ج - ثبوت في الكلام
قد يعنى بثبات القدم: الثبات بالكلام فلا يزل في مواطن استزلال اللسان.
فيقال: " رجل ثبت القدم إذا ثبت في قتال أو كلام " (1) .
__________
(1) غريب الحديث \ الحربي: 2 \ 601.(73/350)
المبحث الثالث: (أقسام الثبات) وفيه ثلاثة مطالب:
فالله - عز وجل - بلطفه ومنه وكرمه لا يترك عباده المؤمنين به والمصدقين برسالاته فهو - سبحانه - يثبتهم في الدنيا، كذلك يثبتهم في الآخرة في قبورهم ويوم بعثهم وحشرهم وعرضهم ومرورهم على الصراط.
المطلب الأول: الثبات في الدنيا
قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (1) .
اختلف المفسرون في معنى الحياة الدنيا، فبعضهم جعلها ما قبل الموت، وبعضهم جعلها حياة البرزخ، وكذلك معنى القول الثابت بعضهم جعلها كلمة التوحيد، وبعضهم جعلها الأعمال الصالحة.
قال الطبري: ". . . معنى ذلك يثبت الله الذين آمنوا بالإيمان في الحياة الدنيا " بالقول الثابت وفي الآخرة المسألة في القبر (2) .
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 27
(2) تفسير الطبري: 13 \ 213، وانظر مجموع الفتاوى \ ابن تيمية 13 \ 116.(73/350)
و (القول - الثابت في الحياة الدنيا أما الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح) (1) .
ثم يرجح الإمام الطبري القول الذي ذهب إلى أن الحياة الدنيا المقصود به ما قبل الموت.
فيقول: (والصواب من القول في ذلك ما ثبت به الخبر عن رسول الله في ذلك هو أن معناه يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وذلك تثبيته إياهم في الحياة الدنيا بالإيمان بالله وبرسوله محمد وفي الآخرة بمثل الذي يثبتهم به في الحياة الدنيا وذلك في قبورهم حين يسألون عن الذي هم عليه من التوحيد والإيمان برسوله. وأما قوله: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} (2) في القبر مما هدى له من الإيمان المؤمن بالله ورسوله) (3) .
وقال القرطبي: (ثبت أقدامنا. . قيل على الإسلام) (4) .
وكذلك قال البغوي: بالقول الثابت كلمة التوحيد، وهي قول لا إله إلا الله في الحياة الدنيا يعنى قبل الموت، وفي الآخرة يعني القبر هذا قول أهل التفسير) (5) ويقول أيضا مرجحا مذهب أهل التفسير في هذه المسألة: (وقيل في الحياة الدنيا، عند السؤال في
__________
(1) تفسير الطبري: 13 \ 213.
(2) سورة إبراهيم الآية 27
(3) تفسير الطبري: 13 \ 218.
(4) تفسير القرطبي: 16 \ 232.
(5) تفسير البغوي: 4 \ 349.(73/351)
القبر، وفي الآخرة. عند البعث والأول أصح) (1) .
وقال النسفي مؤيدا {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} (2) أي يديمهم عليه. {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} (3) هو قول لا إله إلا الله محمد رسول الله في الحياة الدنيا حتى إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود وغير ذلك. . . {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} (4) فلا يثبتهم على القول الثابت في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أول شيء وهم في الآخرة أضل وأزل) (5) .
وقال الألوسي مبينا ومفصلا ومؤيدا لما ذهب إليه الإمام الطبري: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} (6) الذي ثبت عندهم وتمكن في قلوبهم وهو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة. . . قوله سبحانه: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (7) أي يثبتهم بالبقاء على ذلك مدة حياتهم فلا يزالون إذا قيض لهم من يفتنهم ويحاول زللهم
__________
(1) المصدر السابق: 4 \ 351.
(2) سورة إبراهيم الآية 27
(3) سورة إبراهيم الآية 27
(4) سورة إبراهيم الآية 27
(5) تفسير النسفي: 2 \ 230.
(6) سورة إبراهيم الآية 27
(7) سورة إبراهيم الآية 27(73/352)
عنه كما جرى لأصحاب الأخدود. . . وكما جرى لبلال وكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم. . . .
(و) عن البراء بن عازب في الآية أنه قال: (التثبيت في الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر، فقالا له: من ربك، قال: ربي الله، قالا: وما دينك، قال: ديني الإسلام، قالا: ومن نبيك، قال: نبيي محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا فالمراد من الآخرة يوم القيامة.
وأخرج الطبراني في الأوسط. . . عن أبي سعيد الخدري(73/353)
قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في هذه الآية: «يثبت الله إلخ في الآخرة القبر (1) » .
وعلى هذا فالمراد بالحياة الدنيا مدة الحياة وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء واختاره الطبري اختار بعضهم أن الحياة الدنيا مدة حياتهم والآخرة يوم القيامة والعرض. . .
ومن الناس من زعم أن التثبيت في الدنيا الفتح والنصر وفي الآخرة الجنة والثواب ولا يخفى أن هذا مما لا يكاد يقال) (2) .
وقال البيضاوي: (في الحياة الدنيا) . . . لا يزالون إذا فتنوا في دينهم كزكريا ويحيى عليهما السلام. . والذين فتنهم أصحاب الأخدود) (3) .
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط: 5 \ 367، والهيثمي في مجمع الزوائد: 7 \ 44.
(2) روح المعاني \ الألوسي: 13 \ 217.
(3) تفسير البيضاوى: 3 \ 347.(73/354)
المطلب الثاني: الثبات في الآخرة:
وينقسم إلى قسمين هما:
1 - القبر:
إنه بيت الوحشة والظلمة والدود والعذاب على الظالمين، لكن المؤمنين الموحدين المخلصين لربهم هو لهم روضة من رياض الجنة فلا يخذلون وقت السؤال، بل يثبتهم الله ويسدد ألسنتهم بالإجابة الحق التي كانوا مؤمنين بها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المسلم إذا سئل(73/354)
في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله (2) » فتثبيت المؤمن في القبر مجمع عليه عند أهل السنة والجماعة وكثير من الطوائف الإسلامية، وأهل التفسير متفقون على ذلك لكن الاختلاف الحاصل بينهم هل هذا التثبيت للمؤمن في الحياة الدنيا أم الآخرة أم هو جزء من حياة الآخرة.
يقول ابن كثير: (يعني تعالى ذكره بقوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} (3) يحقق الله أعمالهم وإيمانهم بالقول الثابت يقول بالقول الحق وهو فيما قيل: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأما قوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (4) فإن أهل التأويل اختلفوا فيه، فقال بعضهم: عني بذلك أن الله يثبتهم في قبورهم قبل قيام الساعة «عن البراء بن عازب في قوله: قال: التثبيت في الحياة الدنيا إذا أتاه الملكان في القبر، فقالا له: من ربك، فقال: ربي الله، فقالا له: ما دينك، قال: ديني الإسلام، فقالا له: من نبيك، قال: نبيي محمد فذلك التثبيت في الحياة الدنيا (6) » (7) .
__________
(1) أخرجه البخاري 4 \ 1738، ولم يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إحدى الدارين فقط بل كلاهما.
(2) سورة إبراهيم الآية 27 (1) {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}
(3) سورة إبراهيم الآية 27
(4) سورة إبراهيم الآية 27
(5) صحيح البخاري تفسير القرآن (4699) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2871) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3120) ، سنن النسائي الجنائز (2057) ، سنن أبو داود السنة (4750) ، سنن ابن ماجه الزهد (4269) .
(6) سورة إبراهيم الآية 27 (5) {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
(7) تفسير ابن كثير 2 \ 534.(73/355)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه، جاءه ملك في يده مطراق من حديد فأقعده، فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول له: صدقت، ثم يفتح له بابا إلى النار، فيقول: كان هذا منزلك لو كفرت بربك، فأما إذ آمنت فهذا منزلك، فيفتح له بابا إلى الجنة فيريد أن ينهض إليه، فيقول له: اسكن ويفسح له في قبره، وإن كان كافرا أو منافقا، يقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا، فيقول: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت. ثم يفتح له بابا إلى الجنة فيقول له: هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما إذ كفرت به فإن الله عز وجل أبدلك به هذا، فيفتح له بابا إلى النار، ثم يقمعه قمعة بالمطراق، فيصيح صيحة يسمعها خلق الله عز وجل كلهم غير الثقلين، فقال بعض القوم: يا رسول الله، ما أحد يقوم عليه ملك في يده مطراق إلا هيل عند ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (2) »
__________
(1) أخرجه أبو داود 4 \ 239، وأحمد: 4 \ 287، والهيثمي في مجمع الزوائد: 3 \ 50 وقال: قلت هو في الصحيح رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح) ، وابن كثير في التفسير: 2 \ 534، وقال: (إسناد لا بأس به) .
(2) سورة إبراهيم الآية 27 (1) {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}(73/356)
والإمام الطبري يذكر الصواب بأن مذهب أهل التأويل في هذه المسألة: أن التثبيت في الآخرة هو الإجابة في القبر فهو لا يعد من الدنيا أو منازلها فيقول: (وقوله في الآخرة أي في القبر، والصواب من القول في ذلك ما ثبت به الخبر عن رسول الله في ذلك، وهو أن معناه يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا، وذلك تثبيته إياهم في الحياة الدنيا بالإيمان بالله وبرسوله محمد، وفي الآخرة بمثل الذي ثبتهم به في الحياة الدنيا وذلك في قبورهم حين يسألون عن الذي هم عليه من التوحيد والإيمان برسوله، وأما قوله: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} (1) فإنه يعني أن الله لا يوفق المنافق والكافر في الحياة الدنيا وفي الآخرة عند المسألة في القبر لما هدي له من الإيمان المؤمن بالله ورسوله وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل) .
يقول النسفي: مبينا أن المراد بالآخرة هو عذاب القبر وأن هذا قول الجمهور: (يثبت الله الذين آمنوا أي يديمهم عليه بالقول الثابت. . وفي الآخرة. . الجمهور على أن المراد به في القبر بتلقين الجواب وتمكين الصواب. . ويضل الله الظالمين فلا يثبتهم على القول الثابت في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أول شيء وهم في الآخرة أضل وأزل) (2) .
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 27
(2) تفسير النسفي: 2 \ 230.(73/357)
وكذلك ذهب الألوسي إلى هذا لكنه لم يحصر الآخرة به، بل جعله جزءا من الآخرة والتثبيت للمؤمن في جميع أجزاء الآخرة فقال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} (1) الذي ثبت عندهم وتمكن. . {وَفِي الْآخِرَةِ} (2) أي بعد الموت وذلك في القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة. . . عن البراء بن عازب أنه قال (في الآية التثبيت في الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر، فقالا له: من ربك؟ قال: ربي الله، قالا: وما دينك؟ قال: ديني الإسلام، قالا: ومن نبيك؟ قال: نبيي محمد صلى الله عليه وسلم. (3)
وأخرج الطبراني في الأوسط (4) عن أبي سعيد الخدري قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الآية: يثبت الله إلخ في الآخرة القبر» (5) .
فلعل الألوسي استدل. بما قاله أنس - رضي الله عنه -: " إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته فاعبدوا الله كأنكم ترونه واستغفروه كل ساعة " (6) . فالآخرة والقيامة تبدأ من توديع الدنيا.
وقد ذكر المناوي عند شرح حديث: «اللهم إني أسألك
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 27
(2) سورة إبراهيم الآية 27
(3) سبق تخريجه.
(4) سبق تخريجه.
(5) روح المعاني \ الألوسي: 13 \ 217.
(6) أخرجه الديلمي بالفردوس: 1 \ 285.(73/358)
الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد (1) » مبينا أن الثبات على الأمر هو الثبات على السؤال بدليل خبر أنه كان إذا دفن الميت قال: «سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل (2) » . ولا مانع من إرادة الكل فالثبات التمكن في الموضع الذي شأنه الاستزلال (3) فالدنيا والقبر والآخرة مواضع استزلال لأنها مزالق.
2 - يوم القيامة
أهوال يوم القيام تذهل الصغير والكبير، حتى الأم الرؤم تذهل عن رضيعها، وتجعل الولدان شيبا، فيحتاج العباد لربهم ليثبتهم في مواقع الزلل حتى يصلوا إلى الجنة سالمين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أبلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغه يثبت الله قدميه على الصراط يوم تنعقد الأقدام (4) » .
وبين القرطبي أن المقصود بثبات الأقدام الوارد في الآية (5) : الثبات على الصراط يقول: (وثبت أقدامنا. . . قيل: على الصراط) (6) .
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سنن أبو داود الجنائز (3221) .
(3) فيض القدير \ المناوي: 2 \ 130.
(4) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد: 5 \ 210 وقال: '' رواه البزار وفيه سعيد البراد وبقية رجاله ثقات ''.
(5) انظر: ص 348.
(6) تفسير القرطبي: 16 \ 232.(73/359)
وكذلك الألوسي وضح معنى الثبات في الآخرة ومتى يكون فقال: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت الذي ثبت عندهم وتمكن في قلوبهم، وهو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة.
وفي الآخرة: أي بعد الموت؛ وذلك في القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة، وفي مواقف القيامة فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم هناك، ولا تدهشهم الأهوال، فالمراد من الآخرة يوم القيامة. . .
والمراد بالحياة الدنيا مدة الحياة، وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء، واختاره الطبري، نعم اختار بعضهم أن الحياة الدنيا مدة حياتهم والآخرة يوم القيامة والعرض ومن الناس من زعم أن التثبيت في الدنيا الفتح والنصر، وفي الآخرة الجنة والثواب، ولا يخفى أن هذا مما لا يكاد يقال) (1) ، إن الألوسي جعل عذاب القبر من الآخرة؛ لأن ما بعد الموت إما أن يكون قسمين:
- البرزخ - والقيامة
أو قسما واحدا هي الآخرة، وتشمل القسمين السابقين.
ويقول ابن الجوزي: (القول الثابت وهو شهادة أن لا إله إلا الله.
قوله تعالى: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (2) فيه قولان:
أحدهما: أن الحياة الدنيا زمان الحياة على وجه الأرض،
__________
(1) روح المعاني \ الألوسي: 13 \ 217.
(2) سورة إبراهيم الآية 27(73/360)
والآخرة زمان المساءلة في القبر، وإلى هذا المعنى ذهب البراء بن عازب، وفيه أحاديث تعضده (1) ، والثاني: أن الحياة الدنيا زمن السؤال في القبر، والآخرة السؤال في القيامة، وإلى هذا المعنى ذهب طاوس وقتادة) (2) .
من خلال النص السابق يتبين ما رجحه الإمام ابن الجوزي وذهب إليه بقوله وفيه أحاديث تعضده فهو يذهب إلى أن الآخرة عذاب القبر والدنيا الحياة التي قبله.
__________
(1) انظر ص 353.
(2) زاد المسير \ ابن الجوزي \ 4 \ 361.(73/361)
المطلب الثالث: أنواع وموطن الثبات في الدنيا:
الدنيا دار بلاء وابتلاء، وامتحان، واختبار، فهي المحك الذي يتبين فيه حزب الله من حزب الشيطان، فهناك الأوامر من الله والنواهي كذلك؛ لكن هناك العوارض المعارضة لها، الداخلية من النفس الأمارة بالسوء، والخارجية من الشيطان والناس، منهم الوالدان ورفقاء السوء تزيينهم للإنسان سبل وطرق الشر، فالدنيا مزالقها كثيرة، فمن الناس من يثبت ومنهم من تهوي به هذه المزالق إلى قعر جهنم، لكن أرحم الراحمين البر اللطيف يثبت أولياءه في(73/361)
المواطن التي فيها مزلة.
يقول المناوي: (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، أي الدوام على الدين والاستقامة؛ بدليل خبره صلى الله عليه وسلم، كان كثيرا ما يقول: «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك (1) » أراد الثبات عند الاحتضار أو السؤال. بدليل خبر أنه كان إذا دفن الميت قال: «سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل (2) » (3) .
فمواطن الثبات في الدنيا هي:
الثبات على الدين:
لم يخلق الله - عز وجل - الثقلين إلا لعبادته - سبحانه وتعالى - قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4) .
فالثبات على الدين أعظم ثبات فمن ثبت عليه ثبت على ما سواه، فقوله تعالى: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} (5) معناه ثبتنا على دينك فإن الثابت على دينه ثابت في حربه) (6) .
لذلك شرع الدعاء بالثبات على الدين وبحسن الخاتمة (7) ، فالدعاء
__________
(1) سنن الترمذي القدر (2140) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3834) .
(2) أخرجه أبو داود: 3 \ 215، والحاكم 1 \ 526، وقال: '' صحيح على شرط الإسناد ولم يخرجاه ''.
(3) فيض القدير \ المناوي: 2 \ 130.
(4) سورة الذاريات الآية 56
(5) سورة البقرة الآية 250
(6) زاد المسير \ ابن الجوزي: 1 \ 473، وتفسير القرطبي: 16 \ 232.
(7) انظر فتح الباري \ ابن حجر: 11 \ 491.(73/362)
بالثبات وحسن الخاتمة أمر مهم وهو سبب من الأسباب لجلب الخير ودفع الشر بل هو من أعظمها فقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من دعاء: «اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك (1) » (فإياه نسأل الثبات على السنة والإسلام وبه نتعوذ من البدع والآثام والسبب الموجب للانتقام إنه المعين لأوليائه) (2) .
2 - الثبات على الطاعة:
الطاعة هي التذلل لله - عز وجل - فهي العمل بأوامر الله، والوقوف عند نواهيه والطاعة هي الدين لكن الرسول صلى الله عليه وسلم خصها من الدين فقال: «يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك (3) » .
فالطاعة بمعنى: لان وانقاد ووافق، وهي نقيض الكره (4) ، وهذا يشمل جميع الأوامر بالموافقة عليها والإتيان بها، والموافقة على ترك المحرمات وإطاعة من صدرت منه.
3 - الثبات على الحق:
الحق نور أبلج لا ينكره إلا الفاقد للبصر والبصيرة معا، فهو طريق واحد نور واحد، عكس الظلمات وطرق الشر، فالمؤمن يراه
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) صحيح ابن حبان: 1 \ 104.
(3) سبق تخريجه.
(4) انظر: لسان العرب، ابن منظور: 8 \ 240، 241.(73/363)
ويرشده إلى طريق الجنة لكن عليه الثبات على الحق حتى وقت الشدة؛ لأنه لا يتعدد ولا يتغير عكس سبل الشيطان، فالمسلم مأمور بالثبات على الدين عند تواتر البلايا عليه، فقد أخرج ابن حبان «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر بريح طيبة فقال: يا جبريل ما هذه الريح؟ قال: هذه ريح ماشطة بنت فرعون وأولادها، بينما هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المدري من يدها فقالت: بسم الله، فقالت بنت فرعون: أبي، قالت: بل ربي وربك الله، قالت: فأخبر بذلك أبي، قالت: نعم، فأخبرته، فأرسل إليها فقال: ألك رب غيري، قالت: نعم ربي وربك الله، فأمر بنقرة من نحاس فأحميت فقالت له: إن لي إليك حاجة قال: نعم قال فجعل يلقي ولدها واحدا واحدا حتى انتهوا إلى ولد لها رضيع فقال: يا أمتاه اثبتي فإنك على الحق (1) » إن الطفل الرضيع الصغير الضعيف قد يجعل الأم تتراجع وتتخاذل لكن الله قد جعل ثباتها على الحق عن طريقه، فسبحان من لا يترك أولياءه في المضايق. يقول ابن تيمية: (يقول الله: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} (2) ، وذلك بإلقاء ما يثبته من التصديق بالحق والوعد بالخير) (3) .
__________
(1) أخرجه ابن حبان: 7 \ 163.
(2) سورة الإسراء الآية 74
(3) فتاوى ابن تيمية: 17 \ 5240،(73/364)
فالمقصود في هذه الآية هو التثبيت على الحق، فلا يميل عنه ولا يحيد (1) .
4 - الثبات عند القتال قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (2) .
الثبات في المعركة أمر مطلوب؛ لأنها موطن الفرار والتراجع والتخاذل، لهول ما يرى فيها ويسمع، ولغريزة حب الحياة، لذلك أمر بالثبات في المعركة عند قتال الكفار (3) فقال: فلا تنهزموا عنهم ولا تولوهم الأدبار هاربين إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة منكم، {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} (4) يقول: وادعوا الله بالنصر عليهم والظفر بهم وأشعروا قلوبكم وألسنتكم ذكره {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5) يقول: كيما تنجحوا فتظفروا بعدوكم ويرزقكم الله النصر والظفر) (6) .
(لعلكم تفلحون: أي كونوا على رجاء الفلاح) (7) .
فهذا (تعليم من الله لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء) (8) ؛ ولأنه موطن يعز فيه الثبات، فلا
__________
(1) انظر تفسير البغوي: 3 \ 127، وتفسير القرطبي: 10 \ 300.
(2) سورة الأنفال الآية 45
(3) انظر تفسير القرطبي 8 \ 23، وتفسير أبي السعود: 4 \ 25.
(4) سورة الأنفال الآية 45
(5) سورة الأنفال الآية 45
(6) تفسير الطبري: 10 \ 14.
(7) تفسير البغوي: 2 \ 253.
(8) تفسير ابن كثير: 2 \ 317.(73/365)
ملجأ ولا منجا إلا إليه؛ لذلك يطلب من القوي - سبحانه - تثبيت عباده الضعفاء الذين اشتدت حاجتهم إليه من عباده الراجين تثبيته ونصره.
فهم في موطن الشدة والمعركة وتلاحم الصفوف يطلبون تثبيت الأقدام في القتال (1) {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (2) ، لكن وقت اندفاع البلاء قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، وإذا لقيتموهم فاثبتوا وأكثروا ذكر الله واصبروا وإن جلبوا وصيحوا فعليكم بالصمت (3) » .
فنهى عن تمني لقاء العدو؛ لأن العبد قد لا يصبر في ذلك الموطن.
5 - الثبات في الكلام والقول:
إن بعض الحديث ليأخذ بمجامع القلوب سواء وقت الدعوة إلى سبيل الله - عز وجل - أو دفع ظلم أو أخذ حق، فهذه مواضع شائكة لا يستطيع التخلص منها والنجاح فيها إلا من ألهمه الله
__________
(1) انظر: زاد المسير، ابن الجوزي: 1 \ 472.
(2) سورة البقرة الآية 250
(3) أخرجه الدارمي: 2 \ 285، والبيهقي في الكبرى 9 \ 153، وابن أبي شيبة في مصنفه: 6 \ 513، وأخرجه البخاري بلفظ: ''يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا '': 3 \ 1082.(73/366)
الثبات، وقد قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا (1) » .
ويقال (رجل ثبت الغدر: أي ثابت في قتال أو كلام، وأصل الغدر الموضع الكثير الحجارة والصعب المسلك لا تكاد الدابة تتخلص منه؛ فكأن قولك: غادره أي تركه في الغدر، فاستعمل ذلك حتى يقال: غادرته أي خلفته " (2) .
6 - الثبات في الأمر والرأي:
الرأي: هو التدبير أو ما يذهب إليه الشخص (3) .
وقد بين ابن منظور التثبيت فيه فقال: " وتثبت في الأمر والرأي واستثبت تأنى فيه ولم يعجل " (4) ، و "استثبت في أمره إذا شاور وفحص عنه " (5) والمؤمن يتبرى من الحول والقوة إلا بالله، ويسأله السداد والثبات في الرأي لذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري: 5 \ 1976.
(2) العين \ الفراهيدي: 4 \ 390.
(3) انظر المصباح المنير \ الفيومي: 1 \ 247.
(4) لسان العرب \ ابن منظور: 2 \ 19.
(5) المصدر السابق نفس الصفحات(73/367)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، وأسألك العزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك لسانا صادقا وقلبا سليما وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأسألك من خير ما تعلم، وأستغفرك مما تعلم إنك أنت علام الغيوب» .
فمن دعائه: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر (1) » أي الدوام على الدين والاستقامة بدليل خبره صلى الله عليه وسلم كان كثيرا ما يقول: «ثبت قلبي على دينك (2) » أراد الثبات عند الاحتضار أو السؤال بدليل خبره صلى الله عليه وسلم أنه «كان إذا دفن الميت قال: سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل (3) » ولا مانع من إرادة الكل ولهذا قال الوالي الثبات التمكن في الموضع الذي شأنه الاستزلال (4) .
7 - الثبات على كلمة التوحيد:
وهي القول الثابت يثبت الله عليها المزمن في الدنيا والآخرة فيعتقدها في قلبه وتصدقها جوارحه وينطقه الله بها عند السؤال عنها في قبره
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3407) ، سنن النسائي السهو (1304) ، مسند أحمد بن حنبل (4/123) .
(2) سنن الترمذي القدر (2140) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3834) .
(3) سنن أبو داود الجنائز (3221) .
(4) فيض القدير: المناوي: 2 \ 130.(73/368)
قوله (2) » .
وعن البراء بن عازب أنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: قال: عذاب القبر (4) » .
ويبين النسفي معنى التثبيت في الموقفين فيقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} (5) أي: يديمهم عليه {بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} (6) هو قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (7) حتى إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا؛ كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود وغير ذلك {وَفِي الْآخِرَةِ} (8) الجمهور على أن المراد به في القبر بتلقين الجواب وتمكين الصواب " (9) .
8 - الثابت في الحجة:
(الحجة: البرهان، وحاجه فحجه من باب رد أي: غلبه بالحجة) (10) .
«قال صلى الله عليه وسلم: وثبت حجتي (11) »
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) سورة إبراهيم الآية 27 (1) {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}
(3) سبق تخريجه.
(4) سورة إبراهيم الآية 27 (3) {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}
(5) سورة إبراهيم الآية 27
(6) سورة إبراهيم الآية 27
(7) سورة إبراهيم الآية 27
(8) سورة إبراهيم الآية 27
(9) تفسير النسفي: 2 \ 230.
(10) مختار الصحاح: 1 \ 52.
(11) أخرجه أبو داود 2 \ 83، والترمذي: 5 \ 554 وقال: حسن صحيح وابن حبان 3 \ 229 ونص الحديث كاملا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو يقول: '' رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي، رب اجعلني لك شكارا لك ذكارا لك رهابا مطواعا لك مخبتا إليك أواها منيبا، رب تقبل توبتي واغسل حوبتي وأجب دعوتي وثبت حجتي وسدد لساني واهد قلبي واسلل سخيمة صدري ''(73/369)
(وثبت حجتي أي على أعدائك في الدنيا والعقبى وثبت قولي وتصديقي في الدنيا وعند جواب الملكين) (1) .
قال ابن الأثير: (ثبت حجتي في الدنيا والآخرة أي قولي وإيماني في الدنيا وعند جواب الملكين في القبر) (2) .
9 - الثبات عند الفتن:
لا تسير حياة الناس على وتيرة واحدة وليسوا دائما في رخاء، فقد تحدث فتن تذهل العبد عن عبادته، وعن الفرائض التي افترضت عليه، فهي تجعل الحليم حيران.
و (الفتنة: الاختبار والامتحان تقول: فتن الذهب يفتنه بالكسر فتنة ومفتونا أيضا إذا: أدخله النار لينظر ما جودته، ودينار مفتون أي: ممتحن.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (3) .
أي: حرقوهم، ويسمى الصائغ: الفتان وكذا الشيطان. . . . الفتان يروى بفتح الفاء على أنه واحد، وبضمها على أنه جمع،
__________
(1) تحفة الأحوذي: 9 \ 378.
(2) النهاية في غريب الحديث: 1 \ 341
(3) سورة البروج الآية 10(73/370)
و. . . الفتن الإحراق.
قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} (1) .
وافتتن الرجل وفتن فهو مفتون إذا أصابته فتنة فذهب ماله أو عقله وكذا إذا اختبر، قال الله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} (2) .
والفتون أيضا الافتتان يتعدى ويلزم، وفتنته المرأة دلهته. . . والفاتن المضل عن الحق) (3) .
فالسعيد من وقي الفتن؛ لأن الثبات فيها عزيز، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يسأل الله - عز وجل - الثبات وقت الفتن بل أمر بالتعوذ من جميع الفتن، فقال: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال (4) » والفتن التي ترد على الإنسان عديدة منها:
1 - الفتن العامة:
هناك فتن تعم حياة الإنسان وكذلك عند احتضاره وفي قبره.
فالله - عز وجل - يثبت عباده في الأوقات العصيبة فإنه لا يكلهم لأنفسهم في المواقف التي تحتاج تثبيتا، يقول النسفي: (يثبت الله الذين
__________
(1) سورة الذاريات الآية 13
(2) سورة طه الآية 40
(3) مختار الصحاح الرازي: 1 \ 205.
(4) أخرجه مسلم: 1 \ 412.(73/371)
آمنوا أي: يديمهم عليه، بالقول الثابت هو قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله في الحياة الدنيا، حتى إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود وغير ذلك. . . ويضل الله الظالمين فلا يثبتهم على القول الثابت في مواقف الفتن تنزل أقدامهم أول شيء وهم في الآخرة أضل) (1) .
ب - الفتن الخاصة كفتنة الدجال:
تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلم من فتن المحيا والممات إلا أنه خص بعد ذلك التعوذ من فتنة المسيح الدجال؛ لشدتها على من تقع له؛ لذلك وصفه لنا وحذرنا منه فكان من قوله: «لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم عليه السلام أعظم من فتنة الدجال، وإن الله لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم وهو خارج فيكم لا محالة، فإن خرج وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج كل مسلم، وإن يخرج من بعدي فكل حجيج نفسه، وإن الله خليفتي على كل مسلم، وإنه يخرج من خلة بين الشام والعراق فيبعث يمينا ويبعث شمالا ألا يا عباد الله أيها الناس فاثبتوا وإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي، إنه يبدأ فيقول أنا نبي فلا نبي بعدي، ثم يثني فيقول، أنا ربكم، ولا ترون ربكم حتى تموتوا، وإنه أعور وإن ربكم عز وجل ليس
__________
(1) تفسير النسفي: 2 \ 230.(73/372)
بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب، وإن من فتنته أن معه جنة ونارا فناره جنة وجنته نار، فمن ابتلي بناره فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه بردا وسلاما كما كانت النار بردا وسلاما على إبراهيم (1) » .
10 - الثبات عند المصائب:
لقد أمر الله تعالى بالصبر والثبات عند المصائب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) .
فأمرهم بالصبر وهو حال الصابر في نفسه، والمصابرة وهي حاله في الصبر مع خصمه، والمرابطة وهي الثبات واللزوم والإقامة على الصبر والمصابرة، فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط، وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبد بالتقوى، فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله التقوى، وأن الفلاح موقوف عليها، فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) .
والله - عز وجل - يصبر ويثبت عباده في مواقف يزل بها كثير من الخلق، فقد توفي ابن لأم عطية - رضي الله عنها - فلما
__________
(1) أخرجه الترمذي: 4 \ 90، الحاكم: 4 \ 580، وقال: حسن صحيح غريب. وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذه السياقة. وابن كثير في التفسير: 1 \ 581.
(2) سورة آل عمران الآية 200
(3) سورة آل عمران الآية 200(73/373)
كان اليوم الثالث دعت بصفرة فتمسحت به وقالت: (نهينا أن نحد أكثر من ثلاث إلا بزوج) (1) .
ولما جاء نعي أبي سفيان من الشام دعت أم حبيبة رضي الله عنها - بصفرة في اليوم الثالث فمسحت عارضيها وذراعيها وقالت: «إني كنت عن هذا لغنية لولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا (2) » . وأن زينب بنت جحش حين توفي أخوها دعت بطيب فمسته ثم قالت: ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا (3) » .
__________
(1) أخرجه البخاري: 1 \ 430.
(2) أخرجه البخاري: 1 \ 430.
(3) أخرجه البخاري: 1 \ 430.(73/374)
فهذه مواقف قد لا يصبر فيها العبد ولا يثبت فقد «مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري. قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم: فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى (1) » .
أما العبد المؤمن فإن الله - عز وجل - يثبته فور وقوع المصيبة عليه، يقول ابن حجر: (والمعنى إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب) من مقتضيات الجزع فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر، وأصل الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله فاستعير للمصيبة الواردة على القلب والصبر والثبات في الدين على ثلاثة أنواع: صبر على الأوامر، وصبر عند الحدود والمحارم فلا يتعداها، وصبر على المصائب.
يقول ابن القيم: (والصبر من الإيمان. بمنزلة الرأس من الجسد وهو ثلاثة أنواع: صبر على فرائض الله فلا يضيعها، وصبر عن محارمه فلا يرتكبها: وصبر على أقضيته وأقداره فلا يتسخطها، ومن استكمل هذه المراتب الثلاث استكمل الصبر ولذة الدنيا والآخرة ونعيمها، والفوز والظفر فيهما لا يصل إليه أحد إلا على جسر الصبر
__________
(1) أخرجه البخاري 1 \ 430(73/375)
كما لا يصل أحد إلى الجنة إلا على الصراط) (1) .
__________
(1) زاد المعاد ابن القيم 4 \ 333(73/376)
المبحث الرابع: وسائل التثبيت من الله وفيه أربعة مطالب:
إن الله عز وجل يثبت رسوله وعباده المؤمنين به فقط. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (2) .
والتثبت: جعل الإنسان ثابتا لا مرتابا، وذلك بإلقاء ما يثبته من التصديق بالحق والوعد بالخير كما قال ابن مسعود: لمة الملك وعد بالخير، وتصديق بالحق، فمتى علم القلب أن ما أخبر به الرسول حق صدقه، وإذا علم أن الله قد وعده بالتصديق وثق بوعد الله فثبت، فهذا يثبت بالكلام كما يثبت الإنسان الإنسان في أمر اضطرب فيه؛ بأن يخبره بصدقه، ويخبره بما يبين له أنه منصور فيثبت، وقد يكون التثبت بالفعل بأن يمسك القلب حتى يثبت، كما يمسك
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة إبراهيم الآية 27(73/376)
الإنسان الإنسان حتى يثبت) (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى ابن تيمية 17 \ 524(73/377)
المطلب الأول: عن طريق الملائكة:
قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} (1) .
إن الله عز وجل يأمر الملائكة بتثبيت المؤمنين في موطن اشتدت وضاقت عليهم السبل، وقد اختلف المفسرون في معنى التثبيت وما يكون.
يقول ابن الجوزي: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} (2) فيه أربعة أقوال:
أحدها: قاتلوا معهم. . .
والثاني: بشروهم بالنصر فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل ويقول ابشروا فإن الله ناصركم. . .
والثالث: ثبتوهم بأشياء تلقونها في قلوبهم تقوى بها. . .
والرابع: صححوا عزائمهم ونياتهم على الجهاد) وقيل: كثروا سوادهم (3) .
(وقيل: كان ذلك بأن الملك كان يأتي الرجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيقول: سمعت هؤلاء القوم يعني المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن، فيحدث المسلمون
__________
(1) سورة الأنفال الآية 12
(2) سورة الأنفال الآية 12
(3) انظر تفسير البيضاوي 3 \ 93(73/377)
بعضهم بعضا بذلك فتقوى أنفسهم) (1) ، فهذا التثبيت عن طريق الملائكة يكون في وقت المعارك بأساليب منها: القتال معهم أو البشارة بالنصر، أو تقوية القلوب أو تصحيح العزائم، أو تكثير السواد ولا مانع أن تجتمع فلا تعارض بينها، والله - عز وجل - أكرم الأكرمين.
__________
(1) تفسير ابن كثير 2 \ 293(73/378)
المطلب الثاني: عن طريق القصص
إن القصص من أساليب الدعوة وكذا من وسائل التثبيت.
وقال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (1) .
(يقول تعالى وكل أخبار نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم، وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات، وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى، وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين؛ كل هذا مما نثبت به فؤادك يا محمد، أي قلبك، ليكون لك بمن مضى من إخوانك من المرسلين أسوة) (2) .
__________
(1) سورة هود الآية 120
(2) تفسير ابن كثير 2 \ 466(73/378)
المطلب الثالث: عن طريق إنزال القرآن منجما أي (الآية بعد الآية) .(73/378)
القرآن هو المصدر الأول من مصادر التشريع، ولم ينزله الله على نبيه جملة ودفعة واحدة؛ بل نزل على حسب المواقع والمواضع والحاجة، وكان من أسباب ذلك أيضا تثبيت قلب الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (1) .
وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} (2) .
قال الطبري: (قال الله {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} (3) (أي) تنزيله عليك، الآية بعد الآية، والشيء بعد الشيء؛ لنثبت به فؤادك. . . عن ابن عباس {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (4) قال: كان الله ينزل عليه الآية فإذا علمها نبي الله نزلت آية أخرى، ليعلمه الكتاب عن ظهر قلب ويثبت به فؤاده. . . ويعني بقوله: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} (5) لنصحح به عزيمة قلبك ويقين نفسك ونشجعك به (6) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 32
(2) سورة النحل الآية 102
(3) سورة الفرقان الآية 32
(4) سورة الفرقان الآية 32
(5) سورة الفرقان الآية 32
(6) تفسير الطبري 19 \ 10(73/379)
وقال البغوي: لنثبت به فؤادك يعنى أنزلناه متفرقا ليقوى به قلبك فتعيه وتحفظه، فإن الكتب أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون، وأنزل القرآن على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ (1) .
__________
(1) تفسير البغوي 3 \ 368(73/380)
المطلب الرابع: عن طريق كلمة التوحيد في الدارين:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله: (2) » .
فالقول الثابت هو كلمة التوحيد (3) وهي كلمة الإخلاص، والتقوى، والكلمة الطيبة، وكلمة الإحسان، والإسلام، ودعوة الحق، والعروة الوثقى، وهي مفتاح الجنة، فهذه بعض أسمائها التي جاءت في القرآن أو السنة أو أطلقها عليها السلف أخذا من معناها. قال
__________
(1) سبق تخريجه
(2) سورة إبراهيم الآية 27 (1) {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}
(3) انظر تفسير ابن كثير 2 \ 534(73/380)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه جاءه ملك في يده مطراق من حديد فأقعده فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول له: صدقت، ثم يفتح له بابا إلى النار فيقول: إن هذا منزلك لو كفرت بربك، فأما إذ آمنت فهذا منزلك: فيفتح له بابا إلى الجنة، يريد أن ينهض إليه فيقول له: اسكن، ويفسح له في قبره، وإن كان كافرا أو منافقا يقول: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول، لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا، فيقول: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت، ثم يفتح له بابا إلى الجنة فيقول له: هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما إذ كفرت به فإن الله عز وجل أبدلك به هذا، فيفتح له بابا إلى النار، ثم يقمعه قمعة بالمطراق فيصيح صيحة يسمعها خلق الله عز وجل كلهم غير الثقلين، فقال بعض القوم: يا رسول الله ما أحد يقوم عليه ملك في يده مطراق إلا هيل عند ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (2) » .
__________
(1) سبق تخريجه
(2) سورة إبراهيم الآية 27 (1) {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}(73/381)
الخاتمة:
في زماننا كثرت الفتن وازدادت، وفي الفتن تختلط الأمور مما(73/381)
يجعل الحليم حيران فعلى المسلم الثبات فيها على الحق، وأن يسأل الله تعالى ذلك؛ وهذا السبب هو الذي دعاني لاختيار هذا الموضوع، وقد خرجت بعدد من النتائج هي:
- أن الثبات هو: الاستقرار والسكون.
- أن الثبات والصبر بمعنى واحد.
- أن الثبات يكون في الإنسان:
- بالعقل، النفس، القلب، باللسان، بالأقدام.
- وأن الثبات يكون في الدنيا، ويكون في الآخرة في القبر ويوم تقوم الساعة.
- وأن الثبات له أنواع ومواطن منها: الثبات على الدين، الثبات على الطاعة، الثبات على الحق، الثبات في الكلام والقول، الثبات على كلمة التوحيد، الثبات في الحجة، الثبات عند الفتن، الثبات عند المصائب.
- وأن للثبات وسائل منها: الملائكة، والقصص، وإنزال القرآن منجما، وكذلك كلمة التوحيد.
وختاما أسأل الله - عز وجل - الثبات على الدين إنه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(73/382)
حديث شريف عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (1) » .
(رواه الإمام البخاري)
__________
(1) صحيح البخاري العلم (79) ، صحيح مسلم الفضائل (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/399) .(73/383)
بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى:
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2)
(سورة الأعراف، الآيتان 157، 158)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة الأعراف الآية 158(74/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(74/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا
مجلة البحوث(74/3)
المحتويات
الافتتاحية
خطبة عرفة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 37
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 49
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 67
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية الإفتاء 85(74/4)
البحوث
التوسل المشروع والممنوع لفضيلة الدكتور \ عواد بن عبد الله المعتق 109
الغلو في الدين معناه، وتاريخه، وأسبابه لفضيلة االدكتور \ علي بن عبد العزيز الشبل 223
الفتن والمخرج منها لمعالي الدكتور \ محمد بن سعد الشويعر 269
قيمة الزمن في القرآن الكريم لفضيلة الدكتور \ عودة عبد عودة عبد الله 323
صفحة فارغة(74/5)
صفحة فارغة(74/6)
خطبة عرفة
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ مفتي عام المملكة العربية السعودية
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (1) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا ربكم عباد الله، والزموا التقوى إلى أن توافوا الله، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) اتقوا ربكم، فتقوى الله سبب لمحبة الله لكم (فإن الله يحب المتقن) . اتقوا الله في سركم وعلانيتكم، في الرضا والغضب، في كل الأحوال، فبتقوى الله تصلح الأعمال وتغفر الذنوب ويحصل الثواب العظيم {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (3) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (4)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 1
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة الأحزاب الآية 70
(4) سورة الأحزاب الآية 71(74/7)
اتقوا ربكم، وتزودوا لمعادكم، فخير زاد للمعاد التقوى، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (1) ، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (2) .
أمة الإسلام، خلق الله أبانا آدم أبا البشر بيده، ونفخ فيه من روحه، أسجد له ملائكته، وأسكنه وزوجه جنته، فحسدهما إبليس، فزين لهما المعصية، فأهبطهم الله من الجنة، هبط آدم وزوجته من الجنة وهما يحملان نور الإيمان والهداية، أهبطهما الله إلى الأرض تحقيقا لوعده: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (3) ليعمر الأرض بطاعة الله وتوحيده، ولتستضيء الأرض كما استضاءت السماء.
ظل نور التوحيد والهداية يضيء للبشرية قرونا عديدة حتى اجتالت الشياطين بني آدم عن فطرتهم، وزينت لهم الشرك بالله، وأخرجتهم من النور إلى الظلمات. نعم أيها المسلم، ما من مولود يولد إلا وفي قلبه نور الفطرة، الهداية والإيمان، ولكن شياطين الإنس والجن تجتاله عن تلكم الفطرة، تخرجه من النور إلى الظلمات، من
__________
(1) سورة البقرة الآية 197
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة البقرة الآية 30(74/8)
نور التوحيد الحق والهداية والأخلاق الكريمة إلى ظلمة الشرك والجهل والأخلاق الرذيلة، وصدق الله إذ يقول: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} (1) .
كلما أظلمت الأرض بالشرك والضلال والطغيان والابتعاد عن الهدى، وكلما غلب الشرك وطغى وابتعدت البشرية عن الهداية الربانية، أشرقت شمس الهداية بمبعث الرسل، وتتابعت الرسل على العباد بهداية الله، {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} (2) .
وفي آخر الزمان عم الأرض ظلام دامس، وابتعد الناس عن الهدى، وغلب الشرك وطغى على البشرية، فأشرقت شمس الهداية بمبعث سيد الأولين والآخرين سيد ولد آدم إمام الأنبياء عليه الصلاة والسلام، {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (3) {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (4) .
«نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب (5) » ، بعثه الله بهذا الدين العظيم، دين الإسلام الذي بدد الشرك بكل أنواعه بنور التوحيد الحق. أنار الله به القلوب، وحررها
__________
(1) سورة البقرة الآية 257
(2) سورة المؤمنون الآية 44
(3) سورة الأحزاب الآية 45
(4) سورة الأحزاب الآية 46
(5) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) .(74/9)
من عبادة المخلوق تحقيقا للحكمة التي لأجلها خلق الله الثقلين، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وليطبقوا أمره: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2) .
بدد ظلمات من قالوا في معبوداتهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (3) ومن زعموا أنه لا يدعى الله عز وجل إلا بواسطة بعض البشر بنور {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (4) ، وبنور قوله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (5) فلا واسطة بيننا وبين الله في دعائه، بل نرفع أكفنا إليه في أي وقت كان، {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (6) .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة الزمر الآية 3
(4) سورة البقرة الآية 186
(5) سورة غافر الآية 60
(6) سورة الرحمن الآية 29(74/10)
بدد ظلمات من عظموا قبور الأموات وطافوا بها تعبدا، ودعوها من دون الله، وزعموا تعدد الآلهة بنور {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) .
جاء بنور الإيمان الذي جلا الظلمات عن القلوب، بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
فإيماننا بالله إيمان بربوبيته وإيمان بكمال أسمائه وصفاته، وإيمان بأنه المعبود بحق، وما سواه فمعبود بباطل.
إيمان بملائكة الرحمن، العباد المكرمون الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} (2) {كِرَامًا كَاتِبِينَ} (3) {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (4) .
إيمان بكتب الله التي أنزلها لهداية البشر، وأنها حق وما فيها حق، جاءت بها المرسلون من رب العالمين، نؤمن بما سمى الله لنا في كتابه، فنؤمن بصحف موسى وإبراهيم وزبور داود والتوراة التي أنزلها الله على موسى، والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، ونؤمن بالقرآن وأنه مهيمن على الكتب كلها، مصدق لها ناسخ لها، محق للحق ومبطل للباطل، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (5) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة الانفطار الآية 10
(3) سورة الانفطار الآية 11
(4) سورة الانفطار الآية 12
(5) سورة المائدة الآية 48(74/11)
نؤمن برسل الله الذين أرسلهم الله لهداية البشر، فنؤمن بمن سمى الله لنا، فنؤمن بآدم وبنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من أنبياء الله الذين سمى الله لنا، وأن خاتمهم وأكملهم وأفضلهم سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم.
نؤمن باليوم الآخر وما أخبر الله عنه مما خفي علينا علمه، فنؤمن بالجزاء والحساب وبتطاير الصحف وميزان الأعمال، وأن نهاية البشر إما إلى نعيم مقيم وإما إلى عذاب أليم، نؤمن بهذا كله كما دل القرآن والسنة عليه.
جاء الإسلام بنور العبادات ليبين للعباد كيف يعبدون ربهم، وينير لهم الطريق، فافترض عليهم فرائض الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وحج، وجعلها أركان الإسلام وفرائض على الأعيان.
أمة الإسلام، المجتمعات قبل الإسلام الجاهلية تعج بالمنكرات والأباطيل والضلالات التي استحق أهلها عقوبة الله، فجاء الإسلام بنور {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104(74/12)
لقد كان للناس مع والديهم أحوال مزرية وأمور مظلمة، فجاء الإسلام بنور {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (1) عاشت المجتمعات في ظلماتها قطيعة بين الأرحام، فلا الأخ يعرف أخاه، ولا القريب يصل قريبه، فجاء الله بنور {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} (2) وجاء بالوعيد على قطيعة الرحم {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (3) {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (4) كم عانى الجيران من ظلم بعضهم لبعض، فجاء الإسلام بنور {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} (5) وبقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره (6) » ، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه (7) » .
أما حال المرأة - فحدث عنها ولا حرج - كم ظلمها الظالمون، وجار عليها الجائرون، السنين والقرون، فجاء الإسلام، بالنور المبين، فأعطى المرأة حقها، فهي الأم الواجب برها، والأخت
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الرعد الآية 21
(3) سورة محمد الآية 22
(4) سورة محمد الآية 23
(5) سورة النساء الآية 36
(6) صحيح البخاري الأدب (6019) ، مسند أحمد (6/385) ، موطأ مالك الجامع (1728) ، سنن الدارمي الأطعمة (2036) .
(7) صحيح البخاري الأدب (6016) ، مسند أحمد (6/385) .(74/13)
الواجب صلتها، والزوجة الواجب حسن معاشرتها، والبنت الواجب تربيتها. جاء ليقول لهم: إن للمرأة حقا في الميراث خلاف أهل الجاهلية: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} (1) حجبها بنور الإيمان عن أعين الطامعين المفسدين، {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) .
كان في الجاهلية معاملات سيئة مبنية على الظلم والجهل والغرر والخداع، فجاء الإسلام بتنظيم تلكم المعاملات، فأمر المتبايعين بالصدق: «فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما (3) » ، و «من غشنا فليس منا (4) » ، وحرم الربا والتعاملات الخبيثة التي تشتمل على الظلم والغرر، وأمر الجميع بالتزام العدل، فنهى البائع والمشتري جميعا، ولم يجعل رضاهما مبيحا للبيع الباطل.
أيها المسلم، وفي النكاح في الجاهلية كم عانت المرأة من العضل وسوء العشرة وجحد الحقوق، فجاء نور الإسلام ليأمر بالعشرة الحسنة، وينهى عن العضل ويحفظ لها حقوقها. كانت في
__________
(1) سورة النساء الآية 7
(2) سورة الأحزاب الآية 59
(3) صحيح البخاري البيوع (2079) ، صحيح مسلم البيوع (1532) ، سنن الترمذي البيوع (1246) ، سنن النسائي البيوع (4464) ، سنن أبي داود البيوع (3459) ، مسند أحمد (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2547) .
(4) صحيح مسلم الإيمان (101) ، سنن ابن ماجه التجارات (2225) ، مسند أحمد (2/417) ، سنن الدارمي البيوع (2541) .(74/14)
الجاهلية لا يسمع لها صوت، ولا يقام لرأيها وزن، فيزوجها أبوها من شاء ويمنعها ممن شاء، فجاء الإسلام بنور: «لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الأيم حتى تستأمر (1) » . كانوا في جاهليتهم يطلقون المرأة، فإذا قاربت انقضاء عدتها استرجعها، وربما تكرر عليها ذلك عنه مئات المرات، فجاء الإسلام بنور: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2) .
في الجنايات كانت الجاهلية في ظلمات الثارات، يقولون: القتل أنفى للقتل، فجاء الإسلام بالقصاص أو الدية أو العفو تحقيقا لأمن المجتمع وسلامته. جاء الإسلام بحدود شرعية تردع المجرمين وتوقفهم عند حدهم، وتأخذ على أيدي المفسد والمبطل، وسبحان الحكيم العليم {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (3) .
كانوا في جاهليتهم يتحاكمون إلى الأعراف والعادات الجاهلية بما فيها من ظلم وعدوان، فجاء الإسلام بنور: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (4) ، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (5) {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (6)
__________
(1) صحيح البخاري الحيل (6968) ، صحيح مسلم النكاح (1419) ، سنن الترمذي النكاح (1107) ، سنن النسائي النكاح (3265) ، سنن أبي داود النكاح (2092) ، سنن ابن ماجه النكاح (1871) ، مسند أحمد (2/434) ، سنن الدارمي النكاح (2186) .
