أما بعد. . فإنه من خلال هذا البحث المتواضع توصلت إلى نتائج هامة منها:
1 - أن الألوهية: هي العبادة، والإله: هو المعبود، وتوحيد الألوهية: هو إفراد الله بجميع أنواع العبادة.
2 - أن لتوحيد الألوهية منزلة كبيرة في الدين الإسلامي؛ إذ إنه الغاية المحبوبة لله المرضية له التي خلق الخلق لها، وأول دعوة الرسل وأول أمر في القرآن، وأول واجب وآخر واجب، وهو التوحيد الذي ضلت فيه الأمم؛ ولذا دعا إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - طيلة العهد المكي وأغلب العهد المدني، وأغلب الآيات القرآنية جاءت في تأكيده والنهى عن ضده، وأمر - صلى الله عليه وسلم - أن يقاتل الناس عليه، وهو المقصود بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
3 - أن في القرآن أساليب كثيرة ومتنوعة في الدعوة إلى هذا التوحيد، منها: أمره - سبحانه وتعالى - بعبادته والنهي عن عبادة ما سواه، وشهادته على هذا التوحيد، كما شهدت ملائكته وأنبياؤه ورسله، وإخباره أنه خلق الخلق لعبادته وأرسل الرسل بالدعوة إليها. الاحتجاج بتفرد الله بالربوبية وكمال التصرف وغيرها من خصائص الربوبية، التنديد بما يتخذه الناس آلهة من دون الله، والتشنيع بحال(76/161)
العابدين لها، وبيان عاقبتهم. الاحتجاج بتفرد الله بكمال الأسماء والصفات. الوعد لمن وحده والوعيد لمن أشرك به. ضرب الأمثلة التي تبين أن المشرك مهما عمل فلن ينال رضا معبوده.
الرد على المشركين في اتخاذهم الوسائط بينهم وبينه.
بيان أن هؤلاء المعبودين لا يحصل منهم نفع لمن عبدوهم من جميع الوجوه، ضرب الأمثلة التي تصور علو التوحيد والموحد وانخفاض الشرك والمشرك.
4 - أن تحقيق هذا التوحيد يكون بإفراد الله بجميع أنواع العبادة، والبراءة من كل معبود سواه ومن كل وسيلة قد تؤدي إلى عبادة ذلك الغير.
5 - أن توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية.
6 - أن لتوحيد الألوهية فوائد كثيرة منها:
الخلوص من الشرك والنفاق، وجمع الكلمة، والحصول على نصر الله وتأييده، كما أنه يورث القوة والشجاعة ويزيل من النفس الكبر والإعجاب، ويحمل المرء على كل خلق فاضل.
7 - أن ما يزعمه المتكلمون من أن الإلهية هي القدرة على الاختراع والإله القادر على الاختراع، وأن من أقر بذلك فقد شهد أن لا إله إلا الله - قول خاطئ؛ بل الإله الحق هو الذي يستحق أن يعبد،(76/162)
وتوحيد الإلهية أن يعبد الله وحده لا شريك له.
8 - أن للعبادة أركانا وشروطا، أركانها المحبة والرجاء والخوف.
وشروطها: صدق العزيمة، وإخلاص النية، وموافقة الشرع. 9 - أن للعبادة في الإسلام خصائص فريدة منها:
الشمول، والاستمرار، واليسر والسهولة، وأنها توقيفية، ومتنوعة.
10 - أن العبادة التي يتحقق هذا التوحيد بها ترجع إلى القلب أو اللسان أو الجوارح، منها ما يؤدى بواحد من الثلاثة، ومنها ما يؤدى باثنين، ومنها ما يؤدى بالثلاثة. وعبادات القلب: منها الواجب، ومنها المستحب، ومنها المحرم، ومنها المكروه، ومنها المباح. ومثلها عبادات اللسان وسائر الجوارح.
11 - أن من نواقض توحيد الألوهية: الشرك، والكفر، والنفاق.
12 - أن الشرك نوعان أكبر وأصغر.
13 - أن الشرك الأكبر مخرج من الملة، محبط للعمل، صاحبه حلال الدم والمال وفي الآخرة مخلد في النار، إن مات عليه لا يغفر له إلا بالتوبة، تحرم مناكحته وذبيحته إلا إذا كان كتابيا، لا يرث ولا يورث من قبل المسلمين، إذ هو أظلم الناس وأضلهم.(76/163)
مثل: شرك الطاعة، وشرك الدعاء، وشرك المحبة.
14 - أن الشرك الأصغر أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر، لكنه لا يخرج من ارتكبه من ملة الإسلام - وهو يبطل ثواب العمل، ووسيلة قد تؤدي بصاحبها إلى الشرك الأكبر - كالرياء والسمعة، وإرادة الإنسان بعمله الدنيا، والحلف بغير الله، وقول: ما شاء الله وشئت، وإسناد بعض الحوادث إلى غير الله، وقول البعض: مطرنا بنوء كذا، ولبس الحلقة والخيط وتعليق التمائم ونحو ذلك.
15 - أن الكفر نوعان: أكبر مخرج من الملة وفي الآخرة مخلد في النار، مثل: كفر التكذيب، وكفر الاستكبار، وكفر الشك، وكفر الإعراض، وكفر النفاق.
وكفر أصغر: موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود، ويشمل المعاصي التي لا تصل إلى حد الكفر الأكبر.
16 - أن النفاق نوعان: أكبر مخرج من الدين، وموجب الخلود في النار إن مات عليه، مثل: اعتقاد كذب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغضه، أو بغض شيء مما جاء به، أو المسرة بانخفاض الدين الإسلامي، أو تبييت الشر للمسلمين، أو الرغبة في التحاكم إلى غير شرع الله، أو موالاة الكافرين وإعانتهم على المسلمين.
وأصغر: صاحبه فاسق، مثل الكذب، والخيانة، وخلف الوعد،(76/164)
والفجور في الخصومة، والغدر.
17 - أن الشارع قد احتاط لهذا التوحيد، فنهى عن كل وسيلة قد تؤدي إلى الإخلال به، كالغلو في تعظيم القبور، واتخاذ المساجد عليها، وشد الرحال إلى أي مكان بقصد التقرب إلى الله بالعبادة فيه إلا المساجد الثلاثة، والغلو في تعظيمه - صلى الله عليه وسلم - وغيره، والوفاء بالنذر إذا كان في مكان يعبد فيه غير الله، وتصوير ما فيه روح. ونحو ذلك.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(76/165)
وسطية أهل السنة والجماعة في باب القدر
لفضيلة الدكتور عبد الله بن سليمان الغفيلي
الأستاذ المشارك بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية.
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) ، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (3) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة الأحزاب الآية 70
(4) سورة الأحزاب الآية 71(76/167)
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى أنعم على هذه الأمة المحمدية بأن شرفها وجعلها أمة وسطا، فهي خير أمة أخرجت للناس كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) .
واختار لها هذا النبي الكريم محمدا - صلى الله عليه وسلم - خيرها نسبا ومكانة ومنزلة، كما جاء في حديث واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم (2) » ، وجعل الكتاب الذي أنزل عليها أشرف الكتب وأشملها، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (3) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب الفضائل (4\ 1782) .
(3) سورة المائدة الآية 48(76/168)
يقول الحافظ ابن كثير عند هذه الآية: فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها؛ حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره؛ فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها، وتكفل - تعالى - حفظه بنفسه الكريمة فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) .
واقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يكون الصحابة الكرام - رضي الله عنهم أجمعين - هم المصطفين الأخيار الذين تلقوا عن هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فكان زمانهم خير القرون وأفضلها، تعلموا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الهدى والنور والحق المبين الذي جاء به من عند رب العالمين، فكانوا هم أتباعه وحاملين لواءه والداعين إليه، وسار على منهجهم التابعون وتابعوهم بإحسان الذين كانوا متمسكين بكتاب الله - سبحانه وتعالى - وهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم - وحريصين على السير عليه، حتى بدأت الفتن تظهر بعد انقضاء عصر النبوة والخلافة الراشدة، فحدث التفرق،
__________
(1) سورة الحجر الآية 9(76/169)
وظهرت الفرق من الخوارج، والشيعة، والمعتزلة(76/170)
والجهمية، وغيرهم ممن غلا أو جفا، وفرط أو أفرط، وانحرف عن الطريق السوي طريق الكتاب والسنة، وبقيت هذه الطائفة المنصورة - أهل السنة والجماعة - على الهدي المبين وسطا بين الغلو والإفراط وبين الجفاء والتفريط، ومن ذلك عقيدة أهل السنة والجماعة في القدر، وكان من توفيق الله - عز وجل - أن كتبت بحثا عن أقسام الناس في القدر (1) ، فرأيت أن أفرد معتقد أهل السنة والجماعة في القدر ببحث خاص؛ لأبين فيه وسطية أهل السنة والجماعة في هذه المسألة العظيمة والتي هي الركن السادس من أركان الإيمان، خصوصا في هذا العصر الذي كثر فيه التفرق وتشتت فيه السبل، وأصبحت الحاجة فيه ماسة إلى إيضاح الحق وبيان قضايا العقيدة في ضوء كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - حسب فهم سلفنا الصالح؛ ليكون هداية للطالبين وتذكرة للمسترشدين وتنبيها للغافلين، سائلا المولى - تبارك
__________
(1) هذا البحث قدم للنشر في مجلة البحوث الإسلامية.(76/171)
وتعالى - أن ينفع به وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، إنه سميع مجيب.
يقول العلامة ابن القيم: " فإن أهم ما يجب معرفته على المكلف النبيل فضلا عن الفاضل الجليل: ما ورد في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، فهو أسنى المقاصد، والإيمان به قطب رحى التوحيد ونظامه، ومبدأ الدين المبين وختامه، فهو أحد أركان الإيمان وقاعدة أساس الإحسان التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها، فالعدل قوام الملك، والحكمة مظهر الحمد، والتوحيد متضمن لنهاية الحكمة وكمال النعمة، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فبالقدر والحكمة ظهر خلقه وشرعه المبين، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين " (1) .
هذا، وقد جعلت هذا البحث في مقدمة وعدة مباحث.
المقدمة: ذكرت فيها أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، وخطة البحث وعملي فيه.
المبحث الأول: معنى الوسطية لغة وشرعا.
المبحث الثاني: تعريف أهل السنة والجماعة.
المبحث الثالث: تعريف القدر لغة وشرعا.
المبحث الرابع: معنى الإيمان بالقدر عند أهل السنة والجماعة وأدلتهم على ذلك.
__________
(1) شفاء العليل ص 3.(76/172)
المبحث الخامس: مراتب الإيمان بالقدر وأدلتها.
المبحث السادس: النهي عن الخوض في القدر.
المبحث السابع: قول أهل السنة والجماعة في القدر.
المبحث الثامن: أثر الإيمان بالقدر على المسلم.
الخاتمة: وتشتمل على أهم النتائج.
وقد قمت في هذا البحث بعزو الآيات القرآنية إلى سورها من القرآن الكريم، وتخريج الأحاديث النبوية والحكم عليها صحة وضعفا حسب كلام أهل العلم إذا كانت في غير الصحيحين، وترجمت للأعلام غير المشهورين، وشرحت الغريب، وعرفت بالفرق والمصطلحات، ووثقت النقول، وعملت خاتمة اشتملت على أهم النتائج ومجملها.
والله أسأل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع بهذا البحث، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(76/173)
المبحث الأول: معنى الوسطية لغة وشرعا.
أولا: معنى الوسطية لغة:
الوسطية مأخوذة من مادة وسط، وهى كلمة تدل على العدل والفضل والخيرية والنصف والتوسط بين الطرفين.
يقول ابن فارس: " الواو والسين والطاء بناء صحيح يدل على العدل والنصف، وأعدل الشيء: أوسطه ووسطه " (1) .
ويقول ابن منظور: " وسط الشيء وأوسطه: أعدله " (2) .
ثانيا: الوسطية في الشرع:
جاءت الوسطية في الشرع بمعنى العدالة والخيرية، والتوسط بين الإفراط والتفريط، كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (3) .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة (6\ 108) .
(2) لسان العرب (7\ 430) .
(3) سورة البقرة الآية 143(76/174)
يقول ابن جرير الطبري: " الوسط هو الجزء الذي بين الطرفين، مثل وسط الدار، وقد وصف الله هذه الأمة بالوسط؛ لتوسطها في الدين " (1) .
وجاء في الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة أو أعلى الجنة (2) » . . . " (3) .
يقول الحافظ ابن حجر: قوله: أوسط الجنة أو أعلى الجنة، المراد بأوسط هنا: الأعدل والأفضل، كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (4) .
فالوسطية في الشرع تعني الاعتدال والتوازن بين أمرين أو طرفين بين إفراط وتفريط أو غلو وتقصير، وهذه الوسطية إذن هي العدل والطريق الأوسط الذي تجتمع عنده الفضيلة.
وأهل السنة والجماعة يتميزون بالوسطية والاعتدال بين الفرق الأخرى التي تقف على طرفي نقيض، فتجد إحداهما في أقصى اليمين مثلا وتقف الأخرى في أقصى اليسار، وتظهر هذه الوسطية في
__________
(1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (2\ 6، 7) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2790) ، مسند أحمد (2/339) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد (6\ 11) .
(4) سورة البقرة الآية 143(76/175)
أبواب الاعتقاد ومسائله بعامة، وأهل السنة والجماعة في بحثنا هذا وسط بين القدرية الذين لا يؤمنون بقدرة الله الكاملة، ومشيئته - سبحانه وتعالى - الشاملة، وخلقه لكل شيء، وبين الجبرية الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب.(76/176)
المبحث الثاني: تعريف أهل السنة والجماعة.
أولا: تعريف السنة:
أ - السنة في اللغة: هي الطريقة والسيرة، قال لبيد بن ربيعة - رضي الله عنه - في معلقته المشهورة:
من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها (1)
وقال الآخر:
رب وفقني فلا أعدل عن ... سنن الساعين في خير سنن
قال ابن منظور: " والسنة: السيرة، حسنة كانت أو قبيحة، قال خالد بن عتبة الهذلي:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها (2)
__________
(1) ديوان لبيد بن أبي ربيعة ص 179.
(2) لسان العرب (13\225) .(76/176)
ب - السنة في الاصطلاح:
هي: الهدي الذي كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، علما واعتقادا، وقولا وعملا، وهي السنة التي يجب اتباعها، ويحمد أهلها، ويذم من خالفها، وتطلق السنة على سنن العبادات والاعتقادات، كما تطلق على ما يقابل البدعة (1) .
ولذلك قيل: فلان من أهل السنة، معناه من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة (2) .
ومعنى أهل السنة: أنهم الذين اتبعوا سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في كل ما جاء به وأمر، وكل ما نهى عنه وزجر، سواء في أمور العقيدة أو أمور الشريعة.
ثانيا: تعريف الجماعة:
أ - تعريف الجماعة في اللغة: الجماعة في اللغة: مأخوذة من مادة جمع، وهى تدور حول الجمع والإجماع والاجتماع، وهو ضد التفرق.
قال ابن فارس: " الجيم والميم والعين أصل واحد، يدل على تضام الشيء، يقال: جمعت الشيء جمعا " (3) .
__________
(1) مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة ص 13.
(2) تهذيب اللغة (12\ 298، 301) ، ولسان العرب (3\ 226) .
(3) معجم مقاييس اللغة 1\ 479 مادة: جمع.(76/177)
ب - الجماعة في الاصطلاح:
هم سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين اجتمعوا على الحق الصريح من الكتاب والسنة.
ثالثا: أهل السنة والجماعة وسبب تسميتهم بذلك.
أ - أهل السنة والجماعة:
هم من كان على مثل ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهم المتمسكون بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم الصحابة والتابعون وأئمة الهدى المتبعون لهم، وهم الذين استقاموا على الاتباع وجانبوا الابتداع، في أي مكان وزمان، وهم الباقون المنصورون إلى يوم القيامة (1) .
ب - سبب تسميتهم بذلك:
سموا بذلك لانتسابهم لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - واجتماعهم على الأخذ بها ظاهرا وباطنا، في القول والعمل والاعتقاد، فهم اجتمعوا على الحق الثابت بالكتاب والسنة، ولم يتفرقوا في الدين، واتبعوا ما أجمع عليه سلف الأمة.
__________
(1) انظر: مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة للدكتور ناصر العقل ص 13، 14.(76/178)
ولأهل السنة والجماعة أسماء أخرى يعرفون بها، منها:
1 - أهل السنة، دون إضافة الجماعة.
2 - أهل الجماعة.
3 - الجماعة.
4 - السلف الصالح.
5 - أهل الأثر: أي السنة المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
6 - أهل الحديث؛ لأنهم هم الآخذون بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - رواية ودراية، المتبعون لهديه - صلى الله عليه وسلم - ظاهرا وباطنا (2) .
7 - الفرقة الناجية؛ لأنها تنجو من الشرور والبدع والضلالات في الدنيا، وتنجو من النار يوم القيامة؛ وذلك لاتباعها سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) .
8 - الطائفة المنصورة، أي المؤيدة من الله سبحانه وتعالى (4) .
__________
(1) انظر: المصدر السابق.
(2) انظر: المصدر السابق.
(3) شرح العقيدة الواسطية للدكتور صالح الفوزان ص (9 - 10) ، ومباحث في عقيدة أهل السنة ص (16) .
(4) انظر: المصدر السابق.(76/179)
9 - أهل الاتباع؛ لاتباعهم الكتاب والسنة، وآثار السلف الصالح (1) .
__________
(1) انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 430، ومباحث في عقيدة أهل السنة ص (16) .(76/180)
المبحث الثالث: تعريف القدر لغة وشرعا.
أولا: تعريف القدر لغة:
القدر لغة: بفتح الدال وإسكانها، مصدر قدرت الشيء، بفتح الدال مخففة أقدر قدرا، ويقال فيه: قدرت تقديرا بتشديد الدال.
قال ابن فارس: القاف والدال والراء أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته، فالقدر: مبلغ كل شيء، يقال: قدره كذا، أي: مبلغه، وكذلك: القدر، وقال: والقدر: قضاء الله تعالى الأشياء على مبالغها ونهاياتها التي أرادها لها، وهو: القدر أيضا (1) .
وقال الجوهري: قدر الشيء: مبلغه، وقدر الله وقدره بمعنى، وهو في الأصل مصدر، وقال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (2) ، أي: ما عظموا الله حق تعظيمه، وقدرت الشيء أقدره،
__________
(1) معجم مقاييس اللغة (5\ 62) .
(2) سورة الأنعام الآية 91(76/180)
وأقدره قدرا من التقدير، وفي الحديث: «إذا غم عليكم الهلال فاقدروا له (1) » أي: أتموا الثلاثين (2) .
وقال الراغب: القدر والتقدير تبين كمية الشيء، يقال: قدرته وقدرته وقدره بالتشديد: أعطاه القدرة، يقال: قدرني الله على كذا وقواني عليه. . .
والقدر: وقت الشيء المقدر له والمكان المقدر له، قال تعالى: {إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} (3) ، وقال تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (4) ، أي: بقدر المكان المقدر لأن يسعها (5) .
ثانيا: تعريف القدر اصطلاحا.
قال النووي: " واعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر، ومعناه: أن الله - تبارك وتعالى - قدر الأشياء في القدم، وعلم - سبحانه - أنها
__________
(1) جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، (2\229) ، والإمام مسلم في صحيحه، كتاب الصيام (2\759) .
(2) الصحاح للجوهري (2\ 786، 787) .
(3) سورة المرسلات الآية 22
(4) سورة الرعد الآية 17
(5) المفردات للراغب ص (396) .(76/181)
ستقع في أوقات معلومة عنده - سبحانه وتعالى - وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى " (1) .
وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل عن القدر فأجاب بقوله: " القدر قدرة الله على العباد " (2) .
وقد علق العلامة ابن القيم على تعريف الإمام أحمد فقال: " واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جدا، وقال: هذا يدل على دقة علم أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين، وهو كما قال أبو الوفاء، فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الله على خلق أفعال العباد وكتابتها وتقديرها، وسلف القدرية كانوا ينكرون علمه بها وهم الذين اتفق سلف الأمة على تكفيرهم " (3) .
وذكر الحافظ ابن حجر أن بعض العلماء عرف القضاء بأنه: " الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر: الحكم بوقوع الجزئيات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل " (4) .
وخلاصة القول في هذا ما قاله الخطابي حيث قال: " إنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي (1\154) .
(2) انظر: مسائل ابن هانئ (2\155) .
(3) شفاء العليل ص (28) .
(4) فتح الباري لابن حجر (11\149) .(76/182)
والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه " (1) .
ويقول الراغب الأصفهاني: والقضاء من الله -تعالى - أخص من القدر؛ لأنه الفصل بين التقدير، فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع، وقد ذكر بعض العلماء أن القدر بمنزلة المعد للكيل والقضاء بمنزلة الكيل، وهذا كما قال أبو عبيدة لعمر لما أراد الفرار من الطاعون بالشام: " أتفر من القضاء "؟ قال: " أفر من قضاء الله إلى قدر الله " (2) ، تنبيها أن القدر ما لم يكن قضاء فمرجو أن يدفعه الله، فإذا قضي فلا مدفع له، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} (3) ، وقوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (4) ، وقوله: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} (5) أي: فصل، تنبيها أنه صار بحيث لا يمكن تلافيه (6) .
__________
(1) معالم السنن للخطابي (4\ 323) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب (7\21) ، ومسلم في صحيحه، كتاب السلام (4\ 1740) .
(3) سورة مريم الآية 21
(4) سورة مريم الآية 71
(5) سورة البقرة الآية 210
(6) المفردات ص (407) .(76/183)
المبحث الرابع: معنى الإيمان بالقدر عند أهل السنة وأدلتهم على ذلك.
الإيمان بالقدر عند السلف - رحمهم الله تعالى - أصل من أصول الدين، وركن من أركان الإيمان الستة التي لا يتم الإيمان إلا بالإيمان بها، وهي الواردة في حديث جبريل - عليه السلام - الذي ورد فيه أن الإيمان هو: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره (1) » .
ومعنى الإيمان عندهم بالقدر هو التصديق الجازم بأن كل شيء بقضاء الله وقدره السابق، سواء كان صغيرا أو كبيرا، حقيرا أو جليلا، خيرا أو شرا، حلوا أو مرا، طاعة أو معصية، وأنه - سبحانه وتعالى - فعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وأن كل أمر قد خط في اللوح المحفوظ وأنه - عز وجل - خالق أفعال العباد، وعالم بجميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، وأنه - سبحانه وتعالى - يهدي من يشاء برحمته ويضل من يشاء بحكمته، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، والإيمان بالقدر من الإيمان بالغيب الذي يجب على المسلم الإيمان به، والإيمان بالقدر تحصل به سعادة العبد في الدنيا والآخرة؛ لأن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان (1\36، 37) .(76/184)
لم يكن ليصيبه، اطمأن قلبه وتعلق بربه، وصرف أمره إليه، هذا مع ما في الإيمان بالقدر من تحقيق العبودية لله - عز وجل - وتعظيمه سبحانه وتعالى.
ويعتقد السلف: أن العبد فاعل حقيقة، وله مشيئة وقدرة، ولكنها لا تخرج عن مشيئة الله تعالى وقدرته.
كما يؤمنون بأن الله - تعالى - علم كل شيء وقدره، وأنه قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعلم أهل الجنة من أهل النار، وأن كلا ميسر لما خلق له.
وقد دل على هذا كله الكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1) ، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (2) ، وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (3) ، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (4) .
__________
(1) سورة القمر الآية 49
(2) سورة الأحزاب الآية 38
(3) سورة الرعد الآية 8
(4) سورة التغابن الآية 11(76/185)
ومن أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الدالة على القدر: حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس (1) » .
ومنها: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن " لو " تفتح عمل الشيطان (2) » .
ومنها: حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «قالت أم حبيبة: اللهم متعني بزوجي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنك سألت الله لآجال مضروبة، وآثار موطوءة، وأرزاق مقسومة، لا يعجل شيئا منها قبل حله، ولا يؤخر منها شيئا قبل
__________
(1) أخرجه الترمذي، كتاب القدر (4\452) ، والحاكم في المستدرك 1\32، وقال: هذا حديث صحيح ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، (4\2052) .(76/186)
حله، ولو سألت الله أن يعافيك من عذاب في النار وعذاب في القبر لكان ذلك خيرا لك (1) » .
قال الإمام النووي: وفي هذه الأحاديث كلها دلالات ظاهرة لمذهب أهل السنة في إثبات القدر، وأن جميع الواقعات بقضاء الله وقدره خيرها وشرها ونفعها وضرها (2) .
ومن الآثار في هذا الباب ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه أن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - سئل عن الإيمان بالقدر فقال: إذا علم الرجل من قبل نفسه أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن يصيبه، فذلك الإيمان بالقدر (3) .
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: «إذا قضي الأمر من السماء عمله أهل الأرض، وإن العبد لا يجد طعم الإيمان حتى يوقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه (4) » .
__________
(1) المصدر السابق (4\ 2051) .
(2) شرح صحيح مسلم للنووي (16\ 195) .
(3) مصنف عبد الرزاق (11\ 118) ، وانظر: القضاء والقدر للبيهقي ص 305.
(4) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4\666) ، وانظر: القضاء والقدر للبيهقي ص (299) .(76/187)
قال ابن بطة في سياق تقرير أصول السنة: ثم من بعد ذلك الإيمان بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وقليله وكثيره، مقدور واقع من الله - عز وجل - على العباد في الوقت الذي أراد أن يقع، لا يتقدم الوقت ولا يتأخر على ما سبق بذلك علم الله، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما تقدم لم يكن ليتأخر، وما تأخر لم يكن ليتقدم (1) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهب أهل السنة والجماعة أن الله -تعالى - خالق كل شيء وربه ومليكه، لا رب غيره ولا خالق سواه، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، والعبد مأمور بطاعة الله وطاعة رسوله، منهي عن معصية الله ومعصية رسوله، فإن أطاع كان ذلك نعمة، وإن عصى كان مستحقا للذم والعقاب، وكان لله عليه الحجة البالغة، ولا حجة لأحد على الله تعالى، وكل ذلك كائن بقضاء الله وقدره ومشيئته وقدرته، ولكن يحب الطاعة ويأمر بها، ويثيب أهلها
__________
(1) الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة لابن بطة ص 193، 194.(76/188)
على فعلها ويكرمهم، ويبغض المعصية وينهى عنها، ويعاقب عليها ويهينهم، وما يصيب العبد من النعم فالله أنعم بها عليه، وما يصيبه من الشر فبذنوبه ومعاصيه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (1) ، وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (2) ، أي: ما أصابك من خصب ونصر وهدى فالله أنعم به عليك، وما أصابك من حزن وذل وشر فبذنوبك وخطاياك، وكل الأشياء كائنة بمشيئة الله وقدرته وخلقه، فلا بد أن يؤمن العبد بقضاء الله وقدره، وأن يوقن العبد بشرع الله وأمره (3) .
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة النساء الآية 79
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 8\ 63، 64.(76/189)
المبحث الخامس: مراتب الإيمان بالقدر وأدلتها.
الإيمان بالقدر لا يقوم ولا يتم إلا بالإيمان بأربع مراتب قامت عليها الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهي:
المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله - عز وجل - السابق بكل شيء:
علم - تبارك وتعالى - بما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وقد أحاط - سبحانه - بكل شيء علما، وهو عالم الغيب والشهادة، لا يعزب عن علمه شيء، فالواجب على العبد أن(76/189)
يؤمن بأن الله - تعالى - قد علم ما الخلق عاملون بعلمه الذي هو موصوف به أزلا، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال والسعادة والشقاوة (1) .
والأدلة الدالة على هذا الأمر كثيرة جدا منها:
قول الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (2) ، وقوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (3) ، وقوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (4) ، ففي هذه الآية إثبات لعلم الله -تعالى - بعواقب الأمور أن لو وقعت كيف تكون عاقبتها، فالله - عز وجل - علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، ومن هذا المعنى أيضا قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (5) .
ومن هذا المعنى أيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل
__________
(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3\148، ومعارج القبول (2\ 328) .
(2) سورة الحشر الآية 22
(3) سورة الطلاق الآية 12
(4) سورة البقرة الآية 216
(5) سورة الأنعام الآية 28(76/190)
عن أولاد المشركين فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين (1) » .
وكتابة الله - تعالى - للمقادير قبل خلقها دالة كذلك على علم الله - سبحانه - السابق، كما سيأتي تفصيله قريبا إن شاء الله تعالى.
وقد كان علماء أهل السنة والجماعة إذا أرادوا أن يحاجوا القدرية احتجوا عليهم بالعلم، فإن أنكروه كفروا، وإذا أثبتوه خصموا، ومن نصوصهم في ذلك:
ما قاله عمر بن عبد العزيز: " من أقر بالعلم فقد خصم " (2) ، وقد قيل له: إن غيلان يقول في القدر كذا وكذا، فمر به، فقال: أخبرني عن العلم؟ فقال: سبحان الله! فقد علم الله كل نفس ما هي عاملة وإلى ما هي صائرة، فقال عمر بن عبد العزيز: والذي نفسي بيده لو قلت غير هذا لضربت عنقك، اذهب الآن
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب القدر (11\502) ، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر (4\ 2049) .
(2) الرد على الجهمية للدارمي ص (118، 119) رقم (244) .(76/191)
فاجهد جهدك.
وقال الدارمي بعد أن ذكر أن قوما أنكروا سابق علم الله في خلقه وما الخلق عاملون قبل أن يعملوا: " وهذا المذهب الذي ادعوه في علم الله قد وافقهم على بعضه بعض المعتزلة؛ لأنه لا يبقى مذهب الفريقين جميعا إلا برد علم الله، فكفى به ضلالا؛ ولأنهم متى ما أقروا بعلم سابق خصموا، كذلك قال عمر بن عبد العزيز " (1) .
__________
(1) الرد على الجهمية للدارمي ص (118) ، (110) .(76/192)
المرتبة الثانية: الإيمان بكتابة المقادير
وهي الإيمان بأن الله - تعالى - قد كتب في اللوح المحفوظ الذي لم يفرط فيه من شيء مقادير الخلق قبل أن يخلقهم، فدخل في ذلك أعمال المكلفين ومصيرهم (1) .
ومن الأدلة في ذلك من الكتاب: قول الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (2) ، وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3) ،
__________
(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (3\148) ، ومعارج القبول (2 \332) .
(2) سورة الأنعام الآية 38
(3) سورة الحج الآية 70(76/192)
وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (1) ، وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (2) .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (3) {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} (4) .
يقول العلامة ابن القيم: " والزبور هنا جميع الكتب المنزلة من السماء، لا تختص بزبور داود، والذكر أم الكتاب الذي عند الله، والأرض: الدنيا، وعباده الصالحون: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، هذا أصح الأقوال في هذه الآية، وهي علم من أعلام نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه أخبر بذلك بمكة، وأهل الأرض كلهم كفار أعداء له ولأصحابه، والمشركون قد أخرجوهم من ديارهم
__________
(1) سورة الأنعام الآية 59
(2) سورة يونس الآية 61
(3) سورة الأنبياء الآية 105
(4) سورة الأنبياء الآية 106(76/193)
ومساكنهم وشتتوهم في أطراف الأرض، فأخبرهم ربهم تبارك وتعالى أنه كتب في الذكر الأول أنهم يرثون الأرض من الكفار، ثم كتب ذلك في الكتب التي أنزلها على رسله، والكتاب قد أطلق عليه الذكر في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء (1) » ، فهذا هو الذكر الذي كتب فيه أن الدنيا تصير لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - " (2) .
ومن الأدلة في ذلك من السنة حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة (3) » .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كتب الله مقادير
__________
(1) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب القدر (4\ 72) .
(2) شفاء العليل ص (88) .
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5\317، وأبو داود: كتاب السنة 5\ 76، والترمذي: كتاب القدر (4\ 458) ، وابن أبي عاصم في السنة (1\ 48) ، رقم (108) ، وقال الألباني: حديث صحيح. انظر السنة لابن أبي عاصم (1\ 47 - 50) .(76/194)
الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء (1) » .
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله، بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير (2) » (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر (4\ 2044) .
(2) صحيح مسلم القدر (2648) ، مسند أحمد (3/293) .
(3) المصدر السابق (4\ 2041) .(76/195)
المرتبة الثالثة: الإيمان بالمشيئة والقدرة.
وهي الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة للكائنات، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، كما قال الله - تعالى - في إثبات مشيئته: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (1) ، وقال في قدرته: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) .
وقال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (3) ، دلت هذه الآية على أن الله - تعالى - لو شاء إيمان جميع الناس لفعل ذلك، وهذا يستلزم قدرته عليه، ولكن الذي جعل ذلك غير واقع هو إرادته ومشيئته عدم إيمان الجميع، فدل ذلك على أن
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 27
(2) سورة البقرة الآية 284
(3) سورة يونس الآية 99(76/195)
الفعل لا يوجد بمجرد كون الله قادرا عليه، بل لا بد مع القدرة من الإرادة والمشيئة، وإلا لزم وقوع كل مقدور. ومثل هذه قول الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (1) ، وقد جاء في حديث جابر - رضي الله عنه - قال: «لما نزلت هذه الآية:، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أعوذ بوجهك " قال: " أعوذ بوجهك " قال: هذا أهون أو هذا أيسر (5) » ، فبين - سبحانه وتعالى - أنه القادر على كل شيء، ولا شيء يعجزه، كما قال: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (6) ، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} (7) .
ومشيئة الله - تعالى - عامة لكل شيء من أفعاله وأفعال عباده (8) ،
__________
(1) سورة السجدة الآية 13
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير (5\ 193) .
(3) سورة الأنعام الآية 65 (2) {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}
(4) سورة الأنعام الآية 65 (3) {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}
(5) سورة الأنعام الآية 65 (4) {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}
(6) سورة البقرة الآية 284
(7) سورة فاطر الآية 44
(8) انظر رسائل في العقيدة لابن عثيمين ص (37) .(76/196)
كما قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (1) ، وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (2) ، فتوفيق الناس للهدى والعمل به وجمعهم على ذلك إنما هو بفعل الله تعالى، وقد علق فعله بمشيئته، فهذا دليل على أن مشيئته تعم أفعاله، ومن الأدلة على ذلك كذلك قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} (3) ، وقوله: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (4) ، وأما الدليل على أن مشيئة الله تتعلق بأفعال العباد فقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (5) ، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} (6) ، بل إن مشيئة العباد تابعة لمشيئة الله - تعالى - كما قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (7) .
ومن الأحاديث الدالة على هذه المرتبة حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء " ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) سورة السجدة الآية 13
(2) سورة الأنعام الآية 35
(3) سورة القصص الآية 68
(4) سورة إبراهيم الآية 27
(5) سورة الأنعام الآية 112
(6) سورة النساء الآية 90
(7) سورة التكوير الآية 29(76/197)
" اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك (1) » .
يقول العلامة ابن القيم: وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميع الكتب المنزلة من عند الله، والفطر التي فطر الله عليها خلقه، وأدلة العقول والبيان، وليس في الوجود موجب ومقتض إلا مشيئة الله وحده، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، هذا عموم التوحيد الذي لا يقوم إلا به، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكون، وخالفهم في ذلك من ليس منهم في هذا الموضع، وإن كان منهم في موضع آخر، فجوزوا أن يكون في الوجود ما لا يشاء وأن يشاء ما لا يكون، وخالف الرسل كلهم وأتباعهم من نفى مشيئة الله بالكلية ولم يثبت له -سبحانه - مشيئة واختيارا أوجد بها الخلق، كما يقوله طوائف من أعداء الرسل من الفلاسفة وأتباعهم (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر (4\ 2045) .
(2) شفاء العليل ص (96) .(76/198)
المرتبة الرابعة: الإيمان بأن الله هو الخالق وحده. هي الإيمان بأن الله - عز وجل - خالق كل شيء، فهو خالق العباد، وخالق أفعالهم وحركاتهم، ومقدر أرزاقهم، وآجالهم، وسعادتهم وشقاوتهم، قضى - سبحانه وتعالى - ذلك وقدره، فما من ذرة في السماوات ولا في الأرض إلا والله - سبحانه وتعالى - خالقها(76/198)
وخالق حركتها وسكونها سبحانه، لا خالق غيره ولا رب سواه.
فمرتبة الخلق والإيجاد هي وقوع الأشياء طبقا لما علمه وكتبه وشاءه عز وجل، ومن الأدلة من الكتاب على هذه المرتبة:
قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} (1) ، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (2) .
وقوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (3) ، وقال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (4) .
قال البغوي في تفسير هذه الآية: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (5) أي مما هو كائن أو يكون في الدنيا والآخرة (6) .
__________
(1) سورة يس الآية 36
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة الفرقان الآية 2
(4) سورة الزمر الآية 62
(5) سورة الرعد الآية 16
(6) تفسير البغوي (3\ 96) .(76/199)
وقال العلامة ابن القيم في قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (1) الآية: وهذا عام محفوظ لا يخرج عنه شيء من العالم أعيانه وأفعاله وحركاته وسكناته، وليس مخصوصا بذاته وصفاته، فإن الخالق بذاته وصفاته وما سواه مخلوق له، واللفظ قد فرق بين الخالق والمخلوق، وصفاته - سبحانه - داخلة في مسمى اسمه، فإن الله - سبحانه - اسم للإله الموصوف بكل صفة كمال، المنزه عن كل صفة نقص ومثال، والعالم قسمان: أعيان وأفعال، وهو الخالق لأعيانه وما يصدر عنها من الأفعال، كما أنه العالم بتفاصيل ذلك، فلا يخرج شيء منه عن علمه، ولا عن قدرته، ولا عن خلقه ومشيئته " اهـ (2) .
وقال ابن كثير: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (3) يخبر تعالى أنه خالق الأشياء كلها وربها ومليكها والمتصرف فيها، وكل تحت تدبيره وقهره وكلاءته (4) .
وقال شارح الطحاوية: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (5) أي: الله خالق كل شيء مخلوق، فدخلت أفعال العباد في عموم كل، وما أفسد قولهم - يعني المعتزلة - في إدخال كلام الله - تعالى - في عموم " كل " الذي هو صفة من صفاته يستحيل عليه أن يكون مخلوقا، وأخرجوا أفعالهم التي هي مخلوقة من عموم " كل "! ! ، وهل يدخل في عموم
__________
(1) سورة الرعد الآية 16
(2) شفاء العليل ص (53) .
(3) سورة الرعد الآية 16
(4) تفسير القرآن العظيم (6\ 105) .
(5) سورة الرعد الآية 16(76/200)
" كل " إلا ما هو مخلوق؟ فذاته المقدسة وصفاته غير داخلة في هذا العموم، ودخل سائر المخلوقات في عمومها (1) .
ومن الأدلة من السنة على هذه المرتبة: حديث عائشة أم المؤمنين - رضي الله تعالى عنها - قالت: «دعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه، قال: " أو غير ذلك، يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم (2) » .
ومنها حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق كل صانع وصنعته (3) » .
قال الإمام البخاري عقب هذا الحديث: فأخبر أن الصناعات وأهلها مخلوقة.
وبهذه يتبين لنا أن أفعال العباد جميعها مخلوقة ومقدرة لله سبحانه وتعالى، فهو - عز وجل - الخالق، وما سواه مخلوق.
__________
(1) شرح الطحاوية ص (496) .
(2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب القدر (4\ 2050) .
(3) أخرجه البخاري قي خلق أفعال العباد ص (73) ، وابن أبي عاصم في السنة (1\ 158) ، والبيهقي في القضاء والقدر ص (170، 171) ، والحاكم في المستدرك (1\ 31) ، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.(76/201)
هذه هي المراتب الأربع للإيمان بالقدر يؤمن بها أهل السنة والجماعة ويثبتونها، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، فمن آمن بها وأثبتها فقد آمن بالقدر، ومن أنكرها أو أنكر شيئا منها فقد كفر (1) .
__________
(1) للمزيد انظر هذه المراتب بأدلتها في شفاء العليل لابن قيم الجوزية 29 - 42.(76/202)
المبحث السادس: النهي عن الخوض في القدر.
دين الإسلام دين الوسطية والعدل؛ ولذا نهى عن التنطع والتشدد وعن البحث فيما غاب عن علم الإنسان مما استأثر الله - سبحانه وتعالى - بعلمه، ومن ذلك البحث في القدر والتعمق فيه والنظر في دقائقه؛ لأن ذلك من الأمور التي استأثر الله بعلمها، فلم يطلع عليها أحدا من الخلق لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا؛ ولهذا فإن التعمق والجدل في القضاء والقدر من الخذلان؛ لأن المجادل فيه لا يدرك مراده، وكلما احتج بحجة كسرتها أخرى، وربما أفضى به ذلك إلى الإلحاد والزيغ عن الطريق المستقيم، والخوض في القدر أول ظاهرة للشرك في هذه الأمة، كما يدل عليه حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال محمد بن عبيد المكي: «قيل لابن عباس: إن رجلا قدم علينا يكذب بالقدر، فقال: دلوني عليه، وهو يومئذ قد عمي، قالوا: وما تصنع به يا أبا عباس؟ قال: والذي نفسي بيده، لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته في(76/202)
يدي لأدقنها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطفق ألياتهن مشركات، هذا أول شرك هذه الأمة، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيرا كما أخرجوه أن يكون قدر شرا (1) » .
وقد جاء كفار قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاصمونه في القدر، فأنزل الله - سبحانه وتعالى - في ذلك آية ترد عليهم، كما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «جاء مشركو قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاصمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القدر، فنزلت: (4) » .
وقد حصل بعض الخصام بين بعض الصحابة - رضي الله عنهم - في القدر، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخوض في ذلك والتعمق فيه وضرب كتاب الله بعضه ببعض، لما يؤدي إليه من نتائج سيئة. فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم والناس يتكلمون في القدر،
__________
(1) أخرجه أحمد (1\ 330) ، وقال أحمد شاكر: إسناده حسن على الأقل. المسند تحقيق\ أحمد شاكر (5\ 22) ، حديث رقم (3056) .
(2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب القدر (4\ 2046) .
(3) سورة القمر الآية 48 (2) {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ}
(4) سورة القمر الآية 49 (3) {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(76/203)
قال: وكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، قال: فقال لهم: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم، وقال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده (1) » .
وقد كان السلف من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم يكرهون الجدال في القدر والتعمق فيه، ويذمون من خاض فيه بغير علم، بل حذروا من ذلك، فهذا الصحابي الجليل عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - يقول: " باب شرك فتح على أهل الصلاة: التكذيب بالقدر، فلا تجادلوهم فيجري شركهم على أيديكم " (2) .
ويقول أيضا - رضي الله عنه -: ما غلا أحد في القدر إلا خرج عن الإسلام (3) .
فالسلف - رحمهم الله تعالى - كرهوا التعمق في القدر
__________
(1) أخرجه أحمد (2\ 178) ، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. المسند تحقيق أحمد شاكر (10\153) ، حديث رقم (6668) ، وأخرجه أيضا ابن ماجه: المقدمة باب في القدر (1\ 33) ، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1\ 14) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
(2) أخرجه الآجري في الشريعة ص (215) ، واللالكائي في شرح أصول أهل السنة (4\ 630) .
(3) أخرجه اللالكائي في شرح أصول أهل السنة (4\ 632) .(76/204)
والخوض فيه، أما فهم مسائل القدر ومعرفتها والإيمان به وفق كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فذلك غير داخل في النهي؛ لأنه معرفة ركن من أركان الإيمان الستة التي يجب الإيمان بها ومعرفتها والتعبد لله بها، ولكن لما خاضت المبتدعة في هذا الأمر وحادوا عن الصواب، رأى السلف الصالح أنه يجب عليهم أن يبينوا للناس الحق والصواب فيما ضل فيه هؤلاء، وأنه لا يتم الإيمان إلا بالإيمان بالقدر، فهذا عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يقول: «والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر (1) » .
وهذا عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - يقول لابنه: «يا بني، إنك لن تطعم طعم الإيمان، ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله - تبارك وتعالى - حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قال: قلت: يا أبتاه فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره، قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك (2) » .
«ولما التقى ابن الديلمي فقال: يا أبا المنذر، إنه
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان (1\ 37) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5\ 317) ، وأخرجه الترمذي في سننه (4\ 458) ، بنحوه، والآجري في الشريعة ص (204) .
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5\ 182 - 183) ، وابن أبي عاصم في السنة مرفوعا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال الألباني: إسناده صحيح. انظر السنة لابن أبي عاصم (1\ 109) .(76/205)
قد وقع في نفسي شيء من هذا القدر، فحدثني بشيء لعله يذهب من قلبي، قال: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم، ولو أنفقت جبل أحد ذهبا في سبيل الله - عز وجل - ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير ذلك لدخلت النار (1) » .
هذا بعض كلام الصحابة - رضي الله عنهم - في التحذير من إنكار القدر أو الخوض فيه، وفي بغض أهله ومعاداتهم.
ولقد سلك هذا المسلك علماء السلف - رحمهم الله تعالى - الذين ساروا على نهجهم، يقول الإمام الطحاوي محذرا من النظر والتعمق في مسائل القدر: الحذر الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة، فإن الله - تعالى - طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال
__________
(1) (3) بأبي بن كعب(76/206)
في كتابه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (1) ، فمن سأل لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين (2) .
ويقول الحافظ ابن عبد البر: والقدر سر الله، لا يدرك بجدال، ولا يشفي منه مقال، والحجاج فيه مرتجة لا يفتح شيء منها إلا بكسر شيء وغلقه، وقد تظاهرت الآثار وتواترت الأخبار عن السلف الأخيار الطيبين الأبرار بالاستسلام والانقياد والإقرار بأن علم الله سابق ولا يكون في ملكه إلا ما يريد {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (3) .
وقال أبو المظفر السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب: التوقيف
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 23
(2) العقيدة الطحاوية مع شرحها ص (276) .
(3) سورة فصلت الآية 46(76/207)
من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء العين ولا ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله تعالى اختص العليم الخبير به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة (1) .
ويقول الإمام أبو محمد البربهاري: والكلام والجدل والخصومة في القدر خاصة منهي عنه عند جميع الفرق؛ لأن القدر سر الله، ونهى الرب - جل اسمه - الأنبياء عن الكلام في القدر، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخصومة في القدر، وكرهه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون، وكرهه العلماء وأهل الورع، ونهوا عن الجدال في القدر، فعليك التسليم والإقرار والإيمان واعتقاد ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جملة الأشياء، واسكت عما سوى ذلك (2) .
ويقول الإمام البغوي: والقدر سر من أسرار الله، لم يطلع عليه
__________
(1) انظر فتح الباري (11\ 477) .
(2) شرح السنة للبربهاري ص (36) .(76/208)
ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، لا يجوز الخوض فيه، والبحث عنه بطريق العقل، بل يعتقد أن الله - سبحانه وتعالى - خلق الخلق، فجعلهم فريقين: أهل يمين خلقهم للنعيم فضلا، وأهل شمال للجحيم عدلا (1) .
ونختم هذا المبحث بكلام جامع للحافظ ابن عبد البر في هذا حيث يقول: وجملة القول في القدر أنه سر الله، لا يدرك بجدال ولا نظر، ولا تشفى منه خصومة ولا احتجاج، وحسب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا يقوم شيء دون إرادته، ولا يكون شيء إلا بمشيئته، له الخلق والأمر كله، لا شريك له، نظام ذلك قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (2) ، وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (3) ، وحسب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا يظلم مثقال ذرة، ولا يكلف نفسا إلا وسعها، وهو الرحمن الرحيم، فمن رد على الله - تعالى - خبره في الوجهين أو في أحدهما كان عنادا وكفرا، وقد تظاهرت الآثار في التسليم للقدر والنهي عن الجدل فيه، والاستسلام له، والإقرار بخيره وشره، والعلم بعدل مقدره وحكمته، وفي نقض عزائم الإنسان برهان فيما قلنا وتبيان، والله المستعان (4) .
__________
(1) شرح السنة (1\ 144) .
(2) سورة الإنسان الآية 30
(3) سورة القمر الآية 49
(4) التمهيد (3\ 139، 140) .(76/209)
المبحث السابع: قول أهل السنة والجماعة في القدر
للناس في مسألة القدر ثلاثة أقوال:
1 - الغلاة في الإثبات وهم الجبرية.
2 - الغلاة في النفي، وهم القدرية.
3 - المتوسطون، وهم أهل السنة والجماعة.
يقول الطيبي: مذهب الجبرية: إثبات القدرة لله ونفيها عن العبد أصلا، ومذهب المعتزلة بخلافه، وكلاهما من الإفراط والتفريط على شفا جرف هار، والطريق المستقيم: القصد (1) .
والذي يعنينا في هذا المقام هو قول أهل السنة والجماعة، وهو القول الوسط والقول الحق المستمد من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو المذهب الحق الذي عليه السلف الصالح من هذه الأمة: أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله - سبحانه وتعالى - خالق لأفعال العباد، كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (2) ، وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (3) ،
__________
(1) انظر: فتح الباري (11\ 512) .
(2) سورة القمر الآية 49
(3) سورة الفرقان الآية 2(76/210)
وأن للعبد مشيئة لا تخرج عن مشيئة الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (1) ، وقوله تعالى: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (2) ، وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (3) .
وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان (4) » .
ففي هذه الأدلة إثبات لمشيئة العبد تأتي بعد مشيئة الله تبارك وتعالى، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون في ملكه - سبحانه - ما لا يشاء.
والإرادة في كتاب الله نوعان كما سبق ذكر ذلك عند الرد على القدرية:
إرادة قدرية كونية خلقية، وهي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث، كقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (5) .
__________
(1) سورة الإنسان الآية 30
(2) سورة الأنعام الآية 111
(3) سورة يونس الآية 99
(4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5\ 384) ، وأبو داود في سننه (5\ 259) ، قال النووي في الأذكار ص (308) : إسناده صحيح.
(5) سورة الأنعام الآية 125(76/211)
وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (1) ، وإرادة دينية شرعية وهي المتضمنة للمحبة والرضا كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2) ، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} (3) ، وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} (4) ".
فالله - تبارك وتعالى - يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ولكنه لا يرضاه ولا يحبه ولا يأمر به، فهو يشاؤه كونا وقدرا ولا يرضاه ولا يحبه دينا وشرعا (5) .
فالقول الحق في هذا الباب مع الذين توسطوا بين الجبرية والقدريه، وهم أهل السنة والجماعة، وفيما يلي بعض أقوالهم:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو يتكلم عن وسطية أهل السنة بين الفرق: " وهم في باب خلق الله وأمره " وسط بين المكذبين بقدرة الله الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء، وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (6) ،
__________
(1) سورة البقرة الآية 253
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) سورة النساء الآية 26
(4) سورة النساء الآية 27
(5) انظر: شرح الطحاوية ص (196) .
(6) سورة الأنعام الآية 148(76/212)
فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير، يقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات، ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل وأنه مختار، ولا يسمونه مجبورا؛ إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله - سبحانه - جعل العبد مختارا لما يفعله، فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله " (1) .
ويقول في موضع آخر: والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة، والله خالقهم وقدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (2) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3) ، وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي - صلى الله عليه
__________
(1) انظر: الفتاوى 3\ 373، 374، وسطية أهل السنة بين الفرق ص 383 - 387.
(2) سورة التكوير الآية 28
(3) سورة التكوير الآية 29(76/213)
وسلم - مجوس هذه الأمة، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها (1) .
ويقول الإمام ابن القيم بعد أن حكى رأي الجبرية والقدرية: " فإن قيل: فما تقولون أنتم في هذا المقام؟ قلنا: لا نقول بواحد من القولين، نقول: هي أفعال العباد حقيقة ومفعولة للرب، فالفعل عندنا غير المفعول، وهو إجماع من أهل السنة حكاه الحسين بن مسعود البغوي وغيره، فالعبد فعلها حقيقة والله خالقه وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة وخالق فاعليته " (2) .
وقال في موضع آخر: والصواب أن يقال: تقع الحركة بقدرة العبد وإرادته التي جعلها الله فيه، فالله - سبحانه - إذا أراد فعل العبد خلق له القدرة والداعي إلى فعله، فيضاف الفعل إلى قدرة العبد
__________
(1) العقيدة الواسطية مع شرحها للعلامة محمد خليل هراس ص (135) .
(2) شفاء العليل ص (131) .(76/214)
إضافة المسبب إلى سببه، ويضاف إلى قدرة الرب إضافة المخلوق إلى الخالق. . . إلى أن قال: وإذا عرف هذا فنقول: الفعل وقع بقدرة الرب خلقا وتكوينا، كما وقعت سائر المخلوقات بقدرته وتكوينه وبقدرة العبد سببا ومباشرة، والله خلق الفعل والعبد فعله وباشره، والقدرة الحادثة وأثرها واقعان بقدرة الرب ومشيئته " (1) .
وبتأمل الأدلة السابقة التي دلت على أن العباد فاعلون حقيقة، والله - عز وجل - خالقهم وخالق أفعالهم، وأن لهم إرادة ومشيئة تابعة لإرادة الله تعالى ومشيئته - يتبين لنا أن أهل الأهواء والبدع من القدرية والجبرية وغيرهم هم أبخس الناس حظا، وأقلهم نصيبا، وأفسدهم عملا، وأن أهل السنة والجماعة هم أهل الحق في هذه المسألة وغيرها.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل.
__________
(1) المصدر السابق ص 146، 147.(76/215)
المبحث الثامن: أثر الإيمان بالقدر على المسلم
الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان التي يجب على كل مسلم الإيمان بها، وله آثار وفوائد عظيمة وثمار كثيرة تصلح الفرد والمجتمع، منها:
1 - أنه يوجب للعبد توحيد الله - عز وجل - وإفراده بالعبادة والتضرع والطاعة، وأن الأمور كلها بيد الله عز وجل، وأنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله من خير أو شر ونفع أو ضر، وأن الله - تعالى - هو(76/215)
وحده الضار والنافع والمعطي والمانع.
2 - أن الإيمان بالقدر طريق للخلاص من الشرك، فالمؤمنون الموحدون الذين آمنوا بالقدر وأيقنوا بأن هذا الكون وما فيه صادر عن الإله الواحد الأحد الخالق لكل شيء المعبود دون سواه سبحانه وتعالى، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فسلموا بذلك من الشرك الذي وقع فيه كل من كذب بالقدر أو نسب الخلق لغيره تبارك وتعالى، فالإيمان بالقدر طريق التوحيد والنجاة من الشرك (1) .
3 - استشعار عظمة الله - سبحانه وتعالى - وإحاطته الشاملة بكل شيء ونفوذ مشيئته على عموم الخلق سبحانه وتعالى.
4 - أن الإنسان يعرف قدر نفسه وعجزه فلا يتعالى؛ لأنه عاجز عن معرفة المقدور ومستقبل ما هو حادث، ومن ثم يقر الإنسان بعجزه وحاجته إلى ربه سبحانه وتعالى، فتراه يكون صادقا في توكله على ربه، يأخذ بالأسباب التي قدر الله أقدارها، ويطلب من ربه العون على ما عجز عنها بلا تردد ولا شك.
5 - الإيمان بالقدر يبعث في القلوب الشجاعة والإقدام على عظائم الأمور بثبات وعزم، فالمؤمن لا يخشى إلا الله؛ لأنه يعلم أن الأجل مقدر، وأن الرزق محدد.
ويدل على ذلك واقع السلف الذين كانوا خير هذه الأمة بعد
__________
(1) انظر: القضاء والقدر لعمر الأشقر ص 109.(76/216)
نبيها، وأفهم هذه الأمة لهذه العقيدة، وأكملهم تطبيقا لها بعد إيمانهم بالله تعالى وبقضائه وقدره، وما قاموا به من نشاط عظيم في نشر دين الله والدعوة بكل عزم وشجاعة، كل ذلك بالله ثم بإيمانهم بهذه العقيدة التي تتضمن أنه لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم، وأن لهم آجالا مكتوبة لن يتجاوزوها.
كما قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (1) .
وذكر الله - تعالى - عن المنافقين قولهم: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} (2) فرد عليهم - سبحانه - بقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} (3) .
6 - أنه يوجب للعبد الإقبال على الله - سبحانه وتعالى - ويقطع قلب المؤمن من الالتفات إلى المخلوقين؛ لأن الأمور كلها بيد الله - عز وجل - وبقضائه وقدره سبحانه وتعالى.
7 - الاعتماد على الله - سبحانه وتعالى - عند فعل الأسباب بحيث لا يعتمد على السبب نفسه؛ لأن كل شيء بقدر الله (4) .
8 - تنشيط النفوس الصالحة بالاجتهاد في الأعمال الصالحة،
__________
(1) سورة التوبة الآية 51
(2) سورة آل عمران الآية 154
(3) سورة آل عمران الآية 154
(4) انظر نبذة في العقيدة الإسلامية للعلامة ابن عثيمين ص 39.(76/217)
وتخويف النفوس المقصرة؛ لتسرع بالتوبة والرجوع إلى ربها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة (1) » .
9 - الإنسان خلق محبا للخير لنفسه، كارها الشر لنفسه، يجزع منه كما قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} (2) {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} (3) {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (4) .
فإذا أصابه الخير بطر واغتر به، وإذا أصابه الشر جزع وحزن، ولا يعصم الإنسان من البطر إذا أصابه الخير والحزن إذا أصابه الشر إلا الإيمان بالقدر، وأن ما وقع فقد جرت به المقادير وسبق به علم الله.
10 - إن الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض السلوكية التي تفتك بالمجتمعات وتزرع الأحقاد بينها وذلك مثل الحسد، فالمؤمن لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ لإيمانه بأن الله هو الذي رزقهم وقدر لهم ذلك، فأعطى من شاء ومنع من شاء ابتلاء وامتحانا منه سبحانه لخلقه، وأنه حين يحسد غيره إنما يعترض على المقدور.
11 - أنه يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعددة، فهو دائم
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب القدر (4\ 2040) .
(2) سورة المعارج الآية 19
(3) سورة المعارج الآية 20
(4) سورة المعارج الآية 21(76/218)
الاستعانة بالله، يعتمد على الله ويتوكل عليه مع فعل الأسباب، وهو أيضا دائم الافتقار إلى ربه تعالى، يستمد منه العون على الثبات ويطلب منه المزيد، وهو أيضا كريم يحب الإحسان إلى الآخرين، فتجده يعطف عليهم.
12 - إن الإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن الانكسار والاعتراف لله - تعالى - حين يقع منه الذنب، ومن ثم يطلب من الله العفو والمغفرة، ولا يحتج بالقدر على ذنوبه - وإن كانت مقدرة عليه - لأنه يعلم أن الاحتجاج بالقدر على فعل الذنب باطل ومخالف للشرع.
13 - أن الداعي إلى الله يصدع بدعوته ويجهر بها أمام الكافرين والظالمين، لا يخاف في الله لومة لائم، ويفضح ما هم فيه من كفر وظلم وما يقومون به من إفساد وتضليل، يفعل المؤمن كل ذلك بعد اتخاذ الأسباب الواقية بإذن الله، وهو راسخ الإيمان واثق بالله متوكل عليه صابر على كل ما يحصل له في سبيله؛ لأنه مؤمن أن الآجال بيد الله وحده، والأرزاق عنده وحده، وما قدر الله سيكون وما لم يقدره لن يكون، وأن العباد لا يملكون من ذلك شيئا مهما وجد لهم من قوة وعون.
14 - الطمأنينة والراحة النفسية للمؤمن بقضاء الله وقدره، حيث إنه لا يقلق ولا يحزن بفوات محبوب أو حصول مكروه؛ لأنه يعلم أن(76/219)
ذلك كله بقدر الله سبحانه وتعالى الذي له ملك السماوات والأرض وما قدره - سبحانه وتعالى - كائن لا محالة، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (1) {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (2) .
وجاء في حديث صهيب - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «عجبا لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له (3) » . (4)
15 - تكفير الذنوب والخطايا، ويدل على هذا حديث أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله به سيئاته (5) » .
16 - غنى النفس، ويدل عليه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس الغنى عن
__________
(1) سورة الحديد الآية 22
(2) سورة الحديد الآية 23
(3) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الزهد والرقائق (4\ 2295) .
(4) انظر: نبذة في العقيدة الإسلامية للعلامة ابن عثيمين رحمه الله ص 40، 39) .
(5) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب (4\ 1993) .(76/220)
كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس (1) » .
17 - الأجر الكبير والثواب الجزيل، قال الله - عز وجل - مبينا فضل الصابرين على أقدار الله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (2) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (3) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (4) .
18 - التسليم لحكمة الله وإرادته والرضا بفعله، والتوكل عليه عز وجل، وعدم معارضة الشرع بالقدر، والأدب مع الله - سبحانه وتعالى - ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه الآثار كلها تحصل لمن آمن بالقدر إيمانا وفق ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة (2\ 726) .
(2) سورة البقرة الآية 155
(3) سورة البقرة الآية 156
(4) سورة البقرة الآية 157(76/221)
الخاتمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فأجمل أهم ما توصلت إليه من فوائد في هذا البحث في الأمور التالية:
1 - أن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، والإيمان به من(76/221)
تمام التوحيد لا يتم الإيمان إلا بالإيمان به.
2 - إن قول أهل السنة والجماعة في القدر هو القول الوسط الذي يجمع الأدلة كلها، أما الأقوال الأخرى فكل قول منها في الحقيقة رد على القول الآخر، وكذلك الأدلة.
3 - أن العلم والإيمان بالقدر وإدراك العبد الفرق بين الأمر الكوني والقدري والأمر الشرعي التكليفي، ومعرفة أدلتهما من الكتاب والسنة هو الحق الذي يجب اعتقاده والتمسك به.
4 - أن الإيمان بالقدر يثمر ثمرات جليلة وفوائد عظيمة، فتمام التوحيد وغنى النفس وطمأنينة القلوب وزوال قلقها وهمومها هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى وبقضائه وقدره.
وفي الختام أسال الله - تبارك وتعالى - أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن ينفع بهذا البحث، وأن يكتب لي فيه الأجر والثواب، إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(76/222)
الأحاديث الواردة في لزوم الجماعة
(دراسة حديثية فقهية)
للدكتور حافظ بن محمد الحكمي (1)
المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستهديه، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فإن الجماعة الأولى التي صنعت على عين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم تعاهدها خلفاؤه من بعده بالرعاية والتوجيه هي الجماعة التي تمثل الإسلام حقيقة، فقد أخذته عن قناعة وحكمته في شؤونها عن رضى وتسليم، فسعدت بالعيش في ظله؛ حيث عاشت الحياة الطيبة التي وعدها بها ربها في قوله:
__________
(1) الأستاذ المشارك في قسم الحديث بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(76/223)
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (1) .
وعاشت العزة التي كتبها لها ربها كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
لقد خضعت لعزة تلك الجماعة المؤمنة جميع أمم الأرض، وفي مقدمتها فارس والروم، وبلغ ملكها المشارق والمغارب، وتحققت لها المعجزة التي بشرها بها رسولها صلوات الله وسلامه عليه.
وقد ورث تلك العزة والملك العظيم أجيال الأمة الإسلامية اللاحقة التي سارت على منهاج الجماعة الأولى إلى ما شاء الله، ثم تسربت إلى الأمة أدواء الأمم السابقة، فأخذت الدنيا طريقها إلى قلوب أبنائها، وتنافسوها كما تنافسها من قبلهم، ودب الخلاف إلى صفوفها، فأحدث شيئا من التصدع والفرقة، وكل ذلك قد أسهم في ضعف شوكة الأمة وإطماع أعدائها فيها، فأخذوا يناوشونها ويستعيدون بعض الثغور التي ضعفت قبضتها عليها، ثم غزوها في عقر دارها، ويهيئ الله لها بعد كل فترة من يجدد لها أمر دينها، وينهض بها من عثرتها فتأخذ بالثأر، وتسترد ما سلب منها، وقد اشتد في هذا الزمن تفريط الأمة في أمر دينها وإيثارها لدنياها، فسلط
__________
(1) سورة النحل الآية 97
(2) سورة المنافقون الآية 8(76/224)
الله عليها بذلك أعداءها، فألحقوا بها من الذل ما لم يسبق له نظير في تاريخها الطويل، وتلك سنة الله في عباده كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) .
وهذا الحال يتطلب من أبناء الأمة توحيد الصف، وجمع الكلمة، ومضاعفة الجهود للرجوع بالأمة إلى دينها، فإن رفع هذا الذل عنها مرتبط بذلك كما أخبر بذلك الذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه، ففي سنن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (2) » .
ومراجعة الأمة لدينها تكون بالرجوع إلى ما كانت عليه الجماعة الأولى؛ فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وقد أخبر (3) النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفتن التي ستمر بها الأمة الإسلامية، وبين أن الخلاص منها يكون بلزوم الجماعة، وجاءت أحاديث كثيرة في الحث على لزوم الجماعة والتحذير من الخروج عنها، وقد بين أهل العلم أن الجماعة الواردة في تلك الأحاديث هي التي تكون على ما كانت عليه الجماعة الأولى.
__________
(1) سورة الرعد الآية 11
(2) سنن أبي داود كتاب البيوع (رقم 3462) .
(3) جاء ذلك في حديث حذيفة رضي الله عنه، انظر: (برقم 1) .(76/225)
وقد رأيت أن أقوم في هذا البحث بجمع الأحاديث الواردة في لزوم الجماعة مع بيان حالها من حيث الصحة والضعف، ثم بيان ما اشتملت عليه من أحكام وتوجيهات نبوية؛ لأنه لا غنى للمهتمين بأمر الأمة عنها، ولا جمع لكلمتهم بغيرها. وخير من فهم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم أهل العلم من سلف هذه الأمة والتابعين لهم بإحسان، وقد حرصت على جمع ما وقفت عليه من كلامهم في ذلك من كتب الشروح والغريب وكتب العقيدة وغيرها.
هذا، وقد جعلت البحث في فصلين:
الفصل الأول لدراسة أسانيد الأحاديث وبيان حالها من الصحة والضعف.
والفصل الثاني لدراسة الأحاديث من الناحية الفقهية.
وقدمت للبحث بمقدمة لبيان أهمية الموضوع والحاجة إلى الكتابة فيه، وأنهيته بخاتمة اشتملت على أهم نتائج البحث، ثم ذيلته بفهارس تسهل على الباحث الوصول إلى مطلوبه.
هذا، ونسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، وأن يعمم النفع به، إنه ولي ذلك، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(76/226)
الفصل الأول: دراسة الأحاديث الواردة في الحث على لزوم الجماعة
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الأحاديث الواردة في الجماعة.
المبحث الثاني: الأحاديث الواردة في السمع والطاعة لولاة الأمر.
المبحث الأول: الأحاديث الواردة في الجماعة.
1 - عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: «كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: " نعم "، قلت: وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: " نعم، وفيه دخن " قلت: وما دخنه؟ قال: " قوم يهدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر " قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: " نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها ". قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: " هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا ". قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ". قالت: فإن
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (7084) ، صحيح مسلم الإمارة (1847) ، سنن أبي داود الفتن والملاحم (4244) ، مسند أحمد (5/404) .(76/227)
لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (1) » .
أخرجه البخاري (2) ومسلم (3) وابن ماجه (4) كلهم من طريق أبي إدريس الخولاني عن حذيفة، به.
وأخرجه مسلم (5) من طريق أبي سلام الأسود عن حذيفة، فذكره. وفيه: «قلت: فهل وراء ذلك الخير من شر؟ قال: " نعم ". قلت: كيف؟ قال: " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس " قال: قلت: " كيف أصنع يا رسول الله إن أدركني ذلك؟ " قال: " تسمع وتطيع للأمير، وإن كان ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع (6) » .
2 - عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «نضر الله (7) امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها
__________
(1) دخن: بالمهملة ثم المعجمة المفتوحتين بعدها نون: هو الحقد، وقيل: فساد القلب. فتح الباري 12\ 32. (1)
(2) صحيح البخاري مع الفتح (كتاب المناقب، ح 3606، كتاب الفتن، ح 7084) .
(3) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1847) .
(4) سنن ابن ماجه (كتاب الفتن، ح 3979) .
(5) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1847) (52) .
(6) صحيح البخاري الفتن (7084) ، صحيح مسلم الإمارة (1847) ، سنن أبي داود الفتن والملاحم (4244) ، مسند أحمد (5/406) .
(7) سنن الترمذي العلم (2658) ، سنن ابن ماجه المقدمة (232) .(76/228)
وبلغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم» .
أخرجه الترمذي (1) قال: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، فذكره.
وأخرجه الشافعي (2) ، عن سفيان، به. وصحح سنده الألباني (3) .
وأخرجه الحاكم (4) من طريق الشافعي به.
وأخرجه الترمذي (5) وابن ماجه (6) من طريق سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله به مختصرا، وليس فيه «ثلاث لا يغل عليهن (7) » . . . إلخ ". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
__________
(1) سنن الترمذي (كتاب العلم، ح 2658) .
(2) الرسالة (ص 401) .
(3) تخريج المشكاة مع المشكاة (1\ 78) .
(4) معرفة علوم الحديث (ص 322) .
(5) سنن الترمذي (كتاب العلم، ح 2657) .
(6) سنن ابن ماجه (المقدمة، ح 232) .
(7) سنن الترمذي العلم (2658) .(76/229)
والحديث صحيح لشواهده، ففي سنده شيخ الترمذي ابن أبي عمر العدني، قال ابن حجر في التهذيب: " وثقه ابن معين والدارقطني، وقال أبو حاتم: فيه غفلة، وكان صدوقا ".
وقال ابن حجر في التقريب: " صدوق ".
وسفيان هو ابن عيينة الإمام المشهور. وعبد الله بن عمير ثقة من رجال الشيخين، قال ابن حجر: " تغير حفظه وربما دلس ".
وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ثقة من رجال الشيخين، لكن للحديث شواهد كثيرة، فقد روى الحديث جمع من الصحابة، منهم: زيد بن ثابت، وجبير بن مطعم، رضي الله عنهما.
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في تخريج المختصر (1) : " حديث مشهور خرج في السنن أو بعضها من حديث ابن مسعود وزيد بن ثابت وجبير بن مطعم، وصححه ابن حبان والحاكم. وذكر أبو القاسم ابن منده في تذكرته أنه رواه عن المصطفى أربعة وعشرون صحابيا، ثم سرد أسماءهم ".
وذكره السيوطي في كتابه " قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة " (2) .
وجمع شيخنا الشيخ عبد المحسن العباد (3) طرقه ودرسها
__________
(1) فيض القدير (6\ 284) .
(2) قطف الأزهار المتناثرة (ص 28) رقم (2) .
(3) كتاب دراسة حديث '' نضر الله امرءا سمع مقالتي، (ص 211) .(76/230)
دراسة مستفيضة، وأثبت أنه متواتر.
3 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبحة الجنة فعليه بالجماعة (1) » .
أخرجه ابن أبي عاصم (2) عن إسماعيل بن سالم والترمذي (3) عن أحمد بن منيع، كلاهما عن النضر بن إسماعيل أبي المغيرة، حدثنا محمد بن سوقة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر (فذكره) .
وهذا لفظه عند ابن أبي عاصم، وهو عند الترمذي في سياق حديث طويل.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الألباني: " حديث صحيح، رجاله ثقات غير النضر بن إسماعيل أبي المغيرة، فإنه ليس بالقوي وقد توبع ".
قلت: النضر بن إسماعيل قد اختلف فيه، فقال أبو زرعة
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2165) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2363) ، مسند أحمد (1/18) .
(2) السنة (1\ 42) .
(3) سنن الترمذي (كتاب الفتن، 2165) .(76/231)
والنسائي: ليس بالقوي.
وقال الإمام أحمد: ليس بقوي يعتبر بحديثه، ووثقه غيرهم فقال العجلي: ثقة.
وقال الدارقطني: صالح، وقال ابن عدي: أرجو أن لا بأس به.
واختلف فيه قول ابن معين، فمرة قال: ليس بشيء، وعنه: قال صدوق (1) .
والذي يظهر أن أقل أحواله أن حديثه حسن لغيره، فقد تابعه ابن المبارك كما أشار الترمذي والألباني، وهذه المتابعة عند الإمام أحمد قال (2) : حدثنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا محمد بن سوقة به، بأطول من سياق ابن أبي عاصم.
وهذا الإسناد صحيح، شيخ الإمام أحمد علي بن إسحاق السلمي ثقة، وكذا بقية رجاله ثقات.
وأخرجه الحاكم (3) من طرق عن عبد الله بن المبارك به مطولا، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين؛ فإني لا أعلم خلافا بين أصحاب ابن المبارك في إقامة هذا الإسناد، ولم يخرجاه ".
__________
(1) تهذيب التهذيب (10\ 434) .
(2) المسند (1\ 18) .
(3) المستدرك (1\ 114) .(76/232)
ووافقه الذهبي (1) ، وقال الألباني (2) : وهو كما قالا.
وأخرجه الإمام أحمد من وجه آخر (3) ، قال: حدثنا جرير، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة قال: خطب عمر الناس بالجابية (فذكره) .
وأخرجه ابن أبي عاصم (4) عن علي بن حمزة، ثنا جرير بن حازم، به.
وقال الألباني (5) : " سند ابن أبي عاصم جيد، ورجاله كلهم ثقات، رجال الشيخين، غير علي بن حمزة، والظاهر أنه علي بن حمزة بن سوار العتكي، قال ابن أبي حاتم: روى عن جرير بن المعولي، وروى عنه أبو زرعة ".
قلت: لا تضر جهالة علي بن حمزة؛ لأن الإمام أحمد قد روى الحديث عن شيخه جرير بن حازم كما سبق، وجرير ثقة، لكن شيخ جرير عبد الملك بن عمير مختلف فيه، قال الإمام أحمد: مضطرب الحديث جدا. ولابن معين فيه قولان؛ فقد روى عنه إسحاق بن منصور أنه قال: مخلط. وروى عنه ابن الرقي أنه قال:
__________
(1) تلخيص المستدرك مع المستدرك (1\ 114) .
(2) تخريج السنة لابن أبي عاصم، مع السنة (1\ 43) .
(3) المسند (1\ 26) .
(4) السنة (2\ 437) .
(5) تخريج السنة لابن أبي عاصم، مع السنة (2\ 437) .(76/233)
ثقة إلا أنه أخطأ في حديث أو حديثين. وقال ابن نمير: كان ثقة ثبتا. وقال العجلي: صالح الحديث تغير قبل موته (1) . ولعل ابن حجر حمل ما وصفه به أحمد وابن معين من الاضطراب على ما بعد التغير، فقال في التقريب: ثقة فقيه تغير حفظه، وربما دلس. ورجح الذهبي في الميزان (2) توثيقه فقد رمز له بـ (صح) ، ووصفه بالثقة. والذي يظهر لي: أن الحديث صحيح بمجموع طرقه، وقد صححه أحمد شاكر رحمه الله (3) .
4 - عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الجماعة رحمة، والفرقة عذاب (4) » .
أخرجه ابن أبي عاصم (5) ، قال: حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الرحيم، ثنا يونس بن محمد، عن أبي، عن وكيع، عن القاسم بن الوليد الشعبي، عن النعمان بن بشير، فذكره.
وأخرجه الإمام أحمد (6) ، عن منصور بن أبي مزاحم، ويحيى بن عبد الرحمن مولى بني هاشم كلاهما عن أبي وكيع به في حديث.
__________
(1) انظر الأقوال السابقة في تهذيب التهذيب (6\ 411) .
(2) (2\ 660) .
(3) الرسالة (ص 575) .
(4) مسند أحمد (4/375) .
(5) السنة (1\ 44) .
(6) المسند (4\ 278) .(76/234)
وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1) عن يحيى بن عبد الرحمن مولى بني هاشم به، بلفظ الإمام أحمد.
وفي سند الحديث أبو عبد الرحمن القاسم بن الوليد، وثقه ابن معين وابن سعد. وقال العجلي: ثقة، وهو في عداد الشيوخ (2) ، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: " يخطئ ويخالف " (3) . وقال ابن حجر في " التقريب ": " صدوق يغرب ".
وقال الألباني (4) : " فيه كلام لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن "، وحسن سنده هذا في تخريج السنة (5) .
__________
(1) المسند (4\ 375) .
(2) تهذيب التهذيب (8\ 34) .
(3) الثقات (7\ 338) .
(4) الصحيحة ح 447، صحيح الترغيب ح 405.
(5) تخريج السنة لابن أبي عاصم، مع السنة، (1\ 45) .(76/235)
5 - عن عبد الله بن عمر عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله لا يجمع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار (1) » .
أخرج الترمذي (2) : قال: حدثنا أبو بكر بن نافع البصري، حدثني المعتمر بن سليمان، حدثنا سليمان المدني، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر (فذكره) .
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2167) .
(2) سنن الترمذي (كتاب الفتن، ح 2167) .(76/235)
وأخرجه الحاكم (1) من طريق أبي بكر بن نافع، به.
وقال الترمذي: " هذا حديث غريب من هذا الوجه، وسليمان المدني هو سليمان بن سفيان، وقد روى عنه أبو داود الطيالسي وأبو عامر العقدي وغير واحد من أهل العلم ".
قلت: جاء التصريح باسم والد سليمان بما ذكر الترمذي في رواية المسيب بن واضح عند ابن أبي حاتم.
قال: حدثنا المسيب بن واضح، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن سليمان هو ابن سفيان مولى آل طلحة المدني، عن عبد الله بن دينار به بنحوه (2) .
وجاء التصريح باسمه كذلك في رواية يحيى بن حبيب بن عربي، عنه، عند الحاكم إلا أنه خالف غيره في شيخه فجعله: (عن عمرو بن دينار) بدل: (عبد الله بن دينار) .
قال الحاكم: أخبرنا أبو علي الحسن بن علي الحافظ، أخبرنا سهل بن أحمد بن عثمان الواسطي من كتابه، حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: قال أبو سفيان سليمان بن سفيان المدني، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر (فذكره) (3) .
__________
(1) المستدرك (1\ 116) .
(2) السنة (1\ 39) .
(3) المستدرك (1\ 116) .(76/236)
وأخرجه الحاكم من طريق يعقوب بن إبراهيم، حدثنا المعتمر بن سليمان، حدثني أبو سفيان المدني، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر (1) .
وأخرجه من طريق علي بن الحسين الدرهمي، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن سفيان أو أبي سفيان، عن عبد الله بن دينار، به (2) .
ومدار الإسناد على سليمان بن سفيان المدني، وقد حكى الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب تضعيفه عن غير واحد، وقال في التقريب: " ضعيف ".
وقد ساق له الحاكم متابعات:
الأولى: ما أخرجه من طريق المعتمر بن سليمان، عن أبيه:
قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن تميم الأصم ببغداد، حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر، حدثنا خالد بن يزيد القرني، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن عبد الله بن دينار، به (3) . وأخرجه اللالكائي من طريق جعفر بن محمد بن شاكر، به (4) .
وقال الحاكم: خالد بن يزيد القرني هذا شيخ قديم للبغداديين، ولو حفظ هذا الحديث لحكمنا بصحته.
__________
(1) المستدرك (1\ 115) .
(2) المصدر السابق.
(3) المستدرك (1\ 115) .
(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1\ 106\ ح 154) .(76/237)
وخالد بن يزيد هذا قال الحافظ في " التقريب " في نسبته: المزرفي، وقال: " صدوق ". ولم أر فيه توثيقا لأحد غير قول ابن معين: " لا بأس به "، وقد خالفه في هذه المتابعة، وهو قوله: (عن أبيه) خمسة من الرواة كما سبق، وهم:
الأول: أبو بكر بن نافع، وهو صدوق، وله روايتان، إحداهما عن المعتمر عن سليمان المدني. والثانية: عن المعتمر عن سليمان أبي عبد الله المدني.
الثاني: المسيب بن واضح وهو متكلم في حفظه لكن يصلح في المتابعات، قال في روايته: عن المعتمر عن سليمان هو ابن سفيان مولى آل طلحة.
الثالث: يحيى بن حبيب بن عربي، وهو ثقة، وقد رواه عن المعتمر، عن أبي سفيان سليمان بن سفيان المدني.
الرابع: يعقوب بن إبراهيم الدورقي، وهو ثقة، قال في روايته: عن المعتمر بن سليمان، حدثني أبو سفيان المدني.
الخامس: علي بن الحسن الدرهمي، وهو صدوق، قال: عن المعتمر بن سليمان، عن سفيان أو أبي سفيان - على الشك.
والذي يظهر أنه لا تعارض بين روايات هؤلاء، أما رواية يعقوب بن إبراهيم ويحيى بن حبيب، والمسيب بن واضح فلا إشكال فيها، وكذا رواية أبي بكر بن نافع التي فيها: عن سليمان المدني.(76/238)
لكن الثانية التي فيها: " عن سليمان أبي عبد الله المدني " فهي محمولة على الاختلاف في كنيته كما ذكر البيهقي في كتابه (الأسماء والصفات) .
وأما رواية علي بن الحسين الدرهمي التي فيها: عن سفيان أو أبي سفيان فهي مروية على الشك، فتحمل على رواية الثقات، فيكون الراجح فيها (عن أبي سفيان) . فالحاصل: أن شيخ المعتمر عند هؤلاء الخمسة هو سليمان بن سفيان المدني، فلا تقوى رواية خالد بن يزيد على معارضتها؛ إذ لم يصفه أحد بالحفظ، والذي يظهر أنه أخطأ في قوله عن (أبيه) ، وكأنه حين رأى المعتمر بن سليمان يروي عن سليمان ظن أن سليمان هذا والد المعتمر، فقال: (عن أبيه) .
والحاكم قد تردد - كما سبق - في حفظ خالد بن يزيد لهذه الرواية، فعاد الإسناد إلى سليمان بن سفيان المدني، والله أعلم.
المتابعة الثانية: متابعة سلم بن أبي الذيال عند الحاكم:
قال: حدثنا أبو الحسن عبد الصمد بن مكرم البزار ببغداد، حدثنا محمد بن غالب، حدثنا خالد بن عبد الرحمن، حدثنا المعتمر، عن سلم بن أبي الذيال، عن عبد الله بن دينار، به (1) .
وقال الحاكم: وهذا لو كان محفوظا من الراوي لكان على
__________
(1) المستدرك (1\ 115) .(76/239)
شرط مسلم.
وسلم بن أبي الذيال ثقة، لكن الراوي عن معتمر خالد بن عبد الرحمن، لم أقف له على ترجمة، وكلام الحاكم يشعر بعدم معرفته بحاله.
أما المتابعة الثالثة: فهي متابعة مرزوق مولى آل طلحة عند الطبراني:
قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا معتمر بن سليمان، عن مرزوق مولى آل طلحة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر (1) .
قال الهيثمي: " رواه الطبراني بإسنادين؛ رجال أحدهما ثقات رجال الصحيح خلا مرزوق مولى آل طلحة وهو ثقة " (2) .
قال الألباني: " إسناده صحيح، رجاله ثقات، ومرزوق اسم أبيه: مرداسة، كما في " مشكل الآثار ". . . " (3) .
قلت: في إطلاق الصحة على هذا السند نظر؛ لأن مرزوقا مولى آل طلحة لم أر من وثقه، والتصريح باسم أبيه جاء في " مشكل الآثار "، نعم ذكر في أثناء السند، لكن لم يرد فيه بيان
__________
(1) المعجم الكبير (12\ 447) .
(2) مجمع الزوائد (5\ 218) .
(3) ظلال الجنة مع السنة لابن أبي عاصم (1\ 40) .(76/240)
لحاله، وقد ذكره ابن حبان في " الثقات " (1) وقال: " يخطئ ". ومثل هذا إنما يصلح في المتابعات.
وحديث الباب في المتابعات: لا يقل عن مرتبة الحسن، والله أعلم.
قال الحافظ ابن حجر: " وللترمذي والحاكم عن ابن عمر مرفوعا: «لا تجمع هذه الأمة على ضلالة أبدا (2) » . فيه سليمان بن سفيان المدني وهو ضعيف. وأخرج له الحاكم شواهد، ويمكن الاستدلال له بحديث معاوية مرفوعا: «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله (3) » أخرجه الشيخان. ووجه الاستدلال منه أنه لوجود هذه الطائفة القائمة بأمر الله إلى يوم القيامة لا يحصل الاجتماع على الضلالة.
ثم قال الحافظ: وقال ابن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن يسير بن عمرو قال: " شيعنا أبا مسعود حين خرج، فنزل في طريق القادسية، فدخل بستانا فقضى حاجته، ثم توضأ ومسح على جوربيه، ثم خرج وإن لحيته ليقطر منها الماء، فقلنا له: اعهد إلينا، فإن الناس قد وقعوا في الفتن، ولا ندري هل نلقاك أم لا؟ قال: اتقوا الله واصبروا، حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر، وعليكم بالجماعة، فإن الله لا يجمع أمة محمد
__________
(1) الثقات (7\ 487) .
(2) سنن الترمذي الفتن (2167) .
(3) صحيح البخاري التوحيد (7460) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، مسند أحمد (4/101) .(76/241)
على ضلالة ". إسناده صحيح، ومثله لا يقال من قبل الرأي. وله طريق أخرى عنده عن يزيد بن هارون، عن التيمي، عن نعيم بن أبي هند، أن أبا مسعود خرج من الكوفة، فقال: " عليكم بالجماعة، فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة " (1) .
قلت: ومن شواهده حديث ابن عباس السابق.
6 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يد الله مع الجماعة (2) » .
أخرجه الترمذي (3) قال: حدثنا يحيى بن موسى، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا إبراهيم بن ميمون، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، فذكره. وقال: " هذا حديث حسن غريب: لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه ".
وأخرجه الحاكم (4) من طريقين عن عبد الرزاق بلفظ: «لا يجمع الله أمتي على ضلالة أبدا، ويد الله على الجماعة (5) » .
وقال الحاكم: " إبراهيم بن ميمون العدني هذا قد عدله عبد الرزاق وأثنى عليه، وعبد الرزاق إمام أهل اليمن وتعديله حجة ".
وحكى الذهبي (6) كلام الحاكم ثم قال: " ووثقه ابن معين ".
__________
(1) التلخيص الحبير (3\ 141) .
(2) سنن الترمذي الفتن (2167) .
(3) سنن الترمذي (كتاب الفتن، ح 2165) .
(4) المستدرك (1\ 116) .
(5) سنن الترمذي الفتن (2167) .
(6) تلخيص المستدرك مع المستدرك (1\ 117) .(76/242)
قلت: وبقية رجاله ثقات، فالسند صحيح، وقد صححه الألباني (1) .
7 - عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة؛ فإن الله - عز وجل - لا يجمع أمتي إلا على هدى (2) » .
أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في " زوائده على المسند " قال: حدثنا أبو اليمان، حدثنا ابن عياش عن البختري بن عبيد بن سليمان، عن أبيه، عن أبي ذر، (فذكره) .
وسند الحديث ضعيف جدا، فيه البختري بن عبيد بن سلمان الطابخي وهو متروك، ووالده مجهول كما في " التقريب ".
وساقه الألباني في سلسلة الضعيفة (3) من هذا الوجه وقال: " هذا موضوع آفته أبو البختري، قال أبو نعيم: روى عن أبيه عن أبي هريرة موضوعات ".
8 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى
__________
(1) تخريج المشكاة (1\ 61) .
(2) مسند أحمد (5/145) .
(3) سلسلة الأحاديث الضعيفة (ح 1797) .(76/243)
الله عليه وسلم -: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال (1) » .
أخرجه مسلم (2) من طريق جرير عن سهيل، عن أبيه عن أبي هريرة، فذكره.
وأخرجه (3) من طريق أبي عوانة عن سهيل به، دون قوله: " ولا تفرقوا ".
وأخرجه أحمد من طريق حماد بن سلمة (4) وخالد بن عبد الله المزني (5) - مفرقين في موضعين من المسند - كلاهما عن سهيل به مثله، وسند أحمد صحيح.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1715) ، مسند أحمد (2/367) ، موطأ مالك الجامع (1863) .
(2) صحيح مسلم (كتاب الأقضية ح 1715) .
(3) المصدر السابق.
(4) المسند (2\ 360) .
(5) المسند (2\ 367) .(76/244)
المبحث الثاني: الأحاديث الواردة في السمع والطاعة لولاة الأمر
9 - عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأن هذه موعظة مودع(76/244)
فماذا تعهد إلينا؟ فقال: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (1) » .
أخرجه الإمام أحمد (2) قال: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ثور بن يزيد، حدثنا خالد بن معدان، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر، قالا: أتينا العرباض بن سارية وهو ممن نزل فيه: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} (3) فسلمنا وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال العرباض: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . فذكره.
وأخرجه أبو داود (4) عن الإمام أحمد به مثله.
وأخرجه الحاكم (5) من طريق موسى بن أيوب النصيبي وصفوان بن صالح الدمشقي كليهما عن الوليد بن مسلم به، مثله.
وأخرجه الإمام أحمد (6) والترمذي (7) والدارمي (8) كلهم عن
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن أبي داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد (4/127) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) المسند (4\ 126) .
(3) سورة التوبة الآية 92
(4) سنن أبي داود (كتاب السنة، ح 4607) .
(5) المستدرك (1\ 97) .
(6) المسند (4\ 126) .
(7) سنن الترمذي (كتاب العلم ح 2676) .
(8) سنن الدارمي (1\ 44) .(76/245)
الضحاك بن مخلد، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن العرباض بنحوه.
وأخرجه ابن ماجه (1) من طريق عبد الملك بن الصباح، عن ثور به، وأخرجه الإمام أحمد (2) عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن ضمرة بن حبيب، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي أنه سمع العرباض. . . فذكر نحوه.
وأخرجه الحاكم (3) من طريق الإمام أحمد، به.
وأخرجه ابن ماجه (4) من طريقين، عن عبد الرحمن بن مهدي به، وأخرجه ابن ماجه (5) من طريق يحيى بن أبي المطاوع، عن العرباض:
قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان الدمشقي، حدثنا الوليد، حدثنا عبد الله بن العلاء (يعني ابن زبر) حدثني يحيى بن أبي مطاوع قال: سمعت العرباض بن سارية يقول: (فذكره) .
وأخرجه الحاكم (6) من طريق عمرو بن أبي سلمة التنيسي، عن عبد الله بن العلاء به، مثله.
__________
(1) سنن ابن ماجه (المقدمة، ح 44) .
(2) المسند (1\ 126) .
(3) المستدرك (1\ 96) .
(4) سنن ابن ماجه (المقدمة، 43) .
(5) سنن ابن ماجه (المقدمة، 42) .
(6) المستدرك (1\ 97) .(76/246)
وأخرجه الإمام أحمد من طريق أبي بلال، عن العرباض قال: حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا بقية، حدثني يحيى بن سعيد، عن خالد بن معدان، عن أبي بلال، عن العرباض.
وقال: حدثنا إسماعيل، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن خالد بن معدان، به.
والحديث صحيح بمجموع طرقه، فقد رواه عن العرباض أربعة من التابعين، هم:
عبد الرحمن بن عمرو السلمي، وقد روى عنه جمع من الرواة في " التهذيب "، وذكره ابن حبان في " الثقات ".
وتابعه حجر بن حجر الكلاعي، وذكره ابن حبان في " الثقات " أيضا، ورمز له ابن حجر بمقبول، ويعني مع المتابعة.
وتابعهما يحيى بن أبي المطاوع عن ابن ماجه والحاكم، وهو صدوق. وقال دحيم: " روايته عن العرباض مرسلة ". لكنه صرح بالسماع كما سبق، ورجال الإسناد ثقات.
وتابعهم أبو بلال عند أحمد، وهو عبد الله بن أبي بلال ذكره ابن حبان في " الثقات "، وقال ابن حجر: مقبول. وبقية رجال الإسناد ثقات.
وهناك متابعة خامسة عند الحارث بن أبي أسامة، لكن المتابع مبهم:(76/247)
قال الحارث بن أبي أسامة (1) : حدثنا عفان، حدثنا أبو الأشهب، حدثني سعيد بن خثيم، عن رجل من أهل الشام، قال: إن رجلا من الصحابة حدثه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . فذكره.
وقد نبه على الراوي المبهم البخاري - رحمه الله تعالى - في " تاريخه " (2) فقال: " سعيد بن خثيم رجل من سليط، عن رجل من أهل الشام، عن رجل له صحبة ". اهـ.
وقد رواه الحارث من وجه آخر وأسقط الرجل المبهم: قال: حدثنا سعيد بن عامر، عن عوف، عن رجل سماك أحسبه قال: سعيد بن خثيم، عن رجل من الأنصار من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. . . . الحديث.
وقد ذكره الألباني في الإرواء (3) من هذا الوجه وحسنه، والصواب ما سبق من وجود المبهم فيه كما نبه عليه البخاري، وقد نبه عليه كذلك البوصيري فقال: رواه الحارث بن أبي أسامة بسند ضعيف لجهالة التابعي.
__________
(1) بغية الباحث (1\ 197 \ح 55) ، والمطالب العالية المسندة (3\323 \ ح 3090) .
(2) التاريخ الكبير (3\ 470) .
(3) إرواء الغليل (8\ 108) .(76/248)
وهناك متابع سادس ذكره الحاكم (1) وهو معبد بن عبد الله بن هشام القرشي، لكن لم يسند الحاكم هذه المتابعة، وقال: إنه تركها لكونها ليست على شرطه.
وقد صحح الحديث جمع من أهل العلم، قال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".
وقال البزار: حديث ثابت، وذكره ابن حبان في " صحيحه "، وقال الحاكم: " حديث صحيح ليست له علة ". ووافقه الذهبي. وقال ابن عبد البر: " حديث ثابت ". وقال البغوي: " هذا حديث حسن ". وصححه الضياء المقدسي، في " جزء اتباع السنن واجتناب البدع " (ق\ 79\1) ، وصححه الألباني (2) .
10 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من رأى من أمره شيئا يكرهه فليصبر عليه؛ فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية (3) » .
أخرجه البخاري (4) ومسلم (5) كلاهما من طريق حماد بن
__________
(1) المستدرك (1\ 97) .
(2) انظر للأقوال السابقة كلها: إرواء الغليل (8\ 108) .
(3) صحيح البخاري الأحكام (7143) ، صحيح مسلم الإمارة (1849) ، سنن الدارمي السير (2519) .
(4) صحيح البخاري مع الفتح (كتاب الفتن، ح 7054، كتاب الأحكام، ح 7143) .
(5) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1849) .(76/249)
زيد، عن الجعد، عن أبي رجاء العطاردي، عن ابن عباس. . . فذكره. وهذا لفظ البخاري، وعند مسلم بنحوه.
وأخرجاه من طريق عبد الوارث عن الجعد، به بلفظ: «من كره من أميره شيئا فليصبر؛ فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية (1) » . وهذا لفظ البخاري، ومسلم بنحوه.
وأخرجه البزار والطبراني بسياق آخر:
قال البزار (2) : حدثنا إبراهيم بن هانئ، حدثنا محمد بن عثمان أبو الجماهر، حدثنا خليد بن دعلج، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من فارق الجماعة قياس أو قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، ومن مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية، ومن مات تحت راية عمية يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتلته قتلة جاهلية (3) » .
وأخرجه الطبراني (4) عن الحسن بن جرير الصوري، عن أبي الجماهر به، نحوه.
وقال البزار: " لا نعلمه عن ابن عباس إلا من هذا الوجه، وخليد تفرد به، وخليد مشهور روى عنه الوليد بن مسلم، وأبو
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (7053) ، صحيح مسلم الإمارة (1849) ، مسند أحمد (1/275) ، سنن الدارمي السير (2519) .
(2) كشف الأستار (2\ 252) .
(3) صحيح البخاري الأحكام (7143) ، صحيح مسلم الإمارة (1849) ، مسند أحمد (1/310) ، سنن الدارمي السير (2519) .
(4) مجمع البحرين زوائد المعجمين (4\ 324) .(76/250)
الجماهر والنفيلي ".
وقال الطبراني: " لا يروى عن ابن عباس إلا من هذا الوجه ".
قلت: يشير البزار والطبراني إلى تفرد خليد بن دعلج بهذا اللفظ، وخليد ضعفه غير واحد من الأئمة، وطعن بعضهم شديد ولم أر من وثقه، وقال أبو حاتم: " حدث عن قتادة أحاديث بعضها منكرة ".
وهذا من حديثه عن قتادة، وقد خالف رواية الثقات السابقة، وضعف هذا اللفظ الحافظ ابن حجر (1) ، فقد عزاه للبزار والطبراني، وقال: " في سنده خليد بن دعلج، وفيه مقال ".
11 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية (2) يغضب لعصبية، أو يدعو لعصبية، أو ينصر عصبية، فقتل فقتلته جاهلية، ومن خرج من أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد بعهده، فليس مني
__________
(1) فتح الباري (13\7) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1848) ، سنن النسائي تحريم الدم (4114) ، سنن ابن ماجه الفتن (3948) ، مسند أحمد (2/488) .(76/251)
ولست منه» .
أخرجه مسلم (1) عن شيبان بن فروخ، حدثنا جرير - يعني ابن حازم - حدثنا غيلان بن جرير، عن أبي قيس بن رباح، عن أبي هريرة. . . فذكره.
وأخرجه أحمد (2) عن يزيد بن هارون، عن جرير به، مثله.
وأخرجه مسلم (3) وابن أبي عاصم (4) من طريق مهدي بن ميمون، عن غيلان، به.
وأخرجه النسائي (5) وأحمد من طريق أيوب، عن غيلان، به.
__________
(1) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1848) .
(2) المسند (1\ 196) .
(3) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1848) .
(4) السنة، 1\ 43، ح 90، 2\ 506، ح 1064) .
(5) سنن النسائي، كتاب الدم (باب التغليظ فيمن قتل تحت راية عمية، 7\ 123) .(76/252)
12 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من نزع يدا من طاعة أو فارق الجماعة مات ميتة جاهلية (1) » .
أخرجه الإمام أحمد (2) قال: حدثنا علي بن عياش، حدثنا محمد بن مطرف، حدثنا زيد بن أسلم قال: إن عبد الله بن عمر أتى ابن مطيع، فقال: اطرحوا لأبي عبد الله وسادة، فقال: ما جئت
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1851) ، مسند أحمد (2/154) .
(2) المسند (2\ 133) .(76/252)
لأجلس عندك، ولكن جئت لأخبرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول. . . فذكره.
وأخرجه ابن أبي عاصم قال: حدثنا ابن كاسب، حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم به مختصرا.
الحديث صحيح، وسند الإمام أحمد صحيح على شرط مسلم، وفي سند ابن أبي عاصم يعقوب بن حميد بن كاسب، والمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، كل منهما قال عنه ابن حجر: " صدوق يهم ". لكن الوهم في هذا الحديث مدفوع عنهما بالمتابعة كما سبق.
وقال الألباني (1) عن إسناد ابن أبي عاصم: " إسناده حسن، رجاله ثقات وفي بعضهم ضعف يسير، وقد توبع كما يأتي، فالحديث صحيح ".
يشير بالمتابعة إلى سند الإمام أحمد السابق.
وقد أخرجه مسلم (2) من طريق نافع قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع. . . (فذكره) .
وليس عنده: " أو فارق الجماعة ".
وساقه أيضا من طريق زيد بن أسلم، وأحال على لفظ نافع.
__________
(1) تخريج السنة، مع السنة (1\ 44) .
(2) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1851) .(76/253)
وأخرج الحاكم (1) الحديث من طريق نافع بسياق آخر:
قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو صالح، حدثني الليث، حدثني يحيى بن سعيد، قال: كتب إلي خالد بن أبي عمران قال: حدثني نافع عن عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه " وقال: " ومن مات وليس عليه إمام جماعة فإن موتته موتة جاهلية (2) » . . . . ".
وأخرجه (3) عن أبي منصور محمد بن القاسم العتكي، عن أبي سهل حسن بن سهل اللباد، عن أبي صالح عبد الله بن صالح، عن الليث، به بسياق أطول.
وقال الحاكم: " إسناد صحيح على شرطهما ".
قلت: ليس على شرطهما ولا على شرط أحدهما؛ ففي سنده أبو صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث، ليس من رجال البخاري ولا مسلم، قال عنه الحافظ ابن حجر في " التقريب ": " صدوق كثير الغلط، ثبت في كتابه، وكان فيه غفلة ". وهنا قد خالف في سياق حديثه اللفظ الذي أخرجه مسلم عن الثقات من
__________
(1) المستدرك (1\ 117) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1851) ، مسند أحمد (2/154) .
(3) المستدرك (1\ 77) .(76/254)
رواية نافع كما سبق.
فروايته هذه منكرة أو شاذة، والله أعلم.
13 - عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من فارق الجماعة واستذل الإمارة لقي الله ولا حجة له (1) » .
أخرجه الحاكم (2) قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، حدثنا حامد بن أبي حامد المقرئ، حدثنا إسحاق بن سليمان القاري، حدثنا كثير بن أبي كثير أبو النضر، عن ربعي بن حراش، قال: أتيت حذيفة ليالي سار الناس إلى عثمان، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . الحديث.
وقال: حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي بمرو، حدثنا معاذ، حدثنا أبو عاصم، حدثنا كثير بن أبي كثير، به.
وقال الحاكم: " هذا حديث صحيح؛ فإن كثير بن أبي كثير كوفي سكن البصرة، روى عنه يحيى بن سعيد القطان، وعيسى يونس، ولم يذكر بجرح ".
وقال الذهبي (3) : " صحيح، وكثير روى عنه القطان ".
14 - عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى
__________
(1) مسند أحمد (5/406) .
(2) المستدرك (1\ 119) .
(3) تلخيص المستدرك، مع المستدرك (1\ 119) .(76/255)
الله عليه وسلم -: «من فارق الجماعة شبرا، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه (1) » .
أخرجه أبو داود (2) قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير وأبو بكر بن عياش ومندل، عن مطرف، عن أبي جهم، عن خالد بن وهبان، عن أبي ذر، به.
وأخرجه الإمام أحمد (3) من طريق أبي بكر بن عياش، عن مطرف به، مثله.
وأخرجه ابن أبي عاصم (4) عن وهب بن بقية، عن خالد بن عبد الله، عن مطرف به، مثله.
وأخرجه الحاكم (5) : من طريقين، عن عمر بن عوف، عن خالد بن عبد الله، به مثله.
الحديث حسن لشواهده.
ومدار الإسناد على خالد بن وهبان، قال الحاكم: " خالد بن وهبان لم يجرح في رواياته، وهو تابعي معروف ". وقال الذهبي في تلخيصه: " خالد لم يضعف ". وقال في " الميزان ": " مجهول ". وقال الحافظ ابن حجر: ذكره ابن حبان في
__________
(1) سنن أبي داود السنة (4758) ، مسند أحمد (5/180) .
(2) سنن أبي داود (كتاب السنة، ح 4758) .
(3) المسند (5\ 180) .
(4) السنة لابن أبي عاصم (2\ 433، 434، ح 892) .
(5) المستدرك (1\ 117) .(76/256)
" الثقات "، وقال: " روى عن أبي ذر، روى عنه الناس ". وقال أبو حاتم: " مجهول "، كما في " التهذيب ". وقال في " التقريب ": " مجهول ". ويعنون أنه مجهول حال، فقد روى عنه غير واحد كما ذكر ابن حبان، فحديثه حسن لشاهده من حديث الحارث الأشعري الآتي.
وقال الألباني (1) : في تخريج السنة لابن أبي عاصم: " حديث صحيح رجاله كلهم ثقات، غير خالد بن وهبان، فهو مجهول كما قال الحافظ". ثم قال: " وللحديث شاهد من حديث ابن عمر، وهو مخرج في الصحيحة (189) وآخر من حديث الحارث الأشعري، مخرج في المشكاة (3649) ، والتعليق الترغيب (1\ 190، 189) ، وسنده صحيح ".
قلت: شاهده صحيح من حديث الحارث الأشعري، وسبقت الإشارة إليه، لكنه حسن به فقط، لما سبق من جهالة راويه. أما حديث ابن عمر فهو بلفظ آخر كما سبق، وجاء بلفظ حديث الباب عند الحاكم، لكنه من طريق أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد خالف اللفظ الذي رواه الثقات، وسبق الكلام عليه.
15 - عن عرفجة بن شريح الأشجعي، رضي الله عنه قال:
__________
(1) تخريج السنة، لابن أبي عاصم، مع السنة (2\ 434) .(76/257)
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان (2) » .
أخرجه مسلم (3) وأبو داود (4) والنسائي (5) وأحمد (6) كلهم من طريق شعبة، عن زياد بن علاقة، قال: سمعت عرفجة (فذكره) . وأخرجه مسلم (7) من طريق أبي عوانة، وشيبان وإسرائيل وعبيد الله بن المختار ورجل سماه كلهم عن زياد بن علاقة، غير أن في حديثهم " فاقتلوه ".
وأخرجه (8) من طريق يونس بن أبي يعفور، عن أبيه، عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه (9) » .
16 - عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه عن
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1852) ، سنن النسائي تحريم الدم (4022) ، سنن أبي داود السنة (4762) ، مسند أحمد (5/24) .
(2) هنات: شرور وفساد. النهاية (5\ 279) . (1)
(3) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1852) .
(4) سنن أبي داود (كتاب السنة، ح 4772) .
(5) سنن النسائي (كتاب تحريم الدم، باب قتل من فارق الجماعة، 7\ 93) .
(6) المسند (4\ 341) .
(7) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1852) .
(8) المصدر السابق (60) .
(9) صحيح مسلم الإمارة (1852) ، سنن النسائي تحريم الدم (4022) ، سنن أبي داود السنة (4762) ، مسند أحمد (5/24) .(76/258)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خياركم أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم ". قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: " لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذ رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه، فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة (2) » .
أخرجه مسلم (3) من طريق يزيد بن يزيد بن جابر، عن زريق بن حيان، عن مسلم بن قرظة، عن عوف بن مالك.
وأخرجه مسلم (4) وأحمد (5) والدارمي (6) كلهم من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن زريق بن حيان، به مثله. وفيه: «قالوا: قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ " قال: " لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، إلا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة (7) » .
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1855) ، مسند أحمد (6/28) ، سنن الدارمي الرقاق (2797) .
(2) قال النووي رحمه الله: معنى (يصلون) أي يدعون. شرح صحيح مسلم (4\12\ 245) . (1)
(3) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1855) .
(4) المصدر السابق (66) .
(5) المسند (6\ 24) .
(6) سنن الدارمي (2\ 324) .
(7) صحيح مسلم الإمارة (1855) ، مسند أحمد (6/24) ، سنن الدارمي الرقاق (2797) .(76/259)
قال ابن جابر فقلت (يعني لزريق) حين حدثني بهذا الحديث: آلله يا أبا المقدام حدثك بهذا أو سمعت هذا من مسلم بن قرظة يقول: سمعت عوفا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فجثا على ركبتيه واستقبل القبلة فقال: " إي، والله الذي لا إله إلا هو لسمعته من مسلم بن قرظة يقول: سمعت عوف بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
قال مسلم (1) : ورواه معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن مسلم بن قرظة، عن عوف بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.
ووصله أحمد (2) من هذا الوجه قال: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا فرج بن فضالة، عن ربيعة بن يزيد، به.
17 - عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله قال: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع ": قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " لا، ما صلوا (3) » .
أخرج مسلم (4) عن هداب بن خالد الأزدي، عن همام بن
__________
(1) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1855) (66) .
(2) المسند (6\ 28) .
(3) صحيح مسلم الإمارة (1854) ، سنن الترمذي الفتن (2265) ، سنن أبي داود السنة (4760) ، مسند أحمد (6/321) .
(4) صحيح مسلم (كتاب الإمارة ح 1854-62) .(76/260)
يحيى، عن قتادة، عن الحسن، عن ضبة بن محصن، عن أم سلمة رضي الله عنها، فذكره.
وأخرجه (1) عن أبي غسان ومحمد بن بشار كليهما عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة قال: حدثنا الحسن، به، وفيه: «فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم (2) » ... "، وزاد في آخره: «كره بقلبه، وأنكر بلسانه» ... ".
وأخرجه أبو داود (3) ، ومن طريقه البيهقي (4) عن ابن بشار مختصرا، وزاد في آخره: قال قتادة: " يعني من أنكر بقلبه وكره بقلبه ".
وأخرجه (5) من طريق ابن المبارك، والترمذي (6) من طريق يزيد بن هارون، كليهما عن هشام بن حسان، عن الحسن، به، ولم يذكر (قتادة) في السند، وعند الترمذي: «فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم (7) » .... ".
وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".
__________
(1) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1854-63) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1854) ، سنن الترمذي الفتن (2265) ، سنن أبي داود السنة (4760) ، مسند أحمد (6/321) .
(3) سنن أبي داود (كتاب السنة، ح 477) .
(4) السنن الكبرى (8\ 158) .
(5) صحيح مسلم (كتاب الإمارة ح 1854 -64) .
(6) سنن الترمذي (كتاب الفتن، ح 2265) .
(7) صحيح مسلم الإمارة (1854) ، سنن الترمذي الفتن (2265) ، سنن أبي داود السنة (4760) ، مسند أحمد (6/321) .(76/261)
أخرجه مسلم (1) وأبو داود (2) والبيهقي (3) كلهم من طريق حماد بن زيد، عن المعلى بن زياد، وهشام بن حسان كليهما عن الحسن به، وعند مسلم: «فمن أنكر بلسانه فقد برئ، ومن كره، فقد سلم (4) » ... ".
وعند أبي داود والبيهقي: قال هشام: «فمن أنكر بلسانه فقد برئ، ومن كره بقلبه فقد سلم (5) » ... ".
وأخرج البيهقي (6) من طريق ابن حساب، عن حماد بن زيد به، وفيه: قال الحسن: «ومن أنكر بلسانه فقد برئ (7) » ، وقد ذهب زمان هذا، «ومن كره بقلبه (8) » ، فقد جاء زمان هذه.
18 - عن أبي وائل بن حجر رضي الله عنه قال: «سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا نبي الله، أرأيت إن قام علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه ثم سأله، فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، وقال: " اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم (9) » .
__________
(1) صحيح مسلم (كتاب الإمارة ح 1854 -64) .
(2) سنن أبي داود (كتاب السنة ح 4760) .
(3) السنن الكبرى (8\ 158) .
(4) صحيح مسلم الإمارة (1854) ، سنن الترمذي الفتن (2265) ، مسند أحمد (6/306) .
(5) صحيح مسلم الإمارة (1854) ، سنن الترمذي الفتن (2265) ، سنن أبي داود السنة (4760) ، مسند أحمد (6/321) .
(6) المصدر السابق.
(7) صحيح مسلم الإمارة (1854) ، سنن الترمذي الفتن (2265) ، سنن أبي داود السنة (4760) ، مسند أحمد (6/321) .
(8) سنن أبي داود السنة (4760) .
(9) صحيح مسلم الإمارة (1846) ، سنن الترمذي الفتن (2199) .(76/262)
أخرجه مسلم (1) عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه، قال: سأل سلمة بن يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكره.
وأخرجه البيهقي (2) من طريق محمد بن جعفر به، مختصرا.
قوله: «اسمعوا وأطيعوا (3) » ... " هو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرجه مسلم أيضا (4) من طريق شبابة، عن شعبة، به، مثله، وقال: «فجذبه الأشعث بن قيس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم (5) » .
وأخرجه الترمذي (6) ، عن طريق يزيد بن هارون، عن شعبة، به بمثل ما جاء في رواية شبابة، إلا أنه اختصره من أوله.
وأخرجه البيهقي (7) من طريق وهب بن جرير، عن شعبة، به، ولفظه: «سأل يزيد بن سلمة الجعفي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن قامت علينا أمراء
__________
(1) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1846-49) .
(2) السنن الكبرى (8\ 158) .
(3) صحيح مسلم الإمارة (1846) ، سنن الترمذي الفتن (2199) .
(4) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1846- 50) .
(5) صحيح مسلم الإمارة (1846) ، سنن الترمذي الفتن (2199) .
(6) سنن الترمذي (كتاب الفتن، ح 2199) .
(7) السنن الكبرى (8\ 158) .
(8) صحيح مسلم الإمارة (1846) ، سنن الترمذي الفتن (2199) .(76/263)
يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ قال: فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأل فأعرض عنه، ثم سأله، فقال: " اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم (1) » .
19 - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: «دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان (2) » .
أخرجه البخاري (3) عن إسماعيل بن أبي أويس، عن عمرو بن الحارث، عن بكير، عن بسر بن سعيد، عن جنادة بن أبي أمية، قال: دخلنا على عبادة بن الصامت، وهو مريض قلنا: أصلحك الله حدثنا بحديث ينفعك الله به، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم ... الحديث.
وأخرجه مسلم (4) من طريق عمرو بن الحارث به، مثله.
وأخرجه البخاري (5) ومسلم (6) والنسائي (7) وابن ماجه (8) .
__________
(1) هكذا يزيد بن سلمة، وهو مخالف لجميع الروايات، ولعله انقلب الاسم على الراوي، أو على الناسخ. (8)
(2) صحيح البخاري الفتن (7056) ، صحيح مسلم الحدود (1709) ، سنن الترمذي الحدود (1439) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5002) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2866) ، مسند أحمد (5/325) ، موطأ مالك الجهاد (977) .
(3) صحيح البخاري مع الفتح (كتاب الفتن ح 7055) .
(4) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1709- 42) .
(5) صحيح البخاري مع الفتح (كتاب الأحكام ح 7199) .
(6) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1709- 41) .
(7) سنن النسائي (7\ 138- 139) .
(8) سنن ابن ماجه (كتاب الجهاد، ح 2866) .(76/264)
ومالك (1) كلهم من طريق يحيى بن سعيد، عن عبادة بن الوليد، عن أبيه، عن عبادة بن الصامت، قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، ولا نخاف في الله لومة لائم (2) » . وهذا لفظ البخاري.
20 - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة (3) » .
أخرجه البخاري (4) ، عن مسدد، عن يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، فذكره. وأخرجه أبو داود (5) ، عن مسدد به، مثله. وأخرجه البيهقي (6) من طريق أبي داود وأبي المثنى عن مسدد به، مثله.
وأخرجه مسلم (7) ، والنسائي (8) كلاهما عن قتيبة بن
__________
(1) الموطأ (كتاب الجهاد، باب الترغيب في الجهاد، ص 276) .
(2) صحيح البخاري الأحكام (7199) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2866) ، مسند أحمد (5/325) ، موطأ مالك الجهاد (977) .
(3) صحيح البخاري الأحكام (7144) ، صحيح مسلم الإمارة (1839) ، سنن الترمذي الجهاد (1707) ، سنن النسائي البيعة (4206) ، سنن أبي داود الجهاد (2626) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2864) ، مسند أحمد (2/142) .
(4) صحيح البخاري مع الفتح (كتاب الأحكام، ح 7144) .
(5) سنن أبي داود (كتاب الجهاد، ح 2626) .
(6) السنن الكبرى (8\ 155) .
(7) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1839) .
(8) سنن النسائي (7\ 160) .(76/265)
سعيد، عن ليث، عن عبيد الله به، بلفظ: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره (1) » ... " الحديث.
وأخرجه من طرق عن عبيد الله، وأحال على هذا اللفظ.
وأخرجه الترمذي (2) عن قتيبة، عن الليث، به، بمثل لفظ مسدد.
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7144) ، صحيح مسلم الإمارة (1839) ، سنن الترمذي الجهاد (1707) ، سنن النسائي البيعة (4206) ، سنن أبي داود الجهاد (2626) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2864) ، مسند أحمد (2/142) .
(2) سنن الترمذي (كتاب الجهاد، ح 1707) .(76/266)
الفصل الثاني: فقه الأحاديث الواردة في الحث على لزوم الجماعة وفيه ستة مباحث
المبحث الأول: معنى الجماعة الوارد ذكرها في حديث النبي صلى الله عليه وسلم
في مأخذ الجماعة اللغوي، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين " (1) .
وأما معنى الجماعة المذكورة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم فقد اختلفت فيها عبارات أهل العلم، وسوف نستعرض فيما يلي أقوالهم لمناقشتها واختيار الراجح منها:
يقول الإمام محمد بن جرير الطبري - رحمه الله: " اختلف في هذا الأمر- يعني الأمر بلزوم الجماعة- وفي الجماعة: فقال قوم:
__________
(1) الفتاوى (3\ 157) .(76/266)
للوجوب، والجماعة: السواد الأعظم ".
ثم روي عن محمد بن محمد بن سيرين، عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أنه وصى من استنصحه لما قتل عثمان رضي الله عنه فقال: " عليك بالجماعة، فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة"
وقال قوم: المراد بالجماعة: الصحابة دون من بعدهم.
وقال قوم: المراد بهم: أهل العلم؛ لأن الله جعلهم حجة على الخلق، والناس تبع لهم في أمر الدين.
ثم قال الطبري بعد حكاية تلك الأقوال: " والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة" (1) .
وساق الإمام الشاطبي - رحمه الله- بعض الأحاديث التي ورد فيها لفظ (الجماعة) ثم قال: " اختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال: أحدها: أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام ... فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها، وأهل الشريعة العاملون بها، ومن سواهم داخل في حكمهم؛ لأنهم تابعون لهم مقتدون بهم.
الثاني: أنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين، فعلى هذا القول لا
__________
(1) حكاه الحافظ ابن حجر في الفتح (13\ 37) .(76/267)
مدخل لمن ليس بعالم مجتهد؛ لأنه داخل في أهل التقليد فمن عمل منهم بما يخالفهم فهو صاحب الميتة الجاهلية، ولا يدخل أيضا أحد من المبتدعين.
الثالث: أن الجماعة هي الصحابة على الخصوص. فعلى هذا القول فلفظ (الجماعة) مطابق للرواية الأخرى في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنا عليه وأصحابي".
الرابع: أن الجماعة هي أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر، فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم.
ثم تعقب الشاطبي هذا القول بقوله: " وهذا القول يرجع إلى الثاني، وهو يقتضي أيضا ما يقتضيه، أو يرجع إلى القول الأول، وهو الأظهر، وفيه من المعنى ما في الأول من أنه لا بد من كون المجتهدين منهم، وعند ذلك لا يكون مع اجتماعهم بدعة أصلا فهم إذن الفرقة الناجية ".
الخامس: ما اختاره الطبري الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير، فأمر عليه الصلاة والسلام بلزومه ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم.
قال الشاطبي: " وحاصله أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق لكتاب الله والسنة، وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن الجماعة المذكورة في الأحاديث المذكورة؛(76/268)
كالخوارج ومن جرى مجراهم " (1) .
وهذه الأقوال التي ذكرها الشاطبي - رحمه الله- راجعة إلى ما سبق حكايته عن الطبري -رحمه الله- سوى القول الرابع، وقد تعقبه الشاطبي بأنه لا يخرج عن القول الأول أو الثاني.
ثم إن الثلاثة الأقوال الأولى راجعة إلى معنى واحد وهو أن المراد بالجماعة: متابعة الكتاب والسنة، فمن قال: هم الصحابة فباعتبار أن الصحابة هم أولى الناس بذلك، ومن قال: هم أهل العلم والاجتهاد، فلأنهم أولى الناس بذلك بعد الصحابة. ومن قال: هم السواد الأعظم، فمرادهم زمن الصحابة وكبار التابعين؛ لأن هذا القول بناه ابن جرير الطبري على وصية أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه لمن سأله عن الفتنة عند مقتل عثمان رضي الله عنه ولا شك أن السواد الأعظم في ذلك الزمن هم المتابعون للكتاب والسنة بخلاف الأزمنة المتأخرة.
وحول هذا المعنى تدور أقوال العلماء الذين تكلموا عن معنى الجماعة الواردة في الأحاديث:
يقول الترمذي -رحمه الله- " وتفسر الجماعة عند أهل العلم هم أهل الفقه والعلم والحديث، قال: وسمعت الجارود بن معاذ يقول: سمعت علي بن الحسن يقول: سألت عبد الله بن المبارك من
__________
(1) الاعتصام (2\ 260- 265) .(76/269)
الجماعة؟ فقال: أبو بكر وعمر. قيل: قد مات أبو بكر وعمر، قال: فلان وفلان، قيل: مات فلان وفلان. قال عبد الله بن المبارك: أبو حمزة السكري جماعة "
قال أبو عيسى: " وأبو حمزة هذا هو محمد بن ميمون، وكان شيخا صالحا، وإنما قال هذا في حياته عندنا" (1) .
وقال ابن أبي العز الحنفي - رحمه الله-: " والجماعة: جماعة المسلمين، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين " (2) . وقال أبو شامة -رحمه الله-: " وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلا، والمخالف له كثيرا؛ لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل " (3) .
وهذا المعنى قد جاء في كلام ابن مسعود رضي الله عنه فقد روى اللالكائي بسنده عن عمرو بن ميمون أن عبد الله بن مسعود قال له: يا عمرو بن ميمون إن جمهور الجماعة هي التي تفارق الحق، إنما الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كنت وحدك (4) .
__________
(1) سنن الترمذي (4\ 467) .
(2) شرح العقيدة الطحاوية (ص 431) .
(3) الباعث (ص 22) .
(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1\ 108) .(76/270)
بقي من الأقوال التي سبق حكايتها عن ابن جرير الطبري وعن الشاطبي في معنى الجماعة قول ابن جرير بأن المراد: الجماعة التي لها أمير اجتمعت على تأميره.
ويرى الشاطبي أن هذا القول لا يخالف غيره من الأقوال السابقة في اشتراط المتابعة للكتاب والسنة، فبعد حكايته له قال: "وحاصله: أن الجماعة راجع إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة، وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج على معنى الجماعة المذكورة في الأحاديث المذكورة كالخوارج ومن جرى مجراهم ".
وبناء على ذلك يرى الشاطبي أن تلك الخمسة الأقوال التي حكاها ومن جملتها قول ابن جرير هذا دائرة على اعتبار أهل السنة والاتباع، وأنهم المرادون بالأحاديث، لكن عبارة ابن جرير تفيد مغايرة قوله للأقوال الأخرى، فبعد أن حكى تلك الأقوال عقب عليها بقوله: "والصواب: أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره ". فقوله: "والصواب " يفيد أن الأقوال الأخرى على خلاف ذلك عنده.
والحقيقة أنه لا خلاف بين تلك الأقوال من حيث عقيدة الجماعة ومنهجها وهو المعنى الذي كان يقصده الشاطبي، فقد كان كلامه عن تفسير لفظ (الجماعة) الوارد في حديث معاوية رضي الله(76/271)
عنه في افتراق الأمة فقد جاء فيه: «وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة- يعني أهل الأهواء- كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة (1) » . ثم حمل الشاطبي لفظ الجماعة في سائر الأحاديث التي من جملتها حديث حذيفة على هذا المعنى، ولا شك في صحة ذلك لكن ابن جرير - رحمه الله- قصد تفسير لفظ (الجماعة) الوارد في حديث حذيفة فحسب، ولم يقصد تفسير لفظ (الجماعة) في سائر الأحاديث ويؤكد هذا قوله في عبارته السابقة "المراد من الخبر" والحافظ ابن حجر أورد كلام ابن جرير هذا في سياق شرحه لحديث حذيفة، ولفظ حديث حذيفة: ظاهر فيما ذهب إليه ابن جرير فقد جاء فيه: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ".
وقد وافق ابن جرير على هذا المعنى القرطبي صاحب "المفهم" حيث قال رحمه الله في معنى قوله: "تلزم جماعة المسلمين ": " يعني أنه من اجتمع المسلمون على إمامته فلا يخرج عليه وإن جار" (2) .
وقد وردت في هذا المعنى أحاديث أخرى، منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند مسلم وفيه: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة (3) » .... " (4) .
__________
(1) سنن أبي داود السنة (4597) ، مسند أحمد (4/102) ، سنن الدارمي السير (2518) .
(2) المفهم (4\57) .
(3) صحيح البخاري الأحكام (7143) ، صحيح مسلم الإمارة (1849) ، مسند أحمد (1/310) ، سنن الدارمي السير (2519) .
(4) سبق (رقم 10) .(76/272)
وحديث حذيفة: «من فارق الجماعة واستذل الإمارة (1) » .... " (2) .
وقال القاضي عياض رحمه الله في الكلام على هذا الحديث: " قوله: "من فارق الجماعة" ظاهره: سواد الناس وما اجتمعوا عليه في الإمارة، وقيل: هم أهل العلم " (3) .
والقاضي عياض قد وافق الطبري بذلك في تفسير الجماعة، فقد جزم بالمعنى الموافق لقوله، وأشار إلى ضعف القول الآخر حيث حكاه بصيغة التمريض.
وتفسير الجماعة بأهل العلم وإن كان غير ظاهر في معنى الجماعة في هذه الأحاديث إلا أنه ظاهر في معنى الجماعة في الأحاديث التي سبق ذكرها في أول الباب.
والحاصل أن المعنيين معتبران في تفسير الجماعة، وهو ما قرره ابن العربي رحمه الله، فقد قال في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة": " يحتمل معنيين: يعني أن الأمة إذا اجتمعت على قول فلا يجوز لمن بعدهم أن يحدث قولا آخر. والثاني: إذا اجتمعت على إمام فلا يحل منازعته ولا خلافه " (4) .
__________
(1) مسند أحمد (5/406) .
(2) المستدرك (1\ 119) .
(3) مشارق الأنوار (1\ 153، 154) .
(4) عارضة الأحوذي (9\ 10) .(76/273)
وجاء تقرير هذا المعنى كذلك في كلام الشاطبي فبعد أن حكى القول بأنها السواد الأعظم قال: " فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق، ومن خالفهم مات ميتة جاهلية، سواء خالفهم في شيء من الشريعة، أو في إمامهم فهو مخالف للحق " (1) .
__________
(1) الاعتصام 2\ 260(76/274)
المبحث الثاني: الجماعة موجودة إلى قيام الساعة
الجماعة التي جاء الأمر بلزومها موجودة على مدار الزمن إلى قيام الساعة، فظاهر تلك الأحاديث التي اشتملت على الأمر بلزومها دال على وجودها؛ إذ لا معنى للأمر بلزوم بشيء لا وجود له، نعم قد يشكل عليه ما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه فقد جاء فيه ما نصه: قلت: «فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: " تعتزل تلك الفرق كلها (1) » ... " (2) .
فحذيفة رضي الله عنه افترض عدم وجود الجماعة، ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ذلك، وهذا قد يفهم منه خلو بعض الأزمنة من الجماعة.
لكن يجاب عن هذا الإشكال بأن افتراض حذيفة رضي الله عنه عدم وجود الجماعة، قد يفهم منه خلو بعض الأزمنة من
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (7084) ، صحيح مسلم الإمارة (1847) ، سنن أبي داود الفتن والملاحم (4244) ، سنن ابن ماجه الفتن (3979) ، مسند أحمد (5/406) .
(2) انظر الحديث (رقم 7) .(76/274)
الجماعة، وقد يفهم منه خلو بعض البلاد منها أيضا، والمعنى الثاني هو الأقرب؛ لأن حذيفة قال ذلك حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة، فمراده عدم وجود الجماعة التي يمكن لزومها، وهذا لا ينافي وجود جماعة في بلد آخر يتعذر لزومها، بل ربما تعذر العلم بها لتباعد ما بين البلدين، ويرجح هذا المعنى، بل يجعله متعينا ما جاء في أحاديث الطائفة المنصورة من التصريح ببقاء الطائفة إلى قيام الساعة، ففي " صحيح مسلم " من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك (1) » .
وفي " صحيح مسلم) أيضا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين، حتى تقوم الساعة (2) » .
وفي " سنن الترمذي وابن ماجه " من حديث قرة بن إياس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة (3) » ... " (4) .
__________
(1) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1920) .
(2) صحيح مسلم (كتاب الإيمان، ح 156) .
(3) سنن الترمذي الفتن (2192) ، سنن ابن ماجه المقدمة (6) ، مسند أحمد (3/436) .
(4) سنن الترمذي (كتاب الفتن، ح 2192) ، وسنن ابن ماجه (المقدمة، ح 6) .(76/275)
فهذه الأحاديث وغيرها قد اشتملت على التصريح ببقاء الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، والطائفة المنصورة هي الجماعة دل على ذلك أمور ثلاثة:
أحدها: ما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه فقد جاء فيه ما نصه: «قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: " فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (1) » .
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر حذيفة باعتزال كل ما عدا الجماعة، والطائفة المنصورة إن لم تكن هي الجماعة التي أمر صلى الله عليه وسلم حذيفة بلزومها، فإنها تكون داخلة فيما أمره باعتزاله، وهذا محال، ولهذا يتعين القول بأن الطائفة المنصورة هي الجماعة التي أمر حذيفة بلزومها، ويؤكد ذلك اتحادهما في الصفة، فالجماعة المذكورة في حديث حذيفة هي التي اجتمعت على طاعة أمر كما ذكر الإمام الطبري وغيره، والطائفة المنصورة جاء في صفتها أنهم «ظاهرون على الحق (2) » وأنهم «يقاتلون على الحق (3) » ، ولا بد للظهور على الحق وللقتال في سبيل الله من جماعة وإمارة.
الأمر الثاني: اتفاق الطائفة المنصورة والجماعة في التعريف، فقد فسر كبار علماء السلف الطائفة المنصورة بأهل الحديث وأهل العلم، فقد روى الخطيب (4) البغدادي رحمه الله بسنده عن الإمام
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (7084) ، صحيح مسلم الإمارة (1847) ، سنن ابن ماجه الفتن (3979) .
(2) سنن الدارمي الجهاد (2433) .
(3) سنن أبي داود الجهاد (2484) ، مسند أحمد (4/437) .
(4) شرف أصحاب الحديث (ص 26، 27) .(76/276)
عبد الله بن المبارك والإمام أحمد بن حنبل والإمام علي المديني والإمام محمد بن إسماعيل البخاري وغيرهم- رحمهم الله جميعا- أنهم فسروا الطائفة المنصورة بأهل الحديث.
وروى الخطيب (1) بسنده عن الحافظ أحمد بن سنان - رحمه الله- أنه فسرها بأهل العلم وأصحاب الآثار.
وجاء تفسيرها عن الإمام البخاري أيضا بأهل العلم (2) .
وما فسرت به الطائفة المنصورة قد فسرت به الجماعة، يقول الإمام الترمذي (3) رحمه الله: " وتفسير الجماعة عند أهل العلم هم أهل الفقه والعلم والحديث ".
الأمر الثالث: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الفرقة الناجية بالجماعة؛ ففي " سنن أبي داود " و"المسند" و"المستدرك" وغيرها من حديث معاوية، عن أبي سفيان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «وإن هذه الأمة ستفرق على ثلاث وسبعين ملة- يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة (4) » . وهو حديث صحيح.
__________
(1) المصدر نفسه.
(2) صحيح البخاري مع الفتح (13\ 293) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة.. وهم أهل العلم.
(3) سنن الترمذي (4\ 467) .
(4) سنن أبي داود، (كتاب السنة، ح 4597) .(76/277)
وفي " سنن ابن ماجه " (1) من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار ". قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال: " الجماعة (2) » . وهو حديث حسن.
والجماعة في هذين الحديثين هي الجماعة المذكورة في الأحاديث التي سبق ذكرها كما تقدمت حكاية ذلك عن الشاطبي في مبحث "معنى الجماعة".
وإذا تقرر أن الفرقة الناجية هي الجماعة، فالفرقة الناجية هي الطائفة المنصورة عند أهل العلم:
قال ابن رجب (3) رحمه الله: " وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فسببها تفرق أهل القبلة، وصاروا شيعا، وكفر بعضهم بعضا، وأصبحوا أعداء وفرقا وأضرابا بعد أن كانوا قلوبهم على قلب رجل واحد، فلم ينج من هذه الفرق كلها إلا الفرقة الواحدة الناجية وهم المذكورون في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك (4) » ... ".
__________
(1) سنن ابن ماجه (كتاب الفتن، ح 3992) .
(2) سنن ابن ماجه الفتن (3992) .
(3) كشف الكربة (ص 16) .
(4) صحيح البخاري المناقب (3641) ، مسند أحمد (4/101) .(76/278)
وتكلم العلامة الصنعاني (1) عن تعيين الفرقة الناجية ثم قال: "وهم المرادون بحديث «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله (2) » .... ". وللشيخ حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله كتاب في عقيدة أهل السنة والجماعة سماه: "أعلام السنة المنشورة في اعتقاد الطائفة الناجية المنصورة".
فعنوان الكتاب يدل على اتحادهما عنده، حيث جعل صفتي النجاة والنصرة لطائفة واحدة، ثم قال: في الكتاب المذكور: " سؤال: من هي الطائفة التي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق (3) » ؟ " (4) .
ثم قال: " جواب: هذه الطائفة هي الفرقة الناجية من الثلاث وسبعين فرقة التي استثناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة (5) » .. ".
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن افتراق أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فأجاب بقوله: " أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه أن اليهود افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وأن هذه الأمة
__________
(1) شرح حديث افتراق الأمة (ص 77-86) .
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7311) ، صحيح مسلم الإمارة (1921) ، مسند أحمد (4/252) ، سنن الدارمي الجهاد (2432) .
(3) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن أبي داود الفتن والملاحم (4252) ، سنن ابن ماجه الفتن (3952) ، مسند أحمد (5/279) .
(4) أعلام السنة المنشورة (ص 194) .
(5) سنن ابن ماجه الفتن (3993) ، مسند أحمد (3/145) .(76/279)
ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وهذه الفرق كلها في النار إلا واحدة وهي من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذه الفرقة الناجية التي نجت في الدنيا من البدع وتنجو في الآخرة من النار، هي الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة التي لا تزال ظاهرة قائمة بأمر الله عز وجل " (1) .
رأينا من خلال ما سبق أن النصوص صريحة في بقاء الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، وأن الطائفة المنصورة هي الجماعة، وعليه؛ فالجماعة التي أمرنا بلزومها موجودة على مدار الزمان، فيجب البحث عنها، والحرص على لزومها، فلزومها واجب، والآثار المترتبة على لزومها عظيمة، وسيأتي بيان ذلك في المباحث التالية، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) مجموع الفتاوى والرسائل (1\ 38) .(76/280)
المبحث الثالث: وجوب لزوم الجماعة
النصوص الواردة في الحث على لزوم الجماعة والتحذير من مفارقتها واضحة الدلالة على وجوب لزوم الجماعة وبيان ما يترتب عليها من الوعيد الشديد:
ففي حديث عمر رضي الله عنه: «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة (1) » .
وفي حديث حذيفة: «تلزم جماعة المسلمين (2) » .
__________
(1) سنن الترمذي (كتاب الفتن، 2165) .
(2) صحيح البخاري مع الفتح (كتاب المناقب، ح 3606، كتاب الفتن، ح 7084) .(76/280)
فحديث عمر قد اشتمل على الأمر الصريح بلزوم الجماعة، وحديث حذيفة جاء بصيغة الخبر ولكنه بمعنى الأمر، والأمر يقتضي الوجوب.
قال ابن بطال - رحمه الله- عن حديث حذيفة: " فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين، وترك الخروج على أئمة الجور " (1) .
وجاء في حديث ابن عمر (2) وغيره النهي عن الفرقة، والنهي يقتضي التحريم.
وقد تواطأت على الأمر بلزوم الجماعة والنهي عن مفارقتها نصوص الكتاب:
فيقول تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (3) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (4) .
وروى ابن جرير رحمه الله بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (5) قال: الجماعة (6) .
__________
(1) حكاه ابن حجر في الفتح (13\ 37) .
(2) سبق (برقم 17) .
(3) سورة آل عمران الآية 102
(4) سورة آل عمران الآية 103
(5) سورة آل عمران الآية 103
(6) تفسير ابن جرير (3\ 30) .(76/281)
وقال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) "أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة " (2) .
وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3) {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (4) الآية.
روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (5) قال: " أمر الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله " (6) .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (7) " يعني: يوم القيامة تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة ". حكاه عنه ابن كثير (8) .
ويؤكد وجوب لزوم الجماعة ما رتب الشارع على الخروج عنها ومفارقتها من الوعيد الشديد:
ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى من أميره شيئا يكرهه
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) تفسير ابن كثير (2\ 74) .
(3) سورة آل عمران الآية 105
(4) سورة آل عمران الآية 106
(5) سورة آل عمران الآية 105
(6) تفسير ابن جرير (3\ 39) .
(7) سورة آل عمران الآية 106
(8) تفسير ابن كثير (2\ 76) .(76/282)
فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة (2) » .
وثبت أيضا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه (3) .
وثبت من حديث أبي ذر والحارث الأشعري رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه (4) » .
وثبت من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فارق الجماعة واستذل الإمارة لقي الله لا حجة له (5) » .
وقد بوب النووي رحمه الله للأحاديث الواردة في صحيح مسلم بهذا المعنى بقوله: " باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند الفتن وفي كل حال، وتحريم الخروج من الطاعة ومفارقة الجماعة " (6) .
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح (كتاب الفتن، ح 7054، كتاب الأحكام، ح 7143) .
(2) (1) جاهلية
(3) سبق (برقم 12) .
(4) سنن أبي داود (كتاب السنة، ح 4758) .
(5) المستدرك (1\ 119) .
(6) شرح صحيح مسلم (12\ 237) .(76/283)
ومما يؤكد كذلك وجوب لزوم الجماعة وحرمة مفارقتها أن من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يرون الصلاة والجهاد مع الأئمة وإن كانوا ظلمة فجرة، وذلك للحفاظ على الجماعة، يقول الإمام أبو إسماعيل الصابوني -رحمه الله-: "ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام برا كان أو فاجرا" ويرون جهاد الكفار معهم وإن كانوا جورة فجرة ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح وبسط العدل في الرعية" (1) .
وكان عبد الله بن عمر وأنس بن مالك رضي الله عنهما يصليان (2) خلف الحجاج بن يوسف وهو معروف بظلمه وجوره.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يصلي خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين كان أميرا بالكوفة وكان يشرب الخمر، وقد صلى الصبح أربعا، ثم قال: "أزيدكم"؟ فقال له ابن مسعود: " ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة" (3) .
وذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة الوليد: أن قصة صلاته بالناس الصبح أربعا مشهورة مخرجة (4) .
__________
(1) عقيدة أصحاب الحديث (ص 92) .
(2) صحيح البخاري.
(3) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (ص 422) .
(4) الإصابة (10\ 313) .(76/284)
المبحث الرابع: الآثار المترتبة على لزوم الجماعة والآثار المترتبة على الخروج عنها
لا خيار للمؤمن في امتثال أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم سواء ظهرت له الآثار المترتبة على فعل المأمور به أم لم تظهر، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (1) .
لكن في اقتران الأمر بالآثار المترتبة على فعله تحفيز للنفوس على الاستجابة، وترغيب لها في الامتثال وكلما كانت الآثار المترتبة على فعل المأمور عظيمة كان الاستجابة أشد، والرغبة آكد.
ولما كان شأن لزوم الجماعة عظيما، وخطر الخروج عن الطاعة جسيما جاءت الآثار المترتبة على لزومها كبيرة وعظيمة والآثار المترتبة على الخروج عنها خطيرة وجسيمة، وسوف نسوق فيما يلي بعض تلك الآثار لتزداد النفوس تعظيما لأمر الجماعة وإقبالا على لزومها:
فمن تلك الآثار ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: «يد الله على الجماعة (2) » فإن هذا الخبر يفيد الرعاية التامة من الله تبارك
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2) سنن الترمذي (كتاب الفتن، ح 2167) .(76/285)
وتعالى للجماعة؟ يقول أبو السعادات ابن الأثير رحمه الله في معنى الحديث: "أي أن الجماعة المتفقة من أهل الإسلام في كنف الله ووقايته فوقهم، وهم بعيد من الأذى والخوف، فأقيموا بين ظهرانيهم " (1) .
ومن آثار تلك الرعاية الإلهية للجماعة عصمتها من الضلالة التي هي سبب كل شر وبلاء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة (2) » ولا شك أن الملازم للجماعة مشمول بتلك الرعاية داخل في تلك العصمة من الضلالة.
ومن فوائد لزوم الجماعة استصلاح القلوب وتطهيرها من الغل، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم أبدا؛ إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم (3) » .
يقول ابن الأثير رحمه الله: والمعنى: "أن هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والغل والشر" (4) .
__________
(1) النهاية في غريب الحديث (5\ 293) .
(2) سنن الترمذي الفتن (2167) .
(3) سنن الترمذي (كتاب العلم، ح 2658) .
(4) النهاية (3\ 381) .(76/286)
وقال ابن القيم رحمه الله: " أي لا يحمل الغل ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة فإنها تنفي الغل والغش وفساد القلب وسخائمه " (1) . ومن فوائد لزوم الجماعة أيضا الانتفاع بدعوات أفرادها كما قال صلى الله عليه وسلم: «فإن دعوتهم تحيط من ورائهم (2) » . يقول ابن الأثير رحمه الله في معنى العبارة: "أي تحدق بهم من جميع جوانبهم" (3) .
ويقول شيخنا الشيخ عبد المحسن العباد: " ذكرت هذه الجملة بعد الخصلة الثالثة وهي لزوم جماعة المسلمين، لبيان الفائدة التي يستفيدها الملازم للجماعة، وهي أن يكون له حظ ونصيب من دعواتهم، والمعنى: أن دعوة المسلمين تحدق بهم وتحفهم من جميع جوانبهم، فمن لازم الجماعة كان له نصيب في دعوات المسلمين الصادرة من أفرادهم لعمومهم " (4) .
وأعظم آثار لزوم الجماعة هي رحمة الله التي لا تفارق الجماعة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجماعة رحمة» فقد جعل الذي أعطي جوامع الكلم ونواصي البيان -صلوات الله وسلامه عليه- الجماعة عين الرحمة وما ذلك إلا لبيان شدة ملازمة الرحمة
__________
(1) مفتاح دار السعادة (ص 79) .
(2) سنن ابن ماجه المناسك (3056) .
(3) النهاية (1\ 461) .
(4) دراسة حديث نضر الله امرءا.. (ص 195) .(76/287)
للجماعة، فإنها تلازمها في كل أحوالها حتى تنتهي بها إلى جنة النعيم كما قال صلى الله عليه وسلم: «من أراد بحبحة الجنة فعليه بالجماعة (1) » .
ورحمة الله هي سبب كل سعادة وفلاح، فما خالطت قليلا إلا كثرته، ولا عسيرا إلا يسرته، ولا كربا إلا نفسته، ولا شدة إلا فرجتها، وما نزعت من شيء إلا كان نقمة ووبالا على صاحبه، وهي بيد الله وحده، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} (2) ، ومفارقة الجماعة تخرج بأصحابها من تلك الرحمة إلى العذاب، كما قال صلى الله عليه وسلم: «الجماعة رحمة والفرقة عذاب (3) » فملازمة العذاب للفرقة مثل ملازمة الرحمة للجماعة، وهذا أيضا مفهوم من المقابلة بينهما في الحديث، وربما كانت مفارقة الجماعة والخروج من الطاعة سببا لسوء الخاتمة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية (4) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه (5) » .
وكما تنتهي الرحمة بالملازم لجماعة إلى بحبحة الجنة، فقد
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2165) ، مسند أحمد (1/18) .
(2) سورة فاطر الآية 2
(3) مسند أحمد (4/375) .
