، فلا يضرك بقاء الأثر.
__________
(1) البخاري الحيض (301) ، مسلم الطهارة (291) ، الترمذي الطهارة (138) ، النسائي الطهارة (293) ، أبو داود الطهارة (361) ، ابن ماجه الطهارة وسننها (629) ، أحمد (6/346) ، مالك الطهارة (136) ، الدارمي الطهارة (772) .
(2) أبو داود الطهارة (365) ، أحمد (2/364) .(81/49)
طهارة المكان
س: لا أصلي عند الجيران أو الأقارب لأنني دائما أخاف وأشك أن يكون المكان الذي أصلي فيه غير نظيف والسجادة التي أصلي عليها غير طهارة مع العلم بأن أقاربي وجيراني يصلون وبيوتهم نظيفة والحمد لله ولكنني في حالة شك دائما، أرجو أن توضحوا لي هذا الموضوع جزاكم الله خيرا ولا سيما وقد قرأت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الموضع الذي يبول فيه الحسن والحسين رضي الله عنهما فقالت له عائشة ألا تخص لك موضعا من الحجرة أنظف من هذا؟ فقال: يا حميراء أما علمت أن العبد إذا سجد لله سجدة طهر الله موضع سجوده إلى سبع أرضين؟
ج: هذا من الضعف ومن سيطرة الشيطان ووساوسه فالشيطان تغلب عليك في هذا الجانب وسيطر عليك بوساوسه وأوهامه وإلا فالأصل أن الأرض طهور ما لم يعلم أن تلك البقعة فيها نجاسة وإلا فالأصل(81/49)
طهارة الأرض يقول صلى الله عليه وسلم في بيان خصال اختصه الله بها: «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل (1) » وفي لفظ: «فعنده مسجده وطهوره (2) » فالأرض الأصل فيها الطهارة فلا تحكم على بقعة بنجاسة إلا إذا وجدت عين النجاسة فيها وإلا فالأصل طهارة عموم الأرض وكذلك السجاد الذي عند جيرانك الأصل طهارته ما لم تري عليه نجاسة، وأما دعوى أن الأطفال ربما مروا به وربما رمي عليه حذاء متلوث من دورات المياه كما يتوهم البعض فكل هذه أمور لا أثر لها.
وأما ما ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم في الموضع الذي بال فيه الحسن والحسين وأن عائشة اقترحت عليه بقولها: لو اتخذت موضعا غيره، قال: إن العبد إذا سجد لله سجدة طهر الله موضع سجوده إلى سبع أرضين. فلعل هذا حديث موضوع لا أصل له؛ لأن الأصل طهارة الأرض ولكن إذا وجدنا بقعة فيها نجاسة، فالواجب أن نترفع عنها ونصل في موضع نقي أو نزيل تلك النجاسة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بال الأعرابي في المسجد أمر بذنوب من ماء فصب على ذلك المكان، ولأنا نهينا عن الصلاة في الحشوش، لأن فيها النجاسة، فالمقصود أن البقعة من الأرض إذا علمنا وجود نجاسة فيها طهرناها قبل أن نصلي عليها أما أن نصلي عليها والنجاسة معلومة فهذا غير جائز.
__________
(1) البخاري التيمم (328) ، مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، النسائي الغسل والتيمم (432) ، أحمد (3/304) ، الدارمي الصلاة (1389) .
(2) أحمد (5/248) .(81/50)
من فتاوى
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
من الفتوى رقم 6397
السؤال الثاني: هدم المسجد وإعادة بنائه، أو نقله إلى مكان قريب؟
ج: الأصل جواز ذلك، إذا كان لأسباب شرعية ومصلحة إسلامية راجحة، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(81/51)
الفتوى رقم 8112
إني والدي بنى مسجدا في أحد أحياء مكة المكرمة بكامل إمكانياته، ومازال الآن ينفق على المسجد كمرتب الإمام والمؤذن واستهلاك الكهرباء(81/51)
والماء وغير ذلك من مصاريف المسجد، وعلما أن المسجد في الدور الأرضي ومدفون بالدمار ما حوالي المسجد، والآن والدي نوى هدم المسجد وبناءه مرة أخرى، والسبب الرئيسي لهدم المسجد وبنائه مرة أخرى هو أن ما حول المسجد مدفون بالدمار الذي دفن المسجد مع سيول الأمطار، وارتفاع المسجد الآن 3 أمتار إذا دفنا المسجد متر واحد في البناء الذي نحن فيه الآن يبقى من ثلاثة أمتار متران فقط، والمتران لا تمكن من تركيب المراوح وغير ذلك من مستلزمات المسجد، وإذا هدمنا المسجد ينبغي لنا أن نبني من جديد بالصفة التالية:
1- قبل كل شيء يدفن المسجد بعد الهدم بمتر واحد لكي يرتفع المسجد.
2- الدور الأرضي يكون الثلث الواحد مكانا للوضوء أي دورات للمياه والدرج؛ لأن في البناية القديمة ليس فيه موضع للوضوء، والثلثان الباقيان في الدور الأرضي تكون دكاكين ويصرف بإيجار الدكاكين مصاريف المسجد اليوم وغدا وبعد ممات والدي.
3- الدور الأول يكون المسجد كما كان ويليه المنارة.
4- المسجد يعرف بمسجد حسين نجار.
وأرجو الفتوى على ذلك من سماحتكم الكريم هل يجوز لوالدي أن يفعل كما نوى لهدم المسجد وبنائه بالتفصيل المذكور بأعلاه أرجو من سماحتكم الفتوى والإفادة؟
ج: إذا كان الواقع كما ذكرتم فلا بأس بذلك من أجل المصلحة المذكورة.(81/52)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(81/53)
الفتوى رقم 13347
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة الرئيس العام من مدير الإدارة العامة للأوقاف والمساجد بمنطقة حائل والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم 5755 في 17 / 10 / 1410هـ وقد سأل المستفتي عن حكم هدم مسجد قديم تم بناؤه من أثلاث الموتى في قرية صدى، وقد أرفق بالمعاملة محضرا من مندوب الوزارة ومن مدير الإدارة العامة للأوقاف والمساجد بحائل، وقد جاء فيه ما نصه: في يوم السبت الموافق 6 / 8 / 1410هـ قد اطعلنا على المعاملة الواردة من إمارة منطقة حائل رقم 5 / 2 / 16755 / 1 في 2 / 8 / 1410هـ بتوقيع سمو أمير منطقة حائل لف (38) الخاصة بموضوع هدم وإعادة بناء جامع قرية صدى. والذي أفاد سموه بأنه لا مانع من هدم الجامع وإعادة بنائه وإفهامهم رغبة سموه بذلك.(81/53)
وحيث قد جرى عرض رغبة سموه بذلك على المذكورين إلا أن المعارضين وهم: هـ. خ، وخ. ش، وف. ش، وأبدوا عدم قبولهم لذلك، وعدم هدم المسجد ورغبتهم بقاءه حتى يتم إنهاء الموضوع شرعا بفتوى القاضي أو إصدار فتوى من الشيخ ابن باز بذلك - بحضور المذكورين ومندوب الوزارة جرى تحرير هذا المحضر تقريرا للواقع وبالله التوفيق.
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بأنه لا مانع من هدم المسجد القديم في قرية صدى وتعميره على الطراز الحديث؛ لما في ذلك من المصلحة العامة لأهل القرية وغيرهم، وأما الذين بنوا الأول فأجرهم كامل ولا ينقطع بتجديده. ونسأل الله أن يغفر للموتى ويوفق الأحياء لفعل الخيرات وأن يهدي الجميع لما يحب ويرضى.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(81/54)
من الفتوى رقم 2922
السؤال الثاني عشر: هل يجوز شراء محلات الخمر والرقص واستعمالها مساجد ومعابد؟(81/54)
ج: نعم يجوز شراؤها واتخاذها مساجد؛ لأن في ذلك استعمالها فيما هو خير مما كانت متخذة له ومستعملة فيه، والخبث ليس وصفا لازما لهذه الأماكن لذاتها، وإنما عرض لها من أجل ما اتخذت له، فإذا استعملت في الخير واتخذت له ذهب خبثها وصارت مواضع خير.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(81/55)
من الفتوى رقم 11967
السؤال الأول: هل يجوز بناء مسجد أو تحويل بناء إلى مسجد في منطقة أو مدينة يتوقع خلوها من المسلمين بعد حين؟ حيث إنه في أمريكا يقيم الطلاب المسلمون مسجدا في منطقة معينة، فإذا تخرجوا وعادوا إلى بلادهم يبقى المسجد مهجورا أو شبه مهجور؟
ج: يبنى أو يحول بناء إلى مسجد لما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين الموجودين، ولما في ذلك من إظهار شعائر الإسلام، ولما يرجى بسبب ذلك من كثرة المسلمين ودخول بعض أهل البلد في الإسلام.(81/55)
السؤال الثاني: تم شراء مبنى وحول إلى مسجد ثم ضاق(81/55)
بالمسلمين فتحولوا عنه، أو خلا البلد من المسلمين فهل يجوز بيعه؟ إذا جاز ذلك فمباذا تصرف الأموال المتحصلة من ذلك؟
ج: يجوز بيعه ويصرف ثمنه في تعمير مسجد أوسع منه، فإن لم يكن هناك حاجة صرف الثمن في تعمير مسجد آخر ولو في مدينة أخرى محتاجة أو قرية أخرى محتاجة إلى ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(81/56)
الفتوى رقم 2789
س: نعرض لسماحتكم أننا نقوم حاليا ببناء مسجد على طريق خريص بالنسيم بموجب الفسح المرفق، وأقمنا الدور الأرضي وفوقه الدور الأول، إلا أنه تبين لنا ضرورة زيادته بدور آخر ليكون دورا أرضيا وأولا وثانيا؛ وذلك لازدحام المنطقة بالسكان وقلة المساجد فيها فتقدمنا لأمانة مدينة الرياض بطلب فسح الدور الثاني فلم يوافقوا بحجة أنه لا يجوز شرعا، فنأمل إفادتنا هل يصح شرعا إقامة المسجد من أكثر من(81/56)
دورين؟
ج: يجوز أن يقام المسجد من دورين أو أكثر إذا دعت الحاجة على ذلك، ويلاحظ أثناء الصلاة فيه تأخر المأمومين عن الإمام مع القرب منه حسب الإمكان للأدلة الدالة على أفضلية الصف الأول فالأول، والدنو من الإمام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(81/57)
من الفتوى رقم 9373
السؤال الخامس: هل تجوز الصلاة في مسجد مبني من دورين لا يوجد فيه فتحة سوى فتحة الدرجة فقط، وليست على رأس المحراب ولا يرى الإمام المأمومون؟
ج: يجوز ذلك إذا كان هذا الطابق تابعا للمسجد، وينبغي أن توضع فيه فتحة قرب الإمام حتى يسمعوا صوت الإمام إذا انقطع التيار الكهربائي.(81/57)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(81/58)
الفتوى رقم 13481
س: إذا تبرع شخص بمبلغ من المال عنه وعن أهله في بناء مسجد مع جماعة فهل تعتبر صدقة جارية لكل شخص منهم؟
ج: بذل المال في بناء المسجد أو المشاركة في بنائه من الصدقة الجارية لمن بذلها أو نواها عنه إذا حسنت النية وكان هذا المال من كسب طيب.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(81/58)
الفتوى رقم 6086
س: لقد قمت بالإشراف على عمارة أحد المساجد بالزلفي، وجمعت النفقة اللازمة لعمارته من المحسنين، وقد اكتمل المسجد بجميع مرافقه وبقي عندي مبلغ من المال الذي جمعته لعمارته يقارب الستين ألفا، فهل يجوز لي أن أصرف هذا المبلغ في عمارة مسجد آخر نظرا لاستغناء المسجد الذي جمع له عنه أرجو الإفادة؟
ج: يجوز لك إنفاق المال المتبقي عندك من عمارة المسجد الذي أشرفت عليه في مسجد آخر إذا كان المسجد الأول ليس بحاجة إليه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(81/59)
الفتوى رقم 12261
س: نفيدكم أننا جماعة مسجد جامع ابن ماجد بحي ظهرة البديعة قمنا بجمع مبلغ من المال على دفعتين من المصلين بعد صلاة(81/59)
الجمعة بقصد شراء مكيفات للمسجد وبلغت حوالي خمسين ألفا. ولكن المبلغ لم يف بالغرض فتكفل أحد المصلين بعرض الموضوع على صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد «سابقا وخادم الحرمين الشريفين حاليا حفظه الله» فوافق سموه على تحمل جميع تكاليف المشروع البالغة حوالي 300 ألف ريال. والآن الأموال السابقة التي قمنا بجمعها من المصلين بقيت لدينا ونريد تحويلها للنفقة على مرافق المسجد من شراء ساعات وحوامل مصاحف وستائر للفصل بين مدخل الرجال وبين مدخل النساء وغير ذلك.
والسؤال: هل يجوز تحويل المبلغ المتبقي من غرضه السابق إلى غرضه الحالي، وهل يشترط لذلك موافقة المتبرعين علما بأننا لا نستطيع معرفتهم، وإذا كان الجواب بعدم الجواز فكيف نتصرف بالمبلغ؟
نرجو إفادتنا بما ترونه، وفيما يراه سماحتكم الخير والبركة إن شاء الله.
ج: الواجب صرف المال المذكور في مثل ما تبرع به لأجله وهو شراء مكيفات لمسجد آخر محتاج حتى يتحقق مقصود المتبرعين.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(81/60)
البحوث(81/61)
مقاصد دراسة التوحيد وأسسها
لفضيلة الدكتور: محمد بن عبد الرحمن أبو سيف الجهني
مقدمة:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه دراسة نقرر بها مقاصد دراسة التوحيد، وهي مقاصد تقوم على أسس علمية لا تتحقق إلا بها، وسنذكر لكل مقصد أسسه، مبينين وجه كون كل منها أساسا، وأدلة كونه كذلك.
ومقاصد دراسة التوحيد أربعة هي:
1- معرفته والعلم به.
2- العمل به.
3- الاجتماع عليه.
4- الدعوة إليه.(81/63)
وعلى هذه الأربعة تقوم خطة البحث، وهذه المقاصد وأسسها نبه إلى معظمها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في عدد من تآليفه كالمسائل الأربعة (1) ، والقواعد الأربعة (2) ، والأصول الستة (3) ، والمسائل الثلاث (4) ، وتفسير كلمة التوحيد (5) ، والحالات الثمان (6) ، والرسالة في توحيد العبادة (7) ، وقد هذبتها في هذا التقريب بترتيب وتأليف وتعليق اتكأت في غالبه على كلام الشيخ محمد وضممت إليه شيئا من البيان.
وظننت عملي هذا نافعا ينشئ فائدة لمن يطلع عليه، فرغبت في نشره رجاء أن يصدق ظني هذا.
وأقول ما قال الحريري في ملحته:
وإن تجد عيبا فسد الخللا ... فجل من لا عيب فيه وعلا
وأسأل الله صلاح القصد وجزيل الأجر. وله الحمد أولا وآخرا لا شريك له.
__________
(1) انظرها في مؤلفات الشيخ - القسم الأول «العقيدة والآداب الإسلامية» ص185.
(2) انظرها في مؤلفات الشيخ - القسم الأول ص197 - 202.
(3) انظرها في مؤلفات الشيخ - القسم الأول - ص393 - 397.
(4) انظرها في مؤلفات الشيخ - القسم الأول - ص374 - 375.
(5) المرجع السابق ص363 - 369.
(6) المرجع السابق 390 - 392.
(7) المرجع السابق ص398 - 399.(81/64)
المبحث الأول:
معرفة التوحيد والعلم به:
معرفة التوحيد والعلم به نوعان:
الأول: معرفة حقيقته وأصله وهي إقامة الوجه لله بكمال المحبة مع كمال الذل، وهذا علم مطلوب لذاته فهو في نفسه غاية مطلوبة ومقصد مقصود تنشأ ثمرته المطلوبة منه من نفسه، وإنما كان غاية مقصودة لذاتها لأمور:
1 - لتعلقه بذات الله عز وجل فهو حقه سبحانه على عباده قال صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (1) » والله يعبد لذاته سبحانه.
2 - لأن الله خلق الخلق ليبتليهم فيه ويأمرهم به فهو الغاية من خلقهم، قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) .
3 - لأن عليه مدار الأعمال فلا تقبل إلا به ولا معنى لها إلا به قال الله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (3) .
__________
(1) متفق عليه، البخاري مع الفتح 6 / 58 رقم 2856، مسلم 1 / 58 رقم 49.
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة محمد الآية 19(81/65)
4 - لأن عليه مدار الجزاء قال صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ: «حق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا (1) » .
الثاني: معرفة فروعه وهي الطاعات فهذا علم وسيلة يمارس به التوحيد ويحقق ويكمل، ومعرفة نواقضه القادحة في أصله أو في كماله وهذا علم وسيلة يحفظ به التوحيد وبه حرزه وصيانته.
ومعرفة التوحيد والعلم به هو المقصود الأول من مقاصد دراسة التوحيد، وتحققه أسس لا يحصل العلم بالتوحيد إلا بحصولها ومن لم يحصلها لم يعرف التوحيد ولم يحصله وهذه الأسس هي:
الأساس الأول: العلم بأن التوحيد أول واجب على العبد، وقد قررت هذا الأساس أدلة الشرع، فدل عليه كتاب الله من وجوه:
1 - الإخبار العام: قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) فأعلن سبحانه أن الخلق إنما خلقوا للتوحيد يؤمرون به ويبتلون فيه قال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (3) .
__________
(1) متفق عليه، البخاري مع الفتح 6 / 58 رقم 2856، مسلم 1 / 58 رقم 49.
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة الملك الآية 2(81/66)
2 - الأمر بالتوحيد أولا، فأول أمر ورد في المصحف قوله سبحانه {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (1) وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (2) وقال {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) وقال: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ} (4) وقال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (5) وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (6) وقال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} (7) وقال لموسى عليه السلام في ابتداء الرسالة: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (8) فابتدأه بالأمر بالتوحيد.
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة التوبة الآية 31
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة الرعد الآية 36
(5) سورة الزمر الآية 11
(6) سورة يوسف الآية 40
(7) سورة الأنعام الآية 102
(8) سورة طه الآية 14(81/67)
3 - دلت الآيات أن الرسل إنما دعت إلى التوحيد وخاطبت أقوامها به، وهذا جاء في الآيات مجملا ومفصلا، أما المجمل فمنه قوله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) وقوله: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} (3) ففي هؤلاء الآيات الإخبار بأن جميع الرسل إنما دعت إلى التوحيد وأمرت به وابتدأت أقوامها بذلك، أما المفصل فقد ذكرت الآيات ذلك في آحاد دعوات الرسل فمن ذلك قوله سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (4) وقوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (5) وقوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (6)
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة الأحقاف الآية 21
(4) سورة المؤمنون الآية 23
(5) سورة الأعراف الآية 65
(6) سورة الأعراف الآية 73(81/68)
وقوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) وقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} (2) وقوله: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} (3) وقوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} (4) .
وأما السنة فقد وردت الأحاديث مصرحة ودالة على كون التوحيد أول واجب على العبد، فمن هذه الأحاديث:
- حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل الكتاب في اليمن قال له: «فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله (5) » .
- وقال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (6) » .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 85
(2) سورة العنكبوت الآية 16
(3) سورة المائدة الآية 72
(4) سورة المائدة الآية 117
(5) أخرجه البخاري، انظر الصحيح مع الفتح 13 / 347 رقم 7372.
(6) متفق عليه، البخاري مع الفتح 6 / 111 رقم 2946، مسلم 1 / 52 رقم 21.(81/69)
- وفي حديث أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله ورأى أسامة أنه إنما قالها تعوذا قال صلى الله عليه وسلم: «يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله (1) » كررها صلى الله عليه وسلم.
وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة أنهم قبلوا من جفاة العرب ممن كان يعبد الأوثان الإقرار بالشهادتين وحكموا بإسلامهم بذلك وكان يؤذن لكثير منهم في الرجوع إلى معاشه من رعاية غنم وغيرها (2) ، يقول ابن حجر: «وفي كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وكسرى وغيرهما من الملوك يدعوهم إلى التوحيد، إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة التواتر المعنوي الدال على أنه صلى الله عليه وسلم لم يزد في دعائه المشركين على أن يؤمنوا بالله وحده ويصدقوه فيما جاء به عنه فمن فعل ذلك قبل منه (3) » .
ثم إن التوحيد شرط لصحة وقبول العبادات جميعها إن وقع شيء من الشرك في شيء منها حبطت كما قال الله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) وقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5) وفي الحديث القدسي: «أنا أغنى
__________
(1) متفق عليه، البخاري مع الفتح 7 / 117 رقم 4269 ومسلم 1 / 97 رقم 96.
(2) انظر فتح الباري 13 / 352.
(3) الفتح 13 / 353.
(4) سورة الأنعام الآية 88
(5) سورة الزمر الآية 65(81/70)
الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (1) » ، وتحصيل الشرط يسبق تحصيل المشروط، ولا يكون المشروط إلا بشرطه، فيكون الشرط أول ما يحصل.
ويشهد لهذا الأساس أعظم شهادة، ويقرره أثبت تقرير، العلم بأن توحيد الله في ربوبيته لا يكفي في حصول الإسلام فالمشركون الذين بعث فيهم الرسل كانوا مقرين لله بالربوبية يفردونه بها ولا يشركون معه غيره فيها، شهد الله لهم بهذا الإيمان فقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (2) وهذا الإيمان الذي وصفهم به هنا هو الذي شرحه في آيات منها قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (3) فهم كانوا يوحدون الله في ربوبيته ومع هذا لم يقبل الله منهم بل بعث فيهم الرسل حتى قال خاتمهم صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله (4) » .
وإنما كان العلم بأن التوحيد الربوبية وحده لا يكفي في حصول الإسلام ولا يحرم دما ولا مالا محققا لهذا الأساس من أسس العلم بالتوحيد لأن غاية ما يحصل بتوحيد الربوبية معرفة الله تعالى، ومعرفة الله متحصلة
__________
(1) أخرجه مسلم 4 / 2289 رقم 2985.
(2) سورة يوسف الآية 106
(3) سورة يونس الآية 31
(4) البخاري الإيمان (25) ، مسلم الإيمان (22) .(81/71)
بالفطرة، هي في أصل فطرة الخلق، خلق الله خلقه بها بل أخذ عليهم الميثاق عليها: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} (1) إنما أجابوا «بلى» لسبق المعرفة، فاجتمع في معرفة الخلق بربهم وتوحيدهم له في ربوبيته الفطرة والميثاق فلم يبق إلا العمل لله والتوجه له بالعبادة، ومن هنا كان التوحيد أول واجب على العبد فإن من عرف ربه لزمه التعبد له.
الأساس الثاني: معرفة معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله فإنها شعار الملة وقاعدة التوحيد، دل تركيبها على التوحيد المراد لله المطلوب من العبد أبلغ دلالة، وفي معرفة معنى كلمة التوحيد قاعدتان العلم بهما هو العلم بالتوحيد، من لم يحصلها لم يحصل التوحيد وهما:
أولا: العلم بأنه لا توحيد إلا بنفي وإثبات، نفي جنس الإلهية وجميعها عما سوى الله وإثباتها لله وحده، ولا بد من اجتماع هذا النفي وهذا الإثبات لحصول التوحيد، فإن الشرك إثبات الألوهية لله مع إثباتها أو شيء منها لغيره معه، فمن أثبت الألوهية لله لا يكون موحدا حتى ينفيها عما سواه، وعلى هذا ركبت كلمة التوحيد، فأولها نفي لا إله وآخرها إثبات إلا الله أولها تخلية وآخرها تحلية، نسخت ثم رسخت، سلبت ثم أوجبت، نقضت ثم
__________
(1) سورة الأعراف الآية 172(81/72)
عقدت، أفنت ثم أبقت، وفي تركيب كلمة التوحيد تحقيق القصر والحصر، قصر الألوهية على الله وحده وحصرها له دون سواه، وهذا القصر والحصر جاء في كلمة التوحيد من وجهين:
1 - تقديم الصفة (إله) على الموصوف (الله) فقولنا الإله الله فيه حصر وتخصيص كقولك «المنطلق زيد» .