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة الملك الآية 14
(4) سورة المائدة الآية 49
(5) سورة النساء الآية 65
(6) سورة المائدة الآية 50(74/15)
وبالجملة فإن الله قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالنور التام المبين؛ ليحرق به ظلمات الجاهلية على اختلافها، {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (1) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) ويقيم المجتمع العادل المنتظم بوحي الله السائر على منهج الله.
هذا دينكم دين السماحة واليسر، دين الرحمة والخير، دين حفظ الحقوق، دين الرحمة والصلة، دين مشتمل على خيري الدنيا والآخرة.
__________
(1) سورة المائدة الآية 15
(2) سورة المائدة الآية 16(74/16)
إخوة العقيدة، إن الإسلام جاء بعلاج كامل شاف لمشاكل الأمة، ليقيم لها المنهج القويم في حياتها. جاء بحفظ المصالح العليا للأمة، جاء بتنمية اقتصادها، جاء بحفظ الحقوق والاستفادة من كل تقدم نافع، جاء بالأمر بالعدل والتحذير من الظلم ومن مسالك التطرف غلوا وجفاء، جاء باحترام حملة الدين وأهله من الصحابة(74/16)
ومن سار على نهجهم في الدين، جاء بالأخلاق الكريمة وحذر من الأخلاق الرذيلة.
أمة الإسلام. . إن ديننا قد جاء باعتبار المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، وتقديم المصالح المتعدية على المصالح القاصرة، فالمصالح العليا للأمة يجب إعمالها ويحرم إهمالها، أمن الأمة وقوة تماسكها وحماية بيضتها وحفظ مقدراتها أمور هي سبب لانتشار الدين وهيبة الأمة وعز الإسلام.
إن المصالح العليا للأمة يجب إعمالها، ولا يجوز التعدي عليها لأي غرض شخصي أو هوى بدعي، أو مصالح حزبية أو مطامع إقليمية، أو نعرات جاهلية أو عصبية قبلية.
أيها الشعوب والقادة، إن أمتنا تمر بظروف دقيقة خطيرة، تستوجب منا وقفة صادقة نقدم فيها المصالح العامة على المصالح القاصرة، ونقدم درء المفاسد على جلب المصالح حفاظا لكيان الأمة.
أيتها الشعوب المسلمة، التفوا حول قادتكم فيما توجهوا إلي من خير، وتناصحوا معهم فيما يعود على الأمة بالخير، وإياكم ومنابذتهم، أو تكونوا ثغرة للأعداء عليهم.
إن مشاكل الأمة لا تحل إلا بالحكمة والبصيرة والتدبر والتعقل، فاحذروا أن تكونوا يدا لأعدائكم على أمتكم، أو تسهلوا لهم مهمة الاعتداء على أمتكم، فذاك خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين.(74/17)
أيها القادة المسلمون، إن أمن أمتكم ودينها أمانة في أعناقكم، فاتقوا الله في أمتكم. إن حل مشاكل الأمة لا يكون بالارتماء في أحضان الأعداء، ولا بالزج بالأمة في أمور لا تحمد عقباها، بل الحكمة والتروي في الأمور ودراسة الأحوال قبل كل شيء؛ لتكون قرارات الأمة قرارات صائبة مبنية على الحكمة والتروي.
أمة الإسلام، إن أعداءنا لا يألوننا خبالا، ودوا تفرق صفوفنا وتشتيت كلمتنا. إنهم يسعون في خلخلة أمننا، ويسعون في إشغال بعضنا ببعض؛ لنكون لقمة سائغة لهم، فلنحذر من مكائد أعدائنا.
أمة الإسلام، هاهو العالم من حولكم شرقا وغربا قد انتظموا في تكتلات اقتصادية عظمى، قلوبهم متفرقة، اتجاهاتهم الفكرية متغايرة، جمعتهم مصالح ديناهم وخوفهم من عدوهم، فأين أنتم يا أهل الإسلام، يا من تربطكم عقيدة الإسلام ووحدة الإيمان؟! ما هي شكوانا؟! أنشتكي من قلة الموارد؟! فبلادنا بلاد الخيرات على تنوعها. أيشتكي المسلمون من قلة الرجال؟! فالمسلمون من أكثر الأمم عددا. أيشتكون من ضيق الأرض؟! فأرض الإسلام شاسعة امتدت في ثلاث قارات. إنما يشكو المسلمون للأسف الشديد من بعد أبنائهم عن دينهم، من تفرق القلوب وغلبة الأهواء، والقلوب إذا تفرقت صعب جمع الأجساد. نشكو من عدو يؤصل فرقتنا(74/18)
ويذكي قطيعتنا، ويشجع بعدنا عن ديننا. إن ديننا الحق ليس سببا للتخلف، ألا ترى الله يقول: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (1) ؟!
إن المسلم يتساءل: لماذا لا يكون لأمة الإسلام كيان اقتصادي موحد خال من التبعية؟ لماذا لا يكون لها كيان يستمد منهجه من كتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، كيان خال من الربا أخذا وعطاء، كيان يجعل بلاد الإسلام أسواقا لترويج منتجاتها وصناعتها، كيان يعطينا قوتنا وتميزنا، لست أنادي بنبذ التعاون مع الآخرين، ولكن ليكن للأمة استقلاليتها، ولا يتم ذلك إلا بتعاون الجميع في إيجاد منظمة اقتصادية إسلامية تعالج مشاكل العصر، حتى تكون الأمة على استقلالها كما أراد الله لنا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (2) .
أمة الإسلام، في مثل هذا اليوم وفي مثل غد أعلن المصطفى صلى الله عليه وسلم النداء العام للأمة: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا (3) » . نعم أيها المسلم، إنه النداء الذي يبين حقوق الإنسان الحقة المبنية على العدل لا على الظلم والجور، حقوق الإنسان كما
__________
(1) سورة الملك الآية 15
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) صحيح البخاري العلم (105) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، مسند أحمد (5/41) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .(74/19)
أرادها الإسلام، حفظ للإنسان حقه في الحياة، فحرم الاعتداء على النفس، حفظ حقه في التصرف في المال، فحرم الاعتداء على الأموال، حفظ حفه في تكوين الأسرة وتربية الأولاد، وحقه في الشرف والمكانة، فحرم الاعتداء على عرضه. هذا دين الإسلام دينكم الحق، السباق لكل خير، الذي جعل تعاليمه ديانة يجب التزامها ويحرم التعدي عليها.
إن أقواما رفعوا شعارات براقة ليخدعوا بها الأمم، شعارات طالما تنادوا بها باسم حقوق الإنسان، وإنما هي شعارات زائفة، لاستدلال الأمم والسيطرة عليها، وهانحن نراهم أول من خالفها، ولا نجد لها بينهم ذكرا، فهل حقوق الإنسان لشعب دون شعب أو لزمان دون زمان؟! إن ديننا حفظ حقوق الإنسان منذ مبدئه إلى قيام الساعة. فحفظ دينه ونفسه وعقله ومآله وعرضه، كل هذه جاء الإسلام بوجوب حفظها. تعاليم ديننا ليست شعارات لاستدلال الشعوب ولا لإشغالها، ولكنها المنهج المستقيم والعقيدة الصحيحة، لإصلاح الدين والدنيا معا.
أمة الإسلام إن لربنا سننا كونية لا تتبدل ولا تتغير، من أخذ بهذه الأسباب نال بتوفيق من الله مسبباتها مسلما كان أو غير مسلم، وإذا أعدنا النظر للوراء لأمتنا وسلفنا الصالح حينما استعانوا بربهم وأخذوا بزمام الأمور وعنوا بالعلم، واستفادوا من تجارب(74/20)
الآخرين، كان لهم في زمنهم القدح المعلى، وكانوا أهل السيادة والرئاسة، وكانت بلادهم قبلة العلوم دينية ودنيوية، استضاءت بلادهم بأنوار المعرفة، بينما كان غيرهم يعيش ظلمات وتقهقرا ورجعية، فلا دين ولا عقيدة، ولا شريعة ولا دنيا يتميزون بها، لكن القوم أطروا أنفسهم على العلم، وجدوا واجتهدوا واستفادوا من تجارب الآخرين، وللأسف الشديد كانت لهم الدولة على المسلمين، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (1) .
إن ديننا ليس السبب في تقهقرنا، وليس انتسابنا لديننا عيبا علينا، فديننا يدعونا إلى العلم، وأن ننطلق في آفاق العلم والمعرفة ليعود لنا كياننا وقوتنا.
أيها المسلم، إن خلافنا مع غيرنا لا يوجب التقوقع والانزواء وعدم الاستفادة مما لدى الآخرين من تقنية أو علوم في الزراعة وفي السياسة وفي الاقتصاد وفي الطب وفي غيرها من أمور الدنيا، فتلك أمور جاءت لإصلاح دنيا الناس واستقامة معاشهم، وإن استفادتنا من غيرنا لا توجب الاغترار والانخداع بهم، ولكنها الوسطية نأخذ من كل شيء خياره.
أمة الإسلام، أمر الله بالعدل وبه حكم {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (2)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 140
(2) سورة النحل الآية 90(74/21)
العدل كله صلاح وخير وهداية، العدل به أرسل الله الرسل، وبه أنزل الكتب، وبه شرع الشرائع للحفاظ على كيان البشرية، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) أمة الإسلام، بالعدل تحقن الدماء، وبالعدل تصان الأعراض، وبالعدل تحفظ الأموال، وبالعدل تطمئن النفوس ولو كان الحكم عليها. العدل ينشده الشرفاء والضعفاء، ويعرف سنة العقلاء، إنه خير ونعمة، وبه صلاح البشرية وقيامها. إنه عدل بين العبد وبين نفسه في طاعته لربه وقيامه بما أوجب الله عليه. عدل في أبنائه بالعدل بينهم، " واتقوا الله واعدلوا بين أبنائكم ". عدل بين الزوجات، {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (2) عدل في الأقوال والأفعال، قال الله جل وعلاه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (3) .
__________
(1) سورة الحديد الآية 25
(2) سورة النساء الآية 3
(3) سورة المائدة الآية 8(74/22)
أيها الناس: لقد عاش غير المسلمين مع المسلمين دهورا عديدة، ما اشتكوا هضما، ولا خشوا ظلما، وإنما عاشوا تحت كيان الأمة المسلمة، رضوا بعدل الإسلام، وقرت به عيونهم، لم تكن الأمة تفرض دينها بالقوة على البشرية؛ لأن ذلك ينافي تعاليم الإسلام، ولكن الناس لما رأوا حملة هذا الدين رجالا صادقين مع ربهم، صادقين مع أنفسهم، صادقين مع غيرهم، رأوا رجالا تسبق الأعمال الأقوال، رأوا رجالا على الحق في سرهم وعلانيتهم، رأوا العدل في الإسلام بصورته المضيئة، لا غلو ولا جفاء، لا إفراط ولا تفريط، دخلوا في دين الله طائعين منقادين راضين، فانتشر الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجا على أيدي أولئك الرعيل الأول الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وتحقيقا لقوله جل وعلا: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1) .
إني أناشد صناع القرار في العالم أن يعوا ويعلموا أن الظلم حرمه الله على نفسه، وجعله محرما بين عباده. فيا من سلطوا على الأمة الإسلامية بمعاصيهم، ويا من ابتليت بهم الأمة، اعلموا أن الظلم ظلمات في الدنيا والآخرة، عاقبة الظلم ضرر على البلاد والعباد والأموال، وقد قال الله في الحديث القدسي: «يا عبادي، إني
__________
(1) سورة التوبة الآية 33(74/23)
حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا (1) » .
أمة الإسلام، إن هناك حملات تشن على أهل الإسلام، حملات عسكرية، حملات فكرية، حملات اقتصادية، حملات إعلامية، كلها ضد هذا الدين، وصفوا هذه الأمة بأنهم الأمة الإرهابية، وصفوهم بأنهم الإرهابيون، وصفوهم بأنهم متخلفون، ووصفوهم بأنهم منتقصو حقوق الإنسان، اتهموهم بانتقاص حريات البشر، عقدوا المؤتمرات، وحاكوا المؤامرات، ورموا الأمة عن قوس العداوة ظلما وجورا، وإلا فالإسلام هو دين العدل والحق وحفظ الحقوق واحترام الحريات لمن تدبر تعاليمه ومبادئه وسبر ذلك جيدا وبعين الإنصاف.
أمة الإسلام، لئن فرح غيرنا بانتسابه لمناهج فلسفية شرقية أو غربية لا طائل تحتها، لا تزيد من الله إلا بعدا، إن بحثت معهم في أسماء الله وصفاته وآثار ربوبيته لم تجد عندهم شيئا، إن بحثت معهم في توحيد الله وإخلاص الدين له وجدت ما يخالف ذلك، إن بحثت فيما بعث الله به الرسل من الهدى والحق لم تجد عندهم شيئا من ذلك، فاحمد الله أيها المسلم أن جعل منهج حضارتك وأساس بنائك كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. إياك أن تنخدع بحضارة علمت هشاشة بنائها وسوء تأسيسها، لا تمجد رموزهم،
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2577) .(74/24)
ولا تنخدع بهم ولا بآرائهم، ولا تجعلها عوضا عن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
أمة الإسلام، إن من عظيم ما ابتليت به أمة الإسلام ما كان من بعض أبنائها الذين أغواهم شياطين الإنس والجن بسوء توجيههم وقبح توجهاتهم، فأطاعوهم مع الأسف الشديد، ركبوا مركب التكفير فأرداهم، كفروا الأمة، استباحوا الدماء المعصومة، وخفروا الذمم، وسعوا في الأرض فسادا، تفجيرا وتدميرا وقتلا للأبرياء وترويعا وانتهاكا لحرمة المسلمين وتنقصا لولاة المسلمين.
تلي القرآن عليهم، وسمعوا السنة، ونقل لهم إجماع علماء عصرهم وما عليه سلف الأمة، فأصروا مستكبرين كأنهم لم يسمعوا ذلك، أرهبوا أهل الإسلام، وفرحوا فيهم أهل الكفر والطغيان، وشمتوا بالمسلمين، الحاقدين المتربصين، فهذه صفقة خاسرة والعياذ بالله.
أيها الشاب المسلم، يا من رتع في هذا المرتع الوخيم، كيف تقابل الله؟! أتقابله بدماء بريئة قتلتها، أو ساعدت في قتلها؟! كيف تجيب إذا سألك المقتول يوم القيامة: يا رب، سل عبدك لم قتلني؟! أم تلاقي ربك بذمم خفرتها وعهود غدرتها، ومجتمعات إسلامية أقضضت مضاجعها وعبثت بمقدراتها، وانتهكت حرماتها وسلطت(74/25)
الأعداء عليها؟! أم أتلقى ربك بأشلاء مزقتها حينما فجرت نفسك إرضاء للشيطان واتباعا للهوى وطاعة للأعداء الحاقدين، أو اتباعا لهوى المتعالمين الذين لا يزنون الأمور ولا يعرفون قدر الأحداث والأمور؟!
أيها الشباب المسلم في عالمنا الإسلامي، أوصيكم بتقوى الله، أوصيكم بالتثبت في الأمور، احذروا أن يتخذكم أعداؤكم مطايا لتنفيذ أغراضهم، تظنون بهم خيرا، وتحسنون الظن بأولئك، وهم يريدون القضاء عليكم وعلى أمتكم. فاحذروا أن تنقادوا لكل دعاية، قفوا عند كل داع وفكره، وزنوا هذا الفكر وماذا يراد، ادرسوا الأمور حقا، وانظروا ما وراء السطور، فكم من عدو متلبس بالأمة يظهر لهم النصح والتوجيه، لكن يريدهم حربة في نحور الأمة، حتى إذا تم لي الأمر جعل أولئك حطب الآخر. فاحذروا مكائد الأعداء، ولا تنقادوا لكل داع، وزنوا كل قول ومن جاء به، وادرسوا الأمور على حقيقتها، والجئوا إلى الله في تبصير قلوبكم، ثم لعلماء أمتكم المعروفين الموثوقين ليبصروكم ويهدوكم الطريق المستقيم.(74/26)
أمة الإسلام، إن الله اختار محمدا صلى الله عليه وسلم فجعله سيد الأولين والآخرين، واختار له صحابته الكرام أبر الناس قلوبا(74/26)
وأصدقهم ألسنا وأصبرهم عند اللقاء، قوم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقلوا أقواله وأفعاله، ونصروا سنته، شهدت لهم دموع جرت من خشية الله، ودماء سالت في سبيل الله، وأموال أنفقت في سبيل مرضاة الله، أثنى الله عليهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (1) {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (2) .
هم الذين نقلوا لنا دين الله بكل صدق وأمانة، فهم الصادقون، هم القانتون، هم المعدلون، هم المهديون المرضي عنهم، حبهم إيمان، وبغضهم نفاق. إنا نحبهم ونحب آل بيت رسول الله المتمسكن بشرع الله، نحبهم لمحبتنا لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ونحب التابعين لهم بإحسان الذين لهم قدم صدق في العالمين وحسن بلاء في هذا الدين، نحب علماء الأمة الذين نصروا هذا الدين ونشروا هذا الدين، من حملة الحديث وحملة التفسير والفقه وغيره من علوم الإسلام، الذين نقلوا هذه الشريعة لنا، ونحب كل بر تقي في أي زمان ومكان.
__________
(1) سورة التوبة الآية 100
(2) سورة الفتح الآية 18(74/27)
أمة الإسلام، إن ديننا دين الأخلاق الكريمة والبعد عن الأخلاق الرذيلة والخلال الذميمة، الله جل وعلا قال في حق نبينا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) . فلولا أن للأخلاق شأنا لما مدح بها خير الأنبياء صلى الله عليه وسلم في خير كتب الله عز وجل. إن أطر النفس على الأخلاق الكريمة سبب لنجاتها من عذاب الله، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} (2) {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (3) {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (4) {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (5) إن الخلق الكريم سبب للخيرية، «خيركم أحسنكم أخلاقا (6) » ، وقد ضمن البيت بيتا في الجنة لمن حسن خلقه. إن الاهتمام بالأخلاق الكريمة وتنميتها سبب لسعادة الأفراد في الدنيا والآخرة، حماية الفضيلة ومحاربة الرذيلة وحصن يقي الأمة من الانهيار.
لنعد إلى أنفسنا وأبنائنا وبناتنا، فلنربهم على الأخلاق الكريمة في هذا الزمن الذي كثرت فيه أسباب الشر وقل المنكرون وأعلنت كثير من القنوات الفضائية حربها على العقيدة، وحربها على الأخلاق والقيم، وحربها على الفضائل، فلنحصن أبناءنا بدين الله، فعسى الله أن يجعل في ذلك خيرا وبركة، ومخرجا من تلك الفتن.
__________
(1) سورة القلم الآية 4
(2) سورة الشمس الآية 7
(3) سورة الشمس الآية 8
(4) سورة الشمس الآية 9
(5) سورة الشمس الآية 10
(6) صحيح البخاري المناقب (3559) ، مسند أحمد (2/218) .(74/28)
أيها المسلم، إن المسلم ليهتم كيف أولئك الذين يفكرون دائما في الفساد والإفساد، ما همهم إلا إفساد الأمة، تارة يخرجون المرأة من بيتها باسم العدالة، أو ينزعون حجابها باسم الحرية، مطايا لشياطين الإنس والجن فيما يجلبون به على الأمة المسلمة، وهمهم هدم الإسلام، معاول هدم للأخلاق والقيم، فنسأل الله أن يرد الجميع إلى الهداية والتوفيق، نسأل الله أن يرد الجميع إلى الهداية وصلاح القول والعمل.
يا علماء الأمة المسلمة، أنتم ورثة الأنبياء، وأنتم حملة الرسالة، عليكم التبعة، فبصروا عباد الله، اهدوهم سبيل الرشاد، تكلموا بالحق، فلا تكتموا الحق، ولا تقولوا باطلا، بصروا الناس، وأفتوهم بشرع الله من غير تساهل ولا تشدد، بل دين الله وسط بين من غلا وجفا.
أيها الدعاة إلى الله، ادعوا إلى الله على علم وبصيرة، وادعوا إلى الله بإخلاص، وحاولوا إصلاح أوضاع أمتكم، وبينوا الحق بحكمة وبصيرة، {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) .
يا شباب الإسلام، إن أمتكم بأمس الحاجة إليكم علماء
__________
(1) سورة النحل الآية 125(74/29)
عاملين وجنودا منضبطين وحملة للشريعة ودعاة لكل خير، فاحذروا المسالك الرديئة غلوا أو تفريطا، وكونوا على الخط المستقيم، هدانا الله وإياكم لكل خير.(74/30)
أيها المسلمون، إني أناشد أهل الإسلام في العالم الخارجي، أناشد الأقليات من إخواننا المسلمين في العالم الخارجي: اتقوا الله، والزموا دين الله، اتقوا الله، واعلموا أنكم قلة وصوتكم ضعيف، فاحذروا - إخواني - المسالك الرعناء والمصادمات الهوجاء التي لا تخدم مصالحكم، احفظوا إسلامكم، وربوا أبناءكم على الخير، واحذروا أن يستغلكم عدوكم لأغراضه الدنيئة وآرائه السيئة، استقيموا على دين الله لعلكم تفلحون.
يا رجال الإعلام، اتقوا الله في أنفسكم، وسخروا إعلامكم فيما يخدم الأمة، احذروا أن يكون الإعلام موجها ضد العقيدة، أو ضد ثوابت الأمة أو نشر الفواحش. ويا من يملكون القنوات الفضائية وقد استرعاكم الله على ذلك، اتقوا الله، بم تواجهون ربكم يوم القيامة؟! أبأفلام هابطة أو بأجساد عارية أو بأغان فاحشة؟! إنكم مسؤولون أمام الله، فسخروا هذه الأجهزة لخدمة هذه الشريعة.
إننا - وللأسف الشديد - نعاني من بعض القنوات الظالمة التي(74/30)
أخذت على عاتقها الطعن في الأمة وتفكيك كلمتها، والبحث عن المعايب والسعي في تضليل الأمة وإحداث الفوضى بين صفوفها، تدعي الإصلاح أحيانا، وتدعي الخير أحيانا، وإذا نظرت إلى هذه الأجهزة وهذا الإعلام الجائر وجدته مجانبا للصواب فيما يقول ويفعل. فلنتق الله، وليحذر كل أن يقول ما سيندم عليه، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (1) .
وقفة أخيرة: وقفة ثناء واعتراف بالجميل، إنني في هذا الموقف لأشكر الله على نعمته أن يسر للحجيج أمرهم وهيأ لهم أسباب الخير، وإنا لنشكر الله على هذه النعمة، ثم نشكر لكل القوى المشاركة في أمن الحجيج، ومن أعظمهم رجال أمننا والمسئولون عن لجان الحج واللجنة المركزية ومن أعانهم، فلهم منا التقدير والثناء، ونسأل الله لهم السداد في القول والعمل، فتلك مهمة عظمى، نسأل الله أن يعينهم ويثبت أقدامهم، ويجعل مساعيهم مساعي خير وصلاح.
حجاج بيت الله الحرام، ها أنتم قدمتم إلى بلد الله الأمين، قد سهلت لكم السبل، وذللت أمامكم العقبات، فاشكروا الله على نعمته، واسألوه المزيد من فضله. هذا بيت الله الحرام، آمن بأمان الله، {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} (2) ، هذا بيت الله الحرام، حرام بتحريم
__________
(1) سورة ق الآية 18
(2) سورة التين الآية 3(74/31)
الله، فاحذروا الإخلال بأمنه، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (1) احذروا تكدير صفو شعائره ومشاعره، {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) .
__________
(1) سورة الحج الآية 30
(2) سورة الحج الآية 25(74/32)
حجاج بيت الله الحرام، لقد مضى على سلفنا قرون عديدة، الحج من أشق الأمور عليهم، لا يصله الإنسان إلا بشق الأنفس، يحج الحاج، فربما مات في الطريق، وربما ضل عن الطريق، وإذا وصلوا إلى البيت ضاق بهم ذرعا من حمل الماء ووعورة السبل، وربما حصل قتال، وربما وجدت أقاليم من أقاليم الإسلام لم يحج منها أحد، أما اليوم وقد هيأ الله لهذا البلد الأمين رجالا أرجو لهم من الله التوفيق والصلاح، اهتموا بهذا البيت أعظم اهتمام، فوفروا أمنه ومرافقه الصحية ومواده الغذائية، وهونوا وذللوا كل الصعاب، وشقوا الطرق، وهيئوا المشاعر، واستنفدوا وسعهم وأوقاتهم، وأنفقوا الأموال الطائلة في ذلك، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، وبارك الله، في مساعيهم، وجعل ذلك في ميزان أعمالهم. والمسلم حينما يرى هذه التسهيلات وهذه المهمات ليسأل الله لهذه القيادة مزيدا من التوفيق والصلاح، وأن يجعلهم أئمة هدى ودعاة خير وصلاح، إنه على كل شيء قدير.(74/32)
أيها الحاج المسلم، اتق الله في حجك، وراقب سنة نبيك، قفوا بعرفة إلى غروب الشمس، فإنها الموقف العظيم لكم، والنبي يقول: «الحج عرفة (1) » . فقفوا بهذا المشعر، صلوا به الظهر والعصر جمعا وقصرا، أفيضوا إلى مزدلفة، وصلوا بها المغرب والعشاء جمعا وقصرا.
ارموا جمرة العقبة من بعد منتصف ليلة النحر إلى صباح اليوم الحادي عشر، أي: أن جمرة العقبة زمنها ثلاثون ساعة، من رمي في آخر الليل أو الضحى أو العصر أو بعد المغرب أو بعد العشاء أو قبيل الفجر فقد أدى النسك إن شاء الله. ارموا الجمار في أيام التشريق، واعلموا أن كل الليل محل لرمي الجمار إلى طلوع الفجر، كل هذا من التيسير.
أيها الحاج الكريم، جنب النساء العاجزات عن الرمي في وقت الذروة، واختر وقتا مناسبا، والعاجز من الرجال ينيب غيره، فارموا الجمرة عن العاجزين من الرجال والنساء، لا تعرضوهم للزحام الشديد، إما أن تختاروا وقتا مناسبا، أو جنبوهم وقت الذروة والزحام، فذاك من تيسير الله عز وجل.
أيها الحجاج، اتقوا الله في حجكم، وتعاونوا على البر والتقوى. أوجه خطاب لحملات الحجيج والمسئولين عن حملات الحج عموما أن يتقوا الله ويتعاونوا مع السلطة قي سبيل تفويج الحجاج، وفي سبيل الراحة، وفي سبيل الانتظام، فراعوا الأنظمة واحترموها،
__________
(1) سنن الترمذي الحج (889) ، سنن النسائي مناسك الحج (3016) ، سنن أبي داود المناسك (1949) ، سنن ابن ماجه المناسك (3015) ، مسند أحمد (4/310) ، سنن الدارمي المناسك (1887) .(74/33)
وإياكم وانتهاكها، فإنها وضعت لمصالح الحجيج عموما.
أيها المسلم، إن نبيك صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (1) » ، فاتق الله في جوارحك ولسانك، في أقوالك وأفعالك، اتق الله في حجك، وكن بعد الحج خيرا منك قبل الحج بتوفيق من الله.
أيها المسلم، تذكر وأنت تلبس الإحرام، تذكر يوم تدرج في أكفانك وتحمل إلى قبرك، تذكر يوم وقوفك بين يدي الله في ذلك الموقف العظيم، تذكر أهوال الآخرة، فعساها أن تكون حادية لك إلى الخير والتزود من الأعمال الصالحة.
اللهم وفق الأمة الإسلامية إلى كل خير، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، اللهم اجمع قلوبهم على طاعتك، واكفهم شر الأشرار وكيد الفجار، وبصرهم فيما ينفعهم في حاضرهم ومستقبلهم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
صفحة فارغة
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1819) ، صحيح مسلم الحج (1350) ، سنن الترمذي الحج (811) ، سنن النسائي مناسك الحج (2627) ، سنن ابن ماجه المناسك (2889) ، مسند أحمد (2/494) ، سنن الدارمي المناسك (1796) .(74/34)
صفحة فارغة(74/36)
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(74/35)
من فتاوى سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية رحمه الله
حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقولهم:
إن الرسول يحضره، وهل يجوز حضور هذه الموالد، والإنفاق عليها؟
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم عبد الرحمن بلوشي سلمه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد جرى إطلاعنا على استفتائك الموجه إلينا بخصوص مجموعة مسائل.
(إحداها) : سؤالك عن حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله دليه وسلم، وهل فعله أحد من أصحابه أو التابعين وغيرهم من السلف الصالح؟
ج: لا شك أن الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم من البدع المحدثة في الدين، بعد أن انتشر الجهل في العالم الإسلامي وصار للتضليل والإضلال والوهم والإيهام مجال، عميت فيه البصائر وقوي(74/37)
فيه سلطان التقليد الأعمى، وأصبح الناس في الغالب لا يرجعون إلى ما قام الدليل على مشروعيته، وإنما يرجعون إلى ما قاله فلان وارتضاه علان. فلم يكن لهذه البدعة المنكرة أثر يذكر لدى أصحاب رسول الله، ولا لدى التابعين وتابعيهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (1) » وقال أيضا: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » . وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » .
وإذا كان مقصدهم من الاحتفال بالمولد النبوي تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإحياء ذكره، فلا شك أن تعزيره وتوقيره يحصل بغير هذه الموالد المنكرة، وما يصاحبها من مفاسد وفواحش ومنكرات، قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (4) ، فذكره مرفوع في الأذان والإقامة. والخطب والصلوات وفي التشهد، والصلاة عليه في الدعاء. وعند ذكره. فلقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي (5) » . وتعظيمه يحصل بطاعته فيما
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه مسلم.
(4) سورة الشرح الآية 4
(5) أخرجه الترمذي في الدعوات وأخرجه الإمام أحمد أيضا.(74/38)
أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع. فهو أجل من أن تكون ذكراه سنوية فقط. ولو كانت هذه الاحتفالات خيرا محضا أو راجحا لكان السلف الصالح رضي الله عنهم أحي بها منا. فإنهم كانوا أشد منا محبة وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم على الخير أحرص. ولكن قد لا يتجاوز أمر أصحاب هذه الموالد ما ذكره بعض أهل العلم: من أن الناس إذا اعترتهم عوامل الضعف والتخاذل والوهن راحوا يعظمون أئمتهم بالاحتفالات الدورية دون ترسم مسالكهم المستقيمة؛ لأن تعظيمهم هذا لا مشقة فيه على النفس الضعيفة.
ولا شك أن التعظيم الحقيقي هو طاعة المعظم والنصح له والقيام بالأعمال التي يقوم بها أمره ويعتز بها دينه: إن كان رسولا، وملكا إن كان ملكا. وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم ثم للخلفاء الراشدين من بعده، وناهيك ببذل أموالهم وأنفسهم في هذا السبيل، إلا أن تعظيمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين لم يكن كتعظيم أهل هذه القرون المتأخرة ممن ضاعت منهم طريقة السلف الصالح في الاهتداء والاقتداء، وسلكوا طريق الغواية والضلال في مظاهر التعظيم الأجوف. ولا ريب أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحق الخلق بكل تعظيم يناسبهم، إلا أنه ليس من تعظيمه أن نبتدع في دينه(74/39)
بزيادة أو نقص، أو تبديل أو تغيير لأجل تعظيمه به. كما أنه ليس من تعظيمه عليه الصلاة والسلام أن نصرف له شيئا مما لا يصلح لغير الله من أنواع التعظيم والعبادة. وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين، فقد كان جل ما أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم عن حسن نية. وما زالوا يبتدعون بقصد التعظيم وحسن النية، حتى صارت أديانهم غير ما جاءت به رسلهم. ولو تساهل سلفنا الصالح كما تساهلوا، وكما تساهل الخلف لضاع أصل ديننا أيضا، ولكن السلف الصالح حفظوا لنا الأصل، فالواجب علينا أن نرجع إليه ونعض عليه بالنواجذ.
والخلاصة أن الاحتفال بالموالد من البدع المنكرة، والله ولي التوفيق.
(الثانية) : ذكرك! عما يقوله بعض الجهال والمضللين: من أن الرسول عليه الصلاة والسلام يحضر الاحتفالات بمولده. وهذا من أبطل الباطل ومما لا يتسع له عقل عاقل.
(الثالثة) : سؤالك عن حكم هذه الموالد، وهل يجوز الاشتراك فيها والإنفاق عليها. وقد مر الجواب عن حكم هذه الموالد في معرض جوابنا عن المسألة الأولى. أما الإشراك فيها بالحضور والإنفاق عليها ونحوها فقد سبق لنا القول بأنها بدعة، وأن كل بدعة ضلالة فحضورها ضلال، والإنفاق عليها أو المشاركة في الإنفاق(74/40)
عليها مشاركة في الضلال والإضلال، وإشاعة الفحشاء والمنكر.
(ص - ف - 2110 - 1 في 21 - 7 - 88 هـ)(74/41)
وإذا اجتمع مع الاحتفال بمولده
غناء ورقص ومردان واختلاط ونحو ذلك.
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم \ إبراهيم بن محمد بن حمد - سلمه الله - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصل إلينا كتابك الذي تستفتي به عن المسائل الآتية:
(المسألة الأولى) : عن حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وهجرته، وغير ذلك مما ذكرتم في كتابكم.
والجواب: الحمد لله، لم يكن الاحتفال. بمولد النبي صلى الله عليه وسلم مشروعا ولا معروفا لدى السلف الصالح رضوان الله عليهم، ولم يفعلوه مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، فهم أحق بالخير وأشد محبة للرسول صلى الله عليه وسلم وأبلغ تعظيما له، وهم الذين هاجروا معه وتركوا أوطانهم وأموالهم وأهليهم، وجاهدوا معه حتى قتلوا دونه، وفدوه بأنفسهم وأموالهم رضي الله عنهم وأرضاهم. فلما كان غير معروف لدى(74/41)
السلف الصالح ولم يفعلوه وهم القرون المفضلة دل على أنه بدعة محدثة، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (1) » وروى أصحاب السنن عن العرباض بن سارية، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة (2) » قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلية وهي قوله: «كل بدعة ضلالة (3) » بسلب عمومها، وأن يقال: ليست كل بدعة ضلالة، فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل. وقال: إن قصد التعميم المحيط ظاهر من نص الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة الجامعة فلا يعدل عن مقصوده.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (4) » متفق عليه. وفي رواية لمسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (5) » . تعرف بذلك أن هذا العمل لما كان مخالفا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مردود على صاحبه؛ لأنه محدث لم
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبي داود الخراج والإمارة والفيء (2956) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2416) ، مسند أحمد (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن أبي داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(3) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(4) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(5) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(74/42)
يكن عليه عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وأصحابه السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم.
إذا عرف هذا فالاحتفال بالمولد بدعة محدث مردود على فاعله، وهو يختلف بحسب ما يعمل فيه من البدع والمحرمات، فإن خلا من المحرمات عموما واقتصر فيه على عمل الدعوة من طعام وشراب وطيب، ولم يحضره مردان ولا اختلط الرجال بالنسوان، واعتقد فاعله أن هذا من الدين الذي يتقرب به إلى رب العالمين. فهذا بدعة محدث مردود على فاعله.
وإن انضم إلى ذلك ما يفعله كثير ممن يقيمون الاحتفالات بالموالد من استعمال الأغاني وآلات الطرب وقلة احترام كتاب الله تعالى. فإنهم يجمعون في هذه الاحتفالات بينه وبين الأغاني ويبدءون به وقصدهم الأغاني، ولذلك ترى بعض السامعين إذا طول القارئ القراءة يملون ويتثاقلون منه لكونه طول عليهم.
وكذلك الافتتان بالمردان فإن الذي يغني في الاحتفالات ربما يكون شابا لطيف الصورة حسن الهيئة، فتجدهم يتثنون ويتكسرون في مشيتهم وحركاتهم ويرقصون ويتعانقون، فتأخذهم أحوال النفوس الرديئة، ويتمكن منهم الشيطان، وتقوى فيهم النفس الأمارة(74/43)
بالسوء والعياذ بالله من ذلك.
وكذلك ما يحضره من النساء وافتتان الرجال بهن، وتطلعهم إليهن، وسماع أصواتهن، وتصفيقهن، وغير ذلك مما يكون سببا لوقوع مفاسد عظيمة، إلى غير ذلك من الفتن والمفاسد التي لا تخفى على من عرف أحوالهم.
وهذه البدعة أول من أحدثها أبو سعيد كوكابوري بن أبي الحسن علي بن باتكين في القرن السادس الهجري، ولم يزل العلماء المحققون ينهون عنها، وينكرون ما يقع فيها من البدع والمحرمات منذ حدثت حتى الآن، وإليك بعض ما قالوا:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك واتخاذه عبادة فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان في أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها، ولا يستحب ذلك إلا جاهل أو زنديق.
وقال العلامة تاج الدين علي بن عمر اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني في رسالته في المولد المسماة بـ " المورد في الكلام على المولد " قال في النوع الخالي من المحرمات: لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة. ولم ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين بل هو بدعة(74/44)
أحدثها البطالون، وشهوة اعتنى بها الأكالون، بدليل أنا إذا أدرنا عليها الأحكام الخمسة: إما أن يكون واجبا، أو مندوبا، أو مباحا، أو مكروها، أو محرما، فليس بواجب إجماعا، ولا مندوبا؛ لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة ولا التابعون ولا العلماء المتدينون فيما علمت، وهذا جوابي عنه بين يدي الله إن عنه سئلت.
ولا جائز أن يكون مباحا بإجماع المسلمين، فلم يبق إلا أن يكون مكروها أو محرما. ثم صور الفاكهاني نوع المولد الذي تكلم فيه بما ذكرناه: بأن يعمل رجل من عين ما له لأهله وأصحابه وعياله، ولا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئا من الآثام. وقال: فهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروه وشناعة؛ إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة الذين هم فقهاء الإسلام، وعلماء الأنام. . . إلى أن قال الفاكهاني في " النوع الثاني " من المولد: وهو أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملئى بآلات الباطل من الدفوف والشابابات، واجتماع الرجال مع الشبان المرد والنساء والفاتنات، إما مختلطات بهم أو مشرفات، ويرقصن بالتثني والانعطاف والاستغراق في اللهو. وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذو المروءة(74/45)
من الفتيان. وإنما يحلو لنفوس موتى القلوب وغير المستقلين من الآثام والذنوب. وأزيدك أنهم يرونه من العبادات، لا من الأمور المنكرات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقال ابن الحاج في " المدخل ": إن نية المولد بدعة، ولو كان الاشتغال في ذلك اليوم بقراءة صحيح البخاري.
وقال ابن حجر الهيتمي في " الفتاوى الحديثة ": إن الموالد التي تفعل عندهم في زمنه أكثرها مشتمل على شرور، ولو لم يكن منها إلا رؤية النساء الرجال الأجانب لكفى ذلك في المنع. وذكر إنما يوجد في تلك الموالد من الخير لا يبررها ما دامت كذلك، للقاعدة المشهورة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وأما كونهم يرون أن من لم يفعل هذا فهو مقصر بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم ومتنقص له.
فجوابه: وأي تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الاحتفالات التي وصفها العلماء بما تمجه الأسماع، وتنفر منه سليمة الطباع، أليس المرجع في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره إلى ما يفعله به أصحابه وأهل بيته، وما فعله التابعون وتابعوهم بإحسان المشهود لهم بالخير، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة (1) » وقوله: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(74/46)
رد (1) » . وعن حذيفة رضي الله عنه: كل عبادة لم يتعبدها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالا.
وأيضا فأكثر ما يقصد من تلك الاحتفالات التي تقام للرؤساء ونحوهم إنما هو الذكرى وبقاء أسمائهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أعطى من ذلك ما لم يعطه أحد غيره، فقد رفع الله له ذكره دائما قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (2) {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} (3) {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} (4) {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (5) فذكره صلى الله عليه وسلم مرفوع ومقرون بذكر ربه كما في الأذان والإقامة وخطبة الجمعة وغيرها، وفي الصلوات، وفي التشهد، وغيرها. فهو صلى الله عليه وسلم أجل من أن تكون ذكراه سنوية فقط.
وقال السيد محمد رشيد رضا في كتابه " ذكرى المولد النبوي ": إن من طباع البشر أن يبالغوا في مظاهر تعظيم أئمة الدين والدنيا في طور ضعفهم في أمر الدين والدنيا؛ لأن هذا التعظيم لا مشقة فيه على النفس، فيعملونه بدلا مما يجب عليهم من الأعمال الشاقة التي يقوى بها أمر المعظم ويعتز بها دينه. وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم، وناهيك ببذل أموالهم
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) سورة الشرح الآية 1
(3) سورة الشرح الآية 2
(4) سورة الشرح الآية 3
(5) سورة الشرح الآية 4(74/47)
وأنفسهم في هذا السبيل، ولكنهم دون أهل هذه القرون التي ضاع فيها الدين في مظاهر التعظيم اللساني، ولا شك أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أحق الخلق بكل تعظيم، وليس من تعظيمه أن يبتدع في دينه شيء نعظمه به وإن كان بحسن نية، فقد كان جل ما أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم عن حسن نية، وما زالوا يبتدعون بقصد التعظيم وحسن النية حتى صارت أديانهم غير ما جاءت به رسلهم، ولو تساهل سلفنا الصالح كما تساهلوا وكما تساهل الخلف الذين اتبعوا سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع لضاع أصل ديننا أيضا، ولكن السلف الصالح حفظوا لنا الأصل، فعلينا أن نرجع إليه ونعض عليه بالنواجذ. انتهى.
وفيما ذكرنا كفاية لإيضاح حكم الاحتفالات بالموالد، وبيان ما يفعل فيها من البدع والمفاسد.
(ص - ف - 1243 في 21 - 6 - 389 هـ) .(74/48)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا رحمه الله (1)
فائدة فيما يتعلق
بزيارة القبور والبناء عليها وتجصيصها (2)
لا شك أن موضوع زيارة القبور والبناء عليها وتجصيصها موضوع مهم، والناس في حاجة دائمة لبيان ما شرع الله في ذلك وما نهى الله عنه حتى يكون الناس على بصيرة، فإن القبور قد ابتلي الناس فيها منذ قديم الزمان من عهد نوح صلى الله عليه وسلم، فقد وقعت الفتنة بالموتى والغلو فيهم في زمن أول رسول أرسله الله عز وجل إلى أهل الأرض، بعدما وقع فيهم الشرك - وهو نوح عليه السلام - ثم لم يزل الناس يقع منهم ما يقع من الفتن في القبور والغلو فيها والشرك بأهلها إلى يومنا هذا.
فإن الناس كانوا قبل زمن نوح عليه الصلاة والسلام على
__________
(1) هذه الفتاوى سبق نشرها في ج 13 من مجموع الفتاوى لسماحته.
(2) من ضمن مذكرة لسماحته جمع فيها فوائد في مختلف العلوم.(74/49)
الإسلام، من عهد آدم عليه السلام إلى زمن نوح عليه الصلاة والسلام عشرة قرون، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، ثم إن الناس وقعوا في الشرك بعد ذلك بسبب الغلو في خمسة من الصالحين ماتوا في زمن متقارب يقال لهم: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر؛ فعظم عليهم ذلك واشتدت بهم المصيبة بموت هؤلاء الأخيار منهم، فجاء الشيطان وزين لهم أن يصوروا صورهم، وأن ينصبوها في مجالسهم، وقال لهم: هذا تذكار تذكرونهم به في عبادتهم وأحوالهم الطيبة حتى لا تنسوهم، وتجتهدوا في العبادة كما اجتهدوا، فأتاهم من باب النصح، وقال بالتذكير بطاعة الله عز وجل، والخبيث له مقاصد أخرى فيما بعد فيهم أو فيمن بعدهم في آخر زمانهم وعند طول الأمد، فإنه اعتقد أن هؤلاء إذا طال بهم الأمد سوف تتغير حالهم، وسوف يتغير اعتقادهم بهذه الصور، أو من يأتي بعدهم من ذرياتهم. فوقع كما اعتقد الخبيث، وكما ظن إذا طال الأمد: عبدوهم من دون الله، أو عبدهم ذرياتهم من دون الله، كما ذكر العلماء ذلك رحمة الله عليهم، وأنزل الله فيهم قوله جل وعلا: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (1) {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} (2) بين الله سبحانه أنهم أضلوا كثيرا بسبب الشيطان وتزيينه لهم صورة هؤلاء الخمسة الصالحين حتى.
__________
(1) سورة نوح الآية 23
(2) سورة نوح الآية 24(74/50)
عبدوهم من دون الله فاستغيث بهم وعظمت قبورهم، وبني عليها، إلى غير ذلك، حتى بعث الله نبيه خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، فبين للناس ما فعله من قبلهم وما فعله اليهود والنصارى مع الأنبياء في هذا الصدد، فقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » ، وأخبرهم عما تفعله النصارى في شأن موتاها، كما في «الحديث الذي روته أم حبيبة وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قصة الكنيسة التي رأتاها في أرض الحبشة، فقال فيها عليه الصلاة والسلام: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله (2) » .
فبين أن النصارى من عادتهم البناء على قبور صالحيهم، ووضع الصور على تلك القبور، ثم أخبر أنهم شرار الخلق عند الله بسبب ذلك.
وشرعت الزيارة للقبور لا للطواف بها والتبرك بها، وإنما شرعت لتذكر الناس الآخرة، ولقاء الله، والزهد في الدنيا، وأن
__________
(1) رواه البخاري في (الجنائز) باب ما يكره من اتخاذ القبور مساجد برقم (1390) ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور برقم (529) .
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي الأنصار) برقم (23731) والبخاري في الجنائز برقم (1341) ، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة برقم (528) .(74/51)
الموت لا بد منه، وأنه سوف يأتي عليه كما أتى على من قبله من الأموات. وفي الزيارة إحسان إلى الموتى بالدعاء لهم والترحم عليهم إذا كانوا مسلمين. ولقد استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم ربه في زيارة قبر أمه فأذن له، لما في زيارتها من الاعتبار والذكرى للموت والآخرة. ولما استأذن في أن يستغفر لها لم يؤذن له، لأنها ماتت على الجاهلية دين قومها، فدل ذلك على أن القبور إذا كانت قبور كفار أو من قبور أهل الجاهلية فإنه لا يدعى لهم، ولا يستغفر لهم، ولا يسلم عليهم، وإنما تزار للذكرى والاعتبار، ولكن لا يسلم عليهم ولا يدعى لهم؟ لأنهم ماتوا على غير دين الإسلام، وقد قال سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (1) .
فالسنة أن يقول الزائر إذا زار مقابر المسلمين: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية (2) » ، وفي لفظ آخر: «يرحم
__________
(1) سورة التوبة الآية 113
(2) رواه مسلم في (الجنائز) باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم (975) ، وابن ماجه في كتاب (ما جاء في الجنائز) باب ما جاء فيما يقال إذا دخل المقابر برقم (1547) .(74/52)
الله المستقدمين منا والمستأخرين (1) » .
وكان إذا زار القبور صلى الله عليه وسلم يدعو لهم ويستغفر لهم، ولما زار البقيع قال: «اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد (2) » ، وإذا زار الشهداء دعا لهم، وهذه هي السنة في زيارة القبور. وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور في أول الأمر، لما كان الناس حديث عهد بالجاهلية والكفر، وقد كانوا اعتادوا الغلو في الموتى ودعاءهم والاستغاثة بهم، فمنعهم صلى الله عليه وسلم عن الزيارة؛ لئلا يبقى في قلوبهم تعلق بالشرك بالله عز وجل، ولئلا تقع منهم أشياء لا ترضي الله؛ لأنهم حدثاء عهد بعبادة القبور وتعظيمها.
ولما استقر التوحيد في قلوب المسلمين، وعرفوا معنى الشهادتين، وعرفوا شريعة الله، أذن لهم بزيارة القبور بعد ذلك، لما فيها من المصلحة والتذكير للآخرة، ولقاء الله عز وجل، والزهد في الدنيا، والاستعداد للموت، وأن ما أصاب هؤلاء الموتى سيصيبك، مع ما فيها من الإحسان إلى الموتى بالدعاء والاستغفار لهم.
وقد كانت القبور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ترفع عن الأرض قدر شبر، وليس هناك بناء عليها ولا تجصيص ولا قباب،
__________
(1) رواه مسلم في الجنائز باب ما يقال عند دخول القبور برقم (974) .
(2) رواه مسلم في الجنائز باب ما يقال عند دخول القبور برقم (974) .(74/53)
هكذا كان الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه والقرون المفضلة، ثم غير الناس بعد ذلك، وبنوا على القبور وجصصوها وفرشوها تقليدا لليهود والنصارى إلا من رحم الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن (1) » متفق على صحته. والمعنى فمن المعنى إلا أولئك؟ فلهذا وقع ما وقع، قلدوا اليهود والنصارى بالبناء على القبور واتخاذ المساجد عليها والقباب وفرشها حتى حدث الغلو فيها، وحتى عبدها الناس من دون الله وطافوا بها وطلبوا منها المدد من دون الله فوقع الشرك من الأكثرين.
وكثر من العامة الذين لا بصيرة لهم يدعونها ويطلبون منها المدد والغوث وشفاء المرض والنصر على الأعداء، وهذا هو الشرك بالله جل وعلا. قال تعالى في سورة فاطر: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (2) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (3) وهو ما وقع
__________
(1) رواه البخاري في (أحاديث الأنبياء) باب ما ذكر عن بني إسرائيل برقم 3456، ومسلم في (العلم) باب اتباع سنن اليهود والنصارى برقم 2669، وهو بهذا اللفظ في تفسير ابن كثير ج 4 ص 490.
(2) سورة فاطر الآية 13
(3) سورة فاطر الآية 14(74/54)
في الناس اليوم، فكثير منهم ممن يعرفون بالشيعة وغيرهم يدعون الحسين بن علي، ويدعون الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا من مكان بعيد، ويدعون عليا رضي الله عنه، وكل هذا من الجهل العظيم، فيقولون: الغوث الغوث، المدد المدد، النصر على الأعداء، وأنت تعرف ما جرى في الأمة وما جرى فينا، فأسعفونا وأغيثونا وانصرونا، إلى غير ذلك، ينسون الله ويدعون هؤلاء الأموات، وإذا اشتدت الأمواج في البحار كذلك يسألون الموتى ويصرخون بهم لإنقاذهم من الغرق. والمشركون الأولون أقل شركا من هؤلاء، كان الأولون إذا نزلت بهم الشدة استغاثوا بالله وحده وأفردوا له العبادة، كما قال سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (1) .