(4) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1848) .
(5) سنن أبي داود (كتاب السنة، ح 4758) .(76/288)
ينتهي العذاب الملازم للفرقة بأهل الفرقة إلى نار جهنم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يجمع أمة محمد على ضلالة، ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار (1) » .
لهذه الأمور ولغيرها مما اشتملت عليه النصوص السابقة اشتد حرص السلف رضوان الله عليهم على لزوم الجماعة، والسمع والطاعة، وتحذيرهم من المخالفة والفرقة، يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لبعض من قل فقههم لتلك النصوص وضاقوا ذرعا ببعض المخالفات الموجودة في الجماعة: " إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذي تحبون في الفرقة ".
ويقول الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا ... منه بعروته الوثقى لمن دانا
كم يدفع الله بالسلطان معضلة ... عن ديننا رحمة منه ودنيانا
لولا الأئمة لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أهمية ولاية أمر الناس وأنه لا قيام للدين والدنيا إلا بها، وساق بعض النصوص في ذلك إلى أن قال: " ويقال: ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان ".
ثم قال رحمه الله: " والتجربة تبين ذلك ".
__________
(1) سنن الترمذي (كتاب الفتن، ح 2167) .(76/289)
قلت: صدق رحمه الله، وشاهد ذلك من واقعنا اليوم حال بلاد الصومال وبلاد العراق، فقد كان نظام الحكم فيهما على قدر كبير من الظلم والفجور، ولكن الحال الذي وصلت إليه بعد سقوط الحكم فيهما من سفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وخراب الديار أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل ذلك فهل من معتبر؟ ! .
ثم قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان " (1) .
والمراد الدعوة لولي الأمر بالصلاح والإصلاح واجتماع الكلمة عليه؛ يقول البربهاري رحمه الله: " إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان فاعلم أنه صاحب سنة، إن شاء الله ".
ثم أسند إلى الفضيل بن عياض رحمه الله قوله: " لو أن لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في السلطان" قيل له: يا أبا علي فسر هذا؟ قال: "نعم، إذا جعلتها في نفسي لم تعدني، وإذا جعلتها في السلطان فصلح صلح بصلاحه العباد والبلاد، فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح ولم نؤمر أن ندعو عليهم، وإن ظلموا وإن جاروا؛ لأن ظلمهم وجورهم على أنفسهم وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين" (2) .
__________
(1) السياسة الشرعية (1\ 729- 742) .
(2) شرح السنة (ص 116) .(76/290)
المبحث الخامس: وقوع الظلم والمعاصي لا يسوغ الخروج عن الجماعة
لقد سبق تقرير وجوب لزوم الجماعة وتحريم مفارقتها والخروج عنها، وكان في النصوص التي سبق ذكرها مقنع لأهل الإيمان كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (1) .
ولكن لعظم شأن لزوم الجماعة وشدة وخطر مفارقتها أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بما يسد مداخل الشيطان لتسويغ مفارقة الجماعة وشق عصى الطاعة:
فوقوع الظلم والعدوان على المرء في نفسه أو ماله يسوغ له الدفع عن نفسه وماله بكل وسيلة ممكنة ولو أدى ذلك إلى القتال، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: " لا تعطه مالك "، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: " قاتله "، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد" قال: أرأيت إن قتلته قال: هو في النار (2) » .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2) صحيح مسلم (كتاب الإيمان\ 140) .(76/291)
وفي " المسند" و" السنن" بسند صحيح عن سعيد بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد (1) » الحديث.
لكن الأمر يختلف حين يكون ذلك العدوان ممن له على المرء ولاية وسلطان؛ فإن الشرع في هذه الحال لا يبيح للمرء استعمال القوة للدفع عن نفسه، أو ماله بل يأمره بالصبر والكف، وذلك حفاظا على الجماعة ووحدة الكلمة؛ ففي "صحيح مسلم " من حديث حذيفة رضي الله عنه وفيه: «قلت يا رسول الله فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم". قلت: وكيف؟ قال: "يكون بعدي أمراء لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، ويقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس". قلت: كيف أصنع يا رسول الله، إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع (2) » .
وفي "الصحيحين " عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها" قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: "أدوا
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1\ 187- 189) ، وسنن أبي داود (كتاب السنة\ ح 4772) ، وسنن الترمذي (كتاب الديات\ ح 1421) ، وسنن النسائي (كتاب تحريم الدم\ ح 2580) .
(2) سبق الحديث (برقم 1) .(76/292)
إليهم حقهم وسلوا الله حقكم (1) » .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «سلوا الله حقكم (2) » أي بأن يلهمهم إنصافكم أو يبدلكم خيرا منهم" (3) .
وفي "صحيح مسلم " أيضا من حديث وائل بن حجر وفيه قال: «سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أرأيت إن قام علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم (4) » .
وكذا وقوع المعاصي ممن له ولاية وسلطان قد يتخذه الشيطان منفذا لدفع بعض الغيورين ممن قل فقههم للنصوص الواردة في هذا الباب لسلوك بعض الأعمال التي تؤدي إلى شق عصى الطاعة ومفارقة الجماعة، لذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر حقه من البيان، فأمر صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة، والسمع والطاعة ما دامت الصلاة تقام وما لم يقع كفر صريح.
ففي "صحيح مسلم " من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:
__________
(1) صحيح البخاري -مع الفتح- كتاب المناقب (ح 3603) ، وصحيح مسلم -كتاب الإمارة- (ح 1843) .
(2) صحيح البخاري الفتن (7052) ، صحيح مسلم الإمارة (1843) ، سنن الترمذي الفتن (2190) ، مسند أحمد (1/387) .
(3) فتح الباري (13\ 8) .
(4) صحيح مسلم (كتاب الإمارة، ح 1846-49) .(76/293)
«وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم". قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة (1) » .
وفي "صحيح مسلم " من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع" قالوا: يا رسول الله: ألا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا (2) » .
قال الإمام النووي رحمه الله في كلامه على حديث حذيفة السابق: "وفي حديث حذيفة هذا لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، وإن فسق وعمل المعاصي من أخذ الأموال وغير ذلك، فتجب طاعته في غير معصية، وفيه معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأمور التي أخبر بها وقعت كلها" (3) .
وقال في شرحه لحديث أم سلمة رضي الله عنها: "وأما قوله: «أفلا نقاتلهم؟ " قال: "لا، ما صلوا (4) » : ففيه وفيما سبق
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1855) ، مسند أحمد (6/28) ، سنن الدارمي الرقاق (2797) .
(2) سبق الحديث (برقم 17) .
(3) شرح صحيح مسلم (4\ 12\ 237) .
(4) صحيح مسلم الإمارة (1854) ، سنن الترمذي الفتن (2265) ، سنن أبي داود السنة (4760) ، مسند أحمد (6/321) .(76/294)
أنه لا يجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم والفسق ما لم يغيروا شيئا من قواعد الإسلام" (1) .
وفي "الصحيحين " من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان (2) » .
قال الخطابي رحمه الله: "كفر بواح: أي ظاهرا باديا" (3) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في معنى قوله: عندكم من الله برهان: "أي نص آية، أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل" (4) .
وطاعة ولي الأمر واجبة سواء باشر الإنسان بيعته أم لا:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب على الإنسان،
__________
(1) المصدر نفسه (ص 243) .
(2) صحيح البخاري مع الفتح (كتاب الفتن ح 7055) .
(3) حكاه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13\ 10) .
(4) المصدر نفسه.(76/295)
وإن لم يعاهدهم، وإن لم يحلف لهم عليه الأيمان المؤكدة كما يجب عليه الصلوات الخمس والزكاة والصيام وحج البيت وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله من الطاعة.... " إلى أن قال: "وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور، وغشهم، والخروج عليهم بوجه من الوجوه، كما عرف من عادات أهل السنة والدين قديما وحديثا ومن سيرة غيرهم" (1) .
والسمع والطاعة واجبة كذلك لكل من نصبه ولي الأمر حفاظا عن الجماعة ودفعا للخلاف والفرقة:
يقول العلامة ابن أبي العز شارح "العقيدة الطحاوية" رحمه الله: "وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على أن ولي الأمر وإمام الصلاة والحاكم وأمير الحرب وعامل الصدقة يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية" (2) .
__________
(1) الفتاوى (35\ 9، 10، 12) .
(2) شرح العقيدة الطحاوية (ص 424) .(76/296)
المبحث السادس: إنكار المنكر لا ينافي لزوم الجماعة
تبين لنا من خلال استعراض النصوص الواردة في المبحث السابق أن لزوم الجماعة والسمع والطاعة واجب على المرء المسلم(76/296)
حتى مع وجود المعاصي والمنكرات ما أقيمت الصلاة، وما لم يقع كفر ظاهر بنص الكتاب أو السنة الصحيحة. لكن ذلك لا يعني إقرار المنكر والرضى به، فإنكار المنكر واجب أيضا أوجبه من أوجب لزوم الجماعة وأدلة وجوبه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن كتاب الله قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) .
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقبله، وذلك أضعف الإيمان (2) » . والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد (3) .
والأمر في الآية والحديث يقتضي الوجوب، ثم إن الجماعة التي جاء الأمر بلزومها هي المتابعة للحق، ومتابعة الحق تقتضي رد الباطل وإنكاره، وهي التي تتوافر فيها صفات الخيرية وأهم صفات الخيرية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبي داود الملاحم (4340) ، سنن ابن ماجه الفتن (4013) ، مسند أحمد (3/92) .
(3) صحيح مسلم\ كتاب الإيمان 49.
(4) سورة آل عمران الآية 110(76/297)
كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم شروط النصر والتمكين للجماعة قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية.. يوضح ذلك: أن صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن صلاح المعاش والعباد في طاعة الله ورسوله، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... " (3) .
وإذا كان إنكار المنكرات بتلك المنزلة والأهمية بالنسبة للجماعة، فإن القائم به هو أولى الناس بلزوم الجماعة. لكن الإنكار الذي تلك منزلته وأهميته هو الإنكار المنضبط بالضوابط الشرعية الملتزم فيه هدي خير البرية صلوات الله وسلامه عليه، وقد قيده النبي صلى الله عليه وسلم بالاستطاعة وجعله على مراتب حسب قدرة المتصدي للإنكار كما جاء في الحديث السابق.
فقد أمر صلى الله عليه وسلم بإزالة المنكر باليد عند القدرة على ذلك مع الأمن من حصول منكر أكبر منه أو مساو له، فإن لم
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 41
(3) السياسة الشرعية..(76/298)
يتحقق بذلك انتقل إلى المرتبة التي تليها وهي الإنكار باللسان بشرطه السابق، فإن تعذر ذلك انتقل إلى المرتبة الثالثة والأخيرة وهي الإنكار بالقلب، وهي كراهية المنكر واستصحاب النية على تغييره عند القدرة. وعمل القلب هذا كاف لرفع التبعة والحرج، ولذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم تغييرا، والإنكار بالقلب أكثر ما تدعو إليه الحاجة عندما تصدر المنكرات ممن له ولاية وسلطان ويغلب على الظن أن الإنكار يؤدي إلى فتنة أو ضرر محقق على المنكر، ولذلك جاء توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا النوع من الإنكار مقرونا بالأمر بالسمع والطاعة، ففي حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة (1) » .
وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنه سيكون عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع (2) » .
قال النووي - رحمه الله- في شرحه على هذا الحديث: "معناه من كره ذلك فقد برئ من إثمه وعقوبته، وهذا في حق من
__________
(1) سبق الحديث (رقم 16) .
(2) سبق الحديث (برقم 17) .(76/299)
لا يستطيع إنكاره بيده ولا لسانه، فليكره ذلك بقلبه، وليبرأ ... "لكن من رضي وتابع": ولكن الإثم والعقوبة على من رضي وتابع، وفيه دليل على أن من عجز عن إزالة المنكر لا يأثم بمجرد السكوت، بل يأثم بالرضا به، أو بأن لا يكره بقلبه، أو بالمتابعة عليه" (1) .
فذلك هو هدي رسول الله في الإنكار ولا أغير منه على حرمات الله.
أما الإنكار باليد أو اللسان الذي تترتب عليه فتنة أو شر فهو إنكار مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموافق لطريقة أهل البدع، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مراتب الإنكار ثم قال: "وهنا يغلط فريقان من الناس:
فريق يترك ما يجب عليه من الأمر والنهي تأويلا لهذه الآية، كما «قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته: "أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده (3) » . رواه الترمذي.
والفريق الثاني: من يريد أن يأمر إما بلسانه وإما بيده مطلقا من غير فقه ولا حلم، ولا صبر ولا نظر فيما يصلح من ذلك وما لا
__________
(1) شرح صحيح مسلم (4\ 12\ 243) .
(2) سنن الترمذي تفسير القرآن (3057) ، سنن أبي داود الملاحم (4338) ، سنن ابن ماجه الفتن (4005) ، مسند أحمد (1/7) .
(3) سورة المائدة الآية 105 (2) {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(76/300)
يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر عليه ... فيأتي بالأمر والنهي معتقدا أنه مطيع لله ورسوله، وهو متعد في حدوده. كما نصب كثير من أهل البدع والأهواء نفسه للأمر والنهي كالخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد وغير ذلك، وكان فساده أعظم من صلاحه ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة قال: «أدوا إليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم (1) » ولذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة. وأما أهل الأهواء كالمعتزلة فيرون قتال الأئمة من أصول دينهم" (2) .
وقال ابن القيم رحمه الله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة والخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: «أفلا نقاتلهم؟ فقال: لا ما أقاموا
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (7052) ، صحيح مسلم الإمارة (1843) ، سنن الترمذي الفتن (2190) ، مسند أحمد (1/433) .
(2) رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص 39، 40) .(76/301)
الصلاة (1) » وقال: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدا من طاعة (2) » . ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار الإسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر " (3) .
__________
(1) مسند أحمد (3/28) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1855) ، مسند أحمد (6/24) ، سنن الدارمي الرقاق (2797) .
(3) إعلام الموقعين (3\ 2) .(76/302)
الخاتمة:
الحمد لله الذي برحمته تنشرح الصدور، وتتيسر الأمور، أحمده سبحانه على ما من به من العون والتيسير في إتمام هذا البحث. وبعد: فقد جاء البحث في فصلين: خصص الأول، لدراسة أحاديث الجماعة من الجانب الحديثي صحة وضعفا، وقد بلغ عدد الصحيح منها ستة عشر حديثا، والحسن ثلاثة أحاديث، أما الضعيف فحديث واحد فقط.
وهذا العدد من الأحاديث الصحيحة يدل على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الجماعة ثم فيه دلالة أيضا على اهتمام(76/302)
صحابته وأهل العلم بهذا الأمر؛ إذ حفظوا تلك الأحاديث ونقلوها لمن بعدهم.
وأما الفصل الثاني، فكان لدراسة الجانب الفقهي لتلك الأحاديث، وقد رأيت من خلال تتبعي لكلام أهل العلم في هذا الجانب أنه لم يكن بأقل اهتماما وعناية من الجانب السابق فقد وفوه حقه من الشرح والبيان لمعاني تلك الأحاديث والاستنباط للأحكام الواردة فيها.
ومن خلال دراستي لفقه أحاديث الجماعة في المباحث السابقة ظهر لي فوائد عظيمة ونتائج مهمة أبرزها ما يلي:
- الجماعة الواردة في تلك الأحاديث تعني أهل المتابعة للكتاب والسنة، وتعني من اجتمعوا على إمام يقودهم بشرع الله.
- الجماعة بمعناها السابق موجودة إلى قيام الساعة.
- لزوم الجماعة واجب والخروج عنها محرم.
- الآثار المترتبة على لزوم الجماعة عظيمة، والآثار المترتبة على الخروج عنها جسيمة، وذلك في الدنيا والآخرة.
- وقوع الظلم والجور من ولاة الأمور لا يسوغ الخروج عن الجماعة.
- إنكار المنكر بضوابطه الشرعية لا ينافي لزوم الجماعة.
هذا وقد اشتمل البحث على نتائج وفوائد أخرى سيقف(76/303)
عليها القارئ في ثنايا هذا البحث إن شاء الله، وأسأل المولى تبارك وتعالى أن ينفع بهذا البحث ويكتب له القبول، إنه خير مسئول.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(76/304)
الأشياء المختلف في ماليتها عند الفقهاء
لفضيلة الدكتور صالح بن عبد الله اللحيدان (1) .
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
فإن كلمة المال من أكثر الكلمات تداولا في ألسنة الناس، وفي كتب الفقه، ولا عجب، فإن المال هو قوام معايش الناس ومصالحهم، وبه تصان نفوسهم عن الابتذال في الغالب، وقد جبلت النفوس على حبه.
ويظن كثير من الناس وضوح المراد بهذه الكلمة؛ بسبب حصرهم مفهوم المال في نطاق ضيق، ضيقه العرف الشائع، لكن الحقيقة أن الفقهاء قد اختلفوا في تحديد المراد بهذا المصطلح؛ وانبنى
__________
(1) الأستاذ المساعد بقسم الفقه المقارن، في المعهد العالي للقضاء.(76/305)
على اختلافهم في تحديد معنى وصف المالية اختلافهم في مالية بعض الأشياء.
وسأحاول في هذا البحث بيان الأشياء التي اختلفوا في ماليتها، مقدما بين يدي ذلك فصلا تمهيديا في بيان مفهوم صفة المالية عندهم، وقد حرصت على التوثيق من المصادر الأصيلة في هذا كله.
أسأل الله تعالى الهداية والتوفيق، والإعانة والسداد، وحسن العاقبة، في الأمور كلها.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(76/306)
الفصل الأول: (التمهيدي) في مفهوم صفة المالية وتحته مبحثان:
المبحث الأول: تعريف المال والتمول.
وتحته مطلبان:
المطلب الأول: بيان المراد بالمال عند أهل اللغة.
المطلب الثاني: تعريف الفقهاء للمال.
المبحث الثاني: عناصر صفة المالية.
وتحته خمسة مطالب:
المطلب الأول: عنصر (إمكان الادخار) .
المطلب الثاني: عنصر (الانتفاع) .
المطلب الثالث: عنصر (حل الانتفاع) .
المطلب الرابع: عنصر (إمكان المعاوضة عنه) .
المطلب الخامس: عنصر (العينية) .(76/307)
المبحث الأول: تعريف المال والتمول
المطلب الأول: بيان المراد بالمال عند أهل اللغة
المال مشتق من (مول) فعينه واو، ويطلق في اللغة على كل ما يملكه الإنسان من الأشياء.
وبعضهم يطلقه على الذهب والفضة خاصة، وكانت العرب تطلقه غالبا على الإبل خاصة أو على النعم.
والذي يبدو لي أن مصطلح المال عند العرب تطور استعماله باختلاف الأزمنة، وأنه تأثر أيضا بالأعراف والبيئات.
وقد أشار إلى هذا ابن الأثير في النهاية فقال: (المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم) .
وهذا يفيد في رأيي أن لا يخضع المصطلح الشرعي في المال لأي من هذه الاستعمالات اللغوية بمفرده، وكذلك المصطلح العرفي؛ فلا تحمل ألفاظ الناس في عقودهم ودعاواهم على أي من هذه الاستعمالات، إلا لوجود القرينة التي تفيد مناسبته دون غيره، قال(76/308)
ابن الأثير: (وقد تكرر ذكر المال على اختلاف مسمياته في الحديث ويفرق فيها بالقرائن) .
والمال يجمع على: أموال، وتصغيره: مويل، وهو مذكر ومؤنث، يقال: هو المال، و: هي المال، ومنه قول حسان بن ثابت:
المال تزري بأقوام ذوي حسب ... وقد تسود غير السيد المال (1)
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب. الصفحات السابقة.(76/309)
المطلب الثاني: تعريف الفقهاء للمال
سأقتصر في هذا المبحث على نقل ما وجدته من تعريفات للفقهاء للمال، مع بيان أهم ملامحها ومحترزاتها بإجمال.
وقد اختلفت تعريفات الفقهاء للمال؛ نظرا لاختلاف وجهات نظرهم في المعاني الاصطلاحية المرادة منه، وقد ظهر اتجاهان يعكسان وجهة نظر كل منهما؛ أحدهما: اتجاه الأحناف، والآخر: اتجاه الجمهور، كما أثر في تعريفهم للمال اختلاف المأخذ والوجهة التي عرفوه منها؛ فمنهم من عرفه بصفته، ومنهم من عرفه بوظيفته، ومنهم من عرفه بحكمه ... ، لكن المؤثر الرئيس في اختلافهم والذي كان له أثر حقيقي على الفروع هو اختلاف الأعراف فيما يعد مالا وما لا يعد، وذلك أنه ليس له حد في اللغة ولا في الشرع، فحكم(76/309)
فيه العرف.
ولعلي أسرد شيئا من تعريفاتهم للمال يتبين فيها ما ذكرته:
أولا: تعريف الحنفية للمال.
وردت عند فقهاء الحنفية عدة تعريفات للمال. ويلاحظ تباعدها أحيانا وذلك لاختلاف المأخذ والوجهة التي عرف المال منها:
- تعريف السرخسي: (والمال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به، ولكن باعتبار صفة التمول والإحراز) (1) .
- تعريف آخر في المبسوط: (ما صح إحرازه على قصد التمول) قاله في سياق كلامه عن خلاف أبي حنيفة وصاحبيه في تقوم رق أم الولد (2) .
- تعريف البحر الرائق: (وفي الحاوي القدسي: المال: اسم لغير الآدمي خلق لمصالح الآدمي وأمكن إحرازه والتصرف فيه على وجه الاختيار) (3) .
__________
(1) المبسوط (11\ 79) .
(2) المبسوط (7\ 160) .
(3) البحر الرائق (5\ 277) .(76/310)
- وفي العناية شرح الهداية: (قال محمد - رحمه الله-: المال كل ما يتملكه الناس من دراهم أو دنانير أو حنطة أو شعير أو حيوان أو ثياب أو غير ذلك) (1) .
- تعريف التقرير والتحبير: (المال ما يصان ويدخر لوقت الحاجة) ، وفي موضع آخر قال: (المال ما تجري فيه الرغبة والضنة) (2) ويلاحظ أنه كان في الأول يتكلم عن المنافع وفي الثاني عن الكفن يريد نفي المالية عنهما؛ فعرف المال في كل موضع بحسب غرضه.
- تعريف ابن عابدين: (المراد بالمال: ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة) ، وقد نقله صاحب البحر الرائق أيضا عن الكشف الكبير (3) .
- تعريف لابن عابدين أيضا: (المال: المنتفع به في التصرف على وجه الاختيار) (4) .
__________
(1) العناية (2\ 258) .
(2) التقرير والتحبير لمحمد بن محمد بن عمر الحنفي (3\173) و (1\208) .
(3) البحر الرائق (5\ 277) .
(4) حاشية رد المحتار (4\ 502) .(76/311)
- تعريف للسرخسي: (وكل عين ينتفع به -غير الآدمي الحر- فهو مال) (1) .
ثانيا: تعريف المالكية للمال:
- تعريف الشاطبي: (وأعني بالمال: ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه. ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها وما يؤدي إليها من جميع المتمولات) (2) .
- تعريف القاضي عبد الوهاب: (يقطع في جميع المتمولات التي تتمول في العادة ويجوز أخذ الأعواض عليها) (3) .
- تعريف ابن العربي للمال المعتبر شرعا حيث قال: (كل ما تمتد إليه الأطماع ويصلح عادة وشرعا للانتفاع به) (4) قاله وهو يعرف المسروق. وهذا يخرج المحرم قال: (فإن منع منه الشرع لم ينفع تعلق الطماعية فيه ولا يتصور الانتفاع منه كالخمر والخنزير مثلا) .
ثالثا: تعريف الشافعية للمال
- تعريف الشافعي -رحمه الله تعالى- جاء في الأم: (ولا يقع
__________
(1) أصول السرخسي (2\ 404) .
(2) الموافقات (2\ 17) .
(3) الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب البغدادي (2\ 271) ، ونحوه في المعونة (3\ 1421) .
(4) أحكام القرآن لابن العربي المالكي (2\ 607) .(76/312)
اسم مال إلا على ما له قيمة يباع بها، وتكون إذا استهلكها مستهلك أدى قيمتها -وإن قلت- وما لا يطرحه الناس من أموالهم، مثل الفلس وما أشبه ذلك الذي يطرحونه) (1) .
وفي موضع آخر: (ولا يقع اسم مال ولا علق إلا على ما له قيمة يتبايع بها، ويكون إذا استهلكها مستهلك أدى قيمتها -وإن قلت- وما لا يطرحه الناس من أموالهم؛ مثل الفلس وما يشبه ذلك.
والثاني: كل منفعة ملكت وحل ثمنها، مثل كراء الدار وما في معناها مما تحل أجرته) (2) .
- قال السيوطي: (قال الشافعي -رضي الله عنه-: لا يقع اسم مال إلا على ما له قيمة يباع بها وتلزم متلفه وإن قلت وما لا يطرحه الناس مثل الفلس وما أشبه ذلك) (3) ، وهو نقل لما سبق بتصرف يسير.
- تعريف الزركشي قال: (المال ما كان منتفعا أي مستعدا لأن ينتفع به وهو إما أعيان أو منافع) (4) .
- قال النووي - رحمه الله تعالى-: (فما لا نفع فيه ليس
__________
(1) الأم (5\ 171) .
(2) الأم (5\ 63) .
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص (327) .
(4) المنثور للزركشي (3\ 222) .(76/313)
بمال ... ولعدم المنفعة سببان:
أحدهما: القلة، كالحبة والحبتين من الحنطة، والزبيب، ونحوهما، فإن ذلك القدر لا يعد مالا ...
السبب الثاني: الخسة كالحشرات والحيوان الطاهر ضربان:
ضرب ينتفع به فيجوز بيعه كالنعم والخيل.... الضرب الثاني: ما لا ينتفع به، فلا يصح بيعه، كالخنافس، والعقارب، والحيات، والفأر، والنمل ونحوها ... ) (1) .
- تعريف السمعاني: (المال ما يميل طباع الناس إليه، ولهذا سمي مالا، وطباع الناس يميل إلى هذه الأشياء لمنافع تظهر لها في ثاني الحال، فيكون مالا؛ مثل الأطفال، والجحوش للحمر، والمهر للأفراس) .
رابعا: تعريف الحنابلة للمال:
- تعريف الفتوحي: (ما يباح نفعه مطلقا واقتناؤه بلا حاجة) (2) .
- تعريف الحجاوي: (وهو ما فيه منفعة مباحة لغير حاجة أو ضرورة) (3) .
__________
(1) روضة الطالبين (3\ 350) .
(2) منتهى الإرادات للفتوحي تحقيق: عبد الغني عبد الخالق (1\ 256) .
(3) الإقناع للحجاوي (2\ 156) .(76/314)
- تعريف ابن بلبان: (وهو ما فيه منفعة مباحة) (1) .
- تعريف ابن قدامة: (وهو ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة) (2) ، وقد علق عليه التنوخي بقوله: (ولو قال المصنف -رحمه الله-: لغير حاجة كان جيدا لأن اقتناء الكلب يحتاج إليه ولا يضطر إليه) (3) .
- جاء في الإنصاف: (علل المصنف الذي ليس بمال -كقشر الجوزة والميتة والخمر- بأنه لا يثبت في الذمة) (4) .
والناظر إلى هذه التعريفات يجد أن للحنفية رأيا مستقلا في تعريف المال، فيما تبقى المذاهب الثلاثة الأخرى متقاربة في تعريفاتها بما يمكن معه أن نقول إن للفقهاء في تعريف المال اتجاهين:
الأول للحنفية، والثاني للجمهور.
وأبرز ملامح اتجاه الحنفية انفرادهم بأمرين:
1 - أنهم لم يجعلوا إباحة الانتفاع شرعا شرطا في المالية؛ مما ساقهم إلى تقسيم المال إلى متقوم وغير متقوم. بينما اشترط الجمهور إباحة الانتفاع فلم يحتاجوا إلى هذا التقسيم.
__________
(1) أخصر المختصرات لابن بلبان الدمشقي تحقيق: محمد العجمي ص (163) .
(2) المقنع (2\ 5) ، مع حاشية الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمه الله تعالى-.
(3) الممتع في شرح المقنع للتنوخي (3\ 14) .
(4) الإنصاف (12\ 207) .(76/315)
2 - أنهم اشترطوا إمكان الادخار لوقت الحاجة، فأخرجوا بذلك المنافع ونحوها من أن تكون أموالا، وخالفهم الجمهور فلم يشترطوا ذلك (1) .
خامسا: تعريفات المتأخرين:
- رجح بعض المتأخرين تعريف المال بأنه: (كل ما يمكن حيازته والانتفاع به على وجه معتاد) .
- جاء في معجم لغة الفقهاء تعريف المال بأنه: (كل ما يمكن الانتفاع به مما أباح الشرع الانتفاع به في غير حالات الضرورة كل ما يقوم بمال) (2) .
- عرفه بعض المعاصرين بتعريف يتفق مع مسلك الجمهور، وهو: (ما كان له قيمة مادية بين الناس وجاز شرعا الانتفاع به في حال السعة والاختيار) .
__________
(1) راجع: معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء للدكتور نزيه حماد ص (293) .
(2) معجم لغة الفقهاء لمحمد رواس قلعه جي (ص 366، 367) .(76/316)
- وذهب الدكتور الدبو إلى تفضيل التعريف الأخير؛ لوضوحه، وشموليته، إلا أنه فضل إجراء تعديل طفيف عليه، بحيث يكون هكذا: (المال: كل ما له قيمة عرفا، وجاز الانتفاع به في حال السعة والاختيار) (1) .
- رجح بعض المتأخرين أن المالية ليست إلا صفة للأشياء، بناء على تحول الناس، واتخاذهم إياها مالا ومحلا لتعاملهم، فإذا دعتهم حاجتهم إلى ذلك فمالت إليه طباعهم، وكان في الإمكان التسلط عليه، والاستئثار به، ومنعه من الناس، صار مالا، ولا يلزم كونه مادة تدخر لوقت الحاجة، بل يكفي أن يكون الحصول عليها ميسورا غير متعذر عند الحاجة إليه.
وذلك متحقق في المنافع وفي كثير من الحقوق. فإذا تحقق ذلك فيها عدت من الأموال؛ بناء على عرف الناس وتعاملهم.
__________
(1) ضمان المنافع للدكتور إبراهيم فاضل الدبو ص (228، 229) .(76/317)
المبحث الثاني: عناصر صفة المالية
مما سبق سوقه من تعريفات المال عند الفقهاء تتبين ملامح المال لديهم، وماذا يريدون حين يطلقون صفة المالية، فيصفون شيئا بأنه مال، أو يعلقون حكما على المالية؛ كقولهم: المعاملات المالية،(76/317)
أو: العقوبات المالية، أو: العبادات المالية، أو: التصرفات المالية، أو: الحقوق المالية، أو: المؤن المالية، أو: المعاوضات أو العقود ... إلخ.
وسأجمل في هذا المبحث أهم العناصر التي تتكون منها صفة المالية عندهم مستخلصة من تلك التعريفات بأسلوب موجز وذلك في خمسة مطالب:
المطلب الأول: عنصر (إمكان الادخار) .
المطلب الثاني: عنصر (الانتفاع) .
المطلب الثالث: عنصر (حل الانتفاع) .
المطلب الرابع: عنصر (إمكان المعاوضة عنه) .
المطلب الخامس: عنصر (العينية) .(76/318)
المطلب الأول: عنصر (إمكان الادخار)
معنى الادخار في اصطلاح الفقهاء لا يختلف عن المعنى اللغوي، وهو تخبئة الشيء والاحتفاظ به لوقت الحاجة.
فهل الادخار بهذا المعنى شرط في ثبوت صفة المالية للشيء؟
جاء في تعريف بعض الحنفية للمال النص على ذلك: فقد قال ابن عابدين: (المال أعم من المتقوم؛ لأن المال ما يمكن ادخاره ولو غير مباح كالخمر) (1) .
وقال أيضا: (المراد بالمال ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة) (2) ، ونقل صاحب البحر الرائق هذا التعريف أيضا عن الكشف الكبير (3) . وجاء في التقرير والتحبير: (المال ما يصان ويدخر لوقت الحاجة) (4) .
وهذا -أعني اشتراط إمكان الادخار لثبوت صفة المالية- مما انفرد به الحنفية، ولأجل هذا الاشتراط أخرجوا المنافع من أن تكون
__________
(1) رد المحتار (4\ 501) .
(2) المصدر السابق.
(3) البحر الرائق (5\ 277) .
(4) التقرير والتحبير (3\ 173) .(76/319)
أموالا، حيث لا يمكن ادخارها لأنها أعراض لا تبقى زمنين.
وخالفهم في هذا الاشتراط جماهير الفقهاء فلم يذكروا الادخار من العناصر المكونة للمالية، واعتبروا بالتالي المنافع أموالا. وسيأتي مزيد بحث في ذلك في مبحث مالية المنافع إن شاء الله تعالى.(76/320)
المطلب الثاني: عنصر (الانتفاع)
اتفقت كلمة الفقهاء على اعتبار الانتفاع من عناصر المالية، وأن ما لا منفعة فيه فليس بمال. وإن اختلفت أحيانا عباراتهم في ذلك واحترازاتهم منه:
فمن نصوص الحنفية: جاء في المبسوط: (والمال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به ولكن باعتبار صفة التمول والإحراز) (1) ، وجاء فيه أيضا في معرض حديثه عن المال الضمار: (فليس عليه الزكاة لما مضى؛ لأن معنى المالية في النمو والانتفاع، وذلك منعدم) (2) ، وفيه أيضا: (وبتخمر العصير لا تنعدم المالية، وإنما ينعدم
__________
(1) المبسوط (11\79) .
(2) المبسوط (2\ 171) .(76/320)
التقوم شرعا؛ فإن المالية تكون بكون العين منتفعا بها ... ) (1) .
وعند المالكية: قال ابن العربي في تفسير المال الذي يقطع به في السرقة: (هو كل مال تمتد إليه الأطماع، ويصلح عادة وشرعا للانتفاع به) (2) .
ومن نصوص الشافعية: قال الغزالي في شروط المبيع: (أن يكون منتفعا به فبه تتحقق المالية) (3) ، وقال السيوطي: (وأما المتمول فذكر الإمام له في باب اللقطة ضابطين، أحدهما: أن كل ما يقدر له أثر في النفع فهو متمول وكل ما لا يظهر له أثر في الانتفاع فهو لقلته خارج عما يتمول) (4) ، وقال النووي: (فما لا نفع فيه ليس بمال) (5) ، وقال الزركشي: (المال ما كان منتفعا به أي مستعدا لأن ينتفع به) (6) .
وفي مغني المحتاج: (فلا يصح بيع ما لا نفع فيه لأنه لا يعد مالا فأخذ المال في مقابلته ممتنع للنهي عن إضاعة المال) (7) .
__________
(1) المبسوط (13\ 25) . وانظر: بدائع الصنائع (5\ 143) ورد المحتار (4\ 502) والبحر الرائق (5\ 277) .
(2) أحكام القرآن لابن العربي (2\ 607) .
(3) الوسيط (3\ 19) .
(4) الأشباه والنظائر للسيوطي ص (327) .
(5) روضة الطالبين (3\ 350) .
(6) المنثور للزركشي (3\ 222) .
(7) معجم المحتاج (2\ 11) .(76/321)
ومن نصوص الحنابلة: جاء في المبدع في شروط البيع: (أن يكون المبيع مالا وهو ما فيه منفعة مباحة) (1) ، وفي أخصر المختصرات: (وكون مبيع مالا وهو ما فيه منفعة مباحة) (2) ، وفي منتهى الإرادات: (وهو ما يباح نفعه مطلقا واقتناؤه بلا حاجة) (3) .
وبهذا يتبين اتفاق كلمة المذاهب الأربعة على اعتبار الانتفاع عنصرا أساسيا في المالية.
والانتفاع بالمال ليس جنسا واحدا بل هو في كل شيء بما يصلح له (4) .
لكنه في كل أحواله مقيد بالحل. فكل انتفاع محرم غير معتبر في المالية ولا أثر له فيها بل هو ملغي كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
__________
(1) المبدع (4\ 9) .
(2) أخصر المختصرات لابن بلبان ص (163) .
(3) منتهى الإرادات (1\ 256) .
(4) انظر: رد المحتار (4\ 502) .(76/322)
المطلب الثالث: عنصر (حل الانتفاع)
المراد بحل الانتفاع: أن لا يكون الشيء محرما، فالحلال نقيض الحرام، وبهذا فهو يشمل الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه؛(76/322)
من حيث الإذن الشرعي بها مع رجحان الفعل في الواجب والمندوب، وتساوي الفعل والترك في المباح، ورجحان الترك في المكروه، ولهذا سلك بعض علماء الأصول ذلك في تقسيم الحكم، فقالوا: الحكم قسمان، تحريم وإباحة. والتقسيم الخماسي هو المشهور.
وقد جاء الحل مقابلا للتحريم في الكتاب والسنة. قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (2) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث المسور بن مخرمة: «وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما (3) » .
وقد اختلف الفقهاء في حل الانتفاع؛ هل هو شرط في المالية؟
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة التحريم الآية 1
(3) صحيح البخاري -كتاب فرض الخمس- باب ما ذكر من ورع النبي صلى الله عليه وسلم وعصاه وسيفه (6\ 212) برقم (3110) ، في صحيح مسلم -كتاب فضائل الصحابة- باب من فضائل فاطمة -رضي الله عنها- (16\3) برقم (2449) .(76/323)
فذهب الحنفية إلى أن حل الانتفاع ليس شرطا في المالية، وليس من ضرورة التحريم سقوط المالية وهذا دفعهم إلى تقسم المال إلى قسمين: مال متقوم، ومال غير متقوم، فالمال المتقوم عندهم هو ما يباح الانتفاع به شرعا في حال السعة والاختيار، والمال غير المتقوم هو ما لا يباح الانتفاع به في حال الاختيار؛ كالخمر والخنزير في حق المسلم. وعليه فإنها للذمي تعتبر مالا متقوما؛ لأنه يتمولها ولا يعتقد حرمتها، وقد أمرنا بتركهم وما يدينون (1) .
وهذا يعني أنه ليس من ضرورة التحريم سقوط المالية عند الحنفية، بل سقوط التقوم فقط، فإن التقوم يثبت بالمالية وبإباحة الانتفاع معا فإن تخلف شرط الإباحة لم يكن متقوما وإن بقي مالا، كالخمر والخنزير بالنسبة للمسلم، وإن تخلف شرط المالية لم يكن متقوما وإن كان مباحا، كحبة القمح مثلا، فالمالية أعم من التقوم (2) . وذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن حل الانتفاع شرط في المالية، وأن كل ما لا يباح الانتفاع به شرعا فليس بمال أصلا، كالخمر، والخنزير، والميتة، والدم، والأصنام،
__________
(1) المبسوط (5\ 38- 40) و (13\ 25) ، وبدائع الصنائع (7\147) ، وحاشية ابن عابدين (4\ 501) و (6\ 520) .
(2) المبسوط (5\ 39، 40) و (13\ 25) ، وبدائع الصنائع (1\147) ، وحاشية ابن عابدين (4\ 501) .(76/324)
والصلبان، وآلات الملاهي، ونحو ذلك، وينبني عليه عدم صحة المعاوضة عليها، وعدم ضمانها بالإتلاف.
إلا أن المالكية قد أوجبوا الضمان على متلف خمر الذمي بقيمته لا مثله لاعتباره مالا في حقه، كما ذكرته آنفا.
ولذلك لا تجد عند الجمهور تقسيم المال إلى متقوم وغير متقوم بالمعنى الذي قصده الحنفية، وهم إذا أطلقوا لفظ (المتقوم) فإنما يريدون به ما له قيمة مادية بين الناس، وقابلية لأن يكون له بدل في العقود.
والمراد بحل الانتفاع: الحل المطلق في جميع الأحوال، أما ما أبيح لأجل الضرورة والحاجة فقط، مع تحريمه بدونهما فليس بمال؛ كالكلب الذي يباح اقتناؤه للحاجة، وكالخمر والخنزير والميتة التي يباح تناولها للضرورة، فلا تكون لذلك أموالا؛ لأنها إباحة عارضة لأجل الحاجة والضرورة لا مطلقة في كل الأحوال (1) .
__________
(1) المبدع (4\ 9) ، ومعونة أولي النهى (4\ 13- 14) ، وكشاف القناع (3\ 1400) ، ورد المحتار (5\ 69) .(76/325)
المطلب الرابع: عنصر (إمكان المعاوضة عنه)
هذا العنصر مما تكاد تطبق عليه المذاهب، فقد جعل الفقهاء المالية شرطا في صحة المعاوضة، كما جعلوا صحة المعاوضة أمارة على المالية، مما يدل على تلازمهما تماما ونصوصهم في ذلك كثيرة جدا. فمن نصوص الحنفية في ذلك:
جاء في المبسوط: (وكذلك في البيع بالخمر؛ فإن ركن العقد المالية في البدلين، وبتخمر العصير لا تنعدم المالية، وإنما ينعدم التقوم شرعا) (1) .
وفي أصول السرخسي في ربا الفضل: (المراد الفضل الخالي عن العوض ... ثم خلو الفضل عن العوض لا يظهر يقينا بعدد الحبات والحفنات ولا يظهر إلا بعد ثبوت المساواة قطعا في الوصف الذي صار به محلا للبيع وهو المالية) (2) .
كما نصوا على أن المال قد يكون ثمنا وقد يكون مثمنا، ففي أنيس الفقهاء: (والأموال أنواع: نوع ثمن بكل حال، كالنقدين صحبة الباء أو لا، قوبل بجنسه أو بغيره، ونوع مبيع بكل حال، وهو ما ليس من ذوات الأمثال، كالثياب والدواب والمماليك، ونوع ثمن بوجه، مبيع بوجه، كالمكيل والموزون، فإذا كان معينا في العقد كان
__________
(1) المبسوط (13\ 25) .
(2) أصول السرخسي (2\ 126) .(76/326)
مبيعا، وإن لم يكن معينا وصحبه الباء وقابله مبيع فهو ثمن، ونوع ثمن بالاصطلاح وهو سلعة في الأصل، فإن كان رابحا كان ثمنا وإن كان كاسدا كان سلعة) (1) .
ومن نصوص المالكية في ذلك:
جاء في الإشراف: (يقطع في جميع المتمولات التي تتمول في العادة، ويجوز أخذ الأعواض عليها) (2) .
وفي بداية المجتهد: (القطع في كل متمول يجوز بيعه وأخذ العوض فيه) (3) .
وأما الشافعية فمن نصوصهم:
جاء في الأم قول الشافعي -رحمه الله تعالى-: (ولا يقع اسم مال ولا علق إلا على ماله قيمة يتبايع بها، ويكون إذا استهلكها مستهلك أدى قيمتها- وإن قلت- وما لا يطرحه الناس من أموالهم، مثل الفلس وما يشبه ذلك) وقال في موضع آخر: (ولا يقع اسم مال إلا على ما له قيمة يباع بها، وتكون إذا استهلكها مستهلك أدى قيمتها -وإن قلت- وما لا يطرحه الناس من أموالهم؛ مثل الفلس وما أشبه ذلك الذي يطرحونه) (4) .
__________
(1) أنيس الفقهاء ص (222) .
(2) الإشراف في مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب البغدادي (2\ 171) .
(3) بداية المجتهد (2\ 551، 552) .
(4) الأم (5\ 63 و171) . وانظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص (327) .(76/327)
ومن نصوص الحنابلة:
ما جاء في كشاف القناع وغيره في شروط البيع: (الشرط الثالث: أن يكون المبيع والثمن مالا لأنه مقابل بالمال إذ هو مبادلة المال بالمال) .
والفقهاء رحمهم الله تعالى كثيرا ما يقرنون التقويم بالمالية، والتقويم مصدر: قومت المتاع، أي حددت له قيمة معلومة، والقيمة هي الثمن الذي يقاوم به المتاع، سميت بذلك لأنها تقوم مقامه (1) ، وهذا هو المعاوضة.
بل إنهم كثيرا ما يذكرون حدوث صفة المالية (أي عرضيتها بعد أن كانت معدومة) وزوالها وفواتها بعد أن كانت موجودة، وزيادتها، ونقصانها، وتفاوتها، وهم يعنون بصفة المالية في ذلك كله القيمة التي تقابل الشيء في المعاوضات، مما يدل على أن إمكان المعاوضة عنصر رئيس من العناصر المكونة للمالية.
فذكر حدوث المالية مثلا في المبسوط للسرخسي (2\ 205) ، والوسيط للغزالي (3\ 408) ، ومغني المحتاج للشربيني (2\ 291) .
وذكر زوالها في المنثور للزركشي (2\ 181) ، وروضة
__________
(1) المصباح المنير ص (199، 198) .(76/328)
الطالبين للنووي (5\ 44) ، ومغني المحتاج (2 14 و129 و290) و (3\ 203) ، والمغني لابن قدامة (6\ 460) ، والإنصاف للمرداوي (3\ 148) .
وذكر زيادتها في المغني لابن قدامة (11\ 505) .
وذكر نقصانها في المبسوط (4\ 158) و (5\70) ، والبحر الرائق لابن نجيم (3\ 176) و (6\ 14) ، ومغني المحتاج (4\ 286) ، والمغني لابن قدامة (11\ 505) .
وذكر تفاوت المالية في المبسوط (5\ 88) ، والهداية للمرغيناني (3\ 72) ، ورد المحتار لابن عابدين (4\536) ، ولقد آثرت الإحالة عليها دون نقل نصوصهم لئلا يطول المقام.
وهم في كل ذلك يعنون بصفة المالية القيمة التي تقابل الشيء في المعاوضات والتي يقوم بها في الضمانات وقد نص بعضهم على هذا التفسير فقد قال الغزالي الشافعي: (لأن المالية باقية ببقاء القيمة) (1) ، وقال ابن نجيم الحنفي: (لأن المقصود نقصان المالية وذلك بانتقاص القيمة) (2) ، وقال ابن ضويان الحنبلى في الخيارات: (الخامس: خيار العيب، والعيوب: النقائص الموجبة لنقص المالية في عادة التجار) (3) .
__________
(1) الوسيط (3\ 144) .
(2) البحر الرائق (6\ 40، 41) .
(3) منار السبيل (1\ 319) .(76/329)
المطلب الخامس: عنصر (العينية)
نسبة إلى العين. والعين في اللغة تطلق -بالاشتراك- على نحو من عشرين مسمى؛ منها: العين الباصرة، وعين الماء، وعين الشمس، والعين الجارية، والجاسوس، وما ضرب من الدنانير، وذات الشيء، وخيار الشيء وغيرها، ويتبن المراد من سياق الكلام.
ويختلف جمع العين بحسب معناها، فتجمع مثلا عين الحيوان الباصرة على أعين وأعيان وعيون، وتجمع العين بمعنى الدنانير المضروبة على أعيان، ولغير المضروبة على عيون وأعين (1) .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذه المعاني اللغوية؛ لكنهم أكثر ما يستعملون مصطلح الأعيان لأحد معنيين:
الأول: الأعيان في مقابل الديون، وهو الأكثر في استعمالهم، فيعنون بالأعيان الأموال الحاضرة نقدا أو غيره، ويعنون بالديون ما يثبت في الذمم بعقد أو استهلاك أو غيرهما.
الثاني: الأعيان في مقابل المنافع، وهذا كثير في استعمالهم،
__________
(1) المصادر السابقة.(76/330)
حيث يقولون إن المال قسمان أعيان ومنافع، ويعنون بالمنافع الفوائد العرضية التي تستفاد من الأعيان بالاستعمال مع بقاء أصول الأعيان، ويعنون بالأعيان هذه الأصول.
وأيا كان مرادنا بالعينية في هذا المبحث -أي سواء أكان المحترز منه المنافع، أم كان المحترز منه الديون- فإن الخلاف في اعتبارها عنصرا من عناصر المالية هو ذاته، حيث يخالف الحنفية الجمهور، فيرى جمهور الفقهاء عدم اشتراط العينية لثبوت صفة المالية -بالاعتبارين- ويدخلون المنافع والديون في مسمى المال، فيما يرى الحنفية اشتراطها -بالاعتبارين- ولا يعدون المنافع ولا الديون أموالا. كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- في المبحثين المتعلقين بمالية المنافع والديون، لكني أحببت أن أنبه إلى الملحظ السابق تتميما للفائدة ودفعا لما قد يرد من التباس.(76/331)
الفصل الثاني: الأشياء التي اختلف في ماليتها وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: في مالية الدين.
يقال في اللغة: داينت فلانا، إذا عاملته دينا، إما أخذا وإما(76/331)
عطاء، ويقال: دنت الرجل، و: أدنته، إذا أخذت منه دينا فأنا مدين ومديون. قال في المصباح المنير: وقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} (1) أي إذا تعاملتم بدين من سلم وغيره، فثبت بالآية وبما تقدم أن الدين لغة هو القرض وثمن المبيع؛ فالصداق والغصب ونحوه ليس بدين لغة، بل شرعا على التشبيه، لثبوته واستقراره في الذمة) .
وقال في القاموس: (الدين: ما له أجل كالدينة -بالكسر- وما لا أجل له فقرض) .
والكلمة (د ي ن) أصل في اللغة من الانقياد والذل وإلى هذا المعنى ترجع كل فروع هذا الأصل، وهو في الدين الذي نقصده ظاهر.
وأما في اصطلاح الفقهاء: فقد استعمل الفقهاء الدين بمعنيين: أحدهما: بالمعنى الأعم فيريد به مطلق الحق اللازم في الذمة بحيث يشمل كل ما ثبت في الذمة من الأموال -أيا كان سبب وجوبها- أو حقوق محضة، مما يطالب به المرء، مالية كانت أو غير مالية؟ كصلاة فائتة، وزكاة وصيام، وغير ذلك. كما يشمل ما ثبت بسبب قرض أو إجارة أو إتلاف أو جناية أو غير ذلك.
__________
(1) سورة البقرة الآية 282(76/332)
وقد جرى أكثر الفقهاء على استعمال كلمة (دين) بهذا المعنى وبناء على هذا الاعتبار فلا يشترط في الدين أن يكون مالا. وإن كان مالا فلا يشترط أن يكون ثابتا في معاوضة أو إتلاف أو قرض وهذا الاستعمال هو الذي جاء في كثير من الأحاديث النبوية. وليس هذا الاستعمال ما نقصده هنا.
الثاني: بالمعنى الأخص أي في الأموال، فيطلقونه على ما وجب في الذمة من مال. وقد اختلفوا في حقيقته بهذا الاستعمال - بالنظر إلى سبب الوجوب في الذمة- على رأيين:
الرأي الأول: للحنفية: وهو أن الدين عبارة عما يثبت في الذمة من مال نتيجة معاوضة أو إتلاف أو قرض.
جاء في فتح القدير: (الدين اسم لمال واجب في الذمة يكون بدلا عن مال أتلفه، أو قرض اقترضه، أو مبيع عقد بيعه، أو منفعة عقد عليها، من بضع امرأة- وهو المهر- أو استئجار عين) (1) .
__________
(1) فتح القدير شرح الهداية (7\ 221) . وانظر: حاشية رد المحتار (5\ 157) .(76/333)
فيخرج من مسمى الدين عندهم كل ما ثبت بغير هذه الأسباب الثلاثة، كالزكاة والدين وأرش الجناية ونحو ذلك.
والرأي الثاني للجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة:
وهو أن الدين كل ما يثبت في الذمة من مال بسبب يقتضي ثبوته فيدخل فيه كل الديون المالية، أيا كان سبب ثبوتها، وسواء أكان لله تعالى كالزكاة أم لآدمي، ويخرج عنه الواجبات غير المالية في الذمة، من صلاة فائتة، وإحضار خصم إلى مجلس الحكم، ونحو ذلك.
وبعد هذا البيان يأتي السؤال الذي سقت هذه المقدمة من أجله: هل الدين مال؟ لا خلاف بين الفقهاء في أن الحق الواجب في الذمة إذا لم يكن ماليا أنه لا يعتبر مالا ولا يترتب عليه شيء من أحكام المال (1) .
أما إذا كان الدين الشاغل للذمة ماليا فقد اختلف الفقهاء في اعتباره مالا حقيقة على قولين:
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية (36\ 33) .(76/334)
القول الأول: أن الدين في الذمة ليس مالا حقيقة، بل هو مال حكمي أي: أن له حكم المال وليس مالا حقيقيا، وسمي مالا مجازا نظرا لصيرورته مالا في المآل.
وهذا هو رأي الحنفية وأحد الطريقين عند الشافعية.
ووجه هذا الرأي: أن الدين إنما هو مجرد وصف شاغل للذمة لا يتصور قبضه حقيقة، فالقبض إنما يتصور في الأعيان، وأن المالية إنما هي من صفات الموجود، وليس ها هنا شيء موجود، ولكن نظرا لصيرورته مالا في المآل سمي مالا، فهو مال باعتبار مآله، حيث يؤول بالقبض إلى مال، ولأجل حاجة الناس في تعاملاتهم جعل مالا في الحكم، ولذا كانت البراءة منه تصح بلا قبول؟ لعدم المالية الحقيقية، غير أنها ترتد بالرد للمالية الحكمية، وهبة العين لا تصح بلا قبول بحال (1) .
الرأي الثاني: أن الدين مال حقيقة، وهو الطريق الآخر عند الشافعية.
ووجهه: أنه يثبت به لصاحبه حكم اليسار، حتى تلزمه نفقة
__________
(1) المصادر السابقة، ودراسات في أصول المداينات ص (15) .(76/335)
الموسرين، وكفارتهم، ولا تحل له الصدقة (1) .
وهذا هو رأي أبي حنيفة في رواية عنه في الدين القوي.
ويتفرع على هذا الخلاف فروع منها: هل يجوز بيع الدين من غير من عليه الدين؟ إن قلنا: إنه مال جاز، أو حق فلا؛ لأن الحقوق لا تقبل النقل إلى الغير. ومنها: الإبراء من الدين هل هو إسقاط أو تمليك؟ ومنها: لو حلف لا مال له وله دين حال على مليء هل يحنث أو لا يحنث؟ ومنها الوصية بالمال؛ هل يدخل فيها ما له على الناس من الديون؟ .
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي (2\ 160، 161) .(76/336)
وهنا أنبه إلى أمرين:
الأول: أن الخلاف في مالية الدين إنما هو في حق من له الدين أما المدين فلا يعتبر مالا في حقه قطعا، وهذا واضح من(76/336)
التعليلات فيما سبق؛ لكني أحببت التنبيه إليه. وقد صرح به صاحب المنثور حيث قال في سياق كلامه في الدين هل هو إسقاط أو تمليك: (توسط ابن السمعاني فقال: إنه تمليك في حق من له الدين، إسقاط في حق المديون، وذلك لأن الإبراء إنما يكون تمليكا باعتبار أن الدين مال، وهو إنما يكون مالا في حق من له الدين؛ فإن أحكام المالية إنما تظهر في حقه) (1) .
الثاني: ذكر بعض الحنفية اعتبار الدين مالا في بعض الأبواب استثناء، كباب المهر: قال في البحر الرائق -عند شرح قول صاحب الكنز: (وأقله عشرة دراهم) -: (وشمل الدين والعين: فلو تزوجها على عشرة دين له على فلان صحت التسمية؛ لأن الدين مال، فإن شاءت أخذته من الزوج، وإن شاءت ممن عليه الدين. كذا في المحيط، زاد في الخانية: ويؤاخذ الزوج حتى يوكلها بقبض الدين من المديون اهـ. فقد جعلوا الدين مالا هنا، وأدخلوه تحت قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (2) ولم يجعلوه مالا في الزكاة، فلم يجز الدين عن العين، ولا في الأيمان، فلو حلف لا مال له وله دين على موسر لا يحنث) (3) ، وقال أيضا في موضع آخر: (وهل يدخل تحت
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي (1\ 81، 82) . وراجع: الأم للشافعي (4\163) .
(2) سورة النساء الآية 24
(3) البحر الرائق (3\ 152) .(76/337)
الوصية بالمال ما على الناس من الديون؟ قالوا: إن الدين ليس بمال حتى لو حلف أن لا مال له وله دين على الناس لم يحنث، ولا شك أن الدين تجب الزكاة فيه بشرط القبض فينبغي أن يدخل تحت النذر بالمال، ولكن في الخانية: ولا تدخل الديون، وفي كلام الشارح في الوصايا ما يفيد دخول الدين في الوصية بالمال؛ لأنه يصير مالا بالاستيفاء فتناولته الوصية خصوصا قالوا: إنها أخت الميراث وهو يجري فيهما) (1) .
الترجيح:
الذي يظهر لي بعد عرض القولين وما علل به أصحاب كل قول وجاهة قول من يرى أن الدين مال؛ لصحة ما عللوا به، ووضوحه، وأما ما بنى عليه الحنفية رأيهم من أن المالية إنما هي من صفات الموجود من الأعيان فغير مسلم، بل هو محل الخلاف من الأصل.
ومع ذلك: تبقى الآثار المبنية على هذا الخلاف يسيرة في رأيي، بل وينزعها غالبا قواعد أخرى غير المسألة التي نحن بصددها. والله تعالى أعلم.
__________
(1) البحر الرائق (7\ 48، 49) .(76/338)
المبحث الثاني: في مالية المنفعة
المنفعة لغة: اسم مصدر من النفع وهو الخير وكل ما يتوصل(76/338)
الإنسان به إلى مطلوبه (1) . وهذا يعني أن المنفعة في اللغة تشمل كل ما يمكن استفادته من الشيء، عرضا كان، كسكنى الدار، وركوب الدابة، أو مادة، كاللبن، والولد من الحيوان، وكالثمرة من الشجرة، ونحوها (2) .
أما عند الفقهاء: فالمنفعة لا تطلق في اصطلاح أكثر الفقهاء إلا على الفائدة العرضية التي تستفاد من الأعيان بالاستعمال، كسكنى المنازل، وركوب الدابة، ولبس الثوب، وعمل العامل، ولا تتناول الفوائد المادية، كاللبن، والولد من الحيوان، والثمرة من الشجرة، وأجرة الأعيان ونحوها، وإنما يسمى ذلك غلة وفائدة (3) . قال في مغني المحتاج: (والمراد بالفائدة اللبن والثمرة ونحوهما، وبالمنفعة السكنى واللبس ونحوهما) (4) ، وقال ابن عرفة في تعريف المنفعة: (ما لا يمكن الإشارة إليه حسا دون إضافة، يمكن استيفاؤه، غير جزء مما أضيف إليه) .
__________
(1) المصباح المنير ص (236) ، والقاموس المحيط ص (691) ، ومختار الصحاح ص (673) .
(2) ضمان المنافع للدكتور إبراهيم الدبو ص (249) ، ومعجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء ص (330) .
(3) المصدران السابقان، والمصباح المنير ص (172) مادة (غلل) ، والموسوعة الفقهية الكويتية (31\ 267) .
(4) مغني المحتاج (2\ 377) .(76/339)
وهو يعني بذلك إخراج الأعيان التي يشار إليها حسا دون إضافة، كالثوب والدابة. أما المنفعة فلا بد فيها من الإضافة فتقول: لبس الثوب، وركوب الدابة (1) . وعرفها الزنجانى بقوله: (وحقيقتها عندنا تهيؤ الأعيان واستعدادها بهيئتها وشكلها لحصول الأغراض منها ... وكذلك كل عين لها هيئة تتميز بها عن الأخرى وبها تستعد لحصول الغرض منها فهي منفعتها. وهذه الهيئات أعراض متجددة توجد وتفنى كسائر الأعراض) (2) .
فهل هذه المنافع داخلة في مسمى المال عند الفقهاء؟ اختلف الفقهاء في مالية المنافع على رأيين:
الرأي الأول: أن المنافع ليست أموالا متقومة في حد ذاتها، بل مجرد ملك، وهذا مذهب أبي حنيفة وصاحبيه وعليه جماهير الحنفية، وقد صرحوا به في مواضع كثيرة من كتبهم، واستثنوا ما إذا ورد على المنفعة عقد معاوضة، وقالوا إن هذا الاستثناء على خلاف القياس لورود النص، ولجريان العرف به، فلا يقاس عليه.
__________
(1) شرح حدود ابن عرفة للرصاع (2\ 521) .
(2) تخريج الفروع على الأصول ص (225) .(76/340)
وقد استدل هؤلاء على عدم مالية المنافع بما يلي:
1 - أن المال ما من شأنه أن يتمول، بأن يحرز ويدخر للانتفاع وقت الحاجة، وذلك غير متصور في المنافع؛ لأنها أعراض تحدث وتتلاشى، ولا تبقى زمانين، فلا تكون أموالا (1) .
2 - لو كانت المنافع أموالا لوجب ضمانها عند الاعتداء عليها بمنافع مثلها، تحقيقا للمماثلة في الضمان، وهي لا تضمن بمنافع مثلها، ولا تضمن بالأعيان بطريق الأولى، لاختلافهما صورة ومعنى، وعليه فليست مالا (2) .
3 - أن المنفعة يتصرف فيها بوصف الاختصاص من غير إمكان الادخار والإحراز، وهذا شأن الأملاك لا الأموال (3) .
4 - أن حاصل الأعيان راجع إلى أفعال يحدثها الشخص المنتفع في الأعيان بحسب ارتباط المقصود بها، وكما توجد تنتفي،
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) أصول السرخسي (1\ 56) .
(3) حاشية ابن عابدين (4\ 502) .(76/341)
غير أن الشرع نزلها منزلة الأعيان في حق جواز العقد عليها رخصة، فتعين الاقتصار عليها، وعدم الحكم بأنها أموال قائمة بالأعيان (1) .
5 - أن المنافع لا وجود لها، وإنما يقدر وجودها في الإجارة ونحوها؛ لأجل تصحيح العقد عليها (2) .
تنبيه: قد يرد في بعض كتب الحنفية ما يشعر أن المنفعة مال عندهم؛ فمن ذلك ما جاء في العناية شرح الهداية في سياق صلاحية المنافع لتكون أجرة إذا اختلف جنس المنافع؛ كما إذا استأجر سكنى دار بركوب دابة قال: (لأنه عوض مالي فيعتمد وجود المال، والأعيان والمنافع أموال، فجاز أن تقع أجرة) (3) ولعل هذا من قبيل التجوز. وأن مراده أن المنفعة شيء يصلح ليكون ثمنا ومثمنا في الإجارة كما صرح به في سياق كلامه يؤيد ذلك موافقته صاحب الهداية حين صرح بنفي المالية عن المنافع في باب الوصية بالسكنى والخدمة والثمرة (4) .
__________
(1) تخريج الفروع على الأصول ص (226) .
(2) مغني المحتاج (2\ 2) ، وأصول السرخسي (1\ 56) .
(3) العناية شرح الهداية (9\63) . وراجع مسألة استئجار المنفعة بالمنفعة في: بدائع الصنائع (4\ 194) .
(4) العناية شرح الهداية (10\ 487) . وراجع: ضمان المنافع للدبو ص (253) .(76/342)
الرأي الثاني: أن المنافع أموال بذاتها: وهو مذهب الجمهور من(76/342)
المالكية والشافعية والحنابلة وقسموا الأموال إلى أعيان ومنافع:
قال الزنجاني: (معتقد الشافعي - رضي الله عنه-: أن منافع الأعيان بمنزلة الأعيان القائمة في المالية ... وهي أموال متقومة؛ فإنها خلقت لمصالح الآدمي، وهي غير الآدمي) بل إنه قال بأن إطلاق لفظ المال على المنافع أحق منه على العين؛ لأن الأعيان لا تسمى مالا إلا لاشتمالها على المنافع، ولذلك لا يصح بيعها بدونها. والقول بمالية المنافع هو لازم رأي زفر من الحنفية؛ حيث قال بأن المنافع متقومة بأنفسها ومضمونة بجميع قيمتها بمنزلة الأعيان، مخالفا أصحابه في ذلك (1) . ولعله راعى وقوع الملك عليها، وجواز المعاوضة عنها؛ مما يجعلها مالا من وجه، جاء في المبسوط في زكاة المال: (لأن المنافع مال من وجه، لكنه ليس بمحل لوجوب
__________
(1) بدائع الصنائع (4\ 218) .(76/343)
الزكاة فيه ... ) (1) .
مع أن بعض الشافعية يرى أن إطلاق اسم المال على المنافع إنما هو من باب المجاز، لا الحقيقة؛ قال الشربيني: (المنافع ليست أموالا على الحقيقة بل ضرب من التوسع والمجاز، بدليل أنها معدومة لا قدرة عليها، ولهذا اختلف العلماء في صحة العقد عليها، فقد منع جماعة صحة الإجارة، وأنه لو حلف شخص لا مال له وله منافع يحنث (2) على الصحيح؛ كما قاله الرافعي، وأنه لو أقر بمال ثم فسره بمنفعة لم يقبل، كما دل عليه كلام الرافعي أيضا، وقولهم في الوصية: إن الوصية تحسب قيمتها من الثلث، معناه: أنها كالمال المفوت، لا أنها في نفسها مال؛ لأنها لا وجود لها، وإنما يقدر وجودها لأجل تصحيح العقد عليها) (3) وجاء مثل هذا في المنثور للزركشي (4) . ونحو هذا ما جاء في المبسوط للسرخسي في باب زكاة المال: (وفي الأجرة ثلاث روايات عن أبي حنيفة -رحمه الله تعالى-: في رواية جعلها كالمهر لأنها ليست ببدل عن المال حقيقة؛ لأنها بدل عن المنفعة، وفي رواية جعلها كبدل ثياب البذلة؛ لأن المنافع مال من
__________
(1) المبسوط (2\ 196) .
(2) هكذا هي في المطبوع وصوابها: لا يحنث. وهي في المنثور للزركشي (3\ 197) : (لا يحنث) .
(3) مغني المحتاج (2\2) .
(4) المنثور في القواعد للزركشي (3\ 197) .(76/344)
وجه لكنه ليس بمحل لوجوب الزكاة فيه ... ) (1) .
والذي يظهر لي أن ما ذكروه من أمثلة ليس المؤثر فيه الحقيقة والمجاز في اللغة، بل هو اختلاف الحقيقة عرفا، فقد يتعارف الناس على خروج المنفعة عن مسمى المال، وعلى حسب عرفهم تفسر ألفاظهم في الأيمان والوصايا والإقرارات ونحوها مما عماده الألفاظ. وهذه القاعدة -أعني قاعدة حمل ألفاظ الناس على أعرافهم وتقرير موجباتها بناء على العرف- قد أكد عليها جمع من العلماء المحققين، وذكروا أن العرف قرينة تصرف اللفظ، بناء على أن العرف اصطلاح حادث طرأ على أصل اللغة، فهو مقصود المتكلم عند الإطلاق، ما لم ينص على خلافه.
يدل على ذلك: أنه مع تسليم الحنابلة بدخول المنافع في مسمى المال نجد الفتوحي -رحمه الله- يعرف البيع في المنتهى بقوله: (مبادلة عين مالية، أو منفعة مباحة مطلقا، بإحداهما، أو بمال في الذمة ... ) ويقول في الشرط الثالث من شروط البيع: (كون مبيع مالا؛ وهو ما يباح نفعه مطلقا واقتناؤه بلا حاجة) (2) ويعلق
__________
(1) المبسوط (2\ 196) .
(2) منتهى الإرادات للفتوحي تحقيق: عبد الغني عبد الخالق (1\ 255 و256) .(76/345)
في معونة أولي النهى بأن ذلك يشمل صورا (هي مبادلة عين مالية بعين مالية، ومبادلة عين مالية بمنفعة مباحة، ومبادلة منفعة مباحة بعين مالية، ومبادلة منفعة مباحة بمنفعة مباحة ... ) (1) ، وهم يريدون بذلك الإطلاق العرفي، بدليل استدراك البهوتي في كشاف القناع على الحجاوي في قوله: (أن يكون المبيع والثمن مالا، وهو ما فيه منفعة لغير حاجة، أو ضرورة) فقد علق عليه البهوتي بقوله: (كان ينبغي أن يقال هنا: كون المبيع مالا، أو نفعا مباحا مطلقا، أو يعرف المال بما يعم الأعيان والمنافع) (2) فهو يفيد تسليم عمومه فيهما، وإن ظهر من تعبيراتهم التغاير بين المال والمنفعة.
استدل الجمهور القائلون بأن المنفعة مال بأدلة منها:
1 - أن المنفعة ينطبق عليها وصف المال، فإن المال اسم تميل إليه النفس مما خلق لمصالحنا، والمنافع كذلك.
2 - صلاحية المنفعة شرعا لأن تكون مهرا في النكاح، ولم يشرع ابتغاء النكاح إلا بالمال؛ قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (3) فدل على مالية المنفعة. ودليل صحة جعلها مهرا أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا بما معه
__________
(1) معونة أولي النهى (4\ 7) .
(2) كشاف القناع (3\ 1405) .
(3) سورة النساء الآية 24(76/346)
من القرآن وكذلك قصة موسى مع صالح مدين حين قال لموسى - عليهما السلام-: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} (1) الآية.
3 - أن الشارع قد جعل المنفعة مقابلة بالمال في عقد الإجارة، وهو من عقود المعاوضات المالية.
4 - أن الأعيان إنما تقصد وتعتبر أموالا لا لذاتها، بل لما تشتمل عليه من المنافع، فالمنافع هي الغرض المقصود من جميع الأعيان في عرف الناس ومعاملاتهم، فكيف لا تعتبر بنفسها أموالا.
5 - أن في عدم اعتبارها أموالا تضييعا لحقوق الناس، وإغراء للظلمة في الاعتداء على منافع الأعيان التي يملكها غيرهم، وفي ذلك من الفساد والجور ما يناقض مقاصد الشريعة وعدالتها.
__________
(1) سورة القصص الآية 27(76/347)
الترجيح:
الذي يترجح -في نظري- إنما هو رأي الجمهور القائلين بمالية المنافع؛ لقوة أدلتهم، وموافقتهم لعرف الناس ومعاملاتهم، مما يتمشى مع الأصل في المعاملات، وهو الحل والتسير.
ومما يدل على قوته: أن العقد يرد عليها، وتصير مضمونة به حتى عند المخالفين، وهذا آية ماليتها؛ إذ لو لم تكن مالا في ذاتها لما صارت مالا بالعقدة لأن العقود لا تقلب حقائق الأشياء، بل تقرر خصائصها.
ثمرة الخلاف في مالية المنافع:
يترتب على الخلاف في مالية المنافع الخلاف في فروع؛ منها:
1 - أن منافع العين المغصوبة مضمونة بالفوات والتفويت، فإذا غصب رجل دارا وسكنها سنين وجبت عليه أجرتها لصاحبها عن هذه السنين عند الجمهور من الشافعية والحنابلة، أما عند الحنفية: فلا أجرة عليه؛ لأنها كانت في ضمانه فله خراجها، ولأنه هو الذي صيرها مالا بالعقد عليها؛ لأن المنافع لا تكون مالا إلا بالعقد عليها -كما مر- ومن صير ما ليس بمال من ملك الغير مالا بفعله كان ذلك المال له، وعن الإمام مالك روايتان كالرأيين.(76/348)
2 - أن المنافع يجوز أن تكون صداقا عند الجمهور ولا يجوز جعلها صداقا عند الحنفية لقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (1) والمنافع لا يتأتى فيها الإعطاء والأكل، واستدلوا أيضا بقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (2) والمنافع ليست مالا (3) . وقد استدل الجمهور بهذه الآية أيضا مع ما ورد من إنكاح النبي صلى الله عليه وسلم الرجل بما معه من القرآن وبقصة صالح مدين مع موسى - عليه السلام- كما مر بيانه آنفا.
3 - أن الشقص الممهور يأخذه الشريك بالشفعة عند الجمهور بمهر المثل. وكذلك إذا جعل بدل خلع فإن الشريك يأخذه
__________
(1) سورة النساء الآية 4
(2) سورة النساء الآية 24
(3) أحكام القرآن للجصاص (2\ 203) .(76/349)
شفعة بمهر المثل عند الجمهور؛ لأن البضع منفعة متقومة، وقيمته مهر المثل، وأما عند الحنفية فلا تثبت فيه الشفعة؛ لأن منافع البضع ليست بمال عندهم.
4 - أن شهود الطلاق بعد الدخول إذا رجعوا غرموا مهر المثل عند الجمهور، بناء على أن منفعة البضع مال متقوم شرعا، ولا يغرمون عند الحنفية؛ لأن منفعة البضع في نفسها ليست مالا، والمهر قد تأكد بالدخول. ولذا قال الحنفية إنهم إذا شهدوا عليه بالطلاق قبل الدخول ثم رجعوا غرموا نصف المهر؛ لأنهم قرروا عليه مالا كان على شرف السقوط (1) وبمثل قول الحنفية في هذه المسألة قال الحنابلة في الصحيح من المذهب، والرواية الأخرى عن أحمد: أنهم يغرمون المهر كله، وصوبه المرداوي (2) .
5 - إذا مات المستأجر قبل انتهاء المدة فهل ينفسخ عقد الإجارة؟ قال الحنفية بانفساخه؛ لأن منافع المأجور ليست مالا فتورث، ولأن الوراثة خلافة عن الميت، ولا تتصور إلا فيما يبقى في حياة المورث والوارث معا حتى تتحقق الخلافة، وليست المنافع
__________
(1) تخريج الفروع على الأصول ص (228، 229) ومختصر القدوري (4\ 74، 75) والمهذب (2\ 341) .
(2) المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف (30\ 68، 69) .(76/350)
كذلك.
6 - إذا حلف شخص لا مال له، وله منافع، يحنث عند الجمهور، خلافا للحنفية (1) .
7- لو أقر بمال مجملا، ثم فسره بمنفعة، هل يقبل تفسيره أو لا؟ رأيان (2) .
__________
(1) مغني المحتاج (2\2) .
(2) المصدر السابق.(76/351)
المبحث الثالث: في مالية الآدمي
للآدمي خصوصية عن غيره؛ حيث يجب شرعا تكريمه باعتباره إنسانا، بصرف النظر عما يتصف به من ذكورة أو أنوثة، ومن حرية أو رق، ومن صغر أو كبر، بل ومن إسلام أو كفر (1) . وذلك عملا بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (2) وهذا التكريم له عدة مظاهرة منها: تكريم بني آدم بالعقل والتمييز، ومنها تكريمهم بحسن الخلق والنطق، والتقويم، ومنها: أن الله عز وجل قد سخر لهم غيرهم من المخلوقات في الجملة، وسلطهم عليها، ومن ذلك ما ذكره
__________
(1) الموسوعة الكويتية (1\ 95) .
(2) سورة الإسراء الآية 70(76/351)
القرطبي: (لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان) .
لذلك كان الأصل في الآدمي أن يكون هو المالك للمال، لا أن يكون هو المال، وقد سخر الله تعالى له ما في الأرض جميعا، ولكن لما كان يقع عليه بالرق الملك، والتقوم، والإحراز، والتمول، وهي من خصائص المال، شابه الحيوان والمتاع في ذلك، فصار له شبهان مختلفان حكما، هما: المالية، والآدمية. فوقع عند الفقهاء الكلام في ماليته، رغبة في مراعاتها مع مراعاة بقاء التكريم الذي ذكرناه آنفا عملا بالشبهين جميعا.
لذا فقد اتفق الفقهاء -رحمهم الله تعالى- على أن الآدمي الحر ليس بمال وتواترت عباراتهم في ذلك، وقد جاء الوعيد الشديد فيمن تمول حرا وباعه وأكل ثمنه، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر،(76/352)
ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره (1) » .
وذهب بعض أهل العلم في قول مهجور إلى أن الحر يباع في الدين؛ فقد جاء في فتح الباري: (وروى ابن أبي شيبة ... ومن طريق زرارة بن أوفى أحد التابعين أنه (أي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-) باع حرا في دين، ونقل ابن حزم أن الحر كان يباع في الدين حتى نزلت: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2) ونقل عن الشافعي مثل رواية زرارة، ولا يثبت ذلك أكثر الأصحاب، واستقر الإجماع على المنع) (3) .
وقد كان في شريعة يعقوب -عليه السلام- أن السارق الحر يدفع إلى المسروق منه فيكون رقيقا له، كما قال تعالى: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} (4) .
ثم اختلفوا في مالية الآدمي الرقيق:
فذهب جمهور الفقهاء إلى أن الرقيق مال متقوم كغيره من
__________
(1) صحيح البخاري -كتاب البيوع- باب إثم من باع حرا (4\ 417) برقم (2227) .
(2) سورة البقرة الآية 280
(3) فتح الباري (4\ 418) .
(4) سورة يوسف الآية 75(76/353)
الأموال.
واحتجوا بأن المالية تتبع التقوم والإحراز على وجه التمول، وذلك موجود في الرقيق، فيكون مالا، كالبهيمة والمتاع.
وقال بعض الحنفية: إن الرقيق وإن كان فيه معنى المالية لكنه ليس مالا حقيقة.
واحتجوا بما يلي:
1 - أن المال إنما خلق لمصالح الآدمي، فلا يكون الآدمي بنفسه مالا.
2 - أنه لا يجوز قتل العبد وإهلاكه. وهذا دليل على عدم ماليته (1) .
ولا شك عندي في رجحان ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، فإن أهم أمارات المالية الانتفاع والتقوم والمعاوضة، وهي قائمة في الرقيق، ولا يتعارض هذا مع تكريمه لآدميته، وتسخير سائر ما في الأرض له. وأما ما احتج به الآخرون من أنه لا يجوز قتل العبد وإهلاكه، وأن هذا أمارة عدم ماليته؛ فغير مسلم؛ لأن القتل والإهلاك ليس انتفاعا، والانتفاع يعتبر في كل مال بما يصلح له، ولا يجوز إهلاك
__________
(1) البحر الرائق (5\ 277) .(76/354)
شيء من المال بلا انتفاع أصلا، لا في العبد، ولا في البهيمة، ولا في غيرهما، إلا بسبب موجب. وعليه: فمنع قتل العبد وإهلاكه ليس دليلا على عدم ماليته (1) .
أثر الحلاف في مالية الآدمي:
ما ذكره الفقهاء في هذه المسألة له أثر في مسائل عديدة في أبواب الفقه تتأثر به، فمن هذه المسائل:
أولا: من سرق حرا هل يقطع؟
أما الحر الكبير فلا يقطع بسرقته بالإجماع لأنه ليس بمال (2) ، وأما الحر الصغير: فاختلف فيه على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن سارقه لا يقطع أيضا وعللوا ذلك بأنه ليس بمال، ولا يؤثر عدم تمييزه؛ كالكبير النائم. وبه قال بعض المالكية (3) .
القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن سارق الحر الصغير يقطع.
__________
(1) راجع: رد المحتار (4\ 502) .
(2) راجع: المغني (12\ 422) ، والمحلى (11\ 337) ، ومختصر القدوري (3\ 204) .
(3) راجع: المغني (12\ 422) ، والمحلى (11\ 337) ، ومختصر القدوري (3\ 204) .(76/355)
وذكره أبو الخطاب رواية عن أحمد (1) . واستدلوا بما يلي:
1 - ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- «أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له أن رجلا يسرق الصبيان فأمر بقطعه (2) » .
2 - أنه حيوان غير مميز سرق من حرز مثله فيقطع سارقه؛ كالبهيمة، ولكن استدلالهم هذا غير مسلم فإنه يفارق البهيمة في أهم مقومات القطع وهو المالية فهو ليس مالا.
وأما الحديث الذي استدلوا به فهو ضعيف. فهو من رواية عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة بن الزبير عن هشام بن عروة، وقد نقل البيهقي عن أبي الحسن الدارقطني قوله: (تفرد به عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة عن هشام بن عروة، وهو كثير الخطأ على هشام، ضعيف الحديث) وكذلك ساقه ابن حزم سياق من يضعفه؛ فقد قال: (وقد جاء في هذا أثر لا علينا أن نذكره لأن الحنيفين يأخذون بأقل منه إذا وافقهم) ثم ذكره (3) .
كما يجاب بأنه عام ليس فيه تخصيص حر من عبد، فلعله -على فرض صحته- يحمل على من يسرق الصبيان الأرقاء،
__________
(1) المعونة (3\ 1420) ، وبداية المجتهد (2\ 552) ، والمغني لابن قدامة (12\ 442) .
(2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى -كتاب السرقة- باب ما جاء في من سرق عبدا صغيرا من حرز (8\ 268) ، وابن حزم في المحلى (11\ 337) .
(3) المحلى (11\ 337) . وانظر: مغني المحتاج (4\173) .(76/356)
وإخراج البيهقي له في (باب ما جاء في من سرق عبدا صغيرا) يدل على أنه يراه كذلك، والله تعالى أعلم.
وهنا أنبه إلى أن من الفقهاء من لم يعتبر المالية في المسروق شرطا؛ بل اعتبر تعلق النفوس به كافيا لقطع يد سارقه. ومنهم ابن العربي المالكي حيث قال -بعد أن ذكر تعليل المانعين لقطعه بأنه ليس بمال-: (قلنا: هو أعظم من المال ولم يقطع السارق في المال لعينه؛ وإنما لتعلق النفوس به وتعلقها بالحر أكثر من تعلقها بالعبد) (1) .
ثانيا: من سرق عبدا هل يقطع؟
أما العبد الصغير فذهب عامة أهل العلم إلى أن من سرقه فعليه القطع، وحكى بعضهم الإجماع على ذلك؛ وذلك لأن سارقه سارق مال مملوك تبلغ قيمته نصابا، فوجب القطع عليه؛ كسائر الأموال.
وذكر عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة أنه استحسن أنه لا يقطع سارق العبد الصغيرة لأنه آدمي من وجه مال من وجه، ولأن من لا يقطع بسرقته كبيرا لا يقطع بسرقته صغيرا كالحر (2) .
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي (2\ 609) .
(2) الهداية (2\ 121) .(76/357)
ونوقش ذلك: بأنه يفارق الحر فإن الحر ليس بمال ولا مملوك، ويفارق الكبير لأن الكبير لا يسرق ما دام عقله معه؛ وإنما يخدع بشيء أو يكون مطيعا لسارقه (1) .
وعليه فالراجح رأي عامة أهل العلم بأن سارق العبد الصغير كسارق غيره من الأموال إذ لا فرق بين من يسرق عبدا صغيرا لا يميز وبين من يسرق بهيمة بجامع المالية وعدم التمييز، والله تعالى أعلم.
العبد الكبير: فإن سارقه لا يقطع؛ إلا أن يكون العبد الكبير مجنونا، أو نائما، أو أعجميا لا يميز بين سيده وبين غيره في الطاعة؟ فإن سارقه يقطع وفيما عدا ذلك لا يقطع؛ لأنه لا يمكن سرقته إلا بموافقته. وهذا هو الذي رأيته منصوصا لدى الفقهاء ولم أجد لهم رأيا يخالفه، إلا ما ذكره ابن رشد في بداية المجتهد أن رأي مالك فيه أن يقطع (2) ، ولكن الذي رأيته منصوصا في كتب المذهب خلافه.
ثالثا: إذا اعتدي على عبد بالقتل فهل يضمنه القاتل بقيمته بالغة ما بلغت، ولو زادت على دية الحر (3) ؛ باعتباره مالا متقوما؟
__________
(1) المغني، والمحلى. الصفحات السابقة.
(2) بداية المجتهد (2\ 552) .
(3) راجع: التلقين ص (509) ، وشرح الخرشي على مختصر خليل (8\94) .(76/358)
أما إن كانت قيمته لا تبلغ دية الحر؟ فإنه يضمن بقيمته بالإجماع (1) . وأما إذا بلغت قيمته دية الحر أو زادت عليها؛ فقد اختلفوا في ضمانه على قولين:
القول الأول: أنه يضمن بقيمته بالغة ما بلغت ولو زادت على دية الحر. وهذا هو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي يوسف -صاحب أبي حنيفة - لأن العبد مال متقوم فيضمن بكمال قيمته كالفرس.
القول الثاني: أنه لا يبلغ به دية الحر، وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن وحكاه أبو الخطاب رواية عن أحمد مراعاة لنقص العبد عن الحر، وأن التقدير في الحر ينبه إلى أن العبد لا يزاد عليه (2) وناقش الأولون هذا بأن بين الحر والعبد فرقا؛ من حيث إن ضمان الحر ليس بضمان مال، ولذلك لم يختلف باختلاف صفاته، بل فيه الدية المقدرة بالشرع مطلقا، وأما ضمان العبد فهو ضمان مال؛ يزيد بزيادة مالية العبد وينقص بنقصانها، فاختلفا (3) .
__________
(1) المغني (11\ 504) .
(2) اللباب شرح الكتاب (3\ 169) ، والمغني (11\ 505) .
(3) المغني (11\ 505) .(76/359)
وقد حدد أبو حنيفة ومحمد النقص بعشرة دراهم، فقالوا: إذا كانت قيمة العبد عشرة آلاف درهم أو أكثر؛ فإنه يضمن بعشرة آلاف إلا عشرة، وإذا كانت دية الأمة خمسة آلاف درهم فأكثر؛ فإنها تضمن بخمسة آلاف إلا عشرة؛ وذلك لأن دية الحر عشرة آلاف، ودية الحرة خمسة آلاف درهم عندهم (1) .
قلت: ولعل تحديد العشرة الدراهم هنا مبني على نصاب القطع في السرقة فإنه عندهم عشرة دراهم.
وبالتأمل في القولين يظهر لي رجحان رأي الجمهور، وأن العبد مضمون بالقيمة بالغة ما بلغت؛ كغيره من الأموال، وما ذكره الحنفية مجرد تعليل ضعيف لا يكفي لنقل العبد عن حكم جنسه.
رابعا: من القواعد المتفق عليها عند الشافعية: أن الحر لا يدخل تحت اليد، ولذا قالوا إن منفعة الحر مضمونة بالتفويت، فإذا قهر حرا وسخره في عمل ضمن أجرته.
ولكن جرى الخلاف عندهم في ثلاث مسائل تتعلق بمنافع الحر:
إحداها: لا تضمن منفعة الحر بالفوات تحت اليد، فلو قهر حرا، وحبسه، وعطل منافعه لم يضمن هذه المنافع على الأصح؛ لأن الحر لا
__________
(1) اللباب في شرح الكتاب (3\ 169) .(76/360)
يدخل تحت اليد، فمنافعه تفوت تحت يده؛ بخلاف المال.
وقال ابن أبي هريرة: يضمنها.
الثانية: لو استأجر حرا وأراد أن يؤجره هل له ذلك؟
قال الأكثرون منهم: له أن يؤجره، وقال القفال: لا يؤجره؛ لأن الحر لا يدخل تحت اليد، ولا تحصل منافعه في يد المستأجر ويدخل في ضمانه إلا عند وجودها.
الثالثة: إذا أسلم الحر نفسه للمستأجر ولم يستعمله المستأجر إلى انقضاء المدة التي استأجره فيها؛ هل تتقرر أجرته؟
الخلاف فيها كسابقتها للتعليل ذاته (1) .
ولكن خلافهم في المسائل الثلاث غير مبني على خلاف في القاعدة لديهم، بل هي متفق عليها. قال النووي: (ولم يجعلوا دخول الحر تحت اليد مختلفا فيه، بل اتفقوا على عدمه، ولكن من جوز إجارة المستأجر وقرر الأجرة بنى الأمر على الحاجة والمصلحة، وجعل الغزالي الخلاف في المسائل مبنيا على التردد في دخوله تحت اليد ولم نر ذلك لغيره) .
__________
(1) فتح العزيز (11\ 263) ، وروضة الطالبين (5\ 14) .(76/361)
خامسا: هل يجوز بيع لبن الآدمية إذا حلب؟
اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز بيع لبن الآدمية ولا ينعقد، وهذا مذهب الحنفية وبعض الحنابلة، وعللوا المنع: بأن اللبن ليس بمال؛ لأنه لا يحل الانتفاع به شرعا على الإطلاق، بل لضرورة تغذية الطفل فقط، وما حرم الانتفاع به إلا لضرورة لا يكون مالا، وما ليس بمال لا يحل بيعه، ولأنه جزء من الآدمية، والآدمي بجميع أجزائه محترم مكرم، وليس من الكرامة والاحترام ابتذاله بالبيع والشراء.
ولا فرق عند الحنفية -في ظاهر الرواية- بين لبن الحرة والأمة، بل لا يصح بيعهما. وذهب أبو يوسف إلى جواز بيع لبن الأمة دون الحرة؛ لأنه جزء من آدمي هو مال فكان محلا للبيع كسائر أجزائه. وهو رأي لبعض الحنابلة. وناقشه الحنفية بأن الجواز يتبع المالية، ولا مالية للإنسان إلا ما كان محلا للرق، وهو الحي، ولا حياة في اللبن؛ فلا يحل بيعه كالبول والدم (1) .
القول الثاني: أنه يجوز بيع لبن الآدمية إذا حلب؛ لأنه لبن
__________
(1) المصادر السابقة.(76/362)
طاهر منتفع به؛ ولأنه يجوز أخذ العوض عليه في إجارة الظئر فأشبه المنافع، وأنه لبن يباح شربه؛ فيباح بيعه قياسا على لبن الأنعام. وهذا مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، وعن أحمد رواية بكراهته.(76/363)
المبحث الرابع: في مالية الخمر والخنزير
يعتبر الحنفية الخمر والخنزير مالا. لكنهما في حق المسلم مال غير متقوم؛ لأنه لا يباح له شرعا الانتفاع بهما في حال السعه والاختيار، وفي حق غير المسلم مال متقوم؛ لأنه يتمولها، ولا يعتقد حرمتها، وذلك لأنه ليس من ضرورة التحريم سقوط المالية عندهم، بل سقوط التقوم، ومن ثم بنوا على ذلك وجوب ضمانهما للذمي؛ سواء أكان المتلف مسلما أو ذميا.
ولا يشكل على هذا ما جاء في البحر الرائق نقلا عن المحيط من أن الخمر ليس بمال (1) ، فقد أجاب ابن عابدين عنه بقوله: (وأما ما في البحر عن المحيط من أنه غير مال فالظاهر أنه أراد بالمال المتقوم
__________
(1) البحر الرائق (5\277) .(76/363)
توفيقا بين كلامهم) (1) ، وذلك أن التقوم عندهم من شرطه المالية وإباحة الانتفاع فكل متقوم مال دون العكس.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخمر والخنزير ليسا بمال؛ لأن من شرط المالية عندهم إباحة الانتفاع المطلقة في حال الاختيار والاضطرار. وعليه فلا يصح بيعهما. لكنهم مع ذلك أوجبوا على من غصبها من ذمي أن يردها عليه بعينها -إن بقيت عينها- أما إن أتلفها على صاحبها الذمي فلا ضمان عليه، لا بمثلها ولا بقيمتها، عند الجمهور من الشافعية والحنابلة وبعض المالكية، وذهب الإمام مالك إلى أنه يضمنها للذمي بقيمتها، سواء كان المتلف مسلما أم ذميا. كما أوجب الشافعية ردها على صاحبها المسلم إن كانت محترمة وهي التي عصرت من غير قصد الخمرية (2) .
لكنهم مع ذلك لا يوجبون حد السرقة على من سرق خمرا، وخنزيرا؛ لأنهما ليسا بمال (3) .
__________
(1) رد المحتار (4\ 503) .
(2) روضة الطالبين (5\ 17) ، ومغني المحتاج (2\ 285) .
(3) مغني المحتاج (4\ 160) ، ومعونة أولي النهى (8\ 464) .(76/364)
ومما يجدر التنبيه إليه: أن الخمر والخنزير ليسا على درجة واحدة في المالية عند الحنفية، بل هي في الخمر أقوى منها في الخنزير؛ وذلك لأن الخمر كان عصيرا قبل التخمر، وهو بعرضية العود إلى الحل بالتخلل، بخلاف الخنزير فإنه ليس ذلك.
وبنوا على ذلك أن العاشر المسلم إذا مر عليه التاجر الذمي بالخمر والخنزير للتجارة فإنه يعشر الخمر من قيمتها دون الخنزير على ظاهر الرواية عندهم؛ لما مر، ولأن حق الأخذ للحماية، والمسلم يحمي خمر نفسه للتخليل فكذا يحميها على غيره، ولا يحمي خنزير نفسه بل يجب تسييبه بالإسلام فكذا لا يحميه على غيره (1) .
__________
(1) المبسوط (2\ 205) ، والهداية (1\ 107) .(76/365)
المبحث الخامس: في مالية الكلب
اختلف الفقهاء في مالية الكلب:
ذهب الحنفية إلى أن الكلب مال. قال الكاساني: (والدليل على أنه مال أنه منتفع به حقيقة، مباح الانتفاع به شرعا على الإطلاق، فكان مالا) (1) ، وهو رأي بعض المالكية (2) .
وذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة وبعض المالكية إلى أن الكلب ليس مالا، حيث فسر الحنابلة المال بقولهم: (ما فيه منفعة
__________
(1) بدائع الصنائع (5\ 143) ، وانظر: الهداية (2\ 121) .
(2) بداية المجتهد (2\ 151) ، والمعونة (2\ 1040) .(76/365)
مباحة لغير ضرورة) (1) أو: (ما يباح نفعه مطلقا واقتناؤه بلا حاجة) (2) قالوا: فيخرج الكلب؛ لأنه لا يباح اقتناؤه إلا للحاجة (3) . وكذلك جاء في شروط القطع في السرقة عندهم: (لا يقطع بسرقة كلب وإن كان معلما؛ لأنه ليس بمال) (4) ، والشافعية عللوا بتحريم بيعه وبنجاسته مطلقا (5) .
وقد انعكس هذا الخلاف على عدة فروع اختلف فيها الفقهاء بناء على هذا الخلاف، أو تأثرا به، فمن هذه الفروع:
أولا: بيع الكلب: حيث اختلف في حكم بيع الكلب المأذون في اتخاذه.
الرأي الأول: ذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة وبعض المالكية إلى حرمة بيع الكلب، وهو رواية عن الإمام مالك مستدلين بحديث أبي مسعود الأنصاري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) المقنع (2\ 5) .
(2) منتهى الإرادات (1\ 256) .
(3) معونة أولي النهى (4\14) ، والممتع في شرح المقنع (3\ 14) .
(4) معونة أولي النهى (8\ 460) .
(5) فتح الباري (4\ 426) ، ومغني المحتاج (2\ 247) ، وبداية المجتهد (2\ 151) .(76/366)
نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن (1) » .
وعلله آخرون بنجاسته، ومنهم الشافعية، وعلله آخرون كالحنابلة والمالكية بأنه لا يحل اقتناؤه واتخاذه إلا لحاجة، أي أن إباحته ليست مطلقة.
الرأي الثاني: ذهب الحنفية إلى جواز بيع الكلب. وهو رواية عن الإمام مالك؛ معللين ذلك بماليته قال الكاساني: (ولنا أن الكلب مال، فكان محلا للبيع كالصقر والبازي) .
ولأن الشارع قد أذن في اتخاذ الكلب لمنافعه الجائزة، وهو غير نجس عندهم، فكان حكمه حكم سائر المبيعات وعلله بعض المالكية أيضا بإباحة أكله، وهو أحد الرأيين في مذهب مالك.
__________
(1) صحيح البخاري -كتاب البيوع- باب ثمن الكلب (4\ 426) برقم (2237) ، وصحيح مسلم -كتاب المساقاة- باب تحريم ثمن الكلب (10\ 230) برقم (1567) .(76/367)
وأجابوا عن النهي الوارد في الحديث عن ثمن الكلب بأن الشارع قد نهى نهي تنزيه؛ لأنه ليس من مكارم الأخلاق، وأما التسوية في النهي بينه وبين مهر البغي وحلوان الكاهن، فهو محمول على الكلب الذي لم يؤذن في اتخاذه، وعلى تقدير العموم في كل كلب فالنهي في هذه الثلاثة (ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن) في القدر المشترك من الكراهة أعم من التنزيه والتحريم إذ كل واحد منها منهي عنه، ثم تؤخذ خصوصية كل واحد منها من دليل آخر، ولا يلزم من الاشتراك في العطف الاشتراك في جميع الوجوه وقد علمنا تحريم مهر البغي وحلوان الكاهن من الإجماع لا من مجرد النهي (1) . ومن أهم أدلة القائلين بعدم تحريم بيع الكلب ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- «أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيد (2) » وما روي من فعل عمر أو عثمان -رضي الله عنهما- أنه غرم رجلا عن كلب قتله عشرين بعيرا، ونحوها من الأحاديث والآثار.
__________
(1) المعونة (2\ 1040، 1041) ، والكافي لابن عبد البر ص (327) ، وفتح الباري (4\ 427) .
(2) سنن الترمذي -كتاب البيوع- باب ما جاء في كراهية ثمن الكلب والسنور (4\ 502) برقم (1299) قال الترمذي: (هذا حديث لا يصح من هذا الوجه وأبو المهزم (رواية عن أبي هريرة) اسمه يزيد بن سفيان وتكلم فيه شعبة بن الحجاج) .(76/368)
قال النووي -رحمه الله تعالى-: (كلها ضعيفة باتفاق المحدثين، وهكذا وضح الترمذي والدارقطني والبيهقي ضعفها، ولأنهم لا يفرقون بين المعلم وغيره؛ بل يجوزون بيع الجميع وهذه الأحاديث الضعيفة فارقة بينهما) (1) .
الترجيح:
نظرا للنهي الثابت في الحديث الصحيح عن ثمن الكلب فلا شك في رجحان قول الجمهور بعدم جواز بيعه، وهذا النهي باق لم يثبت دليل صحيح يصرفه عن ظاهره، بل كل ما تعلق به أصحاب الرأي الثاني القائلون بصحة بيعه آثار ضعيفة وتعليلات مردودة، والله تعالى أعلم.
ثانيا: ينبني على مسألة بيعه مسألة أخرى هي: هل يجب على من أتلف الكلب مباح النفع ضمانه بقيمته؟
اختلف الفقهاء في ذلك على الرأي الأول: أنه لا يلزم قيمة الكلب إذا أتلفه؛ لأنه ليس له عرض شرعي؛ لأنه لا يجوز بيعه، وقد ورد النهي عن ثمنه.
وهذا هو رأي الجمهور؛ من الشافعية، والحنابلة، ورواية عن الإمام مالك هي أصح الروايات عنه.
__________
(1) المجموع (9\ 229) ، وشرح النووي على صحيح مسلم (10\ 232) .(76/369)
الرأي الثاني: أن متلف الكلب المباح النفع يلزمه ضمانه بقيمته؛ بناء على ماليته، وجواز بيعه، فهو كغيره من الأموال المضمونة.
وهذا هو رأي أبي حنيفة ورواية عن مالك، وفي رواية ثالثة عن الإمام مالك أنه أوجب ضمانه بقيمته مع منع بيعه، وعلل إيجاب الضمان بأنه حيوان يصح الانتفاع به والوصية به، كالخيل والبغال، وأنه بهيمة يجوز الاصطياد به كالبازي، فصار مضمونا بالإتلاف ولو كان بيعه ممنوعا (1) .
والذي يظهر لي بعد التأمل في الأقوال ترجيح الرأي الأول، بعدم وجوب ضمان الكلب بقيمته على من أتلفه. وإن وجب عليه التعزير لتعديه، ومما يدل على رجحان ذلك أن الحنفية القائلين بوجوب الضمان على متلفه لم يجرؤوا على إيجاب القطع على سارقه، وذلك لعدم الاتفاق على ماليته؛ قال المرغيناني: (ولا -أي ولا قطع- في سرقة كلب ولا فهد؛ لأن من جنسهما يوجد مباح مرغوب فيه، ولأن الاختلاف بين العلماء ظاهر في مالية الكلب، فأورث شبهة ... ) (2) .
ثالثا: لو قال: له علي شيء، ثم فسره بكلب يحل اقتناؤه؛
__________
(1) المعونة (2\ 1041) ، والكافي لابن عبد البر ص (327) .
(2) الهداية (2\ 121) .(76/370)
كالكلب المعلم: فهل يقبل تفسيره:
لا يقبل تفسيره بذلك وهو موجه عند الشافعية، وقد علله في مغني المحتاج بقوله: (ليس بمال وظاهر الإقرار المال) ، والأصح عندهم قبول تفسيره بذلك؛ لصدق إطلاق الشيء عليه وكونه محترما يحرم أخذه ويجب رده، وهما وجهان عند الحنابلة أيضا أصحهما أنه لا يقبل (1) .
__________
(1) مغني المحتاج (2\ 247) ، والإنصاف (12\ 208) .(76/371)
المبحث السادس: في مالية الميتة والدم
اتفق الفقهاء على عدم مالية الميتة والدم، بل قال الكاساني:
(الميتة والدم ليسا بمال في الأديان كلها) ، وقال السرخسي: (الميتة والدم فذلك ليس بمال في حق أحد) وعليه: فقد اتفق الفقهاء على عدم جواز بيعهما، وعلى عدم ضمانهما على من أتلفهما، حتى الحنفية القائلون بأن حل الانتفاع ليس شرطا في المالية وإن اختلف تعليلهم لذلك: فعلله بعضهم بتحريمهما (1) ، وعلله آخرون بنجاستهما (2) . وعلله بعضهم بعدم النفع فيهما (3) ، وعلله بعضهم
__________
(1) المغني (6\ 358) .
(2) الوسيط (3\ 19) ، ومغني المحتاج (2\ 285) .
(3) معونة أولي النهى (4\ 16) .(76/371)
بعدم حل بيعه وأنه لا قيمة له (1) .
والذي يبدو لي رجوع هذه التعليلات كلها إلى علة واحدة هي: عدم ماليتهما -وهي العلة التي صرح بها بعضهم (2) - وإنما يختلفون في سبب انعدام المالية فيهما حسب ما ذكرته.
ولما كان انعدام المالية في الميتة والدم من كل وجه، وأنه ليس فيها أي شبهة للمالية عند الجميع؛ صارا بذلك أقل رتبة من الخمر عند من يجعل له شبهة المالية؛ لذا فقد جاء في المبسوط: (وإن وكله أن يعتقه على جعل (3) فأعتقه على خمر أو خنزير فالعتق جائز، وعلى العبد قيمة نفسه؛ لأنه امتثل أمره بما صنع، فإن العتق بالخمر لو باشره المالك كان عتقا بعوض لقيام شبهة المالية ... ولو أعتقه على ميتة أو دم لم يجز؛ لأن هذا العتق لو باشره المالك كان عتقا بغير عوض، إذ ليس في الميتة والدم شبهة المالية ... ) (4) .
وجاء فيه أيضا: (وبتخمر العصير لا تنعدم المالية، وإنما ينعدم التقوم شرعا ... ولهذا يكون مالا في حق أهل الذمة، فانعقد العقد بوجود ركنه في محله ... بخلاف البيع بالميتة والدم فذلك ليس بمال في
__________
(1) المغني (7\ 427) .
(2) بدائع الصنائع (7\ 167) ، والمبسوط (13\ 25) ، وروضة الطالبين (5\ 3) .
(3) أي وكل السيد رجلا أن يعتق عبده على جعل.
(4) المبسوط للسرخسي (19\ 97) .(76/372)
حق أحد؛ فلانعدام ركن العقد في محله لا ينعقد العقد) (1) .
__________
(1) المبسوط (13\ 25) .(76/373)
الخاتمة:
وفيها: أهم نتائج البحث:
وبعد هذا التطواف في نصوص الفقهاء وآرائهم المتعلقة بتعريف المال، وما يعد مالا وما لا يعد وفي خلافهم في مالية بعض الأشياء، فإن من أهم النتائج التي توصلت إليها ما يلي:
1 - أهمية مصطلح (المال) ، وكثرة تداوله وتداول مشتقاته لدى الفقهاء.
2 - مع هذا التداول الكبير لمصطلح (المال) فإن كثيرا من الفقهاء ليس لديه حقيقة تحديد واضح لمفهوم المال، بل تجد أن مفهومه يختلف؛ فيتسع في مقام، بينما يتحدد في مكان آخر، وفقا للباب الذي ورد استعماله فيه، ومما يؤكد ذلك أنك تجد كثيرا من الفقهاء لم يلتفت أصلا لتعريف المال؛ بوضع حد جامع مانع له، بل يورد هذه المفردة، وكأنها ذات مفهوم معهود في الذهن سلفا. ولقد واجهت صعوبة في جمع التعريفات الاصطلاحية له لندرتها. ولعل مرادهم أن يحيلوا مفهومه على العرف، باعتباره المعول عليه فيما لا حد له لغة ولا شرعا.
3 - مع ما سبق إلا أن بعض الفقهاء -وهم قلة- قد اهتم(76/373)
بذلك وحاول أن يعرف المال بتعريف حاصر جامع مانع، يميز المال عما يشبهه، ويجعل له مفهوما واضحا.
4 - بناء على اختلاف الفقهاء في مفهوم المالية، ومكونات هذا الوصف فقد اختلفوا في مالية بعض الأشياء، ومن أهمها: الدين والمنفعة، والآدمي الرقيق، والخمر والخنزير، والكلب، وبنوا على هذا الخلاف فروعا كثيرة مردها إليه، ومردها الأصلي إلى ما بني هذا الخلاف عليه في الأساس، وهو اختلافهم في معنى المال. وغالب هذه الاختلافات إنما هي بين الحنفية من جهة والجمهور من جهة أخرى لوقوع الاختلاف بينهم في اعتبار العينية، وإمكان الادخار، وحل الانتفاع شروطا في صفة المالية حيث ينفرد الحنفية باعتبار الأولين شرطين فيها، وبعدم اعتبار الثالث. وقد نقض الحنفية أصلهم في الثالث فقالوا بعدم مالية الميتة والدم لاعتبار آخر.
وما قدمت هنا إنما هو جهد المقل، وقد كان غايتي فيه الحق، فإن وفقت فبفضل من الله وتوفيقه، وله الحمد والشكر على كل حال، وإن كانت الأخرى فأنا للتقصير أهل، وأسأل الله عز وجل المغفرة.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(76/374)
بيان من المفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
حول التطاول على الرسول صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين، نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، بعثه للناس كافة عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} (1) ، وقال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (3) .
وأنزل عليه خير كتبه، القرآن الكريم، الذي هو معجزته الخالدة، كما قال تعالى:
__________
(1) سورة النساء الآية 170
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) سورة سبأ الآية 28(76/375)
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (1) ،
وتعهد الله بحفظه من أن تمسه يد التغيير والتبديل، حيث يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) ، ليبقى مشعلا مضيئا، تستهدي به البشرية في مسيرتها الدائمة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) .
وجعل اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته موجبا لمحبته سبحانه، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (4) .
وقرن طاعته بطاعته في الكثير من الآيات. كقوله سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (5) ، وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (6) ، وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (7) ، وغيرها من الآيات.
وأوجب محبته على الخلق كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} (8) ، وكما في الحديث الصحيح من «قول
__________
(1) سورة الإسراء الآية 88
(2) سورة الحجر الآية 9
(3) سورة الشورى الآية 52
(4) سورة آل عمران الآية 31
(5) سورة النساء الآية 80
(6) سورة النساء الآية 13
(7) سورة النساء الآية 69
(8) سورة التوبة الآية 24(76/376)
عمر رضي الله عنه: "يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال: فأنت والله يا رسول الله أحب إلي من نفسي، قال: الآن يا عمر (1) » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين (2) » متفق عليه.
وبمناسبة ما تناقلته وسائل الإعلام المختلفة عن إقدام بعض الحاقدين على الإسلام ونبي الإسلام عليه الصلاة والسلام على نشر صور وقحة، وتعليقات قبيحة مصاحبة لها في إحدى الصحف الصادرة في كوبنهاجن عاصمة الدانمارك زعم ناشروها أنها تمثل الرسول الكريم محمدا صلى الله عليه وسلم، وهي صور وتعليقات لا توجد إلا في مخيلة مروجيها ممن أكل الحقد والكراهية للإسلام ونبي الإسلام قلوب دعاتها.
ومعلوم أن أنبياء الله ورسله هم خير البشر، وهم الذين اختارهم الله لحمل رسالاته، وإبلاغها لعامة الخلق، فواجب الخلق تجاههم الإيمان بهم، ونصرتهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، وقبول ما جاءوا به من عند الله. قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (3) .
__________
(1) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6632) ، مسند أحمد (4/233) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (15) ، صحيح مسلم الإيمان (44) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5013) ، سنن ابن ماجه المقدمة (67) ، مسند أحمد بن حنبل (3/278) ، سنن الدارمي الرقاق (2741) .
(3) سورة البقرة الآية 285(76/377)
وقد أخبر سبحانه أن رسله منصورون بنصره. فقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (1) .
وإننا إذ نستنكر هذا البهتان العظيم الموجه لنبي الإسلام وخاتم النبيين عليه الصلاة والسلام لعلى يقين بأن الله سبحانه ناصر لنبيه، وخاذل لأعدائه، كما قال سبحانه: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (2) . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) . وقال سبحانه: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} (4) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} (5) ، وقال سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (6) ، وقال: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (7) . ووعده سبحانه حق، وقوله الصدق.
ومعلوم أن سب الرسول والاستهزاء به، انتهاك لحرمته، وتنقيص لقدره، وإيذاء لله ولرسوله ولعباده المؤمنين، وتشجيع للنفوس الكافرة والمنافقة على اصطلام أمر الإسلام، وطلب إذلال النفوس المؤمنة، وإزالة عز الدين، وإسفال كلمة الله. وهذا من أبلغ السعي فسادا، وقد أخبرنا الله سبحانه أن أعداءه سيواصلون شرهم وأذاهم،
__________
(1) سورة غافر الآية 51
(2) سورة التوبة الآية 40
(3) سورة التوبة الآية 61
(4) سورة الحجر الآية 95
(5) سورة الأحزاب الآية 57
(6) سورة المائدة الآية 67
(7) سورة الكوثر الآية 3(76/378)
وأمرنا بالصبر والمصابرة، فقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (1) .
ويجب على كل مسلم نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزيره وتوقيره، كما قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} (2) وتعزيره: يشمل نصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار.
ونظرا لما أثاره هذا الهجوم الوقح على نبي الإسلام عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، من ألم واستياء وأذى لجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فإني أدعو المسئولين في حكومة الدانمارك بأن تحاسب الصحيفة التي نشرت هذه الرسوم، وتلزمها بالاعتذار عن جريمتها النكراء، وتوقع الجزاء الرادع على من شارك في إثارة هذا الموضوع. فهذا أقل ما يطالب به المسلمون.
نسأل الله جلت قدرته أن يحفظ نبيه ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من كيد الكائدين، وعدوان المعتدين، وظلم الظالمين،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 186
(2) سورة الفتح الآية 9(76/379)
كما نسأله سبحانه أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، إنه على كل شيء قدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
المفتي العالم للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ(76/380)
صفحة فارغة PgPg 381
صفحة فارغة(76/380)
صفحة فارغة PgPg 382
صفحة فارغة(76/380)
حديث شريف
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه وإن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته (1) »
(رواه الإمام البخاري)
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6502) .(76/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} (1) {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (2) {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (3)
(سورة البقرة، الآيات 200 - 202)
__________
(1) سورة البقرة الآية 200
(2) سورة البقرة الآية 201
(3) سورة البقرة الآية 202(77/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(77/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا
مجلة البحوث(77/3)
المحتويات
* الافتتاحية *
خطبة عرفة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
*الفتاوى *
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 47
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 59
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 81
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 93(77/4)
البحوث
الوقف على القرآن لفضيلة الدكتور بدر بن ناصر البدر 109
وسيطة أهل السنة والجماعة وأثرها في علاج الغلو لفضيلة الدكتور علي بن عبد العزيز الشبل 163
تطبيق الشريعة الإسلامية ومعوقاتها لمعالي الدكتور \ محمد بن سعد الشويعر 195
حماية المجتمع المسلم من الانحراف الفكري لفضيلة الدكتور \ عبد الله بن عبد العزيز الزايدي 231
عمل المرأة والاختلاط وأثره في انتشار الطلاق لفضيلة الدكتور \عثمان جمعة ضميرية 345
صفحة فارغة(77/5)
صفحة فارغة(77/6)
خطبة عرفة (1)
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم.
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (2) .
اتقوا الله الذي أوجدكم من العدم، ورباكم بالنعم، وتكفل بأرزاقكم، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (3) .
__________
(1) خطبة عرفة لحج عام 1426 هـ.
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة هود الآية 6(77/7)
اتقوا ربكم الذي دبر شئونكم، وبرأكم بعد أن خلقكم، {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) .
اتقوا ربكم الذي أعزكم بالإسلام وجعلكم به خير الأنام، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (2) . أيها المسلم: تفكر في عظيم آيات الله، وفي عظيم مخلوقات الله؛ لتكون على يقين جازم من كمال صنع الله، ووجوب توحيده في عبادته، وأنه مستحق لها دون ما سواه.
واسمع الله يقول: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (3) {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (4) ، أفلا
__________
(1) سورة الحشر الآية 24
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) سورة البقرة الآية 163
(4) سورة البقرة الآية 164(77/8)
تتفكرون فيما حولكم؟ أفلا تتدبرون في ملكوت السماوات والأرض: السماء فوقكم من بناها؟ وبغير عمد ترونها من رفعها؟ كواكب ونجوم، شمس وقمر، شهاب ونجوم ثاقبة، كل في فلك يسبحون، من دبرها ونظم سيرها؟
الأرض التي أنتم عليها من خلقها وبسطها؟ خلق الجبال العظيمة ونصبها. أنزل الماء بانهمار من السماء، أنبع به العيون والآبار، شق البحار وأجرى الأنهار، خلق الإنسان من طين لازب، وخلق الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار.
من خلق المخلوقات على اختلاف أنواعها؟ من كور الليل على النهار؟ ألا هو العزيز الجبار، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (1) ، {فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (2) هو الله الذي لا إله إلا هو المبدئ المعيد، الرزاق ذو القوة المتين {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (3) .
الإقرار بربوبية الله على جميع خلقه أمر عام في البشر، لم يخالف
__________
(1) سورة الأنعام الآية 102
(2) سورة الأنعام الآية 102
(3) سورة يونس الآية 31(77/9)
فيه إلا شذاذ من البشر، حتى أعداء الرسل المكذبون لهم، قال الله عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (1) ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (2) ، كل ذلك مقرون به.
يا قوم: يا من توجهتم لضرائح الأولياء والصالحين:
أليس الله بأقرب لكم منهم؟
أليس الله بأرحم بكم منهم؟
أليس الله بأسمع لدعائكم منهم؟
أمركم أن تدعوه ووعدكم بالإجابة: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (3) ، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (4) .
هل تريدون منهم الشفاعة؟ فالشفاعة ملك لله تطلب من مالكها، {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} (5) ، والشافع لا يشفع إلا بعد رضا الله وإذنه، له أن يشفع له؛ أن يشفع لذلك الإنسان، {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (6) .
__________
(1) سورة الزخرف الآية 87
(2) سورة الزخرف الآية 9
(3) سورة غافر الآية 60
(4) سورة البقرة الآية 186
(5) سورة الزمر الآية 44
(6) سورة النجم الآية 26(77/10)
أتأملون فيهم دفع ضر أو جلب نفع؟ فذلك إلى الله وحده لا يملكه سواه {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} (1) .
يا إخواني، يا قوم: إن دعاء الأموات وسؤالهم الشفاعة، وجعلهم وسائط بينكم وبين الله، وإنزال الملمات، ودعائهم عند الشدائد والاستغاثة بهم، وتعلق القلوب بهم شرك؛ كله شرك بالله، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (2) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (3) .
يا قوم: إني أخاف عليكم التناد يوم يتبرأ كل معبود من عابده؛ {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} (4) .
وعدو الله إبليس قال الله عنه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 56
(2) سورة فاطر الآية 13
(3) سورة فاطر الآية 14
(4) سورة البقرة الآية 166
(5) سورة إبراهيم الآية 22(77/11)
ويتبرأ المسيح يوم القيامة من كل من عبده من دون الله، وألهه من دون الله قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (1) {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (2) .
وملائكة الرحمن يتبرءون من كل من عبدهم من دون الله، وعلق بهم الآمال من دون الله، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} (3) {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} (4) . أمة الإسلام: شهادة أن محمدا رسول الله فريضة لصحة الإيمان، فلا يصح إسلام عبد حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا
__________
(1) سورة المائدة الآية 116
(2) سورة المائدة الآية 117
(3) سورة سبأ الآية 40
(4) سورة سبأ الآية 41(77/12)
عبد الله ورسوله؛ خاتم أنبيائه ورسله، شهادة تقتضي طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا نعبد الله إلا بما شرع.
محمد صلى الله عليه وسلم بشرى عيسى عليه السلام، {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (1) .
هو دعوة إبراهيم حيث دعا لأهل البيت قائلا: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) .
هو منة الله على المؤمنين، {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (3) .
هو الشفيق على أمته، الحريص على هدايتهم، يعز عليه ضلالهم وعذابهم، حريص على هدايتهم، لا خير إلا دلهم عليه ولا شر إلا حذرهم منه - صلوات الله وسلامه عليه - {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (4) .
__________
(1) سورة الصف الآية 6
(2) سورة البقرة الآية 129
(3) سورة آل عمران الآية 164
(4) سورة التوبة الآية 128(77/13)
وضع الله عز وجل ببعثته الآصار والأغلال وكتب اسمه في التوراة والإنجيل، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (1) .
محمد رسول الله رفع الله قدره، وأعلى شأنه، ووضع وزره، وألزم الذل والصغار على من خالف أمره، {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (2) {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} (3) {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} (4) {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (5) ، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (6) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (7) {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (8) .
محمد صلى الله عليه وسلم الواسطة بيننا وبين ربنا في تبليغ شرع الله ووحيه، ولا سبيل لنا إلى الله وإلى جنته إلا من طريق هذا النبي الكريم.
محمد صلى الله عليه وسلم صلى عليه ربنا وملائكته وأمرنا بذلك فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (9)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة الشرح الآية 1
(3) سورة الشرح الآية 2
(4) سورة الشرح الآية 3
(5) سورة الشرح الآية 4
(6) سورة الكوثر الآية 1
(7) سورة الكوثر الآية 2
(8) سورة الكوثر الآية 3
(9) سورة الأحزاب الآية 56(77/14)
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك.
أمة الإسلام: شريعة الإسلام جاءت بتزكية الأرواح والأبدان، جاءت بعبادة قلبية وعملية وقولية، جاءت بتنويع العبادة ما بين فرائض ونوافل، عبادة بدنية أو عبادة مالية وعبادة مركبة منهما من مال وبدن، كل هذه الواجبات الشرعية لتعبيد الجوارح لله ولشكره على فضله وإحسانه.(77/15)
أمة الإسلام إن أعظم فريضة بعد التوحيد الصلوات الخمس هي الصلة بينك وبين ربك، هي عمود الإسلام، من حفظها حفظ دينه، رمن ضيعها فهو لما سواها أضيع، {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (1) ، حافظوا عليها جماعة في المسجد واركعوا مع الراكعين.
يا عبد الله: شأن الصلاة عظيم، افترضها الله على نبيه لما عرج به إلى السماء، كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يتردد إلى ربه، حتى أمضى الله فريضته وخفف على عباده، فهي خمس في العدد خمسون في الثواب.
__________
(1) سورة البقرة الآية 238(77/15)
يا عبد الله: احذر التخلف عنها، فإن المتخلف عنها قد وعد أعظم وعيد، {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (1) ، احذر التهاون فيها، قال عبد الله ابن مسعود: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق (2) .
يا عبد الله حافظ على هذه الصلوات فهي تنهاك عن الفحشاء والمنكر، نور بالوجه وسعة في الرزق، وسبب تنال بها رضا الرب. أيها المسلمون: الزكاة ثالث أركان الإسلام، وهي حق الله في المال، وهي حق أوجبه الله في أموال الأغنياء، الزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله.
أيها المسلم: أد الزكاة ففيها شكر نعمة الله عليك، وبها تعف إخوانك المستحقين وتواسيهم بذلك.
أخي المسلم: إن إخراجها كاملة سبب لتطهير المال وبركته، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (3) ، وهي حماية للمال من الآفات وسبب لبركته، «ما نقص مال من صدقة (4) » .
__________
(1) سورة مريم الآية 59
(2) رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى برقم (654) .
(3) سورة التوبة الآية 103
(4) سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر، برقم 2325، قال الشيخ الألباني: صحيح.(77/16)
فاحذر البخل بها والتهاون بها: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (2) .
الصيام عبادة بين العبد وبين ربه، تكفل الله بجزائه ولم يطلع عليه أحد من خلقه، «الصوم لي وأنا أجزي به (3) » ، وفي الجنة باب يسمى الريان يدخل منه الصائمون دون غيرهم.
أيها المسلم: عبادة الحج، الحج أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (4) ، وهو أحد الأركان الخمسة التي بني عليها ديننا.
أيها المسلم: في الحج انكسار بين يدي الرب وذل وخضوع له، في الحج التربية على التوحيد: (لبيك اللهم لبيك) ، في الحج إظهار لوحدة المسلمين ولشعائرهم ولمشاعرهم، فهم يرتدون لباسا واحدا يتنقلون بين هذه المشاعر في زمن واحد فلله الفضل والمنة.
أيها المسلم: كن صادقا في تجارتك، كن صادقا في بيعك وشرائك، فالصدق سبب للبركة والخير، والكذب سبب لمحق البركة،
__________
(1) سورة التوبة الآية 34
(2) سورة التوبة الآية 35
(3) رواه البخاري، كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم، برقم 1904، ومسلم، في كتاب الصيام، فضل الصيام برقم 1151.
(4) سورة آل عمران الآية 97(77/17)
في الحديث: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما (1) » .
أباح الله لنا ما في الأرض جميعا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (2) .
ومعاملاتنا الأصل فيها الحل إلا ما جاء تحريمه بعينه كالخمر والخنزير وأمثاله، أو لوصفه كالربا {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) ، وكالظلم للطرفين أو أحدهما {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (4) .
«ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر (5) » لما فيه من الجهالة والظلم.
ونهى الله عن الميسر والقمار وأمثاله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (6) .
__________
(1) صحيح البخاري: كتاب البيوع، باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا، برقم: 2079، ومسلم كتاب البيوع، باب الصدق في البيع والبيان، برقم 1532.
(2) سورة البقرة الآية 29
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة النساء الآية 29
(5) صحيح مسلم البيوع (1513) ، سنن الترمذي البيوع (1230) ، سنن النسائي البيوع (4518) ، سنن أبي داود البيوع (3376) ، سنن ابن ماجه التجارات (2194) ، مسند أحمد (2/496) ، سنن الدارمي البيوع (2563) .
(6) سورة المائدة الآية 90(77/18)
والمسلمون على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما.
أيها المسلم: اكتسب المال من حله، وأنفقه في محله، يا من ترعى الشركات المساهمة، يا من عهد إليك بإدارة أموال الناس، اتق الله في نفسك، واتق الله في أسرتك، واتق الله في المسلمين، فلا تضف إلى أموالهم أموالا خبيثة، ربا أو غيره من المكاسب الخبيثة، ففيما أباح الله لك غنى عما حرم الله عليك: «ومن يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله (1) » .
أيها المسلم: حافظ على أسرتك، واسمع نصيحة النبي حيث يوجهها إليك: «استوصوا بالنساء خيرا، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، استوصوا بالنساء خيرا (2) » ، فلن تبلغ بها الكمال لكن إياك والحماقة بأن تلجأ إلى الطلاق، فتقطع حبالا طالما وصلتها وتفرق أولادك وتهدم أسرتك.
احذر يا عبد الله الخصوم، واحذر أكل أموال الناس بالأقوال الكاذبة، والدعاوى الكيدية، احذر غضب الجبار وسطوته، وفي
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة برقم 1469، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر برقم 1053.
(2) رواه البخاري، كتاب النكاح، باب الوصاة بالنساء برقم 5186، ومسلم: كتاب الطلاق، باب الوصية بالنساء برقم 1468.(77/19)
الحديث: «من اقتطع شبرا ظلما من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين (1) » ، وفي الحديث: «من حلف على مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان (2) » .
أيها المسلم: إن للقضاء في الإسلام منزلة عظيمة وحصانة أكيدة ومرتبة رفيعة، فاحذر أن تسيء للقضاة، كيف وهم يحكمون بما أراهم الله من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالإساءة إلى هذا المنصب استخفاف بشرع الله، فاحذر أن تفتح على المسلمين باب الشر عصمنا الله وإياكم من كل بلاء.
أمة الإسلام: يا من وحد الله بالدين قلوبكم، يا من وحدكم على رسالته وشريعته، يا من جمعكم على رسول واحد وكتاب واحد، يا من أوجب عليكم الإيمان بمكونات هذه الوحدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (3) ، وحدتنا لم
__________
(1) رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين برقم 3198، ومسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، برقم 1610 واللفظ له.
(2) رواه البخاري، كتاب التفسير، باب: '' إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم '' برقم 4549، ومسلم كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار برقم 138.
(3) سورة النساء الآية 136(77/20)
تقم على أغراض دنيوية ولا على مطامع مادية، ولا على مصالح مشتركة متى تخلفت زالت عنها وحدتنا، كلا.
إنه دين ندين الله به، وفريضة افترضها الله علينا، وحدتنا قامت على قواعد راسخة، كتب الله لها الخلود والبقاء عزيزة منيفة، وحدتنا قوة صادقة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) ، وحدتنا على عقيدة ومنهج سليم على وفق الكتاب والسنة وما فهمه سلف هذه الأمة، وحدتنا ليست خيارا من خيارات، ولكنها تكليف وتشريف من الله لنا {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (2) .
لقد تخلف كثير من أمة الإسلام عن كثير من مجالات الحياة، وخضعوا لعدوهم المتسلط عليهم، وتكالب عليهم الطامعون، فما ذاك، إنما هو لبعد كثير من المسلمين عما أنزل الله فأضلهم الله وأذلهم، ولا طريقة لهم إلا الاجتماع على الحق، وأن تكون وحدة الأمة في سبيل ما ينزلها المنزلة اللائقة بها.
ولا بد للأمة من منظومة عسكرية واقتصادية وسياسية حتى تنهض من كبوتها وتتبوأ مكانتها {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (3) .
أيها المسلم: إسلامك ليس هوية تحملها، وليس اسما تتكلم به، ولا جماعة تنتمي إليها، كلا إنه دين الإسلام ربى أهل الطاعة على
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10
(2) سورة المؤمنون الآية 52
(3) سورة البقرة الآية 143(77/21)
الاستقامة باطنا وظاهرا {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (1) .
«وقال رجل: يا رسول الله قل لي في الإسلام كلمة لا أسأل أحدا عنه غيرك قال: " قل آمنت بالله ثم استقم (2) » .
إسلامنا لا يتوقف على مجرد النطق بالشهادة مع الركون عن العمل والوقوع في الموبقات؛ كلا إنه الكلمة الحقة مع الاعتقاد الجازم والعمل بالجوارح.
إن التزامك بفرائض الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وصوم وحج دليل على صحة إيمانك، والتزامك بأخلاق الإسلام دليل على كمال إيمانك.
أمة الإسلام: ديننا دين اتباع، تكفل الله بحفظه، ولم يكله إلى الناس، دين قائم على نصوص ربانية، وعلى أحاديث نبوية أصلها الوحي المعصوم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3) .
كانت الرسالات تنزل على أنبياء بني إسرائيل، تنزل مكتوبة من عند الله، أمر أتباعه بحفظها ورعايتها؛ ولكن سرعان ما ضيعوا وحرفوا، فجاءت أنبياؤهم لتصحح المعتقد والعبادة، حتى كان دور محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله في آخر الزمان برسالة كافة إلى جميع الأنام {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (4) ،
__________
(1) سورة فصلت الآية 30
(2) صححه الشيخ الألباني في الجامع الصغير برقم (4395) .
(3) سورة النجم الآية 3
(4) سورة سبأ الآية 28(77/22)
أرسله لعموم الخلق إنسهم وجنهم، عربهم وعجمهم، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (1) ، من أطاعه نجا، ومن تخلف عن شرعه هلك، وفي الحديث: «لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار (2) » .
ديننا ليس مجامع خاصة أو عامة، يقر فيها مجمع ما يخالفه الآخر، يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا، جعلوا لهم نصوصا أملوا عليها عهدهم وأمانتهم ثم سرعان ما نقضوها.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 1
(2) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، برقم 153.(77/23)
أمة الإسلام: دين الإسلام دين العدل والرحمة والإحسان، حرم الله الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما: «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما (1) » ، أمرنا برحمة الخلق والإحسان إليهم «الراحمون يرحمهم من في السماء، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء (2) » ، {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (3) .
__________
(1) رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم 2577.
(2) سنن الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة الناس، برقم 1924، قال الترمذي: حسن صحيح، قال الشيخ الألباني: صحيح.
(3) سورة الأعراف الآية 56(77/23)
جاء بقواعد العدل التي لو طبقها مجتمع ما، لا سيما مجتمع الإسلام عمهم خير عظيم وأمن عميم، كما كان ذاك في صدر هذه الأمة.
إن تشريعاته هي تشريعات رحمة، فهي آداب لا عذاب؛ ولكنها لحماية الصالح العام.
شرع الله القصاص لتأمين حياة بني الإنسان، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} (1) .
شرع الحد لقطع يد السارق {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) .
شرع حد الزنا الذي إذا انتشر في المجتمع أنهكه وأضعف قوته، وبالزنا تختلط الأنساب وتضيع الأولاد ويصبح بناء المجتمع هشا تكثر فيه الأمراض من الطاعون وغيره من الأمراض التي لم تكن في أسلافكم الماضين.
إن أحكام الإسلام موقوفة بضوابط شرعية قدرها العزيز الحكيم {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (3) ، ليس في ديننا
__________
(1) سورة البقرة الآية 179
(2) سورة المائدة الآية 38
(3) سورة الملك الآية 14(77/24)
تصرفات عشوائية، ولا منطلقات مادية ولا طائفية ولا قومية، السيادة في ديننا لهذا الدين، لهذا الدين وحده، ليس في ديننا تبرير لأي تصرف عشوائي أو أعمال إجرامية، فالفساد أو ما يسمى بالإرهاب محرم في شريعة الإسلام {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (1) ، وجزاؤه {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2) .
لقد جنى أقوام على الإسلام أعظم جناية حيث حصروا مصطلح مفهوم الإرهاب في هذا الدين وأهله، ولعمر الله إنهم ليعلمون قبل غيرهم أنهم لكاذبون، إن الأمم على اختلاف مللها لم تنعم بعدل كعدل الإسلام لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ودخل الناس في دين الله أفواجا مطيعين {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (3) ، ومن لم ينقد عقدوا معه عقد ذمة حماه المسلمون مما يحمون أنفسهم؛ حموا ماله ودمه وعرضه كما يحمون دماءهم وأموالهم وأعراضهم، أفبعد هذا يتهم الإسلام بالإرهاب، ويحارب المسلمون في كل مكان تحت ذريعة مكافحته؟ .
__________
(1) سورة البقرة الآية 205
(2) سورة المائدة الآية 33
(3) سورة البقرة الآية 256(77/25)
إن خروج فئة من الناس عن النظام العام، موجود في كل مكان، ألف أو عشرة آلاف من ألف مليون، أفلا يكون ذلك شذوذا {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) .
أمة الإسلام: ثوابتنا الشرعية يجب أن تحمى عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
إن هناك حربا عقدية فكرية ثقافية تشن على أهل الإسلام، تتستر تارة بمكافحة الإرهاب، وتارة بالتعامل مع الآخر، اصطلاحات جاءت للإسلام خضع لها بعض المسلمين ضعفا وخورا، والله يقول: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) ، الإسلام والكفر والبراء والولاء أسماء جاءت في كتاب ربنا:
- إن قوما حاولوا تحريف هذه الألفاظ وإخراجها عن معانيها.
- وتجاوز قوم فأخفوها.
- وبالغ آخرون فطالبوا بحذفها من كتاب الله.
إنه انهزام أمام تهاويل الشيطان، والله يقول: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 50
(2) سورة آل عمران الآية 139
(3) سورة آل عمران الآية 175(77/26)
أيها المسلمون: إن الدعوة لتمييع الدين، وإخراج الشرعية من معانيها، دعوة خبيثة ينقدها الإسلام، يريدون النيل من الإسلام، والله يقول: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) ، إن أهل كل دين؛ حتى الباطل له أناس يحبونه ويدافعون عنه، وأناس يبغضونه ويكفرون أهله: {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} (2) ، ولماذا اجتمع جالوت وطالوت كما أخبرنا الله؟ ولماذا قتل داود جالوت؟ أليس بسبب الكفر والإيمان؟ لماذا يا عباد الله عادى قوم فرعون موسى وجرد الجيوش لحربه؟ أليس ذاك بين الكفر والإيمان، وما شأن القرامطة وأخبارهم.
إن الله تعالى أخبر محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (3) ، نعم إن دعوته امتداد لدعوة إخوانه المرسلين، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (4) ، فالدعوة للتوحيد ودعوته لمحاربة الشرك، دعوة دعا إليها الأنبياء السابقون وهم الأنبياء صلى الله عليهم وسلم.
__________
(1) سورة الصف الآية 8
(2) سورة الصف الآية 14
(3) سورة الأحقاف الآية 9
(4) سورة الأنبياء الآية 25(77/27)
أيها المسلم: براءتي من المشرك، براءتي ممن عبد غير الله، براءتي ممن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم، هذا حق لا إشكال فيه، لكن عقيدتي التي أمرني الله بها أن أحب هذا الدين ومن والاه، وأن أعتقد براءتي من كل من خالفها ولست بظالم لأحد؟ ولكن تلك العقيدة التي ربانا عليها الإسلام.
هذا إبراهيم أبو الأنبياء، أبو إسحاق -أبو بني إسرائيل -، وإسماعيل وأبو سيد الأولين والآخرين، يقول الله عنه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1) .
أيها المسلم: وفي التأييد {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (2) {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (3) .
أمة الإسلام: إني أخاطب العقلاء والمفكرين، أخاطب كل عاقل مفكر، كل ذي رأي وكل متجرد منصف، أخاطبهم فأقول: إن هناك قضية ثابتة يقينية، قضية حقيقة ربانية هذا الدين الإسلامي،
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 4
(2) سورة المائدة الآية 55
(3) سورة التوبة الآية 71(77/28)
الذي كتب الله له الخلود والبقاء، هذا الدين الذي نزل من عند الله وتكمل الله بحفظه، وأخبر عن بقائه، إن قهر المسلمين وحربهم، ونصب العداء لهم، لن يؤثر ذلك في دينهم، كم كاد لهذا الدين أقوام فبادوا وبقي، كم حاربه الطغاة المجرمون فهلكوا وبقي، كم تآمرت عليه الشعوب والأمم وجردت لحربه الجيوش شرقا وغربا، فماذا كان؟ أصبحت أخبارهم تاريخا يتلى شاهدا على ظلمهم وجورهم، وعلى عز الإسلام وصفائه ونقائه.
نعم ظلم المسلمون، واغتصبت ديارهم، وغرت مناهجهم الدراسية، وبدلت أنظمتهم، وتسلط عليهم الإعلام الجاهل، وساعده بعض جهلة المسلمين على ذلك وماذا كان؟ حفظ الله هذا الدين، فهو محفوظ بحفظ الله، ومن نصر هذا الدين فهو منصور ولا يستحقه كل الخلق {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) .
جنوا على الإسلام تحت مسميات حقوق الإنسان تارة، أو حقوق المرأة أخرى، أو حرية الأديان، وكل ذلك تضييق لهذا الدين وحرب له.
فنقول لهم: هذا عبث، فيا من انزلقوا في هذا المرتع الوخيم أفيقوا فإنكم عابثون، ولأوقاتكم ولأموالكم مضيعون وجند الله هم الغالبون.
__________
(1) سورة محمد الآية 7(77/29)
أمة الإسلام: لقد شرق العالم وغرب في الاقتصاد، وأتوا بأنظمة سببت لهم الاضطراب، والوهن، والعجز، والقلاقل:
نظام أشاع الملكية بين الأفراد، ومنع الملكية الفردية، وتجارة العبد في ماله، وبعض هذا النظام قدر الله عليه الانهيار، حتى تفرقت دويلات.
وجاء نظام نفعي أباح للإنسان اكتساب المال من أي طريق، فانقسم الناس إلى غني غال في الغناء، وإلى فقير شديد في الفقر.
وجاء النظام الإسلامي العادل، نظام قوي متكامل، راعى فيه حب الفرد للمال؛ فأباح له التملك {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (1) ، أمره بطلب الرزق وجعل ذلك بفضل الله، فقال جل وعلا: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (2) ، أمره أن يجمع بين صالح دينه ودنياه، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (3) ، لم ينس الفقير فأوجب له في حق الأغنياء نصيبا يسيرا يواسون به الفقراء والمحتاجين.
إن التعامل بالربا أرقد اقتصاد العالم، وسبب له الانهيار والفساد، إن لم يتداركه عقلاء الناس، والإسلام حرم الربا وشدد في
__________
(1) سورة الفجر الآية 20
(2) سورة الجمعة الآية 10
(3) سورة القصص الآية 77(77/30)
تحريمه، وأباح المكاسب النافعة، كي لا يكون المال دولة بين الأغنياء.
أمة الإسلام: إن أمتنا تمر بظروف خطيرة، تداعت عليها الأمم، وتكاثرت عليها الغوائل، وكشف الأعداء عن وجه الكراهة، وكشروا أنيابهم، ليس الشأن في متحدث، ولا متحذلق يسرد أفكاره، ولا في منهزم يثبط الأمة ويجسد قوة غيرها، ولا في من يبدي التنازل تلو التنازل ويجعل دينه تبعا لدنياه، ولا من يجدد مواطن فردية ليكون بها متميزا عن غيره.
المهم قلوب مؤمنة، وعقول حكيمة متزنة، وأفئدة منضبطة، والتفاف العلماء مع حكامهم، وتقييم المصالح والمفاسد، وتقديم المصالح العليا للأمة على المصالح الشخصية.
المهم حماية المال العام، وكيان الأمة عسكريا ومدنيا واقتصاديا، والأخذ على أيدي العابثين، وأن تكون تصرفات الأمة فيما يخدم هذا الدين ويعلي شأنه.
أمة الإسلام: في القرون الثلاثة المتأخرة أذن الله بقيام هذه الدولة المباركة التي قامت على دعوة صالحة تعاون عليها من قيام مجتمعهم الإمام محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود رحمهما الله وجزاهما عما قدموا للإسلام خيرا.
دولة جعلت التوحيد أساس بنائها، وتحكيم شرع الله منهج حياتها، ونظامها، دولة رفعت توحيد الله فرفع الله ذكرها، وأعلت(77/31)
شأن الحق فأعلى الله شأنها، ومن تدبر فيها حقا علم أن التوحيد والدعوة إليه سبب الخير، وأن الله يوفق ويمكن لمن قام بهذا الواجب.
دولة على حداثتها هي محط أنظار الآخرين، ومحل ثقتهم، دولة حكمت بكتاب الله وجعلته أساس حكمها تعليما وطباعة، فاستفاد المسلمون في العالم كله خيرا.
أمة الإسلام: يا علماء المسلمين الحمل ثقيل، والأمانة عظمى، والناس بحاجة إلى شرع الله وبحاجة إلى معرفة الحلال من الحرام، ليقوموا على شرع الله ويجتنبوا ما حرم الله، اطرحوا خلافاتكم ووحدوا صفكم على الحق ليصدر الأمر عن رأي رشيد.
أيها المفتون: اتقوا الله فيما تقولون، انظروا فيما تفتون، واعلموا أن الله سائلكم عن ذلك {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1) ، اعتنوا بأمر العامة، واحرصوا على جمع كلمتهم وتعاونهم على البر والتقوى.
احرصوا على شباب الأمة فاحملوهم على المنهج الوسطي، وجنبوهم الغلو والجفاء.
احرصوا على نساء المسلمين، فلا تكونوا عونا للشيطان عليهن، ولا سببا لتحررهن على أخلاق دينهن.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 36(77/32)
أيها الشباب المسلم، يا شباب الإسلام: أنتم عدة المستقبل، وعليكم بعد الله تعلق الأمة آمالها، إن إسلامكم محارب منذ بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم آخر الزمان حكمة من الله {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (1) ، فكونوا سدا منيعا أمام مخططات أعداء دينكم، تسلحوا بالعلم النافع، تسلحوا بالعمل الصالح، وحدوا صفوفكم مع علمائكم وقادتكم، وحدوا صفوفكم مع قادتكم وعلمائكم.
يا شباب الإسلام: احذروا الغلو، احذروا التفجير والتهاون بالتفجيرات، فذلك إضعاف للأمة وسبب لتسلط العدو عليها، اربئوا بأنفسكم أن تكونوا سبب شر، كونوا أعضاء صالحين في مجتمعكم.
أنقذوا شبابكم من هذه الترهات، واحملوهم على الخير، وجنبوهم سبل الغواية، واهدوهم إلى طريق الله المستقيم.
يا رجال التربية والتعليم، برقابكم فلذات أكبادنا، وثمرات أفئدتنا، فاتقوا الله فيهم، علموهم دين الله، بصروهم بالحق، فدلوهم على الكتاب والسنة، جنبوهم يا عباد الله جنبوهم مناهج التكفير والتبديع، جنبوهم وسائل المرجفين، جنبوهم مناهج الغالين، دلوهم على الحق واحملوهم عليه، فإنهم أمانة في أعناقكم متى ربيناهم على
__________
(1) سورة الأنفال الآية 37(77/33)
الحق، وأودعنا في أفكارهم حب الإسلام وأهله.
وإن دين الإسلام ليس مانعا عن أي علم ينتفع به أبناؤنا؛ ولكن مع توسعنا وأخذنا بكل مقترح جديد، وأخذنا بكل نافع للأمة في دنياها، إلا أن ديننا يجب أن نحتفظ به وأن نشعر أبناءنا بأن هذه ضرورية لمجتمعنا.
أيتها المرأة المسلمة، احذري أن يخدعك الأعداء بزخارفهم ومغرياتهم، أتبغين بالإسلام بديلا؟ أتصدقين غير الله؟ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (1) ، ألم تسمعي الله يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (2) ، ألم تسمعي الله يقول: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (3) ، ألم تسمعي قول الله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (4) ، احذري أن تفتحي ثغرة فتعتدين.
إن حقك أيتها المسلمة ليس في حجاب تلغين، ولا في اختلاط مع الرجال في أي ميدان، ولا في ارتكابك لأي معصية، إنما حقك
__________
(1) سورة النساء الآية 87
(2) سورة الأحزاب الآية 33
(3) سورة الأحزاب الآية 59
(4) سورة النور الآية 31(77/34)
الصيانة، والإكرام، والتعليم، والالتزام بالشرع الذي به تحققين لمجتمعك الخير {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (1) .
أيها الإعلاميون، أيها الصحفيون، يا أصحاب القنوات الفضائية، يا أصحاب المنتديات، إن شأن الإعلام عظيم، وإنه لسلاح ماض {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (2) ، يا من ترعى المؤسسة الإعلامية، اتق الله وكن من المصلحين، واتق الله في هذا الدين.
رجال الإعلام، إن إعلام أعدائنا أجلب علينا في وسائل إعلامه، سواء كان مقروءا، أو مسموعا، أو مرئيا فضائيا، أو أرضيا تلفونيا، أو شبكيا، فكونوا عند مستوى المسئولية، وقاتلوا هذه الحملة الهمجية، فادعوا إلى الله وانشروا دين الله بين العالمين، دافعوا عن بلاد الإسلام وأوصلوا الحقائق للناس بغير تدليس ولا تلبيس فتكونوا من الصادقين.