2 - إدخال حرفي النفي والاستثناء فصار (لا إله إلا الله) فأفاد الكلام قصر الصفة على الموصوف، وإثبات حكمها له ونفيه عما عداه سبحانه (1) .
وفي هذا القصر والحصر إفراد الله عز وجل بالألوهية، والإفراد يمنع جميع أصناف الشركة فهو يمنع التثنية ولذا قال سبحانه: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (2) وهو يمنع التثليث قال سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (3) وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} (4) وهو يمنع الكثرة، قال سبحانه: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} (5)
__________
(1) انظر الكليات للكفوي ص972.
(2) سورة النحل الآية 51
(3) سورة النساء الآية 171
(4) سورة المائدة الآية 73
(5) سورة الصافات الآية 86(81/73)
وقال: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (1) وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} (2) .
وحسم الله أمر الإفراد بقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (3) .
وهذا النفي والإثبات تواردت على تقريره نصوص الشرع، قال سبحانه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (4) وقال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (5) وقال سبحانه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} (6) وهذا النفي والإثبات هو خلاصة دعوة الرسل مبتدؤها ومنتهاها قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (7) ، {اُعْبُدُوا اللَّهَ} (8) إثبات و {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (9) نفي.
__________
(1) سورة يوسف الآية 39
(2) سورة الأنبياء الآية 24
(3) سورة التوبة الآية 31
(4) سورة البقرة الآية 256
(5) سورة النساء الآية 36
(6) سورة آل عمران الآية 64
(7) سورة النحل الآية 36
(8) سورة النحل الآية 36
(9) سورة النحل الآية 36(81/74)
ثانيا: العلم بأن كلمة التوحيد لا تنفع قائلها إلا بشروط، هذه الشروط هي حقوقها الواجبة لها اللازمة من قولها، فمن قال: لا إله إلا الله ولم يحقق هذه الشروط لم يحققها، ولذلك سمي قولها شهادة، لأنه لا يكون الخبر شهادة حتى يكون مع علم قاطع مستجمع لشروط الثبوت (1) ، ولذلك كذب الله المنافقين لما قالوا {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (2) قال الله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (3) لأنهم لم يأتوا بحقوقها، فتسمية قول: لا إله إلا الله شهادة، دال على أن مجرد قولها من غير قيام بحقوقها ليس هو الشهادة التي يريدها الله من عباده ولذلك قيد الشرع الإخبار عن أنه لا إله إلا هو بلفظ الشهادة قال الله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} (4) ، وفي حديث ابن عمر «بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله.... (5) » الحديث، وفي الحديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله ... (6) » الحديث.
__________
(1) انظر مدارج السالكين 3 / 450.
(2) سورة المنافقون الآية 1
(3) سورة المنافقون الآية 1
(4) سورة آل عمران الآية 18
(5) متفق عليه، صحيح البخاري مع الفتح 1 / 49 ح8، ومسلم 1 / 45 ح16.
(6) تقدم تخريجه.(81/75)
وقد فسرت النصوص شروط لا إله إلا الله التي يصح بها قول أشهد أن لا إله إلا الله واستقرأها بعض أهل العلم فبلغت سبعة شروط اتفقت كلمة أهل العلم على اعتبارها - لقيام أدلة الكتاب والسنة لكل واحد منها - شرطا معتبرا في تحقيق الشهادة بأن لا إله إلا الله، وهذه الشروط هي:
• العلم المنافي للجهل، وإنما كان العلم شرطا؛ لأن من يقول ما لا يعلم معناه لا فائدة من كلامه فلا بد للقائل أن يعلم ما يقول، ومن قالها مقلدا تقليدا تاما كليا بدون فهم لما دلت عليه ولا علم بما وضعت له لم ينفعه قولها.
• اليقين المنافي للشك والتردد السالم من الشبهات، وإنما كان شرطا لأن العلم لا يكمل إلا به فليس كل من علم شيئا استيقنه.
• القبول المنافي للرد سواء كان عن عناد أو إباء أو استكبار أو إعراض، وإنما كان شرطا، لأن به تمام اليقين فمن تيقن الشيء ثم لم يقلبه نقض رده يقينه فلم ينفعه يقينه شيئا.
• الانقياد المنافي للترك، وإنما كان شرطا، لأن به تمام القبول لأن من قبل ولم ينقد لا ينفعه قبوله شيئا.
• الصدق المنافي للكذب المانع من النفاق، وإنما كان شرطا، لأن به صحة الانقياد فمن انقاد من غير صدق كان منافقا.(81/76)
• المحبة المنافية لضدها وإنما كانت شرطا، لأن بها تمام الصدق، فمن صدق بها ثم لم يحبها قدح ذلك في تصديقه.
• الإخلاص المنافي للشرك وهو شرط الشروط فإن من قبل وانقاد وصدق وأحب ملاحظا غير الله ملتفتا إليه مع الله لم ينفعه ذلك شيئا.
فهاتان القاعدتان من لم يعرفهما لم يعرف معنى كلمة التوحيد ومن لم يعرف معنى كلمة التوحيد لم يعرف التوحيد الواجب واشتبه عليه التوحيد بالشرك كما هو حال كثير ممن يظن أن مجرد قول لا إله إلا الله عاصم من حكم الشرك وجزائه وإن تلبس به.
الأساس الثالث: العلم باقتضاء العلم للعمل، وذلك «أن العلم يراد للعمل فإنه بمنزلة الدليل للسائر فإذا لم يسر خلف الدليل لم ينتفع بدلالته، فنزل منزلة من لم يعلم شيئا، لأن من علم ولم يعمل بمنزلة الجاهل الذي لا يعلم، كما أن من ملك ذهبا وفضة وجاع وعري ولم يشتر منها ما يأكل ويلبس فهو بمنزلة الفقير العادم» (1) ، وقد رتب الله على العلم بالتوحيد العمل به فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (2) قاله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقال سبحانه لموسى عليه السلام:
__________
(1) ما بين القوسين من كلام ابن القيم في مفتاح دار السعادة 1 / 344.
(2) سورة محمد الآية 19(81/77)
{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (1) وهو كقوله لمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى هذا تواردت رسالات الرسل جميعا إلى أقوامهم كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) فرتب على العلم العمل، والعمل بالتوحيد هو الغاية المطلوبة فمن لم يعلم ذلك لم يعلم التوحيد حق العلم وعاد علمه جهلا.
__________
(1) سورة طه الآية 14
(2) سورة الأنبياء الآية 25(81/78)
المبحث الثاني: العمل بالتوحيد:
هذا هو المقصد الثاني من مقاصد دراسة التوحيد، وهو جوهر التوحيد، وهو الصراط المستقيم المتوسط بين طريقي الزيغ والضلال فإن أهل الباطل على أحد طريقين: إما على علم من غير عمل وهذه حال المغضوب عليهم وإما على عمل من غير علم وهذه حال الضالين، والوسط بينهما هو العمل على علم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (1) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (2) ولهذا المقصد أسس يتحقق بها، من لم يحصلها لم يحصله.
الأساس الأول: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى شهادة أن محمدا رسول الله ومقتضاها، فإن الله جعل التعبد له بطاعة رسوله فلا عبادة إلا ما ورد عن طريقه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 6
(2) سورة الفاتحة الآية 7(81/78)
رد (1) » وقال: «خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم (2) » وقال: «عليكم بسنتي (3) » وقد قال الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (5) وقد تكرر كثيرا في كتاب الله ذكر طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه كقوله {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (6) ولا توحيد إلا ما جاء به صلى الله عليه وسلم.
والمتابعة أحد أصلي التوحيد وأساسيه فالتوحيد إخلاص القصد لله وإخلاص المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفي في هذا قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (7) فهذا قسم من الرب بربوبيته على نفي الإيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم ويرضى بحكمه منشرح الصدر له مسلما له تسليما مطلقا لا معارضة فيه قلبية ولا عملية.
__________
(1) أخرجه مسلم 3 / 1344 ح1718.
(2) مسلم 2 / 592 ح867.
(3) أخرجه أبو داود 4 / 201 ح4607.
(4) سورة الحشر الآية 7
(5) سورة النساء الآية 64
(6) سورة النساء الآية 80
(7) سورة النساء الآية 65(81/79)
وقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) وتحكيم النبي صلى الله عليه وسلم والرد إليه يكون إليه نفسه صلى الله عليه وسلم حال حياته وإلى سنته الثابتة عنه بعد موته صلى الله عليه وسلم، فتكون متابعة الرسول بمتابعة سنته الثابتة بالنقل الصحيح الثابت.
ومن اتخذ الله إلها معبودا فليتبع ما جاء به رسوله، ومن اتبع عقله أو إماما يطيعه في غير طاعة الله فقد عبد ذلك من دون الله وأشرك وخرج عن مقتضى التوحيد.
الأساس الثاني: اتباع سبيل المؤمنين، أي سلوك طريقهم في عقائدهم وأعمالهم قال الله: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} (2) وقال سبحانه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (3) وقد توعد الله من يتبع غير سبيل المؤمنين فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (4) فهذا يوليه
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة لقمان الآية 15
(3) سورة الكهف الآية 28
(4) سورة النساء الآية 115(81/80)
الله ما تولى ويتركه لما اختاره لنفسه ويخذله لا يوفقه للخير لكونه رأى الحق وعلمه وتركه، فجزاؤه من الله عدلا أن يبقيه في ضلاله حائرا ويزداد ضلالا إلى ضلاله كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (1) وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (2) ويدل مفهوم الآية على أن من اتبع سبيل المؤمنين يحفظه الله ويعصمه ويوفقه ويهديه كما قال في يوسف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (3) ، وأولى سبيل المؤمنين بالاتباع سبيل الصحابة رضوان الله عليهم فهو أفضل السبيل وأكمله كيف ولا هم أفضل قرون بين آدم كما ثبت بذلك الحديث عنه صلى الله عليه وسلم «خير الناس قرني (4) » وقال: «بعثت من خير قرون بين آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه (5) » فاتباعهم رضي الله عنهم هو أتم الاتباع وقد قال فيهم صلى الله عليه وسلم: «أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون (6) » فهذه شهادة منه صلى الله عليه وسلم أن أصحابه أمان لأمته من ظهور الشرك والبدع ما بقي منهم أحد في الأمة،
__________
(1) سورة الصف الآية 5
(2) سورة الأنعام الآية 110
(3) سورة يوسف الآية 24
(4) متفق عليه، البخاري مع الفتح 5 / 259، ومسلم 4 / 1963.
(5) أخرجه البخاري، الصحيح مع الفتح 6/ 556.
(6) أخرجه مسلم 4/ 1961.(81/81)
فهدي الصحابة هو أهدى سبيل يتبعه المؤمن وإنما كان ذلك كذلك وكان اتباع الصحابة واجبا على أهل التوحيد لأمور:
1 - أنهم رضي الله عنهم أول من خوطب بالشريعة.
2 - أن الشريعة نزلت بلغتهم وعلى صروف معاشهم.
3 - أنهم رضي الله عنهم فهموا مراد الشارع أحسن ما يكون الفهم وطبقوه أحسن ما يكون التطبيق.
4 - أن تطبيقهم للتوحيد كان بإشراف الرسول صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل يوجه ويصحح.
الأساس الثالث: «رد الشبهة التي وضعها الشيطان في ترك القرآن والسنة واتباع الآراء والأهواء المتفرقة المختلفة، وهي أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا المجتهد المطلق، والمجتهد هو الموصوف بكذا وكذا أوصافا لا توجد تامة في أبي بكر وعمر، فإن لم يكن الإنسان كذلك فليعرض عنهما فرضا حتما لا شك ولا إشكال فيه، ومن طلب الهدى منهما فهو إما زنديق وإما مجنون لأجل صعوبة فهمهما، فسبحان الله وبحمده كم بين الله سبحانه شرعا وقدرا خلقا وأمرا في رد هذه الشبهة الملعونة من وجوه شتى بلغت إلى حد الضروريات العامة ولكن أكثر الناس لا يعلمون: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (1) {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} (2) {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (3)
__________
(1) سورة يس الآية 7
(2) سورة يس الآية 8
(3) سورة يس الآية 9(81/82)
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (1) {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} (2) .
__________
(1) سورة يس الآية 10
(2) سورة يس الآية 11(81/83)
المبحث الثالث: الاجتماع على التوحيد:
هذا هو المقصد الثالث من مقاصد دراسة التوحيد، جمع أهله عليه، وإنما أرسل الرسول وأنزل الكتاب لتحقيق هذا الاجتماع وهو الاجتماع الذي أعلنه الله في قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (1) أمة واحدة مجتمعة على عبادة ربها، ويحقق هذا المقصود عدة أسس إن لم تحصل لم يحصل الاجتماع المقصود وهذه الأسس هي:
الأساس الأول: معرفة أهل التوحيد من هم، فإن الاجتماع إنما يكون على التوحيد فلا بد من معرفة أهله الذين يحصل بهم الاجتماع، وأهل التوحيد هم الذين حصلوا المقصدين السابقين الذين عرفوا التوحيد وعملوا به، وقد جمع الله وصفهم في قوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (3)
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 92
(2) سورة يونس الآية 62
(3) سورة يونس الآية 63(81/83)
فهؤلاء هم أهل التوحيد (آمنوا) أي عرفوا التوحيد واعتقدوه، (وكانوا يتقون) أي يعملون بالتوحيد ويستقيمون عليه، فالانتساب إلى التوحيد ليس دعوى يدعيها العبد بلسانه بل هي اعتقاد وسلوك حسم الله أمره في قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1) وهذه آية المحنة يمحص بها الدعي من النسيب.
الأساس الثاني: موالاة أهل التوحيد، وهذه هي ممارسة الاجتماع، موالاة أهل التوحيد بمحبتهم وخفض الجناح لهم والتعبد بالشرائع معهم والاجتماع على الشعائر في جماعتهم ومناصرتهم وتولي حفظ التوحيد والذب عنه معهم، على نحو ما قال الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} (2) فذكر الأصول العامة للموالاة، وهذه الموالاة لا تكون إلا لأهل التوحيد: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (3) ، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (4) {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (5) . والصورة العامة لموالاة أهل التوحيد هي
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31
(2) سورة المائدة الآية 54
(3) سورة التوبة الآية 71
(4) سورة المائدة الآية 55
(5) سورة المائدة الآية 56(81/84)
«لزوم جماعتهم» قال صلى الله عليه وسلم «عليكم بالجماعة (1) » وقال: «يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار (2) »
الأساس الثالث: السمع والطاعة لولي أمر الجماعة، فإن به تمام الاجتماع، فإن ولي الأمر هو القوة التي يحمى بها التوحيد هو يفرض هيبته ويسنده ويحميه فهو صمام الأمان لإقامة التوحيد في الجماعة وحمايته، وهو صمام الأمان لالتئام الجماعة وحفظ اجتماعها وصيانة بيضتها وهو شعار الجماعة ودليل اجتماعها، ولا معنى لولاية الأمر إلا بالسمع والطاعة ولهذا كثر في نصوص الشرع ما يبين ذلك بيانا شافيا كافيا من أمر بالإمامة وإلزام عنق المؤمن بيعة للإمام، ونهي عن الخروج على الأئمة وإلزام بطاعتهم على أي حال كانت سيرتهم أو أي حال كان عليها الواحد من رعيتهم والأمر بالصبر على مساوئهم، وغير ذلك من أفراد الأحكام والآداب الشرعية التي تقوم بها شعيرة السمع والطاعة وتصان من القوادح كل ذلك إقامة للجماعة ورعاية وصيانة للاجتماع.
قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3) وقال صلى الله عليه وسلم: «على المرء المسلم السمع والطاعة
__________
(1) الترمذي 47/ 404 ح2165.
(2) الترمذي 4/ 404 ح2167.
(3) سورة النساء الآية 59(81/85)
فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر بمعصية (1) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من خلع يدا من الطاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له (2) » .
الأساس الرابع: البراءة من المشركين، وبه تمييز جماعة أهل التوحيد عن مخالفيهم، وتعيين منهجهم وخصوصيتهم والحد الفاصل بينهم وبين من يضادهم، وإبراز موضع الموالاة والمعاداة لهم، والبراءة من المشركين صنو التوحيد وهي رأس في منهجه قال الله: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (3) فهذان هما ركنا التوحيد الذي يقوم عليهما: العبودية لله وحده، والبراءة ممن يعبد غيره.
وقد كثر في كتاب الله التأكيد على هذا الأساس من وجوه يطول حصرها، منها أن الله جزم النهي عن موالاتهم فقال: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} (4) ونحوها من الآيات، ومنها أن الله نهى عن مجرد مداهنة المشركين أو الركون إليهم ولو شيئا قليلا، قال سبحانه: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (5) وقال: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} (6)
__________
(1) متفق عليه، البخاري مع الفتح 13/ 121 ح7144، مسلم 4/ 1469 ح1839.
(2) مسلم 4/ 1478 ح1851.
(3) سورة الأنعام الآية 19
(4) سورة آل عمران الآية 28
(5) سورة القلم الآية 9
(6) سورة الإسراء الآية 74(81/86)
{إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} (1)
وقال: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (2) ومنها أن الله وبخ الذين يتولون الكافرين وتوعدهم ونفى عنهم الإيمان، قال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} (3) {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (4) وجعل سبحانه إبراهيم عليه السلام أسوة حسنة للمسلمين في البراءة من الشرك وأهله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (5) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 75
(2) سورة هود الآية 113
(3) سورة المائدة الآية 80
(4) سورة المائدة الآية 81
(5) سورة الممتحنة الآية 4(81/87)
المبحث الرابع: الدعوة إلى التوحيد:
هذا هو المقصد الرابع من مقاصد دراسة التوحيد وهو ثمرة الانتفاع بالتوحيد، فمن عرف التوحيد وعمل به وتميز به عن غيره يقوم بتعدية هذا النفع إلى الغير بدعوته إليه.(81/87)
والدعوة إلى التوحيد واجبة على كل مسلم قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية (2) » .
ولهذا المقصد أساسان لا يكون إلا بهما:
الأساس الأول: البصيرة في الدعوة، والبصيرة هي: العلم واليقين الذي لا باطل فيه ولا شك معه، ولقد كانت أول آية نزلت بعد اقرأ هي: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (3) {قُمْ فَأَنْذِرْ} (4) فقوله: «اقرأ» فيها البصيرة التي تهيئ الداعية للدعوة، وللبصيرة أربعة مظاهر تنشأ عنها وتدل عليها هي الواردة في سورة المدثر: أولها قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (5) فتعظيم التوحيد وأن يكون القصد من الدعوة أن يعظم العباد ربهم ويقوموا بحقه هو من البصيرة في الداعي، ثانيها قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (6) فالعمل بالتوحيد طاهرا من القوادح هو من البصيرة في الداعي، ثالثها قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (7) فترك الشرك وما دونه من أعمال العصيان وهجرها هجرا جازما بتركها وأماكنها وأهلها من البصيرة في الداعي، رابعها قوله: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} (8) فاتخاذ الدعوة إلى الله قربة لله لا منة فيها على أحد ولا طلبا لوجاهة وذكر ولا انتظارا لأجر ومقابل من البصيرة في الداعي.
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) أخرجه البخاري، الصحيح مع الفتح 6/ 496 ح3461.
(3) سورة المدثر الآية 1
(4) سورة المدثر الآية 2
(5) سورة المدثر الآية 3
(6) سورة المدثر الآية 4
(7) سورة المدثر الآية 5
(8) سورة المدثر الآية 6(81/88)
الأساس الثاني: الحكمة في الدعوة، وتكون بثلاثة أمور:
أولها: طلب هداية المدعو لا منافرته ومغالبته قال الله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) فهذه حال الداعي حريص على هداية المدعو يشق عليه ما يشقيه ويبعده عن الحق، قال صلى الله عليه وسلم: «والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (2) » .
ثانيها: المخاطبة بالحسنى والمعاملة باللين واللطف، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) وقال سبحانه: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (4) {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (5) وقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (6) .
ثالثها: الصبر، في ختام توجيهاته لرسوله بعد قوله: {قُمْ فَأَنْذِرْ} (7) قال الله تعالى: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (8) وقال له: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (9) والصبر هو تمام الحكمة وميزانها في الدعوة إلى التوحيد،
__________
(1) سورة التوبة الآية 128
(2) البخاري مع الفتح 6/ 11 ح2942 ومسلم 4/ 1872 ح2406.
(3) سورة النحل الآية 125
(4) سورة طه الآية 43
(5) سورة طه الآية 44
(6) سورة آل عمران الآية 159
(7) سورة المدثر الآية 2
(8) سورة المدثر الآية 7
(9) سورة الأحقاف الآية 35(81/89)
الصبر على المتلقي حتى يسمع ويفهم ويعلم ويتيقن والصبر على مكابرته أو ممانعته والصبر على أذيته وعدوانه والصبر على الحوائل بينك وبينه.
وبعد، فهذه مقاصد دراسة التوحيد من درس التوحيد أحسن ما تكون الدراسة خرج بثمرة هذه المقاصد وتحققت منه، فهي أهداف تقوم عليها حصيلة دراسة التوحيد فإن أي خلل في دراسة التوحيد إنما يظهر نوعه ووجهه في واحد من هذه المقاصد.
نسأل الله التوفيق لأكمل الأحوال، هو الموفق لا شريك له، والحمد لله أولا وآخرا لا شريك له.(81/90)
الأحكام الفقهية المتعلقة بالأيمان الالتزامية
لفضيلة الدكتور: عبد السلام بن سالم السحيمي
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فلا تخفى أهمية معرفة أحكام اليمين عموما، ومعرفة الأحكام المتعلقة بالأيمان الالتزامية على وجه الخصوص، فهي جديرة بالاهتمام والدراسة لكثرة وقوع هذا النوع من اليمين وكثرة السؤال عنه، ولم أجد - حسب علمي - رسالة متخصصة في موضوع الأحكام المتعلقة بالأيمان الالتزامية، فالحاجة ماسة للكتابة في هذا الموضوع، لذا رأيت من المناسب جمع المسائل المتعلقة بهذا الموضوع ودراستها دراسة(81/91)
فقهية موازنة، بأسلوب علمي، وقد قمت بذلك - والحمد لله - وسميت ما كتبت «الأحكام الفقهية المتعلقة بالأيمان الالتزامية» .
والمقصود بالأيمان الالتزامية هي أن يلتزم الحالف شيئا وهو لا يريد وقوعه من أجل منع نفسه من الفعل أو حثها عليه، كالحلف بملة غير الإسلام، والحلف بالطلاق والعتاق والنذر والظهار، والحرام، وتحريم الزوجة والطعام ونحو ذلك، أو تعليق ذلك على شرط من الشروط، وليس مقصوده وقوع ما التزمه وإنما كان مقصوده منع نفسه أو حثها على الفعل، مع كراهتها لوقوع هذه الأشياء المحلوف بها.
وقد جعلت الكتابة في هذا الموضوع: في مقدمة وتمهيد ومبحثين وخاتمة.
أما المقدمة فتضمنت أهمية الموضوع وسبب اختياره، وخطة البحث، ومنهج البحث.
وأما التمهيد فتضمن التعريف باليمين في اللغة والشرع، والأصل في مشروعية اليمين، والحكمة من مشروعية اليمين.
وأما المبحث الأول: ففي المتفق عليه من الأيمان التي يحلف بها الناس.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الحلف بالله بأسمائه وصفاته.
المطلب الثاني: في الحلف بغير الله.(81/92)
وأما المبحث الثاني: ففي الأيمان المختلف فيها - وهي الأيمان الالتزامية - وفيه ثلاثة مطالب.
المطلب الأول: الحلف بملة غير الإسلام.
المطلب الثاني: الحلف بالتحريم أو الحرام.
وفيه فرعان:
الفرع الأول: الحلف على تحريم غير الزوجة.
الفرع الثاني: الحلف على تحريم الزوجة.
المطلب الثالث: الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والإيجاب.
الخاتمة: وتتضمن أهم النتائج.
منهج البحث:
1- جمعت المادة العلمية المتعلقة بالبحث من مصادرها الأصلية إلى جانب المصادر والمراجع الحديثة التي لها علاقة بالموضوع.