هذه حال الأولين من المشركين، كأبي جهل وأشباهه، أما هؤلاء المتأخرون - عباد القبور عباد الأموات - فشركهم دائم في الرخاء والشدة جميعا. ومما وقع في الناس أيضا الإيقاد عند الموتى في المقابر، وهذا لا أصل له، وما جاء فيه من الأخبار فهو موضوع لا أساس له، ولا أساس للقراءة على الموتى في المقابر، كل هذا باطل، كذلك القراءة عند دفن الميت. وبعضهم أحدث بدعة أخرى، وهي بدعة الأذان والإقامة في القبر، إذا حفروه نزلوا فأذنوا وأقاموا فيه ثم
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 65(74/55)
جعلوا الميت فيه بعد ذلك، وهي بدعة جديدة لا أساس لها، وكذلك التلقين، تلقين الميت بعد إنزاله في القبر ودفنه بقولهم: يا فلان ابن فلانة، فإن لم تعرف أمه قالوا: يا فلان ابن حواء، اذكر ما كنت عليه في الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إلى أخره. وهذا لا أصل له، والأخبار فيه موضوعة لا أساس لها، وإنما فعلها بعض أهل الشام بعد انقراض القرن الأول، وليس في قول أحد أو فعله حجة فيما يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنما المشروع الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا فرغ الناس من دفن الميت أن يدعى له بالتثبيت والمغفرة، والسنة للمشيعين ألا يعجلوا بالانصراف حتى يفرغ من دفن الميت، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معها حتى يصلى عليها، وحتى يفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل جبل أحد (1) » . يعني من الأجر، فدل على أن المشيع يبقى مع الجنازة حتى يفرغ من دفنها، وكان صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل (2) » .
هذه هي السنة، ولم يكن يلقنه، فالتلقين يكون قبل الموت ما دام
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (10018) ، والبخاري في (الإيمان) برقم (47) .
(2) رواه أبو داود في (الجنائز) برقم (3221) .(74/56)
حيا وظهرت عليه أمارات الموت، فإنه يلقن بأن يقول: لا إله إلا الله، أو يذكرون الله عنده حتى يقولها ويختم له بها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة (1) » ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله (2) » ، رواه مسلم في صحيحه، وإذا لم ينتبه فلا بأس لمن عنده من إخوانه أن يقول: يا فلان، قل: لا إله إلا الله، برفق وكلام طيب.
وكذلك لا يجلس الإنسان على القبر، ولا يجوز الصلاة في المقبرة إلا صلاة الجنازة على القبر إذا لم يصل الإنسان على الميت، فلا بأس أن يصلي على القبر، وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صلى على قبر مضى عليه شهر؛ فدل ذلك على أنه لا بأس أن يصلى على القبر بعد مضي شهر على دفنه، وإن مضى على الدفن أكثر من شهر فالواجب ترك ذلك، إلا أن تكون الزيادة يسيرة كاليوم واليومين؛ لأن العبادات توقيفية لا يشرع منها إلا ما شرعه الله سبحانه أو رسوله عليه الصلاة والسلام.
وهكذا لا تجوز الكتابة على القبور ولا البناء عليها ولا تجصيصها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فيما رواه مسلم في صحيحه وغيره؛ فعلى الجميع التعاون على البر
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند الأنصار) برقم (21529) ، وأبو داود في (الجنائز) برقم (3116) .
(2) رواه مسلم في (الجنائز) باب تلقين الموتى لا إله إلا الله برقم (916) .(74/57)
والتقوى. ونسأل الله عز وجل التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(74/58)
حكم الإقامة عند القبر بالمدح والأذكار ثلاثة أيام
س: يوجد في بلدتنا رجل صالح متوفى قد بني له مقام على قبره وله عادة عندنا في كل عام، نذهب مع الناس إليه رجالا ونساء، ويقيمون عنده ثلاثة أيام بالمدح والتهليل والأذكار، ويستمر بالأوصاف المعروفة، فنرجو التوجيه والإرشاد.
ج: هذا العمل لا يجوز، وهو من البدع التي أحدثها الناس، فلا يجوز أن يقام على قبر أحد بناء، سواء سمي مقاما أو قبة أو مسجدا أو غير ذلك.
وكانت القبور في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة في البقيع وغيره مكشوفة ليس عليها بناء، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبر أو يجصص وقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » متفق على صحته. وقال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه،
__________
(1) رواه البخاري في (الجنائز) باب ما يكره من اتخاذ القبور مساجد برقم (1390) ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور برقم (529) .(74/58)
وأن يبنى عليه (1) » ، رواه الإمام مسلم في صحيحه.
فالبناء على القبور وتجصيصها ووضع الزينات عليها أو الستور كله منكر ووسيلة إلى الشرك، فلا يجوز وضع القباب أو الستور أو المساجد عليها.
وهكذا زيارتها على الوجه الذي ذكره السائل من الجلوس عندها والتهليل وأكل الطعام والتمسح بالقبر والدعاء عند القبر والصلاة عنده، كل هذا منكر وكله بدعة لا يجوز، إنما المشروع زيارة القبور للذكرى والدعاء للموتى والترحم عليهم ثم ينصرف.
والمشروع للزائر للقبور أن يقول: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين (2) » ، وما أشبه ذلك من الدعوات فقط. هذا هو المشروع الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم. وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبور المدينة فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر (3) » .
وأما الإقامة عند القبر للأكل والشرب أو التهاليل أو للصلاة أو قراءة القرآن فكل هذا منكر لا أصل له في الشرع المطهر، وأما
__________
(1) رواه مسلم في (الجنائز) باب النهي عن تجصيص القبر برقم (970) .
(2) رواه مسلم في الجنائز باب ما يقال عند دخول القبور برقم (974) .
(3) رواه الترمذي في الجنائز باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر برقم (1053) .(74/59)
دعاء الميت والاستغاثة به وطلب المدد منه، فكل ذلك من الشرك الأكبر، وهو من عمل عباد الأوثان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من اللات والعزى ومناة وغيرها من أصنام الجاهلية وأوثانها.
فيجب الحذر من ذلك وتحذير العامة منه وتبصيرهم في دينهم، حتى يسلموا من هذا الشرك الوخيم، وهذا هو واجب العلماء الذين من الله عليهم بالفقه في الدين ومعرفة ما بعث الله به المرسلين، كما قال الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) وقال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (4) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى أن يشهدوا أن
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة النحل الآية 36
(3) سورة فصلت الآية 33
(4) سورة يوسف الآية 108(74/60)
لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (1) » ، وفي رواية للبخاري رحمه الله: «فادعهم إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن أجابوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب (2) » متفق على صحته. فأمره أن يبدأهم بالدعوة إلى التوحيد والسلامة من الشرك مع الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والشهادة له بالرسالة.
فعلم بذلك أن الدعوة إلى إصلاح العقيدة وسلامتها مقدمة على بقية الأحكام؛ لأن العقيدة هي الأساس الذي تبنى عليه الأحكام، كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4) ،
__________
(1) رواه البخاري في (المغازي) باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن برقم (4347) ، ومسلم في (الإيمان) باب الدعاء إلى الشهادتين برقم (19) .
(2) رواه البخاري في (الزكاة) باب وجوب الزكاة برقم (1395) ، ومسلم في (الإيمان) برقم (18) .
(3) سورة الأنعام الآية 88
(4) سورة الزمر الآية 65(74/61)
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على أهل العلم في كل مكان وزمان مضاعفة الجهود في ذلك حتى يبصروا العامة بحقيقة الإسلام ويبينوا لهم العقيدة الصحيحة التي بعث الله بها الرسل عليهم الصلاة والسلام، وعلى رأسهم إمامهم وخاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم. وفق الله علماء المسلمين وعامتهم لكل ما فيه رضاه، إنه خير مسئول.(74/62)
من بدع زيارة القبور
س: إذا توفي واحد عندنا في السودان بعد أربعين يوما تقوم الأسرة بزيارة القبر النساء والأولاد، ويفتحون القبر ومعهم حبوب ذرة ينشرونها على الميت ويرمون فيما أعتقد حجارة على الميت، وهل الحريم يزرن القبر؟
ج: هذا بدعة لا أصل له في الشرع، فرمي الحبوب والطيب والملابس كله منكر لا أصل له، فالقبر لا يفتح إلا لحاجة كأن ينسى العمال أدواتهم كالمسحاة فيفتح لأجل ذلك، أو يسقط لأحدهم شيء له أهمية فيفتح القبر لذلك، أما أن يفتح للحبوب أو ملابسه أو نحو ذلك فلا يجوز.
وليس للنساء زيارة القبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور، وروي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس وحسان بن(74/62)
ثابت رضي الله عنهم، فلا يجوز لهن زيارتها، لكنها مشروعة للرجال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » رواه مسلم في صحيحه. والحكمة - والله أعلم - في نهي النساء عن ذلك هي أنهن فتنة وقليلات الصبر.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين باقي مسند أبي هريرة برقم (9395) ، ومسلم في الجنائز باب استئذان البني صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه برقم (976) ، وابن ماجه في ما جاء في الجنائز، باب ما جاء في زيارة القبور برقم (1569) واللفظ له.(74/63)
حكم زيارة النساء للقبور
س: توفي والد خالتي، وزارت قبره مرة، وتريد أن تزوره مرة أخرى، وسمعت حديثا معناه تحريم زيارة المرأة للقبور، فهل هذا الحديث صحيح؟ وإذا كان صحيحا فهل عليها إثم يستوجب الكفارة؟
ج: الصحيح أن زيارة النساء للقبور لا تجوز؛ للحديث المذكور، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لعن زائرات القبور.
فالواجب على النساء ترك زيارة القبور، والتي زارت القبر جهلا منها فلا حرج عليها، وعليها ألا تعود، فإن فعلت، فعليها التوبة والاستغفار، والتوبة تجب ما قبلها، فالزيارة للرجال خاصة، قال(74/63)
صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » . وكانت الزيارة في أول الأمر ممنوعة على الرجال والنساء؛ لأن المسلمين حدثاء عهد بعبادة الأموات والتعلق بالأموات، فمنعوا من زيارة القبور، سدا لذريعة الشر، وحسما لمادة الشرك، فلما استقر الإسلام وعرفوا الإسلام، شرع الله لهم زيارة القبور، لما فيها من العظة والذكرى، من ذكر الموت والآخرة والدعاء للموتى والترحم عليهم، ثم منع الله النساء من ذلك في أصح قولي العلماء؛ لأنهن يفتن الرجال وربما فتن في أنفسهن، ولقلة صبرهن وكثرة جزعهن، فمن رحمة الله وإحسانه إليهن أن حرم عليهن زيارة القبور، وفي ذلك أيضا إحسان للرجال، لأن اجتماع الجميع عند القبور قد يسبب فتنة، فمن رحمة الله أن منعن من زيارة القبور.
أما الصلاة فلا بأس، فتصلي النساء على الميت، وإنما النهي عن زيارة القبور، فليس للمرأة زيارة القبور في أصح قولي العلماء، للأحاديث الدالة على منع ذلك، وليس عليها كفارة وإنما عليها التوبة فقط.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين باقي مسند أبي هريرة برقم (9395) ، ومسلم في الجنائز باب استئذان البني صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه برقم (976) ، وابن ماجه في ما جاء في الجنائز، باب ما جاء في زيارة القبور برقم (1569) واللفظ له.(74/64)
س: ما حكم زيارة المرأة للقبور؟
ج: لا يجوز للنساء زيارة القبور؛ لأن الرسول صلى الله عليه(74/64)
وسلم لعن زائرات القبور؛ ولأنهن فتنة وصبرهن قليل، فمن رحمة الله وإحسانه أن حرم عليهن زيارة القبور؛ حتى لا يفتن ولا يفتن، أصلح الله حال الجميع.
صفحة فارغة(74/65)
صفحة فارغة(74/66)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: هل يجوز أن أتزوج امرأة أخي إذا طلقها جزاكم الله خيرا؟
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
ج: زوجة أخيك إذا طلقها وانتهت عدتها أو توفي عنها وانتهت عدة الوفاة فلا مانع من زواجك منها ما لم يكن هناك ما يسبب التحريم بينكما؛ كالرضاع مثلا بأن تكون قد أرضعتك أو أن أمها أو أختها أرضعتك ونحو ذلك، وإلا فالأصل حل امرأة أخيك لك؛ لأن الله تعالى ذكر المحرمات من النساء ولم يذكر منهن زوجة الأخ ثم قال سبحانه: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (1) .
__________
(1) سورة النساء الآية 24(74/67)
س: رجل ينوي الزواج وعمره في الثلاثين لكنه يبعث براتبه إلى والده فهل عليه من إثم إذا ادخر راتبه لكي يكمل مشوار الزواج ويترك والديه أم كيف تنصحونه جزاكم الله خيرا؟
ج: نقول: يا أخي عليك تقوى الله والبر بأبويك والمحافظة على برهما ثم لا تنس نفسك بأن يتوفر من راتبك ما يكون سببا لزواجك، وأقنع أبويك وأنفق عليهما قدر ما يكفيهما، فإن كانا غنيين عنك ولا حاجة لهما بإنفاقك ولكن يطلبان منك فأعطهما قدر ما يرضيهما، وحاول إقناعهما أنك تريد بهذا المال إعفاف نفسك وصيانتها من الوقوع في الحرام، فحاول الجمع بين الأمرين بين توفير ما تتزوج به وبين إقناعهما وإرضائهما ولو باليسير، لا سيما إن كانا فقيرين، أما إن كانا أغنياء فلعل الأمر أيسر، ومع كونهما غنيين فالواجب التلطف بهما والرفق بهما، وإن طلبا فأعطهما، وأما إن كانا فقيرين فإنه يجب أن تنفق عليهما، وأسال الله أن يخلف ما أنفقت بالبركة، وأن يبارك لك فيما أبقيت، ويثيبك على ما بذلت، ومع هذا فحاول توفير مال يكفي لإعفاف نفسك بالزواج، فإن هذا من الواجبات عليك، وأنت إذا اتقيت ربك وحرصت على بر والديك، ثم حاولت ملاطفتهما وإرضاءهما، وأفهمهما بحاجتك إلى المال لأجل الزواج، وسيعينك الله عز وجل وييسر لك أسباب الرزق، أسأل الله عز وجل لك التوفيق والهداية والعمل الصالح والرزق الحلال.(74/68)
س: يقول السائل: لي خال فقير نزوره ويزورنا، ووالدتي تزوره وتسأل عنه ولكن زوجته لا تريد أحدا يقوم بزيارته، فهل نقطع الزيارة حتى لا يكون هناك مشاكل أو بماذا تنصحوننا وجزاكم الله خيرا؟
ج: زيارتك لخالك وزيارة أمك لأخيها عمل صالح وصلة رحم، فكون الزوجة لا ترغب في زائر لا يمنع ذلك من الزيارة اللهم إلا أن يترتب على الزيارة مشكلة تسبب افتراقه مع زوجته، فإذا وصل الأمر إلى هذا الحد المحزن، فتركهم للزيارة أنفع، إنما المهم حاولوا الاتصال به وإرضاء زوجته إن يكن في نفسها شيء، فأرضوا زوجته حتى تجمع بين صلة الرحم وكف الأذى، وأسأل الله أن يعين الجميع على كل خير.(74/69)
س: إنني في رمضان المنصرم لم أصم إلا يوما واحدا؛ وذلك لأنني أصبت بعلة، وإذا صمت لا أستطيع الحركة إطلاقا، ولا أستطيع الوقوف حتى في الصلاة، فبماذا تنصحوننا الآن وجزاكم الله خيرا؟ علما بأنه أول شهر رمضان تصادفني فيه هذه العلة؟
ج: هذا المرض لا يخلو إما أن يكون مرضا ميؤوسا منه من الأمراض التي يقول الأطباء المختصون: إنه من الأمراض التي يغلب(74/69)
على الظن عدم الشفاء منها، فالمرض الذي لا يرجى برؤه عذر لترك الصيام، ويلزمك أن تطعم عن كل يوم نصف صاع، ويعادل كيلو ونصفا تقريبا. وهذا يقوم مقام الصيام؛ لأن مرضك مرض لا يرجى برؤه، أما إن كان مرض ليس بميؤوس منه ويشفى بتوفيق من الله، فمتى شفاك الله وعافاك فصم هذه الأيام التسعة والعشرين يوما، وليس عليك إطعام؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(74/70)
س: ما رأي الشرع في خضاب الرجل يديه ورجليه عند زواجه ولبس ما يسمى الحرير على إحدى يديه؟
ج: الحناء الغالب أن النساء يستعملنه للتجمل، ولهذا هو من خصائص النساء، فهو غير لائق بالرجل، ولا يجوز له التشبه بالنساء فيما هو من خصائص زينتهن وتجملهن، فلا يجوز له وضع الحناء في يديه ورجليه لأجل الزينة؛ لأن هذا مما تختص به النساء وليس الرجل محتاجا لذلك، فجماله أخلاقه، أعماله الطيبة، لكن إذا وضعه في يديه ورجليه كعلاج أو مساعدة على الأعمال، فهذا من باب وضع الدواء فلا مانع منه، أما وضعه ليلة الزواج لأجل التجمل فهذا مشابهة للنساء؛ وهو محرم ومن كبائر الذنوب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله(74/70)
المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال (1) » والرجال منهيون عن مشابهة النساء. ولبس الحرير لا يجوز؛ لأن الحرير محرم على الرجال مباح للنساء، «فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه، وأخذ ذهبا فجعله في شماله ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي (2) » ، وفي رواية بزيادة: «حل لإناثهم (3) » .
س: وإذا كان هذا عادة لدى بعض الناس ولا يختص فعله بالنساء فما الحكم؟
ج: إذا كان الحناء، ليس من خاصة النساء فلا مانع منه لكن المحظور أن يكون الرجل يتشبه بالنساء.
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5885) ، سنن الترمذي الأدب (2784) ، سنن أبي داود الأدب (4930) ، سنن ابن ماجه النكاح (1904) ، مسند أحمد (1/365) ، سنن الدارمي الاستئذان (2649) .
(2) سنن النسائي الزينة (5144) ، سنن أبي داود اللباس (4057) ، سنن ابن ماجه اللباس (3595) ، مسند أحمد (1/115) .
(3) سنن ابن ماجه اللباس (3595) .(74/71)
س: يقول: حلفت يمينا بالله على شخص على أن لا يدخن داخل حجرتي ففي إحدى المرات دخن سهوا، وفي الثانية سافرت وتركته في الحجرة، وعندما عدت وجدت آثار الدخان، هل علي كفارة يمين في الحالتين أم في إحداهما جزاكم الله خيرا؟
ج: عليك كفارة يمين؛ لأنه دخن في داخل حجرتك، والواجب على صاحبك تقوى الله عز وجل والإقلاع عن هذا الداء المضر بالصحة والمال والدين، فإنه محرم شرعا كريه طبعا.(74/71)
س: ما هي كيفية اختيار الزوجة أو التعرف عليها لأول مرة؟ وما هي الحدود الشرعية المباحة في هذا الأمر جزاكم الله خيرا؟
ج: يطلب الرجل ممن يثق به من الرجال أو النساء أن يبحثوا له عن امرأة تناسب وضعه، فإذا ذكروا له امرأة سأل عن دينها وأخلاقها، ثم صلى ركعتين يسأل الله أن يختار له ما فيه الخير.
ويقول: (اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كانت هذه المرأة التي أريد الزواج منها خيرا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فيسرها لي وأقدرها لي وبارك لي فيها، وإن كنت تعلم أنها شر علي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفها عني واصرفني عنها واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به) والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن رغبات الناس في النساء مختلفة فقال: «تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك (1) » أخرجه البخاري ومسلم، فعلى المسلم أن يتقي الله ويبحث عن امرأة ذات خلق ودين ويستخير الله، ولا بأس أن يسأل النظرة إليها؛ فإن نظره إلى من يريد خطبتها بحضور محرمها أمر دلت عليه السنة، «فالنبي صلى الله عليه وسلم قال للمغيرة
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5090) ، صحيح مسلم الرضاع (1466) ، سنن النسائي النكاح (3230) ، سنن أبي داود النكاح (2047) ، سنن ابن ماجه النكاح (1858) .(74/72)
بن شعبة رضي الله عنه: " أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فانظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما (1) » .
__________
(1) سنن الترمذي النكاح (1087) ، سنن النسائي النكاح (3235) ، سنن ابن ماجه النكاح (1866) ، مسند أحمد (4/246) ، سنن الدارمي النكاح (2172) .(74/73)
س: عندنا تبنى القبور على شكل مستطيل يرتفع عن سطح الأرض حوالي نصف المتر من جميع الجهات، وأعلم أن بعض الناس يضع على سطح الأرض حجرا مكان رأس الميت ولا يفعلون غير ذلك؛ فعلى أية حال أمر الإسلام أن تكون القبور جزاكم الله خيرا؟
ج: السنة أن القبر يرفع عن الأرض قدر شبر فقط؛ لأن ما زاد على الشبر فإنه يكون من دواعي الغلو فيه ثم إن البناء على القبور محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن تجصيص القبر (1) » أخرجه النسائي، والترمذي وزاد: «وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ (2) » وعلي رضي الله عنه قال لأبي الهياج الأسدي: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته (3) » أخرجه الإمام مسلم.
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2029) ، سنن أبي داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) ، مسند أحمد (3/399) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2029) ، سنن أبي داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) ، مسند أحمد (3/339) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبي داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد (1/150) .(74/73)
س: امرأة أخطأت في معرفة يوم عاشوراء حسب التقويم فلم تصم التاسع والعاشر بل صامت العاشر والحادي عشر فهل(74/73)
صادفت الفضل جزاكم الله خيرا؟ ج: يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم، والنبي صلى الله عليه وسلم صام اليوم العاشر فقط، ولكنه في آخر حياته قال: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع (1) » أخرجه مسلم، فتوفي صلى الله عليه وسلم قبل أن يصوم التاسع. فالسنة صيام التاسع مع العاشر، أو العاشر مع الحادي عشر مخالفة لليهود، وما دمت قد صمت العاشر والحادي عشر فقد وافقت السنة والحمد لله.
__________
(1) صحيح مسلم الصيام (1134) ، سنن أبي داود الصوم (2445) ، سنن ابن ماجه الصيام (1736) ، مسند أحمد (1/236) .(74/74)
س: يقول: إنه عندما يفرغ الإمام من قراءة الفاتحة نؤمن ثم إني لا أقرأها سرا، وذلك لمتابعة الإمام في القرآن الذي يقرأه بعدها مع العلم أن الإمام لا يتزك فرصة لمن يريد أن يقرأها، فهل يلزمني قراءة الفاتحة والإمام يقرأ أو بماذا توجهونني؟
ج: هذه مسألة خلافية، فإن أنصت إلى قراءة الإمام فلا مانع من ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (1) .
قال الإمام أحمد أجمع الناس أنها في الصلاة، أي أنها في حكم استماع القراءة وراء الإمام.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 204(74/74)
وإن قرأت الفاتحة والإمام يقرأ غيرها فأرجو أن لا مانع من ذلك؛ لأن من العلماء من يرى وجوب قراءة الفاتحة على الإمام والمأموم استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب (1) » أخرجه البخاري. ولا يلزم الإمام سكوت لأجل أن يقرأ المأموم الفاتحة.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات برقم 756، ومسلم في كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة برقم 394.(74/75)
س: يقول أود الاستفسار عن راتبة الظهر، يروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى أربعا قبل الظهر وأربعا بعده، أما قبل الظهر فكانت بتسليمة واحدة، فهل جعل لها تشهدا أوسطا أم أنها أربع ركعات متواصلة بدون تشهد أوسط جزاكم الله خيرا؟
ج: الذي دلت عليه السنة أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين، «قال عبد الله بن عمر: حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب وركعتن بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح (1) » . أخرجه البخاري، وفي حديث عائشة رض الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي أربعا قبل الظهر في بيتها قبل أن يخرج إلى المسجد. فحمله العلماء على أنه يفعل هذا تارة وذاك تارة أخرى. والسنة أن تفصل بين كل ركعتين بسلام؛ لحديث «صلاة
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1181) ، سنن الترمذي الصلاة (433) ، مسند أحمد (2/141) .(74/75)
الليل والنهار مثنى مثنى (1) » ولم يعرف من النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى أربعا في النهار متصلة لا يفصل بينهما بسلام.
__________
(1) سنن الترمذي الجمعة (597) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1694) ، سنن أبي داود الصلاة (1421) ، موطأ مالك النداء للصلاة (269) ، سنن الدارمي الصلاة (1584) .(74/76)
س: هل الجمعة لها راتبة مثل الظهر أم ماذا أفيدونا جزاكم الله خيرا؟
ج: من أتى الجمعة فليصل ما يسر الله له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي ويصعد المنبر وما كان يصلي قبلها، ولم يرد فيما نعلم ما يدل على راتبة للجمعة قبلها. فليصل ما شاء من النفل المطلق، وأما بعد الجمعة فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتن في بيته.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعا (1) » أخرجه مسلم. قال العلماء: إن السنة أن يصلي أربعا وهذا أكمل، وإن صلى ركعتين فقد وافق السنة؛ لأنه صلى الله عله وسلم كان يفعل ذلك أحيانا بيانا؛ لأن أقلها ركعتان.
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (881) ، سنن الترمذي الجمعة (523) ، سنن النسائي الجمعة (1426) ، سنن أبي داود الصلاة (1131) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1132) ، مسند أحمد (2/499) ، سنن الدارمي الصلاة (1575) .(74/76)
س: فيما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يقعد حتى يركع تحية المسجد " وأنا ملتزم بهاتين الركعتين ولله الحمد، وأنه منعني أحد الإخوة إذا(74/76)
كانت الخطبة فهل نصلي وإن كان الخطيب يخطب على المنبر؟
ج: الأمر بصلاة ركعتي تحية المسجد عام حتى يوم الجمعة، بل قد جاء في يوم الجمعة خصوصية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما كان يخطب؛ «ودخل سليك الغطفاني فجلس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أصليت؟ قال: لا. قال: قم فاركع ركعتن " (1) » أخرجه البخاري ومسلم بنحوه.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1170) ، صحيح مسلم الجمعة (875) ، سنن الترمذي الجمعة (510) ، سنن النسائي الجمعة (1409) ، سنن أبي داود الصلاة (1116) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1114) ، مسند أحمد (3/317) ، سنن الدارمي الصلاة (1555) .(74/77)
س: تحية المسجد هل تلزم أو لا، إذ إني أدخل وأجلس مباشرة وذلك للاستغفار حتى تقام الصلاة؟
ج: إذا دخلت المسجد في غير وقت النهي فصل تحية المسجد، أما إن دخلت المسجد في أوقات النهي المضيقة، كأن دخلتها قرب غروب الشمس بدقائق، أو قرب زوالها أو عند طلوعها قبل أن ترتفع قيد رمح، فلك أن تجلس بدون صلاة؛ لما في حديث عقبة رضي الله عنه أنه قال: «ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيها، أو أن نقبر فيها موتانا؛ حين تطلع الشمس بازغة، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تتضيف للغروب (1) » .
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (831) ، سنن الترمذي الجنائز (1030) ، سنن النسائي الجنائز (2013) ، سنن أبي داود الجنائز (3192) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1519) ، مسند أحمد (4/152) ، سنن الدارمي الصلاة (1432) .(74/77)
س: سائل يسأل عن حكم التسبيح بالمسبحة؟
ج: التسبيح عقب الصلوات سنة. فالسنة التسبيح والتكبير(74/77)
والتحميد بعد الفريضة، ولكن إذا سبح بأصابع يديه فذاك أفضل فإنها مسئولات ومستنطقات، وإن عد التسبيح بالمسبحة من غير اعتقاد أنها سنة، ومن غير مظهر رياء، وإنما يستعين بها ليضبط العدد فلا مانع.(74/78)
س: إذا جاء شخص إلى صلاة الجمعة متأخرا، وكان المصلون في الركعة الثانية وقد قاموا من الركوع، ولم يدرك المصلي المتأخر أي ركعة معهم، ونوى أن يصلي صلاة الجمعة فهل تقبل صلاته؟
ج: الأصل أن صلاة الجمعة لا يدركها المسبوق إلا إذا أدرك الإمام قبل أن يرفع من الركعة الثانية، فإذا جاء وقد رفع الإمام رأسه من الركعة الثانية فإنه يصليها ظهرا.(74/78)
س: يقول ما حكم الشرع في المرأة التي لا ترتدي الخمار؟ وتصوم وتصلي وبناتها يرتدين الخمار؟ أفتونا جزاكم الله خيرا؟
ج: تلك المرأة المصلية الصائمة نسأل الله أن يكون صيامها وصلاتها سببا لاستقامتها في كل أحوالها، فإن أداء الفرائض الصلوات الخمس يدعو المسلم إلى فعل الواجبات وترك المحرمات قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (1)
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 45(74/78)
فأداؤها للصلاة مع صيامها لرمضان أعمال طيبة صالحة، لكن ينبغي لها أن تكمل هذا الفضل بالتزام واجبات الإسلام؛ إذ الحجاب للمرأة واجب ينبغي للمرأة أن تلتزم به اتباعا لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (1) وعلى بناتها مناصحتها وتوجيهها وحثها على الخير، وأسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 59(74/79)
س: اعتاد الناس في قريتنا في كل يوم جمعة بعد الصلاة أن يذهبوا إلى القبور ويقرءوا الفاتحة على الأموات هل هذا بدعة أم سنة جزاكم الله خيرا؟
ج: زيارة القبور مستحبة في حق الرجال؛ لأن زيارة القبور تذكر بالآخرة، وتزهد في الدنيا، وتعلم العبد بأن هذا القبر مآله بعد موته يبقى فيه إلى أن يأذن الله بقيام الخليقة لرب العالمين. فزيارة القبور تلين القلوب وتزهدها في الدنيا وترغبها في الآخرة، وتكون هاديا لها إلى العمل الصالح والاستقامة، ولكن لم يأت في السنة تخصيص ليوم الجمعة من بين سائر الأيام، لم يأت ذلك في السنة إنما جاء الأمر عاما يقول صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة (1) » وأما أنها تختص
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1977) ، سنن الترمذي الجنائز (1054) ، سنن النسائي الأشربة (5652) ، سنن أبي داود الأشربة (3698) ، مسند أحمد (5/361) .(74/79)
الزيارة بيوم الجمعة سواء بعد طلوع الشمس أو بعد صلاة الجمعة أو بعد صلاة عيد الفطر أو عيد الأضحى فكلها أمور لا أصل لها في الشرع، واعتقاد ما ليس بسنة؛ سنة، هذا من مخالفة الشرع، وأيضا من البدع قراءة الفاتحة أو غيرها من آي القرآن على القبور، فإن ذلك مما لا أصل له في الشرع.(74/80)
س: امرأة متزوجة ولديها من الأبناء ثلاثة، وهي تبلغ من العمر ثمانية وعشرين عاما، ولكنها في عذاب نفسي شديد منذ السنة الأولى من زواجها؛ لأن زوجها لا يصلي ولا يصوم وسيئ الخلق جدا معها ومع أبنائه ومع الناس أيضا، ويحب المفاتنة بين الناس لخلق المشاكل، وهو يكذب دائما، ويحلف بالله وهو كاذب وكثير الحلف بالطلاق أيضا، وإذا حصلت بينه وبين زوجته مشاكل يسبها ويسب الدين، ويلعنها ويلعن من خلقها أيضا، ويسب أبناءه بكلام لا يجوز، وهي تسألكم جزاكم الله خيرا كيف تتصرف ولا سيما وقد قررت أن تمتنع عنه جزاكم الله خيرا؟
ج: يا أختي إن كان هذا الامتناع سوف يؤدي خيرا وربما يصلح حال الزوج ويرده إلى الطريق المستقيم، ويكون سببا لصلاحه واستقامة حاله فبادري بهجرانه والامتناع عنه، لعل الله أن يغير من حاله ما شاء، فإن شخصا لا يصلي ولا يصوم هذا يخشى على دينه(74/80)
وإسلامه؛ لأن من العلماء من يرى أن ترك الصلاة كفر ينقل عن الملة والعياذ بالله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بين المرء وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة (1) » . وتارك صيام رمضان إن كان شاكا في وجوبه فتلك ردة عن الإسلام أو كان مكذبا به فتلك ردة عن الإسلام، وإن يكن متهاونا به مع الإقرار بوجوبه فهو على خطر عظيم، وقد ارتكب إثما كبيرا وخطأ عظيما. وعلى كل حال إن كنت ترين في هجره مصلحة من صلاحه واستقامة حاله فبادري بذلك عسى الله أن ينفع به واقصدي وجه الله وحذريه من تلك الأعمال السيئة ورغبيه في الأعمال الصالحة، فعسى أن يجعل الله هدايته على يدك وما ذلك على الله بعزيز.
هل تبقى معه في المنزل أم تنتقل إلى أهلها؟
ج: في البداية تهجره في الفراش وتظهر الضجر من حالته السيئة، فإن ارتدع وإلا تركت منزله إلى أن تستقيم حاله، نسأل الله الهداية للجميع.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن النسائي الصلاة (464) ، سنن أبي داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .(74/81)
س: بعض أولياء النساء لا يكتشفون عيب الزوج إلا بعد مضي مرحلة معينة هل تنصحونهم باتخاذ إجراء معين يا شيخ؟
ج: الناس يعلمون من الإنسان ظاهره وأمور الغيب إلى الله(74/81)
لكن كون ولي المرأة يسأل عن هذا الزوج المتقدم عن سلوكه عن جلسائه عمن يصاحب ومن يخاطب، عن أفكاره عن أحواله، يسأل عن صلاته مع جماعة المسلمين في المسجد. فعلى ولي المرأة التحري وبذل السبب والسؤال، والله يتولى أمرهم.(74/82)
س: يقول ما حكم صبغ الشعر بالنسبة للمرأة والرجل؟
ج: نقول الصبغة بالسواد يكرهه كثير من العلماء وفيه أحاديث ووعيد؛ يقول صلى الله عليه وسلم: «يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة (1) » كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم والد الصديق فقال: «غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد (2) » أخرجه مسلم. وأمرهم أن يكون هذا التغير بالحناء. وكذلك المرأة لا تصبغ بالسواد الخالص، وأما غير السواد من الألوان المختلفة فلا مانع من ذلك، إن لم يكن فيه تشبه بالكافرات فيما اختصصن به.
__________
(1) سنن النسائي الزينة (5075) ، سنن أبي داود الترجل (4212) ، مسند أحمد (1/273) .
(2) صحيح مسلم اللباس والزينة (2102) ، سنن أبي داود الترجل (4204) ، سنن ابن ماجه اللباس (3624) .(74/82)
س: هل يجوز بعد دخول المسجد والصلاة قائمة والصفوف التي أمامي مكتملة أن أسحب فردا من الصف الذي أمامي حتى لا أصلي بمفردي في صف واحد؟
ج: الحديث صريح «لا صلاة لفرد خلف الصف (1) » والنبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف فأمره أن يعيد
__________
(1) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1003) ، مسند أحمد (4/23) .(74/82)
تلك الصلاة. فإذا أمكن أن تنبه إنسانا من المصلين ويقف معك وتصلي فذاك حسن، ولكن إذا تعذر أن تنبه أحدا ليقف معك ولم تستطع الوقوف عن يمين الإمام وصليت منفردا؛ خوفا من فوات الجماعة، وتعلم أنه لا يمكن أن يأتي أحد ليقف معك، فإن من العلماء من يصحح تلك الصلاة، وإن كان فذا ويقول المصافة مطلوبة مع الإمكان، وعند تعذرها يجوز أن يصلي المرء منفردا.(74/83)
س: يقال إن المرور أمام المصلي غير جائز فهل يصح للمصلي أن يضع أي شيء أثناء صلاته منفردا؟ وما المسافة التي تكون بين المصلي وبين سترته؟
ج: المرور بين يدي المصلي أمر منهي عنه شرعا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه - في لفظ - لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يدي المصلي (1) » قال أبو النضر قال أبو هريرة لا أدري أقال أربعين سنة أم شهرا أم يوما. على كل حال فهو وعيد على من مر بين يدي المصلي، والمصلي عليه أن يتخذ سترة أمامه ويدنو منها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها (2) » . وتحديد المسافة ذكر أهل العلم أنها كممر الشاة، والمقصود أن يكون قريبا من سترته حتى لا يمر أحد بينه وبينها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (510) ، صحيح مسلم الصلاة (507) ، سنن الترمذي الصلاة (336) ، سنن النسائي القبلة (756) ، سنن أبي داود الصلاة (701) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (944) ، مسند أحمد (4/169) ، موطأ مالك النداء للصلاة (365) ، سنن الدارمي الصلاة (1417) .
(2) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (954) .(74/83)
صفحة فارغة(74/84)
من فتاوى اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء
من الفتوى رقم 1760
السؤال الثاني: إذا قال المسلم بعد الأذان: " اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد " فهل قوله في ذلك إنك لا تخلف الميعاد بدعة؟
ج: الأصل في الأذكار وسائر العبادات الوقوف عند ما ورد من عباراتها وكيفياتها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لما رواه البخاري وغيره عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجا ولا منجا منك إلا إليك، آمنت(74/85)
بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول، فقلت أستذكرهن: وبرسولك الذي أرسلت، قال: لا، ونبيك الذي أرسلت (1) » فأبى النبي صلى الله عليه وسلم على البراء بن عازب أن يضع كلمة: ورسولك، مكان كلمة: ونبيك، في الذكر والدعاء عند النوم، وكلمة: (إنك لا تخلف الميعاد) وإن لم ترد في دعاء طلب الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان في دواوين السنة الستة لكن رواها البيهقي في سننه من طريق علي بن عياض قال: حدثنا شعيب ابن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وذكر الحديث، وزاد في آخره: «إنك لا تخلف الميعاد» وعلى هذا لا تكون زيادتها في دعاء طلب الوسيلة بعد الأذان صلى الله عليه وسلم بدعة؟ لثبوتها في رواية البيهقي عن جابر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) الإمام البخاري 7 \146 (ط استانبول) ومسلم برقم 2710 وأبو داود برقم 5046، والترمذي برقم 3394.(74/86)
الفتوى رقم 10852
س: الدعاء بعد الأذان رافع اليدين هل هو ثابت أم لا؟ وإن لم يثبت لو يرفع هل يكون من الإحداث، يرحمني ويرحمكم الله؟
ج: إن الدعاء بعد الأذان وقبل الإقامة قد دلت السنة المطهرة على مشروعيته، كما أن رفع اليدين أثناء الدعاء مشروع، لكن على المسلم أن يدعو بينه وبين نفسه ولا يجهر بصوته.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(74/87)
الفتوى رقم 2801
س: الإمام بعد صلاة الجمعة أفادنا وقال: إذا تم المؤذن الإقامة فلا أحد منكم يدعو بأي شيء من الدعاء، لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد في الكتاب ولا في السنة،(74/87)
إذا ذكر المؤذن الله في الإقامة فاذكروا الله واسكتوا حتى يكبر الإمام واليوم الجماعة مشغولون من كلام الإمام، نرجو منكم الإفادة سريعا حتى نطمئن؟
ج: السنة أن المستمع للإقامة يقول كما يقول المقيم؛ لأنها أذان ثاني فتجاب كما يجاب الأذان، ويقول المستمع عند قول المقيم: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) لا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول عند قوله: (قد قامت الصلاة) مثل قوله، ولا يقول: أقامها الله وأدامها؛ لأن الحديث في ذلك ضعيف، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول (1) » وهذا يعم الأذان والإقامة؛ لأن كلا منهما يسمى أذانا، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد قول المقيم (لا إله إلا الله) ويقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة. . إلخ كما يقول بعد الأذان، ولا نعلم دليلا يصح يدل على استحباب ذكر شيء من الأدعية بين انتهاء الإقامة وقبل تكبيرة الإحرام سوى ما ذكر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (611) ، صحيح مسلم الصلاة (383) ، سنن الترمذي الصلاة (208) ، سنن النسائي الأذان (673) ، سنن أبي داود الصلاة (522) ، سنن ابن ماجه الأذان والسنة فيه (720) ، مسند أحمد (3/90) ، موطأ مالك النداء للصلاة (150) ، سنن الدارمي الصلاة (1201) .(74/88)
من الفتوى رقم 5609
السؤال السادس: ما حكم القائل عند سماع إقامة الصلاة (اللهم أقمها وأدمها ما دامت السماوات والأرض) ؟
ج: المشروع أن يقول السامع مثلما يقول المقيم (قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة) لأن الإقامة أذان ثان، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول (1) » . وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن السامع يقول: أقامها الله وأدامها؛ لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك عند سماع المقيم، ولكن هذا الحديث ضعيف. والصواب أن يقول مثل قول المؤذن (قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة) . وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (611) ، صحيح مسلم الصلاة (383) ، سنن الترمذي الصلاة (208) ، سنن النسائي الأذان (673) ، سنن أبي داود الصلاة (522) ، سنن ابن ماجه الأذان والسنة فيه (720) ، مسند أحمد (3/90) ، موطأ مالك النداء للصلاة (150) ، سنن الدارمي الصلاة (1201) .(74/89)
الفتوى رقم 2396
س: جاءنا مرشدون يذكرون بأن الإنسان إذا رفع يديه(74/89)
يدعو الله لا يمسح بهما وجهه؟ لأن مسح الوجه بهما بعد الدعاء بدعة، ويقولون: إذا قال المؤذن في إقامة الصلاة (قد قامت الصلاة) فقول بعض الجماعة عند ذلك: أقامها الله وأدامها بدعة لا يجوز، فبينوا لنا الحكم في الأمرين؟
ج: أولا: دعاء العبد ربه وسؤاله إياه مشروع ومرغب فيه، ورفع اليدين فيه ضراعة وابتهالا إلى الله ثابت مشروع أيضا، وأما مسح الوجه بالكفين عقب الدعاء فقد ورد فيه حديث ضعيف رواه ابن ماجه من طريق صالح بن حسان النصري عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دعوت فادع الله ببطون كفيك ولا تدع بظهورهما، فإذا فرغت فامسح بهما وجهك (1) » لضعف صالح بن حسان، فقد ضعفه أحمد وابن معين وأبو حاتم والدارقطني، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو نعيم الأصبهاني: منكر الحديث متروك، وقال ابن حبان: كان صاحب قينات وسماع، وكان يروي الموضوعات عن الأثبات، وقال ابن الجوزي في هذا الحديث: لا يصح؛ فيه صالح بن حسان.
وورد فيه حديث آخر رواه الترمذي في سننه قال: حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى وإبراهيم بن يعقوب وغير واحد قالوا: حدثنا
__________
(1) سنن أبي داود الصلاة (1485) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3866) .(74/90)
حماد بن عيسى الجهني عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه (1) » ، قال محمد بن المثنى في حديثه: لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن عيسى، وقد تفرد به وهو قليل الحديث، وحنظلة بن أبي سفيان ثقة، وثقه يحيى بن سعيد القطان. اهـ ولكن فيه حماد بن عيسى وهو ضعيف وقد تفرد به على ما ذكره الترمذي.
ولما كان الدعاء عبادة مشروعة، ولم يثبت في مسح الوجه بالكفين عقبه سنة قولية أو عملية، بل روي ذلك من طرق ضعيفة فالأولى تركه، عملا بالأحاديث الصحيحة التي لم يذكر فيها المسح.
ثانيا: الأصل في العبادات التوقيف وألا يعبد الله إلا بما شرع، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حينما سمع الإقامة: أقامها الله وأدامها، ولكن روى أبو داود في سننه ذلك عنه من طريق ضعيف قال: حدثنا سليمان بن داود العتكي حدثنا محمد بن ثابت حدثني رجل من أهل الشام عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة، أو عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم «أن بلالا أخذ في الإقامة فلما أن قال: (قد قامت الصلاة) قال صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3386) .(74/91)
" أقامها الله وأدامها " (1) » وسبب ضعفه: أن في سنده رجلا مبهما، والرجل المبهم لا يحتج به.
وبذلك يتبين أن قول أقامها الله وأدامها عند قول المقيم (قد قامت الصلاة) غير مشروع؛ لعدم ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم، وإنما الأفضل أن يقول من سمع الإقامة مثل قول المقيم؛ لأنها أذان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبي داود الصلاة (528) .
(2) صحيح البخاري الأذان (611) ، صحيح مسلم الصلاة (383) ، سنن الترمذي الصلاة (208) ، سنن النسائي الأذان (673) ، سنن أبي داود الصلاة (522) ، سنن ابن ماجه الأذان والسنة فيه (720) ، مسند أحمد (3/90) ، موطأ مالك النداء للصلاة (150) ، سنن الدارمي الصلاة (1201) .(74/92)
من الفتوى رقم 10426
السؤال الثاني: ما حكم الدعاء بين إقامة الصلاة وتكبيرة الإحرام؛ لأني سمعت من أحد الأئمة: لا تقل اللهم أحسن وقوفي بين يديك، وإذا كان يجوز الدعاء فما هو الدعاء المستحب في هذه اللحظات بين الإقامة وتكبيرة الإحرام؟
ج: لا نعلم دعاء مشروعا بعد الإقامة وقبل تكبيرة الإحرام(74/92)
لكن المشروع أن يقول مثل ما يقول المؤذن في إقامته، ويصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويسأل له الوسيلة ثم ينتظر حتى يكبر الإمام ثم يكبر بعده.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(74/93)
الفتوى رقم 220
س: ما حكم قول المؤذن في أذانه حي على خير العمل؟
ج: الأذان عبادة من العبادات، والأصل في العبادات التوقيف، وأنه لا يقال: إن هذا العمل مشروع، إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع، والقول بأن هذه العبادة مشروعة بغير دليل شرعي قول على الله بغير علم، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (2)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) سورة الإسراء الآية 36(74/93)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » ، وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » .
إذا علم ذلك فالأذان الشرعي الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خمس عشرة جملة هي: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. هذا هو الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يؤذن به كما ذكر ذلك أهل السنن والمسانيد. إلا في أذان الصبح فإنه ثبت أن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزيد فيه بعد الحيعلة (الصلاة خير من النوم) واتفق الأئمة الأربعة على مشروعية ذلك؛ لأن إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الكلمة من بلال يدل على مشروعية الإتيان بها، وأما قول المؤذن في أذان الصبح، حي على خير العمل فليس بثابت، ولا عمل عليه عند أهل السنة، وهذا من مبتدعات الرافضة، فمن فعله ينكر عليه بقدر ما يكفي للامتناع عن الإتيان بهذه الزيادة في الأذان.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(74/94)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(74/95)
من الفتوى رقم 8941
السؤال الخامس: كيف يضع بعض المسلمين اسم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الأذان والإقامة، وهل فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟
ج: الأذان من العبادات، والعبادات كلها توقيفية، ولم يكن فيه ولا في الإقامة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد خلفائه الراشدين ذكر اسم علي رضي الله عنه، ولم يشرع ذلك، وإنما ابتدعه الرافضة كما هو شأنهم في الابتداع، وأهل السنة لا يرون ذلك، بل ينكرونه على فاعليه، صيانة للتشريع الإسلامي عن البدع، وحفظا له منها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(74/95)
من الفتوى رقم 6756
السؤال الثالث: تقبيل الإبهامين عند قول المؤذن (أشهد أن محمدا رسول الله) هل له أصل؟
ج: لم يثبت في تقبيلهما عند قول المؤذن (أشهد أن محمدا رسول الله) عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم، فتقبيلهما عند ذلك بدعة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(74/96)
من الفتوى رقم 2036
السؤال الرابع: تستخدم في بعض المساجد في الفلبين وغيرهما الطبول لنداء الناس للصلاة، ثم يؤذن بعد ذلك، فهل يجوز ذلك في الإسلام؟(74/96)
ج: الطبول ونحوها من آلات اللهو، فلا يجوز استعمالها في إعلام الناس عند دخول وقت الصلاة، أو قرب دخول وقتها، بل ذلك بدعة محرمة. والواجب أن يكتفى بالأذان الشرعي، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » رواه البخاري ومسلم «وقال العرباض بن سارية رضي الله عنه: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضو عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " (2) » رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(74/97)
من الفتوى رقم 6321
السؤال الرابع: التعوذ والبسملة قبل الأذان؟
ج: لا نعلم أصلا يدل على مشروعية التعوذ والبسملة قبل الأذان، لا بالنسبة للمؤذن ولا من يسمعه. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » وفي رواية: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(74/98)
الفتوى رقم 5008
س: تنتشر لدينا في مدينة جيزان ظاهرة التذكير قبل صلاة الفجر بقول المؤذنين: الصلاة هداكم الله الصلاة. الصلاة يا نائمون الصلاة. الحقوا الغنايم الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله. الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا، وتلاوة بعض الآيات القرآنية وقصار السور، فهل هذا الفعل سنة صح عن الرسول صلى الله عليه(74/98)
وسلم فيهما شيء، أو عن أصحابه رضوان الله عليهم، وما حكم هذه الظاهرة يا سماحة الشيخ؟ أفيدونا أفادكم الله وأبقاكم ذخرا للإسلام والمسلمين.