يا قادة المسلمين، يا صانعي القرار في بلاد الإسلام، اتقوا الله في أنفسكم، اتقوا الله في دينكم، اتقوا الله في أمتكم، اتقوا الله في رعيتكم، فالله سائل كل راع عما استرعاه، إنكم ملاقو الله، والله مدقق عليكم مثاقيل الذر، فاتقوا الله في أمتكم، أمتكم تنتظر وقفات
__________
(1) سورة آل عمران الآية 195
(2) سورة البقرة الآية 220(77/35)
صادقة، فانصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، تحاكموا إلى شرع الله، وقربوا أهل الخير والصلاح والتقى، فأهل الإسلام أهل نصح للأمة وأهل شفقة عليهم وحب لهم، وغير المسلمين لهم مبادئ باطلة وغش وخيانة في الحاضر والمستقبل، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
«ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله (1) » ، «ومن صنع لكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم كافأتموه (2) » .
يا رجال الأمن، ويا قادة رجال الأمن، ويا قادة القطاع العام عسكريا أو مدنيا: أنتم على ثغر عظيم، أنتم تخدمون ضيوف الرحمن، احتسبوا ذلك عند الله، وجزاؤكم عند الله يوم لقاه، اصبروا على ما يحصل لكم من حر أو قر أو أي أمر قولي أو فعلي، فالله لا يضيع أجر من أحسن عملا، والصابرون يوفيهم جزاءهم بغير حساب، شكر الله سعيكم، وكتب أجركم.
دعاء وشكر للجنة العليا للحج، فأقول: شكر الله سعيكم، وكلل جهودكم بالتوفيق، فطالما درستم، وطالما جهدتم، وطالما
__________
(1) سنن الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك برقم 1954، 1955. وقال الشيخ الألباني: صحيح.
(2) سنن أبي داود، كتاب الزكاة، باب عطية من سأل بوجه الله عز وجل برقم 1672، وقال الشيخ الألباني: صحيح.(77/36)
سهرتم، وهانحن نجني ثمار جهودكم، واقتراحاتكم وتوجيهاتكم في نظام السير العام، فجزاكم الله عن الإسلام خيرا، وبلغكم الله فيما يرضيه آمالكم.
إنا نشكر لهذه الدولة الفتية، ما قامت به من جهود في سبيل راحة الحجاج، فمنذ أكثر من ثمانين سنة وهذه الدولة ترعى هذا الحج، وتشرف على الحرمين الشريفين، وكل عام وخدماتها ترتقي إلى مستوى أعلى مما كان قبله. فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا تتابع على هذا ملوك هذا البلد منذ الملك عبد العزيز طيب الله ثراه وغفر له ورحمه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا، وتعاقب بعد ذلك أبناؤه الملوك سعود وفيصل وخالد وخادم الحرمين فهد بن عبد العزيز، وعبد الله هذا الملك المبارك، كل أولئك لهم سجل حافل بما قدموه بخدمة الحجيج فرحم الله من مضى، وأصلح من بقي، ووفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه من الأقوال والأعمال.
اللهم يا حي يا قيوم، اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الفضل والإنعام، يا رب الأرباب، إلهنا وخالقنا ورازقنا، نسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك.(77/37)
نسألك يا ربنا باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، نسألك يا ربنا بكل وسيلة شرعتها للتوسل إليك، اللهم اغفر ذنوبنا، اللهم استر عيوبنا، اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، واجعلنا في هذا اليوم من الفائزين المقبولين.
اللهم اجعل حجنا مبرورا، وسعينا مشكورا وذنبنا مغفورا، اللهم لا تدع فينا شقيا ولا محروما، اللهم ارحمنا.
اللهم ارحمنا يوم العرض عليك بين يديك، إنك على كل شيء قدير.
اللهم اغفر لخادم الحرمين فهد بن عبد العزيز رحمه الله، اللهم اغفر له وارحمه، اللهم اغفر له وارحمه، وأدخله جنتك وأقل عثرته وضاعف حسناته، وجازه على ما قدم لأمته خيرا، اللهم اجعله آمنا من عذابك، اللهم افتح له في قبره ونور له فيه.
اللهم تابع رحماتك على خليفته عبد الله بن عبد العزيز خادم الحرمين، اللهم سدده في أقواله وأعماله، اللهم سدده في أقواله وأعماله واجعل له بطانة تخاف الله وتتقيه، وتسدي له النصح، اللهم اهده إلى السبيل الحميد والرأي الرشيد ووفقه لكل خير، وأعنه على ما أهمه من جمع كلمة الأمة.
اللهم وفق ولي عهده سلطان بن عبد العزيز بما تحبه وترضاه اللهم وفقه في رأيه وعمله، ومتعه متاعا حسنا إنك على كل شيء(77/38)
قدير.
عباد الله، حجاج بيت الله الحرام، احترموا البيت الحرام، واحترموا أمنه وطمأنينته، فذاك واجب شرعي {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) ، أنتم في هذه المشاعر المقدسة بجوار البيت العتيق، أنتم في يوم عرفة ذلك اليوم العظيم من أيام الله، فتقربوا فيه بطاعته ألحوا فيه من الدعاء والتضرع، فخير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قال النبي في يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
ما من يوم أكثر من أن يعتق فيه عبيده من يوم عرفة، وإنه ليبدو فيباهي بكم الملائكة، ينزل ربكم في هذا اليوم إلى سمائه الدنيا فيباهي بكم أهل السماء، يقول: «انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا، أشهدكم أني قد غفرت لهم (2) » .
اجتنبوا الرفث والفسوق والعصيان، فإنه ينقص الحج أو يفسده فالله يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (3) .
قفوا في عرفة إلى الغروب ولا تنصرفوا منها إلا بعد غروب الشمس اقتداء وتأسيا بسيد الأولين والآخرين، صلوا في عرفة الظهر
__________
(1) سورة الحج الآية 25
(2) مسند أحمد (2/305) .
(3) سورة البقرة الآية 197(77/39)
والعصر جمعا وقصرا كما نفعله إن شاء الله.
انصرفوا إلى مزدلفة في سكينة وصلوا بها المغرب والعشاء إذا وصلتم إليها، وبيتوا بها تلك الليلة إذا قدرتم، وصلوا بها الفجر وذاك أولى، وللعجزة والضعفة الانصراف بعد منتصف الليل.
ارموا يوم النحر جمرة العقبة، وانحروا هديكم، واحلقوا أو قصروا والحلق أفضل، وقد تحللتم من جميع ما حرم عليكم الإحرام إلا النساء.
ارموا في الحادي عشر الجمار الأولى والوسطى والعقبة بعد الزوال، ولكم من بعد زوال الشمس إلى طلوع الفجر من اليوم الآتي.
ارموا يوم الثاني عشر وانصرفوا إن تعجلتم، أو ارموا يوم الثالث عشر إن تأخرتم.
طوفوا طواف الإفاضة بالبيت، وإن جعلتموه طواف إفاضة ووداع فذاك حسن.
أيها المسلمون: اتقوا الله في أعمالكم، واتقوا الله في حجكم، واتقوا الله فيما تعاملون به.
اللهم احفظ علينا ديننا، اللهم احفظ علينا أعمالنا، اللهم وفق المسلمين لما يرضيك، اللهم أصلح حال المسلمين، اللهم أبدلهم بالضعف قوة وبالذل عزة وبالهوان هيبة، وبالافتراق جمعا على الكلمة.
اللهم ارحم المستضعفين في كل مكان، اللهم اجبر كسرهم،(77/40)
وارحم ضعفهم وأعنهم على كل خير.
اللهم خلص بلاد المسلمين من أعدائهم وأعدها عليهم أحسن ما يكون، اللهم خلص الأقصى من الأعداء الغاصبين وأعده إلى ولاية المسلمين.
اللهم وفق إخواننا في العراق لما يرضيك، اللهم هيئ لهم من أمرهم رشدا، اللهم أعنهم في أمورهم، وارزقهم قادة تحقن دماءهم وتحفظ أعراضهم وتكون أمانهم وتوحد أرضهم.
اللهم وفقهم لقيادة حكيمة رشيدة تخافك وترجوك، اللهم احقن دماءهم وأعراضهم وهيئ لهم من أمرهم رشدا، إنك على كل شيء قدير.
اللهم في هذا اليوم المبارك، يوم الاثنين اليوم الذي تعرض أعمالنا عليك نسألك أن تغفر لنا وترحمنا ووالدينا.
اللهم ارحم آباءنا، اللهم ارحم أمهاتنا، اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا، اللهم اغفر لأزواجنا وذرياتنا وارحم أقاربنا وسائر المسلمين.
اللهم وفقنا لما يرضيك، اللهم أبعدنا عن معاصيك، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور.(77/41)
اللهم بارك لهم في أسماعهم وأبصارهم وأزواجهم وذرياتهم ما أحييتهم، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة، اللهم اغفر لهم، وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك وبلاغا إلى حين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم سقيا رحمة لا سقيا بلاء ولا غرق، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) ، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (2) .
اللهم أعدهم على الإسلام وأهله عودا حميدا وأعواما مديدة، اللهم جاز من سعى في تذليل الصعاب في هذه المشاعر خيرا، ووفقه لما تحبه وترضاه.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (3) ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله
__________
(1) سورة الحشر الآية 10
(2) سورة البقرة الآية 201
(3) سورة البقرة الآية(77/42)
رب العالمين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
صفحة فارغة(77/43)
صفحة فارغة(77/46)
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(77/45)
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية - رحمه الله -
الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج مبتدع
لا تجوز المشاركة فيه
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد اطلعت على خطابكم رقم 682 في 4\ 7\ 85 هـ بصدد الدعوة الموجهة لكم من قاضي القضاة في المملكة الأردنية الهاشمية لحضور الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج، وطلبكم الإفادة برأينا تجاه ذلك.
إنني أقول: الاحتفال بذكرى " الإسراء والمعراج " أمر باطل، وشيء مبتدع، وهو تشبه باليهود والنصارى في تعظيم أيام لم يعظمها الشرع. وصاحب المقام الأسمى رسول الهدى محمد صلى الله(77/47)
عليه وسلم هو الذي شرع الشرائع، وهو الذي وضح ما يحل وما يحرم، ثم إن خلفاءه الراشدين وأئمة الهدى من الصحابة والتابعين لم يعرف عن أحد منهم أنه احتفل بهذه الذكرى.
المقصود أن الاحتفال بذكرى " الإسراء والمعراج " بدعة، فلا يجوز ولا تجوز المشاركة فيه، ولا أوافق على أن تشارك الرابطة فيه لا بإرسال أحد من موظفيها ولا بإنابة الشيخ القلقيلي أو غيره عنها في ذلك. والسلام عليكم.
مفتي الديار السعودية
(ص- م- 2803 في 8\ 7\ 1385 هـ)(77/48)
الذبح ليلة الإسراء والمعراج معصية
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم\ ع. س. ز.
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
كتابك لنا المؤرخ في 21\ 7\ 1387 هـ وصل، وقد ذكرت فيه أن والدتك نذرت بعدما وضعت في شعبان أن تذبح ذبيحة في اليوم السابع والعشرين من رجب من كل سنة، وذلك منذ ثمان وعشرين سنة، واستمرت موفية بنذرها طول هذه المدة، وتسأل عن حكم هذا النذر.
والجواب: هذا النذر لا ينعقد لاشتماله على معصية، وهي أن(77/48)
شهر رجب شهر معظم عند أهل الجاهلية، وليلة السابع والعشرين منه يعتقد بعض الناس أنها ليلة " الإسراء والمعراج " فجعلوها عيدا يجتمعون فيها، ويعملون أمورا بدعية، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر في المكان الذي يفعل فيه أهل الجاهلية أعيادهم أو يذبح فيه لغير الله، فعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: «نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد. قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم. قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم (1) » رواه أبو داود وإسناده على شرط البخاري ومسلم. والسلام عليكم.
مفتي الديار السعودية
(ص - ف - 3727 في 25\ 9\ 1387 هـ)
__________
(1) سنن أبي داود الأيمان والنذور (3313) .(77/49)
إذا قامت البينة في أثناء النهار فمتى يصلون العيد
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم محمد السعود العيسى
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصلني كتابكم المؤرخ 2 شوال 76 هـ وفهمنا ما أشرتم(77/49)
إليه من تأخير القاضي لديكم لصلاة عيد الفطر من السنة الماضية إلى اليوم الثاني مع أن خبر العيد قد وصل إليكم الساعة الحادية عشر والنصف صباحا.
ونفيدكم أنه إذا قامت البينة من أول النهار وجبت صلاة العيد؛ لبقاء الوقت، فإنه من ارتفاع الشمس إلى الزوال. وإن لم يعلم بالعيد إلا بعد زوال الشمس أو قبله ولم يمكن فعلها في الوقت، فإنهم يصلونها من الغد قضاء؛ لفوات وقت فعلها يوم العيد بزوال الشمس؛ لما روى أبو داود عن ابن عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن ركبا جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم أن يفطروا، فإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم " وفي لفظ " فجاء ركب في آخر النهار (1) » إلخ. والسلام عليكم.
في 9\ 3\ 1377 هـ.
مفتي الديار السعودية
(ص - ف - 252 في 11\ 3\ 1377 هـ)
__________
(1) سنن النسائي صلاة العيدين (1557) ، سنن أبي داود الصلاة (1157) ، سنن ابن ماجه الصيام (1653) .(77/50)
تناول طعام العيد في الأسواق
تناول طعام العيد في البيوت كان مشهورا في نجد، وأخرج في الأسواق ليكمل الانتفاع به، فهو رآه من رآه نظرا إلى أنه مجمع فيه(77/50)
يكمل السرور والإطعام ونحو ذلك.
(تقرير)(77/51)
تجول أهل القرى بعضها على بعض وتقديم بعض أنواع الطعام
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم ع. ص.
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
جوابا على خطابكم المرفوع إلينا بصدد الاستفسار عن حكم ما يجري عندكم عادة من تجول أهل القرى بعضها على بعض في أيام العيد، وذلك بعد عودتهم من صلاة العيد وتقديم بعض أنواع الطعام، وأن بعض المرشدين منعكم من فعل ذلك، ورأى الاكتفاء بأحد هذه الأشياء دون غيره.
نفيدكم أن منع أحد المرشدين في غير محله، إلا أن يكون من باب الضرورة والإرشاد إلى الاقتصار على واحد منها ولا سيما الأخف فهذا حسن إن شاء الله. والسلام.
(ص - ف - 294 في 6\ 3\ 1381 هـ)(77/51)
مصلى العيد
من محمد بن إبراهيم إلى فضيلة قاض الدلم
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نرفق لك بهذه الأوراق الواردة منك برقم 944\ 2 وتاريخ(77/51)
22 \ 9\ 138 هـ الخاصة بشأن مصلى العيد في العذار، ونشعرك أننا اطلعنا على ما شهد به الشهود لديك على ما أجراه سلفك الشيخ عبد الرحمن بن فارس، وحيث إن القاضي الذي شهدوا على تصرفه قد قرر في خطابه لنا المرفق بهذا برقم 117 وتاريخ 10\ 7\ 1380 هـ أن ذلك التصرف صدر منه مؤقتا للضرورة ريثما تصدر منا الفتوى في ذلك، فإن ذلك التصرف لا يعتبر نافذ المفعول.
والذي نراه أن يكون مصلى عيد أهل العذار في بقعة ليس فيها شبهة ولا وقف على جهة أخرى. ويكون تعيين البقعة بواسطتك سواء كانت في موات أو في أرض مملوكة تشترى من أهلها. وقد بلغنا أنهم كانوا يصلون مع أهل الدلم في مسجد ثم قد عين لأهل حلة الدلم وما حولها مسجد قرب المحلة وبقي الأول الآن معطلا.
وإذا كان ذلك صحيحا فينبغي بيع ذلك المسجد المتعطل وصرف ثمنه في مصلى لأهل العذار. وإن احتاج لزيادة ثمن سعي في تحصيله بواسطتك من جهة الحكومة أو من أهل البلد أنفسهم، وإن لم يتيسر تعيين مسجد لهم قبل هذا العيد فيصلون مع أهل الدلم كعادتهم السابقة. والسلام.
رئيس القضاة
(ص - ق - 182 - 1 في 29\ 11\ 1380 هـ)(77/52)
افتتاح خطبتهما بالحمد لله
خطبة العيدين تفتتح بالحمد؛ لما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح خطبه بالحمد لله، وهذا هو اختيار الشيخ، وتلميذه. وهو الراجح في الدليل. ويقول ابن القيم: إن التكبير - يعني جنسه - في أثناء الخطبة. أما كونها تبتدى بذلك فلا، بل تبتدى بالحمد كسائر الخطب.
(تقرير)(77/53)
التكبير في مصلى العيد أفضل
التكبير في حال الجلوس في مصلى العيد أفضل من قراءة القرآن ومن سائر الذكر؛ لتخصيص شرعيته في هذا الوقت؛ لكن نعرف أنها ليست من المنكرات في الجلوس لانتظار صلاة العيد. البحث في بيان الأفضل.
(تقرير)(77/53)
باب صلاة الكسوف
الكسوف يدرك بالحساب، وليس توثبا على علم مستقبل، بل(77/53)
هو أخذ مستقبل من ماض عادة ضبطت به بالنسبة إلى المنازل والبروج إلا أنه لا يجزم بقولهم، فلا يصدقون ولا يكذبون، لأنه أمر حسابي قد يصيبون وقد يخطئون، كأخبار بني إسرائيل، يعرض عنه هو تصديق وهو مخطئ وغلطان (1) .
وقول أهل الفلك في سبب الكسوف والخسوف لا ينافي كون ذلك تخويفا، ليس من شرط التخويف ألا يكون له سبب؛ فإن الله كون العالم على هذا الشكل الذي يوجد فيه كسوف؛ ولو شاء لكونه على خلاف ذلك.
(تقرير)
- الصحيح أن صلاة الكسوف تفعل في وقت النهي كبعد العصر، وسائر ذوات الأسباب، إلا أنه تقدم لنا أنه إذا كان تشويش وحدث نزاع قد يفضي إلى الفتنة والشر فيكون ما عليه أهل البلد خير.
__________
(1) قلت: وتقدمت فتوى في التنجيم ذكر فيها إنكار المشايخ على الحاسب الذي قصد المسجد في الدرعية.(77/54)
الزلزلة، والبراكين
ونعرف أن أهل العلم بأحوال الأرض يقولون: إن سبب الزلزلة براكن في الأرض، وأنها تتنفس أو نحو هذا مما يفيد أن له سببا. قالوا: ومن أماراته أنه يوجد في بلاد دون بلاد. ثم على تقدير(77/54)
صحته من الممكنات ولا هنا ما يمنعه.
(تقرير)(77/55)
س: البراكين كأنها مواد نارية.
ج: لعل لها اتصالا بهذه الزيوت، ممكن أن يكون هذا سببا، وممكن أن لا يكون سببا، بل (كن) كقوله لنار إبراهيم: {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا} (1) ، ما جاء سيل أو ماء آخر غمرها حتى خمدت، وكانفلاق البحر لموسى، وإن كان قد وجد الضرب بالعصى فإنه ليس في الوجود والحس أنه يؤثر في البحر، ويكون بهذه الصفة اثني عشر طريقا، وأشياء شبه هذا.
(تقرير)
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 69(77/55)
الراجح في صلاتها
القول الراجح أن الكسوف وقع مرة واحدة، فيتعين مسلك الترجيح، وتكون الصلاة أربع ركعات في أربع سجدات لشهرة الأحاديث وصحتها بذلك، وما عدا هذه الصفة وهم، والوهم واقع في أحاديث كثيرة، ولا مانع من أن تصح بدون تعدد الركوعات؛ لأن تعدد الركعات من باب الندب، فلو صليت كالفجر.
(تقرير)(77/55)
تغليط إمام اكتفى بالفجر عن الكسوف
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم راشد الفهد التويجري
سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن إمام دخل لصلاة الفجر، فقيل له: القمر كاسف. فقال: نطيل القراءة. فأمر المؤذن وأقام الصلاة وقرأ في الركعة الأولى ثلاث سور من طوال المفصل، وفي الركعة الثانية كذلك. ثم دخل رجل وكبر تكبيرة الإحرام ناويا صلاة الفجر، فلما أكمل الإمام السورة وشرع في سورة أخرى ظن هذا المأموم أن الإمام يصلي الكسوف.
والجواب: الحمد لله. أما الإمام فإنه أخطأ من وجوه:
الأول: أنه ترك صلاة الكسوف واكتفى بصلاة الفجر ظانا إن تطويل صلاة الفجر فيه تعويض عن صلاة الكسوف، وهذا لا وجه له؛ بل هو جهل صرف.
وثانيا: أنه ابتدأ بصلاة الفجر قبل الكسوف لو فرضنا أنه سيصليها بعد، وهذا غلط أيضا؛ لأن المشروع البداية بالكسوف أولا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم بالكسوف خرج إلى الصلاة مسرعا فزعا يجر ردائه. فهذا يدل على المبادرة بها فورا كما يفهم(77/56)
من قوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة (1) » ، وأيضا فإنه إذا قدم صلاة الفجر قبل الكسوف ربما أفضى ذلك إلى فوات صلاة الكسوف بالتجلي، بخلاف ما إذا صلى الكسوف وخففها حسب ما لديه من الوقت، ثم صلى الفجر في وقتها فبهذا يجمع بين المصلحتين من دون محذور.
ثالثا: أن فعله هذا يضر بالمأمومين ويربكهم فلا يعلمون هل هو يصلي الفجر أو الكسوف كما فعل ذلك الرجل الذي دخل معه.
أما بالنسبة لصحة صلاته، فإن كان لم ينو غير صلاة الفجر فصلاته صحيحة، وإن كان نوى الفجر ومعها صلاة الكسوف فصلاته غير صحيحة، كمن صام قضاء رمضان يوم عرفة ونوى به القضاء وصيام عرفة.
وأما المسبوق الذي قلب النية فلا تصح صلاته؛ لأنه قلب فيه الفرض إلى النفل، فعليه الإعادة. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(ص - ف - 1413- 1- 25 \ 5 \ 1385 هـ)
__________
(1) أخرجه الستة.(77/57)
باب صلاة الاستسقاء
تقديم صلاتها على الخطبة، الصيام ذلك اليوم، منع الزكاة سبب منع القطر، التقوى سبب كل خير.
نعرف أنه جاء تقديم الصلاة على الخطبة وهو الذي عليه العمل، وصرح به الأصحاب. ولكن يجمع بينه وبين حديث عبد الله بن زيد بأن الكل جائز، فيكون وجهان في ذلك، كل سنة.
الأمر بالصيام لم يجئ فيه شيء من الأحاديث، ولكنه طاعة، وجاء أن دعوة الصائم مجابة.
من أعظم المعاصي تأثيرا في منع القطر منع الزكاة وفي الحديث:
«ما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء (1) » .
إذا وجد التقوى حصل الخير إما كمية أو كيفيه. لو لم يكن في التقوى إلا البركة وكفاية الأسقام، فإن الغنى غنى القلب، فكذلك الخير والبركة ليس عن كثرة المال والمطر، التشاحن سبب كل شر، والتآلف سبب كل خير.
(تقرير)
__________
(1) سنن ابن ماجه الفتن (4019) .(77/58)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا - رحمه الله- (1)
حكم حضور مجلس العزاء والجلوس فيه
س: هل يجوز حضور مجلس العزاء والجلوس معهم؟ (2) .
ج: إذا حضر المسلم وعزى أهل الميت فذلك مستحب؛ لما فيه من الجبر لهم والتعزية، وإذا شرب عندهم فنجان قهوة أو شاي أو تطيب فلا بأس كعادة الناس مع زوارهم.
__________
(1) هذه الفتاوى سبق نشرها في ج 13 من مجموع الفتاوى لسماحته.
(2) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(77/59)
لا بأس باستقبال المعزين
س: ما رأي سماحتكم فيمن يجلس بالمنزل لاستقبال المعزين، مع العلم أن كثيرا من المعزين لا يتمكنون من القيام بالعزاء إلا في المنزل؟ (1)
__________
(1) نشرت في مجلة الدعوة العدد (1513) في 25 \ 5 \ 1416 هـ.(77/59)
ج: لا أعلم بأسا في حق من نزلت به مصيبة بموت قريبه، أو زوجته، ونحو ذلك أن يستقبل المعزين في بيته في الوقت المناسب؛ لأن التعزية سنة، واستقبال المعزين مما يعينهم على أداء السنة. وإذا أكرمهم بالقهوة، أو الشاي، أو الطيب، فكل ذلك حسن.(77/60)
حكم جمع أهل الميت في صف واحد حتى تتم تعزيتهم
س: يقوم بعض المعزين بإخراج أهل الميت بعيدا عن القبور، ووضعهم في صف حتى تتم معرفتهم وتعزيتهم بنظام، ولا تهان القبور، ما حكم ذلك (1) ؟
ج: لا أعلم في هذا بأسا؛ لما فيه من التيسير على الحاضرين لتعزيتهم.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(77/60)
حكم تقبيل ومعانقة المعزى
س: نلاحظ في وقت العزاء أن أغلب الناس عندما يريدون التعزية يقبلون المعزى أو يعانقونه، والبعض ينكر ذلك ويقول: إن التعزية مصافحة فقط. فما رأي سماحتكم في ذلك؟ (1)
ج: الأفضل في التعزية وعند اللقاء المصافحة إلا إذا كان
__________
(1) نشرت في مجلة الدعوة العدد (1579) .(77/60)
المعزي أو الملاقي قد قدم من سفر فيشرع مع المصافحة المعانقة؛ لقول أنس رضي الله عنه: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا. والله ولي التوفيق.(77/61)
التعزية في أهل المعاصي
س: أحيانا تحدث وفاة شخص إما متعمد للانتحار، أو شخص سكير، شرب مسكرا يحتوي على كمية كبيرة من السكر المؤدية للوفاة، أو شخص اعتدي عليه للخلاص من شره فهل يجوز مواساة والدة المتوفى بسبب من هذه الأسباب، أو غيرها ممن يمت له بصلة، حيث إنني أتردد كثيرا، هل أذهب أم لا؟ (1)
ج: لا بأس بالتعزية، بل تستحب، وإن كان الفقيد عاصيا بانتحار أو غيره، كما تستحب لأسرة من قتل قصاصا، أو حدا، كالزاني المحصن، وهكذا من شرب المسكر حتى مات بسبب ذلك، لا مانع في تعزية أهله فيه، ولا مانع من الدعاء له ولأمثاله من العصاة بالمغفرة والرحمة، ويغسل ويصلى عليه، لكن لا يصلي عليه أعيان المسلمين مثل السلطان والقاضي ونحو ذلك، بل يصلي عليه بعض الناس من باب الزجر عن عمله السيئ. أما من مات بعدوان
__________
(1) سبق نشره في الجزء الرابع ص 227 من مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته.(77/61)
غيره عليه فهذا مظلوم، يصلى عليه ويدعى له إذا كان مسلما، وكذا من مات قصاصا - كما تقدم - فهذا يصلى عليه ويدعى له ويعزى أهله في ذلك إذا كان مسلما ولم يحصل منه ما يوجب ردته. والله ولي التوفيق.(77/62)
حكم السفر للتعزية
س: ما حكم السفر للعزاء والمكث عند أهل الميت؟ (1)
ج: بحسب أحوال أهل الميت، فإذا كان فيه تثقيل عليهم فلا يجوز، أما إذا كانوا يحبون ذلك فلا حرج، والأمر في ذلك واسع.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(77/62)
س: ما حكم من يسافر من أجل العزاء لقريب أو صديق، وهل يجوز العزاء قبل الدفن؟ (1) ج: لا نعلم بأسا في السفر من أجل العزاء لقريب أو صديق؛ لما في ذلك من الجبر والمواساة وتخفيف آلام المصيبة، ولا بأس في العزاء قبل الدفن وبعده، وكلما كان أقرب من وقت المصيبة كان أكمل في تخفيف آلامها. وبالله التوفيق.
__________
(1) نشرت في (فتاوى إسلامية) جمع وترتيب: محمد المسند (2\ 43) .(77/62)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة المكرم ص. م. ح. سلمه الله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية برقم 2790 وتاريخ 8 \ 9 \ 1405 هـ، الذي تسأل فيه عن أسوار المسجد وعن الصلاة على الميت بعد دفنه بالمقبرة وعن زكاة المرتبات، وعن السفر لتعزية إنسان في ميت.
وأفيدك بأن ما كان داخل سور المسجد فهو من المسجد فلا يباع فيه ولا تنشد فيه الضالة وتجوز الصلاة فيه. وأما السفر لتعزية إنسان مسلم في ميته فلا حرج فيه والدعاء للأموات وطلب الرحمة لهم في خطبة الجمعة جائز، والصلاة على الميت بعد الدفن جائزة، وقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم. أما زكاة المرتبات من النقود ففيها تفصيل: فإن كانت قد حال عليها الحول وهي في حوزته وقد بلغت النصاب ففيها الزكاة. أما إن كانت أقل من النصاب أو لم يحل عليها الحول بل أنفقها قبل ذلك فلا زكاة فيها.
وفق الله الجميع لما فيه رضاه، إنه سميع مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد(77/63)
ليس للعزاء أيام محدودة
س: هل للتعزية حد معين؟ (1)
ج: لا أعلم لها حدا معلوما.
س: هل للعزاء أيام محدودة، حيث يقال: إنها ثلاثة أيام فقط؟ أرجو الإفادة جزاكم الله خيرا (2) .
ج: العزاء ليس له أيام محدودة، بل يشرع من حين خروج الروح قبل الصلاة على الميت وبعدها، وليس لغايته حد في الشرع المطهر سواء كان ذلك ليلا أو نهارا، وسواء كان ذلك في البيت أو في الطريق أو في المسجد أو في المقبرة أو في غير ذلك من الأماكن. والله ولي التوفيق.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.
(2) سبق نشره في الجزء الثامن، ص 362 من مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته.(77/64)
س: هل يعتبر تخصيص أيام ثلاثة للعزاء لأهل الميت من الأمور المبتدعة، وهل هناك عزاء للطفل والعجوز والمريض الذي لا يرجى شفاؤه بعد موتهم؟ (1)
ج: التعزية سنة؛ لما فيها من جبر المصاب والدعاء له بالخير،
__________
(1) نشرت في (فتاوى إسلامية) جمع وترتيب: محمد المسند (2\ 43) .(77/64)
ولا فرق في ذلك بين كون الميت صغيرا أو كبيرا، وليس فيها لفظ مخصوص بل يعزي المسلم أخاه بما تيسر من الألفاظ المناسبة مثل أن يقول: (أحسن الله عزاءك وجبر مصيبتك وغفر لميتك) إذا كان الميت مسلما. أما إذا كان الميت كافرا فلا يدعى له وإنما يعزى أقاربه المسلمون بنحو الكلمات المذكورة.
وليس لها وقت مخصوص ولا أيام مخصوصة، بل هي مشروعة من حين موت الميت، قبل الصلاة وبعدها، وقبل الدفن وبعده، والمبادرة بها أفضل، وتجوز بعد ثلاث من موت الميت؛ لعدم الدليل على التحديد.(77/65)
الكلمات المناسبة للتعزية
س: الأخ ع. م. ح. من القاهرة يقول في سؤاله: بعض الناس إذا أراد أن يعزي إنسانا في قريب له متوفى يقول له: البقية في حياتك، وشد حيلك ونحو هذه الكلمات.
والسؤال: هل هناك شيء مخصوص يقال في مثل هذه المناسبة، وهل يجب التقيد به؟ أفيدونا مأجورين (1) .
ج: لا أعلم دعاء معينا في ذلك عن النبي صلى الله عليه
__________
(1) من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من المجلة العربية.(77/65)
وسلم، ولكن يشرع للمعزي أن يعزي أخاه في الله في فقيده بالكلمات المناسبة، مثل: أحسن الله عزاءك، وجبر مصيبتك، وأعظم أجرك، وغفر لميتك. . ونحو ذلك.
أما التعزية بقوله البقية في حياتك، أو شد حيلك، فلا أعلم لهما أصلا. وفق الله الجميع.(77/66)
حكم إقامة مراسم العزاء
س: تقام مراسم العزاء فيتجمع الناس عند بيت المتوفى خارج المنزل، وتوضع بعض المصابيح الكهربائية - تشبه تلك التي في الأفراح - ويصطف أهل المتوفى ويمر الذين يريدون تعزيتهم، يمرون عليهم واحدا بعد الآخر، ويضع كل منهم يده على صدر كل فرد من أهل المتوفى ويقول له: (عظم الله أجرك) فهل هذا الاجتماع وهذا الفعل مطابق للسنة؟ وإذا لم يوافق السنة، فما هي السنة في ذلك؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا.
ج: هذا العمل ليس مطابقا للسنة، ولا نعلم له أصلا في الشرع المطهر. وإنما السنة التعزية لأهل المصاب من غير كيفية معينة(77/66)
ولا اجتماع معين كهذا الاجتماع، وإنما يشرع لكل مسلم أن يعزي أخاه بعد خروج الروح في البيت، أو في الطريق، أو في المسجد، أو في المقبرة، سواء كانت التعزية قبل الصلاة أو بعدها. وإذا قابله شرع له مصافحته والدعاء له بالدعاء المناسب مثل: (أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وجبر مصيبتك) ، وإذا كان الميت مسلما دعا له بالمغفرة والرحمة، وهكذا النساء فيما بينهن يعزي بعضهن بعضا، ويعزي الرجل المرأة والمرأة الرجل لكن من دون خلوة ولا مصافحة إذا كانت المرأة ليست محرما له. وفق الله المسلمين جميعا للفقه في دينه، والثبات عليه، إنه خير مسئول.(77/67)
حكم جلوس أهل الميت ثلاثة أيام للتعزية
س: بعض أهل الميت يجلسون ثلاثة أيام، فما حكم ذلك؟ (1)
ج: إذا جلسوا حتى يعزيهم الناس فلا حرج إن شاء الله حتى لا يتعبوا الناس، لكن من دون أن يصنعوا للناس وليمة.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(77/67)
الاجتماع في بيت الميت للأكل والشرب وقراءة القرآن بدعة
س: في بعض البلدان إذا مات الميت يجتمعون في بيت الميت ثلاثة أيام يصلون ويدعون له، فما حكم هذا؟ (1)
ج: الاجتماع في بيت الميت للأكل والشرب وقراءة القرآن بدعة، وهكذا الصلاة في البيت لا تجوز، بل على الرجال الصلاة في المسجد مع الجماعة، وإنما يؤتى أهل الميت للتعزية والدعاء لهم والترحم على ميتهم. أما أن يجتمعوا لإقامة مأتم بقراءة خاصة أو أدعية خاصة أو غير ذلك، فذلك بدعة، ولو كان هذا خيرا لسبقنا إليه سلفنا الصالح. فالرسول صلى الله عليه وسلم ما فعله، فقد قتل جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة رضي الله عنهم في معركة مؤتة فجاءه الخبر عليه الصلاة والسلام من الوحي بذلك، فنعاهم للصحابة وأخبرهم بموتهم وترضى عنهم ودعا لهم ولم يتخذ لهم مأتما. وكذلك الصحابة من بعده لم يفعلوا شيئا من ذلك، فقد مات الصديق رضي الله عنه ولم يتخذوا له مأتما، وقتل عمر رضي الله عنه وما جعلوا له مأتما، ولا جمعوا الناس ليقرءوا القرآن، وقتل عثمان بعد ذلك، وعلي رضي الله عنهما، فما فعل الصحابة رضي الله عنهم لهما شيئا من ذلك. وإنما السنة أن يصنع الطعام
__________
(1) من ضمن مذكرة لسماحته جمع فيها فوائد في مختلف العلوم.(77/68)
لأهل الميت من أقاربهم أو جيرانهم فيبعث إليهم، مثلما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاءه نعي جعفر فقال لأهله: «اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم (1) » ، أخرجه الخمسة إلا النسائي. هذا هو المشروع، أما أن يحملوا بلاء مع بلائهم، ويكلفوا ليضعوا طعاما للناس فهو خلاف السنة، وهو بدعة؛ لما ذكرنا أنفا، ولقول جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة) ، والنياحة هي: رفع الصوت بالبكاء وهي محرمة، والميت يعذب في قبره بما يناح عليه، كما صحت به السنة عن النبي عليه الصلاة والسلام، فيجب الحذر من ذلك. أما البكاء فلا بأس به إذا كان بدمع العين فقط بدون نياحة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون (2) » .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسند أهل البيت برقم (1754) والترمذي في الجنائز برقم (998) وأبو داود في الجنائز برقم (3132) وابن ماجه في الجنائز برقم (1610) .
(2) صحيح البخاري الجنائز (1303) ، صحيح مسلم الفضائل (2315) ، سنن أبي داود الجنائز (3126) ، مسند أحمد (3/194) .(77/69)
حكم إقامة وليمة يجتمع فيها المعزون
س: ما حكم ما جرت به عادة بعض الناس من ذبح الإبل، والغنم، وإقامة وليمة عند موت الميت يجتمع فيها المعزون وغيرهم ويقرأ فيها القرآن؟
ج: هذا كله بدعة لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم، وقد ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي الصحابي الشهير رضي الله عنه قال: " كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة " (1) .
أخرجه الإمام أحمد، وابن ماجه بسند صحيح. وإنما المشروع أن يصنع الطعام لأهل الميت، ويبعث به إليهم، من أقاربهم أو جيرانهم أو غيرهم؟ لكونهم قد شغلوا بالمصيبة عن إعداد الطعام لأنفسهم؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: لما أتى نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا لآل جعفر طعام فقد أتاهم
__________
(1) سبق تخريجه.(77/70)
ما يشغلهم (1) » . أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه بإسناد صحيح. وهذا العمل مع كونه بدعة، فيه أيضا تكليف أهل الميت وإتعابهم مع مصيبتهم، وإضاعة أموالهم في غير حق. والله المستعان.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسند أهل البيت برقم (1754) والترمذي في الجنائز برقم (998) وأبو داود في الجنائز برقم (3132) وابن ماجه في الجنائز برقم (1610) .(77/71)
صنع الطعام لأهل الميت
س: إذا كان الإطعام لأهل الميت ذبيحة، فما الحكم فيها؟ (1)
ج: لا بأس، ويعمله لهم الجيران أو الأقارب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أهله أن يصنعوا لآل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه طعاما لما جاء خبر موته بالشام فقال: «إنه آتاهم ما يشغلهم (2) » (3) .
__________
(1) هذا السؤال من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.
(2) سنن الترمذي الجنائز (998) ، سنن أبي داود الجنائز (3132) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610) ، مسند أحمد (1/205) .
(3) سبق تخريجه.(77/71)
أهل الميت لا يصنعون للناس طعاما
س: إذا صنع أهل الميت لأنفسهم طعاما فهل يجوز؟
ج: لا بأس إذا صنعوا لأنفسهم، ولكن لا يصنعوا ذلك للناس.(77/71)
حكم دعوة أهل الميت من يأكل معهم ما بعث لهم
س: إذا بعث لأهل الميت غداء أو عشاء فاجتمع عليه الناس في بيت الميت، هل هو من النياحة المحرمة؟
ج: ليس ذلك من النياحة؛ لأنهم لم يصنعوه وإنما صنع ذلك لهم، ولا بأس أن يدعوا من يأكل معهم من الطعام الذي بعث لهم؛ لأنه قد يكون كثيرا يزيد على حاجتهم.(77/72)
حكم بعث الذبائح لأهل الميت والدعوة إليها
س: بالنسبة للذبائح التي تذبح عند العزاء إذا أحضرها الشخص لأهل الميت ودعا عليها، ما الحكم فيها؟ وما حكم الجلوس في العزاء معه؟ (1)
ج: السنة لأقارب الميت وأصدقائه وجيرانه أن يبعثوا لأهل الميت طعاما حتى يريحوهم من تعب الطبخ؛ لأنه قد أتاهم ما يشغلهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أهله أن يبعثوا لآل جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه طعاما لما جاء خبر موته وقال صلى الله عليه وسلم: «إنه قد جاءهم ما يشغلهم (2) » ، أما بعث الذبائح فهذا خلاف السنة؛ لأنه إتعاب لهم بذبحها وطبخها، فينبغي عدم فعل
__________
(1) سؤال شخصي موجه إلى سماحته من ع. س. غ. من الطائف.
(2) رواه الإمام أحمد في مسند أهل البيت برقم (1754) والترمذي في الجنائز برقم (998) وأبو داود في الجنائز برقم (3132) وابن ماجه في الجنائز برقم (1610) .(77/72)
ذلك؟ لأنه خلاف السنة.(77/73)
حكم دفع النقود لأهل الميت
س: بعض المعزين يدفع شيئا من المال لأهل الميت حسب قدرته، فهل هذا جائز؟ جزاكم الله خيرا (1) .
ج: السنة أن يصنع لهم طعاما إذا تيسر، والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه نعي جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة قال لأهله: «اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنه قد جاءهم ما يشغلهم (2) » .
فإذا صنع لهم طعاما ليأكلوه فهو حسن. أما إعطاؤهم النقود فهذا غير مشروع، إلا إذا كانوا فقراء ومحتاجين، فهؤلاء لا يعطون وقت العزاء، ولكن في وقت آخر من أجل فقرهم وحاجتهم.
__________
(1) نشرت في مجلة الدعوة العدد (1547) في 11 صفر 1417 هـ.
(2) رواه الإمام أحمد في مسند أهل البيت برقم (1754) والترمذي في الجنائز برقم (998) وأبو داود في الجنائز برقم (3132) وابن ماجه في الجنائز برقم (1610) .(77/73)
حكم إقامة الولائم من تركة الميت
س: يقيم بعض الناس ولائم وذبائح عند موت بعض أقاربهم، وتصرف قيمة هذه الولائم من مال المتوفى، ما حكم(77/73)
ذلك؟ وإذا وصى الميت بإقامة مثل هذه الولائم بعد موته هل يلزم الشرع الورثة بإنفاذ هذه الوصية؟
ج: الوصية بإقامة الولائم بعد الموت بدعة ومن عمل الجاهلية، وهكذا عمل أهل الميت للولائم المذكورة ولو بدون وصية منكر لا يجوز؛ لما ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: " كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة " (1) ، خرجه الإمام أحمد بإسناد حسن، ولأن ذلك خلاف ما شرعه الله من إسعاف أهل الميت بصنعة الطعام لهم لكونهم مشغولين بالمصيبة، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما بلغه استشهاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة مؤتة قال لأهله: «اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم (2) » .
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سنن الترمذي الجنائز (998) ، سنن أبي داود الجنائز (3132) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610) ، مسند أحمد (1/205) .(77/74)
عادات الاحتفال بعد موت أحد من الناس
س: هناك في اليمن عادات يفعلها بعض الناس بعد موت(77/74)
أحد أقاربهم، فهم يضطرون إلى أن يستدينوا من أجل الاحتفالات والأكل والشرب وما أشبه ذلك، حتى وإن كان المتوفى فقيرا لم يخلف شيئا، فما الحكم في ذلك جزاكم الله خيرا؟ (1)
ج: لا يجوز الاحتفال عند موت أحد من الناس، وليس لأهل الميت أن يقيموا احتفالا ولا يذبحوا ذبائح ويصنعوا طعاما للناس، كل هذا من البدع ومن أعمال الجاهلية، فالواجب تركه. وقد ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة) (2) رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح. فالمشروع للمسلمين إذا مات الميت المسلم أن يسألوا الله له المغفرة والرحمة، وأن يتركوا هذه الاحتفالات الجاهلية، لكن يشرع لجيرانهم وأقاربهم أن يصنعوا لهم طعاما، لأنهم مشغولون بالمصيبة، لما ثبت من حديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه - لما قتل في غزوة مؤتة في أرض الشام - إلى المدينة أمر النبي عليه الصلاة والسلام أهله أن يصنعوا لآل جعفر طعاما قال: لأنه أتاهم ما يشغلهم (3) » . أما أهل
__________
(1) سبق نشره في الجزء السابع من مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته.
(2) سبق تخريجه.
(3) رواه الإمام أحمد في مسند أهل البيت برقم (1754) والترمذي في الجنائز برقم (998) وأبو داود في الجنائز برقم (3132) وابن ماجه في الجنائز برقم (1610) .(77/75)
الميت فليس لهم صنع الطعام للناس، لما تقدم. أما إذا صنعوا ذلك لأنفسهم أو لضيوف نزلوا بهم فلا بأس.(77/76)
حكم البذخ والإسراف في العزاء
س: ما حكم البذخ والإسراف في العزاء، حيث يتكلف أهل الميت بإقامة الولائم للمعزين، وهناك عادة جرت مثل اليوم الثالث واليوم الثامن والأربعين بالنسبة للمعزين؟ (1)
ج: هذا لا أصل له، بل هو بدعة ومنكر ومن أمر الجاهلية، فلا يجوز للمعزين أن يقيموا الولائم للميت، لا في اليوم الأول ولا في الثالث ولا في الرابع ولا في الأربعين أو غير ذلك، هذه كلها بدعة، وعادة جاهلية لا وجه لها، بل عليهم أن يحمدوا الله ويصبروا ويشكروه سبحانه وتعالى على ما قدر، ويسألوه سبحانه أن يصبرهم وأن يعينهم على تحمل المصيبة، ولكن لا يصنعون للناس طعاما.
قال جرير بن عبد الله البجلي - وهو صحابي جليل - رضي الله عنه: (كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة) (2) رواه الإمام أحمد بإسناد حسن.
__________
(1) سبق نشره في الجزء الرابع من مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته.
(2) سبق تخريجه.(77/76)
كان الصحابة يعدون النياحة من المحرمات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم زجر عنها، ولكن يشرع لأقاربهم وجيرانهم أن يبعثوا لهم طعاما؛ لأنهم مشغولون بالمصيبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «لما وصله نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حين قتل في مؤتة بالأردن أمر صلى الله عليه وسلم أهل بيته أن يصنعوا لأهل جعفر طعاما، وقال: " إنه قد أتاهم ما يشغلهم (1) » . أما أهل الميت فلا يصنعوا طعاما لا في اليوم الأول، ولا في اليوم الثالث، ولا في الرابع، ولا في العاشر، ولا في غيره. لكن إذا صنعوا لأنفسهم أو لضيفهم طعاما فلا بأس، أما أن يجمعوا الناس للعزاء ويصنعوا لهم طعاما فلا يجوز لمخالفته للسنة.
__________
(1) سبق تخريجه.(77/77)
الأربعينات والسنوات لا أصل لها في الشرع
س: ما حكم العادات في العزاء، من الولائم وقراءة القرآن والأربعينات والسنوات وما شاكل ذلك؟ (1)
ج: هذه العادات لا أصل لها في الشرع المطهر ولا أساس لها، بل هي من البدع ومن أمر الجاهلية، فإقامة وليمة إذا مات الميت
__________
(1) سبق نشره في الجزء التاسع من مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته.(77/77)
يدعى إليها الجيران والأقارب وغيرهم لأجل العزاء بدعة لا تجوز، وهكذا إقامة هذه الأمور كل أسبوع أو على رأس السنة كلها من البدع الجاهلية، وإنما المشروع لأهل الميت الصبر والاحتساب والقول كما قال الصابرون: إنا لله وإنا إليه راجعون. وقد وعدهم الله خيرا كثيرا، فقال سبحانه: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (1) ، ولا حرج عليهم أن يصنعوا لأنفسهم الطعام العادي لأكلهم وحاجاتهم، وهكذا إذا نزل بهم ضيف لا حرج عليهم أن يصنعوا له طعاما يناسبه؛ لعموم الأدلة في ذلك. ويشرع لأقاربهم وجيرانهم أن يصنعوا لهم طعاما يرسلونه إليهم؛ لأنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما أتى نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حين قتل في مؤتة في الشام أنه قال لأهله: «اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم (2) » ، فدل ذلك على مشروعية إرسال الطعام إلى أهل الميت من أقاربهم أو غيرهم أيام المصيبة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 157
(2) رواه الإمام أحمد في مسند أهل البيت برقم (1754) والترمذي في الجنائز برقم (998) وأبو داود في الجنائز برقم (3132) وابن ماجه في الجنائز برقم (1610) .(77/78)
من بدع العزاء
س: نسأل عن ظاهرة منتشرة في كثير من بلاد المسلمين،(77/78)
وهي: ما يقوم به أهل الميت من أعمال بعد الانتهاء من الدفن لميتهم، حيث يجهزون سرادقا من الخيام أو أي شيء آخر، ويجتمع أهل الميت فيه بعد إضاءته في إحدى الساحات أو الشوارع، لاستقبال المعزين وتناول القهوة والشاي وغيرهما، بالإضافة إلى إحضار قارئ لقراءة القرآن بأجر، وإن لم يتيسر استخدموا جهاز تسجيل لسماع القرآن، وفي الليلة الثالثة يتم إقامة وليمة طعام للجميع، فما توجيه سماحتكم؟ وهل تجوز المشاركة فيها؟ (1) ع. م. مكة.
ج: إقامة العزاء بهذه الصورة بدعة لا يجوز فعلها، ولا المشاركة فيها؛ لما ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: (كنا نعد الاجتماع لأهل الميت، وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة) (2) ، رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح. وإنما السنة أن يصنع لأهل الميت طعام من أقاربهم، وجيرانهم، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأهله لما جاء نبأ نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: «اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم (3) » ، رواه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح، نسأل الله أن يوفق المسلمين لما فيه نجاتهم وسلامة دينهم ودنياهم، إنه سميع قريب.
__________
(1) نشرت في مجلة الدعوة العدد (1604) في 11\ 4\ 1418 هـ.
(2) سبق تخريجه.
(3) رواه الإمام أحمد في مسند أهل البيت برقم (1754) والترمذي في الجنائز برقم (998) وأبو داود في الجنائز برقم (3132) وابن ماجه في الجنائز برقم (1610) .(77/79)
حكم النعي في الجرائد
س: ما حكم النعي في الجرائد؟ (1)
ج: هو محل نظر لما فيه من التكلف غالبا، وقد يباح إذا كان صدقا وليس فيه تكلف، وتركه أولى وأحوط، وإذا أراد التعزية فيكتب لهم كتابا أو يتصل بالهاتف أو يزورهم وهذا أكمل.
__________
(1) هذا السؤال من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(77/80)
حكم قولهم " انتقل إلى مثواه الأخير "
س: ما حكم قولهم في التعزية: " انتقل إلى مثواه الأخير "؟
ج: لا أعلم في هذا بأسا؛ لأنه مثواه الأخير بالنسبة للدنيا، وهي كلمة عامية، أما المثوى الأخير الحقيقي فهو الجنة للمتقين والنار للكافرين.(77/80)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز ابن عبد الله بن محمد آل الشيخ مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: حصل خلاف بيني وبين أهل زوجتي فمنعتها من الذهاب إليهم؛ لأنني أخاف أن يحثوها بشيء يسبب لي خلاف مع زوجتي فهل على شيء في ذلك وما الحكم الشرعي في هذا المنع أفتونا مأجورين؟
ج: أولا أيها الأخ الكريم ننصحك بأن تسعى في الصلح فيما بينك وبين أصهارك؛ لأن قطيعتهم من قبلك لا تنبغي، فهم أهل زوجتك وأخوال أولادك بل وأجدادهم، فالواجب الحرص على الألفة فيما بينكم؛ لأنكم لحمة واحدة، وإذا سعيت في الصلح ورأيت أن فيه بعض الغضاضة عليك فاقبل بها واحتسبها عند الله، فإن الله سيعوضك خيرا كثيرا وسيعلي شأنك، ولتكن أنت المبادر بالصلح، فإنه يحقق لك الخيرية في الدنيا والآخرة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام (1) » متفق
__________
(1) صحيح البخاري الاستئذان (6237) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2560) ، سنن الترمذي البر والصلة (1932) ، سنن أبي داود الأدب (4911) ، مسند أحمد (5/422) ، موطأ مالك الجامع (1682) .(77/81)
عليه من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
وأما منعك زوجتك من زيارة أهلها بذريعة خوفك من أن يحملوها على ما يسبب الخلاف بينكما، فهذا أمر غير سائغ، فكما قدمنا، عليك السعي في الإصلاح بينك وبين أصهارك، ثم إذا أرادت زوجتك زيارة أهلها تحاول أن تتفاهم معها بالكلمة الطيبة والأسلوب الحسن، وتخبرها بأنه يجب عليها ألا تتأثر بما يلقى عليها من كلام يمكن أن يكون سببا للإفساد بينكما، فإنك إن فعلت ذلك وحرصت على صلة أصهارك والصلح معهم لله عز وجل وابتغاء مرضاته فإني أرجو من الله العلي القدير أن يحقق مطلبك ويوفقك ويكتب لك السعادة في الدارين.(77/82)
س: ما حكم لبس اللون الأحمر بالنسبة للنساء أفتونا أثابكم الله؟
ج: الأصل أن المرأة لها أن تلبس من اللباس بأي لون كان، وإنما تمنع من لبس ما يصف عورتها من الشفاف أو الضيق أو المفتوح ونحو ذلك، وأيضا إذا كانت هذه الألوان فاتنة وهي بارزة للرجال، فإنه يمنع منها أما إذا لم تكن بارزة للرجال مع التزامها الحشمة فإنها لا تمنع من أي لون، ولها أن تلبس ما شاءت بالضوابط السابقة مع عدم تشبهها بالرجال أو لبسها زيا يختص بالكافرات لورود اللعن فيمن فعل ذلك(77/82)
كله وهو التشبه بالرجال، والتشبه بالكفار، ولبس الثياب الكاسية العارية وهي ما فسرناها به إما بلبس الضيق من الثياب أو الشفاف أو المفتوح ونحوه مما فيه إبراز لمفاتن المرأة، وهذا الأخير صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل النار في قوله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما (1) » إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: «ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا (2) » أخرجه مسلم.
فالإسلام كرم المرأة ولم يحرمها وعرف لها ما جبلت عليه من حب التزين والحلية يقول سبحانه وتعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (3) ، فالإسلام راعى جانب أن المرأة منذ نشأتها وهى تحب الزينة والتحلي فلم يحرمها منها، فحرم على الرجل لبس الذهب وأباحه للمرأة وحرم على الرجل لبس الحرير وأباحه للمرأة، وحرم على الرجل لبس الأحمر الخالص وأباحه للمرأة، وهكذا كل ما كان من أمور التحلي والزينة، لكن الإسلام أيضا ضبط أمور المرأة من حيث اللباس والمشية والحجاب ونحوه كل ذلك لا منعا لزينتها حاشا وكلا بل لحفظ كرامتها وصيانتها، فالواجب على المرأة المسلمة أن تطبق شرع ربها منشرحة بذلك نفسها، عالمة
__________
(1) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2128) ، مسند أحمد (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(2) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2128) ، مسند أحمد (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(3) سورة الزخرف الآية 18(77/83)
أن المصلحة والخير كل الخير إنما هو في اتباع الشرع.(77/84)
س: دخلت لأصلي الظهر بعد ساعة تقريبا وكانت صلاة الجماعة قد انتهت، وبينما كنت في الركعة الأولى دخل اثنان واقتديا بي علما أنني لم أكن أنوي صلاة جماعة في هذه الحال هل تصح صلاتهما أو لا، نرجو البيان والإيضاح؟
ج: الصحيح أنه لا تشترط نية الإمام الإمامة، بل يصح أن يؤم قوما وإن لم ينو الإمامة كما في الصورة المذكورة في السؤال؛ لأن «النبي صلى الله عليه وسلم قام ليصلي الليل، فلما كبر قام ابن عباس رضي الله عنه عن يساره فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذنه وجعله عن يمينه (1) » ، والظاهر من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينو الإمامة بابن عباس رضي الله عنهما، وأنه لم يدخل معه إلا بعد أن كبر وصلى بعض الصلاة فلم يعلم أنه سيصلي معه.
وعليه فصلاتكم صحيحة جميعا، لكن أنصحكم بالحرص على المواظبة على صلاة الجماعة في المسجد والحذر من التأخر عنها؛ لأن الصلاة مع الجماعة في المسجد واجبة فاحرصوا عليها وفقني الله وإياكم لكل خير.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (117) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (763) ، سنن النسائي الإمامة (806) ، سنن أبي داود الصلاة (610) ، مسند أحمد (1/215) ، موطأ مالك النداء للصلاة (267) ، سنن الدارمي الصلاة (1255) .(77/84)
س: هل يجوز لي أن أصافح أخت زوجتي وأن أختلي بها وغير(77/84)
ذلك لأنني أعلم أنها محرم علي نرجو من سماحتكم التكرم بالإجابة ولكم من الله الأجر والثواب؟
ج: لا يجوز لك مصافحة أخت زوجتك ولا الخلوة بها؛ لأنها ليست من محارمك بل هي أجنبية عنك شأنها شأن سائر الأجنبيات عنك في ذلك، واحذر من التساهل والتمادي في ذلك وفقنا الله وإياك لكل خير.(77/85)
س: أسمع بعض من يقيمون الصلاة يفردون ألفاظها أي يقولون مرة واحدة: أشهد أن لا إله إلا الله أثناء الإقامة وبعضهم يقولها مرتين، وسؤالي هل تكون مرة واحدة أم مرتين حيث حصل خلاف بين بعض المصلين في ذلك أفتونا مأجورين؟
ج: كلاهما مصيب فالسنة جاءت بهذا وهذا، فجاء في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة (1) » متفق عليه، وفي حديث أبى محذورة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة (2) » أخرجه النسائي والترمذي وقال: حسن صحيح وابن ماجه، والمعنى أنه في الأذان يكون كأذان بلال خمس عشرة جملة إلا أنه يرجع في الشهادتين فيقولها بصوت منخفض ثم يرفع صوته بهما، فتكون
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (378) ، سنن الترمذي الصلاة (193) ، سنن أبي داود الصلاة (508) ، سنن ابن ماجه الأذان والسنة فيه (729) ، سنن الدارمي الصلاة (1195) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (192) ، سنن النسائي الأذان (630) ، سنن أبي داود الصلاة (502) ، سنن ابن ماجه الأذان والسنة فيه (709) ، مسند أحمد (6/401) ، سنن الدارمي الصلاة (1197) .(77/85)
الشهادتان في الأذان ثماني جمل كل شهادة أربع جمل وبهذا تكون جمل الأذان في أذان أبي محذورة تسع عشرة جملة كما قال في الحديث السابق.
أما الإقامة - أعني إقامة أبي محذورة - فلا ترجيع للشهادتين فيها، فتكون الجمل سبع عشرة جملة وهى جمل الأذان بلا ترجيع مع قول " قد قامت الصلاة " مرتين.
وعليه فمن فعل هذا فقد عمل بالسنة، ومن فعل الآخر فقد عمل بالسنة، وأئمة المذاهب بناء على الحديثين اختلفوا في الأذان والإقامة والكل خير وسنة والله أعلم.
والحلاف فيها يسير لا يقتضي النزاع والاختلاف.(77/86)
س: من الأحق بإمامة المصلين وما هي شروط الإمامة أفتونا أثابكم الله؟
ج: هذا الأمر قد حددته سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وواجبنا التقيد بالسنة واتباعها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه (1) » أخرجه مسلم من
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (673) ، سنن الترمذي الصلاة (235) ، سنن النسائي الإمامة (780) ، سنن أبي داود الصلاة (582) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (980) ، مسند أحمد (5/272) .(77/86)
حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، وقال الأشج في روايته مكان " سلما " " سنا ".
وينبغي ألا يولى الإمامة كل من يطلبها، بل يختار لها الأصلح فالأصلح كما مر من حديث أبي مسعود رضي الله عنه والله أعلم.(77/87)
س: والدي لا يحفظ شيئا من القرآن وقد تاب بعد أن تقدمت فيه السن والآن ليس بإمكانه أن يتعلم في هذه الحال ماذا يقرأ عندما يصلي نرجو البيان ولكم من الله الأجر والثواب؟
ج: الواجب عليه الآن أن يتعلم ما يصحح به صلاته وهي سورة الفاتحة؛ لأنها ركن في الصلاة، فإن عجز فإنه يسبح ويحمد ويهلل ويكبر، ففي حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه، قال: " قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم "، قال يا رسول الله: هذا لله عز وجل فما لي قال: " قل اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني " فلما قام قال: هكذا بيده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما هذا فقد ملأ يده من الخير " (1) » أخرجه أبو داود وغيره.
__________
(1) سنن أبي داود الصلاة (832) ، مسند أحمد (4/353) .(77/87)
س: ما حكم البيع بالتقسيط لا سيما وأن من يشتري بالتقسيط يزاد عليه الثمن فهل هذا البيع جائز أو لا أفتونا أثابكم الله؟
ج: لا مانع منه إن كان الثمن معلوما قبل العقد، بأن يقال مثلا هذه السلعة بألف نقدا، وبألف وخمسمائة مؤجلة لمدة سنتين بالتقسيط، فهذا البيع لا بأس به وليس من الربا المحرم؛ لأن الربا أصله قرض فإذا حل الأجل قيل له: إما أن تقضي أو تربي، وهكذا فتكون الفائدة مركبة مضاعفة، وليس البيع المؤجل منها؛ لأن المشتري في البيع المؤجل له غرض من التأجيل، فيستفيد منه والبائع مقابل هذه المدة يأخذ الثمن، وأصل البيع إلى أجل جائز، فالذي يظهر لنا أن بيع التقسيط جائز والله أعلم.(77/88)
س: ما حكم القرض من المصرف للقيام بمشروع تجاري أي ليس قرضا للاستهلاك أفتونا مأجورين؟
ج: إذا كان القرض بفائدة فهذا محرم وهو من الربا الذي حرم الله في كتابه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ، ولا فرق في ذلك بين القرض الإنتاجي والاستهلاكي فما دام القرض بفائدة فهو ربا والربا محرم بنص الكتاب والسنة. عافانا الله وإياكم منه وكفانا بحلاله عن حرامه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(77/88)
س: ما حكم الاستماع إلى ما يسمى بالأبراج علما أنني أستمع إليها وأنا لا أعتد بها فهل في هذا مخالفة شرعيه أو لا أفتونا مأجورين؟
ج: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد (1) » أخرجه جماعة من الأئمة من طرق يعضد بعضها بعضا، فهو حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا وعيد شديد لمن أتى الكاهن أو العراف فصدقه فيما يقول مما فيه ادعاء لعلم الغيب، والأبراج من جنس هذا العمل ففيها ادعاء لعلم الغيب فلا يجوز الاستماع لها، ومن استمع لها وصدقها فيخشى عليه من الدخول في الوعيد السابق عصمنا الله وإياكم من أسباب سخطه.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبي داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد (2/476) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .(77/89)
س: سماحة المفتي تشكل الفتوى أساسا مهما في مجتمعنا السعودي ذلك أننا بفضل الله تعالى نعتز بمرجعيتنا إلى الكتاب والسنة في كل أمور حياتنا، ومع ذلك يلاحظ أن هناك مصادر متعددة للفتوى في المسائل المتخصصة والمصيرية كقضايا الاقتصاد والطب والعلاقات الدولية والجهاد فهل يرى سماحتكم أن هذا من باب الاجتهاد؟ أم أنه فوضى علمية يجب الحد منها وتقييدها لا سيما كما ذكرت في المسائل المتخصصة والمصيرية للأمة؟
ج: الفتوى أمرها عظيم وخطرها جسيم يقول الله تعالى:(77/89)
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1) ، ويقول سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (2) .
ويقول عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (3) .
فالجرأة على الفتيا أمر خطير جدا على دين ذلك الذي تجرأ على الله وتكلم بغير علم أو بهوى، وهي خطيرة أيضا على المجتمع المسلم إذ تكون سببا في تفككه وبعده عن الدين.
وقد أخرج الدارمي في سننه بسنده عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار (4) » .
وكان السلف رضي الله عنهم أخوف على دينهم من أن يتجرؤوا بالكلام في دين الله أو التعجل في الفتوى، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو من التابعين الثقات قال: (لقد أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل عن فتيا إلا ود
__________
(1) سورة الإسراء الآية 36
(2) سورة النحل الآية 116
(3) سورة الأعراف الآية 33
(4) سنن الدارمي المقدمة (157) .(77/90)
أن أخاه كفاه الفتيا) .
ولما سئل الشعبي - رحمه الله - كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم؟ قال: على الخبير وقعت، كان إذا سئل الرجل قال لصاحبه: أفتهم، فلا يزال حتى يرجع إلى الأول.
فالواجب التحفظ والتحرز من التسرع في الفتوى، وأما المسائل الكبار التي تتعلق بمصالح الأمة عامة دينيا أو سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا أو غير ذلك مما يكون تأثيره عاما، فإن الواجب ألا ينفرد بالحديث عنه طالب علم، بل يجتمع له جمع من العلماء كهيئة كبار العلماء أو المجامع الفقهية، ويطرح الموضوع على مائدة البحث، ويأخذ حقه في البحث والمشاورة، ثم يصدر القرار بناء على دراسة فاحصة متأنية يراعى فيها جوانب الموضوع ومتعلقاته التي قد لا يدركها الفرد الواحد.
وهذا ما كان يفعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث كان له مجلس مشورة ورأي يجتمع فيه الفقهاء الكبار، وكان إذا عرضت له مسألة كبيرة جمع لها أهل بدر، الذين هم قدماء الصحابة رضي الله عنهم وفقهاؤهم، وهكذا يجب على طلاب العلم أن يكونوا:
فأولا: الواجب عدم التسرع في الفتيا، وأن يكلوا الأمر إلى أهله.
ثانيا: في المسائل العامة ينبغي ألا ينفرد الواحد بالكلام فيها(77/91)
بل يطرح الأمر على المجامع العلمية.(77/92)
س: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الدعوات التي عانت كثيرا بعد الأحداث المتفرقة باسم الإسلام وكثيرا ما توصف بالشدة والتكفير ما تعليقكم؟
ج: هذه اتهامات باطلة صادرة من أحد رجلين إما جاهل بحقيقة دعوة الشيخ رحمه الله، أو حاقد وصاحب هوى وله مأرب من وراء هذه الافتراءات.
وإلا فإن الشيخ رحمه الله إنما كانت دعوته إلى تخليص الدين من شوائب البدع والشركيات وعبادة الله وحده لا شريك له وفق ما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يأت بجديد في دعوته، وكتبه ورسائله موجودة، فالمنصف يقرأ ويعرف الحق من الباطل، وقد وقفنا على كتابات كثير من الرحالة الأجانب وكذلك بعض المنصفين من الغربيين الذين قرءوا كتب الشيخ، ورأينا أنهم حكوا واقع الدعوة، وأنها دعوة إلى العودة إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من صفاء العقيدة ونقاء الشريعة، أما الجاهل فعدو نفسه وأما صاحب الهوى فلا حيلة فيه.(77/92)
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
من الفتوى رقم 7501
السؤال الأول: معلوم عندنا هنا في مصر أن أذان الفجر يؤذن قبل موعده بحوالي 20 دقيقة، فإذا أقيمت الصلاة قبل دخول وقت الفجر الصادق، ودخل الإمام في الصلاة وأثناء الصلاة دخل وقت الفجر الصادق، فهل يجوز لي أن أدخل في الصلاة خلف الإمام الذي صلى وبدأ الصلاة قبل دخول وقتها؟
ج: إذا ثبت أن الإمام دخل في صلاة الفجر قبل طلوع الفجر الصادق فلا يجوز الدخول معه لا في أول الصلاة ولا في آخرها الذي وقع منه بعد طلوع الفجر الصادق، لكونها والحال ما ذكر باطلة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(77/93)
من الفتوى رقم 8502
السؤال الرابع: رجل قام من نومه وهو جنب ولم يبق على شروق الشمس إلا القليل أي لا يكفيه الوقت للاغتسال وصلاة الفجر فماذا عليه أن يفعل؟
ج: يغتسل من الجنابة ولو طلعت الشمس، ثم يصلي الفجر؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بالطهارة، ولأنه مأمور بذلك عند استيقاظه من النوم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك (1) » . وأمره صلى الله عليه وسلم لمن استيقظ من النوم وتذكر بعد النسيان بالصلاة، أمر بها وبما يلزم لها من الطهارة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (597) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (684) ، سنن الترمذي الصلاة (178) ، سنن النسائي المواقيت (614) ، سنن أبي داود الصلاة (442) ، سنن ابن ماجه الصلاة (696) ، مسند أحمد (3/282) ، سنن الدارمي الصلاة (1229) .(77/94)
من الفتوى رقم 8823
السؤال الثامن: إذا جامع الرجل أهله ونام وعند الصباح(77/94)
قام متأخرا، هل يجوز أن يتوضأ ويصلي بدون غسل إما يكون الوقت ضيقا أو يكون الماء باردا وحتى حين آخر، أو لا يجوز أن أصلي وعلي جنابة مهما كانت الحالة؟
ج: عليه أن يغتسل من الجنابة للصلاة، ولا يكفيه الوضوء ولا يجزئه التيمم مع قدرته على الماء ولو بالشراء؛ لأن وقت استيقاظه هو وقت صلاته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك (1) » . متفق على صحته.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (597) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (684) ، سنن الترمذي الصلاة (178) ، سنن النسائي المواقيت (614) ، سنن أبي داود الصلاة (442) ، سنن ابن ماجه الصلاة (696) ، مسند أحمد (3/282) ، سنن الدارمي الصلاة (1229) .(77/95)
من الفتوى رقم 6606
السؤال السادس: هل مراعاة وقت الصلاة مقدم على الطهارة، أو الطهارة مقدمة لمن استيقظ من النوم وهو جنب حيث لو اغتسل طلعت الشمس، هل يغتسل ويقضي الصلاة، أو يصلي قبل طلوع الشمس؟
ج: يغتسل ويصلي ولو طلعت الشمس؛ لعموم قوله تعالى:(77/95)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (1) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) موطأ مالك وقوت الصلاة (26) .(77/96)
من الفتوى رقم 7672
السؤال الثالث: ما حكم من فاته وقت صلاة العشاء أي لم يصل حتى جاء الوقت الواحدة ليلا، هل يؤجلها مع صلاة العشاء لليوم الثاني أم يصلي؟
ج: يبادر إلى صلاتها في ذلك الوقت، ولا يعود إلى مثل هذا التأخير مرة أخرى مع التوبة إلى الله سبحانه من هذا التأخير.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(77/96)
الفتوى رقم 5502
س: إذا طهرت المرأة من الحيض أو النفاس قبل غروب الشمس فهل يلزمها أن تصلي الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل طلوع الفجر فهل يلزمها أن تصلي المغرب والعشاء، كما سمعنا من بعض الأقوال في ذلك؟
ج: إذا طهرت المرأة من الحيض أو النفاس قبل خروج وقت الصلاة الضروري لزمتها تلك الصلاة وما يجمع إليها قبلها، فمن طهرت قبل غروب الشمس لزمتها صلاة العصر والظهر، ومن طهرت قبل طلوع الفجر الثاني لزمتها صلاة العشاء والمغرب، ومن طهرت قبل طلوع الشمس لزمتها صلاة الفجر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(77/97)
من الفتوى رقم 581
السؤال السادس: ما هو ترتيب قضاء صلوات الفجر(77/97)
والظهر والعصر عندما يذكر الشخص أنه لم يصل؟
ج: قضاء الفوائت يجب أن يكون على الفور، وأن تكون مرتبة كما فرضها الله سبحانه بحيث يصلي الفجر ثم يصلى الظهر ثم يصلي العصر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(77/98)
من الفتوى رقم 4263
السؤال الأول: ما حكم إنسان ذهب إلى المسجد وعليه صلاة العصر والإمام أذن صلاة المغرب فهل يصلي العصر أولا، أم يصلى مع الجماعة صلاة المغرب ثم يصلي صلاة العصر؟
ج: يصلي صلاة العصر ثم يصلى مع الإمام صلاة المغرب؛ لأن الترتيب بين الصلوات واجب، لكن إن لم يتمكن من صلاة العصر قبل أن تقام صلاة المغرب دخل معهم في صلاة المغرب بنية صلاة العصر، فإذا سلم الإمام من المغرب قام وصلى الركعة الباقية كالمسبوق ثم يصلى صلاة المغرب؛ لأن الأدلة الشرعية قد دلت على(77/98)
أن اختلاف النية بين الإمام والمأموم لا يؤثر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(77/99)
من الفتوى رقم 4591
السؤال الثالث: واحد نسي فرض الظهر والعصر وأتى وقت المغرب فما الحكم. وبأي فرفض يبدأ أولا؟
ج: يصلي الظهر ثم العصر ثم المغرب كما فرضها الله كذلك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه شغل عن الفرائض يوم الأحزاب فصلاها مرتبة بعد غروب الشمس (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أخرجه البخاري في الصحيح رقم 596، 598، 641، 945، 4112 ومسلم في الصحيح رقم 631 من حديث جابر رضي الله عنه والنسائي 2\ 15 (الحلبي) .(77/99)
الفتوى رقم 5128
س: حيث إن كثيرا من القطاعات ومنها القطاعات العسكرية يرتدي أفرادها لباسا للرياضة يكشف عن جزء مما تحت السرة، وحوالي نصف الفخذ أو أكثر في بعض الأوقات. ونظرا لانتشار هذا اللبس فإننا نأمل من سماحتكم إيناسنا برأيكم حول هذا الموضوع، وبيان الحكم الشرعي فيه، حيث إنه بتداوله خلال الفترات الطويلة أصبح في حكم المتعارف عليه، وأنه مباح للناس جزاكم الله خيرا؟
ج: ستر العورة واجب بإجماع المسلمين، والمرأة كلها عورة، والقبل والدبر من الرجل عورة بإجماع. والصحيح من أقوال العلماء أن عورة الرجل ما بين السرة والركبة، لما روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت (1) » ، رواه أبو داود وابن ماجه، وما روي عن محمد بن جحش قال: «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معمر وفخذاه مكشوفتان فقال: يا معمر غط فخذيك فإن الفخذين عورة (2) » ، رواه أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه
__________
(1) أبو داود برقم 3124 ورقم 3996.
(2) الإمام أحمد 5\ 290.(77/100)
تعليقا والحاكم في مستدركه، وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الفخذ عورة (1) » رواه الترمذي وأحمد ولفظه: «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وفخذه خارجة فقال له: " غط فخذيك فإن فخذ الرجل عورة " (2) » وما روي عن جرهد الأسلمي قال: " مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بردة وقد انكشفت فخذي فقال: «غط فخذك فإن الفخذ عورة (3) » رواه مالك في الموطأ وأحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن.
وهذه الأحاديث يشد بعضها بعضا فتنهض للاحتجاج بها. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) مسند أحمد (5/290) .
(2) سنن الترمذي الأدب (2798) ، مسند أحمد (1/275) .
(3) سنن الترمذي الأدب (2795) ، سنن أبي داود الحمام (4014) ، مسند أحمد (3/479) ، سنن الدارمي الاستئذان (2650) .(77/101)
من الفتوى رقم 2252
السؤال الثاني: هل الفخذ عورة؟
ج: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن فخذ الرجل عورة، واستدلوا على ذلك بأحاديث لا يخلو كل منها عن مقال في سنده من عدم اتصاله، أو ضعف في بعض الرواة، لكنها يشد بعضها بعضا فينهض مجموعها للاحتجاج به على المطلوب، ومن تلك الأحاديث ما رواه(77/101)
أبو داود وابن ماجه من حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت (1) » وما رواه أحمد والبخاري في تاريخه من حديث محمد بن جحش قال: «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معمر بن عبد الله وفخذاه مكشوفتان فقال: " يا معمر غط فخذيك فإن الفخذين عورة (2) » ومنها ما رواه مالك في الموطأ وأحمد وأبو داود والترمذي من «حديث جرهد الأسلمي قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بردة وقد انكشفت فخذي فقال: " غط فخذك فإن الفخذ عورة " (3) » حسنه الترمذي.
وذهب جماعة إلى أن فخذ الرجل ليس عورة، واستدلوا بما «رواه أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حسر الإزار عن فخذه حتى أني لأنظر إلى بياض فخذه (4) » ، رواه أحمد والبخاري وقال: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط، وقول الجمهور أحوط لما ذكره البخاري، ولأن الأحاديث الأولى نص الموضوع، وحديث أنس رضي الله عنه محتمل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبي داود الجنائز (3140) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1460) ، مسند أحمد (1/146) .
(2) مسند أحمد (5/290) .
(3) سنن الترمذي الأدب (2796) ، سنن أبي داود الحمام (4014) ، مسند أحمد (3/479) .
(4) صحيح البخاري الصلاة (371) .(77/102)
من الفتوى رقم 3435
السؤال الثالث: لقد أصبحت الملابس التي نلبسها خفيفة لدرجة أنها تكشف الساقين وما فوق الركبة، ولأن المذهب المالكي لا يجيز الصلاة بدون ستر ما بين السرة إلى الركبة مع أن كشف الملابس " يشف " ليس كبيرة ولكنه في بعض الأحيان يمكن للشخص أن يرى نهاية للباس الذي يستر العورة المغلظة، وذلك كما سمعت؛ لأن هذه الملابس مصنوعة من البترول، ولأنني لست متعودا على لبس السروال حتى يمكنني أن أستر من السرة إلى الركبة، وهل هذا المنع في الصلاة فقط أو معه كذلك قراءة القرآن؟
ج: يجب أن يكون اللباس ساترا للعورة سواء في الصلاة أو في قراءة القرآن أو في غير ذلك من أحوال الإنسان إلا ما ورد فيه الدليل الدال على جواز كشف العورة كقضاء الحاجة والاستنجاء وعند جماع الرجل زوجته ونحو ذلك، والعورة هي ما بين السرة والركبة، كما دلت على ذلك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(77/103)
من الفتوى رقم 8502
السؤال الخامس: هل يجوز للمسلم أن يصلي وعليه ثوب يكشف ما تحته؟
ج: عورة الرجل في الصلاة ما بين السرة والركبة فمن صلى وهو كاشف شيئا منها أعاد الصلاة، وهكذا الحكم فيمن لبس لباسا خفيفا ترى البشرة من خلفه وصلى وجب عليه إعادة الصلاة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(77/104)
الفتوى رقم 10874
س: فيه إمام يصلي بالناس وهو من الناس الكبار الشيوخ وفي منطقة ديغية، ومنذ زمن وهو يصلي الجمع والأوقات وهو إمام المسجد. سؤالي يقول: هل يجوز للإمام أن يتقدم للمأمومين بدون لبس السروال، يكون في علمكم أن عورته واضحة جدا أمام المصلين، أفيدونا عن ذلك جزاكم الله خيرا؟(77/104)
ج: يشترط لصحة الصلاة ستر العورة ولا يشترط لبس السروال، وحدها للرجل من السرة إلى الركبة، فإذا صلى الرجل وهو كاشف شيئا من العورة لم تصح صلاته، ولا صلاة من خلفه إذا علموا بذلك قبل السلام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(77/105)
الفتوى رقم 12587
س: هل تبطل الصلاة إذا صلى شخص بسروال فقط دون القميص، أو بالأحرى: ما حكم الصلاة بالسراويل؟ خاصة أننا نجد في بلادنا هذه أي الجزائر تقريبا كل الناس يصلون بالسراويل إلا من رحم ربي وأغلبهم الشباب. وهناك من يقول أو يحكم بالبطلان أو الصلاة فيها شك، إلى غير ذلك. لذا أطلب من فضلكم إفادتنا لهذا الجواب، أو هذا الحكم الشرعي لهذا السؤال وبصفتي طالب علم إن شاء الله وأسأله التوفيق، أرجو وألح أن تفيدنا هذا الحكم الشرعي بالتفصيل. وأسأل الله التوفيق للعلم(77/105)
النافع والتفقه في ديننا والعمل والثبات والإخلاص وبارك الله فيكم. . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ج: الواجب على الرجل أن يستر ما بين السرة والركبة بلباس ساتر لا يصف البشرة ولا يحدد العورة، فإذا كان من صلى قد ستر محل الفرض بما لا يصف البشرة من السراويل وغيرها فصلاته صحيحة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(77/106)
من الفتوى رقم 4143
السؤال الأول: ظهرت في بلادي فرقة تتكون من الشباب فهم يصلون جماعة مكشوفي الرأس ويقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يلبس قلنسوة للصلاة، فما هو الحكم الشرعي في لبس القلنسوة للصلاة؟
ج: ستر رأس الرجل في الصلاة ليس واجبا، والأمر في ذلك واسع.(77/106)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(77/107)
من الفتوى رقم 5699
السؤال الأول: ما حكم الصلاة بدون غطاء للرأس سواء أكان المصلي إماما أم مأموما؟
ج: ليس الرأس مما يجب ستره في الصلاة بالنسبة للرجل سواء كان إماما أو مأموما، وأما المرأة فيجب عليها ستره.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(77/107)
من الفتوى رقم 7522
السؤال الأول: ما حكم تغطية الرأس بالنسبة للرجال،(77/107)
وهل لبس الطاقية أو القلنسوة واجب وخصوصا في الصلاة، حيث يوجد هنا مجموعة من الشباب يرونها واجبة، للعلم أنهم ليسوا بعلماء، وإذا توفر إمام لا يغطي رأسه هل نصلي خلفه؟
ج: لا يجب تغطية الرأس على الرجل في الصلاة ولا في غيرها، ويجوز الائتمام بمن لا يغطي رأسه؛ لأن الرأس بالنسبة للرجل ليس بعورة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(77/108)
الوقوف على القرآن
لفضيلة الدكتور\ بدر بن ناصر البدر (1)
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) ، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3) ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) .
__________
(1) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كلية أصول الدين.
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71(77/109)
أما بعد:
فإن أعظم نعمة يمن الله بها على عبده هي نعمة الإسلام والإيمان، كما قال تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} (1) ، هذا الدين العظيم الذي حوى كل خير واشتمل على كل ما يصلح أحوال البشر في صغير الأمور وكبيرها، وحرم عليهم ما يعود عليهم بالسوء والضرر في العاجل والآجل، وجعل شريعته كاملة صالحة لكل زمان ومكان، مصلحة لأحوال الأفراد والمجتمعات، تدعو إلى الصلاح والاستقامة والعدل، وتنبذ الشرك والشر والظلم والجور والغدر.
لقد أبان رسولنا عليه الصلاة والسلام ما نزل عليه من ربه بيانا كاملا شاملا، تركنا على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فهو المنة المسداة والرحمة المهداة، يقول تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (2) ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (3) .
وقد حفظ الله تعالى كتابه وصانه، وهيأ له من الأسباب ما
__________
(1) سورة الحجرات الآية 17
(2) سورة آل عمران الآية 164
(3) سورة الأنبياء الآية 107(77/110)
كفل له انتشاره وتعلق القلوب به، واحترامه وتوقيره وتعظيمه، قال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) ، والبشرية اليوم أحوج ما تكون إلى نوره وهديه، لتسعد في الدنيا والآخرة. ومن الأسباب المعينة على أداء هذه الرسالة والقيام بهذه الأمانة إقامة الأوقاف في خدمة القرآن الكريم، تلاوة وحفظا، تعلما وتعليما، تأملا في هداياته ونظرا في دلالاته، فقها بأحكامه وعلما بمسائله، عملا به وتحاكما إليه، سيرا على نهجه والتزاما بهديه.
وهذا ما أحببت الكتابة عنه في هذا البحث (الوقف على القرآن) ، وذلك من خلال الخطة التالية:
- المقدمة.
- المبحث الأول: تعريف الوقف لغة واصطلاحا.
- المبحث الثاني: أهمية الوقف وأدلة مشروعيته.
- المبحث الثالث: أركان الوقف وشروطه.
- المبحث الرابع: أنواع الوقف.
- المبحث الخامس: الطرق والأساليب الداعمة للوقف.
- المبحث السادس: حاجة البشرية إلى نور القرآن وهدايته.
- المبحث السابع: مشروعية الوقف في خدمة القرآن.
- المبحث الثامن: مقاصد الواقفين على القرآن، وفيه مطالب:
__________
(1) سورة الحجر الآية 9(77/111)
- المطلب الأول: الوقف على المدارس القرآنية.
- المطلب الثاني: الوقف على القراء.
- المطلب الثالث: الوقف على تعليم القرآن وتحفيظه.
- الخاتمة.
وقد سرت في كتابته حسب المنهج التالي:
- عزوت الآيات إلى سورها، ذاكرا اسم السورة ورقم الآية.
- خرجت الأحاديث، مكتفيا بالصحيحين أو بأحدهما إن كان الحديث فيهما، فإن لم يكن خرجته باختصار من غيرهما.
- لم أترجم للأعلام الوارد ذكرهم في البحث، خشية الإطالة.
- عزوت الأقوال إلى أصحابها، ووثقتها من كتب أصحابها، فإن لم أستطع وثقتها من المصادر والمراجع الأخرى.
- ذكرت تفاصيل المصادر والمراجع في ثبت مستقل في آخر البحث.
وبكل حال فإنني لا أدعي الإحاطة بكتابتي في هذا الموضوع ولا شمول البحث فيه، لما يعتريني من النقص والقصور، ثم لتشعب الموضوع وسعته.
أسأله تعالى أن يمنحنا الفقه في الدين واتباع سنة سيد الأولين والآخرين، عليه الصلاة والسلام، كما أسأله عز وجل أن يجزي(77/112)
المشايخ القائمين على مجلة البحوث الإسلامية خير الجزاء، وأن يوفقهم لكل خير.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(77/113)
المبحث الأول: تعريف الوقف لغة واصطلاحا
الوقف في اللغة: بمعنى الحبس والمنع، يقال: حبست أحبس حبسا وأحباسا - أي وقفت. والاسم الحبس بالضم وكان الوقف أول عهده يسمى صدقة وحبسا وحبيسا.
ويقال: وقفت الدابة إذا حبستها على مكانها، ثم حدث اسم الوقف وفشا، ولا تزال الأوقاف إلى اليوم في بلاد المغرب تسمى أحباسا. وفي حديث وقف عمر «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها (1) » ، وفي حديث الزكاة «إن خالدا جعل رقيقه وأعتدته حبسا في سبيل الله (2) » ، أي وقفا على المجاهدين وغيرهم.
وفي حديث ابن عباس: «لما نزلت آية الفرائض قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا حبس بعد سورة النساء» أي: لا يوقف مال ولا يزوى عن وارثه، إشارة إلى ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من حبس مال الميت ونسائه (3) .
أما في الاصطلاح فقد اختلف الفقهاء في تعريف الوقف اختلافا كثيرا تبعا لاختلافهم في تحديد طبيعة الوقف ولزومه أو عدم لزومه ونحو ذلك، وأقرب هذه التعاريف عندي أنه: (تحبيس مالك مطلق التصرف ماله المنتفع به مع بقاء عينه، وقطع تصرف الواقف
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2772) ، صحيح مسلم الوصية (1633) ، سنن الترمذي الأحكام (1375) ، سنن النسائي الأحباس (3601) ، سنن أبي داود الوصايا (2878) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2396) ، مسند أحمد (2/55) .
(2) سنن الترمذي الجهاد (1719) ، سنن النسائي قسم الفيء (4148) ، سنن أبي داود الخراج والإمارة والفيء (2967) ، مسند أحمد (1/48) .
(3) ينظر: تهذيب اللغة 9\ 233، الصحاح 2\ 1089، لسان العرب 9\ 359.(77/114)
في رقبة العين، يصرف ريعه إلى جهة بر تقربا إلى الله تعالى) (1) .
__________
(1) ينظر: المغني 8\ 184، الإنصاف 7\ 3.(77/115)
المبحث الثاني: أهمية الوقف وأدلة مشروعيته
الوقف جائز ومشروع بنصوص عامة من القرآن الكريم وأخرى مفصلة من السنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (1) ، «وقوله تعالى:، ولما سمعها أبو طلحة رضي الله عنه قال: يا رسول الله إن الله يقول:، وإن أحب أموالي إلي (بيرحاء) وإنها صدقة لله تعالى، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله، فقال: بخ ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين (4) » .
ومن السنة ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (5) » .
__________
(1) سورة البقرة الآية 272
(2) رواه البخاري في صحيحه كتاب الوصايا باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز 3\ 1019 برقم 2617، ومسلم في صحيحه كتاب الزكاة باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين 2\ 693 برقم 998.
(3) سورة آل عمران الآية 92 (2) {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(4) سورة آل عمران الآية 92 (3) {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(5) رواه مسلم في صحيحه كتاب الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته 3\ 1255، برقم 1631.(77/115)
والصدقة الجارية محمولة على الوقف عند العلماء، فإن غيره من الصدقات ليست جارية، بل يملك المتصدق عليه أعيانها ومنافعها.
وحديث وقف عمر بن الخطاب، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما «أن عمر أصاب أرضا من أرض خيبر، فقال يا رسول الله: أصبت مالا بخيبر لم أصب قط مالا أنفس منه، فما تأمرني، فقال: (إن شئت حسبت أصلها وتصدقت بها) قال: فتصدق بها عمر على ألا تباع ولا توهب ولا تورث، في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول (1) » رواه الجماعة، قال الحافظ ابن حجر: (وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف) (2) .
«وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: " من يشتري بئر رومة فيجعل منها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة، فاشتريتها من صلب مالي (3) » رواه البخاري (4) .
__________
(1) صحيح البخاري الشروط (2737) ، صحيح مسلم الوصية (1633) ، سنن الترمذي الأحكام (1375) ، سنن النسائي الأحباس (3597) ، سنن أبي داود الوصايا (2878) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2396) ، مسند أحمد (2/55) .
(2) فتح الباري 5\ 402.
(3) سنن الترمذي المناقب (3703) ، سنن النسائي الأحباس (3608) .
(4) في صحيحه كتاب الوصايا باب إذا أوقف أرضا أو بئرا واشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين 3\ 1021 برقم 2626.(77/116)
ومن الأدلة العملية ما رواه عمرو بن الحارث قال: «ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته درهما، ولا دينارا، ولا عبدا ولا أمة، ولا شيئا إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضا جعلها صدقة (1) » (2) .
قال ابن حجر - رحمه الله - (إنه تصدق بمنفعة الأرض صار حكمها حكم الوقف) (3) .
وقد ذكر العلماء - رحمهم الله -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوقف أموالا متعددة من أراض ومزارع مما أفاء الله عليه (4) .
وبعد ذلك تتابع الصحابة رضوان الله عليهم في الوقف حتى إن جابرا رضي الله عنه قال: (لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف) (5) ، وهذا إجماع منهم، فإن الذي قدر منهم على الوقف وقف، واشتهر ذلك فلم ينكره أحد فكان إجماعا.
ونظام الوقف باعتباره نظاما خيريا موجود منذ القدم بصور شتى، إلا أنه من المؤكد أن نظام الوقف في الإسلام بشكله الحالي
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4461) ، سنن النسائي الأحباس (3595) ، مسند أحمد (4/279) .
(2) رواه البخاري في صحيحه كتاب الوصايا باب الوصايا 3\ 1005 برقم 2588.
(3) فتح الباري 5\ 360.
(4) الأحكام السلطانية لأبي يعلى 199 - 202، الأحكام السلطانية للماوردي 213، 214.
(5) المغني 8\ 185.(77/117)
يبقى خصوصية إسلامية لا يمكن مقارنتها بصور البر في الحضارات أو الشعوب الأخرى وهذا عائد إلى عدة أمور:
1 - التعلق الشعبي به وامتداد رواقه ومظلته إلى أمور تشف عن حس إنساني رفيع.
2 - عدم اقتصار الوقف على أماكن العبادة كما هو في الأديان السابقة، بل امتد في نفعه إلى عموم أوجه الخير في المجتمع.
3 - شمول منافع الوقف حتى على غير المسلمين من أهل الذمة، فيجوز أن يقف المسلم على الذمي لما روي أن صفية بنت حيي - رضي الله عنها - وقفت على أخ لها يهودي. ويتميز الوقف بخصائص وميزات متعددة قد لا توجد في المشاريع الخيرية الأخرى، وهذه المزايا أكسبته تلك الحيوية التي استمر أثرها في الأمة على مدى قرون طويلة؛ لأجل ذلك لا عجب أن نرى ذلك الإقبال الكبير من لدن أفراد المجتمع المسلم على الوقف وتحبيس جزء كبير من أملاكهم لأعمال الخير، وقدوتهم في ذلك نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام ثم صحبه الكرام، فقد وقف مجموعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير بن العوام ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة وصفية زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وأسماء بنت أبي بكر وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وجابر(77/118)
بن عبد الله وغيرهم، رضي الله عنهم أجمعين، ومن بعدهم من التابعين وتابع التابعين.
ثم سار من بعدهم الأغنياء والموسرون من المسلمين فأوقفوا الأوقاف وأشادوا الصروح، بنوا المساجد، وأنشئوا المدارس وأقاموا الأربطة، وهؤلاء الأخيار والأغنياء الأبرار لم يدفعهم إلى التبرع بأنفس ما يجدون وأحب ما يملكون، ولم يتنازلوا عن هذه الأموال الضخمة والثروات الهائلة إلا لعظم ما يرجون من ربهم ويأملون من عظيم ثواب مولاهم، ثم الشعور بالمسئولية تجاه الجماعة والأقربين، دفعهم ذلك كله إلى أن يرصدوا الجزيل من أموالهم ليستفيد إخوانهم أفرادا وجماعات، جمعيات وهيئات، أقرباء وغرباء.
قال بعض أهل العلم: الوقف شرع لمصالح لا توجد في سائر الصدقات، فإن الإنسان ربما صرف مالا كثيرا ثم يفنى هذا المال، ثم يحتاج الفقراء مرة أخرى أو يأتي فقراء آخرون فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء وقفا للفقراء وابن السبيل يصرف عليهم من منافعه ويبقى أصله.
ففي الوقف تطويل لمدة الاستفادة من المال، فقد تهيأ السبل لجيل من الأجيال لجمع ثروة طائلة، ولكنها قد لا تتهيأ للأجيال التي بعدها، فبالوقف يمكن إفادة الأجيال اللاحقة. مما لا يضر الأجيال السابقة.(77/119)
الوقف الخيري أحد أبرز سمات المجتمع المسلم، ارتبط بالوجود الإسلامي في المدينة، ومارسه المسلمون تلبية لأوامر الإسلام العقدية والتعبدية والخلقية ولحاجات الناس، حيث شمل الوقف كل جوانب الحياة وأوجه الإنفاق على دور العبادة والتعليم والخير.
وقد كثرت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحث على الإنفاق في سبيل الله بوجه عام، وحددت الشريعة عدة صور لهذا الإنفاق؛ منها الزكاة والصدقات التطوعية بشكل عام، ومنها الصدقات الجارية التي عمادها الوقف، ومن حكمة الله عز وجل أنه جعل الصدقات الجارية امتدادا لعمل الإنسان الخيري وزيادة حسناته بعد وفاته وانقطاع عمله، وإلى جانب ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته الشريفة وتعليما للمسلمين قام بأول وقف في الإسلام، وتبعه في ذلك الصحابة حتى إنه ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له مقدرة إلا وقف.
وإذا كان المسلم حريصا على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويرجو الثواب في الدنيا والآخرة، فإن الله سبحانه فتح أمامه أبواب الخير العديدة ومنها الوقف، إضافة إلى أن الوقف في الإسلام من أهم المؤسسات التي كان لها دور فعال في الحضارة الإسلامية لكافة جوانبها الدينية والاقتصادية والاجتماعية وحراسة الدين، ومن أهم آليات حراسة الدين بناء المساجد وعمارتها لإقامة(77/120)
الصلوات التي تعد عماد الدين، وكان الوقف وما يزال المصدر الرئيس لتوفير التمويل اللازم لذلك، هذا إلى جانب أن وقف الكتب وإقامة المكتبات وإقامة حلقات التعليم في المساجد تعمل في مجال حراسة الدين كما تعمل في مجال التنمية البشرية.
ويلعب الوقف دورا في مكافحة الفقر وإنشاء المدارس والمستشفيات والطرق والجسور، ومصادر المياه الصالحة للشرب، وغيرها من مؤسسات التنمية الاجتماعية والحضارية، وظهر للوقف قديما دور في النشاط الزراعي بوقف الأراضي الزراعية واستغلالها لحساب مستحقي الوقف.
ومما يبرز أهمية الوقف أن بعض الدول غير الإسلامية والمتقدمة منها مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ينتشر الوقف بها رغم أنه ليس وراء ذلك دافع ديني إسلامي، ورغم كثرة المبتكرات لديهم من أساليب تمويل الخدمات الاجتماعية إلا أنهم أخذوا صيغة الوقف كما جاء بها الإسلام وطبقوها في مجالات عديدة مثل المستشفيات والجامعات، ومواجهة الكوارث وتقديم الإعانات للفقراء، كل ذلك يؤكد لنا أن مؤسسة الوقف ليست عملا تراثيا من الماضي ولم يعد له حاجة في الوقت الحاضر، بل على العكس دوره مطلوب بشدة الآن، وله ما يبرره ويجب العمل على إحيائه بكل السبل.(77/121)
تقوم فكرة الوقف نفسها على تنمية قطاع ثالث متميز عن كل من القطاع الخاص، والقطاع الحكومي، وتحميل هذا القطاع مسؤولية النهوض. بمجموعة من الأنشطة هي - بطبيعتها - تدخل في إطار البر والإحسان والرحمة والتعاون، لا في قصد الربح الفردي، ولا ممارسة قوة النظام وسطوته؛ لأن هذا النوع من الأنشطة قائم على المودة والمرحمة.
فالوقف إخراج لجزء من الثروة الإنتاجية في المجتمع من دائرة المنفعة الشخصية ودائرة القرار الحكومي معا، وتخصيص لذلك الجزء لأنشطة الخدمة الاجتماعية العامة، وقد قررت الشريعة الإسلامية أن هذه الأنشطة والخدمات هي حاجة بشرية، لا تقتصر على المجتمع الإسلامي فقط بل هي لغير المسلمين أيضا.
لقد فتح الإسلام منابع عديدة لنفع الآخرين، منها ما هو واجب كالزكاة والكفارات والنذور، وهذه لا حديث عنها باعتبارها واجبا لازما على المسلم، ومن المنابع ما هو ذو طابع تطوعي بحت، مثل الصدقات التطوعية والوقف، فالمسلم حين يتنازل عن حر ماله طواعية فهو يتمثل الرحمة المهداة في الإسلام للبشر أجمع نبينا عليه الصلاة والسلام، ويتحرر به من ضيق الفردية والأنانية متجاوزا الأنا إلى الكل، شاملا المجتمع بخيرية الفرد، وبانيا الجسد الواحد بكرم العضو، وهذا التفاعل تحقيق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل(77/122)
المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (1) » متفق عليه (2) .
ويعد الوقف بمفهومه الواسع أصدق تعبيرا وأوضح صورة للصدقة التطوعية الدائمة، بل له من الخصائص والمواصفات ما يميزه عن غيره، وذلك لعدم محدوديته واتساع آفاق مجالاته، والقدرة على تطوير أساليب التعامل معه، وكل هذا كفل للمجتمع المسلم التراحم والتواد بين أفراده على مر العصور بمختلف مستوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها الأمة الإسلامية خلال الأربعة عشر قرنا الماضية، فنظام الوقف مصدر مهم لحيوية المجتمع وفاعليته، وتجسيد حي لقيم التكافل الاجتماعي التي تنتقل من جيل إلى آخر حاملة مضموناتها العميقة في إطار عملي يجسده وعي الفرد بمسؤولياته الاجتماعية، ويزيد إحساسه بقضايا إخوانه المسلمين، ويجعله في حركة تفاعلية مستمرة مع همومهم الجزئية والكلية.
إن الدارس للوقف في الحضارة الإسلامية ليعجب من التنوع الكبير في مصارف الأوقاف، فكان هناك تلمس حقيقي لمواطن الحاجة في المجتمع، لتسد هذه الحاجة عن طريق الوقف، فالوقف من حيث بعده الاجتماعي يبرهن على الحس التراحمي الذي يمتلكه
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد (4/375) .
(2) رواه البخاري في صحيحه 10\ 367، ومسلم في صحيحه برقم 2615 عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.(77/123)
المسلم ويترجمه بشكل عملي في تفاعله مع هموم مجتمعه الكبير، ويظهر هذا جليا في رصد التطور النوعي للوقف على امتداد القرون الأربعة عشر، فقد كان المسجد أهم الأوقاف التي عني بها المسلمون، بل هو أول وقف في الإسلام، كما هو معلوم في قصة بناء مسجد قباء أول مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ولعل من أبرز شواهد اهتمام المسلمين بذلك الجانب في الوقف: الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، والجامع الأزهر بالقاهرة، والمسجد الأموي بدمشق والقرويين بالمغرب، والزيتونة بتونس وغيرها كثير، ثم يأتي في المرتبة الثانية من حيث الكثرة العددية والأهمية النوعية المدارس، فقد بلغت الآلاف على امتداد العالم الإسلامي، وكان لها أثر واضح في نشر العلم بين المسلمين، وقد أدى توافد طلاب العلم من جميع أنحاء العالم إلى مراكز الحضارة الإسلامية والعواصم الإسلامية إلى إنشاء الحانات الوقفية التي تؤويهم، مع تهيئة الطرق، وإقامة السقايات والأسبلة في هذه الطرق للمسافرين، وكذا دوابهم. وصاحب ذلك إنشاء الأربطة ودور العلم للطلاب الغرباء لإيوائهم، واستتبع ذلك ظهور الوقف للصرف على هؤلاء الطلاب باعتبارهم من طلاب العلم المستحقين للمساعدة في دار الغربة، ولا تخلو كل هذه المراحل والأنواع من جوانب اجتماعية للوقف، إلا دلالتها وأهميتها وأثرها في المجتمع بشكل عام. كما أن(77/124)
للوقف دورا فاعلا في مجال الرعاية الاجتماعية، يتمثل ذلك في المدارس والمحاضن التي أنشئت خصيصا للأيتام، يوفر لهم فيها المأكل والأدوات المدرسية، كما يتمثل دور الوقف في مجال الرعاية الاجتماعية في الأربطة بالإضافة إلى الأسبلة التي يقصد بها توفير ماء الشرب للمسافرين وعابري السبيل وجموع الناس، سواء داخل المدن أو خارجها، وقد أدت دورها الاجتماعي باقتدار رغم صعوبة استمرار مثل هذه المؤسسات الاجتماعية وبقائها فترات طويلة وعلى مدى أجيال متوالية، ويعود ذلك إلى حاجتها الكبيرة إلى موارد مالية دائمة لا تتوقف ولا تنضب، وقد تحقق لها ذلك بفضل من الله ثم بفضل نظام الوقف الذي ازدهر في تصاعد مع ازدهار الحضارة الإسلامية، ذلك أن الملاحظ في كثير من حلقات التاريخ وفي العديد من بلاد العالم توقف مؤسسات خيرية ضخمة عن أداء رسالتها بعد فترة من الزمن، بسبب نضوب مواردها المالية وإفلاسها، مما اضطرها إلى طلب مساعدة الخيرين بين حين وآخر، أما في الحضارة الإسلامية فإنه قل أن تجد مثيلا لهذه الظاهرة.(77/125)
المبحث الثالث: أركان الوقف وشروطه
للوقف أركان لا يتم إلا بها، إلا أن العلماء اختلفوا في هذه الأركان، ومذهب الجمهور أن للوقف أربعة أركان: الواقف والموقوف والموقوف عليه والصيغة.(77/125)
فالركن الأول: الواقف، وهو المكلف الرشيد الحر الذي صدر منه الإيجاب بإنشاء عقد الوقف.
والركن الثاني: الموقوف، وهو كل عين مملوكة يصح بيعها.
والركن الثالث: الموقوف عليه، وهو الذي يخصص الوقف أو ريعه عليه، سواء كان معينا كشخص أو جماعة، أو غير معين كجهة من الجهات.
والركن الرابع: الصيغة، وهو القول الذي دل على إنشاء عقد الوقف، وكذا الفعل الدال عليه، كما لو بنى مسجدا وخلى بينه وبين الناس، أو مقبرة وأذن في الدفن فيها.
وقد اتفق الفقهاء على أن المعتبر في الصيغة إيجاب الواقف، فيكون الوقف من العقود التي تنعقد من طرف واحد، ولا يعد قبول الموقوف عليه من أركان الوقف، لكن هل هو من شرطه؟؟
إن كان الموقوف عليه غير معين كالفقراء وطلبة العلم وما أشبه ذلك لم يعتبر قبولهم باتفاق أهل العلم، وإن كان معينا كشخص أو جماعة فجمهور العلماء على أنه لا يشترط قبولهم أيضا، هذا مذهب الحنفية والحنابلة وأحد الوجهين عند الشافعية، وذهبت المالكية وهو الوجه الآخر عند الشافعية ورواية عند الحنابلة إلى أنه يعتبر قبول الموقوف عليه المعين أو وليه إذا كان صغيرا ما وقف عليه (1) .
__________
(1) ينظر: شرح الخرشي على مختصر خليل 5\ 88، روضة الطالبين 5\ 322، المغني 6\ 187.(77/126)
أما شروط الوقف فهي مرتبطة بالأركان السابقة، وهي كالتالي:
أولا: الشروط المعتبرة في الواقف.
يشترط في الواقف كي يصح منه عقد الوقف أن يكون أهلا للتبرع، والأهلية تعني: أن يكون حرا مكلفا رشيدا، فلا يصح الوقف من العبد لأنه لا يملك، وإن ملك فملكه قاصر؛ لأنه يؤول إلى سيده، ولا يصح من صغير مميزا كان أم غير مميز، ولا من المجنون، ولا من السفيه، لعدم أهليتهم للتبرع، وذلك لأن الوقف تبرع وإسقاط للملك بلا عوض فلم يصح من هؤلاء.
ثانيا: الشروط المعتبرة في الموقوف عليه.
الموقوف عليه إما أن يكون معينا كشخص أو جماعة، أو يكون جهة، فإن كان الموقوف عليه معينا فقد اشترط بعض الفقهاء أن يمكن تمليكهم، فخرج بذلك الوقف على المجنون والجني والملك، وألا يكون على معصية كما لو وقف على نائحة أو مغنية.
واشترط المالكية والشافعية قبول المعين للوقف، لكن ليس هذا شرطا في صحة الوقف، بل شرط في اختصاصه به، فلو لم يقبل فإنه لا يعود مطلقا، بل يكون للمصرف الذي بعده إن عين مصرفا، وإلا فيعود للفقراء والمساكين.
ومن الشروط أيضا أن يكون الوقف على بر وطاعة؛ لأن(77/127)
الوقف صدقة وطاعة فلا بد أن تصادف محلا تظهر فيه القربة والطاعة، ومذهب المالكية ألا يكون على معصية محضة.
أما إذا كان الموقوف عليه جهة كالمساجد والمدارس والأربطة والمستشفيات وغيرها فيشترط أن تكون جهة بر وطاعة وقربة، فلا يصح الوقف على جهة معصية، كالوقف على قطاع الطرق أو على المبتدعة أو على المغنين ونحوهم، لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) ، ولأن في الوقف على المعصية إشاعة لها وتقوية لجانبها، وهذا مناف لمقاصد الشرع في الأوقاف، ولأن الوقف قربة وطاعة فكيف يتقرب إلى الله تعالى بالمعصية؟ . ثالثا: الشروط المعتبرة في محل الوقف، وهو الذي يرد عليه عقد الوقف ومن تلك الشروط:
1 - أن يكون الوقف مالا، مباح النفع مطلقا، فخرج ما لا نفع فيه، وما نفعه محرم كالخمر والخنزير، وما منفعته مقيدة بالضرورة كالميتة.
2 - أن يكون مملوكا؛ لأن التبرع تصرف ينقل الملك، فلا يجوز لإنسان أن يتصرف فيما لا يملكه ولا ولاية له عليه.
3 - أن يكون معلوما حين الوقف فلا يصح وقف المجهول
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(77/128)
كالحصة والشيء.
4 - اشترط جمهور العلماء دوام الانتفاع بالعين، فلا يصح وقف طعام لأكل، ولا ريحان لشم، لعدم دوام الانتفاع بهذه الأمور.
رابعا: الشروط المعتبرة في صيغة الوقف:
يشترط في صيغة الوقف شروط أهمها:
1 - أن تكون دالة على الجزم بالعقد، فلا ينعقد الوقف بالوعد به، كما لو قال: سأقف على ذريتي، وما أشبه ذلك.
2 - أن تكون الصيغة لفظا، فلا ينعقد بالصيغة الفعلية، وهذا الشرط قال به الحنفية والشافعية، وذهب المالكية والحنابلة إلى أن الصيغة الفعلية تكفي للدلالة على الوقف وينعقد بها.
ومن المعلوم أن شرط الواقف إذا لم يكن إصلاحا أو كان إثما فلا يجوز اعتباره ولا حرمة له، كما لو شرط التعزب في الموقوف عليه أو الترهب.
بل لو شرط ما هو مكروه، أو تضمن شرط ترك ما هو أحب إلى الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا حرمة لشرطه، ولا إثم على من غير شرطه.
قال ابن القيم - رحمه الله -: (ولا يحل لأحد أن يجعل هذا الشرط المخالف لكتاب الله عز وجل بمنزلة نص الشارع، ولم يقل هذا أحد من أئمة الإسلام. . . فإذا شرط الواقف القراءة على القبر كانت(77/129)
القراءة في المسجد أولى وأحب إلى الله ورسوله وأنفع للميت. . . ومن ذلك: أن يشرط عليه إيقاد قنديل على قبر، أو بناء مسجد عليه، فإنه لا يحل تنفيذ هذا الشرط ولا العمل به، فكيف ينفذ شرط لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعله؟) (1) .
ومن هنا تتبين أهمية الألفاظ في الوقف، وأن الصيغة الفعلية لا تكفي للدلالة عليه ما لم يقترن بها اللفظ، أو قرينة قوية دالة عليه.
3 - أن تكون الصيغة دالة على التنجيز، فلا يصح الوقف المعلق، ولا المضاف إلى شرط مستقبل؛ لأن الوقف فيه معنى تمليك المنافع والغلة، والتمليكات يبطلها التعليق.
4 - أن يقع الوقف لازما، فلا يصح شرط الخيار فيه، كأن يقول: داري وقف على أني بالخيار شهرا، فإذا علقه بشرط الخيار بطل، والعلة فيه ما سبق في شرط التنجيز، ولأن الخيار شرع للتروي والتفكير في عاقبة الأمر، وهذا إنما يكون في الأمر المتردد بين المصلحة والمضرة.
والوقف مصلحة محضة للواقف في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فصلة الأقارب وبر الأحباب إن كان الموقوف عليه معينا، ونفع عموم المسلمين وتحقيق مصالحهم إن كان الوقف على جهة.
وما كان هذا شأنه فلا حاجة إلى التروي فيه، ومن هنا فلا
__________
(1) إعلام الموقعين 3 \ 96، 97.(77/130)
يصح شرط الخيار فيه؛ ولأن شرط الخيار فيه تأجيل لمنفعة الوقف مدة الخيار، وربما تطول، وقد يحتاج الموقوف إلى نفقة أو رعاية أو ما أشبه ذلك، فلذلك كان شرط الخيار في الوقف يتنافى مع هدف الوقف ومصلحته فلا يصح.
5 - أن تكون الصيغة دالة على التأبيد في الموقوف إما بصراحة لفظها، أو باقتضاء معناها، فلا يصح أن يقف مؤقتا، كأن يقول: داري وقف سنة أو شهرا أو ما أشبه ذلك، وهذا ما عليه الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة؛ وذلك لأن الواقف أخرج الموقوف عن ملكه على وجه القربة، ولا يجوز أن يرجع فيما أخرجه لله.
6 - أن لا يكون في صيغة الوقف شرط ينافي مقتضاه أو يعود عليه بالإبطال، فإذا شرط شرطا محرما أو شرطا ينافي مقتضى الوقف فإنه يبطل الوقف، واستثنى الحنفية وقف المساجد لو وقع فيها الشرط، فإن الوقف يصح ويلغو الشرط (1) .
__________
(1) ينظر لما سبق: حاشية ابن عابدين 4 \ 364، روضة الطالبين 5 \ 314، المغني 8 \ 217.(77/131)
المبحث الرابع: أنواع الوقف
للوقف أنواع كثيرة حسب أقسام متعددة، فمن ذلك:
أولا: أقسامه من حيث استحقاق المنفعة:
ينقسم الوقف بهذا الاعتبار إلى قسمين:(77/131)
القسم الأول: الوقف الأهلي والذري
والمراد به الوقف على الأهل والذرية بحيث يستحق منفعة الموقوف من أراد الواقف برهم من أقاربه، سواء كان شخصا أو جماعة معينة، ولا شك أنه يدخل في عموم الإحسان إلى الأقارب الذي أمر الله به في مثل قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} (1) .
والجمهور على جوازه، واعتبار شرط الواقف فيه.
القسم الثاني: الوقف الخيري
وهو الوقف على جهة بر وخير، مما تتعلق به مصالح جميع الناس في بلد أو في بلدان، وذلك كالمساجد والمدارس والأربطة والمستشفيات وغيرها، وسمي خيريا؛ لأنه جالب للخير ولما فيه من تعميم الانتفاع به، فصار خيرا عاما، وهذا النوع هو الغالب في الأوقاف، وهو الذي حصل من الصحابة - رضوان الله عليهم - وتسابق إليه المتسابقون وشمر إليه من يبتغون ما عند الله.
ثانيا: أقسام الوقف باعتبار المحل الموقوف، وفيه فروع:
الفرع الأول: وقف العقار.
الفرع الثاني: وقف المنقول.
الفرع الثالث: وقف النقود.
__________
(1) سورة النساء الآية 36(77/132)
أولا: حكم وقف العقار:
اتفق العلماء القائلون بمشروعية الوقف على مشروعية وقف العقار، وأنه من القرب المندوب إليها، بل نقل إجماع الصحابة على ذلك جماعة من العلماء منهم: القرطبي، وموفق الدين بن قدامة المقدسي، والنووي، وغيرهم (1) .
قال الترمذي في سننه: (والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، لا نعلم بين المتقدمين منهم في ذلك اختلافا في إجازة وقف الأرضين وغير ذلك) (2) .
ثانيا: حكم وقف المنقول:
المنقول الذي وقع فيه الخلاف هو ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالحيوان والسلاح والأثاث والأجهزة وغيرها.
أما ما لا يمكن الانتفاع به إلا بتلف عينه كالطعام ونحوه فهذا لا يدخل في الخلاف، فجمهور العلماء على عدم الجواز، بل يكاد يكون اتفاقا منهم على عدم جواز وقفه.
ومن نقل عنهم الجواز فلعلهم لم يريدوا حقيقة الوقف الشرعي، وإنما أرادوا أنه لا ينتفع به في غير تلك الجهة.
__________
(1) ينظر: الجامع لأحكام القرآن 6 \ 2190، المغني 8 \ 185، شرح صحيح مسلم 11 \ 86.
(2) سنن الترمذي 3 \ 660.(77/133)
ثالثا: حكم وقف الدراهم والدنانير:
الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة - والله أعلم - هو القول الذي يرى جواز ذلك مطلقا مع عدم بقاء عينها إذا كان لمنفعة مقصودة شرعا كإقراضها والمضاربة بها.(77/134)
المبحث الخامس: الطرق والأساليب الداعمة للوقف
هناك جملة من الطرق والأساليب الداعمة للوقف وإرجاعه إلى دوره الرائد في دعم الأعمال الخيرية والعلمية والاجتماعية وغيرها، للوصول إلى ما يطمح إليه الجميع بإذن الله فمن ذلك:
1 - تنفيذ حملة إرشاد وتوعية تهدف إلى إبراز قيمة الصدقات وأجر الإنفاق في سبيل الله، وبخاصة ما كان منها صدقة جارية (الوقف) للإقبال على إحياء هذا النظام وجعله يؤدي دوره.
2 - استمرار عقد الندوات العلمية المتخصصة في الأوقاف وطرحها بشكل موسع بحيث تكون المشاركات من دول العالم الإسلامي وعدم قصرها على المستوى المحلي.
3 - إبراز دور الوقف الاجتماعي في النهضة الإسلامية وطرحها عبر القنوات الإعلامية، مع التركيز على ضرورة التنوع في مصارف غلال الأوقاف وفق حاجات المجتمع كي تسد ثغراته الاجتماعية.(77/134)
4 - طباعة أبحاث الندوات التي أقيمت عن الوقف في كتب وطرحها في الأسواق للبيع وعدم الاقتصار على التوزيع المجاني لها.
5 - تحويل جميع عمليات الوقف من مبادرات فردية إلى عمل مؤسسي منظم من خلال إنشاء صناديق وقفية متخصصة يندرج ضمنها الأوقاف القائمة حاليا، وما يستجد من أوقاف في إطار واحد تحدده شروط الواقفين.
وتخصص هذه الصناديق المقترحة للقيام بالأنشطة الشرعية والثقافية والصحية بالإضافة إلى الأنشطة الاجتماعية من خلال إنفاق ريع أموال الواقفين بما يحقق أغراضهم، وتتكون موارد كل صندوق من ريع الأموال والأعيان الوقفية ويقوم على إدارة كل صندوق لجنة متخصصة، وتساعد مثل هذه الصناديق على توفير رأس مال كبير من مجموع الأوقاف المتناثرة، مما يعطي فرصة أكثر لتنمية رؤوس الأموال وإنشاء مشاريع تحقق تنمية واسعة.
ويمكن لتلك الصناديق دعم المشاريع الخيرية التي تتوافق مع شروط الواقفين، بحيث تقوم أية جهة بتقديم مشروع متكامل من حيث الدراسة والتنفيذ ونوعية ومقدار المستفيدين منه، ليقوم الصندوق بدراسة المشروع وتحديد مدى إمكانية دعمه وفق معايير واضحة، بذلك نضمن تحقيق أكثر فائدة من الأوقاف في المجالات المختلفة.
6 - استصدار نظام للأوقاف يتضمن تعريفه، وتنظيمه، وحمايته،(77/135)
بنوعيه الخيري العام والذري (أو الأهلي) الخاص.
7 - حماية أموال الأوقاف الموجودة من عقارات ومبان وأموال منقولة، والمحافظة عليها من الغصب والضياع والتعطيل، وحفظ سجلاتها.
8 - العمل على استرداد أملاك الأوقاف التي حولت إلى استعمالات أخرى بطرق غير مشروعة، ومراجعة السجلات القديمة للأوقاف في المحاكم والدوائر العقارية وغيرها لتحديد الأملاك الوقفية والبدء بإجراءات إعادتها إلى ميدانها الوقفي.
9 - إعادة النظر في إدارة أملاك الأوقاف، وبخاصة الأوقاف الاستثمارية، بما ينسجم مع إرادة الواقفين وشروطهم من جهة، ومع نصوص الشريعة ومقاصدها من جهة أخرى.
10 - وضع النظم اللازمة للتعريف بالأوقاف الخيرية العامة والأهلية الخاصة، وبيان دورها في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتشجيع قيام أوقاف جديدة، وإعادة إدخال الأوقاف الذرية في البلدان التي ألغتها، وبخاصة بعد أن اتجهت عدة مجتمعات معاصرة متطورة إلى تأكيد أهمية هذا النوع من الأوقاف وتشجيعها.
11 - تقديم المعونات المادية والفنية والتمويلية والإدارية للأوقاف، بنوعيها الخيري والأهلي.
12 - وضع الخطط اللازمة لاستثمار الأملاك الموجودة(77/136)
للأوقاف وتنميتها، التي تعطلت عن العطاء خلال العصور المتأخرة لأسباب تاريخية كثيرة، وتوفير فرص التمويل المناسبة لها.
13 - تكليف وزارة الأوقاف في كل بلد بالعمل على تشجيع إنشاء أوقاف جديدة، وإقامة الهيكل المؤسسي اللازم للمساعدة في إنشاء أوقاف جديدة، وتشجيع الأفراد على إقامتها وتقديم التسهيلات الضريبية والإدارية وغيرها، وكذلك الإعانات الإدارية والمالية لها حتى تتمكن من أداء دورها الاجتماعي والاقتصادي.(77/137)
المبحث السادس: حاجة البشرية إلى نور القرآن وهدايته
إن رسالة القرآن عالمية، وهذا من مميزاتها وخصائصها، فليست مقصورة على قوم أو جنس أو عصر أو مكان، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (1) ، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (2) ، وقال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (3) {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} (4) .
فمتى ما بلغت العبد رسالة القرآن ودعوته إلى توحيد الله عز وجل وإخلاص العمل له والحذر من الشرك والقيام بفرائضه وأداء
__________
(1) سورة سبأ الآية 28
(2) سورة الفرقان الآية 1
(3) سورة يس الآية 69
(4) سورة يس الآية 70(77/137)
حقوقه فقد قامت عليه الحجة وزالت عنه المعذرة، قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (1) ، قال ابن كثير في تفسير الآية: (هو نذير لكل من بلغه، وعن محمد بن كعب في قوله: {وَمَنْ بَلَغَ} (2) قال: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه، وكأنما أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم، وعن قتادة في قوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بلغوا عن الله، فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله (4) » ، وقال الربيع بن أنس: (حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو كالذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ينذر بالذي أنذر) (5) .
ومع استمرارية رسالة القرآن وخلودها بحفظ الله تعالى لها كما قال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (6) ، فإنها تحتاج إلى جهود متواصلة لتبليغ رسالته للعالمين وبيان هداياته للناس أجمعين، والبشرية الآن أحوج ما تكون إلى نوره وهداه،
__________
(1) سورة الأنعام الآية 19
(2) سورة الأنعام الآية 19
(3) سورة الأنعام الآية 19
(4) رواه عبد الرزاق في تفسيره 1 \ 2 \ 205، والطبري في تفسيره 11 \ 290، وابن أبي حاتم في تفسيره 4 \ 1272 عن قتادة مرسلا.
(5) تفسير القرآن العظيم 2 \ 126.
(6) سورة الحجر الآية 9(77/138)
لتخرج به من الظلمات بجميع صنوفها وأشكالها إلى نوره ورحمته وبركته، وأولى الناس بالقيام بذلك أهله المحبون له المعظمون إياه العاملون به.
وقد جاء في القرآن الكريم التعبير عن معنى تبليغ رسالته بكلمات كثيرة منها:
1 - (أنذر) كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (1) {قُمْ فَأَنْذِرْ} (2) ، وقوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (3) ، وقوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (4) .
2 - (ادع) قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (5) ، وقوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (6) .
3 - (اصدع) كقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (7) .
4 - (بين) كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (8) ،
__________
(1) سورة المدثر الآية 1
(2) سورة المدثر الآية 2
(3) سورة الشعراء الآية 214
(4) سورة الأنعام الآية 19
(5) سورة النحل الآية 125
(6) سورة الشورى الآية 15
(7) سورة الحجر الآية 94
(8) سورة النحل الآية 44(77/139)
وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1) .
وهذه الكلمات على تفاوت معانيها الخاصة بها إلا أنها تتفق في معناها العام، وهو وجوب تبليغ القرآن وبيان هداياته ودعوة الناس إلى العمل به واتباعه، وإن كان الخطاب فيها موجها للرسول صلى الله عليه وسلم فلأنه الأصل المبلغ عن الله سبحانه القدوة لأمته، وهم شركاء معه في هذه المهمة العظيمة، وبذلك نالوا الخيرية والفضل، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) ، وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (3) .
وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في كل زمان ومكان على تبليغ رسالة القرآن الكريم للناس كافة، فقال عليه الصلاة والسلام: «بلغوا عني ولو آية (4) » ، وعن ابن مسعود
__________
(1) سورة النحل الآية 89
(2) سورة آل عمران الآية 104
(3) سورة آل عمران الآية 110
(4) رواه البخاري في صحيحه كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، 6 \ 496 برقم 3461 عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.(77/140)
رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع (1) » ، وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (2) » ، وحذر من التكاسل في ذلك بكتم ما أوجب الله بيانه وتعليمه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار (3) » ، وفي رواية لابن ماجه: «ما من رجل يحفظ علما فيكتمه إلا أتي به يوم القيامة ملجما بلجام من نار (4) » .
إن الإسلام لا يرضى من المسلم أن يكون صالحا مهتديا في نفسه، بل يريد منه أن يكون مصلحا هاديا لغيره، فالنفع المتعدي أولى وأفضل من النفع الخاص، وإذا تخلى المسلمون عن حمل هذه
__________
(1) رواه أحمد في مسنده 1 \ 437، وابن حبان في صحيحه 1 \ 271 برقم 69، قال محققه شعيب الأرناؤوط (إسناده حسن) .
(2) رواه مسلم في صحيحه كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره 13 \ 38، 39.
(3) رواه أحمد في مسنده 2 \ 263، وأبو داود في سننه كتاب العلم، باب كراهية منع العلم 3 \ 321 برقم 3658، والترمذي في سننه كتاب العلم باب كراهية كتمان العلم 5 \ 28 برقم 2649 وحسنه.
(4) رواه ابن ماجه في سننه أبواب المقدمة، باب من سئل عن علم فكتمه 1 \ 49 برقم 261 وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1 \ 49.(77/141)
الرسالة وتكاسلوا في أداء هذه الأمانة تفاقمت الشرور وظهرت الفتن واستشرى الفساد بجميع أنواعه وتكالب الأعداء على الأمة، والله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) ، ويقول سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2) .
إن الداعي إلى القرآن المبلغ رسالته لا بد له كي يؤدي واجبه على الوجه الأكمل أن يكون عنده إيمان صادق بأن القرآن كلام الله عز وجل أفضل الكلام وأتمه وأصدقه، من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، لا خير ولا فلاح ولا هدى إلا في اتباعه والعمل به والتحاكم إليه، يدرك أن رسالة القرآن هي الحق المهيمنة على ما قبلها المصدقة لها، وما عداها فهو باطل، مع وجوب تعظيم كتاب الله تعالى وإجلاله ومحبته بكل القلب والتفاني من أجله، فيعيش له ويموت في سبيله، يعلم علم اليقين أنه بالقرآن حاز كل شيء وبدونه فقد كل شيء، هو مصدر سعادته وقوته وطريقه الواحد لنيل رضا ربه ودخول جنته، ويحتاج مع هذا إلى الصبر الذي هو نصف الإيمان وقد ذكر في القرآن في
__________
(1) سورة الأنفال الآية 25
(2) سورة الروم الآية 41(77/142)
أكثر من ثمانين موضعا، وأمرنا أن نستعين به بعد الله عز وجل لتحقيق الأهداف ونيل المقاصد، فقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (1) ، ولأهله المعية الخاصة والمحبة الخالصة، يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) ، ويقول عز وجل: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (3) ، ومن لوازم تلك المعية الخاصة النصرة والتأييد والتوفيق والتسديد، به وباليقين تنال الإمامة في الدين كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (4) .
بهذا كله وغيره يؤدي أهل القرآن المتأثرون به حقا وصدقا واجبهم المنوط بهم تجاه كتاب ربهم ورسالته وهداياته ومقاصده في العالمين.
لقد وصف ربنا تعالى كتابه العزيز بأنه هدى في سبعة وأربعين موضعا من القرآن، فهو هدى من الكفر والشرك إلى الإسلام والإيمان، وهو هدى من الظلم والجور والاعتداء إلى العدل والقسط والإنصاف، وهو هدى من الحيرة والشك والقلق إلى اليقين والطمأنينة، وهو هدى من العناء والشقاء إلى السعادة والراحة، وبهذا امتن الله تعالى على رسوله عليه الصلاة والسلام والأمة من بعده فقال تعالى:
__________
(1) سورة البقرة الآية 45
(2) سورة البقرة الآية 153
(3) سورة آل عمران الآية 146
(4) سورة السجدة الآية 24(77/143)
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) ، كما أن هذه الهداية متى تحققت لم يضل صاحبها في الدنيا ولم يشق في الآخرة، قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (2) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ضمن الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة) (3) .
ولكن هذه الهداية خاصة بمن آمن به واتبعه وتمسك به، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (4) ، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (5) ، وقال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (6) ، وقال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (7) ، يقول الإمام السعدي في تفسير
__________
(1) سورة الشورى الآية 52
(2) سورة طه الآية 123
(3) الجامع لأحكام القرآن، 11 \ 258.
(4) سورة النحل الآية 89
(5) سورة البقرة الآية 97
(6) سورة آل عمران الآية 138
(7) سورة البقرة الآية 2(77/144)
الآية: (الهدى ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبهة وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة، وقال سبحانه: (هدى) وحذف المعمول فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية ولا للشيء الفلاني، لإرادة العموم وأنه هدى لجميع مصالح الدارين، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية، ومبين للحق من الباطل والصحيح من الضعيف، ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم في دنياهم وأخراهم) (1) .
إن هداية القرآن كما تكون لأهلها في الدنيا فهي الموصلة لهم أيضا إلى جنات النعيم، يقول تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (2) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) ، فهداية القرآن لا تتحقق وتحصل إلا لمن اتبعه وتمسك به، يقول الحافظ ابن كثير: (ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم فقال: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (4) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} (5) ، أي: طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة، {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (6) ،
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن 23.
(2) سورة المائدة الآية 15
(3) سورة المائدة الآية 16
(4) سورة المائدة الآية 15
(5) سورة المائدة الآية 16
(6) سورة المائدة الآية 16(77/145)
أي: ينجيهم من المهالك، ويوضح لهم أبين المسالك، فيصرف عنهم المحذور ويحصل لهم أحب الأمور، وينفي عنهم الضلالة ويرشدهم إلى أقوم حالة) (1) ، ويقول الإمام السعدي: (ثم ذكر من الذي يهتدي بهذا القرآن؟ وما هو السبب الذي من العبد لحصول ذلك؟ فقال: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} (2) أي: يهدي من اجتهد وحرص على بلوغ مرضاة الله وصار قصده حسنا سبل السلام، التي يسلم صاحبها من العذاب، وتوصله إلى دار السلام، وهو العلم بالحق والعمل به، إجمالا وتفصيلا، {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (3) ظلمات الكفر والبدعة والمعصية، والجهل والغفلة، {إِلَى النُّورِ} (4) نور الإيمان والسنة والطاعة والعلم والذكر.
وكل هذه من الهداية بإذن الله، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5) .
إن هداية القرآن الكائنة لمن انتفع به دالة على كل خير في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (6) ، يقول الإمام الشنقيطي: (ذكر جل وعلا في هذه الآية
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 2 \ 34.
(2) سورة المائدة الآية 16
(3) سورة المائدة الآية 16
(4) سورة المائدة الآية 16
(5) سورة المائدة الآية 16
(6) سورة الإسراء الآية 9(77/146)
الكريمة أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية وأجمعها لجميع العلوم وآخرها عهدا برب العالمين جل وعلا يهدي للتي هي أقوم، أي: الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب. . .، وهذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم؛ لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة) (1) ، ثم أطال في تفصيل ما تضمنه القرآن من الهدايات في حوالي خمسين صفحة.
وقد ذكر الزرقاني أن هداية القرآن امتازت بأنها تامة وعامة وواضحة حيث قال: (وهداية القرآن تمتاز بأنها عامة وتامة وواضحة.
أما عمومها: فلأنها تنتظم الإنس والجن في كل عصر ومصر، وفي كل زمان ومكان، قال سبحانه وتعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (2) ، وقال جلت حكمته: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (3) ، وقال عز اسمه: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (4) .
__________
(1) أضواء البيان 3 \ 409.
(2) سورة الأنعام الآية 19
(3) سورة الأنعام الآية 92
(4) سورة الأعراف الآية 158(77/147)
وأما تمام هذه الهداية: فلأنها احتوت أرقى ما عرفت البشرية وعرف التاريخ. . . .، وانتظمت كل ما يحتاج إليه الخلق في العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات على اختلاف أنواعها، وجمعت بين مصالح البشر في العاجلة والآجلة، ونظمت علاقة الإنسان بربه وبالكون الذي يعيش فيه، ووفقت بطريقة حكيمة بين مطالب الروح والجسد.
وأما وضوح هذه الهداية: فلعرضها عرضا رائعا مؤثرا، توافرت فيه كل وسائل الإيضاح وعوامل الإقناع، أسلوب فذ معجز في بلاغته وبيانه، واستدلال بسيط عميق. . . .، وأمثال خلابة تخرج أدق المعقولات في صورة أجلى الملموسات، وحكم بالغات تبهر الألباب بمحاسن الإسلام وجلال التشريع، وقصص حكيم مختار يقوي الإيمان واليقين ويهذب النفوس والغرائز، ويصقل الأفكار والعواطف. . . ويصور له مستقبل الأبرار والفجار تصويرا يجعله كأنه حاضر تراه الأبصار في رابعة النهار) (1) .
__________
(1) مناهل العرفان 2 \ 134، 135 بتصرف يسير.(77/148)
المبحث السابع: مشروعية الوقف في خدمة القرآن
يعد الوقف الخيري والأهلي من الصدقة الجارية التي يستمر(77/148)
أجر صاحبها حيا وميتا، بل في أوليات ما حث النبي صلى الله عليه وسلم عليه في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (1) » ، رواه مسلم.
ويعظم الأجر والثواب بعظم المقصود وإذاعته ونشره، ويتضاعف الأجر على قدر من ينتفع به، وتعليم أبناء المسلمين لأمور الدين، وفي مقدمة ذلك القرآن الكريم من أعظم المقاصد الشرعية، بل هو أعظمها، وتعليمه الصغار من أفضل القرب وأجل الطاعات عند الله عز وجل.
يقول العلامة الفقيه أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله في شأن تعليم الأطفال، وترسيخ المعاني الفاضلة وأثرها في نفوسهم بدءا بالقرآن الكريم العظيم: (اعلم أن خير القلوب أوعاها للخير، وأرجى القلوب للخير ما لم يسبق الشر إليه، وأولى ما عني به الناصحون، ورغب في أجره الراغبون إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين؛ ليرسخ فيها، وتنبيههم على معالم الديانة، وحدود الشريعة ليراضوا عليها، وما عليه أن تعتقده من الدين قلوبهم وتعمل به جوارحهم، فإنه روي أن تعليم الصغار لكتاب الله يطفئ غضب الرب، وأن تعليم الشيء في الصغر كالنقش في الحجر. . .) (2) .
__________
(1) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبي داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .
(2) الرسالة مع حاشية العدوي 1 \ 29.(77/149)
إن لتعليم الصغار العلم ثوابا وأجرا، ولتعليمهم القرآن مضاعفة الثواب بقدر الحروف المقروءة منه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) » ، وغير هذا من الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي فيها فضل العناية بالقرآن الكريم، وقد ظل هذا الحافز الأكبر للمسلمين في غابر الزمان وحاضره ومستقبله، ليصبح الإنفاق على خدمة القرآن أعظم الأعمال أجرا، وتقربا إلى المولى جل وعلا.
إن التاريخ الإسلامي يحتفظ بصفحات مشرقة من سخاء الخلفاء، والملوك، والسلاطين، وأثرياء المسلمين بما رصدوه من الأموال والعقارات على التعليم بعامة، وعلى تعليم القرآن ونشره بخاصة، فمنه يتشعب علم الأولين والآخرين، فهو الأحق بالعناية والاهتمام، وأجدر أن يسخو الموسرون بأموالهم لتعليمه، ونشره للمسلمين، خدمة له، وإذاعة لهديه وفضائله، ليستقيم أمر الأمة، ويعلو شأنها بين الأمم، فهو سبيل إسعادهم في الدنيا والآخرة.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه 9 \ 66، 67.(77/150)
المبحث الثامن: مقاصد الواقفين على القرآن
أدرك المسلمون في وقت مبكر من تاريخهم أهمية الأوقاف لاستمرار أعمال البر وديمومتها، خصوصا في المرافق التعليمية والدينية كالمدارس والمساجد، والاجتماعية كالملاجئ والمستشفيات.(77/150)
هذه الأوقاف على تلك المرافق تكفل لها الاستمرار تبعا لرغبات الواقفين ومقاصدهم المشروعة، فأهم مورد مالي رصد لحياة المسجد ليستمر بكل ما يتعلق بالشؤون الإسلامية ودور تحفيظ القرآن الكريم هو الوقف، فمؤسسة (الوقف) كانت وما تزال أهم مورد لشؤون الدين، وللتعليم الإسلامي على الإطلاق، وأكثرها دخلا وإدرارا، وإليها يرجع الفضل في بقائه واستمراره أحقابا وقرونا، وفي انتظام الحياة العلمية والدراسية في جامعات الإسلام وكلياته ومؤسساته.
ويثبت الاستقراء التاريخي أن مقاصد الواقفين على خدمة القرآن الكريم متنوعة ومتعددة، وهي لا تخلو أن تكون واحدا من المقاصد التالية:
أولا: الوقف على المدارس القرآنية.
ثانيا: الوقف على القراء.
ثالثا: الوقف على تعليم القرآن وتحفيظه.
وفيما يلي تفصيل القول في هذه المقاصد، من خلال المطالب التالية:
المطلب الأول: الوقف على المدارس القرآنية
الهدف الأساس من إنشاء المدارس القرآنية هو تعليم أبناء المسلمين للقرآن الكريم حفظا، وتلاوة وتجويدا، وفهما لمعانيه،(77/151)
ويكاد أن يكون هذا هو المقصد الوحيد والأمل المنشود من قبل المؤسسين لهذه المدارس طمعا في الأجر والثواب من الله عز وجل.
انتشر هذا النوع من المدارس المتخصصة بالقرآن الكريم، وأسهم في تأسيسها القادرون من أبناء المجتمع الإسلامي، كل على قدر استطاعته وإمكاناته، وكان للعواصم العلمية الإسلامية: مكة، والمدينة، ودمشق، وبغداد، وقرطبة، والقاهرة، وفاس، وتونس وغيرها الحظ الأوفر من هذه المدارس، وقد خصصت لها أوقاف من العقارات والضياع والقرى مما يغني القائمين عليها والدارسين فيها عن الحاجة، والانشغال بأمور المعاش.
وفي صدر الحديث عن هذا الجانب بالنسبة للحرمين الشريفين في مكة والمدينة يتملك المرء الإعجاب والتقدير لعظم الأموال الثابتة والمنقولة والموقوفة المخصصة لهذه المدارس في بلاد الحرمين الشريفين، وخارجها في البلاد الإسلامية الأخرى.
يقول العلامة المؤرخ الأستاذ محمد عمر رفيع المكي، وشهادته في هذا الصدد عن رؤية ومشاهدة: (. . . ولنعد الآن نذكر ما وفق الله إليه المسلمين وملوكهم، وأولي الثراء منهم من بناء المدارس، والمساكن لطلبة العلم، والمجاورين بمكة، بل ولمن يفد من ممالكهم ليسكنوها زمن أدائهم للفريضة مجانا، ولو أردنا استيعاب ذلك كله لطال بنا القول، ولكن سأذكر بعض ما شهدته قائما من دور(77/152)
شيدت لطلبة العلم، ونزل للحجاج، والمجاورين، وغير ذلك من أعمال البر والرعاية، وإني لأعتقد جازما أن جميع ما كان ملتفا حول المسجد من مبان ودور كانت كلها أو جلها من الأوقاف التي خصصت للعناية بالعلم وطلبته. . .) (1) .
وهذه الصورة من صور الاهتمام بالمدارس القرآنية في مكة المكرمة تماثلها تماما بقية البلاد الإسلامية، ويمكن الاستشهاد على صحة هذا بما كتبه العلامة المحقق الأستاذ محمد صلاح الدين منجد تنويها بسخاء الواقفين على المدارس القرآنية بدمشق، وإشادة بمكرماتهم، وتجسيدا لعطائهم، حيث يقول: (وقد وقف أولئك جميعا على هذه المدارس المتعددة المختلفة أوقافا وافرة من الأموال، والقرى، والضياع، والبساتين، والحوانيت، والخانات، والقاعات حتى أصبحت دمشق وأرباضها أوقافا لهذه المدارس المبثوثة في كل حي من أحيائها، بل في كل درب من دروبها، فكانت هذه الأوقاف تدر المال عليها، وترغب الطلاب في التعلم بها، والشيوخ في التعليم بها، لا يشغل بالهم أمر الدنيا، وطلب المعاش) (2) .
__________
(1) مكة المكرمة في القرن الرابع عشر الهجري، ص 99.
(2) دور القرآن في دمشق، ص 6.(77/153)
المطلب الثاني: الوقف على القراء
من مظاهر هذا الاهتمام نسخ القرآن بأيديهم، ومن ثم(77/153)
إهداؤه إلى البلاد المقدسة: مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وبيت المقدس، ليس هذا فحسب بل إنهم يوقفون العقارات، ويقدمون المكافآت السخية للقراء والمدرسين، والمهتمين بتعليم القرآن وتعلمه.
ومكة المكرمة مهبط الوحي، جديرة بأن تهتم معاهدها ومؤسساتها بالقرآن ودارسيه، ولهذا لم يفت الخلفاء، والملوك، والسلاطين هذا المعنى، فكانوا يتسابقون إلى بناء المدارس القرآنية وغيرها، وتشجيع القائمين عليها من القراء، والمعلمين، والفقهاء، وفي العهد القريب لمس المسلمون مزيد اهتمام الخلفاء العثمانيين، وكثرة القيام بخدمة الحرمين الشريفين، والبلدين المنيفين، والاعتناء بمصالحهما، وما يتعلق بهما، ويكثرون ذكرهما، ويبجلون أهلهما، وقد سجل التاريخ لهم من هذا مكرمات رفيعة، كان هذا شأن من قبلهم ومن بعدهم ممن كانت لهم ولاية على الحرمين الشريفين. وفيما يلي صور من عناية السلاطين المسلمين بالقرآن الكريم نسخا بأيديهم، وتحبيس الضياع والعقارات على القراء، وتلاوة القرآن الكريم في مكة المكرمة:
فقد سجل التاريخ نماذج عديدة للملوك وسلاطين المسلمين وأمرائهم صفحات مشرقة، صريحة في اعتنائهم بالقرآن الكريم، واهتمامهم به.
ففي سنة 738 هـ بعث السلطان أبو الحسن علي بن عثمان(77/154)
بن يعقوب صاحب فاس إلى مكة مصحفا كتبه بخطه، وأخرج من خزائنه أموالا عينها على شراء الضياع بالمشرق؛ لتكون وقفا على القراء فيها.
قال الشيخ أحمد بن خالد الناصري السلاوي في كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى: (انتسخ السلطان أبو الحسن نسخة من المصحف الكريم بيده ليوقفه بالحرم الشريف حرم مكة؛ قربة إلى الله تعالى وابتغاء للمثوبة، وجمع الوراقين لتنميقها وتذهيبها، والقراء لضبطها وتهذيبها، وصنع لها وعاء مؤلفا من الآبنوس والعاج والصندل فائق الصنعة، وغشي بصفائح الذهب، ورصع بالجوهر والياقوت، واتخذ له أصونة الجلد، ومن فوقها غلائف الحرير والديباج وأغشية الكتان، وأخرج من خزائنه أموالا عينها لشراء الضياع بالمشرق؛ لتكون وقفا على القراء فيها) (1) .
(ثم انتسخ السلطان أبو الحسن نسخة أخرى من المصحف الكريم على القانون الأول، ووقفها على القراء بالمدينة، وبعث بها من تخيره لذلك العهد من أهل دولته سنة أربعين وسبعمائة، وفعل مثل ذلك بحرم بيت المقدس.
قال العلامة أبو العباس المقري في نفح الطيب: كان السلطان أبو الحسن المديني قد كتب ثلاثة مصاحف شريفة بخطه، وأرسلها إلى
__________
(1) إفادة الأنام، 3 \ 6.(77/155)
المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، ووقف عليها أوقافا جليلة) (1) .