2- أصدر المسألة بذكر الإجماع والاتفاق إن وجد مع دليله، ثم أتبعه بذكر الخلاف عند الأئمة الأربعة، وقد أذكر غيرهم من فقهاء الصحابة والتابعين رحمهم الله وأهل الظاهر، ثم أذكر الأدلة لكل قول والإيرادات التي قد ترد على الأدلة ومناقشتها، ثم أختم المسألة بذكر الراجح وسبب الترجيح.
3- أذكر سبب الخلاف في المسألة إن وجد.
4- رقمت الآيات الواردة في البحث بذكر اسم السورة ورقم الآية.(81/93)
5- خرجت الأحاديث والآثار الواردة في البحث، فإن كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما اكتفيت بعزوه إليهما، وإن لم يكن فيهما فإني أخرجه من كتب السنة المشهورة مع بيان درجته صحة وضعفا.
6- علقت على ما يحتاج إلى تعليق من كلمة غريبة أو مصطلح علمي.
7- وضعت خاتمة في آخر البحث تضمنت أهم النتائج التي توصلت إليها.
وقد بذلت جهدي في كتابة هذا الموضوع وتحرير مسائله وذكر أدلته ولا أدعي الكمال، وأسأل الله أن أكون قد وفقت في ذلك، وأن يجعل الله في هذه الكتابة فائدة لي ولكل من يطلع عليه ويقرؤه، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يوفقني والمسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(81/94)
تمهيد:
في تعريف اليمين لغة وشرعا، والأصل في مشروعية اليمين والحكمة من ذلك.(81/94)
تعريف اليمين في اللغة:
اليمين جمعها أيمان وتجمع على أيمن، واليمين في أصل اللغة اليد اليمنى، وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل بيمين صاحبه، وقيل لأن اليمين تحفظ الشيء كما تحفظه اليد، واليمين، والحلف، والإيلاء، والقسم ألفاظ مترادفة.
تعريف اليمين في الشرع:
عرف الفقهاء اليمين بتعريفات متقاربة منها:
1- تحقيق الأمر وتوكيده بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته (1) ، وهذا تعريف الشافعية.
2- توكيد المحلوف عليه بذكر معظم على وجه الخصوص (2) ، وهذا تعريف الحنابلة.
3- عقد قوي به عزم الحالف على الفعل أو الترك (3) ، وهذا تعريف الحنفية.
__________
(1) روضة الطالبين 11/ 3.
(2) كشاف القناع 6/ 228.
(3) البناية شرح الهداية 5/ 156.(81/95)
4- اليمين عبارة عن ربط العقد بالامتناع والترك أو بالإقدام على فعل بمعنى معظم حقيقة أو اعتقادا، لكن يختص إيجاب الكفارة باسم الله سبحانه أو بصفة من صفاته (1) ، وهذا تعريف المالكية.
قال ابن حجر: «وعرفت شرعا بأنها توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله تعالى» وقال: «وهذا أخصر التعاريف وأقربها» (2) .
وعرفها صاحب كفاية الأخيار فقال: «إن الحلف ما تعلق به حث أو منع أو تحقيق خبر» (3) .
وهذا هو أولى التعريفات؛ لأنه بهذا التعريف تدخل الأيمان الالتزامية كالحلف بالطلاق والعتاق والنذر، وكالحلف بملة غير الإسلام، بينما لا تدخل هذه الأمور في التعريفات السابقة مع أن الفقهاء سموا هذه أيمانا - أعني الحلف بالطلاق والعتاق والنذر ونحوها - مما يقصد به الحث أو المنع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الحالف لا بد له من شيئين: كراهة
__________
(1) عقد الجواهر 1/ 515.
(2) فتح الباري 11/ 516.
(3) كفاية الأخيار ص247.(81/96)
الشرط، وكراهة الجزاء عند الشرط، ومن لم يكن كذلك لم يكن حالفا سواء كان قصده الحض والمنع أو لم يكن» (1) .
الأصل في مشروعية اليمين:
الأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع.
فأما من الكتاب فقول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (2) ، وقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (3) ، وقوله تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (4) وغير ذلك من الآيات.
وأما من السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني (5) » .
__________
(1) الاختيارات ص325.
(2) سورة المائدة الآية 89
(3) سورة المائدة الآية 89
(4) سورة النحل الآية 91
(5) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 11/ 516، كتاب الأيمان والنذور باب قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) رقم الحديث: 6621.(81/97)
وقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير (1) » .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «والله لأن يلج (3) » .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما ليبر يعني الكفارة (4) » .
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: «كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم لا ومقلب القلوب (5) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا هلك كسرى فلا كسرى وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله (6) » . وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة.
وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على انعقاد اليمين (7) .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 11/ 516 رقم الحديث 6622.
(2) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 11/ 517 رقم الحديث 6625.
(3) (2) أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه
(4) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 11/ 517 رقم الحديث 6626.
(5) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 11/ 523 رقم الحديث 6628
(6) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 11/ 523، رقم الحديث 6630.
(7) انظر: البيان للعمراني 10/ 480، والمغني 13/ 435.(81/98)
وأما الحكمة من مشروعيتها: فيه توكيد الشيء المحلوف عليه (1) .
__________
(1) المغني 13/ 435، وبدائع الصنائع 3/ 3.(81/99)
المبحث الأول: في المتفق عليه من الأيمان التي يحلف بها الناس
المطلب الأول: الحلف بالله بأسمائه وصفاته.
أجمع العلماء على أن الحلف بالله بأسمائه وصفاته يمين منعقدة محترمة، وأن فيها الكفارة إذا حنث الحالف.
قال ابن قدامة: «أجمع أهل العلم على أن من حلف بالله عز وجل فقال والله أو بالله أو تالله فحنث أن عليه كفارة» (1) .
وقال ابن المنذر: «وأجمعوا على أنه من قال والله أو بالله أو تالله فحنث أن عليه كفارة» (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما أنواع الأيمان الثلاثة فالأول: أن يعقد اليمين بالله ... فأما الأول فهو الحلف بالله فهذه يمين منعقدة مكفرة بالكتاب والسنة والإجماع» .
__________
(1) المغني 13/ 452، وانظر الشرح الكبير 6/ 69.
(2) الإجماع ص137.(81/99)
المطلب الثاني: في الحلف بغير الله:
الحلف بغير الله يمين شركية غير منعقدة باتفاق أهل العلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «- وأما الثالث - أي من الأيمان التي يحلف بها الناس - أن يعقدها بمخلوق أو لمخلوق مثل أن يحلف بالطواغيت أو بأبيه أو الكعبة أو غير ذلك من المخلوقات، فهذه يمين غير محترمة ولا تنعقد، ولا كفارة بالحنث فيها باتفاق العلماء» .
وقال الماوردي: فهي يمين غير منعقدة ولا يلزم الوفاء بها، ولا كفارة عليه إن حنث فيها وهو كالمتفق عليه» (1) .
وأما كونها غير منعقدة فلأنه نهي عن الحلف بذلك فلا يدخل في الأيمان المشروعة (2) .
وأما الأدلة الدالة على ذلك:
1- فعن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب - يحلف بأبيه - فقال: ألا إن الله
__________
(1) الحاوي 15/ 263.
(2) شرح الزركشي 7/ 96.(81/100)
ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (1) » .
فظاهر الحديث يدل على تخصيص الحلف بالله خاصة (2) .
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله ... (3) » الحديث.
فيكون قوله لا إله إلا الله واستغفاره لله كفارة لذلك (4) .
3- وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من حلف بملة غير الإسلام فهو كما قال (5) » .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 11/ 530، باب لا تحلفوا بآبائكم رقم الحديث 6646.
(2) فتح الباري 11/ 536.
(3) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 11/ 536، باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت رقم الحديث 6650.
(4) فتح الباري 11/ 536.
(5) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 11/ 537، باب من حلف بملة سوى ملة الإسلام رقم 6652.(81/101)
المبحث الثاني: الأيمان المختلف فيها وهي الأيمان الالتزامية: (1) .
المطلب الأول: الحلف بملة غير الإسلام
__________
(1) والمقصود بها أن يلتزم شيئا هو لا يريده من أجل منع نفسه من الفعل أو حث نفسه على الفعل.(81/101)
إذا قال هو يهودي أو نصراني أو مجوسي إن فعل كذا وكذا، أو هو بريء من الإسلام، أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من القرآن إن فعل، أو قال هو يعبدك أو يعبد الصليب أو يعبد غير الله إن فعل أو نحو هذا، اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنها يمين وعليه الكفارة إذا حنث، روي ذلك عن زيد بن ثابت وعطاء وطاوس والحسن والشعبي والثوري (1) ، وبه قال أبو حنيفة (2) وأحمد في رواية عنه (3) وهي المذهب (4) ، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: «بأنه قول أكثر أهل العلم» (5) .
القول الثاني: أنها لا تعتبر يمينا فلا تجب فيها كفارة بالحنث، وهو قول مالك (6) والشافعي (7) وأحمد في رواية عنه (8) .
__________
(1) المغني 13/ 464، والحاوي 15/ 263.
(2) الهداية 2/ 74، فتح القدير 5/ 77، وبدائع الصنائع 3/ 8.
(3) المغني 13/ 464، وشرح الزركشي 7/ 86، والفروع 6/ 341.
(4) الإنصاف 11/ 31.
(5) مجموع الفتاوى 35/ 274.
(6) الإشراف لعبد الوهاب 2/ 880، والتفريع 1/ 382، والذخيرة 4/ 15.
(7) نهاية المحتاج 8/ 168، والحاوي 15/ 263، وكفاية الأخيار 2/ 350.
(8) المغني 13/ 464، وشرح الزركشي 7/ 86، والإنصاف 11/ 31.(81/102)
أدلة القول الأول:
1- استدلوا بقول الله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (1) .
2- وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك (2) » .
وجه الدلالة من الآية والحديث عدم التفريق بين يمين ويمين (3) .
وكذلك يستدل بالأدلة الدالة على مشروعية اليمين من الكتاب والسنة فإنها تعم كل حلف على يمين كائنا ما كان (4) .
ونوقش بأنها محمولة على اليمين بالله لأنها اليمين المشهورة في عرف الشرع والاستعمال (5) .
3- بما روى الزهري عن خارجة بن زيد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه سئل عن الرجل يقول هو يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام في اليمين يحلف بها فيحنث قال: عليه كفارة يمين (6) » .
__________
(1) سورة المائدة الآية 89
(2) تقدم تخريجه ص98.
(3) انظر: الحاوي 15/ 263.
(4) مجموع الفتاوى 35/ 278، 279.
(5) الحاوي 15/ 264.
(6) رواه البيهقي في سننه 10/ 30.(81/103)
ونوقش بما قاله البيهقي: بأنه لا أصل له من حديث الزهري ولا غيره تفرد به سليمان بن أبي داود الحراني وهو منكر الحديث ضعفه الأئمة وتركوه (1) .
4- القياس على تحريم المباح فإنه يمين بالنص، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم حرم مارية على نفسه فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (2) ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (3) ؛ ووجه الإلحاق أنه لما جعل الشرط وهو فعل كذا علما على كفره ومعتقده حرمة كفره فقد اعتقده أي الشرط واجب الامتناع، فكأنه قال: حرمت على نفسي فعل كذا كدخول الدار، ولو قال دخول الدار مثلا علي حرام كان يمينا فكان تعليق الكفر ونحوه على فعل مباح يمينا (4) .
5- ولأن البراءة من هذه الأشياء توجب الكفر بالله فكان الحلف يمينا كالحلف بالله تعالى (5) .
6- أن لزوم اليمين بالله لتوكيد حرمتها، وهذا المعنى موجود فيما عقده من الكفر بالله، فوجب أن يستويا في اللزوم والكفارة (6) .
__________
(1) السنن 10/ 30.
(2) سورة التحريم الآية 1
(3) سورة التحريم الآية 2
(4) فتح القدير 5/ 77، وانظر الهداية 2/ 75، والبناية 5/ 181.
(5) المغني 13/ 465، وانظر مجموع الفتاوى 35/ 275.
(6) الحاوي 15/ 263، وانظر مجموع الفتاوى 35/ 276 وما بعدها فإنه ذكر هذا المعنى.(81/104)
أدلة القول الثاني:
استدلوا:
1- بقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (1) ، فجعلها الله غاية الأيمان وأغلظها فلم تتغلظ اليمين بغير الله (2) .
2- ولأنها يمين تعرت من اسم الله تعالى وصفاته فلم يلزم بالحنث فيها كفارة أصله قوله والنبي والكعبة (3) .
ويمكن مناقشة الدليلين المتقدمين بما يلي:
أن كون الحلف بالله يمينا توجب الكفارة لا يلزم منه أن ما عدا ذلك ليس يمينا للكفارة عند الحنث، ولذلك اتفقوا على تسميتها يمينا.
وأما القياس على الحلف بالنبي والكعبة فهو قياس مع الفارق فهو هنا بمخلوق، بخلاف الحلف بملة سوى الإسلام فهو من باب الأيمان الالتزامية وهي داخلة في معنى اليمين كما تقدم في أدلة القول الأول.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 109
(2) الحاوي 15/ 263.
(3) الإشراف لعبد الوهاب 2/ 880.(81/105)
3- أنه لم يرد في هذه اليمين نص، ولا هي في قياس المنصوص، فإن الكفارة إنما وجبت في الحلف باسم الله تعظيما لاسمه وإظهارا لشرفه وعظمته، ولا تتحقق التسوية (1) .
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال: بأن الشارع جعل تحريم الحلال يمينا - كما سيأتي - وهو ليس حلفا باسم الله تعالى - فدل على أن معنى اليمين لا يقتصر فيه على ما كان حلفا بالله باسمه أو صفاته.
4- استدلوا بالأدلة التي جاء فيها النهي عن الحلف بغير الله على أنها تدل على عدم لزوم الكفارة في ذلك، فدل على أن هذه اليمين لا توجب كفارة (2) .
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال بأنه يوجد فرق بين الأيمان المختلف في إيجاب الكفارة فيها وهي الحلف بالطلاق والعتاق ونذر اللجاج والغضب، والحلف بملة سوى الإسلام، وبين الأيمان التي اتفق على عدم وجوب الكفارة فيها وهي الحلف بالمخلوقات كما سيأتي تفصيله.
__________
(1) المغني 13/ 465.
(2) انظر: الحاوي 15/ 263.(81/106)
سبب الخلاف:
يقول ابن رشد: «وسبب اختلافهم هو اختلافهم في هل يجوز اليمين بكل ما له حرمة أم ليس يجوز إلا بالله فقط، ثم إن وقعت فهل تنعقد أم لا؟ فمن رأى أن الأيمان المنعقدة أعني التي هي بصيغ القسم إنما هي الأيمان الواقعة بالله عز وجل وبأسمائه قال لا كفارة فيها إذ ليست بيمين، ومن رأى أن الأيمان تنعقد بكل ما عظم الشرع حرمته قال فيها الكفارة؛ لأن الحلف بالتعظيم كالحلف بترك التعظيم، وذلك أنه كما يجب التعظيم يجب أن لا يترك التعظيم، فكما أن من حلف بوجوب حق الله عليه لزمه، كذلك من حلف بترك وجوبه لزمه» اهـ (1) .
والذي يظهر لي أن سبب الخلاف هو هل النظر إلى الصيغة - أعني صيغة القسم - أم إلى المعنى؟ فمن نظر إلى الصيغة اقتصر على الحلف بالله بأسمائه وصفاته، ومن نظر إلى المعنى عداه إلى ما يدل على المنع والحض مما ليس هو حلفا بالمخلوقين، ولعل هذا هو مقصود ابن رشد لاتفاقهم على أن الحلف بالمخلوقين لا يوجب كفارة، والمتنازع فيه هنا ليس حلفا بمخلوق ولكن هل يتضمن معنى اليمين أو لا يتضمنها، والله أعلم.
الراجح:
الذي يظهر لي رجحانه والله أعلم أن الحلف بملة سوى الإسلام يمين لأنه متضمن لمعنى اليمين.
__________
(1) بداية المجتهد 6/ 115.(81/107)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «لأنه إذا قال هو يهودي أو نصراني إن لم يفعل كذا بمنزلة قوله والله لأفعلن؛ لأنه ربط عدم الفعل بكفره الذي هو براءته من الله فيكون ربط الفعل بإيمانه بالله وهذا هو حقيقة الحلف بالله» (1) .
ولأنه - كما تقدم في كلام ابن رشد - أن الحلف بالتعظيم كالحلف بترك التعظيم، وذلك أنه كما يجب التعظيم يجب أن لا يترك التعظيم، فكما أن من حلف بوجوب حق الله عليه لزمه، كذلك من حلف بترك وجوبه لزمه (2) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 35/ 275.
(2) بداية المجتهد 6/ 115.(81/108)
المطلب الثاني: الحلف بالتحريم أو بالحرام:
الحلف بالحرام له صيغتان:
الأولى: أن يقول: إن فعلت كذا فكذا علي حرام، أو ما أحل الله علي حرام.
والثانية: أن يقول: الحرام يلزمني لا أفعل كذا، أو لأفعل كذا.
وفيه فرعان:
الفرع الأول: الحلف على تحريم غير الزوجة:
كأن يقول إن فعلت كذا وكذا، أو إن لم أفعل كذا وكذا فهذا الطعام أو الشراب أو اللباس علي حرام، وقد اختلف العلماء في ذلك - من(81/108)
ناحية لزوم كفارة اليمين للحالف بهذه الصيغة أو عدم لزومها - على قولين:
القول الأول: أنه لا تلزمه كفارة يمين، فلا تلزمه كفارة اليمين إلا أن يحلف بالله، وهو قول مالك (1) والشافعي (2) .
القول الثاني: أنه تلزمه كفارة اليمين، وهو قول أبي حنيفة (3) وأحمد (4) .
أدلة القول الأول:
1- قول الله تعالى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (5) .
2- قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (6) .
__________
(1) التفريع 1/ 381، والإشراف لعبد الوهاب 2/ 897، وقوانين الأحكام الشرعية ص180
(2) البيان 10/ 495، ومغني المحتاج 3/ 283.
(3) الهداية 2/ 75، والبناية 5/ 193، وفتح القدير 5/ 87.
(4) المغني 13/ 465، 466، وشرح الزركشي 7/ 88، والإنصاف 11/ 30.
(5) سورة المائدة الآية 87
(6) سورة يونس الآية 59(81/109)
فوصف ذلك بأنه افتراء على وجه الزجر عن فعله فدل أنه لا كفارة فيه؛ ولأنه حرم على نفسه مباحا نهي عن تحريمه كاللباس والطيب (1) .
أدلة القول الثاني:
1- قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (2) - إلى قوله - {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (3) .
سمى الله تحريم ما أحله يمينا، وفرض له تحلة وهي الكفارة (4) .
قالت عائشة رضي الله عنها: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا، فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحدانا فقالت له ذلك
__________
(1) الإشراف لعبد الوهاب 2/ 897.
(2) سورة التحريم الآية 1
(3) سورة التحريم الآية 2
(4) المغني 13/ 466.
(5) صحيح البخاري «البخاري مع الفتح» 11/ 574، باب إذا حرم طعاما الحديث رقم 6691، ومسلم «مسلم بشرح النووي» 10/ 73، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو طلاقا.(81/110)
فقال: لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له فنزلت: (2) » متفق عليه.
الراجح: الذي يظهر لي رجحانه هو القول الثاني، فالشارع سمى تحريم الحلال يمينا وفرض له تحلة، والتحلة هي الكفارة، فدل على أنه يجب في ذلك الكفارة عند الحنث كما تجب في اليمين المتفق عليها.
__________
(1) جمع مغفور وهو صمغ حلو كالناطف وله رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له العرفط. شرح النووي لمسلم 10/ 75. (5)
(2) سورة التحريم الآية 1 (1) {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ}(81/111)
الفرع الثاني: الحلف على تحريم الزوجة:
الحلف على تحريم الزوجة فيه أقوال أشهرها سبعة وهي:
القول الأول: أنها يمين يكفرها كفارة اليمين، وهذا القول مروي عن عكرمة وعطاء ومكحول وقتادة والحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ونافع والأوزاعي وأبي ثور (1) .
القول الثاني: أنه لغو لا يترتب عليه شيء، وهو مروي عن الشعبي ومسروق وابن عباس في رواية عنه، وبه قال أهل الظاهر وأكثر أصحاب الحديث، وهو أحد قولي المالكية اختاره أصبغ بن الفرج (2) .
__________
(1) مصنف عبد الرزاق 6/ 399، 6/ 400، والمحلى 10/ 129، وأعلام الموقعين 3/ 71.
(2) المحلى 10/ 126، وأعلام الموقعين 3/ 65.(81/111)
القول الثالث: أنه إن أراد الطلاق فعلى ما نوى، لكن إن أراد واحدة فبائنة، وإن أراد الظهار فظهار، وإن أراد الكذب صدق، وإن أراد التحريم أو لم يرد شيئا فإيلاء وهذا قول الحنفية (1) ، إلا أن المتأخرين منهم صرفوا لفظة التحريم إلى الطلاق حتى قالوا يقع بغير نية وألحقوه بالصريح (2) .
القول الرابع: أنه طلاق ثلاثا إلا إن نوى أقل فحسب نيته، وقيل يلزمه واحدة بينة وهذا هو المشهور عند المالكية (3) .
القول الخامس: أنه إن نوى الطلاق كان طلاقا وكان ما نواه، وإن نوى الظهار كان ظهارا، وإن نوى التحريم ففيه كفارة يمين، وكذا إن أطلق ففيه كفارة يمين على الأظهر عند الشافعية (4) .
القول السادس: أنه ظهار ولو نوى طلاقا أو يمينا على الصحيح من المذهب عند الحنابلة (5) .
__________
(1) الهداية 2/ 75، والبناية 5/ 193، وفتح القدير 5/ 91.
(2) الاختيار 3/ 156.
(3) المنتقى 4/ 9، وقوانين الأحكام الشرعية ص180.
(4) المنهاج وشرحه نهاية المحتاج 6/ 423، ومغني المحتاج 3/ 282.
(5) المحرر 2/ 55، والمغني 10/ 396، 397، 11/ 61، والإنصاف 9/ 197.(81/112)
القول السابع: أنه ظهار ولو نوى به الطلاق وإن حلف به كان يمينا مكفرة، وهو قول الإمام أحمد في رواية عنه (1) وهو الذي يراه شيخ الإسلام ابن تيمية (2) ويرى أنه المشهور من مذهب الإمام أحمد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما إذا حلف بالحرام فقال الحرام يلزمني لا أفعل كذا، والحل علي حرام لأفعل كذا، أو ما أحل الله علي حرام إن فعلت كذا، أو ما يحل على المسلمين يحرم علي إن فعلت كذا وله زوجة ففي هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف لكن القول الراجح أن هذه يمين لا يلزمه طلاق ولو قصد بذلك الحلف الطلاق وهو مذهب أحمد المشهور عنه، حتى لو قال أنت علي حرام ونوى به الطلاق لم يقع به الطلاق عنده» .
__________
(1) المحرر 2/ 55، وأعلام الموقعين 3/ 72.
(2) مجموع الفتاوى 33/ 160، وأعلام الموقعين 3/ 72.(81/113)
ويظهر من الأقوال السابقة أنه إذا نوى الظهار فهو ظهار عند الأئمة الأربعة في المشهور عنهم، وكذا قال ابن قدامة في المغني: «أنه إذا قال أنت علي حرام فإن نوى به الظهار فهو ظهار في قول عامتهم» (1) .
أدلة القول الأول: - الذي يرى أن تحريم الزوجة يمين فيها كفارة -.
1- أنه مروي عن أبي بكر وعمر وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم (2) .
قال ابن القيم: «صح ذلك عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود وعبد الله بن عمر» (3) .
2- أنه ظاهر القرآن فإن الله تعالى ذكر فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال فلا بد أن يتناوله يقينا فلا يجوز جعل تحلة
__________
(1) 11/ 61.
(2) انظر: مصنف عبد الرزاق 6/ 399، والسنن الكبرى للبيهقي 7/ 331، والمحلى لابن حزم 10/ 126.
(3) أعلام الموقعين 3 / 70.(81/114)
الأيمان لغير المذكور قبلها ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله.