ج: هذه الأقوال المذكورة ليس لها أصل في مشروعية قولها لا قبل الأذان ولا بعده، ويجب أن يستغنى في الإعلام بدخول وقت الصلاة بما شرع الله من الأذان اتباعا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رض الله عنهم، وأن لا يحدث في الإعلام بدخول الوقت شيء أكثر منه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(74/99)
من الفتوى رقم 1382
السؤال الأول: إن بعض المؤذنين في الفجر حينما ينتهي من الأذان ثم بعدما يدعو الدعاء المأثور يقول في الميكرفون: صلوا هداكم الله، وأن بعض الناس اعترض عليه، وبعضهم يدعو له،(74/99)
ويسأل عن حكم ذلك؟
ج: قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1)
وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (2) » . وقال أيضا: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » وورد عن بعض السلف الصالح قوله: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
وعليه فينبغي للمسلم في أمور العبادة الاقتصار على ما ثبت مشروعيته، وعدم الزيادة على ذلك بحجة الاستحسان، فلو كان خيرا لأخبر عنه صلى الله عليه وسلم، أو عمله وعمله معه وبعده أصحابه. وبهذا يتضح الجواب على السؤال من أنه ينبغي الاقتصار في الأذان على ما ثبت شرعا في صفة الأذان، وأن الزيادة على ذلك من قبيل الابتداع، والله أعلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) الإمام أحمد 4\126 و127
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(74/100)
الفتوى رقم 1814
س: ما حكم قول المؤذن بعد الأذان الشرعي هذه العبارة: (الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله وخاتم رسله) ؟
ج: لا نعلم دليلا من الكتاب ولا من السنة يدل على مشروعية هذا الدعاء بعد الأذان. والخير كله في اتباع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، والشر كله في مخالفة هديه صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » ولكن يشرع بعد الآذان للمؤذن وغيره أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة (2) » رواه مسلم.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح مسلم الصلاة (384) ، سنن الترمذي المناقب (3614) ، سنن النسائي الأذان (678) ، سنن أبي داود الصلاة (523) ، مسند أحمد (2/168) .(74/101)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة (1) » رواه البخاري في صحيحة، وزاد البيهقي في آخره بإسناد صحيح: «إنك لا تخلف الميعاد» . لكن يقولها المؤذن وغيره بصوت هادئ، ولا يرفع صوته بذلك، لعدم نقل الجهر به كما تقدم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (614) ، سنن الترمذي الصلاة (211) ، سنن النسائي الأذان (680) ، سنن أبي داود الصلاة (529) ، سنن ابن ماجه الأذان والسنة فيه (722) ، مسند أحمد (3/354) .(74/102)
الفتوى رقم 5116
س: نعيش في إحدى قرى محافظات الصعيد بجمهورية مصر العربية، ويوجد في النجع الذي نسكنه مسجد، فعند الأذان نؤذن الأذان الشرعي يبدأ بالله أكبر وينتهي بلا إله إلا الله، والناس عندنا لا يرضيهم هذا الأذان فقالوا لنا: لازم من التسليم عقب الأذان. فقلنا لهم: حاضر نصلي على النبي عقب الأذان جهرا فنقول عقب الأذان: (وصل اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه(74/102)
وسلم) فلا يرضيهم هذا أيضا فإنهم يقولون لنا: لازم من الصلاة على النبي عقب الأذان، فقلنا لهم: لا تعجبكم هذه الصيغة التي قلناها، قالوا: لا تعجبنا، والصيغة التي يريدونها هي: (الصلاة والسلام عليك يا رسول الله. الصلاة والسلام عليك يا حبيب الله. الصلاة والسلام عليك يا نور عرش الله. الصلاة والسلام عليك يا هادي بنصر الله. الصلاة والسلام عليك يا ناصر دين الله. الصلاة والسلام عليك يا من بك يرحمنا الله. الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله وخاتم رسل الله. الصلاة والسلام عليك أيها النبي عليك وعلى آلك وأصحابك وكل الصحابة أجمعين. وصلى الله عليك والحمد لله رب العالمين) . والمتعصب لها فرد واحد مجاور في سكنه للمسجد فإنه يقول: إن إمام المسجد الشيخ محمود حمدان محمد بخيت وله نفس العنوان أقر ذلك، وقال: إنها مستحبة وكانت على عصر السلف والصحابة، فقلنا لهم: أنتم مصرون على صيغة التسليم هذه؟ قالوا: نعم؛ لأن إمام المسجد أقرها، فقلنا لهم: هل يرضيكم حكم الشيخ عبد العزيز بن باز بيننا؟ قالوا: نعم، فأرسلنا إلى فضيلتك بهذا ورجائي منك السرعة في الرد على هذا، وإقناع إمام المسجد بذلك، وهل يجوز الصلاة معهم؟
ج: الأذان عبادة من العبادات إلى شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده، والعبادة أيا كانت توقيفية لا يجوز فعلها إلا إذا كانت واردة(74/103)
عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم يرد أن أحدا من مؤذنيه صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالصلاة عليه بعد الأذان ولا عن مؤذن خلفائه الراشدين المهديين رضي الله عنهم، فمن فعل ذلك فقد ابتدع في الدين ما ليس منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » ، وفي لفظ: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(74/104)
من الفتوى رقم 7926
السؤال الأول: هل ثبت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بدء الأذان بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) ؟ (2) ج: لم يثبت ذلك في عهده صلوات الله وسلامه عليه ولا في
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 56
(2) سورة الأحزاب، الأية 56.(74/104)
عهد أحد من خلفائه الراشدين رضي الله عنهم أجمعين. بل هو بدعة محدثة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق على صحته.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(74/105)
من الفتوى رقم 3544
السؤال الثاني: هل صحيح ما يحدث في مساجد مصر الآن بعد الآذان مباشرة من رفع الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟
ج: دلت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يقوله من سمع الأذان بعد انتهاء الأذان، فروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته؛ حلت(74/105)
له شفاعتي يوم القيامة (1) » ، رواه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي؛ فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة (2) » (3)
أما رفع الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الأذان فهو بدعة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) الإمام أحمد 1\ 181 والبخاري 1\ 153 (ط استانبول) وأبو داود 525 والترمذي 211 والنسائي 2\ 22 ط الحلبي.
(2) الإمام أحمد 3\90 ومسلم رقم 384 وأبو داود رقم 519 والترمذي 3694 والنسائي. 2\22
(3) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.(74/106)
من الفتوى رقم 6898
السؤال السابع: ما حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الآذان وبعده جهرا؟
ج: الحكم في ذلك أنه بدعة محدثة لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد خلفائه الراشدين، ولا سائر الصحابة رض الله عنهم، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » .
والمشروع أن يصلي المؤذن بعد الأذان على النبي صلى الله عليه وسلم سرا، ولا يرفع بها صوته مع الأذان؛ لأن ذلك بدعة، والأذان ينتهي بقول المؤذن (لا إله إلا الله) بإجماع أهل العلم. ثم يسأل الله له الوسيلة، وكذا من سمعه يسن له أن يقول مثل قول المؤذن، إلا في الحيعلة فيقول: " لا حول ولا قوة إلا بالله ". ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسأل الله له الوسيلة، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
صفحة فارغة
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(74/107)
صفحة فارغة(74/108)
التوسل المشروع والممنوع
لفضيلة الدكتور \ عواد بن عبد الله المعتق (1)
المقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. .،،، أما بعد: فمن المعلوم أن أي عمل يقوم به الإنسان لا يكون مقبولا عند الله تعالى حتى يتوفر فيه شرطان: أحدهما: أن يكون خالصا لوجه الله.
الثاني: أن يكون موافقا لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ونظرا لأن التوسل البدعي يخل بالشرط الثاني، بل إنه وسيلة قد تفضي إلى الشرك، وقد أشكل فهمه على كثير من الناس، مما أوقع الكثير فيه؛ لذا أحببت أن أكتب لمحة موجزة حول التوسل المشروع والممنوع.
تتلخص فيما يلي: تمهيد: في تعريف التوسل والوسيلة. المبحث الأول: التوسل المشروع: تعريفه:
__________
(1) عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بالرياض.(74/109)
أنواعه:
الأول: التوسل بأسماء الله وصفاته.
الثاني: التوسل بالأعمال الصالحة.
الثالث: التوسل إلى الله بدعاء الصالح الحي.
الرابع: التوسل إلى الله بذكر الحال.
المبحث الثاني: التوسل الممنوع: تعريفه: أنواعه:
الأول: التوسل بوسيلة نص الشارع على بطلانها: مثله- حكمه- دليله.
الثاني: التوسل بوسيلة: دلت قواعد الشرع على بطلانها، ومن أنواعه:
1 - التوسل إلى الله بذات مخلوق، مثاله.
2 - التوسل إلى الله بجاه مخلوق أو حقه ونحوهما، مثاله.
3 - التوجه إلى ميت طالبا منه أن يدعو الله له، مثاله.
4 - أن يسأل العبد ربه حاجته مقسما بنبيه أو وليه أو بحق نبيه أو وليه ونحوهما، مثاله
حكم هذا النوع من التوسل:
الأدلة على منعه: عرض ما تيسر من شبهات من قال به مع المناقشة.(74/110)
أولا: شبهاتهم فيما استدلوا به من القرآن.
ثانيا: شبهاتهم فيما استدلوا به من السنة ومن أقوال وأفعال الصحابة والتابعين.
ثالثا: شبهاتهم من العقل.
وأخيرا أسأله تعالى أن يتقبل صوابه، وأن يتجاوز عن خطئه إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(74/111)
تمهيد: في تعريف التوسل والوسيلة.
أما التوسل فهو في الأصل: التقرب. يقال توسل إليه بوسيلة إذا تقرب إليه بعمل.
كما يأتي ويراد به: السرقة. يقال: أخذ فلان إبلي توسلا: أي سرقة.
وفي الشرع: هو التقرب إلى الله تعالى بقربة مشروعة.
وأما الوسيلة: فهي في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، كما تأتي ويراد بها: المنزلة عند الملك، والدرجة.
وفي الشرع: ما يتقرب به إلى الله رجاء حصول مرغوب أو دفع مرهوب من فعل الواجبات والمستحبات أو ترك المنهيات وتكون مشروعة، كما تكون ممنوعة.
إن كانت وردت في الكتاب أو صحيح السنة فهي مشروعة.
وإلا فهي ممنوعة.
وعليه فالتوسل قسمان:
توسل مشروع:
وتوسل ممنوع:(74/112)
المبحث الأول: التوسل المشروع
المراد به: هو تقرب العبد إلى الله بوسيلة وردت في الكتاب أو صحيح السنة، ومن أنواعه ما يلي:
النوع الأول: التوسل بأسماء الله وصفاته.
بيانه: هو التوسل إلى الله بالاسم المقتضي لمطلوبه أو بالصفة المقتضية له (1) .
مثاله: كأن يقول في دعائه: اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تعطيني كذا أو تدفع عني كذا، أو يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير أن تعافيني، أو يقول: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي (2) ونحو ذلك.
أدلة مشروعيته:
لقد دل على مشروعية التوسل بأسماء الله وصفاته أدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
فمن الكتاب قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) .
__________
(1) الجواب المختار ص 50.
(2) انظر: التوسل للألباني ص 32. وقاعدة جليلة ص 52، 53.
(3) سورة الأعراف الآية 180(74/113)
وجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى: أمرنا أن ندعوه متوسلين بأسمائه الحسنى، وأسماؤه - سبحانه - متضمنة لصفاته، فتكون داخلة في هذا الطلب (1) . وبذلك يتضح دلالة الآية على مشروعية التوسل بأسمائه وصفاته.
ومن السنة:
1 - قوله صلى الله عليه وسلم في أحد الأدعية الثابتة عنه قبل السلام من صلاته صلى الله عليه وسلم «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خير لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خير لي (2) » . . . الحديث " (3) .
2 - ومنها: ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر يقول: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث (5) » .
3 - ومنها ما رواه ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) انظر: التوسل للألباني ص 32.
(2) سنن النسائي السهو (1306) ، مسند أحمد (4/264) .
(3) أخرجه النسائي في السهو، باب نوع آخر من الدعاء وإسناده جيد. انظر: جامع الأصول حديث 2184.
(4) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب 99 انظر: جامع الأصول حديث 2297.
(5) أي إذا أهمه. (4)(74/114)
وسلم قال: «من كثر همه فليقل: اللهم إني عبدك، وابن عبدك وابن أمتك، وفي قبضتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك عدل في قضائك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في مكنون الغيب عندك: أن تجعل القرآن ربيع قلبي، وجلاء همي وغمي ما قالها عبد قط إلا أذهب الله غمه، وأبدله به فرحا (1) » .
4 - ومنها: ما رواه أنس بن مالك أنه «كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، ورجل يصلي ثم دعا الرجل فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أتدرون بم دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: والذي نفسي بيده، لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى (2) » . (3)
__________
(1) رواه أحمد في المسند برقم 2 / 371، 4318 وصححه ابن حبان برقم 2372، عن عبد الله بن مسعود، وانظر جامع الأصول حديث 2300 (المتن والحاشية) .
(2) رواه أبو داود في الصلاة، باب الدعاء، والترمذي في الدعوات باب، رقم 109 والنسائي في السهو، باب الدعاء بعد الذكر، وإسناده صحيح، انظر جامع الأصول حديث 2143.
(3) انظر: التوسل للألباني ص 32 - 35، وكشف ما ألقاه إبليس ص 92.(74/115)
هذه نبذة يسيرة من أحاديث كثيرة كلها تدل على مشروعية التوسل إلى الله باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته؛ ذلك أنها من قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو إقراره، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) ويقول سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (2) وبذلك دلت على مشروعية التوسل بالأسماء الحسنى والصفات العلى.
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سورة المائدة الآية 92(74/116)
النوع الثاني: التوسل بالأعمال الصالحة.
وهو التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به وطاعته، ويدخل في ذلك كل عمل قام به العبد بقلبه أو لسانه أو جوارحه خوفا من الله أو رجاء له وحده - لا لدافع آخر.
كيفيته: هو أن يتذكر الداعي عملا صالحا قام به لله وحده لا لدافع آخر بعد أن يتذكر العمل يتوجه إلى ربه متوسلا بهذا العمل في أن يعطيه أو يدفع عنه.
مثاله: كأن يقول المسلم: اللهم بإيماني بك واتباعي لرسولك اغفر لي، أو يقول: اللهم إنك تعلم بأني عملت كذا - ويسمي عملا قام به لله وحده - اللهم إن كنت عملته رجاء لثوابك وخوفا من عقابك فأعطني كذا أو ادفع عني كذا، ونحو ذلك.(74/116)
أدلة مشروعيته:
لقد دل على مشروعية التوسل بالعمل الصالح أدلة كثيرة من الكتاب والسنة منها ما يلي:
أولا: الأدلة من الكتاب: منها:
1 - قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (1) .
2 - وقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} (2) 3 - وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (3) .
وجه الدلالة: في الآيات الثلاث توسل بالإيمان، وهو عمل صالح من أعمال القلب، وذلك دليل على مشروعية التوسل بالعمل الصالح.
4 - وقوله تعالى: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 16
(2) سورة آل عمران الآية 193
(3) سورة المؤمنون الآية 109
(4) سورة آل عمران الآية 53(74/117)
وجه الدلالة: في الآية توسل بالإيمان واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وهي من أعمال القلب والجوارح الصالحة، وبذلك دلت الآية على مشروعية التوسل بالعمل الصالح.
5 - وقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1) {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) .
وجه الدلالة: في الآيتين توسل برفع القواعد من البيت الحرام، وهو عمل صالح ذلك أنه استجابة لأمر الله لهما بذلك.
6 - وقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (3) .
وجه الدلالة: في الآية توسل بالسمع وامتثال أمره سبحانه والقيام بما تقتضيه هذه الطاعة من فعل الأوامر وترك النواهي استجابة لأمره سبحانه وهي من الأعمال الصالحة.
فهذه الآيات وغيرها الكثير كلها أدلة على مشروعية هذا النوع من التوسل.
__________
(1) سورة البقرة الآية 127
(2) سورة البقرة الآية 128
(3) سورة البقرة الآية 285(74/118)
ثانيا: الأدلة من السنة وهي كثيرة جدا، منها ما يلي:
1 - روى بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: «اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فقال: والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى (1) » ، هذه رواية الترمذي، وفي رواية أبي داود «باسمه الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب (2) » .
وجه الدلالة: في الحديث - كما نرى - توسل بالإقرار والتصديق بشهادة التوحيد، ووصفه سبحانه بأخص الصفات وهي من أعمال القلب واللسان الصالحة.
2 - قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه، فإذا أراد أن يضطجع، فليضطجع على شقه الأيمن، وليقل: سبحانك ربي باسمك ربي وضعت جني وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها،
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3475) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3857) .
(2) رواه الترمذي برقم 3471، وأبو داود برقم 1493، انظر جامع الأصول حديث 2141.(74/119)
وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين (1) » .
وجه الدلالة: في الحديث وصية من المصطفى صلى الله عليه وسلم للمضطجع أن يقدم بين يدي دعائه توسلا إليه سبحانه بتسبيحه وتنزيهه، واعتقاد صادق بأنه لا يضع جنبه أو يرفعه إلا بعون من الله تعالى، ولا شك أن هذا المتوسل به من أعمال اللسان والقلب الصالحة.
3 - ما رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي «أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم (2) » .
وجه الدلالة: في الحديث توسل بأمرين.
الأول: بالاعتراف بالذنب وهو يتضمن: الندم على فعل الذنب، والتوبة والإقلاع عن فعله.
__________
(1) رواه البخاري في التوحيد، باب السؤال بأسماء الله، ومسلم في الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وانظر جامع الأصول حديث 2256.
(2) رواه البخاري في صفة الصلاة، باب الدعاء قبل السلام. ومسلم برقم 2705 في الذكر والدعاء، باب استحباب خفض الصوت بالذكر. والترمذي برقم 3521، والنسائي في السهو، باب نوع آخر من الدعاء، وانظر: جامع الأصول حديث 2186.(74/120)
الثاني: بالإيمان بأنه لا يغفر الذنوب إلا الله، وهذان من أعمال القلب واللسان والجوارح الصالحة.
4 - قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «انطلق ثلاثة نفر ممن قبلكم حتى أواهم المبيت إلى غار، فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار. فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي طلب شجر يوما فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر - زاد بعض الرواة: والصبية يتضاغون عند قدمي - فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج. قال: النبي صلى الله عليه وسلم. قال الآخر: اللهم كانت لي ابنة عم، كانت أحب الناس إلي فأردتها على نفسها، وامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار، على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى(74/121)
إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء، وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد، ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله، أد إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر، والغنم، والرقيق، فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه، فلم يترك منه شيئا. اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون (1) » وجه الدلالة: الحديث يدل على مشروعية التوسل إلى الله بصالح الأعمال من وجهين:
الأول: أن هؤلاء الثلاثة عند ما توسلوا إلى الله بصالح
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم في الذكر، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة، وأبو داود في البيوع، باب الرجل يتجر في مال الرجل بغير إذنه، وانظر: جامع الأصول حديث 7822.(74/122)
أعمالهم استجاب الله لهم، ولو كان التوسل إلى الله بصالح العمل غير مشروع لم يستجب لهم.
الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقره وذكره في معرض الثناء عليهم، ولو كان غير مشروع لم يقره صلى الله عليه وسلم. يقول الإمام النووي - في معرض شرحه لهذا الحديث -: (استدل أصحابنا بهذا على أنه يستحب للإنسان أن يدعو في حال كربه وفي دعاء الاستسقاء وغيره بصالح عمله، ويتوسل إلى الله تعالى به؛ لأن هؤلاء فعلوه فاستجيب لهم، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الثناء عليهم وجميل فضائلهم) (1) .
ثالثا: الأدلة من عمل الصحابة:
من المعلوم أن الصحابة الذين هم خيرة هذه الأمة بعد نبيها إنما نالوا هذا الخير لالتزامهم بأمر الله أمرا ونهيا، فكل عمل يعملونه إنما هو تطبيق لما شرعه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. لذا كان إيراد أمثلة من توسلاتهم بالعمل الصالح أدلة تؤكد مشروعية هذا النوع من التوسل.
وتجنبا للإطالة سنكتفي بمثالين من أعمالهم رضي الله عنهم.
المثال الأول: ما رواه الطبري عن ابن وكيع قال: حدثنا
__________
(1) شرح صحيح مسلم للإمام النووي ج 17 ص 56.(74/123)
أبي عن حريث بن أبي مطر عن إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: (سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد، وهو يقول: ربي أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي، فنظرت، فإذا ابن مسعود) .
يشير - رضي الله عنه - في قوله: (وهذا سحر. . . .) إلى الحديث الشريف: وهو «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له (1) » .
وجه الدلالة: في هذا الأثر - كما نرى - توسل ابن مسعود بالقيام بالسحر - وهو من أجل الأعمال الصالحة - في أن يغفر له، مما يؤكد مشروعية التوسل بالعمل الصالح.
المثال الثاني: ما روي عن عراك بن مالك رضي الله عنه أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين) رواه ابن أبي حاتم (2) .
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1145) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (758) ، سنن الترمذي الدعوات (3498) ، سنن أبي داود السنة (4733) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) ، مسند أحمد (2/521) ، موطأ مالك النداء للصلاة (496) ، سنن الدارمي الصلاة (1479) .
(2) انظر: تفسير ابن كثير ج 4 ص 367.(74/124)
وجه الدلالة: هذا الأثر يفيد أن عراك بن مالك توسل إلى الله تعالى بإجابة دعوة الله إلى الصلاة، وهي الأذان وبصلاة فريضة الجمعة، وبانتشاره من بعد الصلاة كما أمره الله وسائر المسلمين في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} (1) وهذه كلها أعمال صالحة توسل إلى الله تعالى بها في أن يرزقه من فضله، مما يؤكد مشروعية التوسل بالعمل الصالح.
__________
(1) سورة الجمعة الآية 10(74/125)
النوع الثالث: التوسل إلى الله بدعاء الصالح الحي:
وهو توسل المسلم الذي وقع في ضيق أو حلت به مصيبة بدعاء إنسان يظهر عليه الصلاح والتقوى، ويتم بطلب من المتوسل، كما يتم من غير طلب.
مثال الأول: كأن يذهب المسلم الذي حلت به مصيبة وعلم من نفسه التفريط في جنب الله إلى رجل يعتقد فيه الصلاح، ويطلب منه أن يدعو الله له أن يرفع عنه ما حل به.
ومثال الثاني: كأن يرى العبد الصالح أخا له في ضيق وشدة فيدعو الله له أن يفرج عنه.
ويكون في حضور المدعو له، كما يكون في غيبته، ولا فرق أن يدعو الأعلى للأدنى، أو الأدنى للأعلى، فكل ذلك جائز ومقبول - إذا شاء الله سبحانه وتعالى.(74/125)
مثال الأعلى للأدنى: توسل الصحابة بدعاء نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ومثال الأدنى للأعلى: طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم عمرته أن يدعو الله له (1) .
الأدلة: لقد دل على مشروعية هذا النوع من التوسل أدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
أولا: الأدلة من الكتاب وكثيرة. منها ما يلي:
1 - قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (2) .
وجه الدلالة: في الآية إرشاد لمن ظلم نفسه بارتكاب خطيئة إلى سببين ينقذان منها:
الأول: الاستغفار بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عمل صالح يقدمه الإنسان وسيلة للاستجابة.
الثاني: استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم له، وهذا هو محل الشاهد إذا هو توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم. وعليه فكل
__________
(1) انظر: قاعدة جليلة ص 14، 43، 44 والفتاوى ج 1 ص 131، 132، ج 27 ص 69 والتوسل للألباني ص 41.
(2) سورة النساء الآية 64(74/126)
إنسان يصح له أن يتوسل بدعاء أخيه كأن يقول: استغفر لي، أو يدعو لأخيه كأن يقول: اللهم اغفر لفلان.
ومما يجب التنبيه عليه أن المجيء في الآية المراد به: مواجهته صلى الله عليه وسلم وهو حي لا المجيء إلى قبره؛ لأن استغفاره صلى الله عليه وسلم قد انقطع بوفاته، وعليه فلا يجوز المجيء إلى قبره أو قبر أحد من الصالحين لأجل سؤالهم أن يستغفروا الله لنا من ذنوب اقترفناها (1) .
2 - قوله تعالى: {قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (2) .
وجه الدلالة: في الآية الأولى إخبار من الله تعالى بأن إخوة يوسف عليه السلام طلبوا من أبيهم أن يستغفر الله لهم عما بدر منهم من أخطاء نحو أخيهم يوسف وأبيهم. وهو توسل بدعائه عليه السلام.
ثم في الآية الثانية: استجابة من يعقوب عليه السلام لطلبهم حيث وعدهم بالاستغفار.
__________
(1) انظر: تفسير ابن سعدي ج 2 ص 44 وقاعدة جليلة ص 137، والتوصل ص 143، 144.
(2) سورة يوسف الآية 97(74/127)
مما يدل على مشروعية التوسل بدعاء الصالح الحي؛ ذلك أن العقيدة واحدة لا تتغير من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم (1) .
3 - قوله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (2) .
وجه الدلالة: يخبر الله سبحانه وتعالى نبيه بأن المخلفين من الأعراب سيعتذرون بأموالهم وأهليهم، ويطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستغفار لهم وهو توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم، وهذا الطلب - وإن كان مصانعة وتقية - فإنه يدل على مشروعية التوسل بدعاء الصالح الحي من وجهين:
الأول: أنهم طلبوه ولولا علمهم بمشروعيته لما طلبوه.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك، ولو كان غير مشروع لاعترض على طلبهم (3) وبذلك دلت الآية على مشروعية هذا النوع من التوسل والله أعلم.
__________
(1) انظر تفسير النسفي ج 2 ص 129، وروح المعاني ج 13 ص 55، 56 وتفسير ابن سعدي ج 4 ص 99.
(2) سورة الفتح الآية 11
(3) انظر: تفسير ابن سعدي ج 7 ص 177 والتوصل ص 147. .(74/128)
ثانيا: الأدلة من السنة- وهي كثيرة- منها ما يلي:
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو باب دار القضاء- ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب- فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
قال: أنس ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت فلا والله ما رأينا الشمس ستا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة- ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب- فاستقبله قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر، قال: فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس (1) » (2)
وجه الدلالة: يفيد الحديث أن المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابهم جدب فتقدم أحدهم إلى رسول الله
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1013) ، صحيح مسلم صلاة الاستسقاء (897) ، سنن النسائي الاستسقاء (1528) ، سنن أبي داود الصلاة (1174) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1180) ، مسند أحمد (3/271) .
(2) رواه البخاري برقم 1013، 1014 في كتاب الاستسقاء، باب 6، 7.(74/129)
صلى الله عليه وسلم طالبا منه أن يدعو الله أن يغيثهم، فدعا الله فأغيثوا، ثم تقدم إليه هو أو غيره طالبا أن يدعو الله أن يمسكه عنهم فدعا الله فانجاب السحاب عن المدينة. كل هذا يدل على مشروعية التوسل بدعاء الصالح (1) الحي لا بذاته أو جاهه، إذ لو كان ذلك مشروعا لأرشدهم صلى الله عليه وسلم إليه عندما شكوا الجدب ولما احتاج منهم المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، إذ التوسل بالجاه أو الذات لا يحتاج إلى ذلك.
2 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن لي وقال: "لا تنسنا يا أخي من دعائك (2) » .
وفي رواية قال: «أشركنا يا أخي في دعائك، قال عمر: فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا (3) » .
وجه الدلالة: في الحديث دلالة على أمرين:
الأول: على مشروعية التوسل بدعاء الصالح الحي حيث أكد صلى الله عليه وسلم على عمر أن يدعو له في قوله: «لا تنسنا يا
__________
(1) انظر: فتح الباري ج 2 ص 506.
(2) سنن الترمذي الدعوات (3562) ، سنن أبي داود الصلاة (1498) ، سنن ابن ماجه المناسك (2894) ، مسند أحمد (1/29) .
(3) رواه أبو داود برقم 1498 في الصلاة، باب الدعاء، والترمذي برقم 3557 في الدعوات، باب 121 وقال الترمذي: حديث حسن صحيح انظر: جامع الأصول حد ما 6444.(74/130)
أخي من دعائك (1) » ذلك أن أقواله صلى الله عليه وسلم من السنة التي هي المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله.
الثاني: أن التوسل بدعاء الصالح كما يكون بدعاء الأعلى يكون بدعاء الأدنى حيث طلب صلى الله عليه وسلم وهو الأعلى من عمر أن يدعو له (2) وفيه دلالة أيضا على مبلغ حرصه صلى الله عليه وسلم على الخير وعلى تعليم أمته إياه.
3 - عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه: «أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت لك وإن شئت أخرت ذاك فهو خير. (وفي رواية: وإن شئت صبرت، فهو خير لك) ، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في) قال: ففعل الرجل فبرأ (3) »
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3562) ، سنن أبي داود الصلاة (1498) ، سنن ابن ماجه المناسك (2894) ، مسند أحمد (1/29) .
(2) انظر الفتاوى ج 27 ص 69.
(3) أخرجه أحمد في المسند برقم 17240، ورقم 17241، انظر المسند ج 28 ص 478، 479 والترمذي برقم 3573 في الدعوات، باب من أدعية الإجابة وإسناده صحيح، وقد صححه غير واحد من العلماء- انظر: جامع الأصول حديث 2375 (المتن والحاشية) .(74/131)
وجه الدلالة: الحديث يدل على مشروعية التوسل بدعاء الصالح الحي من وجوه:
أحدها: أن الأعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم شاكيا ما هو فيه من ضر، وسأله أن يدعو له ولولا علمه مشروعيته لما أتى وسأل.
الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم خيره بين الصبر وبين الدعاء ثم أقره حيث أصر على الدعاء، ولو لم يكن مشروعا لما خيره ثم أقره.
الثالث: دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له، ويفهم من أمور منها:
1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «إن شئت دعوت لك وأن شئت صبرت (1) » ، ثم قول الأعمى- فادعه.
2 - تعليمه دعاء يدعو به يكون بجانب دعاءه صلى الله عليه وسلم وما تضمنه من قوله. . . «اللهم فشفعه في (2) » وهذا لا يكون إلا إذا كان صلى الله عليه وسلم داعيا له.
من كل ما ذكرنا يتضح أن الحديث يدل دلالة صريحة على مشروعية التوسل بدعاء الصالح الحي، أما ما ورد في الحديث من قوله (بنبيك) فالمراد منه بدعاء نبيك بدليل قوله:
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3578) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3578) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .(74/132)
إن شئت دعوت لك، وقوله «اللهم فشفعه في (1) »
ثالثا: الأدلة من أفعال الصحابة "رضي الله عنهم" وهي كثيرة منها ما يلي:
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون (2) » وقد روي عن ابن عمر أن هذا الاستسقاء كان عام الرمادة (3) .
وجه الدلالة: يفيد الأثر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام الرمادة استسقى بالعباس بن عبد المطلب- أي بدعائه- مثل ما كانوا يعملون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلبوا منه أن يدعوا الله أن يغيثهم، ويؤكد ذلك الواقع فقد أخذ يدعو (4) وهم يؤمنون- ولو كان المراد بجاهه لاختار جاه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أعظم، لكن نظرا لأنه بالدعاء والدعاء لا يمكن من الرسول صلى الله عليه وسلم لوفاته فاختار لذلك التوسل بدعاء
__________
(1) انظر: قاعدة جليلة ص 99، والتوسل للألباني ص 76- 79.
(2) رواه البخاري برقم 1010 في كتاب الاستسقاء باب 3.
(3) انظر: فتح الباري ج 2 ص 497.
(4) انظر: فتح الباري ج 2 ص 497.(74/133)
العباس وقد أقره الصحابة على ذلك فكان إجماعا، والإجماع حجة قاطعة عند الجمهور (1) ، فتأكد بذلك مشروعية التوسل بدعاء الصالح الحي لا بجاهه أو ذاته.
2 - روى أبو زرعة الدمشقي، ويعقوب بن سفيان في تاريخيهما، وابن الجوزي في صفة الصفوة عن سليم بن عامر الخبائري (أن الشام قحطت فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون فلما قعد معاوية على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فناداه الناس فأقبل يتخطى، فأمره معاوية فصعد المنبر فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه ورفع الناس، فما كان أوشك أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس وهبت لها ريح فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم
وجه الدلالة: ما ورد في الأثر من قوله: (اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا) إلى قوله: (يا يزيد ارفع يديك إلى الله) يدل على
__________
(1) انظر: قاعدة جليلة ص 154- 131، وروضة الناظر ص 67.(74/134)
أن معاوية رضي الله عنه توسل بدعاء صالح حي، ولولا علمه بمشروعيته لما عمله ولو علم أن التوسل بما سوى الدعاء من جاه أو ذات جائز لما عدل عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما سواه، فهو من الصحابة الذين هم أعلم هذه الأمة بشرع الله وأحرصهم على الالتزام به.
النوع الرابع: التوسل إلى الله بذكر الحال.
وهو أن يتوسل إلى الله بذكر حال الداعي المبينة لاضطراره وحاجته.
مثاله: توسل موسى عليه السلام بذكر حاله بعد أن سقى للمرأتين من ماء مدين.
الدليل. على مشروعيته: قوله تعالى عن موسى عليه السلام: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (1) .
وجه الدلالة: أن في الآية بيان أن موسى عليه السلام بعد أن سقى للمرأتين تولى إلى الظل ثم توجه إلى ربه مبينا افتقاره للخير الذي يسوقه إليه.
وهذا سؤال منه بحاله (2) وقد استجاب الله دعائه قال تعالى:
__________
(1) سورة القصص الآية 24
(2) انظر: تفسير ابن سعدي ج 6 ص 11.(74/135)
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} (1) وذلك دليل على مشروعية التوسل بذكر الحال.
__________
(1) سورة القصص الآية 25(74/136)
المبحث الثاني: التوسل الممنوع:
تعريفه: هو تقرب العبد إلى الله. بما لم يثبت في الكتاب ولا في صحيح السنة أنه وسيلة.
أنواعه: التوسل الممنوع نوعان.
النوع الأول: التوسل بوسيلة نص الشارع على بطلانها:
مثاله: توسل المشركين بآلهتهم.
حكمه: شرك أكبر.
وبطلانه ظاهر: قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (1) (2)
__________
(1) سورة الزمر الآية 3
(2) انظر: قاعدة جليلة من 11، 12، 16 وأضواء البيان ج 7 ص 43 والجواب المختار ص 51.(74/136)
النوع الثاني: التوسل بوسيلة دلت قواعد الشرع على بطلانها: ومن ذلك ما يلي:(74/136)
1 - التوسل إلى الله بذات مخلوق. مثاله: أن يقول المتوسل:
اللهم إني أسألك بنبيك- ولا يعني إلا ذاته- أن تعطيني كذا أو تدفع عني كذا.
2 - التوسل إلى الله بجاه مخلوق أو حقه ونحوهما.
مثاله: أن يقول المتوسل: اللهم إني أسألك بجاه نبيك أو بحق نبيك أن تعطيني كذا أو تدفع عني كذا.
3 - التوجه إلى ميت طالبا منه أن يدعو الله له كمن يأتي إلى الميت من الأنبياء أو الصالحين ويقول له سل الله لي أو ادع الله لي أن يعطيني كذا أو يدفع عني كذا.
4 - أن يسأل العبد ربه حاجته مقسما بنبيه أو وليه أو بحق نبيه أو وليه ونحو ذلك.
مثاله: أن يقول: اللهم إني أسألك كذا بوليك فلان أو بحق نبيك فلان ويريد الإقسام أو يقول: اللهم إني أقسمت عليك بفلان أن تقضي حاجتي
حكم هذا النوع من التوسل: محرم: لأنه لم يرد فيه دليل تقوم به الحجة، ولأنه ذريعة إلى الشرك.(74/137)
وقد يصل إلى الشرك الأكبر إن اعتقد في المتوسل به شيئا من النفع أو الضر دون الله
وقد أجاز بعض المتأخرين هذا النوع من التوسل متمسكين ببعض الشبهات.
وإليك بعض الأدلة على منعه ثم عرض ما تيسر من شبهات من قال به مع المناقشة:(74/138)
أولا: الأدلة على منعه: وهي كثيرة منها ما يلي:
الدليل الأول: هذا النوع من التوسل لم يرد له دليل في الكتاب ولا في صحيح السنة ونحن مأمورون بالالتزام بهما وعليه فهو غير مشروع وإنما هو بدعة ممنوعة وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) »
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع باب النجش، ومسلم في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، وأبو داود في السنة باب لزوم السنة وانظر: جامع الأصول حديث 75 (المتن والحاشية) .(74/138)
وقال صلى الله عليه وسلم: «وإياكم ومحدثات الأمور (1) » . . . . الحديث)
وإن زعم المخالف أنه موجود فيهما أو في أحدهما، قلنا زعم باطل، إذ لا دليل عليه ومما يؤكد بطلانه أنه لم يعمل به الصحابة ومن أتى بعدهم من أهل القرون المفضلة الذين هم أعلم هذه الأمة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأشدهم حرصا على الالتزام بهما.
فلو كان موجودا لعملوا به أيضل عنه الصحابة ويهتدي إليه هؤلاء المتأخرون؟
الثاني: أن هذا النوع من التوسل ذريعة إلى الشرك (2) :
وبما أن الوسائل تابعة للمقاصد في الحكم فهو ممنوع سدا للذريعة وإبعادا للمسلم من قول أو فعل يفضي إلى الشرك، يقول
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن أبي داود السنة (4607) ، مسند أحمد (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) انظر: قاعدة جليلة ص 33 والقول الجلي ص 29 وفتاوى اللجنة الدائمة ج1 ص 347.(74/139)
ابن القيم: (لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها) إلي أن قال: (فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقا لتحريمه ومنعا أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليها لكان ذلك نقضا للتحريم) (1) ولذا جاءت أدلة كثيرة في الكتاب والسنة تدل دلالة قاطعة على أن سد الذرائع إلى الشرك والمحرمات من مقاصد الشريعة ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (2) فنهى سبحانه وتعالى المسلمين عن سب آلهة المشركين التي يعبدونها من دون الله مع أنها باطلة لئلا يكون ذلك ذريعة إلى سب المشركين الإله الحق سبحانه انتصارا لآلهتهم الباطلة جهلا منهم وعدوا.
ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها
__________
(1) إعلام الموقعين ج 3 ص 135.
(2) سورة الأنعام الآية 108(74/140)
الثالث: أن في هذا النوع من التوسل محذورا من وجهين:
الأول: فيه شبه بتوسل المشركين بآلهتهم وقد ذمه الله حيث قال سبحانه: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (1)
ففي الآية عاب سبحانه أمرين:
1 - عاب عبادة الأولياء من دونه.
2 - عاب محاولة القربى إليه بالمخلوق، والتوسل بالذات أو بدعاء الميت من الأمر الثاني، قال شيخ الإسلام- عندما سئل عن رجلين تناظرا- فقال أحدهما لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله، فإنا لا نقدر أن نصل إليه بغير ذلك، فقال: (الحمد لله رب العالمين إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة يبلغنا أمر الله فهذا حق، وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويجتنبون المضار) (2) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 3
(2) الفتاوى، ج 1، 121- 123.(74/141)
الثاني: فيه انتقاص لله سبحانه وتعالى وتنزيل له إلى منزلة المخلوق الذي يحابي في فضله وحكمه فيعطي من له وسيط أكثر مما يعطي غيره أو يحرم من ليس له وسيط لجهله بحاله وبعده عن سماع مقاله (1) والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (2)
الرابع: أن في هذا النوع من التوسل دعاء ميت- وذلك عند التوسل بدعاء الميت- وقد ورد النهي عنه والوعيد عليه إذ هو شرك أو ذريعة إلى الشرك (3) كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (4) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (5) فبين سبحانه أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة - أي: ينكره-.
ويعادي من فعله كما قال تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (6) فكل ميت أو غائب لا
__________
(1) الأجوبة المفيدة ص 145.
(2) سورة البقرة الآية 186
(3) قاعدة جليلة ص 33، 34.
(4) سورة فاطر الآية 13
(5) سورة فاطر الآية 14
(6) سورة الأحقاف الآية 6(74/142)
يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر.
ولهذا لم ينقل عن أحد من الصحابة- رضي الله عنهم- ولا عن غيرهم من السلف أنهم أنزلوا حاجاتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، بل العكس نراهم عام الرمادة توسلوا بدعاء العباس رضي الله عنه؛ لأنه حي حاضر يدعو ربه، فلو جاز التوسل بأحد بعد وفاته لتوسل عمر والسابقون الأولون بالنبي صلى الله عليه وسلم (1)
قال شيخ الإسلام- بعد أن ذكر بعض الأدلة في النهي عن دعاء غير الله-: (ومثل هذا كثير في القرآن ينهى أن يدعى غير الله لا من الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، فإن هذا شرك أو ذريعة إلى الشرك بخلاف ما يطلب من أحدهم في حياته من الدعاء والشفاعة فإنه لا يفضي إلى ذلك، فإن أحدا من الأنبياء والصالحين لم يعبد في حياته بحضرته، فإنه ينهى من يفعل ذلك بخلاف دعائهم بعد موتهم فإن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم) (2)
وقال أيضا: "فإن دعاء الملائكة، والأنبياء بعد موتهم وسؤالهم والاستشفاع بهم في هذه الحال هو من الدين الذي لم يشرعه الله ولا ابتعث به رسولا ولا أنزل به كتابا ولا فعله
__________
(1) انظر: تسير العزيز الحميد، ص 661، 662. وقاعدة جليلة، ص 19، 33، 44.
(2) قاعدة جليلة، ص 33. وانظر مجموع الفتاوى ج 1، ص 330.(74/143)
أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين" (1)
الخامس: أن من هذا النوع من التوسل، التوسل بالجاه أو الحق ونحوهما وهو باطل من ثلاثة وجوه:
الأول: أنه توسل بعمل الغير، ذلك أن المنزلة والجاه إنما اكتسبها الإنسان بعمله، وعمل الغير مختص به فلو توسل به غيره كان قد سأل بأمر أجنبي عنه ليس سببا لنفعه، قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (2) .
وقال شيخ الإسلام: (قول السائل لله تعالى: (أسألك بحق فلان وفلان من الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم أو بجاه فلان) يقتضي أن هؤلاء لهم عند الله جاه وهذا صحيح، ولكن ليس نفس مجرد قدرهم وجاههم مما يقتضي إجابة دعائه إذا سأل الله بهم حتى يسأل الله بذلك، بل يكون قد سأل بأمر أجنبي عنه ليس سببا لنفعه) (3)
الثاني: أن في التوسل بمنزلة أو حق الغير اعتداء في الدعاء، والاعتداء في الدعاء محرم قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (4)
__________
(1) قاعدة جليلة ص 19.
(2) سورة النجم الآية 39
(3) الفتاوى، ج 1، ص 211، 212.
(4) سورة الأعراف الآية 55(74/144)
وقال شارح الطحاوية: (فلا مناسبة بين ذلك (1) وبين إجابة دعاء هذا السائل فكأنه يقول: لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعائي، وأي مناسبة وأي ملازمة، وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء، وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (2) وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة، لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أحد من الأئمة، والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على السنة والاتباع لا على الهوى والابتداع) (3) .
الثالث: أن السؤال بحق فلان يتضمن أن للمخلوق حقا على الخالق وليس على الله حق (4) إلا ما أحقه على نفسه بوعده الصادق، يقول القدوري: (المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على
__________
(1) وهو قوله (بحق فلان) .
(2) سورة الأعراف الآية 55
(3) شرح الطحاوية، ص 262.
(4) القول الجلي، ص 29.(74/145)
الخالق فلا تجوز وفاقا) (1) .
السادس: أن من هذا النوع من التوسل سؤال العبد ربه حاجته مقسما بمخلوق.
وهذا فيه محذور من وجهين:
الأول: أن فيه إقساما بغير الله والإقسام بغير الله على المخلوق لا يجوز قال صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (2) » بل عده الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرك، قال صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (3) » فكيف بالإقسام بالمخلوق على الخالق، إنه ليس شركا فقط بل هو تقرب إلى الله بالشرك، والتقرب إلى الله إنما يكون بما يرضيه لا فيما يسخطه. (4) .
قال شارح الطحاوية: (وإن كان مراده الإقسام على الله بحق فلان فذلك محذور أيضا؛ لأن الإقسام بالمخلوق على المخلوق لا يجوز
__________
(1) قاعدة جليلة ص 50.
(2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، انظر: جامع الأصول حديث 9281.
(3) أخرجه الترمذي عن سعد بن عبيدة برقم 1535 في الأيمان والنذور، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله وقال: هذا حديث حسن، انظر: جامع الأصول حديث 9278.
(4) انظر قاعدة جليلة ص 21، 106 والتوصل ص 191.(74/146)
فكيف على الخالق؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد أشرك (1) » . (2)
وقال ابن تيمية "وأما القسم الثالث مما يسمى توسلا، وهو الإقسام على الله عز وجل بالأنبياء والصالحين أو السؤال بأنفسهم، فإنه لا يقدر أحد أن ينقل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ثابتا لا في الإقسام أو السؤال به ولا في الإقسام أو السؤال بغيره من المخلوقين، وقد ثبت أنه لا يجوز القسم بغير الله لا بالأنبياء ولا بغيرهم، فإذا لم يجز أن يحلف بها الرجل ولا يقسم بها على مخلوق فكيف يقسم بها على الخالق جل جلاله"؟ (3) .
الوجه الثاني: أن فيه تعظيما للمخلوق:
ذلك أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به وبما أن المحلوف به يكون أعظم من المحلوف عليه فإن في هذا القسم رفعا للمخلوق فوق منزلة الخالق، ومساواة المخلوق بالخالق شرك فكيف لو جعلناه أعظم منه؟
قال النووي: (قال العلماء: الحكمة في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، وحقيقة العظمة مختصة بالله
__________
(1) أخرجه الترمذي عن سعد بن عبيدة برقم 1535 في الأيمان والنذور، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله وقال: هذا حديث حسن، انظر: جامع الأصول حديث 9278.
(2) شرح الطحاوية ص 262.
(3) قاعدة جليلة ص 106 وانظر ص 144.(74/147)
تعالى فلا يضاهى به غيره) (1)
__________
(1) شرح صحيح مسلم ج 11 ص 105، وانظر الفتاوى ج 1 ص 191.(74/148)
ثانيا: عرض ما تيسر من شبهات (1) من قال بهذا النوع من التوسل مع المناقشة.
لقد تمسك من قال بهذا النوع من التوسل بشبهات نقلية وعقلية منها ما يلي:
أولا: شبهاتهم فيما استدلوا به من القرآن ومن ذلك ما يلي:
الشبهة الأولى: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2)
، يقول الزهاوي: (لنا على جواز التوسل والاستغاثة دلائل: منها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (3) إلى أن قال: (بل ظاهر الآية تخصيصها الذوات) (4)
الجواب: يقال لهم الآية حجة عليكم لا لكم، ذلك أن المراد
__________
(1) جمع شبهة وهي دليل أو استدلال باطل.
(2) سورة المائدة الآية 35
(3) سورة المائدة الآية 35
(4) الضياء الشارق ص 487.(74/148)
بالوسيلة فيها: هي: التقرب إلى الله بطاعته والعمل بما يرضيه (1) .
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (يقول سبحانه وتعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهيات، وقد قال بعدها: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (2) قال سفيان الثوري عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس: أي القربة. وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد. وقال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه) (3) .
وقال ابن جرير: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (4) : واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل) ثم روى عن مجموعة منهم أبو وائل وعطاء، وقتادة، ومجاهد، وعبد الله بن كثير كلهم يقولون بهذا القول (5) .
فإذا كان المراد بالوسيلة في الآية: هي التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، فالآية حجة في إثبات شرعية التوسل بالأعمال الصالحة لا ما زعمتم من التوسل بالذوات ونحوها.
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى ج 1 ص 247.
(2) سورة المائدة الآية 35
(3) تفسير ابن كثير ج 2 ص 52.
(4) سورة المائدة الآية 35
(5) تفسير الطبري ج 6 ص 146، 147.(74/149)
الشبهة الثانية: قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} (1) {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (2)
يقول الزهاوي في معرض استدلاله بهذه الآية: (إن الكفار يعبدون الأنبياء والملائكة على أنهم أرباب، فيقول الله لهم: أولئك الذين تعبدونهم هم يتوسلون إلى الله بمن هو أقرب، فكيف تجعلونهم أربابا وهم عبيد مفتقرون إلى ربهم متوسلون إليه بمن هو أعلى مقاما منهم) (3) الجواب: يقال لهم استدلالكم باطل، ذلك أن المراد بالوسيلة التي أخبر الله بأن الذين يدعوهم المشركون أربابا يبتغونها إليه؛ لأنهم أهل الإيمان به هي- كما قال شيخ الإسلام (4) ما يتقرب به إلى الله من الواجبات والمستحبات، فهي قربة بطاعة أمر الله بها عباده.
قال الشوكاني: (ولا خلاف في يبتغون أنها بالتحية والوسيلة القربة بالطاعة والعبادة) (5) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 56
(2) سورة الإسراء الآية 57
(3) انظر: الضياء الشارق ص 497.
(4) قاعدة جليلة ص 48.
(5) فتح القدير ج 3 ص 237.(74/150)
وقال الشنقيطي في تفسير هذه الآية: (وقد قدمنا في سورة المائدة أن المراد بالوسيلة في هذه الآية الكريمة وفي آية المائدة هو التقرب إلى الله بالعمل الصالح) . (1)
وعليه فإنها لا تشمل شيئا من التوسل الممنوع، إذ لم يأمر به الله يؤكد ذلك أنه لم يعمل به الصحابة ومن أتى بعدهم من القرون المفضلة الذين هم أعلم هذه الأمة بكتاب الله، ولو كان في هذه أو غير دلالة عليه لعملوا، به أيضل عنه الصحابة ويهتدي إليه هؤلاء المتأخرون؟
إضافة إلى ما ذكرت فإن طائفة من المشركين كانوا يدعون الملائكة والأنبياء، وقيل يدعون الجن فأنزل الله هاتين الآيتين إنكارا عليهم ذلك، لذا فهما تتضمنان النهي عن دعاء غير الله. والآية الأولى كما قال شيخ الإسلام قصد بها بالتعميم لكل ما يدعى من دون الله، فكل من دعى ميتا أو غائبا من الأنبياء أو الصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية
__________
(1) أضواء البيان ج 2 ص 313.(74/151)
كما تتناول من دعى الملائكة والجن، إذ أنه شرك أو ذريعة إلى الشرك (1) .
وعليه فإن من توسل بدعاء ميت فإن هذا النهي يتناوله إذ فيه دعاء لغير الله وهو دعاء الميت وذلك ذريعة إلى الشرك.
يقول شيخ الإسلام في تعليقه على هذه الآية: (قال طائفة من السلف كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء فقال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم هم عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، ويتقربون إلي كما تتقربون إلي، فنهى سبحانه عن دعاء الملائكة والأنبياء؛ لأن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم بخلاف الطلب من أحدهم في حياته فإنه لا يفضي إلى الشرك) (2) .
وقال أيضا بعد أن ذكر هذه الآية: (ومثل هذا كثير في القرآن ينهى أن يدعى غير الله لا من الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم فإن هذا شرك أو ذريعة إلى الشرك بخلاف ما يطلب من أحدهم في حياته من الدعاء والشفاعة فإنه لا يفضي إلى ذلك) (3) وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في تعليقه على هذه الآية:
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى ج 15 ص 226 وقاعدة جليلة ص 33.
(2) قاعدة جليلة ص 36 / 1، 137.
(3) قاعدة جليلة ص 33.(74/152)
(وأما ادعاء المنحرفين عن الإيمان من أن الوسيلة هي التوسل إلى الله تعالى بالأنبياء والصالحين فهذا باطل يناقض ما ذكره الله تعالى في أول الآية من تهديد من دعاهم وإنكاره عليهم دعوتهم) (1)
مما ذكر اتضح أن الآيتين إنما تدلان على التقرب إلى الله بالعمل الصالح وهو توسل مشروع كما تدلان على النهي عن التوسل بدعاء الميت وهو من أنواع التوسل الممنوع وعليه فالآيتان حجة عليهم لا لهم.
__________
(1) القول الفصل النفيس ص 42.(74/153)
الشبهة الثالثة: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (1)
يقول الزهاوي - بعد أن ذكر هذه الآية مستدلا بها: (فقد علق الله تعالى قبول استغفارهم باستغفاره عليه الصلاة والسلام وفي ذلك صريح دلالة على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم) (2) .