ومن هذه النماذج الرفيعة في العناية بالأوقاف في خدمة القرآن الكريم أوقاف السلطان مظفر شاه الكجراتي على القراء بمكة المكرمة في مدرسة شاهية المظفر، فقد كتب المصحف الشريف بخط يده ثم أودعه في المدرسة المظفرية، وبيان ذلك:
أنه في عام 925 هـ اشترى وكيل السلطان مظفر شاه الكجراتي بمكة المكرمة بيوتا عديدة بلغت قيمة جميعها ستة آلاف ومائتين وخمسين دينارا، وأوقفها على القراء في مدرسة شاهية المظفر.
وبعث السلطان مظفر شاه الكجراتي بنسخة المصحف الشريف التي نسخها بيده مع وفد رفيع المستوى من رجال دولته، وما إن وصل خبر وصول مراكب الهند إلى جدة وفيهم وفد السلطان حتى فرح الناس فرحا شديدا، واحتفل بمقدمهم في ثاني يوم دخولهم، ونزل حاملا على رأسه المصحف الشريف الذي وصل به، بخط السلطان مظفر شاه صاحب الصدقة العظيمة. . . وأمر بوضع المصحف في المسجد الحرام.
يقول العلامة جار الله بن العز بن فهد: (وأما الصدقة الواصلة صحبتهم فهي عظيمة لم يسبق صاحبها، وهي كل لك (2)
__________
(1) إفادة الأنام، 3 \ 69.
(2) اللك معناه مائة ألف، وجمعه لكوك، وهو تعريب (لاكه) بالهندية، والأشرفي: اسم عملة ذهبية.(77/156)
بخمسة آلاف أشرفي، فمجموعها نحو ستين ألف دينار، ومنها ستة لكوك ونصف لأهل مكة، وأربعة لكوك ونصف لأهل المدينة المشرفة، غير قماش وبضائع وهدايا للشريف.
وقرر في خدمة المصحف بمكة كاتب هذه الرسالة، وجعلوا له في كل عام معلوم ستين دينارا، ويوضع في المدرسة التي أمر السلطان بعمارتها بمكة، وأرسل السلطان لكين تنكة غير الأحد عشر لكا يشترى بها بيوت وتعمر وتوقف على المدرسة، ويقرر فيها عشرة أنفس شيخهم إمام الحنفية السيد عبد الله البخاري، وعشرة أنفس من الحنفية يدرسون بها وشيخهم القاضي الحنفي. . . وعشرة أنفس يقرءون القرآن وشيخهم إمام الحنفية، ورتب لكل واحد منهم اثني عشر أشرفيا، ولشيخهم عشرين أشرفيا، وللداعي عشرة أشرفية) (1) .
__________
(1) نيل المنى بذيل بلوغ القرى لتكملة إتحاف الورى، القسم الأول، ص 138 - 140.(77/157)
المطلب الثالث: الوقف على تعليم القرآن وتحفيظه
إن تعلم القرآن الكريم والقيام بتعليمه وبيان معانيه وأحكامه للناس من أفضل الأعمال وأجل القرب، يحظى متعلمه ومعلمه بالخير والفضل في الدنيا والآخرة.
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) » ، وفي رواية أخرى: «إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه (2) » رواه البخاري.
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(2) صحيح البخاري فضائل القرآن (5028) ، سنن أبي داود الصلاة (1452) .(77/157)
وقد حرص نبينا صلى الله عليه وسلم على تبليغ هذا الدين ونشره بين العالمين، وبذل الجهود وصرف الأوقات من أجله، امتثالا لأمر الله عز وجل بقوله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1) ، وما أنزل إليه هو القرآن الكريم، وأوتي مثله معه، وهي السنة المطهرة.
ولعنايته عليه الصلاة والسلام بتعليم الصحابة القرآن الكريم ورعايتهم صور متعددة وأمثلة متنوعة، ثم حرص سلفنا الصالح - رحمهم الله تعالى - ومن بعدهم ممن رغب في هذا الخير والفضل على تعلم القرآن وتعليمه، فاستثمروا أوقاتهم في ذلك، وعمروا به مجالسهم، وبذلوا جهودهم من أجله، وأوقفوا الأوقاف العظيمة من أجل استمرارية عطائه، وصور ذلك في سيرهم كثيرة.
ومن أشهر المؤسسات العلمية الرفيعة في العصر الحديث دار الحديث الحسنية بالمغرب، ففي عام 1388 هـ وقف الحاج إدريس بن الحاج محمد البحراوي قصره الرائع الأنيق على القرآن والحديث (2) ، وقد جاء نص خطابه لدى إعلان الوقفية:
(إنني أحبس هاته الدار على القرآن والحديث، ولا أريد أن تكون في المستقبل إلا لهاته الغاية، ولا تحول إلى أية غاية أخرى،
__________
(1) سورة المائدة الآية 67
(2) الوقف في الفكر الإسلامي، ج 1، ص 358.(77/158)
بحيث تركت الحق للورثة بالرجوع في هذا التحبيس فيما إذا أريد تحويلها عن غايتها) .
قوبلت هذه الوقفية بالاستحسان، تجاوب فيها الملك الحسن ملك المغرب رحمه الله، (وقد أجابه على لسانه الوزير المفضال الفقيه السيد الحاج أحمد بركاش بتأثر بالغ وانفعال مثير، وهو يتسلم مفاتيح دار الحديث الحسنية بيد الشكر والتقدير، وقال: إنني جئت مرسلا من قبل صاحب الجلالة الملك المعظم جلالة الحسن الثاني حفظه الله لأتسلم الدار، وإنه يعدكم بأن الدار ستبقى موقوفة على القرآن والسنة والحديث، ولا تتحول إلى أي هدف آخر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين) (1) .
__________
(1) الوقف في الفكر الإسلامي، ج 1، ص 358.(77/159)
الخاتمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي نهاية هذا البحث أوجز ما مضى فيما يلي:
- اختلف الفقهاء في تعريف الوقف، وسبب ذلك اختلافهم في تحديد طبيعة الوقف ولزومه أو عدم لزومه ونحو ذلك.
- الأدلة على مشروعية الوقف من الكتاب والسنة كثيرة، متنوعة الدلالة، حاثة عليه، مرغبة فيه.
- تطبيقات الوقف العملية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم(77/159)
وما بعده كثيرة، فقد وقف عليه الصلاة والسلام وأصحابه من بعده، حتى قال جابر: (لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف) .
- للوقف في الإسلام خصوصية لا توجد في غيره، من حيث امتداد خيره ونفعه، وعدم اقتصاره على أماكن العبادة فقط، بل امتد نفعه إلى عموم أوجه الخير في المجتمع، وشملت منافعه غير المسلمين كأهل الذمة.
- أقبل المسلمون عبر تاريخهم الطويل على إقامة الأوقاف المتنوعة في مجالات مختلفة ابتغاء ما عند الله، ونفعا لإخوانهم المسلمين.
- شرع الوقف لمصالح لا توجد في سائر الصدقات؛ لأنها تفنى فيما تنفق فيه بعكس الوقف، فإن عطاءه دائم وخيره متدفق تنتفع منه الأجيال على مر السنين.
- الوقف أحد أبرز سمات المجتمع المسلم، ومن أسباب ترابطه وتلاحمه، وإحساس كل بمسئوليته تجاه الآخر.
- لعب الوقف دورا هاما في مكافحة الفقر ومساعدة الفقراء والمساكين، وعمارة المساجد وصيانتها، وإنشاء المدارس والمستشفيات والطرق، وكفالة طلبة العلم والأيتام، وفي خدمة القرآن الكريم من جميع الجوانب، وغير ذلك، والدارس للوقف في الحضارة الإسلامية يرى صورا من هذا التنوع المبارك.(77/160)
- للوقف أركان أربعة لا يتم إلا بها: الواقف والموقوف والموقوف عليه والصيغة.
- لكل ركن من هذه الأركان شروط معتبرة، لا بد من مراعاتها والالتزام بها، وقد بين أهل العلم ذلك وضربوا له الأمثلة الكثيرة من واقع الأوقاف في أزمنتهم.
- للوقف أنواع كثيرة حسب أقسامه المتعددة، فمن حيث استحقاق المنفعة ينقسم إلى الوقف الأهلي (الذري) والوقف الخيري العام، ومن حيث اعتبار المحل الموقوف ينقسم إلى وقف العقار ووقف المنقول ووقف النقود، وقد بين أهل العلم حكم هذه الأقسام وتفاصيل ذلك.
- هناك الكثير من الطرق والأساليب الداعمة للوقف وإرجاعه إلى دوره الرائد في دعم الأعمال الخيرية، ولكل مكان وزمان ما يناسبه منها، كما أنها تشترك في جملة منها.
- من مميزات رسالة القرآن وخصائصها أنها عالمية، فليست مقصورة على قوم أو جنس أو زمان أو مكان، بل هي هداية ونور للعالمين، وهذا يستوجب على حملته والمعتنين به تبليغ رسالته وبيانها للناس ودعوتهم إليها.
- وصف الله كتابه القرآن الكريم بأنه هدى في سبعة وأربعين موضعا من القرآن، فهو هدى من الكفر والشرك إلى الإسلام(77/161)
والإيمان، وهو هدى من الظلم والجور إلى العدل والقسط، ومن الحيرة والشك والقلق إلى اليقين والطمأنينة.
- البشرية الآن في أمس الحاجة إلى هداية القرآن والاستضاءة بنوره، لما تعانيه من ظلم وقلق وحيرة واضطراب، فالواجب كبير تجاه أداء هذه الأمانة والقيام بهذه المسؤولية.
- إذا كانت مجالات الوقف متعددة فإن أولاها وأهمها ما جعل في تعليم القرآن الكريم وتحفيظه، وإقامة المدارس والحلقات من أجله.
- احتفظ التاريخ الإسلامي بصفحات مشرقة من سخاء الخلفاء والسلاطين وأثرياء المسلمين بما رصدوه من الأموال والعقارات على التعليم بعامة، وعلى تعليم القرآن خاصة.
- تنوعت مقاصد الواقفين على القرآن الكريم، إما على تلاوته وقراءته، وإما على تعليمه وتحفيظه، وإما على مدارسه وحلقاته ومعلميه.(77/162)
وسطية أهل السنة والجماعة وأثرها في علاج الغلو
لفضيلة الدكتور \ علي بن عبد العزيز الشبل (1) .
توطئة:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وبعد:
فإن أهم ما يميز العقيدة الإسلامية مع كونها محكمة وعادلة وإلهية التشريع، فإنه مع ذلك كله وغيره تتميز بالعدل والوسطية والإنصاف لأتباعها وغيرهم، ولذا أحببت المشاركة ببيان بعض جوانب وسطية أهل السنة والجماعة في أبواب الاعتقاد والتشريع، وأثر ذلك على أهل السنة والجماعة وعلى المسلمين بشكل عام، وغيرهم ممن يتأثرون بهم، وهو أمر ذو بال يشغل جزءا كبيرا من هم الأمة الإسلامية، ويمس شرائع وطبقات عريضة من بني آدم.
__________
(1) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية(77/163)
وفى هذا البحث أحاول إبراز معالجة الإسلام لمشكلة الغلو في باب الاعتقاد وفي الأحكام العلمية، مبرزا آثار الموضوع وسلبياته، ومناهج العلماء من السلف الصالح في كيفية علاج بعض هاتيكم الظواهر، وذلك من خلال المباحث التالية:
المبحث الأول: وسطية أهل السنة والجماعة وآثارها.
المبحث الثاني: آثار الغلو العملية ومنهج أهل السنة منها في الصفات والقدر والغلو في الأشخاص، وفي الاعتقاد بالنبوة والغلو في الأسماء والأحكام.
المبحث الثالث: علاج أهل السنة للغلو إجمالا.
المبحث الرابع: طريقة السلف في علاج الغلو: نماذج وأصول.
كفانا الله شر هاتيكم الشرور، وأسأله أن يوفقنا لصالح القول والعمل، وأن يوفق المسلمين لذلك، ويسلك بهم سبل العلم وطريق السلف، وأن يحاذرنا البدع وأهلها والانحراف وطرقه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.(77/164)
أولا: وسطية أهل السنة وأثرها
مما سبق في القرآن الكريم يتبين منهج أهل السنة والجماعة، فهم وسط بين الأمم، ووسط بين الفرق الغالية، ووسط بين المفرطين المتساهلين والمتشددين، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (1) ، وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2) .
قال ابن تيمية - رحمه الله - في الواسطية مقررا هذا: بل هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم؛ فهم وسط في باب صفات الله تعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية وغيرهما، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وفي باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج.
وسبب هذه الوسطية المعتدلة:
هو تمسكهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفهمهما على فهم الصحابة على بصيرة وفقه وحكمة، ومن
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) سورة الأنعام الآية 153(77/165)
منطلقات مدلولات اللسان العربي الفصيح، فهم الذين كانوا وما زالوا على الجماعة، على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ويدل لذلك أنهم لم يخالفوا ما في الكتاب والسنة أبدا، وإن وقعت خلافات فهي قليلة لهم فيها العذر، كما وقع الاختلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج وغيرها.
وهم الذين يذودون عن كتاب الله غلو الغالين وانحرافات المنحرفين.
وهم الذين يخدمون سنة رسوله صلى الله عليه وسلم رواية ودراية بأفضل مقاييس القبول والرد بما لا نعرف عند من قبلهم، ولا يكون فيمن بعدهم.
وهم على منهج واحد لم يتغير منذ حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى لا يبقى على وجه الأرض مسلم يقول: الله الله.
ولا يزال متأخروهم يعتمدون أقوال علمائهم السابقين لهم في تبين الألفاظ وتفسير النصوص، ما كان الدليل موافقا لهم، ولم يردوا المعارض لأقوالهم بالدليل.
وأما غيرهم من أصحاب الفرق والنحل فلا يزالون في فرقة واختلاف في مناهج وتطور أفكار ومعتقدات، ما يظن الباحث معه انفصال متأخري الفرقة الواحدة عن متقدميهم، كما أن بعض الفرق(77/166)
قد انقرضت كغلاة القدرية، حيث لم تستطع المواصلة أمام رفض العقول الصحيحة والنظر السليم لتلك المبادئ، فذهبت بذهاب أصحابها.
كما أنهم الذين اعتبروا الإجماع مصدرا من مصادر الشريعة؛ لأنه كان بمستند من كتاب أو سنة، ولم يعرف إجماعهم على مخالفة نص أبدا.
وهم الذين اختارهم الله ليختم بهم أديانه ورسالاته على الأرض، فرسالتهم ودينهم هي المناسبة لكل عصر ومصر وزمان ومكان {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) ، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2) ، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) .
وهم غير المغضوب عليهم من اليهود، والضالين من النصارى، فدينهم دين السماحة واليسر وعدم الكلفة، والابتعاد عن المشقة.
وهم وسط في باب الصفات بين المعطلة الجهمية وبين المشبهة الممثلة المنتقصة لله عز وجل من جهة أخرى.
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة آل عمران الآية 19
(3) سورة آل عمران الآية 85(77/167)
فهم يثبتون لله صفاته على ما يليق بجلاله وعظمته من غير أن يحرفوها عما وضعت له، أو يمثلوا بها صفات المخلوقين، على حد قوله تعالى في سورة الشورى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) .
وأن كل ما ثبت للمخلوق من كمال لا نقص فيه بوجه فلله أكمله، وكل ما تنزه عنه المخلوق من نقص لا كمال فيه بوجه من الوجوه فالله أولى بالتنزه عنه.
وهم في ذلك بين اليهود المشبهة الخالق بصفات المخلوقين كالفقر والتعب والنصب. . .، والنصارى الواصفين المخلوقين بصفات الخالق كما في عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام.
فلهذا عبدوا إلها واحدا عرفوه بقدرته وعظمته، كما عرفوه بصفاته وأسمائه التي عرفهم بها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يتكلمون إلا بما يرضى به ويحبه؛ لأنه يسمع كلامهم ولا يفعلون إلا ما يرضاه، ويتجنبون ما يسخطه لأنه يراهم.
وأن قلوب الناس بين إصبعين من أصابعه تعالى يقلبها كيف يشاء.
وهم يسألونه ويدعونه ويستغفرونه خاصة في آخر الليل؛ لأنه ينزل ليجيب دعاءهم، ويعطي سائلهم، ويغفر لمستغفرهم.
فكانوا بهذا أصلح الناس وأعبدهم لربهم، وحسبك بالصحابة،
__________
(1) سورة الشورى الآية 11(77/168)
فهم أولياء الله، يمشون على الأرض لما طبقوا عقائدهم في أفعالهم، فسادوا الدنيا بقلوبهم وأفعالهم قبل سيوفهم وقوتهم.
وهم بين الغلاة من الروافض والباطنية. . . والنصارى فيما يتعلق بالنبوة، فلا يقولون بنبوة إلا من نبأه الله وأوحى إليه، وآمنوا بكل ما جاء به نبي من الله مؤيدا بالدلائل كلها، ليست المعجزات وحدها، ولا كل من ادعاها كانت له، وهم لا يرفعون الأنبياء - مهما كانوا - فوق منازلهم التي شرفهم الله بها، وهي العبودية والرسالة.
وبين اليهود والفلاسفة المجافين في حق الأنبياء، فظلموهم وقتلوهم وآذوهم.
وهم يؤمنون بكل أنبياء الله قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يفرقون بين أحد منهم؛ لأنهم كلهم جاءوا بدعوة من مشكاة واحدة، وكلهم إخوة لعلات، علموهم وعرفوهم بأسمائهم أو لا، ما دام ذكرهم الله في كتابه، أو أشار إليهم رسوله صلى الله عليه وسلم.
وينكرون ويكذبون كل مدع للنبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ويعتقدون أنه كذاب دجال مفتر على الله وعلى نفسه، وأنه ظالم لها بدعواه هذا، سواء كان هازلا أو جادا.
ثانيا: آثار الغلو - خاصة العملية - ومنهج أهل السنة
أقول ابتداء: إن البحث في الغلو والغلاة وأسباب الغلو ونشأته لعلاج هذه الآثار والنتائج الحاصلة من الغلو، وتأمل كيفية(77/169)
ضلال الناس عن صراط الله المستقيم للعظة والعبرة.
والغلو في مسائل الدين مما يسيء في الحقيقة إلى عقيدة الإسلام ومحاسنه، فالغلو في العبادات أو الأفكار أو العقائد أو التصرفات، ومعارضة قواعد الشريعة في التسهيل في مواضعه مما يستقبح حصوله في المجتمع المسلم القصد المتوسط.
فمثلا التبتل وعدم النكاح، أو الاعتزال وطول العبادة، أو صيام الدهر كله، كل هذه نماذج من الغلو والزيادة والإفراط في العبادة بما لم يأذن به الله، بل هو قدح في الشريعة وواضعها الذي شرع للناس عبادتهم؛ لأنه يتهم الشريعة بالنقص، فلهذا طلب الزيادة بالغلو.
ونجعل مثل هذا غافلا عن تكامل الشريعة في كل شيء، وأن العبادة ليست مقتصرة على الجوع وطول الذكر والصلاة. . . بل كل عمل يفعله الإنسان مما أباحه الله يكون عبادة، فالنكاح عبادة، والمشي عبادة، والتجارة عبادة. . . وعلى هذا فقس كل مسألة وقع فيها الغلو، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد كان أكمل العباد عبادة لربه، وهذا مقرر عند كل من شهد بعبودية الرسول لربه ورسالته.(77/170)
ولئلا يكون الحديث إنشائيا فأحاول ذكر ما تيسر من الآثار التي تصورتها ووقعت، أو التي يمكن وقوعها، بناء على الترتيب السابق(77/170)
للمسائل في المبحث الثاني، كالتالي:
1 - أثر الغلو في الصفات:
فالمعطلة طلبوا تنزيه الله فردوا النصوص أو حرفوها، وعبدوا إلها لا يعرفون له صفة إلا أنه حي موجود، اعتمادا على مقررات عقولهم ومناطقهم، وهي لا تنفرد بتقرير المغيبات؛ إذ المعول فيها على السمعيات من الكتاب والسنة.
وقدموا المنهج العقلي على الأحكام الشرعية، فعملوا ما هو عنده حسنا، وتركوا ما اعتقدوه قبيحا ولو كان ثابتا العمل به عند المسلمين من أصل شرعهم، فارتكبوا المحرمات، وعللوا فعلهم لها بالتأويل والمجاز.
والمشبهة قد وصفوا الله تعالى بصفات النقص والتشبيه والتمثيل، فعبدوا ربا كالبشر في حقيقته، فهو محتاج لمخلوقاته كالعرش والسرير الذي يجلس عليه المخلوق، والجمل الذي يركبه يوم عرفة تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
وسبق بيان منهج أهل السنة وأنه وسط بينهما قريبا في المبحث الأول في: " وسطية أهل السنة وأثرها ".
2 - أثر الغلو في القضاء والقدر:
فعند الجبرية لا حرج على العبد في فعل ما يشاء حلالا أو حراما؛ لأنه مجبور على فعله لا اختيار له ولا إرادة.(77/171)
وعليه يعطل أهم أصول شرائع الدين، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تكون الدعوة إلى الله، بل تعطل الشرائع كلها بما فيها من أمر ونهي وحساب وجزاء؛ لأن العبد حسب ما أجبره عليه ربه ويسره له، فإذا رأيت العاصي يمارس معصيته والكافر يكفر، فلا ينكر قلبك ولا يتمعر وجهك لأنه ليس له إرادة في فعله، وإن أنكرت عليه قال: هذا جبر جبرت عليه.
أما القدرية فوصفوا الله تعالى بالعجز عن خلق فعل عبده، ووصفوا العبد بالمقابل بالقدرة على خلق فعل نفسه، وأنه يخلق ما لا يقدر الله على فعله.
بل وصفته الغالية بالجهل بما سيقع من عبده، والعلم بعدما يقع من فعله، بينما على ضده يكون سلوك الفرد القدري حيث لا رقيب عليه؛ لأنه مستقل بفعله وقدرته، لما نفوا تقدير الله لأفعال عباده حسنها وقبيحها، خيرها وشرها.
وأهل السنة وسط بينهما:
فيقررون للعبد قدرة واختيارا ومشيئة، لا يجبره على فعله أحد، بل يفعل ما يفعله بمحض إرادته وحسب مشيئته، لكن فعله هذا وإرادته هذه داخلة في خلق الله تعالى له، كما أنها مسبوقة بعلم الله بها، فلا يعمل عملا إلا وقد سبق تقديره وإرادته في علم الله الأزلي، وكتبه عنده في كتابه الذي جرى بما كان ويكون إلى قيام الساعة.(77/172)
وهم يفرقون بين إرادة الله العامة للشيء وبين محبته له ورضاه به، فالأولى: إرادة كونية قدرية عامة تظهر علم الله وكمال قدرته، والثانية: إرادة شرعية دينية من أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب؛ ليهدي من هدى على بينة، ويضل من ضل عن بينة.
وعليه فلا مستمسك لما يفعله العباد من خير وشر بالقدر أبدا عند أهل القرآن والسنة والإجماع.
وهم مع ذلك يعملون ويحرصون على إرادة الخير والطاعة، وما يحبه الله ويرضاه، ويتجنبون ما يسخطه ويبغضه ويكرهه سبحانه وتعالى، حيث ظهر بهذا أثر عقيدتهم في القضاء والقدر في سلوكهم وأعمالهم وأخلاقهم وعباداتهم، فيمن كان منهم متمسكا بهذه العقيدة عاملا بها، وإلا فهم متفاضلون في ذلك تفاضلهم في العقيدة أصلا.
3 - أثر العقيدة في الأشخاص:
رفعهم فوق منازلهم التي أنزلهم الله فيها، الذي يؤدي إلى الاعتقاد فيهم بفعل الخير والشر، ومن ثم عبادتهم ودعاؤهم والاستعانة بهم مما هو صريح الشرك الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى نبذه والتحذير منه دعوة ونذارة: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (1) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 3(77/173)
التلبيس على الناس والعوام الجهلة بدين الله والافتراء عليهم، لأخذ أموالهم وابتزازها منهم بدعوى القربات إلى الأولياء والصالحين، وربط قلوب الناس بهم طمعا وتسلطا وترؤسا.
تعطيل ألوهية الله على خلقه واستحقاقه العبادة وحده لا شريك له منهم بوجوده عند هؤلاء الغلاة في ذوات من اتبعوهم، واعتقادهم واسطتهم إلى الله، فاكتفوا بهم عند الله وعن الله، واستغنوا عن الاتصال بالله مباشرة بعبادته ودعائه، فكانت القبور والأضرحة والمشاهد وسمة الشرك الأكبر.
فانظر إلى مجتمع تكون فيه الفوضى العقدية كيف يكون وصفه؟ فضلا عما قد يكون من المتبوعين لأولئك الأشخاص من المصادمات ما يستلزمه واقعهم.
وحسبك أن تدير رأسك في بلاد المسلمين التي ابتليت بهذا النوع - وهي كثيرة ولا حول ولا قوة إلا بالله - لتعرف الأثر السيئ والتخلف المقيت نتيجة تلك المعتقدات الباطلة.
4 - أثر الغلو في الاعتقاد بالنبوة:
سيأتي كل مدع للنبوة أو الرسالة أو حتى مرتبة فوق منزلتهما بشرع يخالف ما عليه سابقه لا محالة، فكم تكون في الأرض من شريعة يتعبد الناس بها؟ وأي منها سيكون الأحق بالاتباع والعمل؟!
ما سيحصل من تنافس بين هؤلاء المدعين للنبوة مما ينتج عنه(77/174)
سفك دماء وأخذ أموال بغير حق وفوضى، أو قل: غابة لا نظام يحكمها ولا عدل، كما وقع بين أتباع البابية ومؤسس البهائية محمد حسين المازنداري في مواقفه.
وسبق موقف أهل السنة من الغلو في النبوات.
5 - أثر الغلو في بغض الصحابة وتكفيرهم:
القدح بنقلة الشريعة الكتاب والسنة، فإذا قدح في نقلهما فكيف الوثوق بهما؟ فيلزم تعطيلهما.
بالمقابل يكون تعبد الله بما نقله نفر من الصحابة علي وسلمان وعمار والمقداد وأبو ذر رضي الله عنهم، ونتولاهم، ونعتقد بهم، ونعتمد على أقوالهم، فيكونون هم المشرعين فلا كتاب ولا سنة؛ لقلة ما رووه بالنسبة إلى السنة والدين مما يفتح باب الكذب عليهم والقول عليهم بما لم يقولوه، كما امتلأت به كتب القوم به على علي وأبنائه من آل بيته.
انعدام الشريعة وظهور الجاهلية مرة أخرى، فلا توحيد ولا عبادات ولا نظام للحياة متكامل.
وأهل السنة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بين الرافضة وغلاتهم وأشباهم، وبين الخوارج الجافين في حقهم الجاحدين لفضائلهم، فيرون عدالة الصحابة كلهم، فهم من حمل إلينا الكتاب والسنة وحفظوهما بحفظ الله لهما.(77/175)
وهم كما قاله ابن مسعود فيما نقله عنه ابن أبي العز ص 383 من شرح الطحاوية، وأسنده عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وغيره:
" من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم " اهـ.
ونرى ما حصل بينهم من فتنة أوقدها أعداء الله، فكل من الصحابة بطائفتيهم مجتهد مأجور غير مأزور، متفاوتين في مقدار الأجر.
وفتنة سلم الله منها سيوفنا نسلم منها ألسنتنا، كما نظم القحطاني في نونيته قائلا:
دع ما جرى بين الصحابة في الوغى ... بسيوفهم يوم التقى الجمعان
ققتيلهم منهم وقاتلهم لهم ... وكلاهما في الحشر مرحومان
والله ينزع يوم الحشر كل ما ... تحوي صدورهم من الأضغان(77/176)
وأن عليا رضي الله عن الجميع أولى بالخلافة من معاوية، وهو أحق بها، والحق كان معه، ومعاوية ومن معه غير مأزورين وغير آثمين على اجتهادهم، فلن يعدموا إن شاء الله أجر الاجتهاد وإن فاتهم ثواب الإصابة.
ويرون الخلافة الراشدة - خلافة النبوة - هي خلافة أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورين وعلي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته، ويرتبونهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة على ما استقر عليه قول أهل العلم والسنة، وانعقد عليه إجماعهم، ويترضون عنهم أجمعين، وأنه لو أنفق المنفق مثل أحد ذهبا لم يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه.
6 - أثر الغلو في الأسماء والأحكام:
تعتقد الخوارج أن الفاسق كافر في الدنيا، مخلد في النار يوم القيامة، يجوز سلب ماله واستحلال دمه واسترقاقه وتطليق زوجته منه. . . وهو في الآخرة يائس من رحمة الله للجزم بأنه كافر ومخلد في نار جهنم.
أما المعتزلة فيوافقونهم في حكم يوم القيامة، فهؤلاء ضيقوا على الناس بمحاسبتهم بكبائرهم ومعاصيهم، فكم يبقى في الدين من رجل بعد هذا التشدد والتعسير؟(77/177)
ولا يزال خطر أولئك الخوارج مستمرا حتى ظهرت في هذا الزمان طائفة تنادي بأفكارهم، وتؤصل أصولهم، هي جماعة مصطفى أحمد شكري (1398 هـ) في بلاد مصر، فمن أقوالها في مرتكب المعصية:
" لم يحدث أن فرقت الشريعة بين الكفر العملي والكفر القلبي، ولا أن جاء نص واحد يدل أو يشير أدنى إشارة إلى أن الذين كفروا بسلوكهم غير الذين كفروا بقلوبهم واعتقادهم، بل كل النصوص تدل على أن العصيان لله عملا والكفر به سلوكا واقعا هو بمفرده سبب العذاب والخلود في النار والحرمان من الجنة " اهـ.
وحسبي أن أشير إلى آثار تلك الفرقة على الناس:
1 - اعتزال أفرادها المجتمع المصري؛ لأنه كافر راض بالكفر.
2 - تصفية وقتل كل من خالفهم أو رد عليهم - ومنهم ذهبي مصر -؛ لأن من خالفهم فهو كافر حيث قامت عليه الحجة، فلم يقتنع بها، وتجري عليه أحكام المرتد.
3 - عندهم كل من يحكم بغير ما أنزل الله يكون كافرا(77/178)
كفرا مخرجا عن الملة جملة، دون التفصيل كما هي طريقة المحققين من أهل السنة في وجوب التفصيل.
4 - التكفير بالمعاصي والخلود بها في نار جهنم.
5 - تشويه صورة سماحة الإسلام بين الناس، ووافق ذلك لمزهم بالتطرف، وجماعة التكفير والهجرة، وتفرق المسلمين، وبث الفوضى والخوف وعدم الأمن بينهم، وهذا مشاهد في أماكن شتى عند أضراب هؤلاء، ومع الأسف الشديد أنهم يعتقدون أن تصرفهم هذا ديانة لله وجهاد، جهلا بالعلم والدين ومقاصده.
6 - دعواهم بأنهم جماعة المهدي المنتظر لاتحاد الزمان الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بوجود المهدي فيه.
وهكذا كل قول أو طائفة تنتحل مثل أفكار الخوارج ومعتقداتهم لا بد أن ينتج عنه نظير ما ينتج عن هذه الطائفة من الآثار غير المحمودة طبعا وعقلا، فضلا عن الشرع الحنيف.
وعند المرجئة المؤمن على رأيين:
1 - من أوقفوا الإيمان على مجرد المعرفة والإقرار القلبي بالله وبرسوله، فكذبوا بالقرآن، وشهدوا بالإيمان لإبليس وفرعون.
وعليه فلا حاجة إلى دعوة الكفرة غير الملحدين؛ لأن غالبية الكفرة ممن يقرون بالله ويؤمنون به في قلوبهم، لا فرق بين المؤمن والكافر إلا بالجهل بالرب أو جحوده، هذا عند المرجئة المحضة من(77/179)
الجهمية ومن وافقهم.
2 - من حد الإيمان بالنطق باللسان فقط - وهم الكرامية - وإن جحد قلبه، فعلى هذا اسم المؤمن عندهم في الدنيا شمل المنافق والمعاند والزنديق؛ لأنهم أظهروا كلمة الإيمان نطقا، وإن لم يعتقدوها قلبا أو يطبقوها عملا.
أما في الآخرة فعند المعرفية من المرجئة - كالجهمية المحضة وغيرهم - لا يدخل النار إلا الملاحدة المنكرون بقلوبهم وألسنتهم وجود الله، والمكذبون بقلوبهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعند الكرامية كل من نطق بلسانه دخل الجنة، وإن كان ما في قلبه خلاف ذلك، ومن لم ينطق بلسانه، بل اكتفى بتصديق قلبه وإيمانه ويقينه، فهو من أهل النار.
وبقية المرجئة مترددون ومنتقلون في هذا بينهما بشيء من الزيادة والنقصان، فمن ناقص على قولهم ومن زائد عليه كما سبق الكلام عليهم تفصيلا.
فعلى ذلك لا يضر أهل المعاصي والفسوق والمنكرات، بل الكفرة ما داموا عارفين لربهم ورسوله، مقرين لهما بقلوبهم أو ناطقين بالشهادتين بألسنتهم، فهم مع ما هم عليه من كبائر أو كفر ولو شركا مع الله، هم من أهل الجنة قطعا عند هؤلاء.
فإذا ما الحاجة إلى إرسال الرسول إلى أهل مكة وغيرهم وهم لا يعبدون الأصنام إلا لتقربهم إلى الله؟ فهم مقرون بالله مؤمنون(77/180)
به وبالأنبياء، مثل محمد وإبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهم وآلهم وسلم.
وهؤلاء العصاة مهما كانوا عليه من معصيتهم أو كفرهم فهم كاملو الإيمان، فلا حاجة إلى جهاد المشركين.
وهم يتركون الملاحدة والمفسدين يعيثون في الأرض الفساد بجامع أنهم مؤمنون، ويقفون أمام الدعوات الإصلاحية كدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية شهوة وهوى، حتى لم يسلم له الميزان بين الفئتين، ويوسعون دائرة الإيمان ويدخلون فيها الزنادقة وأكفر الكفرة.
وأهل السنة والجماعة يرون أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، يزيد بطاعة الرحمن، وينقص بطاعة الشيطان، فقولهم هو الوسط، وعليه يكون اعتماد الحياة، ومن خلاله يكون تنظيمها، وهو المنهج المعتدل الذي جعله الله للناس هدى ورحمة وطريقا سويا لا عوج فيه ولا أمتا، وبه تحصل السعادتان في النشأتين.
فيقفون أمام جميع المنكرات ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويأخذون على يد السفيه المفسد للمسلمين، ويأطرونه على الحق أطرا، ولو لم يندفع شره إلا بقتله قتلوه تحصيلا للمصلحة العامة العظمى، وإنفاذا لحكم الله فيمن لم(77/181)
يتق شره إلا به، وعندئذ لا يقوم بقتله أفراد أهل السنة أو آحادهم (لئلا يفتاتوا على إمام المسلمين) ، بل الذي يقوم به الحاكم الشرعي حكما وولي الأمر تنفيذا.
وهم يدعون الناس إلى الإسلام ويجاهدون عليه؛ لأنه دين الله الحق الصحيح المأمور باتباعه من كل أحد من العالمين: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (1) ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2) ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (3) .
وهم مع ذلك لا يقنطون أهل المعاصي من رحمة الله ويؤيسونهم من رحمته، بل يأخذون بجانب الحب والرجاء والخوف في دعوتهم، وكل حسب ما يناسبه.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 19
(2) سورة الأنبياء الآية 107
(3) سورة سبأ الآية 28(77/182)
ثالثا: علاج الغلو
وبعد فمن إتمام الكلام على الغلو بعد ذكر أسبابه ومشكلاته وآثاره فمن المناسب أن أختم ذلك بذكر بعض الأساليب المفيدة في علاج الغلو، في أي باب من أبواب الدين، وفي أي زمان من أزمنة الناس.
ولا يوجد علاج جامع مانع شاف مبرئ إلا:(77/182)
أ - التمسك بالكتاب والسنة الصحيحة عملا وقولا واعتقادا في شتى ميادين الحياة، وعلى اختلاف أحوالها، على علم وهدى وبصيرة، لا بهوى وجهل، أو عدم اعتبار للقواعد الشرعية.
ب - سلوك منهج خير الناس وأفضلهم كما شهد لهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم مفارقة الجماعة، وإحداث ما لم يأذن به الله في الدين من البدع والمذاهب والجماعات.
فلا بد من تقرير هذين الأمرين العظيمين، والدندنة عليهما في شتى الميادين، والسعي إلى تحقيق ذلك في ميدان العمل والتطبيق ليجني الناس ثمارهما الطيبة.
ومن الأساليب التي يمكن إيرادها في هذه المناسبة الآتي:
1 - رفع الجهل، وذلك بأحكام الشريعة الإسلامية والسنن النبوية، بطلب الحق والبصيرة في تلك الأحكام، وبتعلم العلم والعكوف عليه دراسة وحفظا وفهما ودعوة وعملا.
2 - الحرص على سلامة المنهج المتبع لآثار السابقين الموافقة لقواعد الشريعة، والمحققة لمقاصدها وغايات أحكامها وشرائعها الكلية والتفصيلية، بعيدا عن النظرة الشخصية أو الطائفية الضيقة.
3 - دعوة أولئك الذين يدخلون إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وخفض الجانب لهم، حتى إذا كانت في نفوسهم مقاصد مكيدة فإنها تزول بإذن الله، واستخدام ما يمكن من الأساليب اللينة(77/183)
الحقة حتى لو ظهر غلو، عسى أن يتركوه أو تكون مرحلة زلت فيها أقدامهم، سرعان ما يرجعون ويثوبون عنها.
لكن إذا لم يجد العلاج باللين والحسنى فآخر الدواء الكي؛ لئلا يستفحل المرض في جسد الأمة وينتشر، وقطعا للمرض، واستئصاله لمصلحة المريض وغيره، وحبذا لو طبق هذا المنهج مع الشباب الذين لديهم نزعات غلو أو كانوا جماعات. . . ما لم نحس الزيادة في الغلو، حتى لا يولد العنف تصلبا وزيادة غلو وتشدد وتمسك بالرأي (كما تعالج بعض الأنظمة الغلو والتطرف) .
4 - التربية الإيمانية الصحيحة على منهج القرآن، وبنبراس من تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وأصحابه على سبيل الخصوص، حيث قضى عليه السلام على ما بدر من مظاهر الغلو بأسلوب تربوي حقيق بأن يحتذى ويطبق، حتى صار الصحابة ومن كانت عنهم مظاهر الغلو أمثلة يقتدى بهم في العدل والإحسان والاعتدال والوسطية المأمور بها شرعا.
التربية على منهج السماحة والمودة وخفض الجانب للمخالفين إلى حد معين، وإحسان الظن بالمخالف ما لم يصل الأمر إلى غير المرغوب فيه ما أمكن إلى ذلك سبيلا.
التربية على التأدب مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومع أصحابه وأهل العلم، تأدب التلميذ مع معلمه والطفل مع مربيه.(77/184)
يتأدب مع أهل العلم، فلا يتجرأ عليهم ويماريهم أو يتطاول عليهم ويباحثهم بالحسنى واللطف.
5 - التحاكم في الأفكار والمناهج والأعمال إلى محكمة الكتاب والسنة النبوية الصحيحة، بفهم من لغة العرب وفهم الصحابة لهما، وأن يكون الحوار الصادق الهادئ الناشد للحق تحت مظلة مصادر الشريعة الأصلية المتفق عليها عند المسلمين، فينزع ما يتعلق به من هوى أو فكر أو آراء قبل دخول عتبة هذه الخيمة تجردا لله، وطلبا للحق ضالته المنشودة.
6 - مجانبة التعصب المذموم للآراء أو أقوال الأئمة مهما علت رتبتهم وارتفعت منزلتهم، ما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يجب أن يكون المقصد هو طلب العلم والدليل السمعي الموافق للعقل الصحيح والفطرة المستقيمة؛ إذ لا ينفكان عن بعضهما.
7 - ترك الجرأة على العلم وتجاوز درجاته، والقفز إلى أعلى مراتبه، واعتبار فهم الصحابة وأقوالهم في تفسير النصوص، وفهوم العلماء الراسخين بالفهم والرأي من الكتاب والسنة، والاستقلالية دون سابق علم وبصيرة من لغة عربية صحيحة مدركة المقاصد والمعاني، وإحاطة بالعموميات من أصول الشريعة قبل خصوصياتها.
8 - قيام العلماء والأئمة بواجبهم في هذا الميدان، وبدورهم المطلوب منهم، برفعهم الجهل عن الناس بأن يكونوا مصابيح لهم(77/185)
في الدجى تهديهم إلى الطريق المعتدل السوي، وأن يكونوا قدوة لعامة الناس كحال العلماء المخلصين، وترك ما يكون بينهم من خلافات شخصية أو طائفية، والنزول عند الحق مهما كان قائله، ومعاشرة الناس في واقعهم، وتلمس مشاكلهم وحاجاتهم.
ولن يتم هذا الأمر في الحقيقة إلا بتضافر الجهود بين الولاة والعلماء، إذ هما هنا كجناحي الطائر لسلامة الأمة وأمنها وعقيدتها.(77/186)
رابعا: طريقة السلف في علاج الغلو
وذلك بالإتيان على نماذج قليلة توضح منهجهم في معالجتهم للمحدثات، ووسائل الغلو من الأفكار الوافدة، أو المولدة الغالية.
وطريقتهم:
لزوم الجماعة ما أمكن وعدم مفارقتها، وهي جماعة المسلمين، وقد يعبر عنهم بجماعة المسلمين أو المجتمعين على إمام معين، وعدم الخروج على الأئمة والصبر عليهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من رأى من إمامه ما يكرهه فليصبر، فإن من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية (1) » متفق عليه.
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (7054) ، صحيح مسلم الإمارة (1849) ، مسند أحمد (1/297) ، سنن الدارمي السير (2519) .(77/186)
أي: يكره ما يأتي من معصية الله، لا لهوى نفسه وخصوصها وزخرف الدنيا.
وعلى هذا كان معظم السلف، فلم يكونوا جملتهم يخرجون على أئمة الجور الظلمة، وحسبك بالحجاج بن يوسف بقسوته وظلمه، ومع هذا فلم يذكر عن أحد من الصحابة الخروج عليه، بل كانوا يصلون خلفه ويبغضون ما يأتي منه من المعاصي والظلم، منهم ابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك، حيث وجد البعض منهم محنا منه وتعنتا وظلما.
ذم الجدال والخصام في الدين، وكثرة القيل والقال بدون طلب الحق ووجود الدليل، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال، ثم قرأ: (2) » رواه الحاكم وغيره.
وعلى هذا درج السلف فكانوا يحذرون من الجدال فيما لا ينفع أشد التحذير، وأيضا في التحذير من أهله، ومن ذوي الهوى المتبع والشح المطاع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، كما صرح به
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3253) ، سنن ابن ماجه المقدمة (48) ، مسند أحمد (5/256) .
(2) سورة الزخرف الآية 58 (1) {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}(77/187)
حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه.
فقد روى اللالكائي (1) بسنده إلى علي بن أبي طالب أنه قال: " إياكم والخصومة، فإنها تمحق الدين " اهـ، وروي بنحوه عن ابن عباس والحسن بن علي ومحمد ابن الحنفية والأحنف بن قيس والفضيل بن عياض ومسلم بن يسار وغيرهم كثيرا.
فالخصومات تمحق الدين وتنبت النفاق، وهي ساعة جهل العالم التي يستسيغها الشيطان ليدرك بها هواه، ويثيره على الباطل.
- وروى الآجري في الشريعة ص 56 بسنده عن معن بن عيسى قال: " انصرف مالك بن أنس من المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له: أبو الحورية، كان يتهم بالإرجاء، فقال: يا عبد الله اسمع مني شيئا أكلمك به أحاجك، وأخبرك برأي، فقال مالك: فإن غلبتني؟ قال: إن غلبتك اتبعني، قال: فإن جاء رجل آخر فغلبنا؟ فقال أبو الحورية: نتبعه، فقال مالك: يا عبد الله بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بدين واحد وأراك تتنقل من دين إلى دين " اهـ.
وقال عمر بن عبد العزيز: " من جعل دينه غرضا للخصومات
__________
(1) انظر: رقم 211 - 224 من شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ص 54 وما بعدها.(77/188)
أكثر التنقل " اهـ (1) .
نعم فقد كانوا رحمهم الله يدفعون المراء ما أمكنهم إلى ذلك سبيلا.
وروى اللالكائي كذلك بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " أيها الناس إن هذا القرآن كلام الله عز وجل، فلا أعرفن ما عظمتموه على أهوائكم، فإن الإسلام قد خضعت له رقاب الناس فدخلوه طوعا وكرها، وقد وضعت لكم السنن فلم يترك لأحد مثالا إلا أن يكفر عبد عمد عين، فاتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، اعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه " اهـ.
وروى اللالكائي (2) بسنده عن إبراهيم النخعي قوله: " لفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة " اهـ.
وقال الزهري رحمه الله: " ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على الملة من هذه - يعني المرجئة - " اهـ (3) .
وقال أيوب لسعيد بن جبير: لا تجالس المرجئة، ولما رآه
__________
(1) اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة رقم 1827.
(2) رقم 1086، وعبد الله بن أحمد 1 \ 313، والآجري في الشريعة ص 143.
(3) الشريعة للآجري ص 144.(77/189)
مجالسا أحدهم نهاه (1) .
وسئل رييعة شيخ مالك عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) : كيف استوى؟ فأجاب: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق (3) " اهـ.
ومثله ما صح عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة أنه دخل عليه رجل في المسجد وهو يملي فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4) كيف استوى؟ فأطرق مالك رأسه حتى علته الرحضاء أو غشي عليه، فلما أفاق قال: أين السائل؟ ثم قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا، فأمر فأخرج من المسجد.
«وعن ابن الديلمي قال: وقع في نفسي شيء من القدر، فأتيت أبي بن كعب فقلت له: يا أبا منذر إنه وقع في نفسي شيء من القدر، وقد خشيت أن يكون فيه هلاك ديني، فحدثني من ذلك بشيء لعل الله أن ينفعني.
فقال: " لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو
__________
(1) اللالكائي رقم 1810، والشريعة ص 144.
(2) سورة طه الآية 5
(3) رواه اللالكائي رقم 665، وروي نحوه عن مالك 663، 664.
(4) سورة طه الآية 5(77/190)
غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو كان لك مثل أحد ذهبا فأنفقته في سبيل الله ما قبل الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإنك إن مت على غير هذا دخلت النار، ولا عليك أن تأتي عبد الله بن مسعود فتسأله ".
قال: فأتيته فأجاب مثله، ثم حذيفة بن اليمان فأجابني بمثلها، ثم زيد بن ثابت فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه. . . " (1) » وساقه.
وقال ابن مسعود: " ما كان كفر بعد نبوة إلا كان معه التكذيب بالقدر " (2) .
وقال ابن عباس: " القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضا للتوحيد، ومن وحد الله وآمن بالقدر كان العروة الوثقى لا انفصام لها ".
واشتهر قول عمر بن عبد العزيز في القدر ورسالته إلى سائله،
__________
(1) سنن أبي داود السنة (4699) ، سنن ابن ماجه المقدمة (77) ، مسند أحمد (5/185) .
(2) رواه الآجري في الشريعة ص 204.(77/191)
وكذا قول الشعبي في مخازي الرافضة.
وهذا قليل من كثير مما ورد عن القوم، وجمعه ومظنته كتب أصول السنة كالسنة لابن أبي عاصم، وعبد الله بن أحمد، وكتب عثمان الدارمي، والشريعة للآجري، والإبانة لابن بطة، وشرح أصول السنة للالكائي، ومقدمة منهاج السنة النبوية لابن تيمية، وغيرها.
وفي الجملة فموقف السلف من البدع في هذه النقاط مجملة:
1 - جهادهم باللسان والسنان كما وقع من الصحابة للخوارج ولغلاة الرافضة، وبالجملة تنوعت مواقفهم حسب كل عصر وما يناسبه، وحسب كل قضية وما يلازمها ويلابسها في الفكرة والواقع، بما يقطع شرها ويحد خطرها.
2 - التحذير من المراء والجدل، وبيان الغلو وتوضيحه في المسائل العينية، والتحذير من طوائفه.
3 - النهي عن مخالطة أهل البدع والجلوس والحديث معهم.
4 - هجر أهل البدع، وعدم نكاحهم والصلاة عليهم.
5 - بيان خطرهم وعظم فتنتهم.
6 - إلزامهم الحجة بألفاظ قليلة الكلمات تحوي معاني عظيمة، وذلك فيمن كان سائلا مسترشدا.
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.(77/192)
الخاتمة:
وبعد: فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما نحمده سبحانه أن هدانا لدينه الإسلام الذي ارتضاه لنا دينا وأتم به نعمته، فإنه الدين الوسط، وأهل هذا الدين هم الأمة الوسط، وكما قال سبحانه وتعالى في سورة البقرة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) .
ووسطية هذه الأمة هو باعتدالها عقيدة وشريعة باعتصامها بكتاب ربها الذي هو كلامه، وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم التي هي هديه، وسلوكهم سبيل أوليائه من المؤمنين الذين هم أصالة أصحاب نبيه، وتابعوهم ثم تابعوهم بإحسان رضي الله عنهم، كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (2) .
وإن آثار الغلو في أصول الدين آثار وخيمة، إنه في حق الله عز وجل وجناب ذاته الكريمة أو في حق شرعه ودينه ورسله وأوليائه، حتى غدت مسألة الغلو في الدين أصلا وفرعا أهم دواعي هدم الديانة، وتفريق الأمة، ووقوع التنازع، وفشو الجهل والتنافر،
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) سورة النساء الآية 115(77/193)
والفوضى في المجتمعات، حتى غدا الاهتمام بعلاج ظواهر الغلو في الدين شغل المصلحين الشاغل واهتمامهم الكبير، ولقد نال سلفنا الصالح من ذلك قصب السبق، ووجدوا بأنواع الأساليب الناجحة في علاج الغلو أنفع النتائج وأصلحها.
وكان مدار علاجهم لها بالعلم الموروث عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي علموا به الجاهل، ونصروا به على المتجاهل، وفضحوا به المتعالم، وكشفوا به الشبهة، وأوضحوا به الحجة، وأبانوا عن بيضاء المحجة، فأعذروا إلى الله وإلى عباده، فكان من استبصر ببصيرتهم على منهاجهم سالما معافى من خواطر الغلو وآثاره السيئة، حائزا على سبق الهداية والرشد، سعيدا مطمئنا بإيمانه وعقيدته وديانته، وليس ذاك إلا للمؤمن.
فالحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.(77/194)
تطبيق الشريعة الإسلامية ومعوقاتها
لمعالي الدكتور \ محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن الإنسان كائن حي يتأثر بما يحيط به وما يطرح أمامه، ولكن الله قد شرفه بين المخلوقات بحواس ليميز بها بين النافع والضار، وجعل له السمع والبصر والفؤاد لكي يعقل ما حوله، ويتبصر فيما يعود عليه بالنفع ليتبعه، وبالضار ليجتنبه؛ هبة من الله جلت قدرته؛ لينظر سبحانه ماذا يعمل هذا الإنسان في هذه المواهب عظيمة القدرة، عالية المسئولية؟ {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1) .
وإنها لحكمة من الله جل وعلا أن يتمايز الناس في الإدراك والفهم، وليسعوا فيما يرونه مسيرا لأمورهم ومعاشهم، بحكم الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، والتي تقوم وتنظم اتجاه هذه
__________
(1) سورة الإسراء الآية 36(77/195)
الفطرة شريعة الله التي شرع لعباده، حيث يوفق سبحانه من يشاء إلى طريق الهداية، الذي هو فضل من الله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (1) .
ثم إنها رحمة من الله لعباده أن يبعث في كل أمة كلما انحدرت مفاهيمهم، وابتعدوا عن شرع الله باستبدال أهواء الناس بدل شرع الله، أن يبعث لهم رسولا ليجدد لقومه الشرائع التي تصلح بها أحوالهم، وتربطهم بخالقهم وجدانيا، وبشرائع الإسلام الذي هو دين الله عمليا ومحبة اتباعا لهذا النص الكريم من كتاب الله، والذي يبين السبب الأساسي للخلق في هذه الحياة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) ، وقوله سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (3) .
وتطبيق شريعة الإسلام امتثالا لأمره سبحانه هو من العبادة المأمور بها الثقلان الإنس والجن، فحياة الإنسان لا تستقيم ولا تسير الأمور فيها إلا بتشريع ينظم متطلبات هذه الحياة ويسيرها، ومن ثم يحفظ التوازن، ويتم العدل في الحقوق والتعامل فيما بين الناس؛ حتى لا يتسلط قوي على ضعيف، ولا تضيع الحقوق، أو يدب التنازع، ويزداد الظلم بين
__________
(1) سورة القصص الآية 56
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة المؤمنون الآية 115(77/196)
البشر.
مما بان للملائكة عليهم السلام في فهمهم المحدود بعدما أخبرهم رب العزة والجلال بخلق آدم، وأنه مستخلفه وذريته في الأرض، يقول سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (1) ، إخبار من الله سبحانه لهم، لا مشورة ولا استئذان، فقالوا بحسب معهودهم فيمن سكن الأرض قبل آدم وذريته، من الجن وما أحدثوه من فساد وتدمير وانتهاك؛ لأنهم جعلوا شرع الله وراء ظهورهم، واتبعوا أهواءهم، ليقيسوا شيئا مشاهدا بأمر مغيب عنهم؛ لأن لله الأمر وهو أحكم الحاكمين، ويستأثر جل وعلا بعلم الغيب: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (2) .
فكان ردهم المتضمن لفهم ما يدور في معهودهم: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} (3) ، فأسكتهم جواب عالم الغيب الذي يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، ولا راد لقضائه وقدره، عن هذه المقولة بما يبين عظمته سبحانه، وأن علم الخالق المبدع الأزلي لا ترقى إليه علوم
__________
(1) سورة البقرة الآية 30
(2) سورة الرعد الآية 9
(3) سورة البقرة الآية 30(77/197)
المخلوقين؛ لأن المخلوق سمته القصور: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
ذلك أن علم المخلوق قاصر مهما كان، وعلم الخالق سبحانه فيه الكمال والعز والاستمرارية قديما وحاضرا ومستقبلا؛ لأنه سبحانه عالم بعباده، وما تصلح به أمورهم في كل زمان ومكان.
وهذا ما يحسن بمن يقارن بين الشريعة التي هي من عند الله، والقانون أو القوانين الكثيرة التي أحدثتها البشرية، منذ خلق الله آدم واستخلفه وذريته في الأرض، وما سوف تتفتق عنه عقول البشر المتذبذبة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولقد تحدث كثير من علماء الإسلام في مقارنة بين الثرى والثريا، بين الشريعة والقوانين، لنأخذ منه دليلا محسوسا، وليدرك منه من ينبذ أحكام الشريعة؛ لأنه لا يطمئن إلا بما يقرب المعقول بالمحسوس عنده، وذلك من باب مخاطبة عقول الناس بما تدركه وتعقله، كما قال على بن أبي طالب رضي الله عنه: " حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ ".
وإن من علم الله ما تدل عليه إجابة الرب الكريم للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2) ، علمه سبحانه بأحوال عباده، ما شرع في كل أمة من الأمم من الخير الذي فيه مصلحتهم ونفعهم ليعملوه، ومن
__________
(1) سورة البقرة الآية 30
(2) سورة البقرة الآية 30(77/198)
الشر ما يضر بهم ليجتنبوه، حيث أرسل بذلك رسله وعلمه أنبياءه مما تستقيم به حياتهم، وتنتظم معايشهم، ولا يتجاوز قدراتهم: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) ، وهذا من رأفته بعباده.
وكلما ابتعدت أمة من الأمم عن شرع الله، وتطبيق أحكامه التي أرسل بها رسلا إليهم معاندة وتكذيبا، جاءتهم النذائر المتنوعة لعلهم يرجعون إلى جادة الصواب: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (2) ، ثم يهلك سبحانه المعاندين لشرع الله بعقاب عاجل، أو يؤجله الحليم الرحيم سبحانه إلى يوم الوقت المعلوم، وينجي الطائعين المستجيبين.
وهذه سنة الله في الأمم السابقة كما يوضحه التمعن في كتاب الله الخالد القرآن الكريم، الذي تعهد الله بحفظه، وصانه عن عبث العابثين، وتعديل الكذابين؛ ليبقى تشريعا لخير أمة أخرجت للناس، وهاديا إلى الطريق المستقيم، ولكن الله حليم لينظر بعد التبليغ والنذائر كيف يعمل المخلوق؟
وقد بين الله سبحانه في كتابه الكريم القرآن العظيم أن شرع الله واحد في جميع الأمم، ومع أنبيائهم، فيما يتعلق بإفراد الله
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) سورة فصلت الآية 53(77/199)
بالعبادة، واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} (1) ، ويقول سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2) .
قال أبو السعود في تفسيره عليها: بالإلحاد في صفاته، والافتراء عليه كقولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} (3) .
وقال ابن الجوزي في تفسيره عليها: عام في تحريم القول في الدين من غير يقين (4) .
وإن من القول على الله بغير علم نقض الميثاق الذي أخذ الله على الناس العهد للبيان بما أوجب الله، وعدم الحكم بغير ما أنزل الله، وحكم الله سبحانه وشرعه الذي شرعه لعباده قد جاء في القرآن الكريم، الذي به ختمت الرسالات، مثلما جاء من قبل في
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأعراف الآية 33
(3) سورة الأعراف الآية 28
(4) تفسيره: زاد المسير في علم التفسير، 3 \ 192.(77/200)
التوراة: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} (1) ، وفي الإنجيل: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} (2) .
بل إن الله سبحانه وتعالى قد بين فيما أنزل على عباده بأن من لم يحكم بما أنزل من تشريع بأمور ثلاثة الكفر والظلم والفسق: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (3) ، {هُمُ الظَّالِمُونَ} (4) ، {هُمُ الْفَاسِقُونَ} (5) .
وشرع الله الذي أنزل على عباده على لسان أنبيائه، فيما بلغوهم به لم يتغير، وإنما حرفته البشرية: تبعا للأهواء، وكذبا على الله بغير علم، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} (6) .
ولحكمة الله البالغة، وعلمه الأزلي: فقد استحفظ سبحانه أهل الكتاب عليه، وجعل رعايته وصيانته موكولة إليهم أمانة في أعناقهم، فما رعوها حق رعايتها: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} (7) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 43
(2) سورة المائدة الآية 47
(3) سورة المائدة الآية 44
(4) سورة المائدة الآية 45
(5) سورة المائدة الآية 47
(6) سورة الزمر الآية 32
(7) سورة المائدة الآية 44(77/201)
قال المفسرون: {وَالرَّبَّانِيُّونَ} (1) هم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس، وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم وفق شرع الله، {وَالْأَحْبَارُ} (2) هم العلماء الذين يوضحون للناس، ما أنزل الله من حكم (3) .
لكن هؤلاء المستحفظين لما في كتبهم، مع تباطؤ الزمن عليهم اتبعوا أهواءهم، وغيروا أحكام الله، بما تصف الألسن، وتهوى النفوس، يقول عنهم سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (4) .
وقد ذكر القرطبي في تفسيره عند مروره بآية استحفاظهم على كتاب الله حكاية ذات عبرة ودلالة، فقال ما ملخصه: إن المأمون العباسي بعدما أسس دار الحكمة، كان يأتي عنده رجل من علماء اليهود وقرائهم حسن الحديث، بليغ العبارة، جيد الخط، مطلعا على علوم الأمم، وكان المأمون معجبا به وبرجاحة عقله، فدعاه للإسلام مرارا، لكنه يقابل ذلك بالرفض ويقول: هو على دين آبائه وأجداده، وهو أفضل من دينكم، ولما عجز المأمون من تغيير مفهومه، تركه انطلاقا من عقيدة الإسلام بعدم الإكراه، بعدما تبين الرشد من الغي: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (5) .
ثم إن هذا الرجل
__________
(1) سورة المائدة الآية 44
(2) سورة المائدة الآية 44
(3) يراجع تفسير هذه الآية وخاصة عند الطبري في تفسيره 10 \ 341.
(4) سورة آل عمران الآية 75
(5) سورة الكافرون الآية 6(77/202)
غاب فترة طويلة عن مجلس المأمون، فحضر بعد ذلك فسأله المأمون عن حاله فقال: لقد أسلمت، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
وأن دينكم الإسلام هو الحق.
فسأله المأمون: كيف تم ذلك؟ قال: لما خرجت من عندك أردت أن أمتحن هذه الأديان، فأخذت نسخة من التوراة، فعدلت فيها بما شئت: زيادة ونقصا، حسب هواي وكتبت نسختين واعتنيت بالخط، ثم ذهبت إلى أحد المعابد، والتقيت بالحاخام وأهديت له النسختين، ففرح بهما، وضمهما إلى نوادر النسخ في معبده، وأمر لي بمائة دينار.
ثم عمدت إلى نسخة من الإنجيل، ففعلت فيها مثلما عملت في التوراة، ثم ذهبت إلى الكنيسة، وقابلت أكبر قساوستها فقدمت النسختين له هدية، ولما نظر فيهما أعجب بهما، وضمهما إلى النسخ النادرة عنده، في درج خاص، وشكرني وأمر لي بمائة دينار.
ثم اتجهت إلى نسخة من القرآن، وعملت نسختين معتنيا بخطي فيهما، وزدت ونقصت، وغيرت مثلما عملت في التوراة والإنجيل، فذهبت إلى أحد الوراقين ليبيعهما، أو يهديهما لنفاستهما فلما نظر في واحدة منهما، بان له ما دس فيهما، فرماهما بشدة، وقال ليس هذا قرآنا، بل مكذوب على الله، فأدركت بهذا أن القرآن هو الحق، وأن دين الإسلام هو شرع الله الذي حفظه من العبث والتعديل؛ لذا أسلمت.(77/203)
فقال له المأمون: لقد استحفظ الله أهل الكتاب على ما نزل على أنبيائهم فضيعوا الأمانة، أما القرآن فقد تولى الله حفظه، فلا يتطرق إليه الشك يقول سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) ، وشيء حفظه الله لا يمكن أن تمتد إليه الأيدي الخائنة.
ولذا فإن أي مخلوق لا يمكن أن يدعي أن شريعة أحد من الناس، مهما بلغ علمه وعقله فاضلة أو مماثلة لشريعة الله، أو تسير الحياة في أي مجتمع بمثل ما فرض الله في شرعه؛ لأن القصور من لوازم المخلوق، والكمال لله سبحانه ولشرعه الذي شرع.
وهذا ما يجب أن يدركه علماء وقادة الإسلام، ليطبقوا شرعه بفهم وإدراك، كما أن هذا نداء عظيم للمسلمين الذين يجب عليهم الحذر وعدم تقليد الأمم الأخرى في قوانينهم البشرية، والاعتزاز بشرع الله الذي لا يتبدل مع تغير أحوال الناس في كل زمن، ومجادلة الآخرين الذين لا يرتضون شرع الله في تسيير أمورهم الدنيوية بالتي هي أحسن حتى ينفذ لقلب من أراد الله هدايته عن قناعة ورضا بأن ما شرعه الله سبحانه هو الأكمل الثابت ولا يتبدل.
__________
(1) سورة الحجر الآية 9(77/204)
ذلك أن الإسلام يعني نظاما للحياة كلها متكاملا لا نقص فيه ولا قصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مهما تبدلت الأمم، أو تغيرت متطلبات حياة البشر على وجهها، ألم يقل سبحانه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1) ؟ وهذا في إرادة الله الأزلية، ويقول تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2) .
فهو عز وجل عالم بأحوال عباده وما يطرأ على تعاملهم فيما بينهم ومع من يخالفهم في كل أمر وإلى أن تقوم الساعة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عما يكون بعد نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان بأنه يملأ الأرض عدلا، ويقيم شرع الله على هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يبقى على وجه الأرض دين غير دين الإسلام، الذي هو دين الله الحق، ويؤصل هذا ما جاء في قصة عمر لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده صحيفة من التوراة فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " «أفي شك يا ابن الخطاب مما جئت به؟ والله لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباع ما جئت به (3) » ، وأن من يضع العراقيل، ويسوف بالمعاذير، ليتعلل بعدم قدرة الشريعة الإسلامية على المسايرة وتنظيم أحوال المجتمعات وما طرأ عليها، فهو متعد وجائر.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 38
(2) سورة النحل الآية 89
(3) سيرة عمر بن الخطاب عند الذهبي: سير أعلام النبلاء.(77/205)
ولئن كان القصور من بعض المسلمين في الفهم، والعجز عن التطبيق، فإن هذا لا يضير الشريعة ولا يعيبها، وإنما العيب في منهج التطبيق، والقصور جاء من حب التقليد، وضعف الشخصية: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (1) .
فأهل الكتاب لو أنهم اهتموا بما أنزل الله عليهم في كتبهم، ولم يكذبوا على الله قي تحريفهم الكلم عن مواضعه، لكانوا من المطبقين لشرع الله، ولم يحتاجوا لقوانين من وضع البشر يكتنفها النقص ليغيروا فيها بين وقت وآخر، ولكان في وعي الربانيين منهم عن الحكم وعند الأحبار والعلماء ما يسير حياتهم، وتنتظم به أمورهم، وما يكفل العدل لمن ظلموا في بيئاتهم، وذلك في كل شأن من شئون الحياة، ولعم الرخاء واستتب الأمن عندهم، وينتهي الخوف والضجر، ألم يخبر عن ذلك جل وعلا بقوله الكريم: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (2) {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (3) .
وكذلك المسلمون إذا تقيدوا بهذا الشرط: التقوى والإيمان،
__________
(1) سورة هود الآية 113
(2) سورة المائدة الآية 65
(3) سورة المائدة الآية 66(77/206)
وتحكيم شرع الله في أمورهم كلها، وفق ما جاء في كتاب الله القرآن الكريم، وما بلغهم رسوله المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وسلم، كما فهمه الرعيل الأول من هذه الأمة: الصحابة ومن بعدهم في القرون الثلاثة المفضلة، حيث رفع الله قدرهم، ومكنهم في الأرض، فأقاموا العدل الذي تيسرت به الأحوال، واستقامت به دولة الإسلام الواسعة الأرجاء.
بل وجدت كثير من أمم الأرض في دين الإسلام، الذي به تطبيق شريعة الله، ما تشرئب له الأعناق، وتطمئن الأفئدة، فتركوا أعراف الجاهلية وقوانينها، واتبعوا القواعد الأساسية التي جاءت في كتاب الله - من لدن رب كريم -، وسنة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، ومكنوا ما خفي عليهم دليله، بنظرة الرعيل الأول، من فروع جدت مع اتساع دولة الإسلام، والاختلاط بشعوب الأرض بطرق تعين على تخطي العقبات: كالاجتهاد والقياس، واستصحاب الحال، والفهم اللغوي لقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حثه على الاهتمام باللغة العربية: فإنها وعاء الدين، بعد الأخذ بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) ، وقوله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) .
فالإسلام ناسخ لغيره من الأديان الكتابية، وأقرهم على ما هم
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) سورة البقرة الآية 286(77/207)
عليه: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (1) ، وأتاح لهم الفرصة للمساهمة في بناء المجتمع، كما حصل من يهود ونصارى شاركوا في الحضارة الإسلامية في ديار الإسلام الواسعة.
لكنهم جميعا ملزمون بشرع الله؛ لأن تشريعه سبحانه لعباده لا يتبدل ولا يعتريه نقص {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (2) .
وإن مما يعين في تأصيل موضوعنا: أن نقارن بين حالين: الشريعة التي يجب أن يتحمس لها المسلمون، حكاما قبل المحكومين، وبين القانون الذي تحمس له الغربيون وتبعهم فيه تأثرا أو تأثيرا بعض من درس في بلاد الغرب.
فقد استقامت بشرع الله أمور المسلمين وتبعتهم الأمم بقناعة ورضا، كما شهد بذلك مفكرون من الغرب والشرق، فهذه: انجريد أندكه الألمانية في كتابها شمس الإسلام تسطع على الغرب، وهذا بول ديورانت في كتابه: قصة الحضارة الذي ترجمه: محمد بدران، وغيرهما كثيرون.
وقد توسع ديورانت في الإشادة بدور القرآن الكريم في تيسير العدالة، وتمكين الحضارة في المجتمع حيث خصص لهذا مجلدا كاملا أبان فيه عن مكانة القرآن الكريم، وعظمة المسلمين في تنظيم أحوال
__________
(1) سورة الكافرون الآية 6
(2) سورة يونس الآية 64(77/208)
البلاد الإسلامية، والتي استفاد منها الغرب قي عصر النهضة.
وقد تعرض للمقارنة بين شرع الله، والقوانين الوضعية: عبد القادر عودة في كتابه: التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون البشري الوضعي، حيث قال: وحين أقارن بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، لن أتتبع القانون في أطواره الأولى بالمقارنة والموازنة، ولن أقارن بين القانون في القرن السابع عشر الميلادي وبين الشريعة التي أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم في أول هذا القرن، فإن القانون في هذه العهود لم يكن في مستوى يسمح له أن يقارن بالشريعة الإسلامية.
ولكن أقارن حين أقارن: بين القانون في عصرنا الحاضر، وبين الشريعة الإسلامية، وحين أفعل هذا إنما أقارن بين قانون متغير متطور يسير حثيثا نحو الكمال حتى يكاد يبلغه كما يقال، وبين شريعة نزلت منذ ثلاثة عشر قرنا لم تتغير ولم تتبدل فيما مضى، ولن تتغير أو تتبدل في المستقبل؛ لأنها من عند الله ولا تبديل لكلمات الله.
إذا المقارنة بين أحدث الآراء والنظريات البشرية في القانون، وبين أقدمها في الشريعة (1) .
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة 1 \ 5.(77/209)
ثم قال: نحن نقارن بين الحديث القابل للتحديث والتبديل، وبين القديم المستعصي على التبديل والتغيير، وسنرى من هذه المقارنة ونلمس أن القديم الثابت خير من الحديث المتغير، وأن الشريعة على قدمها أجل من أن تقارن بالقوانين الوضعية الحديثة، وأن القوانين الوضعية بالرغم مما انطوت عليه من الآراء، واستحدث لها من المبادئ والنظريات التي لا تزال في مستوى أدنى من مستوى الشريعة، ثم يقول: وإذا استساغت عقول البشر أن تصنع ما يصنعه المخلوق في مستوى ما صنعه الخالق؛ لأنها تدرك الفرق بين الصناعتين، وتحس المدى الواسع بين الصانعين، فلا شك أن العقول التي تدرك هذا جديرة بأن تدرك الفرق بين الشريعة الإسلامية وهي من صنع الله، وبين القوانين الوضعية وهي من صنع البشر.
وفى هذه المقارنة غير المتكافئة يظهر الفارق جليا بين حكم الله في شريعته، وما يجب على كل مسلم الاهتمام والدفاع عنه والدعوة إليه، وبين القوانين الوضعية في كثير من موادها البعيدة عن الفطرة السليمة: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) ، وأهمية السعي الحثيث في الاستقلال بشرع الله عنها.
__________
(1) سورة المائدة الآية 50(77/210)
كما يبين في المقارنة بين حقوق الإنسان بمواده الثلاثين " 30 "، وما فيها من ثغرات؛ لأنها من وضع البشر الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة، ونشر في 10 ديسمبر في 1948 م، واستغرقت صياغتها عدة سنوات بين أخذ ورد، وبين الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان الذي تمت الموافقة عليه في مؤتمر وزراء الخارجية لدول منظمة المؤتمر الإسلامي: المؤتمر التاسع عشر المنعقد بالقاهرة عام 1410 هـ؛ لأنه مستمد من الشريعة الإسلامية التي جاءت عن الله سبحانه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمواده الخمسة وعشرين " 25 " (1) .
وما ذلك إلا أن حكمة شرائع الله - كما قال صاحب الظلال - لا تنكشف كلها للناس في جيل من الأجيال، والبعض الذي ينكشف يصعب التوسع في عرضه، ومن بعض اللمسات فإن شريعة الله تمثل منهجا شاملا متكاملا للحياة البشرية، يتناول التنظيم والتوجيه والتطور لكل جوانب الإنسانية في جميع حالاتها، وفي كل صورها وأشكالها.
وهذا منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن الإنساني، والحاجات الإنسانية، وحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان، ومن
__________
(1) يراجع نص النظامين بكتاب حقوق الإنسان في القرآن والسنة، للدكتور محمد الصالح ص 396 - 412.(77/211)
ثم لا يفرط في شيء من أمور هذه الحياة، ولا يقع فيه، ولا ينشأ عنه تصادم مدمر بين أنواع النشاط الإنساني ولا النواميس الكونية، وإنما يقع التوازن والاعتدال والتوافق والتناسق.
الأمر الذي لا يتوافر أبدا لمنهج من صنع الإنسان الذي لا يعلم إلا ظاهرا من الأمر، والمكشوف في فترة زمنية معينة (1) .
ومن هنا يدرك الإنسان الاختلافات والتعديلات والتفسير المتجدد في مواد القوانين الوضعية، إلى جانب الاعتراضات والاستدراكات؛ لأنها آراء بشرية، أما الشريعة فمع وفائها فإنها لا تتغير ولم تتبدل: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (2) .
وصدق الله العظيم في قوله العزيز: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (3) .
ذلك أن حكم الإسلام في شريعة الله لعباده من أوامر تطاع، وزواجر تجتنب، هو طريق الاستقلال، ولا يعجبن أحد أن يكون حكم الإسلام متفقا مع حكم العقل وطبائع الأشياء، فإن الإسلام هو بنص القرآن: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (4) ، وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) '' في ظلال القرآن '' لسيد قطب ج 6 الطبعة 4، لبنان، ص 146.
(2) سورة الروم الآية 30
(3) سورة النساء الآية 82
(4) سورة الروم الآية 30(77/212)
«كل مولود يولد على الفطرة (1) » .
وإذا أردنا أن نعرف شيئا عن القوانين الغربية، وما يجري عليها من تغييرات حسب طبائع البشر في أحوالهم كلها، وعدم الاستقرار على حال ثابتة، فإن القانون الفرنسي الذي يعتبر أبا القوانين الوضعية كلها، ومن أصوله تستمد تنظيماتها، نرى عبد القادر عودة يقول عنه: وبعد الثورة الفرنسية أخذ المتشرعون الأوربيون في تجريد القوانين الوضعية من كل ما له مساس بالدين والعقائد، والأخلاق والفضائل الإنسانية، حتى تم لهم ذلك إلى حد كبير، وأصبحت هذه القوانين قائمة على تنظيم علاقات الأفراد المادية، وعلى ما يمس الأمن ونظام الحكم أو النظام الاجتماعي، بذلك انعدم العنصر الروحي في القانون، فانعدم سلطانه على الأفراد والشعوب.
وقد أدى إهمال الدين والعقائد وإبعاد الأخلاق والفضائل عن دائرة القانون إلى نتائجه الحتمية، ففسدت الأخلاق، وشاعت الفوضى، ونبتت في الجماهير روح التمرد والاستهانة بالقانون، وكثرت الثورات، وتعددت الانقلابات، وتغيرت النظم طبقا للأهواء، وانتفى الاطمئنان والاستقرار من حياة الشعوب.
__________
(1) الإسلام وأوضاعنا لعبد القادر عودة ص 80، وانظر: كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس للعجلوني 2 \ 125، والمراد قوله: '' كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه '' رواه البخاري عن أبي هريرة.(77/213)
ثم قال: ولقد أوقع المتشرعين في هذا الخطأ الفاحش أنهم أرادوا أن يحققوا مبدأ المساواة بين الأفراد، وأن يطبقوا مبدأ حرية الاعتقاد، فلم يروا وسيلة لتطبيق هذين المبدأين معا إلا أن يجردوا القانون من كل ما يمس العقائد والأخلاق، فأدى بهم هذا التطبيق السيئ إلى تلك النتائج المحزنة، ولو أنهم أخذوا بطريقة الشريعة الإسلامية لضمنوا تحقيق ما شاءوا من مبادئ، ولمنعوا من وقوع تلك المساوئ (1) .
__________
(1) الإسلام وأوضاعنا القانونية ص 45، 46.(77/214)
المعوقات:
ومع هذا العرض وما وضح في شرع الله سبحانه من أهمية ذات عمق لتطبيق شرع الله في عباده، ومسئولية ذلك على كل فرد من المسلمين، مهما كان موقعه، حتى لا يتشبهوا بأهل الكتاب الذين عاندوا وكذبوا، واستبدلوا شريعة الله بأهواء البشر، وشريعة رب السماء والأرض الذي أحاط علمه بكل شيء بقوانين وضعية من ابتكارات البشر، في علمهم القاصر، بدليل ما يكتنف أعمالهم من نقص، وما تستدعيه الحاجة لتعديل فقرات من قوانينهم بين حين وحين.
فإن التعامل الاقتصادي، والاتصال الاجتماعي والاحتكاك في الشئون المختلفة، وتقدم دول الغرب، وتطورهم علميا وحضاريا،(77/214)
وشعور بعض الدول الإسلامية بالتخلف عنهم في الظواهر الدنيوية، كما قال سبحانه في مثل حالهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (1) .
دعا هذا الأمر بعضا من الدول الإسلامية إلى تقليدهم ومحاكاة من يتصدر للقدرة والأسبقية لوضع أنظمة وقوانين تسير حياتهم، وقصرت ببعضهم الهمم وإن لم يتراخوا في الحماسة حول تطبيق الشريعة الإسلامية؛ لأن الحماسة وحدها إذا لم تحمها الشجاعة والاعتداد بالشريعة، كمصدر يسير أمورهم، وينظم حياة الشعوب؛ لأنها جاءت من الله العالم سبحانه بما يصلح المجتمعات، ويقضي على النزعات المختلفة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فإنها لا بد أن تقف دونها العراقيل عن تحقيق الهدف، الذي وضحه للأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونجمل المعوقات في النقاط التالية، دون التوسع فيها، وإيفائها ما تستحق من الإبانة والتوضيح، ومقارنة الآثار بين كثير من مواد القانون والشريعة: في الزواجر والأوامر، وتأثر الحكم بين الحالين إيجابا وسلبا، في الأمن والحقوق، والمصالح والمفاسد، وغير ذلك؛ لأن هذا مما يطول البحث فيه، ويحوله إلى كتاب، فنقول بإيجاز:
__________
(1) سورة الروم الآية 7(77/215)
- هناك العديد من المعوقات التي قد تكون حائلا عن تطبيق الأحكام الشرعية في القضاء، سواء ما كان مدنيا أو جنائيا، وبغض النظر عن صحة بعض هذه المعوقات إلا أنه يمكن لم أغلبها في النقاط التالية:
1 - هناك معوقات دولية: فإن مما يمنع من تطبيق أحكام الشريعة ويحول بينها أسباب تتعلق بالمجتمع الدولي، باعتباره الأقوى في التنديد والتحمس ضد الشريعة، وفرض قوانينه في المحافل والمعاهدات وغيرهما.
2 - المواثيق والاتفاقات الدولية: حيث يوجد العديد من الاتفاقيات الدولية التي تصطبغ بالصبغة العامة، والتي يوجد فيها العديد من البنود في الجانب المدني، والتي تتعارض مع بعض الأحكام الشرعية الداخلية كإباحة البيوع المحرمة والربا وما يتعلق بالمرأة ونحو ذلك، وعدم تجريم هذه الأمور حتى لا يتوسع ضررها صحيا أو اجتماعيا، مع حمايتهم لهذه الأمور بمظلة الحرية الشخصية.
3 - وهناك أمور في جانب الإنسان: حيث تتداعى جمعيات ومنظمات حقوق الإنسان الدولية لأجل المنع من تطبيق بعض الحدود الشرعية، بدعوى مناهضتها لحقوق الإنسان أو حقوق الحيوان، كعقوبة القصاص بالجنايات والجلد والرجم، وقطع يد السارق، والقتل أحيانا، مما يسبب حرجا على الدول الإسلامية التي(77/216)
تريد تطبيق الشريعة في هذا الجانب؛ لأنها جاءت في مصدر التشريع عند المسلمين عن الله سبحانه بأمر جازم، وهم يريدون رحمة المجرم، ومعالجة سلوكه بالرأفة في نظرهم أو رأيهم.
4 - وهناك معوقات تنظيمية: حيث لم يزل العديد من الأحكام الشرعية، وخصوصا في الجانب التعزيري، دون الهدف المرجو من حيث التدوين والتجارب العصرية في التقاضي.
5 - وهناك أيضا معوقات اجتماعية " داخلية ": فإن الناس أعداء ما لم يألفوا، وقد حرص الاستعمار العسكري ثم الفكري على تثبيت قوانينه الوضعية في جميع الدول التي ارتبط بها وارتبطت به، ولم يكن لديهم الجرأة أو القدرة باستبدالها أو مسحها بمسحات شرعية إسلامية.
6 - إضافة إلى ذلك: فإن هناك أعدادا كبيرة في المجتمعات الإسلامية يأكلون لقمة عيشهم من طريق أو بآخر بسبب هذه القوانين الوضعية، فالأعداد الغفيرة من خريجي كليات القانون والحقوق يمثلون ورقة ضغط داخلي ضد الشريعة.
لكن يمكن التغلب على هذا المعوق بالتربية والتوجيه، وتحسين البدائل وتيسيرها، مثلما هيئت الأسباب القانونية ليكون البديل الأسباب الشرعية.
7 - وهناك معوقات بشرية ومالية حيث يحتاج إعادة وتغيير(77/217)
القوانين فيما يتعلق بتطبيق الشريعة إلى جهود وأموال ضخمة، إضافة إلى أنه جهد تراكمي يحتاج إلى سنوات متعددة.
8 - ولا ننسى المعوق الإعلامي حيث إن دور الإعلام في الأمور كلها إيجابيا أو سلبيا دور مهم يجب أخذه بالحسبان، فمع الإعلام من قبل من يريد تطبيق الشريعة ويتحمس لها هناك إعلام معاكس من قبل القانونيين وغيرهم سوف يتصدى للفكرة، مثلما تصدى من قبل لفكرة البنوك الإسلامية، والتي بدأت تثبت وجودها بالصمود، وإبراز النتائج الموثقة بالأرقام، مما دفع بالفكرة إلى أن يرتفع ميزانها في البنوك عندهم رغبة في كسب المغانم البارزة.
9 - القضاء على المعوقات تدريجيا بالحوار والمؤتمرات والتعميم، وتوضيح الجوانب الإيجابية ودورها على الحياة، والاستشهاد بآراء ونظرات المختصين في كل مجال بما قاله المنصفون الدارسون من الغربيين للشريعة الإسلامية بتجرد من باب رد الشبهات بأقلام وآراء معروفة في بيئاتهم، وبسمعتهم الدولية عندهم شهرة وتأليفا.(77/218)
الدور الإيجابي:
أخبر صلى الله عليه وسلم عن تداعي الأمم على أمته آخر الزمان، ولما قالوا: يا رسول الله: أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل (1) » ، ثم أخبر صلى الله عليه
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند باقي مسند الأنصار، ومن حديث ثوبان رضي الله عنه رقم 21891، وأبو داود في كتاب الملاحم، باب تداعي الأمم على الإسلام برقم 4297.(77/218)
وسلم أن السبب " هو الوهن " ونزع المهابة من القلوب.
وإن من اعتداد المسلمين بشريعتهم عبادة وتطبيقا:
أولا: معرفة المشكلات عندهم ومعالجتها بما ظهر في شريعة الله، ثم إبراز ذلك الأثر بما هو محسوس لتأثير ذلك في نفوس المخاطبين مقرونا بالمصالح، نموذج ذلك ما أوردته في كتابي: تطبيق الشريعة طريق الأمن والعزة، بهذا الخصوص:
1 - وقبل أن أدخل في موضوع الحدود الشرعية، ونماذج لما في سجون أمريكا، ففي رمضان عام 1401 هـ أدركتني الأيام الأولى منه في مدينة " مونتجمري " بولاية (الباما) بالولايات المتحدة الأمريكية، وكان عدد المسلمين بها لا يزيد عن 35 نسمة من الرجال والنساء والأطفال، يضاف لهذا العدد الطلاب المسلمون الذين وفدوا للدراسة من أنحاء العالم الإسلامي.
وفي أول يوم أقمنا في المسجد الوحيد المستأجر صلاة التراويح وصلاة العشاء، ثم كان لنا حديث مع كل واحد من مسلمي هذه المدينة؛ ليخبرنا عن وقت إسلامه وسببه، فقد كان أغلبهم من الذين أسلموا في السجن؛ لأنهم أصحاب سوابق متعددة، ولكنهم صلحت أحوالهم، واستقامت أمورهم بالإسلام، وكان إمام المسجد الشيخ " حبيب الرحمن " مشرفا اجتماعيا وداعية إسلاميا.(77/219)
وكان السجن العمومي في هذه المدينة وفي المدن المجاورة يدعوه دائما للزيارة وإلقاء المحاضرات، وقد أسلم على يديه عدد كبير، ودعانا الشيخ لزيارة السجن ويكون يوم غد، وأن نأخذ معنا إفطارنا لنتناوله مع المسلمين الذين لم يخرجوا من السجن، وكان إسلامهم في داخل السجن؛ لنواسيهم وإشعارهم برابطة الإسلام.
وعند وصولنا بوابة السجن سبقنا الشيخ " حبيب الرحمن "؛ لأنه يحمل بطاقة من حاكم الولاية بدخول السجن في أي وقت، وليطلب من إدارة السجن أن تحضر له السجناء في مكان معين، فكانت كنيسة السجن لعدم وجود مسجد فيه؛ ليلقي فيهم الموعظة، ويجيب على الأسئلة.
دخلنا بطعامنا السجن ثم الكنيسة التي سرنا ما رأينا، فجدرانها التي غشيت داخلية وخارجية بآيات قرآنية وأدعية إسلامية، ولوحات ترحب بشهر رمضان، مما جعلنا نعتقد في البداية أن المكان مخصص للمسلمين، وأنه مسجد قد بني لهم، فقد فرح بنا مسلمو السجن، وبعد الإفطار وصلاة المغرب بدأ الحديث والإجابة على الأسئلة.
ولقد حضر مدير السجن ومعه معاونوه، ونقل لنا تحيات وتقدير حاكم الولاية، وأخبرنا بما يلي:
- أن التقارير الأمنية عندنا أجمعت على أنه لا ينقذ " أمريكا " من الجرائم التي تزداد يوما بعد يوم إلا الإسلام، ولهذا(77/220)
فإننا وبتوجيه من حاكم الولاية نشجع الدعاة للإسلام في داخل السجون؛ لأثرهم الواضح في إصلاح المجرمين.
- أن من أسلموا في السجن حسنت حالهم، وانتظم سلوكهم.
- أن من أسلم تخفف عنه مدة العقوبة لحسن أخلاقه وتأدبه وهدوئه.
- أن من أسلم لا يرجع إلى السجن أبدا، فقد أصلحه الإسلام ومنعه من العودة إلى ارتكاب الجريمة.
- أن عرض تعاليم الإسلام من الدعاة أسلوبه ساحر، ومؤثر في قلوب المجرمين القساة، فتلين ويستجيبون للإسلام.
- أنني ألاحظ على كل من أسلم الهدوء وحب النظافة، وحسن المظهر والوقار، وحسن الخلق واحترام الأنظمة.
- بينما من يتعهدهم القساوسة لا تتغير طباعهم، وقد يهدءون فترة في السجن حتى يخفف عنهم الحكم، ولكنهم بعد خروجهم لا يلبثون إلا أياما قليلة حتى يعودوا للسجن في جرائم أخرى.
إذا كانت هذه نظرتهم بالتجربة عن دور الشريعة في القضاء على الجريمة في بلد اتسعت فيه الجريمة وتعددت مشاربها، فما دور(77/221)
المسلمين والحل بين أيديهم، ومبسوط في كتاب ربهم، وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، وسار في تطبيق هذا الرعيل الأول من هذه الأمة، فاتسعت دولة الإسلام، وانجذب العالم لعدالتهم، وحرصهم على رفع المظالم؟
2 - لقد كان مما حرص عليه المهتمون بتطبيق الشريعة، والمتحمسون لشرع الله من المسلمين، إقامة مؤتمرات حول تهيئة الأجواء التربوية لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، حيث أقيم مؤتمر في دولة الكويت في شهر ذي القعدة 1413 هـ \ 1993 م، تحت مسمى: مؤتمر تهيئة الأجواء التربوية لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، بمحاوره الثلاثة:
أ - التربية في صدر الإسلام.
ب - واقع التربية في المجتمع الكويتي.
ج - أساليب تهيئة الأجواء التربوية لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية.
وخرج المؤتمر بتوصيات جيدة بلغت ثلاثة مجلدات، تنظر التطبيق العملي.
3 - وساهمت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في(77/222)
مؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقدته الجامعة بالرياض عام 1396 هـ \ بعنوان: وجوب تطبيق الشريعة والشبهات التي تثار حول تطبيقها، وقد نشرها بحوثا وتوصيات المجلس العلمي بجامعة الإمام عام 1404 هـ \ 1984 م، برقم 19، وخرجت في 384 صفحة، وهي جيدة العرض، والتوصيات من كبار العلماء المسلمين، وجاهزة للتنفيذ العملي، إلا أنها لم تتعد مكانها الذي أودعت فيه في المكتبات الخاصة، بل أكثر المقتنين لم يكلفوا أنفسهم عناء القراءة، فضلا عن الدعوة للتنفيذ؛ لأن القاعدة كما يقال: بأن ما يهدى لا يقرأ (1) .
4 - كما ألف في الموضوع كتب كثيرة، بذل مؤلفوها - أثابهم الله - جهودا وردودا على من يثير الشبهات بقصور الشريعة الإسلامية في مزاحمة القوانين الوضعية، والتأقلم مع القضايا المختلفة ماليا واقتصاديا وإداريا، وتغلبا على الجريمة، ومسايرة لحقوق الإنسان وحقوق المرأة، وتعدد الزوجات، والمضاربة في البورصة والتأمين، وغيرها من أمور كثيرة تعرض لها المؤلفون، وأبانوا معالجة الشريعة لكل أمر بما يريح النفوس ويؤمن المجتمعات، نذكر منها على سبيل المثال فقط دون الاستقصاء للاستئناس وبتعريف موجز:
أ - كتاب النظم الإسلامية والمذاهب المعاصرة: " دراسة مقارنة " تأليف الدكتور: حسن عبد الحميد عويضة، الذي نشرته في
__________
(1) لراغب الفائدة يراجع هذا المؤتمر وما فيه من بحوث جيدة وتوصيات.(77/223)
طبعته الثانية دار الرشيد بالرياض، عام 1451 هـ \ 1981 م، وجاء في 234 صفحة من القطع الكبير.
ب - المبادئ الشرعية في أحكام العقوبات في الفقه الإسلامي، بحث فقهي مقارن للدكتور: عبد السلام محمد الشريف، ونشرته دار الغرب الإسلامي ببيروت: لبنان عام 1406 هـ \ 1986 م، ويقع في 507 صفحة من القطع الكبير.
ج - كتاب الاستفتاء الشعبي بين الأنظمة الوضعية والشريعة الإسلامية للدكتور: ماجد راغب الحلو، أستاذ القانون العام المساعد بكلية الحقوق، بجامعتي الإسكندرية والكويت، نشرته مكتبة دار المنار الإسلامية في الكويت، في طبعته الأولى عام 1400 هـ \ 1980 م، ويقع في 478 صفحة من القطع الكبير.
د - كتاب عن: ندوة العرف العشائري بين الشريعة والقانون، المقامة في المركز الثقافي الإسلامي بالجامعة الأردنية ما بين 19 - 21 ربيع الثاني عام 1410 هـ ص 18 - 20 \ تشرين الثاني 1989 م، وحرره ثلاثة من الباحثين، وطبع في 525 صفحة من القطع الكبير في عمان عام 1990 م مع التوصيات.
هـ - كتاب الإجراءات الجنائية في جرائم الحدود في المملكة العربية السعودية، وأثرها في استتباب الأمن للدكتور: سعد بن محمد بن ظفير، ويقع في جزءين، وقد طبع في عام 1415 هـ \ 1994 م،(77/224)
وهو دراسة فقهية للنظام السعودي الجنائي.
وومن المؤلفين القدامى يأتي الإمام بدر الدين بن جماعة المتوفى عام 733 هـ في كتابه تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، الذي حققه ودرسه وعلق عليه الدكتور: فؤاد عبد المنعم أحمد، وقدم له فضيلة رئيس محاكم قطر الشرعية الشيخ: عبد الله بن زيد بن محمود، وطبعه فضيلته رحمه الله، والحقوق محفوظة له، ويقع في 358 صفحة؛ ليسهم المؤلف في إزالة الشبهات حول استيعاب شرع الله في تنظيم حياة البشر، وعدم قصوره عن حل كل جديد يمر بالإنسان، وينظم أحوال البشر الدينية والدنيوية.
وهذه نماذج فقط، وإلا فالكتب كثيرة والحلول مطروحة، والحماسة من الباحثين متوفرة، وما ينقص إلا الهمة في التنفيذ، ولو على خطوات، وفي مراحل زمنية.
ز - ثم كانت المصارف الإسلامية، وما اكتنف عملها من تحديات وانتقادات، لكن القائمين على الفكرة وبصمودهم حققوا نجاحات لا يستهان بها، حتى أن كثيرا من البنوك التقليدية أقدمت على فتح نوافذ وفروع إسلامية لما ظهر أمام القائمين عليها من نجاح مدعم بالأرقام تعامليا وربحيا، وكل شهر تبرز الدور الذي تحقق في الودائع بالمصارف الإسلامية حيث وصل 45 مليار دولار، وحجم التمويل 60 مليار دولار، وبلغت البنوك المتجهة لهذا العمل(77/225)
(300) بنك في أنحاء العالم.
وتحقق نموا سنويا يزيد عن 10%.
هـ - ولقد سبق هذا محاولتان عمليتان، وسبب ذلك شبيه بسبب اليوم، وهو احتكاك البلاد الإسلامية بالأمم الغربية، وصحب ذلك نشاط تجاري، وتعامل دولي، ومشاركة اقتصادية.
المحاولة الأولى: تعود إلى 26 شعبان عام 1293 هـ عندما أصدرت الخلافة العثمانية كتابا مشتملا على المعاملات الفقهية ومسائل الدعاوى وأحكام القضاء معنونا بـ " مجلة الأحكام العدلية " على الفقه الحنفي - المذهب الحنفي -، وجاءت هذه المجلة في مائة قاعدة.
المحاولة الثانية: كانت في المملكة العربية السعودية عندما قام الشيخ القاضي أحمد بن عبد الله القارئ رئيس المحكمة الشرعية الكبرى بمكة بتأليف مجلة فقهية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، فقد نشرت جريدة أم القرى خبرا في العدد 141 في 28 صفر عام 1346 هـ، خلاصته أن الملك عبد العزيز - حفظه الله - يفكر في وضع مجلة للأحكام الشرعية، يعهد إلى لجنة من خيار الفقهاء المسلمين الاختصاصين استنباطها من كتب المذاهب الأربعة المعتبرة.
وهذه المجلة ستكون مشابهة لمجلة الأحكام التي وضعتها الدولة(77/226)
العثمانية عام 1293 هـ، ولكنها تختلف عنها بأمور، أهمها عدم التقيد حين الاستنباط بمذهب دون آخر، بل تأخذ ما تراه في صالح المسلمين من أقوى المذاهب حجة ودليلا من الكتاب والسنة.
وقد رتبها الشيخ القاري على أبواب الفقه عند الحنابلة، ووضعها على هيئة مواد بلغت " 2382 " مادة، وقد قام بالتحقيق والدراسة الدكتوران: عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، ومحمد إبراهيم أحمد علي، وخرجت الطبعة الأولى عام 1401 هـ \ 1981 م، في (679) صفحة عن دار النشر تهامة بجدة.
- هذا مع محاولات أخرى في مصر والشام وغيرهما، لكن لم يقدر لتلك الأعمال مثل غيرها من المؤلفات التي حاول المهتمون بها أن يكون لها دور في تلبية الحاجة.
وقد جاء في مقدمة مجلة الأحكام الشرعية للمحققين وجهة نظر حول الموضوع، هو قولهما في ص 28: بناء على ذلك لم يزل الأمل معلقا، بتأليف كتاب في المعاملات الفقهية، يكون مضبوطا سهل المأخذ عاريا من الاختلاف حاويا للأقوال المختارة سهل المطالعة على كل أحد؛ لأنه إذا وجد كتاب على هذا الشكل حصل منه فائدة عظيمة عامة لكل نواب الشرع، ومن أعضاء المحاكم النظامية والمأمورين بالإدارة إلى آخر ما ذكر (1) .
__________
(1) مجلة الأحكام الشرعية ص 28 الطبعة الأولى.(77/227)
وأزيد على وجهة النظر هذه عن أهمية تتابع الدراسات والمؤتمرات على مستوى القيادات التنفيذية إداريا وشرعيا ومشاركة قانونيين من بلاد الغرب، لتتقارب الآراء بالمناقشة والمحاررة الهادفة.
وقد ضرب الملك عبد العزيز رحمه الله مثلا يجب أن يحتذي عندما تأسست هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية وقدمت الأمم المشاركة قوانينها ودساتيرها وقدم هو نسخة من القرآن موضحا أن هذا هو دستورنا الذي تسير الدولة بموجبه.
ولذلك وضعت الأنظمة الكثيرة على منهج الشريعة الإسلامية، ويطبق مقتضاها لتسير أحوال الناس في المرور وشؤون الموظفين والمحاسبة والمستودعات وأنظمة القضاء وغيرها.
والأصل في هذا حديث تأبير النخل الذي جاء فيه: «إن كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإن كان شيئا من أمر دينكم فإلي (1) » .
- وأختم هذا الموضوع الذي يحتاج حيزا أكبر ومقارنات أشمل بواقعة حصلت منذ أربعين عاما يكفي سردها باختصار عن
__________
(1) يراجع حديث تأبير النخل عند ابن ماجه في سننه 2 \ 68 برقم 2496.(77/228)
التعليق.
فقد كان أحد التجار بالمملكة قد أخذ وكالة إحدى شركات الساعات اليابانية، وقد بعثوا له إرسالية كبيرة، بواسطة واحدة من شركات الطيران التي حولتها من شركة إلى شركة وآخر المطاف مطار الظهران الدولي، وقيمة هذه الإرسالية كبيرة جدا.
فالشركة تعقب برقيا وخطابيا وتلكس، يريدون الإفادة بالوصول وتحويل المتبقي من الثمن، والتاجر ينفي الوصول، ولم يعلم شيئا عن هذه الإرسالية مما دفع الشركة لبعث مندوب قائلا بعد المتابعة: إن الشحنة وصلت مطار الظهران، والمطار يثبت عدم وصول شيء.
فجاء محامي الشركة إلى الرياض حيث أقيمت الدعوى في بلد المدعى عليه، وبالجلسات المتعددة كاد الحكم يصدر لصالح شركة الساعات ويتحمل المسئولية التاجر؛ لأنه لم يؤمن.
ثم هددته الشركة إذا لم يؤمن بأن تسحب الوكالة منه، لكنه قدم اعتراضه بواسطة من يدافع عنه برفضه التأمين لأنه لم يجز شرعا، وأرفق فتوى من إحدى الجهات الشرعية، فما كان من محامي الشركة إلا أن طلب تأجيل الجلسة ليتفاهم مع شركته ثم عاد في الوقت المحدد ومعه مدير الشركة التنفيذي ليحضر الجلسة ومناقشة هذا الوكيل، وطلب من محامي الشركة أمام القاضي مناقشة فكرة(77/229)
التأمين، ولماذا يرفضه بإصرار هذا الوكيل؟ وكان جوابه: إن أهم ما علي في التعامل تعاليم شرع الله، ولا يمكن أن أتعامل بكل أمر ممنوع في الإسلام كالربا والتأمين الذي فيه الغرر والكذب والتحايل، وطلب مدير الشركة من القاضي رأيه فيما قال المدعي، فأيده.
وفي الجلسة التالية: قدم مدير الشركة لهذا المندوب خطاب شكر وأخبره في مجلس القضاء بأن شركته تقدر له تمسكه بتعاليم دينه، وأن الشركة تتحمل قيمة هذه الإرسالية التي لم تصله، وتتحمل عنه مستقبلا التأمين على الإرساليات، وتبقيه وكيلا تعتز به الشركة لحرصه على دينه، وتمسكه بما شرع له فيه.
وينطبق على هذه وأمثالها قول الشاعر:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
والله ولي التوفيق.(77/230)
حماية المجتمع المسلم
من الانحراف الفكري
فضيلة الدكتور \ عبد الله بن عبد العزيز الزايدي (1)
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، أوضح لعباده في كتابه المبين سبل حماية الدين، ووقاية المؤمنين من سعي المبطلين إلى إفساد الدين، وأصلي وأسلم على خاتم النبيين، وسيد الخلق أجمعين، نبينا محمد وعلى آله الطيبين، ورضي الله عن أصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن حماية المجتمع المسلم من الانحراف الفكري هي أهم جوانب الحماية التي ينبغي أن تتجه إليها الأنظار، ويعنى بها الباحثون، ويتصدى لها المسؤولون عن أمن المجتمع وسلامته.
ذلك أن صحة الفكر وسلامته وثباته على الحق من أهم الأمور المؤدية إلى استقرار المجتمع المسلم، والانحراف الفكري هو أخطر انحراف يقع في المجتمع المسلم للأسباب التالية:
__________
(1) عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.(77/231)
أن الانحراف الفكري يترتب عليه ما لا يترتب على غيره في حياة الفرد وآخرته، فإن من أخطر صوره الانحراف العقدي المتمثل في الوقوع في الشرك الذي يترتب عليه حبوط العمل وعدم قبوله، ويترتب عليه تحريم الجنة واستحقاق النار، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (1) .
ومن أمثلته التي لا تزال موجودة في بعض المجتمعات المنتسبة للإسلام التعلق بالأموات وصرف أنواع من العبادة لهم كالدعاء والاستغاثة والنذر والذبح وغيرها، ومن صور هذا الانحراف الواقع في هذا العصر، وقد اتسعت دائرة صوره وتعددت صوره، ولعل من أخطرها:
1 - السعي لزعزعة مصادر المعرفة والعلم الراسخة في وجدان المسلم، وذلك باستبعاد الوحي كمصدر للمعرفة أو تهميشه وجعله تابعا لغيره من المصادر كالعقل والإحساس، والسخرية من الإيمان بالغيب واعتباره أساطير وخرافات، والسعي لكسر الحواجز النفسية بين الإيمان والكفر.
2 - غلو بعض شباب الأمة في التكفير وما ينتج عنه من أعمال العنف والقتل والتخريب.
__________
(1) سورة المائدة الآية 72(77/232)
3 - خلخلة القيم الخلقية الراسخة في مجتمعات المسلمين من الأخوة والإيثار والطهر والعفاف وحفظ العهود واحتساب الأجر، واستبدال ذلك بقيم النفعية والنظر للمصلحة المادية دون سواها، والنفع والتحلل والإباحية.
4 - رفع مصطلح الحداثة كلافتة إصلاحية بديلة لشعار التوحيد لهدم القيم والثوابت وتلويث المقدسات، وجعل ذلك إطارا فكريا للأعمال الأدبية.
5 - استبعاد مقولة: الغزو الثقافي، واستبدالها بحوار الثقافات؛ لتخدير الأمة، وتسهيل ترويج مبادئ الفكر العلماني.
6 - وصم منهج سلف الأمة في فهم الدين بالأصولية والتطرف والإرهاب الفكري.
7 - تمييع قضية الحلال والحرام في المعاملات والأخلاق والفكر والسياسة، ومحاولة فك الارتباط بين الدنيا والآخرة.
8 - الترويج الدائم للنظريات العلمانية الغربية في الاجتماع والأدب.
9 - ظهور الضعف في التزام أصول الدين في العلاقة الفردية مع غير المسلمين، ويتمثل ذلك في ضعف الولاء والبراء، وذلك بمحبة الكفار والثناء عليهم وتمجيدهم، والتشبه بهم في الهيئات وكثير من الأفعال التي تخالف الإسلام، وكذلك تجاوز الحد بالاعتداء على(77/233)
المستأمنين المعاهدين منهم.
10 - ضعف الاعتقاد بوجوب الحكم بما أنزل الله، وتسويغ الحكم بغيره.
كما تظهر أهمية الموضوع من خلال ما يشاهد من سعي دءوب من ملل الكفر، ولا سيما من لها الغلبة والقوة المادية لصرف المسلمين عن الاعتقاد الصحيح والفكر السليم، ودأب في محاولة إبعاد المسلمين عن الدين الحق إلى أديان الضلال والغواية، وهي طبيعة مستمرة في الكفار.
تلك بعض الجوانب المؤكدة لأهمية الموضوع وضرورة العناية به.
منهج الباحث:
يعتمد الباحث المنهج التحليلي الوصفي المتضمن العرض والوصف والتحليل، مع الالتزام بضوابط البحث العلمي، ومن ذلك:
1 - عزو الآيات إلى مواضعها من القرآن الكريم.
2 - تخريج الأحاديث النبوية تخريجا حسب القواعد والأصول المتبعة.
3 - الاعتماد على القول الذي يسنده الدليل من الكتاب والسنة، متجنبا الخوض قي الخلافات المذهبية، وإذا لزم الأمر ذكر الرأي المخالف فيبين ذلك حسب الأصول العلمية.
4 - شرح المصطلحات والألفاظ الغريبة.(77/234)
خطة البحث: المقدمة، وتتضمن:
- أهمية البحث.
- منهج الباحث.
- خطة البحث.
- ضوابط الانحراف الفكري.
الفصل الأول: منهج القرآن والسنة في حماية المجتمع من الانحراف الفكري
المبحث الأول: تأصيل العقيدة الصحيحة وتثبيتها في النفوس بالدلائل والبراهين.
المبحث الثاني: دفع الشبهات.
المبحث الثالث: بيان فساد الأفكار الضالة والعقائد الباطلة وأسباب ذلك.
المبحث الرابع: بيان الأمور المفسدة للفكر والاعتقاد والنهي عنها.
وفيه عشرة مطالب:
1 - القول على الله بغير علم.
2 - الغلو والتفريط.
3 - الابتداع.
4 - المراء في القرآن والخوض في آيات الله.
5 - اتباع المتشابه وترك المحكم.
6 - الاطلاع على كتب الضلال ثقة بها.(77/235)
7 - الشكوك والشبه.
8 - مجالسة أهل الأهواء والبدع.
9 - الإنكار والتكذيب.
10 - الاستكبار.
المبحث الخامس: العقوبات الرادعة في الدنيا والآخرة، وفيه:
تمهيد عن العقوبات الإلهية في الدنيا والآخرة لأهل الضلال، وخمسة مطالب هي:
1 - عقوبة الردة.
2 - عقوبة الساحر.
3 - عقوبة الذهاب إلى الكهنة.
4 - عقوبة الخوض في المتشابه.
5 - التعزير.
الفصل الثاني: التطبيقات العملية للوقاية من الانحراف الفكري
المبحث الأول: في عهد النبي.
المبحث الثاني: في عهد الخلافة الراشدة.
المبحث الثالث: نماذج من التطبيقات العملية من قبل الأئمة المجددين من السلف (الأئمة الأربعة، شيخ الإسلام ابن تيمية، الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب) .
الفصل الثالث: سبل حماية المجتمع من الانحراف الفكري في العصر الحاضر
المبحث الأول: الأساليب العملية لعلاج الانحراف الفكري، وفيه ستة مطالب وهي:(77/236)
1 - الحكم بما أنزل الله في جميع جوانب الحياة.
2 - بناء المساجد وإقامة شعائر الله.
3 - إزالة مشاهد الشرك والبدع.
4 - حماية المجتمع من المؤثرات السلبية الداخلية والخارجية.
5 - القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المبحث الثاني: الأساليب الوقائية، وفيه أربعة مطالب وهي:
1 - العناية بتأصيل ونشر العقيدة الصحيحة في مختلف مجالات التوجيه والتعليم (المساجد، التعليم، الوسائل الإعلامية، التأليف والنشر) .
2 - منع المبطلين من نشر أفكارهم الضالة، والتحذير منها والرد على أصحابها.
3 - رصد وسائل المبطلين في نشر مذاهبهم الضالة وعقائدهم المنحرفة.
4 - بيان وكشف العقائد الباطلة والمذاهب والأساليب المسببة للانحراف الفكري والتصدي لها (وسائل التنصير النظرية) ، (وسائل التنصر العملية) ، (وسائل أهل الأهواء في نشر مذاهبهم) .
الخاتمة:
وتتضمن أبرز النتائج والتوصيات.(77/237)
تعريف الانحراف الفكري:
قبل الدخول في موضوع منهج الكتاب والسنة في حماية المجتمع المسلم من الانحراف الفكري لا بد من بيان حقيقة الانحراف الفكري وضوابطه التي إذا تحققت وجد الانحراف الفكري، وهذا يقتضي التعريف بمعنى الانحراف الفكري والمراد به، ثم بيان ضوابطه.
تعريف الانحراف الفكري:
الانحراف الفكري مركب من كلمتين بتعريفهما يتضح المراد بإذن الله:
الانحراف في اللغة: هو الميل، قال الزبيدي: انحرف وتحرف: مال وعدل عن الطريق
، والتحريف: التغيير (1) ، وكلمة انحرف انحرافا لا تدل بذاتها في أصلها اللغوي على مدح أو ذم، فقد ينحرف الإنسان لقومه أو لعدوه، أو ينحرف عن العدو كما قال تعالى: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} (2) ، غير أنه جرى استعمالها في الذم غالبا، فوصف المرء بالانحراف يكون بالذم غالبا.
الفكري: منسوب للفكر، وهو أسمى صور العمل الذهني بما فيه من تركيب وتحليل وتنسيق، فكل ما أنتجه عقل الإنسان من رأي ناتج عن تأمل وتحليل وتركيب فهو فكر (3) ، وعلى هذا يمكن
__________
(1) القاموس المحيط مادة: حرف.
(2) سورة الأنفال الآية 16
(3) المعجم الفلسفي ص 173.(77/238)
تعريف الانحراف الفكري بأنه الميل إلى غير الحق في أصول الدين فيما ينتجه عقل الإنسان من رأي.
فما الذي يمكن وصفه بأنه انحراف فكري؟
والجواب أنه كل ميل عن الحق في أصول الدين.
أما ضوابط الانحراف الفكري فيمكن إيجازها في الآتي:
- كل فكر ورأي مخالف أو مناقض لنص الكتاب والسنة.
- كل تأويل للنصوص المتصلة بالاعتقاد لم يقره الأئمة من أهل السنة والجماعة في القرون الثلاثة المفضلة.
وبهذه الضوابط يتحدد ما يمكن وصفه بالانحراف الفكري.(77/239)
الفصل الأول: منهج القرآن الكريم والسنة النبوية في حماية المجتمع المسلم من الانحراف الفكري
المبحث الأول: تثبيت العقيدة الصحيحة في النفوس بالدلائل والبراهين
لا ريب أن تأصيل وترسيخ الاعتقاد الصحيح من أعظم وسائل الوقاية من الانحراف الفكري، والواقع في القديم والحديث يصدق هذه الحقيقة؛ إذ لا نكاد نلمس انحرافا فكريا فيمن كان لديه اعتقاد صحيح مبني على علم، فلا غرو أن يعنى الكتاب الكريم والسنة المطهرة بتثبيت العقيدة الصحيحة في النفوس بالدلائل والبراهين العقلية والنقلية، ومن ذلك:(77/239)
أولا: تعريفه سبحانه نفسه لعباده بأسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله، وأنه واحد لا شريك له، وما يتبع ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: ما استشهد به على ذلك من آيات قدرته وآثار حكمته فيما خلق وذرأ في العالم الأعلى والأسفل من أنواع بريته وأصناف خليقته، محتجا به على من ألحد في أسمائه وتوحيده وعطله عن صفات كماله وعن أفعاله، وكذلك البراهين العقلية التي أقامها على ذلك والأمثال المضروبة والأقيسة العقلية.
ثالثا: بيانه سبحانه وتعالى لعباده في كتابه بدء الخلق وإنشاءه ومادته، وابتداعه له، وسبق بعضه على بعض، وعدد أيام التخليق، وخلق آدم، وإسجاد الملائكة، وشأن إبليس وتمرده وعصيانه وما يتبع ذلك.
رابعا: ذكره لحقائق المعاد والنشأة الأخرى، وكيفيته وصورته، وإحالة الخلق فيه من حال إلى حال، وإعادتهم خلقا جديدا.
خامسا: ذكر أحوالهم في معادهم وانقسامهم إلى شقي وسعيد، ومسرور بمنقلبه ومثبور به، وما يتبع ذلك.
سادسا: ذكر القرون الماضية والأمم الخالية وما جرى عليهم، وذكر أحوالهم مع أنبيائهم، وما نزل بأهل العناد والتكذيب منهم من المثلات، وما حل بهم من العقوبات، ليكون ما جرت عليه(77/240)
أحوال الماضين عبرة للمعاندين، فيحذروا سلوك سبيلهم في التكذيب والعصيان.
سابعا: الأمثال التي ضربها لهم والمواعظ التي وعظهم بها ينبههم بها على قدر الدنيا وقصر مدتها وآفاقها؛ ليزهدوا فيها، ويتركوا الإخلاد إليها، ويرغبوا فيما أعد لهم في الآخرة من نعيمها المقيم وخيرها الدائم (1) .
" فأقام الرب سبحانه وتعالى حجة التوحيد، وبين إفك أهل الشرك والإلحاد بأعذب ألفاظ وأحسنها، لم يستكرهها غموض، ولم يشنها تطويل ولم يعبها تقصير ولم تزر بها زيادة ولا نقص، بل بلغت في الحسن والفصاحة والبيان والإيجاز ما لا يتوهم متوهم ولا يظن ظان أن يكون أبلغ في معناها منها، وتحتها من المعنى الجليل القدر، البالغ في النفع ما هو أجل من الألفاظ " (2) .
__________
(1) ابن القيم، الصواعق المرسلة 2 \ 684، 685.
(2) ابن القيم، الصواعق المرسلة 2 \ 467.(77/241)
المبحث الثاني: دفع الشبهات.
الشبهات تطلق في الكتاب والسنة ويراد بها أحد المعاني التالية:
الأول: ما يشتبه فيه الحق بالباطل والحلال بالحرام على وجه لا يكون فيه دليل على أحد الجانبين أو تتعارض الأمارتان عنده فلا تترجح في ظنه إحداهما فيشتبه عليه هذا بهذا، وهذا هو المراد في(77/241)
حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات اتقى الحرام، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام (1) » ، فالشبهات برزخ بين الحلال والحرام.
ومن أمثلته التمرة التي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلها وقال: «أخشى أن تكون من الصدقة (2) » فذلك من باب اتقاء الشبهات (3) .
الثاني: كل ما يثير الريب والشك في الأمر الثابت المستقر في نفس المسلم ومن أمثلته:
1 - أن يكون المسلم على يقين من أن دينه ثابت مستقر متحدد المبادئ يختلف جذريا عن العلمانية ويحاربها، فيأتي من يشككه في ذلك ويقول إن الإسلام دين علماني وإنه غير محدد الملامح والقسمات، وإنه قابل للتغير والتشكل وفق الظروف والأحوال الجغرافية والتاريخية، وإنه في الواقع يترك مساحات واسعة من الشؤون الحياتية مفتوحة لكل اجتهاد ورأي أيا كان، وأنه يحقق (المصلحة) وهي بدورها فكرة مبهمة، وإن تحددت أبعادها في الفكر العلماني بشكل مادي واضح،
__________
(1) متفق عليه، رواه البخاري في كتاب البيوع 1910، ورواه مسلم في كتاب المساقاة 2996.
(2) صحيح البخاري في اللقطة (2433) ، صحيح مسلم الزكاة (1070) .
(3) ابن القيم، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1 \ 163.(77/242)
يقصرها على النواحي الاقتصادية أو القيمية المشابهة لقيم الغرب وهكذا فإن المقولة التي تبدو قي ظاهرها وكأنها تتوافق مع الأصل الإسلامي الذي يربط بين الدين والدنيا، فإنها في الواقع ترمي لتأسيس فصل الدين عن الحياة من خلال تمييع الإسلام نفسه، وتقليص مساحته، ورده إلى مجرد كيان هلامي شفاف أقرب إلى العدم، يتشكل مع كل ظرف وحال حتى لا يكاد يكون له وجود مستقل أو مميز أو هوية.
2 - ويكون اعتقاد المسلم ثابتا بوجوب الحكم بما أنزل الله والتحاكم إليه فيسمع أو يقرأ لبعض المضلين في بعض تلك القنوات الفضائية أو الصحف والمجلات المضللة ما يشككه في هذا الاعتقاد ويضعف يقينه بوجوب تطبيق شرع الله واتخاذه منهجا للحياة.
والثالث: كل ما يثير الشك والارتياب في صدق الداعي إلى الحق من الرسل وأتباعهم، أو في بعض ما جاءوا به من الحق، مما يمنع من الاستجابة للحق، ويؤدي للانحراف عنه وغالبا ما ترتبط الشبهة بعادة موروثة أو مصلحة متوهمة أو رياسة دنيوية أو حمية جاهلية فتؤثر الشبهة بسبب هذه الأمور في النفوس الضعيفة المتصلة بهذه الأشياء، وتتعلق بها، وتحسبها حجة وبرهانا تدفع بها الحق وتخاصم بها الدعاة إليه.
ولئن اختلفت الرؤى في هذا الوقت حول مدى أهمية العناية بالشبهات التي يثيرها المخالفون في هذا العصر حول بعض حقائق(77/243)
الدين ومبادئه عقيدة وشريعة، وما يراه بعض المعاصرين من عدم التوجه لذلك والاكتفاء بعرض حقائق الدين وبيان محاسنه، والهجوم على ما عند المخالفين من أوجه النقص والقصور فيما يدعون إليه، فإنه مما لا مراء فيه أنه لا ينبغي طرح الشبهات ابتداء، ولكن لا ينبغي تجاهلها إذا كان الناس يسمعونها وتتلقاها أفئدتهم.
وفي القرآن الكريم الهدى والبيان في ذلك، فهو لم يأت لتقرير الشبهات، وإنما جاء لبيان الدين الحق، وحين جادل المبطلون بالباطل وأعلنوا الشبهات دحض شبهاتهم وكشف زيفها وبين بطلانها.
فالقارئ لكتاب الله سبحانه وتعالى يجده حافلا بالرد والنقض للشبهات التي أثارها المشركون أو اليهود أو المنافقون في مجال العقيدة، وفي ذلك دلالة على أهمية هذا الأمر باعتباره وسيلة ضرورية لتثبيت المؤمنين ودحض مزاعم الكافرين، وهو أسلوب قرآني لا ينبغي تركه في أي عصر بل الحاجة له قائمة ما دام الصراع بين الحق والباطل قائما، والأمثلة على ذلك من الكتاب الكريم أكثر من أن تحصر، ومنها على سبيل المثال:
دحض الحق تبارك وتعالى شبه المشركين حول البعث بعد الموت وذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} (1)
__________
(1) سورة الحج الآية 5(77/244)
يقول سبحانه: إن كنتم في ريب من البعث فلستم ترتابون في أنكم مخلوقون، ولستم ترتابون في مبدأ خلقكم من حال إلى حال إلى حين الموت والبعث الذي وعدتم به نظير النشأة الأولى، فهما نظيران في الإمكان والوقوع فإعادتكم بعد الموت خلقا جديدا كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها، فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها؟
وقد أعاد الله سبحانه هذا المعنى وأبداه في كتابه بأوجز العبارات وأدلها وأفصحها وأقطعها للعذر وألزمها للحجة كقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} (1) {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} (2) {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (3) {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} (4) {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} (5) ، فدلهم بالنشأة الأولى على الثانية وأنهم لو تذكروا لعلموا أن لا فرق بينهما في تعلق بكل واحدة منهما وقد جمع سبحانه بين النشأتين في قوله: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (6) {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} (7) {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} (8) .
__________
(1) سورة الواقعة الآية 58
(2) سورة الواقعة الآية 59
(3) سورة الواقعة الآية 60
(4) سورة الواقعة الآية 61
(5) سورة الواقعة الآية 62
(6) سورة النجم الآية 45
(7) سورة النجم الآية 46
(8) سورة النجم الآية 47(77/245)
ومن ذلك أيضا كشفه سبحانه لشبهات المشركين حول القرآن الكريم وزعمهم أنه من عند محمد صلى الله عليه وسلم، فقد دحض الحق تبارك وتعالى ذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (1) .
فبين بطلان دعواهم أن القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم بكونه لم يكن يقرأ قبل ذلك أو يكتب، ورد دعواهم بتعليم بشر آخر للنبي وأن المعلم له رجل أعجمي بمكة بقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (2) .
كما رد دعواهم بكون هذا القرآن مفترى من قبل محمد صلى الله عليه وسلم وذلك بأن تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله أو بسورة من مثله فقال سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (3) ، وقال جل وعلا: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (4) .
كما كشف سبحانه كذبهم وضلالهم فيما يثيرونه من شبهات
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 48
(2) سورة النحل الآية 103
(3) سورة هود الآية 13
(4) سورة يونس الآية 38(77/246)
أخرى تتعلق بالعقيدة أو بالشريعة، ومن ذلك دعواهم برضى الرب بشركهم فيما حكاه سبحانه عنهم بقوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} (1) .
قال ابن كثير رحمه الله: هذه مناظرة ذكرها الله تعالى وشبهة تشبث بها المشركون في شركهم، تحريم ما حرموا، فإن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك والتحريم لما حرموه، وهو قادر على تغييره بأن يلهمنا الإيمان ويحول بيننا وبين الكفر، فلم يغيره فدل على أنه بمشيئته وإرادته ورضاه منا بذلك، ولهذا قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (2) ، كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} (3) ، الآية، وكذلك الآية التي في النحل مثل هذه سواء قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (4) ، أي بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء، وهي حجة داحضة باطلة؛ لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم وأدال عليهم رسله الكرام، وأذاق المشركين من أليم الانتقام (5) .
كما كشف سبحانه كثيرا من شبه أهل الكتاب التي أثاروها
__________
(1) سورة الأنعام الآية 148
(2) سورة الأنعام الآية 148
(3) سورة الزخرف الآية 20
(4) سورة الأنعام الآية 148
(5) تفسير ابن كثير 2 \ 187 دار الفكر بيروت.(77/247)
عند المسلمين، ومنها دعواهم بحصر الهدى في الملتين اليهودية والنصرانية، فذكرهم بملة أبي الأنبياء السابق لهاتين الملتين، وأن الهدى في تلك الملة وأنها أولى بالاتباع، فقال جل وعلا: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 135(77/248)
المبحث الثالث: بيان فساد العقائد الباطلة وأسباب ذلك.
بين الحق تبارك وتعالى أن الدين الحق هو دين الإسلام، وحكم على سائر الأديان والمعتقدات بالبطلان وعدم القبول، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) ، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) ، كما كذب الله أهل تلك المعتقدات في دعوى الإيمان وبين كفرهم وأسبابه، ومن ذلك حكمه سبحانه على اليهود والنصارى بالكفر لأسباب منها: زعم اليهود أن عزيزا ابن الله، واتخاذهم العجل إلها من دون الله، وقول النصارى بألوهية عيسى عليه السلام أو بنوته لله، وقولهم: إن الله ثالث ثلاثة.
كما حكم جل وعلا على عقائد المشركين بمختلف أصنافهم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة آل عمران الآية 85(77/248)
بالبطلان والفساد، لتسويتهم غير الله به سبحانه وتكذيبهم للرسل، وإنكارهم للبعث، وغير ذلك من أسباب الكفر والضلال.
ولا ريب أن هذا البيان لفساد تلك العقائد فيه تثبيت للمؤمنين، وزعزعة لمعتقدات الكافرين، حيث لم يكن الحكم على تلك العقائد بالفساد والضلال مجردا من ذكر الأسباب.
ومن الأسباب التي ذكرت في القرآن الكريم:
1 - تقليد ومضاهاة الكافرين من قبل:
حيث ورد في القرآن الكريم ما يؤكد أن دعوى اليهود ببنوة عزير لله، ودعوى النصارى أن عيسى ابن الله - تعالى الله عما يقولون -، إنما هو مضاهاة لقول بعض من سبقهم من الكافرين، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (1) .
كما بين سبحانه أن ما يطلبه الكفار من الآيات والمعجزات إنما ساروا فيه على سيرة من سبقهم من الأمم الكافرة، فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) ، ولذا نهاهم سبحانه عن هذا المسلك المضل
__________
(1) سورة التوبة الآية 30
(2) سورة البقرة الآية 118(77/249)
فقال سبحانه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (1) .
وقد بين الحق تبارك وتعالى الطبيعة الإنسانية الراغبة في تقليد السابقين فيما حدث من قوم موسى عليه السلام حينما مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (2) .
2 - اتباع خطوات الشيطان:
أوضح الكتاب الكريم والسنة المطهرة خطر الشيطان على الإنسان، وحرصه الشديد على إغوائه وإضلاله، وإقسامه بعزة الله أنه سيسعى لإغواء بني آدم بكل السبل، وأنه سيقعد لهم على صراط الله المستقيم ليضلهم ويصرفهم عنه، قال تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (3) {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (4) .
ولقد صدق ظن إبليس في غالب بني آدم، فاستطاع إغواءهم وإضلالهم عن الدين الحق، وصرفهم إلى الأديان الباطلة والمعتقدات الفاسدة، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} (5) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 77
(2) سورة الأعراف الآية 138
(3) سورة الأعراف الآية 16
(4) سورة الأعراف الآية 17
(5) سورة سبأ الآية 20(77/250)
قال القرطبي في تفسير الآية: وقيل: هذا عام، أي: صدق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله تعالى، قاله مجاهد، وقال الكلبي: إنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه، وإن أضلهم أطاعوه، فصدق ظنه فاتبعوه.
قال الحسن: ما ضربهم بسوط ولا بعصا، وإنما ظن ظنا، فإن قيل: كيف علم إبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب؟ قيل له: لما نفذ له في آدم ما نفذ غلب على ظنه أنه ينفذ له مثل ذلك في ذريته، وقد وقع له تحقيق ما ظن، وجواب آخر وهو: ما أجيب إليه في قول الله سبحانه: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} (1) ، فأعطي القوة والاستطاعة، فظن أنه يملكهم كلهم بذلك، فلما رأى أنه تاب على آدم، وأنه سيكون له نسل يتبعونه إلى الجنة، وقال الله له: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (2) ، علم أن له تبعا ولآدم تبعا، فظن أن تبعه أكثر من تبع آدم؛ لما وضع في يديه من سلطان الشهوات، ووضعت الشهوات في أجواف الآدميين، فخرج على ما ظن حيث نفخ فيهم، وزين في أعينهم تلك الشهوات، ومدهم إليها بالأماني والخدائع، فصدق عليهم الظن الذي ظنه، والله أعلم
(3) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 64
(2) سورة الحجر الآية 42
(3) الجامع لأحكام القرآن 14 \ 239 دار الشعب، القاهرة، ط 2 \ 1372 هـ.(77/251)
3 - اتباع الهوى:
من أسباب الفساد في العقائد الباطلة بناؤها على الهوى لا على الوحي والعلم، ولذلك بين الله عز وجل أن معارضة الكفار لدعوة الحق وعدم استجابتهم لها إنما هو بسبب اتباعهم لأهوائهم فيما اعتقدوه من عقائد، قال تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1) .
4 - البغي بالعلم:
ومن أسباب الفساد في العقائد الفاسدة التي بينها الله في كتابه الكريم البغي بالعلم، حيث ذكره عن أهل الكتاب بقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (2) .
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسير الآية: " ولما قرر سبحانه أنه الإله المعبود بين العبادة والدين الذي يتعين أن يعبد به ويدان له به، وهو الإسلام، الذي هو الاستسلام لله بتوحيده وطاعته التي دعت إليها رسله، وحثت عليها كتبه، وهو الذي لا يقبل من أحد دين سواه، وهو دين الرسل كلهم، وكل من تابعهم فهو على طريقهم، وإنما اختلف أهل الكتاب بعدما جاءتهم كتبهم تحثهم
__________
(1) سورة القصص الآية 50
(2) سورة آل عمران الآية 19(77/252)
على الاجتماع على دين الله بغيا بينهم، وعدوانا من أنفسهم.
5 - الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض:
وهو من أسباب الفساد في العقائد، وقد حذر الله عز وجل منه وسماه كفرا، قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (1) .
فمن الناس من آمن ببعض ما جاءت به الرسل وكفر ببعض، كمن آمن ببعض المرسلين دون بعض، كحال اليهود والنصارى حيث آمنوا بموسى أو موسى والمسيح معه دون محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا يخاطب الله في القرآن الأميين الذين لم يتبعوا رسولا، وأهل الكتاب المصدقين ببعض الرسل، كما في قوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} (2) ، وفى قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} (3) .
وكمن آمن ببعض صفات الرسالة وكفر ببعض من الصابئين والفلاسفة ونحوهم، الذين قد يقرون بأصل الرسالة، لكن يجعلون
__________
(1) سورة البقرة الآية 85
(2) سورة آل عمران الآية 20
(3) سورة البينة الآية 1(77/253)
الرسول بمنزلة الملك العادل الذي قد وضع قانونا لقومه، أو يقولون: إن الرسالة للعامة دون الخاصة، أو في الأمور العملية دون العلمية، أو في الأمور التي يشترك فيها الناس دون الخصائص التي يمتاز بها الكمل.
ولهذا تفرق هؤلاء في الدين، وصارت كل طائفة مبتدعة لدين لم يشرعه الله، ومنكرة لما مع الطائفة الأخرى من دين الله، وصار فيهم شبه الأمم قبلهم، كما قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (1) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 14(77/254)
المبحث الرابع: بيان الأمور المفسدة للاعتقاد والنهي عنها
بين الله عز وجل في كتابه الكريم وعلى لسان نبيه الأمين محمد صلى الله عليه وسلم الأمور المفسدة للاعتقاد الصحيح، والتي يحدث بوجودها الانحراف الفكري في كل مجتمع، وحذر عباده منها لما لها من آثار سيئة عليهم، ولا ريب أن التعرف على هذه الأسباب من الكتاب والسنة والتحذير منها واجتنابها من أنفع السبل لوقاية المجتمع من الانحراف الفكري بإذن الله تعالى، وهذه أهم الأسباب مرتبة في المطالب التالية:
المطلب الأول: القول على الله بغير علم:
إن القول على الله بغير علم من الكبائر التي حرمها الله عز وجل(77/254)
وجعله قرينا للشرك به سبحانه، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
والمراد بالقول على الله بغير علم: الزعم والكذب عليه سبحانه بالقول بأنه أمر بشيء لم يأمر به حقيقة، أو نهى عن شيء لم ينه عنه، قال الطبري في تفسير الآية (2) : " وأن تقولوا إن الله أمركم بالتعري والتجرد للطواف بالبيت، وحرم عليكم كل هذه الأنعام التي حرمتموها وسيبتموها وجعلتموها وصائل وحوامي، وغير ذلك مما لا تعلمون أن الله حرمه أو أمر به أو أباحه، فتضيفوا إلى الله تحريمه وحظره والأمر به، فإن ذلك هو الذي حرمه الله عليكم ".
قال ابن القيم: " وقد حرم الله - سبحانه - القول عليه بغير علم، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، كما في هذه الآية، حيث رتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم محرما منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع مما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته، وفي دينه وشرعه.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) جامع البيان 5 \ 476.(77/255)
وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (1) {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) .
فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرام، ولما لم يحله: هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه (3) .
لقد نهى الله عز وجل في كتابه الكريم وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن القول على الله بغير علم، وبين سبحانه أن افتراء الكذب عليه من وسائل إفساد المعتقدات وإضلال الناس، فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (4) ، أي: مع كذبه وافترائه على الله، قصده بذلك إضلال عباد الله عن سبيل الله بغير بينة منه ولا برهان: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (5) الذين لا إرادة لهم في غير الظلم والجور والافتراء على الله (6) .
وبين سبحانه صورا عدة من ضلال المشركين بسبب قولهم عليه بغير علم، منها ادعاؤهم تحريم الله بعض اللحوم والأنعام، فقال:
__________
(1) سورة النحل الآية 116
(2) سورة النحل الآية 117
(3) ابن القيم، إعلام الموقعين 1 \ 38.
(4) سورة الأنعام الآية 144
(5) سورة الأنعام الآية 144
(6) ابن سعدي، تيسير الكريم الرحمن، تفسير الآية 144 الأنعام.(77/256)
{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) ، قال الطبري رحمه الله: قل يا محمد لهؤلاء الذين حرموا ما حرموا من الحرث والأنعام من عبدة الأوثان الذين زعموا أن الله حرم عليهم ذلك الذكرين حرم ربكم أيها الكذبة على الله (2) .
وقد بين الله عز وجل أن كثيرا من اعتقادات المشركين المنحرفة وضلالاتهم الفاسدة منشؤها القول على الله بغير علم، وافتراء الكذب عليه سبحانه كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (3) .
وفي قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (4) ، وكما قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (5) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 143
(2) جامع البيان 5\375.
(3) سورة الزخرف الآية 20
(4) سورة الأنعام الآية 140
(5) سورة الأنعام الآية 144(77/257)
ومن صور القول على الله بغير علم التي هي من أسباب الانحراف في الاعتقاد ما أشار إليه ابن القيم بقوله: ويلي ذلك في كبر المفسدة القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله ووصفه بضد ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، فهذا أشد شيء منافاة ومناقضة لكمال من له الخلق والأمر (1) .
وكثير من صور الانحراف الفكري الواقع في هذا الوقت ممن يلوون أعناق النصوص، أو يتأولونها على غير وجهها إنما هو قول على الله بغير علم.
وبهذا يتبين أن القول على الله بغير علم من أسباب الانحراف الفكري التي بينها الله في كتابه وحذر منها، وبه تتضح أهمية اجتناب هذا السبب الخطير والتحذير منه.
__________
(1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي 100.(77/258)
المطلب الثاني: الغلو
الغلو مجاوزة الحد، بأن يزاد في الشيء، في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك.
وعرفه الحافظ ابن حجر رحمه الله بأنه " المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد " (1) .
ومن المعلوم أن الغلو المقصود في الشرع له صور متعددة
__________
(1) فتح الباري 13\278.(77/258)
منها: الغلو في الأشخاص بتجاوز الحد في حقهم ورفعهم إلى ما لا يستحقونه من الأوصاف وكذلك الغلو في الأحكام والغلو في الأفعال التي هي مشروعة في الأصل.
ومن صور الغلو ترك المباح أو المشروع تعبدا.
- غير أن الحكم على عمل ما بأنه غلو يجب التثبت فيه، وينظر إلى العمل بدقة لئلا يحكم عليه بأنه غلو مع أنه سليم، ولكن الوسيلة إليه قد تكون من باب الغلو فيقع الخلط من هذا الباب.
- ومن صور الغلو الأخرى:
أ- تفسير النصوص تفسيرا متشددا.
ب- تكلف التعمق في معاني التنزيل.
- أن يكون الغلو متعلقا بالأحكام وذلك بأحد أمور:
أ- إلزام النفس أو الآخرين ما لم يوجبه الله عز وجل تعبدا وترهبا.
ب- تحريم الطيبات التي أباحها الله عز وجل على وجه التعبد.
ج- ترك الضروريات أو بعضها.
- أن يكون الغلو متعلقا بالموقف من الآخرين وذلك بأحد أمرين:
أ- أن يقف الإنسان من البعض موقف المادح الغالي الذي يوصل بشرا ما سواء كان فردا أم جماعة إلى درجة لا يستحقها كادعاء(77/259)
صفات الألوهية لبعض الصالحين والأولياء الذين ماتوا من القدرة على شفاء المرض أو ادعاء العصمة لشخص وجعله مصدر الحق.
ب- أن يقف الإنسان من بعض الناس أفرادا أو جماعات موقف الذام الغالي فيصم المسلم بالكفر والمروق من الدين أو يصم المجتمع المسلم بأنه مجتمع جاهلي (1) .
خطر الغلو:
للغلو مخاطر عدة منها:
1 - الخروج عن جادة الحق مع ظن الإنسان الغالي بأنه على الحق كما هو الشأن في أولئك الذين يدعون البشر مع الله أو من دون الله ويطلبون منهم ما لا يجوز طلبه إلا من الله كمغفرة الذنوب، ورزق الأولاد، ونحو ذلك.
وكما هو شأن الذين يتخذون الشفعاء الذين لم يأذن بهم الله، وكما هو شأن الذين يكفرون المسلمين بالكبائر ويغلون في العبادة، ويخرجون على جماعة المسلمين.
وهم الخوارج الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية (2) » .
__________
(1) د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، ص 83.
(2) متفق عليه رواه البخاري في كتاب تفسير القرآن باب والمؤلفة قلوبهم، رقم الحديث 4299 ورواه مسلم في كتاب الزكاة، رقم الحديث 1762.(77/260)
2 - تفريق كلمة المسلمين وإضعاف شوكتهم على عدوهم، فالغلو الذي يترتب عليه قتال لمسلمين وتكفيرهم من أعظم أسباب الفرقة والشتات والنزاع، مما تضعف معه شوكة الأمة.
3 - إيجاد رد فعل سيئ في واقع الأمة، فإن الغلو قد يحدث بعد التفريط كرد فعل عليه، ومعلوم أن الإرجاء نشأ في الأمة كرد فعل على غلو الخوارج.
4 - قد يترتب عليه استحقاق العذاب والوعيد الوارد على الغلاة بالنسبة للفرد الغالي.
وقد نهى الله عز وجل أهل الكتاب عن الغلو وتقليد الأمم السابقة فيه لما له من أثر عظيم في الضلال عن الحق والانحراف عن الصراط المستقيم، فقال سبحانه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (1) .
قال ابن كثير رحمه الله (2) : ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثر قي النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 77
(2) تفسير القرآن العظيم 1\590، دار الفكر بيروت 1401 هـ.(77/261)
كما نهى عنه النبي بقوله: «أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (1) » ، وهذا النهي عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال (2) .
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغلو فيه خاصة ورفعه فوق منزلته عليه الصلاة والسلام كما فعلت النصارى بعيسى عليه السلام فقد روى البخاري أن رسول الله قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (3) » .
قوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم (4) » الإطراء: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه قاله أبو السعادات، وقال غيره: لا تطروني بضم التاء وسكون الطاء المهملة من الإطراء: أي لا تمدحوني بالباطل أو لا تجاوزوا الحد في مدحي.
قوله: «إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (5) » أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه الربوبية، وإنما أنا عبد لله فصفوني بذلك كما وصفني به ربي وقولوا عبد الله ورسوله.
__________
(1) رواه مسلم 2\944، والنسائي 5\268، وأبو داود 2\435.
(2) ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم 2\106.
(3) البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الأنبياء، باب واذكر في الكتاب مريم، 4\142.
(4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد (1/23) .
(5) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) .(77/262)
وإنما أكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النهي في أكثر من موضع ومقام لما علمه في هذا الإطراء من وسيلة وطريق للغلو، ولعنايته عليه الصلاة والسلام بحماية جناب التوحيد، وسد أبواب الشرك، ومع ذلك فقد سلكت طوائف من الأمة سبيل الغلو حيث أبى عباد القبور إلا مخالفة لأمره وارتكابا لنهيه وناقضوه أعظم المناقضة، وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبد الله ورسوله، وأنه لا يدعى، ولا يستغاث به، ولا ينذر له، ولا يطاف بحجرته، وأنه ليس له من الأمر شيء، ولا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، أن في ذلك هضما لجنابه وغضا من قدره، فرفعوه فوق منزلته وادعوا فيه ما ادعت النصارى في عيسى أو قريبا منه، فسألوه مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب، والعجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته عليه السلام وتعظيمه ومتابعته (1) .
وهذا الحال الذي صار إليه بعض المنتسبين للإسلام، يظهر حكمة عناية القرآن والسنة بالنهي عن الغلو لكونه من أعظم أسباب الانحراف عن الاعتقاد الصحيح.
الفرع الثاني: التفريط
والتفريط: هو الترخص الذي يجفو بصاحبه عن كمال الامتثال.
__________
(1) تيسير العزيز الحميد بشرح كتاب التوحيد، ص 272، وما بعدها.(77/263)
وهو سبب من أسباب فساد الاعتقاد، ويظهر ذلك في باب الإرجاء ومنه ظن المسلم " بأن الإيمان هو نفس التصديق فلا تقدح فيه الأعمال، وربما أجرى على لسانه وأذنه كلمة طالما أهلك بها الخلق وهي قوله: (لا يضر مع التوحيد ذنب كما لا ينفع مع الشرك حسنة) قال وكيع مبينا أثر بدعة الإرجاء: أحدث هؤلاء المرجئة والجهمية، والجهمية كفار، والمريسي جهمي وعلمهم كيف كفروا قال: يكفيك المعرفة وهذا كفر، والمرجئة يقولون الإيمان قول بلا عمل وهذا بدعة.
وقال الحميدي: سمعت وكيعا يقول: وأهل السنة يقولون الإيمان قول وعمل، والمرجئة يقولون الإيمان قول والجهمية يقولون الإيمان المعرفة، وصح عن الحسن أنه قال: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل " (1) .
__________
(1) الصواعق المرسلة 4\1402.(77/264)
المطلب الثالث: الابتداع
تعددت ألفاظ أهل العلم في تعريف البدعة مع اتحاد المعنى أو تقاربه، ومن أجمع تعاريفها قول الإمام الشاطبي: " طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى " (1)
__________
(1) الاعتصام 1\37.(77/264)
وأوجز منه تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية للبدعة بقوله: البدعة هي الدين الذي لم يأمر الله به ولا رسوله فمن دان دينا لم يأمر الله به ورسوله فهو مبتدع " (1) .
وقد ذم الله عز وجل في كتابه الابتداع في الدين وسماه تشريعا لم يأذن به الله فقال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) .
وقد أوضحت السنة النبوية خطر الابتداع في الدين بوصفه شر الأمور، وأنه يعني الضلال والهلاك، بقول النبي في الحديث الذي رواه مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته (3) » . . . الحديث وفيه يقول: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (4) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الحلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة (5) » .
__________
(1) الاستقامة 1\5.
(2) سورة الشورى الآية 21
(3) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) .
(4) رواه مسلم في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة حديث رقم 1435.
(5) رواه أبو داود 4607، واللفظ له، والترمذي 1676، وقال حسن صحيح.(77/265)
ولقد صدق واقع الأمة قول النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يحدث فيها الضلال والانحراف الفكري إلا بسبب البدع في الدين، وكلما ازداد الناس من البدع في الدين ازدادوا ضلالا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ولم يفسد على الأمة دينها شيء مثلما أفسدته البدع، ولم تتسع دائرة الانحراف عن الدين الحق إلا بسبب البدع " ولهذا قال أئمة الإسلام كسفيان الثوري وغيره: إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها، ومعنى قولهم إن البدعة لا يتاب منها: أن المبتدع الذي يتخذ دينا لم يشرعه الله ولا رسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسنا فهو لا يتوب ما دام يراه حسنا، لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه أو بأنه ترك حسنا مأمورا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسنا وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب.
ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين ".
ومما يؤكد خطر البدعة أن تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع المبتدعة كان مختلفا عن موقفه من العصاة، ويوضح ذلك ما رواه البخاري في صحيحة (عن عمر بن الخطاب «أن رجلا كان يدعى(77/266)
حمارا وكان يشرب الخمر وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم وكان كلما أتي به النبي صلى الله عليه وسلم جلده الحد فلعنه رجل مرة وقال: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله (1) » (2) .
فهذا رجل كثير الشرب للخمر ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ونهى عن لعنه.