أدلة القول الثاني: القائل بأنه لغو لا شيء فيه -
1- ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «إذا حرم امرأته فليس بشيء لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة (1) » .
ونوقش بأن قوله ليس بشيء أي لا تحرم عليه، بدليل ما روى البخاري بسنده عن ابن عباس أنه قال في الحرام: «يكفر» ، وقال ابن عباس: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة (2) » .
2- أنه عمل ليس عليه أمر الله ولا رسوله فيكون لغوا (3) .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 9/ 374، باب لم تحرم ما أحل الله لك رقم الحديث 5266.
(2) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 8/ 656، الحديث رقم 4911.
(3) المحلى 10/ 126.(81/115)
ويمكن مناقشته بأن كونه ليس عليه أمر الله ورسوله لا يلزم أن لا يلزم فيه حكم شرعي، بدليل الظهار فإنه ليس عليه أمر الله ورسوله وتجب فيه الكفارة.
أدلة القول الثالث: القائل إنه إذا أراد الطلاق فواحدة وإن أراد الظهار فظهار وإن أراد الكذب صدق وإن أراد التحريم أو لم يرد شيئا فإيلاء.
أنه إن أراد الطلاق فواحدة بائنة لأنه من الكنايات، وإن نوى الثلاث فثلاث، وإن أراد الظهار فظهار؛ لأن الظهار نوع حرمة وقد نواه فيصدق، وإن أراد التحريم أو لم يرد شيئا فهو إيلاء؛ لأن تحريم الحلال يمين هذا هو الأصل (1) .
وأما على قول المتأخرين من الحنفية من صرف لفظة التحريم إلى الطلاق حتى قالوا يقع بغير نية فإلحاقا له بالصريح لكثرة الاستعمال فيه والعرف (2) .
أدلة القول الرابع: القائل بأنه طلاق ثلاث إلا إن نوى أقل فحسب نيته وقيل يلزمه واحدة بائنة إلا إن نوى فحسب نيته.
1- أنه لفظ جرى عرف الاستعمال له على وجه الطلاق فوجب أن يكون طلاقا أصل ذلك لفظ الطلاق ولا تجب به كفارة
__________
(1) الاختيار 3/ 156، وانظر فتح القدير 5/ 90 - 92، والبناية 5/ 193 - 194.
(2) الاختيار 3/ 156.(81/116)
يمين؛ لأنه لفظ مفسر عري عن القربة واليمين فلم تجب فيه كفارة يمين على الإطلاق وأصل ذلك لفظ الطلاق (1) .
2- أن هذا لفظ طلاق فلم تجب به كفارة يمين على الإطلاق وأصل ذلك لفظ الطلاق (2) .
وأما الدليل على أنه لو قال نويت واحدة أنه لا ينوي في المدخول بها ويلزمه الثلاث: أن الواحدة لا تحرمها بل له ارتجاعها وإنما تحرمها الثلاث، فإذا كان اللفظ الذي هو التحريم إنما يقتضي معنى الثلاث حمل على ذلك ولم يصدق في قوله أردت الواحدة وهي لا تحرمها، وذلك أن لفظ التحريم إنما يقتضي قطع العصمة وتحريم الزوجية بينهما، وذلك لا يكون في المدخول بها إلا بالثلاث (3) .
أدلة القول الخامس: القائل إنه إن نوى الطلاق كان طلاقا وإن نوى الظهار كان ظهارا وإن نوى التحريم ففيه كفارة يمين وكذا إن أطلق ففيه كفارة يمين.
__________
(1) المنتقى 4/ 9.
(2) المصدر السابق الصفحة نفسها.
(3) المصدر السابق الصفحة نفسها.(81/117)
أنه يكون طلاقا إن نواه ويكون ظهارا إن نواه أن كلا منهما يقتضي التحريم فجاز أن يكنى بالحرام (1) .
وأما إن نوى التحريم ففيه كفارة يمين لما روى ابن عباس أنه قال في الحرام يكفر (2) ، فعليه كفارة يمين أي مثلها مثل كفارة اليمين؛ لأن ذلك ليس يمينا؛ لأن اليمين إنما تنعقد باسم من أسماء الله أو صفة من صفاته، ولكن تجب الكفارة لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (3) إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (4) ، أي أوجب عليكم كفارة ككفارة أيمانكم (5) .
ويمكن أن يناقش قولهم هنا إنها ليست يمينا وإنما يجب فيها ما يجب باليمين أي كفارة ككفارة اليمين - يناقش بأن الشارع سمى تحريم الحلال يمينا، وجعل لها تحلة وهي الكفارة فكيف لا تكون يمينا.
ثم إن العبرة بالمعنى فطالما أنه يجب فيها هنا ما يجب في كفارة اليمين دل على أن المعنى والحكم فيهما واحد.
أدلة القول السادس: القائل بأنه ظهار ولو نوى طلاقا أو يمينا.
__________
(1) مغني المحتاج 3/ 282، ونهاية المحتاج 6/ 423.
(2) تقدم تخريجه ص115.
(3) سورة التحريم الآية 1
(4) سورة التحريم الآية 2
(5) مغني المحتاج 3 / 283، ونهاية المحتاج 6/ 423.(81/118)
أنه تحريم للزوجة بغير طلاق فوجبت به كفارة الظهار كما لو قال أنت علي كظهر أمي (1) .
أما كونه ظهارا ولو نوى طلاقا أو يمينا؛ أنه صريح في تحريمها فكان ظهارا وإن نوى غيره (2) .
أدلة القول السابع: القائل بأنه ظهار ولو نوى به الطلاق وإن حلف به كان يمينا مكفرة.
أما الدليل على أنه ظهار ولو نوى به الطلاق فكما تقدم في القول الذي قبل هذا أنه صريح في تحريمها فكان ظهارا (3) .
وأما الدليل على أنه لو حلف به كان يمينا: أن الحالف بالحرام تجزئه كفارة يمين كما تجزئ الحالف بالنذر إذا قال إن فعلت كذا وكذا فعلي الحج أو فمالي صدقة (4) .
الراجح:
الذي يظهر لي من الأقوال المتقدمة أن أرجحها هو القول السابع.
__________
(1) المغني 10/ 396، 397.
(2) المصدر السابق الصفحة نفسها.
(3) المغني 10/ 397.
(4) مجموع الفتاوى 33/ 160، 161.(81/119)
يقول ابن القيم مرجحا هذا القول: «وعليه يدل النص والقياس، فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكرا من القول وزورا، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرمة، وإذا حلف به كان يمينا من الأيمان كما لو حلف بالتزام العتق والحج والصدقة، وهذا محض القياس والفقه، ألا ترى أنه إذا قال لله علي أن أعتق أو أحج أو أصوم لزمه، ولو قال إن كلمت فلانا فلله علي ذلك على وجه اليمين فو يمين، وكذلك لو قال هو يهودي أو نصراني كفر بذلك، ولو قال إن فعلت كذلك فهو يهودي أو نصراني كما يمينا، واطرد هذا بل نظيره من كل وجه أنه إذا قال أنت علي كظهر أمي كان ظهارا، فلو قال إن فعلت كذا فأنت علي كظهر أمي كان يمينا، واطرد هذا أيضا إذا قال: «أنت طالق» كان طلاقا، وإن قال: «إن فعلت كذا وكذا فأنت طالق» كان يمينا فهذه هي الأصول الصحيحة المطردة المأخوذة من الكتاب والسنة والميزان، وبالله التوفيق» . اهـ كلامه رحمه الله (1) .
__________
(1) أعلام الموقعين 3/ 72.(81/120)
المطلب الثالث: الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والظهار والإيجاب، هل يأخذ حكم اليمين أم لا؟
إذا حلف الإنسان بالعتاق أو الطلاق أو النذر ونحوها مما يقصد به الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب ولم يقصد التعليق المحض، كأن يقول إن فعلت كذا فعلي الحج، أو مالي صدقة، أو فنسائي طوالق، أو(81/120)
فعبيدي أحرار، أو قال علي الحج، أو مالي صدقة، أو نسائي طوالق، أو عبيدي أحرار لأفعلن كذا وكذا، فهل هذه يمين أو تأخذ حكم اليمين، أو ليست يمينا ولا تأخذ حكم اليمين؟
وقبل أن أذكر الخلاف في هذه المسألة يحسن أن أذكر الصيغ التي يتكلم بها الناس في الطلاق والعتاق والنذر والظهار والحرام لتتضح صورة المسألة ويتحرر موضع النزاع فيها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «والصيغ التي يتكلم بها الناس في الطلاق والعتاق والنذر والظهار والحرام ثلاثة أنواع:
النوع الأول: صيغة التنجيز مثل أن يقول امرأتي طالق، أو أنت طالق، أو فلانة مطلقة ونحو ذلك، فهذا يقع به الطلاق ولا تنفع فيه الكفارة بإجماع المسلمين.. وكذلك إذا قال عبدي حر، أو علي صيام شهر، أو عتق رقبة، أو الحل علي حرام، أو أنت علي كظهر أمي فهذه كلها إيقاعات لهذه العقود بصيغة التنجيز والإطلاق.
النوع الثاني: أن يحلف بذلك فيقول: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا وكذا، أو لا أفعل كذا وكذا، أو يحلف على غيره - كعبده وصديقه - الذي يرى أنه يبر بقسمه ليفعلن كذا، أو لا يفعل كذا، أو يقول الحل علي حرام لأفعلن كذا أو لا أفعله، أو يقول علي الحج لأفعلن كذا أو لا أفعله ونحو ذلك، فهذه صيغ قسم وهو حالف بهذه الأمور لا موقع لها، وللعلماء في هذه الأيمان ثلاثة أقوال - ثم ذكرها -.(81/121)
النوع الثالث من الصيغ: أن يعلق الطلاق أو العتاق أو النذر بشرط فيقول: إن كان كذا فعلي الطلاق أو الحج، أو فعبيدي أحرار ونحو ذلك، فهذا ينظر إلى مقصوده، فإن كان مقصوده أن يحلف بذلك ليس غرضه وقوع هذه الأمور - كمن ليس غرضه وقوع الطلاق إذا وقع الشرط - فحكمه حكم الحالف (1) وهو من باب اليمين، وإن كان مقصوده وقوع هذه الأمور كمن غرضه وقوع الطلاق عند وقوع الشرط ... فهذا يقع به الطلاق ... إلى أن قال: فالأصل في هذا أن ينظر في مراد المتكلم ومقصوده، فإن كان غرضه أن تقع هذه الأمور وقعت منجزة أو معلقة إذا قصد وقوعها عند وقوع الشرط، وإن كان مقصوده أن يحلف بها وهو يكره وقوعها إذا حنث وإن وقع الشرط فهذا حالف بها لا موقع لها فيكون قوله من باب اليمين لا من باب التطليق والنذر» (2) .
ويؤخذ مما تقدم أن ما كان من الطلاق ونحوه مما ذكر معه بصيغة التنجيز فإنه يقع به الطلاق والعتاق والنذر بإجماع المسلمين وليس فيه كفارة، وليس هو من باب اليمين، وأما ما كان من الطلاق ونحوه بصيغة القسم، أو كان معلقا على شرط والحالف بذلك أو الذي علقه بشرط إنما
__________
(1) يعني وفيه الخلاف المتقدم فيمن حلف بهذه الأمور.
(2) مجموع الفتاوى 33/ 58، 59، 60.(81/122)
يقصد به اليمين ولا يقصد به إيقاع هذه الأمور فهذا محل نزاع بين العلماء رحمهم الله.
يقول ابن رشد: واتفق الجمهور في الأيمان التي ليست إقساما بشيء - يقصد أنها ليست حلفا بأسماء الله وصفاته - وإنما تخرج مخرج الإلزام الواقع بشرط من الشروط، مثل أن يقول القائل: فإن فعلت كذا فعلي مشي إلى بيت الله الحرام، أو إن فعلت كذا وكذا فغلامي حر، أو امرأتي طالق، أنها تلزم في القرب وفيما إذا التزمه الإنسان لزمه بالشرع مثل الطلاق والعتق، واختلفوا هل فيها كفارة أم لا (1) .
إذا فالمختلف فيه هو ما كان من الأيمان الالتزامية بصيغة القسم، والمعلق على صفة إذا كان يقصد بها صاحبها الحلف للحض أو المنع لنفسه أو للغير وهو يكره وقوعها إذا وجدت الصفة أو الشرط، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك على أقوال ثلاثة:
القول الأول: أنه يلزمه ما حلف عليه إذا حنث وأنه إن لم يفعل ما حلف عليه أثم ولا بد وليس في ذلك كفارة، وهو قول مالك في الطلاق والنذر والظهار والتحريم والعتق (2) ، وقول أبي حنيفة في ظاهر
__________
(1) بداية المجتهد 6/ 116.
(2) بداية المجتهد 6/ 116، والمقدمات الممهدات 1/ 405، 576، 577، وقوانين الأحكام الشرعية ص179.(81/123)
الرواية، وقول الشافعي وأحمد في الطلاق والعتق دون النذر، وهو رواية عن أبي حنيفة (1) .
إذا فالأئمة الأربعة متفقون على استثناء الطلاق والعتق من دخول الكفارة فيهما.
القول الثاني: أنه لا يلزمه شيء، وبه قال أهل الظاهر (2) .
القول الثالث: أن هذه أيمان مكفرة إذا حنث فيها كغيرها من الأيمان، ومن العلماء من فرق بين ما عقده بالله من الوجوب وهو الحلف بالنذر، وما عقده لله من تحريم وهو الحلف بالطلاق والعتاق، فقالوا
__________
(1) انظر المصادر المتقدمة في الإحالة رقم (3) .
(2) المحلى 10/ 213 ومجموع الفتاوى 33/ 49.(81/124)
في الأول عليه كفارة يمين، وقالوا في الثاني يلزمه ما علقه وهو الذي حلف به إذا حنث - وهذا قول الشافعي وأحمد وأبي حنيفة في رواية عنه كما تقدم في القول الأول - من أنها أيمان مكفرة يلزم فيها ما يلزم في غيرها من الأيمان، ولم ير شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم التفصيل في ذلك وقالا: بأن هذا هو الذي تدل عليه أقوال الصحابة (1) ، وهو قول في مذهب أبي حنيفة (2) ، وقول الشافعي وأحمد في النذر (3) .
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول:
1- بعمومات أدلة وقوع الطلاق والنذر والعتاق كقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (4) ، وكقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (5) ،
__________
(1) مجموع الفتاوى 33/ 50، 35/ 252، 272 - 273، وأعلام الموقعين 1/ 382، 3/ 59، والفروع 6/ 340.
(2) البناية شرح الهداية 5/ 195.
(3) تقدم ذكر المصادر لقول الشافعي وأحمد في الصفحة السابقة في الإحالة رقم (4) .
(4) سورة البقرة الآية 229
(5) سورة الطلاق الآية 1(81/125)
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (1) » .
ويمكن مناقشة هذا الدليل: بالفرق بين إيقاع الطلاق والعتاق والحلف بهما وهذا ظاهر (2) .
2- أنه التزم الجزاء عند وجود الشرط وقد وجد الشرط فيلزمه كنذر التبرر المعلق بشرط (3) ؛ ولأن الحالف بالطلاق ألا يفعل أو أن يفعل إنما هو مطلق على صفة ما، فإذا وجدت الصفة التي علق عليها طلاق امرأته لزمه ذلك (4) .
ونوقش هذا الدليل والذي قبله بأن هذه العمومات خص منها ما إذا لم يكن قصده الطلاق والعتاق والنذر، وإنما كان قصده بالتعليق الحث أو المنع كما سيأتي في أدلة القول الثاني (5) .
__________
(1) صحيح البخاري «البخاري مع الفتح» 11/ 585، حديث رقم 6700/ باب النذر فيما لا يملك وفي معصية.
(2) مجموع الفتاوى 35 / 282.
(3) مجموع الفتاوى 33/ 49، والمقدمات الممهدات 1/ 405، والهداية 1/ 251.
(4) المقدمات الممهدات 1/ 476.
(5) وانظر المحلى 10/ 213.(81/126)
3- ما روى نافع أن رجلا طلق امرأته البتة إن خرجت فقال ابن عمر: «إن خرجت فقد بانت منه وإن لم تخرج فليس بشيء (1) » .
4- عن عروة بن الزبير قال: «ضرب الزبير أسماء بنت أبي بكر فصاحت بعبد الله بن الزبير فلما رآه قال: أمك طالق إن دخلت، فقال له عبد الله: أتجعل أمي عرضة ليمينك؟، فاقتحم عليه الباب فخلصها فبانت منه، قال: ولقد كنت غلاما ربما أخذت بشعر منكبي ابن الزبير (2) » .
5- عن ابن مسعود رضي الله عنه في رجل قال لامرأته: «إن فعلت كذا وكذا فهي طالق، ففعلته فقال: «هي واحدة وهو أحق بها (3) » .
ويمكن مناقشة هذه الآثار بما قاله ابن القيم: «بأن اليمين بالطلاق والعتاق إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعتق عبده هو مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة، فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبدا وإنما
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه معلقا «البخاري مع الفتح» 9/ 388، باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران والمجنون.
(2) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 338، 339، كتاب الطلاق باب تعليق الطلاق. قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة وهو ضعيف.
(3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 356، باب الطلاق بالوقت والفعل.(81/127)
المحفوظ بصيغة الشرط والجزاء (1) الذي قصد به الطلاق عند وجود الشرط كما في صحيح البخاري عن نافع قال: طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه وإن لم تخرج فليس بشيء ... وأن من يفصل بين القسم المحض والتعليق الذي يقصد به الوقوع فإنه يقول بالآثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب، فإنه صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صور، وصح عنهم عدم الوقوع في صور، والصواب ما أفتوا به في النوعين - ثم ذكر ابن القيم بعض الصور المتقدمة التي أفتوا فيها بوقوع الطلاق المعلق على شرط ثم قال: وأما الآثار عنهم بخلافه - أي بخلاف الوقوع - فصح عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة فيمن حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته أنها تكفر عن يمينها ولا تفرق بينهما.
__________
(1) كما تقدم في الآثار التي استدل بها رقم 3، 4، 5.(81/128)
6- أنه خلاف القياس على الشرط والجزاء المقصودين كقوله إن أبرأتيني فأنت طالق (1) ، وبأنه حكم معلق بشرط فوجب عند ثبوته كسائر الأحكام (2) .
ونوقش هذا الدليل: بالفرق بين ما كان يقصد به وقوع الجزاء عند وقوع الشرط، وما كان يقصد به الحث والمنع دون الوقوع (3) .
7- أن القول بعدم وقوع الطلاق مخالف للإجماع (4) .
ونوقش بعدم التسليم بوجود الإجماع على هذا، فقد قال ابن حزم بعدما ذكر بعض الآثار بأسانيدها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن طاووس وشريح قال: «فهؤلاء علي بن طالب وشريح وطاووس لا يقضون بالطلاق على من حلف به فحنث، ولا يعرف لعلي مخالف من الصحابة رضي الله عنهم» (5) .
وقال أبو الوليد ابن رشد: «فأما ما يلزمه باتفاق فاليمين بالطلاق.. ثم قال: إلا ما روي عن أشهب في الحالف بالطلاق ألا تفعل فعلا فتفعله
__________
(1) أعلام الموقعين 2 / 133، 134.
(2) مجموع الفتاوى 35 / 254.
(3) مجموع الفتاوى 33 / 60، 35 / 250 وما بعدها، وأعلام الموقعين 2 / 134، 133.
(4) انظر: بداية المجتهد 6 / 118، والمنتقى 4 / 117، والمقدمات الممهدات 1 / 576.
(5) المحلى 10 / 213.(81/129)
قاصده لتحنيثه أنه لا شيء عليها» فأثبت الخلاف عن أشهب في هذه المسألة (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والقول بأن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق مذهب خلق كثير من السلف والخلف لكن فيهم من لا يلزمه الكفارة كداود وأصحابه، ومنهم من يلزمه كفارة يمين كطاووس وغيره من السلف والخلف» (2) .
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر - بعدما ذكر الأقوال في المسألة - قال: «وإن كان من الناس من يدعي الإجماع في بعضها، فهذا كما أن كثيرا من مسائل النزاع يدعي فيها الإجماع من لم يعلم النزاع، ومقصوده أني لا أعلم نزاعا، فمن علم النزاع وأثبته كان مثبتا عالما وهو مقدم على النافي الذي لا يعلمه باتفاق المسلمين، وإذا كانت المسألة مسألة نزاع في السلف والخلف ولم يكن مع من ألزم الحالف بالطلاق أو غيره نص كتاب ولا سنة ولا إجماع كان القول بنفي لزومه سائغا باتفاق الأئمة الأربعة وسائر المسلمين» اهـ (3) .
__________
(1) المقدمات الممهدات 1 / 576.
(2) مجموع الفتاوى 33 / 61.
(3) مجموع الفتاوى 33 / 136.(81/130)
وقال في موضع آخر: «وقد علم أنه ليس فيه إجماع» (1) .
دليل القول الثاني: القائل بأنه لا يلزمه شيء -
قالوا بأن هذه أيمان غير شرعية ليس عليها أمر الله ولا أمر رسوله فتكون لاغية (2) .
ويناقش هذا الدليل: بأنه لا يلزم من ذلك عدم وجوب كفارة اليمين كما سيأتي في أدلة القول الثالث.
أدلة القول الثالث: الذي يرى وجوب الكفارة في ذلك -
1- قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (3) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 33 / 195.
(2) المحلى 10 / 211.
(3) سورة المائدة الآية 89(81/131)
قال ابن القيم: «فهذا صريح في كل يمين منعقدة فهذه كفارتها.. فالواجب تحكيم هذا النص العام والعمل بعمومه حتى يثبت إجماع الأمة إجماعا متيقنا على خلافه» (1) .
2- قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (3) .
وجه الدلالة: أن قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (4) نص عام في كل يمين يحلف بها المسلمون أن الله قد فرض لها تحلة، لم تخص منه صورة لا بنص ولا بإجماع، بل هو عام عموما معنويا مع عمومه اللفظي، فإن اليمين معقودة توجب منع المكلف من الفعل فشرع التحلة لهذه العقدة مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة، وهذا موجود في اليمين بالعتق والطلاق أكثر منه في غيرهما من نذر اللجاج والغضب (5) .
__________
(1) أعلام الموقعين 1 / 382.
(2) سورة التحريم الآية 1
(3) سورة التحريم الآية 2
(4) سورة التحريم الآية 2
(5) مجموع الفتاوى 35 / 268، وأعلام الموقعين 1 / 382.(81/132)
3- قوله صلى الله عليه وسلم: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني. (1) » .
وفي رواية: «إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير (2) » .
4- قوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل (3) » .
قال شيخ الإسلام: «فهذه نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة أنه أمر من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أن يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير ولم يفرق بين الحلف بالله أو النذر ونحوه» (4) .
5- ما روى سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة، فقال عمر: إن الكعبة غنية
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 11 / 602، باب الاستثناء في الأيمان حديث رقم 6718.
(2) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 11 / 602، باب الاستثناء في الأيمان حديث رقم 6719.
(3) رواه مسلم في صحيحه «مسلم بشرح النووي» 11 / 114.
(4) مجموع الفتاوى 35 / 280.(81/133)
عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم وفيما لا تملك (1) » .
أن الصحابة فهموا منه دخول الحلف بالنذر في اليمين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - بعد ما أورد أثر عمر - قال: «فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أمر هذا الذي حلف بصيغة الشرط ونذر اللجاج والغضب بأن يكفر عن يمينه وأن لا يفعل ذلك المنذور، واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم وفيما لا تملك (2) » ، ففهم من هذا أن من حلف بيمين أو نذر على معصية أو قطيعة فإنه لا وفاء عليه في ذلك النذر وإنما عليه الكفارة كما أفتاه عمر، ولولا أن هذا النذر كان عنده يمينا لم يقل له كفر عن يمينك وإنما قال صلى الله عليه وسلم: «لا يمين ولا نذر (3) » لأن اليمين ما قصد به الحض أو المنع، والنذر ما قصد به التقرب، وكلاهما لا يوفى به في المعصية والقطيعة، وفي هذا
__________
(1) رواه أبو داود 3 / 227 حديث رقم 3272، باب اليمين في قطيعة الرحم، والحاكم في المستدرك 4 / 300 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في المستدرك: صحيح، ورواه البيهقي في السنن 10 / 33.