الجواب: يقال لهم: استدلالكم خاطئ، فالآية إنما ترشد إلى توسل مشروع وهو التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم حال حياته.
يدل على ذلك ما يلي:
__________
(1) سورة النساء الآية 64
(2) الضياء الشارق ص 504.(74/153)
أولا: قوله: {جَاءُوكَ} (1) فإن المجيء إلى الرجل ليس معناه إلا المجيء إلى عين الرجل، أما المجيء إلى قبره فإنه ليس من أفراد المجيء إلى الرجل لا لغة ولا شرعا ولا عرفا، ولا يفهم من هذا اللفظ - بحسب اللغة والعرف- إلا المجيء إليه في حياته الدنيوية المعهودة (2) ، ولذا لم يفهم من هذه الآية أحد من السلف والخلف إلا المجيء إليه في حياته ليستغفر لهم (3)
ثانيا: قوله: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} (4) .
واستغفاره صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا في حياته ذلك أن الاستغفار كغيره من الأعمال ينقطع بعد الموت لانقطاع التكليف عنه (5) قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (6) » . ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يشمله الحديث لأنه من الإنسان (7) .
__________
(1) سورة النساء الآية 64
(2) انظر: صيانة الإنسان ص 29، 30.
(3) الصارم المنكي ص 425 (بتصرف) .
(4) سورة النساء الآية 64
(5) انظر قاعدة جليلة ص 137 وتيسير الكريم الرحمن ج 2 ص 44.
(6) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي- انظر: جامع الأصول حديث 8712.
(7) انظر: الجواب المختار ص 51.(74/154)
ثالثا: أنه لو كان استغفاره صلى الله عليه وسلم لمن جاءه مستغفرا بعد موته مشروعا لأمر به أمته ورغبهم فيه ولكان الصحابة وتابعوهم بإحسان أرغب شيء فيه وأسبق إليه، فهم أحرص هذه الأمة على الالتزام بأمر الله سبحانه وأشدهم تعظيما لنبيها ومعرفة لقدرته، ولكن شيئا من ذلك لم يحصل إذ لم ينقل عن أحد منهم قط بنوع من أنواع الأسانيد أنه جاء إلى قبره ليستغفر له ولا شكا إليه ولا سأله (1) ، كل ذلك يؤكد أنها خاصة في حياته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومنهم من يتأول قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (2) . ويقولون: إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة ويخالفون بذلك إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر المسلمين فإن أحدا منهم لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له ولا سأله شيئا ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم) (3) .
وقال الشيخ ابن سعدي في تفسير هذه الآية: (وهذا المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مختص بحياته؛ لأن السياق يدل على ذلك لكون الاستغفار من الرسول لا يكون إلا في حياته،
__________
(1) الصارم المنكي ص 428 (بتصرف) وانظر: قاعدة جليلة ص 19، 20.
(2) سورة النساء الآية 64
(3) قاعدة جليلة ص 19.(74/155)
وأما بعد موته فإنه لا يطلب منه شيء بل ذلك شرك) (1) وقال ابن عبد الهادي الحنبلي: (وأما دلالتها على المجيء إليه في قبره بعد موته فقد عرف بطلانه) (2) .
مما ذكر اتضح أن الآية لا تدل على المجيء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وطلب الاستغفار والشفاعة منه أو التوسل بذاته وإنما تدل على توسل مشروع وهو التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم حال حياته.
__________
(1) تفسير ابن سعدي ج 2 ص 44
(2) الصارم المنكي ص 429.(74/156)
الشبهة الرابعة: قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} (1)
وجه الدلالة: قالوا في هذه الآية وعد للمصدقين وهم الأولياء بأن لهم ما يشاءون عند ربهم، فيدخل في ما يشاءونه من الله تلبية من توسل بهم من العباد (2) .
يقول محمد الفقي: (وكيف لا يستعان بمن هذه صفتهم ولا يطلب العون ممن هذا حالهم، وقد قال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (3) . (4)
__________
(1) سورة الزمر الآية 34
(2) انظر: القول الجلي ص 37، والتوسل والزيارة ص 195
(3) سورة الزمر الآية 34
(4) التوسل والزيارة ص 197.(74/156)
الجواب: يقال لهم: أولا: لنقرأ الآية التي قبلها والتي بعدها، وماذا قيل فيها؟
يقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (1) {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} (2) {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3)
قيل: الآية خاصة {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} (4) : قيل هو جبريل، وقيل محمد، والذي صدق به: قيل محمد صلى الله عليه وسلم وقيل أبو بكر، وقيل المؤمنون، وقال النخعي: (الذي جاء بالصدق وصدق به هم المؤمنون الذي يجيئون بالقرآن يوم القيامة) (5)
وقيل: هي عامة عني بها كل من دعا إلى توحيد الله وتصديق رسوله والعمل بما ابتعث به رسوله صلى الله عليه وسلم وهو ما اختاره كثير من المفسرين، كابن جرير، وابن سعدي والشوكاني.
فيكون المراد من الآية أن كل من آمن بالله وعمل صالحا فله ما يشاء عند ربه، وعليه فهي ليست خاصة سماعة بعينهم، كما
__________
(1) سورة الزمر الآية 33
(2) سورة الزمر الآية 34
(3) سورة الزمر الآية 35
(4) سورة الزمر الآية 33
(5) تفسير الشوكاني ج 4 ص 463.(74/157)
يزعمون.
ثانيا: المراد بقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ} (1) في الآخرة لا في الدنيا.
بدليل قوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} (2) .
يقول ابن جرير: (لهم عند ربهم يوم القيامة) (3) ، وبدليل قوله تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (4) .
وعليه فإن تلبية من توسل بهم لا تدخل في ما يشاءونه؛ لأنها من أمور الدنيا.
ثالثا: على فرض دخول الأمور الدنيوية في ما يشاءونه فإن هؤلاء المحسنين كانوا يدعون إلى توحيد الله والعمل بما يرضيه، ولذلك وصفهم بالمتقين، وهم الذين اتقوا الله بتوحيده والبراءة من الأوثان والأنداد وأداء الفرائض واجتناب المعاصي (5) ومن كان كذلك فلن يشاء الشرك أو شيئا من وسائله، وبذلك يتضح بطلان استدلالهم بالآية.
__________
(1) سورة الزمر الآية 34
(2) سورة الزمر الآية 34
(3) تفسير الطبري ج 24 ص 4.
(4) سورة الشورى الآية 22
(5) انظر تفسير الطبري 24 ص 4.(74/158)
الشبهة الخامسة: استدلوا بقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} (1)
وقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (2) قالوا: الآيتان تفيدان أن الأولياء أحياء بعد قتلهم وما داموا كذلك فيجوز نداؤهم والتوسل بهم كالأحياء في الدنيا (3)
يقول محمد الفقي: (وحيث ثبتت حياة المتوفى في البرزخ بما أوردناه وبقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (4) جاز طلب العون منهم) (5) الجواب: يقال لهم هاتان الآيتان نزلتا في حق الشهداء (6) :
فالآية الأولى: توجيه للمؤمنين أن لا يقولوا لمن يقتل في سبيل الله هو ميت، فإن الميت من سلب حياته وأعد حواسه فلا يلتذ لذة ولا يدرك نعيما، أما من قتل في سبيل الله فإنهم في حياة
__________
(1) سورة البقرة الآية 154
(2) سورة آل عمران الآية 169
(3) انظر: إتحاف الأذكياء ص 13، 14 وتطهير الجنان ص 59 والبروق النجدية ص 30.
(4) سورة آل عمران الآية 169
(5) التوسل محمد الفقي ص 188.
(6) انظر: أسباب النزول للسيوطي بها هامش (تفسير وبيان) ص 43، ص 109، 110.(74/159)
ونعيم فرحين بما آتاهم الله من فضله.
والآية الثانية: إخبار من الله تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار كما جاء في صحيح مسلم عن مسروق قال: «سألنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل (1) » . . . . " الحديث وعليه فالآيتان إنما تفيدان أن الشهداء أحياء بعد قتلهم حياة برزخية لا يعلم كنهها إلا الله سبحانه لا تقاس بالحياة الدنيا ولا تعطى أحكامها.
بل إن فيما زعمتم مصادمة لكتاب الله؛ لأن الله يقول {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (2) فلم يجعلهما الله سواء بل فرق بين الأحياء والأموات وإذا لم يكونوا سواء فإنه يبطل قياس حياة
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1887) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3011) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2801) ، سنن الدارمي الجهاد (2410) .
(2) سورة فاطر الآية 22(74/160)
الأموات على حياه الأحياء، وعليه فتبطل هذه الشبهة.(74/161)
ثانيا: شبهاتهم فيما استدلوا به من السنة، ومن أقوال وأفعال الصحابة والتابعين.
وهى: إما استشهاد في غير محله، أو حديث أو أثر ضعيف أو موضوع منها ما يلي:
الشبهة الأولى: حديث استسقاء عمر بالعباس الذي مر ذكره في أدلة أهل السنة على مشروعية التوسل بدعاء الصالح الحي، وهو ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون) (1) .
وجه استدلالهم: قالوا: ورد في الحديث " اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ".
قالوا: المراد بعم نبينا، أي: بجاهه، فهم فهموا أن توسله بالعباس كأنه مجرد ذكر منه للعباس في دعائه، وطلب منه لله أن يسقيهم من أجله وقد أقره الصحابة على ذلك، فأفاد بزعمهم ما يدعون.
__________
(1) سبق تخريجه.(74/161)
وعللوا: عدول عمر رضي الله عنه عن التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس صلى الله عليه وسلم- لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل (1)
يقول أحمد دحلان بعد أن أورد هذا الحديث مستدلا به: (وإنما خص عمر العباس من دون سائر الصحابة رضي الله عنهم لإظهار شرف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل) (2) .
ومثل ذلك قال محمد الفقي بعد أن أورده مستدلا به (3) .
الجواب: يقال لهم: استدلالكم خاطئ فإن عمر رضي الله عنه والصحابة إنما توسلوا بدعاء العباس، ويدل على ذلك أمور منها:
1 - أن عمر صرح بأنهم كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وفي هذه الحادثة بالعباس.
ومما لا شك فيه أن التوسلين من نوع واحد وإذا تبين للقارئ - مما يأتي- أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم إنما كان بدعائه، فتكون النتيجة أن توسلهم بالعباس إنما هو توسل بدعائه، ومما يؤكد
__________
(1) التوسل للألباني ص 55، 56 وانظر: الدرر السنية ص 10- 12 والتوسل محمد الفقي ص 174، 175.
(2) الدرر السنية ص 10- 12.
(3) انظر التوسل محمد الفقي ص 174، 175.(74/162)
أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم في حياته إنما كان بدعائه صريح رواية الإسماعيلي في مستخرجه على الصحيح لهذا الحديث بلفظ: «كانوا إذا قحطوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم استسقوا به فيستسقي لهم فيسقون، فلما كان في إمارة عمر (1) » فذكر الحديث (2) فقوله: (فيستسقي لهم) صريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان يطلب لهم السقيا من الله تعالى، وهذا هو التوسل بدعائه، كذلك حديث الأعرابي الذي دخل المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب وشكا له الجدب ونحوهما، كل ذلك يدل على أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم في حياته إنما كان بدعائه.
2 - ما ورد في بعض روايات هذا الحديث الصحيحة أن العباس لما استسقى به عمر دعا. يقول ابن حجر في الفتح: (وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث) (3) .
هذه الرواية تدل على أنهم توسلوا بدعاء العباس لا بذاته، إذ
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1010) ، المناقب (3710) .
(2) فتح الباري ج 2 ص 495.
(3) فتح الباري ج 2 ص 497.(74/163)
لو كان التوسل بذاته أو جاهه لما كان هناك حاجة ليقوم العباس فيدعو بعد عمر بهذا الدعاء.
3 - لو كان توسلهم بالعباس - بذاته أو جاهه- لما عدلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى العباس؛ إذ ذاته صلى الله عليه وسلم أفضل وجاهه أعظم من جاه العباس، لكن لما كان بدعائه والرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يدعو لهم لوفاته عدلوا إلى حي فاضل، فاختاروا العباس لفضله رضي الله عنهم
قال ابن تيمية: (ودعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار وقوله: " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا " يدل على أن التوسل المشروع عنهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته إذ لو كان هذا مشروعا لم يعدل عمر والمهاجرون والأنصار عن السؤال بالرسول إلى السؤال بالعباس) (1) .
كل ما ذكرنا يدل دلالة واضحة على أن توسل الصحابة بالعباس إنما كان بدعائه.
__________
(1) قاعدة جليلة ص 64.(74/164)
وأما قولهم: أن عمر رضي الله عنه، عدل عن التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس، لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل.
فنقول: كلام مردود من وجوه، منها:
الأول: أنه ليس من المعقول أن الصحابة يقرون عمر على ترك التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم- لو كان ممكنا- إلى التوسل بعمه، ولن يقبل العباس أن يتركوا التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم- لو كان ممكنا- إلى التوسل به إذ في ذلك ترك للسنة المشروعة وعدول عن الأفضل، أضف إلى ذلك أنهم رضي الله عنهم يعرفون قدر نبيهم صلى الله عليه وسلم ومكانته وفضله معرفة لا يدانيهم فيها أحد، فلن يؤثروا عليه أحدا لو كان ممكنا لأي سبب من الأسباب.
الثاني: أن سؤال الله بأضعف السببين إنما يكون في وقت الرخاء، أما في وقت الشدة فالناس أحرص على أكبر وسيلة لزوالها، وعام الرمادة معلوم ما أصاب المسلمين فيه من شدة.
الثالث: لنفرض أن الذي حمل عمر على ترك التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بعمه ما زعموه، فما الذي حمل معاوية والضحاك بن قيس عندما توسلا بيزيد بن الأسود الجرشي، وأيضا لو كان الأمر كذلك لفعل عمر ذلك مرة(74/165)
واحدة ولما استمر عليه كلما استسقى بدليل ما ورد في هذا الحديث من قوله: (إن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس) فإن في هذا إشارة إلى تكرار استسقاء عمر بالعباس كل ما ذكرت يؤكد بطلان استدلالهم بهذا الحديث على التوسل بالجاه أو غيره من التوسل الممنوع.(74/166)
الشبهة الثانية: حديث الضرير وهو ما روي عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه: «أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني. فقال: " إن شئت دعوت لك وإن شئت أخرت ذاك فهو خير" وفي رواية "وإن شئت صبرت فهو خير لك "، فقال: ادعه: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي اللهم فشفعه في) قال: ففعل الرجل فبرأ (1) » وقد استدل به السبكي (2) ، والزهاوي (3) ، وأحمد دحلان (4)
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند برقم 17240، ورقم 17241، انظر المسند ج 28 ص 478، 479 والترمذي برقم 3573 في الدعوات، باب من أدعية الإجابة وإسناده صحيح، وقد صححه غير واحد من العلماء- انظر: جامع الأصول حديث 2375 (المتن والحاشية) .
(2) انظر: شفاء السقام ص 139، 140.
(3) الضياء الشارق ص 537.
(4) الدرر السنية ص 8، 9.(74/166)
على جواز التوسل بالذات أو الجاه.
وجه استدلالهم: قالوا الحديث يدل على جواز التوسل بذات أو جاه النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصالحين، إذ فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الأعمى أن يتوسل به في دعائه. حيث أمره أن يدعو بهذا الدعاء (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك) وقد فعل الأعمى ذلك فبرأ (1) .
يقول الزهاوي: بعد أن ساق هذا الحديث: (فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الضرير أن يناديه ويتوسل به إلى الله في قضاء حاجته) (2) ويقول أحمد دحلان: (ومن الأحاديث الصحيحة التي جاء التصريح فيها بالتوسل ما رواه الترمذي، ثم ساق الحديث، وقال: ففي هذا الحديث التوسل والنداء أيضا) (3) .
الجواب: يقال لهم استدلالكم بهذا الحديث على جواز التوسل بذات أو جاه النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره استدلال خاطئ فالحديث إنما يدل على مشروعية التوسل بدعاء الصالح الحي لا غير وذلك لما يلي:
1 - أن الأعمى إنما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له بدليل قوله: «ادع الله أن يعافيني (4) » ولو كان قصده التوسل بذاته
__________
(1) انظر: التوسل للألباني ص 76.
(2) الضياء المشارق ص 537.
(3) الدرر السنية ص 8.
(4) سنن الترمذي الدعوات (3578) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) ، مسند أحمد (4/138) .(74/167)
صلى الله عليه وسلم أو جاهه لما احتاج منه المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل ممكن أن يتوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه وهو في بيته أو في أي مكان، فمجيئه وطلبه من الرسول أن يدعو له دليل واضح على أنه إنما توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم.
2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم خيره بين الدعاء وبين أن يصبر مع بيان فضيلة الصبر ونصحه به حيث قال: «إن شئت دعوت لك وإن شئت صبرت فهو خير لك (1) » .
3 - إصرار الأعمى على الدعاء بقوله: ادعه، فهذا يدل على أنه اختار الدعاء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له؛ لأنه وعده بقوله: «إن شئت دعوت لك (2) » وقد شاء الدعاء وأصر عليه فإذا لا بد أنه صلى الله عليه وسلم قد دعا له فهو خير من وفى بما وعد، ولحرصه صلى الله عليه وسلم على أن يستجيب الله دعاء له وجهه إلى عمل صالح يقدمه بين يدي دعائه صلى الله عليه وسلم ليكون أحرى بالقبول حيث أمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه بدعاء علمه الرسول صلى الله عليه وسلم إياه.
4 - ورد في الدعاء الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم إياه «اللهم فشفعه في (3) » وهذا صريح في أن الرسول صلى الله عليه
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3578) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .
(2) سنن الترمذي الدعوات (3578) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) ، مسند أحمد (4/138) .
(3) سنن الترمذي الدعوات (3578) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .(74/168)
وسلم قد دعا له وأن توسله إنما كان بدعائه، فهو يدعو أن يقبل الله دعاء نبيه له فقوله " اللهم فشفعه في " معناه: اللهم اقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم - أي اقبل دعائه - في أن ترد علي بصري، ولو كان توسل بذاته أو جاهه لم يكن لهذا فائدة ولا معنى في الحديث، وهذا مردود كذلك ما يستلزمه. قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر الحديث: (فهذا توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال: "وشفعه" فسأل الله أن يقبل شفاعة رسوله فيه وهو دعاؤه) (1)
5 - أن هذا الحديث قد ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب مما يدل على أن التوسل فيه توسل بالدعاء، وأن السر في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإنه صلى الله عليه وسلم ببركة دعائه لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره) (2) أما ما تضمنه الدعاء من قوله: " أسألك بنبيك " فالمراد بدعاء نبيك بدليل طلبه من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو له وبدليل قوله في دعائه " اللهم فشفعه في " فهذا يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم سيدعو له فهو
__________
(1) قاعدة جليلة ص 92.
(2) الفتاوى ج 1 ص 266.(74/169)
دعاء في أن يقبل الله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له- كما تقدم بيانه آنفا.
أضف إلى ذلك أن التوسل بالشخص في مفهوم الصحابة وعرفهم إنما هو طلب الدعاء منه حال حياته، أما التوسل بالجاه أو الذات فهم لا يقرونه؛ لأنه من مفاهيم الجاهلية التي بعث صلى الله عليه وسلم لأجل القضاء عليها، وعليه فالحديث إنما يدل على التوسل بالدعاء لا بالجاه أو الذات كما يزعمون.
قال شيخ الإسلام: (وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته) (1) .
__________
(1) قاعدة جليلة ص 64.(74/170)
الشبهة الثالثة: ما روي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا قال: «من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وأسألك بحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة وخرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك فأسألك أن تعيذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب(74/170)
إلا أنت، أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك (1) » وقد استدل به أحمد دحلان، والزهاوي ومن وافقهما على جواز التوسل بكل عبد مؤمن.
يقول أحمد دحلان - بعد أن ساق الحديث-: (فانظر قوله: (بحق السائلين عليك) فإن فيه التوسل بكل عبد مؤمن) (2) .
ويقول الزهاوي بعد أن ساق الحديث: (فقد توسل النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: "إني أسألك بحق السائلين عليك" بكل عبد مؤمن وأمر أصحابه أن يدعوا بهذا الدعاء فيتوسلوا مثل توسله) (3) .
الجواب: يقال لهم:
أولا: الحديث شديد الضعف فلا يحتج به؛ لأنه من طريق فضيل بن مرزوق عن عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري، وفضيل وعطية كلاهما ضعيف.
فأما فضيل فقد ضعفه أبو حاتم والنسائي والحاكم، وقال ابن
__________
(1) رواه ابن ماجه برقم 778 في المساجد والجماعات، باب المشي إلى الصلاة وأحمد في المسند برقم 11156 وإسناده ضعيف انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة ج 1 ص 34- 37. ومسند الإمام أحمد ج 17 ص 248 (الحاشية) وجامع الأصول ج 4 ص 318 (الحاشية) .
(2) انظر الدرر السنية ص 6، 7.
(3) الضياء الشارق ص 532.(74/171)
حبان: (يخطئ على الثقات ويروي عن عطية الموضوعات) ، وقال الرازي: لا يحتج به. .
وأما عطية بن سعد فقال ابن تيمية والذهبي مجمع على ضعفه، وأورده الذهبي في الضعفاء والمتروكين (1) وقال ابن حجر كان شيعيا مدلسا (2) .
وقال ابن حبان: (سمع من أبي سعيد الخدري أحاديث فلما مات جعل يجالس الكلبي فإذا قال الكلبي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظ ذلك ورواه عنه وكناه أبا سعيد فيظن أنه أراد (الخدري) وإنما أراد (الكلبي) لا يحل كتب حديثه: إلا على التعجب) . (3)
والكلبي: هو محمد بن السائب أحد المعروفين بالكذب في الحديث (4) .
__________
(1) قاعدة جليلة ص 107 وديوان الضعفاء والمتروكين للذهبي ج 2 ص 159 وانظر ميزان الاعتدال ج 5 ص 100، 101.
(2) تقريب التهذيب ج 2 ص 24.
(3) الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي ج 2 ص 180.
(4) انظر: صيانة الإنسان ص 106 والتوسل للألباني ص 104.(74/172)
وعلى هذا فعطية شيعي مدلس مجمع على ضعفه فلا يحتج بروايته.
وقد روي من طريق آخر مع اختلاف يسير في اللفظ، أخرجه أبو بكر بن السني في عمل اليوم والليلة برقم 84 من طريق الوازع بن نافع العقيلي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عن بلال رضي الله عنه (1) ، وهو حديث ضعيف أيضا كما قال النووي وابن تيمية (2) ؛ ذلك أن في سنده الوازع وهو ضعيف الحديث جدا ليس بشيء كما قال أبو حاتم وأبو زرعة، بل قال الحاكم: روى أحاديث موضوعة، وكذا قال غيره وقال ابن عدي: عامة ما يرويه الوازع غير محفوظ.
وقال النووي والهيثمي متفق على ضعفه، وقال أحمد وابن معين ليس بثقة
وعليه فلا يحتج بالحديث على كلا الروايتين.
ثانيا: على فرض صحة الحديث فإنه لا يؤيد مدعاهم، ذلك أنه توسل بحق السائلين وبحق ممشاه إلى المسجد وهو حق العابدين
__________
(1) انظر: عمل اليوم والليلة باب ما يقول إذا خرج إلى الصلاة ص 42- 43.
(2) انظر: الأذكار للنووي ص 32 وقاعدة جليلة ص 107.(74/173)
وحق السائلين أن يجيبهم، وحق العابدين أن يثيبهم، وهما مما جعله على نفسه حقا تكرما وفضلا، قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (3)
وفي الصحيح من حديث معاذ: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحقهم على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم (4) » فيكون السائل- هنا- قد توسل بالإجابة، والإثابة التي هي من صفات الله الفعلية والتوسل بأسماء الله وصفاته مشروع قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (5) .
قال ابن تيمية: (وهذا الحديث هو من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد وهو ضعيف بإجماع أهل العلم وقد روي من طريق آخر،
__________
(1) سورة الروم الآية 47
(2) سورة غافر الآية 60
(3) سورة الزلزلة الآية 7
(4) صحيح البخاري الاستئذان (6267) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد (5/242) .
(5) سورة الأعراف الآية 180(74/174)
وهو ضعيف أيضا ولفظه لا حجة فيه فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم وحق العابدين أن يثيبهم وهو حق أحقه الله تعالى على نفسه الكريمة بوعده الصادق باتفاق أهل العلم) (1)
__________
(1) قاعدة جليلة ص 107، 108.(74/175)
الشبهة الرابعة: عن أبي أمامة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح وإذا أمسى دعا بهذا الدعاء: اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وبكل حق هو لك وبحق السائلين عليك (1) » . . . الحديث.
وجه استدلالهم: أنه ورد فيه سؤال بحق السائلين- فدل على جواز السؤال بكل عبد مؤمن- كالحديث السابق.
الجواب: يقال لهم هذا الحديث لا يحتج به لضعفه. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (رواه الطبراني - وفيه فضالة بن جبير، ضعيف مجمع على ضعفه) (2) ، وقال ابن عدي: (ولفضاله عن أبي أمامة قدر عشرة أحاديث كلها غير محفوظة) (3) ، وروى الكناني عن
__________
(1) رواه الطبراني المعجم الكبير 8 ص 316، 317.
(2) مجمع الزوائد ج 10 ص 120.
(3) الكامل لابن عدي ج 6 ص 21.(74/175)
أبى حاتم الرازي قال: "ضعيف الحديث" (1) وقال ابن حبان: (لا يحل الاحتجاج به بحال: يروي أحاديث لا أصل لها) (2) .
وقال الألباني: (الحديث شديد الضعف فلا يجوز الاستشهاد به) (3) .
وعلى هذا فالحديث شديد الضعف فلا يحتج به، ولو فرض صحته فإن قوله: "وبحق السائلين عليك" إنما هو سؤال بالإجابة، وهي من صفات الله الفعلية. والتوسل بصفات الله مشروع (4) . وعليه فلا دلالة الحديث على شيء من التوسل الممنوع.
__________
(1) صيانة الإنسان ص 130
(2) صيانة الإنسان ص 130.
(3) التوسل للألباني ص 110.
(4) انظر: كشف غياهب الظلام ص 263 وسلسلة الأحاديث الضعيفة ج 1 ص 46.(74/176)
الشبهة الخامسة: عن أنس بن مالك قال: «لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي رضي الله عنهما دعا أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري يحفرون قبرها، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه ثم قال: " الحمد لله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها وأوسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي،(74/176)
فإنك أرحم الراحمين» . . . الحديث) رواه الطبراني (1)
وممن استدل به أحمد دحلان (2) والزهاوي (3) والعظمي (4) وموسى محمد علي (5)
وجه الاستدلال: قالوا ورد في الحديث " وأوسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي. . . " وفي ذلك توسل بذاته وبإخوانه النبيين (6) .
يقول موسى محمد علي: (ففي هذا الحديث توسله عليه الصلاة والسلام إلى ربه بذاته وبإخوانه من النبيين) (7) .
الجواب: يقال لهم الحديث غير صحيح (8) لأن في سنده روح بن صلاح وقد تفرد به كما قال أبو نعيم (9) واتفقت عبارات كثير من أئمة الجرح على تضعيف روح.
__________
(1) في المعجم الكبير ج 24 ص 351، 352 برقم 871 والأوسط ج 1 ص 152، 153 برقم 191.
(2) انظر: الدرر السنية ص 7.
(3) انظر: الضياء الشارق ص 535.
(4) انظر: كشف غياهب الظلام ص 267.
(5) انظر حقيقة التوسل والوسيلة ص 49.
(6) انظر: الدرر السنية ص 7 وحقيقة التوسل والوسيلة ص 49.
(7) حقيقة التوسل والتوسل ص 49.
(8) انظر: التوصل ص 235.
(9) حلية الأولياء ج 3 ص 121.(74/177)
يقول ابن عدي: (روح بن صلاح ضعيف) وقال الدارقطني: ضعيف في الحديث، وقال ابن ماكولا (ضعفوه) ، وقال أبو يونس: رويت عنه مناكير، وقال ابن عدي بعد أن خرج له حديثين " ولروح أحاديث ليست بالكثيرة وفي بعض حديثه نكرة" (1) . وذكره ابن الجوزي في الضعفاء والمتروكين (2)
وقال الشيخ الألباني بعد أن ذكر كلام بعض الأئمة فيه: (فأنت ترى أئمة الجرح قد اتفقت عباراتهم على تضعيف هذا الرجل وبينوا أن السبب روايته المناكير فمثله إذا انفرد بالحديث يكون منكرا لا يحتج به) (3)
وقال الشيخ عبد الرحمن الدوسري: (هذا الحديث لا يصح دراية فإن صيغة متنه وركاكة ألفاظه وما فيه من المبالغة مما يدل على عدم ثبوته، زيادة على غرابته وما في سنده من الضعف الذي تكلم عليه المؤلف) (4)
مما ذكر اتضح أن الحديث لا يصح دراية ولا رواية وإنما هو
__________
(1) انظر الكامل لابن عدي ج 3 ص 146 ولسان الميزان ج 2 ص 573، 574.
(2) الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي ج1 ص 287.
(3) سلسلة الأحاديث الضعيفة ج 1 ص 33 وانظر التوسل للألباني ص 111.
(4) انظر: صيانة الإنسان ص 129 '' المتن والحاشية''.(74/178)
منكر لا يحتج به والله أعلم.(74/179)
الشبهة السادسة: عن عمر بن الخطاب مرفوعا: «لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك (2) » أخرجه الحاكم.
يقول أحمد دحلان: (وقد توسل به صلى الله عليه وسلم أبوه آدم عليه السلام قبل وجود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها) (3) ثم ساق الحديث.
الجواب: يقال لهم:
أولا: الحديث موضوع كما قال الذهبي (4) وغيره فلا تقوم به حجة.
__________
(1) المستدرك ج 2 ص 615.
(2) كذا في المستدرك، وفي شفاء السقام: وإذ سألتني بحقه. (1)
(3) الدرر السنية ص 9.
(4) التلخيص للذهبي (حاشية المستدرك ج 2 ص 615) .(74/179)
يقول الذهبي: (عبد الله بن مسلم أبو الحارث الفهري روى عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبرا باطلا فيه «يا آدم لولا محمد ما خلقتك» (1) ، وكذا قال الحافظ ابن حجر في اللسان (2)
وقال البيهقي: (إنه تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو متهم بالوضع رماه بذلك الحاكم) (3) ولا نغتر برواية الحاكم لهذا الحديث فإنه مما أنكره عليه العلماء وعدوه تناقضا منه.
يقول ابن تيمية: ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه فإنه نفسه قد قال في كتاب المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه.
قلت (4) : وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيرا ضعفه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم، وقال أبو حاتم بن حبان: كان
__________
(1) ميزان الاعتدال ج 4 ص 199.
(2) ج 3 ص 442.
(3) التوسل للألباني ص 117.
(4) ابن تيمية.(74/180)
يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك من روايته، فاستحق الترك، وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله فهذا ما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث وقالوا: إن الحاكم يصحح أحاديث وهي موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث. (1)
ومما يؤكد بطلان هذا الحديث أنه يخالف كتاب الله في موضعين:
الأول: أنه تضمن أن الله غفر لآدم بسبب توسله بمحمد صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2)
وقد جاء تفسير هذه الكلمات عن ابن عباس بما يخالف هذا الحديث، فقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (3) قال: أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تنفخ في من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تسبق إلي رحمتك قبل غضبك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: أي رب أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم، قال:
__________
(1) قاعدة جليلة ص 85.
(2) سورة البقرة الآية 37
(3) سورة البقرة الآية 37(74/181)
فهو قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (1)
وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي (2) .
وأخرج الثعلبي، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (3) قال: قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4)
وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله، وأخرج عبد بن حميد عن الحسن والضحاك مثله، وأخرج ابن جرير عن مجاهد وقتادة وابن زيد مثله، وبهذا قال كثير من المفسرين كابن جرير، وابن سعدي، والسيد محمد رشيد رضا، وأبي بكر الجزائري
ويؤيده قوله تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5)
__________
(1) سورة البقرة الآية 37
(2) المستدرك ج 2 ص 545 والتلخيص للذهبي ج 2 ص 545.
(3) سورة البقرة الآية 37
(4) سورة الأعراف الآية 23
(5) سورة الأعراف الآية 23(74/182)
ولا منافاة بين القولين بل أحدهما يتمم الآخر ذلك أنها كلها من الكلمات.
يقول ابن جرير: (حدثني المثنى قال: حدثنا آدم العسقلاني قال: حدثنا أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (1) قال: إن آدم لما أصاب الخطيئة قال: يا رب أرأيت إن تبت وأصلحت، فقال الله: إذا أرجعك إلى الجنة، فهي من الكلمات ومن الكلمات أيضا {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) (3)
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان عن قتادة في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (4) قال: (ذكر لنا أنه قال: يا رب أرأيت إن تبت وأصلحت؟ قال: فإني إذن أرجعك إلى الجنة. {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5)
وبذلك ثبتت مخالفة هذا الحديث للقرآن، فتأكد بطلانه.
الثاني: كذلك مما يؤكد بطلانه قوله في آخره «ولولا محمد ما خلقتك» والله يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (6) فالآية تفيد أن الحكمة من الخلق إنما هي عبادة الله وحده لا شريك
__________
(1) سورة البقرة الآية 37
(2) سورة الأعراف الآية 23
(3) تفسير ابن جرير ج 1 ص 193 وانظر: تفسير ابن كثير ج 1 ص 81.
(4) سورة البقرة الآية 37
(5) سورة الأعراف الآية 23
(6) سورة الذاريات الآية 56(74/183)
له، لا من أجل ملك مقرب ولا نبي مرسل (1) .
ثانيا: على افتراض أن هذا الحديث ضعيف فقط -كما يزعم بعض المخالفين- فلا يجوز الاستدلال به على مشروعية التوسل المختلف فيه؛ لأنه على قولهم عبادة مشروعة وأقل أحوال العبادة أن تكون مستحبة والاستحباب حكم شرعي من الأحكام الخمسة التي لا تثبت إلا بنص صحيح تقوم به الحجة، فإذا كان الحديث عندهم ضعيفا فلا حجة فيه البتة (2) .
وبذلك اتضح بطلان هذه الشبهة.
__________
(1) انظر: التوسل للألباني ص 125- 127.
(2) التوسل للألباني ص 127، 128، وصيانة الإنسان ص 135- 142.(74/184)
الشبهة السابعة: عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين، وفي رواية يستنصر بصعاليك المسلمين (1) » .
يقول عبد الله الحسيني: (الدليل العاشر من أدلة التوسل بسيد الأنبياء وبغيره من الأولياء والصالحين) ثم ذكر الحديث (2) .
__________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ج 1 ص 292، برقم 857، 858 وفي رواية من طريق قيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن المهلب عن أمية بن عبد الله بن خالد قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح ويستنصر بصعاليك المسلمين) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ج 1 ص 292 برقم 859.
(2) إتحاف الأذكياء ص 28.(74/184)
الجواب: يقال لهم أولا: الحديث مرسل ضعيف، ذلك أن مداره على أمية بن عبد الله بن خالد مرفوعا، وأمية لم تثبت له صحبة (1) .
يقول ابن عبد البر في الاستيعاب (2) بعد أن ذكر روايته لهذا الحديث- قال: (لا تصح عندي صحبته والحديث مرسل) ، وقال الحافظ في الإصابة (3) : (وأمية هذا ليست له صحبة ولا رؤية) ، وقال ابن حبان: (يروي المراسيل، ومن زعم أن له صحبة فقد وهم) (4) ، وقال البغوي: (أمية بن خالد لا أرى له صحبة) (5) .
كما أن في سنده -في كلا الروايتين- أبا إسحاق. وفيه علة العنعنة (6) .
قال الألباني بعد أن ذكر هاتين العلتين: (فثبت بذلك ضعف الحديث وأنه لا تقوم به حجة) (7) .
ثانيا: على فرض صحة الحديث فإنه لا يدل إلا على التوسل بدعاء الصالح الحي وهو مشروع.
يقول المناوي في فيض القدير: (كان يستفتح) أي يفتتح
__________
(1) التوسل للألباني ص 113.
(2) ج 1 ص 38.
(3) ج 1 ص 133.
(4) الإصابة ج1 ص 132.
(5) الإصابة ج1 ص 132.
(6) التوسل للألباني ص 114.
(7) التوسل للألباني ص 114.(74/185)
القتال، (ويستنصر) أي يطلب النصرة (بصعاليك المسلمين) أي بدعاء فقرائهم) (1)
ويقول الألباني بعد أن ذكر كلام المناوي: (وقد جاء هذا التفسير من قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم (2) » (3) فقد بين الحديث أن الاستنصار إنما يكون بدعاء الصالحين لا بذواتهم وجاههم، ومما يؤكد ذلك أن الحديث ورد في رواية قيس بن الربيع بلفظ: (كان يستفتح ويستنصر....) وبهذا يكون هذا الحديث إن صح دليلا على التوسل المشروع وحجة على التوسل المبتدع) (4) .
__________
(1) فيض القدير ج 5 ص 279.
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2896) ، سنن النسائي الجهاد (3178) ، مسند أحمد (1/173) .
(3) أخرجه النسائي في الجهاد باب الاستنصار بالضعيف وانظر جامع الأصول حديث 2781.
(4) التوسل للألباني ص 114، 115.(74/186)
الشبهة الثامنة: يقول أحمد دحلان - وهو يتكلم عن التوسل بالذات: (ويؤيد ذلك أيضا ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: «حياتي خير لكم تحدثون وأحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم ما رأيت من خير حمدت الله تعالى وما رأيت من شر استغفرت لكم» (1) .
__________
(1) أخرجه ابن سعد عن القطان عن بكر بن عبد الله مرسلا. طبقات ابن سعد 2 ص 194.(74/186)
ويقول عبد الله محمد الحسيني: (وهذا الحديث يدل دلالة صريحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأمته بعد انتقاله باستغفاره لهم، وعلى هذا يجوز التوسل به لأنه استشفاع) . (1)
الجواب: يقال لهم:
أولا: الحديث ضعيف بجميع طرقه، فالحكم عليه بالصحة غير صحيح.
يقول الألباني: بعد أن ساق كلام العلماء في هذا الحديث: (وجملة القول أن الحديث ضعيف بجميع طرقه، وخيرها حديث بكر بن عبد الله المزني وهو مرسل وهو من أقسام الحديث الضعيف عند المحدثين، ثم حديث ابن مسعود وهو خطأ، وشرها حديث أنس بطريقيه) (2) .
وقال ابن عبد الهادي الحنبلي في معرض رده على من استدل بهذا الحديث قال: (هذا خبر مرسل) (3) .
وقال محمد بشير: بعد أن ذكر كلام ابن عبد الهادي في هذا الحديث- قال: (فالحكم عليه بالصحة غير صحيح) (4) .
__________
(1) إتحاف الأذكياء ص 24، 25.
(2) انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ج 2 ص 404- 406.
(3) انظر: صيانة الإنسان ص 258، 259.
(4) انظر: صيانة الإنسان ص 258، 259.(74/187)
ثانيا: أن الحديث معارض (1) بحديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن حذيفة بن اليمان أنه صلى الله عليه وسلم قال: «"ليردن على حوضي أقوام، ثم يختلفون فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (2) » أخرجه البخاري ومسلم.
والشاهد من هذا الحديث قوله: «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (3) » والحديث الضعيف يقول: «تعرض علي أعمالكم» أي هو صلى الله عليه وسلم يعلم ما عليه أصحابه وغيرهم من أمته من خير أو شر، فإما أن نقول: السنة متناقضة وهذا لا يقول به مسلم، أو نقول الحديث الضعيف غير صحيح كما قال الأئمة وبذلك يزول الإشكال ويتضح بطلان هذه الشبهة.
__________
(1) انظر: القول الجلي ص 45.
(2) صحيح البخاري الرقاق (6576) ، صحيح مسلم الفضائل (2297) ، مسند أحمد (5/393) .
(3) صحيح البخاري الرقاق (6576) ، صحيح مسلم الفضائل (2297) ، مسند أحمد (5/393) .(74/188)
الشبهة التاسعة: يقول أحمد دحلان: (ومن أدلة جواز التوسل قصة سواد بن قارب رضي الله عنه التي رواها الطبراني في الكبير (1) ، وفيها أن سواد بن قارب أنشد رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) المعجم الكبير للطبراني ج 7 ص 111.(74/188)
وسلم قصيدته التي فيها التوسل ولم ينكر عليه. ومنها قوله.
وأشهد أن الله لا رب غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل ... وإن كان فيما فيه شيب الذوائب
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: (أدنى المرسلين وسيلة) ولا قوله: (وكن لي شفيعا) (1)
الجواب: يقال لهم:
أولا: أن الروايات التي ورد فيها الحديث كلها ضعيفة واهية، وفي المتن: اضطراب، وإذا كان كذلك لم تقم به حجة.
يقول ابن حجر الهيثمي: بعد أن أورد الحديث بروايتين: (وكلا الإسنادين ضعيف) (2) ، وقال محمد بشير بعد أن ذكر كلام الهيثمي: (قد ثبت منه أن كلا الإسنادين ضعيف، وفي المتن اضطراب فتنبه) (3) ، وقال الرفاعي: (كما ثبت أن كافة طرقه وروياته التي ورد فيها ضعيفة واهية) (4) .
__________
(1) الدرر السنية ص 27.
(2) مجمع الزوائد ج 8 ص 253.
(3) صيانة الإنسان ص 287.
(4) التوصل ص 308.(74/189)
ثانيا: على فرض صحة الحديث فإنه لا يدل على جواز التوسل بالذات، إذ ليس في الأبيات التي وردت في الحديث أي معنى من معاني التوسل بالذات كما زعم ابن دحلان، بل كل ما تدل عليه أن أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم هي أعظم أعمال المرسلين فصار بذلك أدناهم وأقربهم إلى الله تعالى كما في البيت الثاني كما تدل على أن سواد بن قارب يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم ويرجوه أن يدعو الله تعالى أن يكون له شفيعا يوم القيامة كما في البيت الرابع، وهذا الخطاب في حياته وطلب الشفاعة منه حال حياته جائز؛ لأنه طلب لدعائه صلى الله عليه وسلم أن يكون سواد في جملة من يشفعه الله بهم يوم القيامة وهي من التوسل بدعاء الصالح الحي (1) .
قال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ: (وقول سواد بن قارب هذا من جنس طلب دعائه صلى الله عليه وسلم في حياته) (2) ، وبذلك يتضح بطلان استدلالهم بهذا الحديث على التوسل بالذات أو غيره من التوسل الممنوع. والله أعلم.
__________
(1) انظر: صيانة الإنسان ص 287- 289 والتوصل ص 307.
(2) مصباح الظلام ص 205.(74/190)
الشبهة العاشرة: ما روي عن عبد الملك بن هارون بن عنترة(74/190)
عن أبيه عن جده أن «أبا بكر الصديق أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أتعلم القرآن ويتفلت مني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قل: اللهم إني أسألك بمحمد نبيك، وبإبراهيم خليلك، وبموسى نجيك، وبعيسى روحك وبتوراة موسى وإنجيل عيسى، وزبور داود، وفرقان محمد، وبكل وحي أو حيته وقضاء قضيته» . . . الحديث " (1)
الجواب: يقال لهم الحديث غير صحيح وإنما هو مكذوب، يقول ابن تيمية: "وهذا الحديث ذكره رزين بن معاوية العبدري في جامعه، ونقله ابن الأثير في جامع الأصول (2) ، ولم يعزه لا هذا ولا هذا إلى كتاب من كتب المسلمين، لكن قد رواه من صنف في عمل اليوم والليلة كابن السني، وأبي نعيم، وفي مثل هذه الكتب أحاديث كثيرة موضوعة لا يجوز الاعتماد عليها في الشريعة باتفاق العلماء، وقد رواه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب فضائل الأعمال، وفي هذا الكتاب أحاديث كثيرة موضوعة، ورواه أبو موسى المديني من حديث زيد بن الحباب عن عبد الملك بن هارون بن عنترة، وقال: ليس بالمتصل، يريد أنه لو كان رجاله ثقات فإن
__________
(1) روى هذه الشبهة عنهم شيخ الإسلام، انظر: قاعدة جليلة ص 83.
(2) ج4 ص302 برقم 2302.(74/191)
إسناده منقطع) (1) .
ثم قال ابن تيمية: (عبد الملك بن هارون بن عنترة من المعروفين بالكذب) (2) .
وقال يحيى بن معين: كذاب، وقال السعدي: دجال كذاب، وقال أبو حاتم ابن حبان: يضع الحديث، وقال النسائي متروك الحديث، وقال البخاري منكر الحديث، وقال ابن عدي: له أحاديث لا يتابعه عليها أحد، وقال الحاكم في كتاب المدخل: عبد الملك بن هارون بن عنترة الشيباني روى عن أبيه أحاديث موضوعة، وقال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث.
وقد ذكر السيوطي هذا الحديث في اللآليء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، وقال: عبد الملك دجال مع ما في السند من الإعضال (3) وعلى هذا فالحديث رجاله ليسوا ثقات، ولو فرض أنهم
__________
(1) قاعدة جليلة ص 83، 84.
(2) قاعدة جليلة ص 84.
(3) اللآليء المصنوعة ج 2 ص 57 س.(74/192)
ثقات فإنه منقطع كما قال أبو موسى المديني وعليه فلا يحتج به. والله أعلم.(74/193)
الشبهة الحادية عشر: ما ذكره موسى بن عبد الرحمن الصنعاني صاحب التفسير بإسناده عن ابن عباس مرفوعا أنه قال: «من سره أن يوعيه الله حفظ القرآن وحفظ أصناف العلم فليكتب هذا الدعاء في إناء نظيف أو في صحف قوارير بعسل وزعفران وماء مطر وليشربه على الريق وليصم ثلاثة أيام وليكن إفطاره عليه ويدعو به في أدبار صلواته: اللهم إني أسألك بأنك مسئول لم يسأل مثلك ولا يسأل، وأسألك بحق محمد نبيك وإبراهيم خليلك وموسى نجيك، وعيسى روحك وكلمتك ووجيهك (1) » وذكر تمام الدعاء.
الجواب: يقال لهم هذا الحديث مكذوب فلا يحتج به.
يقول ابن تيمية: (وموسى بن عبد الرحمن هذا من الكذابين) ، وقال ابن عدي فيه: منكر الحديث. وقال أبو حاتم ابن حبان: دجال يضع الحديث، وضع على ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس كتابا في التفسير جمعه من كلام الكلبي ومقاتل، وقال الذهبي ليس بثقة (2) .
__________
(1) روى هذه الشبهة عنهم شيخ الإسلام، انظر: قاعدة جليلة صر 87، 88.
(2) انظر: قاعدة جليلة ص 88، وميزان الاعتدال ج 6 ص 549.(74/193)
ومما يؤكد أن الحديث مكذوب تضمنه بعض الكلمات التي لا تبدو إلا من كافر، مثل قوله: ". . لم يسأل مثلك ولا يسأل". فقوله "مثلك" يؤكد وضع الحديث وأن واضعه كافر ماكر خبيث من هو هذا المثيل لله الذي لم يسأل ولا يسأل؟ (1) ، لذا ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، والسيوطي في اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة.
__________
(1) انظر التوصل ص 321.(74/194)
الشبهة الثانية عشر: ما يرويه بعض الجهال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم» . وبعضهم يرويه بلفظ: «إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم» .
أورد هذه الشبهة محمد التيجاني والسمنهودي مستدلين بها(74/194)
على مشروعية التوسل بالجاه
وجه استدلالهم: قالوا في الحديث أمر بالتوسل بالجاه فهو إذا مشروع.
الجواب: يقال هذا الحديث كذب لا أصل له في شيء من كتب الحديث البتة وإنما يرويه بعض الجهال بالسنة (1) .
قال شيخ الإسلام: (وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث. مع أن جاهه عند الله أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، ولكن جاه المخلوق عند الخالق سبحانه ليس كجاه المخلوق عند المخلوق فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب، والله سبحانه وتعالى: لا شريك له، كما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (2) {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (3) .
__________
(1) انظر: قاعدة جليلة ص 129 وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ج ص 30 والأسنة الحداد ص 232.
(2) سورة سبأ الآية 22
(3) سورة سبأ الآية 23(74/195)
وقال الشيخ الألباني: (هذا باطل لا أصل له في شيء من كتب الحديث البتة، إلى أن قال: فلا يلزم إذا من كون جاهه صلى الله عليه وسلم عند ربه عظيما أن نتوسل به إلى الله تعالى لعدم ثبوت الأمر به عنه صلى الله عليه وسلم) (1) وقال العلامة الألوسي: (وما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فاسألوا الله تعالى بجاهي فإن جاهي عند الله تعالى عظيم» ، لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث) (2) .
مما ذكرنا اتضح أن الحديث باطل لا أصل له. لكن لا يلزم من بطلانه نفي الجاه عنه صلى الله عليه وسلم بل نقول إن جاهه أعظم من جاه جميع الأنبياء إلا أنه لا يلزم من ذلك أن نتوسل به؛ لأن التوسل أمر توقيفي ولم نقف على نص من الكتاب أو صحيح السنة يثبت (3) ذلك والله أعلم.
__________
(1) التوسل للألباني ص 128، 129 وانظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة له ص 30.
(2) روح المعاني 6 ص 127.
(3) انظر قاعدة جليلة ص 29 والتوسل للألباني ص 129.(74/196)
الشبهة الثالثة عشر: حديث: «إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور، أو فاستعينوا بأهل القبور (1) » .
__________
(1) روى هذه الشبهة عنهم شيخ الإسلام، انظر قاعدة جليلة ص 152 والفتاوى ج11 ص 293.(74/196)
الجواب: يقال لهم هذا الحديث مكذوب باتفاق العلماء فلا يحتج به.
قال شيخ الإسلام بعد ذكر هذا الحديث: (فهذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء بذلك ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة) (1) .
وقال أيضا: (وما يرويه بعض الناس من أنه قال: «إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور» أو نحو هذا. فهو كلام موضوع مكذوب باتفاق العلماء) (2) .
وقال ابن القيم: وهو يعد الأمور التي أوقعت عباد القبور في الافتتان بها، ومنها أحاديث مكذوبة وضعها أشباه عباد الأصنام من المقابر على رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض دينه، وما جاء به كحديث «إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور (3) » .
ومما يؤكد أنه مكذوب ما يلي:
أولا: أن العلة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم لأجلها عن الصلاة عند القبور إنما هي لئلا تكون ذريعة إلى نوع من الشرك ومن
__________
(1) قاعدة جليلة ص 152.