وأما المبتدع فمثل ما أخرجه البخاري (3) ، وغيره عن علي بن أبي طالب وعن أبي سعيد الخدري وغيرهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية محلوق الرأس بين عينيه أثر السجود وقال ما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون في الدين كما يمرق السهم من الرمية، وأظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود (4) » وفى رواية «لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل (5) » ، وفى رواية «شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه (6) » .
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6780) .
(2) رواه البخاري في كتاب الحدود باب ما يكره من لعن شارب الخمر.
(3) الجامع الصحيح، كتاب المغازي باب بعث علي بن أبي طالب رقم الحديث 4004.
(4) صحيح البخاري المغازي (4351) ، صحيح مسلم الزكاة (1064) ، سنن النسائي تحريم الدم (4101) ، سنن أبي داود السنة (4764) ، مسند أحمد (3/73) .
(5) صحيح البخاري المناقب (3611) ، صحيح مسلم الزكاة (1066) ، سنن النسائي تحريم الدم (4102) ، سنن أبي داود السنة (4768) ، سنن ابن ماجه المقدمة (167) ، مسند أحمد (1/160) .
(6) سنن الترمذي تفسير القرآن (3000) ، سنن ابن ماجه المقدمة (176) ، مسند أحمد (5/256) .(77/267)
فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم وما هم عليه من العبادة والزهادة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
__________
(1) ابن تيمية، الفتاوى 11\473.(77/268)
المطلب الرابع: الخوض في آيات الله
المراد بالخوض في آيات الله: " التكلم بما يخالف الحق، من تحسين المقالات الباطلة، والدعوة إليها ومدح أهلها، والإعراض عن الحق، والقدح فيه وفي أهله " (1) .
وقد نهى الله عز وجل عن الجلوس مع الخائضين في آيات الله فمن باب أولى أن يكون النهي للمؤمنين عن هذا المسلك المفسد للدين، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (2) .
فأمر الله رسوله أصلا، وأمته تبعا، إذا رأوا من يخوض في آيات الله بشيء مما ذكر، بالإعراض عنهم، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل والاستمرار على ذلك، حتى يكون البحث والخوض
__________
(1) ابن سعدي، تيسر الكريم الرحمن في تفسر كلام المنان 290، ط دار السلام 1422.
(2) سورة الأنعام الآية 68(77/268)
في كلام غيره. فإذا كان في كلام غيره، زال النهى المذكور.
فإن كان مصلحة، كان مأمورا به، وإن كان غير ذلك، كان غير مفيد ولا مأمور به.
وفي ذم الخوض بالباطل، حث على البحث، والنظر، والمناظرة بالحق.
ثم قال: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} (1) أي: بأن جلست معهم، على وجه النسيان والغفلة. {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (2) ، يشمل الخائضين بالباطل، وكل متكلم بمحرم، أو فاعل لمحرم، فإنه يحرم الجلوس والحضور، عند حضور المنكر، الذي لا يقدر على إزالته.
وهذا النهي والتحريم لمن جلس معهم ولم يستعمل تقوى الله، بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم وعن الإنكار، فإن استعمل تقوى الله تعالى، بأن كان يأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زواله وتخفيفه فهذا ليس عليه حرج ولا إثم، ولهذا قال: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (3) ، أي: ولكن ليذكرهم، ويعظهم، لعلهم يتقون الله تعالى (4) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 68
(2) سورة الأنعام الآية 68
(3) سورة الأنعام الآية 69
(4) ابن سعدي، المصدر السابق 290.(77/269)
فلا يحل لمسلم يسمع في حق الله ما لا يليق بكماله وعظمته وجلاله، أو يسمع من يلحد في آياته ويخوض في معاني كتابه العزيز بباطل تأويلاته، ويحرفه عن مواضعه أو يخرجه في الأحكام عن مواقعه، كتحليل حرامه أو تحريم حلاله، أو تغيير كلامه، أو مناقضة شيء من أحكامه، أو يسمع من يتنقص رسله الكرام، أو يرد قولا من أقوال نبيه عليه الصلاة والسلام أو يغض من قدره بصريح لفظ معلوم، أو بتلويح مشعر بذلك لأرباب الفهوم ثم يسكت إن أمكنه الكلام، بل من واجبه الرد والإنكار أو الإعراض والبعد، وكان هذا هو منهج أئمة السلف وتابعيهم بإحسان، فقد كانوا قدوة في هجر مجالس الخوض في آيات الله والنهي عن الجلوس فيها لما يعلمون من أثرها السيئ على الاعتقاد.
وبهذا يتضح نهي الكتاب والسنة عن الخوض في آيات الله وبيان خطره.(77/270)
المطلب الخامس: اتباع المتشابه
ومن الأمور المفسدة للاعتقاد التي حذر الله عز وجل منها في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم اتباع المتشابه وترك المحكم، إذ بين سبحانه أن المنحرفين الذين في قلوبهم زيغ هم الذين يتبعون المتشابه وأنهم بهذا المسلك يبتغون الفتنة، فقال تعالى:(77/270)
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) .
وقد اختلفت عبارات أهل العلم في المراد بالمتشابه الذي ذم الله اتباعه، إلا أن الطبري رجح أن الصواب " قول من قال: معناه إرادة الشبهات واللبس، فمعنى الكلام إذا: فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق وحيف عنه، فيتبعون من آي الكتاب ما تشابهت ألفاظه، واحتمل صرفه في وجوه التأويلات، باحتماله المعاني المختلفة إرادة اللبس على نفسه وعلى غيره، احتجاجا به على باطله الذي مال إليه قلبه دون الحق الذي أبانه الله فأوضحه بالمحكمات من آي كتابه " (2) ، وهذه الآية معني بها كل مبتدع في دين الله بدعه، فمال قلبه إليها، تأويلا منه لبعض متشابه آي القرآن، ثم حاج به وجادل به أهل الحق، وعدل عن الواضح من أدلة آية المحكمات إرادة منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين، وطلبا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك كائنا من كان، وأي أصناف البدعة كان من أهل النصرانية كان أو اليهودية أو المجوسية، أو كان سبئيا، أو حروريا، أو قدريا، أو جهميا (3) ،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) جامع البيان 3\181.
(3) المصدر نفسه (3\181) .(77/271)
كالذي قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم (1) » .
وأورد رحمه الله أقوالا أخرى في المراد بالمتشابه، أذكر منها قولا واحدا يتضح به المقصود:
وقال آخرون: المحكمات من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد، والمتشابه منها: ما احتمل من التأويل أوجها. ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ثنى محمد بن جعفر بن الزبير: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} (2) ، فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه. وأخر متشابهة في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق (3) .
وقد أوضح علماء السلف عموم مجال اتباع المتشابه وأنه لا يقتصر على آيات الصفات كما قد يتوهمه من لا يعلم حقيقته،
__________
(1) رواه البخاري، الجامع الصحيح كتاب التفسير، باب منه آيات محكمات 5\166.
(2) سورة آل عمران الآية 7
(3) جامع البيان 3\174.(77/272)
فقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " قد ثبت أن اتباع المتشابه ليس في خصوص الصفات بل في صحيح البخاري: فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم وهذا عام، وقصة صبيغ بن عسل مع عمر بن الخطاب من أشهر القضايا، فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن، حتى رآه عمر فسأل عمر عن الذاريات ذروا، فقال ما اسمك قال عبد الله صبيغ، فقال: وأنا عبد الله عمر، وضربه الضرب الشديد، وكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول: ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ.
وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه (1) » . وكما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (2) ، فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد.
ومثله الذي يعارض بين آيات القرآن، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: «لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض (3) » فإن ذلك يوقع الشك في قلوبهم ومع ابتغاء الفتنة ابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا الله، فكان مقصدهم مذموما ومطلبهم متعذرا، مثل أغلوطات المسائل التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها (4) .
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4547) ، صحيح مسلم العلم (2665) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2994) ، سنن أبي داود السنة (4598) ، سنن ابن ماجه المقدمة (47) ، مسند أحمد (6/256) ، سنن الدارمي المقدمة (145) .
(2) سورة آل عمران الآية 7
(3) سنن ابن ماجه المقدمة (85) ، مسند أحمد (2/196) .
(4) مجموع الفتاوى 13\311.(77/273)
ولا ريب أن اتباع المتشابه كان ولا يزال سببا من أسباب الانحراف عن الحق قديما وحديثا، وهو من أسباب تجدد نماذج الانحراف عن الحق، ولذا وجب على المسلمين اجتنابه والبعد عنه، انتهاء عما نهى الله ورسوله عنه، واتقاء للفتنة، وبعدا عن أسباب الانحراف.(77/274)
المطلب السادس: الاطلاع على كتب أهل الضلال ثقة بما فيها أو ثقة بأهلها:
من أسباب الانحراف عن الحق والوقوع في الباطل الولع بكتب أهل الضلال، ولذا أنكر الحق تبارك وتعالى على من لم يكتف بالقرآن الكريم مصدرا للهداية، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) .
وإنه لمن الكفر بنعمة الله والغفلة عن فضله والإعراض عن شكره، أن يبحث أحد عن الحق والهداية الدينية والرحمة والذكرى في غير هذا القرآن العظيم، والكتاب الكريم، إذ فيه الهدى والفرقان بين الحق والباطل، فهذا النهي الذي جاء في صيغة تعجب واستنكار يدل على نهي الرب جل وعلا عن البحث عن الهداية الدينية في غير هذا الكتاب العظيم.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 51(77/274)
كما جاعت السنة النبوية بالنهي الشديد عن الاطلاع على كتب أهل الكتاب حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النظر في التوراة، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، «أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فغضب فقال: أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به والذي نفسي بيده لو أن موسى عليه السلام كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني (1) » ، فقد غضب النبي من فعل عمر، وجعله تهوكا، والتهوك التحير والتهور والوقوع في الشيء بغير مبالاة (2) ، ويمكن القول من جهة أخرى إن ضعف إسناد هذا الحديث يضعف النتيجة المستفادة منه، وإن قوة وسلامة المعتقد لدى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليس مردها إلى منع الاطلاع على كتب الأديان الأخرى وغيرها من مصادر الفكر والثقافة، بقدر ما هو الحصانة الذاتية للصحابة رضي الله عنهم الناتجة عن قوة تربيتهم على العقيدة الصحيحة وتمسكهم الثابت بها، بدليل وجود فئات أخرى في المجتمع المدني منحرفة الاعتقاد فاسدة التدين هي فئة المنافقين، أظهرت الإسلام نفاقا وخوفا، وتقربت من
__________
(1) مسند الإمام أحمد بتحقيق شعيب الأرناؤوط وآخرين 23\349، وإسناده ضعيف لضعف مجالد بن سعيد راويه عن الشعبي.
(2) القاموس المحيط، مادة (هوك) .(77/275)
الكفار وسمعت منهم الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى عن المنافقين وولائهم للكفار: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} (1) ، كما أن شبهات أهل الكتاب والمشركين كانت تتردد في مجتمع المدينة ولذا جاء الرد عليها في القرآن الكريم.
ومثل الاطلاع على كتب الضلال ثقة بما فيها في الحكم، سؤال أهل الضلال عن الحق والتماسه منهم، وهو أمر متفاوت الدرجات.
فقد كان يحصل من بعض المسلمين في الصدر الأول سؤال أهل الكتاب عن بعض الأخبار عن الرسالات والأمم السابقة، أو عن بعض أحوال الآخرة ونحو ذلك، فأنكر عليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه قائلا: يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله، تقرؤونه لم يشب وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب فقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم لا والله ما رأينا منهم رجلا قط سألكم عن الذي أنزل عليكم (2)
__________
(1) سورة المائدة الآية 52
(2) رواه البخاري كتاب الشهادات باب لا يسأل المشرك عن الشهادة وغيرها 2685.(77/276)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية منكرا على أحد المتصوفة الذي سوغ بعض البدع بدعوى الاقتداء بأهل الكتاب من عباد بني إسرائيل: " فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا خالف شرعنا، وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا، ونتبع الشرعة والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا، كما قال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (1) فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بنى إسرائيل في حكاية لا تعلم صحتها؟ (2) وتلقي المعلومات الدينية عن أديانهم عنهم ينبغي أن يكون مشوبا بالحذر، عن التصديق بما يقولون أو التكذيب حيث أرشد إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا (3) »
__________
(1) سورة المائدة الآية 48
(2) مجموع الفتاوى 11\463.
(3) رواه البخاري في كتاب التفسير باب قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) .(77/277)
المطلب السابع: الشكوك والشبه
من الأمور المفسدة للاعتقاد الشكوك والشبهات التي تعرض للإنسان وتتأصل في قلبه فتحرفه عن الحق، فقد كان هذا سببا(77/277)
واضحا في انحراف كثير من الخلق عن الحق قديما وحديثا، وإذا تأملنا ما قصه الله تعالى في كتابه الكريم من أخبار الرسل وأممهم، نجد أن من أسباب انحراف بعض الأفراد والجماعات والأمم عن الحق الذي جاءت به الرسل هو الشك الذي قذفه الشيطان بنفوسهم في صدق الرسالات، ولذلك جاء هذا الكتاب الكريم بالحجج القاطعة للشك والمزيلة للريب لمن رغب في الحق، ومن ذلك أن الله عز وجل أقام الأدلة على صدق الرسل ومنهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأن هذا الكتاب الذي جاء به إنما هو تنزيل من حكيم حميد، وتحداهم بما يزيل الشك والريب من قلوبهم فقال سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1)
إن الريب ضد الطمأنينة واليقين فهو قلق واضطراب وانزعاج كما أن اليقين والطمأنينة ثبات واستقرار ولذلك نجد المرتاب يتشكك في كل شيء أتى به الوحي، كما يتضح ذلك من القرآن الكريم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 23
(2) سورة البقرة الآية 26(77/278)
والمعنى: أن من في قلبه مرض وعمي قلبه عن المراد بذلك فيقول: ماذا أراد الله بهذا مثلا، وهذا حال القلوب عند ورود الحق المنزل عليها: قلب يفتتن به كفرا وجحودا، وقلب يزداد به إيمانا وتصديقا، وقلب يتيقنة فتقوم عليه به الحجة، وقلب يوجب له حيرة وعمى فلا يدري ما يراد به (1)
ولقد أدرك أعداء هذا الدين من اليهود خاصة أثر الشكوك والشبهات على الإيمان، فكانوا يقومون بإثارة الشبه والشكوك حول ما ينزل من الوحي ما أمكنهم ذلك، فكانوا يتخذون من نسخ بعض الأوامر والتكاليف وتغييرها وفق مقتضيات النشأة الإسلامية الجديدة ذريعة للتشكيك في مصدر هذه الأوامر والتكاليف ويقولون لله لو كانت من عند الله ما نسخت ولا صدر أمر جديد يلغي أو يعدل أمرا سابقا.
غير أن هذه المحاولة لم تؤت ما سعى إليه أولئك الأعداء، لأن الله تعالى كشف تلك المحاولة، وأبطل سعيهم، وثبت المؤمنين على دينهم.
__________
(1) ابن القيم، إغاثة اللهفان 1- 15، دار المعرفة بيروت 1395.(77/279)
المطلب الثامن: مجالسة أهل الأهواء والبدع
من أسباب فساد الاعتقاد مجالسة أهل الأهواء والبدع، وقد حرم الله على المؤمنين اتباع أهل الأهواء في أهوائهم، قال تعالى:(77/279)
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (1)
فالخائضون في آيات الله هم أهل الابتداع وأهل الأهواء اللذين تحرم مجالستهم وينبغي البعد عن القعود معهم.
وقد أدرك السلف خطر مجالسة أهل البدع والأهواء وحذروا منها، وكانوا قدوة في اجتنابها، قال ابن خويز منداد: منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع، ومجالسة الكفار وأهل البدع، وألا تعتقد مودتهم ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم. وقد قال بعض أهل البدع لأبي عمران النخعي: اسمع مني كلمة؟ فأعرض عنه وقال: ولا نصف كلمة. ومثله عن أيوب السختياني وقال الفضيل بن عياض: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها، ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة، وإذا علم الله عز وجل من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له، فبطل بهذا كله قول من زعم أن مجالستهم جائزة إذا صانوا أسماعهم (2) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 68
(2) الجامع لأحكام القرآن 7\13، دار الشعب.(77/280)
المطلب التاسع: الإنكار والتكذيب بالحق حال ثبوته من أسباب الانحراف الفكري التي(77/280)
ذم الله بها الكافرين والمنافقين وبين أنه من أسباب ضلالهم وانحرافهم، وقد ذم الله عز وجل الكفار لتكذيبهم بالرسل مع معرفتهم بصدقهم، بل ويقينهم بذلك، لكنهم كذبوهم ظلما وعلوا، وقد عد العلماء من أنواع الكفر كفر التكذيب، قال ابن القيم رحمه الله: فأما كفر التكذيب: فهو اعتقاد كذب الرسل، وهذا القسم قليل في الكفار، فإن الله تعالى أيد رسله وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة، وأزال به المعذرة، قال الله تعالى عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (1) وقال لرسوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (2) وإن سمي هذا كفر تكذيب أيضا فصحيح إذ هو تكذيب باللسان (3) ، والتكذيب من أعظم أسباب الانحراف عن العقيدة الصحيحة.
__________
(1) سورة النمل الآية 14
(2) سورة الأنعام الآية 33
(3) مدارج الساكين 1\337.(77/281)
المطلب العاشر: الاستكبار
من أسباب الانحراف عن الحق المذكورة في الكتاب الكريم والسنة المطهرة الاستكبار الذي ذم الله عز وجل أهله وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وبين عقوبة المستكبرين في الدنيا، وهى صرفهم عن الحق وعن فهم آياته الكونية والشرعية التي تقود إلى الإيمان الحق، بسبب كبريائهم وعتوهم، قال تعالى:(77/281)
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (1) أي: سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي والذين يتكبرون على الناس بغير حق، أي كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (2)
قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (3) قال قتادة: سأمنعهم فهم كتابي وقاله سفيان بن عيينة. وقيل: سأصرفهم عن الإيمان بها. وقيل: سأصرفهم عن نفعها وذلك مجازاة على تكبرهم، نظيره {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (4) والآيات على هذه المعجزات أو الكتب المنزلة. وقيل: خلق السماوات والأرض. أي أصرفهم عن الاعتبار بها. {يَتَكَبَّرُونَ} (5) يرون أنهم أفضل الخلق. وهذا ظن باطل فلهذا قال: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} (6) فلا يتبعون نبيا ولا يصغون إليه لتكبرهم (7)
ومما سبق يتبين أن الاستكبار عن الحق من أعظم أسباب الانحراف عن الدين الحق، إذ يدفع المرء لاتباع الهوى والإصرار على الباطل، عنادا وإثباتا لغرور الذات دون مبالاة بالحجج والبراهين.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 146
(2) سورة الأنعام الآية 110
(3) سورة الأعراف الآية 146
(4) سورة الصف الآية 5
(5) سورة الأعراف الآية 146
(6) سورة الأعراف الآية 146
(7) مختصر تفسير ابن كثير، أحمد شاكر 2\58.(77/282)
المبحث الخامس: العقوبات الرادعة في الدنيا والآخرة
تمهيد: عن العقوبات الإلهية في الدنيا والآخرة لأهل الضلال
من منهج القرآن الكريم والسنة المطهرة في وقاية المجتمع من الانحراف الفكري بيان العقوبات الإلهية لأهل الضلال في الدنيا والآخرة، حيث بين الله عز وجل للناس مؤمنهم وكافرهم عقوباته لمن انحرف عن الحق وآثر الضلال على الهدى، واتبع الباطل وأعرض عن الحق، حيث ذكرهم بأنواع العقوبات التي حاقت بالأمم التي تنكبت طريق الحق، وانحرفت نحو الباطل، وكانت تلك العقوبات أليمة شديدة كما وصفها سبحانه بذلك قي قوله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (1) .
إن عقوبات الله عز وجل لأهل الضلال كثيرة متنوعة في الدنيا والآخرة، ولقد قص الله علينا في كتابه الكريم ما عاقب به أهل الضلال والانحراف عن الحق من العقوبات العظيمة في الدنيا، ومن ذلك إغراقه لقوم نوح بسبب ضلالهم وتكذيبهم لنبيهم، قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} (2) ، وأرسل على عاد ريحا صرصرا عاتية بسبب ضلالهم قال تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} (3) .
__________
(1) سورة هود الآية 102
(2) سورة الفرقان الآية 37
(3) سورة الحاقة الآية 6(77/283)
وإنما ذكر الله تبارك وتعالى ذلك لخلقه ليتعظوا ويأخذوا العبرة من تلك العقوبات فيجتنبوا أسبابها، ومن أهم أسبابها الإصرار على المعتقدات الخاطئة المنحرفة، وذلك أن تلك الأمم التي أهلكها، جمعت في معتقداتها الباطلة صنوفا من الانحراف، فمن ذلك الإشراك بالله، وإنكار الرسالات الإلهية، والتكذيب بالبعث، ودعوى الربوبية في المخلوقات، كما أن بعض الأمم التي آمنت برسالات بعض الأنبياء قد وقعت في بعض صور الانحراف الفكري فعوقبت أيضا، كما حصل من بني إسرائيل حين اتخذوا العجل إلها، وطلبوا رؤية الرب تعالى في الدنيا جهرة، وطلبهم من موسى أن يجعل لهم إلها غير الله، ووصف الله عز وجل بما لا يليق كقولهم إن الله فقير، وقولهم يد الله مغلولة، فسلط الله تعالى عليهم من أزال ملكهم وشردهم من أوطانهم وسبى ذراريهم، كما هي عادته سبحانه وسنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحي وتعوضوا عنه بكلام الملاحدة والمشركين.
وحصل أيضا عند المنتسبين للإسلام بعض صور الانحراف الفكري، من جنس التعلق بكلام الفلاسفة في الإلهيات، وظهور التعلق بالقبور من دون الله في كشف الخطوب وشفاء الأمراض وغير ذلك، فعوقبوا بتسلط الأعداء وقهرهم، وفي هذا يقول ابن القيم: كما سلط النصارى على بلاد المغرب لما ظهرت فيها الفلسفة والمنطق واشتغلوا بها، فاستولت النصارى على أكثر بلادهم وأصاروهم رعية لهم،(77/284)
وكذلك في أواخر المائة الثالثة وأول الرابعة لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد سلط عليهم القرامطة الباطنية فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات، واستولوا على الحاج واستعرضوهم قتلا وأسرا، واشتدت شوكتهم، واتهم بموافقتهم في الباطن كثير من الأعيان من الوزراء والكتاب والأدباء وغيرهم، واستولى أهل دعوتهم على بلاد المغرب، واستقرت دار مملكتهم بمصر، وبنيت في أيامهم القاهرة، واستولوا على الشام والحجاز واليمن والمغرب وخطب لهم على منبر بغداد (1) .
والخلاصة أن العقوبات الإلهية لأهل الضلال منها عقوبات كونية كما تبين ومنها عقوبات شرعية دنيوية وعقوبات أخروية، ومن هذه العقوبات ما سيتم بيانه في المطالب التالية:
العقوبات الدنيوية:
__________
(1) ابن القيم، إغاثة اللهفان 2\269.(77/285)
لمطلب الأول: عقوبة الردة
من أعظم مظاهر الانحراف الفكري الردة عن دين الإسلام أعاذنا الله من ذلك، ولذلك حذر الله سبحانه وتعالى منها وبين عظيم عقوباته للمرتدين والتي منها:
حبوط العمل في الدنيا والآخرة، والخلود في النار - أعاذنا الله منها - قال تعالى:(77/285)
{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) .
وقد تنازع العلماء في التائب من الكفر إذا ارتد بعد إسلامه ثم تاب بعد الردة وأسلم هل يعود عمله الأول على قولين مبناهما أن الردة هل تحبط العمل مطلقا أو تحبطه بشرط الموت عليها فمذهب أبي حنيفة ومالك أنها تحبطه مطلقا ومذهب الشافعي أنها تحبطه بشرط الموت عليها (2) .
ومنها اسوداد الوجوه واستحقاق العذاب يوم القيامة قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (3) .
ومنها حرمان المغفرة وعدم الهداية للطريق المستقيم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} (4)
ومنها ضرب الملائكة لهم على الوجوه والأدبار حال الموت، قال تعالى:
__________
(1) سورة البقرة الآية 217
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11\700.
(3) سورة آل عمران الآية 106
(4) سورة النساء الآية 137(77/286)
{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} (1) {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} (2) {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} (3) .
هذا بعض ما يتصل من صور العقوبة الأخروية، نسأل الله الثبات على الحق وأن لا يزيغ قلوبنا.
عقوبة المرتد في الدنيا: أما العقوبة الدنيوية التي شرعها الله في حق المرتد فهي القتل حدا كما أجمع على ذلك أهل العلم استنادا إلى السنة الصريحة الدالة على ذلك، وإلى فعل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، قال ابن قدامة: " أجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد (4) ، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم، ولم ينكر ذلك فكان إجماعا في حق الرجل المرتد، وأما المرأة ففيها خلاف فقد قيل إنه لا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتل، روي ذلك عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، وبه قال الحسن والزهري والنخعي ومكحول وحماد ومالك والليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق.
__________
(1) سورة محمد الآية 25
(2) سورة محمد الآية 26
(3) سورة محمد الآية 27
(4) ينظر: المغني ج 9 ص 16، بدائع الصنائع ج 7 ص 134، الأم ج 1 ص 257.(77/287)
وروي عن علي والحسن وقتادة أنها تسترق ولا تقتل، لأن أبا بكر استرق نساء بني حنيفة وذراريهم وأعطى عليا منهم امرأة فولدت له محمد بن الحنفية وكان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا.
وقال أبو حنيفة: تجبر على الإسلام بالحبس والضرب، ولا تقتل لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان، ولأنها لا تقتل بالكفر الأصلي فلا تقتل بالطارئ كالصبي.
وقد استدل القائلون بقتل المرتدة بقوله عليه السلام: «من بدل دينه فاقتلوه (1) » وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة (2) » ولأنها شخص مكلف بدل دين الحق بالباطل فيقتل كالرجل، وأما نهي النبي عن قتل المرأة فالمراد به الأصلية، فإنه قال ذلك حين رأى امرأة مقتولة وكانت كافرة أصلية، ولذلك نهى الذين بعثهم إلى ابن أبي الحقيق عن قتل النساء، ولم يكن فيهم مرتد، ويخالف الكفر الأصلي الطارئ بدليل أن الرجل يقر عليه، ولا يقتل أهل الصوامع والشيوخ والمكافيف،
__________
(1) رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب استتابة المرتد والمرتدة، رقم الحديث 6411.
(2) رواه البخاري في كتاب الديات باب قول الله تعالى أن النفس بالنفس رقم الحديث 6270.(77/288)
ولا تجبر المرأة على تركه بضرب ولا حبس، والكفر الطارئ بخلافه والصبي غير مكلف بخلاف المرأة، وأما بنو حنيفة فلم يثبت أن من استرق منهم تقدم له إسلام، ولم يكن بنو حنيفة أسلموا كلهم وإنما أسلم بعضهم، والظاهر أن الذين أسلموا كانوا رجالا، فمنهم من ثبت على إسلامه منهم ثمامة بن أثال، ومنهم من ارتد مثل الدجال الحنفي.(77/289)
2 - عقوبة الساحر:
تعريف السحر: السحر عمل تقرب فيه إلى الشيطان وبمعونة منه. ومن السحر الأخذة التي تأخذ العين حتى يظن أن الأمر كما يرى وليس الأصل على ما يرى، والسحر: الأخذة وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر ورجل ساحر من قوم سحرة (1) .
وهو عقد ورقى وكلام يتكلم به أو يكتبه أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له، وله حقيقة، فمنه ما يقتل، وما يمرض، وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه وما يبغض أحدهما إلى الآخر، أو يحبب بين اثنين (2) .
والسحر من أشد صور الانحراف الفكري التي قرر لها الشارع الحكيم عقوبة رادعة في الدنيا ووعيدا شديدا في الآخرة، نظرا لخطره
__________
(1) لسان العرب 4\348.
(2) ابن قدامة، المغني 9\34.(77/289)
وشدة ضرره وكثرة أنواعه وتلبيس أهله على الناس الحق بالباطل وخفاء أمره على الناس حتى اعتقد كثير من الناس أن من صدرت عنه هذه الأمور فهو ممن لهم التصرف التام المطلق في الكون، وعبد بعضهم السحرة من دون الله.
ومن هذه العقوبات في الدنيا الحكم بقتل الساحر حدا كما جاءت بذلك الأحاديث والآثار.
فعن جندب مرفوعا: «حد الساحر ضربه بالسيف (1) » وفي رواية: «ضربة بالسيف (2) » روي بالهاء وبالتاء وكلاهما صحيح، وبهذا الحديث أخذ أحمد ومالك وأبو حنيفة فقالوا يقتل الساحر، وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وجندب بن عبد الله وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبد العزيز.
__________
(1) سنن الترمذي الحدود (1460) .
(2) سنن الترمذي الحدود (1460) .(77/290)
ولم ير الشافعي عليه القتل بمجرد السحر إلا إن عمل في سحره ما يبلغ الكفر، وبه قال ابن المنذر وهو رواية عن أحمد والأول أولى (1) ، للحديث ولأثر عمر الذي رواه بجالة بن عبدة قال: " كنت كاتبا لجزء من معاوية فأتانا كتاب عمر رضي الله تعالى عنه قبل موته بسنة اقتلوا كل ساحر وساحرة ... الخ "، وعمل به الناس في خلافته من غير نكير فكان إجماعا، وهو من حجج الجمهور القائلين بأنه يقتل.
__________
(1) ابن قدامة، المغني 12\302.(77/291)
3 - عقوبة الذهاب إلى الكهان:
والكهانة بفتح الكاف ويجوز كسرها: ادعاء علم الغيب كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب، والأصل فيه استراق الجن السمع من كلام الملائكة، فيلقيه في أذن الكاهن، والكاهن: لفظ يطلق على العراف، والذي يضرب بالحصى، والمنجم، ويطلق على من يقوم بأمر آخر ويسعى في قضاء حوائجه، والكاهن: القاضي بالغيب، والكهنة: قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطباع نارية فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في هذه الأمور وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه.(77/291)
وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية خصوصا في العرب لانقطاع النبوة فيهم، وهي على أصناف منها: ما يتلقونه من الجن فإن الجن كانوا يصعدون إلى جهة السماء فيركب بعضهم بعضا إلى أن يدنو الأعلى بحيث يسمع الكلام فيلقيه إلى الذي يليه، إلى أن يتلقاه من يلقيه في أذن الكاهن فيزيد فيه، فلما جاء الإسلام ونزل القرآن حرست السماء من الشياطين، وأرسلت عليهم الشهب، فبقي من استراقهم ما يتخطفه الأعلى فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (1) وكانت إصابة الكهان قبل الإسلام كثيرة جدا كما جاء في أخبار شق وسطيح ونحوهما، وأما في الإسلام فقد ندر ذلك جدا حتى كاد يضمحل ولله الحمد (2)
وقد جاء تحريم عمل الكهان وتحريم الذهاب إليهم في السنة المطهرة فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى امرأة حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد (3) » .
وروى مسلم بإسناده عن صفية عن بعض أزواج النبي عن
__________
(1) سورة الصافات الآية 10
(2) فتح الباري 10\227.
(3) رواه النسائي 5\323 وقال المنذري في الترغيب والترهيب إسناده حسن.(77/292)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (1) » .
__________
(1) صحيح مسلم 4\1751.(77/293)
4 - عقوبة الخوض في المتشابه: سبق الحديث عن الخوض في المتشابه باعتباره من أسباب الانحراف الفكري التي ورد النهي عنها في الكتاب والسنة بالتفصيل، ولذا أقتصر هنا على الحديث عن العقوبة، وأقوى الأدلة في عقوبة الخوض في المتشابه فعل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع صبيغ بن عسل " فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن حتى رآه عمر فسأل عمر عن الذاريات ذروا فقال: ما اسمك قال: عبد الله صبيغ فقال: وأنا عبد الله عمر وضربه الضرب الشديد " وكانت هذه العقوبة مثار إعجاب الصحابة رضي الله عنهم " فكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول: ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ.
وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم (1) » . وكما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (2)
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4547) ، صحيح مسلم العلم (2665) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2994) ، سنن أبي داود السنة (4598) ، مسند أحمد (6/256) ، سنن الدارمي المقدمة (145) .
(2) سورة آل عمران الآية 7(77/293)
ومثله الذي يعارض بين آيات القرآن، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: «لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض (1) » فإن ذلك يوقع الشك في قلوبهم، أو مع ابتغاء الفتنة ابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا الله فكان مقصدهم مذموما ومطلبهم متعذرا مثل أغلوطات المسائل التي نهى رسول الله عنها (2)
وقد يثير بعض الناس هنا موضوع الحرية الفكرية، وحرية إبداء الرأي فنقول: إن هذا متاح فيما للإنسان فيه مصلحة ومعرفة تامة، كالقضايا التي تهمه في معاشه، وما كان ممكنا له فهمه وعلمه كالمسائل الفقهية ونحوها، أما المسائل التي من متشابه القرآن والتي لا يفهمها إلا الراسخون في العلم على قول، فليس لكل أحد أن يخوض فيها بحجة حرية الفكر.
__________
(1) سنن ابن ماجه المقدمة (85) ، مسند أحمد (2/196) .
(2) مجموع الفتاوى 13\311.(77/294)
التعزير لدعاة الانحراف:
التعزير في اصطلاح الفقهاء: تأديب دون الحد على معصية لا حد فيها ولا كفارة من العزر وهو الزجر والمنع (1)
ويعد التعزير من أوسع أبواب السياسة الشرعية لولي الأمر المسلم لتحقيق مصالح المسلمين، ومن صوره، تقرير بعض العقوبات على المخالفات والجنح التي لا نص في العقوبة عليها في الدنيا، مثل.
__________
(1) ينظر: التوقيف على مهمات التعاريف، محمد المناوي 2\186، التعريفات، الجرجاني 85.(77/294)
عقوبة المبتدع، والداعي إلى الضلال.
فالمتأمل فيما ذكره الفقهاء في باب التعزير يجد مجالا واسعا لولي الأمر لمعاقبة دعاة الضلال والانحراف، ومن تلك العقوبات المنع من التواصل الإعلامي بالكتابة والحديث بأي وسيلة. وقد يرى البعض أن هذا مما يتنافى مع حرية الرأي، والتعددية الفكرية، ويرون في هذا إرهابا فكريا وغير ذلك من وجوه الذم. وفي الجواب عن هذا يقال: إن هؤلاء المنادين بحرية الرأي سرعان ما يكذبون أنفسهم إذا تعلق الأمر بغيرهم ممن يخالفهم الرأي، فهم في وسائلهم لا ينشرون إلا لمن يوافقهم. ويسكتون على كل قضية تتصل بوأد الحريات إذا كان ذلك يمس الدين ودعاته. بل ربما نادى بعضهم بمنع مخالفيهم من كل وسيلة نشر.
ومن صور التعزير في هذا المجال أيضا: رد الشهادة أو عدم قبول الرواية، فمن العقوبات التي قررها أهل العلم تجاه أصحاب الفكر المنحرف والاعتقاد البدعي أن المبتدع لا تقبل شهادته تأديبا وعقوبة له، غير أن أهل العلم لم يعمموا الحكم، وإنما نظروا بعين البصيرة والعدل للأشخاص ودرجة انحرافهم وأسباب ذلك، ومدى قدرتهم على معرفة الحق " فمن كفر بمذهبه كمن ينكر حدوث العالم وحشر الأجساد وعلم الرب تعالى بجميع الكائنات وأنه فاعل بمشيئته وإرادته فلا تقبل شهادته لأنه على غير الإسلام.(77/295)
وأما أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام ولكنهم مخالفون في بعض الأصول كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم فهؤلاء أقسام:
أحدها: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له فهذا لا يكفر ولا يفسق، لا ترد شهادته إذا لم يكن قادرا على تعلم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين كما قال تعالى: {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (1) {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (2)
القسم الثاني: المتمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق، ولكن يترك ذلك اشتغالا بدنياه ورياسته ولذته ومعاشه وغير ذلك، فهذا مفرط مستحق للوعيد آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، وحكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات، فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى قبلت شهادته.
القسم الثالث: أن يسأل ويطلب ويتبين له الهدى ويتركه تقليدا وتعصبا أو بغضا أو معاداة لأصحابه، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقا، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل، فإن كان معلنا داعية ردت شهادته وفتاويه وأحكامه مع القدرة على ذلك ولم تقبل له
__________
(1) سورة النساء الآية 98
(2) سورة النساء الآية 99(77/296)
شهادة ولا فتوى ولا حكم إلا عند الضرورة، كحال غلبة هؤلاء واستيلائهم وكون القضاة والمفتين والشهود منهم ففي رد شهادتهم وأحكامهم إذ ذاك فساد كثير ولا يمكن ذلك فتقبل للضرورة.
وقد نص مالك رحمه الله على أن شهادة أهل البدع كالقدرية والرافضة ونحوهم لا تقبل وإن صلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا.
وإنما منع الأئمة كالإمام أحمد بن حنبل وأمثاله قبول رواية الداعي المعلن ببدعته وشهادته والصلاة خلفه، هجرا له وزجرا، لينكف ضرر بدعته عن المسلمين، ففي قبول شهادته وروايته والصلاة خلفه واستقضائه، وتنفيذ أحكامه رضى ببدعته وإقرار له عليها.
وقال إسحاق بن منصور قلت لأحمد كان ابن أبي ليلى يجيز شهادة كل صاحب بدعة إذا كان فيهم عدلا لا يستحل شهادة الزور، قال أحمد ما تعجبني شهادة الجهمية والرافضة والقدرية والمعلنة.
وقال الميموني: سمعت أبا عبد الله يقول من أخاف عليه الكفر مثل الروافض والجهمية لا تقبل شهادتهم ولا كرامة لهم (1)
الأمر بقتال الخوارج: ومن العقوبات الدنيوية لأهل الانحراف الفكري المتمثل في الخوارج الأمر بقتالهم، إذ جاء في السنة الحث على قتالهم من قبل الأئمة، قال صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي اعترض على قسمة الغنائم: «إن من هذا أو في عقب هذا
__________
(1) ابن القيم، الطرق الحكمية، ص 173، 174.(77/297)
قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد (1) » .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب المغازي، باب بعث علي بن أي طالب وخالد إلى اليمن قبل حجة الوداع، رقم الحديث 4004.(77/298)
الفصل الثاني: التطبيقات العملية للوقاية من الانحراف الفكري في تاريخ المسلمين
المبحث الأول: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
يرى بعض الباحثين أن الانحراف الفكري بين المسلمين لم يظهر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لسببين رئيسين:
الأول: انعزال المسلمين في مبدأ الدعوة عن غيرهم من المجتمعات والشعوب غير العربية.
وثانيهما: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يزال بين ظهراني المسلمين، وله من الصلة بربه ومن قوة شخصيته الكريمة، ما يجعل كلمته القاطعة وقوله الفصل، فكان كلما رأى من بعض أصحابه ميلا إلى التعمق أو البحث في متشابه القرآن نهاهم عن ذلك وبين لهم أن الهلاك في الدين إنما هو السير وراء هذا النوع من الإيمان.
ومع ذلك فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب(77/298)
ومظاهر الانحراف الفكري، ولا سيما في المناسبات التي تقتضي ذلك، ومن تلك المظاهر التي حذر منها:
أ- الغلو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (1) » ، وهذا النهي عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال (2) .
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغلو فيه خاصة ورفعه فوق منزلته عليه الصلاة والسلام كما فعلت النصارى بعيسى عليه السلام، فقد روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (3) » .
قوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم " الإطراء: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه. قاله أبو السعادات وقال غيره: لا تطروني بضم التاء وسكون الطاء المهملة من الإطراء أي: لا تمدحوني بالباطل أو لا تجاوزوا الحد في مدحي.
قوله: «إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (4) » أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه
__________
(1) رواه مسلم 2\944، والنسائي 5\268، وأبو داود 2\435.
(2) ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم 2\106.
(3) الجامع الصحيح، كتاب الأنبياء، باب واذكر في الكتاب مريم، 4\142.
(4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) .(77/299)
الربوبية، وإنما أكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النهي في أكثر من موضع ومقام لما علمه في هذا الإطراء من وسيلة وطريق للغلو.
2 - ونهى أن يصلى إلى القبر، أو يتخذ مسجدا، أو عيدا، أو يوقد عليه سراج.
3 - نهيه صلى الله عليه وسلم عن طلب الحق من المصادر المخالفة:
ومن جهة أخرى فربما أمكن القول بأن نهي الرسول للصحابة عن النظر في كتب اليهود خاصة كان سببا في وحدة مصادر التلقي مما يؤدي إلى سلامة الفكر والثبات على الحق، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: «أمتهوكون يا ابن الخطاب لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حيا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم (1) » .
ويمكن القول من جهة أخرى إن ضعف إسناد هذا الحديث يضعف النتيجة المستفادة منه، وأن صحة المعتقد وسلامة الفكر لدى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليس مردها إلى منع الاطلاع على كتب الأديان الأخرى وغيرها من مصادر الفكر والثقافة، بقدر ما هو الحصانة الذاتية للصحابة رضي الله عنهم الناتجة عن قوة تربيتهم
__________
(1) مسند الإمام أحمد بتحقيق شعيب الأرناؤوط وآخرين 23\349، وإسناده ضعيف لضعف مجالد بن سعيد راويه عن الشعبي.(77/300)
على العقيدة الصحيحة وتمسكهم الثابت بها، بدليل وجود فئات أخرى في المجتمع المدني منحرفة الفكر فاسدة التدين، وهي فئة المنافقين، أظهرت الإسلام نفاقا وخوفا، وتقربت من الكفار ووالتهم وسمعت منهم الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى عن المنافقين ولائهم للكفار: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} (1) كما أن شبهات أهل الكتاب والمشركين كانت تتردد في مجتمع المدينة ولذا جاء الرد عليها في القرآن الكريم، وكان هناك من يستمع لها ويتلقاها، كما قال تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} (2) .
4 - حرصه على قتل المرتد كما في قصة عبد الله بن أبي السرح. قال ابن القيم: وفيها من الفقه جواز قتل المرتد الذي تغلظت ردته من غير استتابة «فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد أسلم وهاجر وكان يكتب الوحي لرسول الله، ثم ارتد ولحق بمكة، فلما كان يوم الفتح أتى به عثمان بن عفان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعه فأمسك عنه طويلا ثم بايعه، وقال: إنما أمسكت عنه ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه، فقال له رجل: هلا أومأت إلي يا رسول الله، فقال: ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين (3) » . فهذا كان قد تغلظ كفره بردته بعد إيمانه وهجرته وكتابة الوحي،
__________
(1) سورة المائدة الآية 52
(2) سورة التوبة الآية 47
(3) سنن النسائي تحريم الدم (4067) ، سنن أبي داود الجهاد (2683) .(77/301)
ثم ارتد ولحق بالمشركين يطعن على الإسلام ويعيبه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله، فلما جاء به عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة لم يأمر النبي بقتله حياء من عثمان، ولم يبايعه ليقوم إليه بعض أصحابه فيقتله، فهابوا رسول الله أن يقدموا على قتله بغير إذنه واستحيا رسول الله فبايعه (1) .
ولعنايته - عليه الصلاة والسلام - بحماية جناب التوحيد، وسد أبواب الشرك، فإنه كان أحرص الخلق على قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، حتى في الأقوال والألفاظ وصور ذلك كثيرة معلومة من سيرته عليه الصلاة والسلام، ومنها:
أ- نهيه صلى الله عليه وسلم عن الألفاظ الموهمة لتسوية غير الله به، مثل قول الإنسان ما شاء الله وشئت، فقد روى النسائي بإسناده عن قتيلة «أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت (2) » (3)
2 - ونهى أن يحلف بغير الله وأخبر أن ذلك شرك، فعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف
__________
(1) زاد المعاد: 3\464 مؤسسة الرسالة 1407 هـ تحقيق الأرناؤوط.
(2) سنن النسائي الأيمان والنذور (3773) ، مسند أحمد (6/372) .
(3) رواه النسائي في كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بالكعبة، وصححه رقم الحديث 3712.(77/302)
بغير الله فقد كفر أو أشرك (1) » .
وكان بعض حدثاء العهد بالإسلام تجري على ألسنتهم بعض الألفاظ الشركية كالحلف باللات والعزى ونحوهما، وربما لم تكن مقصودة، ومع ذلك أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد الشهادة إذا صدر عنهم مثل هذا الحلف، ففي الحديث الذي رواه البخاري وغيره أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف منكم فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق (2) » .
ولم يقتصر جهد النبي صلى الله عليه وسلم في وقاية المجتمع المسلم على العلاج أو العقوبات للحماية من الانحراف الفكري، بل كان معظم جهده متوجها نحو بناء العقيدة الصحيحة، وبيان فضائلها، والحث على التمسك بها ونبذ الانحرافات الجاهلية، وضرب الأمثلة بانحراف الأمم السابقة والتحذير من مسلكهم.
العهد النبوي بين حرية الفكر وحماية العقيدة:
بالرغم من أن العهد النبوي اتسم بحرية تعبير واسعة، تجلت فيما أتيح لليهود والمنافقين من حرية الكلمة والتعبير عن الرأي، إلا أن المؤمنين قد اكتسبوا حصانة إيمانية أدت إلى مناعة ذاتية تجاه
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب كراهية الحلف بغير الله رقم الحديث 1455.
(2) الجامع الصحيح كتاب الأيمان والنذور رقم الحديث 5836.(77/303)
الفكر اليهودي، ودعوات المنافقين وتشكيكاتهم، ويؤكد وجود مساحة الحرية تلك، ما حكاه القرآن الكريم من أقوال اليهود والمنافقين المتضمنة لطعنهم في دين الإسلام وبعض أحكام الشريعة، واستهزائهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فما زاد ذلك المؤمنين إلا شدة في الدين وثباتا عليه، وتصديا للفكر اليهودي وشبهات المنافقين وضلالاتهم.
ومع أن عهد النبي صلى الله عليه وسلم اتسم بانفتاح كبير على الفكر المخالف، إلا أن موقف الصحابة رضي الله عنهم من هذا الفكر على اختلاف مذاهبه وتنوع اتجاهاته، كان يتسم بالنظر إليه على أنه فكر بشري قاصر، ينظر إليه من خلال الرؤية الإسلامية متمثلة في القرآن الكريم وأقوال النبي الأمين. إذ كانوا يرون الوحي هو مصدر الحق الذي توزن به الأفكار ويميز به الحق من الباطل، ويتضح به الصواب من الخطأ.
وكان هذا الموقف القوي من الفكر الآخر بالرغم من أن بعضه كانت له مكانته العالية في المدينة باعتباره فكرا مرتبطا بديانة سماوية وأهله أهل كتاب إلهي كالفكر اليهودي، ناتجا عن الأساس الفكري الذي نشأ عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وقوة اقتناعهم به، وجزمهم بأن اليقين والحقيقة إنما هي في وحي الله الذي أوحى به إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهذا ما نحتاجه في هذا الزمن الذي فشت فيه فتن الشبهات وتنوعت فيه مضلات الفتن،(77/304)
وتعددت أبوابها، وتكاثرت وسائلها، ففي زمن البث الفضائي الهادر وتعدد مصادر التلقي لا بد من الاجتهاد في تربية الوازع الإيماني، وغرس روح الاعتزاز بالحق، وإيجاد الحصانة الذاتية في النفوس.(77/305)
المبحث الثاني: في عهد الخلافة الراشدة
سار الخلفاء الراشدون على النهج النبوي في العناية بحماية المجتمع المسلم من أسباب ومظاهر الانحراف الفكري، وقد تجلى ذلك بصور خاصة في بعض الفترات والوقائع التي يحدث فيها شيء من ذلك، وسوف أستعرض بعض النماذج في عهد الخلافة الراشدة باعتبارها أمثلة دالة على غيرها.
في عهد أبى بكر الصديق رضي الله عنه: تعتبر حروب الردة نموذجا عمليا ظاهرا على عناية الخليفة الراشد الأول بمحاربة ظواهر الانحراف الفكري، حيث تصدى لهذه الظاهرة الخطيرة التي هي الردة بكل حزم وحسم، ولم يتردد في الأمر بالرغم من المخاطر التي كانت تحيط بدولة الإسلام آنذاك.
قال محمد بن إسحاق: ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم حتى جمعهم الله على أبي بكر رضي الله عنه (1) .
__________
(1) السيرة النبوية، لابن هشام 2\665.(77/305)
فإنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت أحياء كثيرة من الأعراب، ونجم النفاق بالمدينة، وانحاز إلى مسيلمة الكذاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة، والتفت على طليحة الأسدي بنو أسد وطيئ، وادعى النبوة أيضا كما ادعاها مسيلمة الكذاب، وعظم الخطب واشتدت الحال، ونفذ الصديق جيش أسامة فقل الجند عند الصديق، فطمعت كثير من الأعراب في المدينة وراموا أن يهجموا عليها، فجعل الصديق على أنقاب المدينة حراسا يبيتون بالجيوش حولها، فمن أمراء الحرس علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود. وجعلت وفود العرب تقدم المدينة يقرون بالصلاة ويمتنعون من أداء الزكاة، ومنهم من امتنع من دفعها إلى الصديق، وذكر أن منهم من احتج بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (1) قالوا فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا، وأنشد بعضهم:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا ... فواعجبا ما بال ملك أبي بكر
وقد تكلم الصحابة مع الصديق في أن يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم، ثم هم بعد ذلك يزكون فامتنع الصديق من ذلك وأباه (2) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 103
(2) ابن كثير، البداية والنهاية 6\311.(77/306)
كما حرص أبو بكر رضي الله عنه أن يقاوم أي انحراف فكري ولو لم يصل حد الردة، فحين رأى بعض الأعراب أن أداء الركن الثالث من أركان الإسلام (الزكاة) لا يلزمهم، عزم على ردهم للحق وقتالهم إن أبوا، وكان للصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأي آخر فناقش أبا بكر في ذلك قائلا لأبي بكر: علام تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها (1) » ؟ فقال أبو بكر: والله لو منعوني عناقا وفي رواية عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعها، إن الزكاة حق المال، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبو بكر للقتال فعرفت أنه الحق) (2) .
في عهد عمر رضي الله عنه: وقد سار الخليفة الثاني على منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه في الاهتمام بحماية المجتمع المسلم من الانحراف الفكري، وأسبابه، ومن صور عنايته بذلك قصته مع صبيغ بن عسل الذي كان يثير بعض الشبهات بأسئلته عن متشابه القرآن، إذ قدم المدينة وأخذ يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر فأعد له عراجين النخل فقال من أنت؟
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2946) ، صحيح مسلم الإيمان (21) ، سنن الترمذي الإيمان (2606) ، سنن النسائي تحريم الدم (3978) ، سنن أبي داود الجهاد (2640) ، سنن ابن ماجه الفتن (3927) ، مسند أحمد (2/529) .
(2) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب أخذ العناق في الصدقة رقم الحديث 1364.(77/307)
قال: أنا عبد الله صبيغ قال: وأنا عبد الله عمر، فضربه حتى آدمى رأسه فقال حسبك يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي. أخرجه ابن الأنباري من وجه آخر عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد عن عمر بسند صحيح وفيه فلم يزل صبيغ وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم، قلت وهذا يدل على أنه كان في زمن عمر رجلا كبيرا، قال أبو أحمد العسكري اتهمه عمر برأي الخوارج (1) .
وقد علق شيخ الإسلام ابن تيمية على قصة عمر رضي الله عنه مع صبيغ بقوله: " وقصة صبيغ بن عسل مع عمر بن الخطاب من أشهر القضايا فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن حتى رآه عمر فسأل عمر عن الذاريات ذروا فقال له عمر ما اسمك؟ قال: عبد الله صبيغ فقال: وأنا عبد الله عمر، وضربه الضرب الشديد، وكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول: ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ، وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام (2) .
ويمكن أن يستفاد من فعل هذا الخليفة الراشد الذي أمرنا باتباع سنته شأنه شأن الخلفاء الراشدين الثلاثة، أن لولي الأمر المسلم الحق أن يمنع من يخشى أن يحدث قوله وفكره انحرافا فكريا على
__________
(1) ينظر: ابن حجر الإصابة 3\459، الدارس، السنن 1\66.
(2) مجموع الفتاوى 13\311.(77/308)
المسلمين وربما كان من أسباب استقرار المجتمع المسلم في عهد هذا الخليفة الراشد وعدم وجود حركات الخروج والتمرد والانحراف الفكري، هو شدة عمر رضي الله عنه في الحق وتلافيه لبوادر هذه الشرور من بداياتها.
وأما في عهد عثمان رضي الله عنه: فقد كان يعاقب من يظهر شيئا من المخالفة أو الانحراف عن المنهج السوي، بالنفي عن المكان الذي حصل فيه الخطأ فيه، ولم يذكر في عهده رضي الله عنه من الحوادث ما يلفت النظر من جهة الانحراف الفكري، كالردة أو البحث عن المتشابه والتشكيك في القرآن، لكن كانت بدايات الانحراف عن السنة في الموقف من الأمراء، حيث أثار السبئيون بعض الناس على عثمان رضي الله عنه فكان يعالج الموقف بحكمته وصبره وعفوه، ولم يبدأ في عقاب أحد ممن عرف بشيء من ذلك قبل أن يظهر منه فعل يوجب العقوبة.
في عهد علي رضي الله عنه: برز في واقع المسلمين انحرافان عقديان بارزان هما:
انحراف الخوارج وانحراف الشيعة، فواجه علي رضي الله عنه هذين الانحرافين بما يليق بهما من المواجهة المناسبة، إذ واجه الخوارج أول الأمر بالحوار والجدال بالتي هي أحسن، حين أرسل ابن عمه عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - لمناقشة شبهات الخوارج في(77/309)
خروجهم على أمير المؤمنين وتكفيرهم له، فكان نتيجة هذا الحوار رجوع أربعة آلاف منهم إلى جادة الحق. ويعد مثل هذا العمل إنجازا عظيما في مكافحة الغلو، وكان لقدرة عبد الله بن عباس، وعلمه الغزير، وذكائه، الأثر الكبير في هذا التحول من الغلو إلى الاعتدال وجادة الصواب.
معالجة غلو الشيعة:
وأما انحراف الشيعة فكان متفاوتا في درجاته، فعالج علي رضي الله عنه كل انحراف منها بما يناسبه، فعالج دعوى بعضهم في تفضيله على أبى بكر وعمر بجلد من يقول بذلك، وأعلن بهذه العقوبة في الناس فقال: (لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته الحد) .
وأما الذين زعموا أنه ربهم فقد قتلهم حرقا بالنار بعد إصرارهم على هذا الانحراف.
فقد ذكر ابن حجر في الفتح عن أيوب عن عكرمة قال: أتي علي بزنادقة فأحرقهم.
ولأحمد من هذا الوجه أن عليا أتي بقوم من هؤلاء الزنادقة ومعهم كتب فأمر بنار فأججت ثم أحرقهم وكتبهم (1) .
__________
(1) فتح الباري 6\156.(77/310)
المبحث الثالث: نماذج من التطبيقات العملية من قبل الأئمة المجددين من السلف
المطلب الأول: الأئمة الأربعة
تفاوت النقل عن الأئمة الأربعة في مجال تصديهم لمظاهر الانحراف الفكري، تبعا لدرجة الانحراف الذي عايشه كل إمام، ونوعه واستمراره أو عدم استمراره، ولذا نجد الآثار المنقولة عنهم في هذا المجال متفاوتة. ولهذا سيكون الحديث في هذا المبحث عن الإمامين مالك والشافعي.
ولتكن البداية بإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله: فقد اشتهر عن هذا الإمام حزمه وإنكاره الشديد لأي انحراف في العقيدة، حتى لو ظهر بمظهر السؤال البريء، وربما كان سبب ذلك معرفة الإمام بأن إثارة مثل هذه الأسئلة ينبئ عن انحراف عقدي، أو أن السؤال إنما قصد به التشكيك.
فقد تحدث يحيى بن خلف بن الربيع الطرسوسي قال: كنت عند مالك بن أنس ودخل عليه رجل فقال: يا أبا عبد الله: ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق؟ فقال مالك: زنديق اقتلوه! فقال: يا أبا عبد الله إنما أحكي كلاما سمعته، فقال: لم أسمعه من أحد إنما سمعته منك، وعظم هذا القول، وفي موقف آخر حكاه جعفر بن عبد الله قال: كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1)
__________
(1) سورة طه الآية 5(77/311)
كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء يعني العرق، ثم رفع رأسه ورمى بالعود، وقال: الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة وأمر به فأخرج (1) .
وكان كثير التأكيد على المسائل الفكرية التي يظهر انحراف عن الاعتقاد الصحيح فيها، فحين كثر خوض الرافضة في حق الصحابة رضي الله عنهم قال مالك: من تنقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين ثم تلا قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (2) ، حتى أتى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} (3) ، فمن تنقصهم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له في الفيء حق (4) .
وفي موقف آخر ذكر عنده رجل ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك هذه الآية:
__________
(1) أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء 6\325.
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) سورة الحشر الآية 10
(4) المصدر نفسه 6\326.(77/312)
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} (1) وقال: من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته الآية (2) .
__________
(1) سورة الفتح الآية 29
(2) المصدر نفسه 6\326.(77/313)
الإمام الشافعي وجهوده في حماية المجتمع من الانحراف الفكري:
فقد كان موقف الشافعي رحمه الله كغيره من أئمة السنة قويا تجاه مظاهر الانحراف الفكري مهما كانت درجتها، مع التعامل مع كل حالة بما يناسبها، فكان رحمه الله شديدا على أهل الكلام لما يرى من أثرهم السيئ على الأمة في اعتقادها، قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: المراء في الدين يقسي القلب ويورث الضغائن.
وقال صالح جزرة: سمعت الربيع يقول: قال الشافعي: يا ربيع، اقبل مني ثلاثة: لا تخوضن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خصمك النبي صلى الله عليه وسلم غدا، ولا تشتغل بالكلام فإني قد اطلعت من أهل الكلام على التعطيل، وزاد المزني: ولا تشتغل بالنجوم.(77/313)
وعن الشافعي: حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ.
وقال الزعفراني وغيره: سمعنا الشافعي يقول: حكمي في أهلي الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر ينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام. وقال أبو عبد الرحمن الأشعري صاحب الشافعي: قال الشافعي: مذهبي في أهل الكلام تقنيع رؤوسهم بالسياط وتشريدهم في البلاد (1) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 10\29.(77/314)
شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في حماية المجتمع المسلم من الانحراف الفكري:
وبعد أن استعرضت جانبا من جهود الأئمة الأربعة في مواجهة الانحراف الفكري وحماية المجتمع منه، أتحدث عن علم آخر في فترة بعيدة عن عصر أولئك الأئمة فترة تتسم بظهور مكثف للعديد من مظاهر الانحراف الفكري وهو القرن الثامن الهجري، وعن علم بارز في هذا المجال هو شيخ الإسلام: أحمد بن عبد السلام بن تيمية، الذي ظهرت جهوده بارزة في مواجهة الانحراف الفكري نظرا لسعة مجال هذا الانحراف وتعدد صوره، وبعد الفترة الزمنية بين عصره وعصر النبوة، مما أدى إلى فشو كثير من مظاهر الانحراف، لهذا كانت جهود شيخ الإسلام في مكافحة مظاهر الانحراف واسعة متعددة بتعدد تلك المظاهر.(77/314)
انحراف القبوريين، انحراف الفلاسفة، انحراف أهل الحلول والاتحاد، انحراف الصوفية، انحراف أهل الكلام.
فقد كشف رحمه الله جوانب الانحراف لدى الفلاسفة المنتسبين للإسلام، وبين أخطاءهم وحذر من معتقداتهم المخالفة.
وكان له كتب ورسائل في هذا المقام منها: درء تعارض العقل والنقل، ومنها: الرسالة التدمرية، وتجربة شيخ الإسلام في مواجهة الانحراف الفكري جديرة بالتدبر والاعتبار فهي تقارب هذا الزمن من جهة السماح لكل مبتدع ومبطل بالحديث عن العقيدة والطعن بما يريد، ومن العبر التي يمكن استخلاصها:
1 - أنه مهما كان بذل العالم المصلح في مجال وقاية المجتمع من الانحرافات الفكرية فإن قرب المبطلين وأصحاب الأهواء من الولاة والسلاطين يجعل أثر العالم ضعيفا غير مؤثر في أهل عصره على نحو يوازي الجهد المبذول، فإن شيخ الإسلام بالرغم من قوة حجته وتمكنه من نقد كثير من الفرق المنحرفة والآراء الشاذة فإن أثاره العلمية الغزيرة لم يكتب لها التأثير العام في وقته على النحو الذي حدث في عصور تالية حين تبنت هذه الآثار جهات لها سلطة في مكانها، وكان فقهه ونتاجه الفكري محل التهمة والتضييق في وقته إلى أن توطدت أواصر العلاقة بينه وبين السلطان الناصر، مما كان له أثره في تبني السلطان لبعض أراء الشيخ ومقترحاته بشأن مواجهة(77/315)
بعض الفرق المنحرفة ومنعها مما كانت تعاطاه من أعمال الخرافة والشعوذة، وغير ذلك.
وهذا يؤكد أهمية الصلة بالولاة والأمراء والتواصي معهم بالحق ما أمكن ذلك.
وقد قل تداول رسائل الشيخ وكتبه وآرائه فترة طويلة بعد موته. وقلت الإفادة منها، وبقيت الأفكار والمذاهب التي كان الشيخ يكافحها مستمرة مؤثرة في المجتمع.
2- أن العالم وإن تميز بالقدرة الفائقة على نقد الفكر المخالف، وبيان الخطأ والانحراف بالدليل والبرهان، فإنه إذا لم تكن سلطة تدعمه وتسانده لن يكون لقدراته ومواهبه الأثر المرجو في إحداث التغيير المنشود.(77/316)
الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
واجه الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب واقعا فيه انحراف عقدي تتفاوت درجاته من بلد لآخر، وقد كان جهده المشكور وعمله المشهود في حماية المجتمع من مظاهر الانحراف الفكري واضحا ملموسا، إذ أدرك رحمه الله أهمية النصرة السياسية للدين وأهله، فحرص على أن يكون معه في الدعوة صاحب ولاية ينصره للقيام بالدعوة وما تتطلبه.
ونجح أول الأمر في العيينة وقام بأعمال ملموسة لحماية المجتمع(77/316)
من مظاهر الانحراف الفكري ومن ذلك إزالة المشاهد التي يحدث عندها صور من الغلو.
وبعد تخلي ابن معمر أمير العيينة عن نصرته وطلبه من الشيخ مغادرة العيينة، توجه للدرعية، ويسر الله له أميرا آخر نصره وثبت على نصرته وهو الإمام محمد بن سعود - رحمه الله - مما أدى إلى قيام دولة للدعوة امتدت إلى ما بعد وفاته رحمه الله.
والمتأمل في منهج الإمام المجدد تتضح له حكمة الإمام وبعد نظره حيث حرص على وجود سلطة تدعم الدعوة وتؤيدها.
وأما جهود الشيخ في مواجهة الانحراف الفكري فأشهر من أن تذكر ولكن سألخص طرفا منها فمن ذلك:
أ- اعتناؤه بتأليف كتاب يعنى بتصحيح تلك الانحرافات السائدة في البيئة التي وجه الدعوة إليها.
ب- عنايته في التعليم والدعوة بالتوحيد وتصحيح العقيدة.
ج- حرصه الشديد على إيجاد طلبة علم، يقومون بتبليغ العلم والدعوة.
د- عنايته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هـ- إزالته للمشاهد الشركية.
ومواجهته الحازمة لأي انحراف فكري وتصديه له، وكشفه، ورد شبهات أهله.(77/317)
ز- قوة حجته وحسن جداله بالحق مع المخالفين للعقيدة الصحيحة.(77/318)
الفصل الثالث: سبل حماية المجتمع من الانحراف الفكري في العصر الحاضر
تمهيد في الأسس المنهجية للوقاية: قبل البدء في الحديث عن الأساليب الوقائية والعلاجية لا بد من بيان الأسس المنهجية التي لا بد من التزامها لمواجهة الانحراف الفكري والتصدي له حتى تكون هذه المواجهة مفيدة ومؤثرة بإذن الله، والأسس المقصودة هي:
أولا: التزام الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة: هو الأساس العاصم من الانحراف الفكري في الأمة على المستوى الفردي والجماعي، وذلك بدلالة الكتاب والسنة، وإجماع السلف الصالح من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان على ذلك، قال تعالى: {الم} (1) {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (2) وقال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (3) أما دلالة السنة على هذه الحقيقة فواضحة من خلال الأحاديث الكثيرة الحاضة على التزام الوحيين والاستمساك بهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي عضوا
__________
(1) سورة البقرة الآية 1
(2) سورة البقرة الآية 2
(3) سورة الإسراء الآية 9(77/318)
عليها بالنواجذ (1) » وأقوال الصحابة رضي الله عنهم كثيرة في هذا منها القول المأثور عن الصحابيين الجليلين عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود قالا: إنما هما اثنتان الكتاب والهدي فخير الكتب كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم (2) .
ولو قدر اتفاق المنتسبين للعلم الشرعي والدعوة والإرشاد في كافة البلاد الإسلامية على التزام هذا الأساس، التزاما صادقا نابعا من اقتناع جازم، لقل الانحراف الفكري خصوصا شيئا فشيئا إلى أن يذهب بالكلية، غير أن هذا غير متصور واقعا في الأمة كلها، لأنه مخالف لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من سلوك أمته مسلك الأمم السابقة في الافتراق عن المنهج الصحيح بقوله: «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقه (3) » ، ولكن من الممكن حصوله في بلد دون آخر وفي طائفة من الأمة لا في جميعها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق (4) » الحديث.
ولذلك فإنه لا سلامة من الانحراف عن الطريق المستقيم إلا
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب السنة باب في لزوم السنة رقم الحديث 2991.
(2) الشاطبي، الاعتصام 1\69.
(3) رواه الترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في فراق هذه الأمة، رقم الحديث 2564، وقال حديث حسن، ورواه أصحاب السنن.
(4) متفق عليه، رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، قول النبي: لا تزال. . رقم الحديث 6767، ومسلم في كتاب الإمارة باب قوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة. . برقم: 1920.(77/319)
باتباع هذا المسلك العظيم، ولا يمكن أن تكون طائفة على الحق ما لم تلزم هذا الأصل علما وعملا فهما وسلوكا.
ثانيا: العناية بالعلم الشرعي فهو من أهم طرق الوقاية من الانحراف الفكري، وضعف العلم وذهاب العلماء من أعظم أسباب الانحراف، كما دلت على ذلك السنة المطهرة بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا (1) » .
فهذا الحديث يؤكد أهمية وجود العلماء كضمانة للاستقامة على الحق، وأن فقدهم سبب عظيم من أسباب انحراف الناس وضلالهم، ولا ريب أن هذا يؤكد ضرورة العناية بالعلم الشرعي واستمرار وجود العلماء في الأمة، واستمرار وجود من يأخذ عنهم ويتتلمذ عليهم، ليكون خليفة لهم، وقد كان هذا بحمد الله مستمرا في الأمة الإسلامية طوال قرون، وإن ضعف الالتزام به في بعض الأزمنة والأمكنة وفي بعض الأحوال.
وقد نبه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى أهمية العلم وكونه مضادا لمظاهر الانحراف وعاملا من عوامل
__________
(1) متفق عليه، رواه البخاري في كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، رقم الحديث 98، ومسلم في كتاب العلم باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل رقم 2673.(77/320)
الثبات على الحق فقال: (عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إلى ما عنده، وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق) (1) .
ومما يؤكد أهمية العلم كضمانة حقيقية ضد الانحراف ما نلحظه في الواقع من أنه كلما قل العلم بالكتاب الكريم والسنة المطهرة في مجتمع ما كلما بدت ظواهر الانحراف الفكري جلية واضحة وأبرزها الانحراف الفكري فنجد أن البيئات التي يقل فيها العلم يسهل على الدعوات المضللة والأفكار المنحرفة أن تجد فيها قبولا وتأثرا بها، وعلى العكس من ذلك البيئات التي ينتشر فيها العلم الشرعي وهذا ملاحظ في واقع الأمة فإن البيئات التي لم ينتشر فيها العلم الشرعي تكثر فيها البدع والانحرافات.
__________
(1) الشاطبي، الاعتصام 1\79.(77/321)
المبحث الأول: الأساليب العملية لعلاج الانحراف الفكري وفيه ستة مطالب وهي:
المطلب الأول: الحكم بما أنزل الله في جميع جوانب الحياة:
لا ريب أن الحكم بما أنزل الله في جميع جوانب الحياة يحقق للمجتمع صلاحا في عقيدته، وتحقيقا لإيمانه قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) .
__________
(1) سورة النساء الآية 65(77/321)
فالمجتمع المحكوم بشرع الله أقرب إلى التمسك بالدين والمحافظة عليه والتمسك بثوابته، وعدم الانحراف عنه، وكلما كان المجتمع محكوما بالشرع متحاكما إليه، قلت فيه دواعي الانحراف وأسبابه. وإن كان ذلك لا يختفي مطلقا، ولكن تكون نسبته أقل، كما هو الشأن في عصر علي رضي الله عنه حيث ظهرت الخوارج والرافضة، مع أن المجتمع كان محكوما بالشرع ومتحاكما إليه.
إذ المجتمع المسلم المحكوم بالشرع لا يسمح بالدعوة إلى العقائد الضالة والمذاهب المنحرفة، والفكر المناوئ للحق والمعادي له، فيقل تبعا لذلك من يبحث عنها ويعتنقها.
وكذلك مصادر هذه الأفكار والعقائد تكون معدومة أو لا يتسع نطاق تداولها فيقل تبعا لذلك التأثر بها.
ويبدو مثالا ظاهرا في هذا العصر وشاهدا على هذه الحقيقة مجتمع المملكة العربية السعودية نموذجا حيا لهذا النوع من المجتمعات التي تقل فيها الأفكار المنحرفة، وإن لم تكن معدومة. وذلك بسبب منع الدولة للأفكار المنحرفة والمذاهب الضالة مما انعكس إيجابا على الواقع الفكري بشكل عام وذلك إلى وقت قريب.
وقد يقول قائل ألم تجد الأفكار الضالة طريقها للشباب في(77/322)
هذه البلاد سواء في فترة الثمانينات الهجرية حين كانت الأفكار الاشتراكية والشيوعية والبعثية والقومية تجد رواجا بين بعض شباب المملكة؟
أو أفكار الغلو والعنف التي تأثر بها بعض شبابنا في هذه الأوقات والتي نتج عنها القيام بأعمال التفجير والقتل؟
فأقول: إن هذه الأفكار التي تسربت إلينا من البلاد الأخرى لم تصبح سائدة ولا منتشرة على نحو عام، بل إن متلقيها والمتأثرين بها قلة، بالنسبة لمجموع سكان هذه البلاد.(77/323)
المطلب الثاني: بناء المساجد وإقامة شعائر الله
بناء المساجد والعناية بها من أسباب الوقاية من الانحراف الفكري إذا أقيمت رسالة المسجد على الوجه المطلوب، فإن خطبة الجمعة، ودروس العلم في المسجد، والكلمات التي تلقى أدبار الصلوات لها أبلغ الأثر بإذن الله في حفظ المجتمع ووقايته من الفكر المنحرف، وكان المسجد في العهد النبوي مصدر الاعتقاد الصحيح والفكر السليم، وفي نفس الوقت قلعة التحصين تجاه الاعتقادات الباطلة والأفكار المنحرفة، ففيه تتلى آيات الله التي تبين زيف شبهات اليهود، وشكوك المنافقين. ولا يزال المسجد المكان المناسب حقا للتصدي للفكر المنحرف وكشف زيفه وإزهاق باطله لثقة المسلمين بعلمائهم وأئمتهم. ولذا كان واجبا على المسلمين، سيما أهل العلم والسلطة العناية برسالة المسجد، وتفعيل دوره بالدروس، والدورات،(77/323)
والكلمات والبرامج النافعة، باستمرار وتجديد.(77/324)
المطلب الثالث: إزالة مشاهد الشرك والبدع
ومن أساليب الوقاية من الانحراف الفكري إزالة مشاهد الشرك والبدع، إذ من المجرب في الواقع أن إزالتها تضعف التعلق بها وتزيل تأثيرها في النفوس، ولذا جاء الأمر بطمس الصور وتسوية القبور المشرفة، وقد حرص علماء السنة على فعل ذلك إذا وفقوا بسلطة تعينهم على إزالتها.
ويعد ما قام به أئمة الدعوة في نجد من إزالة القباب على القبور، وتسويتها من الأعمال التي قللت التأثر بها في البيئة التي خضعت لسلطان دولة الدعوة، وأدت إلى نسيانها بعد ذلك.(77/324)
المطلب الرابع: منع الاحتفالات المبتدعة
إن الاحتفال بالمناسبات البدعية من عوامل استمرار الانحراف الفكري لأن كثيرا من هذه الاحتفالات، كالاحتفال بموالد الأنبياء والأولياء لا تخلو من انحرافات عقدية كالاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستغاثة بالأولياء والصالحين، وتداول الخرافات، والأحاديث الموضوعة، وغير ذلك من أنواع الانحراف. فمنع إقامة هذه الاحتفالات وبيان بدعيتها وبطلان مستندها، مما يضعف عوامل الانحراف الفكري بالتدريج. وقد أكد كثير من علماء الإسلام على بدعية هذه الاحتفالات ونبهوا لما فيها من خطر على الدين وما(77/324)
يحدث في بعضها من خطر على الأخلاق والقيم كموالد من يسمونهم الأولياء.(77/325)
المطلب الخامس: حماية المجتمع من المؤثرات الداخلية والخارجية
يرى بعض الباحثين والكتاب أن هذا العصر ليس عصر الحجب والمنع، لإمكان الناس أن يتجاوزوا طرق الحجب والمنع، وأن كل ممنوع مرغوب وهذا القول له جانب من الصحة في الواقع، لكن لا يصح العمل به وتقريره مطلقا، لأن ما حرمه الله من المحرمات وما يؤدي إليها يجب التزام تحريمه ومنعه، كالدعوة للإلحاد والكفر وتزيينه للناس، أو الدعوة لتعاطي المؤثرات الضارة كالمخدرات، فلا وجه لقائل أن يقول إن المنع سيؤدي إلى تتبع الناس لها، وإن كان بعض هذا قد يكون صحيحا، لكن هذا ينسحب على كثير من المحرمات والممنوعات. فلا تسوغ الدعوة لترك المحرمات بمثل هذا القول الباطل.
وإذا كان بعض الناس قد يتجاوز الممنوع ويتمكن من الحصول عليه، فليس هذا حجة لإباحته والسماح بتداوله.(77/325)
المطلب السادس: القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يتصور بعض الناس أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يختص بالأمور العملية، وهذا فهم قاصر لهذا المبدأ العظيم، ففي مجال العقيدة والفكر للأمر والنهي مجاله، فقد ورد النهي عن التفكر في ذات(77/325)
الله، وورد النهي عن الاستمرار في التساؤل عن الخلق، في حديث عروة بن الزبير قال أبو هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك، فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته (1) » ، وهذا دليل على أن جانب الاعتقاد والفكر يتناوله الأمر والنهي، ولذا فإن انتشار الأمر بالحق والنهي عن الباطل من المعتقدات والأفكار يقلل من الانحراف عن الحق والتأثر بالباطل وأهله.
ومما يدخل في ذلك النهي عن القراءة في كتب الباطل والضلال، ولا سيما من قبل من يخشى عليهم التأثر بها ممن قل علمه وتمييزه.
وقد نهى الأئمة عن كل ما يؤدي إلى فساد الاعتقاد وضلال الفكر، ومن ذلك نهي الأئمة عن علم الكلام. ومخالطة أهل البدع والضلالات. فالعمل بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سبيل المؤمنين، وهو سفينة النجاة للمجتمع المسلم من الانحراف بأنواعه بإذن الله.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده 3034.(77/326)
المبحث الثاني: الأساليب الوقائية للوقاية من الانحراف وفيه أربعة مطالب وهي:
المطلب الأول: العناية بتأصيل ونشر العقيدة الصحيحة في مختلف مجالات التوجيه. إن العناية بتأصيل وترسيخ العقيدة الصحيحة(77/326)
في نفوس أبناء المسلمين من أعظم وسائل الوقاية من الانحراف الفكري ومن طرق ذلك:
أ- العناية بتفسير القرآن الكريم وبيان معانيه على نحو يراعي مستوى الدارسين بحسب المراحل العمرية، إذ من المعلوم عناية المسلمين في كثير من البلاد الإسلامية بتحفيظ أبنائهم القرآن الكريم، حتى في البلاد التي لا يتكلم أهلها اللغة العربية، وهذا شيء محمود، إلا أن العناية بفهم القرآن وتدبره ضعيفة جدا إن لم تكن معدومة، وقد التقيت بعدد من أبناء المسلمين في بعض دول إفريقيا وآسيا ممن يحفظ بعضهم القرآن كاملا، أو كثيرا من سوره، وبسؤالهم عن بعض المعاني وجدتهم لا يفقهون شيئا منها البتة، وهذا ولا شك قصور في هذا التعليم الذي يتلقونه إذ لا يتأثرون بهذا القرآن، ولا يتربون على ما فيه من الاعتقاد والعمل، وهذا موجود حتى في الدول العربية أيضا، وهذا ولا شك أمر يحتاج إلى نظر ومراجعة لتغيير طريقة تعليم القرآن الكريم، لأن الطالب إذا لم يفهم القرآن الكريم ويتدبره ويفهم ما فيه من العقيدة الصحيحة فإنه لن يكون مؤثرا في مناعته وحصانته إزاء دعاة الباطل والضلال.
2 - العناية بتدريس العقيدة الإسلامية القائمة على التوحيد الخالص من شوائب الشرك والبدع والخرافات، وتعميق وترسيخ هذه العقيدة بشتى السبل العلمية لأن المسلم ذا العقيدة الصحيحة سد(77/327)
منيع أمام دعاة الانحراف الفكري، ومنهم دعاة التنصير وغيره من العقائد الفاسدة، ومما يؤكد ذلك في الواقع أن المنصرين في دول الخليج بالرغم مما بذلوه من جهود وأموال ووقت طويل في محاولات التنصير، لم ينجحوا في تنصير عدد يكافئ الجهود التي بذلوها والمال الذي أنفقوه، إذ يذكر المؤرخون المتابعون لحركة التنصير أنه لم يتنصر في منطقة الخليج بأسرها سوى أربعة أشخاص، غير أن أحد الباحثين في هذا المجال ذكر عددا أكبر لمن تنصروا في البحرين وحدها منذ بداية عمل المنصرين فيها في نهاية القرن الثالث عشر الهجري إلى وقت كتابة البحث عام 1414 هـ حيث ذكر سبعة عشر فردا بين نساء ورجال غير أن معظمهم من اللقطاء الذين ربتهم الكنائس وهم صغار، وبعضهم من النساء الجاهلات الفقيرات جدا احتجن لمعونة المنصرين وتابعنهم على دينهم (1) ، مقارنة بما بذل من جهود كبيرة استمرت لأكثر من نصف قرن، وسبب ذلك وضوح العقيدة وسلامتها لدى السكان، بينما لاقت الجهود التنصيرية نجاحا واضحا في البلاد التي يكثر فيها الجهل بالدين مثل بعض الجزر الإندونيسية التي يغلب على أهلها الجهل بالعقيدة الصحيحة، ويكون
__________
(1) إبراهيم الخدري، التنصير في البحرين ج 2 ص 420 - 423.(77/328)
انتسابهم إلى دين الإسلام انتسابا شكليا، وينبغي أن يكون هذا التعليم للتفسير والعقيدة شاملا لكل مجالات التوجيه والتعليم ومن ذلك المساجد، والمدارس، والوسائل الإعلامية، ودور النشر.
حماية الأطفال من المؤثرات الفكرية السيئة:
من صور التأثير السلبي على الأطفال التأثير عبر الألعاب الإلكترونية التي انتشرت بكثافة وتنوع وإغراء شديد للناشئة ذكورا وإناثا.
ولم يكتف صانعو تلك الألعاب ومصدروها بالتأثير على السلوك العملي للأطفال عبر ألعابهم بل انتقلوا إلى مرحلة أكثر خطورة حينما اتجهوا للتأثير على الفكر والمعتقد. وعلى سبيل المثال (فقد لفت نظر أبوين متابعة ولدهما للعبة من تلك الألعاب بشغف أدى إلى شبه عزلة لأكثر من يوم، وحين أعلن الولد بصوت عال فوزه في اللعبة توجه والداه إلى الشاشة لمشاهدة ما تم إنجازه، وإذا بالنتيجة تصيبهم بصدمة شديدة، فقد وجدوا نتيجة لم تكن ضمن حساباتهم، قلعة كبيرة جدا، ارتفع فوقها عدد كبير من الصلبان، وقصاصات الورق الملون تنزل من السماء بكثافة إعلانا للنصر الكبير الذي أحرزه هذا الفتى المسلم، وهو رفعه لراية الصليب عاليا، وعبارة في الأسفل كتبت باللغة الإنجليزية بشكل ملون وجميل تقول له بكل امتنان: أنت فائز، لقد ربحت، لقد وصلت إلى الهدف) .(77/329)
لكن الحقيقة أن أصحاب هذه التقنية هم الذين وصلوا إلى الهدف، الذي سعوا هم لتحقيقه سنوات طويلة، حققوه من خلال فلذات الأكباد، ارتفع الصليب حقيقة في كثير من البيوت المسلمة، قد لا يكون ارتفاعه ملموسا في البيوت ولكن رفع النشء له من خلال الألعاب الإلكترونية له دلالات خطيرة، فقد تكون غفلتنا عن تفسيرها تعطيها شيئا من البساطة، ولكن السبب الذي جعلهم يروجون لمثل هذه الألعاب والنتائج دون غيرها يعطينا دافعا قويا للبحث الجاد في الأسباب والملابسات ومن ثم النتائج، فالمجال واسع أمامهم لصنع ألعاب أخرى في أي شيء آخر، ولكنهم يريدون هذه اللعبة بالذات، ويريدون الوصول إلى هذه النتيجة تماما، ويعملون على غرس مبادئ معينة في النفوس تسهم بشكل كبير في توصيل أفكارهم إلى أبنائنا بالرغم من كل شيء.
وهذه الألعاب الإلكترونية التي غزت أسواق المسلمين بأفكارها الخطيرة تحتاج إلى وقفة صارمة من الجميع، ويجب أن تتكاتف الجهود للوقوف أمام غزوها لعقول أبنائنا، حيث إن المسؤولية منوطة بعدة جهات وليست جهة واحدة، ولنذكر الجهات على حسب تسلسل المسؤولية:
أ- الجهات الرقابية المشرفة على التجارة والاستيراد: ومهمتها أن تضع مواصفات وشروطا لاستيراد الألعاب ينص فيها على منع الألعاب ذات المضامين المفسدة للعقيدة والأخلاق.(77/330)
ومن المعلوم أن ثمة منظمات خارج العالم الإسلامي ترفع قضايا ضد الشركات المصنعة تصل أحيانا إلى تعويضات بملايين الدولارات، خاصة عندما يتضرر أبناؤها من أفكارها، وطريقة تصميمها (1) .
فكيف لا يعنى المسلمون بما يؤثر على أبنائهم، ويدفعون الضرر الناتج عن هذه الألعاب وذلك بمنع دخول الألعاب التي تروج للعنف، أو تتضمن دعوة أو تحسينا لأفكار اليهود والنصارى، أو غيرهم من أصحاب العقائد المنحرفة والأفكار الضالة، أو التي تربي النشء على مظاهر العري والانحلال.
ب- دور الوالدين يأتي الدور الأهم وهو دور الأب الذي يجب عليه أن يكون متابعا لما يشتريه ابنه، حيث يكون عونا له - بعد الله - على الانتقاء بشكل يوفر له بعض المتعة، ويبعد عنه كثيرا من الشرور.
ج- المربين الأفاضل من معلمين وموجهين، حيث إن لكلامهم تأثيرا قويا على الأبناء، خاصة عندما يتحدثون عن الأضرار التي يتعرض لها الطلاب من جراء البقاء ساعات طويلة أمام الكومبيوتر للعب، فهناك أضرار صحية، وأضرار أخرى أكثر أهمية وهي إضاعة أوقات ثمينة من حياة الإنسان المسلم، بالإضافة إلى تلقي كثير من الأفكار، ورؤية صور تؤثر على دين المرء دون أن يشعر.
__________
(1) قبل أن يرفع أبناؤنا الصليب هيا الرشيد، مقال منشور بموقع الإسلام اليوم، بتاريخ 19\4\1425 هـ.(77/331)
د- دور الإعلام فله أثر مهم في هذا المجال فقد يكون الآباء والمعلمون في غفلة عن المخاطر، ودور الإعلام هنا الحديث عنها لبيان الطريقة المناسبة للتعامل مع هذه المشكلة، والعمل الذي يجب أن يقوم به كل مسئول حسب قدرته، وقد يكون للحديث عن الأثر السلبي الذي يعود على النشء من جراء هذه الألعاب هو الطريق الأمثل لإقناع الآباء والمعلمين بخطورة الوضع، وأهمية التصدي لهذه الظاهرة.(77/332)
المطلب الثاني: منع المبطلين من نشر مذاهبهم الضالة وعقائدهم المنحرفة والتحذير منها والرد على أصحابها:
لا ريب أن من عوامل سلامة المجتمع المسلم من الانحراف الفكري، سلامته من دعاة الضلال والانحراف، ذلك أن وجودهم وكثرتهم وإتاحة الفرصة لهم لنشر ضلالاتهم وانحرافاتهم مؤذن بالخطر، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم منهم ووصفهم بأنهم دعاة على أبواب جهنم. فمنعهم من نشر مذاهبهم المنحرفة وآرائهم المشككة، وشبهاتهم المضللة من أعظم العون على الثبات على الحق.
وإن كان هذا يكاد يكون شبه معدوم في هذا الوقت الذي تكالبت مضلات الفتن على المجتمعات المسلمة من داخلها وخارجها عبر القنوات الفضائية المتعددة والمتنوعة. وهو ما تعتذر به الجهات المسئولة في البلدان المحافظة وتنفي به إمكان المنع أو السيطرة. غير أننا نلاحظ أنه حينما يكون الأمر متعلقا بمؤثر سياسي فإن أمر المنع والحجب يتيسر بكل سهولة؟!(77/332)
ولعل من طرق نشر البدع والضلالات في هذا الوقت عبر القنوات الفضائية، البرامج الحوارية التي تستهدف جذب المشاهدين وإثارتهم عن طريق " المناظرة في قضية ما بين اتجاهين متعاكسين في المبدأ والفكر والرأي، حيث يؤتى بسني وبدعي، وإسلامي وعلماني، فتلقى الشبه على الناس على شكل حوار يخيل للمشاهد أنه مثمر هادف يثري المشاهد بالمعلومات والمعارف، فيشككون في العقيدة والشريعة بطريقة عجيبة ملتوية، فيها إثارة واستمتاع للمشاهد.
وليست الخطورة في هذا الأمر، فإن الذرة لا تجر الصخرة، والحق لا يخشى الباطل بل يدمغه فإذا هو زاهق، ولكن البلية والرزية تكمن في أمور وراء ذلك، من أدركها وعلم غورها أدرك خطورتها. فمن ذلك: أن الشخصية الإسلامية المختارة قد تكون ليست مؤهلة شرعيا لهذه المناظرة فينقصها العلم بالشريعة أصولا وفروعا، وينقصها العلم بحال المناظر ومعرفة زيف معتقده وضلال منهجه، وقد تفتقر هذه الشخصية إلى الفصاحة والبيان والحجة الدامغة (1) ، وقد كان السلف ينهون عن المناظرة، إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل (2) ، ويشتد الأمر خطورة في أنه قد يواجه شخصية منحرفة متمرسة على إلقاء الشبه، وتجيد فن
__________
(1) مبارك عامر بقنة، اتجاهين متعاكسين، مجلة البيان، عدد 140 ص 128.
(2) ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، 7\173.(77/333)
المراوغة واللعب بالألفاظ. قال علي بن حرب الموصلي: كل صاحب هوى يكذب ولا يبالي (1) ، فيظهر الحق باطلا، ويقلب الباطل حقا، فيضل الناس ويضل.
ومن أخطار هذا النوع من البرامج: أن فيها ترويجا للبدعة والشبه الشيطانية، فيسمعها الناس فيزينها الشيطان في قلوبهم، وينميها في عقولهم، وقد لا يجدون من يبين لهم فساد هذه الشبه وبطلانها، فتتعلق بأفئدتهم فيتشربونها لجهلهم بدينهم، فيفسد القلب. وقد ذكر الغزالي في خطر مناظرة أهل البدع والكلام بما فيها من: إثارة الشبهات، وتحريك العقائد، وإزالتها عن الجزم والتصميم، وذلك مما يحصل في الابتداء، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه.
وله ضرر آخر وهو تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة وتثبيتها في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم، ويشتد حرصهم على الإصرار عليها. ومن المحال لمن عاش في دهاليز الظلمة والحيرة أن يحصل من كلامه الهدى واليقين، فما عندهم إلا لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى، فأقوالهم تسقم القلب، وتقتل السنن وتزاحمها، فالشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل للسنن (2) .
__________
(1) المعلمي، التنكيل. كلا في تأنيب الكوثري من الأباطيل 1\44.
(2) الغزالي، إحياء علوم الدين 1\136.(77/334)
فهذه البرامج وأمثالها ما هي إلا باب لترويج البدعة، وتشكيك دهماء الناس فيما عندهم بأسلوب المكر والحيل مدعين أن هذه " حرية الفكر " فلا نحجر على الناس عقولهم، فكل شخص يأتي بما عنده ويناقش ويجادل، وليس في هذا مخالفة شرعية، فما على من أراد أن ينشر الفساد ويضل الناس إلا أن يلبسه ألفاظا مزخرفة فيجعله تحت مسمى: " حرية الفكر " أو " الحرية الشخصية " وما أشبه ذلك من ألفاظ.(77/335)
المطلب الثالث: بيان وكشف العقائد والمذاهب الباطلة والأساليب المسببة للانحراف الفكري والتصدي لها:
يعد التحصين الفردي تجاه صور الانحراف الفكري ووسائله ومسبباته أهم سبل الوقاية من الانحراف، وكما سبقت الإشارة لذلك فيما مضى.
ولعل من سبل التحصين المؤثرة الفاعلة دحض الضلالات الفكرية، وكشف الشبهات وتعرية المذاهب الباطلة، وكشف ريف العقائد الضالة. وذلك ببيان لا يدع شبهة إلا كشفها، ولا حجة إلا أجاب عنها. ولنا في كتاب ربنا القرآن الكريم أسوة فقد حكى العقائد الضالة وبين المذاهب الباطلة، ودحض حججها، وكشف زيفها.(77/335)
المطلب الرابع: التصدي لوسائل التأثير الفكري النظرية والعملية:
الوسائل التي تتم بها عملية التأثير الفكري السلبي متنوعة(77/335)
ومتعددة ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
الأول: وسائل التأثير النظرية والمقصود بها الكتب والنشرات والصحف والمجلات.
والثاني: وسائل التأثير العملية: والمقصود بها تحرك المبطلين للدعوة لمذاهبهم عمليا عبر الاتصال الشخص والحوار والجدل والتدريس وغير ذلك من الوسائل كالتطبيب وأعمال الإغاثة.
وإذا أخذنا التنصير كنموذج تطبيقي فإن من المعلوم أن للنصارى جهودا مكثفة في هذه المجالات حققوا بها نجاحا في بعض البلاد الإسلامية التي يغلب عليها الجهل، فكيف يمكن التصدي للفكر التنصيري وما يسعى لنشره من عقائد باطلة وأفكار مضللة تجاه دين الإسلام؟
إن أمامنا مجالا رحبا للعمل المتنوع للتصدي والمواجهة ومما يمكن اقتراحه في هذا المجال:
في مجال الإعلام والتوجيه:
المواجهة الإعلامية وأهميتها في التحصين الفكري:
إن توجه أصحاب الأديان المحرفة والفرق المنحرفة والمذاهب الضالة إلى امتلاك القنوات التلفزيونية والإذاعية وتوجيهها لشتى بقاع العالم الإسلامي عبر البث المباشر بقصد زعزعة عقيدته وردة أهله عن دينهم، يوجب ولا ريب البحث عن وسائل الوقاية وطرقها، لا سيما(77/336)
مع تصدر البث الفضائي وهيمنته على وسائل التأثير والتربية من خلال الأسرة والمدرسة ومكان العبادة، ومع تطور طرق ووسائل هذا البث وتجدد أجهزته مما يحول دون التحكم فيه بالمنع أو التصفية، وما يتوقع من تأثير سيئ لهذه القنوات على ناشئة المسلمين في الجانب الفكري، ومن صور ذلك في الواقع المعاش ما تبثه بعض تلك القنوات دعايات نصرانية صريحة أو مستترة، وما يبثه بعضها من أرقام هاتفية للكهانة، وما أجرته بعضها من مقابلات ولقاءات مع بعض السحرة، وما تبثه بعضها من برامج تشكك في بعض مسائل العقيدة الإسلامية، فإن مما يقترح للحماية من هذه الوسيلة على مستوى الأفراد والمؤسسات:
1 - توسيع النشاط الإعلامي الإسلامي عن طريق طباعة الكتب والأشرطة والكتيبات والنشرات بشتى اللغات ولكافة الطبقات والمستويات وفي جميع الموضوعات بل وشراء واستئجار الإذاعات والتلفزة للدعوة لدين الإسلام.
2 - توعية المسلمين بخطر التنصير على مستوى العامة ومن ذلك مثلا:
- إعداد الخطب عن طرق التنصير بين المسلمين ووسائله الجديدة.
- إعداد مطويات مختصرة بلغات شتى عن التنصير وخطره.
دعوة بعض المتهمين بموضوع التنصير إلى لقاءات مع الطلاب(77/337)
ومع المثقفين ومع أساتذة الجامعات ومع عامة المسلمين لبيان مخططات النصارى، ويضاف إلى ذلك إعداد المقالات والملاحق الصحفية عن هذا الموضوع.
من وسائل الدفاع والوقاية المهمة (الهجوم) ومن طرق ذلك بيان ضلال النصارى وفساد معتقدهم في موقفهم من حقائق العلم بوسائل وطرق متعددة، منها على سبيل المثال: إعداد فيلم أو برنامج حاسوبي يحكي قصص محاكم التفتيش وتعذيب رجال الدين النصارى لمخالفيهم في الرأي، وموقفهم من العلم والمنتسبين إليه ويمكن أن يوجد بالفعل أفلام غربية تحكي ذلك فترويجها ونشرها مع الترجمة والتعليق يعطي صورة حقيقية لدين النصارى المحرف وممارسات رجال دينهم الإجرامية المؤلمة.
وفي مجال التعليم يمكن اتخاذ الخطوات التالية:
1 - تيسير المنح الدراسية للطلاب المسلمين في الجامعات الإسلامية مع الحرص على تأهيلهم ليعودوا دعاة إلى الله عز وجل من خلال جهد دعوي مكثف.
إن مما يؤسف له أن ينجح النصارى في استقدام أعداد كبيرة من أبناء المسلمين ويربوهم بل وينفقوا عليهم من حساب الكنيسة في حين أن أهل الجامعات الإسلامية في الدول القادرة لا يستقبلون من هؤلاء إلا القليل وحتى الحالات التي يستقبل فيها بعض هؤلاء الطلاب فإنهم لا يلقون العناية اللازمة.(77/338)
2 - تأسيس الكليات والمعاهد والمدارس الأهلية الخيرية التي تعنى بالتربية الإسلامية ولا سيما في البلاد التي تفتقد ذلك وإعداد الأجيال إعدادا صحيحا وتخريج الدعاة إلى الله تعالى مع العناية بالمستوى العلمي والأكاديمي الذي تظهر به هذه المدارس. إن من الملاحظ أن الكثير من أولاد الأكابر والمسئولين يذهبون إلى الكليات والجامعات والمدارس الأجنبية في كثير من بلاد المسلمين بحجة أن هذه المدارس أكثر كفاءة وأنها تتوفر فيها الوسائل التعليمية والمختبرات ووسائل الترفيه ما لا يتوفر في غيرها وهذه الأمور ليست حكرا على طبقة بعينها بل يمكن أن تتوافر في مدارس إسلامية خيرية أهلية وتكون محاضن لأولاد المسلمين.
وفي المقابل يجب:
ضبط إنشاء المدارس الأجنبية في بلاد الإسلام، وفي حالة افتتاحها فيجب إخضاعها للرقابة الصارمة والإشراف المستمر من الجهات التعليمية، والحيلولة دون دخول أولاد المسلمين إلى تلك المدارس، ومنع تلك المدارس والقائمين عليها من كل ما يخالف الإسلام كالرقص والاختلاط والملابس الفاضحة والاحتفال بالأعياد البدعية والشركية، وضرورة تخصيص دروس في هذه المدارس للإسلام يتولاها الأكفاء، مع العناية بالمناهج والكتب في هذه المدارس لئلا تتضمن طعنا في الإسلام أو تشويها لحقيقته، أو الدعوة لما يضاده.(77/339)
ومما يقترح الأخذ به في مناهج التعليم الخاص بالمسلمين:
1 - تعزيز التربية الإيمانية في سن الطفولة والمراهقة المبكرة بطرق تربوية تعتمد الإقناع، لترسيخ حقائق الإيمان وتثبيتها في النفوس، وبث روح البغض والنفرة مما يناقض دين الإسلام من المعتقدات والأفكار والعبادات والسلوكيات والأشخاص والدول، وذلك ما دام النشء في مرحلة التأثير الممكن وسيطرة الأسرة وتوجيهها، كما أن بث روح التوجس مما يدعو إليه الكفار في نفوس الناشئة، وتعزيز ذلك ببيان ما فعله الكفار بالمسلمين من الأذى والتعذيب والقتل على مر العصور يوجد شيئا من الحصانة في نفس الناشئة تجاه ما يأتي من الكفار.
2 - العناية بطبع ونشر الكتب الإسلامية المتخصصة في كشف ضلالات النصارى في دينهم، وخاصة الكتب المختصرة، وتوزيعها ونشرها بين المسلمين وخاصة الذين يحتكون بالنصارى في أماكن العمل.
3 - توعية المبتعثين للدراسة أو العمل في الدول النصرانية بالمخاطر الدينية والفكرية المتوقعة ووسائل أهل الأهواء في نشر مذاهبهم (1) .
4 - اعتماد المنهج التربوي القائم على الحوار والمصاحب وبيان الحقائق للناشئة، والاستفادة من وسائل الإعلام في ذلك.
__________
(1) سبل مواجهة التنصير مقال في مجلة الفرقان.(77/340)
كما أن من المهم أن تنشأ في كل بلد إسلامي:
لجنة أو جمعية لدراسة موضوع التنصير ومتابعته وإعداد الدراسات والتقارير بشأنه وحفظ الوثائق المعلقة به وإصدار النشرات الدورية التي تلاحق كل جديد في هذا المجال.
2 - أن تتبنى منظمة المؤتمر الإسلامي، أو رابطة العالم الإسلامي الدعوة إلى قيام مؤتمر إسلامي عالمي عام يناقش موضوع التنصير ويكون دوريا سنويا أو كل أربع أو خمس سنوات يناقش موضوع التنصير من جميع جوانبه وتقدم فيه الدراسات والبحوث والاقتراحات (1)
وعلى مستوى الدول التي لا يوجد بها مواطنون نصارى يمكن إصدار أنظمة صارمة تتعلق بالجرائم الماسة بدين الإسلام، تتضمن عقوبات رادعة لمن يمارس أعمال التنصير في البيئات الإسلامية، وقد يكون هذا في المستقبل مما يتعارض مع الاتفاقيات الدولية، وقد يحتج النصارى بسماحهم للمسلمين بالدعوة في بلادهم، وهنا يكون بتخصيص لجان فاعلة لمتابعة الأعمال التنصيرية والتصدي لها مباشرة وتقديم التوعية والإرشاد لمن يستهدفهم النصارى بالدعوة. والجد في نشر الكتب والنشرات، والأشرطة
__________
(1) سلمان العودة، التنصير، بحث منشور بموقع صيد الفوائد.(77/341)
الكاشفة لفساد دين النصارى، والاستفادة من النصارى الذين أسلموا ولا سيما من كان منهم رجل دين لبيان ما عليه النصارى من ضلال وفساد في الاعتقاد، وذلك في محاضرات ودروس ولقاءات عامة، وبرامج إعلامية متنوعة، مقروءة ومسموعة ومشاهدة.
4- العناية بتوعية الجاليات المسلمة بدينها، وتقوية ارتباطها به عبر برامج منظمة مستمرة تقطع الطريق أمام المنصرين.
5- منع استقدام المربيات النصرانيات في البيئات الإسلامية الخالصة وتوعية الحريصين على استقدامهن من الوجهاء والمسئولين الكبار والتجار بخطر أولئك المربيات، وتأكيد الاعتماد على المربيات المسلمات دون غيرهن.(77/342)
الخاتمة:
من أبرز نتائج هذا البحث:
تميز المنهج القرآني في حماية المجتمع المسلم بالشمول المتمثل بتأصيل العقيدة الصحيحة لتأسيس الفكر السليم، وكشف الشبهات.
يستفاد من فعل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي أمرنا باتباع سنته شأنه شأن الخلفاء الراشدين الثلاثة، أن لولي الأمر المسلم الحق أن يمنع من يخشى أن يحدث قوله وفكره انحرافا فكريا على المسلمين.
وربما كان من أسباب استقرار المجتمع المسلم في عهد هذا الخليفة(77/342)
الراشد وعدم وجود حركات الخروج والتمرد والانحراف الفكري هو شدة عمر رضي الله عنه في الحق، وتلافيه لبوادر هذه الشرور من بداياتها.
مواجهة التنصير وغيره من الدعوات المضللة والأفكار الهدامة تكون بالحرص على التحصين الذاتي ونشر العقيدة الصحيحة، وبث العلم الشرعي.
وفي ختام هذا البحث أسأل الله عز وجل أن ينفع به، وأن يعفو عن التقصير والزلل إنه عفو كريم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
صفحة فارغة(77/343)
صفحة فارغة(77/344)
عمل المرأة والاختلاط
وأثره في انتشار الطلاق
لفضيلة الدكتور عثمان جمعة ضميرية.
مقدمة:
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فقد قضت حكمة الله تعالى وإرادته: أن تكون الزوجية هي قاعدة بناء الكون كله، فقال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} (1) وقال سبحانه: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (2) وهكذا كانت الإنسانية - كذلك - زوجين اثنين، ذكرا وأنثى، بهما يتم حفظ النوع واستمرار البقاء في هذه الحياة، للقيام بأعباء الخلافة في الأرض وعمارتها وفق منهج الله، وتحقيقا لغاية الوجود الإنساني في التوحيد والعبادة ...
__________
(1) سورة يس الآية 36
(2) سورة الذاريات الآية 49(77/345)
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) .
ولا تستقر حياة البشرية والمجتمع البشري، ولا تستقيم أمورهما، ما لم يكن هناك نظرة صحيحة مستقرة عن العلاقة بين الذكر والأنثى ووضع كل منهما ومكانته.
__________
(1) سورة الروم الآية 21(77/346)
نظرة الإسلام إلى المرأة:
وقد عني الإسلام بتصحيح النظرة إلى المرأة وبإقامة العلاقة بين الجنسين على أساس من حقائق الفطرة التي فطر الله تعالى الإنسان عليها، فقد عني ببيان وحدة الزوجين وتساويهما من الناحية الإنسانية والكرامة الآدمية، فقال الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (1) .
وعني ببيان وحدة الزوجين وتساويهما من حيث العلاقة بربهما وجزائهما عنده، فقال سبحانه وتعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 1
(2) سورة آل عمران الآية 195(77/346)
وعني أيضا: ببيان نوع الصلة بين شقي النفس الواحدة، وعني بتنظيم الصلة بين الجنسين في كل أحوالها وأطوارها، وقد ركب الله سبحانه وتعالى كلا من الرجل والمرأة تركيبا يتفق مع طبيعة الوظيفة التي أعده للقيام بها، كما جعل في كل واحد منهما دافعا فطريا عميقا يدفعه إلى اللقاء بالآخر ويجذبه إليه، ونظم الإسلام هذا اللقاء، ولم يتركه للفوضى ونوازع النفس الأمارة بالسوء، ولا نهبا للعواطف الثائرة، ولا فريسة للهوى والشهوة الجامحة، ولذلك شرع الزواج طريقا يتم به إشباع الحاجة الجسدية والنفسية عند كل من الزوجين، فكل منهما يحتاج إلى الآخر حاجة فطرية ضرورية، كحاجته للباسه الذي يستره ويحفظه من عوادي الطبيعة وفضول النظر، وكحاجته للسكن الذي يأوي إليه ويأنس فيه (1) ، قال الله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (2) ...
كما عني الإسلام أيضا: ببيان الحقوق والواجبات المتقابلة بين أطراف الأسرة، وقواعد العلاقة والتعامل بين أفرادها، تحقيقا للعدالة والحق الذي قامت به السماوات والأرض: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3) وربط ذلك كله بالعقيدة والإيمان، وجعل تقوى الله
__________
(1) انظر: تفسير البغوي: 1\168، طبعة دار طيبة بالرياض.
(2) سورة البقرة الآية 187
(3) سورة البقرة الآية 228(77/347)
تعالى ومراقبته ضمانا للالتزام بهذه الواجبات، والقيام بها ورعايتها، وعدم الإخلال بمقتضياتها؛ ولذلك فإن كل واحد منهم ينصف من نفسه ويقوم بواجبه قبل أن ينتصف من الآخر، وقبل أن يطالب بحقه، بعيدا عن الإضرار والتعسف والجور: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 231(77/348)
الأسرة ضرورة فطرية نفسية واجتماعية:
ومن هنا كان نظام الأسرة ضرورة فطرية تلبي حاجة نفسية(77/348)
عميقة في نفس الإنسان، وتنظيما اجتماعيا مدنيا للمساعدة في تربية الطفولة البشرية الممتدة امتدادا زمنيا لا نجده في غيرها من أنواع الحياة والأحياء، ولذلك أعلى الإسلام من مكانة الأسرة، واهتم بها اهتماما بالغا: في نشأتها وتكوينها، وفي العناية بها والرعاية بعد قيامها، وفي معالجة ما قد يطرأ عليها مما يعكر صفو العلاقة بين أفرادها، ويكاد يأتي عليها فيفصم عراها المتينة، فشرع من الأحكام ما يكفل لها القيام على أسس قوية متينة، ويضمن لها الاستقرار والقيام بأداء الوظيفة المنشودة منها، ثم حاطها بالرعاية والوقاية من أسباب الشقاق والتصدع، فإن هاجت الأعاصير، وهبت العواصف في وجهها، فإن الوفاء لهذا الركن الاجتماعي يدعو إلى اختيار العلاج الناجع بعد تشخيص دقيق للداء، وبعد معرفة أسباب الانحراف الذي يميل بهذه الأسرة عن الجادة أو يعصف بها ويزعزع أركانها.(77/349)
الواقعية والمثالية في نظام الأسرة:
والإسلام، وإن كان يدعو إلى المثالية والكمال بدرجاته العليا، فهو أيضا: دين واقعي، يتعامل مع الواقع ولا يكلف الناس من أمرهم عسرا، ولا يتجاهل نوازع الضعف والانحراف والشذوذ الذي يقع.
ومن واقعيته: أنه لا يتجاهل ما قد يكون بين الزوجين من خلاف أو نشوز، فإن طبيعة الحياة والعلاقات المتشابكة والمصالح المتضاربة المتناقضة، والنفوس بما جبلت عليه، قد تدعو إلى الخلاف والنفور.(77/349)
ولكن: ليس معنى ذلك أن يسارع الزوج إلى فصم عرى الزوجية لأقل الأمور وأيسر الأسباب، أو لجموح الشهوات العارضة، فهو لم يرغب في الطلاق، وإنما نهى الزوج عن المسارعة فيه، وجعله «أبغض الحلال إلى الله (1) » ، ونهى الزوجة عن المطالبة به من غير ما بأس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة (2) » .
__________
(1) أخرجه أبو داود: 3\91، وابن ماجه: 1\650، والحاكم في المستدرك: 2\196، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وانظر: حجة الله البالغة للدهلوي: 1\1002 بتحقيقي.
(2) أخرجه أبو داود: 3\142، والترمذي: 4\367 وحسنه، وابن ماجه: ا\662، والدارمي: 2\162 والبيهقي، وصححه ابن حبان، ص 321 من موارد الظمآن للهيثمي، وصححه الحاكم في '' المستدرك '' على شرط الشيخين، ووافقه الذهني: 2\200، والإمام أحمد: 5\277 وانظر: الترغيب والترهيب للمنذري: 3\84، الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي: 2\51.(77/350)
وجعل إفساد المرأة على زوجها، والزوج على زوجته من المحرمات والكبائر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من خبب امرأة على زوجها (1) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أفسد امرأة على زوجها فليس منا (2) » .
ولذلك يأخذ الإسلام بيد الزوجين في خطوات متدرجة متئدة، يعالج بها ما قد يكون بينهما من خلافات، ويضع لها العلاج الناجع، بل يعود إلى ما قبل وقوع الخلاف، حيث يرسي من المبادئ والتوجيهات ما يساعد على الوقاية من التصدع والانحراف.
__________
(1) رواه أبو داود، وهذا أحد ألفاظه، وأخرجه الإمام أحمد، والنسائي، وابن حبان في صحيحة، والبزار بألفاظ أخرى. انظر الترغيب والترهيب: 3\82، الزواجر عن اقتراف الكبائر، لابن حجر الهيتمي: 2\28.
(2) رواه الطبراني في المعجمين (الصغير والأوسط) من حديث ابن عمر، ورواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس، ورواته كلهم ثقات. انظر: الترغيب والترهيب، الموضع نفسه.(77/351)
خطوات في رأب الصدع:
وحسبنا هنا أن نشير إلى هذه الخطوات بكلمات موجزة سريعة، دون الوقوف عندها بالتفصيل، لأن ذلك يخرج بنا عما قصدنا إليه:
1 - وأول ما يرشدنا إليه الإسلام في هذا: هو التذكر بأن عقد الزواج ميثاق غليظ مؤكد، يجب على أصحاب الإيمان والمروءة(77/351)
أن يحافظوا عليه ويقوموا بمقتضياته، وأن لا يتلاعبوا به، وأن لا ينقضوه: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (1) .
2 - ثم يحث على الالتزام بالأسس والقواعد الدقيقة في تكوين الأسرة، بحسن الاختيار والتعرف والرضائية، والمعاشرة بالمعروف، والتغاضي عما قد يكون من تقصير أو هفوات لأنا إذا كنا دائما ننشد الكمال في الآخرين، فلن نجد كاملا مبرأ من العيب: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (2) ويسن من الأحكام والتشريعات ما يكفل القيام بالواجبات المتقابلة، كما تقدم آنفا.
3 - يعود بكل من الطرفين إلى المحكمة الداخلية في النفس، بالتربية على المراقبة لله سبحانه وتعالى والخشية له في السر والعلن، ويجعل من الإيمان والتقوى حارسا للعدالة والحقوق، ومن هنا يعرض الله سبحانه وتعالى أحكام الأسرة من خلال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته ومقتضياتها، ومن خلال التذكير الدائب بالتقوى وبالحساب والجزاء في الآخرة. وعندئذ: فالحقوق كلها مصونة، والواجبات كلها مرعية. قال الله سبحانه وتعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (3) والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة تعز
__________
(1) سورة النساء الآية 21
(2) سورة النساء الآية 19
(3) سورة النساء الآية 34(77/352)
على الحصر.
4 - يرسم الإسلام للزوج طريق العلاج عند الخوف من نشوز المرأة بما يؤثر على البيت أو المؤسسة العائلية والخلية الاجتماعية أو يهددها، وذلك بثلاث خطوات تأديبية متدرجة؛ فكرية ونفسية ومادية. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (1) .
5 - اللجوء إلى المحكمة العائلية من أهل الطرفين للإصلاح وإزالة أسباب الشقاق بالتحكيم من أهل الثقة والخير من هؤلاء الأقارب من الأهل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (2) .
6 - وإذا لم تفلح تلك الخطوات في رأب الصدع، واستمر الخلاف والشقاق " فلا بأس - عندئذ - من اللجوء إلى الطلاق، علاجا مبغضا لتلك الحالة. .
__________
(1) سورة النساء الآية 34
(2) سورة النساء الآية 35(77/353)
وهنا يشرع الإسلام جملة من الضوابط لتحقيق الحكمة التشريعية للطلاق، فيطلق تطليقة واحدة بلفظ واحد، في حال طهر من الحيض، لم يمس فيه الزوجة، وهذه طلقة رجعية، يرتب عليها العدة في بيت الزوجية، لعل ذلك يعطي الزوجين الفرصة لمراجعة حساباتهما ومحاسبة النفس، وتقدير العواقب والآثار المتنوعة المترتبة على الطلاق، فيدعوهما للعودة، فيراجع زوجته قولا أو فعلا - بالمعاشرة الزوجية عند بعض الفقهاء - ولو بإرادته المنفردة، أثناء فترة العدة بدون مهر ولا عقد جديدين: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) .
7 - فإذا انقضت العدة، ولم يراجع زوجته، فيصبح الطلاق بائنا بينونة صغرى، ومعنى ذلك: أنه لا يستطيع إعادة الحياة الزوجية من جديد إلا بعقد ومهر جديدين، برضا الزوجة وموافقتها، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) سورة البقرة الآية 232(77/354)
8 - فإذا استأنفا الحياة الزوجية الجديدة، ووقع - أيضا - الخلاف والشقاق بينهما مرة أخرى، فإن الخطوات السابقة قد تفلح هذه المرة في إعادة الوئام بعد تلك التجربة. فإن لم تفلح في ذلك: فيمكن أن يقع الطلاق أيضا بتلك الضوابط. وهو يعلم هنا: أنه إن طلقها للمرة الثالثة فإن ذلك طلاق بائن بينونة كبرى بمجرد وقوعه، لا يمكن بعده أن يراجعها، ولو بإرادتها وبعقد ومهر جديدين، وإنما يمكن ذلك إذا تزوجت من شخص آخر زواجا شرعيا، لا تدليس فيه ولا تحليل، ثم طلقها الزوج الثاني بعد الدخول بها، أو مات عنها، وانقضت عدتها منه. وهذا كله قد يحمل الزوج على التفكير والتريث في إيقاع الطلاق للمرة الثالثة؛ لأنه يعلم أنها لا ترجع إليه إلا بعد أن يصيبها غيره، وهذا مما تستصعبه النفوس وتنفر منه، فإذا وقع الطلاق في هذه الحال كان ذلك مؤشرا على استحالة الحياة الزوجية الطيبة السعيدة الهانئة بينهما، فالطلاق هو الحل الأخير لما بينهما من خلاف أو نشوز: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} (1) .
__________
(1) سورة النساء الآية 130(77/355)
الطلاق صمام أمان للأسرة:
ألمحنا آنفا إلى أن الإسلام حاط الأسرة بكثير من الضمانات كي تقوم بأداء وظيفتها وتتحقق الحكمة منها، وكانت هذه(77/355)
الضمانات على مستويين من الأحكام: ديانة وقضاء، ومن ناحيتين: إيجابية وسلبية. فمن هذه الناحية الأخيرة: يمكن أن يكون الطلاق صمام أمان للأسرة أيضا - رغم ما قد يبدو في هذا الكلام من التناقض - فإن إلزام الزوجين بالبقاء في أسرة واحدة رغم الخلافات المشتجرة بينهما، ورغم الكره المتبادل بينهما ... قد يؤدي إلى كثير من الأخطار، كالتأثير السلبي في الأولاد، والخيانة الزوجية، والكيد المتبادل، والتآمر ليل نهار، والجريمة المدبرة، ولذلك كان الطلاق في هذه الحال ضمانة لنشأة الأولاد بعيدا عن الخلافات، ووقاية من التآمر والكيد، ومن الجريمة والخيانة.(77/356)
كلمة في هذه المعاني للدهلوي:
وفي هذه المعاني كلها - في التحذير من الطلاق في الأحوال العادية لما يترتب عليه من آثار، وفي كونه علاجا في أحوال أخرى - يقول حكيم الإسلام شاه ولي الله الدهلوي: " اعلم أن في الإكثار من الطلاق، وجريان الرسم بعدم المبالاة به: مفاسد كثيرة، وذلك أن ناسا ينقادون لشهوة الفرج، ولا يقصدون إقامة تدبير المنزل، ولا(77/356)
التعاون في الارتفاقات، ولا تحصين الفرج، وإنما مطمح أبصارهم التلذذ بالنساء، وذوق لذة كل امرأة، فيهيجهم ذلك إلى أن يكثروا الطلاق والنكاح. ولا فرق بينهم وبين الزناة من جهة ما يرجع إلى نفوسهم، وإن تميزوا عنهم بإقامة سنة النكاح، والموافقة لسياسة المدنية، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الذواقين والذواقات (1) » .
وأيضا: ففي جريان الرسم بذلك: إهمال لتوطن النفس على المعاونة الدائمة أو شبه الدائمة، وعسى إن فتح هذا الباب أن يضيق صدره أو صدرها في شيء من محقرات الأمور، فيندفعان إلى الفراق، وأين ذلك من احتمال أعباء الصحبة، والإجماع على إدامة هذا النظم.
وأيضا: فإن اعتيادهن بذلك وعدم مبالاة الناس به، وعدم حزنهم عليه: يفتح باب الوقاحة، وألا يجعل كل منهما ضرر الآخر ضرر نفسه، وإن تخون كل واحد الآخر يمهد لنفسه إن وقع الافتراق، وفي ذلك ما لا يخفى من المفاسد والأضرار.
__________
(1) روي هذا الحديث بألفاظ أخرى، فقد رواه البزار والطبراني في (المعجم الكبير والأوسط) عن أبي موسى بلفظ: '' إن الله تبارك وتعالى لا يحب الذواقين والذواقات '' وعن عبادة بن الصامت قال: '' إن الله عز وجل لا يحب الذواقين والذواقات '' رواه الطبراني، وفيه راو لم يسم، وبقية إسناده حسن. وانظر مجمع الزوائد للهيثمي: 4\335، المصنف لابن أبي شيبة: 5\252، المقاصد الحسنة للسخاوي: 1\292.(77/357)
ومع ذلك: لا يمكن سد هذا الباب والتضييق فيه، فإنه قد يصير الزوجان متناشزين، إما لسوء خلقهما، أو لطموح عين أحدهما إلى حسن إنسان آخر، أو لضيق معيشتهما، أو لخرق واحد منهما، ونحو ذلك من الأسباب، فيكون إدامة هذا النظم - مع ذلك - بلاء عظيما وحرجا ".(77/358)
وكلمة أخرى لفيلسوف قانوني:
وقد فطن أيضا إلى هذا المعنى أيضا الفيلسوف الإنجليزي " بنتام " في كتابه " أصول الشرائع "، حيث يقول:
" لو ألزم القانون الزوجين بالبقاء - على ما بينهما من جفاء - لأكلت الضغينة قلوبهما، وكاد كل منهما للآخر، وسعى إلى الخلاص منه بأية وسيلة تمكنه، وقد يهمل أحدهما صاحبه، ويلتمس متعة الحياة عند غيره، وبهذا ينفتح باب الفسوق، ويضيع النسل، وتفسد البيوت.
ولو أن أحد الزوجين اشترط على الآخر - عند عقد الزواج - ألا يفارقه، ولو حل بينهما الكراهية والخصام محل الحب والوئام، لكان ذلك أمرا منكرا، ومخالفا للفطرة، ومجافيا للحكمة، وإذا جاز(77/358)
وقوع هذا بين شابين متحابين، غرهما شعور الشباب، فظنا ألا افتراق بعد اجتماع، ولا كراهية بعد محبة، فإنه لا ينبغي اعتباره من مشرع خبر الطباع، وحنكته التجارب إذ لو وضع مشرع قانونا يحرم فض الشركات، ويمنع رفع ولاية الأوصياء، وعزل الشركاء، ومفارقة الرفقاء لصاح الناس: هذا ظلم مبين!
وإذا كان وقوع النفرة، واستحكام الشقاق والعداء في الحالين - حال إباحة الطلاق، وحال منعه - ليس بعيد الوقوع، فأيهما خير؟ أربط الزوجين بحبل متين، لتأكل الضغينة قلبيهما، ويكيد كل منهما للآخر، أم حل ما بينهما من رباط، وتمكين كل منهما من بناء بيت جديد على دعائم قويمة؟
أوليس استبدال زوج بآخر خيرا من ضم خليلة إلى امرأة مهملة، أو عشيق إلى زوج بغيض ".(77/359)
الطلاق ظاهرة اجتماعه قديمة:
الطلاق ظاهرة اجتماعية قديمة، عرفت منذ قيام المجتمع(77/359)
البشري الذي عرف الزواج بداية لتكوين البيت والأسرة، وعرف الطلاق نهاية للحياة الزوجية غير الناجحة أو التي استحالت بين الزوجين، فالطلاق يعتبر ملازما للزواج، أقرته الشرائع الإلهية لما فيه من حكمة تشريعية وواقعية، كما أخذت به القوانين الوضعية، وعادت إليه المذاهب التي كانت تشدد فيه أو تمنعه، كل ضمن شروط وضوابط وتوجيهات.(77/360)
ازدياد نسبة الطلاق:
وتزداد نسبة الطلاق في كل بلاد العالم، سواء في العالم الإسلامي أو العالم الغربي، ولكنها تختلف من بلد لآخر، باختلاف الأسباب والظروف والعوامل ... أو باختلاف التغيرات الفكرية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية. والنظر في الدراسات الاجتماعية والإحصاءات الخاصة بالطلاق يعطى مؤشرا على تفاقم هذه الظاهرة وازديادها عاما بعد عام في كل المجتمعات. .
ففي المجتمع الأمريكي: بلغت حوادث الطلاق نسبة عالية لا يظهر لها مثيل في أي بلد في العالم، فقد ارتفعت نسبة الطلاق من (6%) عام 1890 م، فبلغت (40%) عام 1948 م، وأصبحت هذه النسبة - عام 1983 م (114) حالة طلاق لكل ألف حالة زواج ثم(77/360)
ارتفعت إلى (250) حالة لكل ألف زواج، أي (25%) . فكم تبلغ النسبة منذ ذلك العام إلى أيامنا هذه بعد التحلل والفساد؟
وارتفعت معدلات الطلاق ارتفاعا خطيرا في بريطانيا، وفي المجتمعات الصناعية بوجه عام، فكان معدل الطلاق في بريطانيا عام 1961 م (3) حالات طلاق لكل ألف حالة زواج، أما في عام 1981 م فوصل معدل الطلاق إلى (12) حالة لكل ألف حالة زواج، وتشير بعض الدراسات المنشورة في المجلات العربية إلى ارتفاع نسبة الطلاق عام 1991 م بواقع (3%) عن حالات الطلاق في العام الأسبق 1990، وبزيادة (9%) عن حالات الطلاق قبل عشرة أعوام أي عام 1980 م. وهذا رغم الشروط والقيود التي تفرضها الكاثوليكية على الطلاق.
وهكذا الحال في المجتمعات الأخرى مثل فرنسا، والاتحاد السوفياتي (روسيا فيما قبل وفيما بعد) ، وسويسرا، وغيرها من الدول الأوربية.
ولم يختلف المجتمع المصري عن المجتمعات والدول الأخرى في(77/361)
ذلك، فقد بلغت نسبة الطلاق (3.5) حالة لكل ألف حالة زواج في عام 1965 م وفي مدينة القاهرة وحدها تصل عدد حالات الطلاق إلى (60) ألف حالة سنويا، حيث تصل نسبتها إلى حالة طلاق لكل أربع حالات زواج في عام 1960 م ولاحظ الباحثون أن نسبة الطلاق تزداد قبل نهاية سنة من الزواج، وتقل بعد سنة ثم بعد سنتين لأسباب اجتماعية.
وفي المغرب العربي: زادت نسبة الطلاق من (4646) حالة في عام 1988 م إلى (5513) حالة في عام 1992 (1) .
وفي المملكة العربية السعودية: تختلف صكوك الطلاق باختلاف المناطق، وبلغ عدد صكوك الطلاق في مدينة الرياض (2825) صكا في عام 1413 وتمثل الرياض أعلى نسبة في الطلاق بالنسبة لمدن المملكة، ووصلت حالات الطلاق في مدينة جدة عام 1400 هـ 1980 م (179) حالة، وفي عام 1402 هـ 1982 م وصل عدد المطلقين من السعوديين (55) حالة طلاق.
__________
(1) مجلة الجندي المسلم، المرجع نفسه.(77/362)
ووصلت إلى أعلى معدل في الارتفاع عام 1404 هـ حيث وصلت إلى (683) حالة طلاق، ووصلت عام 1405 هـ (351) حالة طلاق (1) .
وتقدم الدراسات الإحصائية عن الطلاق بدولة الإمارات العربية المتحدة مؤشرات صارخة، تعود في جذورها إلى حالة المرأة والرجل معا، وإلى سلوكهما الباثولوجي، كما يقرر بعض الباحثين (2)
__________
(1) انظر: إحصائيات المحكمة الكبرى بمدينة جدة، والمراجع السابقة.
(2) دراسة تشخيصية لظاهرة الطلاق في دولة الإمارات العربية، د. فيصل الزراد، ود. عطوف ياسين، ص 16.(77/363)
العوامل المؤثرة في انتشار الطلاق:
حدثت في المجتمعات والبلاد الإسلامية كثير من المتغيرات الاجتماعية في مجال التعليم، والفكر والاقتصاد، وفي كثير من المفاهيم والتصورات التي كانت سائدة. وكثيرا ما يؤدي التغير إلى صراع يكون له أثره في الأسرة والمجتمع.
ويعني التغير الاجتماعي بالنسبة لعلم الاجتماع: ظهور اختلاف يمكن ملاحظته في البناء الاجتماعي - أي بناء وظائف المجتمع - وفي العادات المعروفة، أو في معدات وآليات لم تكن موجودة من قبل. وذلك بالمقارنة بحالات وأوضاع سابقة. فالمقصود بالتغير: هو تلك التحولات التي تحدث في التنظيم(77/363)
الاجتماعي، أي بناء وظائف المجتمع.
فالتغير الاجتماعي له صلة وثيقة بالتحولات العديدة التي تحدث في مختلف أنماط الحياة الإنسانية. فما دام الإنسان مخلوقا اجتماعيا، فإن التغير له أبعاده الإنسانية، وكل تغير في المجتمع تنعكس آثاره على الإنسان بالضرورة. ومن ثم يجب النظر في التجربة الماضية للإنسان في أبعادها الثقافية والاجتماعية من خلال مجتمع معين، لأنها هي التي تجعله قادرا على تكوين الثقافة ونقلها في شكل اجتماعي من جيل إلى جيل، فالتغير الاجتماعي لا بد أن يكون تغيرا في آلية الترابط الإنساني. فهو نمط من العلاقات الاجتماعية في وضع اجتماعي معين، يظهر عليه التغير خلال فترة محدودة من الزمان.
وغالبا يعنى الباحثون بدراسة انتشار التعليم، والتحول في بعض القيم والاتجاهات، والجوانب الدينية، والالتزام بالدين والسلوك الفاضل، والوضع الصحي والاقتصادي وعمل المرأة واستقلالها الاقتصادي، وعدم التوافق بين الزوجين، ونحو ذلك من المتغيرات التي يفرضها الباحثون الاجتماعيون وعلماء النفس، لدراسة أسباب الطلاق والعوامل التي تؤثر في انتشاره وازدياده، ثم يجرون الدراسات الميدانية، ويحللون النتائج لمعرفة مدى صحة تلك الافتراضات وثباتها وقيمتها (1) .
__________
(1) انظر: الطلاق والتغير الاجتماعي في المجتمع السعودي، د. ثروت محمد شلبي ص 11، 12.(77/364)
ظاهرة متميزة بين الظواهر الاجتماعية:
وإذا أردنا تشخيص مشكلة الطلاق؟ فلا بد من التسليم بأمرين:
(أولهما) : أن ظاهرة الطلاق تختلف عن سائر الظواهر الاجتماعية في أنها: تمس الحياة الخاصة بالزوجين، بما فيها من مشاعر وعواطف وحب وإعجاب وجنس وأحلام ومتعة وانسجام ... والتي تهدف كلها إلى بناء علاقات أسرية وجدانية قوية خاصة بين الزوجين، وهذه كلها تحاط - عادة - بنوع من السرية والكتمان، ويتحرج كل من الطرفين من البوح بها أو نشرها، وهذا مما يحمد ويمدح، فما ينبغي أن تكون الأسرار الزوجية والعلاقات بين الزوجين دعوة جفلى يدعى إليها العامة دون اختصاص، ولا حقا مشاعا بين الناس من فضوليين وغيرهم.
و (الثاني) : من ناحية أخرى، نجد أن ظاهرة الطلاق تتصل أسبابها والعوامل المؤثرة فيها بالحياة الخارجية للزوجين بما فيها من عوامل اجتماعية ومادية وثقافية وصحية ودينية، مما تقدمت الإشارة إليه، وهذه النواحي والأسباب تختلف بطبيعتها عن تلك العوامل الوجدانية والعاطفية السابقة، ومن الصعوبة بمكان أن نفصل فصلا تاما بين العوامل الثقافية والنفسية والمادية ... لأنها - في الحقيقة وفي واقع الحال - متشابكة مترابطة، وعلى كل حال: لا يجوز(77/365)
إغفال أي واحد من هذين النوعين من العوامل، وإن كان أحدهما يخضع للدراسة التجريبية الميدانية بصورة أسهل من الآخر.(77/366)
موضوع الدراسة:
وفيما يأتي من صفحات نتناول - إن شاء الله تعالى - جانبا واحدا، أو سببا واحدا من الأسباب التي تؤدي إلى انتشار الطلاق وازدياده، وهو (عمل المرأة واختلاطها بالرجال الأجانب من خلال هذا العمل) ولا يعني هذا أنه هو السبب الوحيد، أو العامل الفعال الأول، وإنما هو واحد من جملة أسباب، قد يتضافر مع غيره من الأسباب والعوامل، فيدعو الزوجين إلى التفكير بالطلاق أو اللجوء إليه. وفي واقع الحياة - كما في البحث العلمي - نجد العوامل والأسباب، في أي ظاهرة من الظواهر، مترابطة متشابكة مع بعضها، فإذا أفردنا واحدا منها بالحديث، أو أدرنا الحديث حوله بخصوصه، فإنما يكون ذلك لداعي الضرورة والبحث أو التخصص مثلا.
قبل الدراسة:
وقبل تناول هذا العامل بالدراسة الموجزة أجد من الأهمية بمكان في البحث العلمي أن نذكر ببعض المداخل والملاحظات المنهجية المهمة في هذا الجانب أولا، وأن نحدد المقصود من هذا(77/366)
العنوان في البحث ثانيا. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(77/367)
قضايا منهجية:
1 - معالجة مسائل الطلاق وعمل المرأة وخروجها من البيت والحقوق التي تتمتع بها ... كل هذه الأمور، وغيرها من المسائل والقضايا التي تأخذ مجالا واسعا من المساحة والاهتمام في المجتمع المعاصر، قد ينظر إليها - بسبب ضغط الواقع وتأثير التيارات الجديدة الوافدة وضغوطها - من النواحي المادية ووجهة النظر الغربية، دون النظر إلى ما ينشده الإسلام من التوازن بين المادة والروح والعقل، وبين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، وإعلاء القيم الدينية والخلقية وإبرازها والدعوة إلى التمسك بها. وهذا له آثار ومعقبات خطيرة في الانحراف عن المنهج الإسلامي، وفي النتائج التي تترتب على المنهج.
2 - عندما نتكلم عن الظواهر الاجتماعية وغيرها، ونتلمس الحلول والعلاج للمشكلات، كعمل المرأة اليوم في الواقع الحالي، ينبغي أن نفرق بين الحال الأصلية المثالية في المجتمع الإسلامي، من قرار المرأة في بيتها، وقيامها بالواجبات الأسرية الكبيرة، وسيادة أحكام الإسلام في كل جوانب الحياة، وبين الواقع الحالي الذي يضغط علينا بكل ثقله وعاداته، فيجعلنا نتلمس المعاذير، ونخفف من وقع الآثار، ونبرر التجاوزات أو نسوغها، ونكتفي بالحد الأدنى مما(77/367)
ينبغي أن نصل إليه ونضعه نصب أعيينا.
3 - في كثير من المؤتمرات والندوات التي تعقد للدفاع عن الإسلام، أو معالجة قضايا المسلمين المتنوعة، قد يدخل بعض المدافعين إلى البحث أو الموضوع بمقررات سابقة، يحمل عليها الأدلة الشرعية أو يؤولها لتوافق هذه المقررات، وهذا المنهج التبريري له خطره وخطؤه. وكذلك من الخطورة بمكان في البحث: أن نستحضر أمامنا انحرافا معينا في واقعنا، أو شبهات يثيرها الأعداء، فيحملنا ذلك على ردها بمنهج دفاعي يتغيا التبرير فحسب، أو دفع الاتهام ولو بالوقوع في الخطأ والانحراف.
4 - أحكام الطلاق، وأحكام سائر ما يتعلق بالأسرة، ليست منفصلة عن سائر الأحكام الشرعية في العقيدة والعبادة والأخلاق، ولا مبتوتة الصلة بها، ولذلك لا يجوز معالجتها مستقلة عنها، ولا يجوز النظر إليها نظرة ذرية تجزيئية، بل تؤخذ الأحكام كلا متكاملا، ولا تعزل عن الجوانب الأخرى، ولا يصح هذا العزل إلا لضرورة البحث في الجزئية الواحدة منفصلة عن غيرها، يحمل على ذلك التخصص أو خوف التكرار مثلا عند البحث والبيان.
5 - عند إعداد هذه الورقة أتيح لي الاطلاع على مجموعة من الدراسات الاجتماعية والنفسية التي عالجت ظاهرة الطلاق، فدرست أسبابها وآثارها دراسة ميدانية، فكانت مادة استقيت منها وانتفعت(77/368)
بما فيها. وفي مداخل هذه الدراسات، أو في مداخل معظمها، يتناول أصحابها بعض أحكام الأسرة والطلاق بالبحث، ويظهر أن كثيرين منهم لا يعرفون من أحكام الفقه الإسلامي إلا شيئا يسيرا أخذوه من بعض الكتب، خلطوا أوله بآخره، فوضعوه في غير موضعه، أو فهموه على غير وجهه، فتناقض أوله مع آخره، وجاءت نتائجه غير متفقة مع مقدماته. وهذا يشير إلى أهمية مراجعة هذه البحوث والدراسات - وأغلبها بحوث جامعية - من قبل العلماء والفقهاء، أو إشراكهم في الإشراف على إعدادها.(77/369)
المقصود بعنوان الدراسة، وموضوعها:
من الأهمية بمكان في البحث العلمي، وفي الحوار والجدل: أن يكون موضوع البحث محددا تحديدا دقيقا، بعيدا عن اللبس والغموض. وموضوع عمل المرأة ينبغي أن يكون محددا محررا، فإن الجدل الطويل العريض حول عمل المرأة في العصر الحديث، قد سار في غير وجهته وعلى غير منهج صحيح، نتيجة الخلط بين الأمور، فوقع الخلاف واشتد النزاع فيما لا خلاف فيه ولا نزاع حوله، أو هكذا ينبغي أن يكون الحال. والله المستعان.(77/369)
وذلك أن عمل المرأة قسمان:
(الأول) ما تقوم به في بيتها من عناية، ورعاية، وتدبير منزلي لأفراد أسرتها. فهذا لا غبار على سلامته من ناحية العقل،(77/369)
والنقل، وما تعارف عليه الناس على اختلاف مشاربهم في حياتهم المعيشية. فهو من أهم واجبات المرأة السوية، ومن أولويات مسئولياتها تجاه أسرتها، وبيتها (1) وهذا العمل فوق كونه التزاما دينيا للمرأة المسلمة، هو في الوقت نفسه ذو قيمة مادية كبيرة في المجتمع، فقد قامت شركة تأمين بريطانية بدراسة للتقييم الاقتصادي لعمل المرأة المتفرغة لإدارة شؤون الأسرة، وكانت نتيجة الدراسة: أن عمل مثل هذه المرأة من حيث الحجم، يبلغ معدل تسع عشرة ساعة في اليوم، ومن حيث التقييم المادي هو أثمن شيء تملكه أي أسرة.
وكذلك ما تقوم به المرأة من أعمال تشارك فيها زوجها وأهلها أو تساعدهما في ذلك أو تقوم بها منفردة - لظروف تقتضي ذلك - كالرعي والعمل في الفلاحة والزراعة ونحوهما ... في كثير من البلاد في العالم، فهذا أيضا له قيمته وجدواه الاقتصادية، ويبعد المرأة من أن تكون عاطلة عن العمل، أو أن تكون نصفا مشلولا في المجتمع - كما يحلو لبعض المتحذلقين أن يصفوها به - وهذا النوع من العمل - بجانبيه - ليس مقصودا بالبحث هنا.
__________
(1) انظر: قوامة الرجل وخروج المرأة للعمل، د. محمد بن سعد بن عبد الرحمن، ص 65 وما بعدها.(77/370)
(الثاني) ما تقوم به المرأة من نشاط وظيفي خارج بيتها، بعيدا عن أفراد أسرتها، الأمر الذي يتطلب منها، ويلزمها وفق قوانين العمل الخروج المبكر إلى المقر، والمكث فيه مدة الدوام المقرر الذي يمتد إلى قبيل وقت صلاة العصر في الغالب، وقد تكلف بأعمال إدارية، تحضر لها، أو تنجزها، الأمر الذي يضطرها إلى شغل جزء كبير من وقتها في بيتها وذلك على حساب أفراد أسرتها (1) وهو ما عنون له بعض العلماء الباحثين بـ: " قضية أن تكون المرأة أجيرة "، كما تقدم.
ومن الأهمية بمكان هنا: أن نلحظ الفرق بين عمل المرأة تحت قوامة زوجها وبين عملها المأجور في سوق العمل، فعمل المرأة تحت قوامة زوجها: هامش حرية المرأة في أدائه واسع أو غير محدود، وصيغة التشاور فيه أظهر من صيغة الأمر والنهي، يظله فيء العاطفة وندى المشاعر، وعلاقة المرأة بمن له القوامة علاقة المودة والرحمة. وأما عملها المأجور في سوق العمل، فتؤديه تحت قوامة الرئيس الإداري أو رب العمل (ذكر أو أنثى) ، وحرية الاختيار فيه محدودة، ولا مجال فيه للعاطفة الإنسانية، وإنما تحكمه صرامة الأوامر،
__________
(1) قوامة الرجل وخروج المرأة للعمل، ص 65- 68.(77/371)
ويظله جفاف الروتين. وعلاقة المرأة بمن له القوامة علاقة الأمر بالمأمور (1) .
وخروج المرأة من بيتها ليس أمرا محظورا، ولا مرفوضا من الرجل على الإطلاق، ولا مرغبا فيه على الإطلاق.
بل يحتاج إلى ترتيب في نوعه، ووقته، ووفق حاجة الأسرة له، وعندما تخرج المرأة للعمل خارج بيتها، فإن مراقبتها ومعرفة مكانها تشغلان بال جميع أفراد أسرتها؛ إذ أن أي تعرض لها بسوء، يلحق بأفراد أسرتها العار، ويتوجب عليهم الانتقام.
وطبيعة عمل المرأة اليوم قد ابتعد كثيرا عن طبيعته الأولى التي كان يغلب عليها الحشمة والوقار، والابتعاد عن مواطن الشبه. ويأتي في مقدمة ذلك عدم الاحتكاك بأي طريقة كانت بالرجال، وبالتالي لا تقع الخلوة بين الجنسين، فينجو معظم المجتمع من الوقوع في الرذيلة وكان للرجال - حينذاك - من الشهامة، والمروءة، والأخلاق ما يردعهم عن محاولة التحرش بالنساء بقول يخدش
__________
(1) انظر المرجع نفسه.(77/372)
حياءهن، أو فعل يهين كرامتهن.
والمرأة التي تعمل خارج بيتها لا يعدو كونها متزوجة أو غير متزوجة، وإذا كانت متزوجة: فإما أن تكون ذات عيال أو عقيما. ومن فقدت زوجها والعانس تصنفان كالسابقتين، فخروج ذات الزوج والعيال إما أن يكون لحاجة، كزيادة دخل الأسرة ومساعدة الزوج، أو لغير حاجة، وإنما للتقليد والمحاكاة والمباهاة، فيكون نوعا من التسلية والترف، ينعكس أثره السلبي على أفراد الأسرة وخاصة الأطفال.(77/373)
أثر هذا العمل في الطلاق:
ولتغيب المرأة عن بيتها بسبب العمل أثر في تحديد النسل وتحجيم عدد أفراد الأسرة، لشعورها بأن في الحمل والولادة والإرضاع ما يعوقها عن عملها، ويهدد استقرارها فيه. وكذلك لعمل المرأة خارج بيتها ما يمكن أن يهدد العلاقة بين الزوجين، فما يبقى للمرأة من وقت تقضيه في بيتها، وما ينتظرها من أعمال تجاه أسرتها وأطفالها يأتي على البقية الباقية من نشاطها، وحيويتها، فمن(77/373)
أين تجد القدرة على إرضاء زوجها، والقيام بواجباته على الوجه المناسب؟
بذلك، وبمرور الوقت تفقد العلاقة الزوجية لونها، وطعمها بين الزوجين، ويطفو على سطح علاقتهما التوتر العام، وتتسع الهوة بينهما، ويزداد الضغط على الأعصاب، والبحث عن مبررات واهية (1) .
ويأتي على رأس الآثار السلبية لخروج المرأة خارج بيتها للعمل: تأثير ذلك على النشء وتربيته، والتقصير في هذا الواجب يجعل زوج هذه المقصرة في حق أولادها يفكر في الطلاق أو يسارع إليه.
وكثيرا ما يقع الخلاف بين الزوجين أيضا بسبب خروج المرأة للوظيفة والعمل، عندما يكون ذلك بغير رضى من الزوج، وعندما يقع الخلاف بينهما على الراتب، وتحميل الزوجة قسطا من النفقة لأنها ذات دخل، وهي تمتنع من ذلك، أو عندما يطالب الزوج بجزء من الراتب نظير ما يقوم به من أعباء، ونظير ما يقع من تقصير الزوجة بواجباتها البيتية والزوجية لانشغالها بالعمل، كل ذلك قد يكون سببا من أسباب الطلاق.
وإذا لاحظنا أن عمل المرأة في بعض البلاد الإسلامية سار على خطوات عمل المرأة الغربية وتأثر بكل المؤثرات الغربية أو ببعضها، فإن ذلك يبرز عاملا آخر في الطلاق وهو ما قد تتعرض له المرأة من
__________
(1) قوامة الرجل وخروج المرأة للعمل، د. محمد بن سعد، ص 68 وما بعدها.(77/374)
مضايقات وتحرش أو مواقف تخدش الكرامة والحياء ويهبط بصاحبها إلى الفاحشة، فإن ذلك يؤدي إلى الطلاق. .(77/375)
الدراسات الميدانية حول الموضوع:
ونجتزئ في هذه العجالة بثلاث دراسات اجتماعية تربوية ونفسية ميدانية عن أثر التغيرات والعوامل الثقافية والاجتماعية ... في الطلاق وانتشاره، وهي تدرس هذه الظاهرة في ثلاثة بلدان هي الإمارات العربية، والمملكة العربية السعودية (مدينة جدة) والعراق (مدينة بغداد) وكان عمل المرأة خارج بيتها في الوظيفة واحدا من المتغيرات أو العوامل التي كانت موضوعا للدراسات السابقة وأمثالها، لنتعرف على أثر عمل المرأة في انتشار الطلاق وازدياد نسبته، والأحوال قريبة أو متشابهة غالبا في المجتمعات موضوع الدراسة.