(2) أبو داود الأيمان والنذور (3272) .
(3) أبو داود الأيمان والنذور (3272) .(81/134)
الحديث دلالة أخرى وهي أن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يمين ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم» يعم جميع ما يسمى يمينا أو نذرا، سواء كانت اليمين بالله أو كانت بوجوب ما ليس بواجب من الصدقة أو الصيام أو الحج أو الهدي، أو كانت بتحريم الحلال كالظهار والطلاق والعتاق، ومقصود النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون نهيه عن المحلوف عليه من المعصية والقطيعة فقط، أو يكون مقصوده مع ذلك لا يلزمه ما في اليمين أو النذر من الإيجاب والتحريم، وهذا الثاني ظاهر لاستدلال عمر بن الخطاب به، فإنه لولا أن الحديث يدل على هذا لم يصح استدلال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ما أجاب به السائل من الكفارة دون إخراج المال في كسوة الكعبة؛ ولأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم يعم ذلك كله» (1) .
6- ما رواه أبو رافع أن مولاة له أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته فقالت: هي يهودية أو نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تفرق بينهما، فسألت عائشة رضي الله عنها وابن عباس وحفصة وأم
__________
(1) مجموع الفتاوى 35 / 280 - 281.(81/135)
سلمة رضي الله عنهم فكلهم قال: «أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماروت، فأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلي بينهما (1) » .
فإذا كان العتق الذي هو قربة وطاعة لا يلزم ممن لم يرده وتنوب عنه الكفارة فالطلاق لا يلزم بطريق الأولى (2) كما قال ابن عباس رضي الله عنه: «الطلاق عن وطر والعتق ما ابتغي به وجه الله» (3) .
يبينه أن ابن عباس يرى أن الطلاق إنما يقع بمن غرضه أن يوقعه لا من يكره وقوعه كالحالف به والمكره عليه (4) .
وقد ناقش الجمهور أدلة أصحاب هذا القول – المتقدم – بما قاله ابن قدامة حيث قال: «إنه علق العتق على شرط وهو قابل للتعليق فيقع بوجود شرطه كالطلاق، والآية مخصوصة بالطلاق، والعتق في معناه، ولأن العتق ليس بيمين في الحقيقة إنما هو تعليق
__________
(1) مصنف عبد الرزاق 8 / 486، وسنن الدارقطني 4 / 164، وسنن البيهقي 10 / 66، وقد صحح ابن القيم هذا الأثر عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة. أعلام الموقعين 3 / 54 - 56.
(2) انظر مجموع الفتاوى 33 / 61،. بتصرف يسير.
(3) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 9 / 388 في ترجمة الباب الحادي عشر من كتاب الطلاق.
(4) مجموع الفتاوى 33 / 61.(81/136)
على شرط فأشبه الطلاق، فأما حديث أبي رافع قال أحمد: قال فيه: كفري يمينك وأعتقي جاريتك، وهذه زيادة يجب قبولها، ويحتمل أنها لم يكن لها مملوك سواها» (1) .
وأجاب أصحاب هذا القول الثالث عن هذه المناقشة بما أجاب به ابن تيمية بقوله: «قلت: القياس المذكور عندهم منتقض بكل ما يعلقه بالشرط من صدقة المال والمشي إلى مكة والهدي، وقوله «إن فعلت كذا فعلي أن أعتق أو أطلق» ، وقوله «إن فعل كذا فهو يهودي أو نصراني وأمثال ذلك مما صيغته صيغة الشرط وهو عندهم يمين اعتبارا بمعناه، والأصل الذي مشى عليه ممنوع، فإن الطلاق فيه نزاع، بل إذا لم يوقعوا العتاق مع كونه قربة فأولى أن لا يوقعوا الطلاق ...
وأما ما ذكره من الزيادة في حديث أبي رافع وأنهم قالوا: «أعتقي جاريتك» ، فهذا غلط، فإن هذا الحديث لم يذكر فيه أحد أنهم قالوا: «أعتقي جاريتك» وقد رواه أحمد والجوزجاني والأثرم وابن أبي شيبة وحرب الكرماني وغير واحد من المصنفين فلم يذكروا ذلك، وكلام أحمد في عامة
__________
(1) المغني 13 / 479 - 480.(81/137)
أجوبته يبين أنه لم يذكر أحد (1) عنهم ذلك، وإنما أجاب بكون الحلف بعتق المملوك إنما ذكره التيمي ... » (2) .
7- أن الاعتبار في الكلام بمعنى الكلام لا بلفظه، وهذا الحالف ليس مقصوده قربة لله، وإنما مقصوده الحض على الفعل أو المنع منه، ثم إذا علق ذلك الفعل بالله تعالى أجزأته الكفارة، فلأن تجزئه إذا علق به وجوب عبادة أو تحريم مباح بطريق الأولى؛ لأنه إذا علقه بالله ثم حنث كان موجب حنثه أنه قد هتك إيمانه بالله حيث لم يف بعهده، وإذا علق به وجوب فعل أو تحريمه فإنما يكون موجب حنثه ترك واجب أو فعل محرم، ومعلوم أن الحنث الذي موجبه خلل في التوحيد أعظم مما موجبه معصية من المعاصي، فإذا كان الله قد شرع الكفارة لإصلاح ما اقتضى الحنث في التوحيد فساده ونحو ذلك وجبره، فلأن يشرع لإصلاح ما اقتضى الحنث فساده في الطاعة أولى وأحرى» (3) .
__________
(1) في المطبوع من المجموع 33 / 195 (أحمد) والصواب الذي يقتضيه المعنى هو ما أثبته (أحد) .
(2) مجموع الفتاوى 33 / 195.
(3) مجموع الفتاوى 35 / 257، 258.(81/138)
سبب الخلاف والراجح:
يقول ابن رشد: «وسبب اختلافهم هل هي يمين أو نذر، فمن قال إنها يمين أوجب فيها الكفارة لدخولها تحت عموم قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (1) ، ومن قال إنها من جنس النذر أي من جنس الأشياء التي نص الشرع على أنه إذا التزمها الإنسان لزمته قال لا كفارة فيها، لكن يعسر هذا على المالكية لتسميتهم إياها يمينا، لكن لعلهم إنما سموها أيمانا على طريق التجوز والتوسع، والحق أنه ليس يجب أن تسمى بحسب الدلالة اللغوية أيمانا، فإن الأيمان في لغة العرب لها صيغ مخصوصة وإنما يقع اليمين بالأشياء التي تعظم وليست صيغة الشرط هي صيغة اليمين، فأما هل تسمى أيمانا بالعرف الشرعي؟ وهل حكمها حكم الأيمان؟ ففيه نظر، وذلك أنه قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال: «كفارة النذر كفارة يمين (2) » ، وقال تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (3) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 89
(2) رواه مسلم في صحيحه «مسلم بشرح النووي» 11 / 104، كتاب النذور. قال النووي: «اختلف أصحابنا في المراد به – أي بالنذر في هذا الحديث – فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج والغضب، وهو أن يقول الإنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلا، إن كلمت زيدا مثلا فلله علي حجة أو غيرها فيكلمه، فهو بالخيار بين كفارة يمين وبين ما التزمه، هذا هو الصحيح من مذهبنا، وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله: علي نذر، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية، كمن نذر أن يشرب الخمر، وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذور، وقالوا هو مخير في جميع النذورات بين الوفاء بما التزم وبين كفارة يمين، والله أعلم» . شرح النووي 11 / 104.
(3) سورة التحريم الآية 1(81/139)
إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1) فظاهر هذا أنه قد سمي بالشرع القول الذي مخرجه مخرج الشرط أو مخرج الإلزام دون شرط ولا يمين يمينا، فيجب أن تحمل على ذلك جميع الأقاويل التي تجري هذا المجرى إلا ما خصصه الإجماع من ذلك مثل الطلاق، فظاهر هذا الحديث يعطي أن النذر ليس بيمين وأن حكمه حكم اليمين» (2) اهـ.
قلت: يفهم مما ذكره ابن رشد أن ما جاء بهذه الصيغ مما يقصد به الحث أو المنع أنها تسمى في عرف الشرع يمينا، وبالتالي يجب فيها ما يجب في اليمين إلا ما خصصه الإجماع مثل الطلاق، لكن قد تقدم أن الطلاق ليس محل إجماع، وأما ما ذكره من أن هذا يعسر على المالكية من كونهم يسمونها يمينا ولا يرون أن فيها حكم اليمين هو كذلك يعسر على غير المالكية من الحنفية والشافعية والحنابلة حيث إنهم اعتبروا ما كان بصيغة الشرط يمينا اعتبارا بمعناه دون لفظه، وإنما منعوا ذلك في الطلاق والعتاق.
ويفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: «كفارة النذر كفارة يمين (3) » مع قوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (4) » أن الذي يجب الوفاء به بالاتفاق هو نذر التبرر والطاعة المذكور في هذا الحديث (5) ، وأما
__________
(1) سورة التحريم الآية 2
(2) بداية المجتهد 6 / 116 - 118.
(3) مسلم النذر (1645) ، الترمذي النذور والأيمان (1528) ، النسائي الأيمان والنذور (3832) ، أبو داود الأيمان والنذور (3323) ، أحمد (4/149) .
(4) صحيح البخاري «البخاري مع الفتح» 11 / 581، باب النذور في الطاعة حديث رقم 6696.
(5) بداية المجتهد 6 / 118.(81/140)
النذر المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: «كفارة النذر كفارة يمين (1) » فهو ما كان معلقا بشرط مما لا يقصد به النذر وهو الذي يسمى نذر اللجاج والغضب مثل قول القائل: إن كان كذا فعلي الحج أو فعبيدي أحرار أو فعلي المشي إلى بيت الله الحرام وليس مقصوده فعل هذه وإنما مقصوده الحلف، لأن نذر الطاعة يجب الوفاء به وليس فيه كفارة.
الراجح:
بعد ما ذكر من أدلة وإيرادات على الأدلة ومناقشات لها فإن الذي يظهر لي رجحانه والعلم عند الله هو أن الحلف بالطلاق والعتاق والنذر، أو ما كان معلقا منها على شرط وكان يقصد بذلك الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب ولم يقصد به إيقاع هذه الأمور أنه مخير بين إيقاعها وبين أن يكفر عنها كفارة يمين لقوة ما استدل به أصحاب هذا القول وسلامة بعض أدلتهم عن المعارض الذي يوجب ردها، وليس الأمر كذلك في القولين الآخرين، وأن العرف الشرعي يقتضي ذلك أي اعتبارها في حكم اليمين كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} (2) إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (3) وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: «كفارة النذر كفارة يمين (4) » ، ولم يرد دليل متفق عليه يمنع الطلاق أو العتاق من الدخول في هذا المعنى، بل الأدلة تدل على هذا المعنى مع اتفاق الجميع على تسمية ذلك يمينا، والله أعلم.
__________
(1) مسلم النذر (1645) ، الترمذي النذور والأيمان (1528) ، النسائي الأيمان والنذور (3832) ، أبو داود الأيمان والنذور (3323) ، أحمد (4/149) .
(2) سورة التحريم الآية 1
(3) سورة التحريم الآية 2
(4) مسلم النذر (1645) ، الترمذي النذور والأيمان (1528) ، النسائي الأيمان والنذور (3832) ، أبو داود الأيمان والنذور (3323) ، أحمد (4/149) .(81/141)
المطلب الثاني: الحلف بالتحريم أو بالحرام:
الحلف بالحرام له صيغتان:
الأولى: أن يقول: إن فعلت كذا فكذا علي حرام، أو ما أحل الله علي حرام.
والثانية: أن يقول: الحرام يلزمني لا أفعل كذا، أو لأفعل كذا.
وفيه فرعان:
الفرع الأول: الحلف على تحريم غير الزوجة:
كأن يقول إن فعلت كذا وكذا، أو إن لم أفعل كذا وكذا فهذا الطعام أو الشراب أو اللباس علي حرام، وقد اختلف العلماء في ذلك - من(81/141)
ناحية لزوم كفارة اليمين للحالف بهذه الصيغة أو عدم لزومها - على قولين:
القول الأول: أنه لا تلزمه كفارة يمين، فلا تلزمه كفارة اليمين إلا أن يحلف بالله، وهو قول مالك (1) والشافعي (2) .
القول الثاني: أنه تلزمه كفارة اليمين، وهو قول أبي حنيفة (3) وأحمد (4) .
أدلة القول الأول:
1- قول الله تعالى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (5) .
2- قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (6) .
__________
(1) التفريع 1/ 381، والإشراف لعبد الوهاب 2/ 897، وقوانين الأحكام الشرعية ص180
(2) البيان 10/ 495، ومغني المحتاج 3/ 283.
(3) الهداية 2/ 75، والبناية 5/ 193، وفتح القدير 5/ 87.
(4) المغني 13/ 465، 466، وشرح الزركشي 7/ 88، والإنصاف 11/ 30.
(5) سورة المائدة الآية 87
(6) سورة يونس الآية 59(81/109)
فوصف ذلك بأنه افتراء على وجه الزجر عن فعله فدل أنه لا كفارة فيه؛ ولأنه حرم على نفسه مباحا نهي عن تحريمه كاللباس والطيب (1) .
أدلة القول الثاني:
1- قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (2) - إلى قوله - {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (3) .
سمى الله تحريم ما أحله يمينا، وفرض له تحلة وهي الكفارة (4) .
قالت عائشة رضي الله عنها: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا، فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحدانا فقالت له ذلك
__________
(1) الإشراف لعبد الوهاب 2/ 897.
(2) سورة التحريم الآية 1
(3) سورة التحريم الآية 2
(4) المغني 13/ 466.
(5) صحيح البخاري «البخاري مع الفتح» 11/ 574، باب إذا حرم طعاما الحديث رقم 6691، ومسلم «مسلم بشرح النووي» 10/ 73، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو طلاقا.(81/110)
فقال: لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له فنزلت: (2) » متفق عليه.
الراجح: الذي يظهر لي رجحانه هو القول الثاني، فالشارع سمى تحريم الحلال يمينا وفرض له تحلة، والتحلة هي الكفارة، فدل على أنه يجب في ذلك الكفارة عند الحنث كما تجب في اليمين المتفق عليها.
__________
(1) جمع مغفور وهو صمغ حلو كالناطف وله رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له العرفط. شرح النووي لمسلم 10/ 75. (5)
(2) سورة التحريم الآية 1 (1) {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ}(81/111)
الفرع الثاني: الحلف على تحريم الزوجة:
الحلف على تحريم الزوجة فيه أقوال أشهرها سبعة وهي:
القول الأول: أنها يمين يكفرها كفارة اليمين، وهذا القول مروي عن عكرمة وعطاء ومكحول وقتادة والحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ونافع والأوزاعي وأبي ثور (1) .
القول الثاني: أنه لغو لا يترتب عليه شيء، وهو مروي عن الشعبي ومسروق وابن عباس في رواية عنه، وبه قال أهل الظاهر وأكثر أصحاب الحديث، وهو أحد قولي المالكية اختاره أصبغ بن الفرج (2) .
__________
(1) مصنف عبد الرزاق 6/ 399، 6/ 400، والمحلى 10/ 129، وأعلام الموقعين 3/ 71.
(2) المحلى 10/ 126، وأعلام الموقعين 3/ 65.(81/111)
القول الثالث: أنه إن أراد الطلاق فعلى ما نوى، لكن إن أراد واحدة فبائنة، وإن أراد الظهار فظهار، وإن أراد الكذب صدق، وإن أراد التحريم أو لم يرد شيئا فإيلاء وهذا قول الحنفية (1) ، إلا أن المتأخرين منهم صرفوا لفظة التحريم إلى الطلاق حتى قالوا يقع بغير نية وألحقوه بالصريح (2) .
القول الرابع: أنه طلاق ثلاثا إلا إن نوى أقل فحسب نيته، وقيل يلزمه واحدة بينة وهذا هو المشهور عند المالكية (3) .
القول الخامس: أنه إن نوى الطلاق كان طلاقا وكان ما نواه، وإن نوى الظهار كان ظهارا، وإن نوى التحريم ففيه كفارة يمين، وكذا إن أطلق ففيه كفارة يمين على الأظهر عند الشافعية (4) .
القول السادس: أنه ظهار ولو نوى طلاقا أو يمينا على الصحيح من المذهب عند الحنابلة (5) .
__________
(1) الهداية 2/ 75، والبناية 5/ 193، وفتح القدير 5/ 91.
(2) الاختيار 3/ 156.
(3) المنتقى 4/ 9، وقوانين الأحكام الشرعية ص180.
(4) المنهاج وشرحه نهاية المحتاج 6/ 423، ومغني المحتاج 3/ 282.
(5) المحرر 2/ 55، والمغني 10/ 396، 397، 11/ 61، والإنصاف 9/ 197.(81/112)
القول السابع: أنه ظهار ولو نوى به الطلاق وإن حلف به كان يمينا مكفرة، وهو قول الإمام أحمد في رواية عنه (1) وهو الذي يراه شيخ الإسلام ابن تيمية (2) ويرى أنه المشهور من مذهب الإمام أحمد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما إذا حلف بالحرام فقال الحرام يلزمني لا أفعل كذا، والحل علي حرام لأفعل كذا، أو ما أحل الله علي حرام إن فعلت كذا، أو ما يحل على المسلمين يحرم علي إن فعلت كذا وله زوجة ففي هذه المسألة نزاع مشهور بين السلف والخلف لكن القول الراجح أن هذه يمين لا يلزمه طلاق ولو قصد بذلك الحلف الطلاق وهو مذهب أحمد المشهور عنه، حتى لو قال أنت علي حرام ونوى به الطلاق لم يقع به الطلاق عنده» .
__________
(1) المحرر 2/ 55، وأعلام الموقعين 3/ 72.
(2) مجموع الفتاوى 33/ 160، وأعلام الموقعين 3/ 72.(81/113)
ويظهر من الأقوال السابقة أنه إذا نوى الظهار فهو ظهار عند الأئمة الأربعة في المشهور عنهم، وكذا قال ابن قدامة في المغني: «أنه إذا قال أنت علي حرام فإن نوى به الظهار فهو ظهار في قول عامتهم» (1) .
أدلة القول الأول: - الذي يرى أن تحريم الزوجة يمين فيها كفارة -.
1- أنه مروي عن أبي بكر وعمر وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم (2) .
قال ابن القيم: «صح ذلك عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود وعبد الله بن عمر» (3) .
2- أنه ظاهر القرآن فإن الله تعالى ذكر فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال فلا بد أن يتناوله يقينا فلا يجوز جعل تحلة
__________
(1) 11/ 61.
(2) انظر: مصنف عبد الرزاق 6/ 399، والسنن الكبرى للبيهقي 7/ 331، والمحلى لابن حزم 10/ 126.
(3) أعلام الموقعين 3 / 70.(81/114)
الأيمان لغير المذكور قبلها ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله.
أدلة القول الثاني: القائل بأنه لغو لا شيء فيه -
1- ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «إذا حرم امرأته فليس بشيء لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة (1) » .
ونوقش بأن قوله ليس بشيء أي لا تحرم عليه، بدليل ما روى البخاري بسنده عن ابن عباس أنه قال في الحرام: «يكفر» ، وقال ابن عباس: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة (2) » .
2- أنه عمل ليس عليه أمر الله ولا رسوله فيكون لغوا (3) .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 9/ 374، باب لم تحرم ما أحل الله لك رقم الحديث 5266.
(2) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 8/ 656، الحديث رقم 4911.
(3) المحلى 10/ 126.(81/115)
ويمكن مناقشته بأن كونه ليس عليه أمر الله ورسوله لا يلزم أن لا يلزم فيه حكم شرعي، بدليل الظهار فإنه ليس عليه أمر الله ورسوله وتجب فيه الكفارة.
أدلة القول الثالث: القائل إنه إذا أراد الطلاق فواحدة وإن أراد الظهار فظهار وإن أراد الكذب صدق وإن أراد التحريم أو لم يرد شيئا فإيلاء.
أنه إن أراد الطلاق فواحدة بائنة لأنه من الكنايات، وإن نوى الثلاث فثلاث، وإن أراد الظهار فظهار؛ لأن الظهار نوع حرمة وقد نواه فيصدق، وإن أراد التحريم أو لم يرد شيئا فهو إيلاء؛ لأن تحريم الحلال يمين هذا هو الأصل (1) .
وأما على قول المتأخرين من الحنفية من صرف لفظة التحريم إلى الطلاق حتى قالوا يقع بغير نية فإلحاقا له بالصريح لكثرة الاستعمال فيه والعرف (2) .
أدلة القول الرابع: القائل بأنه طلاق ثلاث إلا إن نوى أقل فحسب نيته وقيل يلزمه واحدة بائنة إلا إن نوى فحسب نيته.
1- أنه لفظ جرى عرف الاستعمال له على وجه الطلاق فوجب أن يكون طلاقا أصل ذلك لفظ الطلاق ولا تجب به كفارة
__________
(1) الاختيار 3/ 156، وانظر فتح القدير 5/ 90 - 92، والبناية 5/ 193 - 194.
(2) الاختيار 3/ 156.(81/116)
يمين؛ لأنه لفظ مفسر عري عن القربة واليمين فلم تجب فيه كفارة يمين على الإطلاق وأصل ذلك لفظ الطلاق (1) .
2- أن هذا لفظ طلاق فلم تجب به كفارة يمين على الإطلاق وأصل ذلك لفظ الطلاق (2) .
وأما الدليل على أنه لو قال نويت واحدة أنه لا ينوي في المدخول بها ويلزمه الثلاث: أن الواحدة لا تحرمها بل له ارتجاعها وإنما تحرمها الثلاث، فإذا كان اللفظ الذي هو التحريم إنما يقتضي معنى الثلاث حمل على ذلك ولم يصدق في قوله أردت الواحدة وهي لا تحرمها، وذلك أن لفظ التحريم إنما يقتضي قطع العصمة وتحريم الزوجية بينهما، وذلك لا يكون في المدخول بها إلا بالثلاث (3) .
أدلة القول الخامس: القائل إنه إن نوى الطلاق كان طلاقا وإن نوى الظهار كان ظهارا وإن نوى التحريم ففيه كفارة يمين وكذا إن أطلق ففيه كفارة يمين.
__________
(1) المنتقى 4/ 9.
(2) المصدر السابق الصفحة نفسها.
(3) المصدر السابق الصفحة نفسها.(81/117)
أنه يكون طلاقا إن نواه ويكون ظهارا إن نواه أن كلا منهما يقتضي التحريم فجاز أن يكنى بالحرام (1) .
وأما إن نوى التحريم ففيه كفارة يمين لما روى ابن عباس أنه قال في الحرام يكفر (2) ، فعليه كفارة يمين أي مثلها مثل كفارة اليمين؛ لأن ذلك ليس يمينا؛ لأن اليمين إنما تنعقد باسم من أسماء الله أو صفة من صفاته، ولكن تجب الكفارة لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (3) إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (4) ، أي أوجب عليكم كفارة ككفارة أيمانكم (5) .
ويمكن أن يناقش قولهم هنا إنها ليست يمينا وإنما يجب فيها ما يجب باليمين أي كفارة ككفارة اليمين - يناقش بأن الشارع سمى تحريم الحلال يمينا، وجعل لها تحلة وهي الكفارة فكيف لا تكون يمينا.
ثم إن العبرة بالمعنى فطالما أنه يجب فيها هنا ما يجب في كفارة اليمين دل على أن المعنى والحكم فيهما واحد.
أدلة القول السادس: القائل بأنه ظهار ولو نوى طلاقا أو يمينا.
__________
(1) مغني المحتاج 3/ 282، ونهاية المحتاج 6/ 423.
(2) تقدم تخريجه ص115.
(3) سورة التحريم الآية 1
(4) سورة التحريم الآية 2
(5) مغني المحتاج 3 / 283، ونهاية المحتاج 6/ 423.(81/118)
أنه تحريم للزوجة بغير طلاق فوجبت به كفارة الظهار كما لو قال أنت علي كظهر أمي (1) .