(2) اقتضاء الصراط المستقيم ص 337.
(3) إغاثة اللهفان ج1 ص 233.(74/197)
المعلوم أن المضطر في الدعاء الذي قد نزلت به نازلة فيدعو لاستجلاب خير أو دفع شر حاله في الافتتان بالقبور إذا رجا الإجابة عندها أعظم من حال من يؤدي الفرض عندها في حال العافية.
فإذا كانت العلة التي لأجلها نهي عن الصلاة عندها متحققة في حال من يتوسل بها كان نهيهم عن ذلك أوكد (1) . وعليه فكل أمر يناقض هذا النهي فهو مكذوب.
ثانيا: أن قصد القبور للدعاء عندها ورجاء الإجابة رجاء أكثر من رجاء الإجابة في غير ذلك الموطن أمر لم يشرعه الله ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين ولا أئمة المسلمين، وقد أجدب الصحابة مرات ومع ذلك لم يستسقوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على أن الحديث مكذوب (2) .
ثالثا: أن الحديث يتعارض مع النقل الصريح، قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (3) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (4)
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم ص 337، 338 (بتصرف) .
(2) اقتضاء الصراط المستقيم ص 338. (بتصرف) وإغاثة اللهفان ج 1 ص 223''.
(3) سورة فاطر الآية 13
(4) سورة فاطر الآية 14(74/198)
وقال صلى الله عليه وسلم: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" "يحذر ما صنعوا (1) » . (2) .
وما يتعارض مع الكتاب أو السنة الصحيحة فهو مكذوب.
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (436) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد (6/274) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) رواه البخاري ومسلم انظر جامع الأصول حديث 3670(74/199)
الشبهة الرابعة عشر: وهى استدلالهم بآثار وحكايات ضعيفة أو موضوعة وهي مهما كثرت أو صح شيء منها فلا دلالة فيها على جواز التوسل بالجاه أو الذات أو غيرهما من التوسل الممنوع، ذلك أن العقيدة الإسلامية توقيفية على الكتاب وصحيح السنة وما سواهما إن وافق الكتاب والسنة الصحيحة أخذ به مؤيدا وليس دليلا وإن خالفهما أو أحدهما فهو مردود، ونذكر شيئا منها مع بيان درجتها من الصحة والضعف وهل فيها دلالة على ما يزعمونه أم لا؟
الأثر الأول: قال ابن حجر: (وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الداري وكان خازن عمر قال: (أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتي الرجل في المنام، فقيل له: ائت عمر. . . " الحديث.
وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأي المنام المذكور هو(74/199)
بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة) . (1) وممن استدل به السبكي وأحمد بن دحلان، والزهاوي، ومحمد الفقي، ومحل استدلالهم طلبه الاستسقاء من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. (2) .
الجواب: يقال لهم:
أولا: عدم التسليم بصحة هذه القصة؛ لأن مالكا الداري غير معروف العدالة والضبط وهما شرطان أساسيان في كل سند صحيح كما تقرر في علم المصطلح ولا ينافي هذا قول الحافظ بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان؛ لأن التصحيح ليس نصا في تصحيح جميع السند بل إلى أبي صالح فقط، ولولا ذلك لقال عن مالك الداري وإسناده صحيح وعليه فالأثر ضعيف لجهالة مالك فلا يحتج به.
ثانيا: على فرض أن القصة صحيحة فلا حجة فيها لأن مدارها على رجل لم يسم كما أن فيها مخالفة للسنة من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء لاستنزال الغيث من السماء، ولأن عمل الصحابة على خلافها وهم أعلم الناس بعد رسول الله بالشرع ولذا لم ينقل عن أحد منهم أنه أتى إلى قبره صلى الله عليه وسلم
__________
(1) فتح الباري ج 2 ص 495، 496
(2) انظر: شفاء السقام ص 145 والدرر السنية ص9 والضياء الشارق ص 546، والتوسل محمد الفقي ص 154.(74/200)
يسأله السقيا ولا غيرها، ولو كان مشروعا لفعلوه ولو مرة واحدة بل عدل عمر عنه لما وقع الجدب إلى الاستسقاء بالعباس ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فدل ذلك على أن ما فعله عمر هو الحق وأن ما فعله هذا الرجل لو قدر أنه صحيح منكر ووسيلة إلى الشرك.
وأما تسمية السائل في رواية سيف المذكورة (بلال بن الحارث) فمردودة أيضا؛ لأن سيفا هذا هو ابن عمر التميمي متفق على ضعفه عند المحدثين بل قال ابن حبان فيه: (يروي الموضوعات عن الأثبات، وقالوا: إنه كان يضع الحديث) ومن كانت هذه حاله فلا تقبل روايته لا سيما عند المخالفة. .
الأثر الثاني: قال أحمد دحلان: (ذكر السمهودي في خلاصة الوفاء أن من الأدلة الدالة على صحة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ما رواه الدارمي في سننه عن أبي الجوزاء قال: " قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة رضي الله عنها فقالت: انظروا إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف فعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم(74/201)
فسمي عام الفتق". (1) . (2) . كما استدل به محمد الفقي. (3) . وعبد الله الحسيني. (4) .
الجواب: يقال لهم: أولا: هذا الأثر غير صحيح فلا تقوم به حجة لما يلي:
أ- أن في سنده أبا النعمان- محمد بن الفضل- يعرف بعارم - اختلط في آخر عمره قال الذهبي: تغير قبل موته وترك الأخذ منه، وقال البخاري: تغير في آخر عمره، والحكم فيمن اختلط: أن لا يقبل حديث من أخذ منه بعد الاختلاط أو أشكل أمره فلم يدر هل أخذ منه قبل الاختلاط أو بعده؟ وهذا الأثر لا يدرى هل سمعه الدارمي منه قبل الاختلاط أم بعده؟ فهو إذا غير مقبول.
ب- في سنده سعيد بن زيد - فيه ضعف- قال الذهبي: قال: يحيى بن سعيد ضعيف، وقال السعدي: ليس بحجة يضعفون حديثه، وقال النسائي وغيره ليس بالقوي.
ج- في سنده عمرو بن مالك النكري قال الحافظ في التقريب: صدوق له أوهام.
__________
(1) سنن الدارمي ج 1 ص 43 عن أبي النعمان- عن سعيد بن زيد عن عمرو بن مالك النكري عن أبي الجوزاء
(2) الدرر السنية ص 20
(3) انظر: التوسل محمد الفقي ص 155
(4) انظر: إتحاف الأذكياء ص 35.(74/202)
د- في سنده أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال الحافظ في التقريب: يرسل كثيرا، وقال البخاري: في إسناده نظر. (1) .
وقال محمد بشير بعد أن تكلم في سند هذا الأثر: (فقد ثبت من هناك أن هذا الحديث ضعيف منقطع) . (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وما روي عن عائشة رضي الله عنها من فتح الكوة من قبره إلى السماء، لينزل المطر فليس بصحيح ولا يثبت إسناده، وإنما نقل ذلك من هو معروف بالكذب ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة) . (3) .
ثانيا: على فرض أنه صحيح فإنه موقوف على عائشة - فلا يحتج به عند المحققين؛ لأنه يصبح من الآراء الاجتهادية التي يخطئ أصحابها ويصيبون، والعقيدة توقيفيه لا مجال للاجتهاد فيها إضافة إلى ذلك كله فإنه يعارضه ما روي عن عمر أنه أمر بتعمية قبر دانيال خشية الافتتان به، فقد ذكر محمد بن إسحاق عن خالد بن دينار عن أبي العالية قال: (لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب، قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له
__________
(1) انظر: التوسل للألباني ص 140، 141، وصيانة الإنسان ص 253، 254
(2) صيانة الإنسان ص 254
(3) تلخيص كتاب الاستغاثة المعروف بالرد على البكري ص 68، 69(74/203)
بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان الليل دفناه، وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس، لا ينبشونه) . (1)
فانظر ما في هذه القصة من صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعمية قبر هذا الرجل لئلا يفتتن به الناس. (2) ، هذا يؤكد أنه مستحيل من رجال هذا صنعهم أن يبرزوا قبر رسول الله، أو يرضوا بذلك لأجل نزول المطر كما زعم من نقل هذا الأثر.
الأثر الثالث: خبر مرثية صفية عمة الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول أحمد دحلان: (وكذا من أدلة التوسل مرثية صفية رضي الله عنها عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها رثته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بأبيات فيها: قولها:
ألا يا رسول الله أنت رجاؤنا ... وكنت بنا برا ولم تك جافيا
ففيها النداء بعد وفاته مع قولها (أنت رجاؤنا) وسمع تلك المرثية الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكر عليها أحد قولها: " يا رسول الله أنت رجاؤنا ". (3)
__________
(1) السير والمغازى ص 66
(2) انظر: صيانة الإنسان ص 254، 255 والتوسل للألباني ص 141 وإغاثة اللهفان ج 1 ص 222- 228.
(3) الدرر السنية ص 27(74/204)
الجواب: يقال لهم:
أولا: قيل أن هذه القصيدة ليست لصفية رضي الله عنها، يؤيد ذلك أن ابن هشام لم يذكرها في سيرته في جملة المراثي التي قيلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته.
ثانيا: أن هذا الخبر ذكر في سنده أنه عن عروة بن الزبير قال: قالت. (1) صفية: وفيه انقطاع بين عروة وبين صفية جدته لأبيه فقد ولد عروة سنة 29 هـ كما في التهذيب ونحوه.
ولما كانت المرثية عقب وفاته صلى الله عليه وسلم فتكون ولادته بعد القصيدة بتسعة عشر سنة. وصفية ماتت سنة 20 هـ أي قبل ولادة عروة بتسع سنين، وعليه فإن عروة لم يدرك صفية وروايته عن أبيه الزبير مرسلة، فكيف عن أم أبيه فإنها أيضا منقطعة ومرسلة؟
ثالثا: أن في هذا البيت الذي استشهد به تحريفا عن أصله فقد ذكره الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد. (2) فقال: روى الطبراني بإسناد حسن عن عروة بن الزبير قال: قالت صفية ترثي رسول الله صلى الله
__________
(1) انظر: مجمع الزوائد ج 9 ص 42
(2) مجمع الزوائد ج 9 ص 42(74/205)
عليه وسلم:
ألا يا رسول الله كنت رجاؤنا ... وكنت بنا برا ولم تك جافيا
هكذا رواه الطبراني فحرفه أحمد دحلان فقال: (أنت رجاؤنا) ليدل هذا اللفظ على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء في الحياة وبعد الممات.
وإذا ثبت تحريفه بطل الاستدلال به.
أما قول صفية كما رواه الطبراني وهو (كنت رجاؤنا) فهو حجة عليهم، حيث فرقت بين الحياة، وبعد الممات فهو في حياته كانوا يرجعون إليه فيدعو الله لهم، وإنما لجئوا إلى هذا التحريف ليثبتوا باطلهم، وعلى هذا فإن الخبر ضعيف لا تثبت به حجة وعلى فرض صحته فإنه محرف المتن واحتجوا به بعد التحريف.
رابعا: لو قدر أنه صحيح غير محرف فإنه لا دلالة فيه على ما زعموه، ذلك أن المراد من المرثية أنه صلى الله عليه وسلم رجاء بمعنى مرجو في الأمر الذي يقدر عليه في حياته وبعد وفاته فيما ثبت بالكتاب والسنة كونه رجاء فيه.(74/206)
أما ما ورد في الخبر من النداء فنقول:
أولا: أن (يا) هنا للندبة لا للنداء كقول فاطمة رضي الله عنها: يا أبتاه أجاب ربا دعاه.
ثانيا: لو سلم ثبوت النداء منها فلا يثبت منه مطلوب(74/206)
الخصم، ذلك أن النزاع إنما هو في نداء يتضمن الدعاء والطلب مثل أن يقال: يا رسول الله اشفني أو يا رسول الله استغفر لي، فالأول: شرك، والثاني: بدعة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ووسيلة إلى الشرك وليس في المرثية دعاء شيء ولا طلبه، وعليه فلا دلالة في هذا في على ما زعموه.
خامسا: إضافة إلى ما ذكرنا كله فإنه لا يصح الاستدلال في أمور العقيدة بمثل كلمة في جملة ينطق بها صحابي أو صحابية لا سيما في الشعر الذي اعتاد أهله المبالغة في المدح والتلهف، فالله لم يتعبد الأمة بغير قوله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم. (1) .
الرابع: حكاية الإمام مالك مع المنصور في التوسل.
يقول أحمد دحلان: (وإلى هذا التوسل أشار الإمام مالك للخليفة المنصور، وذلك أنه لما حج المنصور وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم سأل الإمام مالكا وهو بالمسجد النبوي فقال لمالك: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدعو؟
فقال له الإمام مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة بل استقبله
__________
(1) انظر: صيانة الإنسان ص 289- 298 (المتن والحاشية) ، والتوصل ص 330- 332(74/207)
واستشفع به فيشفعه الله فيك، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (1) . ذكرها القاضي عياض في الشفا. (2) عن محمد بن حميد (3) .
الجواب: يقال لهم هذه الحكاية غير صحيحة (4) عنه- لأمور:
أولا: في الإسناد علل منها:
أ- أنه منقطع إذ أن فيه محمد بن حميد الرازي - لم يدرك مالكا لا سيما في زمن أبي جعفر فإن أبا جعفر توفي سنة 158 هـ، وتوفي مالك سنة 179 هـ، وتوفي محمد بن حميد سنة 248 هـ، ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه، وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث كذبه أبو زرعة، وابن وارة، وقال صالح محمد الأسدي: ما رأيت أحدا أجرأ على الله منه، وأحذق بالكذب منه. وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير. وقال النسائي: ليس بثقة.
وقال ابن عبد الهادي الحنبلي: (وابن حميد هو محمد بن حميد
__________
(1) سورة النساء الآية 64
(2) الشفاء ج 2 ص 35 بإسناد غريب منقطع- كما قال شيخ الإسلام- انظر: قاعدة جليلة ص 66، 67
(3) الدرر السنية ص 9، 10 كما استدل بها محمد الفقي انظر: التوسل له ص 153.
(4) انظر: قاعدة جليلة ص 70، والصارم المنكي ص 345.(74/208)
الرازي وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته لم يسمع عن مالك شيئا ولم يلقه بل روايته عنه منقطعة) (1) .
ب- أن هذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه ولم تعرف إلا من جهة محمد بن حميد وهو ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته (2) .
ج- أن في الإسناد أيضا من لا يعرف حاله كما قال شيخ الإسلام (3) .
ثانيا: أن أصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه ذلك أنهم إنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين.
فكيف بمسألة فقهية عقدية تناقض مذهبه المعروف عنه مناقضة صريحة رواها واحد من الخراسانين لم يدركه وهو ضعيف عند أهل الحديث (4) .
ثالثا: أن هذه الحكاية مناقضة لمذهب مالك المعروف عنه من
__________
(1) قاعدة جليلة ص 67 والكاشف للذهبي ج 3 ص 32 والصارم المنكي ص 345.
(2) قاعدة جليلة ص 67.
(3) قاعدة جليلة ص 67.
(4) قاعدة جليلة ص 125 (ينصرف) وانظر تقديم المحقق ص 28.(74/209)
وجوه منها:
الأول: قوله: "ولم تصرف وجهك عنه. . . " فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة التابعين أن الداعي إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة ويدعو في المسجد. قال ابن تيمية: (ومذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الإسلام أن الرجل إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو لنفسه فإن يستقبل القبلة) (1) ، أما عند القبر فيقتصر على السلام، بل كره مالك إطالة القيام لذلك (2) .
قال القاضي عياض في المبسوط: عن مالك قال: (لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي) (3) .
الثاني: قوله: (استقبله واستشفع به) كذلك مناقض لمذهب مالك وغيره من سلف هذه الأمة مخالف لأقوالهم وأفعالهم؛ إذ لم يقل به أحد من السلف لا مالك ولا غيره ولم يفعلوه، بل كانوا لا يستقبلون القبر للدعاء لأنفسهم فضلا عن أن يستقبلوه ويستشفعوا به ذلك أنه غير مشروع.
__________
(1) قاعدة جليلة ص 150.
(2) الفتاوى 1 ص 230.
(3) الفتاوى ج1 ص 230.(74/210)
ولذا قال شيخ الإسلام في معرض رده على هذه الشبهة: (فدل ذلك على أن ما في الحكاية المنقطعة من قوله: (استقبله واستشفع به) كذب على مالك مخالف لأقواله وأقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم التي يفعلها مالك وأصحابه ونقلها سائر العلماء) (1) .
رابعا: كذلك مما يؤكد عدم صحتها أن ما نسب إلى مالك منها لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ولا سنه لأمته ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين لا مالك ولا غيره فكيف يجوز أن ينسب إلى مالك مثل هذا الكلام الذي لا يقوله إلا جاهل مع علو قدر مالك وتمام رغبته في اتباع السنة (2) .
فتبين بما ذكرنا أنها غير صحيحة ولو كانت صحيحة مخالفة للكتاب أو السنة لم يلتفت إليها فكيف وهي مكذوبة.
الخامس: حكاية توسل الشافعي بأبي حنيفة وبأهل البيت، يقول أحمد دحلان: (وقال ابن حجر في كتابه المسمى: (بالخيرات الحسان في مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان) في الفصل الخامس والعشرين أن الإمام الشافعي أيام هو ببغداد كان يتوسل بالإمام أبي حنيفة) (3) ،
__________
(1) قاعدة جليلة ص 70.
(2) قاعدة جليلة ص 74، 75. (بتصرف) .
(3) الدرر السنية ص 27، 28، كما أوردها عبد الله الحسيني مستدلا بها في كتابه إتحاف الأذكياء ص 41.(74/211)
وقال أيضا: وذكر العلامة ابن حجر في كتابه المسمى: (بالصواعق المحرقة لإخوان الضلال والزندقة) : أن الإمام الشافعي رحمه الله توسل بأهل البيت النبوي حيث قال:
آل البيت ذريعتي ... وهم إليه وسيلتي
أرجو بهم أعطى غدا ... بيدي اليمين صحيفتي (1)
الجواب: يقال لهم:
أولا: لا بد من رفع الحكايتين إلى أصحابها بسند يعتمد عليه، وإلا فهي مجرد دعوى لا قيمة لها (2) . لا سيما إذا كان المتهم من أشد العلماء تمسكا بالسنة ومحاربة البدعة.
ثانيا: أن الشافعي لما قدم بغداد لم يكن بها قبر ينتاب للدعاء البتة بل ولم يكن هذا على عهد الشافعي معروفا، وقد رأى الشافعي بالحجاز والشام والعراق من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء، فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عند قبر أبي حنيفة؟ (3)
ثالثا: أن الإمام الشافعي يعلم تمام العلم أنه غير مشروع في
__________
(1) الدرر السنية ص 27، 28، كما أوردها عبد الله الحسيني مستدلا بها في كتابه إتحاف الأذكياء ص 41.
(2) انظر صيانة لإنسان ص 29.
(3) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص 343، 344.(74/212)
الكتاب والسنة، ولذا ثبت عنه كراهة تعظيم قبور الصالحين خشية الفتنة بها (1) ، فكيف يقدم على بدعة لا يقرها هذا مستحيل من مثله، ولذا قال ابن تيمية: بعد أن أورد هذه الحكاية: (وهذا كذب معلوم كذبه بالاضطرار عند من له أدنى معرفة بالنقل) (2) . وقال ابن القيم: (والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر) (3) .
رابعا: أن الأبيات المذكورة مكذوبة على الإمام الشافعي لخلوها من السند الصحيح كما أشرت إليه آنفا ولمخالفتها لمنهجه رحمه الله، ولو قدر أنها صحيحة فإنها لا تضمن التوسل بالذات؛ إذ معناها: أن حب آل البيت واتباعهم وشفاعتهم والصلاة عليهم ذريعتي ووسيلتي، وكذا قوله: (أرجو بهم) أي أرجو بحبهم واتباعهم وشفاعتهم، مثل قول عمر: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) فإن المراد إنا كنا نتوسل إليك بدعاء نبينا (4) .
مما ذكرنا اتضح أن هاتين الحكايتين مكذوبتان على الإمام الشافعي رحمه الله،
__________
(1) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص 343، 344.
(2) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص 343.
(3) إغاثة اللهفان ج1 ص 236.
(4) انظر: صيانة الإنسان ص 298، 299.(74/213)
والصحيح من مثلها إذا خالف الكتاب والسنة لا يعتد به فكيف المكذوب.(74/214)
ثالثا: شبهاتهم من العقل: منها ما يلي:
الشبهة الأولى: قياس التوسل بالذات على التوسل بالعمل الصالح.
يقول السبكي: (وإذا جاز السؤال بالأعمال وهي مخلوقة فالسؤال بالنبي صلى الله عليه وسلم أولى) (1)
ويقول أحمد دحلان: (وإذا جاز التوسل بالأعمال الصالحة كما في صحيح البخاري في حديث الثلاثة الذين أووا إلى غار، فالتوسل به صلى الله عليه وسلم أحق وأولى لما فيه من النبوة والفضائل سواء كان ذلك في حياته أو بعد وفاته) (2) .
الجواب: يقال لهم:
أولا: أن هذا قياس، والقياس في العقيدة باطل، ذلك أنها توقيفية على الكتاب والسنة الصحيحة فلا مجال للاجتهاد فيها.
ثانيا: أنه قياس مع الفارق فالتوسل بالأعمال إنما هو التقرب إلى الله بما شرعه لعباده في كتابه أو على لسان رسوله
__________
(1) شفاء السقام ص 136.
(2) الدرر السنة ص 26.(74/214)
صلى الله عليه وسلم إذ هي التي تزكي نفس العامل وتجعله أهلا لقبول دعائه، أما ذات الغير فلم يشرع الله التقرب بها، كما أنها لا تأثير لها البتة في تزكية المتقرب بها مهما كانت تلك الذات فاضلة بعملها المزكي لها، ذلك أن التزكية تأتي من العمل، لا من الذات.
ثالثا: أن قولكم هذا يلزمنا لو قلنا أنه يجوز التوسل بعمل الغير، ونحن لا نقول ذلك ولم يقل به أحد من السلف فإذا كان التوسل بعمل الغير لا يجوز فالتوسل بذاته من باب أولى لا يجوز (1) .
__________
(1) انظر: صيانة الإنسان ص 209، 285 (المتن والحاشية) ، والتوسل للألباني ص 152.(74/215)
الشبهة الثانية: قياس الخالق على المخلوق:
وموجز هذه الشبهة: يقولون: إننا نتوسل بذوات الأنبياء والصالحين عند الله كما نتوسل بأصحاب الجاه والمنزلة عند الملك أو نحوه، أي نجعل الأنبياء أو الصالحين واسطة بيننا وبين الله كما نجعل صاحب الجاه والمنزلة عند الملك واسطة بيننا وبينه في قضاء حوائجنا؛ لأننا لا نقدر أن نصل إلى الله بغير ذلك (1) ، يقول محمد عطا: (وإنما الطلب من هؤلاء الصالحين على
__________
(1) انظر: الدرر السنية ص 26، وشفاء السقام ص 144، والتوسل للألباني ص 145، والقول الجلي ص 41.(74/215)
سبيل التوسط بحصول المقصود من الله تعالى لعلو شأنهم عند سبحانه (1) .
الجواب: يقال لهم:
أولا: هذا قياس. والقياس في العقيدة باطل إذ هي توقيفية قل مجال للاجتهاد فيها.
ثانيا: أن فيما زعمتم تشبيها للخالق بالمخلوق وهذا باطل قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) .
ثالثا: قياسكم قياس مع الفارق، فالمخلوق قد تعتريه علل تستلزم وجود الواسطة بينه وبين صاحب الحاجة، من ظلم أو كبر جهل أو منفعة يتطلع إليها أو غيرها من العلل التي تكون حائلة دون قضاء مصالح الناس، أما الخالق فيتنزه عن هذه العلل وغيرها فهو الغني القريب المجيب السميع العليم الرؤوف الرحيم.
رابعا: عندما قستم الله بخلقه شبهتموه بأصحاب الصفات الدنيئة الذين لا يعطون الناس حقوقهم إلا بواسطة، إنكم لو شبهتموه سبحانه وتعالى بأصحاب الصفات الفاضلة لكفرتم فكيف وقد شبهتموه بأصحاب الصفات الدنيئة (3) .
__________
(1) انظر: الأقوال المرضية له ضمن ''الصواعق المرسلة لابن سحمان'' ص 144.
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) انظر صيانة الإنسان ص 180- 182 والتوسل للألباني ص 146- 148 والقول لفصل النفيس ص 79.(74/216)
قال شيخ الإسلام: (وإن أثبتم وسائط بين الله وبين خلقه كالحجاب الذين بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فالله تعالى إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك الحوائج للناس لقربهم منهم والناس يسألونهم، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك وهؤلاء مشبهون لله شبهوا الخالق بالمخلوق وجعلوا لله أندادا) (1) .
__________
(1) الفتاوى ج1 ص 126.(74/217)
الخاتمة:
بسم الله بدأنا وبحمده والشكر له ختمنا ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد: فإلى القارئ الكريم بعض النتائج التي توصلت إليها من هذا البحث المتواضع.
إنه من دراستي للتوسل المشروع والممنوع توصلت إلى نتائج هامة منها- ما يلي:
الأولى: أن التوسل في أصل اللغة هو: التقرب إلى المطلوب.
وأن الوسيلة: في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به.
الثانية: أن التوسل في الشرع: هو التقرب إلى الله تعالى بما شرعه في كتابه أو على لسانه رسوله صلى الله عليه وسلم وأن الوسيلة هي: ما يتقرب به إلى الله رجاء حصول مرغوب أو دفع(74/217)
مرهوب من فعل الواجبات والمستحبات أو ترك المنهيات.
الثالثة: أن الوسيلة تكون مشروعة وتكون ممنوعة- فما وافق الكتاب وصحيح السنة فهي مشروعة وما خالفهما أو أحدهما فهي ممنوعة.
وعليه فالتوسل قسمان: مشروع وممنوع.
الرابعة: أن التوسل المشروع هو ما وافق الكتاب أو صحيح السنة.
ومن أنواعه:
الأول: التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته.
الثاني: التوسل بالأعمال الصالحة.
الثالث: التوسل بدعاء الصالح الحي.
الرابع: التوسل بذكر الحال.
الخامسة: أن التوسل الممنوع: هو تقرب العبد إلى الله بما لم يثبت في الكتاب ولا في صحيح السنة أنه وسيلة، وأنه نوعان:
الأول: التوسل بوسيلة نص الشارع على بطلانها مثل توسل المشركين بآلهتهم.
الثاني: التوسل بوسيلة دلت قواعد الشرع على بطلانها.
ومن أنواعه:
1 - التوسل إلى الله بذات مخلوق.(74/218)
2 - التوسل إلى الله بجاه مخلوق أو حقه ونحوهما.
3 - التوجه إلى ميت طالبا منه أن يدعو الله له.
4 - أن يسأل العبد ربه حاجته مقسما بنبيه أو وليه أو بحق نبيه أو وليه ونحوهما.
السادسة: أن التوسل الممنوع محرم ذلك أنه إما شرك كأن يعتقد في المتوسل به شيئا من النفع أو الضر من دون الله، أو وسيلة إلى الشرك كأن يتوسل بجاه أو ذات مخلوق، ونحو ذلك، أو يتوجه إلى ميت طالبا أن يدعو الله له.
إذ في ذلك إطراء للمتوسل به يجر شيئا فشيئا إلى اعتقاد أن فيه نفعا من دون الله ومن ثم يحصل دعاؤه فيقع في الشرك.
السابعة: أن التوسل الممنوع باطل بنوعيه:
أما الأول: فبطلانه ظاهر ولذا نص الشارع، على بطلانه إذ هو عين الشرك.
وأما الثاني: فإنه لم يرد له دليل في الكتاب أو السنة الصحيحة ويؤكد ذلك أن الصحابة وغيرهم من أهل القرون المفضلة لم يعملوا به ولو كان موجودا فيهما أو في أحدهما لعملوا به كما أنه ذريعة إلى الشرك.
الثامنة: التوسل بالذات إضافة إلى أنه لم يرد له دليل في(74/219)
الكتاب ولا السنة الصحيحة فإن فيه شبها بتوسل المشركين بآلهتهم كما أن فيه انتقاصا لله تعالى وتنزيلا له منزلة المخلوق الذي يحابي في فضله وحكمه فيعطي من له وسيط أكثر مما يعطي غيره ويحرم من ليس له وسيط لجهله بحاله وبعده عن مقاله.
التاسعة: أن في التوسل بدعاء الميت، دعاء ميت وقد ورد النهي عنه والوعيد عليه، إذ هو شرك أو ذريعة إلى الشرك.
العاشرة: التوسل بالجاه أو الحق ونحوهما: إضافة إلى عدم ثبوته بالكتاب والسنة الصحيحة فإن فيه توسلا بعمل الغير وفيه اعتداء بالدعاء، كما أنه يتضمن أن للمخلوق حقا على الله وليس على الله حق إلا ما أحقه على نفسه بوعده الصادق.
الحادية عشر: الإقسام على الله بالمتوسل به، إضافة إلى عدم ثبوته في الكتاب والسنة الصحيحة فإن فيه إقساما بغير الله وفيه تعظيم للمخلوق ورفعه فوق منزلة الخالق، إذ من المسلم به أن المحلوف به يكون أعظم من المحلوف عليه.
الثانية عشر: أن من قال بشيء من التوسل الممنوع إنما تمسك بشبهات من الكتاب أو السنة أو أقوال أو أفعال الصحابة والتابعين أو العقل.
الثالث عشر: لقد اتضح من مناقشة شبهاتهم: أن استدلالهم(74/220)
بالكتاب خاطئ نتج عن سوء فهمهم لكتاب الله بل هو حجة عليهم في بعض ما استدلوا به.
أما السنة وأقوال وأفعال الصحابة والتابعين فهو إما استدلال في غير محله، أو حديث أو أثر ضعيف أو موضوع.
أما شبهاتهم من العقل: فهي تستلزم القياس وهو مردود، إذ العقيدة توقيفية لا مجال للاجتهاد فيها.
كما أنها تستلزم تشبيه الله بخلقه وهو باطل، إذ لا شبيه له سبحانه. قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1)
ومما ذكرنا اتضح بطلان قول من قال بالتوسل الممنوع أو شيء منه.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
صفحة فارغة
__________
(1) سورة الشورى الآية 11(74/221)
صفحة فارغة(74/222)
الغلو في الدين
معناه، وتاريخه، وأسبابه
لفضيلة الدكتور علي بن عبد العزيز الشبل (1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، أما بعد:
فقد ثبت في الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه الحديث. ويقول الناس في أمثالهم: " الزيادة أخت النقصان "، بل ربما يكون ضرر الغلو والزيادة على الدين وصاحبه أشد وأعظم من ضرر النقص والتقصير، لذا حذرنا المولى سبحانه وتعالى، وحاذرنا الغلو في الدين في آيات كقوله من آخر
__________
(1) أستاذ العقيدة، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.(74/223)
سورة النساء: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (1) وكقوله في سورة المائدة: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (2)
كما نهانا سبحانه عن طريق الطغيان في غير ما آية: منها قوله من آخر سورة هود: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (3)
ومن السنة في النهي عنه ما خرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة (4) » ، وفي رواية أخرى زاد: «والقصد القصد تبلغوا (5) » .
وحديث ابن عباس المشهور في جمع حصى الجمار قوله صلى الله عليه وسلم له: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (6) » رواه أحمد وبعض أهل السنن (7) .
__________
(1) سورة النساء الآية 171
(2) سورة المائدة الآية 77
(3) سورة هود الآية 112
(4) صحيح البخاري الإيمان (39) ، صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2816) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5034) ، سنن ابن ماجه الزهد (4201) ، مسند أحمد (2/537) .
(5) صحيح البخاري الرقاق (6463) ، مسند أحمد (2/537) .
(6) سنن النسائي مناسك الحج (3057) ، سنن ابن ماجه المناسك (3029) ، مسند أحمد (1/215) .
(7) سيأتي تخريجهما إن شاء الله.(74/224)
وفي هذا ما وصف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال لما رأى ما أحدث من الأمور: " أيها الناس، من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من دينهم وأخلاقهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" (1)
لهذا كله ولما جره الغلو على المسلمين في دينهم قولا وعملا وقبل ذلك اعتقادا وواقعا وفكرا ومنهجا منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم مرورا بفترات تاريخنا المختلفة إلى عصرنا المشهود وما جره ذلك من الأخطار العظيمة والمصائب الجسيمة والمناهج المتباينة على حياتهم وأحوالهم العلمية والفكرية والاجتماعية والسياسية، وقبل ذلك وبعده الحال الدينية من الغلو في العبادة والغلو في المعصية وفي البدعة، والغلو في العادة، ولما رأيت من الخلط العجيب بين التمسك بالدين والتزامه وبين دعوى الغلو والتطرف والأصولية، وهو الناشئ من الجهل
__________
(1) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، ورواه غيره.(74/225)
بأحدهما أو بهما معا، وعدم العود بالغلو إلى أصوله الحقيقية وأسبابه الواقعية التي منها نشأ وتفرع في صور عديدة بين المسلمين وغيرهم، رأيت المشاركة في هذه القضية بهذا المختصر، الذي جمع في متناثر مباحثه وقضاياه: حد الغلو وحقيقته، وتاريخه ونشأته، وعلاقته بالأمم قبلنا، وأسبابه، وما ورد في الشرع الحنيف من التحذير منه وذمه.
هذا مجمل محتواه، فإن أصبت فيه فمن توفيق ربي وهدايته، وإن كان غير ذلك فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله منه، وأستغفر الله وأتوب إليه، وأشكر هاهنا مشايخ كراما تفضلوا بالاطلاع على المختصر وسددوه وأوصوا بطبعه ونشره، فجزاهم المولى خير الجزء وأوفره.
والله أسال أن يهدينا سواء السبيل، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ومن نزغات الشياطين، وأن ينفع بهذا المختصر من كتبه وقرأه ونشره، ضال المسلمين وجاهلهم، وأن(74/226)
يجعله لوجهه خالصا، وللزلفى لديه مقربا، ولمرضاته محققا، ومن عذابه وسخطه مخلصا.
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم، واتبع هديهم، وسلم تسليما، والحمد لله رب العالمين، الذي بنعمته تتم الصالحات.(74/227)
أولا: حد الغلو
بالرجوع إلى المصادر والمعاجم اللغوية تبين أن الغلو هو: مجاوزة الحد وتعديه.
- حيث قال الجوهري في الصحاح: "غلا في الأمر يغلو غلوا، أي جاوز فيه الحد" اهـ.
- وقال الفيروز آبادي في القاموس: "غلا غلاء فهو غال وغلي ضد الرخص، وغلا في الأمر غلوا جاوز حده" اهـ.
- ووافقه الزبيدي في تاج العروس.
- وقال ابن منظور في اللسان: " أصل الغلاء: الارتفاع ومجاوزة القدر في كل شيء، يقال: غاليت صداق المرأة أي أغليته، ومنه قول عمر رضي الله عنه: " ألا لا تغالوا في صدقات النساء " وفي رواية: "لا تغالوا في صدق النساء". أي لا تبالغوا في كثرة الصداق".
وغلا في الدين والأمر يغلو غلوا، جاوز حده.
قال: قال بعضهم: غلوت في الأمر غلوا وغلانية وغلانيا إذا جاوزت فيه الحد وأفرطت فيه، ويقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا. قال ذو الرمة:
فما زال يغلو حب مية عندنا ... ويزداد حتى لم نجد ما نزيدها
اهـ.(74/228)
وقال الفيومي في المصباح المنير: " وغلا في الدين غلوا من باب قعد وتصلب وتشدد حتى جاوز الحد، وفي التنزيل: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (1) ، وغالى في أمره مغالاة بالغ" (2) اهـ.
وقال ابن فارس في المعجم: " غلوى: الغين واللام المعتل أصل صحيح في الأمر يدل على ارتفاع ومجاوزة قدر، يقال: غلا السعر يغلو غلا وذلك ارتفاعه، وغلا الرجل في الأمر غلوا إذا جاوز حده" اهـ. وكذا نحوه في المجمل (3) .
- فمما سبق يتبين أن الغلو في سائر استعمالاته يدل على الارتفاع والزيادة ومجاوزة الأصل الطبيعي أو الحد المعتاد.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر: «أي الرقاب أفضل قال: أغلاها ثمنا وأنفعها عند أهلها (4) » ، متفق عليه.
وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل على أخمص قدمية جمرتان يغلي منها دماغه كما يغلي المرجل (5) » ، متفق عليه.
- فغلا الثمن: إذا ارتفع وزاد سعره.
__________
(1) سورة النساء الآية 171
(2) كلهم في مادة غلا.
(3) في المجمل مادة غلا والمعجم مادة غلوى.
(4) صحيح البخاري العتق (2518) ، صحيح مسلم الإيمان (84) ، سنن النسائي الجهاد (3129) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2523) ، مسند أحمد (5/171) ، سنن الدارمي الرقاق (2738) .
(5) رواه البخاري في كتاب العتق، باب أي الرقاب أفضل، ورواه مسلم في كتاب الإيمان، باب كون الإيمان بالله أفضل الأعمال رقم 84.(74/229)
- وغلت القدر: إذا زادت حرارتها وارتفعت.
- وغلا في مشيه: إذا أسرع وزاد فيه.
- وتغالى اللحم: ارتفع وذهب، ومنه قول لبيد بن أبي ربيعة:
فإذا تغالي لحمها وتحسرت ... وتقطعت بعد الكلال حذافها
وهكذا غالبا فإن معنى الغلو الزيادة والارتفاع، سوى بعض اشتقاقاتها التي توضع علما على شيء معين فمظانها كتب المعاجم اللغوية.
- فعليه: الحد اللغوي لكلمة غلو هو: الزيادة ومجاوزة الحد المألوف.(74/230)
حقيقة الغلو:
لما كان المعنى الاصطلاحي يقوم على المعنى اللغوي، ويخصص عموم إطلاقه، رجعنا إلى النصوص الواردة في الغلو من الكتاب والسنة.
فمن الكتاب:
قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (1)
فقد قال القرطبي في تفسيره 6\21 لما ذكر المعنى اللغوي:
__________
(1) سورة النساء الآية 171(74/230)
ويعني بذلك فيما ذكره المفسرون: غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه ربا، فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر، ولذلك قال مطرف بن عبد الله الشخير: الحسنه بين سيئتين. وقال الشاعر:
لا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
اهـ
- وكذا قال جمع من المفسرين منهم: ابن جرير في جامعه 4\ 46، والبغوي في معالم التنزيل 2\ 313، وابن كثير في تفسيره 1\ 589، وأبو حيان في بحره 3\ 400، والزمخشري في كشافه 1\ 315، وابن طيفور السجاوندي (560 هـ) في عين المعاني 4\ 1348، وعبد الرحمن العليمي الحنبلى (928 هـ) في فتح الرحمن 2\ 755، وصديق حسن خان في فتح البيان 2\415، والشوكاني في فتح القدير 1\540، ومحمد رشيد رضا في تفسيره 6\67، وعبد الكريم الخطيب في تفسيره ص 1107 (وإن كان القول عند بعضهم محتملا) ، وحكى ابن الجوزي في زاد المسير 2\ 260 والماوردي (450 هـ) في تفسيره ص 1106، وذكر اختلاف العلماء في تفسير الآية بذكر قول من خصص الآية بالنصارى وحدهم، وهو الذي عليه جمع من المفسرين، وفي بعض من سبق الإحالة إليهم.
فالذي يفهم من هذه الآية {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (1)
__________
(1) سورة النساء الآية 171(74/231)
عمومها لجميع أهل الكتاب من يهود ونصارى، إذ العبرة بعموم اللفظ ودلالة السياق تدل عليه أيضا، فإن النصارى زادوا وجاوزوا الحد في نبي الله عيسى فرفعوه عن منزلته، وإن اليهود جفوا وفرطوا في حقه فغلوا في الجفاء والتفريط وزادوا فيهما، حتى قذفوا أمه الطاهرة العذرية بما برأها الله تعالى منه.
ومن احتج على خصوص الآية بالنصارى بتقدم سياق الآيات السابقة لها في اليهود، وهذه الآية آخرها يدل على قول النصارى وكفرهم، زعمهم بالأكاذيب الثلاثة، فيجاب عليه بما سبق من عموم لفظة أهل الكتاب، وانطلاقه إلى اليهود والنصارى ما لم توجد قرينة ولم توجد، وباستمرار السياق في بني إسرائيل في هذه الآية وما قبلها يدل على العموم من اليهود والنصارى، إذ كل منهم غلا في دينه كما سيأتي تحديد الغلو، وقول كل منهم على الله غير الحق، فليس عيسى ربا أو ابنا لله، أو ثالث ثلاثة، وليس هو ابن فحش وزنا وبغاء.
ثم إن آخر الآية يختص بالنصارى من قول الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} (1) وذلك لعظم جرمهم في التوحيد؛ لأن عيسى نبيهم وهاديهم إلى الفطرة السليمة والملة القويمة، وأنهم هم من ادعوا فيه تلك الدعوى الظالمة، فكان آخر الآية مخصوصا بالنصارى لذلك.
ومنه آيات عديدة جاءت في النهي عن الطغيان وهو غلو في الغي كما قال تعالى في آخر سورة طه لبني إسرائيل: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} (2)
__________
(1) سورة النساء الآية 171
(2) سورة طه الآية 81(74/232)
وقوله عن فرعون وملئه في غير ما آية {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (1) ، وقال عن الخاسر صاحب الجحيم: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} (2) {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (3)
وقال في آخر سورة هود: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (4)
ومن السنة:
- ما رواه الأربعة من قول عمر: " ألا لا تغالوا في صدق النساء ".
- ولما رواه أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تغالوا في الكفن، فإنه يسلبه سلبا سريعا (5) » .
__________
(1) سورة طه الآية 24
(2) سورة النازعات الآية 37
(3) سورة النازعات الآية 38
(4) سورة هود الآية 112
(5) رواه أبو داود في كتاب الجنائز، باب كراهية المغالاة في الكفن (3154) ، من طريق أبي مالك الجنبي، وهو عمرو بن هاشم الكوفي، لين الحديث، وشدد فيه ابن حبان في كتابه، المجروحين.(74/233)
فقد قال صاحب المنهل العذب المورود 8\ 313، 314: أي لا تبالغوا في ثمنه، ولا تجاوزوا الحد الشرعي فيه، فإن الكفن يبلى على الميت سريعا فلا ينتفع به، والمغالاة في إضاعة المال.
قال: باب كراهية المغالاة في الكفن: " أي الزيادة عن الحد الشرعي، ويقال: غاليت في الشيء وغلوت فيه إذا جاوزت فيه الحد. اهـ. قال البيهقي: وهو ضعيف فيه عمرو بن هشام تكلموا فيه.
وكذا قال نحوه في عون المعبود 8\429، 430: وضعف إسناده ونقل عمن ضعفه.
- ومما ورد في السنة أيضا: ما رواه أحمد بإسناده عن عبد الرحمن بن شبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به (1) » .
- وحديث ابن عباس رضي الله عنه قال: «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته: "القط لي حصى"، فلقطت له سبع حصيات هن حصى الحذف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول: "أمثال هؤلاء فارموا، ثم قال: يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من قبلكم الغلو في الدين (2) » . رواه أحمد وابن ماجه والحاكم وغيرهم.
__________
(1) الفتح الربانى 18 \ 28.
(2) سنن النسائي مناسك الحج (3059) ، سنن ابن ماجه المناسك (3029) ، مسند أحمد (1/215) .(74/234)
- وفي حديث أبي هريرة في البخاري مرفوعا: «لن ينجي أحدا عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا (1) » .
- فمما سبق يتبين أن الكتاب والسنة يخصصان عموم اللغة، وأن الغلو هو: "الإفراط في مجاوزة المقدار المعتبر شرعا في أمر من
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق بهذا اللفظ، باب القصد والمداومة على العمل، وأخرجه أيضا الإمام مسلم في صحيحه في كتاب صفات المنافقين، باب لن يدخل الجنة أحد بعمله برقم 2816.(74/235)
أمور الدين".
فالنصارى جاوزوا المقدار المعتبر في حق عيسى عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فأفرطوا إلى القول بألوهيته وربوبيته. واليهود جفوا في حقه فزادوا في التفريط تجاوزا بلغ الغلو فيه إلى القول بأنه ابن زنا وبغي، وقذفوا أمه، فهم غلاة في جفائه.
وكذلك حال المعطلة الذين غلوا في التنزيه فأفرطوا، وحال المشبهة الذين غلوا وزادوا في الإثبات حتى غلوا في الإثبات، وسيأتي الكلام عليهم في موضعه إن شاء الله، وعلى هذا فقس.(74/236)
علاقة الغلو بالإفراط والتطرف:
الغلو في الحقيقة أعلى مراتب الإفراط في الجملة، فالغلو في الكفن هو المغالاة في ثمنه والإفراط فيه.
والغلو أخص من التطرف إذ إن التطرف هو مجاوزة الحد والبعد عن التوسط والاعتدال إفراطا أو تفريطا، أو بعبارة أخرى: سلبا أو إيجابا، زيادة أو نقصا، سواء كان غلوا أم لا، إذ العبرة ببلوغ طرفي الأمر، وسبق الغلو في قول القائل:
لا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
فالغلو أخص من التطرف باعتبار مجاوزة الحد الطبيعي في الزيادة والنقص، في حال النقص يسمى غلوا إذا بالغ في النقص،(74/236)
فيقال: غلا في النقص، كما سبق في قول اليهود في المسيح ابن مريم عليهما الصلاة والسلام، وكذلك في الزيادة إذا بالغ فيها كقول النصارى في المسيح ابن مريم.
والتطرف: الانحياز إلى طرفي الأمر، فيشمل الغلو، لكن الغلو أخص منه في الزيادة والمجاوزة، ليس فقط بمجرد البعد عن الوسط إلى الأطراف، أو بمعنى آخر: كل غلو فهو تطرف، وليس كل تطرف غلو.(74/237)
الفرق بين التمسك بالنصوص والغلو:
في الواقع لا تلازم بين التمسك بالنصوص والغلو، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم أشد الناس تمسكا والتزاما لنصوص الشريعة مطلقا، ومع هذا لم يحصل لهم غلو أو تشديد إلا في قضايا عينية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أرشد عليه الصلاة والسلام أصحابه إليها، وعلمهم وبين لهم طريق العبادة المعتدل، فانتهوا وتركوا ما هم عليه.(74/237)
وسببه هو موافقة هذا الالتزام منهم رضي الله عنهم لعلم صحيح، وفهم سليم وهمة حريصة على العلم والبصيرة، فتجرا من الغلو فضلا عن الاستمرار فيه، لكن لما بعد الناس عن زمان الأفاضل، وصار الدين غريبا، وأطبق الجهل على كثير من أهل الإسلام، صار المتمسك بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم العاض عليها بنواجذه منبوذا مستهزءا به في تلك المجتمعات، وأطلقوا عليه عبارات النبز كالمتزمتين والغالين والمتطرفين والأصوليين، ونحوها من الألقاب التي روجتها بعض وسائل الإعلام.
والواقع أن التمسك بنصوص الكتاب والسنة، وفهمها فهما صحيحا يعتبر عند هؤلاء المتهاونين بأحكام الشريعة الغافلين عنها غلوا وتطرفا وذلك بالنظر إلى ما هم عليه من تفريط ظاهر وقصور في التزام منهج الإسلام جلي ملموس.
ولنأخذ مثالا يوضح ما سبق: فدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية اتهمت من كثير من الناس علماء وغيرهم بتكفير الناس الذي هو مظهر من مظاهر الغلو البارزة أو أنهم خوارج ونحوها من ألقاب تفيد مجاوزة اعتدال الإسلام وسماحته، ينبزونهم بألفاظ هي في الشريعة وصف لأقوام متشددين لا فقه لهم ولا نظر، وهي من ذلك براء براءة الذئب من دم يوسف(74/238)
عليه السلام، لكن ما حيلة من شرق بها إلا ذلك.
والملاحظ أن المتمسكين بمدلولات النصوص الشرعية يكونون غلاة متشددين بنسبتهم إلى المفرطين الذين يحملون الإسلام وصفا، وعند نسبتهم إلى ميزان الشريعة لم نجد عندهم معنى التمسك المطلوب، فالمقصرون يلمزون المتمسكين بالغلو والتطرف على أن ما هم عليه هو اعتدال الإسلام وتوسطه، وما أظهروه هو الاعتدال وهو في الحقيقة ليس كذلك إذ هو التقصير والتفريط في بعض شعائر الإسلام وأحكامه ولا يخفى أن من يتهم البعض بالتطرف أو الغلو غايته التنفير والتحذير منهم وليس لكونهم متجاوزين لحدود الشريعة ووسطية الإسلام كمن اتهم دعوة الشيخ السلفية الإصلاحية بذلك.
أعني أن هذه الدعاوى ليست من باب الأسماء والأحكام أو لتبين معاني شرعية بقدر ما هي لأغراض وأهواء ذاتية أو محدودة، فتكون بذلك من تحميل مصطلحات الشارع ما لا تحتمل، ومن استعمال المعاني الشرعية في الأغراض الشخصية الضيقة والغايات السياسية المحدودة.(74/239)
ثانيا: تاريخ الغلو ونشأته عند المسلمين:
الغلو قديم في البشرية وجد قبل إرسال الله تعالى الرسل،(74/239)
وذلك بعد آدم عليه السلام بزمن إلى أن أرسل الله رسوله نوحا عليه السلام. فلقد غلا قوم نوح قبل مجيئه إليهم في أقوام كانوا صالحين فغلوا في محبتهم حتى عبدوهم من دون الله، ثم أنهم صوروا لهم أصناما تكون رمزا لعبادتهم حتى ظهرت بدعتهم إلى جاهلية العرب قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (1) .
أخرج البخاري بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما، قال في هذه الآية: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطفان، وأما يعوق فكانت لهمذان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت"اهـ.
والأنصاب جمع نصب وهو الصنم ينصب للميت لتخليد ذكراه، هذه في الحقيقة تمثل نوعا من الغلو، في باب الغلو في
__________
(1) سورة نوح الآية 23(74/240)
الأشخاص.
ثم وجد بعد ذلك نوع من الغلو عند بني إسرائيل من يهود ونصارى كما سبق في قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (1) ، كما وجد الغلو في التكفير عند كل من اليهود للنصارى والعكس حتى أدى بهم الأمر إلى استباحة دم كل منهما الآخر. .
فاليهود تقر مبدأ القتال لأنه مرتبط بوجودهم وبقائهم وأنهم أبناء الله وأحباؤه وما سواهم خدم لهم مسخرون لأجلهم وأميون.