الدراسة الأولى: وهي دراسة تشخيصية لظاهرة الطلاق في دولة الإمارات العربية المتحدة - دراسة سيكولوجية، تربوية، ميدانية -
ويتبين من هذه الدراسة: أن هذا العامل الذي أدرنا الكلام حوله فيما مضى، من العوامل غير المهمة في حدوث الطلاق، بالنسبة(77/375)
إلى جميع فئات العينة التي أجري البحث عليها، عدا فئة رجال مطلقين، وهذا أمر طبيعي أن لا يعتبر مثل هذا العامل ذا أهمية في حدوث الطلاق في بيئة الإمارات العربية المتحدة، طالما أن معظم النساء لا يعملن، وأن الرفاه الاقتصادي الذي تنعم به معظم الأسر تجعل المرأة من النوع الاتكالي، لا حاجة لها إلى العمل، ولكن عدم حاجة المرأة للعمل لا يمنع من وجود إهمال بالشؤون الأسرية، ولا يمنع من الاعتماد على الخادمات في تدبير شؤون المنزل والأطفال، أما المرأة فيكون شغلها الشاغل في بعض الحالات السعي وراء الموضات والأزياء وما يشبه ذلك.
ويتصل بهذا العامل أيضا: عامل آخر يأتي بعده في تفسير العوامل ذات الاتفاق المنخفض لدى المجموعات في هذه الدراسة، ومضمونه (الأزمات الاقتصادية والاجتماعية) :
يتبين لنا أيضا: أن هذا العامل لم يكن عاملا مهما في حدوث الطلاق لدى معظم فئات العينة عدا فئة الرجال المطلقين، ويبدو أن مثل هذا العامل قلما يرد في مجتمع الإمارات، بسبب توفر الإمكانيات الاقتصادية والاجتماعية، وقد يكون مثل هذا السبب بارزا وبشكل واضح في مجتمعات أخرى تعاني من الفقر والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية ...
وكذلك العامل الآخر في الدراسة، ومضمونه (الظروف(77/376)
المادية العسيرة للزواج) ، باعتبار أن من مبررات خروج المرأة للعمل بالأجرة هو هذا المبرر.
تقول الدراسة: يتبين لنا من تحليل الإجابات ودراستها أن هذا العامل لم يعتبر من العوامل المهمة في حدوث الطلاق بالنسبة إلى أربع فئات فقط من فئات العينة. أي أن هذا الرفض لهذا العامل باعتباره سببا للطلاق، كان من جميع الفئات الاجتماعية عدا فئتي المطلقات، والرجال المطلقين، وهذا مؤشر على أهمية هذا العامل لحد ما لدى فئتي المطلقات والمطلقين، وليس غريبا أن يعاني بعض الأزواج أو الزوجات في دولة الإمارات من ضائقة مادية بسبب زواجه وذلك لعدة أسباب منها عدم توزيع الثروة المادية بشكل متوازن بين الإمارات أو الأفراد، فالإمارات الشمالية أقل في مستواها المادي من الإمارات الأخرى، ثم إن غلاء المهور، وتكاليف الزواج يجعلان الشاب العادي والمرأة العادية القادمين على الزواج يواجهان صعوبات مادية عسيرة، قد يترتب عليها بعض المشكلات التي تؤدي إلى الطلاق، وهذه حالات نادرة.
الدراسة الثانية: الطلاق والتغير الاجتماعي في المجتمع السعودي: دراسة ميدانية في مدينة جدة:(77/377)
تظهر هذه الدراسة أن هذه القضية قضية الساعة بالنسبة للمرأة السعودية، حيث تصبح قيمة عمل المرأة متدنية لدى الشباب، فالدراسات على المجتمع السعودي توضح أن (95%) عارضوا عمل المرأة، وأن (44%) من الأزواج كانوا في اختلاف دائم، وبصورة منتشرة حول عمل المرأة، بل وجد أن (86%) أوضحت أن زوجاتهم لا يعملن.
وبمناقشة هذا الاتجاه وعلاقته بالطلاق في مجتمع البحث (مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية) يتبين أن عمل المرأة دون رضا زوجها: يجعله لا يؤيدها، ولا يساندها في عملها.
وقد أسفرت الدراسة عن أن (24%) من الرجال المطلقين ذهبوا إلى أن عمل الزوجة لم يكن برضاهم. كما ذكرت (11%) من النساء المطلقات أن عملهن كان دون رضا أزواجهن. بمعنى أن (14%) من مجتمع البحث، كان عمل الزوجة دون رضا الزوج، ولعل عمل الزوجة - رغما عن الزوج - يؤدي إلى الخلافات المستمرة، ومن ثم يكون له علاقة كبيرة بالطلاق.
كما أسفرت نتائج الدراسة الميدانية، عن أن (34%) من الرجال المطلقين ذكروا بأن عمل الزوجة أدى إلى الطلاق، كما كان عمل الزوجة أيضا السبب في طلاق (21%) من النساء المطلقات، بمعنى أن (23%) من مجتمع البحث كان عمل الزوجة هو الذي(77/378)
أدى إلى الطلاق.
كما أسفرت نتائج الدراسة أيضا: عن أن انشغال المرأة بالعمل، وعدم الاهتمام بزوجها كان في قمة أسباب الطلاق، وأجاب على ذلك (29%) من الرجال المطلقين و (38%) من المطلقات، كما أجاب (57%) من مجموع الذين كان عمل الزوجة هو سبب الطلاق، بأن انشغال الزوجة بعملها، فضلا عن إهمالها في رعاية أولادها، يتضافران معا فيتسببان في حدوث الطلاق.
كما أوضحت الدراسة أن (78%) من المطلقات اللائي لا يعملن: رأت أن انشغال الزوجة بعملها يؤدي إلى الطلاق، أما الموظفات المطلقات فقد أبدت (68%) منهن هذا الاتجاه. كما أجابت (65%) من الطالبات المطلقات بأن انشغال المرأة بعملها يؤدي إلى هذه الظاهرة، وفي المقابل أكبر نسبة رفضت هذا الاتجاه من الطالبات المطلقات، فقد اعترضت على ذلك (36%) منهن، ولعل ذلك راجع إلى أنهن لم يجربن العمل ومسئولياته ومشكلاته (1) .
الدراسة الثالثة: المتغيرات الاجتماعية والثقافية لظاهرة الطلاق، مع دراسة ميدانية لظاهرة الطلاق في بغداد:
__________
(1) انظر: الطلاق والتغير الاجتماعي في المجتمع السعودي، د. ثروت بدوي (147- 149) .(77/379)
أظهرت الدراسة أن هناك علاقة متبادلة بين وقوع خلافات، نتيجة لعمل الزوجة، ومدة الحياة الزوجية، فكلما قلت مدة الحياة الزوجية كان ذلك نتيجة لوقوع خلافات نتيجة لعمل الزوجة ... وكلما سبب عمل الزوجة خلافات كانت مدة الحياة الزوجية قصيرة، وبالتالي أدت إلى الطلاق.
وأظهرت الدراسة مدى وجود علاقة بين عمل المرأة واستقلالها، وازدياد حالات الطلاق، إذ يترتب على عمل المرأة: عدم تفرغها للأسرة، وإهمالها لبعض شؤون الزوج والأولاد، وكذلك يترتب على عملها آثار نفسية يأتي في مقدمتها: شعورها المتزايد بالاستقلال، والاعتزاز بكيانها. ونتيجة إحساس الزوجة العاملة بقدرتها على الاستقلال يتولد عند الرجل إحساس داخلي بالضعف، فيحاول أن يتغلب عليه بالقسوة على الزوجة رغما عنه، ليؤكد أنه ما زالت له الكلمة العليا، والسيطرة الكاملة. .، فلا بد من أن يصطدم بالشخصية الاستقلالية للزوجة، فتحاول أن تثأر، وقد يصل الأمر إلى الطلاق، بالإضافة إلى أن الكثير من الموظفات يحتفظن برواتبهن لمتطلباتهن، أو يدفعن قسما لأسرهن إرضاء لما قاموا به من تربيتهن، واستنادا إلى هذه الفكرة التي تجعل الرجل وحده هو المسئول عن إعالة الزوجة والإنفاق على متطلبات البيت (1) .
__________
(1) انظر: المتغيرات الاجتماعية والثقافية لظاهرة الطلاق، عائدة سالم الجنابي ص (194 و205) .(77/380)
الخاتمة:
والذي ننتهي إليه: أن جملة من الأسباب تقف وراء انتشار الطلاق، تختلف في تأثيرها، وأبانت الدراسات أن هناك علاقة بين خروج المرأة للعمل في صورته الراهنة وما يكتنف ذلك، وبن انتشار الطلاق وازدياد نسبة وقوعه، فإن خروج الزوجة للعمل والوظيفة له أثره فيه، ولكن بنسب متفاوتة حسب أهمية العمل وضرورته في بعض الحالات، وحسب نظرة المجتمع إليه، ولذلك يجب وضع الضوابط للعمل، ويجب عدم التوسع فيه. وهذا الأمر قامت حوله دراسات متعددة لكل الجوانب المرتبطة به بما في ذلك الحكم الشرعي، وليس هذا مجال بحثنا في هذه الورقة.
ومما تجدر الإشارة إليه في الختام: أنه رغم الشكوى من ارتفاع نسبة الطلاق في بعض البلدان أو المجتمعات، فإنه لا ينبغي إقرار هذا بإطلاقه وسحب الحكم وتعديته على كل المجتمعات، فإن الطلاق قد يعقبه رجعة، وهذا مما لا تتناوله الدراسات والإحصاءات التي تتناول الطلاق فحسب، فلا يعني أن كل طلاق يؤدي إلى هدم للأسرة، أو تشريد للأطفال، كما يقوله بعضهم.
وكذلك تجدر الإشارة إلى أننا عندما نذكر أسباب الطلاق، أو العوامل التي تؤدي إليه، لا يعني ذلك ربطا حتميا بين هذه الأسباب(77/381)
ووقوع الطلاق، وإنما هي بيان لواقع أو مؤشر، وفرق كبير بين الحكم التقريري الذي يبين ما هو واقع، والحكم القيمي الذي يبين ما يجب أن يكون، أو ما يجب أن يقع.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(77/382)
حديث شريف
عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور (1) »
(متفق عليه)
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1519) ، صحيح مسلم الإيمان (83) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1658) ، سنن النسائي الجهاد (3130) ، مسند أحمد (2/287) ، سنن الدارمي الجهاد (2393) .(77/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (2)
(سورة الشورى، الآيتان 52، 53)
__________
(1) سورة الشورى الآية 52
(2) سورة الشورى الآية 53(78/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(78/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا
مجلة البحوث(78/3)
الافتتاحية
نصائح لحملة القرآن لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 19
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 31
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 57
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 69(78/4)
البحوث
منزلة العمل من الإيمان عند أهل السنة لفضيلة الدكتور \ صالح بن محمد العقيل 87
القول المبين في الصحابة وحقوقهم على المسلمين لفضيلة الدكتور \ عبد العزيز بن إبراهيم العسكر 119
الفتح في الصلاة لفضيلة الدكتور \ زيد بن سعد الغنام 171
تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية والفتوية في الفقه الإسلامي لمعالي الشيخ \ عبد الله بن محمد خنين 229
مسائل مصطلح الحديث لفضيلة الدكتور \ محمد بن عبد الله القناص 323
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في حكم الذهاب إلى السحرة من أجل المعالجة 375(78/5)
صفحة فارغة(78/6)
نصائح لحملة القرآن
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن من نعم الله على العبد أن يجعله من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وهم أفضل عباده الذين أورثهم الله الكتاب العزيز، ووفقهم فتلوا هذا القرآن حق تلاوته، ووفقهم فعملوا بهذا القرآن ووفقهم فاستضاءوا بنور القرآن، قال جل وعلا: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (1) ، فاستضاء بنور القرآن، واهتدى بهدي القرآن، وتأدب بآداب القرآن، فكان القرآن حلته وكان القرآن لباسه: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (2)
__________
(1) سورة الشورى الآية 52
(2) سورة الأعراف الآية 26(78/7)
وإن الله تعالى شرف هذه الأمة المحمدية، وخصها بخصائص لم تكن لأمة قبلها اختار لها سيد ولد آم ولا فخر، محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فجعله خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد ولدم آدم، فنالت الأمة المحمدية بفضل هذا النبي الكريم فضائل عظيمة، وتبوأت مكانة عليا، قال جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) واختار لها دينها فهو أكمل الأديان وأتمها؛ لأنه الدين الكامل الباقي إلى قيام الساعة.
ومعجزات الأنبياء قبلنا انتهت بموتهم، واختار الله عز وجل القرآن كتابا لهذه الأمة فهو كتاب الله الذي تكلم الله به وسمعه جبريل من رب العالمين وبلغه جبريل سيد الأولين والآخرين، وبلغه محمد صلى الله عليه وسلم أمته وتوارثه المسلمون خلفا عن سلف محفوظا بحفظ الله، لا يمكن أن تتطرق إليه أيدي العابثين زيادة أو نقصانا، أو تبديلا أو تغييرا، رغم العداوة المتمكنة من القلوب، والحقد على هذا الدين وأهله، ولكن الله حفظه كما حفظ إنزاله، فوجبت السماء بالشهب حتى لا يسترق الشياطين الوحي، ثم حفظ في صدور الرجال وفي المصاحف، وهيأ الله له حملة حملوه فحفظ بحفظ الله له فلم يستطيع أي مضلل، ولا أي مكابر أن يقدح في هذا
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110(78/8)
القرآن، فيزيد أو ينقص، أو يبدل أو يغير، ومن أراد ذلك فسينفضح، وينكشف خزيه بإرادة الله ـ جل وعلا ـ.
فمعجزات الأنبياء انقرضت بانقراضهم، أما معجزة هذا النبي فمعجزة باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين يقول صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة (1) » أخرجه مسلم، هذا القرآن هو حبل الله، من تمسك به فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، هذا الكتاب هو نظام هذه الأمة ودستورها الذي تحكمه وتتحاكم إليه، ونهج حياتها الذي يصدرون عنه، وحجة الله عليهم: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (2) .
وإن هذا القرآن شرف لحملته، ورفعة لهم في الدنيا والآخرة، إن هم تلوه بإخلاص، وإن هم تقربوا إلى الله بحفظه بإخلاص، وزينوا به ألسنتهم، وإن هم تلوه حق التلاوة، فحملهم القرآن على كل خير، وأدبهم القرآن الأدب النافع، وتربوا على مائدة القرآن تربية صالحة نافعة، تربية قوية، تربية تتصل بالروح والجسد معا، إن التربية على آداب القرآن هي التربية الناجحة، وهي النافعة المؤثرة،
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7274) ، صحيح مسلم الإيمان (152) ، مسند أحمد (2/451) .
(2) سورة الأنعام الآية 19(78/9)
وهي التربية التي تقود أهلها لكل خير، وتحلق بهم في فضاء الخير، وتجعلهم على منهج قويم وصراط مستقيم.
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، يهدي لكل سبيل قيم، ولكل طريق مستقيم، ولكل أدب حسن، ولكل فضيلة، ولكل خلق كريم، إنه كتاب الله، فحري بمن وفق لتلاوته ثم وفق لحفظه، أو حفظ كثيرا منه، أن يشكر الله على هذه النعمة، ويحمده على هذا الفضل، ويسأله أن يجعل ما حفظه حجة له، وأن يكون شافعا له يوم قدومه على الله، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (1) {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (2) ، فتأمل هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (3) ، أي لن تخسر، ولن يلحقها خسارة ولا دمار، لكنها التجارة الرابحة، والتجارة الباقية، والتجارة المثمرة، والتجارة التي سينتفع بها صاحبها أحوج ما كان إليه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (4) {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (5) ،
__________
(1) سورة فاطر الآية 29
(2) سورة فاطر الآية 30
(3) سورة فاطر الآية 29
(4) سورة فاطر الآية 32
(5) سورة فاطر الآية 33(78/10)
فالكتاب لا يحمله ولا يستقر في قلب، إلا في قلب من آمن به حقا وأخلص لله حقا، وهم الذين اصطفاهم الله من عباده، اصطفاهم فاختارهم لأن يكونوا حملة لكتابه، اختارهم لأن يكون القرآن في صدورهم، اختارهم لأن يكونوا أهل تلاوة له يتلذذون بتلاوته، ويخشعون عند تلاوته، ويتأدبون بآدابه فينطق اللسان، ويتأثر القلب، وتزكو الجوارح، وتستقيم الأحوال.
إن الناس حيال القرآن ثلاث طوائف، فمنهم الظالمون لأنفسهم، وهم الذين أخلوا بشيء من الواجبات أو اقترفوا بعض المحرمات، ومنهم مقتصد، من فعل الواجب وترك المحرم، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، أدى الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات، وتورع عما يخشى فيه من شبهة الحرام، فهؤلاء السابقون بالخيرات بإذن ربهم، وتوفيقه لهم: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (1) {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (2) {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} (3) {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} (4) ، هذا جزاؤهم، وهذا مآلهم، وعاقبة
__________
(1) سورة فاطر الآية 32
(2) سورة فاطر الآية 33
(3) سورة فاطر الآية 34
(4) سورة فاطر الآية 35(78/11)
أمرهم، لكنها تحتاج إلى الإخلاص لله قبل كل شيء، فإن أحد الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار، من أوقفه الله بين يديه، فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ماذا عملت فيها؟ قال: قرأت فيك القرآن وتعلمت فيك العلم، قال: كذبت قرأت ليقال قارئ وتعلمت العلم ليقال عالم، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه في النار، تلك مسألة عظمى، هي الإخلاص لله في تلاوته وحفظه، وألا نجعله وسيلة للفخر، ولا للتعلي، ولا للبروز، ولكن وسيلة للإيمان، وسيلة للتقوى، وسيلة للأدب الحسن، وسيلة للخلق الكريم.
والسلف كانوا يميزون أهل القرآن بأخلاقهم العالية، وصفاتهم الطيبة، وسمتهم الحسن، يقول ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبصيامه إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، يعني بذلك أن قارئ القرآن قد تأثر بالقرآن، فرأى قيام الليل فقام، وحث على التطوع في الصيام فصام، وكان ورعا خائفا من الله، ذا ندم على نفسه، من أن تزل به القدم، فهو على حذر دائم إلى أن يلقى الله يوم لقائه.
ثم إني أحث إخواني المتسابقين على شكر الله أن هيئت لهم مثل هذه المسابقة، فهذه المسابقة من سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز رفع الله بها درجته، وأعلى بها مقامه، وأبقى ذكره، وجعلها خالصة(78/12)
لوجه الله، وأثابه عما عمل خيرا، ووفق الله وزير الشؤون الإسلامية للقيام بهذه المهمة، وشكر له جهوده، وللعاملين معه جميعا، على ما بذلوا وقدموا.
إن هذه المسابقة مسابقة تشحذ الهمم، وتقوي العزائم، وتدفع بالشباب إلى التنافس المحمود في الأعمال الطيبة، قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (1) ، وفي الحديث: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار (2) » فهذا الذي يغبط، ويهتم بشأنه الآخرون، ويتنافس فيه المتنافسون، إن كتاب الله يسر الله للمسلمين تلاوته، ويسر لهم حفظه، ويسر لهم فهمه، إن أقبلوا عليه بقلوبهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (3) قال بعضهم: هل من قارئ للقرآن فيعان على قراءته، وبعضهم قال: هل من طالب للعلم فيعان عليه، كانت الكتب السابقة قبل هذا القرآن يحفظها الأنبياء، أو الخواص منهم، ولذا قال الله في التوراة: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (4) ، أما هذه الأمة فيسر الله لها حفظ القرآن، في وصفهم في الكتب السابقة، أمة أناجيلهم في صدورهم.
__________
(1) سورة المطففين الآية 26
(2) صحيح البخاري التوحيد (7529) ، سنن الترمذي البر والصلة (1936) ، سنن ابن ماجه الزهد (4209) .
(3) سورة القمر الآية 17
(4) سورة الأعراف الآية 145(78/13)
وهذه المسابقة لها فضل عظيم، فهي على مدار العام، يتنافس فيها الإخوان، ويتسابقون، ويجتهدون، كل يريد عسى أن يكون السابق لغيره، وهذا تنافس محمود إذا كان الهدف منه الإخلاص، وحث النفس، وترغيبها وترويضها على الخير، لتنال شرف هذه المسابقة، وهي حفظ كتاب الله عز وجل وإتقانه، فهي مسابقة داخلية تعم أرجاء المملكة، ورأينا أنها عاما بعد عام تزداد الأعداد، وتتحسن التلاوة، وتقوى الرغبة، وتضاعف الجهد، وهذه ولله الحمد مبشرات بخير.
كما أن مسابقة الملك عبد العزيز الدولية شقت طريقها، وهي في عامها السابع والعشرين، وهي مسابقة دولية يدعى لها من أنحاء العالم الإسلامي، فلها أيضا نتائجها، ومسابقة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لحفظ الكتاب والسنة، ومسابقة وزارة الدفاع والطيران تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع والطيران والمفتش العام، التي تختص بالعسكريين المسلمين سنويا، فكان فيها نشاط وتنافس جيد، ثم جاءت مسابقة جائزة الأمير نايف بن عبد العزيز للسنة.
وكل هذه المسابقات يكمل بعضها بعضا، ويشد بعضها أزر بعض، هي دالة على الحرص، والاهتمام بهذا المجتمع بتربيته على الخير، ليكون على منهج قويم، وصراط واضح، وطريق سليم.(78/14)
فعلى المتسابقين أن يغتنموا هذه المسابقة، وأن يجعلوها وسيلة تقوي عزائمهم، وتحببهم لكتاب الله، وتشوقهم له، وأدعو لمن أسس تلكم المسابقة بالتوفيق والسداد، والعمر المديد في طاعة الله، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه، وأسأل الله أن يصلح ولي أمرنا، ويوفقه لما يرضيه، ويوفق ولي عهده وحكومته، لكل ما يحبه ويرضاه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(78/15)
صفحة فارغة(78/16)
الفتاوى
*
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
*
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
*
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
*
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(78/17)
صفحة فارغة(78/18)
من فتاوى سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية ـ رحمه الله
ـ
التداوي بالرضاع من أجنبية والحقنة
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم محمد خليل إبراهيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصلنا استفتاؤك وفهمنا ما ذكرته من السؤال عن الرجل الذي له خمسة عشر عاما، هل يجوز له أن يرتضع من امرأة أجنبية. أو غير أجنبية للتداوي، وما حكم ذلك لو وقع، وهل لارتضاعه هذا أثر بالنسبة لانتشار الحرمة بين المرتضع والمرضعة في مثل هذا السن، وعن تحديد زمن الرضاع المحرم، وعما إذا كانت الحقنة من لبن المرأة للتداوي عند الضرورة حرام أم حلال ... إلخ.
وجوابا على ما تقدم ذكره نقول: أما رضاع الشخص الذي بلغ من العمر خمسة عشر عاما من امرأة للتداوي، فلا يظهر لنا وجه تحريمه. أما بالنسبة لتأثيره على انتشار الحرمة بينهما فلا يؤثر ذلك(78/19)
بحال في مثل هذا السن، والرضاع المحرم هو ما بلغ خمس رضعات فأكثر وبشرط أن يكون ذلك في الحولين من عمر المرتضع.
أما بخصوص الحقنة من لبن امرأة للتداوي سواء كان ذلك في الوريد أو في العضل فهو كما تقدم لا نعلم فيه تحريما. هذا والسلام.
مفتي الديار السعودية
(ص ـ ف ـ 3558 ـ 1 في 26\11\1386 هـ)(78/20)
شرب دم الضب للسعال الديكي
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم عبد الرحمن الحماد العمر سلمه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
بالإشارة إلى كتابك الذي تسأل فيه عن مسألة وهي: ما حكم إسقاء الأطفال المصابين بالكحة الشديدة التي تسمى بـ (السعال الديكي) دم الضب؛ لأنه ثبت بالتجربة أنه دواء ناجح لهذا المرض؛ ولأنه ثبت أن الأطباء غير مستطيعين غالبا لعلاج هذا المرض الذي يضر الطفل ضررا بالغا.
والجواب: إذا كان دم الضب مسفوحا فهو حرام، والتداوي بالمحرمات لا يجوز. والأصل في ذلك الكتاب والسنة والنظر.(78/20)
أما الكتاب فقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} (1) .
وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} (2) ، وما جاء في معنى هاتين الآيتين من القرآن.
وجه الدلالة: أن الله تعالى حرم الدم في الآية الأولى على سبيل الإطلاق، وحرمه في الثانية تحريما مقيدا، فيحمل المطلق على المقيد. ومن المقرر في علم الأصول أن الأحكام من أوصاف الأفعال، فإذا أضيفت إلى الذوات فالمقصود الفعل الذي أعدت له هذه الذات، فإضافة التحريم إلى الدم المسفوح إضافة إلى ما أعد له من شرب وتداو وبيع ونحو ذلك.
وأما السنة فأدلة:
الأول: روى البخاري في صحيحه معلقا عن ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم) وقد وصله الطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح، وأخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه، والبزار وأبو يعلى في مسنديهما، ورجال أبي يعلى ثقات. وتقرير الاستدلال من هذا الحديث أن قوله صلى الله عليه
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة الأنعام الآية 145(78/21)
وسلم (يجعل) فعل مضارع في سياق نافية وهو (لم) والفعل المضارع يشتمل على مصدر وزمان، وهذا المصدر نكرة وهو الذي توجه إليه النفي. وقد تقرر في علم الأصول أن النكرة في سياق النفي تكون عامة إذا لم تكن أحد مدلولي الفعل، وألحق بذلك النكرة التي هي أحد مدلولي الفعل، وقد صدر الجملة بإن المؤكدة. فالمعنى أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بعدم وجود شفاء في الأدوية المحرمة، وباب الخبر لفظا ومعنى لا لفظا من المواضع التي لا يدخلها النسخ، فحكمه باق إلى يوم القيامة.
فيجب اعتقاد ذلك. وتقريره أن من أسباب الشفاء بالدواء تلقيه بالقبول واعتقاد منفعته، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء، ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مما يحول بينه وبين اعتقاد منفعتها وبركتها وبين حسن ظنه بها وتلقيه لها بالقبول؛ بل كلما كان أكره لها وأسوأ اعتقادا فيها وطبعه أكره شيء لها، فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء له لا دواء؛ إلا أن يزول اعتقاد الخبث فيها وسوء الظن والكراهية لها بالمحبة، وهذا ينفي الإيمان، فلا يتناولها المؤمن قط على وجه داء.
الثاني: روى مسلم في صحيحه، عن طارق بن سويد الجعفي: «أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه وكره أن(78/22)
يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء (1) » وفي صحيح مسلم، عن طارق بن سويد الحضرمي، قال: «قلت يا رسول الله: (إن بأرضنا أعنابا نعتصرها فنشرب منها قال: لا. فراجعته. قلت: إنا نستشفي للمريض قال: إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء (2) » ويقرر الاستدلال من هذين الحديثين ما سبق، إلا أن هذا نص في الخمر، ويعم غيرها من المحرمات قياسا.
الثالث: روى أصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث (3) » . وجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الدواء الخبيث، والنهي يقتضي التحريم، فيكون تعاطيه محرما. وما حرم إلا لقبحه، والقبيح لا فائدة فيه، وإذا انتفت الفائدة انتفى الشفاء.
روى أبو داود في السنن من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تتداووا بحرام (4) » وأخرجه أيضا الطبراني ورجاله ثقات.
وجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم بين أن الدواء في المباح، أما المحرم فلا دواء فيه. وبيان ذلك من وجوه:
الأول: أن الله جل وعلا هو الذي قدر الأمراض وقدر لها
__________
(1) صحيح مسلم الأشربة (1984) ، مسند أحمد (4/317) .
(2) صحيح مسلم الأشربة (1984) ، سنن ابن ماجه الطب (3500) ، مسند أحمد (5/293) .
(3) سنن الترمذي الطب (2045) ، سنن أبي داود الطب (3870) ، سنن ابن ماجه الطب (3459) ، مسند أحمد (2/478) .
(4) سنن أبي داود الطب (3874) .(78/23)
الأدوية، وهو المحيط بكل شيء، فما أثبته فهو المستحق أن يثبت، وما نفاه فهو المستحق أن ينفى قولا وعملا واعتقادا.
الثاني: أن الله جل وعلا شرع لإزالة الأمراض أسبابا شرعية، وأسبابا طبيعية، وعادية. فالأسباب الشرعية مثل قراءة القرآن والأدعية وقوة التوكل ونحو ذلك. وأما الطبيعية فمثل ما يوجد عند المريض من قوة البدن التي تقاوم المرض حتى يزول.
وأما الأسباب العادية فمثل الأدوية التي تركب من الأشياء المباحة. فكيف تجتنب الأسباب المشروعة إلى أسباب يأثم مرتكبها إذا كان عالما بالحكم.
الثالث: أن أصل التداوي مشروع وليس بواجب، فلا يجوز ارتكاب محظور من أجل فعل جائز.
الرابع: أن زوال المرض مظنون بالدواء المباح. وأما بالدواء المحرم فمتوهم، فكيف يرتكب الحرام لأمر متوهم.
الخامس: أنه قال: «ولا تتداووا بحرام (1) » فهذا نهي، والنهي يقتضي في الأصل التحريم، وهو إنما حرم لقبحه، فلا يكون فيه شفاء.
وأما النظر فمن وجوه:
الأول: أن الله تعالى إنما حرمه لخبثه، فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيبا عقوبة لها كما حرمه على بني إسرائيل بقوله جل وعلا:
__________
(1) سنن أبي داود الطب (3874) .(78/24)
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (1) ، وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم لخبثه، وتحريمه له حمية لها وصيانة عن تناوله، فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل، فإنه وإن أثر في إزالتها لكنه يعقب سقما أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه، فيكون المداوي به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب.
الثاني: أن تحريمه يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق، وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته، وهذا ضد مقصود الشارع.
الثالث: أنه داء كما نص عليه الشارع، فلا يجوز أن يتخذ دواء.
الرابع: أنه يكسب الطبيعة والروح صفة الخبث؛ لأن الطبيعة تنفعل عن كيفية الدواء انفعالا بينا، فإذا كانت كيفيته خبيثة أكسب الطبيعة منه خبثا، فكيف إذا كان خبثا في ذاته؛ ولهذا حرم الله سبحانه على عباده الأغذية والأشربة والملابس الخبيثة؛ لما تكتسب النفس من هيئة الخبيث وصفته.
الخامس: أن إباحة التداوي به ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة، لا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها مزيل لأسقامها، جالب لشفائها، فهذا أحب شيء إليها،
__________
(1) سورة النساء الآية 160(78/25)
والشارع سد الذريعة إلى تناوله بكل ممكن، ولا ريب أن بين سد الذريعة إلى تناوله وفتح الذريعة إلى تناوله تناقضا.
السادس: أن في هذا الدواء المحرم من الأدواء ما يزيد على ما يظن فيه الشفاء.
وأما قولك: إنه ثبت بالتجربة أنه دواء ناجح لهذا المرض. فهذا غير صحيح؛ لأنه لا تلازم بين تعاطي الدواء المحرم وبين زوال المرض بعد التعاطي؛ لأن زواله قد يكون بدواء شرعي وطبيعي وعادي، ولكن صادف زواله تعاطي هذا الدواء الذي هو في الحقيقة داء، فنسب إليه. وقد يكون زواله لا من أجل كونه دواء ولكن من باب الابتلاء والامتحان.
وأما قولك إن الأطباء عاجزون في الغالب عن علاج هذا الداء. فهذا لا يصح الاستناد عليه لإباحة التداوي بهذا المحرم؛ لأن عجز عدد من الأطباء لا يلزم منه عجز غيرهم، ولا يلزم منه عدم وجود دواء مباح مما يعرفه الأطباء. على أن الأدوية الشرعية هي المصدر الأول للتداوي، والشفاء بيد الله تعالى، والدواء المباح سبب من الأسباب التي شرع التداوي بها.
هذه إجابة مختصرة قصدنا بها التنبيه على أصل المسألة، وفيها كفاية. والله الموفق. والسلام عليكم
مفتي الديار السعودية
(ص ـ ف ـ 1151 في 2\5\1388 هـ)(78/26)
من الضرورات التي تبيح نقل الدم
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم عبد الرحمن الحماد العمر سلمه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
بالإشارة إلى خطابك لنا الذي تسأل فيه عن مسألة وهي:
هل يجوز تزويد دم المسلم بدم غيره من بني الإنسان إذا احتيج لذلك كما في حالة النزيف أو الإصابة بالجراح ونحو ذلك، أم لا؟
والجواب على هذا السؤال يستدعي الكلام على ثلاثة أمور:
الأول: من هو الشخص الذي ينقل إليه الدم.
الثاني: من هو الشخص الذي ينقل منه الدم.
الثالث: من هو الشخص الذي يعتمد على قوله في استدعاء نقل الدم.
أما الأول: فهو أن الشخص الذي ينقل إليه الدم هو من توقفت حياته إذا كان مريضا أو جريحا على نقل الدم. والأصل في هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، وقال سبحانه في آية أخرى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ،
__________
(1) سورة النحل الآية 115
(2) سورة المائدة الآية 3(78/27)
وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) .
وجه الدلالة من هذه الآيات: أنها أفادت أنه إذا توقف شفاء المريض أو الجريح وإنقاذ حياته على نقل الدم إليه من آخر بأن لا يوجد من المباح ما يقوم مقامه في شفائه وإنقاذ حياته جاز نقل هذا الدم إليه، وهذا في الحقيقة من باب الغذاء لا من باب الدواء.
وأما الثاني: فالذي ينقل منه الدم هو الذي لا يترتب على نقله منه ضرر فاحش، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار (2) » .
وأما الثالث: فهو أن الذي يعتمد على قوله في استدعاء نقل الدم هو الطبيب المسلم، وإذا تعذر فلا يظهر لنا مانع من الاعتماد على قول غير المسلم يهوديا كان أو نصرانيا إذا كان خبيرا بالطب ثقة عند الإنسان. والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر استأجر رجلا مشركا هاديا خريتا ماهرا (3) » .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119
(2) أخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني.
(3) أخرجه البخاري.(78/28)
قال ابن القيم في كتابه (بدائع الفوائد) ما نصه: في استئجار النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط الديلي هاديا في وقت الهجرة وهو كافر دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطب والكحل والأدوية والكتابة والحساب والعيوب ونحوها، ما لم يكن ولاية تتضمن عدالة. لا يلزم من مجرد كونه كافرا ألا يوثق به في شيء أصلا؛ فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق، ولا سيما في مثل طريق الهجرة. وقال ابن مفلح في كتابه (الآداب الشرعية) نقلا عن شيخ الإسلام ابن تيمية ما نصه: إذا كان اليهودي والنصراني خبيرا بالطب ثقة عند الإنسان جاز له أن يستطبه، كما يجوز له أن يودعه ماله وأن يعامله كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (1) ، وفي الصحيح: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر استأجر رجلا مشركا هاديا خريتا ماهرا (2) » وائتمنه على نفسه وماله. وكانت خزاعة عيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمهم وكافرهم (العيبة) موضع السر، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستطب
__________
(1) سورة آل عمران الآية 75
(2) صحيح البخاري الإجارة (2264) ، سنن أبي داود اللباس (4083) ، مسند أحمد (6/212) .(78/29)
الحارث بن كلدة وكان كافرا. وإذا أمكنه أن يستطب مسلما فهو كما لو أمكنه أن يودعه أو يعامله فلا ينبغي أن يعدل عنه. وأما إذا احتاج إلى ائتمان الكتابي واستطبابه فله ذلك، ولم يكن من ولاية اليهود والنصارى المنهي عنها. انتهى كلامه.
هذا مذهب المالكية. وقال المروذي: أدخلت على أبي عبد الله نصرانيا فجعل يصف وأبو عبد الله يكتب ما وصفه ثم أمرني فاشتريت له. والسلام عليكم.
مفتي الديار السعودية
(ص ـ ف ـ 3819 ـ 1 في 2\12\1388 هـ)(78/30)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا ـ رحمه الله (1) ـ.
حكم قولهم: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (2)
س: ما حكم قولهم: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (3) ؟
ج: هذا غلط وما يدريهم بذلك؛ بل المشروع الدعاء له بالمغفرة والرحمة ويكفي ذلك.
__________
(1) هذه الفتاوى سبق نشرها في ج 13 من مجموع الفتاوى لسماحته.
(2) سورة الفجر الآية 27
(3) سورة الفجر الآية 27(78/31)
حكم قول أهل الميت للناس
:
(حللوا أخاكم) أو (أبيحوه) ونحوهما
س: ما حكم قول أهل الميت للناس: حللوا أخاكم، أو أبيحوه، وقولهم: استغفروا له؟
ج: لا أعلم لهذا أصلا؛ لكن إذا كان يعلم أنه ظالمهم وطلب منهم أن يبيحوه فلا بأس، وألا يقتصر الطلب على الدعاء والاستغفار.(78/31)
حكم توزيع أوراق يبين فيها مكان الصلاة والعزاء
س: عندنا في العمل إذا مات زميل لنا توزع أوراق يبين فيها مكان الصلاة أو العزاء فما حكمه؟
ج: ما أعلم في ذلك شيئا، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع النجاشي، فإذا قالوا سيصلى عليه في الجامع الفلاني فليس في ذلك شيء.(78/32)
حكم القصائد التي فيها رثاء للميت
س: القصائد التي فيها رثاء للميت هل هي من النعي المحرم؟
ج: ليست القصائد التي فيها رثاء للميت من النعي المحرم، ولكن لا يجوز لأحد أن يغلو في أحد ويصفه بالكذب، كما هي عادة الكثير من الشعراء.
رسالة تعزية (1) .
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الإخوان الكرام\ ع. م. ن. وإخوانه وأهل بيتهم. وفق الله الجميع لما فيه رضاه وجبر مصيبتهم.
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته برقم 1993\1\1 في 17\2\1392 هـ، عندما كان رئيسا للجامعة الإسلامية.(78/32)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
لقد بلغني وفاة والدكم رحمه الله، وأقول: أحسن الله عزاءكم وجبر مصيبتكم وغفر للفقيد وتغمده برحمته ورضوانه وأصلح ذريته جميعا. ولا يخفى على الجميع أن الموت طريق مسلوك ومنهل مورود، وقد مات الرسل وهم أشرف الخلق عليهم الصلاة والسلام، فلو سلم أحد من الموت لسلموا، قال الله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (1) ، والمشروع للمسلمين عند نزول المصائب هو الصبر والاحتساب والقول كما قال الصابرون: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (2) ، وقد وعدهم الله على ذلك خيرا عظيما، فقال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (3) . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وخلف له خيرا منها (4) » . فنسأل الله أن يجبر مصيبتكم جميعا، وأن
__________
(1) سورة آل عمران الآية 185
(2) سورة البقرة الآية 156
(3) سورة البقرة الآية 157
(4) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (26095) ، ومسلم في الجنائز برقم (918) .(78/33)
يحسن لكم الخلف، وأن يعوضكم الصلاح والعاقبة الحميدة. ونوصيكم بالصبر والاحتساب، والتعاون على البر والتقوى، والاستغفار لوالدكم، والدعاء له بالفوز بالجنة والنجاة من النار، والمسارعة لقضاء دينه إن كان عليه دين، كما نوصي زوجاته جميعا أن يبقين في بيوتهن حتى تنتهي العدة، والله سبحانه يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) . جبر الله مصيبة الجميع، وضاعف لكم جميعا الأجر، وغفر لوالدكم، وأسكنه فسيح جنته، إنه سميع قريب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رئيس الجامعة الإسلامية
__________
(1) سورة الحشر الآية 7(78/34)
حكم الصبر والشكر والرضا عند المصيبة
س: الشكر عند المصيبة هل واجب؟ (1) .
ج: الواجب الصبر؛ أما الرضا والشكر فهما مستحبان، وعند المصيبة ثلاثة أمور: الصبر وهو واجب، والرضا سنة، والشكر أفضل.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(78/34)
حكم النياحة على الميت
س: إني قلت لأخي: إذا توفيت لا تبكوا علي، ولا تذيعوا بالميكرفون. وأنا أخاف أن يفعلوا ذلك، فما توجيهكم لهم جزاكم الله خيرا؟ (1) .
ج: الواجب على المسلمين في هذه الأمور الصبر والاحتساب، وعدم النياحة، وعدم شق الثوب، ولطم الخد، ونحو ذلك؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية (2) » ، ولقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة (3) » ، وقال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب (4) » رواه مسلم في الصحيح. النياحة: هي رفع الصوت بالبكاء على الميت. وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة (5) » . والحالقة: هي التي تحلق شعرها
__________
(1) من برنامج (نور على الدرب) من الشريط رقم (12) .
(2) رواه البخاري في (الجنائز) برقم (1212) واللفظ له، ورواه مسلم في (الإيمان) برقم (148) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (934) ، مسند أحمد بن حنبل (5/344) .
(4) رواه مسلم في (الجنائز) برقم (934) .
(5) رواه البخاري معلقا في الجنائز، باب ما ينهى عن الحلق عند المصيبة (3\165 ـ فتح) ، ومسلم في (الإيمان) برقم (104) .(78/35)
عند المصيبة، أو تنتفه. والشاقة: هي التي تشق ثوبها عند المصيبة. والصالقة: هي التي ترفع صوتها عند المصيبة. وكل هذا من الجزع، فلا يجوز للمرأة ولا للرجل فعل شيء من ذلك. والواجب على أهلك أيتها السائلة أن يقبلوا هذه الوصية، ويحذروا من النياحة عليك؛ لأن النياحة تضرهم وتضر الميت، كما في الحديث الصحيح: «الميت يعذب في قبره بما نيح عليه (1) » . فلا يجوز لهم النياحة على الميت. أما البكاء بدمع العين، وحزن القلب فلا حرج فيه، إنما الممنوع رفع الصوت بالصياح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم: «إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون (2) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا ـ وأشار إلى لسانه ـ أو يرحم (3) » .
__________
(1) رواه البخاري في (الجنائز) برقم (1210) ، ومسلم في (الجنائز) برقم (1537) .
(2) رواه البخاري في (الجنائز) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنا بك لمحزونون)) برقم (1303) واللفظ له، ومسلم في (الفضائل) باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال برقم (2315) .
(3) رواه البخاري في (الجنائز) برقم (1221) ، ومسلم في (الجنائز) برقم (1532) .(78/36)
حكم من أوصى بعدم النياحة فناحوا عليه
س: إذا أوصى الميت بعدم النياحة عليه ثم مات فناحوا عليه، فهل يعذب؟ (1) .
ج: الله أعلم، والواجب عليهم الحذر، ولعله إذا كان أوصاهم وحذرهم يسلم، على القاعدة الشرعية المأخوذة من الآية القرآنية: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (2) .
__________
(1) هذا السؤال والذي بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.
(2) سورة الأنعام الآية 164(78/37)
دمع العين وحزن القلب لا بأس به
س: من غلبها البكاء فناحت فما الحكم؟
ج: النياحة لا تجوز، ودمع العين وحزن القلب لا بأس به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم: «العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونين (1) » .
__________
(1) أخرجه أحمد 3 / 194، والبخاري 2 / 85، ومسلم 4 / 1807 - 1808 برقم (2315) ، وأبو داود 3 / 493 برقم (3126) ، وابن ماجه 1 / 506 -507 برقم (1589) ، وابن حبان 7 / 432 برقم (3160) ، والحاكم 1 / 382، والبزار (كشف الأستار) 1 / 308 - 381 برقم (805) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4 / 293، والبغوي في شرح السنة 5 / 428 - 429 برقم (1528) .(78/37)
الميت يعذب بالنياحة
س: هل الميت يعذب ببكاء أهله عليه؟ (1) .
ج: بالنياحة فقط.
الجمع بين حديث: «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه»
وقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (2)
س: يوجد حديث عند الإمام البخاري رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أن «الميت يعذب ببكاء أهله عليه (3) » . وحديث آخر عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ترفض هذا القول وتقول: حسبكم القرآن: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (4) ، فما جوابكم أثابكم الله عن هذه المسألة؟ هل الميت يعذب ببكاء أهله عليه، أم أنه ليس للإنسان إلا ما سعى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (5) ؟
ج: ليس هناك تعارض بين الأحاديث والآية التي ذكرتها عائشة رضي الله عنها، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) نشر في (مجلة الفرقان) العدد (100) في ربيع الثاني 1419 هـ.
(2) سورة الأنعام الآية 164
(3) صحيح البخاري الجنائز (1304) ، صحيح مسلم الجنائز (932) ، سنن الترمذي الجنائز (1004) ، سنن النسائي الجنائز (1858) ، سنن أبي داود الجنائز (3129) ، مسند أحمد (6/281) .
(4) سورة الأنعام الآية 164
(5) سورة الأنعام الآية 164(78/38)
من حديث ابن عمر ومن حديث المغيرة وغيرهما في الصحيحين وليس في البخاري وحده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميت يعذب بما يناح عليه (1) » ، وفي رواية للبخاري: «ببكاء أهله عليه (2) » ، والمراد بالبكاء: النياحة وهي: رفع الصوت، أما البكاء الذي هو دمع العين فهذا لا يضر، وإنما الذي يضر هو رفع الصوت بالبكاء وهو المسمى بالنياحة. والرسول صلى الله عليه وسلم قصد بهذا منع الناس من النياحة على موتاهم وأن يتحلوا بالصبر ويكفوا عن النوح، ولا بأس بدمع العين وحزن القلب، كما قال عليه الصلاة والسلام لما مات ابنه إبراهيم: «العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون (3) » ، فالميت يعذب بالنياحة عليه من أهله، والله أعلم بكيفية العذاب الذي يحصل له بهذه بالنياحة، وهذا مستثنى من قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (4) ، فإن القرآن والسنة لا يتعارضان، بل يصدق أحدهما الآخر ويفسر أحدهما الآخر، فالآية عامة، والحديث
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند الكوفيين) من حديث المغيرة بن شعبة برقم (17737) ، والبخاري في (الجنائز) ، باب ما يكره من الناحية على الميت برقم (1291) ، ومسلم في (الجنائز) باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه برقم (933) .
(2) رواه البخاري في (الجنائز) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه)) برقم (1288) .
(3) أخرجه أحمد 3 / 194، والبخاري 2 / 85، ومسلم 4 / 1807 - 1808 برقم (2315) ، وأبو داود 3 / 493 برقم (3126) ، وابن ماجه 1 / 506 -507 برقم (1589) ، وابن حبان 7 / 432 برقم (3160) ، والحاكم 1 / 382، والبزار (كشف الأستار) 1 / 308 - 381 برقم (805) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4 / 293، والبغوي في شرح السنة 5 / 428 - 429 برقم (1528) .
(4) سورة الأنعام الآية 164(78/39)
خاص والسنة تفسر القرآن وتبين معناه فيكون تعذيب الميت بنياحة أهله عليه مستثنى من الآية الكريمة ولا تعارض بينها وبين الأحاديث، وأما قول عائشة رضي الله عنها فهذا من اجتهادها وحرصها على الخير وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على قولها وقول غيرها لقول الله سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) ، وقوله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة. والله الموفق.
__________
(1) سورة الشورى الآية 10
(2) سورة النساء الآية 59(78/40)
لا يجوز وصف الميت بأنه مغفور له أو مرحوم
الحمد لله والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد كثر الإعلان في الجرائد عن وفاة بعض الناس، كما كثر نشر التعازي لأقارب المتوفين، وهم يصفون الميت فيها بأنه مغفور له، أو مرحوم، أو ما أشبه ذلك من كونه من أهل الجنة، ولا يخفى على كل من له إلمام بأمور الإسلام وعقيدته، بأن ذلك من الأمور(78/40)
التي لا يعلمها إلا الله، وأن عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز أن يشهد لأحد بجنة أو نار، إلا من نص عليه القرآن الكريم كأبي لهب، أو شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كالعشرة من الصحابة المشهود لهم بالجنة رضي الله عنهم ونحوهم، ومثل ذلك في المعنى الشهادة له بأنه مغفور له، أو مرحوم، لذا ينبغي أن يقال بدلا منها: غفر الله له، أو رحمه الله، أو نحو ذلك من كلمات الدعاء للميت. وأسأل الله سبحانه أن يهدينا جميعا سواء السبيل. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(78/41)
س: كثرت العبارات التي تطلق في حق الأموات، فنحن نسمع عن فلان المغفور له أو المرحوم فهل هذه العبارات صحيحة؟ (1) .
ج: المشروع في هذا أن يقال غفر الله له أو رحمه الله ونحو ذلك إذا كان مسلما، ولا يجوز أن يقال المغفور له أو المرحوم؛ لأنه لا تجوز الشهادة لمعين بجنة أو بنار أو نحو ذلك، إلا لمن شهد الله له بذلك في كتابه الكريم أو شهد له رسوله عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) نشرت في (مجلة الدعوة) العدد (1561) في 21\6\1417 هـ.(78/41)
وهذا هو الذي ذكره أهل العلم من أهل السنة فمن شهد الله له في كتابه العزيز بالنار كأبي لهب وزوجته، وهكذا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة كأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي وبقية العشرة رضي الله عنهم وغيرهم ممن شهد له الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنة كعبد الله بن سلام، وعكاشة بن محصن رضي الله عنهما، أو بالنار، كعمه أبي طالب، وعمرو بن لحي الخزاعي وغيرهما ممن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالنار، نعوذ بالله من ذلك.
أما من لم يشهد له الله سبحانه ولا رسوله بجنة ولا نار فإنا لا نشهد له بذلك على التعيين. وهكذا لا نشهد لأحد معين بمغفرة أو رحمة إلا بنص من كتاب الله أو سنة رسول صلى الله عليه وسلم. ولكن أهل السنة يرجون للمحسن، ويخافون على المسيء، ويشهدون لأهل الإيمان عموما بالجنة وللكفار عموما بالنار. كما أوضح الله سبحانه ذلك في كتابه المبين قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} (1) ، وقال تعالى فيها أيضا: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} (2) ، الآية. وذهب بعض أهل العلم
__________
(1) سورة التوبة الآية 72
(2) سورة التوبة الآية 68(78/42)
إلى جواز الشهادة بالجنة أو النار لمن شهد له عدلان أو أكثر بالخير أو الشر لأحاديث صحيحة وردت في ذلك.(78/43)
من بدع الجنائز
س: ما حكم الله ورسوله في قوم إذا توفي أحد منهم قام أقرباؤه بذبح شاة يسمونها العقيقة، ولا يكسرون من عظامها شيئا، ثم بعد ذلك يقبرون عظامها وفرثها، ويزعمون أن ذلك حسنة ويجب العمل به؟ .
ج: هذا العمل بدعة لا أساس له في الشريعة الإسلامية، فالواجب تركه والتوبة إلى الله منه كسائر البدع والمعاصي، فإن التوبة إلى الله سبحانه تجب منها جميعا، كما قال عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (2) وإنما العقيقة المشروعة التي جاءت بها السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ما يذبح عن المولود في يوم سابعه، وهي
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة التحريم الآية 8(78/43)
شاتان عن الذكر وشاة واحدة عن الأنثى. وقد عق النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ وصاحبها مخير إن شاء وزعها لحما بين الأقارب والأصحاب والفقراء. هذه هي العقيقية المشروعة، وهي سنة مؤكدة، من تركها فلا إثم عليه.(78/44)
وجوب الاهتمام بالزكاة كباقي أركان الإسلام
س: لماذا لا يهتم الناس الآن بالزكاة، ويعطونها حقها، كباقي أركان الإسلام الخمسة؟ (1) .
ج: الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يهتما بصلاتهما وزكاتهما في جميع الأحوال، وأن يحذر كل منهما التساهل في ذلك؛ لقول الله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) ، وقوله عزل وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (3) ، وقال سبحانه:
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة من جريدة (المسلمون) .
(2) سورة النور الآية 56
(3) سورة البينة الآية 5(78/44)
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (1) ، وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (3) .
وحكم جميع الأموال التي تجب فيها الزكاة حكم الذهب والفضة، فالواجب على جميع المسلمين الذين لديهم أموال تجب فيها الزكاة أن يتقوا الله وأن يؤدوا زكاتها، وأن يصرفوها في أهلها المستحقين لها، وأن يحذروا التشبه بمن بخل أو تساهل بشأنها. والله ولي التفيق.
__________
(1) سورة مريم الآية 59
(2) سورة التوبة الآية 34
(3) سورة التوبة الآية 35(78/45)
الزكاة هي الركن الخامس من أركان الإسلام
وإخراج زكاة الفطر نقدا لا يجوز
س: يقدم المسلمون هذه الأيام زكواتهم، فما هو توجيه سماحتكم حول ذلك؟ وماذا عن زكاة عيد الفطر المبارك؟ وهل(78/45)
يجوز دفعها نقدا؟ (1) .
ج: قد فرض الله سبحانه وتعالى على عباده زكاة أموالهم، وأمرهم بأدائها، وجعلها من أركان الإسلام الخمسة، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2) ، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) ، والآيات في ذلك كثيرة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت (4) » متفق على صحته.
فالواجب على جميع المسلمين أن يؤدوا زكاة أموالهم إلى مستحقيها رغبة فيما عند الله، وحذرا من عقابه، وقد بين الله مستحقيها في قوله عز وجل في سورة التوبة:
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة من (صحيفة الجزيرة) ، مكتب الطائف في 24\9\1407 هـ.
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة النور الآية 56
(4) رواه البخاري في (الإيمان) باب بني الإسلام على خمس برقم (8) ، ومسلم في (الإيمان) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام برقم (16) ، والترمذي في (الإيمان) باب ما جاء بني الإسلام على خمس برقم (2609) واللفظ له.(78/46)
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) ، وأخبر سبحانه في سورة التوبة أيضا أن الزكاة طهرة لأهلها، فقال سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (2) ، وتوعد من بخل بها بالعذاب الأليم، حيث قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (4) ، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز، يعذب به صاحبه (5) » ، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم: «أن كل صاحب إبل أو بقر أو غنم لا تؤدى زكاتها فإنه يعذب بها يوم القيامة (6) » ، وفرض الله على المسلمين أيضا زكاة أبدانهم كل سنة،
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سورة التوبة الآية 103
(3) سورة التوبة الآية 34
(4) سورة التوبة الآية 35
(5) رواه الإمام مالك في الموطأ (كتاب الزكاة) باب ما جاء في الكنز برقم (595) .
(6) رواه البخاري في (الزكاة) باب زكاة البقر برقم (1460) ، ومسلم في (الزكاة) باب إثم مانع الزكاة برقم (988) .(78/47)
وقت عيد الفطر، كما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر: صاعا من تمر أو صاعا من شعير على الذكر والأنثى، الحر والمملوك، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس للصلاة (1) » هذا لفظ البخاري. وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: «كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب أو صاعا من أقط (2) » ، ويلحق بهذه الأنواع في أصح أقوال العلماء كل ما يتقوت به الناس في بلادهم، كالأرز والذرة والدخن ونحوها، وهي طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما خرجه أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم، فيجب على المسلمين أن يخرجوا هذه الزكاة قبل صلاة العيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإخراجها قبلها. ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، كما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفعلون ذلك. وبذلك يعلم أنه لا مانع من
__________
(1) رواه البخاري في (الزكاة) باب فرض صدقة الفطر برقم (1503) .
(2) رواه البخاري في (الزكاة) باب صدقة الفطر برقم (1506) ، ومسلم في (الزكاة) باب زكاة الفطر على المسلمين برقم (985) .(78/48)
إخراجها في اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين والثلاثين وليلة العيد، وصباح العيد قبل الصلاة؛ لأن الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعة وعشرين كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يجوز إخراج القيمة في قول أكثر أهل العلم؛ لكونها خلاف ما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وقد قال الله عز وجل: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (1) ، وقال سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) . والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة النور الآية 54
(2) سورة النور الآية 63(78/49)
النصاب من شروط وجوب الزكاة
س: دخل على رجل مقدار من النقود، وقبل أن يمضي عليه الحول اشترى بجزء منه أرضا والباقي مكث عنده إلى تمام الحول، فهل تجب الزكاة فيما بقي من النقود، وهل يجب في(78/49)
الأرض، ومتى تجب فيها؟ .
ج: الباقي من النقود إلى تمام الحول فهذا فيه الزكاة إذا كان نصابا أو أكثر، وهكذا لو كان أقل من النصاب إذا كانت الأرض المذكورة اشتريت للبيع وبلغت قيمة الجميع نصابا حتى حال عليها الحول، وأما الأرض فإن كان اشتراها للفلاحة عليها أو لاتخاذها مسكنا أو للتأجير فليس فيها زكاة، أما إن كان اشتراها للتجارة ففيها زكاة، إذا تم حول المال الذي بذل فيها، وبلغت قيمتها نصابا بنفسها أو بضم المال الباقي إلى قيمتها، كما سبق بيان ذلك، وسبق بيان مقدار النصاب في جواب السؤال السابق. والله الموفق.(78/50)
إذا بلغ الباقي بعد النفقة نصابا ففيه زكاة
س: إذا كان عند رجل مبلغ من النقود وحال عليه الحول، وهو يصرف على بيته من دخله، فهل تجب الزكاة في المبلغ المذكور؟
ج: تجب فيه الزكاة إذا حال عليه الحول، وبلغ النصاب،(78/50)
ومقداره ستة وخمسون ريالا من الفضة أو ما يقوم مقامها من دراهم الورق، ولو كان المبلغ المذكور معدا للنفقة ولكن بقي منه بعد النفقة ما يبلغ النصاب أو أكثر، وحال عليه الحول فإنه تجب فيه الزكاة. والله ولي التوفيق.(78/51)
كلما حال الحول على المال ففيه زكاة
س: هل تجب زكاة الأموال المدخرة بعد أداء زكاتها في البنك ولم يتجر فيها؟ .
ج: إذا كانت الأموال المذكورة نقودا من الذهب والفضة أو الأوراق التجارية والعملة الورقية فإنها تجب فيها الزكاة كلما حال عليها الحول بإجماع أهل العلم في الذهب والفضة، والعملة الورقية ملحقة بهما في أصح أقوال أهل العلم، أما إن كانت الأموال المدخرة ليست من هذه الأجناس بل من العروض، كالأواني وأنواع الملابس والأخشاب وغير ذلك، فهذه لا زكاة فيها إذا كان مالكها لم يقصد إرصادها للتجارة، وإنما أراد حفظها أو استعمالها. والله ولي التوفيق.(78/51)
كيفية ضبط الحول
س: إذا كان إنسان له مورد من المال يحصل له شيئا بعد شيء، كالموظف والتاجر ونحوهما، وينفق من ذلك ولا يعرف الذي حال عليه الحول، فكيف يصنع بالزكاة؟ .
ج: على مثل هذا أن يحفظ أوقات دخول المال وأن يقيدها حتى يعرف حول الزكاة، ويجعل للنفقة مالا مخصوصا كلما نفد جعل مكانه غيره حتى لا يشتبه عليه أمر الزكاة، إلا أن تسمح نفسه بإخراج الزكاة عن المال المجتمع عنده كل سنة اعتبارا بأول المال الذي وصل إليه فلا بأس عليه ولا حاجة إلى أن يحفظ أوقات الوارد؛ لأنه إذا زكى الجميع برئت ذمته براءة كاملة، وما زاد على الزكاة فهو صدقة تطوع، وأجر الصدقة معروف وعظيم، جعلنا الله وإياكم من المتصدقين. والله الموفق.(78/52)
س: رجل يعتمد في دخله على المرتب الشهري، فيصرف(78/52)
بعضه ويوفر البعض الآخر، فكيف يخرج زكاة هذا المال؟ (1) .
ج: عليه أن يضبط بالكتابة ما يدخره من مرتباته ثم يزكيه إذا حال عليه الحول، كل وافر شهر يزكى إذا حال عليه الحول، وإن زكى الجميع تبعا للشهر الأول فلا بأس وله أجر ذلك، وتعتبر الزكاة معجلة عن الوفر الذي لم يحل عليه الحول، ولا مانع من تعجيل الزكاة إذا رأى المزكي المصلحة في ذلك، أما تأخيرها بعد تمام الحول فلا يجوز إلا لعذر شرعي، كغيبة المال أو غيبة الفقراء.
__________
(1) نشر في كتاب (تحفة الإخوان) لسماحته ص 149.(78/53)
حكم زكاة أموال الصدقة
س: لدي مبلغ من المال من أهل الخير لبناء مسجد وبقي عندي أكثر من سنة، فهل عليه زكاة أم لا؟ (1) .
ج: ليس عليه زكاة مطلقا؛ لأن أهله قد أنفقوه في سبيل الله، وعليك المبادرة بالتنفيذ. والله الموفق.
__________
(1) نشر في (كتاب الدعوة) ج 1 ص 108، وفي (جريدة الرياض) العدد (1093) بتاريخ 4\2\1419 هـ.(78/53)
حكم زكاة أموال الصناديق الخيرية
س: لدينا في جامعة الملك سعود صندوق للطلبة، وهو عبارة عن جهاز مالي يتم تمويله من الجامعة، وباقتطاع جزء يسير من مكافآت الطلاب، ويتم من خلال هذا الصندوق إعانة الطلاب المحتاجين. فهل على المبالغ الموجودة في الصندوق زكاة؟ (1) .
ج: ليس في مال الصندوق المذكور وأشباهه زكاة؛ لأنه مال لا مالك له، بل هو معد لوجوه الخير كسائر الأموال الموقوفة في أعمال الخير.
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع وترتيب الشيخ محمد المسند ج 2 ص 86.(78/54)
المال المجموع من عدة أفراد للتعاون على الخير لا يزكى
س: إذا كان هناك جماعة يدفع كل منهم جزءا من المال، ويدخرونه لقصد الاستفادة منه عند وقوع حوادث لبعضهم ـ لا سمح الله ـ واحتاجوا إليه في شئونهم العامة، وحال الحول على هذا المبلغ، فهل عليه زكاة؟ (1) .
__________
(1) نشر في كتاب (فتاوى إسلامية) جمع وترتيب الشيخ محمد المسند ج 2 ص 87.(78/54)
ج: هذه الأموال وأشباهها التي يتبرع بها أهلها للمصالح العامة، وللتعاون على الخير فيما بينهم ليس فيها زكاة؛ لأنها قد أخرجت من أملاكهم ابتغاء وجه الله، ومنافعها مشتركة لغنيهم وفقيرهم، ولعلاج الحوادث التي تنزل بهم، فتعتبر بذلك خارجة عن أملاكهم في حكم الصدقات المجموعة لإنفاقها في سبيلها الذي أخرجت له.(78/55)
حكم الزكاة في المبالغ المرصودة
تعويضا عن نزع ملكيات العقار
س: بعض الناس يسألون عن إخراج الزكاة عن مبالغ نقدية ترصد لهم عن طريق نزع ملكيات العقار، علما بأنهم لا يستلمون هذه المبالغ إلا بعد مضي سنين من رصدها فكيف تكون الزكاة على هذه المبالغ؟ .
ج: العقار الذي نزعت ملكيته وتم تقدير قيمته ولكن مالكه لم يتمكن من قبضها بسبب غير عائد إليه، ليس عليه زكاة حتى يقبض قيمته ويستقبل بها حولا جديدا.(78/55)
حكم زكاة المال الموصى به
س: رجل توفي وأوصى بمبلغ (2000) ريال لأحد إخوانه ليتزوج به وبين وفاة الرجل وزواج أخيه سنوات، فهل يجب على هذا المبلغ زكاة؟ (1) .
ج: إذا كان أوصى به لشخص معين يكون مالا للشخص المعين إذا قبضه، ويزكيه إذا حال عليه الحول، ولو تأخر الزواج. والله ولي التوفيق.
__________
(1) من ضمن أسئلة اللقاء المفتوح بين سماحته ومنسوبي ثانوية دار التوحيد بالطائف بتاريخ 29\1\1418 هـ.(78/56)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: يتداول مجتمع المثقفات والأكاديميات مناقشات حول مشاركة المرأة السياسية في المرحلة القادمة: ومن ذلك دخولها مجلس الشورى، مشاركتها في الانتخابات، ما رأي سماحتكم في هذه الطروحات؟
ج: أنا أحب أن أوجه رسالة صادقة إلى أخواتي المثقفات والأكاديميات آمل أن يعوها جيدا، أخواتي: إن الله عز وجل حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم من العرب كاد له أعداء الله من اليهود والنصارى، مع علمهم بأنه سيبعث رسول في ذلك الزمان وعلمهم باسمه وصفته كأنهم يرونه رأي العين، يقول الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (1) ويقول سبحانه:
__________
(1) سورة البقرة الآية 146(78/57)
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) .
وعيسى عليه السلام بشر قومه ببعثة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (2) .
بل إنهم كانوا ينتظرونه، وكانوا يعرفون زمان خروجه وصفته، إلا أنهم كانوا يتمنون أن يكون من بني إسرائيل، فلما بعثه الله عز وجل وكان عربيا كفروا به {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (3) .
فهم كفروا بنبينا صلى الله عليه وسلم كبرا وحسدا، بل إن الأمر قد تعدى هذا إلى أن حسدوا أهل الإسلام على هذا الدين الحق، وهم يعلمون أنه حق، ومع ذلك لم يسلكوه ويودون لو كفر به أهل الإسلام حسدا لهم، يقول الله عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (4) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة الصف الآية 6
(3) سورة البقرة الآية 89
(4) سورة البقرة الآية 109(78/58)
وأيضا ازداد بغضهم وحسدهم على أهل الإسلام، حتى إنهم لا يتركون فرصة للنيل من الإسلام وأهله سواء بالأقوال البذيئة المؤذية أو الأفعال من قتل وتخريب وغير ذلك، إلا انتهزوها وساروا فيها، يقول الله عز وجل: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} (1) .
أخواتي ... أنا هنا أخاطب نخبة مثقفة مسلمة واعية، وأنا على ثقة تامة بوعيها الديني وحرصها على دينها دين الإسلام والمحافظة عليه، لذا فإني أقول إن مثل هذه المطالبات يجب أن يعاد النظر فيها، هل هي تخدم دين الإسلام؟ هل ستساعد على لحمة الأمة الإسلامية وتماسكها، هل ستؤدي إلى رفعة هذا الدين؛ أخواتي إن الأمر يجاوز مسألة تسجيل المواقف، أو انتهاز الفرص، أو حجز مقاعد، أو ما إلى ذلك مما نسمع ونقرأ.
إن الأمر أيها الأخوات.. استمرار لمكائد الأعداء ضد هذه الأمة، لن يألوا جهدا في إيصال الأذى إلينا، لن يألوا جهدا في تفريق صفنا وتشتيت كلمتنا، لن يألوا جهدا في إيقاع الفتنة بيننا، وما يروجون له في هذه العصور المتأخرة من حقوق المرأة كل هذا نوع من أنواع الكيد، وتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء (2) » أخرجه
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 2
(2) صحيح البخاري النكاح (5096) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740) ، سنن الترمذي الأدب (2780) ، سنن ابن ماجه الفتن (3998) ، مسند أحمد بن حنبل (5/200) .(78/59)
مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء (1) » أخرجه مسلم.
فأنا أحب من أخواتي أن يكن واعيات بصيرات بواقعهن، مدركات حجم المسؤولية عليهن، وألا يفتحن على أهل الإسلام باب شر.
نعم نحن نعاني من رجال ظلمة يسلبون نساءهم حقوقهن المشروعة، فنرى البعض يحرمها من الميراث وآخرين يمنعون عنهن الأكفاء عندما يتقدمون لخطبتهن، وآخرون يضربون زوجاتهم، وآخرون يعضلوهن، وآخرون وآخرون، نحن نعاني من ذلك ونحذر منه ونبين تحريمه، ونطالب بتغيير هذا الواقع السيئ المهين البعيد عن الشرع.
لكني أكرر، يجب أن نقف جميعا يدا واحدة ضد مخططات الأعداء، فالأمر أبعد بكثير من مشاركة المرأة في الشورى أو المساواة ونحو ذلك من الدعاوى، الأمر يدور حول السعي لهدم الدين في معقله ومئرزه هذه البلاد الطاهرة التي شهدت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وظهور الدين، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها.
فالفطنة.. الفطنة ... والحذر.. الحذر أن يؤتى الإسلام من قبل أهله. بارك الله فيكن ونفع بكن الإسلام والمسلمين.
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الفتن (4000) ، مسند أحمد (3/19) .(78/60)
س: هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالذات التغيير باليد حق للجميع، أم أنه حق مشروط لولي الأمر ومن يعينه ولي الأمر؟
ج: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظيمة يجب على المسلمين القيام بها؛ لأن الله أمرهم بذلك في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) ، وهي سبب خيرية أمة الإسلام، يقول الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (2) .
وترك هذا الواجب العظيم سبب لغضب الله ولعنته، يقول الله عز وجل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (3) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (4) .
والإعراض عن هذا الواجب سبب لحلول المصائب والعقوبات وعدم إجابة الدعوات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) سورة المائدة الآية 78
(4) سورة المائدة الآية 79(78/61)
نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم (1) » أخرجه الترمذي وحسنه.
وبكل حال فالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لنجاة الأمم والإعراض عنه وتركه سبب لهلاكها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا (2) » أخرجه البخاري.
والقيام بهذه الشعيرة وإظهارها واجب على الكفاية، فيجب على من ولي أمر المسلمين أن ينتدب أقواما لإقامة هذه الشعيرة العظيمة؛ لقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) ، وقول الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) .
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2169) ، مسند أحمد (5/389) .
(2) صحيح البخاري الشركة (2493) ، سنن الترمذي الفتن (2173) ، مسند أحمد (4/274) .
(3) سورة آل عمران الآية 104
(4) سورة الحج الآية 41(78/62)
هذا وإن على كل مسلم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متى رآه بقدر علمه وقدرته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » أخرجه الإمام مسلم.
فإنكار المنكر بالقلب واجب على كل مسلم يعلم أن هذا منكر، وأما الإنكار باللسان واليد فعلى حسب القدرة، وإنكار المنكر لا بد له من علم وقدرة ورفق حتى يكون أمره ونهيه وفق الشرع، وقد ذكر العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قواعد مفيدة في هذا الباب يحسن بمن تصدى لهذا الأمر العظيم أن يطالعها ويطبقها حتى يسير في أمره ونهيه وفق شرع ربه.
ونحن نذكر هنا بعض الفوائد من كلامه رحمه الله، فمن ذلك قوله رحمه الله: وجماع ذلك داخل في (القاعدة العامة) : فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد. فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له؛ فإن كان الذي يفوت المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به؛ بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته؛ لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (956) ، صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبي داود الملاحم (4340) ، سنن ابن ماجه الفتن (4013) ، مسند أحمد (3/92) .(78/63)
اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام.
وقال رحمه الله: فلا بد من هذه الثلاثة: العلم؛ والرفق؛ والصبر. العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة مستصحبا في هذه الأحوال؛ وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعا؛ ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد: (لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما ينهى عنه؛ رفيقا فيما يأمر به؛ رفيقا فيما ينهى عنه؛ حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه) . وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.(78/64)
س: من النساء من تتناول دواء لإيقاف العادة الشهرية في شهر رمضان لتتمكن من أداء الصلاة والصيام مع الناس، ما حكم عملها هذا؟
ج: استعمال هذه الأدوية التي تمنع نزول الحيض وتمنع الحمل ونحوها أولا في أصل استعمالها لا بد للمرأة أن تستشير أهل الاختصاص في الطب هل من المناسب لها استعمال مثل هذه الأدوية؛ لأنها لا تناسب كل امرأة بل قد تضر ببعض النساء، ثم إن كانت لا(78/64)
تضرها لا بد من إذن زوجها فإن أذن لها فإن استعمالها لهذا الدواء مباح، لكن ينبغي للنساء عدم التمادي والاسترسال في هذا الأمر؛ لأنه ومن الواقع ثبت لنا أن مثل هذه الأدوية تسبب للمرأة اضطرابات في عادتها حتى تكون المرأة غير ضابطة لها، فتختل عليها بسبب ذلك كثير من الأمور، وخاصة العبادات من صلاة وصيام وحج ونحو ذلك.
لذا فإني أنصح المرأة أن تترك الأمر على طبيعته كما خلقه الله، فإنه سبحانه أحكم الأحكمين وهو العليم الخبير اللطيف، يعلم ما يصلح عباده، فلا ينبغي لها أن تتعرض لمثل هذه الأمور التي تؤدي بها إلى الاختلال والاضطراب في عادتها فتختل عبادتها تبعا لذلك، وقد كان نساء الصحابة رضي الله عنهن بل وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعا يأتيهن الحيض في رمضان فيفطرن، ثم يقضين، والحمد الله الأمر يسير، تفطر إذا نزل دم الحيض ثم تقضي، ولها فيمن سلف من نساء الصحابة رضي الله عنهن خير قدوة، حتى إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أخبرت أنه كان يكون عليها الصوم من رمضان فما تقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، المقصود أن الأمر يسير ولا تضجر المرأة وتذهب لهذه الأدوية التي تسبب لها الاضطرابات. والله أعلم.(78/65)
س: في أيام الإجازة في شهر رمضان يلاحظ على البعض هداهم الله أنه يسهر إلى الفجر ثم ينام ولا يستيقظ إلا مع أذان المغرب ما حكم هذا التصرف، آمل بسط الإجابة في هذا السؤال وبيان مخاطره؟
ج: السهر ليالي رمضان إما أن يكون على طاعة وعبادة وإما أن يكون على مباح، أو يكون على محرم، فإن كان على طاعة فهذا حسن ومندوب؛ لأن إحياء ليالي رمضان بالذكر والدعاء وتلاوة القرآن والصلاة وغيرها من العبادات أمر مستحب خصوصا ليالي العشرة الأخيرة، ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان يخلط في العشرين الأولى النبي صلى الله عليه وسلم من نوم وصلاة فإذا دخلت العشرة جد وشد المئزر (1) » .
أما إن كان السهر على مباح فإنه يكره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها.
أما إن كان السهر على محرم من نظر أو سماع أو فعل ونحوه فهذا بلا شك محرم، والسهر بكل أصنافه إن أدى إلى تفويت واجب كمن يسهر الليل ثم ينام النهار ويفوت الصلاة فإن هذا محرم، بل يخشى على من فعل هذا واعتاده أن يكون ممن ترك الصلاة تهاونا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) » وغير ذلك من النصوص الدالة على
__________
(1) صحيح البخاري صلاة التراويح (2024) ، صحيح مسلم الاعتكاف (1175) ، سنن الترمذي الصوم (796) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1639) ، سنن أبي داود الصلاة (1376) ، سنن ابن ماجه الصيام (1768) ، مسند أحمد (6/256) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد (5/346) .(78/66)
عظيم أمر الصلاة وخطر تركها على دين المسلم. وواجبنا جميعا الحرص والعناية بأنفسنا وبمن هم تحت أيدينا وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.(78/67)
س: عندما يفطر الصائمون في المسجد يدخل معهم أحيانا أناس ليسوا بمسلمين يأكلون، فالبعض يقول دعوهم لعل الله أن يهديهم فهل نمنعهم أم ندعهم؟
ج: هذه الموائد التي توضع للإفطار هي من الصدقات العامة ولا مانع من أن يأكل منها الكافر، لقوله تعالي: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (1) ، وهو من الإحسان العام والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «في كل كبد رطبة أجر (2) » ولعل في حضورهم مثل هذه المجامع ومشاهدتهم لتلاحم المسلمين وإظهارهم لمثل هذه الشعائر؛ لعل ذلك يكون سببا في أن يفتح الله على قلوبهم وربما انشرحت صدورهم للإسلام.
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 8
(2) صحيح البخاري المساقاة (2363) ، صحيح مسلم السلام (2244) ، سنن أبي داود الجهاد (2550) ، مسند أحمد (2/521) ، موطأ مالك الجامع (1729) .(78/67)
س: يأتينا من قبل بعض العامة ورقة تتضمن حديث شخص عن امرأة مريضة بمرض عضال وأنها امرأة صالحة وأنها نامت ليلة(78/67)
سبع وعشرين من رمضان فرأت بنت النبي صلى الله عليه وسلم زينب، وأنها أعطتها دواء أو شيئا من هذا فلما قامت من منامها فإذا هي قد شفيت، فعلى كل إنسان أن يصورها ـ 13 صورة ـ ويوزعها ويكون له من الأجر كذا، وإن كان مريضا شفي، وإن كان فقيرا اغتنى، وإن من لم يفعل ذلك ستأتيه أمراض، وإن كان تاجرا فسيخسر تجارة، ثم يذكر أمثلة وكرامات تحققت لمن ينشرها، ومصائب لمن أهملها، فهل من تعليق على هذه الورقة المنشورة وتركها على التوكل على الله، جزاكم الله خيرا؟
ج: هذه الورقة باطلة وما فيها باطل، وتعليق الناس بمثل هذه الخرافات يؤدي إلى فساد عظيم، إلى اندراس العلم الصحيح، والتعليق بخرافات ما أنزل الله بها من سلطان، فالواجب العناية بأمور الديانة وتحصين الناس ضد مثل هذه الأشياء التي تخل بديانتهم، ولا يكون هذا إلا بنشر العلم الشرعي الصحيح المبني على الكتاب والسنة، وتربية الناس على الرجوع إليه في كل صغيرة وكبيرة، هذا هو الواجب، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.(78/68)
من فتاوى اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء
من الفتوى رقم 8594
السؤال الأول: هل صحيح أن تغطية الرأس كلبس الطاقية كوفية مثلا سنة ولا سيما عند أداء الصلاة؟
ج: تغطية الرجل رأسه في الصلاة ليست من سننها.
السؤال الثاني: وأيضا عند أداء الصلاة يقال بأن من يصلي وذراعاه مكشوفتان (أي من يصلي وهو لابس كما قصيرا) مكروه فهل هذا صحيح؟
ج: ليست الصلاة بالكم القصير مكروهة للرجل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(78/69)
من الفتوى رقم 7178
السؤال الأول: ما حكم الصلاة إذا كانت بفوطة ومثبته فوق جسدي؟
ج: إذا كان ما ذكرته من لباس ساترا لعورتك في الصلاة وهي ما بين السرة والركبة صحت صلاتك وإلا فلا. والأحوط أن تصلي بما يستر كتفيك من ستر العورة لحديث: «لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء (1) »
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (359) ، صحيح مسلم الصلاة (516) ، سنن النسائي القبلة (769) ، سنن أبي داود الصلاة (627) ، مسند أحمد (2/520) ، سنن الدارمي الصلاة (1371) .(78/70)
الفتوى رقم 12262
س: هل يجوز كشف المنكبين في الصلاة؟
ج: المشروع للمصلي تغطية منكبيه في الصلاة، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يصلي أحدكم في الثوب(78/70)
الواحد ليس على عاتقيه منه شيء (1) » . متفق على صحته.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (359) ، صحيح مسلم الصلاة (516) ، سنن النسائي القبلة (769) ، سنن أبي داود الصلاة (627) ، مسند أحمد (2/520) ، سنن الدارمي الصلاة (1371) .(78/71)
الفتوى رقم 1733
س: ما حكم الصلاة في النظارات الطبية؟
ج: يجوز للإنسان أن يصلي بالنظارات الطبية، إلا إذا كان استعمالها يمنع من تمكين المصلي جبهته أو أنفه من الأرض فلا يجوز.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(78/71)
من الفتوى رقم 3867
السؤال الثاني: أصحيح قول من أفتى ببطلان صلاة من(78/71)
صلى عريانا؟
ج: نعم من صلى عريانا وهو قادر على ما يستر به عورته فصلاته باطلة، وقد ذكر الإمام ابن عبد البر الإجماع على ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(78/72)
من الفتوى رقم 8052
السؤال الحادي عشر: ما حكم ثني كم القميص أو السروال هل هو من الكفت المنهي عنه في الصلاة؟
ج: إذا كان ذلك الثني من أجل الصلاة فهو من الكفت المنهي عنه في الصلاة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(78/72)
من الفتوى رقم 11776
السؤال الرابع: هل يجوز لإنسان أن يلعب أي لعبة مع إنسان يرتدي سروالا قصيرا؟
ج: لا يجوز لك اللعب مع من ذكرت؛ وذلك لانكشاف العورة وخوف الفتنة، والعورة للرجل ما بين السرة والركبة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(78/73)
من الفتوى رقم 8708
السؤال الثامن: منذ فترة كنت أصلي بدون حجاب؛ لأنني كنت لا أعلم بوجوب الحجاب في الصلاة، فهل تجب إعادة تلك الصلاة، مع أنها كانت فترة طويلة (6 سنوات) تقريبا أو أكثر من النوافل والسنن؟
ج: إذا كان الواقع ما ذكر من جهلك بما يجب ستره في(78/73)
الصلاة فلا إعادة عليك لصلاة المدة الماضية، وعليك التوبة إلى الله من ذلك، ويشرع لك الإكثار من الأعمال الصالحة، لقول الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (1) ، وما جاء في معناها من الآيات، مع العلم بأن الوجه يشرع للمرأة كشفه في الصلاة إذا لم يكن لديها من يجب التحجب عنه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة طه الآية 82(78/74)
من الفتوى رقم 4945
السؤال الرابع: هل من الواجب على المرأة أن تصلي بدون سروال؛ لأني أراهن يفعلن ذلك ومن بينهن زوجتي؟
ج: على المرأة أن تصلى في ثوب يستر عورتها جميعا، لما روته عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار (1) » ولما روت أم سلمة رضي الله عنها
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (377) ، سنن أبي داود الصلاة (641) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (655) ، مسند أحمد (6/259) .(78/74)
أنها «سألت النبي صلى لله عليه وسلم: أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ فقال: (إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها (1) » أخرجه أبو داود، وصحح الأئمة وقفه على أم سلمة.
والمرأة كلها عورة في الصلاة إلا وجهها وكفيها، لكن إذا كان لديها أجنبي فإنها تسترهما. ولا حرج عليها أن تصلي في سراويلها إذا كانت طاهرة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبي داود الصلاة (640) ، موطأ مالك النداء للصلاة (326) .(78/75)
من الفتوى رقم 12259
السؤال الأول: هل يوجد حكم شرعي يدل على نزع السروال، وهذا بالنسبة للمرأة في الصلاة. علما أنها تلبس الحجاب، وأن السروال طاهر؟ وإن كان هذا من الشرع فما السر في ذلك؟
ج: ليس هناك دليل شرعي على مطالبة المرأة وغيرها بنزع(78/75)
السروال عند الصلاة إذا كان طاهرا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(78/76)
من الفتوى رقم 658
السؤال الثالث: ما حكم صلاة من يحمل صورة، كأن يكون معه حفيظة نفوس فيها صورته يخشى من ضياعها إذا تركها حتى يصلي، أو يكون معه فلوس فيها صور؟
ج: يجوز للإنسان أن يصلي الفرض والنفل وهو حامل حفيظة نفوس فيها صورته أو حامل لنقود فيها صور، وصلاته بدون حمل صورة خير له إذا أمكنه التخلص من ذلك بغير ضرر يلحقه أو مشقة تصيبه، عملا بظواهر الأحاديث، وخروجا من خلاف العلماء في الصور غير المجسمة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(78/76)
من الفتوى رقم 3932
السؤال الثاني: مضمونه الغالب أن المصلي لا يخلو جيبه من النقود أو الحفيظة أو غيرها، وهي تحمل ما نهي عنه من الصور، فما رأي فضيلتكم في صحة صلاتي وصلاة الآخرين؟
ج: من يصلي وفي جيبه نقود أو حفيظة ونحوها بها صور فلا شيء عليه، وصلاته صحيحة؛ لأنه في حكم المضطر إلى ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(78/77)
من الفتوى رقم 5611
السؤال الثاني: هل تجوز الصلاة في ثوب فيه صورة إنسان، أو صور حيوانات، وهل يجوز دخول بيت الخلاء بثوب فيه اسم الله؟
ج: لا يجوز له أن يصلي في ملابس فيها صور ذوات(78/77)
الأرواح من إنسان أو طيور أو أنعام أو غيرها من ذوات الأرواح، ولا يجوز للمسلم لبسها في غير الصلاة، وتصح صلاة من صلى في ثوب فيه صور مع الإثم في حق من علم الحكم الشرعي، ولا يجوز كتابة اسم الله على الثوب، وكره دخول بيت الخلاء به إلا لحاجة لما في ذلك من امتهان اسمه تعالى.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(78/78)
الفتوى رقم 3316
س: نفيدكم بأننا نواجه بعض الصعوبات استطعنا أن نحل بعضها. إن المشاكل عندنا مرتبطة بالمواعظ التي نلقيها عادة بعد الوعظ الذي نقدمه إلى المعتنقين الجدد، نعطيهم فرصة لطرح الأسئلة، مثلا، حدث مؤخرا أن قمنا بإلقاء موعظة على بعض المعتنقين الجدد للإسلام عن التصوير والتماثيل وكيف أنها محرمة في أماكن العبادة كما ورد في الحديث، وفي الختام سأل أحدهم(78/78)
سؤالا لم نستطع الإجابة عليه، ولكننا وعدناه بالرد على سؤاله بعد أن نكتب لكم.
وكان سؤاله: السجاجيد التي نصلي عليها فيها تصاوير الأسود والفهود وغيرها، وقال صاحب السؤال: إن هناك صورا للكعبة في المساجد، فهل يعني هذا أن الذين يصلون في مثل هذه الأماكن لن تقبل صلواتهم؟
إننا نحيل إليكم هذا السؤال؛ لأنه فوق علمنا.
ج: تصوير ما فيه روح من إنسان أو حيوان حرام، بل من كبائر الذنوب، سواء كانت الصور مجسمة أم ألوانا في قماش أو ورق أو على جدار، أم كانت نسيجا بخيوط ملونة، أم غير ذلك، واقتناؤها والإبقاء عليها حرام والصلاة عليها مكروهة لا محرمة؛ لأنها ممتهنة، هذا إذا كان تصويرها لغير ضرورة، أما إذا كان لضرورة كالتصوير لتابعية أو جواز سفر أو بطاقة شخصية أو نحو ذلك فيرخص فيه، وأما تصوير ما ليس فيه روح من جبال وأنهار وبحار وزرع وأشجار وبيوت ونحو ذلك دون أن يظهر فيها أو حولها صور أحياء فجائز، والصلاة عليها مكروهة لشغلها بال المصلي، وذهابها بشيء من خشوعه في صلاته، ولكنها صحيحة.
وأما أداء الصلاة في المساجد التي فيها صورة الكعبة فصحيحة(78/79)
ولا حرج فيها، لعدم وجود ما يقتضي المنع، لكن ترك وضع صور الكعبة في المساجد أولى.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(78/80)
الفتوى رقم 7810
س: ما حكم الصلاة على الفرش المحتوية على الرسوم التي على شكل البناء الإسلامي كما هو موجود بالفرش الموجودة بالمساجد حاليا. وما حكم الصلاة عليها إذا كانت تحتوي على الصلبان. وهل يلزم من الحكم على الشكل بأنه صليب بأن يكون ذا طرف سفلي طويل وطرف علوي قصير مع تساوي الجانبين، أم يحكم على كل خطين متعامدين بأنه صليب. نرجو إفادتنا عن هذا الموضوع لعموم الابتلاء به، والله يحفظكم ويرعاكم.
ج: أولا: المساجد بيوت الله تعالى، بنيت لإقام الصلاة، ولتسبيح الله تعالى فيها بالغدو والآصال مع حضور القلب، والضراعة(78/80)
والخشوع، وخشية الله، والرسوم والزخارف في فرش المساجد وجدرانها مما يشغل القلب عن ذكر الله ويذهب بكثير من خشوع المصلين، ولذا كرهه كثير من السلف، فينبغي للمسلمين أن يجنبوا ذلك مساجدهم، محافظة على كمال عبادتهم بإبعاد المشاغل عن الأماكن التي يتقربون فيها لله رب العالمين رجاء عظم الأجر ومزيد الثواب، أما الصلاة عليها فصحيحة.
ثانيا: الصليب شعار النصارى يضعونه في معابدهم ويعظمونه ويعتبرونه رمزا لقضية كاذبة واعتقاد باطل هو صلب المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وقد أكذب الله تعالى اليهود والنصارى في ذلك فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (1) ، فلا يجوز للمسلمين أن يجعلوه في فرش مساجدهم أو غيرها، ولا أن يبقوا عليه، بل يجب أن يتخلصوا منه بطمسه والقضاء على معالمه بعدا عن المنكر، وترفعا عن مشابهة النصارى عموما، وفي مقدساتهم خاصة، ولا فرق بين ما إذا كان الخط العمودي في الصليب أطول من الأفقي وما إذا كان مثله، ولا بين ما إذا كان الجزء الأعلى من تقاطع الخطين أقصر أو مساويا
__________
(1) سورة النساء الآية 157(78/81)
للأسفل منه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(78/82)
من الفتوى رقم 2615
السؤال التاسع: ما قولكم عن الساعة (أم صليب) هل يجوز أن نصلي بها أم لا؟
ج: لا يجوز لبس الساعة أم صليب لا في الصلاة ولا غيرها حتى يزال الصليب بحك أو بوية تستره، لكن لو صلى وهي عليه فصلاته صحيحة. والواجب عليه البدار بإزالة الصليب؛ لأنه من شعار النصارى، ولا يجوز للمسلم أن يتشبه بهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(78/82)
الفتوى رقم 3309
س: هل يمكن للمسلم أن يصلي فوق الحصير الذي رسم فوقه صليب؟
ج: إذا كان السؤال عن حكم صلاة وقعت فوق الحصير الذي رسم فوقه صليب فالصلاة صحيحة إن شاء الله مع الكراهية، وإذا كان السؤال عن حكمها مستقبلا فعليه أن يزيل الصليب من الحصير وذلك بطمسه بما يخفي معالمه، أو بوضع رقعة ثابتة عليه، أو يبدل هذا الحصير بحصير ليس فيه صليب، لما صح عن عائشة رضي الله عنها «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدع شيا فيه تصليب إلا قضبه (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5952) ، سنن أبي داود اللباس (4151) ، مسند أحمد (6/252) .(78/83)
الفتوى رقم 11022
س: سمعت من إمام جامع في خطبة صلاة الجمعة أنه حرم(78/83)
واستنكر في خطبته تعليم القبور وذلك بوضع الأشياء التي توضح القبر لأهله كوضع علامة من البوية أو ربط بعض الحبال والأسياخ على إحدى نصائب القبر وذلك لمعرفته، حيث إن والدي قد توفي رحمه الله ووضعت على إحدى نصائب قبره بعضا من البوية لكي أستدل به عند زيارته. عليه أرجو من سماحتكم إرشادي عن ذلك، كما أفيد سماحتكم أن هذا الإمام قد امتنع عن الصلاة على الفرشات التي توزعها وزارة الحج والأوقاف وأمر بعدم فرشها في المسجد للصلاة حيث ذكر أن بها علامة صليب فما رأي سماحتكم بذلك، وفقكم الله ذخرا للإسلام والمسلمين؟
ج: لا مانع من تعليم القبر بشيء لا يخالف الشرع كالبوية لبعض النصائب أو حجر خاص ونحو ذلك، أما الكتابة على القبر فلا تجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك. وأما الفرش التي يكون فيها صورة الصليب فإنها تكره الصلاة عليها إلا بعد طمس صورة الصليب بما يخفي صورته من صبغ أو خياطة أو غير ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(78/84)
من الفتوى رقم 1752
السؤال الرابع: من أدركته صلاة الجماعة ولم يكن متوضئا وخاف إن توضأ أن تفوته صلاة الجماعة فماذا يفعل؟
ج: الوضوء شرط لصحة الصلاة لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (1) ، الآية ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (2) » ، رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي.
فيجب على الإنسان الوضوء للصلاة وإن فاتته الصلاة في هذه الجماعة، وعليه أن يسعى لأداء الصلاة في جماعة أخرى، فإن تيسر له ذلك فالحمد لله وإلا صلى منفردا لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) أخرجه أحمد 2\318، والبخاري 1\43، 8\59، ومسلم 1\204 رقم (225) ، وأبو داود 1\49 برقم (60) ، والترمذي 1\110 برقم (76) ، والبيهقي 1\229، وابن خزيمة 1\9، وأبو عوانة 1\235.
(3) سورة التغابن الآية 16(78/85)
فأتوا منه ما استطعتم (1) » ، ولا يجوز له أن يتيمم ليدرك الجماعة؛ لأن خوف فواتها ليس مما يبيح الانتقال من الطهارة المائية إلى الطهارة الترابية.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أخرجه أحمد 467، 258، 313، 314، 428، 447 - 448، 457، 467، 482، 495، 508، والبخاري 8\142، ومسلم 2\975 رقم 1337، 4\1830 برقم 1337، والنسائي5\110، 111 برقم 2619، وابن ماجه 1\3 في المقدمة برقم 2، وابن خزيمة 4\129 برقم (2508) ، وابن حبان الأرقام (18، 19، 20، 21، 2105، 2106، 3704، 3705) ، وعبد الرزاق في المصنف 11\220 برقم (20372، 20373) ، والبيهيقي 1\388، 4\253، 326، 7\103، والدارقطني 2\281، والطبري في التفسير 7\54.(78/86)
منزلة العمل
من الإيمان عند أهل السنة
فضيلة الدكتور \ صالح بن محمد العقيل (1) .
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن معرفة الإيمان بالله عز وجل والعمل بها سعادة الإنسان وفلاحه في الدنيا والآخرة، وكلما حقق مسائل الإيمان بالله وعمل بها على الوجه الشرعي زادت سعادته ولذته، فلا سعادة ولا طمأنينة إلا بالإيمان بالله عز وجل.
فالإيمان بالله عز وجل أصل الدين، وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويفرق بين السعداء والأشقياء، ومن يعادى ومن يوالى، والدين كله تابع لهذا، وكل مسلم محتاج إلى معرفة هذا (2) .
وتأتي أهمية معرفة مسائل الإيمان من أمور عدة منها:
__________
(1) عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، قسم العقيدة.
(2) انظر الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 7\289.(78/87)
1 - أن الإيمان هو أصل الدين.
2 - أن الخلاف في الإيمان أول خلاف ظهر في الإسلام.
وكان الخوارج وهم أول الفرق ظهورا قد أظهروا المخالفة فسلبوا الإيمان عن مستحقيه، فكفروا خيار المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، زعموا أن مرتكب الكبيرة فاقد الإيمان، ثم قابلهم آخرون، زعموا أن إيمان أصحاب الكبائر كإيمان أبي بكر وعمر وأن زوال جميع عمل الجوارح لا يزيل الإيمان، وهؤلاء هم المرجئة القدماء ثم ازداد الإرجاء غلوا بإخراج عمل القلب من الإيمان كما تقوله الجهمية.
وهدى الله أهل السنة والجماعة فسلكوا الطريق القويم والصراط المستقيم، تمسكوا بما جاء عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يأخذوا بقول الخوارج ولا بقول المرجئة.
ولهذا كانت مسائل الإيمان جديرة بالاهتمام والعناية ودراستها وإيضاحها للناس كما دل عليها الكتاب والسنة أمر مطلوب شرعا.
فالخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدث، ولا كالخطأ في غيره من الأسماء إذ كانت أحكام الدنيا والآخرة متعلقة باسم الإيمان والإسلام والكفر والنفاق (1) .
ومن المسائل المهمة في الإيمان ولها شأن عظيم فيه: مسألة منزلة
__________
(1) انظر الفتاوى لشيخ الإسلام 7\395.(78/88)
العمل من الإيمان، وتزداد أهميتها لمخالفة بعض أهل السنة فيها.
فمعتقد أهل السنة في الإيمان أنه قول وعمل، واعتقاد، هذه أركان الإيمان لا يتم إلا بها، فإذا تخلف واحد منه لم يصح الإيمان.
ووجوب العمل عند أهل السنة والجماعة ـ القائلين بأن الإيمان قول وعمل ـ وأنه ركن لا بد منه ظاهر بين لكل أحد، مبين في مصنفاتهم التي صنفوها في معتقدهم، وفي أقوالهم التي نقلت عنهم في هذا الشأن.
ومع هذا فقد أخطئ عليهم ونسب إليهم ما ليس من مذهبهم فقيل:
إن العمل عندهم شرط كمال لا شرط صحة، من فقد العمل جميعه وجاء بقول اللسان وعمل القلب فقط فهو مؤمن وليس بكافر.
قال الحافظ ابن حجر: السلف قالوا: اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله.
والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطا في صحته، والسلف جعلوها(78/89)
شرطا في كماله.
والحديث عن صلة العمل بالإيمان، وبيان مذهب أهل السنة فيه، والجواب عن شبه المرجئة وإبطال مذهبهم طويل، وهو مدون في كتب أهل السنة، وخصوصا كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية.
وفي هذا البحث أتطرق إلى ثلاث مسائل فقط.
الأولى: بيان بطلان نسبة قول "العمل شرط كمال في الإيمان" إلى أهل السنة.
الثانية: أوضح أن هذا القول هو: قول المرجئة القدماء.
الثالثة: أذكر الفرق بين قول أهل السنة، وقول الوعيدية.
وقد جعلته في ثلاثة مباحث وخاتمة، وسميته:
منزلة العمل من الإيمان عند أهل السنة والجماعة
والله أسأل التوفيق والسداد؛؛؛(78/90)
المبحث الأول: بطلان نسبة هذا القول لأهل السنة
العمل والإيمان قرينان لا ينفك أحدهما عن صاحبه، إذا وجد الإيمان وجد العمل، وإذا عدم العمل عدم الإيمان، لا يمكن بقاء الإيمان مع عدم العمل، وفي القرآن والسنة الشيء الكثير من بيان أن الإيمان لا بد فيه من العمل.
"بل القرآن والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق" (1) .
ومتواتر أيضا: أنه لم يكن يحكم لأحد بحكم الإيمان إلا أن يؤدي الفرائض. (2) .
وقد أخبر الله تعالى في كتابه في آي كثيرة منه أن هذا الإيمان لا يكون إلا بالعمل وأداء الفرائض بالقلوب والجوارح، وبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرحه في سنته، وأعلمه أمته، وكان مما قال الله تعالى في كتابه مما أعلمنا أن الإيمان هو العمل، وأن العمل من الإيمان ما قاله في سورة البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (3) .
__________
(1) الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 7\128.
(2) انظر المصدر السابق 7\129.
(3) سورة البقرة الآية 177(78/91)
وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) .
وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} (2) .
وقال: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (3) ، وقال: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا} (4) .
وأهل السنة متفقون على التلازم التام بين الإيمان والعمل بحيث يستحيل أن يوجد الإيمان ولا يوجد العمل، ولم يخالف في هذا إلا بعض فقهاء الكوفة كحماد بن أبي سليمان وغيره، فلم يجعلوا الأعمال الظاهرة لازمة لإيمان القلب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر أن المرجئة ثلاثة أصناف:
__________
(1) سورة البقرة الآية 277
(2) سورة طه الآية 112
(3) سورة الإسراء الآية 19
(4) سورة طه الآية 75(78/92)
"والثالث تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة، وهؤلاء غلطوا من وجوه....
الثالث: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون شيء من الأعمال، ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب، ولا يجعلونها لازمة له، والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر (1) .
ومما يبين خطأ هذا القول وعدم صحة نسبته إلى أهل السنة ـ وأن العمل أي عمل الجوارح ركن لا بد منه، فلا يصح إيمان المرء إلا به ـ أمور عدة منها:
الأول: تصريح أهل السنة بأن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وأنه لا بد من هذه الأمور الثلاثة جميعا، لا يكتفى ببعضها دون الآخر.
وممن حفظ عنه:
1 - الإمام محمد بن إدريس الشافعي، قال: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركناهم أن الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر".
__________
(1) الفتاوى لشيخ الإسلام 7\195، 204.(78/93)
2 - أبو ثور:. قال: "اعلم يرحمنا الله وإياك أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، وذلك أنه ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال أشهد أن الله عز وجل واحد، وأن ما جاءت به الرسل حق، وأقر بجميع الشرائع، ثم قال ما عقد قلبي على شيء من هذا ولا أصدق به، أنه ليس بمسلم.
ولو قال المسيح هو الله، وجحد أمر الإسلام، ثم قال لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك، أنه كافر بإظهار ذلك، وليس بمؤمن، فلما لم يكن بالإقرار إذا لم يكن معه التصديق مؤمنا، ولا بالتصديق إذا لم يكن معه الإقرار مؤمنا، حتى يكون مصدقا بقلبه مقرا بلسانه، فإذا كان تصديقا بالقلب وإقرارا باللسان كان عندهم مؤمنا، وعند بعضهم لا يكون مؤمنا، حتى يكون مع التصديق عمل، فيكون بهذه الأشياء إذا اجتمعت مؤمنا، فلما نفوا أن يكون الإيمان بشيء واحد وقالوا: يكون بشيئين في قول بعضهم، وثلاثة أشياء في قول غيرهم، لم يكن مؤمنا، إلا بما اجتمعوا عليه من هذه الثلاثة الأشياء، وذلك أنه إذا جاء بهذه الثلاثة الأشياء، فكلهم يشهد: أنه مؤمن، فقلنا بما اجتمعوا عليه من التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح"(78/94)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قلت: يعني الإمام أبا ثور رحمه الله إنه لا يكون مؤمنا إلا إذا التزم بالعمل مع الإقرار، وإلا فلو أقر ولم يلتزم العمل لم يكن مؤمنا، وهذا الاحتجاج الذي ذكره أبو ثور هو دليل على وجوب الأمرين الإقرار والعمل" (1) .
مراد أبي ثور بقوله: فإذا كان تصديقا بالقلب وإقرارا باللسان كان عندهم مؤمنا، وبقوله: يكون بشيئين في قول بعضهم.
مراده: مرجئة الفقهاء أهل الكوفة.
وبقوله: وعند بعضهم لا يكون مؤمنا حتى يكون مع التصديق عمل ... ، وبقوله: وثلاثة أشياء في قول غيرهم.
مراده: جمهور أهل السنة.
هكذا يبين أبو ثور أنه لا بد من العمل، وأن من لم يعمل لا يكون مؤمنا عند بعض أهل السنة، وهم جمهورهم.
فمن لم يجعل العمل ركنا لا يتم الإيمان إلا به، فهو ليس من هؤلاء، هو من البعض الآخر الذين هم مرجئة الفقهاء.
3 - محمد بن الحسين الآجري: قال في الشريعة: "باب
__________
(1) الفتاوى 7\389.(78/95)
القول بأن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل الجوارح، لا يكون مؤمنا إلا بأن تجتمع فيه هذه الخصال الثلاث" (1) .
وقال: "اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق وهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح.
ثم اعلموا أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقا، ولا تجزئ معرفة بالقلب ونطق باللسان حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاث كان مؤمنا، دل على ذلك القرآن والسنة وقول علماء المسلمين" (2) .
4 - ابن بطة: قال: "باب بيان الإيمان وفرضه، وأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والحركات لا يكون العبد مؤمنا إلا بهذه الثلاث".
وقال: "اعلموا رحمكم الله أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه فرض على القلب المعرفة به والتصديق له ولرسله ولكتبه، وبكل ما جاءت به السنة، وعلى الألسن النطق بذلك والإقرار به قولا، وعلى
__________
(1) الشريعة 2\611.
(2) الشريعة 2\611.(78/96)
الأبدان والجوارح العمل بكل ما أمر به وفرضه من الأعمال، لا تجزئ واحدة من هذه إلا بصاحبتها.
ولا يكون العبد مؤمنا إلا بأن يجمعها كلها، حتى يكون مؤمنا بقلبه مقرا بلسانه عاملا مجتهدا بجوارحه، ثم لا يكون أيضا مع ذلك مؤمنا حتى يكون موافقا للسنة في كل ما يقوله ويعمله، متبعا للكتاب والعلم في جميع أقواله وأعماله، وبكل ما شرحته لكم نزل به القرآن ومضت به السنة وأجمع عليه علماء الأمة" (1) .
الثاني: تصريحهم بأنه لا انفكاك بين الإيمان والعمل، وأنه يتمنع أن يوجد الإيمان في القلب ثم لا يوجد عمل الجوارح.
أ- قال الأوزاعي: "لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة، وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع كما يجمع هذه الأديان اسمها ويصدقه العمل".
ب- قال سفيان الثوري: "كان الفقهاء يقولون لا يستقيم قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول
__________
(1) الإبانة لابن بطة 2\760، وانظر 779 ت رضا نعسان.(78/97)
وعمل ونية إلا بموافقة السنة" (1) .
ج- قال ابن أبي زمنين: والإيمان بالله هو باللسان والقلب وتصديق ذلك العمل، فالقول والعمل قرينان لا يقوم أحدهما إلا بصاحبه" (2) .
د- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالسلف يقولون: ترك الواجبات الظاهرة دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب، لكن قد يكون ذلك بزوال عمل القلب الذي هو حب الله ورسوله وخشية الله ونحو ذلك لا يستلزم أن لا يكون في القلب من التصديق شيء" (3) .
وقال: "العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن" (4) .
وقال: "قد تبين أن الدين لا بد فيه من قول وعمل وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه ولم يؤد واجبا
__________
(1) الإبانة 2\807.
(2) أصول السنة لابن أبي زمنين 207.
(3) الفتاوى 7\ 148.
(4) الفتاوى 7\ 554.(78/98)
ظاهرا ولا صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا غير ذلك من الواجبات" (1) .
وقال: "ثم القلب هو الأصل فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب (2) » ... ) .
فإذا كان القلب صالحا بما فيه من الإيمان علما وعملا قلبيا لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل، بالإيمان المطلق كما قال أئمة أهل الحديث قول وعمل، قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد، ولهذا قال من قال من الصحابة (3) عن المصلي العابث: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه" (4) .
فهذا الحديث دليل بين على ارتباط العمل الظاهر بعمل القلب،
__________
(1) السابق 7\621.
(2) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي الأشربة (5710) ، سنن أبي داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد (4/274) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(3) الراجح أن القائل سعيد بن المسيب انظر السلسلة الضعيفة رقم 110.
(4) الفتاوى 7\187.(78/99)
فكما أن صلاح الجسد وفساده مرتبط بصلاح القلب وفساده فكذلك إيمان الجوارح مرتبط بإيمان القلب، فإذا آمن القلب آمنت الجوارح لا تتخلف كما لا تتخلف في الصلاح والفساد.
هـ- قال ابن القيم: "فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقا تصديقا جازما: أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات، وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب، وهو مع ذلك مصر على تركها.
هذا من المستحيل قطعا، فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبدا، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمره بها فليس في قلبه شيء من الإيمان.
ولا تصغ إلى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها، وتأمل في الطبيعة بأن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعد والوعيد والجنة والنار، وأن الله فرض عليه الصلاة، وأن الله يعاقبه معاقبة على تركها، وهو محافظ على الترك في صحته وعافيته وعدم الموانع المانعة له من الفعل، وهذا القدر هو الذي خفي على من جعل الإيمان مجرد التصديق وإن لم يقارنه فعل واجب ولا ترك محرم.
وهذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية" (1) .
__________
(1) كتاب الصلاة 43، 44.(78/100)
وقال: " فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح، إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان" (1) .
وقال في كتابه الفوائد: فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه، وقوته دليل قوته (2) .
وقال حافظ بن أحمد الحكمي: "ومحال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب (3) » .
ومن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة في الإيمان: هو التصديق على ظاهر اللغة أنهم إنما عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهرا وباطنا، بلا شك لم يعنوا مجرد التصديق" (4) .
ومما يبين التلازم بين إيمان الأعمال الظاهرة وإيمان القلب:
- أن الإنسان إما أن يقول في أعمال الجوارح: إنها من الإيمان وإنها لا تنفك عما في القلب بحيث إذا وجد الإيمان في القلب
__________
(1) الصلاة 54.
(2) الفوائد 98.
(3) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد (4/274) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(4) معارج القبول 2\23.(78/101)
وجدت، وإذا زالت زال ما في القلب.
- أو يقول: إنها لازمة لإيمان القلب لا تنفك عنه مرتبطة به توجد بوجوده، ويعدم الإيمان بعدمها، فهذا الخلاف خلاف لفظي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإذا قال: إنها من لوازمه وإن الإيمان الباطن يستلزم عملا صالحا ظاهرا كان بعد ذلك قوله: إن تلك الأعمال لازمة لمسمى الإيمان أو جزء منه نزاعا لفظيا" (1) .
- أو يقول: إنها ليست لازمة لإيمان القلب بحيث يوجد الإيمان في القلب ولا توجد، فيلزمه قول جهم بن صفوان الذي هو أفسد قول قيل في الإيمان، وفساده معلوم بالضرورة من الدين (2) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقيل لمن قال: دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز، نزاعك لفظي، فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته، كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم، فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن، فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا.
وإن قلت: ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه: من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر، وترك جميع الواجبات الظاهرة، قيل لك: فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له
__________
(1) الفتاوى 7\584.
(2) الإيمان من مجموع الفتاوى 7\ 189، 558.(78/102)
وموجب له.
بل قيل: حقيقة قولك: إن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى، فليس بلازم له ولا موجب، ومعلول له، ولكنه دليل، إذا وجد دل على وجود الباطن، وإذا عدم لم يدل عدمه على العدم، وهذا حقيقة قولك، وهو أيضا خطأ عقلا كما هو خطأ شرعا" (1) .
وقال مبينا أن مذهب جهم يلزم كل من لم يجعل الأعمال الظاهرة من لوازم الإيمان الباطن:
"وخامسها: وهو يلزمهم ويلزم المرجئة أنهم قالوا: إن العبد قد يكون مؤمنا تام الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء والصديقين، ولو لم يعمل خيرا لا صلاة ولا صلة ولا صدق حديث، ولم يدع كبيرة إلا ركبها، فيكون الرجل عندهم إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان، وهو مصر على دوام الكذب والخيانة ونقض العهود، لا يسجد لله سجدة، ولا يحسن إلى أحد حسنة، ولا يؤدي أمانة، ولا يدع ما يقدر عليه من كذب وظلم وفاحشة إلا فعلها، وهو مع ذلك مؤمن تام الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء، وهذا يلزم كل من لم يقل إن الأعمال الظاهرة من لوازم الإيمان الباطن، فإذا قال: إنها من لوازمه وإن الإيمان الباطن يستلزم عملا صالحا ظاهرا كان بعد ذلك قوله: إن تلك الأعمال لازمة لمسمى الإيمان أو جزء
__________
(1) الإيمان من مجموع الفتاوى 7\ 579.(78/103)
منه نزاعا لفظيا" (1) .
وقال: " والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان، والأعمال ليست منه، كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها ولم يكن قولهم مثل قول جهم ...
لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا، فإنها لازمة لها" (2) .
__________
(1) المصدر السابق 583.
(2) المصدر السابق 7\194.(78/104)
الثالث: قولهم بأن أعمال الجوارح تصدق إيمان القلب فإذا لم تصدقه بالعمل فالقلب خال من الإيمان ليس فيه شيء.
فالمؤمن الصادق في إيمانه تعمل جوارحه لا تتخلف عما في قلبه، فالجوارح صورة صادقة لما في القلب، فتصديق القلب لا يصح إلا بالعمل (1) .
1 - قال الحسن البصري: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال".
__________
(1) كتاب الصلاة لابن القيم 45.(78/104)
2 - قال الآجري: "فالأعمال -رحمكم الله- بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمله بجوارحه مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمنا، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيبا لإيمانه، وكان العمل بما ذكرناه تصديقا منه لإيمانه" (1) .
3 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فالعمل يصدق أن في القلب إيمانا، وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيمانا؛ لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم " (2) .
الرابع: إطلاقهم الإرجاء على من قال: إن من ترك أركان الإسلام غير الشهادتين الصلاة والزكاة والصوم والحج مع إقراره بوجوبها ليس بكافر.
قال ابن رجب: "حتى إنه ـ أي إسحاق بن راهويه جعل قول من قال: لا يكفر بترك هذه الأركان مع الإقرار بها من
__________
(1) الشريعة 2\614.
(2) الفتاوى 7\ 294.(78/105)
أقوال المرجئة، وكذلك قال سفيان بن عيينة: المرجئة سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم، وليسا سواء؛ لأن ركوب المحارم متعمدا من غير استحلال معصية وترك الفرائض متعمدا من غير جهل ولا عذر هو كفر".
بل يرى إسحاق بن راهويه أن هذا من غلو المرجئة، قال ابن رجب: "نقل حرب عن إسحاق قال: غلت المرجئة حتى صار من قولهم: إن قوما يقولون: من ترك الصلوات المكتوبات وصوم رمضان والزكاة والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها إنا لا نكفره، يرجى أمره إلى الله بعد إذ هو مقر، فهؤلاء الذين لا شك فيهم، يعني في أنهم مرجئة".
فالضابط للمرجئة عند سفيان بن عيينة وإسحاق بن راهويه هو من يقول بثبوت الإيمان مع عدم العمل.
وهو كذلك عند شيخ الإسلام ابن تيمية قال: " من قال(78/106)
بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات، سواء جعل فعل تلك الواجبات لازما له أو جزءا منه، فهذا نزاع لفظي، كان مخطئا خطأ بينا، وهذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلف والأئمة الكلام فيها، وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف" (1) .
الخامس: حكمهم على من ترك الصلاة والزكاة والصيام والحج بالكفر، ولو كان مصدقا بقلبه مقرا بلسانه، فهذا دليل بين على اشتراط العمل، وأنه لا يكتفى بالقول والتصديق، فلو كان العمل ليس شرطا في الإيمان لم يحكموا عليه بالكفر، وممن حفظ عنه:
1 - نافع مولى ابن عمر، قال لما ذكر له معقل بن عبيد الله قول المرجئة: " إنهم يقولون نحن نقر بأن الصلاة فرض ولا نصلي، وبأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن ننكح، فنثر يده من يدي وقال: من فعل هذا فهو كافر ".
2 - الحميدي.: قال: "أخبرت أن ناسا يقولون: إن من
__________
(1) الفتاوى 7\621.(78/107)
أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت، أو يصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحدا إذا علم أن تركه ذلك في (1) إيمانه إذا كان يقر بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفعل المسلمين قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2) .
3 - الإمام أحمد قال حنبل: "سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا (3) فقد كفر بالله ورد على الله أمره وعلى الرسول ما جاء به".
4 - ابن بطة قال: "فكل من ترك شيئا من الفرائض التي فرضها الله عز وجل في كتابه، أو أكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، على سبيل الجحود لها والتكذيب بها، فهو كافر بين الكفر، لا يشك في ذلك عاقل يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن أقر بذلك وقاله
__________
(1) في الفتاوى 7\209: فيه ولعلها الصواب.
(2) سورة البينة الآية 5
(3) أي ما سبق في قول الحميدي.(78/108)
بلسانه ثم تركه تهاونا ومجونا أو معتقدا لرأي المرجئة ومتبعا لمذاهبهم، فهو تارك الإيمان ليس في قلبه منه قليل ولا كثير، وهو في جملة المنافقين الذين نافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل القرآن بوصفهم، وما أعد لهم وأنهم في الدرك الأسفل من النار" (1) .
وقال: "فقد تلوت عليكم من كتاب الله عز وجل ما يدل العقلاء من المؤمنين أن الإيمان قول وعمل، وأن من صدق بالقول وترك العمل كان مكذبا وخارجا من الإيمان، وأن الله لا يقبل قولا إلا بعمل، ولا عمل إلا بقول" (2) .
5 - شيخ الإسلام ابن تيمية قال: "ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح" (3) .
وقال: "وقد اتفق المسلمون على أن من لم يأت بالشهادتين فهو كافر، وأما الأعمال الأربعة فاختلفوا في تكفير تاركها، ونحن إذا قلنا: أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب، فإنما نريد به
__________
(1) الإبانة لابن بطة 2\ 764.
(2) المصدر السابق 2\795، وانظر ص 789، 790 حيث جعل تارك العمل أسوأ حالا من المنافقين.
(3) الفتاوى 7\611.(78/109)
المعاصي كالزنا والشرب، وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور، وعن أحمد في ذلك نزاع، وإحدى الروايات عنه أنه يكفر من ترك واحدة منها، وهو اختيار أبي بكر وطائفة من أصحاب مالك كابن حبيب ... " (1) .
6 - الشوكاني: قال في إجابته عن سؤال: "ما حكم الأعراب سكان البادية الذين لا يفعلون شيئا من الشرعيات إلا مجرد التكلم بالشهادتين، هل هم كفار أم لا، وهل يجب على المسلمين غزوهم أم لا؟
وأقول: من كان تاركا لأركان الإسلام وجميع فرائضه ورافضا لما يجب عليه من ذلك، من الأقوال والأفعال، ولم يكن لديه إلا مجرد التكلم بالشهادتين، فلا شك أن هذا كافر شديد الكفر، حلال الدم والمال، فإنه قد ثبت بالأحاديث المتواترة أن عصمة الدماء والأموال إنما تكون بالقيام بأركان الإسلام" (2) .
السادس: أن كثيرا من أئمة أهل السنة يرون كفر تارك الصلاة، بل إن عددا منهم يحكونه إجماعا، منهم: عبد الله بن شقيق،
__________
(1) الفتاوى 7\302، 610.
(2) إرشاد السائل إلى دليل المسائل للشوكاني 33.(78/110)
وأيوب السختياني، وإسحاق بن راهويه.
أ- عبد الله بن شقيق قال: "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة".
ب- أيوب السختياني قال: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه (1) .
ج- إسحاق بن راهويه قال محمد بن نصر: "سمعت إسحاق يقول: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا: أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر" (2) .
فإذا كانوا يرون أن تارك الصلاة كافر فقد جعلوها شرطا في الإيمان، من لم يأت بها فهو عندهم كافر، والصلاة جزء من العمل، فكيف يقال مع هذا إن العمل شرط كمال؟
قال ابن القيم: "فيبقي النظر في الصلاة هل هي شرط لصحة الإيمان؟ هذا سر المسألة والأدلة التي ذكرناها وغيرها تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة، فهي مفتاح ديوانه،
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة 2\925، رقم 978، وذكره ابن القيم في الصلاة 63.
(2) تعظيم قدر الصلاة 2\929، رقم 990.(78/111)
ورأس مال ربحه". (1) .
وإن من عدم العدل وعدم الأمانة العلمية أن يقال: إن العمل شرط كمال في مذهب أهل السنة، وكثير من السلف ـ بل يحكى إجماعا كما سبق ـ يجعل الصلاة شرطا في الإيمان؟
__________
(1) الصلاة 62.(78/112)
المبحث الثاني: هذا القول هو قول المرجئة القدماء
هذا القول هو بعينه قول مرجئة الكوفة الذين يقولون: الإيمان قول واعتقاد؛ وذلك للأمور الآتية:
1 - أن الجميع لا يجعلون إيمان الجوارح لازما لإيمان القلب، حيث يقولون بإمكان وجود الإيمان في القلب ولا يوجد في الجوارح، وهذا من الأصول التي أخطأت فيها المرجئة (1) .
2 - أن كثيرا من العلماء ـ الذين سبقت أقوالهم ـ نصوا على أنه لا بد من العمل مع القول والاعتقاد، وأنه لا يجزي بعضها عن بعض، بل لا بد من الثلاثة جميعا، فلم يسموا من لم يأت بالعمل مؤمنا، وجعلوا هذا هو مذهب أهل السنة.
وهؤلاء يرون أن من لم يأت بالعمل مؤمن موافقين بهذا المرجئة القدماء، ولهذا قال ابن رجب: "إن سفيان بن عيينة وإسحاق بن راهويه جعلا قول من قال: لا يكفر بترك هذه الأركان الأربعة مع
__________
(1) انظر الفتاوى لشيخ الإسلام 7\204، 363، 582.(78/112)
الإقرار بها من أقوال المرجئة " ـ كما سبق ـ فلم يفرقا بين من يجعلها من الإيمان ومن لا يجعلها.
فالضابط للمرجئة ـ كما سبق ـ هو من يقول بثبوت الإيمان مع عدم العمل.
3 - أن هذا التعبير من تعبير المرجئة، ليس من تعبير السلف؛ لأنهم يجعلون الأعمال من الإيمان، فهي جزء منه وليست شرطا؛ لأن الشرط لا يدخل في حقيقة الشيء مثل الوضوء للصلاة بخلاف الركن، فإنه داخل فيه مثل الفاتحة في الصلاة.
لكن قد يعبر بعض أهل السنة بهذا كما عبر ابن القيم به في كتاب الصلاة (1) وحافظ حكمي في معارج القبول كما سبق.
4 - أن بعض علمائنا المعاصرين وصفوا قول من قال: إن الأعمال شرط كمال في الإيمان بأنه قول المرجئة.
ومن هؤلاء الشيخ د. صالح الفوزان والشيخ عبد العزيز الراجحي.
__________
(1) انظر كتاب الصلاة 61، 62.(78/113)
ـ قال الشيخ د. صالح الفوزان: في إجابته عن قول بعض الناس: إن عقيدة أهل السنة والجماعة أن العمل شرط في كمال الإيمان وليس شرطا في صحة الإيمان، مع أنه من المعلوم أن الإيمان عند أهل السنة قول وعمل، وأنه لا إيمان إلا بعمل كما صرح بذلك بعض أئمة السلف ...
الجواب: هو قول مرجئة أهل السنة، وهو خطأ، والصواب أن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، فهو اعتقاد وقول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ... " (1) .
- قال الشيخ عبد العزيز الراجحي: في جوابه عن السؤال الآتي: هناك من يقول: الإيمان قول وعمل واعتقاد، لكن العمل شرط كمال فيه، ويقول أيضا: لا كفر إلا باعتقاد، فهل هذا القول من أقوال أهل السنة أم لا؟
الجواب: ليست هذه الأقوال من أقوال أهل السنة، أهل السنة يقولون: الإيمان هو قول باللسان وقول بالقلب وعمل بالجوارح وعمل بالقلب، ومن أقوالهم: الإيمان قول وعمل، ومن أقوالهم: الإيمان قول وعمل ونية.
فالإيمان لا بد أن يكون بهذه الأمور الأربعة:
1 - قول اللسان وهو النطق باللسان.
__________
(1) المنقى 2\9، 10.(78/114)
2 - عمل القلب وهو الإقرار والتصديق.
3 - عمل القلب وهو النية والإخلاص.
4 - عمل الجوارح.
فالعمل جزء من أجزاء الإيمان الأربعة، فلا يقال العمل شرط كمال أو أنه لازم له، فإن هذه أقول المرجئة.
ولا نعلم لأهل السنة قولا بأن العمل شرط كمال، وكذا قول من قال: لا كفر إلا باعتقاد فهذا قول المرجئة. " (1) .
5 - أن هذا القول توافق عليه المرجئة المعاصرون من الحنفية وغيرهم، ممن يقول بقول المرجئة القدماء ولا يرونه مخالفا لمذهبهم، ولهذا قال محمد أنور الكشميري الديوبندي ـ أحد علماء الحنفية المعاصرين ـ:
العمل هل هو جزء للإيمان أم لا فالمذاهب فيه أربعة:
قال الخوارج والمعتزلة: إن الأعمال أجزاء للإيمان، فالتارك للعمل خارج عن الإيمان عندهما، ثم اختلفوا، فالخوارج أخرجوه عن الإيمان وأدخلوه في الكفر، والمعتزلة لم يدخلوه في الكفر، بل قالوا بالمنزلة بين المنزلتين.
والثالث مذهب المرجئة فقالوا: لا حاجة إلى العمل ومدار النجاة هو التصديق فقط، فصار الأولون والمرجئة على طرفي نقيض.
__________
(1) أسئلة وأجوبة في الإيمان والكفر السؤال الثالث، وانظر السؤال الخامس.(78/115)
والرابع مذهب أهل السنة والجماعة وهم بين بين فقالوا: إن الأعمال أيضا لا بد منها لكن تاركها مفسق لا مكفر فلم يشددوا فيها كالخوارج والمعتزلة ولم يهونوا أمرها كالمرجئة، هؤلاء افترقوا فرقتين، فأكثر المحدثين إلى أن الإيمان مركب من الأعمال، وإمامنا الأعظم رحمه الله تعالى وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أن الأعمال غير داخلة في الإيمان، مع اتفاقهم على أن فاقد التصديق كافر، وفاقد العمل فاسق، فلم يبق الخلاف إلا في التعبير" (1) .
__________
(1) فيض الباري على صحيح البخاري 1\53، 54.(78/116)
المبحث الثالث: الفرق بين مذهب أهل السنة ومذهب الوعيدية
حينما يجعل أهل السنة العمل ركنا في الإيمان لا يتم الإيمان إلا به فإنهم لا يوافقهم بهذا مذهب الوعيدية في الإيمان.
أهل السنة يقولون: يزول الإيمان إذا زال العمل جميعه أو الصلاة عند جمهورهم، ومنهم من يقول بزوال الإيمان إذا زالت بعض أركان الإسلام الأخرى الزكاة، الصوم، الحج (1) ، لا يقولون بزوال الإيمان بزوال بعض أجزائه مطلقا.
أما أهل الوعيد من الخوارج والمعتزلة وغيرهم، فهم يرون أن الإيمان يزول ببعض أفراده حتى ولو كانت من غير أركان الإسلام،
__________
(1) الفتاوى لشيخ الإسلام 7\ 302، 610.(78/116)
فعندهم أن من ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب مثل السرقة، الزنى، شرب الخمر، أنه يخرج من الإيمان وهذا لا يقول به أحد من أهل السنة والحمد لله.
قال الشيخ حافظ الحكمي مبينا الفرق بين مذهب أهل السنة ومذهب الوعيدية: "والفرق بين هذا ـ أي قول المعتزلة ـ وبين قول السلف الصالح: أن السلف لم يجعلوا كل الأعمال شرطا في الصحة، بل جعلوا كثيرا منها شرطا في الكمال، كما قال عمر بن عبد العزيز فيها: من استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان (1) .
والمعتزلة جعلوها كلها شرطا في الصحة، والله أعلم" (2) .
فالتعبير الصحيح أن يقال: إن بعض الأعمال شرط صحة كالصلاة، وبعضها شرط كمال كبر الوالدين وصلة الرحم وترك شرب الخمر، فبعضها يزيل الإيمان وبعضها لا يزيله، أما إذا زال العمل كله فلا صلاة ولا صيام ولا زكاة، فهذا له شأن آخر، وإذا كان كثير من أهل السنة يكفرون بترك الصلاة فقط، فكيف إذا انضم إلى ترك الصلاة ترك الزكاة والصوم والحج ... ، فهذا لا شك في زوال الإيمان من قبله.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام عل خمس)) .
(2) معارج القبول 2\31.(78/117)
الخاتمة:
بعد الانتهاء من هذا البحث أحمد الله عز وجل وأشكره فهو أهل الثناء والحمد، لا أحصي ثناء عليه. وقد تبين فيه ما يأتي:
1 - الإيمان عند أهل السنة مكون من ثلاثة أركان القول والعمل والاعتقاد.
2 - بطلان نسبة قول: "العمل شرط كمال في الإيمان" إلى أهل السنة.
3 - القول بأن العمل شرط كمال في الإيمان قول المرجئة.
4 - وصف بعض علمائنا المعاصرين قول: العمل شرط كمال في الإيمان بأنه قول المرجئة.
5- أهل السنة وإن قالوا بركنية العمل في الإيمان فمرادهم جنسه، لا يعنون أفراده عدا الصلاة، فمن ترك بر والديه أو ترك صلة رحمه ونحو هذه، فلا يزول الإيمان بزوالها.(78/118)
القول المبين في الصحابة
وحقوقهم على المسلمين
لفضيلة الدكتور \ عبد العزيز بن إبراهيم العسكر (1) .
المقدمة:
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) .
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3) .
__________
(1) الأستاذ المشارك بقسم العقيدة والمذاهب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1(78/119)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (1) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (2)
وبعد:
فإن صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورضي الله عنهم لهم منزلة عظيمة، وحقوق على الأمة الإسلامية كثيرة، وهذه الحقوق من الأمور التي تدخل ضمن الاعتقاد فيما يجب لهم ـ رضي الله عنهم -:
أـ فهم أول من آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، إذ صحبوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وآزروه ونصروه، واتبعوا هديه.
ب ـ وهم أول الذين يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 70
(2) سورة الأحزاب الآية 71(78/120)
ج ـ وهم الذين نقلوا إلى الأمة الإسلامية هذا الدين خير نقل، في أمانة ووفاء لا مثيل لها فحفظوا القرآن الكريم على صدورهم، وكانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يحفظوهن ويتعلموا ما فيها من العلم والعمل. ثم نالوا شرف جمعه في المصاحف التي بين أيدينا، فقد حفظوا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقواله، وأفعاله، ونومه، ويقظته، وحركته، وسكونه، وقيامه وقعوده، واجتهاده، وعبادته، وسيرته، وسراياه، ومغازيه، ومزاحه، وزجره، وخطبه، ووصاياه، وأكله، وشربه، ومعاملته أهله، وتأديبه فرسه، وكتبه إلى المسلمين والمشركين وعهوده، ومواثيقه، وألفاظه، وأنفاسه، وصفاته، فكل كلمة تلفظ بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أي مناسبة من المناسبات: سجلها الصحابة في أذهانهم، وعقلوها بقلوبهم، وطبقوها على أنفسهم، وعلموها لمن بعدهم، فنبيهم هو القدوة، ورسولهم هو الأسوة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) . (2) .
د ـ إن القرآن الكريم شهد لهم بالجنة في أكثر من آية، كما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شهد لعشرة من الصحابة بالجنة، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد،
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2) سورة الأحزاب، الآية 21.(78/121)
وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، ومن شهد له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجب على الأمة أن تشهد له بالجنة، ولذلك لما سئل الإمام أحمد بن حنبل عن الشهادة للعشرة فقال: نعم أشهد للعشرة بالجنة. (1) .
هـ ـ إن أهل السنة والجماعة يجمعون على حجية أقوال الصحابة ما لم تخالف ما جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويقررون أيضا خلافة الأربعة جميعا ـ رضي الله عنهم ـ واحدا بعد الآخر، قال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن الأئمة فقال: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي. (2) .
وـ وإن الله تعالى في كتابه الكريم أوجب على الأمة محبة الصحابة فقال سبحانه بعد ذكر المهاجرين والأنصار: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (3) . (4) .
فمن لم يحبهم فإنما في قلبه الغل، والعياذ بالله.
وفي السنة النبوية قول النبي صلى الله عليه وسلم: «آية
__________
(1) طبقات الحنابلة (1\288) .
(2) عبد الله بن أحمد، السنة (235) .
(3) سورة الحشر الآية 10
(4) سورة الحشر، الآية 10.(78/122)
الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار (1) » . (2) .
وقد علق الحافظ ابن حجر على هذا الحديث فقال: (خصوا بهذه المنقبة العظمى لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيواء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن معه، والقيام بأمرهم، ومساواتهم بأنفسهم وأموالهم، وإيثارهم إياهم في كثير من الأمور على أنفسهم، فكان صنيعهم لذلك موجبا لمعاداتهم جميع الفرق الموجودين من عرب وعجم، والعداوة تجر البغض، ثم كان ما اختصوا به مما ذكر موجبا للحسد، والحسد يجر البغض، فلهذا جاء التحذير من بغضهم، والترغيب في حبهم حتى جعل ذلك آية الإيمان والنفاق تنويها بعظم فضلهم، وتنويها على كريم فعلهم، وإن كان شاركهم في معنى ذلك مشارك لهم في الفضل المذكور كل بقسطه) (3) .
ز ـ إن صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رضي الله عنهم، لا كان ولا يكون أحد مثلهم، فهم (أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم) (4) .
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (17) ، صحيح مسلم الإيمان (74) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5019) ، مسند أحمد (3/130) .
(2) البخاري مع الفتح (1\62) .
(3) ابن حجر، فتح الباري (1\63) .
(4) ابن القيم، أعلام الموقعين (4\139) .(78/123)
غير أن الأمة الإسلامية قد تعرضت في هذا العصر لمحن عصيبة، وفتن خطيرة، ومن هذه الفتن ما يشنه الغرب وأتباعه من العلمانيين وغيرهم حول صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورضي الله عنهم، من مكائد وشبهات، وذلك لتشويه صورتهم والطعن فيهم، متذرعين بما حدث بينهم من بعض الاختلافات، ليقوم هؤلاء المغرضون باستغلال الروايات الملفقة، وتحريف بعضها، والزيادة والنقص على البعض الآخر، وما هذا إلا للطعن في الإسلام، وتشكيك المسلمين في الدين، وزعزعة ثقتهم في المجتمع الإسلامي الأول مجتمع الصحابة الكرام.
ولما كان شعار العلمانيين الوقيعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم فإن الذب والدفاع عنهم من أجل القربات التي يتقرب بها المسلم إلى ربه، فهم الصفوة الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونشر دينه في العالمين.
ولما كان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ هم كتاب الوحي، ونقلته، ومنبع العلم الإسلامي وحملته، وحماة الشريعة الإسلامية وحفظتها فإن الطعن فيهم هو طعن في الشريعة لأنهم نقلتها، بل الطعن فيهم طعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يفضي إلى أخطار جسيمة على الأمة الإسلامية من أهمها ما يلي:(78/124)
أـ هدم طرق المعرفة الدينية والعلمية في الإسلام.
ب ـ الطعن في صحة الشريعة الإسلامية.
ج ـ نقض الأساس الحضاري الإسلامي المعاصر الذي يقدم دعواه في أحقية قيادة العالم بناء على النموذج المثالي للتطبيق الإسلامي في العصر الذهبي للصحابة والتابعين.
وبناء على ما ذكرت آنفا، تظهر أهمية البحث في هذا الموضوع، الذي اخترت له عنوان:
القول المبين في الصحابة وحقوقهم على المسلمين.
وقد قسمت هذا الموضوع إلى أربعة مباحث وخاتمة:
أـ ففي المبحث الأول: عرفت بالصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وبينت ضوابط الصحبة كما حددها أهل العلم الثقات، ثم ذكرت أهم المصنفات في الصحابة، ليطلع عليها أبناء الأمة، ويتعرفوا على ما فيها من جهود طيبة، وليتأكدوا أن ما يثيره المغرضون من شبهات ليس لها أساس علمي، بل هو محض افتراء، وأخبار مكذوبة.
ب ـ أما المبحث الثاني: فقد تحدثت فيه عن فضائل الصحابة إجمالا، ثم بينت فضائل بعض الصحابة بأعيانهم، ثم ختمت المبحث بترتيب الصحابة في الفضل.
ج ـ وأما المبحث الثالث: فقد تناولت فيه حقوق الصحابة(78/125)
ـ رضوان الله عنهم ـ ووجوب احترامهم، والثناء عليهم، والدعاء لهم، والنهي عن الإساءة لهم أو سبهم.
د ـ وأما المبحث الرابع: فقد وظفته في منزلة فضائل الصحابة وحقوقهم، وإثبات أن محبتهم من محبة الله ورسوله.
وأما الخاتمة: فقد خصصتها في بيان واجب الأمة في كل العصور تجاه الصحابة.
وقد راعيت في بيان حقوق الصحابة، وإزاحة الشبهات عنهم الأسلوب العلمي والسهولة واليسر.
كما اعتمدت في دراستي لهذا الموضوع المنهج التاريخي والتحليلي، وذلك بالرجوع إلى أمهات كتب السيرة والطبقات والحديث وغيرها من المصادر المعتمدة، ولهذا لم أنقل في تحريري لفضائل الصحابة وحقوقهم إلا ما ثبتت صحته، لإظهار الصورة الصحيحة للصحابة بعيدا عن التحريف سواء بالمبالغة في بيان فضلهم أو المبالغة في الانتقاص من قدرهم.
وأسأل الله تعالى العون والمعرفة، وأن يتقبل عملي بقبول حسن، إنه هو السميع العليم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(78/126)
المبحث الأول: التعريف بالصحابة وأشهر المصنفات فيهم
المطلب الأول: التعريف بالصحابة:
الصحابة بالفتح: جمع صاحب، ولم يجمع فاعل على فعالة إلا هذا (1) .
والصاحب: اسم فاعل من صحب يصحب، وهو مشتق من الصحبة أي المعاشرة (2) .
أما تعريف الصحابي في اصطلاح المحدثين فقد اختلفت فيهم الأقوال إلا أن المعتمد من هذه الأقوال هو ما قرره الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ بقوله: (وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤمنا به ومات على الإسلام) (3) .
والذي يستقرئ ما كتبه الحافظ ابن حجر ـ رضي الله تعالى عنه ـ يجد أنه قد حدد الصحبة تحديدا دقيقا، وضع لها ضوابط مهمة، وهذه الضوابط هي:
أولا: أن اسم الصحبة مستحق لمن صحب النبي ـ صلى الله
__________
(1) ابن منظور، لسان العرب 1\519.
(2) ابن منظور، لسان العرب 1\519.
(3) ابن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة 1\7.(78/127)
عليه وسلم ـ من المسلمين، طالت الصحبة أو قصرت، وتثبت لمن روى عنه، ومن لم يرو، ومن غزا معه، ومن لم يغز، ومن رآه رؤية ولم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالأعمى مثل ابن أم مكتوم.
ثانيا: أن يكون من صحبه أو رآه مؤمنا به بخلاف من صحبه أو رآه من الكفار فليس صحابيا، كمشركي مكة، ويهود المدينة فليسوا بصحابة.
ثالثا: أن تكون صحبته أو رؤيته إياه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في قيد الحياة بخلاف من رآه بعد موته، وقبل دفنه فليس صحابيا كـ (أبي ذؤيب خويلد بن خالد) الهذلي الشاعر، فقد أسلم في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يره فقدم المدينة يوم توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذهب إلى بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإذا هو مسجى على سريره قبل غسله، وأهله يحيطون به، فذهب إلى سقيفة بني ساعدة وحضر مع الصحابة، ولم يحظ بشرف الصحبة.
رابعا: أن يموت من صحبه أو رآه على الإسلام، بخلاف من صحبه أو رآه مؤمنا به ثم ارتد بعد ذلك، وهنا حالتان لكل واحدة منهما حكم.
الحالة الأولى: إذا صحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو(78/128)
رآه مؤمنا به ثم ارتد بعد ذلك ولم يعد إلى الإسلام فليس صحابيا كـ (عبد الله بن جحش) زوج أم حبيبة، فإنه أسلم معها، وهاجر إلى الحبشة فتنصر هناك ومات على نصرانيته، و (عبد الله بن خطل) الذي قتل وهو متعلق بأستار الكعبة، و (ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي) فليسوا بصحابة.
الحالة الثانية: إذا صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رآه مؤمنا به ثم ارتد بعد ذلك ثم عاد إلى الإسلام فقال الحافظ: " الصحيح أنه معدود في الصحابة " سواء عاد إلى الإسلام في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كـ (عبد الله بن أبي سرح) أو عاد إلى الإسلام ثانية، ولم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد إسلامه الثاني كـ (الأشعث بن قيس بن معد يكرب) الكوفي الذي قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبعين راكبا من كندة، وكان من ملوكها سنة عشر، ثم ارتد، فأتي إلى الصديق أسيرا، فأطلقه، فأسلم وحسن إسلامه، وزوجه أخته (أم فروة) ، وقد حضر القادسية واليرموك، و (قرة بن هبيرة) الذي أسلم ثم ارتد، فأسره خالد بن الوليد وأرسله إلى الصديق، فاعتذر عن ارتداده بخوفه على ولده وماله من مسيلمة وأنه كان مؤمنا باطنا فأطلقه الصديق، و (طلحة بن خويلد الأسدي) الذي ارتد، وتنبأ في بني أسد: فإنه عاد إلى(78/129)
الإسلام، وغزا تحت راية المسلمين في فتح الشام، وكان من الشهداء.
فالراجح أن هؤلاء من الصحابة: بدليل عد المحدثين لهم في الصحابة، وبدليل تخريج أحاديثهم في المسانيد (1) .
__________
(1) ابن حجر، فتح الباري: (7\3 - 5) ، والأحمدي خليل، السنة في عصر النبوة ص 60 - 63(78/130)
المطلب الثاني: أشهر المصنفات المطبوعة في الصحابة:
ولما كانت صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها عظيم، وفضلها كبير، فقد عني أهل العلم بوضع ضوابط لمن يستحق اسم الصحبة، ومن ليس كذلك، كما تبين ذلك آنفا، وكذلك صنفوا كتبا مهمة يستفاد منها معرفة حقيقة الراوي الأعلى، والتأكد إن كان صحابيا، أو تابعيا أو غيره تحاشيا من الوقوع في الخطأ عند الحكم على الحديث.
وهذه نماذج من تلك المصنفات:
1 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب: ليوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر الأندلسي المولود بقرطبة في رجب سنة 368 هجريا والمتوفى في شاطبة في ربيع الآخر سنة 463هـ.
وهذا الكتاب مرتب على حروف المعجم ويحتوي على 4225 ترجمة.(78/130)
2 - أسد الغابة في معرفة الصحابة: لابن الأثير، وهو كتاب جمع فيه بين أسماء الصحابة المدونة في كتاب ابن عبد البر، وكتاب أبي نعيم الأصفهاني، وكتاب ابن منده محمد بن يحيى، وكتاب أبي موسى محمد بن أبي بكر الأصفهاني ويحتوي على (7702) ترجمة مرتبة على حروف المعجم.
وجعل رمز "د": لابن منده، و"ع" لأبي نعيم، و"ب" لابن عبد البر، و"س" لأبي موسى.
3 - تجريد أسماء الصحابة: للذهبي وهو كتاب استقصى فيه مؤلفه أسماء الصحابة الذين ذكروا في الكتب الأربعة المصنفة في معرفة الصحابة وهي:
أ - كتاب ابن منده.
ب - كتاب أبي نعيم الأصفهاني.
ج - كتاب أبي موسى الأصفهاني.
د - كتاب ابن عبد البر مع زيادات زادها الذهبي من كتب أخرى.
4 - الإصابة في تمييز الصحابة: لابن حجر العسقلاني وهو كتاب رتبه على أربعة أقسام:
أ - فالقسم الأول: فيمن وردت صحبته بطريق الرواية عنه، أو عن غيره، أو وضع ذكره بما يدل على الصحبة.(78/131)
ب - القسم الثاني: فيمن ذكر في الصحابة من الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم، وهم دون سن التمييز.
ج - القسم الثالث: في المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام ولم يرد في خبر قط أنهم اجتمعوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا رأوه أسلموا في حياته أم لا، وهؤلاء ليسوا صحابة باتفاق أهل الحديث.
د - القسم الرابع: في من ذكر في الكتب المتقدمة في أسماء الصحابة على سبيل الوهم والغلط. وتراجم هذا الكتاب بلغت (12304) ترجمة.
5 - الرياض المستطابة في جملة من روى في الصحيحين من الصحابة: ليحيى العامري.
6 - در السحابة فيمن دخل مصر من الصحابة للسيوطي.