أما كونه ظهارا ولو نوى طلاقا أو يمينا؛ أنه صريح في تحريمها فكان ظهارا وإن نوى غيره (2) .
أدلة القول السابع: القائل بأنه ظهار ولو نوى به الطلاق وإن حلف به كان يمينا مكفرة.
أما الدليل على أنه ظهار ولو نوى به الطلاق فكما تقدم في القول الذي قبل هذا أنه صريح في تحريمها فكان ظهارا (3) .
وأما الدليل على أنه لو حلف به كان يمينا: أن الحالف بالحرام تجزئه كفارة يمين كما تجزئ الحالف بالنذر إذا قال إن فعلت كذا وكذا فعلي الحج أو فمالي صدقة (4) .
الراجح:
الذي يظهر لي من الأقوال المتقدمة أن أرجحها هو القول السابع.
__________
(1) المغني 10/ 396، 397.
(2) المصدر السابق الصفحة نفسها.
(3) المغني 10/ 397.
(4) مجموع الفتاوى 33/ 160، 161.(81/119)
يقول ابن القيم مرجحا هذا القول: «وعليه يدل النص والقياس، فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكرا من القول وزورا، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرمة، وإذا حلف به كان يمينا من الأيمان كما لو حلف بالتزام العتق والحج والصدقة، وهذا محض القياس والفقه، ألا ترى أنه إذا قال لله علي أن أعتق أو أحج أو أصوم لزمه، ولو قال إن كلمت فلانا فلله علي ذلك على وجه اليمين فو يمين، وكذلك لو قال هو يهودي أو نصراني كفر بذلك، ولو قال إن فعلت كذلك فهو يهودي أو نصراني كما يمينا، واطرد هذا بل نظيره من كل وجه أنه إذا قال أنت علي كظهر أمي كان ظهارا، فلو قال إن فعلت كذا فأنت علي كظهر أمي كان يمينا، واطرد هذا أيضا إذا قال: «أنت طالق» كان طلاقا، وإن قال: «إن فعلت كذا وكذا فأنت طالق» كان يمينا فهذه هي الأصول الصحيحة المطردة المأخوذة من الكتاب والسنة والميزان، وبالله التوفيق» . اهـ كلامه رحمه الله (1) .
__________
(1) أعلام الموقعين 3/ 72.(81/120)
المطلب الثالث: الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والظهار والإيجاب، هل يأخذ حكم اليمين أم لا؟
إذا حلف الإنسان بالعتاق أو الطلاق أو النذر ونحوها مما يقصد به الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب ولم يقصد التعليق المحض، كأن يقول إن فعلت كذا فعلي الحج، أو مالي صدقة، أو فنسائي طوالق، أو(81/120)
فعبيدي أحرار، أو قال علي الحج، أو مالي صدقة، أو نسائي طوالق، أو عبيدي أحرار لأفعلن كذا وكذا، فهل هذه يمين أو تأخذ حكم اليمين، أو ليست يمينا ولا تأخذ حكم اليمين؟
وقبل أن أذكر الخلاف في هذه المسألة يحسن أن أذكر الصيغ التي يتكلم بها الناس في الطلاق والعتاق والنذر والظهار والحرام لتتضح صورة المسألة ويتحرر موضع النزاع فيها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «والصيغ التي يتكلم بها الناس في الطلاق والعتاق والنذر والظهار والحرام ثلاثة أنواع:
النوع الأول: صيغة التنجيز مثل أن يقول امرأتي طالق، أو أنت طالق، أو فلانة مطلقة ونحو ذلك، فهذا يقع به الطلاق ولا تنفع فيه الكفارة بإجماع المسلمين.. وكذلك إذا قال عبدي حر، أو علي صيام شهر، أو عتق رقبة، أو الحل علي حرام، أو أنت علي كظهر أمي فهذه كلها إيقاعات لهذه العقود بصيغة التنجيز والإطلاق.
النوع الثاني: أن يحلف بذلك فيقول: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا وكذا، أو لا أفعل كذا وكذا، أو يحلف على غيره - كعبده وصديقه - الذي يرى أنه يبر بقسمه ليفعلن كذا، أو لا يفعل كذا، أو يقول الحل علي حرام لأفعلن كذا أو لا أفعله، أو يقول علي الحج لأفعلن كذا أو لا أفعله ونحو ذلك، فهذه صيغ قسم وهو حالف بهذه الأمور لا موقع لها، وللعلماء في هذه الأيمان ثلاثة أقوال - ثم ذكرها -.(81/121)
النوع الثالث من الصيغ: أن يعلق الطلاق أو العتاق أو النذر بشرط فيقول: إن كان كذا فعلي الطلاق أو الحج، أو فعبيدي أحرار ونحو ذلك، فهذا ينظر إلى مقصوده، فإن كان مقصوده أن يحلف بذلك ليس غرضه وقوع هذه الأمور - كمن ليس غرضه وقوع الطلاق إذا وقع الشرط - فحكمه حكم الحالف (1) وهو من باب اليمين، وإن كان مقصوده وقوع هذه الأمور كمن غرضه وقوع الطلاق عند وقوع الشرط ... فهذا يقع به الطلاق ... إلى أن قال: فالأصل في هذا أن ينظر في مراد المتكلم ومقصوده، فإن كان غرضه أن تقع هذه الأمور وقعت منجزة أو معلقة إذا قصد وقوعها عند وقوع الشرط، وإن كان مقصوده أن يحلف بها وهو يكره وقوعها إذا حنث وإن وقع الشرط فهذا حالف بها لا موقع لها فيكون قوله من باب اليمين لا من باب التطليق والنذر» (2) .
ويؤخذ مما تقدم أن ما كان من الطلاق ونحوه مما ذكر معه بصيغة التنجيز فإنه يقع به الطلاق والعتاق والنذر بإجماع المسلمين وليس فيه كفارة، وليس هو من باب اليمين، وأما ما كان من الطلاق ونحوه بصيغة القسم، أو كان معلقا على شرط والحالف بذلك أو الذي علقه بشرط إنما
__________
(1) يعني وفيه الخلاف المتقدم فيمن حلف بهذه الأمور.
(2) مجموع الفتاوى 33/ 58، 59، 60.(81/122)
يقصد به اليمين ولا يقصد به إيقاع هذه الأمور فهذا محل نزاع بين العلماء رحمهم الله.
يقول ابن رشد: واتفق الجمهور في الأيمان التي ليست إقساما بشيء - يقصد أنها ليست حلفا بأسماء الله وصفاته - وإنما تخرج مخرج الإلزام الواقع بشرط من الشروط، مثل أن يقول القائل: فإن فعلت كذا فعلي مشي إلى بيت الله الحرام، أو إن فعلت كذا وكذا فغلامي حر، أو امرأتي طالق، أنها تلزم في القرب وفيما إذا التزمه الإنسان لزمه بالشرع مثل الطلاق والعتق، واختلفوا هل فيها كفارة أم لا (1) .
إذا فالمختلف فيه هو ما كان من الأيمان الالتزامية بصيغة القسم، والمعلق على صفة إذا كان يقصد بها صاحبها الحلف للحض أو المنع لنفسه أو للغير وهو يكره وقوعها إذا وجدت الصفة أو الشرط، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك على أقوال ثلاثة:
القول الأول: أنه يلزمه ما حلف عليه إذا حنث وأنه إن لم يفعل ما حلف عليه أثم ولا بد وليس في ذلك كفارة، وهو قول مالك في الطلاق والنذر والظهار والتحريم والعتق (2) ، وقول أبي حنيفة في ظاهر
__________
(1) بداية المجتهد 6/ 116.
(2) بداية المجتهد 6/ 116، والمقدمات الممهدات 1/ 405، 576، 577، وقوانين الأحكام الشرعية ص179.(81/123)
الرواية، وقول الشافعي وأحمد في الطلاق والعتق دون النذر، وهو رواية عن أبي حنيفة (1) .
إذا فالأئمة الأربعة متفقون على استثناء الطلاق والعتق من دخول الكفارة فيهما.
القول الثاني: أنه لا يلزمه شيء، وبه قال أهل الظاهر (2) .
القول الثالث: أن هذه أيمان مكفرة إذا حنث فيها كغيرها من الأيمان، ومن العلماء من فرق بين ما عقده بالله من الوجوب وهو الحلف بالنذر، وما عقده لله من تحريم وهو الحلف بالطلاق والعتاق، فقالوا
__________
(1) انظر المصادر المتقدمة في الإحالة رقم (3) .
(2) المحلى 10/ 213 ومجموع الفتاوى 33/ 49.(81/124)
في الأول عليه كفارة يمين، وقالوا في الثاني يلزمه ما علقه وهو الذي حلف به إذا حنث - وهذا قول الشافعي وأحمد وأبي حنيفة في رواية عنه كما تقدم في القول الأول - من أنها أيمان مكفرة يلزم فيها ما يلزم في غيرها من الأيمان، ولم ير شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم التفصيل في ذلك وقالا: بأن هذا هو الذي تدل عليه أقوال الصحابة (1) ، وهو قول في مذهب أبي حنيفة (2) ، وقول الشافعي وأحمد في النذر (3) .
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول:
1- بعمومات أدلة وقوع الطلاق والنذر والعتاق كقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (4) ، وكقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (5) ،
__________
(1) مجموع الفتاوى 33/ 50، 35/ 252، 272 - 273، وأعلام الموقعين 1/ 382، 3/ 59، والفروع 6/ 340.
(2) البناية شرح الهداية 5/ 195.
(3) تقدم ذكر المصادر لقول الشافعي وأحمد في الصفحة السابقة في الإحالة رقم (4) .
(4) سورة البقرة الآية 229
(5) سورة الطلاق الآية 1(81/125)
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (1) » .
ويمكن مناقشة هذا الدليل: بالفرق بين إيقاع الطلاق والعتاق والحلف بهما وهذا ظاهر (2) .
2- أنه التزم الجزاء عند وجود الشرط وقد وجد الشرط فيلزمه كنذر التبرر المعلق بشرط (3) ؛ ولأن الحالف بالطلاق ألا يفعل أو أن يفعل إنما هو مطلق على صفة ما، فإذا وجدت الصفة التي علق عليها طلاق امرأته لزمه ذلك (4) .
ونوقش هذا الدليل والذي قبله بأن هذه العمومات خص منها ما إذا لم يكن قصده الطلاق والعتاق والنذر، وإنما كان قصده بالتعليق الحث أو المنع كما سيأتي في أدلة القول الثاني (5) .
__________
(1) صحيح البخاري «البخاري مع الفتح» 11/ 585، حديث رقم 6700/ باب النذر فيما لا يملك وفي معصية.
(2) مجموع الفتاوى 35 / 282.
(3) مجموع الفتاوى 33/ 49، والمقدمات الممهدات 1/ 405، والهداية 1/ 251.
(4) المقدمات الممهدات 1/ 476.
(5) وانظر المحلى 10/ 213.(81/126)
3- ما روى نافع أن رجلا طلق امرأته البتة إن خرجت فقال ابن عمر: «إن خرجت فقد بانت منه وإن لم تخرج فليس بشيء (1) » .
4- عن عروة بن الزبير قال: «ضرب الزبير أسماء بنت أبي بكر فصاحت بعبد الله بن الزبير فلما رآه قال: أمك طالق إن دخلت، فقال له عبد الله: أتجعل أمي عرضة ليمينك؟، فاقتحم عليه الباب فخلصها فبانت منه، قال: ولقد كنت غلاما ربما أخذت بشعر منكبي ابن الزبير (2) » .
5- عن ابن مسعود رضي الله عنه في رجل قال لامرأته: «إن فعلت كذا وكذا فهي طالق، ففعلته فقال: «هي واحدة وهو أحق بها (3) » .
ويمكن مناقشة هذه الآثار بما قاله ابن القيم: «بأن اليمين بالطلاق والعتاق إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعتق عبده هو مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة، فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبدا وإنما
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه معلقا «البخاري مع الفتح» 9/ 388، باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران والمجنون.
(2) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 338، 339، كتاب الطلاق باب تعليق الطلاق. قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة وهو ضعيف.
(3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 356، باب الطلاق بالوقت والفعل.(81/127)
المحفوظ بصيغة الشرط والجزاء (1) الذي قصد به الطلاق عند وجود الشرط كما في صحيح البخاري عن نافع قال: طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه وإن لم تخرج فليس بشيء ... وأن من يفصل بين القسم المحض والتعليق الذي يقصد به الوقوع فإنه يقول بالآثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب، فإنه صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صور، وصح عنهم عدم الوقوع في صور، والصواب ما أفتوا به في النوعين - ثم ذكر ابن القيم بعض الصور المتقدمة التي أفتوا فيها بوقوع الطلاق المعلق على شرط ثم قال: وأما الآثار عنهم بخلافه - أي بخلاف الوقوع - فصح عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة فيمن حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته أنها تكفر عن يمينها ولا تفرق بينهما.
__________
(1) كما تقدم في الآثار التي استدل بها رقم 3، 4، 5.(81/128)
6- أنه خلاف القياس على الشرط والجزاء المقصودين كقوله إن أبرأتيني فأنت طالق (1) ، وبأنه حكم معلق بشرط فوجب عند ثبوته كسائر الأحكام (2) .
ونوقش هذا الدليل: بالفرق بين ما كان يقصد به وقوع الجزاء عند وقوع الشرط، وما كان يقصد به الحث والمنع دون الوقوع (3) .
7- أن القول بعدم وقوع الطلاق مخالف للإجماع (4) .
ونوقش بعدم التسليم بوجود الإجماع على هذا، فقد قال ابن حزم بعدما ذكر بعض الآثار بأسانيدها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن طاوس وشريح قال: «فهؤلاء علي بن طالب وشريح وطاووس لا يقضون بالطلاق على من حلف به فحنث، ولا يعرف لعلي مخالف من الصحابة رضي الله عنهم» (5) .
وقال أبو الوليد ابن رشد: «فأما ما يلزمه باتفاق فاليمين بالطلاق.. ثم قال: إلا ما روي عن أشهب في الحالف بالطلاق ألا تفعل فعلا فتفعله
__________
(1) أعلام الموقعين 2 / 133، 134.
(2) مجموع الفتاوى 35 / 254.
(3) مجموع الفتاوى 33 / 60، 35 / 250 وما بعدها، وأعلام الموقعين 2 / 134، 133.
(4) انظر: بداية المجتهد 6 / 118، والمنتقى 4 / 117، والمقدمات الممهدات 1 / 576.
(5) المحلى 10 / 213.(81/129)
قاصده لتحنيثه أنه لا شيء عليها» فأثبت الخلاف عن أشهب في هذه المسألة (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والقول بأن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق مذهب خلق كثير من السلف والخلف لكن فيهم من لا يلزمه الكفارة كداود وأصحابه، ومنهم من يلزمه كفارة يمين كطاووس وغيره من السلف والخلف» (2) .
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر - بعدما ذكر الأقوال في المسألة - قال: «وإن كان من الناس من يدعي الإجماع في بعضها، فهذا كما أن كثيرا من مسائل النزاع يدعي فيها الإجماع من لم يعلم النزاع، ومقصوده أني لا أعلم نزاعا، فمن علم النزاع وأثبته كان مثبتا عالما وهو مقدم على النافي الذي لا يعلمه باتفاق المسلمين، وإذا كانت المسألة مسألة نزاع في السلف والخلف ولم يكن مع من ألزم الحالف بالطلاق أو غيره نص كتاب ولا سنة ولا إجماع كان القول بنفي لزومه سائغا باتفاق الأئمة الأربعة وسائر المسلمين» اهـ (3) .
__________
(1) المقدمات الممهدات 1 / 576.
(2) مجموع الفتاوى 33 / 61.
(3) مجموع الفتاوى 33 / 136.(81/130)
وقال في موضع آخر: «وقد علم أنه ليس فيه إجماع» (1) .
دليل القول الثاني: القائل بأنه لا يلزمه شيء -
قالوا بأن هذه أيمان غير شرعية ليس عليها أمر الله ولا أمر رسوله فتكون لاغية (2) .
ويناقش هذا الدليل: بأنه لا يلزم من ذلك عدم وجوب كفارة اليمين كما سيأتي في أدلة القول الثالث.
أدلة القول الثالث: الذي يرى وجوب الكفارة في ذلك -
1- قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (3) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 33 / 195.
(2) المحلى 10 / 211.
(3) سورة المائدة الآية 89(81/131)
قال ابن القيم: «فهذا صريح في كل يمين منعقدة فهذه كفارتها.. فالواجب تحكيم هذا النص العام والعمل بعمومه حتى يثبت إجماع الأمة إجماعا متيقنا على خلافه» (1) .
2- قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (3) .
وجه الدلالة: أن قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (4) نص عام في كل يمين يحلف بها المسلمون أن الله قد فرض لها تحلة، لم تخص منه صورة لا بنص ولا بإجماع، بل هو عام عموما معنويا مع عمومه اللفظي، فإن اليمين معقودة توجب منع المكلف من الفعل فشرع التحلة لهذه العقدة مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة، وهذا موجود في اليمين بالعتق والطلاق أكثر منه في غيرهما من نذر اللجاج والغضب (5) .
__________
(1) أعلام الموقعين 1 / 382.
(2) سورة التحريم الآية 1
(3) سورة التحريم الآية 2
(4) سورة التحريم الآية 2
(5) مجموع الفتاوى 35 / 268، وأعلام الموقعين 1 / 382.(81/132)
3- قوله صلى الله عليه وسلم: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني. (1) » .
وفي رواية: «إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير (2) » .
4- قوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل (3) » .
قال شيخ الإسلام: «فهذه نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة أنه أمر من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أن يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير ولم يفرق بين الحلف بالله أو النذر ونحوه» (4) .
5- ما روى سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة، فقال عمر: إن الكعبة غنية
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 11 / 602، باب الاستثناء في الأيمان حديث رقم 6718.
(2) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 11 / 602، باب الاستثناء في الأيمان حديث رقم 6719.
(3) رواه مسلم في صحيحه «مسلم بشرح النووي» 11 / 114.
(4) مجموع الفتاوى 35 / 280.(81/133)
عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم وفيما لا تملك (1) » .
أن الصحابة فهموا منه دخول الحلف بالنذر في اليمين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - بعد ما أورد أثر عمر - قال: «فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أمر هذا الذي حلف بصيغة الشرط ونذر اللجاج والغضب بأن يكفر عن يمينه وأن لا يفعل ذلك المنذور، واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم وفيما لا تملك (2) » ، ففهم من هذا أن من حلف بيمين أو نذر على معصية أو قطيعة فإنه لا وفاء عليه في ذلك النذر وإنما عليه الكفارة كما أفتاه عمر، ولولا أن هذا النذر كان عنده يمينا لم يقل له كفر عن يمينك وإنما قال صلى الله عليه وسلم: «لا يمين ولا نذر (3) » لأن اليمين ما قصد به الحض أو المنع، والنذر ما قصد به التقرب، وكلاهما لا يوفى به في المعصية والقطيعة، وفي هذا
__________
(1) رواه أبو داود 3 / 227 حديث رقم 3272، باب اليمين في قطيعة الرحم، والحاكم في المستدرك 4 / 300 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في المستدرك: صحيح، ورواه البيهقي في السنن 10 / 33.
(2) أبو داود الأيمان والنذور (3272) .
(3) أبو داود الأيمان والنذور (3272) .(81/134)
الحديث دلالة أخرى وهي أن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يمين ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم» يعم جميع ما يسمى يمينا أو نذرا، سواء كانت اليمين بالله أو كانت بوجوب ما ليس بواجب من الصدقة أو الصيام أو الحج أو الهدي، أو كانت بتحريم الحلال كالظهار والطلاق والعتاق، ومقصود النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون نهيه عن المحلوف عليه من المعصية والقطيعة فقط، أو يكون مقصوده مع ذلك لا يلزمه ما في اليمين أو النذر من الإيجاب والتحريم، وهذا الثاني ظاهر لاستدلال عمر بن الخطاب به، فإنه لولا أن الحديث يدل على هذا لم يصح استدلال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ما أجاب به السائل من الكفارة دون إخراج المال في كسوة الكعبة؛ ولأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم يعم ذلك كله» (1) .
6- ما رواه أبو رافع أن مولاة له أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته فقالت: هي يهودية أو نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تفرق بينهما، فسألت عائشة رضي الله عنها وابن عباس وحفصة وأم
__________
(1) مجموع الفتاوى 35 / 280 - 281.(81/135)
سلمة رضي الله عنهم فكلهم قال: «أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماروت، فأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلي بينهما (1) » .
فإذا كان العتق الذي هو قربة وطاعة لا يلزم ممن لم يرده وتنوب عنه الكفارة فالطلاق لا يلزم بطريق الأولى (2) كما قال ابن عباس رضي الله عنه: «الطلاق عن وطر والعتق ما ابتغي به وجه الله» (3) .
يبينه أن ابن عباس يرى أن الطلاق إنما يقع بمن غرضه أن يوقعه لا من يكره وقوعه كالحالف به والمكره عليه (4) .
وقد ناقش الجمهور أدلة أصحاب هذا القول – المتقدم – بما قاله ابن قدامة حيث قال: «إنه علق العتق على شرط وهو قابل للتعليق فيقع بوجود شرطه كالطلاق، والآية مخصوصة بالطلاق، والعتق في معناه، ولأن العتق ليس بيمين في الحقيقة إنما هو تعليق
__________
(1) مصنف عبد الرزاق 8 / 486، وسنن الدارقطني 4 / 164، وسنن البيهقي 10 / 66، وقد صحح ابن القيم هذا الأثر عن عائشة وابن عباس وحفصة وأم سلمة. أعلام الموقعين 3 / 54 - 56.
(2) انظر مجموع الفتاوى 33 / 61،. بتصرف يسير.
(3) رواه البخاري في صحيحه «البخاري مع الفتح» 9 / 388 في ترجمة الباب الحادي عشر من كتاب الطلاق.
(4) مجموع الفتاوى 33 / 61.(81/136)
على شرط فأشبه الطلاق، فأما حديث أبي رافع قال أحمد: قال فيه: كفري يمينك وأعتقي جاريتك، وهذه زيادة يجب قبولها، ويحتمل أنها لم يكن لها مملوك سواها» (1) .
وأجاب أصحاب هذا القول الثالث عن هذه المناقشة بما أجاب به ابن تيمية بقوله: «قلت: القياس المذكور عندهم منتقض بكل ما يعلقه بالشرط من صدقة المال والمشي إلى مكة والهدي، وقوله «إن فعلت كذا فعلي أن أعتق أو أطلق» ، وقوله «إن فعل كذا فهو يهودي أو نصراني وأمثال ذلك مما صيغته صيغة الشرط وهو عندهم يمين اعتبارا بمعناه، والأصل الذي مشى عليه ممنوع، فإن الطلاق فيه نزاع، بل إذا لم يوقعوا العتاق مع كونه قربة فأولى أن لا يوقعوا الطلاق ...
وأما ما ذكره من الزيادة في حديث أبي رافع وأنهم قالوا: «أعتقي جاريتك» ، فهذا غلط، فإن هذا الحديث لم يذكر فيه أحد أنهم قالوا: «أعتقي جاريتك» وقد رواه أحمد والجوزجاني والأثرم وابن أبي شيبة وحرب الكرماني وغير واحد من المصنفين فلم يذكروا ذلك، وكلام أحمد في عامة
__________
(1) المغني 13 / 479 - 480.(81/137)
أجوبته يبين أنه لم يذكر أحد (1) عنهم ذلك، وإنما أجاب بكون الحلف بعتق المملوك إنما ذكره التيمي ... » (2) .
7- أن الاعتبار في الكلام بمعنى الكلام لا بلفظه، وهذا الحالف ليس مقصوده قربة لله، وإنما مقصوده الحض على الفعل أو المنع منه، ثم إذا علق ذلك الفعل بالله تعالى أجزأته الكفارة، فلأن تجزئه إذا علق به وجوب عبادة أو تحريم مباح بطريق الأولى؛ لأنه إذا علقه بالله ثم حنث كان موجب حنثه أنه قد هتك إيمانه بالله حيث لم يف بعهده، وإذا علق به وجوب فعل أو تحريمه فإنما يكون موجب حنثه ترك واجب أو فعل محرم، ومعلوم أن الحنث الذي موجبه خلل في التوحيد أعظم مما موجبه معصية من المعاصي، فإذا كان الله قد شرع الكفارة لإصلاح ما اقتضى الحنث في التوحيد فساده ونحو ذلك وجبره، فلأن يشرع لإصلاح ما اقتضى الحنث فساده في الطاعة أولى وأحرى» (3) .