والنصارى تقرر أنها وارثة اليهودية بشريعة عيسى عليه السلام، كما نقموا على اليهود لأنهم صلبوا عيسى عليه السلام كما يظنون.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 171
(2) سورة المائدة الآية 18(74/241)
نشأة الغلو عند المسلمين:
ذكرت وجود حالات فردية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في الغلو لكنها لا تذكر لقلتها ولعدم استمراريتها ولأنها لا تمثل عقيدة أو منهجا، بل سرعان ما تزول عند معرفة الصواب وهو أمر طبيعي في أي دعوة خاصة دعوة الإسلام وسببها- والله أعلم - التباين والاختلاف في فهم أحكام الشريعة ومقاصدها وكذلك اختلاف قوة الدافع نحو هذه الدعوة وأحكام شرعها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم استطاع أن يفقه أصحابه ويعلمهم ليصححوا ما قد يحصل من بعضهم من غلو- إن جاز التعبير- كما سبق في الأمثلة، منهم الثلاثة الذين تقالوا عبادته صلى الله عليه وسلم، لكن سرعان ما رجعوا إلى الاعتدال لما فقهوا. .
ولما قتل عثمان رضي الله عنه ظلما وعدوانا وغدرا ظهرت الفتن وثارت أعاصير الشبهات وأقبلت الفتن مهرولة يحمل رايتها الغلو والتطرف فكان غلو الخوارج وتشددهم وخاصة في التكفير وموقفهم من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم ظهرت غالية السبائية: نسبة إلى عبد الله بن سبأ أول من أوقد الزندقة في الإسلام(74/242)
في ذات علي رضي الله عنه، فقد قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص 434: "وفي أيامه- يعني عليا - خرجت المغالية وادعوا أن في علي الإلهية، قال الحافظ ابن حجر: ورد من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعلي: إن هنا قوما على باب المسجد يزعمون أنك ربهم، فدعاهم علي وقال لهم: ويلكم إنما أنا مثلكم آكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني وإن عصيته خشيت أن يعذبني فاتقوا الله وارجعوا فأبوا فلما كان الغد غدوا عليه، فجاءه قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فسأل فأدخلهم، فقالوا كذلك، فلما كان اليوم الثالث قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك، فقال: يا قنبر ائتني بفعلة معهم مرورهم- عمالا معهم أدوات حفرهم- فخد لهم أخدودا بين المسجد والقصر وقال لهم: احفروا فأبعدوا في الأرض وجاء بالحطب فطرحه في النار في الأخدود وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا، فقذف بهم حتى احترقوا وقال:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا
وإسناده حسن.
وفي الصحيح أن ابن عباس لما بلغه تحريقهم قال: لو كنت أنا(74/243)
لم أحرقهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تعذبوا بعذاب الله (1) » . ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (2) » . (3) ، فبلغ ذلك عليا فقال: صدق ابن عباس اهـ. (4) .
وهذه الحادثة مشهورة في التاريخ ذكرها جملة من أهل المقالات ولولا الإطالة لأحلت إلى كتبهم وقد وقفت على قول لبعض المعاصرين.، ينكر فيه هذه القصة ويدعى أنها: "خبر مختلق من أساسه ولم يرد على صورة فيها ثقة، في كتاب معتبر من كتب التاريخ، وينتهي بنا المطاف إلى فائدة عظيمة هي أن السبئية ركام من التهم ألقيت على جماعة إن عن قصد أو عن غير قصد" اهـ.
قلت: من فمك أدينك، فهذه القصة ليست مختلقة بل توارد
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3017) ، سنن الترمذي الحدود (1458) ، سنن النسائي تحريم الدم (4065) ، سنن أبي داود الحدود (4351) ، سنن ابن ماجه الحدود (2535) ، مسند أحمد (1/323) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (3017) ، سنن الترمذي الحدود (1458) ، سنن النسائي تحريم الدم (4060) ، سنن أبو داود الحدود (4351) ، سنن ابن ماجه الحدود (2535) ، مسند أحمد بن حنبل (1/282) .
(3) رواه البخاري في كتاب الجهاد، باب لا يعذب بعذاب الله.
(4) مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ص 434(74/244)
عليها جمع من المؤرخين وكتاب المقالات كما ذكرت بعضا منهم في كتابك والأعجب من هذا أن رويت بإسناد حسن كما قاله الحافظ ابن حجر.
بل حديث ابن عباس في البخاري قرينة واضحة على وقوع تلك الحادثة، وعليه فلا مدخل من هنا على تكذيب هذه الحادثة لمن نظر وتعقل ومن صحيح الحديث لم يتكدر.
وبعد هذا ندرك كيف كانت هذه الطغمة الفاسدة السبئية أول مظاهر الغلو الحقيقي وأكثرها رواجا على غلاة الرافضة خاصة، وباقي الفرق الإسلامية عامة، وحسبك أن تنظر إلى كتاب واحد من كتب الملل والمقالات لترى.
ولم نعتد بغلو الخوارج على أنه أول للآتي:
- أن غلوهم أخف بكثير من غلو هؤلاء السبئية بعلي رضي الله عنه.
- الخوارج وقعوا فيما وقعوا فيه عن سفه ونقص في عقولهم وبصيرتهم وعلومهم.(74/245)
فلم يكن قصدهم إفساد الدين والمسلمين- قطعا- كما هو الحال عند غلاة الرافضة. فعليه فأجلى مظاهر الغلو ومنشؤه عند المسلمين هو غلو السبئية نسبة إلى عبد الله بن سبأ الهمذاني اليهودي الصنعاني المكنى بابن السوداء الذي أسلم في عهد عثمان وقاد الفتنة بين الصحابة وعلي ومن معه، وكان ناشر مقولة الغلاة في تأليه علي وقد نفاه علي إلى ساباط المدائن حيث لم يصرح أمامه بقوله بألوهيته.
إذن يمكن القول بأن نشأة الغلو في الإسلام بهذا الفكر، وتلك العقائد إنما كان بسبب عبد الله بن سبأ اليهودي أبعده الله.(74/246)
علاقة نشأة الغلو عند المسلمين بالعقائد القديمة:
إذا تقرر أن أول غلو نشأ عند المسلمين، وأثر على القرون اللاحقة هو غلو عبد الله بن سبأ في ذات علي رضي الله عنه، وأن ابن سبأ شخصية حقيقية تكاد مصادر العقائد تجمع على أنه أول من دعا إلى فكرة تقديس علي ثم آل بيته. (1) ، وأنه يهودي أصلا وكانت بعض العقائد القديمة موجودة عند فرق الإسلام والغلاة، خاصة الرافضة، لما كان هذا موجودا جعل بعض المعاصرين يبحث في نظريات الغلو عند المسلمين من أين جاءت؟
فمن قائل إنها من أصل هندي أو مجوسي أو يهودي أو
__________
(1) كما في نشأة الفكر الفلسفي 1\68(74/246)
نصراني أو من أصل عربي. .
والواقع أن ما عند الغلاة هو حصيلة أغلب تلك العقائد مع التأثر الملحوظ باليهود خاصة أنه دين أول فرقة غالية في الإسلام (1) .
وهذا قول أعرف الناس بالرافضة وهو الإمام الشعبي التابعي الجليل (104 هـ) . فقد روى أبو القاسم اللالكائي الطبري بسنده إلى عبد الرحمن بن مالك بن مغول عن أبيه قال: "قال الشعبي: يا مالك لو أردت أن يعطوني رقابهم عبيدا أو أن يملئوا بيتي ذهبا- يعني الرافضة - على أن أكذب لهم على علي لفعلوا، ولكن والله لا أكذب عليه أبدا، يا مالك: إنني قد درست هذه الأهواء كلها فلم أر قوما هم أحمق من الخشبية - من فرق الرافضة - لو كانوا من الدواب لكانوا حمرا، ولو كانوا من الطير لكانوا رخما. وقال: أحذرك الأهواء المضلة وشرها الرافضة، وذلك أن من يهود من يغمصون الإسلام
__________
(1) طبعت أخيرا دراسة حول هذا الموضوع في مجلدين عنوانها ''بذل المجهود في إثبات مشابهة الرافضة لليهود''.(74/247)
لتحيا ضلالتهم، كما غمص بولس بن شاؤول ملك اليهود دين النصرانية، لم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة من الله، ولكن مقتا لأهل الإسلام، وطعانا عليهم، فأحرقهم علي بن أبي طالب بالنار ونفاهم من البلدان: منهم عبد الله بن سبأ نفاه إلى ساباط، وعبد الله بن يسار نفاه على خازر وأبو الكروس وابنه إلى الجابية ".
وذلك أن محنة الرافضة محنة اليهود، قالت اليهود: لا يصلح الملك إلا في آل داود. وقالت الرافضة: لا تصلح الإمامة إلا في آل علي.
وقالت اليهود: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال، أو ينزل عيسى من السماء، وقالت الرافضة: لا جهاد حتى يخرج المهدي، ثم ينادي مناد من السماء.
واليهود يؤخرون صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم، وكذلك الرافضة.
والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم (1) » . واليهود يولون عن القبلة شيئا، وكذلك الرافضة.
واليهود تسدل أثوابها، وكذلك الرافضة.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد سدل ثوبه فقمصه عليه أو عطفه عليه.
واليهود حرفوا التوراة، وكذلك الرافضة حرفوا القرآن.
__________
(1) سنن ابن ماجه الصلاة (689) ، سنن الدارمي الصلاة (1210) .(74/248)
واليهود يستحلون دم كل مسلم، وكذلك الرافضة.
واليهود لا يرون الطلاق ثلاثا شيئا، وكذلك الرافضة.
واليهود لا يرون على النساء عدة، وكذلك الرافضة.
واليهود يبغضون جبريل ويقولون: هو عدونا من الملائكة، وكذلك صنف من الرافضة، هم الغرابية يقولون: غلط بالوحي على محمد.
وفضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين:
سئلت اليهود من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى. وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم؟ قالوا: حواريو عيسى. وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم قالوا: أصحاب محمد.
أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، فالسيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة لا يثبت لهم قدم ولا تقوم لهم راية ولا تجتمع لهم كلمة، دعوتهم مدحوضة وجمعهم متفرق، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله عز وجل اهـ.(74/249)
وإليك ما قاله أبو بكر الباقلاني في كتابه فضائح الباطنية يسر الله بعثه- بواسطة شرح الطحاوية ص 90 قال فيه: "ولهذا كان الرفض باب الزندقة كما حكاه القاضي أبو بكر الطيب عن الباطنية وكيفية إفسادهم لدين الإسلام قال: فقالوا للداعي: يجب عليك إذا وجدت من تدعوه مسلما أن تجعل التشيع عنده دينك وشعارك واجعل المتصل من جهة ظلم السلف لعلي وقتلهم الحسن والتبري من تيم وعدي - قبيلة أبي بكر وعمر - وبني أمية وبني العباس - مع أنهم من آل البيت- وقل بالرجعة وأن عليا يعلم الغيب يفوض إليه خلق العالم. وما أشبه ذلك من أعاجيب الشيعة وجهلهم، فإذا أنست من بعض الشيعة عند الدعوة إجابة ورشدا، أوقفته على مثالب علي وولده رضي الله عنهم" اهـ. (1) .
وأخذ الغلاة من الرافضة عن المجوس أهل فارس - كما سيأتي في حديث أبي هريرة في الموقف من الغلو- حيث صرح النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يأخذون عن فارس والروم.
__________
(1) استفاد من كتاب الباقلاني الغزالي أبو حامد في فضائح الباطنية وهو مطبوع في مجلد لطيف(74/250)
- ومن العقائد التي تأثر بها الغلاة القول بالوصية أتى بها ابن سبأ بأن قال: إن عليا وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن عقائد اليهود أنهم يقولون: إن يوشع بن نون وصي لموسى عليه السلام.
- وأخذوا من اليهود التشبيه- تشبه الخالق بالمخلوق- حيث قالت اليهود: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} (1) . وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} (2) . ومتقدمو الرافضة مشبهة مجسمة ومن أشهرهم هشام بن الحكم الرافضي، والجواليقي.
- وقالوا برفع علي إلى السماء وكذب ابن سبأ من قال بموته، وأنه لو أتي بدماغه في صرة أو بسبعين صرة لم يصدق بموته، وأنه سينزل إلى الأرض كقول أهل الكتاب في إيليا عليه السلام وهو عقيدة الرجعة.
وقالوا: إنه فوق السحاب، وإن الرعد صوته، والبرق سوطه يضرب به السحاب.
- وأخذوا القول بنفي القدر وأن العبد يخلق فعل نفسه، وهو قول فرقة من اليهود تسمى الفروشيم. (3) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 64
(2) سورة آل عمران الآية 181
(3) كما في تاريخ المذاهب 1\ 125، نقلا عن أحمد أمين من فجر الإسلام، ترجمة هذه الكلمة المعتزلة(74/251)
- وأخذوا من النصارى والهنود الحلول والتناسخ. .
وغيرها من العقائد التي أفسدت عليهم دينهم، ولا أخص بذلك غلاة الشيعة بل كل من أتى بفكر غال، كالمعتزلة غلاة القدرية والحلولية والاتحادية والباطنية وعموم الزنادقة قبحهم الله.(74/252)
ثالثا: أسباب نشأة الغلو في الدين
يتحصل من دراستي للفرق الغالية خاصة، ونشأة الغلو والشرك بين الموحدين، أن الشيطان تمكن من قلوب أولئك وعقولهم وأفسدها كما أراد، وسلك معهم الأساليب المختلفة، وهذا مسلكه مع عباد الله {إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (1) .
__________
(1) سورة الحشر الآية 16(74/252)
فهو يظلمهم ويتبرأ منهم، ويكون قوله يوم القيامة، كما قصه الله علينا في سورة إبراهيم: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) .
وسأحاول هنا تعداد الأسباب التي أدت بأقوام أو أفراد إلى الانحراف عن المنهج الوسط القويم إلى الغلو والضلال، فمن هذه الأسباب:
أ- الجهل بأحكام الشرائع السماوية وقلة البصيرة فيها أو مخالفتها ولو بمقصد شرعي ابتداء كما حصل لقوم نوح عليه السلام، وهذا يؤدي إما على فهم زائد عن الواجب وهو الغلو والإفراط، أو عكسه تفريط وغلو فيه عن الواجب.
ولا بد من التنبه إلى أنه لا يكفي حسن المقصد لتبرير تصويب الوسيلة أو التغافل عنها البتة.
2 - دخول كثير من أهل الأديان السابقة الإسلام بقصد
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 22(74/253)
الكيد له، وإفساده- كما يدعون أنه أفسد عليهم دينهم بفتح بلدانهم ونشر الإسلام فيها- فكان هذا من المنافقين والزنادقة أقوى وسيلة لتقويض دعائم الدين وتهوين أصوله ببث العقائد المغرضة فيه، وتأمل النقل السابق عن الباقلاني في فضائح الباطنية، وكيدهم للإسلام، واتخاذهم الرافضة مطية لذلك.
كذلك ما سبق هذا من حنق اليهود وغيرهم من المجوس والنصارى على الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، كما هو معروف في سيرتهم بالمدينة والجزيرة.
3 - الاعتماد على مصادر مغايرة لمصادر الشريعة الإسلامية في التحاكم إليها كالعقول المجردة الفاسدة والمناطق والفلسفات الكلامية العقيمة التي نزع ما فيها من خير واعتبر بحال المعطلة وغلاتهم وأمثالهم.
4 - التعصب الأعمى، والتقوقع على المعتقد القديم، تعصبا يكون معه رد ما عند المخالف ولو كان حقا، بل وطرح الأدلة القطعية وعدم الاعتداد بها- وهي أدلة الكتاب والسنة- أو صرف الهمة إلى الفروع وبناء الولاء والبراء عليها فيؤدي إلى ظهور مظاهر غير محمودة كالعنف في التعامل، والتزام التضييق على الناس مع قيام موجبات التسهيل ودواعيه، وأسبابه التيسير عليهم، مثل حال الخوارج إلى هذا الوقت، ومن مظاهرها ما يحصل من مقلدة المذاهب(74/254)
الفقهية، المتعصبين لها مقابل النصوص والأقوال الصحيحة.
5 - وجود التفريط في العمل بالأحكام الشرعية أو فكرة معينة أو عقيدة ما، الذي يفضي بدوره إلى وقوع ردة فعل قوية أو العكس فتكون بين طرفين متناقضين.
كذلك وجود المنكرات جهارا علانية، بل الكفر الواضح في مجتمع معين أو فكر محدد، يولد غلوا في مكافحته ودفعه، كالمرجئة مقابل الخوارج، والمعتزلة في باب الأسماء والأحكام، وكالمعطلة مقابل المشبهة في الصفات، وكالرافضة مقابل الناصبة الخوارج في آل البيت خصوصا. . . إلخ.
- أو استخدام القوة أو العنف بدلا من الحكمة والحسنى يقابله زيادة التمسك بفكرة الغلاة وأقوالهم، ومثله وجود تساهل في منهج فرقة معينة يقابله التشديد في منهج فرقة مقابلة، وتأمله في واقع الفرق الإسلامية قديما وحديثا ثم استلهم العبر.
6 - الاستقلالية في استنباط الأحكام الشرعية دون ضابط محدد ومنهج حق من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومستند السلف الصالح واللغة العربية، وفي الوقوف على الأدلة ودلالتها وأقوال أهل الفقه والبصيرة فيها.
- فما حصل من واصل بن عطاء الغزال في قصة اعتزاله عن الحسن البصري نوع من هذا.(74/255)
- وكذا ما حصل عند كبار المتصوفة والباطنية الذين خاضوا وتكلموا بالنصوص السمعية بأهوائهم لا بما تدل عليه، فالنص يدور في فلك معين وهم في فلك آخر مغاير له.
- وكذا ما يقع من بعض الجماعات المعاصرة وخاصة الشباب من استقلالية بالأخذ عن الكتاب والسنة بدون ضابط حتى ظهرت العبارة المشهورة " نحن رجال وهم رجال " دون الاعتداد بأهل العلم والبصيرة من علمائهم.
7 - نقص أو انعدام التربية الحقيقية الإيمانية القائمة على مرتكزات ودعائم قوية من نصوص الوحي، واستبصار المصلحة العامة ودرء المفاسد الطارئة، وقلة إدراك عبر التاريخ ودروس الزمان وسنن الحياة في واقع الناس.
- ومما يؤكد النقص الواضح في التربية، تخلي بعض العلماء أو أكثرهم على مر العصور عن حقوق العلم وواجباتهم نحوه، وهذا أمر نسبي يختلف من زمن لآخر، ولكنك تراه واضحا في زمان أو مكان قلوا فيه أو انعدموا فتكون البيئة عندئذ خصبة، والدواعي معتبرة، والجو مهيئا لقبول الغلو وظهوره وانتشاره.
- ولكن أبرز الأسباب التي أجدها معتبرة في عزو الغلو إليها، وهي بذاتها أسباب الغلو في قوم نوح وبداية الدعوة المحمدية الإسلامية، وبعد مقتل عثمان، والغلو المعاصر، فإن هذه الأسباب(74/256)
هي كبرى البواعث غالبا على الغلو وآثاره.
- يعزو أحد العلماء المعاصرين، أسباب الغلو إلى الاعتماد على المتشابهات، فهل المقصود الآيات المتشابهات مقابل المحكمات أو غيرها؟ فإذا كان هذا، فهذا ثم سبب متداخل مع ما سبق وربما يكون وسيلة من وسائله، وهو نتيجة لبعض ما سبق من أسباب: كالجهل والاستقلالية بالاستنباط وردود الأفعال.
أو كان المراد به المتشابهات التي هي قسيم الواضحات الجلية من المسائل فإي نعم؛ لأنها تجنح بالأفكار إلى مدى بعيد عن الحقيقة والصواب، والله سبحانه يقول: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (1) .
رابعا: النصوص الواردة في التحذير من الغلو وذمة (موقف الإسلام من الغلو)
لما كان الدين منزلا من عند بارئ السماوات والأرض وما فيهما كان سبحانه أعلم بحدود البشر وإمكانياتهم، فشرع لهم ما يناسبهم ويوافق قدراتهم فجاء الإسلام دينا سمحا سهلا، دين يسر دفعت فيه المشقة بالقدرة والاستطاعة (2) ، كما قال تعالى:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) من القواعد الخمس الكلية: قاعدة المشقة تجلب التيسير.(74/257)
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) وإذا كان الدين الإسلامي بهذا الوضع، وكونه دين اعتدال وتوسط وقصد في كل شيء، علم أن الغلو فيه والزيادة على اعتداله والتشدد في قصده ضلال عن هديه، وبعد عن مقاصده، وكذلك في التفريط والتهاون بأحكامه {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2) وقال سبحانه فيمن خالف صراطه المستقيم فحرم ما أحله الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (3) فعد هذا الفعل من الاعتداء على شرع الله وحكمه وتقديره.
- ومن مقررات عقيدة أهل السنة والجماعة التمسك بالكتاب والسنة والبعد عن مزلات الأقدام في الأفهام والأفعال، كما قال الطحاوي في عقيدته: "ودين الله في الأرض والسماء واحد، وهو بين الغلو والتقصير". وقال: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم" اهـ. وأول ما يعول عليه في التشخيص والعلاج قوله تعالى من آخر
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) سورة الأنعام الآية 153
(3) سورة المائدة الآية 87(74/258)
سورة هود: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) ولا شك أن الغلو طغيان، فهذا تحذير منه سبحانه من طريق الغواية وأمر بلزوم في منهاج الاستقامة فتأمل، وهذه بعض ما تيسر الوقوف عليه من الآيات والأحاديث التي تحدد معالم موقف الإسلام من الغلو في الجملة:
1 - قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (2) .
ويضاهئون: يشابهون ويماثلون، كما هو عند غلاة الرافضة من القول بالحلولية، والتناسخ، وعند غيرهم.
2 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون (3) » .
المتنطعون هم المجاوزون الحد، المتعمقون الغالون في القول والفعل والفكر. فتوعدهم النبي عليه السلام بالهلاك وكررها ثلاثا للتأكيد، ولا أشد من هلاك الدين. والله المستعان.
__________
(1) سورة هود الآية 112
(2) سورة التوبة الآية 30
(3) رواه مسلم في كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، وأبو داود في كتاب السنن، باب لزوم السنة، وانظر: تيسير العزيز الحميد ص 305-318.(74/259)
3 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:
«لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع، فقيل: يا رسول الله كفارس والروم، فقال: فمن الناس إلا أولئك؟ (1) » . رواه البخاري ومسلم.
قاله النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التحذير والنهي عن سلوك مسالكهم واتباعهم، وفي إشارته إلى فارس والروم: تحذير من ديانة أهل هذين القطرين، ففارس مجوس فيهم يهود في أصبهان، والروم نصارى وفيهم يهود.
وفي حديث أبي سعيد عندهما التصريح باليهود والنصارى، ولا تعارض بين الحديثين «"فمن الناس إلا أولئك؟ (2) » استفهام على سبيل التقرير المتضمن للإنكار، وفيه حصر الضلال والاتباع بأولئك أهل فارس المجوسية، ومنهم دخل على المسلمين باب الفتنة وانفتح على مصراعيه.
4 - «وعن أنس رضي الله عنه قال: أنه كان يصلي بالمدينة صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر أو قريبا منها فلما سلم قال له رجل: يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أو شيء تنفلته قال:
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7319) ، سنن ابن ماجه الفتن (3994) ، مسند أحمد (2/527) .
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7319) ، مسند أحمد (2/367) .(74/260)
إنها المكتوبة، وإنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخطأت إلا شيئا سهوت عنه، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار (2) » رواه أبو أوفى وأبو يعلى وغيرهما (3) .
5 - وقال البخاري في صحيحه، باب الدين يسر وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحب الدين إلى الله الحنفية السمحة (4) » وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة (5) » .
الحنيفة ملة إبراهيم عليه السلام، السهلة السمحة الميسورة، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (6) قال الحافظ في الفتح 1\ 117، 118:
__________
(1) سنن أبي داود الأدب (4904) .
(2) سورة الحديد الآية 27 (1) {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}
(3) أبو داود كتاب الأدب، باب الحسد، ورواية أبي يعلى ذكرها ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية.
(4) مسند أحمد (1/236) .
(5) البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين يسر، وقد شرحه الحافظ ابن رجب في رسالة حافلة اسمها ''بيان المحجة في سير الدلجة''.
(6) سورة الحج الآية 78(74/261)
"والمشادة- بالتشديد- المغالبة، يقال: شاده يشاده مشادة إذا قاواه، والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب، قال ابن المنير: إن هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الكمال والأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل" اهـ.
والسداد هو التوسط وطلب الصواب من غير غلو أو تقصير، وعليه دلالة اللغة.
قال ابن رجب في هذا الحديث: "فإن شدة السير والاجتهاد مظنة السآمة والانقطاع، والقصد أقرب إلى الدوام، ولهذا جعل عاقبة القصد البلوغ؛ كما قال: من أدلج بلغ المنزل".
ومنه حديث أنس مرفوعا: «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا (1) » .
6 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها
__________
(1) البخاري في كتاب العلم، باب ما كان رسول الله عليه السلام يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، ومسلم في كتاب الجهاد، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير رقم 1734، وانظر: الفتح 1\ 137-196.(74/262)
الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة قال: الرجل التافه في أمر العامة (1) » رواه ابن ماجه والحاكم وصححه الذهبي ورواه أحمد في المسند 1 \ 291.
- قال السندي في شرحه على السنن 2\ 494: "خداعات، بتشديد الدال، للمبالغة، قال السيوطي: أي تكثر فيها الأمطار ويقل الربيع ... وقيل: الخداعة القليلة المطر، من خدع الريق إذا جف، والرويبضة، بالتصغير، التافه الحقير قليل العلم" اهـ.
وفي رواية الذهبي في التلخيص على المستدرك: "قال: السفيه يتكلم بأمر العامة" اهـ.
وهذا واقع كثير من الفرق الغالية الخارجة عن الإسلام أو التي كادت تخرج عن الإيمان قديما أو حديثا. فما زالوا يتخذون السفهاء أئمة وزعماء وربما شابههم بعض المسلمين في جماعتهم وطوائفهم، فالله المستعان على انقلاب المفاهيم واختلاف الموازين.
7 - وكتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر فأجابه: "أما بعد: أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في الأمر، واتباع
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب شدة الزمان رقم 4036، والحاكم 4\ 512، وله شاهد عند أحمد في مسنده عن أنس 3\220، والحديث ذكره الألباني في الصحيحة برقم 1887.(74/263)
سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدثه المحدثون بعد ما جرت به سنته، وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة، فإنها لك بإذن الله عصمة، ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها، فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق.
فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم إنما حدث بعدهم ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون، فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مقصد، وما فوقهم من محسر، وقد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم قوم فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم.
كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر فعلى الخبير- بإذن الله- وقعت، ما أعلم ما أحدث الناس من محدثة، ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أثرا ولا أثبت أمرا من الإقرار بالقدر، لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم، يعزون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة: أي الشدة في العزاء والإيمان به، من القول بأن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وما(74/264)
أصابنا لم يكن ليخطئنا.
ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون فتكلموا به في حياته وبعد وفاته يقينا وتسليما لربهم وتضعيفا لأنفسهم، أن يكون في شيء لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمض فيه قدرته، وأنه مع ذلك لفي محكم كتابه: منه اقتبسوه، ومنه تعلموه. ولئن قلتم: لم أنزل الله آية كذا، ولم قال كذا لقد قرأوا ما قرأتم، وعلموا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك كله بكتاب الله وقدره، وكتبت الشقاوة وما يقدر يكن، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا، ثم رغبوا بعد ذلك ورهبوا" اهـ.
الله أكبر فما بعد القول من قول، رسم فيه منهج أهل الكتاب والسنة والجماعة، فيما يتعلق بالقدر خاصة وغيره، أبدع رسم، فرحمة الله تعالى عليه، كيف حذر من الغلو وحاذر من ضده!.(74/265)
والنصوص من الأحاديث النبوية في النهي عن الغلو والابتداع والحذر منها كثيرة مستفيضة لو اجتمعت لبلغت سفرا ضخما، وهي مع ذلك مبثوثة في ثنايا الصحاح والسنن والمسانيد ومدونات السنة، وهي مشهورة غير مجهولة، والحمد لله، ومظانها من كتبها:
كتاب العلم، الإيمان، الفتن، لزوم الجماعة، الاعتصام بالكتاب والسنة، التوحيد، السنة، المناقب والفضائل.(74/266)
الخاتمة:
فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وفي ختام المطاف حول حقيقة الغلو اللغوية والشرعية، وتاريخه ونشأته، ودواعيه وأسبابه، وما ورد من النصوص والأدلة الشرعية في ذم الغلو والتحذير منه.
فقد تحصل أن الغلو في معناه اللغوي يدور حول تجاوز الحد وتعديه اتفاقا، وربما أطلق عليه نقصا بطرد: "كلا طرفي الأمور ذميم".
أما الحقيقة الشرعية للغلو فهو مجاوزة الاعتدال والوسطية الشرعية في الاعتقاد والقول والفعل، والغالب الأعم تناول الغلو لذوات المعظمين، وللمقالات العقدية.
وبالمناسبة فلا تلازم بين الغلو والتطرف، كما يطلق في بعض وسائل الإعلام وفي العبارات الصحفية، غير المحررة، فإن الغلو في الواقع أخص من التطرف.
وهاهنا ملاحظة أخرى وهو أنه ربما يربط الغلو والتمسك(74/266)
بالشريعة، وهي نظرة قاصرة يتبناها المقصر والمتهاون في شعائر دينه تجاه من هو أمثل منه تمسكا واحتراما لأحكام دينه، وهذا ما يتردد على ألسنة بعض الساحة والإعلامين مغالطة أو غفلة.
وبالنظر إلى تاريخ الغلو فهو قديم مرتبط بأسبابه الكثيرة والتي يجمعها الإعراض عن دين الله وما جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فإنه بقدر ما ابتعد المرء عن منهاج رسل الله بقدر ما وقع في الإفراط والتفريط، تناسبا طرديا، وما غلو الفرق الإسلامية في أبواب العقيدة أو الشريعة أو السلوك إلا نموذج واقعي لهذه النتيجة ومحققة لها. مما يحتم على المسلمين جماعات وأفرادا التمسك بهديه صلى الله عليه وسلم والاعتصام بما جاء به، والتحاكم إليه والدعوة إليه، فبذلك وحده تحصل لهم الهداية والعصمة، ويكونون شهداء على الناس، وفق الله الجميع لذلك وأعانهم وهداهم إليه إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه أجمعين.
صفحة فارغة(74/267)
صفحة فارغة(74/268)
الفتن والمخرج منها
لمعالي الدكتور\ محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. وبعد:
فإن الله سبحانه يمتحن إيمان عباده، وصدقهم في الثبات على ما يحب، ويذكرهم عن الغفلة بالمصائب والفتن، لينتبهوا لما حصل من تقصير، أو اقترفوا من سيئات، حتى تتحرك القلوب، وتبدأ محاسبة النفس، مع هذا الابتلاء يقول سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (1) والفتن والمصائب التي تصيب الفرد، أو يتعدى ضررها للمجتمع، هي محك الإيمان، والبوتقة التي يبرز فيها تطهير القلوب، ليكون من ذلك تحسين الأعمال، إذ لا يجلأ صدأ الفتنة إلا التوبة، فقد تكون المصيبة أو الفتنة للمؤمن وراءها خير أو داعية إلى خير، ودافعة عن شر أكبر حتى يرجع العبد إلى ربه، ويتوب من ذنبه،
__________
(1) سورة الملك الآية 2(74/269)
فيصلح من عمله ما فسد، وقد تكون للفاسق والكافر، فيما يتعدى للناس خيرا ومكاسب، فيزداد في عمله الذي يبغضه الله استدراجا، ليزداد إثما فوق إثمه جزاء وفاقا، يقول سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (1) كما ابتلي قارون بكثرة المال، ففرح بذلك وازداد غرورا، ولم يشكر نعمة الله عليه، بل قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (2) .
والفتنة قد تكون في النفس، وقد تكون بالمال كثرة أو قلة، وقد تكون بسبب الولد، وقد تكون بأي شأن من شؤون الحياة الإنسانية، سواء كان الإنسان فردا أو مع أسرته، أو جماعة.
ولما كان قد جاء في القول المأثور، عن بعض علماء السلف: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا دفع إلا بتوبة، فإن الفتن للمؤمن امتحان وابتلاء، ومثلها الكوارث والمصائب، يؤجر عليها، وتزيده تمكينا في طاعة الله، وعرفانا بفضله سبحانه، ليحمده عليها ويشكره، على أن أعانه على تحملها، والصبر عليها، كما حصل لأنبياء الله، وحتى يحاسب نفسه، لإدراك المدخل الذي جاءته الفتنة معه، ليعالج نفسه، ويحسن عملها، توبة وإنابة إلى الله، يقول سبحانه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (3) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 35
(2) سورة القصص الآية 78
(3) سورة البقرة الآية 216(74/270)
ولذا قال عنها بعض العارفين: (إنها محك الإيمان، وتمحيص العمل) ، وما ذلك إلا أن الفتن التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في آخر الزمان، يرقق بعضها بعضا، وأعظمها فتنة الدين، التي يوقد جذوتها، ويشعل فتيلها عدو الله إبليس، ويثيرها أعوانه من شياطين الإنس، وأعداء الله ورسالاته: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (1) .
وهذه هي التي يحذر الله ورسوله منها، وجاء بها الدعاء المأثور: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا) . والفتنة إذا وقعت، اصطلى بنارها الجميع، ويعمهم عقاب الله سبحانه، ويبعثون على نياتهم، ألم يقل سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (2) وحذر صلى الله عليه وسلم في قوله الكريم: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بين قلوبكم، ثم يلعنكم كما لعن الذين من قبلكم (3) » .
جاء هذا التحذير الشديد من الرسول الكريم صلى الله عليه
__________
(1) سورة الأنعام الآية 112
(2) سورة الأنفال الآية 25
(3) رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود: جامع الأصول 1: 327-330.(74/271)
وسلم في تأكيد لدلالة الآية الكريمة: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) .
كما أن الفتنة لغير المؤمنين: إنذار وامتحان، لكي يعودوا إلى دين الله الحق، ومن لم يستفد من أثر الفتنة، فإنما لتقوم عليه الحجة، وحتى يزداد في غوايته بإصراره يقول تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (3) .
وفي نزول أول آيات سورة العنكبوت يقول سبحانه: {الم} (4) {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (5) {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (6) .
قال بعض المفسرين: أمورا متعددة في سبب النزول، منها ما ذكره السيوطي في تفسيره، قال: أخرج ابن ماجه وابن مردويه، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق أول من أسلم
__________
(1) سورة المائدة الآية 78
(2) سورة المائدة الآية 79
(3) سورة آل عمران الآية 178
(4) سورة العنكبوت الآية 1
(5) سورة العنكبوت الآية 2
(6) سورة العنكبوت الآية 3(74/272)
من الرجال وصدقه، وسمية أم عمار، وعمار بن ياسر، وصهيب وبلال والمقداد.
فأما رسول الله فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدرع الحديد، وأما بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد (1) .
__________
(1) الدر المنثور 6: 451.(74/273)
تعريف الفتن:
الفتن جمع فتنة، يقال: فتن المعدن إذا صهره بالنار ليختبره، وفلان فتن فلانا ليحوله عن رأيه أو دينه.
وفي التنزيل: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} (1) .
والفتان الشيطان، واللص الذي يعرض للرفقة في طريقهم، والفتانان: الدرهم والدينار.
والفتنة: الإعجاب بالشيء والاستهتار به، وبلبلة الفكر، والعذاب والضلال، وفتنة الصدر: الوسواس، هذا هو تعريفها اللغوي، وفي الشرع وضحها كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة البروج الآية 10(74/273)
أما في الاصطلاح:
فهي كل ما يبث في المجتمع ويؤثر في حياة أبنائه: أمنا ومعيشة وخلقا وعقيدة وما ذلك إلا: أن الفتنة أو الفتن: كالنار تحت الرماد، ساكنة هادئة، حتى يأتي من في قلبه مرض، وجبلت على الشر نفسه، وذلك لحبه للشر والفساد فيحركها ويشعلها {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (1) .
ومن كان كذلك، فإن حواسه لا تهدأ وخلجات قلبه لا تسكن، إلا على السعي في إشعال فتيل نار الفتنة، وبلبلة الأذهان، وخلخلة المجتمع؛ لأنه شقي من الأشقياء، ويدفعه لذلك مرض في قلبه، ولوثة في فكره، سواء كان ذلك طبعا في نفسه، أو تطبعا لتأثره بمن أغواه.
وما ذلك إلا أن صاحب الطبع الرديء، تنمو فيه الخصلة، كلما سنحت له الفرصة، ليكبر معه حسب العدوان والإساءة، فتبدأ معه الآثار صغيرة، ثم يسعى جاهدا في تكبير الصغائر، وتجسيم الأمور، بالكذب وقلب الحقائق، لتكون في نظر من يريدهم المسيرة في ركبه مساوئ، حيث يتم تأليب من يتعاطف معه أو يرضى بباطله، الذي جسمه في الأعين على أنه محاسن أما صاحب التطبع: فإنه صاحب الوفاض الخالي، والسذاجة في الإدارة، وقصر النظر في
__________
(1) سورة البقرة الآية 205(74/274)
عواقب الأمور.
فيأتي من ينفخ في روعه، ويوغر صدره على الفئات الغافلة، بعد تجسيم الأمور، وتخطئة الآخرين لمآرب في نفس صاحب الطبع، وغايات وعد بها ودفع إليها، ليكون بوقا ينفخ فيه، من حيث لا يدري عن عواقب الأمور التي دفع إليها، وهو في الحقيقة كبش فداء، ولجهالته: أصبح في أيدي أصحاب الأهواء، يحركونه لمصالحهم كيفما شاؤوا، ويستغلونه في تحقيق ما يريدون، ولا يهمهم مصيره وما تكون نهايته.. إذ قد يكون انساق لطمع مادي، أو مصلحي، أو لهدف لا يعرف غايته، بعد أن انحرف فكره.
فيتعاون المؤثر والمؤثر فيه، في تعاملهما الإفسادي، والتدميري في عملهما المشترك، الذي يعتقد أنه خادم للهدف المشحون بالأكاذيب والضلالات، لخدمة الفكرة التي جعلت شعارا، لما يراد من شر.
والله سبحانه يمتحن قلوب أهل الإيمان بالصبر على الفتن، وحسن التحمل في مقابلتها، دون أن تمس جوهر العقيدة، أو يكون لديه ميل للفتنة ودعاتها: يقول سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} (1) .
من المستفيد منها:
إن الفتن عندما يشتعل فتيلها، بسبب أو بدون سبب ظاهر،
__________
(1) سورة الفرقان الآية 20(74/275)
تبدأ دائرة هذا السعير تتسع شيئا فشيئا، كالحريق في الهشيم، الذي يأكل الأخضر واليابس، ويدمر ما امتدت إليه نار هذا الحريق.
فإن شياطين الإنس، وأهل الأهواء، ومن في قلبه مرض، سواء كان بالنفاق: مرض الشهوة والهوى أو مرض التقليد والسير بغير هدف أو المرض الأشد وهو الحسد والكراهية، بدون أن يفكر إلا فيما يتضمنه الحسد المذموم ممن يلتئم جمعهم، (كما تلتئم الأكلة على قصعتها) (1) كل واحد من هذه الفئات يزيد نار الفتنة اشتعالا، ليعود بثمرة ظاهرة أو محسوسة؛ لأن القلوب لم تحصن بالإيمان الصادق، فكانت مرتعا للأفكار الرديئة، التي تضر بالأمة، ولم يكن العقل محصنا بنور الثبات على الحق، ليتبصر ويسترشد، ولا بنور الإرشاد وحسن العقيدة، فلا يستفيد من ذلك الوضع غير الأعداء المتربصين بالأمة الإسلامية، لإفسادها وخلخلة صفوفها، بما أصاب أمنها من جراء هذه الفتنة الموجهة من الأعداء للإساءة والإضرار حسدا، وحبا في النفاذ للمجتمع الإسلامي، وتسييره كيفما يريدون، خلف شعارات مختلفة وحسبما مر بنا: فإن الفتنة أنواع: منها فتنة المال، وفتنة النساء، وفتنة الهوى وحب التسلي، وفتنة الشهوات، وفتنة الشبهات، وفتنة الولد والأهل، وفتنة الجور والبغي وغيرها من الفتن التي تتلبس بأزياء
__________
(1) تشبيه وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث الفتن.(74/276)
مختلفة، وتحت مسميات متباينة، كما أوضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كقطع الليل المظلم) .. تتلاحق بعضها وراء بعض.
وكل محرك لنوع من أنواع الفتن، قد أضمر مصالح يريدها، ومفاسد يبثها لتحقق غرضه، وأشد هذه الفتن: فتنة الدين، الذي هو أعز ما يجب أن يحرص عليه المسلم.
وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من " فتنة المسيح الدجال "، وخوف أمته منه، حيث أخبر أن أعظم الناس، شهادة عند الله سبحانه، ذلك الرجل الذي تصدى للدجال وكفر به (1) .
والناس في تأثرهم بالفتن، يختلفون بحسب منزلة الإيمان من قلوبهم، سواء بالفتنة الخاصة في النفس والولد والأهل، أو الفتنة العامة: في المجتمع وبالآفات والنوازل، ووفرة المال والتكاثر به وغير ذلك.
ذلك أن الفتنة التي تمر بالمؤمن، يستفيد منها بقدر إيمانه، صبرا وتحملا يؤجر عليه وتفقدا لجوانب الضعف في نفسه، ليعالج ذلك، ويصلح ما اعوج من أعمال نحو أسرته، أو ما بدر في مجتمعه ليكون ساعيا مع غيره، في إزالة ما يقدر عليه بيده أو بلسانه، أو مساهمة بجاهه وماله، أو بقلبه وهو أضعف الإيمان؛ لأن المؤمنين يسعى بذمتهم أدناهم، فيكون ذلك: بالنصح وحسن التوجيه،
__________
(1) تراجع أحاديث المسيح الدجال في كتب الحديث: باب الفتن، فعند مسلم 5: 729-814.(74/277)
والتعليم والإرشاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(74/278)
أهمية تأكيد الفتنة:
يقول البلاغيون: زيادة تأكيد المبني، زيادة في تمكين المعنى.. ولفظ الفتنة واشتقاقها مفردة ومجموعة، جاءت في كتاب الله عز وجل، أكثر من ستين مرة (60) ، هذا علاوة على ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذلك إلا للأهمية وما وراءها من دلالات، لكن أشدها نكاية: من يسعى في الفتنة، ومن يحركها من سكونها: رغبة في تأجيج الشر، وحسدا ضد أهل الإيمان، ورغبة في تغيير بعض معالم دين الإسلام، ببذر ما يساعد على نقض عرى دين الله الحق: واحدة بعد أخرى، تحت مسميات وشعارات ما أنزل الله بها من سلطان.
وإذا تأمل المسلم: ما جاء في كتاب الله، من آيات الفتن، فإن المستقرئ لها بتمعن وعمق، وربط آخر الآية بأولها، أو بحسب السياق والدلالة، فإنه يجد أغلبها يرتبط بأصحاب الأهواء، من أهل الكتاب المعادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من الحق من ربه جل وعلا، رغبة في صرف أمر الله وتشريعه إلى ما تهوى القلوب، وتصف الألسن، والحق لا يتبع الهوى، يقول سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (1) .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 71(74/278)
كما يرتبط الجزء الآخر: بالباطنيين من المنافقين، ومن ارتبط بهم، ممن يظهر الإسلام، ويبطن الكفر، فهم على منهج واحد مع أهل الكتاب في نظرتهم للفتن، من حيث معاندة الحق، والرغبة في زعزعة الأمة، وفتح ثغرة ينفذ منها العدو، للتشكيك في تعاليم الإسلام، محبة في تخفيف ثقله على بعض النفوس، يقول سبحانه في السحر، الذي هو فتنة من الفتن، وشر يفسد المجتمعات، ويفكك الأسر المترابطة: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} (1) .
وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام أحمد بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، ذات نهار، ثم قام خطيبا إلى أن غابت الشمس، فلم يدع شيئا مما يكون إلى يوم القيامة إلا حدثناه: حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه. فكان مما قال: (يا أيها الناس إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تفعلون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء) (2) » إلى آخر الحديث المطول (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 102
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الفتن (4000) .
(3) ينظر مسند الإمام أحمد في الفتن، وكتاب النهاية لابن كثير 1: 14.(74/279)
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على أمته باجتناب طريق الشر، وعدم الوقوع في المحاذير التي تقودهم إلى المهالك، فإنه يحذرهم من الفتن، ويدعوهم إلى عدم الخوض فيها، بل واجتنابها، ومن ثم الانعزال عمن دخل فيها، في مثل هذا الحديث الذي رواه البخاري بسنده، إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأورده البخاري في باب الفتن، قال أبو إدريس الخولاني: سمعت «حذيفة بن اليمان، يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني.
فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن يكن لهم إمام ولا جماعة؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك (1) » .
__________
(1) يراجع صحيح البخاري المتن 6: 93، وعند مسلم المتن أيضا 5: 729 - 813 وفيه أحاديث أخرى في الفتن، وانظر النهاية لابن كثير 1: 16.(74/280)
حتى أنه عليه الصلاة والسلام يأمر من عنده سيف أن يغمده ولا يخوض في الفتن، التي تموج في مجتمع المسلمين، كما يموج البحر، وتتكلم فيها الرويبضة.
قال الفيروز أبادي في القاموس المحيط: والرويبضة تصغير الرابضة: وهو الرجل التافه، أي الحقير، يتكلم وينطق في أمر العامة، وهذا تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للكلمة (1) .
وما ذلك إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاف على أمته، ما علمه الله عن الفتن وما تجر إليه من مصائب، وما تكنه صدور من يخوضون في الفتن، التي تكون في مظهرها وبدايتها، لا تثير شيئا عند ضعاف الدراية، فيحذرهم منها، ويبين مساوئها، وما يجب على المؤمن عمله إذا أدركته؛ لأن أسلم ما لعقيدة المؤمن أن يعتزلها وأهلها.
كل هذا خوفا على الأمة من ولوج باب الفتن، بدون حصانة ولا قدرة على تمييز ما تحت رمادها، فيقودهم ذلك إلى مصائب لا تحمد عقباها في الدين فيفتتنوا.
ولذا اهتم الصحابة بالتبليغ واهتم علماء السلف والمحدثون بهذا الجانب، وأبرزه المحدثون في كتبهم، ورصدوا تحت باب الفتن،
__________
(1) القاموس المحيط 2: 331.(74/281)
أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع حتى يعرف كل مسلم ومسلمة مداخل الفتن والمخرج منها، وهذا من رأفته ورحمته بالأمة عليه الصلاة والسلام، كما اهتم علماء التفسير رحمهم الله في توضيح الدلالة، عند المرور بنوعيات الفتن التي جاءت في كتاب الله، وتجلية المعنى وسبب تلك الفتنة، ثم التحذير من كل فتنة، مع بيان ما تدل عليه ومناسبتها ونوعية تلك الفتنة. كل هذا جاء في شرع الله، وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، توضيحا وبيانا، ليعرفه المسلم، حتى يبتعد عنه، كما هو حرص حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: خوفا من الوقوع في المحاذير وما تجر إليه الفتن من انحراف وضلالات.
وندرك من ذلك: أن الظالمين والمفسدين الذين تكرر وصفهم بهذا في القرآن الكريم، وأن أصحاب الفكر المنحرف عن منهج الإسلام، والفئات الضالة ومرتبي الآثام: بتكفير علماء الأمة وولاة الأمر، والراغبين في تفريق الكلمة، وبث الإرهاب والفوضى، كل هؤلاء ومن يصير في ركابهم هم مشعلو نار الفتنة، ومحركوها من سكونها، طمعا في تحقيق الفوضى والاضطراب في المجتمع، وبما يفرح الأعداء: طعنا في الدين، وتشكيكا في تعليماته، وبث الاضطراب والفساد في المجتمع الإسلامي، ومن ثم يغتر الجهال والأحداث الذين لا يدركون العواقب، ولا نتيجة ما يقادون إليه، بل ولا عن نوايا من(74/282)
يحركهم ويغذيهم: فكرا ومالا، وتخطيطا، وحماسة، وفتيا.
فإذا اتسع لهيب الفتنة تأثر بلظاها المحسن قبل المسيء، ويحتار فيها الحليم: سببا ومسببا، ولا يظهر للحليم والمتابع من هو المستفيد حسب معاييره، أما عند الله، فإنها خسارة وليست بفائدة المخالفة الساعي فيها، والمحرك لها بأي طريقة كانت، ولو كانت كلمة منه لا يلقي لها بالا، ضد شرع الله، ألم يقل سبحانه {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (1) .
وبين سبحانه أن المخالفين لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم تحت طائلة عقابين: الفتنة أو العذاب الأليم فقال سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) إلا أن الملاحظ في الواقعين في الفتن: موت الإحساس والغيرة، وعدم التفكير في العواقب.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 25
(2) سورة النور الآية 63(74/283)
فهم الرعيل الأول:
ولأن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم خير القرون بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، هم القدوة، وهم أقدر فهما للنصوص الشرعية، وعاصروا نزول القرآن، وجالسوا رسول الله(74/283)
صلى الله عليه وسلم وأخذوا عنه، وسألوه عما يشكل عليهم. ولمخافتهم على دينهم أن يدنس، ولحرصهم على حسن الاتباع، فإنهم يسألون ليطبقوا، ويتخوفون من الفتن لما أدركوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تأكيدات وتخويف من الفتن، وبما ينور أذهانهم من علامات وضلالات تصاحب الفتن، ولما تجر الإنسان إليه من لا يدري.
وما ذلك إلا أن المغزى الذي حركت الفتنة من أجله غامض، وكل شيء غامض في دلالته ومغزاه. يحدث الريبة في المقصد البعيد، ولا يدرك هذا إلا من أخذ للأمر أهبته، واسترشد من ذوي العلم والعقل، ومن منحه الله فطنة وبعد نظر، كما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لما أظهرت الفتنة رأسها، وتباينت الآراء، فقال: لمن حدثه كلمة حق يراد بها باطل.
يبين ذلك الفهم مما رصد في أحاديث الفتن، واعتزال بعض الصحابة لها. وملاحقتهم رضي الله عنهم لمن عرف عنه: حديثا واحدا في الفتن، حتى يستفيدوا ويعلموا من بعدهم، ثم تحذيرهم ممن بانت لهم علامات في محبة الفتن، أو الخوض فيها: إما باللفظ اللساني، أو التعاطف الوجداني.