7 - حياة الصحابة للكندهلوي (1) .
__________
(1) الأحمدي خليل، السنة في عصر النبوة (160، 161) بتصرف(78/132)
المبحث الثاني: فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -
هذا المبحث يشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: فضائل الصحابة - رضي الله عنهم - إجمالا:(78/132)
أثبت أهل السنة أن فضائل الصحابة - رضي الله عنهم - واردة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فمما ورد في القرآن الكريم في فضائل الصحابة.
1 - قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (1) .
فهذه الآية الكريمة تدل على فضل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهي خير الأمم، وأول من يدخل في هذا الخطاب الإلهي الكريم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ هم المشافهون المخاطبون بذلك ومن جاء بعدهم إنما ينال من ذلك.
2 - وقوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (2) .
والمعنى أي جعلناكم أمة خيارا عدولا فإن هذه حقيقة الوسط، فهم خير الأمم وأعدلهم في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونيتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة، والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم فهم شهداؤه، ولهذا نوه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم (3) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة البقرة الآية 143
(3) السفاريني لوامع الأنوار 2\384(78/133)
3 - وقوله سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} (1) {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (2) .
فجعل الله سبحانه شفاء صدورهم، وذهاب غيظ قلوبهم، مطلبا وغاية في فرض القتال، وهذا يدل على كرامتهم عند الله سبحانه (3)
4 - وقوله سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (4) .
امتدحهم الله - تعالى - بالهجرة والجهاد والإنفاق وبين شرف مكانتهم عنده سبحانه.
5 - وقوله سبحانه: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (5) .
ففي هذه الآية مدح لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) سورة التوبة الآية 14
(2) سورة التوبة الآية 15
(3) أحكام الذمة لابن القيم (822، 823) .
(4) سورة التوبة الآية 20
(5) سورة التوبة الآية 117(78/134)
الذين غزوا معه من المهاجرين والأنصار، وإخبار بصحة بواطن ضمائرهم وطهارتها، لأن الله تعالى لا يخبر بأنه قد تاب عليهم إلا وقد رضي عنهم، ورضي أفعالهم.
هذا بعض ما ورد في القرآن الكريم من فضل الصحابة وعظم قدرهم، والثناء عليهم. بل هناك بعض الآيات صريحة الدلالة على فضلهم ومنها:
1 - قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) .
2 - وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (2) .
أما ما ورد من الأحاديث النبوية بشأن فضل الصحابة إجمالا فنذكر منها ما يلي:
1 - قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم (3) » .
__________
(1) سورة التوبة الآية 100
(2) سورة الفتح الآية 18
(3) أخرجه البخاري في صحيحه، مع الفتح، 7\3(78/135)
قال ابن حجر: والمراد بقرن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحابة (1) .
وفي رواية عند أحمد «خير هذه الأمة الذين بعثت فيهم (2) » .
2 - قول الرسول - صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه (3) » .
قال الشاطبي: " وإذا كان ذلك في المال، أي لا يبلغ أحد شأو أحد في الصدقة بالمال، ولو تصدق بملء الأرض ذهبا، وتصدق أحدهم بنصف مد تمر، فكذلك لا يبلغ شأوهم في سائر شعب الإيمان بشهادة التجربة العادة " (4) .
قال الحافظ ابن حجر: "الذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما من اتفق له الذب عنه، والسبق إليه بالهجرة أو النصرة، وضبط الشرع المتلقى عنه، وتبليغه لمن بعده فإنه لا يعدله أحد ممن
__________
(1) ابن حجر، فتح الباري 7 \8
(2) الإمام أحمد، المسند 5 \305
(3) البخاري 7\21
(4) الشاطبي، الاعتصام 1\258(78/136)
يأتي بعده، لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا وللذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من بعده، فظهر فضلهم" (1) .
هذا وإذا كانت رؤية الصالحين لها أثر عظيم، فكيف رؤية سيد المرسلين؟!
فإذا رآه مسلم ولو لحظة: انطبع قلبه على الاستقامة، لأنه بإسلامه متهيئ للقبول، فإذا قابل ذلك النور العظيم أشرق عليه وظهر أثره في قلبه، وعلى جوارحه، قال السافريني: "وليس في الأمة كالصحابة في الفضل والمعروف والإصابة" (2) .
__________
(1) ابن حجر، فتح الباري 7\7
(2) السفاريني، لوامع الأنوار 2\312(78/137)
المطلب الثاني: فضائل بعض الصحابة بأعيانهم:
أ - فضل أبي بكر رضي الله عنه: أجمع أهل السنة على أن أبا بكر الصديق أفضل هذه الأمة بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام (1) .
ومن ثم - فهو - رضي الله عنه - أفضل الصحابة على الإطلاق (2) وأكملهم وأعرفهم بأحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلمهم بأمور الدين، وأشهدهم موافقة لأمر الله تعالى، (3)
__________
(1) ابن حجر، فتح الباري 2\169
(2) نفس المصدر السابق 5\346
(3) نفس المصدر السابق 11\542(78/137)
وأنه رأس أهل الجنة من هذه الأمة.
وقد أثنى الله تعالى على أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في سورة التوبة فقال سبحانه: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (1) .
وحين خطب أبو بكر - رضي الله عنه - قال: أيكم يقرأ سورة التوبة؟ قال رجل: أنا قال: اقرأ فلما بلغ (إذ يقول لصاحبه) بكى أبو بكر وقال: أنا والله صاحبه (2) .
وله - رضي لله عنه - مناقب كثيرة ومفاخر فاق بها أقرانه، لقبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصديق. وهو أول الناس إيمانا قال صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا (3) » .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي (4) » .
__________
(1) سورة التوبة الآية 40
(2) الطبري في التفسير 14\260، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 4\202 لابن أبي حاتم
(3) رواه البخاري في صحيحه 4\191، كتاب فضائل الصحابة باب قوله - صلى الله عليه وسلم - (ولو كنت متخذا خليلا)
(4) رواه أبو دود في سننه، كتاب السنة، باب ما قيل في الخلفاء، انظر: سنن أبي داود مع شرخه عون المعبود11\406، 407(78/138)
والأحاديث في فضائله كثيرة شهيرة يعسر استقصاؤها، فقد بلغت حد التواتر المعنوي كما نص على ذلك ابن حجر - رحمه الله تعالى - (1) .
ب - فضل عمر بعد أبي بكر - رضي الله عنهما:
لا خلاف بين أهل السنة على أفضلية عمر بن الخطاب بعد أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما -.
ومن أظهر الأدلة على ذلك:
ما رواه ابن عباس رضي الله عنه: «أن عليا - رضي الله عنه - قال: عندما مات عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (رحمك الله) ، إني لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك، لأني كثيرا ما كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (كنت وأبو بكر وعمر، وقفت وأبو بكر وعمر، انطلقت وأبو بكر وعمر، فإني كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما (2) » (3) .
ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما، قوله عليه الصلاة والسلام: «يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان
__________
(1) ابن حجر، فتح الباري 12\396
(2) صحيح البخاري المناقب (3685) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2389) ، سنن ابن ماجه المقدمة (98) ، مسند أحمد (1/112) .
(3) أخرجه البخاري - مع الفتح - (7\22)(78/139)
سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك (2) » (3) .
وما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد كانت فيمن قبلكم من الأمم محدثون (5) » .
وما رواه أحمد في المسند، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب (6) » .
ج - الاختلاف في أي الرجلين أفضل بعد أبي بكر وعمر، عثمان أم علي؟
تفضيل الصديق ثم عمر مجتمع عليه بين أهل الحق، وأما المفاضلة بين عثمان وعلي ففيها خلاف، فالأكثرون ومنهم الإمام أحمد والإمام الشافعي، وهو المشهور عن الإمام مالك - رضي الله عنه - أن الأفضل بعد أبي بكر وعمر عثمان - رضي الله عنهم - ثم
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6085) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2397) ، مسند أحمد (1/187) .
(2) الفج الطريق الواسع (1)
(3) صحيح البخاري - مع الفتح - (7\40) ، صحيح مسلم بشرح النووي (15\165)
(4) صحيح البخاري - مع الفتح - 7\42
(5) (4) فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر
(6) المسند للإمام أحمد 4\154(78/140)
علي - رضي الله عنه - وعنهم أجمعين.
وذهب بعض السلف إلى تقديم علي على عثمان، وممن قالوا به سفيان الثوري، ويقال: إنه رجع عنه، وقال به ابن خزيمة وطائفة قبله وبعده، وقيل: لا يفضل أحدهما على الآخر، قاله مالك في (المدونة) وتبعه جماعة منهم يحيى القطان، ومن المتأخرين ابن حزم (1)
غير أن ما ذكر عن سفيان الثوري - رحمه الله - قد حكى غير واحد من العلماء رجوعه عن هذا القول، فقد قال الخطابي بعد أن ذكر قوله: - وقد ثبت عن سفيان أنه قال في آخر قوليه: (أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم -) (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ( ... فإن سفيان الثوري وطائفة من أهل الكوفة رجحوا عليا على عثمان ثم رجع عن ذلك سفيان وغيره، وبعض أهل المدينة توقف في عثمان وعلي، وهي إحدى الروايتين عن مالك، لكن الرواية الأخرى عنه تقديم عثمان على علي، كما هو مذهب سائر الأئمة كالشافعي وأبي حنيفة
__________
(1) ابن حجر، فتح الباري 7\16.
(2) الخطابي، معالم السنة 4\280(78/141)
وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه وغير هؤلاء من أئمة الإسلام (1) ، ثم بين شيخ الإسلام ابن تيمية في (العقيدة الواسطية) أن مسألة عثمان وعلى ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة (2) .
وقد وردت بعض الأحاديث في فضائل عثمان - رضي الله عنه - منها:
عن عائشة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع ثيابه حين دخل عثمان، وقال ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة (3) » .
وأخرج البخاري «أن عثمان بن عفان حين حصر أشرف عليهم وقال: أنشدكم الله ولا أنشد إلا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ألستم تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزته ألستم تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من حفر بئر رومة فله الجنة فحفرتها، فصدقوه بما قال» (4) .
وقد وردت أيضا بعض الأحاديث في فضائل علي - رضي الله
__________
(1) ابن تيمية، مجموع الفتاوى 4\426
(2) ابن تيمية، العقيدة الواسطية بشرح الهراس (242، 243)
(3) صحيح البخاري - مع الفتح - (7\53)
(4) صحيح البخاري - مع الفتح - (7\71)(78/142)
عنه - منها:
ما رواه سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في غزوة تبوك فقال: يا رسول الله أتخلفني في النساء والصبيان فقال: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي (1) » (2) .
وقوله عليه - الصلاة والسلام -: «من كنت مولاه فعلي مولاه (3) » (4) .
وقد نوه أئمة أهل السنة - رحمة الله تعالى عليهم - في عدة مواضع بفضائل الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - منها: قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: ... إن خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وإن عليا رابعهم في الخلافة والتفضيل، وأتبرأ ممن ضللهم وكفرهم) (5)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (ومن أصول أهل
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4416) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2404) ، سنن الترمذي المناقب (3731) ، سنن ابن ماجه المقدمة (121) .
(2) الترمذي - مع تحفة الأحوذي (10\215) وقال الترمذي: إسناده حسن صحيح.
(3) سنن الترمذي المناقب (3713) ، مسند أحمد بن حنبل (4/368) .
(4) صحيح البخاري - مع الفتح - (7 \304، 305) .
(5) طبقات الحنابلة (2\304) .(78/143)
السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم ويفضلون من أنفق من قبل الفتح - وهو صلح الحديبية - وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل، ويفضلون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر - وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر - (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) (1) ، وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ويشهدون بالجنة لمن شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - كالعشرة المبشرين بالجنة، وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة. ويقرون أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ويثلثون بعثمان ويربعون بعلي - رضي الله عنهم (2) .
وقد أشاد الحافظ ابن حجر - رحمه الله بفضائل الصحابة وما كانوا عليه من كثرة الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمحبة له والشفقة عليه، والمبادرة إلى طاعته، والمحافظة على تتبع أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي حركاته وسكناته وإسراره وإعلانه حتى حفظ الله بهم الدين.
__________
(1) ابن تيمية، العقيدة الواسطية مع شرح د. الفوزان (184 - 187)
(2) ابن حجر، فتح الباري (1\556)(78/144)
المطلب الثالث: ترتيب الصحابة في الفضل:
أفضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم أبو بكر يليه عمر فعثمان فعلي، وتفضيل أبي بكر وعمر على الصحابة متواتر ولم يخالف فيه إلا الروافض وأشباههم".
وتقديم عثمان على علي رضي الله عنهما هو مذهب أهل السنة، فقد جاء عن علي رضي الله عنه نفسه أنه قال: " خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر ثم عمر ولو شئت لسميت الثالث ".
أما فضل علي رضي الله عنه فهو ثابت دون غلو الشيعة في المدح وغلو الخوارج في القدح. وقد "أجمع الصحابة على تقديم عثمان بالبيعة، مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل، فقدم قوم عثمان وسكتوا وربعوا بعلي، وقدم قوم عليا، وقوم توقفوا، لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي. وإن(78/145)
كانت هذه المسألة مسألة عثمان وعلي، ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر وعمر ثم عثمان ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله".
ولهذا كانت الشيعة المتقدمون الذين صحبوا عليا أو كانوا في ذلك الزمان - كما يقول ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية" - "لم يتنازعوا في تفضيل أبي بكر وعمر وإنما كان نزاعهم في تفضيل علي وعثمان وهذا مما يعترف به علماء الشيعة الأكابر من الأوائل والأواخر حتى ذكر مثل ذلك أبو القاسم البلخي قال سأل سائل شريك بن عبد الله بن أبي نمر فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر، فقال له السائل: أتقول هذا وأنت من الشيعة؟ فقال: نعم إنما الشيعي من قال مثل هذا، والله لقد رقى علي هذه الأعواد. فقال: "ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر "، أفكنا نرد قوله؟ أكنا نكذبه؟ والله ما كان كذابا" (1) .
__________
(1) ابن تيمية، منهاج السنة النبوية ج: 1 ص13، 14(78/146)
ثم من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة (1) وأسماء العشرة: سعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، والزبير بن العوام (2) .
فهؤلاء هم الأفضل على وجه التعيين، أما أفضلهم بشكل عام فهو السابقون الأولون من المهاجرين، ثم من الأنصار.
قال الله تعالى فيهم على الترتيب: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (3) .
ولذا فإن أهل السنة والجماعة "يقدمون المهاجرين على الأنصار ".
ثم أهل بدر، فإن الله قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر: " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " (4) .
ثم أهل أحد.
__________
(1) ابن تيمية، العقيدة الواسطية، ص 41
(2) عبد الله بن سليمان الأشعث أبو بكر، قصيدة ابن أبي داود ص44
(3) سورة التوبة الآية 100
(4) ابن تيمية العقيدة الواسطية، ص41(78/147)
ثم أهل الثبات في غزوة الأحزاب التي نجم فيها النفاق (1) .
ثم أهل بيعة الرضوان، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة (2) » ، وقد رضي الله عنهم ورضوا عنه وكان عددهم أكثر من ألف وأربعمائة.
ثم من هاجر من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى (3) ، يقول ابن تيمية: "ويفضلون من أنفق من قبل الفتح وهو صلح الحديبية وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل" (4) .
قال الإمام أحمد - رحمه الله - في أصول السنة: " وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، فقدم هؤلاء الثلاثة كما قدمهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا في ذلك، ثم بعد هؤلاء الثلاث أصحاب الشورى الخمسة علي بن أبي طالب، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد، وطلحة كلهم للخلافة، وكلهم إمام ونذهب في ذلك
__________
(1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب 46\9، وكتاب الأدب باب 74، ومسلم فضائل الصحابة باب 161
(2) رواه الترمذي، كتاب المناقب، باب 57، 58
(3) حافظ حكمي، معارج القبول ج: 3 ص: 1196
(4) ابن تيمية، العقيدة الواسطية، ص: 41(78/148)
إلى حديث ابن عمر: " كنا نعد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي وأصحابه متوافرون أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان، ثم نسكت، ثم من بعد أصحاب الشورى أهل بدر من المهاجرين ثم أهل بدر من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قدر الهجرة والسابقة أولا فأولا "
وقال أبو منصور البغدادي: " أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم تمام العشرة ثم أهل بدر ثم أهل أحد ثم أهل بيعة الرضوان وممن له مزية أهل العقبتين من الأنصار ".
وجاء في رسالة الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى أهل القصيم: " وأومن بأن نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته، وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين ثم علي المرتضى ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم. . " (1) .
__________
(1) مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ''العقيدة'' 1\10(78/149)
المبحث الثالث: حقوق الصحابة رضي الله عنهم
المطلب الأول: احترامهم والثناء عليهم:
إن من أكبر الحقوق على المسلم تقدير الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإظهار الاحترام والتوقير لهم، وقد: "دلت النصوص المتواترة على وجوب حب أصحاب رسول الله وآله ورضي الله عنهم وأرضاهم وتعظيمهم وتكريمهم واحترامهم وتوقيرهم ورفع منزلتهم والاحتجاج بإجماعهم والاستنان بآثارهم واعتقاد ما نطق به القرآن الكريم والذكر الحكيم من أنهم خير أمة أخرجت للناس "
يقول الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (1) . الآية.
قال الشيخ حافظ الحكمي - رحمه الله -: "اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهادتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين" (2) .
__________
(1) سورة الفتح الآية 29
(2) معارج القبول، 3\1210(78/150)
والثناء عليهم يقول به كل صاحب نظرة موضوعية حتى من الخصوم أو المخالفين؛ "قال مالك رضي الله تعالى عنه: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام قالوا: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا، وقد صدقوا في ذلك، فإن هذه الأمة المحمدية خصوصا الصحابة لم يزل ذكرهم معظما في الكتب كما قال الله تعالى في هذه الآية: (ذلك مثلهم) أي وصفهم في التوراة، (ومثلهم) أي وصفهم {فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} (1) أي فراخه (فآزره) أي شده وقواه (فاستغلظ) أي شب فطال، فكذلك أصحاب محمد آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع ليغيظ بهم الكفار" (2) .
__________
(1) سورة الفتح الآية 29
(2) تفسير ابن كثير 4\205(78/151)
المطلب الثاني: الدعاء لهم
لقد نص القرآن الكريم نصا قاطعا على أن من سمات المؤمنين الاستغفار للسابقين عليهم من الصحابة، ويظهر هذا في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) .
__________
(1) سورة الحشر الآية 10(78/151)
ولذا يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: " لا تسبوا أصحاب محمد فإن الله عز وجل قد أمر بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون " (1) .
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: " أمروا بأن يستغفروا لأصحاب محمد فسبوهم " (2) .
قال النووي - رحمه الله -: " قال القاضي: الظاهر أنها قالت هذا عندما سمعت أهل مصر يقولون في عثمان ما قالوا، وأهل الشام في علي ما قالوا، والحرورية في الجمع ما قالوا. . " (3) .
__________
(1) رواه ابن حنبل في فضائل الصحابة، حديث 18، ج: 1، ص59
(2) رواه مسلم، كتاب التفسير، باب 15
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 18\158(78/152)
المطلب الثالث: النهي عن الإساءة إليهم أو سبهم
لقد نال الصحابة رضي الله تعالى عنهم مكانة كبيرة في الدين، ونظرا لهذه المكانة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن سبهم أو الإساءة إليهم بأي وجه؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه (1) » .
__________
(1) رواه مسلم كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم، حديث، 2540، ج: 4 ص1967، وابن حنبل في فضائل الصحابة، حديث 5، ج: 1 ص50(78/152)
ولذا فإن من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ، فقد بين القرآن الكريم أن المؤمنين يدعون ربهم طالبين سلامة قلوبهم من الغل للذين آمنوا وعلى رأسهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) .
وقد حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من سب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فعن أنس بن مالك قال: «قال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إنا نسب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا (3) » .
وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثم من حفظني في أصحابي كنت له يوم القيامة حافظا
__________
(1) ابن تيمية، العقيدة الواسطية، ص40
(2) سورة الحشر الآية 10
(3) رواه ابن حنبل في فضائل الصحابة، حديث 8، ج:1، ص52(78/153)
ومن سب أصحابي فعليه لعنة الله (1) » .
وعن عبد الله بن أبي أوفى: «ثم شكا عبد الرحمن بن عوف خالد بن الوليد، فقال: يا خالد لم تؤذي رجلا من أهل بدر لو أنفقت مثل أحد ذهبا لم تدرك عمله؟ ، فقال: يا رسول الله يقعون في فأرد عليهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تؤذوا خالدا فإنه سيف من سيوف الله سله الله على الكفار (2) » .
ومن متطلبات عدم الإساءة إليهم وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم بعد قتل عثمان رضي الله عنه، وقد أجمع أهل السنة الذين هم أهل الحل والعقد الذين يعتد بإجماعهم على وجوب السكوت عما كان بين الصحابة رضي الله عنهم، كما أجمع أهل السنة والجماعة على وجوب الاسترجاع على تلك المصائب التي أصيبت بها هذه الأمة والاستغفار للقتلى من الطرفين والترحم عليهم وحفظ فضائل الصحابة والاعتراف لهم بسوابقهم ونشر مناقبهم عملا بقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} (3) .
__________
(1) رواه ابن حنبل في فضائل الصحابة، حديث 10، ج1، ص54
(2) رواه ابن حنبل في فضائل الصحابة، حديث 13، ج1، ص56
(3) سورة الحشر الآية 10(78/154)
ويجب الاعتقاد أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مجتهدون في كل ما اتخذوه من مواقف، إن أصاب أحدهم فله أجران: أجر على اجتهاده وأجر على إصابته، وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد والخطأ مغفور، ولا يقول أهل السنة والجماعة إنهم معصومون بل مجتهدون إما مصيبون وإما مخطئون لم يتعمدوا خطأ في ذلك.
والكثير مما روي من الأحاديث في مساوئهم موضوع، ومنه ما قد حرف بالزيادة فيه أو النقص وغير عن وجهه، أما الصحيح منه فهم فيه معذورون (1) .
والقدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل جدا ومغفور في جانب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح. ومن نظر في تاريخهم بعلم وبصيرة وما من الله عليهم به من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمهم على الله عز وجل (2)
ومن ثم لا ينبغي الإساءة إليهم بأي وجه من الوجوه. فالمسيء إليهم قال بكفره كثير من الأئمة استنادا إلى قوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (3) .
__________
(1) حافظ حكمي، معارج القبول ج:3، ص 1208
(2) المرجع السابق، ج: 3، ص1029
(3) سورة الفتح الآية 29(78/155)
يقول الألوسي - رحمه الله -: " وقد استنبط الإمام مالك من هذه الآية تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله تعالى عنهم فإنهم يبغضونهم ومن غاظه الصحابة فهو كافر، ووافقه كثير من العلماء " (1) .
__________
(1) روح المعاني الألوسي، تفسير سورة الفتح 26\27(78/156)
المبحث الرابع: منزلة فضائل الصحابة وحقوقهم من الدين
المطلب الأول: محبتهم دين وإيمان
محبة الصحابة من الدين، وعلامة من علامات الإيمان، والدليل على ذلك ما جاء في سورة الحشر، حيث ذكر الله تعالى فضل الصحابة، ثم أردفهم بذكر التابعين؛ فقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (1) {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (3) .
__________
(1) سورة الحشر الآية 8
(2) سورة الحشر الآية 9
(3) سورة الحشر الآية 10(78/156)
فالمؤمن ليس في قلبه غل للذين آمنوا، وكل من يكره الصحابة رضي الله تعالى عنهم ليس داخلا فيمن جاء بعد عصر الصحابة من المؤمنين، ومن ثم فقد أخرج الله بهذه الآية وغيرها شاتم الصحابة من الإيمان، وجميع الفرق الذين في قلوبهم غل لهم إلى يوم القيامة ليسوا من هذه الأمة؛ "ولهذا منعهم كثير من الأئمة الفيء وحرموه عليهم" (1) .
وقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعني؛ فعن أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: «آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار (2) » .
وقد خصص القاسمي خاتمة كتابه "إيثار الحق على الخلق" (3) في حب من أحبه الله ورسوله وأمر بحبه من القرابة والصحابة، وبين في هذه الخاتمة كيف دلت النصوص الجمة المتواترة على وجوب محبتهم وموالاتهم وأن يكون معهم؛ ففي الصحيح: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا (4) » .
__________
(1) حافظ حكمي، معارج القبول، ج: 3، ص 1203
(2) رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، 9 باب علامة الإيمان حب الأنصار، حديث 17 ج1، ص14
(3) محمد بن إبراهيم إيثار الحق على الخلق، ص 416
(4) مسلم كتاب الإيمان، باب 93، وأبو داود، كتاب الأدب، باب 131(78/157)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب (1) » .
ويعضد ذلك من كتاب الله تعالى قوله عز وجل: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (2) ، وقوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} (3) . وإجماع الأمة وتواتر الأخبار بشرع الصلاة عليهم في تشهد الصلاة واختصاصهم به أو بالإجماع على دخولهم فيه.
فيجب لذلك حبهم وتعظيمهم وتوقيرهم واحترامهم والاعتراف بمناقبهم؛ فإنهم أهل آيات المباهلة والمودة والتطهير وأهل المناقب الجمة والفضل الشهير. وقد ذكر مناقبهم إمام أهل الحديث والسنة في عصره المحب الطبري وصنف في ذلك كتابه: "ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى". ويا له من كتاب وافق اسمه مسماه وصدق لفظه معناه (4) .
وفي تعظيم حق أهل البيت يقول رسول الله: ستة لعنتهم
__________
(1) البخاري، كتاب الأدب، باب 96. . ومسلم، كتاب البر، باب 165، والترمذي كتاب الدعوات، باب 98
(2) سورة الطور الآية 21
(3) سورة الكهف الآية 82
(4) القاسمي إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد، ص 417(78/158)
لعنهم الله. .، وذكرهم إلى أن قال: «والمستحل من عترتي لما حرم الله تعالى (1) » .
ومما يدل على أن محبة الصحابة رضي الله تعالى عنهم دين وإيمان " أن أول هذه الأمة هم الذين قاموا بالدين تصديقا وعلما وعملا وتبليغا؛ فالطعن فيهم طعن في الدين موجب للإعراض عما بعث الله به النبيين، وهذا كان مقصود أول من أظهر بدعة التشيع، فإنما كان قصده الصد عن سبيل الله وإبطال ما جاءت به الرسل عن الله، ولهذا كانوا يظهرون ذلك بحسب ضعف الملة فظهر في الملاحدة حقيقة هذه البدع المضلة لكن راج كثير منها على من ليس من المنافقين الملحدين لنوع من الشبهة والجهالة المخلوطة بهوى فقبل معه الضلالة وهذا أصله كله باطل" (2) .
ولذا ليس غريبا أن ينص علماء العقيدة من أهل السنة والجماعة على أن حبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان كما يقول الإمام الطحاوي (3) .
وقد قال إمام عصره أبو زرعة الرازي من أجل شيوخ مسلم:
__________
(1) رواه الترمذي، كتاب القدر، باب 17
(2) ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، ج2، ص18
(3) ابن أبي العز الحنفي، شرح العقيدة الطحاوية، بيروت، المكتب الإسلامي، ط6، 1400 هـ، ص528(78/159)
" إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق والقرآن حق وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة؛ فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة فيكون الجرح به ألصق والحكم عليه بالزندقة والضلالة والكذب والفساد هو الأقوم الأحق " (1) .
__________
(1) تهذيب الكمال - المزي - تحقيق بشار عداد معروف 19\96، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1\1400 هـ(78/160)
المطلب الثاني: محبتهم من محبة الله ورسوله.
محبة الصحابة من محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا شيء طبيعي لأن محبتهم دين وإيمان، وقد ثبت في الكتاب والسنة أن محبتهم من محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
عن عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه (1) » .
فهذا الحديث يبين الوصية بأصحابه الكرام، وفيه الترغيب في حبهم، والترهيب عن كرههم ويبين أيضا أن حبهم من الإيمان
__________
(1) رواه ابن حنبل في فضائل الصحابة، ج 1، ص 47، حديث رقم 1(78/160)
وبغضهم من الكفر؛ فبغضهم إذا كان بغضا له كان كفرا بلا خلاف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه (1) » .
قال الإمام الذهبي - رحمه الله - وقوله صلى الله عليه وسلم: «فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم (2) » فهذا من أجل الفضائل والمناقب لأن محبة الصحابة لكونهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه وآمنوا به وعزروه وواسوه بالأنفس والأموال فمن أحبهم فإنما أحب النبي صلى الله عليه وسلم فحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عنوان محبته وبغضهم عنوان بغضه كما جاء في الحديث الصحيح «حب الأنصار من الإيمان وبغضهم من النفاق (3) » وما ذاك إلا لسابقتهم ومجاهدتهم أعداء الله بين يدي رسول الله. . (4) .
ومن أصول أهل السنة محبة أهل البيت وهم كل من تحرم عليهم الصدقة. . وهم آل علي وآل جعفر وآل عباس، وآل عقيل، وكذلك نساء الرسول صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين يدخلون في مسمى أهل البيت (5) .
فأهل السنة يحبونهم ويتولونهم ويحفظون
__________
(1) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب 8، وكتاب الإيمان، باب 3، ومسلم، كتاب الإيمان باب 69، 70
(2) سنن الترمذي المناقب (3862) ، مسند أحمد (4/87) .
(3) صحيح البخاري الإيمان (17) ، صحيح مسلم الإيمان (74) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5019) ، مسند أحمد (3/249) .
(4) الكبائر للذهبي، ص 237، دار الندوة الجديدة، بيروت، لبنان
(5) الاعتقاد. البيهقي، ص325(78/161)
فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم (1) .
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم: «أذكركم الله في أهل بيتي (2) » .
وقال أيضا للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم فقال: «لن ينالوا خيرا حتى يحبوكم لله ولقرابتي (3) » .
ولذا فإن المؤمنين "يتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون أهل البيت بقول أو عمل" (4) .
__________
(1) ابن تيمية، العقيدة الواسطية، ص 42، 43
(2) رواه الدرامي، كتاب فضائل القرآن، باب 1، وابن حنبل، ج2\ ص 114
(3) رواه ابن حنبل فضائل الصحابة 2\917
(4) ابن تيمية، العقيدة الواسطية ج1، ص 42(78/162)
المطلب الثالث: التعريف بحقوقهم وفضائلهم من حق المسلم على أخيه
من واجب المسلم تبصير أخيه المسلم بفضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وتعريفه بحقوقهم عليه، كما يجب على المسلمين أن يتواصوا فيما بينهم بوجوب احترام الصحابة رضي الله تعالى عنهم وذكر مآثرهم وفضائلهم التي لا مثيل لها في التاريخ؛ فعلى أكتافهم قامت أعظم أمة، وبجهودهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس.(78/162)
والتواصي به على مقتضى ما وصف الله تعالى به المؤمنين من التواصي بالحق والصبر والمرحمة؛ فالقرآن والسنة يدلان دلالة قاطعة على "التحذير من مشاحنتهم وإضمار الغل لهم والمحافظة على ذلك والتواصي به على مقتضى ما وصف الله تعالى به المؤمنين من التواصي بالحق والصبر والمرحمة" (1) .
وبعد ما ذكر الذهبي أن حبهم إيمان وبغضهم من النفاق كما جاء ذلك في الحديث الصحيح قال: " وما ذاك إلا لسابقتهم ومجاهدتهم أعداء الله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. .. وإنما يعرف فضائل الصحابة رضي الله عنهم من تدرب أحوالهم وسيرهم وآثارهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته من المسابقة إلى الإيمان والمجاهدة للكفار ونشر الدين، وإظهار شعائر الإسلام، وإعلاء كلمة الله ورسوله، وتعليم فرائضه وسننه، ولولاهم ما وصل إلينا من الدين أصل ولا فرع ولا علمنا من الفرائض والسنن سنة ولا فرضا، ولا علمنا من الأحاديث والأخبار شيئا، فمن طعن فيهم أو سبهم فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين؛ لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم وإضمار الحقد
__________
(1) القاسمي، إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذاهب الحق من أصول التوحيد، ص 417(78/163)
فيهم وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم، وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنائه عليهم، وفضائلهم ومناقبهم وحبهم، ولأنهم أرضى الوسائل من المأثور، والوسائط من المنقول والطعن في الوسائط طعن في الأصل، والازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول هذا ظاهر لمن تدبره وسلم من النفاق ومن الزندقة والإلحاد في عقيدته " (1) .
__________
(1) الكبائر - الذهبي. ص237(78/164)
الخاتمة:
والسؤال الآن: ما الموقف الذي ينبغي على المسلم أن يقفه في كل العصور تجاه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حدث بينهم؟ وما دور المسلمين في الدفاع عن الصحابة وإظهار حقيقة ما حدث بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وبيان أن هذا لا يقلل من مكانتهم؟ وما الواجبات التي يتحتم على المسلم في عصرنا بل في كل العصور القيام بها؟
لقد لخص الإمام ابن تيمية الموقف الأمثل الذي ينبغي على المسلم أن يقفه في كل العصور تجاه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حدث بينهم فقال إن المؤمنين: "يمسكون عما شجر من الصحابة ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو(78/164)
كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم. وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم ثم إذا كان(78/165)
قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتي بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته أو ابتلي ببلاء الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة؛ فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور. ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله عليهم به من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله (1) .
وعلى المسلم في عصرنا أن يدرك "أن عامة الأئمة المجتهدين يصرحون بأنه ليس لنا أن نخرج عن أقاويل الصحابة" (2) .
ويستخلص من كلام الإمام ابن تيمية عدة واجبات يتحتم على المسلم في عصرنا بل في كل العصور القيام بها، تتمثل فيما يلي:
__________
(1) ابن تيمية، العقيدة الواسطية، ج 1، ص 44، 45
(2) ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، ج 3، ص 406(78/166)
1 - الإمساك عما شجر بين الصحابة.
2 - العلم بأن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه.
3 - ينبغي عذرهم بما وقع منهم من أحداث جاءت في الصحيح من الآثار المروية عنهم؛ فهم إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون.
4 - لا يعتقد المسلم أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة.
5 - معرفة أن للصحابة من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم.
6 - معرفة أنه إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتي بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي هم أحق الناس بشفاعته أو ابتلي ببلاء الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة؛ فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور.(78/167)
7 - وجوب التنبه إلى أن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح.
8 - العلم اليقين بأنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمهم على الله.
9 - ينبغي عدم الخروج عن أقوال الصحابة إذا لم تخالف نصا من الكتاب والسنة.
ولاشك أن عدم معرفة هذه الحقائق في زماننا هذا نتج عنه أخطار على المسلمين، لعل من أهمها ضياع مفهوم القدوة، وعدم الاقتداء بالصحابة العظام. ومن ثم البحث عن قدوة مخالفة، وهي غالبا ما تكون من الغرب المليء بالإباحية والفحش.
بل في بعض الأحيان يؤدي عدم معرفة قدر الصحابة إلى الشك في الدين، والابتعاد عن مفهوم المجتمع الإسلامي.
ولذا لا بد من التحذير من جهل الناس بهذه المسألة المهمة، وتبصير عامة المسلمين بحقيقة مكانة الصحابة الكرام ومعرفة فضلهم، وهذه أو خطوة نحو إقامة المجتمع المسلم الذي يقتدي بالصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا يشكلون المجتمع المسلم الأول، وهو خير(78/168)
المجتمعات على وجه الإطلاق.
ولذا فإننا نوصي أنفسنا وغيرنا بعدة أمور:
1 - على المسلمين أن يفهموا جيدا حياة الصحابة وأن يقتدوا بهم إذا أرادوا العودة إلى سالف مجد المسلمين وقوتهم.
2 - على المفكرين الغربيين والعلمانيين العرب أن يعيدوا النظر في تاريخ الصحابة بأعين مجردة عن الهوى إذا أرادوا تحقيق مصلحة البشرية ومعرفة الطريق الأمثل لحياة الإنسان الفاضل.
3 - لا بد من زيادة الجهود الإعلامية: مرئية ومسموعة ومكتوبة، التي تظهر عظمة الصحابة ومواقفهم المثالية، وأن يكون الجزء الأكبر من هذه الجهود باللغات الأجنبية لتعريف الغرب بحقيقة صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
4 - على الدول العربية والإسلامية أن تتخلى عن إظهار شخصيات الغرب بشكل مثالي، فقد أثبتت التجارب أنها لا تصلح لأن تكون قدوة لنا، كما أثبتت التجارب نجاح الصحابة في إقامة أفضل مجتمع عرفته الإنسانية.
5 - يجب توعية الناس المتأثرين بالشخصيات الغربية في بعض البلدان بخطورة ذلك، وأن من الضروري العودة لحياة الصحابة للأخذ منها والاقتداء بها.(78/169)
صفحة فارغة(78/170)
الفتح في الصلاة
لفضيلة الدكتور\ زيد بن سعد الغنام (1) .
المقدمة:
الحمد لله الذي شرع الصلاة للمؤمنين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، خير من صلى وصام وعبد ربه حتى أتاه اليقين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين. . وبعد:
فإن الصلاة عمود الإسلام، وأحد أركانه العظام، وأول ما يحاسب عليه العبد، وهي أكثر العبادات البدنية التي يؤديها المسلم، ولاحظ في الإسلام لمن تركها، وتتميز الصلاة - فرضا كانت أو نفلا - بكثرة مسائلها ومعرفتها حتى يعبد المسلم ربه على بصيرة، ومن مسائل الصلاة المتعلقة بالقول الفتح بالقراءة على الإمام وعلى غيره، وما يترتب عليه من آثار، ولقد رأيت مستعينا بالله الكتابة في هذا الموضوع الفقهي " الفتح في الصلاة "، وذلك لأسباب آلاتية:
1 - أنه من مسائل الصلاة التي هي أهم أركان الإسلام بعد
__________
(1) عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية(78/171)
الشهادتين، ولذا كان جديرا بالبحث.
2 - الحاجة لمعرفة أحكام الفتح في الصلاة، وذلك لكثرة وقوعه، وبخاصة الفتح على الإمام في صلاة الجماعة، وقيام رمضان.
3 - تعدد فروع هذا الموضوع، وكون بعضها يحتاج للتخريج الفقهي، مما يعطي دافعا قويا لبحثه.
4 - أن هذا الموضوع لم يفرد ببحث مستقل - فيما أعلم - حتى إن الكتب والرسائل المؤلفة في الصلاة عموما أو في بعض مسائلها كالإمامة، والقراءة ونحوها لم تتعرض لهذا الموضوع إلا مجرد إشارات موجزة لبعض مسائله كما في بيان حكم الفتح على الإمام فقط.
منهج البحث:
اتبعت في كتابة هذا البحث المنهج الآتي:
1 - تصوير المسألة وتحرير محل الخلاف الفقهي - إن وجد -.
2 - الاقتصار على رأي المذاهب الفقهية الأربعة، وربما ذكرت رأي غيرهم أحيانا، فإن كانت المسألة محل اتفاق ذكرت اتفاقهم وأتبعته بالأدلة، وإن كانت المسألة خلافية ذكرت الأقوال ثم الأدلة ووجه الاستدلال، والمناقشات الواردة ثم الترجيح مع بيان سببه وربما اجتهدت في الاستدلال والمناقشة، وبحث بعض المسائل المعاصرة.(78/172)
3 - توثيق أقوال المذاهب من مصادرهم الأصلية، وإذا لم أجد قولا صريحا لمذهب في مسألة سلكت مسلك التخريج الفقهي.
4 - التركيز على موضوع البحث، وتجنب الاستطراد، مع العناية بضرب الأمثلة الواقعية عند المناسبة.
5 - ترقيم الآيات وذكر اسم السورة، وتخريج الأحاديث النبوية والآثار من كتب السنة مع بيان ما ذكره أهل الاختصاص في درجتها والحكم عليها - إن لم تكن في الصحيحين أو أحدهما - فإن كانت اكتفيت بذلك.
6 - لم أترجم للأعلام مراعاة للاختصار. 7- وضعت خاتمة تعطي فكرة عامة عما تضمنه البحث وأبرز نتائجه.
8 - وضعت فهرسا للمصادر وآخر للموضوعات.
خطة البحث:
انتظم هذا البحث في مقدمة، وتمهيد، وثلاثة مباحث، وخاتمة:
المقدمة: وفيها أهمية الموضوع وسبب اختياره، والمنهج المتبع في بحثه، والخطة.
التمهيد: وفيه ثلاثة مطالب.
المطلب الأول: تعريف الفتح وأسماؤه.
المطلب الثاني: حال المصلي وهيئته.(78/173)
المطلب الثالث: تعاهد القرآن.
البحث الأول: الفتح على الإمام، وفيه ستة مطالب:
المطلب الأول: حكم الفتح على الإمام.
المطلب الثاني: وقت الفتح على الإمام.
المطلب الثالث: إلجاء الإمام المأمومين للفتح عليه.
المطلب الرابع: تعدد الفاتحين على الإمام.
المطلب الخامس: الفتح من المرأة على الإمام.
المطلب السادس: أثر الفتح على الإمام.
المبحث الثاني: الفتح على غير الإمام وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: فتح المصلي على غير إمامه.
المطلب الثاني: فتح غير المصلي على المصلي.
المطلب الثالث: أثر الفتح على غير الإمام.
المبحث الثالث: محل الفتح، والفتح من المصحف، واثر الفتح في اليمين "مسائل متفرقة في الفتح"
المطلب الأول: محل الفتح، وما يكون فيه.
المطلب الثاني: الفتح من المصحف في الصلاة.
المطلب الثالث: أثر الفتح في اليمين.
الخاتمة: وفيها أهم نتائج وفوائد البحث.
وبعد فأحمد الله تعالى إلي إتمام هذا البحث، فما كان فيه من(78/174)
صواب فمن الله سبحانه، وما فيه من نقص أو خطأ فمني وأستغفر الله من ذلك وأسأله - جل وعلا - أن يجعله عملا مقبولا نافعا، إنه سميع مجيب وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.(78/175)
التمهيد فيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الفتح وأسماؤه.
الفتح في اللغة العربية: الفاء والتاء والحاء أصل صحيح يدل على خلاف الإغلاق يقال فتح الباب وأزال إغلاقه، ويطلق الفتح في اللغة على الحكم وعلى النصر والظفر، وفتح عليه هداه وأرشده (1) .
الفتح في الاصطلاح: عرف بأنه "تلقين الآية عند التوقف فيها أو الخطأ" (2) . وقيل هو "الرد عليه إذا غلط" (3) .
وقيل فتح عليه "قرأ ما ارتج عليه ليعرفه" (4) .
والعلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي ظاهرة؛ لأن من فتح على غيره بالقراءة فقد أزال إغلاقه، ونصره، وأرشده.
وتسميته بالفتح هي الأشهر والغالب فيما ورد في الآثار وإطلاق الفقهاء، ويسمى التلقين (5) .، وقد وردت تسميته تلقينا في بعض الآثار - كما سيأتي إن شاء الله - ويسميه بعض الفقهاء الرد (6) ، ويسميه
__________
(1) انظر: معجم مقاييس اللغة 4\469، بسان العرب 2\536، القاموس المحيط: 297، المعجم الوسيط 2\671
(2) شرح الخرشي 3\78، معني المحتاج 1\158، النهاية في غريب الحديث 3\407
(3) الممتع في شرح المقنع 1\463، فتح الملك عبد العزيز بشرح الوجيز 2\102
(4) المصباح المنير:175
(5) انظر: النوادر والزيادات 1\179، المنثور في القواعد 1\401، شرح سنن أبي داود للعيني 4\129
(6) انظر: المغني 2\454، الممتع في شرح المقنع 1\463(78/176)
بعضهم إفتاء (1) ، ولعل ذلك لما فيه من التعليم.
وقد يسمى بالتذكير أخذا من «قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي "فهلا ذكرتنيها (2) » . يعني الآية التي التبست عليه - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي.
المطلب الثاني: حال المصلي وهيئته:
الصلاة عبادة عظيمة، وشعيرة جليلة، حيث يقف المسلم بين يدي ربه وخالقه - جل وعلا - وهذا الموقف له من الخصوصية في الأقوال والأفعال والهيئة ما ليس لغيره من العبادات، وقد اتفق الفقهاء - رحمهم الله - على أنه يشرع للمصلي أن يكون حاضر القلب خاشعا في صلاته ساكن الجوارح متدبرا مبتعدا عن كل قول أو فعل أجنبي عن الصلاة. .
قال الله تعالى في وصف المؤمنين: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (3) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: «خشع لك سمعي وبصري ومخي وعقلي وعصبي (4) » . . .
__________
(1) انظر: المحلي 4\3، النوادر والزيادات 1\180
(2) سنن أبي داود الصلاة (907) ، مسند أحمد (4/74) .
(3) سورة المؤمنون الآية 2
(4) رواه مسلم في صحيحه، من كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في الصلاة 1\535(78/177)
ومع اتفاق العلماء على مشروعية ذلك إلا أنهم مختلفون في حكمه من حيث الوجوب وعدمه، ومختلفون - أيضا - فيما يبطل الصلاة من عدم الخشوع والكلام والفعل الأجنبي، وضوابط ذلك مذكورة في مواضعها (1) .
ومع هذا الأصل أو القاعدة لهيئة المصلي وما ينبغي أن يكون عليه إلا أن هناك استثناءات من هذا الأصل، ثبتت بالأدلة، كأن يفعل المصلي أو يقول شيئا مخالفا للصلاة، لضرورة أو حاجة أو مصلحة مثل الإشارة باليد، أو تنبيه من يخشى عليه الهلاك، ومثل تنبيه الإمام، والفتح عليه، أو على غيره (2) ، من هنا يعلم أن الفتح في الصلاة يعد مما استثني في أحكام الصلاة.
ولهذا يتكلم عنه بعض الفقهاء في صفة الصلاة، وبعضهم يذكره أثناء الحديث عن الخشوع في الصلاة، ومنهم من يتطرق له في باب ما يبطل الصلاة وما يجوز فيها.
كما أن فتح المأموم على إمامه - خاصة - يعد من مسائل ارتباط صلاة المأموم بإمامه، ولهذا يختلف في حكمه وتأثيره عن الفتح على غيره - كما سيأتي - إن شاء الله.
__________
(1) انظر المراجع السابقة
(2) انظر: المبسوط 1\170، شرح الخرشي 1\330، المجموع 4 \85، المغني 2\451 وما بعدها(78/178)
المطلب الثالث: تعاهد (1) القرآن:
يشرع لمن حفظ القرآن أو بعضا منه أن يتعاهد حفظه، ويستذكره حتى لا يتفلت، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها (2) »
ويقول عليه الصلاة والسلام: «استذكروا القرآن (3) » ومثل تعاهد الحفظ والعناية بتصحيح التلاوة.
ويتأكد هذا التعاهد والتصحيح في حق من يحتاج إلى حفظه كالمفتي، والعالم، وإمام الصلاة، حيث يلحظ أن بعض الأئمة لا يتعاهدون حفظهم أو يقرأون آيات لم يحفظوها جيدا مما يدعو المأمومين إلى الفتح عليهم، وربما أكثر من مرة، وقد لا يوجد من المأمومين من يستطيع الفتح فيحصل شيء من التشويش، والإرباك، كما هو مشاهد.
__________
(1) التعاهد هو المحافظة على التلاوة، انظر: دليل الفالحين 3\496.
(2) رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب استذكار القرآن وتعاهده، فتح الباري 9\79.
(3) رواه البخاري في الموضوع السابق.(78/179)
المبحث الأول: الفتح على الإمام وفيه ستة مطالب
المطلب الأول: حكم الفتح على الإمام.
اختلف الفقهاء في حكم فتح المأموم على إمامه في القراءة على ثمانية أقوال:
القول الأول: أنه يجب الفتح عليه في الفاتحة، ويستحب في غيرها وهو مذهب الشافعية (1) ، وقول عند الحنابلة (2) ، واختيار الشوكاني (3) - رحمه الله -.
والقول الثاني: أنه يجب الفتح في الفاتحة، ويجوز في غيرها.
وهو مذهب المالكية (4) ، والمشهور من مذهب الحنابلة (5) وقال به من التابعين الحسن، والزهري، وعطاء، وعبد الرحمن السلمي (6)
القول الثالث: أنه يجوز الفتح في الفاتحة وغيرها ولا يجب وهو المشهور في مذهب الحنفية (7) . ورواية عند الحنابلة (8) .
__________
(1) انظر: البيان 2\189، التهذيب 2\273، فتح العزيز 2\50، المجموع 4\239.
(2) انظر: المبدع 1\486.
(3) انظر: نيل الأوطار 2\340.
(4) نظر: التفريع 1\227، البيان والتحصيل 1\463، مواهب الجليل 2\27.
(5) انظر: المغني 2\454، الفروع 2\269، المبدع 1\486، الإنصاف 2\100.
(6) انظر: اختلاف الفقهاء للمروزي: 182، المجموع 4\240، المغني 2\454.
(7) انظر: المبسوط 1\193، بدائع الصنائع 1\236، فتح القدير 1\400، الدر المختار 1\622.
(8) انظر: المستوعب 2\232، الإنصاف 2\100، فتح الملك العزيز 2\102.(78/180)
والقول الرابع: أنه يجوز الفتح على الإمام في صلاة النافلة دون الفريضة. وهو رواية عند الحنابلة (1) .
القول الخامس: أنه يجوز الفتح في النفل مطلقا، ولا يجوز في الفريضة إلا في الفاتحة وهو قول عند الحنابلة (2)
القول السادس: أنه يجوز الفتح على الإمام إذا أطال السكوت بعد اللبس والخطأ، ولا يجوز إذا لم يطل.
وهو رواية عند الحنابلة (3)
القول السابع: أنه يكره الفتح على الإمام مطلقا.
وهو قول عند الحنفية (4) ، ووجه عند الشافعية (5) ، وقول للحنابلة (6) وقال به من المتقدمين الثوري، والشعبي، والنخعي، وشريح (7) .
__________
(1) انظر: الفروع 2\269، المبدع 1\486، الإنصاف 2\100، فتح الملك العزيز 2\102.
(2) انظر: المبدع 1\486، فتح الملك العزيز 2\102.
(3) انظر: الفروع 2\269، المبدع 1\486، الإنصاف 2\100، فتح الملك العزيز 2\102.
(4) انظر: الفروق للكرابيسي 1\45.
(5) انظر: روضة الطالبين 1\396.
(6) انظر: المبدع 1\486
(7) انظر: المصنف لعبد الرزاق 2\142، اختلاف الفقهاء للمروزي: 182، المجموع 4\241.(78/181)
القول الثامن: يجوز الفتح على الإمام في الفاتحة، ولا يجوز في غيرها. وهو قول ابن حزم الظاهري (1) ، وابن عقيل من الحنابلة (2) .
الأدلة والمناقشات:
استدل من قال بأنه يجب في الفاتحة ويستحب في غيرها بالأدلة الآتية:
1 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن «النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة فقرأ فيها فلبس عليه فلما انصرف قال لأبي كعب: أصليت معنا قال: نعم، قال: فما منعك (3) » .
وجه الاستدلال: أن قوله عليه الصلاة والسلام: " فما منعك " أي من الفتح على، وهذا يدل على مشروعية الفتح إذ لو لم يكن مشروعا ومستحبا لما سأل عن سبب تركه (4) .
__________
(1) انظر: المحلي 4\3.
(2) انظر: الممتع في شرح المقنع 1\463، الإنصاف 2\100.
(3) رواه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب الفتح على الإمام 1\239، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجمعة، 3\212، والدارقطني في سننه، كتاب الصلاة 2\256، قال الخطابي في معالم السنن 1\216، ''إسناده جيد'' وقال النووي في المجموع 4\241 ''وهو حديث صحيح'' وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 2\1170 رجاله موثقون ''وقال الشوكاني في نيل الأوطار 2\339'' رجال إسناده ثقات''، وصحيحه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1\254.
(4) انظر: معالم السنن 1\216، المجموع 4\241، المغني 2\455.(78/182)
ونوقش الاستدلال بهذا الحديث بأنه منسوخ بالأحاديث التي فيها نهي المأموم عن القراءة خلف الإمام إلا بالفاتحة (1) .
وأجيب بأن النسخ يحتاج فيه لمعرفة المتأخر منهما ولما لم يعرف ذلك يكون القول بالنسخ مجرد دعوى بلا دليل (2) .
ويمكن الإجابة - أيضا - بأنه لا علاقة بين مسألة النهي عن القراءة خلف الإمام والفتح عليه؛ لأن الفتح إنما هو لمصلحة الصلاة، أما القراءة فلا مصلحة فيها.
2 - عن المسور بن يزيد المالكي قال: «شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصلاة فترك شيئا لم يقرأه، فقال له رجل: يا رسول الله تركت آية كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هلا أذكرتنيها (3) » .
وجه الاستدلال: أن طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكيره الآية - وهو الفتح عليه - دليل على مشروعيته (4) .
__________
(1) انظر: المحلى 4\3.
(2) انظر: الأحكام الفقهية الخاصة بالقرآن الكريم 1\380.
(3) رواه أبو داود في سننه، من كتاب الصلاة، باب الفتح على الإمام 1\238، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجمعة، 3\211، وابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الصلوات 2\72، وجود إسناده النووي في المجموع 4\241، وقال الشوكاني ''إسناده لا بأس به'' السيل الجرار 1\241، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1\254.
(4) انظر: المجموع 4\241، المغني 2\455، السيل الجرار 1\241(78/183)
3 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما أن بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني (1) » .
وجه الاستدلال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بتذكيره حين النسيان، وهو عام في أفعال الصلاة وأقوالها، والفتح بالقراءة من التذكير في الأقوال (2)
قول أنس بن مالك - رضي الله عنه -: «كنا نفتح على الأئمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) » ، وفي لفظ «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن بعضهم بعضا (4) » .
وهذا الأثر واضح الدلالة على المسألة، وله حكم الرفع (5) .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة، فتح الباري 1\503.
(2) انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع 3\207.
(3) رواه الدارقطني في سننه، كتاب الصلاة، باب تلقين المأموم لإمامه، 2\254، والحاكم في المستدرك، كتاب الصلاة، وقال: '' هذا حديث صحيح وله شواهد '' 1\410، وأقره الذهبي في التلخيص، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجمعة 3\212، وضعف إسناده النووي في المجموع 4\239.
(4) رواه الدارقطني في سننه، 2\256، والحاكم في المستدرك، كتاب الصلاة 1\411، والبيهقي في السنن الكبرى 3\212. وفي سنده جارية بن هرم قال النسائي: ليس بالقوي، وقال الدارقطني: متروك، وقال الذهبي في التلخيص: ''جارية متروك'' وانظر التعليق المغني 1\400.
(5) انظر: المغني 2\455، السيل الجرار 1\241.(78/184)
1 - أن الفتح على الإمام ورد عن عدد من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن ذلك:
أ - قول علي - رضي الله عنه - إذا استطعمكم الإمام فأطعموه. وفي لفظ: «من السنة أن تفتح على الإمام إذا استطعمك (1) » . والمراد باستطعام الإمام: إذا سكت في القراءة (2) ، وقيل معناه: إذا تعايى فاردد عليه (3) .
ب- ما رواه نافع - رحمه الله - أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - صلى المغرب فلما قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (4) ، جعل يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم مرارا يرددها فقلت: " {إِذَا زُلْزِلَتِ} (5) " فقرأها. فلما فرغ لم يعب علي ذلك (6) وورد عنه أنه نقال: " كنت ألقن ابن عمر في الصلاة فلا يقول شيئا " (7) .
__________
(1) رواه البهيقي في السنن الكبرى 3\213
(2) المرجع السابق
(3) المغني 2\455
(4) سورة الفاتحة الآية 7
(5) سورة الزلزلة الآية 1
(6) رواه البيهقي في السنن الكبرى، 3\212، وعبد الرازق في المصنف 2\143.
(7) رواه عبد الرازق في المصنف 2\143، وابن شيبة في المصنف 1\521.(78/185)
ج- وعن عبيدة بن ربيعة - رحمه الله - قال: " أتيت المسجد الحرام فإذا رجل يصلي خلف المقام طيب الريح حسن الثياب وهو يقرأ ورجل إلى جنبه يفتح عليه، فقلت من هذا؟ فقالوا عثمان بن عفان " (1) .
د- عن أبي جعفر القاري قال: " رأيت أبا هريرة رضي الله عنه يفتح على مروان في الصلاة " (2) .
وهذه الآثار واضحة الدلالة على المسألة (3) ، وظاهرها يدل على استحباب الفتح على الإمام لا مجرد الجواز.
2 - أن الفتح على الإمام عليه العمل من غير نكير، فكان إجماعا (4) .
3 - أن الفتح تنبيه للإمام بما هو مشروع في الصلاة - وهو القراءة - فأشبه التنبيه عليه بالتسبيح، والتسبيح مشروع فكذلك الفتح قياسا (5) .
3 - أن الفتح على الإمام فيه مصلحة؛ لأنه إعانة على إكمال
__________
(1) رواه عبد الرازق في المصنف 2\142، وابن شيبة في المصنف 1\521.
(2) رواه البيهقي في السنن الكبرى 3\212.
(3) نظر: المبسوط 1\194، المجموع 4\240، المغني 2\455.
(4) انظر: حاشية الروض المربع لابن قاسم 2\106.
(5) انظر: المغني 2\455، كشاف القناع 1\379، إعلاء السنن 5\58.(78/186)
قراءة الإمام وإصلاح لصلاته (1) .
5 - أن الفتح على الإمام من التعاون على البر والتقوى (2) .
وأما دليلهم على وجوب الفتح على الإمام في الفاتحة فلأنها ركن في الصلاة لا تصح إلا بها، فكما أنه يجب على المأموم في الفاتحة فلأنها ركن في الصلاة لا تصح إلا بها، فكما أنه يجب على المأموم تنبيه إمامه إذا نسي سجدة أو ركنا فكذلك يجب الفتح إذا غلط أو نسي شيئا من الفاتحة وأما قراءة غير الفاتحة فسنة، فكذلك الفتح فيها سنة (3) .
واستدل من قال بوجوب الفتح على الإمام في الفاتحة وإباحته في غيرها بما استدل به أصحاب القول الأول من الأحاديث والآثار إلا أنهم حملوها على الإباحة والجواز لا الاستحباب (4) .
ويناقش استدلالهم بأن النصوص أو بعضها فيها أمر بالفتح والأمر يكون للمشروعية والاستحباب، لا مجرد الإباحة، ومن أدلة هذا القول أيضا: 1- أن الفتح تلاوة قرأن في الصلاة فكان جائزا (5) .
2 - أن الله تعالى لم ينه عن الفتح ورسوله صلى الله عليه
__________
(1) انظر: تيسير مسائل الفقه شرح الروض للنملة 1\495.
(2) انظر: السيل الجرار 1\240.
(3) انظر: المرجع السابق، الشرح الممتع على الزاد 3\207.
(4) المغني 2\455، 456، المبدع 1\486، مواهب الجليل 2\27.
(5) انظر: الاستذكار 4\262.(78/187)
وسلم لم ينه عنه في حديث ثابت (1) .
واستدل من قال بجواز الفتح على الإمام مطلقا في الفاتحة وغيرها بما استدل به أصحاب القول الأول من الأحاديث والآثار إلا أنهم حملوها على مجرد الإباحة لا الاستحباب، ولم يفرقوا ين الفاتحة وغيرها لأنهم لا يرون قراءتها ركنا في الصلاة (2) .
ويناقش استدلالهم بمثل ما سبق من أن الأحاديث والآثار ظاهرها الأمر بالفتح على الإمام وهذا يفيد الاستحباب لا مجرد الإباحة، كما هو مقرر في الأصول، ثم إن الصحيح هو القول بأن الفاتحة ركن في الصلاة، فكان الفتح فيها واجبا.
أما من قال بجواز الفتح على الإمام في النفل دون الفرض فلم أقف على دليل لهم، ويمكن الاستدلال لهم بأدلة من قال بجواز الفتح مطلقا، وأما قصره على النفل عندهم فقد يكون ذلك راجعا إلى أن صلاة النفل أوسع من صلاة الفرض ويجوز فيها ما لا يجوز في الفرض.
ونوقش قولهم بأن الأدلة المثبتة للفتح على الإمام جاءت عامة،
__________
(1) انظر: المرجع السابق.
(2) انظر: المبسوط 1\19، بدائع الصنائع 1\160.(78/188)
لم تفرق بين صلاة الفريضة وصلاة النافلة (1) .
أما من قال بأنه يجوز الفتح في النفل مطلقا، وفي الفريضة في الفاتحة فقط فلم أقف على دليل لهم، ولعله يستدل لهم بمثل ما استدل به للقول السابق، ويناقش بمثل ما نوقش به ذلك القول.
أما من قال بجواز الفتح على الإمام إذا أطال السكوت، فلم أقف على دليل لهم، ولعلهم يرون أنه إذا أطال فيقوى الاحتمال بأنه لن يأتي بالآية فناسب حينئذ الفتح.
ويناقش قولهم بأن التقييد بالإطالة أمر غير منضبط، فقد يرى شخص أن الإمام أطال ويرى أخر أنه لم يطل، ثم إن الأدلة المثبتة للفتح جاءت مطلقة وليس فيها التقييد بالإطالة.
واستدل من قال بعدم جواز الفتح على الإمام إلا في الفاتحة بما يأتي:
1 - عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه قال: «كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: " لعلكم تقرأون خلف إمامكم ": قلنا: نعم، يا رسول الله قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها (2) » .
__________
(1) انظر: نيل الأوطار 2\340.
(2) رواه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة 1\217، والترمذي في سننه، من أبواب الصلاة 1\193وقال: حديث حسن، وأحمد في المسند 37\368، والدارقطني في سننه، وقال: هذا إسناد حسن''2\97، وقال الخطابي: إسناده جيد ''معالم السنن 1\205.(78/189)
وجه الاستدلال: أن من فتح على إمامه - في غير الفاتحة - إما أن يكون قصده القراءة أو لا يكون، فإن كان قصده القراءة فإنه لا يجوز لهذا الحديث، وإن لم يكن قصده القراءة لم يجز - أيضا - لأنه كلام والكلام في الصلاة لا يجوز (1) .
ويناقش بأن القراءة المنهي عنها في الحديث هي القراءة المجردة والتي لا سبب لها، أما الفتح فهو قراءة مقيدة بخطأ الإمام، وفيه مصلحة للصلاة، والقراءة غير الفتح لا مصلحة فيها.
2 - ما روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا علي لا تفتح على الإمام في الصلاة (2) » .
والحديث صريح في النهي، والنهي يقتضي التحريم (3) .
ونوقش هذا الدليل بما يأتي:
أن الحديث ضعيف السند فلا تقوم به حجة، وذلك أنه من رواية الحارث الأعور، وهو ضعيف معروف بالكذب عند
__________
(1) انظر: المحلى 4\3.
(2) رواه أحمد في المسند 2\402، وأبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب النهي عن التلقين 1\239، وعبد الرازق في المصنف، 2\142، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجمعة، 3\212 وهذا الحديث ضعيف كما في المناقشة الواردة عليه، وقد ضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود: 73.
(3) انظر: شرح سنن أبي داود للعيني 4\132.(78/190)
المحققين (1) .
ب- أنه منقطع السند؛ لأنه من رواية أبي إسحاق السبيعي عن الحارث، وهو لم يسمع منه إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها (2) .
ج- أنه على تقدير ثبوته فإنه محمول على عدم الضرورة وأدلة مشروعية الفتح محمولة على الضرورة (3) .
د- أنه على فرض ثبوته فهو محمول على النهي عن الاستعجال في الفتح قبل تحقق الحاجة (4) .
3 - ما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "من فتح على الإمام فقد تكلم (5) وفي لفظ "لا يفتح على الإمام وهو يقرأ فإنه كلام" (6) .
ونوقش هذا الأثر بأنه ضعيف لا يصح عن علي - رضي الله عنه - لأن في سنده محمد بن سالم، وهو متروك (7) .
ويناقش من وجه أخر وهو أنه على فرض ثبوته - فهو قول
__________
(1) انظر المرجع السابق. معالم السن 1\216، المجموع 4\241، المغني 2\455، نيل الأوطار 2\339.
(2) انظر: المراجع السابقة.
(3) انظر: بذل المجهود 5\182.
(4) انظر: إعلاء السنن 5\58
(5) رواه الدارقطني في سننه، كتاب الصلاة، 2\254.
(6) المصنف لعبد الرازق 2\142، المصنف لابن أبي شيبة 1\520.
(7) انظر: سنن الدارقطني 2\255، التعليق المغني 1\399، تلخيص الخبير 1\284.(78/191)
صحابي خالف ما ثبت في السنة من مشروعية الفتح على الإمام، والسنة مقدمة على قول الصحابي.
4 - ما ورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: " إذا تعايا الإمام فلا تردد عليه فإنه كلام " (1) .
ونوقش بأنه محمول على الفتح من غير حاجة (2) .
ويناقش بمثل ما سبق من أنه على فرض ثبوته فهو قول صحابي مخالف لما ثبت في السنة وهي مقدمة عليه، ثم هو أيضا مخالف بما ثبت عن صحابة آخرين - رضي الله عنهم - من القول بمشروعية الفتح على الإمام.
5 - أن قراءة الفاتحة واجب، فكان الفتح على الإمام فيها جائزا وأما قراءة غير الفاتحة فغير واجب فلا يجوز الفتح فيه (3) .
ونوقش بأن الأدلة المثبتة للفتح على الإمام عامة لم تفرق بين الفاتحة وغيرها (4) .
أما من قال بكراهة الفتح على الإمام مطلقا فقد يكون دليلهم ما روي من النهي عن ذلك - كما في أدلة القول السابق - ولكن حمولها على الكراهة لا التحريم.
__________
(1) رواه عبد الرازق في المصنف 2\142، وابن شيبة في المصنف 1\520.
(2) انظر إعلاء السنن 5\85
(3) انظر الممتع شرح المقنع 1\463.
(4) المرجع السابق(78/192)
ويناقش بمثل ما نوقشت به تلك الأدلة.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - القول بوجوب الفتح على الإمام في الفاتحة واستحبابه في غيرها وذلك لقوة أدلة هذا القول ووجاهتها، في مقابل ضعف أدلة الأقوال الأخرى بما ورد عليها من مناقشة، وقد اختار هذا القول سماحة الشيخين عبد العزيز بن باز (1) ، ومحمد العثيمين (2) . - رحمهما الله - وأفتت به - أيضا - اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية (3) .
__________
(1) انظر: مجموع فتاوى ومقالات لابن باز 12\100
(2) انظر: الشرح الممتع على زاد المستنقع 3\206
(3) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة في السعودية 6\399.(78/193)
المطلب الثاني: وقت الفتح على الإمام.
اتفق الفقهاء - القائلون بمشروعية الفتح على الإمام أو جوازه - على أن وقت الفتح إذا وقف الإمام وسكت، أما إذا كرر الآية ورددها، أو انتقل إلى آية أخرى، أو شرع في الركوع فلا يفتح عليه، وأنه يسن للمأموم ألا يعجل بالفتح.(78/193)
الأدلة:
1 - قول علي - رضي الله عنه -: " إذا استطعمكم الإمام فأطعموه " (1) .
وجه الاستدلال: أن المراد بالاستطعام السكوت والتوقف، فدل على أنه وقت الفتح (2) .
2- ويستدل بأن الإمام إذا لم يتوقف فقد يتذكرها ولا حاجة حينئذ للفتح.
3- ويستدل أيضا بأنه إذا انتقل لآية أخرى، أو ركع أو ردد الآية فلا حاجة إلى الفتح، وقد يحصل تشويش إذا باشره المأموم بالفتح - كما هو واقع ومشاهد.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) أنظر: السنن الكبرى للبيهقي 3\213، البيان 2\205، غاية الإحكام في أحاديث الأحكام للطبري 2\667(78/194)
المطلب الثالث: إلجاء الإمام المأمومين للفتح عليه.
اختلف الفقهاء في حكم إلجاء الإمام المأمومين للفتح عليه،(78/194)
وذلك بأن يردد الآية، أو يسكت إذا أخطأ على قولين:
القول الأول: أن الإلجاء جائز ولا يكره.
وهو مقتضى مذهب الشافعية، تخريجا على مذهبهم في أنه يستحب الفتح على الإمام (1) ، وهذا يقتضي عدم كراهية الإلجاء، ومقتضى مذهب الحنابلة تخريجا على مذهبهم في أنه يجوز الفتح على الإمام إذا أرتج في القراءة "منع منها" أو تردد فيها (2) ، ولو كان الإلجاء مكروها للإمام لذكروه هنا.
القول الثاني: أنه يكره الإلجاء للإمام، بل إذا استغلق عليه أو أخطأ ركع أو انتقل إلى آية أو سورة أخرى.
وهو مذهب الحنفية، والظاهر من كلام المالكية (3) .
وعللوا لذلك بأن الإمام إذا ألجأهم إلى الفتح عليه ألجأهم إلى القراءة خلفه وهي مكروهة (4) .
ويناقش بأن الإمام لم يلجئ المأمومين إلى قراءة مستقلة أو
__________
(1) راجع ص180 من هذا البحث
(2) راجع ص180 من هذا البحث
(3) انظر: النوادر والزيادات 1\197.
(4) انظر: المحيط البرهاني 2\155.(78/195)
مجردة بل لها مصلحة وارتباط بقراءته - وهو إصلاح القراءة - ولهذا يقال فتح على الإمام، ولا يقال قرأ خلفه.
أما القول بعدم الكراهة فقد يستدل له بأن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل، ولا يوجد دليل يعول عليه في ذلك، فلا يقال بها.
الترجيح:
لعل الراجح - والله أعلم - القول بعدم كراهة إلجاء الإمام المأمومين للفتح عليه؛ لأن الأدلة المثبتة لمشروعية الفتح على الإمام ليس فيها ذلك، ولو كان الإلجاء مكروها لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنه صلى الله عليه وسلم لما ألبس عليه سأل الصحابة - رضي الله عنهم - عن عدم الفتح عليه، ومفهوم هذا عدم كراهة الإلجاء؛ إذ معناه أن الصحابة - رضي الله عنهم - ألجئوا إليه، لكن مع هذا يقال لا ينبغي للإمام أن يقرأ سورة أو آيات يعلم أنه سيخطئ فيها ويحتاج للفتح، أي لا يتعمد أو يتكلف حصول الفتح.(78/196)
المطلب الرابع: تعدد الفاتحين على الإمام:
قد يفتح على الإمام - أكثر من مأموم - كما هو مشاهد وواقع وبخاصة في قيام رمضان، وفي هذه الحالة قد يتفقون على فتح واحد وحينئذ لا إشكال، لكن إذا اختلفوا في الفتح فما الحكم بالنسبة للإمام؟ كما لو قال بعضهم " سميعا بصيرا " وفتح آخر وقال " سميعا عليما " لم أجد كلاما صريحا للفقهاء حول هذه(78/196)
المسألة والذي يظهر - والله أعلم - اتفاقهم على أن الإمام - إذا لم يغلب على ظنه شيء أنه إما أن يركع، أو ينتقل إلى آية أخرى، وذلك تخريجا على مذهب الحنفية في أنه يسن للإمام ألا يلجأ المأموم للفتح إذا أخطأ بل يركع، أو ينتقل لآية أخرى - كما تقدم (1) - وهذا مثله.
وتخريجا على مذهب المالكية في أن الإمام إذا لم يسمع الفتح إما أن يركع أو ينتقل لآية أخرى (2) ، وتخريجا على مذهب الحنابلة في أنه إذا تعدد المنبهون - في غير الفتح - واختلفوا سقط قولهم، ومقتضى ذلك ركوع الإمام، أو انتقاله لآية أخرى في مسألة الفتح.
ويمكن الاستدلال لهذه المسألة: بأن الإمام لو لم يركع أو ينتقل لآية أخرى - في هذه الحالة لحصل له تشويش، وإرباك يخل بالخشوع، وينافي ما ينبغي أن تكون عليه الصلاة من هيئة.
تفريع على هذه المسألة: الذي يفهم من كلام الفقهاء أن المشروع في حق المأموم ألا يعجل بالفتح إذا علم أن هناك من هو أولى وأحفظ منه، أو كان بعيدا بحيث لا يسمعه الإمام، أو شك في فتحه.
__________
(1) راجع ص 194 من هذا البحث.
(2) انظر: البيان والتحصيل 1\463، النوادر والزيادات 1\180، المنتقى 2\47(78/197)
المطلب الخامس: الفتح من المرأة على الإمام.
قد تصلي المرأة مع الجماعة ويخطئ الإمام في القراءة، فهل تفتح عليه؟ وهذا متصور فيما لو كانت قريبة منه.
لم يصرح عامة الفقهاء بحكم هذه المسألة - فيما اطلعت عليه - ومقتضى مذهبهم الاتفاق على عدم جواز أن تفتح المرأة على الإمام، وذلك تخريجا على مذهب جمهورهم في أن تنبيه المرأة للإمام - إذا نابه شيء - يكون بالتصفيق ولا يجوز التسبيح، ولازم ذلك تحريم الفتح منها من باب أولى لأنه نطق أكثر من التسبيح.
ومن أدلتهم على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا نابكم شيء في صلاتكم فليسبح الرجال وليصفق النساء (1) » ولأن تنبيه المرأة بالصوت فيه شيء من الفتنة (2) .
وانفرد التهانوي - رحمه الله - وهو من متأخري الحنفية -
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب العمل في الصلاة، باب التصفيق للنساء، فتح الباري 3\77، ومسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب تسبيح الرجال وتصفيق النساء إذا نابهم شيء في الصلاة 1\319.
(2) انظر: المغني 5\160، شرح الزرقاني 3\110.(78/198)
بالقول بجواز أن تفتح المرأة على الإمام، ولا تفسد صلاتها بذلك، ثم قال: " لم أره صريحا ولكنه مقتضى القواعد " (1) .
وهذا قول ضعيف مرجوح لمخالفته النص الصريح في أن المرأة تنبه الإمام بالتصفيق فمن باب أولى ألا تفتح عليه بالكلام، ثم إن القواعد الشرعية تتفق مع القول بالتحريم لا الجواز كما يقول - رحمه الله - وذلك لاختلاف صوت المرأة عن صوت الرجل، والشريعة - كما هو معلوم - تفرق بين النساء والرجال في بعض الأحكام التي لها ارتباط وتعلق بالنواحي الخلقية.
__________
(1) إعلاء السنن 5\59(78/199)
المطلب السادس: أثر الفتح على الإمام.
وفيه ثلاث مسائل:
المسالة الأولى: أثر الفتح على الموالاة في قراءة الفاتحة.
إذا شرع المأموم في قراءة الفاتحة ثم قطع قراءته من أجل الفتح على إمامه، فهل هذا الفتح يقطع الموالاة في الفاتحة ويلزمه حينئذ الاستئناف أو لا يقطع ويبني على قراءته قبل الفتح؟ خلاف بين الفقهاء:
القول الأول: أن الفتح لا يقطع الموالاة مطلقا بل يبني على(78/199)
ما سبق.
وهو القول الصحيح عند الشافعية (1) ، وقول أكثر الحنابلة (2) .
القول الثاني: أن الفتح إن كان يسيرا لم يقطع الموالاة، وإن كان طويلا قطعها. وهو وجه عند الشافعية (3) .
القول الثالث: أن الفتح يقطع الموالاة مطلقا، ويلزم المأموم الاستئناف. وهو وجه عند الشافعية (4) ، وقول عند الحنابلة (5) .
الأدلة والمناقشة:
استدل من قال بأن فتح المأموم لا يقطع الموالاة مطلقا بأن الفتح على الإمام مشروع، ومأمور به، وهو مما تتعلق به مصلحة الصلاة، وإذا كان كذلك لم يقطع الموالاة (6) .
واستدل من قال بأنه يقطع الموالاة مطلقا بالقياس، ووجهه أن الفتح على الإمام كالذكر الأجنبي عن الصلاة، كالحمد عند
__________
(1) انظر البيان 2\189، التهذيب 2\96، المجموع 3\359، بحر المذهب 2\142.
(2) انظر: الإنصاف 2\50، المبدع 1\438، كشاف القناع 1\338.
(3) انظر: النجم الوهاج 2\118، حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 2\42، بحر المذهب 2\142.
(4) انظر: البيان 2\189، المجموع 3\359، النجم الوهاج 2\118، مغني المحتاج 1\158.
(5) انظر: المبدع 14\438.
(6) انظر: بحر المذهب 2\142، النجم الوهاج 2\118، كشاف القناع 1\338.(78/200)
العطاس، والذكر الأجنبي. يقطع الموالاة في الفاتحة فكذلك الفتح على الإمام (1) .
ونوقش بأنه قياس مع الفارق فلا يستقيم؛ ذلك أن الفتح على الإمام فيه مصلحة للصلاة، أما المقيس عليه - وهو الذكر الأجنبي - فليس فيه مصلحة (2) .
أما من قال بالتفريق بين الفتح اليسير والفتح الطويل فلم أقف على دليل لهم، ويناقش قولهم بأنه لا وجه للتفريق؛ لأن الكل يعد فتحا، ثم إنه أمر لا ينضبط، فقد يرى شخص أنه فتح طويل ويرى آخر أنه يسير.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - القول بأن الفتح على الإمام لا يقطع الموالاة في الفاتحة مطلقا، وذلك لوجاهة دليل هذا القول في مقابل ضعف القولين الآخرين بما ورد عليهما من مناقشة.
__________
(1) انظر: النجم الوهاج 2\118، مغني المحتاج 1\158.
(2) انظر: مغني المحتاج 1\158.(78/201)
المسألة الثانية: أثر الفتح على الإمام في صلاة المأموم.
إذ فتح المأموم على إمامه بالقراءة فهل يؤثر ذلك في صلاة المأموم الفاتح؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ستة أقوال:(78/201)
القول الأول: أن الفتح لا يؤثر ولا تبطل صلاة الفاتح مطلقا، وهو مذهب الحنابلة (1) ، والمشهور من مذهبي الحنفية (2) ، والمالكية (3) .
القول الثاني: أن المأموم إن قصد الفتح بطلت صلاته، وإن قصد التلاوة لم تبطل.
وهو قول للحنفية (4) ، والمالكية (5) ، والمشهور من مذهب الشافعية (6) .
القول الثالث: أن المأموم إن قصد التلاوة بطلت صلاته، وإن قصد الفتح لم تبطل.
وهو قول للحنفية (7) ، والشافعية (8) .
القول الرابع: أن المأموم إذا فتح على إمامه بعد انتقاله لآية أخرى بطلت صلاته، وإن كان قبل انتقاله لم تبطل.
__________
(1) انظر: المغني 2\460، الفروع 2\269، المبدع 1\487.
(2) انظر: المحيط البرهاني 2\154، فتح القدير 1\400، الدر المختار 1\622.
(3) انظر: النوادر والزيادات 1\180، شرح التلقين 2\654، مواهب الجليل 2\28.
(4) انظر: بدائع الصنائع 1\236، فتح القدير 1\400، المبسوط 1\194.
(5) انظر: شرح الزرقاني 1\242.
(6) انظر: فتح العزيز 2\50، روضة الطالبين 1\396، النجم الوهاج 2\242.
(7) انظر: بدائع الصنائع 1\236، فتح القدير 1\400، المبسوط 1\194.
(8) انظر: روضة الطالبين 1\396، قلائد الخرائد 1\108.(78/202)
وهو قول للحنفية (1) .
القول الخامس: أن المأموم إن قصد التلاوة أو الرد والتلاوة معا، أو شك لم تبطل أما إن قصد الرد فقط أو أطلق ولم يقصد شيئا بطلت صلاته.
وهو قول للشافعية (2) .
القول السادس: أن صلاة المأموم تبطل إذا فتح على إمامه في غير الفاتحة ولا تبطل إذا فتح عليه في الفاتحة.
وهو قول ابن حزم الظاهري (3) .
الأدلة والمناقشة:
استدل القائلون بعدم بطلان صلاة المأموم مطلقا بأنه مأذون له شرعا في الفتح على إمامه - كما تقدم في مسألة حكم الفتح - وإذا كان كذلك لم تبطل صلاته؛ لأن الشارع لا يمكن أن يأذن للمأموم بشيء ثم يجعله مبطلا لصلاته (4) .
واستدل من قال بأن صلاة المأموم تبطل عن قصد الرد ولا تبطل إن قصد التلاوة بأن الرد تفهيم وتعليم، وهو لا يجوز في
__________
(1) انظر: فتح القدير 1\400، منية المصلي: 270، حاشية ابن عابدين 1\622.
(2) انظر: حاشية البجيرمي على شرح الخطيب 2\74.
(3) انظر: المحلى 4\3.
(4) انظر: المحيط البرهاني 2\154، شرح سنن أبي داود للعيني 4\129.(78/203)
الصلاة (1) .
واستدل من قال بأن صلاة المأموم تبطل إن قصد التلاوة، ولا تبطل إن قصد الرد أنه ممنوع من القراءة خلف الإمام، ومأذون له بالفتح فلا يترك نية ما أمر به إلى نية ما نهي عنه (2) .
واستدل من قال بأن صلاة المأموم تبطل إذا فتح على إمامه بعد انتقاله لآية أخرى، ولا تبطل عن لم ينتقل بأن الإمام إذا انتقل إلى آية أخرى لم يكن في فتح المأموم إصلاح للصلاة، أما إذا لم ينتقل فيكون لفتحه حاجة ومصلحة وهي إصلاح الصلاة. (3) .
أما من قال بأن المأموم إن قصد التلاوة أو الرد والتلاوة معا أو شك لم تبطل صلاته، وإن قصد الرد أو لم يقصد شيئا بطلت صلاته فلم أقف على دليل لهم.
وتناقش هذه الأقوال الأربعة بأنها مخالفة للأدلة التي دلت على مشروعية فتح المأموم على إمامه؛ لأن تلك الأدلة جاءت مطلقة ليس فيها التقييد بحسب نية الفاتح (4) ، وليس فيها تعرض لصلاة المأموم.
أما من قال بأن صلاة المأموم تبطل إذا فتح على إمامه في غير الفاتحة ولا تبطل عليه في الفاتحة فقد يكون دليله مبنيا على
__________
(1) انظر: فتح العزيز 2\50.
(2) انظر: المحيط البرهاني 2\154، شرح سنن أبي داود 4\129.
(3) انظر: المحيط البرهاني 2\154، شرح سنن أبي داود للعيني 4\129.
(4) انظر: قريبا من هذه المناقشة في إعلام الموقعين 1\275، نيل الأوطار 2\340، السيل الجرار 1\242.(78/204)
قوله بأن الفتح لا يجوز أصلا في غير الفاتحة، وإذا كان لا يجوز بطلت به الصلاة (1) .
ويناقش بأن القول بأن الفتح في غير الفاتحة لا يجوز قول ضعيف - كما تقدم - ولهذا فما بني عليه - وهو القول ببطلان صلاة المأموم - غير صحيح كذلك.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - القول بأن صلاة المأموم لا تبطل إذا فتح على إمامه مطلقا وذلك لوجاهة دليل هذا القول في مقابل ضعف الأقوال الأخرى بما ورد عليها من مناقشة.
__________
(1) راجع ص 182 من هذا البحث(78/205)
المسألة الثالثة: أثر فتح المأموم في صلاة الإمام.
إذا فتح المأموم على إمامه وأخذ الإمام بهذا الفتح فهل يؤثر ذلك في صلاة الإمام؟ لهذه المسألة حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون الفتح قبل أن ينتقل الإمام لآية أخرى وقد اتفق الفقهاء على أن صلاة الإمام في هذه الحالة صحيحة واستدلوا بأن الفتح في هذه الحالة مشروع أو جائز، وإذا كان(78/205)
كذلك لم تفسد به الصلاة (1) .
الحالة الثانية: أن يكون الفتح أن ينتقل الإمام لآية أخرى، ويأخذ الإمام به.
وفي حكم صلاة الإمام في هذه الحالة قولان للفقهاء:
القول الأول: أن صلاته صحيحة.
وهو مذهب الجمهور (2) ، والقول المشهور عند الحنفية (3) .
القول الثاني: أن صلاته تفسد.
وهو قول عند الحنفية (4) .
الأدلة والمناقشة
استدل القائلون بأن صلاته صحيحة بما يأتي:
1 - عموم الأدلة التي تفيد مشروعية الفتح على الإمام، وليس فيها ما يدل على أن صلاته تفسد بالفتح بعد الانتقال (5) .
2 - أنه يحتمل أن يجري على لسان الإمام ما يفسد الصلاة لو لم يفتح عليه (6) .
__________
(1) انظر: المحيط البرهاني 2\155، الفروع 2\269.
(2) وهم المالكية والشافعية والحنابلة، انظر المراجع السابقة لهم.
(3) انظر: المحيط البرهاني 2\155، فتح القدير 1\400، منية المصلي: 269.
(4) انظر المراجع السابقة لهم، الدر المختار 1\622، شرح سنن أبي داود للعيني 4\129.
(5) انظر: فتح القدير 1\400، العناية 1\401.
(6) انظر: منية المصلي: 269(78/206)
واستدل القائلون بفساد صلاة الإمام أن الفتح في هذه الحالة تلقين وتلقن من غير ضرورة أو حاجة (1) .
ويناقش بأنه حتى لو لم يكن هناك ضرورة فالقول بفساد صلاته حكم يحتاج إلى دليل، ولا دليل صريح، ثم إن الأصل الصحة.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - القول بصحة صلاة الإمام وعدم فسادها لوجاهة أدلة هذا القول في مقابل ضعف القول الآخر بما ورد على دليله من مناقشة.
__________
(1) انظر: العناية 1\401، شرح سنن أبي داود للعيني 4\129.(78/207)
المبحث الثاني: الفتح على غير الإمام وفيه ثلاث مطالب:
المطلب الأول: فتح المصلي على غير إمامه.
لهذه المسألة ثلاث صور:
الصورة الأولى: فتح المصلي على غير المصلي "على من ليس في صلاة" كما لو كان مصل وبجانبه شخص يقرأ، فهل يفتح المصلي عليه إذا أخطأ؟
الصورة الثانية: فتح المصلي على مصل آخر ليس معه في الصلاة. كما لو كانا يصليان النافلة مثلا بجانب بعض، وجهر أحدهما بالقراءة وسمعه الآخر وفتح عليه.(78/207)
وقد اختلف الفقهاء في هاتين الصورتين على ثلاثة أقوال:
القول الأول: عدم جواز الفتح في هاتين الصورتين.
وهو مذهب الحنفية (1) ، والمشهور من مذهبي المالكية (2) ، والحنابلة (3) .
القول الثاني: كراهة الفتح.
وهو قول للمالكية (4) ، والحنابلة (5) .
القول الثالث: جواز الفتح.
وهو مذهب الشافعية (6) واختيار الشوكاني (7) ، والذي يفهم من كلام ابن القيم (8) - رحمهما الله -.
الأدلة والمناقشة:
استدل القائلون بعدم الجواز بما يأتي:
__________
(1) انظر: المبسوط 1\193، بدائع الصنائع، 1\36، فتح القدير، 1\400، الدر المختار 1\622.
(2) انظر: الكافي 1\244، التفريع 1\227، البيان والتحصيل 1\463، والنوادر والزيادات 1\180.
(3) انظر: المغني 2\460، الإنصاف 2\100، كشاف القناع 1\379.
(4) انظر: شرح التلقين 1\655، مواهب الجليل 2\28
(5) انظر: الفروع 2\270، المبدع 1\487، شرح منتهى الإرادات 1\201.
(6) انظر: فتح العزيز 2\50، المعاني البديعة 1\180.
(7) انظر: نيل الأوطار 2\340.
(8) انظر: إعلام الموقعين 1\275، 276.(78/208)
1 - أنه يوجب انشغال المصلي بالاستماع إلى غير من يشرع الاستماع إليه (1) ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في الصلاة لشغلا (2) » .
أنه لا ارتباط بين المصلي وبين غيره، بخلاف ارتباط صلاة المأموم بصلاة إمامه (3) .
وقد سئل الإمام أحمد - رحمه الله - عن رجل جالس بين يدي المصلي يقرأ فإذا أخطأ فتح عليه المصلي فقال: كيف يفتح إذا أخطأ هذا؟! وتعجب من هذه المسألة (4) .
واستدل من قال بالكراهة بما يأتي:
1 - أنه لا حاجة إلي هذا الفتح. (5) .
2 - أن الفاتح لم يقصد إصلاح صلاته، فهو كالمخاطبة (6) .
3 - للاختلاف في بطلان صلاة الفاتح في هاتين الصورتين (7) .
__________
(1) انظر: المغني 2\460، الشرح الممتع على زاد المستقنع 3\206.
(2) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب ما ينهى من الكلام في الصلاة، فتح الباري 3\72، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، 2\78.
(3) انظر: الشرح الممتع على زاد الستقنع 3\206.
(4) انظر: المغني 2\460.
(5) انظر: كشاف القناع 1\379
(6) انظر: التجريد للقدوري 2\598
(7) انظر: حاشية الروض المربع لابن قاسم 2\106.(78/209)
ويمكن مناقشتها بأنها أدلة فيها وجاهة، لكنها توجب القول بعدم الجواز وليس مجرد الكراهة.
واستدل من قال بالجواز بأن فتح المصلي على الإمام ثبتت مشروعيته بالأدلة فيقاس عليه غير الإمام، بجامع أن الفتح فيهما تلاوة (1) .
ويناقش بعدم التسليم بهذا القياس؛ لأنه مخالف للأصل وهو المنع من الفتح مطلقا، وإنما اقتصر فيه على الفتح على الإمام لوجود الأدلة المخصصة لذلك.
ثم إنه لا وجه لقياس غير المصلي على الإمام؛ لأنه لا علاقة للفاتح به بعكس علاقته بإمامه وارتباط صلاته بصلاته.
الترجيح:
لعل الراجح - والله أعلم - القول بعدم جواز فتح المصلي على غير إمامة لوجاهة أدلة هذا القول، في مقابل ضعف أدلة القولين الآخرين بما ورد عليهما من مناقشة، وقد اختار هذا القول الشيخ محمد العثيمين (2) - رحمه الله -.
الصورة الثالثة: فتح المصلي على من معه في الصلاة نفسها.
ويتصور ذلك فيما لو جهر مأموم بالقراءة، وسمعه من بجانبه
__________
(1) انظر: إعلام الموقعين 1\275، نيل الأوطار 2\340
(2) انظر: الشرح الممتع على زاد المستنقع 3\206.(78/210)
وفتح عليه وهذه الصورة - نادرة الوقوع فيما يبدو.
وقد اختلف فيها الفقهاء على قولين:
القول الأول: عدم جواز الفتح في هذه الصورة.
وهو مذهب الحنفية (1) ، وقول عند المالكية (2) ، ومقتضى مذهب الحنابلة، لأنهم يرون تحريم فتح المصلي على غير إمامه - مطلقا - كما تقدم في الصورتين السابقتين.
القول الثاني: جواز فتح المصلي في هذه الصورة.
وهو قول للمالكية (3) ، ومقتضى مذهب الشافعية؛ لأنهم يرون جواز فتح المصلي على غير المصلي - كما تقدم - وهذه الصورة أولى بالجواز.
الأدلة والمناقشة
استدل من قال بعدم الجواز بأن الفتح - في هذه الحالة - تعليم من غير حاجة ولا مصلحة (4) .
ولم أجد دليلا لمن قال بالجواز في هذه الصورة، وقد يكون دليلهم هو دليل من قال بجواز الفتح في الصورتين السابقتين، ويناقش
__________
(1) انظر المبسوط 1\193، بدائع الصنائع 1\236، شرح العناية \401، البحر الرائق 2\6.
(2) انظر: مواهب الجليل 2\28
(3) انظر: مواهب الجليل 2\28.
(4) انظر: بدائع الصنائع 1\236، البحر الرائق 2\6.(78/211)
بمثل ما نوقش به ذلك الدليل.
ولعل الراجح - والله أعلم - القول بعدم جواز الفتح في هذه الصورة لوجاهة دليله، وكونه الأصل، ولعدم وجود دليل لمن قال بالجواز.(78/212)
المطلب الثاني: فتح غير المصلي على المصلي.
يحصل أن يكون شخص يصلي ويجهر بالقراءة، ويقع منه خطأ، ويكون بجانبه شخص غير مصل، فهل يجوز لهذا الشخص أن يفتح على المصلي؟ وهذا يحدث - أيضا - حينما يدخل شخص المسجد، وقبل أن يدخل مع الجماعة يخطئ الإمام، فهل له أن يفتح عليه - وهو لم يصل بعد؟ خلاف بين الفقهاء على قولين:
القول الأول: جواز فتح غير المصلي على المصلي.
وهو مذهب الجمهور "المالكية" (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة (3) .
القول الثاني: عدم جواز فتح غير المصلي على المصلي.
وهو مذهب الحنفية.
__________
(1) انظر: التفريع 1\227، البيان والتحصيل 1\463، النوادر والزيادات 1\180.
(2) انظر: القول التمام في أحكام المأموم والإمام للأقفهسي: 176.
(3) انظر: المغني 2\460، الفروع 2\269، المبدع 1\487.(78/212)
الأدلة:
استدل من قال بالجواز بما يأتي:
1- عن عبيدة بن ربيعة قال: " أتيت المسجد فإذا رجل يصلي خلف المقام طيب الريح، حسن الثياب، وهو يقرأ، ورجل إلى جنبه يفتح عليه، فقلت من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان " وهذا واضح الدلالة، وهو قول صحابي (1) .
2- ما ورد أن أنسا - رضي الله عنه - كان إذا قام يصلي قام خلفه غلام معه مصحف فإذا تعايا في شيء فتح عليه (2) .
3 - أن فيه مصلحة وهو أن الفتح إعانة على تكميل صلاة المصلي، في حين أنه لا يشغله (3) .
واستدل من قال بعدم الجواز أنه تعليم وتلقين، فهو من كلام الناس (4) .
ويناقش بأن الفتح قرآن وليس كلاما، ثم لو سلم أنه مخاطبة وتنبيه، فهو حاصل من غير مصل.
__________
(1) انظر: المغني 2\460
(2) رواه البيهقي في السنن الكبرى 3\212
(3) انظر: تيسير مسائل الفقه ''شرح الروض المربع'' 1\495.
(4) انظر: العناية شرح الهداية 1\401، منية المصلي وغنية المبتدي: 270.(78/213)
الترجيح:
لعل الراجح - والله أعلم - القول بجواز فتح غير المصلي على المصلي لوجاهة أدلته، في مقابل ضعف دليل من قال بعدم الجواز بما ورد عليه من مناقشة.(78/214)
المطلب الثالث: أثر الفتح على غير الإمام.
المسألة الأولى: أثر فتح المصلي على غير الإمام.
إذا فتح المصلي على غير المصلي، أو على من في صلاة أخرى، أو على من معه في الصلاة فهل يؤثر ذلك الفتح في صلاته، خلاف بين الفقهاء على أربعة أقوال:
القول الأول: أن الفتح يبطل صلاة الفاتح مطلقا.
وهو الصحيح من مذهب الحنفية (1) وقول عند المالكية، (2) ورواية عند الحنابلة، (3) .
القول الثاني: أن الفتح يبطل صلاة الفاتح إذا كان كثيرا، أو متكررا، وإن لم يكن كذلك لم يبطل. وهو قول عند الحنفية (4) .
القول الثالث: التفصيل وهو أن الفاتح إن نوى بفتحه
__________
(1) انظر: المحيط البرهاني 2\156، المبسوط 1\193، فتح القدير 1\400، البحر الرائق 2\6
(2) انظر: شرح التلقين 2\655، مواهب الجليل 2\28، المنتقى 2\47
(3) انظر: الفروع 2\269، الإنصاف 2\100، المبدع 1\487
(4) انظر: المحيط البرهاني 2\156، العناية 1\104، منية المصلي: 269(78/214)
التعليم بطلت صلاته وإن نوى القراءة لم تبطل صلاته.
وهو مذهب الشافعية (1) وقول عند الحنفية، (2) ورواية عند الحنابلة (3)
القول الرابع: أن صلاة الفاتح لا تبطل مطلقا.
وهو قول عند الحنفية (4) والمالكية، (5) والمشهور من مذهب الحنابلة (6) .
الأدلة والمناقشة:
استدل من قال بأن الفتح يبطل الصلاة مطلقا بما يأتي:
1 - أن الفتح في هذه الحالة يقدر كالكلام في الصلاة بغير القرآن؛ وذلك أنه لا حاجة إليه، وليس هو من مصلحة الصلاة (7) .
2 - أن قراءة المفتوح عليه - في هذه الحالة - ليست بقراءة للفاتح ولا علاقة بينهما، وإذا كان كذلك أصبحت قراءة الفاتح
__________
(1) انظر: فتح العزيز 2\50، المعاني البديعة 1\180
(2) انظر: المحيط البرهاني 2\155، العناية 1\401، حاشية ابن عابدين 1\622
(3) انظر: الفروع 2\269، الإنصاف 2\100، المبدع 1\487.
(4) انظر: التجريد للقدوري 2\595.
(5) انظر: النوادر والزيادات 1\180، شرح التلقين 2\556، مواهب الجليل 2\28
(6) انظر: المغني 2\460، الفروع 2\269، المبدع 1\487، الإنصاف 2\100
(7) انظر: التجريد 2\595، شرح التلقين 2\655، شرح سنن أبي داود للعيني 4\129(78/215)
كالخطاب له، وهو مما يبطل الصلاة (1) .
واستدل من قال بأن الفتح يبطل الصلاة إذا كان كثيرا ولا يبطل بالقليل، أن الفتح في هذه الحالة ليس من أعمال الصلاة، بل من أعمال الناس، فيعفى عن القليل فيه كسائر الأعمال، ويؤثر كثيره، كما يؤثر الكثير من العمل (2) .
ونوقش بأن الفتح في هذه الحالة - يعد من الكلام الأجنبي عن الصلاة، وهو مما لا يعفى فيه عن القليل. (3) .
ويمكن مناقشته - أيضا - بأن الكثرة والقلة مما لا ينضبط، ثم هو تفريق بين متماثلين.
واستدل من قال بالتفصيل بحسب نية الفاتح بأنه إذا نوى التعليم فقد أدخل في الصلاة ما ليس من أفعالها، وكأنه نصب نفسه معلما، والتعليم ليس من الصلاة في شيء، وإذا كان كذلك فسدت صلاته، أما إذا نوى القراءة فقد خرج الفتح من أن يكون من كلام الناس، فلا تبطل به الصلاة (4) .
ويناقش بأنه حتى لو نوى القراءة، فإنها ليست مجردة، بل تتضمن تعليما وتنبيها للغير، لأنه لو لم يخطئ لما قرأ الفاتح، لذلك لا
__________
(1) انظر: الفروق للكرابيسي 1\46
(2) انظر: شرح التلقين 2\655، شرح سنن أبي داود للعيني 4\129
(3) انظر: فتح القدير 1\400، البحر الرائق 2\6
(4) انظر: المحيط البرهاني 2\155، المبسوط 1\193(78/216)
وجه للتفريق بالنية.
واستدل من قال بعدم بطلان صلاة الفاتح مطلقا بما يأتي:
1 - أنه قرآن وفتح جائز، فلم يبطل الصلاة كالفتح على الإمام (1) .
ونوقش بأن قياسه على الفتح على الإمام قياس مع الفارق، ذلك أنه إذا فتح على الإمام فقد تلا القرآن لإصلاح الصلاة، وصلاته مرتبطة بإمامه، أما إذا فتح على غير الإمام فلم يقصد إصلاح الصلاة، فصار كمن تلا يخاطب غيره (2) وأما أن الفتح قرآن فنعم لكن قراءة القرآن للمصلي ليست مشروعة في كل حال.
2 - أن الفتح - في هذه الحالة - كالتسبيح بالمفتوح عليه لتنبيهه، فلا تبطل به الصلاة (3) .
ويناقش بأنه قياس مع الفارق؛ لأن التسبيح إنما يكون لضرورة أو حاجة، أما الفتح فلا حاجة تدعو له.
الترجيح:
لعل الراجح - والله أعلم - القول بأن صلاة الفاتح تبطل في هذه الحالة مطلقا وذلك لوجاهة أدلته، في مقابل ضعف أدلة الأقوال
__________
(1) انظر: التجريد للقدوري 2\598، المغني 2\460
(2) انظر: التجريد 2\598
(3) انظر: النوادر والزيادات 1\180(78/217)
الأخرى بما ورد عليها من مناقشة.(78/218)
المسألة الثانية: أثر فتح غير المصلي على المصلي.
إذا فتح غير المصلي على شخص يصلي، وأخذ المصلي بهذا الفتح فهل يؤثر ذلك في صلاته؟ خلاف بين الفقهاء على قولين:
القول الأول: أن صلاة المفتوح عليه صحيحة ولا تبطل.
هو مذهب الجمهور " المالكية (1) ، والشافعية، (2) ، والحنابلة (3) " وقول أبي يوسف من الحنفية (4) .
القول الثاني: أن صلاة المفتوح عليه تبطل إذا أخذ بها الفتح وهو قول أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن (5) - رحمهما الله -.
الأدلة:
استدل من قال بعدم البطلان بأن الفتح - في هذه الحالة - قرآن فلا يتغير بقصد القارئ (6) .
ويستدل لهم - أيضا - بأن فتح غير المصلي ثبت جوازه على
__________
(1) انظر: التفريع 1\227، البيان والتحصيل 1\463
(2) انظر: القول التمام في أحكام المأموم والإمام: 176
(3) انظر: الفروع 2\269، المبدع 1\487
(4) انظر: المحيط البرهاني 2\269، المبدع 1\487
(5) انظر: المبسوط 1\193، بدائع الصنائع 1\236، البحر الرائق 2\7
(6) انظر: البحر الرائق 2\7(78/218)
الصحيح (1) وإذا كان جائزا لم تبطل به الصلاة.
واستدل من قال ببطلان صلاة المفتوح عليه بأنه تعليم وتعلم، فصار من كلام الناس، وهو غير جائز في الصلاة. (2) .
ويناقش بعد التسليم بكونه تعليما، بل هو كما لو قال له - مثلا - انحرف للقبلة يمينا، أو تقدم قليلا، ومثل هذا لا تبطل به الصلاة، ثم إنه صادر من غير مصل.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - القول بعدم بطلان صلاة الشخص إذا أخذ بفتح من ليس في صلاة، وذلك لأن الفتح في هذه الحالة جائز على الصحيح، ولما ورد من مناقشة دليل من قال بالبطلان.
__________
(1) راجع ص 212 من هذا البحث
(2) انظر: العناية شرح الهداية 1\401، منية المصلي: 270، بدائع الصنائع 1\236(78/219)
المبحث الثالث: محل الفتح، والفتح من المصحف، وأثر الفتح في اليمين، مسائل متفرقة في الفتح، وفيه ثلاث مطالب:
المطلب الأول: محل الفتح وما يكون فيه.
ذكر الفقهاء - رحمهم الله - أن الفتح يكون فيما يأتي:(78/219)
أولا: التوقف أو السكوت: فإذا وقف الإمام، أو القارئ ولم يتذكر الكلمة، أو الآية فتح عليه.
ثانيا: تجاوز الآية أو الكلمة، فإذا تجاوز القارئ الآية إلى ما بعدها أو نسيها فتح عليه.
ثالثا: الغلط أو الخطأ، فإذا أخطأ القارئ في الكلمة فتح عليه كأن يقرأ (والله بما تعملون خبير) وهي (بما تعملون بصير) .
رابعا: اللحن، سواء كان لحنا لا يغير المعنى مثل (صراط الذين أنعمت عليهم) بضم الهاء، أو لحنا لا يغير المعنى مثل (الحمد لله رب العالمين) بضم كلمة رب.(78/220)
المطلب الثاني: الفتح في الصلاة من المصحف.
من مسائل الفتح في الصلاة والتي تشاهد في واقع الناس الفتح على الإمام من المصحف، وحمله لأجل ذلك، ولم أجد كلاما صريحا للفقهاء المتقدمين حول هذه المسألة، لكن يمكن تخريجها على مسألة القراءة من المصحف في الصلاة، فيكون فيها أربعة أقوال:
القول الأول: جواز الفتح من المصحف في الصلاة مطلقا.
وهو مقتضى مذهب الشافعية؛ تخريجا على مذهبهم في جواز القراءة من المصحف في الصلاة فرضا كانت أو نقلا (1) .
__________
(1) انظر: فتح العزيز 2\55، أسنى المطالب1\183(78/220)
وعللوا لذلك بأن تقليب أوراق المصحف للقراءة عمل يسير فلا يؤثر في الصلاة (1) .
ويمكن مناقشته بأن للمخالف أن يقول وأنا أرى أنه عمل كثير فيؤثر.
القول الثاني: كراهة الفتح من المصحف مطلقا.
وهو مقتضى مذهب المالكية، وأحد قولي الحنفية، تخريجا على مذهبهم في كراهة القراءة من المصحف في الصلاة.
وعللوا لذلك بأن فيه إشغالا للمصلي (2) .
القول الثالث: تحريم الفتح من المصحف في الصلاة مطلقا.
وهو مقتضى المشهور من مذهب الحنفية، تخريجا على مذهبهم في تحريم القراءة من المصحف في الصلاة (3) .
وعللوا لذلك بتعليلين:
1 - أن القراءة من المصحف عمل كثير. (4) .
ويناقش بأن للمخالف أن يقول أنا أرى أنه عمل يسير فلا
__________
(1) انظر المرجعين السابقين
(2) انظر: الشرح الكبير 1\316
(3) انظر: بدائع الصنائع 1\236، حاشية ابن عابدين 1\619
(4) انظر: بدائع الصنائع 1\236(78/221)
يضر.
2 - أن القراءة من المصحف تلقين من المصحف، فكأنه تلقين من الغير فيصير تعليما، والتعليم لا يجوز في الصلاة (1) .
ويناقش بأنه لا يسلم بكون هذا من التعليم، والعرف يخالفه.
القول الرابع: التفصيل وهو جواز الفتح من المصحف في صلاة النفل وكراهته في صلاة الفريضة.
وهو مقتضى مذهب الحنابلة، تخريجا على مذهبهم في جواز القراءة من المصحف في صلاة النفل، وكراهته في صلاة الفريضة (2) .
ولعل دليلهم أن صلاة النفل أوسع من صلاة الفرض (3) فيجوز فيها ما لا يجوز في الفرض.
الترجيح:
لعل الراجح - والله أعلم - أن يقال بالتفصيل الآتي:
1 - من كان بعيدا عن الإمام - بحيث لا يسمعه لو فتح عليه - كما هو مشاهد من بعض المصلين فهذا لا يجوز له حمل المصحف من أجل الفتح.
2 - لا يجوز حمل المصحف من عدد كثير يفوق الحاجة.
3 - يجوز حمل المصحف من شخص قريب من الإمام ليفتح
__________
(1) المرجع السابق
(2) انظر: المغنى 2\280، شرح منتهى الإرادات 1\241
(3) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي: 438(78/222)
عليه عند الحاجة لذلك، كما في صلاة التراويح مثلا.
وقد اختار القول بالتفصيل وأفتى به سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - فإنه سئل عن حمل المأموم للمصحف في صلاة التراويح فأجاب بقوله: " لا أعلم لهذا أصلا ... والذي أرى أن ترك ذلك هو السنة وأن يستمع وينصت، ولا يستعمل المصحف، فإن كان عنده علم فتح على إمامه وإلا فتح غيره من الناس، ثم لو قدر أن الإمام غلط ولم يفتح عليه ما ضر ذلك في غير الفاتحة ... ولو كان واحد من الناس يحمل المصحف ويفتح على الإمام عند الحاجة فلعل هذا لا بأس به، أما أن كل واحد يأخذ مصحفا فهذا خلاف السنة ". (1) .
__________
(1) انظر: القول المبين في معرفة ما يهم المصلين: 326، 327، الجواب الصحيح من أحكام صلاة التراويح:18(78/223)
المطلب الثالث: أثر الفتح في اليمين.
إذا حلف شخص ألا يكلم فلانا ثم فتح عليه بالقراءة فهل يحنث بهذا الفتح ويكون كلمه وتلزمه الكفارة؟ أو لا.
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أربعة أقوال:
القول الأول: أنه لا يحنث مطلقا.
وهو مذهب الحنفية (1) والحنابلة، (2) والمشهور من مذهب
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 3\69، فتح القدير 5\144، مجمع الأنهر 1\566
(2) انظر: المغني 13\616، المبدع 9\264، الإنصاف 11\82، كشاف القناع 6\260(78/223)
الشافعية (1) .
القول الثاني: التفصيل بحسب نية الفاتح فإن قصد بفتحه مجرد القراءة لم يحنث، وإن قصد إفهامه أو لم يقصد شيئا حنث.
وهو قول عند الشافعية (2) .
القول الثالث: التفصيل وهو أنه لا يحنث إن فتح عليه في الفاتحة ويحنث إن فتح عليه في غيرها.
وهو قول للمالكية (3) .
القول الرابع: أنه يحنث بالفتح مطلقا.
وهو المشهور من مذهب المالكية (4) وقول عند الشافعية (5) .
الأدلة والمناقشة:
استدل من قال بأنه لا يحنث مطلقا بما يأتي:
1 - أن الفتح كلام الله - تعالى - وليس كلام الآدميين، فلا يصدق عليه أنه كلمه (6) .
2 - أن الفتح لا يسمى كلاما في العرف، وإن كان كلاما في
__________
(1) انظر: روضة الطالبين 8\57، النجم الوهاج 10\73، مغنى المحتاج 4\346
(2) انظر: النجم الوهاج 10\73، مغني المحتاج 4\346
(3) انظر: حاشية الدسوقي 2\148، منح الجليل 3\69
(4) انظر: النوادر والزيادات 4\130، شرح الخرشي 3\78، منح الجليل 3\69
(5) انظر: مغنى المحتاج 4\346
(6) انظر: المغني 13\616، المبدع 9\264، كشاف القناع 6\260(78/224)
الحقيقة، بدليل أن الكلام العرفي يبطل الصلاة، والفتح لا يبطلها (1) .
واستدل من قال بالتفصيل بحسب نية الفاتح بأنه إذا قصد القراءة لا يعد مكلما فلا يحنث، أما عن قصد إفهامه فيعد مكلما له فيحنث. (2) .
ويناقش بأن النية لا أثر لها في حقيقة الفتح، فهو إما كلام أو قرآن، ولا شك بأنه قرآن فهو إذن تفريق بغير مؤثر، ثم لو قيل إنه قصد إفهامه فلا يسلم بأنه كلمه، بل يقال فتح عليه.
واستدل من قال بأنه لا يحنث إن فتح عليه في الفاتحة، ويحنث إن فتح عليه في غيرها بأن الفتح في الفاتحة واجب، بعكس الفتح في غيرها. (3) .
ويناقش بأن حكم الفتح لا أثر له في هذه المسألة؛ لأن مدارها على كون الفتح يعد كلاما، أو لا يعد، وهذا لا يختلف باختلاف حكم الفتح.
واستدل من قال بأنه يحنث مطلقا بأن الفتح في معنى مخاطبة المفتوح عليه فكأنه قال له قل كذا، أو اقرأ كذا، وهذا كلام (4) .
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع 3\69، فتح القدير 5\144
(2) انظر: مغني المحتاج 4\346
(3) انظر: حاشية الدسوقي 2\148
(4) انظر: منح الجليل 3\66، شرح الخرشي 3\78(78/225)
ويناقش بأنه يختلف عنه؛ لأنه لو لم يخطئ لما فتح عليه، بعكس المخاطبة فإنها قد تحصل بدون سبب.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - القول بأن الفاتح لا يحنث في يمينه مطلقا، ولا تلزمه الكفارة، وذلك لوجاهة أدلة هذا القول، ولما نوقش به أدلة الأقوال الأخرى ثم إنه موافق للعرف، وما تقتضيه المصلحة؛ لأنه لو قيل بأن الفاتح يحنث لربما امتنع الحالف عن الفتح خشية الحنث، وهذا مما تأباه القواعد الشرعية.(78/226)
الخاتمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فلقد توصلت من خلال هذا البحث إلى النتائج والفوائد الآتية:
1 - أن الفتح هو تلقين الآية، أو الرد على من توقف فيها أو أخطأ.
2 - الفتح في الصلاة من الأحكام التي استثنيت للمصلحة والحاجة من قاعدة الخشوع وعدم الكلام الأجنبي في الصلاة.
3 - أنه يشرع تعاهد حفظ القرآن وتصحيح التلاوة، وبخاصة للإمام.
4 - أنه يجب الفتح على الإمام إذا أخطأ في الفاتحة، ويستحب في غيرها، وأن وقت ذلك إذا توقف، وينبغي للمأموم ألا يعجل(78/226)
بالفتح عليه.
5 - لا يكره للإمام إلجاء المأمومين للفتح عليه، لكن لا يتعمد أو يتكلف حصول الفتح منهم.
6 - إذا تعدد الفاتحون على الإمام واختلفوا في الفتح ولم يغلب على ظنه شيء فإنه يركع أو ينتقل لآية أو سورة أخرى، والأولى بالمأموم ألا يفتح إذا كان بعيدا عن الإمام، أو علم بوجود من هو أحفظ منه، أو شك في حفظه.
7 - لا يجوز للمرأة أن تفتح على الإمام.
8 - الفتح على الإمام لا يقطع الموالاة في قراءة الفاتحة ولا يبطل صلاة المأموم، ولا صلاة الإمام إذا أخذ به مطلقا.
9 - لا يجوز فتح المصلي على غير إمامه - أيا كان - وتبطل صلاته مطلقا بذلك الفتح.
10 - يجوز فتح غير المصلي على المصلي، ولا تبطل صلاة المصلي المفتوح عليه إذا أخذ بهذا الفتح.
11 - محل الفتح إذا توقف القارئ وسكت، وإذا نسي الآية أو الكلمة وإذا أخطأ وإذا لحن.
12 - من كان بعيدا عن الإمام لا يجوز له حمل المصحف من أجل الفتح عليه، وكذلك لا يجوز من عدد كثير فوق الحاجة، ويجوز حمله من القريب عند الحاجة للفتح.(78/227)
13- من حلف ألا يكلم شخصا ثم فتح عليه بالقراءة فإنه لا يحنث يمينه مطلقا.
هذا وأسأل الله التوفيق والسداد في القول والعمل، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وآله وصحبه.(78/228)
تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية والفتوية
في الفقه الإسلامي
لمعالي الشيخ\ عبد الله بن محمد بن خنين (1)
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -، أما بعد:
فإذا كان أصول الفقه يهدف إلى بيان كيفية استنباط الأحكام الكلية من مصادرها الشرعية - الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وغيرها -، وكان الفقه هو محصلة هذا الاستنباط، وهو حكم على أفعال العباد بوجوب، أو حرمة، أو كراهة، أو استحباب، أو إباحة، أو صحة، أو بطلان، أو ثبوت ملك، أو رفعه، أو ضمان، أو نفيه - فإن فن تنزيل الأحكام على الوقائع - موضوع بحثنا - يضبط طريقة تطبيق الحكم على الواقعة.
__________
(1) عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء(78/229)
ولتنزيل الأحكام على الوقائع قواعد وأصول ضابطة تعين القاضي والمفتي على التطبيق الصحيح للأحكام الشرعية على الوقائع؛ قضائية أو فتوية وتقيه بتوفيق الله - عز وجل - من التخبط والزلل، كما يحتاج القاضي فيه إلى معرفة الحكم الكلي الملاقي للواقعة، وتفسيره، والواقعة القضائية المؤثرة، وإثباتها، وتفسيرها، وطريقة تنزيل الحكم الكلي عليها، وهذا ما عني به هذا البحث في الجانب القضائي، ويتبعه الجانب الفتوي.
ولا بستغني القاضي والمفتي عن الوقوف على أصول هذا الموضوع - تنزيل الأحكام على الوقائع - وأحكامه، وهو بمثابة أصول الفقه للمستنبط المقرر للأحكام الكلية، فهو يضبط اجتهاد القاضي والمفتي في تنزيل الأحكام الكلية على الوقائع؛ قضائية أو فتوية، كما يضبط أصول الفقه اجتهاد الفقيه المستنبط من الأدلة كتابا وسنة وغيرهما.
كما أن الوقوف على أصول هذا الموضوع وأحكامه مما يعين على صقل ملكة التطبيق لدى القاضي والمفتي لتهيئ صاحبها لتنزيل الأحكام الكلية على الوقائع، فتكون ملكة قارة قادرة على الاهتداء لأحكامه، وإدراك الأحكام العارضة له، فيهتدي لمعاقده، ويتنبه لفروقه لإتقانه أصوله ومآخذه، وكثرة نظره فيه، وتردده في ممارسته حتى تكون مباشرته عنده سهلة ميسرة، وذلك من أنفس ما يحصله(78/230)
المتدرب في كل فن، وهو من أنفس صفات متلقي الأحكام الشرعية لتنزيلها على الوقائع في الفتيا والقضاء؛ لأن ثمرة كل علم تطبيقه.
والحاجة ماسة إلى معرفة هذا الفن - تنزيل الأحكام على الوقائع فتوية أو قضائية - وجمعه في بحث، مما يعين المفتيين والقضاة ومن في حكمهم على أداء عملهم فيذكر المنتهي ويبصر المبتدي.
ويشترك القضاء والفتيا في أنهما تطبيق للأحكام الكلية على الوقائع الجزئية، وأحكامهما في الجملة من جهة تنزيل الأحكام متشابهة ولكنهما يفرقان في أمرين:
الأول: أن الفتيا مبنية على الثقة بقول المستفتي مع وجوب التحرز من الحيل، أما القضاء فلا بد فيه من ثبوت الوقائع بطرق الحكم المعتد بها.
الثاني: أن القضاء يلزم بصدور الحكم، أما الفتيا فلا يحكم المفتي فيها بإلزام المستفتي.
لذا كان خطابي في هذا البحث موجها إلى القاضي، لأن نظره في الواقعة أوسع، فهو ينظر فيها كما ينظر المفتي، وزيادة على ذلك ينظر في ثبوت أسباب الواقعة وما يعارضها، ويصدر حكمه بالإلزام بها، وعلى مريد الفتيا لحظ الفرق بينهما على نحو ما ذكرنا عند الإفادة من هذا البحث.(78/231)
وقد نظمت الكلام فيه في مقدمة، وتمهيد، وأربعة مباحث، وخاتمة، وبيان ذلك على النحو التالي:
التمهيد:
المبحث الأول: الحكم الكلي، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: أقسام الحكم الكلي، وتحليله.
المطلب الثاني: صفات الحكم الكلي.
المطلب الثالث: تحديد الحكم الكي وبناؤه على الأصول.
المطلب الرابع: تفسير الحكم الكلي.
المبحث الثاني: الواقعة القضائية، وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: أهمية الواقعة القضائية، وأقسامها.
المطلب الثاني: تعريف الواقعة القضائية المؤثرة، وشروطها.
المطلب الثالث: تنقيح الواقعة القضائية؛ المراد به، ووسيلته، ومراحله.
المطلب الرابع: إثبات الواقعة القضائية.
المطلب الخامس: تفسير الواقعة القضائية.
المبحث الثالث: أصول تنزيل الأحكام على الوقائع، وفيه تمهيد، وخمسة مطالب:
التمهيد: المراد بأصول تنزيل الأحكام على الوقائع، وبيان ثمرتها.(78/232)
المطلب الأول: الأصل الأول: النظر في المآلات عند تنزيل الأحكام على الوقائع.
المطلب الثاني: الأصل الثاني: مراعاة مقصد الشرع وحكمة التشريع.
المطلب الثالث: الأصل الثالث: مراعاة الفروق بين الوقائع والأشخاص.
الطلب الرابع: الأصل الرابع: مراعاة الضرورات والحاجات.
المطلب الخامس: الأصل الخامس: مراعاة درء الحدود والقصاص بالشبهات.
المبحث الرابع: وسائل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية، وطرقة تقريره، ومراحله، وقيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: وسائل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية.
المطلب الثاني: طريقة تقرير تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية. المطلب الثالث: مراحل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية. الخاتمة: وفيها أبرز نتائج البحث، والتوصيات المتعلقة به.
وهذا أوان البدء فيما أردنا.(78/233)
التمهيد:
وفيه المواضيع التالية:
- تعريف تنزيل الأحكام على الوقائع.
- مشروعية تنزيل الأحكام على الوقائع.
- حكم تنزيل الأحكام على الوقائع.
- ضوابط تنزيل الأحكام على الوقائع.
- الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع.
- درجة الاجتهاد المطلوبة عند تنزيل الأحكام في الوقائع.
- ما يلزم للقاضي والمفتي عند الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع.
- تأهيل القاضي والمفتي بالخبرة والتجربة.
تعريف تنزيل الأحكام على الوقائع:
التنزيل في اللغة: مصدر من الرباعي (نزل) ، ونزل الشيء أنزله، والشيء رتبه ووضعه منزله (1) .
والأحكام في اللغة: جمع مفرده (حكم) ، وأصله: المنع، يقال: حكمت عليه بكذا إذا منعته من خلافه، فلم يقدر على الخروج من ذلك، ويطلق على القضاء والفصل، فيقال: حكمت بين
__________
(1) مختار الصحاح 655، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير 2\601، المعجم الوسيط 2\915.(78/234)
القوم إذا فصلت بينهم (1) .
وفي الاصطلاح: عرفه الفقهاء بأنه: مقتضى خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء، أو تخييرا، أو وضعا.
وسمي الحكم كليا لأنه يشمل صورا كثيرة من الوقائع الجزئية التي لا حصر لها، ويسعى القاضي والمفتي في تنزيل الأحكام الكلية على الوقائع الجزئية التي تعرض عليهما للقضاء أو الفتيا.
والوقائع في اللغة: جمع مفرده (واقعة) ، أصلها يرجع إلى الفعل (وقع) ، وهو يدل على سقوط شيء (2) ، فوقع الشيء يقع وقعا ووقوعا سقط. (3) .
والوقائع: الأحوال والأحداث، مفردها (وقعة) على غير قياس (4) ، وقال الكفوي (ت: 109هـ) : مفردها (وقعية) (5) .
__________
(1) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير 1\145.
(2) مقاييس اللغة 6\133.
(3) مختار الصحاح 732، لسان العرب 8\402.
(4) المعجم الوسيط 2\1051، العيد الذهبي لمجمع اللغة العربية 326.
(5) الكليات 944.(78/235)
والواقعة: صدمة الحرب مرة بعد مرة، والاسم منها الوقيعة والواقعة. (1) .
قال ابن منظور (ت: 711هـ) : " الواقعة والوقيعة: الحرب والقتال، وقيل: المعركة، والجمع وقائع ". (2) .
وتطلق الواقعة على النازلة من صروف الدهر، والنازلة الشديدة، والقيامة، وجمعها واقعات. (3) .
ويستخلص مما سبق أن الوقائع جمع، المراد منه: الأحوال والأحداث، مفرده: وقعة أو وقيعة، مأخوذ من وقعة الحرب، وأن الاسم منه: وقيعة وواقعة، وجمعه: وقائع وواقعات.
والمراد بالواقعة القضائية: الحادثة التي يقع فيها التنازع لدى القاضي تقتضي فصلا بحكم ملزم، أو صلح عن تراض. (4) .
والمراد بالواقعة الفتوية: الحادثة يستفتى فيها تستدعي تحقيق مناط الحكم الكلي عليها من غير إلزام.
والمراد بتنزيل الأحكام على الوقائع هنا: هو تطبيق الحكم الكلي على الواقعة القضائية أو الفتوية بعد اكتمال ما يلزم لذلك. (5) .
__________
(1) لسان العرب 8\403، المعجم الوسيط 2\1051.
(2) لسان العرب 8\403.
(3) لسان العرب 8\403، الكليات 944، المعجم الوسيط 2\1051.
(4) كتابنا: توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية 2\19.
(5) كتابنا: توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية1\43.(78/236)
ومن الألفاظ التي تطلق على تنزيل الأحكام على الوقائع: توصيف الوقائع، تطبيق الأحكام الكلية على الوقائع، تحقيق المناط بتعيين محل الحكم الشرعي الكلي، إيقاع الحكم الكلي على محله. (1) .
__________
(1) كتابنا: توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية1\39، 47(78/237)
مشروعية تنزيل الأحكام على الوقائع:
هو مشروع في كل نازلة تعرض على القاضي أو المفتي، فعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر (1) » .
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم القاضي بالاجتهاد إذا أراد الحكم، وأخبر بما له من الأجر. (2) ، ومن اجتهاد القاضي تنزيل الحكم على الواقعة بتحلية الواقعة بالأوصاف الشرعية المقررة في الحكم الكلي.
يقول ابن سعدي (ت: 1376هـ) : في شرح هذا الحديث: " ودل على أنه لا بد للحاكم من الاجتهاد، وهو نوعان: اجتهاد في إدخال القضية التي وقع فيها التحاكم بالأحكام الشرعية، واجتهاد في
__________
(1) متفق عليه واللفظ لهما. فقد أخرجه البخاري 6\2676، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، ومسلم 3\1342، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ
(2) الجامع لأحكام القرآن 11\310(78/237)
تنفيذ ذلك الحق على القريب والصديق وضدهما ... " (1) ، فإدخال الواقعة في الحكم الشرعي هو تنزيل الحكم على الواقعة، وهو اجتهاد لا بد منه.
إن الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع في القضاء أو الفتوى لا يستغنى عنه بالتقليد، بل هو فريضة في كال نازلة؛ لأن كل واقعة قضائية أو فتوية نازلة مستأنفة لم يسبق لها مثيل، فتحقيق المناط فيها متجدد لا ينضبط بمناط واحد، فلا يمكن التقليد فيها؛ يقول الشاطبي (ت: 790هـ) : " لا يمكن أن يستغنى ههنا بالتقليد؛ لأن التقليد إنما يتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه، والمناط هنا لم يتحقق بعد؛ لأن كل صورة من صور النازلة نازلة مستأنفة في نفسها ولم يتقدم لها نظير، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا، فلا بد من النظر فيها بالاجتهاد، وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها فلا بد من النظر في كونها مثلها أو لا، وهو نظر اجتهاد أيضا ... ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية، وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين. (2) .
__________
(1) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار 148، وانظر: 240 من المرجع نفسه.
(2) الموافقات في أصول الشريعة 4\91، 92.(78/238)
وقد مثل - رحمه الله - بأمثلة منها: فرض نفقات الزوجات والقرابات من أنه مفتقر إلى النظر في حال المنفق عليه، والمنفق، وحال الوقت، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تنضبط بحصر، ولا يمكن استيفاء القول في آحادها، فلا يمكن أن يستغنى بالتقليد فيها. (1) .
ويقول الدريني (معاصر) في بيان أهمية التطبيق على الوقائع: " من الواضح أن الاجتهاد في التطبيق أضحى لا يقل خطرا عن الاجتهاد في الاستنباط الفقهي المجرد إن لم نقل: إن الأول أعظم خطرا؛ لأنه يتعلق بالثمرات الواقعية، والآثار العملية في حياة الأمة، وهي الغاية القصوى من التشريع كله ".
ومن هنا نشأت صعوبة أمر القضاء، يقول جعيط (ت: 1970م) : " ولدقة تحقيق المناط وتطبيق القواعد على جزئياتها صعب أمر القضاء ".
__________
(1) الموافقات في أصول الشريعة 4\91.(78/239)
حكم تنزيل الأحكام على الوقائع:
إن تنزيل الأحكام على الوقائع مما لا يتم الحكم القضائي أو(78/239)
الفتوى إلا به، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالوقائع يتكرر نزولها، ولا يطابق بعضها بعضا بل تختلف عنها قليلا أو كثيرا بحكم ما يحف بها عند وقوعها من علل دافعة، أو عوارض مانعة، أو ظرف زماني أو مكاني فلا يمكن التقليد فيها، فوجب الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع في كل قضية تعرض على القاضي أو المفتي. .
ثم إن تقرير الحكم الكلي وأوصافه - مفترضاته ومعرفاته - منزل في الأذهان لا على الأعيان، وهو مقرر لأجل تطبيقه على الأعيان، والأعيان والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة بل مسخصة فلا بد من إيقاع الحكم عليها بتحلية الواقعة بالأوصاف المقررة في الحكم الكلي.
ولو فرض عدمه لانعدم الحكم على الأعيان، وكان التكليف محالا وهو غير ممكن شرعا وعقلا.
يقول الشاطبي (ت: 790هـ) : " ولو فرض ارتفاع هذا(78/240)
الاجتهاد (1) لم تنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن؛ لأنها مطلقات وعمومات، وما يرجع إلى ذلك منزلات (2) على أفعال مطلقات كذلك، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة، فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام. . فلا بد من هذا الاجتهاد في كل زمان؛ إذ لا يمكن حصول التكليف إلا به، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفا بالمحال، وهو غير ممكن شرعا كما أنه غير ممكن عقلا، وهذا أوضح دليل في المسألة " (3) .
ويقول ابن تيمية (ت:728هـ) : " وحكام المسلمين في الأمور المعينة، ولا يحكمون في الأمور الكلية، وإذا حكموا في المعينات فعليهم أن يحكموا بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم برأيه " (4) .
__________
(1) يعني: تحقيق المناط بتعيين محل الحكم الكلي وهو تنزيل الحكم على الواقعة الجزئية قضائية أو فتوية.
(2) أي مفترضات.
(3) الموافقات في أصول الشريعة 4\93، 94.
(4) منهاج السنة النبوية5\132.(78/241)
ضوابط تنزيل الأحكام على الوقائع:
عند تنزيل الحكم الكلي على الواقعة من قبل القاضي أو المفتي(78/241)
يجب عليه أن يتحقق من الضوابط التالية (1)
1- أن يكون الحكم الكلي محددا ومبينا على أصل شرعي ومفسرا.
2- أن تكون الواقعة محل النظر في القضاء أو الفتوى مؤثرة في الحكم ومفسرة، وإذا كانت في القضاء فلا بد أن يثبت وقوعها.
3- مراعاة أصول تنزيل الأحكام على الوقائع.
وسوف نتحدث في هذا البحث عن الحكم الكلي وتحديده وتفسيره والواقعة القضائية وتأثيرها وإثباتها وتفسيرها، وعن أصول تنزيل الأحكام على الوقائع بالإضافة إلى وسائل تنزيل الأحكام على الوقائع التي بوساطتها يجري الحكم على النازلة.
__________
(1) كتابنا: توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية 2\274 -299.(78/242)
الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع:
الاجتهاد في اللغة: بذل الوسع لإدراك أمر شاق. (1) .
ويتناول الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع من جانبين:
الجانب الأول: اجتهاد في تحصيل الأحكام الكلية:
وهو ما يعرفه الأصوليون بأنه: بذلك الجهد من قبل الفقيه لإدراك حكم شرعي من أدلته المقررة شرعا. (2) .
__________
(1) مختار الصحاح 114، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير 1\112.
(2) شرح الكوكب المنير 4\458، شرح مختصر الروضة 3\575.(78/242)
وهو مشروع لتحصيل الأحكام الكلية، ويتأكد في النوازل الفقهية.
ويكتفى عنه عند عدم تحقيقه بالتقليد في تحصيل الأحكام الكلية مع التأهيل للنظر في النوازل عند الاقتضاء.
الجانب الثاني: اجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع فتوية أو قضائية:
والمراد به: بذل الجهد من قبل القاضي أو المفتي في تحقيق مناط الحكم على الواقعة محل النظر.(78/243)
درجة الاجتهاد المطلوبة عند تنزيل الأحكام على الوقائع:
الاجتهاد على نوعين:
الأول: اجتهاد تام، وهو بذل غاية الجهد في التعرف على الشيء فيشعر المجتهد بالعجز عن المزيد.
والثاني: اجتهاد ناقص، وهو النظر المطلق في التعرف على الشيء.
ويمثل لذلك بالبحث عن درهم ضاع في التراب فشخص قال بقدمه هكذا في التراب فقلبه فلم يجد شيئا فتركه وذهب، وآخر جرى له ذلك فأتى بغربال وأخذ في نخل التراب من موضع سقوط الدرهم حتى وجده أو غلب على ظنه أنه لن يجده، فالأول اجتهاد ناقص، والثاني اجتهاد تام.
وتنزيل الأحكام على الوقائع عمل ذهني، لا يتم على أكمل(78/243)
وجهه إلا ببذل غاية الجهد بحيث يشعر القاضي أو المفتي أن لا مزيد على ما بذله، ولا يكفي فيه اجتهاد ناقص يحس القاضي أو المفتي من نفسه القدرة على المزيد من الاجتهاد. .
فيجب على القاضي أن يكون واقفا على الأحكام الكلية الفقيهة، مقتدرا على تطبيقها، باذلا قصارى جهده في التفطن لكلام الخصوم وحججهم، ودفوعهم وبيناتهم، والسعي في التثبت منها، وتوقي خداع الخصوم وشبهاتهم، وذلك يستدعي من القاضي أن يكون واعيا يملك القدرة على الجمع، والمقارنة، والقياس، والتقاط الأوصاف المؤثرة، وتمييز الفروق المقررة، وتحديد الأوصاف المتفق عليها والمختلف فيها بين الخصمين، والمضي في إثباتها واستنباطها وتنزيل الحكم الكلي عليها.
وهكذا على المفتي الاجتهاد في ذلك فيما يخص الفتوى.(78/244)
ما يلزم للقاضي والمفتي عند الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع:
يلزم له أمران:
الأول: تحصيل الأحكام الكلية وما يلزم لها من حسن التصور.(78/244)
الثاني: التدريب وصقل الملكات:
ويلزم للتدريب وصقل الملكات أمران:
- التعرف على أصوله النظرية، وهو ما سنتحدث عنه في هذا المقام.
- التدريب واكتساب الخبرة، وسنبينه في العنوان التالي.(78/245)
تأهيل القاضي والمفتي بالخبرة والتجربة:
الخبرة والتجربة تعني ما يكتسبه المبتدئ في أي مهنة من التمرس عليها مما يكسبه القدرة على معاناتها وضبط إجراءاتها (1) .
فالخبرة والتجربة تصقل مواهب القاضي والمفتي الفطرية وصفاته التي يجب أن يتحلى بها، ويتمكن من الآداب اللازمة لمهنته والأحكام الموضوعية والأصول النظرية والإجرائية، ويرتاض بصفة تنزيل الأحكام على الوقائع على أصلوه الصحيحة (2) .
فيكون عنده بعد التدريب والمران ملكة تهيؤه لفهم أصول المهنة وحسن التعامل معها وتطبيق الأحكام المتعلقة بذلك على الوقائع، فلا يكفي لفن من الفنون التعرف على الأحكام، بل لا بد من الارتياض في مباشرته وتطبيقه؛ حتى يكون لقاصده من ذلك ملكة قارة قادرة على الاهتداء لأصوله وإدراك الأحكام العارضة
__________
(1) كتابنا: المحقق الجنائي في الفقه الإسلامي 95.
(2) المرجع السابق(78/245)
له، فيهتدي لمعاقده، ويتنبه لفروقه؛ لكثرة نظره فيه، وإتقانه لأصوله ومآخذه، وتردده في ممارسته حتى تكون مباشرته عنده سهلة ميسرة، وذلك من أنفس ما يحصله المتدرب في كل فن، وهو من أنفس صفات متلقي الأحكام لتنزيلها على الوقائع في الفتيا والقضاء والتحقيق الجنائي وما يشابهها (1) .
فالخبرة والتجربة أساس كل فن وسبب نجاح كل مهنة؛ لأن من تردد في شيء أعطي سره، ومما يدل على ذلك ويبين أهميته أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عزم على بعث علي - رضي الله عنه - إلى اليمن قاضيا احتج علي بأنه لا علم له بالقضاء، وهو يعني أنه لا خبرة ولا تجربة له فيه تعينه على القيام به، «فعن علي - رضي الله عنه - قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيا، فقلت: يا رسول الله، ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء، قال فما زلت قاضيا - أو ما شككت في قضاء بعد- (2) »
__________
(1) كتابنا: توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية 3\7، 8.
(2) أخرجه أبو داود واللفظ له 3 \301، كتاب الأقضية، باب كيف القضاء، والترمذي 3\618، كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين الخصمين حتى يسمع كلامهما، وقال: '' هذا حديث حسن ''، والنسائي في السنن الكبرى 5\116، كتاب الخصائص، عن أبي البختري عن علي، وقال: '' أبو البختري لم يسمع من علي شيئا ''، وأحمد 1\90، 143، 149، 150، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: '' حسن لغيره ''، والبيهقي 10\86، كتاب آداب القاضي، 10 \137، كتاب آداب القاضي، باب ما يقول القاضي إذا جلس الخصمان بين يديه، 10 \140، 141 كتاب آداب القاضي، باب القاضي لا يقبل شهادة الشاهد إلا بمحضر من الخصم المشهود عليه ولا يقضي على الغائب، وابن أبي شيبة 4\563، كتاب أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو يعلى 1\305، والطيالسي 1\19.(78/246)
فقول علي - رضي الله عنه -: " ولا علم لي بالقضاء " لم يرد به نفي العلم مطلقا؛ فإنه - رضي الله عنه - كان عالما بأحكام الشرع وقضاياه، وإنما أراد نفي الخبرة والتجربة بسماع المرافعة بين الخصوم وما يلزم لها (1) ، فدل ذلك على مكان الخبرة وأهميتها وشرعيتها (2) .
وقد ساق الإمام البخاري (ت: 256هـ) في صحيحة في باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم - حديث ابن عمر - رضي الله عنه - في النخلة، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، حدثوني ما هي؟ قال: فوقع الناس في شجر
__________
(1) عون المعبود شرح سنن أبي داود 9\499، بلوغ الأماني من أسرار الرباني 15\213.
(2) كتابنا: '' المحقق الجنائي في الفقه الإسلامي '' 96.(78/247)
البوادي، قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة (1) » .
ولا غرو في ذلك، فتلقي الشيء من صفته العملية والتردد فيه واكتساب الخبرة مما يعين على أدائه وإتقانه.
والتعرف على الأحكام الموضوعية لكل فن لا يغني عن اكتساب الخبرة والتجربة بمباشرته والاشتغال به مدة من الزمن وتلقيه من أربابه الذين حنكتهم السنون وأيدتهم التجربة، فالتجربة أصل في كل فن، ومعنى مفتقر إليه في كل علم (2) .
يقول القرافي (ت: 684هـ) في حاجة القاضي إلى الخبرة وغيرها من الصفات للتفطن في وجوه حجج الخصوم: " فهذا باب آخر عظيم يحتاج إلى فراسة عظيمة ويقظة وافرة وقريحة باهرة ودربة مساعدة وإعانة من الله - تعالى - عاضدة، فهذا كله محتاج إليه
__________
(1) متفق عليه، فقد أخرجه البخاري واللفظ له 1\34، كتاب العلم، باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم، 1\39، كتاب العلم، باب الفهم في العلم، 1\61، كتبا العلم، باب الحياء في العلم، 2\768، كتاب البيوع، باب بيع الجمار وأكله، 5\2075، كتاب الأطعمة، باب أكل الجمار، 5\2076، كتاب الأطعمة، باب بركة النخل، 5\2268، كتاب الأدب، باب ما لا يستحيى من الحق للتفقه في الدين، 5\2275، كتاب الأدب، باب إكرام الكبير ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال، ومسلم 4\2164، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب مثل المؤمن مثل النخلة.
(2) كتابنا: المحقق الجنائي في الفقه الإسلامي100.(78/248)
بعد تحصيل الفتاوى " (1) .
ويقول ابن عابدين (ت: 1252هـ) : " لا بد لكل من المفتي والحاكم من نظر سديد واشتغال مديد ومعرفة بالأحكام الشرعية والشروط المرعية " (2) .
ونقل - أيضا - عن بعض الحنفية قوله: " لو أن الرجل حفظ جميع كتب أصحابنا لا بد أن يتتلمذ للفتوى حتى يهتدي إليها " (3) .
وكان أيوب بن سليمان بن صالح (ت: 301 هـ) يقول: " الفتيا دربة " (4) .
ويقول أبو عبد الله بن عتاب (ت: 462هـ) : " الفتيا صنعة " (5) .
ويقول ابن سهل (ت: 486هـ) : " لولا حضوري مجلس الشورى مع الحكام ما دريت ما أقول في أول مجلس شاورني فيه الأمير سليمان بن أسود وأنا يومئذ أحفظ المدونة والمستخرجة الحفظ المتقن.
__________
(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام 28.
(2) نشر العرف في بناء الأحكام على العرف 2\126.
(3) المرجع السابق 2\127
(4) الإعلام بنوازل الأحكام 1\24.
(5) الإعلام بنوازل الأحكام 1\24.(78/249)
ومن تفقد هذا المعنى من نفسه ممن جعله الله إماما يلجأ إليه، ويعول الناس في مسائلهم عليه - وجد ذلك حقا، وألفاه ظاهرا وصدقا، والتجربة أصل في كل فن، ومعنى مفتقر إليه في كل علم " (1) .
ويقول الزرقاني (ت: 1099هـ) : " القضاء صناعة دقيقة لا يعرفها كل أحد " (2) .
وهذا كله ظاهر في أهمية اكتساب الخبرة والتجربة للمفتي والقاضي ومن في حكمهما مما يهيؤه للنجاح في هذا العمل المهم.
فالقضاء وما في حكمه - حرفة ومهنة وتقنية وصناعة دقيقة، يحتاج إلى الخبرة ويرتكز على فهم الوقائع والبينات والدقة في استنباط ما خفي من الوقائع بالقرائن والعلامات والأمارات والأدلة وعلى فهم النصوص والأحكام الشرعية والإجراءات النظامية وتفسيرها وتطبيق النصوص والأحكام على الوقائع.
وعلى القاضي - وكذا المفتي - أن يبذل وسعه في الحصول على التجارب والخبرات ممن تمكنوا في هذه المهنة وأتقنوا أصولها وعرفوا دقائقها، قد حنكتهم السن، وأيدتهم التجربة، وأحكمتهم
__________
(1) الإعلام بنوازل الأحكام 1\24، وانظر: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومنهاج الأحكام 1\ 1، 2
(2) شرح الزرقاني على مختصر خليل 7\144.(78/250)
الأمور، فمهروا بالقضايا وإيقاع الإحكام عليها (1) .
ومما يعينه في هذا الكتاب مطالعة كتب النوازل فتوى وقضاء، واطلاعه على أقضية من سبقه وفتاواهم، والتعرف على طريقة تنزيل الأحكام الكلية على الوقائع الجزئية.
فعلى القاضي الاطلاع على الأحكام وقرارات من كان قبله ودراستها وتبين صفة بنائها وأسبابها وما انتهت إليه، فلقد كان الفقهاء يعدون من أدب القاضي المتأكد أن يطلع على أحكام من كان قبله، وأن يكون بصيرا بها؛ ليستضيء بها ويبني عليها.
وعليه الحرص بالإطلاع واكتساب كل جديد ومفيد في مجال عمله.
وعلى المسؤولين عن القضاء الاهتمام بذلك وبذل الوسع في كل ما من شأنه تدريب القضاة وإكسابهم الخبرة والتجربة في هذه المهنة والجمع في ذلك بين الممارسة الفعلية وأصولها النظرية من صفة السير في نظر القضية وصفة تنزيل الحكم عليها مع ما يحصله القاضي من علوم القضاء وأحكامه ومتابعة كل جديد ومفيد فيه وما
__________
(1) كتابنا: المحقق الجنائي في الفقه الإسلامي 102.(78/251)
يكتسبه من صفات القاضي وآدابه ممن يتدرب على أيديهم.