__________
(1) في المطبوع من المجموع 33 / 195 (أحمد) والصواب الذي يقتضيه المعنى هو ما أثبته (أحد) .
(2) مجموع الفتاوى 33 / 195.
(3) مجموع الفتاوى 35 / 257، 258.(81/138)
سبب الخلاف والراجح:
يقول ابن رشد: «وسبب اختلافهم هل هي يمين أو نذر، فمن قال إنها يمين أوجب فيها الكفارة لدخولها تحت عموم قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (1) ، ومن قال إنها من جنس النذر أي من جنس الأشياء التي نص الشرع على أنه إذا التزمها الإنسان لزمته قال لا كفارة فيها، لكن يعسر هذا على المالكية لتسميتهم إياها يمينا، لكن لعلهم إنما سموها أيمانا على طريق التجوز والتوسع، والحق أنه ليس يجب أن تسمى بحسب الدلالة اللغوية أيمانا، فإن الأيمان في لغة العرب لها صيغ مخصوصة وإنما يقع اليمين بالأشياء التي تعظم وليست صيغة الشرط هي صيغة اليمين، فأما هل تسمى أيمانا بالعرف الشرعي؟ وهل حكمها حكم الأيمان؟ ففيه نظر، وذلك أنه قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال: «كفارة النذر كفارة يمين (2) » ، وقال تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (3) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 89
(2) رواه مسلم في صحيحه «مسلم بشرح النووي» 11 / 104، كتاب النذور. قال النووي: «اختلف أصحابنا في المراد به – أي بالنذر في هذا الحديث – فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج والغضب، وهو أن يقول الإنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلا، إن كلمت زيدا مثلا فلله علي حجة أو غيرها فيكلمه، فهو بالخيار بين كفارة يمين وبين ما التزمه، هذا هو الصحيح من مذهبنا، وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله: علي نذر، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية، كمن نذر أن يشرب الخمر، وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذور، وقالوا هو مخير في جميع النذورات بين الوفاء بما التزم وبين كفارة يمين، والله أعلم» . شرح النووي 11 / 104.
(3) سورة التحريم الآية 1(81/139)
إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1) فظاهر هذا أنه قد سمي بالشرع القول الذي مخرجه مخرج الشرط أو مخرج الإلزام دون شرط ولا يمين يمينا، فيجب أن تحمل على ذلك جميع الأقاويل التي تجري هذا المجرى إلا ما خصصه الإجماع من ذلك مثل الطلاق، فظاهر هذا الحديث يعطي أن النذر ليس بيمين وأن حكمه حكم اليمين» (2) اهـ.
قلت: يفهم مما ذكره ابن رشد أن ما جاء بهذه الصيغ مما يقصد به الحث أو المنع أنها تسمى في عرف الشرع يمينا، وبالتالي يجب فيها ما يجب في اليمين إلا ما خصصه الإجماع مثل الطلاق، لكن قد تقدم أن الطلاق ليس محل إجماع، وأما ما ذكره من أن هذا يعسر على المالكية من كونهم يسمونها يمينا ولا يرون أن فيها حكم اليمين هو كذلك يعسر على غير المالكية من الحنفية والشافعية والحنابلة حيث إنهم اعتبروا ما كان بصيغة الشرط يمينا اعتبارا بمعناه دون لفظه، وإنما منعوا ذلك في الطلاق والعتاق.
ويفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: «كفارة النذر كفارة يمين (3) » مع قوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (4) » أن الذي يجب الوفاء به بالاتفاق هو نذر التبرر والطاعة المذكور في هذا الحديث (5) ، وأما
__________
(1) سورة التحريم الآية 2
(2) بداية المجتهد 6 / 116 - 118.
(3) مسلم النذر (1645) ، الترمذي النذور والأيمان (1528) ، النسائي الأيمان والنذور (3832) ، أبو داود الأيمان والنذور (3323) ، أحمد (4/149) .
(4) صحيح البخاري «البخاري مع الفتح» 11 / 581، باب النذور في الطاعة حديث رقم 6696.
(5) بداية المجتهد 6 / 118.(81/140)
النذر المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: «كفارة النذر كفارة يمين (1) » فهو ما كان معلقا بشرط مما لا يقصد به النذر وهو الذي يسمى نذر اللجاج والغضب مثل قول القائل: إن كان كذا فعلي الحج أو فعبيدي أحرار أو فعلي المشي إلى بيت الله الحرام وليس مقصوده فعل هذه وإنما مقصوده الحلف، لأن نذر الطاعة يجب الوفاء به وليس فيه كفارة.
الراجح:
بعد ما ذكر من أدلة وإيرادات على الأدلة ومناقشات لها فإن الذي يظهر لي رجحانه والعلم عند الله هو أن الحلف بالطلاق والعتاق والنذر، أو ما كان معلقا منها على شرط وكان يقصد بذلك الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب ولم يقصد به إيقاع هذه الأمور أنه مخير بين إيقاعها وبين أن يكفر عنها كفارة يمين لقوة ما استدل به أصحاب هذا القول وسلامة بعض أدلتهم عن المعارض الذي يوجب ردها، وليس الأمر كذلك في القولين الآخرين، وأن العرف الشرعي يقتضي ذلك أي اعتبارها في حكم اليمين كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} (2) إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (3) وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: «كفارة النذر كفارة يمين (4) » ، ولم يرد دليل متفق عليه يمنع الطلاق أو العتاق من الدخول في هذا المعنى، بل الأدلة تدل على هذا المعنى مع اتفاق الجميع على تسمية ذلك يمينا، والله أعلم.
__________
(1) مسلم النذر (1645) ، الترمذي النذور والأيمان (1528) ، النسائي الأيمان والنذور (3832) ، أبو داود الأيمان والنذور (3323) ، أحمد (4/149) .
(2) سورة التحريم الآية 1
(3) سورة التحريم الآية 2
(4) مسلم النذر (1645) ، الترمذي النذور والأيمان (1528) ، النسائي الأيمان والنذور (3832) ، أبو داود الأيمان والنذور (3323) ، أحمد (4/149) .(81/141)
الخاتمة وتتضمن أهم النتائج:
1- أولى تعريفات اليمين في الاصطلاح أن يقال: «إن الحلف ما تعلق به حث أو منع أو تحقيق خبر» لتدخل الأيمان الالتزامية كالحلف بالطلاق والعتاق والنذر وكالحلف بملة غير الإسلام، ولذلك أدخل الفقهاء رحمهم الله هذه الأمور جميعها في باب الأيمان وسموها أيمانا وإن كان قد اختلفوا هل تكفر أو لا تكفر.
2- أنه قد دل على مشروعية اليمين الكتاب والسنة والإجماع.
3- أن الحكمة من مشروعية اليمين توكيد الشيء المحلوف عليه.
4- أن الحلف بالله يمين منعقدة محترمة تجب فيها الكفارة إذا حنث فيها، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.
5- أن اليمين بغير الله كالحلف بالمخلوقات يمين غير محترمة لا تنعقد، ولا كفارة بالحنث فيها باتفاق العلماء.
6- أن الحلف بملة غير الإسلام، والحلف بتحريم الحلال كالحلف بتحريم الزوجة أو تحريم غير الزوجة، والحلف بالنذر والطلاق والعتاق إذا كان يقصد بها الحث أو المنع ولا يقصد بها إيقاع هذه الأمور أن هذا كله محل خلاف بين الفقهاء.(81/142)
7- أن الحلف بالطلاق أو العتاق إذا كان مقصوده إيقاعهما فإنهما يقعان ولا تنفع فيهما الكفارة بالاتفاق، وأما إن كان مقصوده الحلف بهما وليس إيقاعهما فذلك محل خلاف بين العلماء.
8- أن من قال هو يهودي أو نصراني أو مجوسي إن فعل كذا وكذا، أو هو بريء من الإسلام أو نحو هذا أن الراجح في ذلك أنها يمين وعليه الكفارة لو حنث.
9- أن الحلف بتحريم الطعام ونحوه يأخذ حكم اليمين على القول الراجح.
10- أن الحلف بتحريم الزوجة يمين مكفرة على القول الراجح.
11- أن الحلف بالطلاق والعتاق سواء كان بصيغة القسم أو معلق على شرط أو صفة ويقصد به صاحبه الحلف للحض أو المنع لنفسه أو للغير وهو يكره وقوع الطلاق والعتاق إذا وقع بهذه الصيغة فإنه يكون يمينا فيها الكفارة على القول الراجح، وأما إذا كان يقصد الطلاق أو العتاق فإنهما يقعان ولا تنفع فيهما الكفارة عند الحنث فيهما.(81/143)
موقف الإسلام من الاختلاط
(شبهات وردود)
لفضيلة الدكتور مفرح بن سليمان بن عبد الله القوسي
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) .
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (3) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة الأحزاب الآية 70
(4) سورة الأحزاب الآية 71(81/145)
أما بعد:
يكثر في الطروحات المعاصرة الحديث عن المرأة المسلمة، وتثار في هذه الطروحات العديد من الشبهات حول نظرة الإسلام إليها وموقفه من قضاياها.
ومن أبرز هذه الشبهات: ما أثير حول قضية خروج المرأة المسلمة من بيتها من أجل العمل واختلاطها بالرجال الأجانب عنها، وتكمن خطورة هذه الشبهات في أنها تصدر أحيانا من أناس يحسبون على الاتجاه الإسلامي، وفي وقت ينتظر فيه منهم الذود عن الإسلام ونصرة قضاياه، ولا سيما في الآونة الأخيرة التي كثر فيها الهجوم السافر على الإسلام من قبل غير المسلمين.
ومن هؤلاء الإسلاميين: باحث اشتهر بالدعوة إلى خروج المرأة المسلمة من بيتها واختلاطها بالرجال الأجانب عنها لمشاركتهم في الاشتغال بالشؤون العامة، ومحاولته إيجاد المستند الشرعي لدعوته تلك لكي تبدو موافقة للشرع ومسايرة لأحكامه.
لذا أحببت أن أسهم بجهدي المتواضع في بيان الموقف الصحيح للإسلام من هذه القضية الهامة، ومناقشة أقوال هذا الباحث فيها ببحث(81/146)
مؤصل وموثق بالأدلة الشرعية، وذلك إحقاقا للحق، ودفعا للباطل، وتنبيها للغافل، وتعليما للجاهل. فلا شك أن ذلك من أولى الواجبات على طلاب العلم الشرعي.
خطة البحث:
يتكون البحث من مقدمة، وتمهيد، وصلب للبحث، وخاتمة.
أما المقدمة: فتشمل على ما يلي:
1- بيان أهمية موضوع البحث.
2- خطة البحث.
3- منهج البحث.
وأما التمهيد: فيشتمل على عرض لأبرز الشبهات المثارة حول قضية الاختلاط.
وأما صلب البحث: فهو في مناقشة هذه الشبهات والرد عليها، ويشتمل على تسع نقاط أساسية.
وأما الخاتمة: فتشتمل على أبرز النتائج العلمية للبحث.
منهج البحث:
اقتضت طبيعة هذا البحث اتباع منهجين في إعداده:
أحدهما: المنهج التأصيلي، وذلك عند بيان موقف الإسلام من قضية خروج المرأة من بيتها واختلاطها بالرجال الأجانب عنها، حيث اعتمدت في ذلك على النصوص الشرعية وأقوال السلف الصالح وفهمهم لهذه(81/147)
النصوص وتطبيقاتهم لها.
الثاني: المنهج التحليلي النقدي، وذلك عند مناقشة الشبهات المثارة حول هذه القضية وتفنيدها.
وقد اجتهدت في مراعاة قواعد البحث العلمي، من حيث:
الرجوع إلى المصادر الأصلية، والتزام الأمانة العلمية في العزو والاقتباس والنقل، وترقيم الآيات القرآنية وبيان سورها، وتخريج الأحاديث النبوية، وكذا العناية بقواعد اللغة العربية والإملاء وعلامات الترقيم، مجتنبا الإسهاب والإطالة وغموض العبارة.
أما بالنسبة للنقول والإحالات في الحواشي فقد سلكت فيها المسلك التالي:
1- إذا تصرفت في النص المنقول تصرفا يسيرا أوردته بين قوسي تنصيص وأشرت في الحاشية إلى أن النقل كان بتصرف يسير، وإذا تصرفت فيه تصرفا كثيرا ذكرت في الحاشية كلمة (انظر) ، أما إذا لم أتصرف فيه مطلقا بأن كان نقلا حرفيا أوردته بين قوسي تنصيص واكتفيت بالإشارة إلى المرجع دون كلمة (انظر) .
2- إذا استبدلت كلمة أو كلمتين في النص المنقول حرفيا وضعتها بين هاتين الحاصرتين [] ، ويكون الاستبدال – في الغالب – بسبب ركاكة في اللفظ، أو خطأ في الأسلوب، أو في النحو....
3- إذا كررت النقل من المرجع دون أن يفصل بين النقلين نقل من(81/148)
مرجع آخر، ذكرت في الحاشية عبارة (المرجع السابق) .
4- إذا وضعت بين الكلمات هذه النقاط الثلاث ( ... ) ، فإن ذلك يعني أن هناك كلاما محذوفا تم الاستغناء عنه طلبا للاختصار، أو لعدم الفائدة من ذكره.
وبعد: فقد بذلت في هذا البحث ما استطعت من جهد، فإن وفقت فيه إلى الصواب، فذلك من فضل الله عز وجل وكرمه، وإن أخطأت أو قصرت، فأرجوه سبحانه أن يغفر لي، وحسبي أني نشدت فيه الإتقان، وابتغيت الصواب والإحسان.
أسأل الله جلت قدرته أن يجعل ذلك في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.(81/149)
تمهيد:
(عرض لأبرز الشبهات المثارة حول قضية الاختلاط)
من أهم أفكار الباحث المشار إليه في المقدمة وطروحاته التحديثية:
دعوته إلى خروج المرأة من بيتها واختلاطها بالرجال الأجانب لمشاركتهم في الاشتغال بالشؤون العامة، ومحاولته إيجاد المستند الشرعي لدعوته تلك لكي تبدو موافقة للشرع مسايرة لأحكامه، حيث ادعى أن الإسلام لم يمنع اختلاط الجنسين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام لم يمنعوا ذلك، بل كانت مجتمعاتهم مختلطة، وأنه لم يمنع الاختلاط إلا في عصور الانحطاط الإسلامية، كما ادعى أن طهارة القلب والاختلاط في الأجواء البعيدة عن الإثارة الجنسية والمفعمة بروح الفطرة والعفوية كفيل بالمنع من الوقوع في مواضع الفسق ومواطن الردى، وادعى أيضا أن بقاء المرأة في بيتها وابتعادها عن الاختلاط بالرجال الأجانب ما هو إلا حبس واسترقاق لها، فنراه يقول تحت عنوان (عمل المرأة) : (في المجتمعات الإسلامية [السابقة] وقد كانت مجتمعات زراعية ريفية كانت المرأة تساهم في كل مراحل الإنتاج الزراعي والرعوي، وكانت وضعية الأسرة من الغنى والفقر هي التي تحدد تدخل المرأة في عملية الإنتاج الاقتصادي أو عدم تدخلها، فلماذا يطرح إسلاميو العصر هذا الشكل إذن – يعني منع الاختلاط – إنهم لا يعترضون على المرأة الريفية أن تعمل في الحقل وتعين زوجها رغم اختلاطها بالرجال في جو جاد بعيد عن الإثارة(81/150)
ومفعم بروح الفطرة والعفوية، وهم لا يعترضون على عمل المرأة في منزلها في الصناعات اليدوية وإنما اعتراضهم على عملها في الإدارة والمصنع وفي اشتراكها في الحياة الاقتصادية وقد انتقلت من مرحلة الإنتاج الفردي إلى مرحلة الإنتاج الجماعي، واعتراضهم لا ينطلق حسب ذلك من منطلقات النصوص التي لم تحدد للمرأة عملا معينا، وإنما انطلاقا من صورة المجتمع الريفي التي لا تزال مهيمنة على أذهانهم فلا يتصورون الإسلام إلا مطبقا في مجتمع ريفي) (1) .
ويقول أيضا مزهدا المرأة بوظيفتها الأساسية، وهي رعاية بيتها وزوجها وأطفالها ومحرضا إياها على الخروج من بيتها للعمل: (ومن المهم في باب عمل المرأة إبداء الملاحظات التالية:
- ليس في الإسلام ما يوجب على المرأة القيام برعايتها لبيت الزوجية والأطفال، فإن قامت بذلك فمن محض رضاها واختيارها وتستحق على ذلك الأجر أو الشكر على الأقل إن تنازلت عن الأجر.
- هناك ضرورة لوجود العنصر النسائي الإسلامي في المؤسسات الصحية والتعليمية بغاية تبليغ الدعوة الإسلامية، مما يجعل المصالح من وجود الأخت في هذه المؤسسات تفوق المخاطر والمحاذير، فالمطلوب إذن أن نعمل على تكوين روح مواجهة لدى الأجيال الجديدة بعيدا عن روح الخوف والحذر وسد الذرائع، تلك الروح التي سادت في عصور
__________
(1) المرأة المسلمة في تونس بين توجيهات القرآن وواقع المجتمع التونسي ص99.(81/151)
الانحطاط وكبلت المجتمع الإسلامي؛ خاصة وأن وجود المرأة في المؤسسة غدا أمرا واقعيا فلا بد من مواجهته بروح جريئة) (1) .
ويقول تحت عنوان (قضية الاختلاط) : (لقد اختلفت الكتابات الإسلامية المعاصرة وهي تحاول التصدي لتيارات العصر الجارفة التي لم تستطع هضمها، معتصمة بمواقع اجتماعية ريفية اختلقت موضوعات فقهية لم تعرفها كتب الفقه القديمة وشغلت أذهان الناشئة بمناقشتها، ومن ذلك: الموضوع المسمى بـ (الاختلاط بين الجنسين) والتشديد في تحريمه على كل المستويات دون تحديد دقيق لهذا المفهوم معيدة إلى الأذهان فترة المجتمعات الإسلامية الانفصالية التي سادت في عصر الانحطاط، فماذا يعنون بالاختلاط؟.. إن كانوا يعنون منع وجود الرجال والنساء تحت سقف واحد لتعلم العلم أو مدارسة شؤون المسلمين متأدبين بالآداب الشرعية في الهيئة والحركة، حتى وإن يكن ذلك السقف سقف مسجد أو مدرسة أو ناد ثقافي أو مجلس تذكير وإرشاد أو في ساحة جهاد أو مسيرة احتجاج، فقد أخطئوا وصادموا الصورة التي نقلتها لنا النصوص الثابتة عن مجتمع الموحدين فيما تلا ذلك من الراشدين حيث كان المجتمع الإسلامي واحدا بعيدا عن فكرة المجتمعات المنفصلة التي تولدت في عصور الانحطاط، ففي المساجد والأسواق وساحات الجهاد
__________
(1) المرجع السابق 100 – 101 بتصرف يسير.(81/152)
كنت تجد مجتمعا واحدا من الرجال والنساء تسودهما علاقات عفوية جادة، فكانت النساء يشهدن مجالس العلم بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم دون حواجز، وكانت المرأة تعبر عن رأيها دون أن يطرح أحد في مسجد النبي قضية هل إن صوتها عورة أم لا؟ فكن يجادلن في مجلس النبي وخلفائه، وكانت السيدة عائشة تتصدى للفتوى، وكانت النساء يستشرن في أمهات القضايا السياسية.. فلا عزل بين الرجال والنساء في صلاة أو مجلس علم أو سوق أو ساحة جهاد أو مجلس تشاور في أمور المسلمين، ولا عزل بين الرجال والنساء فللمرأة أن تستقبل ضيوف الأسرة وتحدثهم وتخدم ضيوف زوجها، وكل ذلك في إطار آداب الإسلام وتعاليمه، وهي وإن لم تفرض عزلة بين الجنسين فقد فرضت عفة النظر وطهارة القلب وضرورة أن يستشعر كل من الجنسين رقابة الله فلا يسلك سبيلا للإغراء وإثارة الفتنة ... إن الإسلام لا يصل إلى أهدافه في تطهير العلاقات بين الجنسين من التحلل والفساد عن طريق تكثيف الحجب وتحويل البيوت إلى سجون للنساء والحكم عليهن جميعا بما حكم به اللاتي أتين الفاحشة. بل إن تعويل الإسلام في تحقيق أهدافه وقيمه إنما يقوم أساسا على التوعية والتربية العقائديتين وإشاعة أجواء الطهر والعفة والتعاون على الخير في العلاقات البشرية) (1) .
__________
(1) المرجع السابق ص106 - 109.(81/153)
ولما واجهته آية {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (1) الدالة على ضرورة قرار المرأة المسلمة في بيتها وابتعادها عن مخالطة الرجال الأجانب، ادعى أنها موضع خلاف بين العلماء في مدلولها، فنراه يقول: (اختلف العلماء في تفسير {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (2) فذهب بعضهم إلى أنها من الوقار، وذهب البعض الآخر على أنها من القرار. كما اختلفوا: هل هي خاصة بنساء النبي كما هو سياق الآية أم هي عامة للنساء، وحتى على فرض عمومها فهي لا تمنع المرأة من الخروج لقضاء حاجاتها من تعلم وعمل وجهاد ودعوة) (3) .
واحتج لدعوته إلى خروج المرأة من بيتها ومخالطتها الرجال الأجانب في العمل؛ احتج له بأن هذا ما تمليه ضرورات التطور، وما يستلزمه انتقال المجتمعات الإسلامية من الوضع الريفي إلى الوضع المدني، فنراه يقول: (إن خروج المرأة قد فرضته ضرورات مختلفة، ولقد جاء الإسلام بمبادئ عامة لتعاون المجتمعات، وترك للفكر الإسلامي أن يستنبط الأشكال الملائمة لذلك التعاون، والمجتمعات الإسلامية عموما تتجه اليوم من الوضع الريفي إلى الوضع المدني، ومن حالة انطماس شخصية الفرد إلى حالة السعي لتأكيدها، وهذه الاتجاهات للتطور غلابة، فواجب الحركة الإسلامية بدل التصدي لها؛ فهمها واستيعابها
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 33
(3) المرجع السابق، ص109.(81/154)
والعمل على توجيهها بما يناسب مبادئ الإسلام وقيمه العليا، فالحديث عن منع الاختلاط أمام اتجاه هذه التطورات لا يدل على وعي كاف باتجاهاتها) (1) .
__________
(1) المرجع السابق، ص110.(81/155)
مناقشة الشبهات في قضية الاختلاط:
إذا أمعنا النظر في الأفكار والطروحات التي عرضنا لها آنفا يتضح لنا جليا أن صاحبها يرى أنه لا بد من خروج المرأة المسلمة من بيتها ومخالطتها الرجال الأجانب للمشاركة في العمل في المؤسسات الاقتصادية والسياسية والصحية والتعليمية والثقافية بهدف تبليغ الدعوة الإسلامية، وذلك لما يلي:
1- لأن الإسلام لم يمنع اختلاط الجنسين، ولم يمنعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام، فقد كانت مجتمعاتهم مختلطة في المساجد والأسواق ومجالس العلم وساحات الجهاد ومجالس التشاور في أمور المسلمين، ولم يمنع الاختلاط إلا في المجتمعات الإسلامية الانفصالية التي سادت في عصور الانحطاط.
2- ولعدم صحة الاستدلال بقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (1) على منع الاختلاط، وذلك لاختلاف العلماء في معنى الآية، فذهب بعضهم إلى أنها من (الوقار) ، وذهب البعض الآخر إلى أنها من (القرار) ،
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33(81/155)
ولاختلافهم أيضا في تعيين المخاطب بها: هل هن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كما هو سياق الآية أم عامة النساء.
3- ولأن الإسلام لا يصل إلى أهدافه في تطهير العلاقات بين الجنسين من التحلل والفساد عن طريق تكثيف الحجب وتحويل البيوت إلى سجون للنساء والحكم عليهن جميعا بما حكم به اللاتي أتين الفاحشة. بل إن تعويل الإسلام في تحقيق أهدافه وقيمه تلك إنما يقوم أساسا على التوعية والتربية العقائديتين وإشاعة أجواء الطهر والعفة والتعاون على الخير في العلاقات البشرية.
4- ولأن النصوص الشرعية لم تحدد عملا معينا للمرأة، وليس في الإسلام ما يوجب عليها القيام برعايتها لبيتها وزوجها وأطفالها.
5- ولأن خروج المرأة من بيتها ومخالطتها الرجال الأجانب في العمل هو ما تمليه ضرورات التطور وما يستلزمه انتقال المجتمعات الإسلامية من الوضع الريفي إلى الوضع المدني، فلا بد من فهم مظاهر التطور هذه واستيعابها وفق مبادئ الإسلام؛ بعيدا عن روح الخوف والحذر وسد الذرائع، تلك الروح التي سادت في عصور الانحطاط وكبلت المجتمع الإسلامي.
وأقول – مستعينا بالله – هذه الدعوى فيها العديد من المغالطات التي لبس فيها الحق بالباطل، وأرد عليها تباعا من النقاط التالية:
أولا: لقد دل الكتاب والسنة على منع الاختلاط بين الجنسين(81/156)
وتحريمه وتحريم جميع الوسائل المؤدية إليه، ودليل ذلك في الكتاب:
1- قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (1) {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (2) ، حيث أمر سبحانه أمهات المؤمنين – وجميع المسلمات والمؤمنات داخلات في ذلك – بالقرار في البيوت لما في ذلك من صيانتهن وإبعادهن عن وسائل الفساد، لأن الخروج لغير حاجة قد يفضي إلى شرور عدة كالتبرج والخلوة بالأجنبي، ثم أمرهن بالأعمال الصالحة التي تنهاهن عن الفحشاء والمنكر، وذلك بإقامتهن الصلاة وإيتائهن الزكاة وطاعتهن لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم وجههن إلى ما يعود عليهن بالنفع في الدنيا والآخرة، وذلك بأن يكن على اتصال دائم بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية المطهرة اللذين فيهما ما يجلو صدأ القلوب ويطهرها من الأرجاس والأنجاس ويرشد إلى الحق والصواب.
وقد سمى الله مكث المرأة في بيتها قرارا، وهذا المعنى من أسمى المعاني الرفيعة، ففيه استقرار لنفسها وراحة لقلبها وانشراح لصدرها، وخروجها عن هذا القرار يفضي إلى اضطراب نفسها وقلق قلبها وضيق صدرها وتعريضها لما لا تحمد عقباه.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 34(81/157)
2- وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) ، حيث أمر عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام – وهو المبلغ عن ربه – أن يقول لأزواجه وبناته وعامة نساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، وذلك يتضمن ستر باقي أجسامهن بالجلابيب إذا أردن الخروج لحاجة لئلا تحصل لهن الأذية من مرضى القلوب.
فإذا كان الأمر بهذه المثابة فما بالك بنزولها إلى ميدان الرجال واختلاطها معهم وإبداء حاجتها إليهم بحكم الوظيفة، والتنازل عن كثير من أنوثتها لتنزل إلى مستواهم، وذهاب كثير من حيائها ليحصل بذلك الانسجام بين الجنسين المختلفين معنى وصورة.
3- وقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (2) {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (3) ، حيث يأمر سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام أن يبلغ المؤمنين والمؤمنات أن يلتزموا بغض البصر وحفظ الفرج عن الزنى، ثم أوضح سبحانه أن هذا الأمر أزكى لهم.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 59
(2) سورة النور الآية 30
(3) سورة النور الآية 31(81/158)
ومعلوم أن حفظ الفرج من الفاحشة إنما يكون باجتناب وسائلها، ولا شك أن اختلاط النساء بالرجال؛ والرجال بالنساء في ميادين العمل وغيرها وإطلاق البصر – الذي هو من لوازم هذا الاختلاط – من أعظم وسائل وقوع الفاحشة، وهذان الأمران المطلوبان من المؤمن يستحيل تحققهما منه وهو يعمل مع المرأة الأجنبية كزميلة أو مشاركة له في العمل في مختلف مجالاته وميادينه. فاقتحامها هذا الميدان أو اقتحامه الميدان معها لا شك أنه من الأمور التي يستحيل معها غض البصر وإحصان الفرج والحصول على زكاة النفس وطهارتها.
وهكذا أمر الله المؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة إلا ما ظهر منها وأمرهن الله بإسدال الخمار على الجيوب المتضمن ستر رؤوسهن ووجوههن، لأن الجيب محل الرأس والوجه، فكيف يحصل غض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة عند نزول المرأة إلى ميدان الرجال واختلاطها معهم في الأعمال، والاختلاط كفيل بالوقوع في هذه المحاذير، وكيف يحصل للمرأة المسلمة أن تغض بصرها وهي تسير مع الرجل الأجنبي جنبا إلى جنب بحجة أنها تشاركه في الأعمال أو تساويه في جميع ما يقوم به؟!!.
والإسلام يحرم جميع الوسائل والذرائع الموصلة إلى الأمور المحرمة، ولذلك نجده حرم على النساء خضوعهن بالقول للرجال لكونه يفضي إلى الطمع فيهن كما في قوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (1) ،
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 32(81/159)
يعني مرض الشهوة، فكيف يمكن التحفظ من ذلك مع الاختلاط؟!!.
ومن البدهي أن المرأة إذا نزلت إلى ميدان الرجال لا بد أن تكملهم وأن يكلموها، ولا بد أن ترقق لهم الكلام وأن يرققوا لها الكلام، والشيطان من وراء ذلك يزين ويحسن إلى الفاحشة حتى يقعوا فريسة له، والله حكيم عليم حين أمر المرأة بالحجاب والبعد عن الاختلاط، وما ذلك إلا لأن الناس فيهم البر والفاجر والطاهر والعاهر، فالحجاب واجتناب الاختلاط يمنع بإذن الله من الفتنة ويحجز دواعيها وتحصل به طهارة قلوب الرجال والنساء والبعد عن مظان التهمة (1) .
4- وقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (2) الآية، فهذا يدل على أن سؤال أي شيء من النساء الأجنبيات إنما يكون من خلف ستر يستر الرجال عن النساء والنساء عن الرجال. وخير حجاب للمرأة بعد حجاب وجهها وجسمها باللباس هو بيتها الذي يحجبها عن الرجال الأجانب؛ بحيث لا يرون شيئا من لباسها ولا زينتها الظاهرة ولا الباطنة.
__________
(1) انظر: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – الرسائل والفتاوى النسائية ص20 - 22.
(2) سورة الأحزاب الآية 53(81/160)
وأما دليل ذلك من السنة فهو ما يلي:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها (1) » ، حيث يرشد هنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ضرورة إبعاد الرجال عن النساء في الصلاة التي أقرب ما يكون فيها المسلم إلى ربه، حيث تضعف شهوات النفس وتخف وساوس الشيطان وإغواءه ويكون المسلم فيها والمسلمة أبعد عن مواضع الفتنة والريبة، فكيف في غير الصلاة؟!!، فهذا يدل على ضرورة منع الاختلاط بين الجنسين في ميادين العمل وغيرها.
2- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها (2) » ، قال الطيبي: (والمعنى المتبادر أنها ما دامت في خدرها لم يطمع الشيطان فيها
__________
(1) رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب (الصلاة) ، باب (تسوية الصفوف وإقامتها) ج4 ص159.
(2) رواه الترمذي في سننه في (أبواب الرضاع) ، الباب رقم (18) برقم (1183) ، وقال: (حديث حسن صحيح غريب) ج2 ص319. وقال كل من الهيثمي والمنذري: رواه الطبراني في الأوسط من حديث عبد الله بن عمر، ورجاله رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد ج4 ص314، والترغيب والترهيب ج1 ص304.(81/161)
وفي إغواء الناس، فإذا خرجت طمع وأطمع، لأنها حبائله وأعظم فخوخه) (1) ، وقال المنذري: فيستشرفها الشيطان (أي ينتصب ويرفع بصره إليها ويهم بها، لأنها قد تعاطت سببا من أسباب تسلطه عليها، وهو خروجها من بيتها) (2) .
3- وما روي عن أم حميد الساعدية رضي الله عنها أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، فقال: (قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي (3) » .
فهذه الصحابية امرأة صالحة تقية ذات خلق ودين، ومع ذلك بين لها صلى الله عليه وسلم الحق والخير في أي الأماكن تكون صلاتها فيه أفضل وأبقى، وذكر لها على الترتيب الأماكن التي يتميز بعضها عن
__________
(1) المناوي – فيض القدير ج6 ص266.
(2) الترغيب والترهيب ج1 ص306.
(3) رواه ابن خزيمة في صحيحه في كتاب (الإمامة في الصلاة) ، الباب (177) ، الحديث رقم (1689) ج3 ص95. كما رواه ابن حبان في صحيحه برقم (2214) ج3 ص318، وعزاه الحافظ ابن حجر في (الفتح) إلى الإمام أحمد والطبراني، وقال: (وإسناد أحمد، حسن، وله شاهد من حديث أبي مسعود عند أبي داود) ج2 ص350.(81/162)
بعض في الخير، وهي: بيتها، والمراد به هنا: المكان الذي تكون فيه المرأة أكثر سترا وبعدا عن أعين الناس، وهو مكان مبيتها مع زوجها الذي لا يراها فيه أحد سواه، ثم حجرتها – ويظهر من الحديث أنها أقل من البيت سترا وصونا –، وبعد حجرتها دارها، وهي التي تكون فيه بعيدة عن أنظار الرجال الأجانب، وبعد الدار مسجد قومها، لأنه أقرب المساجد إلى سكنها، والنزول إليه لا يقتضي منها السير كثيرا، فاستشراف الشيطان لها فيه أقل في المساحة والزمن، وبعد مسجد قومها يأتي مسجده صلى الله عليه وسلم، وهو أبعد فتضطر معه إلى السير لمسافة أطول، وحينئذ يكون استشراف الشيطان لها أطول مدة وأشد تمكينا، ولذا نصحها صلى الله عليه وسلم بالصلاة في بيتها، لأنه أشد الأماكن سترا لها وبعدا عن مخالطة الرجال الأجانب، ومنه يتبين حرص النبي صلى الله عليه وسلم على صيانة المرأة إلى هذا الحد الذي ليس وراءه ما بعده، لأنه مدرك لما ينتج عن خروجها من بيتها من أخطار على الفرد والأسرة والمجتمع.
وإذا كان خروج المرأة الصالحة التقية للصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده غير مستحب، فما القول في خروج النساء إلى الأندية وميادين الدراسة والعمل وساحات السياسة ومسيرات الاحتجاج وغيرها مما ينادي أصحاب هذه الدعوى إلى خروج المرأة المسلمة إليها؟!!.
4- الأحاديث التي يحذر فيها النبي صلى الله عليه وسلم من الدخول على النساء والخلوة بهن، ومن ذلك: ما روي عن عقبة بن عامر(81/163)
رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ ؟ قال: الحمو الموت (2) » .
وما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم (3) » .
وما روي عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان (4) » .
__________
(1) رواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب (النكاح) ، الباب (111) ، الحديث رقم (5232) ج9 ص330. ورواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب (السلام) ، باب (تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها) ج14 ص153.
(2) الحمو: أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه. (1)
(3) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (النكاح) ، الباب (111) ، الحديث رقم (5233) ج9 ص330 – 331. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب (الحج) ، باب (سفر المرأة مع محرم إلى حج أو غيره) ج9 ص109 - 110.
(4) رواه الإمام أحمد في المسند ج3 ص446، ورواه الترمذي في سننه من حديث عمر رضي الله عنه في (أبواب الفتن) ، باب (ما جاء في لزوم الجماعة) برقم (2254) ج3 ص315، وقال: (حديث حسن صحيح غريب) . ورواه الحاكم في المستدرك وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين) ج1 ص198.(81/164)
ومن المعلوم لكل مجرب أنه يستحيل التحرز عن الوقوع فيما حذرت عنه هذه الأحاديث في تلك المجتمعات التي تجيز اختلاط الجنسين ببعضهما في ميادين العمل والتعليم ونحوها.
5- الأحاديث التي تأمر بغض البصر، وهي عديدة، منها: ما روي عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري (1) » .
وما روي عن بريدة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة (2) » .
وما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله
__________
(1) رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب (الآداب) ، باب (نظر الفجأة) ج14 ص138 - 139.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند ج5 ص353، 357. ورواه أبو داود في سننه في كتاب (النكاح) ، باب (ما يؤمر به من غض البصر) ج2 ص246، الحديث رقم (2149) ، ورواه الترمذي في سننه في (أبواب الاستئذان والآداب) ، باب (ما جاء في نظرة الفجاءة) ج4 ص191، الحديث رقم (2927) ، وقال: (هذا حديث حسن غريب) . ورواه الحاكم في المستدرك، وقال: (حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) ، ج2 ص212.(81/165)
صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر (1) » .
وكذلك ما روي عن أم سلمة رضي الله عنهما أنها قالت: «كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم كلثوم، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه، فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟، فقال صلى الله عليه وسلم: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ (2) » .
ومما لا شك فيه أنه لن يتسنى للرجال ولا للنساء غض البصر في ظل إباحة اختلاطهما ببعضهما في ميادين العمل والتعليم وغيرها ولو كان ذلك بقصد تبليغ الدعوة الإسلامية.
__________
(1) رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب (الحج) ، باب (الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما) ج9 ص97.
(2) رواه الإمام في المسند ج6 ص296. وأبو داود في سننه في كتاب (اللباس) باب (في قوله عز وجل: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) ج4 ص63، 64، الحديث رقم (4112) . والترمذي في سننه في (أبواب الاستئذان والآداب) ، باب (ما جاء في احتجاب النساء من الرجال) ، ج4 ص191، 192، الحديث رقم (2928) ، وقال: (حديث حسن صحيح) .(81/166)
ثانيا: لقد فقه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم الأدلة الشرعية الدالة على تحريم الاختلاط وامتثلوا لها، فاجتنبوا الاختلاط ومنعوه. وما نقل عنهم في هذا الجانب يثبت هذا ويقرره، ومن ذلك ما يلي:(81/166)
1- روي أنه دخلت على عائشة رضي الله عنها مولاة لها، فقالت لها: «يا أم المؤمنين طفت بالبيت سبعا واستلمت الركن مرتين أو ثلاثا، فقالت لها عائشة: لا آجرك الله، لا آجرك الله، تدافعين الرجال؟!!، ألا كبرت ومررت (1) » .
2- كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه شديد الغيرة على النساء، فهو الذي أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بحجب نسائه فوافقه القرآن، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال عمر رضي الله عنه: قلت: «يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب (2) » ، وكان رضي الله عنه (ينهى الرجال عن الدخول في المسجد من باب النساء) (3) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (روى الفاكهي من طريق زائدة عن إبراهيم النخعي قال: نهى عمر أن يطوف الرجال مع النساء، قال: فرأى رجلا معهن فضربه بالدرة) (4) .
3- وعن ابن جريج أنه قال: أخبرني عطاء – إذ منع ابن هشام
__________
(1) رواه الإمام الشافعي في مسنده ص127.
(2) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (التفسير) ، الباب (8) ، الحديث رقم (4790) ج8 ص527.
(3) عبد الوهاب الشعراني – كشف الغمة عن جميع الأمة ج1 ص104.
(4) فتح الباري ج3 ص480.(81/167)
النساء الطواف مع الرجال – قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟، قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟، قال: أي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يخالطن الرجال؟، قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم) (1) . وهذا مما يدل على حرص النساء في صدر الإسلام على عدم مزاحمة الرجال أو الاختلاط بهم حتى في المطاف بالمسجد.
4- وروي أنه قيل لسودة رضي الله عنها: (ألا تحجين وتعتمرين كما يفعل أخواتك، فقالت: قد حججت واعتمرت فأمرني الله أن أقر في بيتي. قال الراوي: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها رضوان الله عليها) (2) .
5- وأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال مستنكرا اختلاط النساء بالرجال: (ألا تستحيون ألا تغارون أن يخرج نساؤكم؟،
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب (الحج) ، الباب (64) ، الحديث رقم (1618) ، ج3 ص479 - 480.
(2) القرطبي – الجامع لأحكام القرآن ج14 ص180 – 181. والشوكاني – فتح القدير ج4 ص281.(81/168)
فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج (1) (2) .
6- وروي عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن زوجته عاتكة بنت زيد شرطت عليه ألا يمنعها الخروج إلى المسجد فأجابها، فلما أرادت الخروج إلى المسجد للعشاء الآخر شق ذلك عليه ولم يمنعها، فلما عيل صبره خرج ليلة إلى العشاء وسبقها، وقعد لها على الطريق بحيث لا تراه، فلما مرت ضرب بيده على عجزها فنفرت من ذلك ولم تخرج بعد. (3) .
7- وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (أخروهن حيث أخرهن الله) ، وعن أبي عمر الشيباني أنه رأى عبد الله بن مسعود يخرج النساء من المسجد يوم الجمعة ويقول: «أخرجن إلى بيوتكن فهو خير لكن» . وعنه رضي الله عنه أنه قال – حاثا المرأة على قرارها في بيتها: «إنما النساء عورة، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها بأس فيستشرفها الشيطان، فيقول: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبته، وإن المرأة
__________
(1) العلوج: جمع علج وهو الرجل من كفار العجم، أو الضخم القوي.
(2) ابن الجوزي – أحكام النساء ص34.
(3) انظر: ابن الأثير الجزري – أسد الغابة في معرفة الصحابة ج6 ص185.(81/169)
لتلبس ثيابها، فيقال: أين تريدين؟، فتقول: أعود مريضا، أو أشهد جنازة، أو أصلي في مسجد، وما عبدت امرأة ربها بمثل أن تعبده في بيتها» .
وبعد: فكيف يقال بعد كل ما تقدم إن الإسلام لم يمنع الاختلاط ولم يمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام؟!!، إن هذا إلا محض افتراء لا يقبل صدوره من مسلم عنده أدنى فقه لنصوص الشريعة وأحكامها ومعرفة لسير الصدر الأول للإسلام.(81/170)
ثالثا: إطلاق القول بأن مجتمعات المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد صحابته رضوان الله عليهم مجتمعات مختلطة في المساجد والأسواق ومجالس العلم وساحات الجهاد ومجالس التشاور في أمور المسلمين.. إلخ، إطلاق غير سديد ولا سليم.
أما في المساجد والطرقات فلم يكن فيها اختلاط بين الرجال والنساء بالصورة التي يريدها دعاة الاختلاط، لأن الرجال كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته يصلون في مقدمة المسجد والنساء في مؤخرته مع عنايتهن بالحجاب والتحفظ من كل ما يثير الفتنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إليهن في يوم العيد بعد ما يعظ الرجال(81/170)
فيعظهن ويذكرهن لبعدهن عن سماع خطبته، فعن عبد الرحمن بن عابس أنه قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قيل له: (أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟، قال نعم، ولولا مكاني من الصغر ما شهدته، حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصامت فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة) (1) .
قال الحافظ ابن حجر: (قوله: (ثم أتى النساء) يشعر بأن النساء كن على حدة من الرجال غير مختلطات بهم، وقوله (ومعه بلال) فيه أن الأدب في مخاطبة النساء في الموعظة أو الحكم أن لا يحضر من الرجال إلا من تدعو الحاجة إليه من شاهد ونحوه، لأن بلالا كان خادم النبي صلى الله عليه وسلم ومتولي قبض الصدقة، وأما ابن عباس فقد تقدم أن ذلك اغتفر له بسبب صغره) (2) .
ولم يقتصر منع الاختلاط بين الرجال والنساء على الجمع الكثير فحسب، بل تناول ذلك المرأة الواحدة إذا صلت مع الرجال، فعن أنس رضي الله عنه أنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم، فقمت ويتيم خلفه، وأم سليم خلفنا) (3) .
__________
(1) رواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب (العيدين) ، الباب (18) ، الحديث رقم (977) ج2 ص465.
(2) فتح الباري ج2 ص466.
(3) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (الأذان) ، الباب (164) ، الحديث رقم (871) ، ج2 ص351.(81/171)
وقد خصص صلى الله عليه وسلم في مسجده بابا للنساء يدخلن ويخرجن منه لا يخالطهن فيه الرجال، فقد ترجم أبو داود في سننه بابا بقوله (باب اعتزال النساء في المساجد عن الرجال) ، ثم روى حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تركنا هذا الباب للنساء (1) » ، قال نافع تلميذ عبد الله بن عمر: (فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات) .
وكان الرجال في عهده صلى الله عليه وسلم يؤمرون بالتريث في الانصراف حتى يمضي النساء ويخرجن من المسجد لئلا يختلط بهن الرجال في الطريق من المسجد إلى البيت مع ما هم عليه جميعا رجالا ونساء من الإيمان والتقوى. فعن هند بنت الحارث أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مقامه يسيرا قبل أن يقوم. (2) » قال الإمام الزهري رحمه الله: نرى – والله أعلم – أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال) (3) . وفي
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب (الصلاة) ، باب (اعتزال النساء في المساجد عن الرجال) الحديث رقم (462) ج1 ص126. وقد صحح الشيخ الألباني الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في (صحيح الجامع الصغير) ج5 ص61، برقم (5134) .
(2) البخاري الأذان (832) ، النسائي السهو (1333) ، أبو داود الصلاة (1040) ، ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (932) ، أحمد (6/296) .
(3) صحيح البخاري، كتاب (الأذان) ، الباب (164) ، الحديث رقم (870) ج2 ص350 – 351.(81/172)
رواية أخرى: «كان صلى الله عليه وسلم يسلم فينصرف النساء فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) » .
يقول الحافظ ابن حجر: (وفي الحديث الاحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحذور، وفيه اجتناب مواضع التهم، وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلا عن البيوت) (2) .
ويقول ابن قدامة: (إذا كان مع الإمام رجال ونساء فالمستحب أن يثبت هو والرجال بقدر ما يرى أنهن قد انصرفن، ويقمن هن عقب تسليمه) ، ثم يتابع قائلا – عقب الاستشهاد بالحديث المذكور آنفا: (لأن الإخلال بذلك من أحد الفريقين يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء) (3) .
وكان يؤذن للنساء في الخروج إلى المساجد في الليل لكونه أستر وأخفى وأبعد عن الفتنة. يقول صلى الله عليه وسلم: «ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد (4) » ، ويروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب (الأذان) ، الباب (157) ، الحديث رقم (850) ج2 ص334.
(2) فتح الباري، ج2 ص336.
(3) المغني ج2 ص336.
(4) رواه مسلم في صحيحه في كتاب (الصلاة) ، باب (خروج النساء إلى المساجد) ج4 ص162.(81/173)
ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحد من الغلس (1) » .
كما كان يطلب منهن اجتناب الطيب والزينة لكونهما من دواعي الفتنة، يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا (2) » ، ويقول: «أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة (3) » . ولقد تنبهت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى خطر تساهل المرأة في خروجها من بيتها فقالت: «لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل (4) » .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى النساء أن يتوسطن الطريق ويأمرهن بلزوم حافاته حذرا من الاختلاط بالرجال والفتنة بمماسة بعضهم بعضا أثناء السير في الطريق، فعن أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (مواقيت الصلاة) ، الباب (27) ، الحديث رقم (578) ، ج2 ص54. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب (المساجد ومواضع الصلاة) ، باب (استحباب التكبير بالصبح في أول وقتها) ج5 ص143 – 144.
(2) رواه مسلم في صحيحه في كتاب (الصلاة) ، باب (خروج النساء إلى المساجد) ج4 ص163.
(3) رواه مسلم في صحيحه في الموضع السابق، ج4 ص163.
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب (الأذان) ، الباب (163) ، الحديث رقم (869) ، ج2 ص349. ورواه مسلم في صحيحه – واللفظ له – في كتاب (الصلاة) ، باب (خروج النساء إلى المساجد) ج4 ص163 - 164.(81/174)