إن الإفتاء وكذا العمل القضائي يتطلب مهارة تستوعبه حتى لا يفسد المفتي أو القاضي أكثر مما يصلح؛ يقول الشافعي (ت: 204هـ) في المفتي: " المستفتي عليل، والمفتي طبيب، فإن لم يكن ماهرا بالطب، وإلا قتله " (1) ، وهكذا القاضي.
__________
(1) الفقيه والمتفقه 2\86.(78/252)
المبحث الأول: الحكم الكلي وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: أقسام الحكم الكلي وتحليله.
سبق تعريف الحكم الكلي وأنه في الاصطلاح: مقتضى خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء، أو تخيبرا أو وضعا (1) .
أقسام الحكم الكلي:
إن تعريف الحكم الكلي السابق ينبئك عن أقسام الحكم وأنه على قسمين:
الأول: الحكم التكليفي.
الثاني: الحكم الوضعي.
وبيانهما فيما يلي:
القسم الأول: الحكم التكليفي:
وهو مقتضى خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء،
__________
(1) انظر: التمهيد لهذا البحث.(78/252)
أو تخييرا (1) ، أو صحة، بطلانا.
القسم الثاني: الحكم الوضعي (معرفات الحكم) :
وهو مقتضى خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين وضعا بكون الشيء سببا، أو شرطا، أو مانعا لشيء آخر (2) .
ومعنى كونه وضعيا: أن الشرع وضع (أي: شرع) أمورا هي الأسباب، والشروط، والموانع، تعرف عند وجودها بفعلها من المكلف أحكام الشرع من نفي أو إثبات؛ فالأحكام توجد بوجود الأسباب والشروط، وتنتفي بانتفاء الأسباب والشروط أو وجود الموانع (3) .
فالشرع هو الذي وضع (شرع) الأحكام عند وجود أسبابها وشروطها وانتفاء موانعها من المكلف؛ ذلك أن التكليف بالشريعة دائم إلى قيام الساعة، وخطاب الشارع غير مستمر الورود؛ إذ إنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم انقطع الوحيان، وبقيت دلالتهما
__________
(1) شرح مختصر الروضة 1\261، نظرية الحكم ومصادر التشريع في أصول الفقه الإسلامي 32.
(2) شرح مختصر الروضة 1\412، نظرية الحكم ومصادر التشريع في أصول الفقه الإسلامي 123.
(3) شرح مختصر الروضة 1\411.(78/253)
مستمرة إلى قيام الساعة، ولذلك نصب الشارع أشياء تكون أعلاما على حكمه ومعرفات له يعرف بها حكم الشرع عند نزولها وحدوثها من العباد، ألا وهي الأسباب، والشروط، والموانع، فالشرع هو الذي حكم بكونها أوصافا مؤثرة، وهو الذي حكم بتأثيرها، فأنتجت حكما تكليفيا، فكان ذلك كالقاعدة الكلية في الشريعة تحصيلا لدوام حكمها مدة بقاء المكلفين في دار التكليف، وهذا فيه رد على الذين يحكمون بتأثير الحوادث من الأسباب والشروط والموانع بعقولهم من غير رد إلى الشرع.
تحليل الحكم الكلي إلى شطرين:
إذا كان الحكم التكليفي هو الأصل، وهو المراد بالتكليف، وأن الحكم الوضعي معرف له؛ لأنه الأحكام الوضعية أوصاف وأعلام ومعرفات للحكم التكليفي، ولا قيام له إلا بهذه الأعلام والمعرفات - فإن الحكم الكلي في حقيقته يتحلل إلى شطرين هما: الحكم الوضعي (معرفات الحكم) ، والحكم التكليفي.(78/254)
وشطرا الحكم الكلي: الأثر، والمؤثر.
فالمؤثر: هو معرفات الحكم من السبب والشرط والمانع، وهي التي يطلق عليها (الحكم الوضعي) .
والأثر: هو الحكم التكليفي من الوجوب والحرمة والإباحة ... إلخ، فكأنه قيل: إذا حدث كذا وكذا سوف يحكم بكذا وكذا (1) ؛ وكذا يقول القرافي (ت:684هـ) : " إن معنى خطاب الوضع - أي معرفات الحكم - قول صاحب الشرع: اعلموا أنه متى وجد كذا، في وجود المانع أو عدم الشرط " (2) .
وهذا الأمر (تحليل الحكم الكلي إلى شطرين) مما ينبغي العناية به واستحضاره عند تنزيل الأحكام على الوقائع بالمطابقة بين الحكم الكلي والواقعة قضائية كانت أم فتوية.
__________
(1) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 1\108.
(2) الفروق 1\162.(78/255)
المطلب الثاني: صفات الحكم الكلي
إن الحكم الكلي يتكون من شطرين هما: معرفات الحكم (الحكم الوضعي) ، والحكم (وهو الذي يطلق عليه الحكم التكليفي) ، وهو الأصل في الإطلاق، المعرفات تابعة له؛ لأنه لا يتم بدونها،(78/255)
وشطرا الحكم في حقيقتهما نظم واحد يطلق عليه: الحكم الكلي وهو أمر أو حظر أو إباحة على أوصاف عامة منزلة في الذهن، والأمر والحظر والإباحة صفات أحكام لا صفات أعيان، ولذا فإن للحكم الكلي صفتين هما: أنه عام، ومجرد (1) ، وقد أشار إليهما ابن خلدون (ت: 808هـ) وهو يحدد وظيفة العلماء في التقعيد والتأصيل، فهو يقول: " إنهم معتادون النظر الفكري، والغوص على المعاني، وانتزاعها من المحسوسات، وتجريدها في الذهن، أمورا كلية عامة؛ ليحكم عليها بأمر العموم لا بخصوص مادة، ولا شخص، ولا جيل، ولا أمة، ولا صنف من الناس، ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات، و - أيضا - يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي، فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن، ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر ... ".
كما أشار إلى صفتي الحكم من العموم والتجريد الشاطبي (ت: 790هـ) بقوله: " لأنها [يعني: الأحكام الكلية] مطلقات وعمومات، وما يرجع إلى ذلك " (2) .
__________
(1) كتابنا: توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية 1\111.
(2) الموافقات في أصول الشريعة 4\93.(78/256)
وهذا بيان لصفتي الحكم الكلي من العموم والتجريد:
أ - العموم:
والمراد به: عموم الحكم الكلي لكل الأشخاص والأزمان والوقائع التي تندرج تحته (1) .
فهو عام للمكلفين، فلا يخص شخصا أو واقعة بعينها، ولا يشترط فيه سوى التهيئة الظاهرة، فهو محدد بالأوصاف والشروط المقررة، لا بأشخاص أو أعيان بذواتهم، وهذا يجعل الحكم الكلي صالحا للتطبيق على عموم الأشخاص والأعيان الذين تحقق فيهم الأوصاف والشروط المذكورة فيه، وإنما كان الحكم الكلي عاما حتى يشمل صورا كثيرة غير متناهية مما يدخل تحته.
يقول ابن تيمية (ت: 728هـ) : " إن الأحكام الجزئية من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو لم يشرعها الشارع شرعا جزئيا، وإنما شرعها شرعا كليا بمثل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (2)
__________
(1) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 1 \ 112.
(2) سورة البقرة الآية 275(78/257)
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (1) ، {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (2) ، وهذا الحكم الكلي ثابت، سواء وجد البيع المعين أو لم يوجد، فإذا وجد بيع معين أثبت ملكا معينا ".
ويقول الشاطبي (ت: 790هـ) : " إن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر " (3) .
فالقاضي والمفتي عند تنزيل الحكم الكلي على شخص أو واقعة معينة، كأنه يخصه بهذا الحكم من عموم الصور والوقائع التي تندرج تحته.
ب - التجريد:
المراد به: افتراض الحكم الكلي عند تقريره كائنا في الأذهان على الأوصاف المجردة عن الأشخاص المعينين والأعيان المحددة.
__________
(1) سورة النساء الآية 24
(2) سورة النساء الآية 3
(3) الموافقات في أصول الشريعة 4 \ 92.(78/258)
فالتجريد إذن يعني افتراض الحكم الكلي عند تقريره منزلا في الأذهان مجردا عن الأشخاص والأعيان بذواتهم، وإنما يربط الحكم بالأشخاص والوقائع والنوازل بصفاتها المحددة، لا بذواتها وأشخاصها، بل للمعاني القائمة بها مهما اختلفت زمانا أو مكانا، وإنما يجري تشخيص الأحكام الكلية على الأعيان والصور والأشخاص والوقائع عند تطبيقها وتنزيلها على الوقائع المعينة، والقاضي أو المفتي عند هذا التنزيل يكون قد شخص ووصف هذه الواقعة أو هذه الصورة أو هذا الشخص المعين بهذا الحكم الكلي العام، فصار منزلا على الأعيان بدلا من افتراضه في الأذهان (1) .
__________
(1) المراجع السابقة، البهجة في شرح التحفة 1 \ 36.(78/259)
المطلب الثالث: تحديد الحكم الكلي وبناؤه على الأصول.
العلم بالحق مقدمة للحكم به، والقاضي لا يستطيع أن يحكم فيما يقع إلا بعد العلم بما يجب، فعلى القاضي إذا أراد تنزيل الحكم على الواقعة تحديد الحكم الكلي الفقهي الملاقي لها، وذلك بتمييز الحكم الكلي من عدة أحكام مشابهة له أو متداخلة معه حال اتباع عالم سبق أن قرر حكم المسألة بدليلها، أو حال التقليد، أو باستنباطه بالاجتهاد بناء على أصوله الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع وغيرها من أدلة مشروعية الأحكام، جاء في الاختيارات:(78/259)
" ويجب أن ينصب - يعني القاضي - على الحكم دليلا، وأدلة الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع، وما تكلم الصحابة والعلماء به إلى اليوم ".
فإذا حدد القاضي الحكم الكلي المبني على أصوله تحديدا سليما، فقد حقق أحد الأسس التي يبنى عليها الحكم القضائي الصحيح.
وعلى القاضي عند تحديد الحكم الكلي الملاقي للواقعة لتنزيله عليها الرجوع إلى نصه، والتحقق من الشروط والأوصاف المقتضية له من مظانها، ولا يكتفي القاضي بحفظه للنص؛ لأنه ربما فاته قيد أو وصف مؤثر.
والأصل في ترتيب الآراء الفقهية للعمل بها أن تتم حسب التالي:
1 - ما وافق المنصوص في الكتاب والسنة والإجماع المحكم.
2 - وفي مسائل الخلاف على الترتيب التالي:
أ - المعمول به في المحاكم.
ب - المشهور من المذهب.
ج - ويجوز الأخذ بالمرجوح إذا كان يحقق مصلحة أو حاجة عهد في الشرع الاعتداد بها وبشروط مقررة شرعا (1) .
__________
(1) انظر العمل بالمرجوح وشروطه في كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 1 \ 369 - 382.(78/260)
وعلى القاضي الإفادة في النوازل من قرارات المجامع الفقهية المعتد بها، وإلا اجتهد في النازلة وقرر حكمها حسبما يظهر له شرعا وهكذا المفتي في جميع ما سلف.(78/261)
المطلب الرابع: تفسير الحكم الكلي.
التفسير في اللغة: الكشف، والبيان، والإيضاح.
والمراد بتفسير الحكم الكلي:
تفسير نصوص الحكم الكلي ببيان معناها ومطلقها ومقيدها ونحو ذلك، سواء كان نصا من كتاب أو سنة، أم من كلام أهل العلم (1) .
فالحكم الكلي يتخذ صياغة مشتملة على الحكم التكليفي ومعرفاته، فإذا أراد القاضي والمفتى تنزيل الحكم على الواقعة فلا يمكنه ذلك إلا بعد فهم الحكم الكلي من هذه الصيغة، سواء كانت نصية من كتاب أو سنة، أم فقهية بأن يكون الحكم في صيغة فقهية قد قررها الفقيه واستنبطها من مصادر الاستدلال في الشرع، وسواء كان قاعدة أم فرعا (2) .
__________
(1) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 1 \ 449.
(2) المرجع السابق 1 \ 450.(78/261)
أهمية تفسير نصوص الأحكام الكلية عند تنزيل الحكم على الواقعة:
لا يكفي في تنزيل الحكم على الواقعة والفصل فيها وجود الحكم وتأثيره، بل لا بد من فهمه وتفسيره؛ إذ إن القاضي والمفتي لا يتمكن من القضاء والفتيا إلا بعد العلم بالواقعة وحكمها الكلي، فهو يعلم بما يقع ثم يحكم بما يجب، ولا يتمكن من تطبيق أحدهما على الآخر إلا بعد تفسيرهما وفهمهما، يقول ابن القيم (ت: 751هـ) : (لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر) (1) .
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين 1 \ 87.(78/262)
ويقول الشاطبي (ت: 790هـ) : " لا بد من نظره - يعنى: المفتي - فيه - أي: فيما يبلغه عن ربه - من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعية. . . " (1) .
فتفسير الحكم الكلي أحد العناصر الرئيسة في تنزيله على الواقعة، يقول ابن القيم (ت: 751هـ) - مبينا أهمية تفسير الحكم الكلي -: " ومعلوم أن الله - سبحانه - حد لعباده حدود الحلال والحرام بكلامه، وذم من لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، والذي أنزله هو كلامه، فحدود ما أنزل الله هو الوقوف عند الاسم الذي علق عليه الحل أو الحرمة، فإنه هو المنزل على رسوله وحده بما وضع له لغة أو شرعا بحيث لا يدخل فيه غير موضوعه، ولا يخرج منه شيء من موضوعه " (2) .
فالقاضي والمفتي إذا توصلا إلى تفسير الحكم الكلي تفسيرا صحيحا استطاعا تنزيله على الواقعة - بعد تفسيرها وتقرير ثبوتها - تنزيلا مطابقا لذلك الحكم الكلي، وإن أخطأ في ذلك فإنه يخطئ في تنزيل الحكم على الواقعة، وسوف يكون تقريره لحكمه مجانبا للصواب غير ملاق للحكم الكلي. (3) .
__________
(1) الموافقات في أصول الشريعة 4 \ 246.
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين 1 \ 266.
(3) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 1 \ 453.(78/263)
يقول ابن القيم - مبينا عاقبة الغلط في فهم حدود كلام الله ورسوله -: " فإنه يتضمن محذورين:
أحدهما: أن يخرج من كلامه ما قصد دخوله فيه.
والثاني: أن يشرع لذلك النوع الذي أخرج حكما غير حكمه، فيكون تغييرا لألفاظ الشارع ومعانيه، فإنه إذا سمى ذلك النوع بغير الاسم الذي سماه به الشارع، أزال عنه حكم ذلك المسمى، وأعطاه حكما آخر " (1) .
__________
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 5 \ 747، 748.(78/264)
المبحث الثاني: الواقعة القضائية، وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: أهمية الواقعة القضائية وأقسامها.
سبق بيان المراد بالواقعة القضائية، وأنها الحادثة التي يقع فيها التنازع لدى القاضي تقتضي فصلا بحكم ملزم، أو صلح عن تراض (1) .
والواقعة القضائية أخص من الواقعة الفتوية؛ لأن القاضي ينظر فيما ينظر فيه المفتي من الأمور الجزئية، وإدراك ما اشتملت عليه الواقعة من الأوصاف الكائنة فيها، فيلغي طرديها ويعمل مؤثرها، ويزيد القاضي على ذلك بأنه ينظر في ثبوت أسباب الواقعة وما يعارضها، والإلزام بها، ويظهر للقاضي أمور لا تظهر للمفتي.
__________
(1) انظر التمهيد لهذا البحث.(78/264)
يقول السبكي (ت: 756هـ) في الفرق بين الفقيه والمفتي والقاضي -: ". . . فنظره - أي: القاضي - أوسع من نظر المفتي، ونظر المفتي أوسع من نظر الفقيه، وإن كان نظر الفقيه أشرف وأعم نفعا.
إذا علمت هذا فالفقه عمومه شريف نافع نفعا كليا، وهو قوام الدين والدنيا، والفتوى خصوص فيها ذلك العموم وتنزيل الكلي على الجزئي من غير إلزام، والحكم خصوص ذلك الخصوص فيها وزيادتان؛ إحداهما: النظر في الحجج، والأخرى: الإلزام " (1) .
أهمية الواقعة القضائية:
سبق أن بينا الحكم الشرعي الكلي، وأنه مقتضى خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا، أو صحة وبطلانا، وبينا أن له سمتين هما: العموم والتجريد (2) ، لكن الحكم الكلي الفقهي بهذه الصفة يبقي نظريا ساكنا منزلا في الأذهان، حتى إذا لامسته الواقعة القضائية، حركته من سكونه وشخصته، فصار منزلا على الأعيان والأشخاص، فالواقعة القضائية هي المحل الذي يعمل فيه الحكم الكلي، ومن هنا تأتي أهمية الواقعة القضائية، فهي التي تحرك الحكم الكلي الفقهي لتنزيله عليها (3) .
__________
(1) فتاوى السبكي 2 \ 123، وانظر: شرح عماد الرضا ببيان أدب القضا 1 \ 59.
(2) انظر: المبحث الأول من هذا البحث.
(3) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 1 \ 43.(78/265)
يقول ابن القيم (ت: 751هـ) : " الحاكم محتاج إلى ثلاثة أشياء لا يصح له الحكم إلا بها: معرفة الأدلة، والأسباب، والبينات، فالأدلة تعرفه الحكم الشرعي الكلي، والأسباب تعرفه ثبوته في هذا المحل المعين أو انتفاءه عنه، والبينات تعرفه طريق الحكم عند التنازع، ومتي أخطأ في واحد من هذه الثلاثة أخطأ في الحكم، وجميع خطأ الحكام مداره على الخطأ فيها أو بعضها.
مثال ذلك: إذا تنازع عنده اثنان في رد سلعة مشتراة بعيب، فحكمه موقوف على العلم بالدليل الشرعي الذي يسلط المشتري على الرد (1) ، وهو إجماع الأمة المستند إلى حديث المصراة وغيره، وعلى العلم بالسبب المثبت بحكم الشارع في هذا البيع المعين (2) ، وهو كون هذا الوصف عيبا يسلط الرد أم ليس بعيب، وهذا لا يتوقف العلم به على الشرع، بل على الحس، أو العادة، أو الخبر، ونحو
__________
(1) والمراد به: الحكم الكلي الفقهي.
(2) المراد به: أدلة معرفات الحكم، وهي المعروفة بأدلة وقوع الأحكام.(78/266)
ذلك، وعلى البينة التي هي طريق الحكم بين المتنازعين. . . " (1) .
وبهذا يتبين بأن الواقعة القضائية هي التي تحرك الحكم الكلي من عمومه وتجريده؛ لينزل على الوقائع فيشخصها، وتدب فيه الحركة بعد السكون؛ ذلك أن القاضي إنما يحكم ويلزم في الوقائع المعينة (2) ، يقول ابن تيمية (ت: 728هـ) : " وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة، ولا يحكمون في الأمور الكلية " (3) .
فالأحكام الكلية إنما شرعت لتنزل على الوقائع المعينة، لا لتبقى علما مطلقا لا حقيقة له ولا واقع، يقول الشاطبي (ت: 790هـ) : ". . . الشرائع إنما جاءت لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون " (4) ، ويقول في موضع آخر: " ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد (5) ، لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن " (6) .
وكذا الفتوى تحرك الحكم الكلي من عمومه وتجريده لينزل على الوقائع، فيشخصها وتدب فيه الحركة بعد السكون، فهي محل للحكم.
__________
(1) بدائع الفوائد 4 \ 12.
(2) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \ 47.
(3) منهاج السنة النبوية 5 \ 132.
(4) الموافقات في أصول الشريعة 3 \ 44.
(5) يعنى: تحقيق المناط بتنزيل الأحكام الكلية على الوقائع الجزئية.
(6) الموافقات في أصول الشريعة 4 \ 93.(78/267)
ولا بد لكل حكم قضائي من مقدمتين؛ إحداهما: الحكم الكلي، والأخرى: الواقعة القضائية، فالثانية محل الحكم، والأولى حاكمة عليه، وهكذا الفتوى.
أقسام الواقعة القضائية من جهة التأثير وعدمه:
تنقسم الواقعة من هذه الجهة ثلاثة أقسام، هي:
1 - الواقعة المختلطة:
والمراد بها: ما يقدمه الخصم مدعيا أو مدعى عليه للقاضي عند المخاصمة من دعوى وإجابة ودفوع مشتملة على وقائع طردية ومؤثرة (1) .
فإذا قدمت هذه الوقائع كان على القاضي تنقيحها بإبقاء مؤثرها، وحذف طرديها.
2 - الواقعة المؤثرة:
والمراد بها: ما شهد له الشرع بالاعتبار والتأثير في الحكم
__________
(1) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \ 50.(78/268)
القضائي من أقوال الخصوم، ودفوعهم الواردة في الدعوى والمتعلقة بها (1) .
فإن الدعوى يرد فيها وقائع كثيرة سواء في الدعوى والإجابة، أم الدفوع والمباحثات بين الخصمين، أو من أحدهما، أو كليهما مع القاضي، فما كان له تأثير في الحكم القضائي فهو المراد بالواقعة المؤثرة.
ومن الوقائع المؤثرة ما هو مؤكد لا مؤسس، كاشتراط تسليم المبيع، والرد بالعيب، وسائر شروط مقتضى العقد (2) .
ومنها ما تأثيره مباشر، وذلك كأن يدعي رجل أنه اشترى من زيد داره، ويطلب تسليم الدار له، وينكر زيد هذا العقد، فهنا الواقعة المؤثرة هي شراء المدعي الدار، فينصب الإثبات عليها عند الإنكار، ويمكن أن نطلق على هذه الواقعة المؤثرة: الواقعة الأصلية.
كما أن من الوقائع المؤثرة ما يكون تأثيره غير مباشر، وهي الواقعة التي يكون ثبوتها موصلا إلى ثبوت الواقعة مباشرة، وذلك هو شأن القرائن، كحيازة المشتري العين - أي وضع يده عليها - مدة دالة على حيازة الملاك أملاكهم، ويمكن أن نطلق على هذه الواقعة المؤثرة: الواقعة التبعية.
__________
(1) المرجع السابق.
(2) انظر في شروط مقتضى العقد: الروض المربع شرح زاد المستقنع 4 \ 392، 393.(78/269)
3 - الواقعة الطردية:
والمراد بها: ما دل الشرع بأن لا مدخل ولا تأثير لها في الحكم القضائي من أقوال الخصم ودفوعه الواردة في الدعوى والإجابة، فهي الوقائع والأوصاف التي لا ثمرة من وجودها أو فقدها (1) .
فالخصم يذكر أمورا وحوادث في الدعوى والإجابة، ونجد أن بعضا منها لا مدخل ولا تأثير له في الحكم أصالة أو تبعية، فهذا هو المراد بالواقعة الطردية.
والوقائع الطردية منها ما هو طردي مطلقا لا تأثير له في الحكم القضائي، كالأمور التي لا تدخلها الأحكام من العبادات صحة وفسادا، ومسائل العلم الكلية، ومسائل العقيدة؛ كالرؤية، والفضائل، والمندوبات، والمكروهات، فهذه وقائع طردية مطلقا لا يدخلها الحكم القضائي ألبتة.
ومثل ما يذكره الخصم في دعواه أو إجابته ودفوعه من كون الخصم أثناء التعاقد كان يشرب القهوة، أو يلبس ثوبا أبيض، ونحو ذلك من الهيئات والأحوال التي الأصل عدم تأثيرها في الحكم.
__________
(1) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \ 51.(78/270)
ومن الوقائع الطردية ما هو طردي في موضع النزاع فقط، ويكون مؤثرا في نزاع آخر، وذلك كأن يدعي شخص جهالة العمل المتعاقد عليه في الجعالة، كما لو قال شخص: من رد ضالتي فله كذا، فإن هذا الادعاء في الجعالة طردي؛ لأنها تصح ولو مع جهالة العمل، لكن لو ادعى ذلك في الإجارة كان وصفا مؤثرا؛ لأن الإجارة يشترط لها معرفة المنفعة إما بوصف مشاهدة أو عرف.
تنبيه: ما قيل في أقسام الواقعة القضائية ينطبق في الجملة على الواقعة الفتوية.(78/271)
المطلب الثاني: تعريف الواقعة القضائية المؤثرة، وشروطها.
تعريف الواقعة القضائية المؤثرة:
هي الواقعة التي شهد لها الشرع بالتأثير في الحكم القضائي (1) .
وإذا استطعنا معرفة الواقعة المؤثرة بتحقق شروطها، سهل علينا معرفة الطردية واستبعادها.
شروط الواقعة القضائية المؤثرة:
لا يتحقق تأثير الواقعة في الحكم القضائي إلا باستجماعها الشروط التالية (2) :
__________
(1) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \ 50.
(2) المرجع السابق 2 \ 59 - 66.(78/271)
1 - أن تكون الواقعة حقا مشروعا للمدعي فيه مصلحة من جلب نفع أو دفع ضر:
فلا بد لتأثير الواقعة في الحكم القضائي وصلوحها في تنزيل الأحكام من أن تكون معتدا بها شرعا، فالحقوق والأملاك وجميع الأسباب لا تؤثر بنفسها في الوقائع إلا إذا جعلها الشرع كذلك، فالشريعة حاكمة على كل شيء إفرادا وتركيبا.
والواقعة القضائية إذا كانت في شيء غير محترم شرعا، فإنها تفقد التأثير الإيجابي في الحكم القضائي عند الجمهور، وذلك كالمطالبة بمهر البغي، وحلوان الكاهن، والفوائد الربوية، وخالف ابن تيمية (ت: 728هـ) في ذلك، فهو يرى أن ثمن الخمر لا يحل للخمار، فلا يقضى لبائع الخمر بثمنها قبل القبض، ولو أعطى مشتريها الثمن لبائعها لم يحكم برده للبائع، بل يؤخذ ويصرف في مصالح المسلمين (1) ، وهو قول له قوة، وعليه يجوز الدعوى بالمال غير المحترم في مثل هذه الحالة، ويحكم به لبيت المال.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28 \ 666، 29 \ 309.(78/272)
وتجوز المطالبة بكل حق مباح - عين أو دين - للمدعي فيه نفع أو دفع ضرر ولو كان الضرر متوقعا لا واقعا إذا عرف وقوعه عادة (1) .
ولا تكون الواقعة مؤثرة إذا كانت الدعوى حيلة لا حقيقة فيها للتنازع (2) ، أو كانت الدعوى غير مفيدة للمدعي، بل كانت لعبا وتعنتا (3) ، وأما دعاوى الحسبة فلا يشترط لتأثيرها مطالب له مصلحة خاصة.
2 - لزوم الواقعة عند ثبوتها:
فالواقعة القضائية المؤثرة هي التي تلزم على فرض ثبوتها كالبيع والإجارة ونحوها من العقود التي تلزم عند صدورها.
أما الوقائع غير اللازمة كالهبة قبل القبض، فلا تأثير إيجابي لها في الحكم القضائي؛ لأنه لا يصح الإلزام بها قبل قبضها كما هو مذهب الجمهور، خلافا للمالكية.
__________
(1) المدخل الفقهي العام 2 \ 978، 981.
(2) رد المحتار على الدر المختار 4 \ 298، الفواكه البدرية في البحث عن أطراف القضايا الحكمية 146.
(3) الذخيرة 11 \ 7.(78/273)
3 - أن تكون الواقعة متعلقة بالدعوى:
لا يكفي في الواقعة القضائية مشروعيتها ولا لزومها، بل لا بد من تعلقها بالدعوى والمطالبة المرفوعة حالا أمام القاضي، وإلا كانت هدرا غير مؤثرة (1) ، وهذا يشمل الواقعة الأصلية، وهي الواقعة المتنازع فيها، والواقعة التبعية وهي التي يؤدي ثبوتها إلى ثبوت الواقعة الأصلية المتنازع فيها، كالقرائن المتعلقة بالإثبات، والتي يستنبط منها ثبوت الواقعة المؤثرة أو نفيها، فكلها تعد متعلقة بالدعوى، ويخرج هذا الشرط الواقعة الطردية في موقع النزاع، وإن كانت مؤثرة في نزاع آخر غير منظور لدى القاضي حالا، كجهالة المتعاقد عليه في الجعالة، فإنه عند النزاع في الجعالة يكون طرديا، وعند النزاع في الإجارة يكون مؤثرا.
4 - أن تكون الواقعة محررة:
وذلك بأن تكون الواقعة القضائية محددة وموصوفة، ومعرفا بها تعريفا ينافي الجهالة، فالواقعة إذا كانت مجهولة فلا تكون مؤثرة؛
__________
(1) الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي 17 \ 199، البهجة في شرح التحفة 1 \ 36.(78/274)
لأنها غير مفيدة في الدعوى؛ لجهالتها وعدم إمكان القضاء فيها ولا سماع البينة عليها.
فلا بد من تحديد العقار وبيان عدد النقود وجنسها، ونحو ذلك مما يلزم في تحديد المتنازع عليه في وصفه الخارجي، واستثنى العلماء بعض الصور تصح الدعوى بها مجهولة، وتكون مؤثرة مع جهالتها، وذلك كالوصية وعوض الخلع، ونحوهما مما يصح مجهولا، وينظر في بيانه وتفسيره.
وهكذا لا بد من بيان المدعى به في وصفه الشرعي، وذلك بأن يذكر شروط عقد النكاح مثلا إذا كانت الواقعة في دعوى نكاح ابتداء، لا استدامته، ولا يلزم ذكر شروط عقد بيع وإجارة؛ حملا لهما على الصحة (1) .
__________
(1) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 11 \ 277، كشاف القناع عن متن الإقناع 6 \ 346، المغني 12 \ 166.(78/275)
ومتي جهلت الواقعة المؤثرة، ويئس من الوقوف عليها أو شق اعتبارها، كانت كالمعدومة، لا تأثير لها ولو كان الأصل بقاءها، فلو ادعى المدعي بأنه اشترى جزءا مشاعا من عقار حدده ووصفه، ولكنه لم يذكر مقدار هذا الجزء - ثلثا أو ربعا أو أمتارا معلومة مشاعة - فإن هذه الواقعة لا تعتبر حتى يدعي المدعي بجزء معين.
5 - أن تكون الواقعة ممكنة الوقوع:
فلا تكون الواقعة القضائية مؤثرة، إلا إذا كانت ممكنة الوقوع، منفكة عما يكذبها شرعا وعقلا وحسا وعرفا، وغير متناقضة مع أمر سبق صدوره من الخصم ومن في حكمه، أما إذا لم تنفك عما يكذبها من أحد هذه الوجوه، فلا تكون مؤثرة.
فمثال ما كذب شرعا: الدعوى بأكثر من النصيب الشرعي في المسألة الإرثية، كأن تدعي الأخت في مسألة انحصر الوارث فيها في أخت وأخ شقيقين بأن لها النصف، وليس لها إلا الثلث؛ لأن للذكر مثل حظ الأنثيين في مثل هذه الصورة.
ومثال ما كذب عقلا: من يدعي بأن زيدا قتل أباه منذ عشرين عاما، وسن المدعى عليه دونها.(78/276)
ومثال ما كذب حسا: أن يدعي شخص بأن أباه قد قتل، وهو حي مشاهد.
ومثال ما كذب عرفا: أن يدعي بأنه قد استأجر السلطان لحمل حزمة بقل ونحوه.
ومثال ما كانت فيه الدعوى متناقضة مع أمر سبق صدوره من المدعي: أن يدعي على شخص بأنه قتل أباه منفردا، ثم يدعي على آخر بالمشاركة، فلا تسمع الدعوى الثانية، إلا أن يدعي غلطا ممكنا في الأولى، فتسمع الثانية.(78/277)
المطلب الثالث: تنقيح الواقعة القضائية المراد به ووسيلته ومراحله المراد به:
هو تمحيص الوقائع القضائية المختلطة، وتخليصها من الأوصاف والوقائع الطردية التي لا مدخل لها ولا تأثير في تنزيل الحكم على الواقعة والحكم فيها، وتعيين الوقائع والأوصاف المؤثرة في تنزيل الحكم على الواقعة القضائية والحكم فيها (1) .
__________
(1) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \70.(78/277)
فهو الاجتهاد في حذف بعض الوقائع والأوصاف من الوقائع القضائية المدعاة، والتي لا ثمرة في وجودها أو فقدها، وتعيين بعضها لتنزيل الحكم الكلي عليها والحكم القضائي.
وذلك بأن تكون بعض الأوصاف والوقائع لا دخل لها في تنزيل الحكم على الواقعة ولا الحكم فيها، فتحذف حتى تتعين الأوصاف والوقائع المؤثرة في تنزيل الحكم على الواقعة والحكم القضائي، فينظر في إثباتها وتقريرها وتنزيل الحكم عليها.
ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض الأوصاف والوقائع المؤثرة قد يسكت عنها الخصم، فيلزم القاضي الاستفسار عنها حتى تتم صورة الواقعة المؤثرة.
ومن جمع في دعواه بين ما يتعلق به الحكم فيها وبين ما لا يتعلق به ذلك، فلا يعتد بما لا يتعلق به الحكم، بل الاعتداد بما له تعلق بالحكم، فعلى القاضي الاجتهاد في تنقيح الواقعة حتى تكون بعد تنقيحها مهذبة مرتبة، كأنه لم يذكر فيها سوى ما يتعلق به الحكم القضائي (1) .
__________
(1) تأسيس النظر 29.(78/278)
وما قيل في تنقيح الواقعة القضائية ينطبق في الجملة على تنقيح الواقعة الفتوية.
وسيلته:
إن تنقيح الوقائع القضائية لإعمال مؤثرها وحذف وإلغاء طرديها بحيث تكون الواقعة المؤثرة بعد تنقيحها، وكأنه لم يرد فيها سوى الأوصاف والوقائع المؤثرة منقحة مرتبة مهذبة - له وسيلته وهي: التحليل، والمقابلة بين الحكم الكلي الفقهي وبين الوقائع القضائية المختلطة، فيحلل الحكم الكلي الفقهي إلى عناصره الأساس (المعرفات، والحكم) ، وتجري مقابلتها بالوقائع القضائية المختلطة.
فيقوم القاضي بتحديد الحكم الكلي الفقهي الملاقي للواقعة (1) ، سواء كان نصا من الكتاب والسنة، أم كان من كلام أهل العلم، أم اجتهد القاضي في تقريره وتأصيله على نحو ما بينا سابقا في تقرير الحكم الكلي.
ومن المهم الرجوع إلى النص المقرر للحكم الكلي، والتحقق من الشروط المقتضية له من مظانه، وعدم الاعتماد على حفظ القاضي له؛ حتى لا يفوته شيء منه.
وبعد ذلك يقوم القاضي بتحليل معرفات الحكم الكلي الفقهي الموجودة في النص الشرعي، والتي تمثل فروض الحكم الكلي
__________
(1) مزيل الملام عن حكام الأنام 114، درر الحكام شرح مجلة الأحكام 4 \ 602.(78/279)
وعناصره التنظيرية الكلية؛ من السبب والشرط وعدم المانع، ومن ثم يعرض القاضي الواقعة القضائية على هذه الفروض والأوصاف والمعرفات الكلية وصفا وصفا، فما قابل منها المؤثر فهو مؤثر نعتد به، وما خلا من ذلك فهو الطردي الذي يحذف ويلغى (1) ؛وما ذلك إلا لأن الحكم في الواقعة القضائية يتم على مثال الحكم الكلي الفقهي، ومنه يتعرف على الوقائع مؤثرها وطرديها، فعلى القاضي أن يحدد الحكم الكلي، ومن ثم إجراء المقابلة بينه وبين الواقعة المختلطة، فما قابل المؤثر فهو المعتد به، وما عداه فهو الطردي الذي يلغى ويهدر، مع لحظ ما في الوقائع من شروط وتقسيم يقتضيها الحكم الكلي الفقهي (2) .
وهذه الوسيلة - أعني التحليل والمقابلة - كان فقهاؤنا يهدون إليها من رام إجابة لسائل في فتوى ونحوها، يقول الإمام الكرخي (ت: 340هـ) : " إن السائل إذا سأل سؤالا ينبغي للمسئول ألا يجيب على الإطلاق والإرسال، لكن ينظر فيه ويتفكر؛ إنه ينقسم إلى قسم واحد، أو إلى قسمين، أو أقسام، ثم يقابل في كل قسم حرفا فحرفا، ثم يعدل جوابه على ما يخرج إليه السؤال، وهذا الأصل تكثر منفعته؛ لأنه إذا أطلق الكلام فربما كان سريع الانتقاض؛ لأن اللفظ
__________
(1) انظر في طريقة التحليل والتركيب: ضوابط المعرفة 139.
(2) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \ 77.(78/280)
قلما يجري على عمومه " (1) .
وما قيل هنا عن الواقعة القضائية ينطبق في الجملة على الواقعة الفتوية.
مراحله:
إن تنقيح الوقائع يتم في مرحلتين، هما: التنقيح الابتدائي، والتنقيح النهائي، ونبين ذلك فيما يلي:
أولا: التنقيح الابتدائي:
المراد به: تخليص الوقائع القضائية من الوقائع الطردية بإلغائها وإبقاء الوقائع المؤثرة في بداية الدعوى بعد استجواب الطرفين (2) .
والغرض منه: تهيئة الواقعة للنظر في إثباتها بطرق الحكم.
وزمنه: بعد سماع الدعوى والإجابة.
إن الخصمين عند رفع دعواهما للقاضي تكون وقائعهما مختلطة غالبا، مشتملة على المؤثر والطردي من الوقائع، ولا يمكن القاضي السير في القضية إلا بعد تنقيح الوقائع المدعاة بإلغاء طرديها وإبقاء مؤثرها، فعلى القاضي القيام بهذا التنقيح بعد استجواب الطرفين، وتمييز ما اتفقا عليه وما اختلفا فيه، تهيئة للواقعة المؤثرة المختلف فيها للإثبات (3) .
__________
(1) رسالة في الأصول التي عليها مدار فروع الحنفية 172.
(2) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \ 81.
(3) مزيل الملام عن حكام الأنام 113، درر الحكام شرح مجلة الأحكام 4 \ 570، 602.(78/281)
يقول علي حيدر (ت: 1354هـ) : " والقاضي يستمع أولا دعوى المدعي، ويوفق هذه الدعوى على إحدى المسائل الشرعية، فيستوضح القيود والشروط اللازمة المقتضية " (1) .
وفي التنقيح الابتدائي ربما نزلت الدعوى على حكم كلي، ونزلت الإجابة على حكم آخر.
ومما تجدر الإشارة إليه أن التنقيح الابتدائي قد يتغير عند التنقيح النهائي، فتضاف أوصاف مؤثرة، وتلغى أوصاف أخرى ظهرت طرديتها عند تنقيح الوقائع وتهيئتها للحكم.
فتنزيل الحكم على الواقعة ابتداء أشبه بفتوى تصدر من القاضي في هذا المحل، تهيئ الواقعة للإثبات، وللقاضي العدول عنها أو تعديلها عند تنزيل الحكم على الواقعة انتهاء (2) .
ثانيا: التنقيح النهائي:
المراد به: تخليص الوقائع والبينات القضائية بإبقاء مؤثرها وإلغاء طرديها بعد ختام المرافعة.
والغرض منه: تهيئة الواقعة لتنزيل الحكم الكلي عليها والفصل فيها (3) .
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 4 \ 602.
(2) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \ 82.
(3) المرجع السابق.(78/282)
وزمنه: بعد ختام المرافعة بانتهاء استجواب الطرفين، وسماع دفوعهما وبيناتهما، والإعذار إليهما، أو تعجيزهما.
فالقاضي بعد فراغه من سماع المرافعة يكون لديه وقائع من أقوال الخصوم ودفوعهم، ومن البينات وما يتعلق بها، ولا يمكنه الحكم في الواقعة إلا بعد تهيئة وقائعها المؤثرة مهذبة مرتبة كأنه لم يذكر معها سواها (1) ، ولا يكون ذلك إلا بالتنقيح.
وهذا التنقيح هو المعتد به عند الحكم القضائي، ويأتي على التنقيح الابتدائي بالتعديل والإكمال.
تنبيه:
تنقيح الواقعة الفتوية يتم على مرحلة واحدة فقط تعد نهائية في الفتوى؛ لأن الواقعة الفتوية لا تحتاج إلى الإثبات.
__________
(1) البهجة في شرح التحفة 1 \ 36، مزيل الملام عن حكام الأنام 115.(78/283)
المطلب الرابع: إثبات الواقعة القضائية.
المراد به: إقامة الدليل لدى القاضي على الواقعة المؤثرة في الحكم القضائي بالطرق التي قررها الشرع (1) .
طرق إثبات الواقعة القضائية:
المراد بطرق إثبات الواقعة القضائية: البينة الشرعية، وهي كل ما أبان الحق وأظهره عند المنازعة لدى القاضي، بأي دليل كان مما شهد الشرع لأصله.
فطرق الإثبات غير محصورة، بل كل ما أبان الحق وأظهره مما شهد الشرع لأصله، فإن القاضي يأخذ به لإثبات الوقائع، سواء كان ذلك إقرارا، أم كتابة، أم شهادة، أم يمينا، أم نكولا، أم قرينة، أم غيرها من طرق الحكم والإثبات التي تبين الحق وتظهره، سواء مما تقرر بالكتاب والسنة، أم استنبط العلماء مشروعيته منهما، سواء مما تقرر بالكتاب والسنة، أم استنبط العلماء مشروعيته منهما، أم جد من طرق ووسائل الإثبات والحكم مما شهد الشرع لأصله، كتحليل الدم، وبعض وسائل كشف الجريمة التي استجدت وغيرها، فإن طرق الحكم هي من أدلة وقوع معرفات الأحكام والتي لا تنحصر.
__________
(1) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \ 91.(78/284)
المطلب الخامس: تفسير الواقعة القضائية.
المراد بتفسير الواقعة القضائية:
المراد بلفظ (التفسير) في اللغة: الكشف، والبيان، والإيضاح (1) .
والمراد بتفسير الواقعة القضائية هنا: بيان معاني ودلالات الأقوال والأفعال، والسكوت والأحوال الواقعة في التصرفات، والواردة في الدعوى والإجابة، وطرق الحكم والإثبات من الشهادة ونحوها من الأوصاف والوقائع المؤثرة في الحكم القضائي (2) .
أهمية تفسير الواقعة القضائية ومشروعيته:
لا بد لكل واقعة قضائية من تصورها، وتنقيحها، وبيان تأثيرها، وثبوتها بطرق الحكم، وبيان وجه الدلالة منها وانتفاء معارضها، وكل ذلك لا يتحقق إلا بعد تفسيرها، وفهمهما بالطرق المقررة (3) .
وما ذلك إلا لأنه كما يقول القرطبي (ت 671هـ) : " الأحكام تختلف باختلاف العبارات، والدعاوى، والإقرارات، والشهادات، والشروط التي تتضمن حقوق المحكوم له " (4) .
__________
(1) مقاييس اللغة 5 \ 504، مختار الصحاح 503، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير 2 \ 472.
(2) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \ 141.
(3) فتاوى السبكي 2 \ 122، 123، شرح عماد الرضا ببيان أدب القضا 1 \ 59.
(4) الجامع لأحكام القرآن 15 \ 180.(78/285)
والمكلف وهو يتكلم بأمر أو نهي أو إقرار أو عقد، قد يطلق الكلام ولا يقيده أو يفسره، بل إن تفييده أحيانا يعد إعياء في الكلام، فيتعين على من ينفذ كلامه أو يحاكمه فيه أن يحمله على وجوه تفسير الكلام المقررة، يقول ابن مفلح (ت: 763هـ) : " ومن قصد بيان تعليق الحكم بالوصف، رتبه عليه، ولم يتعرض لجميع شروطه وموانعه (1) ؛ لأنه عسر؛ إذ القصد بيان اقتضاء السبب للحكم، فلو قال: اعط هذا للفقراء أو نحوهم، استأذنه في عدوه وفاسق، ولو قال: إلا أن يكون أحدهم كذا وكذا، عد لكنه وعيا، وكذا قول الطبيب: اشربه للإسهال، فعرض له ضعف شديد أو إسهال. . . ذكر ذلك شيخنا (يعني ابن تيمية) (2) .
ففهم الواقعة وتفسيرها أمر لا بد منه للحكم القضائي، وقد أثنى الله - عز وجل - على سليمان - عليه السلام - لفهمه الواقعة ووجه الحكم فيها، كما في قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} (3) {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (4) .
فثناء الله - عز وجل - على سليمان - عليه السلام -
__________
(1) في الأصل: '' ومواثقه ''، والتصويب اقتضاه السياق.
(2) الفروع 4 \ 376.
(3) سورة الأنبياء الآية 78
(4) سورة الأنبياء الآية 79(78/286)
لفهمه الواقعة ووجهه الحكم فيها (1) يؤكد أهمية تفسير الواقعة وتصورها للحكم فيها.
كما أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على خالد بن الوليد - رضي الله عنه - قتله لبعض بني جذيمة؛ لعدم استفساره لهم عن مرادهم من كلمة مشكلة أطلقوها، فعن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: «بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر. . . حتى قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرناه، فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه، فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، مرتين (2) » فقد حمل خالد - رضي الله عنه - معنى قولهم: " صبأنا " على خروجهم من دين إلى دين غير الإسلام، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليه الأخذ بهذا الظاهر قبل الاستفسار عن المراد به (3) ، قال ابن حجر (ت: 852 هـ) : قوله: «اللهم إني
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 3 \ 270، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام 1 \ 2.
(2) أخرجه البخاري 4 \ 1577، كتاب المغازي، باب بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، 6 \ 2628، كتاب الأحكام، باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8 \ 56، 13 \ 181.(78/287)
أبرأ إليك مما صنع خالد (1) » يعني من قتله الذين قالوا: " صبأنا " قبل أن يستفسرهم عن مرادهم بذلك القول "، فدل على أنه لا بد من تفسير الواقعة وفهمها قبل الحكم فيها.
وقد أوصى عمر - رضي الله عنه - القضاة بفهم الواقعة وتفسيرها في كتابه الذي بعثه إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - فقال: " فافهم إذا أدلى إليك "، وقال: " الفهم الفهم
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4339) ، سنن النسائي آداب القضاة (5405) ، مسند أحمد (2/151) .(78/288)
فيما يختلج في صدرك " (1) .
فلا بد لفهم الواقعة وتصورها من تفسيرها، فالمطلوب من الحاكم كما يقول ابن القيم (ت: 751 هـ) : " أن يعلم ما يقع، ثم يحكم فيه بما يجب " (2) .
وقد ذكر الفقهاء جملة من الآداب للقاضي تعود لفهم الواقعة وتصورها وتفسيرها، من ذلك: كون القاضي عارفا بلغة ولهجات البلد التي يلي الحكم فيها (3) ، يقول ابن المناصف (ت: 620هـ) في شروط الكمال في القاضي: " أن يكون عارفا بما لا بد منه من
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين 1 \ 105.
(3) دقائق أولي النهى لشرح المنتهى 3 \ 468، المجموع شرح المذهب 1 \ 82.(78/289)
العربية، واختلاف المعاني للعبارات، فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات في نحو الإقرار والدعوى والشهادات. . " (1) .
الوسائل الدالة على الإرادة:
القصد والإرادة عماد التصرفات والالتزامات التي يجريها المكلف، ولكن القصد والإرادة مكنونة لا تظهر بنفسها، بل لا بد لها من وسيلة تبرزها وتدل عليها، والوسائل الدالة على الإرادة ثلاث، هي: اللفظ، والفعل، والسكوت.
فهذه هي الوسائل الدالة على الإرادة، وما عداها فهو يعود لها، فالكتابة تعود للفظ، والإشارة تعود للفعل (2) .
يقول ابن القيم (ت: 751هـ) : " فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو إيماءة، أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطردة لا يخل بها " (3) .
الأصل في تفسير لفظ المكلف:
الأصل أن ما يجري على تفسير النصوص الشرعية من أصول
__________
(1) تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام 34.
(2) السكوت ودلالته على الأحكام الشرعية 251.
(3) إعلام الموقعين عن رب العالمين 1 \ 218، وانظر في المعنى نفسه: أحكام أهل الذمة 1 \ 308.(78/290)
وقواعد يجري في الجملة على تفسير كلام المكلف في تصرفاته، وإقراراته، ودعاواه، ودفوعه، وبيناته، ففيها الواضح من نص وظاهر، وفيها المجمل الذي يلزم تفسيره وبيانه بطرقه المقررة، وفيها المؤول الذي يصرف عن ظاهره بدليل راج، وفيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، وما دلالته منطوق، ومفهوم موافقة أو مخالفة، وفيها ما يقع فيه التعارض.
وللقرائن الحالية والمقالية والأعراف في الدلالة على الكلام وغيرها أثر كبير في تفسير الوقائع ودفع التعارض. (1) .
وثم اختلاف في بعض ذلك بين دلالتها في نصوص الشرع وكلام المكلفين استدعاه أن كلام الشارع نحتاج إلى تعديته من واقعة منصوص عليها إلى غيرها لتقرير حكمها.
أما كلام المكلف فإنما جعل للكشف عن إرادته وتصرفاته، ولا يستدعي الأمر تعديته، بل الأصل قصره، والاحتياط للمكلف بعدم إلزامه بدلالة لم يظهر ما يدل على التزامه بها، قال المارودي (ت: 450هـ) : " أحكام الشرع يجمع فيها بين اعتبار الأسامي والمعاني، وأحكام الإيمان معتبرة بالأسامي دون المعاني؛ لأن الضرورة دعت في المسكوت عنه في أحكام الشرع إلى اعتبار المعاني وتجاوز الأسامي، ولم تدع الضرورة في الأيمان إلى اعتبار
__________
(1) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \ 152.(78/291)
المعاني، فوقفت على اعتبار الأسامي ".
وما يقال في تفسير الواقعة القضائية ينطبق في الجملة على تفسير الواقعة الفتوية.(78/292)
المبحث الثالث: أصول تنزيل الأحكام على الوقائع، وفيه تمهيد، وخمسة مطالب:
التمهيد: المراد بأصول تنزيل الأحكام على الوقائع وبيان ثمرتها.
المراد بأصول تنزيل الأحكام على الوقائع:
هي طائفة من القواعد والضوابط تعين القاضي وكذا المفتي على تحديد الحكم الكلي الملاقي للدعوى، وتنزيله على الواقعة (1) .
فهي أمور كلية يقصد بها ضبط الاجتهاد القضائي والفتوي ببيان الطريقة التي يكون بها إجراء الحكم الكلي على محله من الوقائع مراعيا خصوصية كل واقعة وما يحف بها من أحوال ومقتضيات تؤثر في ضبط تنزيله على الواقعة وتقريره، وقد تقتضي هذه الأصول زيادة قيد في الحكم الكلي، أو حذفه، أو الانتقال من حكم كلي إلى آخر أكثر ملاءمة لحل النزاع (2) .
__________
(1) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية ''.
(2) المرجع السابق.(78/292)
ثمرة أصول تنزيل الأحكام على الوقائع:
تظهر ثمرة أصول تنزيل الأحكام على الوقائع في أنها تعين القاضي على تحديد الحكم الكلي الملاقي للدعوى، وذلك بتمييزه من عدة أحكام مشابهة له أو متداخلة معه، أو باستنباطه بالاجتهاد.
كما تعين على ضبط تنزيل الأحكام على الوقائع الذي يجري تقريره بإجراء الحكم الكلي على محله من الوقائع، فتعين بذلك على تحديد نطاق تطبيق الحكم الكلي على الوقائع.
كما أن تلك الأصول التي سوف يأتي ذكرها تعد قواعد مشتركة في تفسير الأحكام الكلية والوقائع القضائية والفتوية.
وأصول تنزيل الأحكام على الوقائع هي كالتالي:
1 - النظر في المآلات عند تنزيل الأحكام على الوقائع.
2 - مراعاة مقصد الشرع وحكمة التشريع.
3 - مراعاة الفروق بين الوقائع والأشخاص.
4 - مراعاة الضرورات والحاجات.
5 - مراعاة درء الحدود والقصاص بالشبهات.
وسوف نتحدث عن كل أصل في مطلب مما يلي:(78/293)
المطلب الأول: الأصل الأول: النظر في المآلات عند تنزيل الأحكام على الوقائع.
النظر في مآلات الأفعال (الوقائع) مأمورا بها أو منهيا عنها أمر لا بد منه عند تنزيل الحكم عليها والفصل فيها، فهو مقصود شرعا.
فإذا كان الفعل يؤدي إلى أمر غير محمود شرعا منع على المكلف وإن كان في أصله جائزا أو واجبا.
فقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل المنافقين مع علمه بهم، وذلك حتى كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه (1) » .
ومراعاة هذا الأصل - أعني النظر في المآلات - عند تنزيل الأحكام الكلية على الوقائع معدود من صفات أهل الرسوخ في العلم، يقول الشاطبي في بيان صفة العالم الراسخ: " إنه ناظر في المآلات قبل الجواب على السؤالات " (2) .
__________
(1) متفق عليه واللفظ لهما، فقد أخرجه البخاري 4 \ 1861، كتاب التفسير باب قوله: (سوآء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) ، 4 \ 1863، باب قوله: (لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) ، 3 \ 1296، كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية، ومسلم 4 \ 1998، 1999، كتاب البر والصلة، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما.
(2) الموافقات في أصول الشريعة 4 \ 232.(78/294)
فالقاضي - بل والمفتي - وهو يقوم بتنزيل الحكم على الواقعة لا بد له من التبصر في ذلك بأن يقدر عواقب ما يقرره ناظرا إلى أثره أو آثاره، فإن لم يفعل كان عمله خطأ مضيعا للحقوق، أدخله في الشرع اعتمادا منه على تأويل ظهر له لم يلتفت فيه إلى عواقبه ومآلاته.
يقول ابن القيم (ت: 751هـ) : " فالحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات، ودلائل الحال، ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحالية والمقالية، كفقهه في كليات الأحكام - أضاع حقوقا كثيرة على أصحابها، وحكم بما يعلم الناس بطلانه، لا يشكون فيه اعتمادا منه على نوع ظاهر لم يلتفت إلى باطنه وقرائن أحواله " (1) .
فعلى القاضي - وكذا المفتي - وهو يقوم بتنزيل الأوصاف الكائنة في الحكم الكلي عليها أن ينظر نظرا خاصا في الحكم الذي حدده لتطبيقه على الواقعة، ولا يقطع نظره عن النظر في مآل الواقعة لو طبق عليها ذلك الحكم الكلي، بل عليه مراعاة مآل الواقعة، فإن ظهر له عدم المواءمة بين الحكم الكلي ومآله على الواقعة، أعاد النظر
__________
(1) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية 4.(78/295)
مرة أخرى في ملاقاة الحكم للواقعة، وطلب غيره مما يكون أقعد بمراعاة مآلها، أو أضاف على الحكم، أو حذف منه من القيود ما يحقق النظر في ذلك المآل طلبا أو منعا.
وإن رأى المواءمة بينهما طبقة على الواقعة وحكم وألزم، يقول الشاطبي (ت: 790 هـ) : " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ " (1) .
إن على القاضي - وكذا المفتي - وهو يقوم بتنزيل الأحكام الكلية المجردة على الوقائع أن يلحظ ظروف وأحوال وملابسات ومآلات الواقعة وآثارها، فيعمل على المواءمة بين مقتضيات الحكم الكلي مجردا وبين الواقعة لاحظا ما ذكرنا.
ومن صور ذلك أن الحكم إذا كان يؤدي في مآله إلى الفتنة والفساد على الدين أو الأمة فإن القاضي يتوقى ذلك المآل بالقيود الدافعة له زيادة أو نقصا، أو يعدل عنه إلى حكم آخر، يقول ابن تيمية (ت: 728هـ) في الرد على الذين أنكروا عليه الفتيا في
__________
(1) الموافقات في أصول الشريعة 4 \ 194.(78/296)
بعض المسائل وقرروا حبسه إذا لم يمتنع عن ذلك: " إن هذه الأحكام مع أنها باطلة بالإجماع فإنها مثيرة للفتن، مفرقة بين قلوب الأمة، متضمنة للعدوان على المسلمين، والحكم بما أنزل الله فيه صلاح الدنيا الآخرة، والحكم بغير ما أنزل الله فيه فساد الدنيا والآخرة، فيجب نقضه بالإجماع " (1) .
ولا يعني النظر في المآلات عند الحكم والفتيا أن القاضي أو المفتي يعمل استحسانه العقلي مجردا من النصوص الشرعية وأصول الشريعة، فمن فعل ذلك فهو متشه قد رد الناس إلى هواه، وجعل طلب غير الشريعة مبتغاه، وكان آثما مأزورا غير مأجور (2) ، يقول ابن تيمية (ت: 728هـ) : " فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر، فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرها " (3) .
ويقول الجويني (ت: 478هـ) : " من ظن أن الشريعة تتلقى من استصلاح العقلاء ومقتضى رأي الحكماء، فقد رد الشريعة، واتخذ كلامه هذا إلى رد الشرائع ذريعة " (4) .
والمعتد به في المآلات ما شهد له الشرع طلبا أو منعا
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28 \ 302.
(2) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \ 310.
(3) منهاج السنة النبوية 5 \ 130، مجموعة التوحيد - الرسالة الثانية عشرة 59.
(4) غياث الأمم في التياث الظلم 220.(78/297)
بنصوص الشريعة وأصولها حسب المسالك الشرعية (1) .
__________
(1) انظر مسالك النظر في المآلات في كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \ 311.(78/298)
المطلب الثاني: الأصل الثاني: مراعاة مقصد الشرع وحكمة التشريع.
إن القاضي والمفتي وهما يقومان بتنزيل الحكم على الواقعة عليهما مراعاة مقاصد الشرع وحكمته، فالشرع له مقاصد في الأحكام، سواء كانت هذه المقاصد عامة أم خاصة أم جزئية، وإذا كانت معرفة مقاصد الشرع في مجال تفسير الأحكام الكلية من الأهمية بمكان، فإن معرفتها عند تنزيل الأحكام على الوقائع لا يقل أهمية عن ذلك، فهي تعين القاضي - وكذا المفتي - على تحديد وصف الواقعة ابتداء، كما ترجح بعضها على بعض عند تعدد الاحتمالات فيها، ذلك أن تنزيل الحكم الكلي على الأعيان والوقائع مشخصة يتطلب نظرا خاصا يراعى فيه خصوصية الواقعة بأحوالها وظروفها وملابساتها، ومقاصد الشريعة وحكمتها من وراء ذلك تحوطه وتوجهه، فتعين على معرفة قبول المحل للحكم الكلي، أو عدم قبوله لذلك (1) .
يقول ابن القيم (ت: 751هـ) : " الشريعة مبناها وأساسها
__________
(1) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \ 318.(78/298)
على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل " (1) .
فالمنافع والمضار التي تبنى عليها مقاصد الشرع وحكمته إضافية، بمعنى أنها منافع أو مضار في حال دون حل ولشخص دون شخص، أو في وقت دون وقت، فمعرفة مقاصد الشرع وحكمته في الواقعة مما يرجح احتمالا على آخر في التفسير، وقولا على آخر عند الاختلاف، وهو مما يعين على تنزيل الحكم على الواقعة.
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين 3 \ 3.(78/299)
المطلب الثالث: الأصل الثالث: مراعاة الفروق بين الوقائع والأشخاص.
إن القاضي والمفتي وهما يقومان بتنزيل الأحكام على الوقائع(78/299)
لا بد لهما من النظر في خصوصيات الوقائع والأشخاص، وما بينهما من فروق مؤثرة وأوصاف مقررة.
فقد يكون للشخص المتقاضي من مدع أو مدعى عليه أو للواقعة المتنازع فيها أو لواقعة الفتوى خاصية تستدعي حكما لا يطبق على نظائرها؛ لوجود وصف مؤثر متعلق بالشخص أو الواقعة استدعى المغايرة في الحكم.
يدل على ذلك ما رواه سعيد بن سعد بن عبادة قال: «كان بين أبياتنا إنسان مخدج ضعيف لم يرع أهل الدار إلا وهو على أمة من إماء الدار يخبث بها وكان ومسلما، فرفع شأنه سعد إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: اضربوه حده، قالوا: يا رسول الله، إنه أضعف من ذلك، إن ضربناه مائة قتلناه، قال: فخذوا عثكالا فيه مائة شمراخ، فاضربوه به ضربة واحدة وخلوا سبيله (1) » .
__________
(1) أخرجه أحمد واللفظ له 5 \ 222، والنسائي في السنن الكبرى 4 \ 313، كتاب الرجم، ذكر الاختلاف على يعقوب بن عبد الله بن الأشج فيه، وابن ماجه 2 \ 859، كتاب الحدود، باب الكبير والمريض يجب عليه الحد والبيهقي 8 \ 230، كتاب الحدود، باب الضرير في خلقته لا من مرض يصيب الحد، والطبراني في الكبير 6 \ 63، وفي النسائي طرق أخرى مرسلة عن أبي أمامة بن سهل، كما أخرجه أبو داود عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم 4 \ 161، قال ابن حجر في بلوغ المرام من أدلة الأحكام 214: '' وإسناده حسن، ولكن اختلف في وصله وإرساله ''.(78/300)
ففي ضرب هذا الرجل بعثكال فيه مائة شمراخ بدلا من مائة سوط مفرقة مراعاة لضعفه؛ لأنه لا يطيق الجلد بالسوط مفرقا، كما يضرب غيره من الأصحاء؛ لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (1) .
كما يدل على مراعاة خصوصيات الأشخاص والأعيان ما رواه أبو ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم (2) » ، فقد خص النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا ذر - رضي الله عنه - بهذا الحكم، وهو نهيه عن الإمارة ولو على اثنين، وعن ولايته على مال اليتيم؛ لأن أبا ذر رجل ضعيف لا يصلح للقيام بمثل هذه الأعمال، مع أن الأصل ترغيب عموم الناس في القيام بهذه الأعمال لحاجة الناس إليها، بل لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه يرغب فيها، فقد رغب في الحكم والقضاء بين الناس في أحاديث متعددة، منها ما حدث به عبد الله بن مسعود - رضي
__________
(1) سورة النور الآية 2
(2) أخرجه مسلم 3 \ 1457، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة.(78/301)
الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالا، فسلطه على هلكته في الحق، وآخر أتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها (1) » .
كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرغب في كفالة اليتيم، ومن ذلك ما حدث به سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا (2) » .
وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا ذر عن تلك الولايات
__________
(1) متفق عليه واللفظ لهما، فقد أخرجه البخاري 1 \ 39، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، 2 \ 510، كتاب الزكاة، باب إنفاق المال في حقه، 4 \ 1919، كتاب فضائل القرآن، باب اغتباط صاحب القرآن 6 \ 2612، كتاب الأحكام، باب أجر من قضى بالحكمة، 6 \ 2643، كتاب التمني، باب تمني القرآن والعلم، 6 \ 2668، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما جاء في اجتهاد القضاء بما أنزل الله، 6 \ 2737، كتاب التوحيد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: '' رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي فلان فعلت كما يفعل ''، ومسلم 1 \ 558، 559، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعملها.
(2) متفق عليه، فقد أخرجه البخاري واللفظ له 5 \ 2032، كتاب الطلاق، باب اللعان، 5 \ 2237، كتاب الأدب، باب فضل من يعول يتيما ومسلم 4 \ 2287، كتاب الزهد والرقائق، باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم.(78/302)
مع عظيم دينه وفضله؛ لما رأى به من الصفات التي لا تمكنه من القيام بها (1) .
فمراعاة خصوصيات الوقائع والأشخاص أمر مقرر في القضاء والفتيا، يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1258هـ) : " القصد من التشريع والأوامر تحصيل المصالح ودرء المفاسد حسب الإمكان، وقد لا يمكن إلا مع ارتكاب أخف الضررين، أو تفويت أدنى المصلحتين، واعتبار الأشخاص والأزمان والأحوال أصل كبير، فمن أهمله وضيعه فجنايته على الناس وعلى الشرع أعظم جناية ".
__________
(1) الموافقات في أصول الشريعة 4 \ 100، 101.(78/303)
المطلب الرابع: الأصل الرابع: مراعاة الضرورات والحاجات.
المراد بالضرورة ومعنى مراعاتها عند تنزيل الحكم على الواقعة:
المراد بالضرورة: ما يطرأ على الإنسان مما في ترك مراعاته هلاك أو ضرر شديد يلحق الضروريات الخمس من الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال.(78/303)
وسواء كانت الضرورة في الغذاء، أم الدواء، أم الانتفاع بمال الغير، أم القيام بالفعل تحت تأثير الإكراه، أم الدفاع عن النفس ونحوها، أم ترك الواجبات الشرعية المفروضة (1) .
فكل ذلك حالات استثنائية تسوغ للمكلف ترك الأحكام الجزئية المقررة لعموم المكلفين نصا أو استباطا، ليدخل بحسب ما طرأ عليه في العمل بالأحكام الجزئية المقررة للضرورة.
فالمكلف ينتقل من الوجوب أو الحرمة إلى الإباحة، أو من الإباحة إلى الوجوب أو الحرمة، أو من الحرمة إلى الإباحة أو الوجوب، أو إلى تأخير الواجب من أمر ونهي عن وقته ودفعا للضرورة في غالب ظنه (2) .
والمكلف عند مراعاة الضرورة انتقل من مناط إلى مناط آخر، ولا يعد ذلك خرقا للتشريع ولا خروجا عن أحكام الشرع؛ لأن أصول الشريعة اقتضت له حكما قبل الضرورة، كما اقتضت له حكما آخر بعد الضرورة، وإنما معنى مراعاة الضرورة أنه إذا طرأت الضرورة انفردت من كليات جنسها، ولحقت بحكم جزئي خاص بها وما ماثلها، فالأحكام ثابتة قارة تتبع أسبابها حيث
__________
(1) نظرية الضرورة الشرعية للزحيلي 18بتصرف.
(2) المرجع السابق.(78/304)
كانت، والمكلف ينتقل من مناط إلى مناط، ولا غرو في تبعية الأحكام للأحوال؛ لأن الحظر والإباحة صفات أحكام لا صفات أعيان.
ويدل على أصل مشروعية الضرورة قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) ، فقد استثنى الله - عز وجل - ما اضطر إليه الإنسان من طعام، فأجاز أكله وإن كان لا يحل له حال الاختيار.
الحاجة تراعى كالضرورة:
المراد بالحاجة: ما يطرأ على الإنسان مما في ترك مراعاته مشقة وحرج شديد خارج عن المعتاد في الضروريات الخمس، وإن لم يبلغ درجة الضرورة.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119(78/305)
وفرق بعض العلماء بين الحاجة والضرورة، فقال: إن الضرورة لا يستغنى عنها، والحاجة يمكن الاستغناء عنها (1) .
والحاجة تراعى سواء كان ذلك في العبادات أم في المعاملات أم في الجنايات، فما كان على تلك الصفة فهو ملحق بالضرورة؛ ولذا قال العلماء: الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة.
ومما يجدر التنبيه عليه أن أغلب الفقهاء يستعملون كثيرا مصطلح (الضرورة) مكان مصطلح (الحاجة) ، ولا مشاحة في الاصطلاح إذا ظهر المراد.
__________
(1) الفواكه العديدة في المسائل المفيدة 1 \ 43.(78/306)
المطلب الخامس: الأصل الخامس: مراعاة درء الحدود والقصاص بالشبهات.
هذا أصل عظيم عند تنزيل الأحكام على الأقضية الجنائية من(78/306)
الحدود والقصاص.
المراد بدرء الحدود والقصاص بالشبهات:
هو دفع وإسقاط العقوبة الحدية أو القصاص لقيام الشبهة القوية (1) .
الشبهة المؤثرة في درء الحدود والقصاص:
الشبهة المؤثرة في الدرء: هي الشبهة القوية المحتملة، لا مطلق الشبهة.
فالشبهة المؤثرة: هي التي تشبه الثابت وليس بثابت، أي: تشبه الحقيقة الثابتة بأن تكون قوية.
أو: هي وجود المبيح صورة مع انعدام حكمه أو حقيقته (2) ، وذلك كمن وطأ امرأة أجنبية يظنها زوجته.
فقد وجد المبيح صورة في ظن الواطئ، وهو عقد الزوجية الذي هو سبب النكاح، فإذا لم يثبت حكمه وهو الإباحة بقيت صورته شبهة دارئة للحد.
ودرء الحدود بالشبهات مجمع عليه بين الفقهاء.
__________
(1) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \ 351.
(2) المغني 10 \ 152، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي 1 \ 209.(78/307)
ومما تجدر الإشارة إليه أن التعزير لا يسقط بالشبهة، بل يثبت معها، لكن ثم مبدأ آخر يطبق على عقوبة التعزير، وهو أن العفو عن العقوبة مقدم على إثباتها، وذلك إذا قام مقتضيه، كأن تكون البينات غير كافية في إيجاب التعزير ونحو ذلك، فإنه لا عقوبة إلا بحجة (1) ، يقول ابن تيمية (ت: 728هـ) : " فإذا دار الأمر بين أن يخطئ فيعاقب بريئا أو يخطئ فيعفو عن مذنب، كان هذا الخطأ خير الخطأين، أما إذا حصل عنده علم أنه لم يعاقب إلا مذنبا، فإنه لا يندم، ولا يكون فيه خطأ " (2) .
القصاص يدرأ بالشبهة كالحدود:
القصاص يدرأ بالشبهة كالحدود، سواء كانت الشبهة في الفاعل كمن قتل قاتل مورثه وقد عفا أحد الورثة وهو لا يعلم بالعفو، فلا قصاص عليه، أم كانت الشبهة في المحل وذلك كأن يشهد الشهود على رجل بالقتل، ثم يرجعون عن ذلك فلا يقتص من المشهود عليه، أم كانت الشبهة باختلاف العلماء وذلك كأن
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين 2 \ 119.
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 15 \ 308.(78/308)
يقتل ولي الدم ممسك وليه حتى قتل، فإن الولي الذي قتل القاتل لا يقاد؛ لأن له شبهة في مثله وهي اختلاف العلماء، فقد قال بعضهم بقتل الممسك.
فعلى القاضي عند تنزيل الحكم على الواقعة في الحدود والقصاص مراعاة الشبهة المؤثرة في ذلك، سواء كانت في الفاعل أم المحل أم المدرك باختلاف العلماء، أم في تفسير إقرار المكلف ونحوه.(78/309)
المبحث الرابع: وسائل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية وطريقة تقريره، ومراحله، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: وسائل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية.
المراد بوسائل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية:
هي الطرق التي يستعين بها القاضي في تنزيل الأوصاف الكائنة في الحكم الكلي على الواقعة القضائية (1) .
ولتنزيل الأحكام على الوقائع وسيلتان، هما:
أ - القياس القضائي:
والمراد به: الاجتهاد في إدخال الواقعة الجزئية القضائية في الحكم الكلي الفقهي بواسطة القياس المنطقي لاشتراكهما في
__________
(1) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \ 361.(78/309)
الأوصاف المؤثرة.
حدود القياس القضائي:
هذا القياس القضائي كالقياس المنطقي له أربعة حدود، هي المقدمة الكبرى، والمقدمة الصغرى، والحد الأوسط، والنتيجة.
فمقدمته الكبرى: هي الحكم الكلي الفقهي المفسر، سواء كان مقررا، أم اجتهد القاضي في تقريره.
ومقدمته الصغرى: هي الواقعة القضائية المؤثرة المنقحة الثابتة المفسرة، الخالية من موانع الحكم.
وحده الأوسط: هو الأوصاف المؤثرة المشتركة في الواقعة القضائية والحكم الكلي.
والنتيجة: هي الحكم القضائي الذي تبينه وتوضحه أسباب الحكم (1) .
وقد أشار ابن القيم (ت: 751هـ) إلى هذا، فهو يقول: " الحاكم محتاج إلى ثلاثة أشياء لا يصح له الحكم إلا بها: معرفة الأدلة، والأسباب، والبينات " (2) .
فالأدلة تبين الحكم الكلي الفقهي، والبينات تثبت الوقائع
__________
(1) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \ 366.
(2) بدائع الفوائد: 4 \ 12.(78/310)
القضائية، والأسباب هي الأوصاف المؤثرة التي تعرف القاضي انطباق الحكم الكلي على الواقعة القضائية، أو انتفاءه عنها (1) .
ب - الاجتهاد المباشر:
والمراد به: تقرير القاضي تنزيل الحكم على الواقعة المؤثرة المنقحة بالحكم الكلي من غير التزام بشكل القياس المار ذكره سابقا.
وهذه كانت طريقة الصدر الأول من الصحابة؛ إذ كان أحدهم يقرر الحكم في الواقعة بناء على الأدلة والبراهين والحجج من غير التزام بشكل القياس، ولا قصد لموافقته أو مخالفته.
وهذه الطريقة وإن ساغ للقاضي سلوكها إذا ساق من الأدلة ما يؤيده، إلا أن الالتزام بالطريقة الأولى (القياس القضائي) مما يساعد على تنظيم التفكير القضائي، ويسهل على القاضي عمله ويسدد اجتهاده، ويكون أقرب لصوابه وأسرع لاجتهاده (2) .
وما قيل هنا في وسائل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية ينطبق على الوقائع الفتوية في الجملة.
__________
(1) المرجع السابق.
(2) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي 1 \ 84.(78/311)
المطلب الثاني: طريقة تقرير تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية.
طريقة تقرير تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية:
إن القاضي بعد أن يسمع الدعوى والإجابة ودفوع الطرفين،(78/311)
ويحدد الأوصاف المؤثرة ابتداء، وينقحها باستبعاد طرديها وإبقاء مؤثرها، وينزل الحكم على الواقعة تنزيلا أوليا، ويحدد ما اتفق عليه الخصمان، وما اختلفا فيه، ويسمع البينة من شهادة ونكول وغيرها طبق الأصل المقررة، فإنه يقوم بدراسة ذلك جميعه، ويمحص البينة مطرحا ما لا يوصل منها، ومبقيا ما يوصل منها كدليل مستقل أو قرينة قوية في جانب أحد الخصمين، ويقرر ويستنبط الأوصاف المؤثرة من الوقائع والبينات مراعيا أصول تفسير الوقائع التي سلفت ومؤثر الأوصاف، ومستبعدا وملغيا طرديها، مستعينا بتحليل الحكم الكلي إلى المعرفات والحكم مقابلا بين المعرفات وبين الوقائع وصفا وصفا، وذلك بعد بيانهما وتفسيرهما بالطرق والأصول المقررة المار ذكرها، ومراعيا لذلك أصول تنزيل الحكم على الواقعة السالفة، والقاضي بهذه الخطوات يعد الواقعة ويهيئها لتنزيل الحكم عليها.
وبعد تهيئة الواقعة منقحة مفسرة في صياغة واضحة كأنه لم يذكر فيها سوى الأوصاف والوقائع المؤثرة مهذبة مرتبة، فإن القاضي يجري تنزيل الحكم على الواقعة بوساطة القياس القضائي، مقدمته الكبرى: الحكم الكلي الفقهي مبينا مفسرا، ومقدمته الصغرى: الوقائع القضائية المنقحة المفسرة مهذبة مرتبة مهيئة لتنزيل الحكم عليها، فإذا تطابقت المقدمتان في حدهما الأوسط، وهو الأوصاف المشتركة المؤثرة في الحكم، صارت النتيجة: اتصاف الوقائع بالحكم(78/312)
الكلي الفقهي، وهذا هو المطلوب.
وما قيل هنا ينطبق في الجملة على الوقائع الفتوية.(78/313)
المطلب الثالث: مراحل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية.
مدخل:
إن القاضي وهو يقوم بتنزيل الحكم على الواقعة يخطو خطوات متوالية من مرحلة إلى أخرى، حتى ينتهي إلى تنزيل الحكم على الواقعة وتقرير حكمها القضائي، كما يفعل الطبيب في فحص مريضه ووصف الدواء له، فهو يبدأ بفحص المريض، فيقوم بفحصه فحصا ابتدائيا بالاستماع إلى شكواه، والاستفسار عن أعراض مرضه، ثم فحصا سريريا بالفحص الحسي على المريض، وذلك بإرشاده إلى الجلوس على السرير ووضع الطبيب يده أو أصابعه على موضع الشكوى، أو أي مكان آخر من جسم الإنسان يساعد على تشخيصه، ونحو ذلك مما يساعد على كشف المرض سريريا، ثم إذا لم تجد هذه الطريقة في الكشف عن أعراض المرض، أو احتاج الطبيب إلى زيادة التثبت من الأعراض انتقل إلى الفحص التكميلي بواسطة الأجهزة والآلات الحديثة المتطورة، كالأشعة والمناظير الطبية(78/313)
بأنواعها، والتحاليل للدم وغيره.
ثم ينتقل بعد ذلك إلى تشخيص المرض، فيقوم بدراسة الفحوص التي أجراها، والتقارير التي أعدها المحللون؛ ليحدد ويقرر من خلالها تشخيص الداء مستعينا في ذلك بالمشاورة الطبية عند الاقتضاء.
ثم بعد ذلك ينتقل إلى تقرير العلاج سواء كان دواء أم عملية جراحية، وهي مرحلة تبنى على ما سبقها، فإن كان التشخيص صحيحا صار العلاج ناجعا؛ لأن من عرف الداء سهل عليه معرفة الدواء (1) .
وهكذا العمل القضائي في تنزيل الأحكام على الوقائع يمر بمراحل واحدة بعد الأخرى حتى الحكم في القضية، وقد أشار ابن خلدون (ت: 808هـ) إلى مراحل تنزيل الحكم على الواقعة القضائية، فهو يقول: " يتأنى - يعني: القاضي - على المدعي حتى يذكر ما عنده كله، ويتفهمه حتى يعلم قطعا مراده، ثم يسأل المدعى عليه رافقا به متأنيا عليه حتى يذكر جميع ما عنده، ويتفهمه جهده، ثم يستجلي الحال منهما ومن العالم بواقعتهما بأحسن استجلاء، وبأشد إيضاح، إذا تصور الواقعة، كالشمس ليس دونها سحاب، فليميز بين ما اتفقا عليه وما اختلفا فيه، فإذا وضحت القصة جيدا، فليستحضر حكم تلك الواقعة لا برأي
__________
(1) التداوي والمسئولية الطبية في الشريعة الإسلامية 51 - 87.(78/314)
واستحسان، بل بالنقل الصريح، أو بذل الجهد في درك الحق من أهل الاجتهاد وبطرقه المعتبرة، ثم ينقح الواقعة بأخذ ما يتعين اعتباره وإلغاء ما لا مدخل له في الحكم بحذف، ثم يطبق الحكم العدل على ما ينقح له، فإذا وضح أنه طبقه سواء كرر النظر والتأمل والتفحص حتى يتبين ذلك كالشمس المضيئة، فإذا لم تبق مرية ألبتة، حكم وألزم " (1) .
فتنزيل الحكم على الواقعة القضائية يمر بخمس مراحل (2) ، هي:
1 - سماع الوقائع وتحديد الطلبات.
2 - تنقيح الوقائع وتنزيل الحكم عليها ابتداء.
3 - إثبات الوقائع المنقحة ابتداء.
4 - دراسة الوقائع من دعاوى وبينات، وتنقيحها، وتنزيل الحكم عليها انتهاء.
5 - فحص تنزيل الحكم على الواقعة.
وهذا بيان موجز لهذه المراحل.
المرحلة الأولى: سماع الوقائع وتحديد الطلبات.
والمراد بالوقائع هنا: الدعوى والإجابة ودفوع الخصمين.
وهي أولى خطوات تنزيل الحكم على الواقعة؛ لأنها مادته
__________
(1) مزيل الملام عن حكام الأنام 111 - 118.
(2) كتابنا: '' توصيف الأقضية في الشريعة الإسلامية '' 2 \ 498.(78/315)
الأولى ومجاله الذي يعمل فيه، وهي التي توجب تحرك الحكم الكلي الفقهي لملاقاتها، ولا يمكن للقاضي تحقيق تنزيل الحكم على الواقعة إذا تجاوز هذه المرحلة؛ لأن تنزيل الحكم لا يستنبت في فراغ، بل في وقائع مقدمة للقاضي.
وتقديم الوقائع يقع على عاتق الخصوم، وإذا سكتوا عن شيء من الأوصاف المؤثرة استفسر القاضي منهم عنها.
وعلى الخصم في هذه المرحلة أن يلحظ تحديد طلبه في الدعوى؛ لأنه لا تصح الدعوى إلا به.
إن الخصوم يقدمون للقاضي الوقائع، ويحددون الطلبات، وهو يقدم لهم الحكم الكلي الفقهي الذي يجري تنزيله على الوقائع.
المرحلة الثانية: تنقيح الوقائع وتنزيل الحكم عليها ابتداء:
إن الخصوم بعد أن يفرغوا من تقديم الوقائع من الدعوى، والإجابة، والدفوع، والطلبات يقوم القاضي بتنقيحها، وتنزيل الأحكام الإجرائية عليها من ناحية الاختصاص، وصحة الدعوى، وإكمال نقصها، وصحة الجواب، ودفع الخصومة، فإذا تحقق من صحة السير في الدعوى، بدأ في تنقيحها وتنزيل الحكم عليها موضوعيا، فاستبعد الوقائع الطردية، وأبقى الوقائع المؤثرة، وحدد وصف المتنازع فيه على ضوء الدعوى والدفوع والطلبات: هل هو خيار عيب، أو خيار شرط، أو جعالة، أو إجارة؟ ونحو ذلك؛ ليهيئ(78/316)
الواقعة بذلك لمرحلة الإثبات وما يتلوها، يقول علي حيدر (ت: 1354هـ) : " والقاضي يستمع أولا دعوى المدعي، ويوفق هذه الدعوى على إحدى المسائل الشرعية، فيستوضح القيود والشروط المقتضية " (1) ، فعلى القاضي تحديد الحكم الكلي الفقهي الملاقي للواقعة ابتداء قبل النظر في ثبوتها، ثم ينزله على الواقعة، وهذا يستدعي مقابلة الواقعة بالحكم الكلي وصفا وصفا، فما قابل الوصف المؤثر فهو الذي يعتد به، وما عداه فهو الطردي، فيثبت مؤثرها ويستبعد طرديها سواء كان طرديا مطلقا أم طرديا في موضع النزاع، وذلك تهيئة للمرحلة التالية.
المرحلة الثالثة: إثبات الوقائع المنقحة ابتداء:
بعد تنقيح الوقائع وإبقاء مؤثرها ينتقل القاضي إلى إثباتها، وعليه قبل التوجه إلى النظر في إثبات الوقائع المؤثرة أن يحدد إجرائيا من المدعي الذي يتوجه عليه الإثبات، ومن المدعى عليه الذي تتوجه عليه اليمين، ثم بعد ذلك على القاضي أن يميز ما اتفق عليه الخصمان من الوقائع المؤثرة المنقحة وما اختلفا فيه، ويوجه الإثبات إلى ما اختلفا فيه من الوقائع الأصلية أو التبعية الجائز إثباتها، وبعد الفراغ من إثبات الوقائع بطرق الحكم المقررة، وإجراء ما يلزم لذلك من الإعذار، والتزكية والتعجيز، ثم ينتقل القاضي إلى المرحلة التالية.
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 4 \ 602.(78/317)
المرحلة الرابعة: دراسة الوقائع والبينات وتنقيحها وتنزيل الحكم عليها انتهاء:
بعد فراغ القاضي من المرحلة السابقة عليه أن يدرس بعناية وتأمل ما قدمه الخصوم من دعوى، وإجابة، ودفوع، وطلبات، وبينات، وأن يتأمل ذلك ويفهمه جيدا، ويستخلص من الوقائع من دعوى، وإجابة، ودفوع، ومن البينات، وطرق الحكم ثبوت الوقائع المؤثرة في الحكم، وينقحها، ويهيئها لتنزيل الحكم عليها مهذبة مرتبة، كأنه لم يذكر معها سواها مستعينا في ذلك بتحديد الحكم الكلي الفقهي، وطرق تفسير الوقائع والأحكام الكلية، وأصول تنزيل الأحكام على الوقائع، مراعيا الطلبات في الدعوى وانعدام الموانع، حتى إذا تنقحت له الواقعة وهيأها وحدد حكمها الكلي الفقهي، أجرى المطابقة بينهما بواسطة القياس القضائي، فإذا تحقق عنده اجتماع الوقائع مع الحكم الكلي الفقهي في حدهما الأوسط - وهي الأوصاف المشتركة المؤثرة في الحكم - قرر مطابقة الوقائع القضائية للحكم الكلي الفقهي، وهي النتيجة المطلوبة.
إن مناط تنزيل الحكم على الواقعة ابتداء هو الدعوى، والإجابة وطلبات الخصوم، أما في تنزيل الحكم على الواقعة نهائيا فالمناط فيه: ما يثبت لدى القاضي من الوقائع والأوصاف المؤثرة، وما يستنبطه من الدعوى والإجابة ودفوع الخصمين وبيناتهم مراعى(78/318)
فيه طلبات الخصوم وأصول تنزيل الأحكام على الوقائع على ضوء ما يتقرر له من الحكم الكلي الفقهي.
المرحلة الخامسة: فحص تنزيل الحكم على الواقعة.
إن على القاضي متى تحرر له تنزيل الحكم على الواقعة قبل إعلانه وترتيب الحكم عليه بتقرير الحكم القضائي أن يراجعه، وذلك بمراجعة الخطوات التي سلكها لتقرير تنزيل الحكم على الواقعة من تنقيح الوقائع، وتعيين الواقعة المؤثرة، وطرق إثباتها، وفحص أدلتها واستنباطها، وتقريرها بطرق الحكم، وتحديد الحكم الفقهي الكلي الملاقي لها، مع مراعاة أصول تنزيل الأحكام على الوقائع، وتفسير الوقائع والأحكام الكلية، مستعينا في ذلك بتقمص شخصية المخالف، وفرض الاعتراضات والإجابة عليها، فإن رأى ما يستوجب العدول أو التعديل قرره، أو تأكد عنده بعد ذلك سلامة ما قام به من تنزيل الحكم على الواقعة قرره وأظهره.(78/319)
الخاتمة: وفيها أبرز نتائج البحث والتوصيات المتعلقة به.
بعد الانتهاء من هذا البحث أذكر أبرز نتائجه والتوصيات التي أراها حوله.
أولا: أبرز نتائج البحث:
1 - أن تنزيل الأحكام على الوقائع هو تطبيق الحكم الكلي على الواقعة في القضاء والفتيا وما في حكمهما من اكتمال ما يلزم(78/319)
لذلك.
2 - وجوب الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع في الفتيا والقضاء، كما يجب تأهيل المفتي والقاضي لذلك.
3 - الفصل في القضاء والفتوى بحكم صحيح يستدعي تطبيقا سليما مستوفيا للضوابط التالية:
أ - تحديد الحكم الكلي الواجب التطبيق المبني على أصل صحيح مع تفسيره.
ب - الواقعة المؤثرة المفسرة، وكذا النظر في إثباتها عند التقاضي.
ج - مراعاة أصول تنزيل الأحكام على الوقائع، وهي كالتالي:
- النظر في المآلات عند تنزيل الأحكام على الوقائع.
- مقصد الشرع وحكمة التشريع.
- الفروق بين الوقائع والأشخاص.
- الضرورات والحاجات.
- درء الحدود والقصاص بالشبهات.
ثانيا: التوصيات:
أوصي في ختام هذا البحث بما يلي:
1 - وجوب الاعتناء بتأهيل القضاة ومن في حكمهم بالخبرة والتجربة مما يؤهلهم لتنزيل الأحكام على الوقائع.(78/320)
2 - وجوب الاعتناء بتدريس موضوع تنزيل الأحكام على الوقائع في الكليات والمعاهد المتخصصة التي يتخرج فيها القضاة والمفتون ومن في حكمهم.
3 - الربط بين أصول الفقه وتنزيل الأحكام على الوقائع من خلال تدريس الحكم عند الأصوليين وبيان كيف يتم استثماره عند التطبيق على الوقائع في الفتيا والقضاء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(78/321)
صفحة فارغة(78/322)
مسائل مصطلح الحديث
لفضيلة الدكتور محمد بن عبد الله القناص (1)
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الحافظ ابن عبد الهادي قد جادت قريحته، وسال قلمه في كتابه: " الصارم المنكي في الرد على السبكي "، فتناول مسائل عديدة في علوم الحديث، بسط القول فيها، وبذل جهدا كبيرا في تحريرها وتوضيحها، وقد من الله علي بقراءة الكتاب، وكان ذلك قبل بضع سنين، وكنت أسجل هذه المسائل والفوائد في طرة الكتاب، ثم رأيت أن ألم شعثها، وأضم متفرقها، وأستكمل دراستها في بحث مستقل، وذلك لسببين:
1 - أن هذه المسائل متناثرة في ثنايا الكتاب، متفرقة في تضاعيفه، مما قلل الاستفادة منها والوقوف عليها، وجمعها في بحث واحد يسهل الرجوع إليها والاستفادة منها، والاطلاع على
__________
(1) الأستاذ المساعد بكلية الشريعة وأصول الدين، جامعة القصيم.(78/323)
اختيارات الحافظ ابن عبد الهادي في قضايا عديدة من قضايا علوم الحديث.
2 - أهمية القضايا التي تطرق إليها الحافظ ابن عبد الهادي في كتابه " الصارم المنكي في الرد على السبكي "، فهي قضايا جوهرية يحسن إبرازها وإظهارها، لا سيما والساحة العلمية تشهد إقبالا على هذا العلم الشريف، ورغبة في فهم قواعده وأصوله، وهذه النهضة العلمية في حاجة إلى تسديد مسيرتها وترشيد خطواتها، وآراء الحافظ ابن عبد الهادي واختياراته تسهم في تحرير العديد من مسائل هذا العلم، فهو من الأئمة الذين رسخوا في هذا الفن، وجمعوا بين الإلمام بقواعده وأصوله، والممارسة العملية التطبيقية، مما يجعل آراءه مسددة واختياراته موفقة.
وخصصت هذا البحث في مسائل مصطلح الحديث، وسوف أفرد قضايا مناهج المحدثين في بحث آخر، وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة وتمهيد وأربعة مباحث وخاتمة.
المقدمة: وفيها بيان أهمية الموضوع، وسبب اختياره.
التمهيد: وفيه تعريف موجز بالحافظ ابن عبد الهادي وكتابه: " الصارم المنكي في الرد على السبكي ".
المبحث الأول: التفرد.
المبحث الثاني: حكم المرسل والاحتجاج به.(78/324)
المبحث الثالث: تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد.
المبحث الرابع: قاعدة: فلان لا يروي إلا عن ثقة غالبية.
الخاتمة: وتتضمن أهم النتائج التي توصلت إليها.
وأرجو أن أكون قد وفقت من خلال هذا البحث المتواضع في إبراز اختيارات وآراء الحافظ ابن عبد الهادي في العديد من قضايا علوم الحديث، إلى جانب استكمالها وتوضيحها، وأسأل الله أن يجعل فيما قدمت نفعا، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به يوم لا ينفع مال ولا بنون، والحمد لله أولا وأخيرا، صلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(78/325)
تمهيد:
تعريف موجز بالحافظ ابن عبد الهادي، وكتابه " الصارم المنكي في الرد على السبكي ":
ابن عبد الهادي: هو محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة بن مقدام المقدسي، الجماعيلي الأصل ثم الصالحي، الحنبلي، أبو عبد الله، شمس الدين، يقال له: " ابن عبد الهادي " نسبة إلى جده.
ولد سنة (705 هـ) بصالحية دمشق في جبل قاسيون على الراجح من أقوال العلماء، ونشأ في بيت علم وأدب، فكان أبوه وعمه وأجداده وإخوته من أهل العلم والفضل، فنشأ محبا للعلم مولعا به، وصرف إليه جل عنايته واهتمامه، وقد تلقى ابن عبد الهادي العلم عن أعلام من شيوخ عصره مما كان له الأثر الواضح في تكوين شخصيته العلمية إلى جانب ما أوتي من قوة الحفظ وحدة الذكاء والرغبة في التحصيل، حتى أصبح عالما بارعا، ومحدثا ناقدا، ومن العلماء الذين أخذ عنهم وتأثر بهم:
1 - أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي (654 هـ - 742 هـ) ، فقد لازمه نحوا من عشر سنين، وقرأ عليه كتابه " تهذيب الكمال "، وتخرج على يديه في علم الرجال والعلل حتى صار إماما فيه، وظل يعترف بفضل شيخه عليه، وقد أشار ابن عبد الهادي إلى(78/326)
ذلك بقوله: " وهو شيخي الذي انتفعت به كثيرا في هذا العلم " (1) .
2 - أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، شيخ الإسلام (661 هـ - 728 هـ) ، فقد لازمه ما يقرب من خمس سنين، وأحبه حبا عظيما، وكان يتردد إليه كثيرا، وقد أشار إلى ذلك فقال: " وكنت أتردد إليه عندما كان يدرس بالحنبلية، وبمدرسته بالقصاصين، وقرأت عليه قطعة من الأربعين للرازي، وشرحها لي، وكتب لي على بعضها شيئا " (2) ، وقد خصه ابن عبد الهادي بترجمة واسعة أسماها " العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية ".
تلاميذه:
وتتلمذ على ابن عبد الهادي عدد من التلاميذ منهم:
إسماعيل بن محمد بن يونس المقرئ (ت 764 هـ) ، علي بن أبي بكر بن أحمد بن البالسي المصري (767 هـ) ، أحمد بن يوسف بن مالك الغرناطي أبو جعفر الأندلسي (ت 779) وغيرهم.
وقد وفق ابن عبد الهادي لنخبة من الأقران شاركوه في التلقي ومدارسة العلم، منهم: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (673 هـ - 748 هـ) ، وشمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، ابن القيم (691 هـ 751 هـ) ، وصلاح الدين
__________
(1) طبقات علوم الحديث (4 \ 276) .
(2) العقود الدرية في مناقب ابن تيمية ص (326، 327) .(78/327)
أبو سعيد خليل بن كيكلدي العلائي (694 هـ - 761 هـ) ، وشمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح (ت 763 هـ) ، وعماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (700 هـ - 774 هـ) .
وحظي ابن عبد الهادي بمنزلة علمية مرموقة ومكانة رفيعة أهلته لتولي التدريس في أكبر المدارس الموجودة آنذاك ببلاد الشام ومنها: المدرسة الصدرية، والمدرسة الضيائية ويقال لها: دار الحديث المحمدية، والمدرسة العمرية، وهي من أشهر المدارس في عصره.
وقد أثنى على ابن عبد الهادي عدد كبير من العلماء الذين عاصروه، والذين ترجموا له، وشهدوا له بسعة العلم وكثرة الاطلاع، والتفنن في العلوم، والتبحر في علم الرجال والعلل.
وقال ابن كثير: " الشيخ الإمام العالم العلامة الناقد البارع في فنون العلم، حصل من العلوم ما لا يبلغه الشيوخ الكبار، وتفنن في الحديث والنحو والتصريف والفقه والتفسير والأصلين والتاريخ. . . " (1) .
وقال الذهبي: " الفقيه البارع المقرئ المجود المحدث الحافظ النحوي الحاذق صاحب الفنون، وعني بفنون الحديث ومعرفة الرجال. . . " (2) ، وقال صلاح الدين الصفدي: " لو عاش كان آية، كنت إذا لقيته سألته عن مسائل أدبية وفوائد عربية، فينحدر كالسيل،
__________
(1) البداية والنهاية (18 \ 466) .
(2) نقله ابن رافع في الوفيات (2 \ 458) من المعجم الملخص للذهبي.(78/328)
وكنت أراه يوافق المزي في أسماء الرجال، ويرد عليه ويقبل منه ".
هذه مقتطفات من ثناء الأئمة على الحافظ ابن عبد الهادي، وهي تدل على علو شأنه، وعظيم مكانته، وسمو منزلته.
وخلف ابن عبد الهادي مؤلفات كثيرة تزيد على سبعين كتابا في كثير من العلوم والفنون، وهي ما بين أجزاء حديثية صغيرة، ومجلدات كبيرة، وبعضها لم يكمله؛ لهجوم المنية عليه في سن الأربعين، ومن أشهر مؤلفاته: تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق، المحرر في أحاديث الأحكام، العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، شرح كتاب العلل لابن أبي حاتم الرازي.
واتفقت الروايات على أن وفاته كانت في يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى سنة 744 هـ، وذكر ابن كثير أنه مرض قريبا من ثلاثة أشهر، وقال: وأخبرني والده أن آخر كلامه أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين.(78/329)
وأما كتابه " الصارم المنكي في الرد على السبكي "، ويسميه بعضهم: " الكلام على أحاديث الزيارة "، فقد رد فيه ابن عبد الهادي على كتاب أبي الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي (ت 756 هـ) المسمى: " شفاء السقام في زيارة خير الأنام "، أو " شن الغارة على من أنكر السفر للزيارة "، والذي رد فيه تقي الدين السبكي على شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة الزيارة وشد الرحال وإعمال المطي لمجرد زيارة القبور.
وقد أبرز ابن عبد الهادي في مقدمة كتابه " الصارم المنكي " مجمل ملاحظاته وانتقاداته لكتاب تقي الدين السبكي، وهي تتلخص فيما يلي:
1 - تصحيح الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة.(78/330)
2 - تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة والآثار القوية المقبولة، وتحريفها عن مواضعها، وصرفها عن ظاهرها بالتأويلات المستنكرة المردودة.
3 - لم يكن المؤلف متجردا فيما كتب، بل اتبع هواه، وذهب في كثير مما قرره إلى الأقوال الشاذة والآراء الساقطة، وخرق الإجماع في مواضع لم يسبق إليها، ولم يوافقه أحد من الأئمة عليها.
وقد أخذ ابن عبد الهادي يرد على الكتاب بابا بابا، ويتكلم على الأحاديث التي استشهد بها السبكي ويبين عللها وضعفها، حتى وصل إلى الباب الخامس وهو في تقرير كون الزيارة قربة، فأدركته المنية قبل إكماله، وبقي في كتاب السبكي أبواب أخرى لم يرد عليها ابن عبد الهادي، منها: التوسل والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحياة الأنبياء في قبورهم، والشفاعة. . . .(78/331)
وكتاب " الصارم المنكي " يشهد للحافظ ابن عبد الهادي بسعة الاطلاع، وغزارة العلم، ورسوخ القدم في علم الحديث والعلل، والقدرة على النقد، ودقة الملاحظة.(78/332)
المبحث الأول: التفرد.
المراد بالتفرد: أن يروي الراوي حديثا عن شيخه لا يعرف عنه إلا من جهته، ثم قد يكون التفرد مطلقا بحيث لا يحصل متابعة لأحد من رجال الإسناد، إلى أن يصل الإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون نسبيا، بحيث يكون للحديث طرق أخرى(78/332)
مشهورة، ووقع التفرد في أحد طرقه بالنسبة إلى شخص معين (1) .
وقد اعتنى الأئمة النقاد بأمر التفرد والغرابة، وذلك أن تفرد الراوي - وإن كان ثقة - مظنة للوقوع في الخطأ والوهم، ووجود متابع للراوي يخفف من هذا الاحتمال.
وحرص الأئمة على النص على التفرد إذا وجدوه في الحديث، فيقولون بعد تخريجه أو عند الكلام عليه: " تفرد به فلان "، أو " أغرب به فلان "، أو " لم يروه عن فلان إلا فلان "، أو " حديث غريب "، أو " هذا الحديث غريب من هذا الوجه "، أو " لم يتابع عليه فلان "، أو " لم نره إلا من حديث فلان "، ونحو ذلك من الكلمات التي تدل على وجود التفرد والغرابة.
وفي أثناء رد ابن عبد الهادي على السبكي حيث احتج بحديث تفرد به أحد الرواة ممن اتهم بالكذب والوضع، تحدث ابن عبد الهادي - رحمه الله - عن التفرد وموقف الأئمة النقاد من التفرد فقال: " ومن المعلوم عند أدنى من له علم ومعرفة بالحديث أن تفرد مثل: محمد بن محمد بن النعمان بن شبل المتهم بالكذب والوضع عن جده النعمان بن شبل الذي لم يعرف بعدالة
__________
(1) نزهة النظر (ص: 56، 57) ، فتح المغيث (1 \ 253) .(78/333)
ولا ضبط ولم يوثقه إمام يعتمد عليه، بل اتهمه موسى بن هارون الحمال أحد الأئمة الحفاظ المرجوع إلى كلامهم في الجرح والتعديل الذي قال فيه عبد الغني بن سعيد المصري الحافظ: هو أحسن الناس كلاما على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وقته عن مالك عن نافع عن ابن عمر بمثل هذا الخبر المنكر الموضوع من أبين الأدلة وأوضح البراهين على فضيحته وكشف عورته، وضعف ما تفرد به وكذبه ورده وعدم قبوله، ونسخة مالك عن نافع عن ابن عمر محفوظة معروفة مضبوطة، رواها عنه أصحابه رواة الموطأ وغير رواة الموطأ، وليس هذا الحديث منها، بل لم يروه مالك قط ولا طرق سمعه، ولو كان من حديثه لبادر إلى روايته عنه بعض أصحابه الثقات المشهورين، بل لو تفرد بروايته عنه ثقة معروف من بين سائر أصحابه لأنكره الحفاظ عليه، ولعدوه من الأحاديث المنكرة الشاذة " (1) .
ويستفاد من كلام ابن عبد الهادي أن الأئمة النقاد يستنكرون ما يتفرد به الثقة، وهذا معلوم من عملهم، فلا يحصى ما استنكره النقاد مما يتفرد به الثقات.
__________
(1) الصارم المنكي (ص: 119) .(78/334)
ويؤخذ من كلام الأئمة في التفرد أن هناك حالات يتأكد فيها إعلان الحديث بالتفرد منها:
1 - أن يتفرد ثقة أو من في حكمه برواية الحديث عن أحد الأئمة من بين سائر أصحابه، وليس من المعروفين بالكثرة والإتقان لحديثه.
قال الإمام مسلم: " فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي(78/336)
عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس، والله أعلم " (1) .
وهذا قريب مما أشار إليه ابن عبد الهادي، حيث ذكر أنه لو تفرد ثقة من بين سائر أصحاب مالك عنه لأنكره الحفاظ عليه، وقد أعل ابن عبد الهادي حديثا رواه نعيم المجمر عن أبي هريرة في الجهر بالبسملة، فقال - رحمه الله -: " فهو حديث معلول، فإن ذكر البسملة فيه مما تفرد به نعيم المجمر من بين أصحاب أبي هريرة، وهم ثلاثمائة ما بين صاحب وتابع. . "، وقال أبو حاتم في حديث رواه إسماعيل بن رجاء: " أين كان الثوري وشعبة من هذا الحديث " (2) ، ويقوي إعلال الحديث بالتفرد إذا كان الراوي المتفرد في حكم الراوي الثقة، ولكن ليس من الثقات المشهورين بالعدالة والضبط، وإن كان يشمله وصف العدالة والضبط، وقال أبو حاتم عن حديث رواه قران
__________
(1) صحيح مسلم (1 \ 7) .
(2) العلل لابن أبي حاتم (1 \ 92) .(78/337)
بن تمام عن أيمن بن نابل. . . قال: " لم يرو هذا الحديث عن أيمن إلا قران، ولا أراه محفوظا، أين كان أصحاب أيمن بن نابل عن هذا الحديث؟ ".
2 - إذا ترجح لدى الناقد وقوع الوهم والخطأ في الإسناد الذي تفرد به الثفة، ويستدل على هذا بقرائن، مثل: النكارة في المتن، وأمور أخرى تصاحب التفرد.
قال ابن رجب: " وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه: إنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون(78/338)
بعض تفردات الثقات الكبار أيضا، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه " (1) .
ويستفاد من كلام ابن رجب أن الأئمة الحفاظ قد يستنكرون بعض تفرد الأئمة الكبار، وذلك - والله أعلم - إذا وجد ما يدعو إلى الاستنكار مثل نكارة المتن، ويؤخذ من كلامه أيضا أن قوة الراوي واشتهاره بالحفظ والضبط والإتقان يجبر ما يحصل من تفرد، ويدل على هذا قول مسلم: " وللزهري نحو من تسعين حديثا يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشاركه فيه أحد بأسانيد جياد " (2) .
3 - أن يحصل التفرد في الطبقات المتأخرة بعد انتشار الراوية، وحرص الرواة ورغبتهم في تتبع المرويات وجمعها، والرحلة إلى البلدان لهذا الغرض، وقد أشار إلى هذا الذهبي، فقال بعد أن ذكر طبقات الحفاظ: " فهؤلاء الحفاظ الثقات، إذا انفرد الرجل منهم من التابعين فحديثه صحيح، وإن كان من الأتباع قيل: صحيح غريب، وإن كان من أصحاب الأتباع قيل: غريب فرد، ويندر تفردهم، فتجد الإمام منهم عنده مائتا ألف حديث لا يكاد ينفرد بحديثين أو ثلاثة ومن كان بعدهم، فأين ما ينفرد به؟ ما علمته، وقد يوجد. . . وقد يسمي جماعة من الحفاظ الحديث الذي ينفرد به مثل
__________
(1) شرح علل الترمذي (1 \ 352) .
(2) صحيح مسلم (3 \ 1268) ، تدريب الراوي (1 \ 234) .(78/339)
هشيم، وحفص بن غياث: منكرا. فإن كان المنفرد من طبقة مشيخة الأئمة، أطلقوا النكارة على ما انفرد به مثل عثمان بن أبي شيبة، وأبي سلمة التبوذكي، وقالوا: هذا منكر " (1) .
ويستفاد من كلام الذهبي أنه يراعى في موضوع التفرد اعتبار طبقة الراوي، فيحتمل التفرد في طبقة التابعين وثقات أتباع التابعين، وأما ما بعد ذلك، فالغالب أن يكون خطأ أو وهما من المتفرد، وقد يستنكره الأئمة.
__________
(1) الموقظة (ص: 77، 78) .(78/340)
المبحث الثاني: حكم المرسل والاحتجاج به.
المرسل هو: ما رواه التابعي كبيرا أو صغيرا - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا أو فعلا أو تقريرا، وهذا هو المشهور.
وفي معرض رد الحافظ ابن عبد الهادي على السبكي في تقويته لبعض المراسيل الضعيفة تحدث ابن عبد الهادي - رحمه الله - عن المرسل، وقد تضمن كلامه على المرسل ثلاث نقاط:(78/340)
1 - حكم المرسل عند أئمة الحديث وتفاوت درجاته من حيث القبول والرد، قال - رحمه الله -: " ولو اطلع هذا المعترض على بعض كلام الشافعي وغيره من الأئمة في الاحتجاج ببعض المراسيل وترك الاحتجاج ببعضها لم يقل مثل هذا القول. . . وها أنا أذكر طرفا من كلام الأئمة على حكم المرسل ليطلع عليه من أحب الوقوف عليه " (1) .
ثم ساق كلام ابن أبي حاتم في كتاب المراسيل، باب ما ذكر في الأسانيد المرسلة أنها لا تثبت بها الحجة، حدثنا أحمد بن سنان قال: كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئا، ويقول: هو بمنزلة الريح، ويقول: هؤلاء قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا الشيء علقوه، حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل، حدثنا علي بن المديني، قال: قلت ليحيى بن سعيد: سعيد بن المسيب عن أبي بكر؟ قال: ذاك شبه الريح، وبه قال: حدثنا علي بن المديني قال: مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطاء بكثير، كان عطاء يأخذ عن كل ضرب.
وبه قال: حدثنا علي - يعني: ابن المديني - قال: سمعت يحيى يقول: مرسلات سعيد بن جبير أحب إلي من مرسلات عطاء، قلت: مرسلات مجاهد أحب إليك أو مرسلات طاوس؟ قال: ما أقربهما. وبه قال: سمعت يحيى يقول: مالك عن سعيد بن المسيب
__________
(1) الصارم المنكي (ص: 141) .(78/341)
أحب إلي من سفيان عن إبراهيم، قال يحيى: وكل ضعيف.
حدثنا صالح حدثنا علي قال: سمعت يحيى يقول: سفيان عن إبراهيم شبه لا شيء؛ لأنه لو كان فيه إسناد لصاح به، وبه قال: سمعت يحيى يقول: مرسلات أبي إسحاق - يعني: الهمداني - عندي شبه لا شيء، والأعمش والتيمي ويحيى بن أبي كثير - يعني: مثله -. وبه قال: سمعت يحيى يقول: مرسلات ابن أبي خالد - يعني: إسماعيل بن أبي خالد - ليس بشيء، ومرسلات عمرو بن دينار أحب إلي، وبه قال: سمعت يحيى يقول: مرسلات معاوية بن قرة أحب إلي من مرسلات زيد بن أسلم، وبه قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: مرسلات ابن عيينة شبه الريح، ثم قال: إي والله وسفيان بن سعيد، قلت: مرسلات مالك بن أنس؟ قال: هي أحب إلي، ثم قال: ليس في القوم أصح حديثا من مالك، وبه قال: سمعت يحيى - يعني: ابن سعيد القطان - يقول: كان شعبة يضعف إبراهيم عن علي، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: لا يحتج بالمراسيل، ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح المتصلة. (1) .
هذا ما نقله ابن عبد الهادي ليدلل على تفاوت المراسيل من حيث القوة والضعف، وغالب ما أورده عن يحيى بن سعيد القطان،
__________
(1) الصارم المنكي (ص: 141 / 143) ، وينظر: كتاب المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 3 - 7) .(78/342)
وقد تضمن كلامه عن يحيى بن سعيد تضعيف مرسلات عطاء، وأبي إسحاق، والأعمش، والتيمي، ويحيى بن أبي كثير، والثوري، وابن عيينة، وأن مرسلات مجاهد، وطاوس، وسعيد بن المسيب، ومالك أحب إليه منها.
قال الحافظ ابن رجب: " كلام يحيى بن سعيد في تفاوت مراتب المرسلات بعضها على بعض يدور على أربعة أسباب:
أ - من عرف روايته عن الضعفاء ضعف مرسله بخلاف غيره.
ب - من عرف له إسناد صحيح إلى من أرسل عنه فإرساله خير ممن لم يعرف له ذلك.
ج - من قوي حفظه ويحفظ كل ما سمعه، ويثبت في قلبه، ويكون فيه ما لا يجوز الاعتماد عليه، يكون بخلاف من لم يكن له قوة الحفظ، وقد أنكر مرة يحيى بن معين على علي بن عاصم حديثا، وقال: ليس هو من حديثك، إنما ذوكرت به فوقع في قلبك، فظننت أنك سمعته ولم تسمعه، وليس هو من حديثك.
د - أن الحافظ إذا روى عن ثقة لا يكاد يترك اسمه، بل يسميه، فإذا ترك اسم الراوي دل إبهامه على أنه غير مرضي، وقد كان يفعل ذلك الثوري وغيره كثيرا، يكنون عن الضعيف ولا يسمون، بل يقولون: عن رجل " (1) .
__________
(1) ينظر: شرح علل الترمذي (1 \ 283) .(78/343)
2 - أورد كلام الشافعي في حكم المرسل والاحتجاج به.
قال - رحمه الله -: " والمنقطع مختلف: فمن شاهد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التابعين، فحدث حديثا منقطعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر عليه بأمور منها: أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث، فإن شركه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل معنى ما روي كانت هذه دلالة على صحة ما قيل عنه وحفظه.
وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده قبل ما ينفرد به من ذلك، ويعتبر عليه بأن ينظر: هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم؟ فإن وجد ذلك كانت دلالة تقوي له مرسله، وهي أضعف من الأولى.
وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولا له، فإن وجد يوافق ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في هذا دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله تعالى.
وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثم يعتبر عليه: بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولا ولا مرغوبا عن الرواية عنه، فيستدل بذلك على صحته فيما(78/344)
روى عنه.
ويكون إذا شرك أحدا من الحفاظ في حديث لم يخالفه، فإن خالفه ووجد حديثه أنقص: كانت في هذا دلائل على صحة مخرج حديثه.
ومتى خالف ما وصفت أضر بحديثه حتى لا يسع أحدا منهم قبول مرسله، قال: وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة ثبتت بها ثبوتها بالمتصل.
وذلك أن معنى المنقطع مغيب، يحتمل أن يكون حمل عمن يرغب عن الرواية عنه إذا سمي، وأن بعض المنقطعات - وإن وافقه مرسل مثله - فقد يحتمل أن يكون مخرجها واحدا من حيث لو سمي لم يقبل، وإن قول بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال برأيه لو وافقه - لم يدل على صحة مخرج الحديث دلالة قوية إذا نظر فيها، ويمكن أن يكون إنما غلط به حين سمع قول بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوافقه، ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه من بعض الفقهاء.
قال الشافعي: فأما من بعد كبار التابعين فلا أعلم واحدا منهم يقبل مرسله؛ لأمور أحدها: أنهم تجوزوا فيمن يروون عنه، والآخر: أنهم تؤخذ عليهم الدلائل فيما أرسلوا لضعف مخرجه، والآخر: كثرة(78/345)
الإحالة في الأخبار، وإذا كثرت الإحالة كان أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه " (1) .
3 - وضح الحافظ ابن عبد الهادي خلاصة ما تضمنه كلام الشافعي، ثم ذكر اختياره في حكم المرسل والاحتجاج به، قال - رحمه الله -: وقد تضمن - يعني كلام الشافعي - أمورا:
أحدهما: أن المرسل إذا أسند من وجه آخر دل ذلك على صحة المرسل.
الثاني: أنه إذا لم يسند من وجه آخر، نظر هل يوافقه مرسل آخر أم لا، فإن وافقه مرسل آخر قوي لكنه يكون أنقص درجة من المرسل الذي أسند من وجه آخر.
الثالث: أنه إذا لم يوافقه مرسل آخر ولا أسند من وجه، لكنه وجد عن بعض الصحابة قول له يوافق هذا المرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دل على أن له أصلا ولا يطرح.
الرابع: أنه إذا وجد خلق كثير من أهل العلم يفتون بما يوافق المرسل دل على أن له أصلا.
الخامس: أن ينظر في حال المرسل، فإن كان إذا سمى شيخه سمى ثقة وغير ثقة، لم يحتج بمرسله، وإن كان إذا سمى لم يسم
__________
(1) الصارم المنكي ص: 143، وينظر: الرسالة للشافعي ص: 461 - 465.(78/346)
إلا ثقة لم يسم مجهولا ولا ضعيفا مرغوبا عن الرواية عنه، كان ذلك دليلا على صحة المرسل، وهذا فصل النزاع في المرسل، وهو من أحسن ما يقال فيه.
السادس: أن ينظر إلى هذا المرسل له، فإن كان إذا شرك غيره من الحفاظ في حديث وافقه فيه ولم يخالف، دل ذلك على حفظه، وإن خالفه ووجد حديثه أنقص إما نقصان رجل يؤثر في اتصاله، أو نقصان رفعه بأن يقفه، أو نقصان شيء من متنه، كان في هذا دليل على صحة مخرج حديثه، وأن له أصلا، فإن هذا يدل على حفظه وتحريه، بخلاف ما إذا كانت مخالفته بزيادة، فإن هذا يوجب التوقف والنظر في حديثه.
وهذا دليل من الشافعي على أن زيادة الثقة عنده لا يلزم أن تكون مقبولة مطلقا كما يقوله كثير من الفقهاء من أصحابه وغيرهم، فإنه اعتبر أن يكون حديث هذا المخالف أنقص من حديث من خالفه، ولم يعتبر المخالف بالزيادة، وجعل نقصان هذا الراوي من الحديث دليلا على صحة مخرج حديثه، وأخبر أنه متى خالف ما وصف أضر ذلك بحديثه، ولو كانت الزيادة عنده مقبولة مطلقا لم يكن مخالفته بالزيادة مضرا بحديثه. .(78/347)
السابع: أن المرسل العاري عن هذه الاعتبارات والشواهد التي ذكرها ليس بحجة عنده.
الثامن: أن المرسل الذي حصلت فيه هذه الشواهد أو بعضها يسوغ الاحتجاج به، ولا يلزم لزوم الحجة بالمتصل، وكأنه - رضي الله عنه - سوغ الاحتجاج به ولم ينكر على مخالفه.
التاسع: أن مأخذ رد المرسل عنده إنما هو احتمال ضعف(78/349)
الواسطة، وأن المرسل لو سماه لبان أنه لا يحتج به، وعلى هذا المأخذ فإذا كان المعلوم من عادة المرسل أنه إذا سمى لم يسم إلا ثقة ولم يسم مجهولا كان مرسله حجة، وهذا أعدل الأقوال في المسألة، وهو مبني على أصل، وهو أن رواية الثقة عن غيره هل هي تعديل له أم لا؟ وفي ذلك قولان مشهوران هما روايتان عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، والصحيح: حمل الروايتين على اختلاف حالين، فإن الثقة إذا كان من عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كانت روايته عن غيره تعديلا له، إذ قد علم ذلك من عادته، وإن كان يروي عن الثقة وغيره لم تكن روايته تعديلا لمن روى عنه، وهذا التفصيل اختيار كثير من أهل الحديث والفقه والأصول، وهو صحيح. (1) .
العاشر: أن مرسل من بعد كبار التابعين لا يقبل، ولم يحك الشافعي عن أحد قبوله؛ لتعدد الوسائط. (2) .
تضمنت الفقرة التاسعة ترجيح ابن عبد الهادي في حكم المرسل التفصيل، وهو: أن المرسل إذا عرف من عادته أنه لا يرسل إلا عن ثقة، فمرسله مقبول، ومن لم يكن عادته ذلك فلا يقبل مرسله، وذكر أن هذا الترجيح مبني على قاعدة أن من عرف عنه أنه لا يروي إلا عن ثقة فإن روايته تعديل لمن روى عنه، ولكن يرد على
__________
(1) ينظر: شرح علل الترمذي لابن رجب (1 \ 80) .
(2) الصارم المنكي (ص: 145 - 1417) .(78/350)
هذا القول: أن هذه القاعدة ليست مطردة، فمن ذكر في حقه أنه لا يروي إلا عن ثقة وجد روايته عن الضعفاء، وقد بين الحافظ ابن عبد الهادي نفسه أن هذا محمول على الغالب، كما سيأتي.
ولعل الراجح في قبول المرسل أنه بحسب الاعتضاد، فإذا جاء من وجه آخر ودلت القرائن على أن له أصلا، ترجح قبول، وقد تقدم ما نقل عن الشافعي من التفصيل في ذلك.
قال الحافظ ابن رجب: " واعلم أنه لا تنافي بين كلام الحفاظ وكلام الفقهاء في هذا الباب، فإن الحفاظ إنما يريدون صحة الحديث المعين إذا كان مرسلا، وهو ليس بصحيح على طريقهم؛ لانقطاعه وعدم اتصال إسناده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما الفقهاء فمرادهم صحة ذلك المعنى الذي دل عليه الحديث، فإذا عضد ذلك المرسل قرائن تدل على أن له أصلا، قوي الظن بصحة ما دل عليه، فاحتج به مع ما احتف به من القرائن. (1) .
__________
(1) شرح علل الترمذي (1 \ 297) .(78/351)
المبحث الثالث: تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد.
من المتقرر لدى أئمة الحديث أن الحديث يتقوى بتعدد طرقه؛ ولذلك كان الأئمة يكتبون أحاديث الراوي للاعتبار بها.
قال الإمام سفيان الثوري - رحمه الله -: " إني لأكتب الحديث على ثلاثة وجوه؛ فمنه ما أتدين به، ومنه ما أعتبر به، ومنه(78/351)
ما أكتبه لأعرفه " (1) .
وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: " ما حديث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيرا مما أعتبر به ويقوي بعضه بعضا " (2) .
وقال أيضا: حديث: «أفطر الحاجم والمحجوم (3) » ، و «لا نكاح إلا بولي (4) » يشد بعضها بعضا، وأنا أذهب إليها ".
وقال الإمام الترمذي - رحمه الله - في تعريفه للحديث الحسن: " كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذا، ويروى من غير وجه نحو ذلك " (5) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فإن تعدد الطرق وكثرتها يقوي بعضها بعضا، حتى قد يحصل العلم بها " (6) .
وقال الحافظ ابن حجر: " إن كثرة الطرق إذا اختلفت المخارج تزيد المتن قوة " (7) .
__________
(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2 \ 193) ، الكفاية ص (402) .
(2) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2 \ 193) ، شرح علل الترمذي (1 \ 138) .
(3) سنن الترمذي الصوم (774) ، سنن أبي داود الصوم (2371) ، سنن ابن ماجه الصيام (1680) ، مسند أحمد (5/277) ، سنن الدارمي الصوم (1731) .
(4) سنن الترمذي النكاح (1101) ، سنن أبي داود النكاح (2085) ، سنن ابن ماجه النكاح (1881) ، مسند أحمد (4/418) ، سنن الدارمي النكاح (2183) .
(5) خاتمة الجامع (5 \ 757) .
(6) مجموع الفتاوى (18 \ 26) .
(7) القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد (ص: 89) .(78/352)
واعتنى أئمة الحديث بمبحث المتابعات والشواهد، وقد عقد له ابن الصلاح بابا سماه: " معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد "، وبين الأئمة في هذا الباب ما يصلح للاعتضاد والتقوية، وما يصلح ولا يقبل.
قال ابن الصلاح: " ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت، فمنه ضعف يزيله ذلك، بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والديانة، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر، عرفنا أنه مما قد حفظه ولم يختل فيه ضبطه له. وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر، ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب، أو كون الحديث شاذا (1) .
وقال الحافظ ابن حجر: " ومتى توبع السيئ الحفظ بمعتبر، كأن يكون فوقه أو مثله لا دونه، وكذا المختلط الذي لم يتميز، والمستور والإسناد المرسل، وكذا المدلس إذا لم يعرف المحذوف منه:
__________
(1) علوم الحديث لابن الصلاح (ص: 34) .(78/353)
صار حديثهم حسنا لا لذاته، بل وصفه بذلك باعتبار المجموع من المتابع والمتابع؛ لأن كل واحد منهم احتمال أن تكون روايته صوابا أو غير صواب على حد سواء، فإذا جاءت من المعتبرين رواية موافقة لأحدهم، رجح أحد الجانبين من الاحتمالين المذكورين، ودل ذلك على أن الحديث محفوظ، فارتقى من درجة التوقف إلى درجة القبول " (1) .
وقد بين الحافظ ابن عبد الهادي - رحمه الله - بعبارات موجزة ما يصلح من الطرق للتقوية، فقال وهو يضعف حديثا أورد له السبكي طرقا ضعيفة وواهية لا تصلح لتقويته قال: " وكم من حديث له طرق أضعاف هذه الطرق التي ذكرها المعترض وهو موضوع عند أهل هذا الباب، فلا يعتبر بكثرة الطرق وتعددها، وإنما الاعتماد على ثبوتها وصحتها، والحاصل أن ما سلكه المعترض من جميع الطرق في هذا الشأن وتصحيح بعضها واعتماده عليه، وجعل بعضها شاهدا لبعض ومتابعا له، هو مما تبين خطؤه فيه " (2) .
وقال أيضا: " وكم من حديث كثرت طرقه وهو حديث ضعيف، بل قد لا يزيد الحديث كثرة الطرق إلا ضعفا. . . " (3) .
__________
(1) نزهة النظر (ص: 105) .
(2) الصارم المنكي (ص: 243) .
(3) ينظر: نصب الراية (1 \ 360) ، تنقيح التحقيق (2 \ 831) .(78/354)
ويستفاد من كلام الحافظ ابن عبد الهادي أن العبرة ليست بكثرة الطرق وتعددها، ولكن العبرة بكونها محفوظة سالمة من العلل القادحة والوهم والخطأ، وعلى هذا فيتعين عند النظر في الطرق تمحيصها والتدقيق فيها، والتأكد من سلامتها من النكارة والعلل القادحة قبل الاعتداد بها والاستفادة منها في تقوية الأحاديث.
قال الإمام أحمد: " الحديث عن الضعفاء قد يحتاج إليه في وقت، والمنكر أبدا منكر " (1) ، ومراد الإمام أحمد - والله وأعلم - أن المنكر لا يعتبر به، ولا يحتاج إليه في باب الاعتضاد وشد الطرق؛ لعدم صلاحيته لذلك، ولا يستأنس به في مجال الاستدلال، وقد عرف عن الإمام أحمد الأخذ بالحديث الضعيف إذا لم يوجد في الباب ما يدفعه، قال - رحمه الله -: " طريقتي: لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب ما يدفعه " (2) .
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: ربما كان الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إسناده شيء، فنأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه ".
__________
(1) علل الحديث ومعرفة الرجال (ص: 120) .
(2) خصائص المسند لأبي موسى المديني ص (27) .(78/355)
ولم يصحح الأئمة حديث: «الأعمال بالنيات (1) » . . . " إلا من طريق واحدة، وحكموا على سائر طرقه بالخطأ والنكارة ولم يقووا الحديث بها، مع أن بعض الأسانيد أخطأ فيها من هو صدوق في الحفظ، وليس ضعيفا.
قال البزار: " لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من حديث عمر، ولا عن عمر إلا من حديث علقمة، ولا عن علقمة إلا من حديث محمد، ولا عن محمد إلا من حديث يحيى " (2) .
قال الحافظ ابن حجر - بعد أن ذكر أن هذا الحديث مما تفرد به يحيى بن سعيد وكل من فوقه - قال: " وقد وردت لهم متابعات لا يعتبر بها؛ لضعفها " (3) .
ومثل حديث: «الأعمال بالنيات (4) » . . . حديث: «النهي عن بيع الولاء وهبته (5) » ، وحديث: "المغفر"، فقد وردت لهما طرق
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3794) ، سنن أبي داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد (1/43) .
(2) تدريب الراوي 1 \ 238، وينظر: مسند البزار 1 \ 381، 382.
(3) نزهة النظر ص 49.
(4) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3794) ، سنن أبي داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد (1/43) .
(5) حديث: النهي عن بيع الولاء وعن هبته أخرجه البخاري ح 2535، ومسلم ح 1506، من حديث ابن عمر، وتفرد به عبد الله بن دينار عن ابن عمر، قال الترمذي: '' تفرد عبد الله بن دينار بهذا الحديث '' ينظر: الجامع 4 \ 5، علل الترمذي 1 \ 415، وقال مسلم: '' الناس كلهم عيال على عبد الله بن دينار في هذا الحديث '' صحيح مسلم 2 \ 1145.(78/356)
لم يعتد بها الأئمة؛ لكونها غير محفظة، ولم تخرجهما عن الغرابة والتفرد.
- ومثال ذلك أيضا حديث ابن عباس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين كبشين (1) » . . . .
__________
(1) سنن النسائي العقيقة (4219) ، سنن أبي داود الضحايا (2841) .(78/357)
جاء في كتاب العلل لابن أبي حاتم: " سألت أبي عن حديث رواه عبد الوارث، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين كبشين (1) » . قال أبي: هذا وهم حدثنا أبو معمر عن عبد الوارث هكذا، ورواه وهيب وابن علية، عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. . . مرسل، قال أبي: وهذا مرسل أصح. سألت أبي عن حديث رواه ابن وهب عن جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس قال: «عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين بكبشين» . قال أبي: أخطأ جرير في هذا الحديث، إنما هو: قتادة عن عكرمة قال: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . مرسل " (2) .
فأبو حاتم رجح إرسال الحديث، وحكم على وصله بأنه وهم، ثم حكم على حديث أنس بأنه خطأ، فعلى هذا لا يعتد بالطريق المحكوم عليه بالوهم، ولا بالشاهد المحكوم عليه بالخطأ، والله أعلم.
والحاصل أن تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد لها ضوابط من أبرزها: التأكد من كونها محفوظة سالمة من الخطأ والوهم؛ إذ إن
__________
(1) سنن النسائي العقيقة (4219) ، سنن أبي داود الضحايا (2841) .
(2) العلل لابن حاتم 2 \ 49، 50.(78/358)
تعدد الطرق من راو قد يكون بسبب اضطرابه أو اضطراب من يروي عنه، وقد تكون الطرق الكثيرة ترجع إلى طريق واحد، وما يظن أنه شاهد يكون خطأ من بعض الرواة، والتساهل في هذا أدى إلى ضعف نقد السنة عند بعض العلماء المتأخرين والباحثين المعاصرين، وحصل في أحكامهم على الأحاديث مخالفة للأئمة المتقدمين، وربما اعترضوا على الأئمة في تضعيفهم لبعض الأحاديث، ونازعوهم بوجود شواهد ومتابعات للحديث، وكأن الأئمة لم يطلعوا عليها، ولم تطرق أسماعهم، وقد ينفي بعض الأئمة في باب من أبواب العلم وجود حديث فيه، أو يقيد النفي بالصحة، فتنهال عليهم الإيرادات والاستدراكات بوجود أحاديث صحيحة لها طرق متعددة أو لها شواهد، كأن الأئمة لم يطلعوا عليها، وكان الأجدر قبل الاستدراك النظر في هذه الطرق والشواهد، وهل هي صالحة للاعتبار بها أم لا، لا سيما وقد يكون الاعتماد في جمع الطرق والشواهد على كتب ومصنفات هي مجمع الغرائب والمناكير، مثل: معاجم الطبراني، ومسند البزار، وسنن الدارقطني، وكتب الفوائد والأفراد والغرائب، قال الإمام أحمد: " إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون: هذا الحديث غريب أو فائدة، فاعلم أنه خطأ، أو دخل حديث في حديث، أو خطأ من المحدث، أو حديث ليس له إسناد، وإن كان قد روى شعبة وسفيان، وإذا سمعتهم يقولون: لا شيء،(78/359)
فاعلم أنه صحيح " (1) .
وقال الخطيب البغدادي: " أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان، يغلب على إرادتهم كتب الغريب دون المشهور، وسماع المنكر دون المعروف، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من روايات المجروحين والضعفاء، حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنبا، والثابت مصروفا عنه مطرحا، وذلك كله لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم، ونقصان علمهم بالتمييز، وزهدهم في تعلمه، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين والأعلام من أسلافنا الماضين " (2) .
وقال ابن رجب معلقا على كلام الخطيب البغدادي: " وهذا الذي قاله الخطيب حق، ونجد كثيرا ممن ينتسب إلى الحديث لا يعتني بالأصول الصحاح لكتب السنة ونحوها ويعتني بالأجزاء الغريبة، وبمثل " مسند البزار "، و " معجم الطبراني "، و " أفراد الدارقطني "، وهي مجمع الغرائب والمناكير " (3) .
__________
(1) الكفاية ص 142.
(2) ينظر: الكفاية في علم الرواية ص 141، شرح علل الترمذي 1 \ 409.
(3) شرح علل الترمذي 1 \ 409.(78/360)
المبحث الرابع: قاعدة: فلان لا يروي إلا عن ثقة غالبية.
عرف عن بعض الأئمة أنهم لا يروون إلا عن ثقة؛ لما عرف عنهم من التثبت والتحري وانتقاء الشيوخ.
وهذا الإطلاق الذي وصف به بعض الأئمة قيده ابن عبد الهادي(78/360)
بأن هذا هو الغالب، وذلك لوجود روايتهم عن بعض الضعفاء، قال - رحمه الله -: " فإن قيل: قد روى الإمام أحمد بن حنبل عن موسى بن هلال وهو لا يروي إلا عن ثقة، فالجواب أن يقال: رواية الإمام أحمد عن الثقات هو الغالب من فعله، والأكثر من عمله كما هو المعروف من طريقة شعبة، ومالك، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، وغيرهم، وقد يروي الإمام أحمد قليلا في بعض الأحيان عن جماعة نسبوا إلى الضعف وقلة الضبط، وذلك على وجه الاعتبار والاستشهاد لا على طريق الاجتهاد والاعتماد " (1) .
ثم ذكر بعض الأمثلة من رواية الإمام أحمد عن بعض الرواة الذين نسبوا للضعف وقلة الضبط مثل روايته عن:
- عامر بن صالح الزبيري.
- محمد بن القاسم الأسدي.
__________
(1) الصارم المنكي ص40، 41.(78/361)
- عمر بن هارون البلخي.
- علي بن عاصم الواسطي.
- إبراهيم بن أبي الليث صاحب الأشجعي.(78/362)
- يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي. .
- نصر بن باب. .
- تليد بن سليمان الكوفي. .
- حسين بن حسن الأشقر. .(78/363)
- أبي سعيد الصاغاني محمد بن ميسر.
ونحوهم ممن اشتهر الكلام فيه.
وقال أيضا عن شعبة وهو مما عرف عنه أنه لا يروي إلا عن ثقة: " الغالب على طريقة شعبة الرواية عن الثقات، وقد يروي عن جماعة من الضعفاء الذين اشتهر جرحهم والكلام فيهم الكلمة والشيء والحديث والحديثين وأكثر من ذلك " (1) .
ثم ذكر أمثلة لروايته عن بعض الضعفاء فقال: " وهذا مثل روايته عن:
- إبراهيم بن مسلم الهجري.
__________
(1) الصارم المنكي (ص: 134) .(78/364)
- جابر الجعفي.
- زيد بن الحواري العمي.
- ثوير بن أبي فاختة.
- مجالد بن سعيد.(78/365)
- داود بن يزيد الأودي.
- عبيدة بن معتب الضبي.
- مسلم الأعور.
- موسى بن عبيدة الربذي.(78/366)
يعقوب بن عطاء بن أبي رباح.
- علي بن زيد بن جدعان.
- ليث بن أبي سليم.
- فرقد السبخي، وغيرهم ممن تكلم فيه ونسب إلى الضعف(78/367)
وسوء الحفظ وقلة الضبط ومخالفة الثقات.
وهذا الذي قرره الحافظ ابن عبد الهادي - أن من قيل عنه من الأئمة أنه لا يروي إلا عن ثقة محمول على الغالب - هو الذي يدل عليه كلام الأئمة.
قال الشافعي: " ولا أعلمني لقيت أحدا قط بريا من أن يحدث عن ثقة حافظ وآخر يخالفه " (1) .
وقال ابن معين: " أتريد أن تسأل عن رجال مالك؟ كل من حدث عنه ثقة، إلا رجلا أو رجلين " (2) .
وقال أبو حاتم: " إذا رأيت شعبة يحدث عن رجل فاعلم أنه ثقة إلا نفرا بأعيانهم " (3) .
وقال السخاوي: " ممن كان لا يروي إلا عن ثقة إلا في النادر: الإمام أحمد، وبقي بن مخلد، وحريز ين عثمان، وسليمان بن حرب، وشعبة، والشعبي، وعبد الرحمن بن مهدي، ومالك، ويحيى بن سعيد القطان " (4) .
__________
(1) الرسالة ص 377.
(2) مقدمة الجرح والتعديل ص 17.
(3) مقدمة الجرح والتعديل ص 128.
(4) فتح المغيث 2 \ 42.(78/368)
ووجود الرواية عن الضعفاء عند من ثبت في حقه بتصريحه أو نص الأئمة أنه لا يروي إلا عن ثقة يرجع إلى أسباب منها:
1 - أن يكون روى عنه لأنه ثقة عنده، أو لعدم ظهور ضعفه لديه.
وقد تقدم توثيق الإمام أحمد لبعض الرواة الذين روى عنهم وضعفهم غيره من الأئمة (1) .
قال الذهبي - رحمه الله - في ترجمة " قيس بن الربيع الأسدي الكوفي ": " أحد أوعية العلم على ضعف فيه من قبل حفظه " ثم قال: " حدث عنه رفيقاه شعبة والثوري " ثم قال: " وكان شعبة يثني عليه "، وقال: " أحد الأعلام على لين في روايته، ثم قال: كان شعبة مع نقده للرجال يثني على قيس " (2) .
وقال في ترجمة " عبد الله بن أحمد بن موسى الجواليقي المعروف بعبدان " (ت 306هـ) بعد أن ساق حديثا بسنده من طريق أبي المهزم يزيد بن سفيان التميمي البصري، قال: " وأبو المهزم يزيد بن سفيان متفق على ضعفه، والعجب أن شعبة يروي عنه ما أظنه تبين له حاله، والله أعلم " (3) .
__________
(1) ينظر ص 26 - 28، مثل: عامر بن صالح الزبيري، تليد بن سليمان، محمد بن ميسر.
(2) سير أعلام النبلاء 8 \ 41.
(3) سير أعلام النبلاء 14 \ 172، 173.(78/369)
2 - أن يكون روى عن رجل ضعيف؛ لأنه ما خبر حاله جيدا.
مثل رواية مالك عن عبد الكريم بن أبي المخارق، قال القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي ت 282 هـ: " إنما يعتبر بمالك في أهل بلده، فأما الغرباء فليس يحتج به فيهم، وبنحو هذا اعتذر غير واحد عن مالك في روايته عن عبد الكريم أبي أمية وغيره من الغرباء " (1) .
3 - أن يكون روى عن راو ضعيف عنده ليعتبر به، أو يستشهد براويته أو لأمر آخر.
وقد سبق قول ابن عبد الهادي: " وقد يروي الإمام أحمد قليلا في بعض الأحيان عن جماعة نسبوا إلى الضعف وقلة الضبط، وذلك على وجه الاعتبار والاستشهاد لا على طريق الاجتهاد والاعتماد " (2) .
وقال العلامة المعلمي - تعليقا على تقييد الحافظ السخاوي المسألة بقوله: " إلا في النادر " - وقوله: " إلا في النادر " لا يضرنا، إنما احترز بها لأن بعض أولئك المحتاطين قد يخطئ في التوثيق، فيروي عمن يراه ثقة وهو غير ثقة، وقد يضطر إلى حكاية شيء عمن ليس بثقة، فيحكيه ويبين أنه ليس بثقة، والحكم فيمن روى عنه أحد هؤلاء المحتاطين أن يبحث عنه، فإن وجد أن الذي
__________
(1) شرح علل الترمذي 1 \ 85.
(2) الصارم المنكي ص 40، 41.(78/370)
روى عنه قد جرحه، تبين أن روايته عنه كانت على وجه الحكاية، فلا تكون توثيقا، وإن وجد أن غيره قد جرحه جرحا أقوى مما تقتضيه روايته عنه ترجح الجرح، وإلا فظاهر روايته عنه التوثيق " (1) .
ومن خلال ما سبق يتضح أن الأئمة الذين عرف عنهم أنهم لا يروون إلا عن ثقات وجد روايتهم عن بعض الضعفاء، وعلى هذا فيقال: إن روايتهم عن الثقات هي الغالب كما وضح هذا الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله، والله أعلم.
__________
(1) التنكيل 1 \ 429.(78/371)
خاتمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
1 - تضمن هذا البحث كلام الحافظ ابن عبد الهادي عن أربع مسائل مهمة من مسائل مصطلح الحديث وهي: التفرد، حكم المرسل والاحتجاج به، تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد، قاعدة فلان لا يروي إلا عن ثقة.
2 - تحدث الحافظ ابن عبد الهادي عن التفرد، وبين أن الأئمة النقاد يستنكرون ما يتفرد به الثقات، وقد استكملت الكلام في هذه(78/371)
المسألة، ووضحت الحالات التي يتأكد فيها إعلال الحديث بالتفرد.
3 - عرض الحافظ ابن عبد الهادي لبيان حكم الاحتجاج بالمرسل، وقد توسع في ذكر كلام الأئمة في المراسيل، وبين أن المراسيل ليست على درجة واحدة بل تتفاوت، وذكر كلام الإمام الشافعي المتضمن للتفضيل في قبول المرسل، ومال إلى الأخذ بالقول أن المرسل إذا عرف من عادته أنه لا يرسل إلا عن ثقة، فمرسله مقبول، ومن لم يكن من عادته ذلك فلا يقبل مرسله، وقد ناقشت هذا القول وبينت أن الراجح في قبول المرسل أنه بحسب الاعتضاد.
4 - تكلم الحافظ ابن عبد الهادي عن تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد، وذكر أن العبرة ليست بكثرة الطرق وتعددها، ولكن العبرة بثبوتها وصحتها وسلامتها من النكارة والعلل القادحة، وقد استكملت الكلام في هذه المسألة، وبينت أقول الأئمة في ضوابط تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد.
5 - تحدث الحافظ ابن عبد الهادي عن بعض الأئمة الذين قيل عنهم إنهم لا يروون إلا عن ثقة مثل: الإمام أحمد وشعبة، وبين أن روايتهم عن الثقات هي الغالب عنهم، ويوجد روايتهم عمن نسب إلى ضعف، وضرب أمثلة تدل على ما ذهب إليه، وقد استكملت الكلام في هذه المسألة، ووضحت الأسباب في وجود الرواية عن(78/372)
الضعفاء عند من ثبت في حقه أنه لا يروي إلا عن ثقة.
هذا وأسأل الله تبارك وتعالى أن ينفع بهذا الجهد، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب وخطيئة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(78/373)
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في حكم الذهاب إلى السحرة من أجل المعالجة (1)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد:
فقد ورد إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الكثير من الأسئلة والاستفسارات عن حكم السحر وعن إتيان السحرة، فنقول: حرم الله السحر تعلما وتعليما وعملا به، وحيث تظافرت الأدلة من الكتاب والسنة على تحريم السحر وكفر الساحر، يقول الله سبحانه عن اليهود: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (2) .
__________
(1) أصدر برقم (828 \ 2) وتاريخ 1 \ 7 \ 1427 هـ.
(2) سورة البقرة الآية 102(78/375)
فقد أخبر - سبحانه وتعالى - بكذب الشياطين فيما تلته على ملك سليمان - عليه السلام - ونفى عنه ما نسبوه إليه من السحر بنفي الكفر عنه، مما يدل على كون السحر كفرا، وأكد كفر الشياطين، وذكر صورة من ذلك وهي " تعليم الناس السحر " ومما يؤكد كفر متعلم السحر قوله تعالى عن الملكين اللذين يعلمان الناس السحر ابتلاء لمن جاء متعلما {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} (1) أي: لا تكفر بتعلم السحر.
ثم أخبر -سبحانه - أن تعلم السحر ضرر لا نفع فيه، فقال: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} (2) وما لا نفع فيه وضرره محقق لا يجوز تعلمه بحال، ثم يقول سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} (3) أي: لقد علم اليهود فيما عهد إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة، قال ابن عباس: ليس له نصيب، وقال الحسن: ليس له دين، فدلت الآية على تحريم السحر، وعلى كفر الساحر، وعلى ضرر السحرة على الخلق، وقال سبحانه: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (4) ، ففي هذه الآية الكريمة نفي الفلاح نفيا عاما عن الساحر في أي مكان كان، وهذه دليل على كفره.
ومن السنة ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل
__________
(1) سورة البقرة الآية 102
(2) سورة البقرة الآية 102
(3) سورة البقرة الآية 102
(4) سورة طه الآية 69(78/376)
النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات (1) » وهذا يدل على عظم جريمة السحر؛ لأنه قرنه بالشرك، وعده من السبع الموبقات التي نهى عنها؛ لكونها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من الأضرار الحسية والمعنوية، وتهلكه في الآخرة بما يناله بسببها من العذاب الأليم.
ومن السنة أيضا حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (2) » رواه أحمد، والأربعة، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما. وروى البزار وأبو يعلى بإسناد جيد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - موقوفا " من أتى عرافا أو ساحرا أو كاهنا فسأله فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " ومنها حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» رواه البزار بإسناد جيد، وهناك أحاديث أخرى في النهي عن إتيان الكهان والعرافين، وبيان حكم
__________
(1) صحيح البخاري الفرائض (6857) ، صحيح مسلم الإيمان (89) ، سنن النسائي الوصايا (3671) ، سنن أبي داود الوصايا (2874) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبي داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد (2/476) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .(78/377)