حتى أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه- كما مر بنا نموذج(74/284)
من ذلك- كان يخاف على نفسه الفتنة، ويسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتحاشى الوقوع فيها؛ لأنها شر، وتدعو إلى الفساد، والإضرار بالآخرين. ولشهرته بين الصحابة بهذا، فقد كانوا -وخاصة بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه- وانفتاح باب الفتنة بعد كسره، كانوا يسألون حذيفة عما علم عن الفتن والمحن، من نبي الله عليه الصلاة والسلام، فيجيبهم: لأمانة تبليغ العلم، وعدم كتمانه بما سمع، وبما أجابه رسول الله عنه أسئلته فيها.
ولا شك أن الفتن بأنواعها، وتعددها في أي عصر ومكان، بحسب الأوضاع الاجتماعية للناس، وما وراء هذه الفتن من نتائج وظواهر. وما يستعمل في سبيلها من وسائل تبليغية: سواء كانت إعلامية بالأكاذيب، أو عملية بالتخريب والتخويف والقتل. أو غير ذلك من أسلوب خفي، وخلف أي غاية كانت. تراهم يظهرون غير ما يبطنون.
فكلها شر وفساد والله لا يحب الفساد، والشر عمل شيطاني؛ لأن أول من قاد إليه: عدو الله إبليس، وأخذ على نفسه عهدا أن يضل بني آدم، ويعدهم ويمنيهم، وأن يأتيهم من كل جهة حتى لا يشكروا نعم الله عليهم: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} (1) .
__________
(1) سورة النساء الآية 120(74/285)
ولنشر أعماله والسعي فيها، وهي كلها فتن وضلالات أعوانه من شياطين الإنس والجن، قال الله عنهم: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (1) واقتفى أثرهم التابعون، ثم العارفون من علماء هذه الأمة، جيلا بعد جيل، بما برز في كتبهم، وما عرف عنهم من مواقف ضد أصحاب الأهواء، والشبهات، وأرباب الفكر المنحرف.. وذلك بالتصدي والرد: التصدي في المجابهة، وفي التعبير بالبغض والهجران، وعدم إفساح المجال لبروز ما يدعون إليه. والرد: بإيضاح الخطأ قولا في كل موقف، وفضح ما ينشر أصحاب الهوى والفتن: بالإجابة على التساؤلات: شفاهة أو كتابة حتى يبينوا للناس عن الفتن ومصادرها ودعاتها.
والخير والشر: قد أو ضحت شريعة الله الحق: (دين الإسلام) ، أمام الإنسان بمصدريها: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: منافع الخير والطرق المؤدية إليه. ومضار الشر والدعاة إليه، والنتائج التي يصل إليها من سعى في الفتنة: ابتداء أو دخلها مقودا
__________
(1) سورة الأنعام الآية 112(74/286)
إليها: ترغيبا أو ترهيبا، أو عن سوء فهم لقلة بضاعته في فهم دينه، أو عدم درايته بفقه الحوادث، وما يجب عليه حيالها.
ولتصارع الخير والشر أمام الإنسان، فقد جعل الله له سمعا وبصرا، ومنحه فؤادا وحواس حتى يميز بين هذا وذاك، ويقارن بالآثار المحسوسة والنتائج، لتقوم عليه الحجة، في حالة انحرافه وميوله مع الشر، ولا يعذر بالجهل لبيان الحق ووضوح دليله؛ ولأن الله قد أمر بسؤال أهل العلم المعتبرين ليبينوا للناس الطريق السليم، ولا يكتمون.. وفق ما يبينه الله في كتابه الكريم، وشرحه رسوله عليه الصلاة والسلام لصحابته، والأمة بعدهم تبع، يقول سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) .
وقد خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مستقيما، ووضحه بأول هذه الآية بأن دين الله سبحانه وشرعه الذي شرعه لعباده، واضح لا اعوجاج فيه، ثم خط خطوطا جانبية، منحرفة عن الخط المستقيم، وقرأ أمام أصحابه بقية الآية وحذر من هذه الطرق، وهي التي تمثل الفتن، ومن سلوك طرقها؛ لأنها شر وتدعو إلى شرور عظيمة فيها الخلاف والابتعاد عن الجماعة، أما المستقيم فهو الطريق الذي أمر الله نبيه بتوجيه الناس إليه، وهو طريق الخير، ويوصل إلى
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153(74/287)
كل ما فيه نفع وخير {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (1) .
ومن التبست عليه الأمور، واحتار عن معرفة الطريق الأسلم، خاصة وأن طريق الشر عليه دعاة يرغبون فيه ويلبسون على الآخرين، وذلك بالتزيين وزخرف القول.
هنا يتعين على راغب النجاة، أن يبتعد عن الدعاة المغرضين، وما يعرض من شبهات، وعن علماء الضلال الذين يفتون بغير ما أنزل الله، ويتجرأون على الفتيا بغير علم، ويتجه إلى العلماء الربانيين المعروفين بالورع، والفهم الصحيح في الاستدلال وتمحيصه، بدليله الموثق، لسؤالهم والاسترشاد منهم، عن الطريق السليم الذي لا اعوجاج فيه، حتى يسلكه السائل وهو مطمئن عن الوقوع في الفتن أو الركون لأهلها.
وهؤلاء العلماء هم الذين عناهم الله بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (2) .
لأن خشيتهم لله، وخوفهم من عقابه، عندما يفتون بغير حق، أو بالكذب والبهتان يمنعهم من الجرأة على الله، حتى لا يضل أحد
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 7
(2) سورة فاطر الآية 28(74/288)
بسببهم، فيتحملون إثمه زيادة عن إثمهم، ويزداد الإثم إذا كانت الفتوى الضالة تفتح بابا من أبواب الفتنة والبلبلة في المجتمع الإسلامي، وما ينتج من فساد وشر. هؤلاء العلماء هم الذين أمر الله بسؤالهم، والتلقي عنهم في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
وأهل الذكر هم العلماء، أهل الورع والتقى، الذين اهتدوا بهدى الله، وامتلأت قلوبهم خشية لله، وامتثلوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقتدوا بفهم الصحابة الأجلاء رضوان الله عليهم، في المنهج والمأخذ الحسن، والعطاء الذي طبقوه في أنفسهم أولا، ليؤخذ عنهم قدوة ونشروه في الفتوى والتبليغ، إبراء للذمة، وخوفا من عقاب كتمان العلم.
فقد روى أبو داود رحمه الله: أن معاذ بن جبل الصحابي الجليل رضي الله عنه كان لا يجلس مجلسا للذكر إلا قال: "الله حكم عدل، هلك المرتابون، إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول للناس: ألا تتبعوني،
__________
(1) سورة النحل الآية 43(74/289)
وقد قرأت القرآن"؟
ما هم. بمتبعي حتى أبتدع فيهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة على لسان الحكيم، ويقول المناطق كلمة الحق (1) .
أما عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو الصحابي المشهور بعلمه وورعه، فإنه ينبه الناس عن الفتن، ويحذرهم من مداخلها يقول: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة (2) .
ومن إدراك الصحابة رضوان الله عليهم وفهمهم لمداخل الفتن التي قد تمر بالمسلم نستدل على نظرتهم لما مر بهم في فتنة عثمان رضي الله عنه، ثم ما مر بهم بعد ذلك من انقسامات، وقف عندها علماء الإسلام، مما يدين دون تخطئة فئة ضد فئة، وقالوا: نترضى عنهم جميعا، وهم مجتهدون؛ لأنهم صفوة هذه الأمة، ندعو لمخطئهم بالرحمة، ولمصيبهم بالمغفرة.
فإذا كان الصحابة رضوان الله عنهم، هم نموذج للعلماء الربانيين الذين تراجعوا بعدما أدركوا بالدليل: المحذور مما دب في
__________
(1) ينظر كتاب الحوادث والبدع للطرطوشي الفهري الأندلسي رحمه الله ص 102، 103.
(2) رواه البخاري في باب الفتن برقم 127.(74/290)
بعض الصفوف، فإن العلماء هم ورثة الأنبياء، وصمام الأمان في كل مجتمع، وخاصة في القرون الثلاثة المفضلة، حيث عرفوا حقيقة الإسلام من مصدريه، بعد أن تربوا على يد المعلم الأول نبي الله عليه الصلاة والسلام، فكانوا عارفين ومدركين، ووقفوا في التصدي للفتن ومجابهة الضلال بالدليلين العقلي والنقلي، وبالبرهان الساطع من مشكاة النبوة، فأعانهم الله، وتركوا لمن بعدهم نبراسا يضيء طريق الحيران، حتى ينزوى ويسترشد، وما ذلك إلا أن: من كان بالله أعرف كان منه أخوف.(74/291)
نماذج من الأشرار:
جعل الله سبحانه- لحكمة أرادها، وحكمته سبحانه بالغة-: الشر والخير متضادين ولكل منهما دعاته وأعوانه، فدعاة الخير وحماته هم الأخيار الأتقياء، المستنيرون بنور الإيمان، المستجيبون لله فيما أمر، والمهتدون بهدي رسل الله.
ودعاة الشر هم: الأشرار الأشقياء، العاصون لأمر الله، والراغبون في إثارة الفتن وتوسيع دائرة الفساد والفوضى، والتعاون مع أعداء الله وأعداء شرعه في هذا الأمر.
وبالتمعن في مصدر شرع الله، الذي بعث به أنبياءه نجد نماذج في كل أمة من الأمم بل وفي كل مجتمع من المجتمعات، وأن الأشرار هم مثيرو الفتن تلك التي وراءها عقاب من الله عاجل،(74/291)
وآثار سيئة في المجتمعات، يصلى بنارها المسيء والمحسن على السواء إلا من رحم الله، ويبعثون على نياتهم، هذا علاوة على انعكاسها على من سعى فيها، والعدو يفرح بما حل بالمسلمين، ويتفرج على ما حل بأهل الحق، مستأنسا لهذه البادرة في المجتمع الإسلامي؛ لأنها تخدمه في تحقيق مآربه، في مثل:
1 - قوم صالح عليه السلام لما عصوا الله وكفروا بنبيهم صالح، تمثل إفسادهم في قتل الناقة التي هي آية من آيات الله، وحرك الفتنة التي كانت سببا في هلكة القوم، حسبما جاء عن خبرهم في القرآن الكريم، حيث نجى الله المؤمنين الأخيار، وعاقب الأشقياء الأشرار، يقول سبحانه في مشعل فتيل الفتنة: {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} (1) قال السيوطي في تفسيره: أي أشقى القبيلة، وهو قدر بن سالف، عاقر الناقة وهو أحيمر ثمود الذي قال الله فيه: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} (2) وكان هذا الرجل عزيزا فيهم، شريفا في قومه، نسيبا رئيسا مطاعا، فعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: ألا أحدثك بأشقى الناس؟ قال: بلى قال: رجلان: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي
__________
(1) سورة الشمس الآية 12
(2) سورة القمر الآية 29(74/292)
على هذا- يعني قرنه- حتى تبتل منه هذه، يعني لحيته (1) » والذي قتل عليا هو من الخوارج: عبد الرحمن بن ملجم، وهم باطنية، عليه من الله ما يستحق.
2 - يتآمر الكفرة على كل نبي من أنبياء الله؛ لأنه يدعوهم إلى دين الله، ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الهدى واليقين، كما قص أخبارهم الله في القرآن الكريم، ويقود فتنتهم في محاولة لإطفاء نور الله، والإضرار بالمؤمنين، شرار الخلق كل في قومه، والكيد لدين الله، ففي كل قوم يتآمر شرارهم على نبيهم باعتباره المبلغ عن الله.
وذلك بعد أن تغلبت عليهم الشقاوة، يقول سبحانه في قصة موسى عليه السلام: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} (2) .
وقال في حوار شعيب مع قومه: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} (3) .
__________
(1) الدر المنثور للسيوطي 8: 531.
(2) سورة القصص الآية 20
(3) سورة هود الآية 91(74/293)
ويقول سبحانه عن قوم صالح عليه السلام الذين ديارهم شمال مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (1) {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (2) .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: المدينة هي مدينة ثمود فيها تسعة أنفار يفسدون في الأرض، وإنما غلب هؤلاء على أمر ثمود؛ لأنهم كانوا كبراءهم، قال ابن عباس: هؤلاء هم الذين عقروا الناقة، أي الذي صدر عنهم ذلك الرأي، وبمشورتهم قبحهم الله.
والمقصود أن هؤلاء الكفرة الفسقة كان من صفاتهم الإفساد في الأرض بكل طريق يقدرون عليه (3) فكل دعوة صالحة، وكل نبي من أنبياء الله يقيض الله سبحانه شقيا يثير الفتنة ضده وضد دعوته صدا وعدوانا، ولكن بهذا الابتلاء، يجب المقابلة بالصبر والاحتساب؛ لأن الغلبة للحق، والنصر لمن ينصر دين الله، يقول سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (4) .
__________
(1) سورة النمل الآية 48
(2) سورة النمل الآية 49
(3) التيسير لتفسير ابن كثير تعليق الدكتور: عبد الله بن إسحاق 3: 314.
(4) سورة الفرقان الآية 31(74/294)
3 - أما في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان من رؤوس المنافقين، المثيرين للفتنة ضد الرسول ودعوته، عبد الله بن أبي بن سلول، الذي جاء من خبره في سورة المنافقين هذا القول الكريم: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} (1) يعني بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله، فلما جمع ابنه مقالة أبيه، التي فضحه الله بها في القرآن، أخذ سيفه فأناخ على مجامع طرق المدينة، فمنعه من دخولها حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائلا لأبيه: والله إن رسول الله هو الأعز، وأنت الأذل.
فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخلى سبيله، بإفساح الطريق لدخوله، وقال: والله لو أذن لي رسول الله في قتله لقتلته (2) ، ولم تأخذه في الحق لومة لائم؛ لأنه رضي الله عنه يعلم أن والده من مثيري الفتنة وزعمائها، فقدم الدفاع عن دين الله الحق، وعن رسول الله على والده، وما كلامه الذي بثه في نفر من المنافقين إلا بداية في تحريك الفتنة النائمة.
وقد أبان البغوي في تفسيره على هذه السورة نماذج من منافقي المدينة، وإثارتهم للفتن (3) . وفي هذا السياق جاء خبر الريح
__________
(1) سورة المنافقون الآية 8
(2) يراجع في سبب وحكاية ابن أبي وما قال: ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير 8: 269 - 272.
(3) تفسير البغوي: معالم التنزيل 8: 130-133.(74/295)
الشديدة، التي آذت الناس وتخوفوها، فقال لهم نبي الله عليه الصلاة والسلام: لا تخافوا إنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار، توفي بالمدينة، قيل: من هو قال: رفاعة بن زيد بن التابوت، وكان من عظماء اليهود، وكهفا للمنافقين.
أما ابن سلول: فلم يلبث بعد عودته للمدينة إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات، والمنافقون الذين يوقدون نار الفتنة، ويسعون فيها، يفضح أعمالهم ما في قلوبهم من مرض كما فضحهم الله في سورة التوبة، بأعمالهم الباطنية، ومؤامرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث سماها ابن كثير في تفسيره وغيره من المفسرين بالفاضحة.
4 - ويهود المدينة: حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما وصل المدينة، وناصبوه العداء، وعلى رأسهم حيي بن أخطب رأس يهود المقدم فيهم، وكعب بن الأشرف تاجرهم، فكانوا يحرضون مشركي مكة، والأعراب حول المدينة، ويتآمرون مع المنافقين، ويدفعون أموالا، ويقدمون آراء يريدونها للإضرار برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نقض اليهود عهدهم مع رسول الله، وحزبوا الأحزاب وجاءوا بهم في حملة كبيرة، رغبة في استئصال شأفة الإسلام، والقضاء على الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظنا بأن خطتهم الدنيئة بما فيها من تخطيط وتدبير جاء ذكرها(74/296)
في سورتي الأحزاب والحشر وغيرهما.
فقد صور الله البلاء الذي نزل في قلوب الصحابة، وامتنانه سبحانه بصرف ذلك عنهم، وعودة الأحزاب خائبين فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (1) {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (2) {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (3) .
ظن مثيرو الفتنة ومحزبو الأحزاب، أن عملهم الذي اعتمدوا فيه على أنفسهم وتحزبهم نافع ومفيد ونسوا قدرة الله وحمايته لدينه ونبيه والمؤمنين، محققا لهدفهم في إطفاء نور الله، ومسكتا لصوت الدعوة، والقضاء على رسالة الله، والحامل لواءها.
لكن الله سبحانه أبطل كيدهم، وفرق جمعهم وأنزل الرعب في قلوبهم، ونشر سبحانه خزيهم بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، حتى يعرف المسلمون، ويدركوا فضل الله الذي صرف عنهم هذه الفتنة العظيمة، ولتكون واقعهم عبرة وعظة، ليصرف أنصار دين الله، في كل زمان ومكان الطوابير التي تخفي نواياها، وتندس في صفوف
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 9
(2) سورة الأحزاب الآية 10
(3) سورة الأحزاب الآية 11(74/297)
المسلمين، وتبرز رؤوسها كل ما بانت الفرصة في محاولة لإضعاف شوكة المسلمين، وتثبيط هممهم لكي تضعف رابطتهم بالله سبحانه، لكن الله هو الناصر والمعين سبحانه
وسورة التوبة والمنافقون فيهما وفي غيرهما من كتاب الله الكريم، بيان عن أسلوب المنافقين والباطنيين المندسين بين صفوف المسلمين في إثارة الفتن وسعيهم فيها، ونماذجهم بارزة في كل عصر، ومع كل فتنة تظهر: سواء صغرت أو كبرت.
ذلك أن الفتنة أول ما يبدأ ظهورها صغيرة، كالشرارة التي يتعاظم حجمها، كلما وجدت من يهتم بها وينفخ فيها: "ومعظم النار من مستصغر الشرر".
وسورة البقرة وآل عمران والتوبة، وغيرها من سور القرآن:
فيها تعرية بالصفات والأعمال لنوايا اليهود والمنافقين وكيدهم المبيت، ضد كل أمر يرفع راية الحق، ويدفع الباطل.
وكل ذلك من النماذج التي يجب أن يعتبر بها المسلم، ويأخذها قاعدة، بأن الفتنة تدور: إثارة وتتبعا وسعيا، دائما في أفئدة من ضعف الوازع الإيمان من قلبه، حيث ينشأ عنده إضمار الشر، ومحبة الفساد.(74/298)
والتعاون مع المعينين عليه، والله سبحانه لا يحب المفسدين.
ومن يستقرئ التاريخ الإسلامي، يجد لذلك أعمالا ضمن النماذج الكثيرة، إذ خلف كل شر فتنة مثارة، يحركها ويسعى فيها رجال خانوا دينهم، وضيعوا أمانتهم، وتعاونوا مع أعداء الله في حماية فتنتهم، ابتغاء مطامع دنيوية، وحسدا مع حب الإضرار والإفساد.
ولنا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطريقته في معالجة الفتن، وتصرفه مع مثيريها خير قدوة بترسم خطاه، والاقتداء بمنهجه في معالجة الأمور: بالرفق ولين الجانب، والحلم والنظرة الشاملة للعواقب، حيث أمرنا الله بذلك قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21(74/299)
المخرج من الفتن:
إن كتاب الله العظيم، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه من كلمة له: لا تفنى عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم.
فإن من يتتبع آيات الذكر الحكيم، يجد فيه العظة والحل، لمن أراد الله به خيرا، يقول سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (1) {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (2) .
ولا شك أن الفتن، ومن يحركها من هذا الاختلاف، ولا يثيرها في المجتمع الإسلامي إلا من يريد بالأمة فرقة وشرا، وهي من السنة السيئة، التي يتحمل وزرها من سعى فيها، وحركها من نومها، يقول صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة (3) » .
ذلك أن الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها، وهو أثر رواه القزويني في كتابه: التدوين في تاريخ قزوين، وقال عنه: جاء في الأثر، ولم ينسبه (4) .
__________
(1) سورة هود الآية 118
(2) سورة هود الآية 119
(3) من حديث مطول رواه مسلم في الزكاة، برقم 1017، والنسائي في الزكاة برقم 5\75، 76، عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
(4) ج 1: ص 297.(74/300)
فإن أهل الشر والفساد الذين لا يضمرون للأمة الإسلامية ولا لدين الله خيرا، هم الذين يزينون مداخل الفتن، ويتشوقون إليه، بالأماني والوعود، حتى يسهلوا لأصحاب الأهواء ولمن في قلبه مرض طريق الدخول فيها، وقد يدخل فيها من لا يدرك السر الذي جذبه إليها، ولا الهدف الذي يتجه إليه. وكما يقال: الدخول في الشبكات سهل، لكن الخروج منها صعب.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تحدث عن الفتن وأطال فيها، فقد حفظ ذلك من حفظه، وضيعه من ضيعه، فإنما يحذر أمته منها، ويعطيهم الحلول التي تثبت قلوبهم، عندما تبرز أمامهم بوادر الفتن، وأبان لهم أن في كتاب الله وسنته صلى الله عليه وسلم خير خلف في قيادة الأمة ولحفاظ أبنائها على سلامة الجوهر الذي يعتز به كل مسلم، وهو دينه الذي شرعه الله من أجل التمسك به، والسير على ما يوجد في المنهجين الأساسيين: القرآن والسنة، من توجيه ومخاطبة للعقول السليمة.
وقد يكون من المناسب أن تخاطب عقول بعض من طاشت عقولهم، في حوار يلامس الوجدان ويعين في فتح باب يخرج معه من دخل في الفتن مجرورا أو مقلدا، لعل قلبه يلين، وفكره يستيقظ، إذ هذه الفتن التي مرت بالبلاد، وحصل بسببها جرأة في القول، وعنف بالتصرفات، وتدمير في الممتلكات، وقتل نفوس بريئة، وتموج(74/301)
آثارها في كثير من المواقع على وجه الأرض، تحتاج من عقلاء الأمة، وعلمائها، إلى مناقشة الأمر بأساليب متنوعة، توضح المخارج من هذه الفتنة، والوسائل المعينة على ذلك.. ما بين وعظية، وعقدية، وبين وجدانية تحرك الأحاسيس والعواطف، وبين تخويف من عقاب الله، ودعوة إلى التوبة إلى الله، فإن الله يقبل توبة عباده، ويفرح بها بشروطها الثلاثة: الإقلاع عن الذنب، والعزم الصادق بعدم العودة إليه، والندم على ما حصل.
وهذا في حق الله سبحانه الذي دعا عباده إليه في آيات كريمة من كتابه الكريم، منها هذه الآية: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (2) والتوبة من أهم وأفضل المخارج من الفتنة التي تجر إلى المعاصي والآثام، ويرقص فيها عدو الله إبليس طربا، ويريدها أعوانه من شياطين الإنس والجن تأجيجا وترغيبا؛ لأنه يحز في قلوبهم أن تهدأ أمة الإسلام، وأن يكونوا صفا واحدا متراصين، قيادة ومقودين، علماء وعامة.
وهناك شرط رابع في التوبة، وهو المتعلق بالمخلوقين، بأن تعاد
__________
(1) سورة الزمر الآية 53
(2) سورة الزمر الآية 54(74/302)
الحقوق إلى أصحابها، واستسماحهم، سواء كانت مالا، أو عرضا، أو غيبة أو غير ذلك، من الحقوق المادية أو المعنوية.
ويؤكد هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في رأفة منه بالأمة، ورحمة قبل فوات الأوان، حيث قال: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (1) » .
وفي تحذيره صلى الله عليه وسلم من الفتن، بين المخرج منها، والتوبة التي جاء الحث عليها، في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا، هي أهم المخارج من الفتن.
وجعل صلى الله عليه وسلم من المخرج من الفتنة، لمن وقع فيها، أو خاف مما حوله أن يجره إليها ليقع بقصد أو بغير مقصد، أن السلامة من ذلك: اعتزال الناس، وكسر السيف حتى لا يستعمله فيها، والاعتزال في شعب من الشعاب (2) .
- إن كل مخلص لدينه، وأمته وفق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة، قيل لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (3) » .
__________
(1) رواه ابن ماجه والطبراني في الكبير، انظر: كشف الخفاء 1: 296.
(2) يراجع في هذا باب الفتن، عند البخاري وعند مسلم وغيرهما، وأحاديث حذيفة رضي الله عنه خاصة.
(3) رواه مسلم والنسائي وأبو داود عن تميم الداري رضي الله عنه جامع الأصول لابن الأثير 11: 557-559، برواياته.(74/303)
فإن من النصيحة والإرشاد لمن يريد المخرج من الفتن التي استشرفت ديار المسلمين، ووراءها ما وراءها، دعوة من ولج بابها، أو وقع في بعض الأعمال التي تدعو إليه، إلى مراجعة النفس، في ساعة صفاء وتعقل، كما تعقل بعضهم، ممن أنار الله قلبه، وبعد ما رأى حسن المعاملة والتسامح، وبالحوار الفكري المستمد من كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، مع الهدوء والتعقل في النقاش، حيث أبان بصدق وإخلاص خطأ ما سار فيه ودعا من يتب إلى التوبة والتبرؤ من العمل، وبعد ذلك نسألهم عن أمرين متضادين: الأول: ما الهدف وما المصلحة من هذا الأمر الذي اندفع فيه بعضهم، وهل يوافق شرع الله، وما قاله العلماء قديما وحديثا في الفتن.. وخاصة الأحاديث التي اختص بها الصحابي الجليل: حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
الثاني: ماذا جنت الأمة حتى توقعوها في الفتنة؟ وهل لكم أجر عند الله بهذا العمل، أم هو مخالف بشدة لأمر الله سبحانه وتحذيره بقوله الكريم: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) وهل فكرتم في جزاء من خالف أمر الله وأمر رسوله؟!!.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 25(74/304)
فقد خالفتم وبإصرار أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتن، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «ستكون فتن: القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي من تشرف لها تتشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به (1) » .
فإذا وضعنا الأمور في كفتين، فإن كفة الخير هي التي ترجح، وهي ما اهتم به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكبار التابعين، بعد ما عصفت بالأمة الفتن، التي تركت آثارا سلبية على خير القرون، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بانت في وقعتي: الجمل وصفين، بينما ملتم إلى كفة الشر، بأعمال ظهرت، وأقوال برزت، خطأكم فيها الخاصة والعامة، والبعيد قبل القريب. ولا معادلة بين الكفتين: إلا بالتوبة إلى الله، والبراءة من هذا العمل المشين. وفي هذا المجال، نجد من المناسب طرح بعض التساؤلات مع هؤلاء الذين تجرؤوا على أمتهم بعملهم التكفيري: لولاة الأمر، من حكام وعلماء، ومحكومين، بل في كل من يختلف مع منهجهم، ومسلكهم التخريبي وفكرهم المنحرف.. فكيف وهم قوم يدعون
__________
(1) رواه مسلم من طريق أبي هريرة رضي الله عنه برقم 9 كتاب الفتن وأشراط الساعة 5: 734.(74/305)
الإسلام، ينشرون الشر والتخريب، في أرض القداسات: عند حرم الله بمكة المكرمة، وعند مسجد رسول الله بالمدينة المنورة.
فنحب أن نخاطب عقولهم، ونحرك ضمائرهم، لعل الله ينير بصائرهم، ليحاسبوا أنفسهم قبل أن تحاسب، وليعرفوا الحق حقا ويرجعوا إليه، والباطل باطلا فيبتعدوا عنه، ولا يتغلب عليهم الشيطان ليصروا على أفعالهم وفكرهم؛ لأن الرجوع إلى الحق، خير من التمادي في الباطل يقول سبحانه: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (1) ، وإنها لأمانة نحملها من سمع ليبلغ فرب مبلغ أوعى من سامع حيث نسائلهم بالله الذي يجب أن يستشعروا عظمته وجبروته بين أعينهم ويضعوا الخوف منه في سويداء قلوبهم، وأمام خواطرهم، بأن يتمعنوا في هذه التساؤلات، ويجيبوا بينهم وبين أنفسهم أولا، مراقبين الله في هذا، ثم مطبقين بعد أن يلين الله القلوب، لمعرفة الحق وما يصححه من الدليل: من الكتاب والسنة، وأقوال العلماء المعتبرين.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه ومن دعاكم فأجيبوه (2) » ومن السؤال بالله هذه التساؤلات وما تحمل من معنى،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 8
(2) من حديث أخرجه أبو داود والنسائي من طريق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ينظر جامع الأصول لابن الأثير 11: 692.(74/306)
وجوابها عندكم معين بإذن الله على الخروج من الفتن، إذا كان وفق أمر الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(74/307)
التساؤلات:
1 - أليست تعاليم الإسلام تحرم قتل المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، حسب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا (1) » .
فلماذا أقدمتم على القتل، ولماذا أبحتم قتل فئات من المجتمع، وهم أنفس معصومة، مخالفين في ذلك الآيات في سورة النساء (2) ، ومجترئين على الله في حكمه، ومتهاونين بعقابه سبحانه في القتل العمد.
فكيف تقابلون الله بهذا الجرم، وما حجتكم؟ إن لم تبادروا بالتوبة الصادقة وتنفيذ شروطها.
2 - وما هو جواب من أفتاكم بقتل الأبرياء من المسلمين والمستأمنين بغير حق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة (3) » .
__________
(1) حديث صحيح جاء ضمن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
(2) سورة النساء، الآيتان 92، 93.
(3) وفي الباب أحاديث صحيحة عديدة كلها وعيد لمن قتل أو اعتدى على معاهد: جامع الأصول 2: 647-656.(74/307)
ولن يشفع لكم إذا تعلقوا بأعناقكم أمام الله يوم القيامة، وهم يطلبون من الله أن يقتص لهم منكم، في هذا الموقف الرهيب الذي يحكم فيه الرب الكريم العدل: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (1) .
وليس بمبرر أن تقولوا: أفتانا فلان، وغرر بنا علان، أليس لديكم عقول تدرك، وأذان تسمع، وأعين تبصر، وهبكم الله إياها، نعمة من نعمه، فحولتموها نقمة على أنفسكم، وحجة على تصرفاتكم، وأمامكم كتاب الله وسنة رسوله وأقوال العلماء قديما وحديثا، ممن لا يصدرون حكما إلا بدليله موثقا.
وبأي ذريعة تدفعون عن أنفسكم، وأنتم تتلاومون مع من غرر بكم، والله قد بين لكم المعذرة في حياتكم الدنيا، وتجاهلتم دلالة هذا القول الكريم: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (2) فهل ترضون أن تنزلوا إلى مرتبة الأنعام بل أضل؛ لأنها مستجيبة، ولم تكلف وأنتم عصيتم مع التكليف.
وليس بخاف عندكم أن الوفاء في ذلك الموقف: بالحسنات والسيئات فقط، ثم ما هو جواب من أفتاكم بغير علم، فضل وأضل.
__________
(1) سورة الكهف الآية 49
(2) سورة الأعراف الآية 179(74/308)
ثم أيضا لماذا لما تاب من أفتاكم، ونشر توبته، نزعتم الثقة منه، وتماديتم في غيكم، ورجعتم عليه لتكفروه وتبدعوه، فهل أحكام الله تتبع الهوى، وهل شرع الله يخضع للرغبات والمزايدات؟
3 - وبما تدفعون عن أنفسكم إذا خاصمكم أمام الله خلق كثير ممن نهبتم ماله: سرقة لسيارته أو تعديتم على حصيلة عمره، وعرق جبينه، أو تخريبا لمسكنه فأفسدتم ممتلكات وأحرقتم مساكن ومجمعات، بما ناله من بطشكم، وما تسلط عليه من أسلحتكم وأعمالكم الإرهابية التي أخافت الآمن، وروعت المطمئن، وأخربتم العامر، ودمرتم بيوتا على أهلها الوادعين الآمنين.
فبأي سبب عملتم هذا، وما المبرر الذي خولكم هذا الظلم والتعدي، ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل المسلم على المسلم حرام: ماله ودمه وعرضه (1) » .
لا شك أن الألسنة ستخرس، والجواب لا يقنع؟ بل سوف لن تجدوا جوابا.
4 - ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم قتل النساء والصبيان ومن لم يرفع القتال ضد المسلمين، والمدبر، وشدد
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (2/277) .(74/309)
وغضب لما رأى امرأة مقتولة في إحدى المعارك (1) .
فما موقفكم وكل هؤلاء من خصومكم الملتجئون إلى الله أن ينصفهم منكم، جزاء أفعالكم في يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، فقد عملتم كل هذا الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لم يوجد لديكم حسنات مرصودة لكثرة الدائنين والمظالم التي تجرأتم عليها، فإن لهؤلاء الغرماء مكسبا عظيما بعدل الله وحكمته البالغة، بأن يؤخذ من سيئاتهم فترمى عليكم، ليزداد ثقلها ووزرها عليكم، لتحملوا أوزارا مع أوزاركم، لترديكم المهالك، والخسارة الأبدية، فماذا أعددتم لذلك الموقف من استعداد وحجة.
كل هؤلاء -نتيجة أعمالكم- خصوم ضدكم، يطلبون من عدل الله في يوم الجزاء والقصاص ورد المظالم أن يأخذ حقهم منكم؟! ولا يظلم ربك أحدا.
5 - ثم إنكم تكفرون بجرأة: العلماء الأعلام، وولاة الأمور، وكل من لا يتفق مع رأيكم المنحرف، وأعمالكم السيئة الضالة.
وزاد في أمركم أن بعض المفتين لكم، لما تابوا من عملكم وعملهم معكم، بعدما بان لهم الحق كفرتموهم واتخذتم بدلهم مفتين
__________
(1) يراجع في هذا أحاديث أحكام القتال والغزو جامع الأصول 2: 589- 599.(74/310)
مضللين غيرهم، حسب الأهواء، ألا تعلمون إثم الجرأة على الفتوى، يزيد في الإثم عندما يتعمد ذلك من لا علم عنده، ليحمل وزرا فوق وزره. فهل كانت تعاليم الإسلام، وشرع الله الذي بين عباده، يتبع الهوى، أو يخضع للعناد والمكابرة بل ليست الفتوى بضاعة تباع وتشترى، ألم يرد عنكم وينبه ضمائركم قول الحق تبارك وتعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (1) .
إنه يوم تخضع فيه رقاب الجبابرة لعظمة الله والخوف منه سبحانه، وأنتم أذلاء أمام الله عز وجل، قد تبرأ منكم من أوقعكم في المصيدة.
فبماذا تجيبون عندما تسألون يوم البعث والنشور، وأسلحتكم التي تهددون بها، وترفعونها في وجه كل من نصحكم، أو أدام مخاطبتكم، ليوضح لكم الحق، وتشيحون عنه، هذه الأسلحة ليست أمامكم في هذا الموقف.
فما موقفكم وأنتم أذلاء، والناس يقتص بعضهم من بعض، قد تكاثر أمام الله خصومكم، كل يقول: يا رب سل هؤلاء لماذا كفرونا يا رب سل هؤلاء، لماذا خرجوا عن طاعة ولاة الأمور
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 71(74/311)
الذين ما عاهدناهم إلا محكمين لشريعتك، منفذين لحدودك، ودستورهم القرآن الكريم، ويشهدون لك بالوحدانية ويدعون لسبيلك بالحكمة والرفق، ويجادلون بالتي هي أحسن.
يا رب لماذا روعوا الآمنين، يا رب انتقم لنا ممن استهان بحرماتك، وتعدوا على حرمة بيتك المحرم، في مكة التي حرمها إبراهيم الخليل وفي المدينة التي حرمها محمد صلى الله عليه وسلم.
يا رب سل هؤلاء لماذا كفروا المسلمين، وشقوا عصا الطاعة، وقتلوا الأبرياء، رجالا ونساء وأطفالا ومستأمنين، فتكاثرت عليكم الاحتجاجات، وزادت المطالبات، فبماذا تجيبون وبأي لسان تدافعون عن أنفسكم، والأمور واضحة براهينها عليكم، بل تشهد بها عليكم أيديكم وأرجلكم وجلودكم، بعد أن أنطقها الله الذي أنطق كل شيء.
6 - وأين أنتم بأعمالكم السيئة وقد خلعتم بيعة السلطان، وسعيتم في الخروج عليه، في جميع ديار المسلمين من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات وليس في عنقه بيعة لولي الأمر، مات ميتة الجاهلية (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا، وإن تأمر عليكم عبد حبشي (2) » .
__________
(1) أخرجه مسلم عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما برقم 1815 في الإمارة.
(2) رواه الإمام أحمد، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، مسند الشاميين من مسند الإمام أحمد: 334-337.(74/312)
حتى أكد عليه الصلاة والسلام لمن قال له «ولو أخذ مالي ولو جلد ظهري؟ قائلا: ولو أخذ مالك ولو جلد ظهرك (1) » .
ولماذا عصيتم والديكم لمن كانوا على قيد الحياة، في هذا الأمر ولم تستأذنوهم أو تخبروهم؟؟ لما للوالدين من حقوق وواجبات.
7 - ولئن كنتم تدعون الجهاد، فلماذا لم تقرأوا أحكام الجهاد في الإسلام على المذاهب الأربعة لتعرفوا شروطه والتزاماته في شريعة الله "القرآن الكريم والسنة المطهرة"، لتدركوا رابطة ذلك بولي الأمر، ومن الذي يحق له رفع راية الجهاد ومتى، وما هي آدابه وتعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
8 - ثم لماذا أخذتم برأي الخوارج في الجهاد، الذين كفروا عليا رضي الله عنه، وندبوا واحدا منهم، فقتله بعد ذلك وكفروا صحابة رسول الله وهم خير القرون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأباحوا دماءهم وأموالهم، وقد بانت آراء العلماء فيهم، منذ خرجوا على علي رضي الله عنه.
فما حجتكم في هذا أمام الله سبحانه يوم القيامة، وبماذا تجيبون وعلى رأي من تستندون؟
وهل يفتون عنكم، أو يغنون عنكم شيئا في ذلك الموقف الذي يقول فيه كل فرد: نفسي نفسي، اللهم سلم سلم.
__________
(1) مسند أحمد (5/404) .(74/313)
9 - ولما كانت الأحكام ليست بالهوى، ورغبات النفوس، فلماذا خنتم ما أوجب الله في شريعته، شريعة الإسلام التي لا يقبل الله من الثقلين غيرها، لأهل الذمة عقودهم، ولم تراعوا العهود والمواثيق التي أمر الله بالوفاء بها.
10 - وهل غاب عمن يفتيكم، إن كان حريصا على الفتوى المستمدة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لماذا تعاميتم، وأنتم تبدعون مفتيا بان له الحق، وانتقد عملكم لتضعوا غيره، ممن يفتي بغير علم.
لأنكم تبحثون عمن يصدر قوله على هواكم، وتملون عليه الفتوى المناسبة لمن كان وراءكم وهي مخالفة لما جاء عند الله سبحانه، ولم يأذن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفترون على الله الكذب وأنتم تعلمون، وفي هذا مشابهة لأهل الكتاب الذين ذمهم الله سبحانه، في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) .
فهل رددتم كل عمل قمتم به إلى كتاب الله، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تعرفوا الحق بدليله.. الواقع ينفي ذلك؛ لأن
__________
(1) سورة النساء الآية 59(74/314)
الأمة بقيادتها وعلمائها، وكافة طبقاتها تخالفكم فيما قمتم به، وتنكر تصرفاتكم، وجاء في الأثر: ما رآه المؤمنون حسنا فهو حسن، وما رأوه قبيحا فهو قبيح (1) .
- وأيضا هل في قلوبهم إيمان، ممن خاطبهم الله جل وعلا، مرتين في أول الآية وفي ختامها التي مرت بنا، حيث بان من أعمالكم مخالفة أمر الله في هذه الآية، وبإصرار.
وحيث عصيتم أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام، في أحاديث كثيرة وصريحة، ومنها قوله الكريم: «لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال (2) » . وأنتم تلبسون ملابس النساء، لتغدروا وتتسلطوا، وتخدعوا الآخرين، فأوجبتم بالإصرار على هذا الأمر لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوته على من عمل هذا العمل، واللعن: يعني الطرد من رحمة الله، نعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله العافية.
فهل قست قلوبكم وكانت كالحجارة أو أشد قسوة، ولم تصغ للنداءات والمواعظ، ولا لتبديع أعمالكم التي تتكرر.
__________
(1) موقوف على أحد الصحابة.
(2) حديث صحيح رواه أبو داود برقم 4098 في اللباس، وإسناده حسن من طريق أبي هريرة رضي الله عنه.(74/315)
بل لم تلن قلوبكم لذكر الله، لتعود إلى الحق، وتتوب من عمل يخالف شرع الله، والحق أحق أن يتبع.(74/316)
11 - إنها تساؤلات كثيرة، وكل سؤال يحتاج جواب إلى مراقبة الله، وعدم اتباع الهوى أو إثبات طريق الضلال، في تحريم الحلال وتحليل الحرام حول إصراركم وتصرفاتكم، وتسببكم في ترمل نساء وتيتيم أطفال لا ذنب لهم ولا ناصر إلا الله، وأنعم به من ناصر سبحانه.
إن تعمقكم في دلالة النصوص الشرعية في كل تصرف قمتم به، خير معين لإخراجكم من الفتن، والابتعاد عن طريقها، وجلساء السوء الذين يدفعونكم إليها.
ذلك أن الإصرار على الباطل والخروج على ولاة الأمور والتشبه بالفرق الضالة المنحرفة، والتجرؤ على حرمات الله وموالاة من حاد الله ورسوله، من أعظم الجرأة على الله.
كما أن التصرفات التي برزت منكم: الترهيب وبث الرعب، والتخريب والتفجيرات التي نتيجتها القتل والتدمير، والترويع للآمنين، وتكفير خيرة علماء الأمة في هذا الزمان، ولا نزكي على الله أحدا، وإنما نحسبهم كذلك للإجماع على تفضيلهم، والأمة لا تجتمع على ضلالة في مقدمتهم الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ(74/316)
محمد بن عثيمين، والشيخ ناصر الدين الألباني، وهيئة كبار العلماء بالمملكة، وعلماء الإسلام كافة وحكامهم في العالم الإسلامي كله.
وهؤلاء وغيرهم ممن شهد لهم القاصي والداني بالورع والعلم والأمانة.. كل هذا من التعدي والظلم والقول على الله، وعلى رسوله بغير الحق.
12 - كما تجرأتم على الإفتاء بتكفير حكام هذه البلاد خاصة الذين بايعتهم الأمة، والعلماء والعقلاء بإقامة شرع الله، على نهج كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا توجد دولة دستورها القرآن الكريم، وتطبق شرع الله وحدوده على الجميع، إلا هذه البلاد، بل لا يوجد في وثائق الأمم المتحدة منذ تأسست وحتى اليوم، دولة على وجه الأرض، دستورها نسخة من كتاب الله غير هذه الدولة، فهل تريدون بعملكم طمس الحق، وإظهار الباطل، واتباع منهج من لم يحكم بما أنزل الله، عندما فتحتم باب الفتنة بذلك الأمر، كما قال عنكم: خالد الفراج الذي قتلتم والده، فبان له باطلكم، وتبرأ منكم بل بلغت بكم الجرأة إلى تكفير جده- الذي لقي ربه من زمن- عندما قال لكم عنه: إنه يدعو لولي الأمر منذ عشرات السنين، وكأنكم بهذا تلحقون به الإمام أحمد رحمه الله الذي يقول، مع ما أصابه من محنة وتنكيل: لو كان لي دعوة(74/317)
مستجابة لصرفتها إلى ولي الأمر؛ لأن صلاحه صلاح للأمة (1) . فاتقوا الله في أنفسكم قبل فوات الأوان، وهل تريدون استبدال شرع الله بالأهواء وحكم الجاهلية، ومن ثم الضياع والمعصية لله علنا، مما يوجب غضب الله، ونقمته، بل هل فكرتم في مثل هذه العاقبة فحاسبوا أنفسكم قبل كل شيء وأعرضوا كل أمر على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأمته بقوله الكريم: «تركت فيكم.. مما لن تضلوا إذا تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي (2) » .
وتحذيره عليه الصلاة والسلام من الاختلاف والفرقة، وما يدعو إليهما من قول أو عمل، وتمعنوا في واقع حالكم، قبل فوات الأوان، ولا تستسلموا لشياطين الإنس والجن وأعوانهم، فإنما يريدون أن يجعلوكم وقود فتنة عارمة، رأيتم أثرها فيما تساقط من ربعكم، وتوبوا إلى الله، ما دام باب التوبة مفتوحا، وتمعنوا فيمن يدفعكم إلى هذه الفتنة أين هو؟!!
هل دخل معكم هذا العمل؟ هل أبرز نفسه؟ أم اختبأ مع الكفار الذين يوجهون، ويدفعون لتأجيج هذا العمل: رغبة في بث الرعب والفوضى، في بلاد المسلمين في حرب معلنة على شرع الله
__________
(1) تراجع صحيفة الجزيرة عدد يوم السبت 18\8\1425 هـ ص 7 في مقابلة مع خالد الفراج.
(2) رواه مالك في الموطأ رقم 3 باب الغدر جامع الأصول 1: 277.(74/318)
ودينه الحق.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين (1) » ، ولعل هذا كاف لمن في قلبه إيمان وخوف من الله، ليتدارك أمره قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها.
13 - كما أن هناك أسئلة قابلة للطرح عديدة لا يتسع المجال لها، قدمنا لكم بعضها، وهي تدعو للإجابة الصريحة الصادقة، ومن ثم الاستئناس بها، مدعومة بقال الله، وقال رسوله، وما ثبت عن الخلفاء الراشدين، والصحابة الكرام، وأيده التابعون، ومن جاء بعدهم بإحسان. بعيدة عن النزعات الشخصية، والآراء الفردية، والتعصب الأعمى، الذي يقود إلى الضلال، والطريق المظلم.
كما أن أعمالكم التي قمتم بها، وسعيتم في تأجيج نارها، في هذه البلاد الآمنة المطمئنة، أنكرها عليكم الخاص والعام، جاءت نتائجها غير مريحة لكم، ولمن وراءكم إذ ازداد التلاحم بين المواطن وولاة الأمر والعلماء.
ولم تخدم إلا أعداء الله، وأعداء دينه الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا بل أحدثت صدى سيئا أضر بالدعوة الإسلامية
__________
(1) رواه الترمذي وأبو داود والنسائي عن جرير بن عبد الله جامع الأصول 4: 445 وقال: أثر يروى لبعض الصحابة.(74/319)
في كل مكان، وضيقا نتيجة لأعمالكم على المسلمين في ديار الغرب: في العبادات والأعمال الخيرية: وفي اللباس وفي حجاب المرأة وأحدثت رد فعل على كل عمل يرتبط بالمسلمين في مجالات عديدة.
فأحزن ذلك كل مسلم غيرته على دين الله الذي طعن ممن ينتمون إليه، وفرح من يضمر الشر للإسلام وأهله: بدين الله وبالبلاد.. وتطاولوا على كتاب الله بالبهتان، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقواله بالحقد والكذب.
فكيف رضيتم لأنفسكم بالسنة السيئة، التي تتحملون وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام. نقول: فهل يرضيكم، وأنتم من بيوت مسلمة، وترعى أمانة الله، بأن تكونوا موالين لأعداء الله، ومخلب قط للحاقدين والأعداء.. والسير في الدرب الذي كانوا يتوقون إليه، ولكن منعهم من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر (1) » .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم والنسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما جامع الأصول 8: 529، 530.(74/320)
ففتح عملكم الذي قمتم به، لهم الأمل بكسر هذا الطوق، وتجرأتم بالاستهانة بأمور كبيرة في دينكم، فأدركوا- وهم أعداء لله ولدينه- أن الله سيتخلى عنكم. بمخالفتكم أوامره سبحانه، وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يهون عليهم الغدر بكم؛ لأنهم استخفوا بكم، ويريدون تحقيق مآربهم بواسطتكم: " من عصاني وهو يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني " (1) .
وفيما بقي من الوقت نرجو أن تراجعوا أنفسكم وأن تتوبوا إلى الله توبة نصوحا والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وجددوا إيمانكم، واستمعوا إلى هذا النداء من رب العزة والجلال واعملوا به: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) ذلك أن الرجوع إلى الحق فضيلة، ومنقبة حميدة، والتمادي في الباطل خسارة وضياع واعتبروا بمن تاب ورجع عن هذا المسلك، وما عبروا عنه من راحة وإكرام.
14 - أما بعد هذا الحوار، فقد أعذرنا، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ذلك أن شريعة الله لعباده قد جاءت منذرة للإنسان ومحركة لنبضة الإيمان في قلبه: بالبيان والرفق، والقول الحسن وبالجزاء لمن أطاع، والعقاب لمن عاند وعصا.
__________
(1) أثر يروى لبعض الصحابة رضي الله عنهم.
(2) سورة النور الآية 31(74/321)
وهذه المعصية جاء الخطاب فيها: من الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، على مراحل: الإنذار، ثم التخويف من سوء العاقبة، ومن لم تفد فيه هذه الأمور، فإن الجزاء على الحدود والمعاصي رادع، ومنها لسد باب الفتن، جزاء الحرابة في سورة المائدة (1) ؛ لأن من لم يكن في قلبه واعظ، لا تنفعه المواعظ.. وقد جعل الله لولي الأمر سلطة يردع الله بها المسيء وتخيف من في قلبه مرض، ويروى لعثمان بن عفان الخليفة الراشد قوله: يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
وإذا كان الأطباء يرون بتر العضو الفاسد من جسم الإنسان حتى لا يتسبب في موت المريض، فإن في أحكام الله كالحرابة، وقطع يد السارق، وقتل الزاني المحصن، وغيرهم صلاحا للمجتمع، وتخويفا عن الجريمة والسعي فيها.. ولله الحكمة البالغة في تشريعه؛ لأنه أعلم بما يصلح العباد والبلاد سبحانه، وهو بعباده جل وعلا روؤف رحيم، تواب غفور.
__________
(1) سورة المائدة، الآيتان 32، 33.(74/322)
قيمة الزمن في القرآن الكريم
لفضيلة الدكتور عودة عبد عودة عبد الله
تمهيد:
الزمن هو مادة هذه الحياة، والروح التي تجري في عروقها، فما الحياة في حقيقتها إلا زمن يمر ويمضي، ومن أدرك الزمن على حقيقته، فقد أدرك هذه الحياة على حقيقتها، وبانت له معالم الطريق الذي ينبغي سلوكه. وما الزمن إلا حياة الأمم، إذا حافظت عليه دبت الحيوية في شرايينها، وإذا أهملته أمست هامدة خامدة لا روح فيها ولا حياة.
والناظر في أحوال المسلمين اليوم يتملكه الحزن الشديد لما يرى من تضييع الأوقات في سفاسف الأمور ومحقراتها بما لا يؤدي إلى نفع عام أو خاص، ولو اتبع المسلمون هدي قرآنهم وهدي نبيهم لاحتلوا موقع القيادة والريادة الذي كانت أمتنا تتبوأه في عصورها الزاهية، ولو فعلوا ذلك لما وصلت إليه حالهم إلى ما آلت إليه الآن(74/323)
من التراجع والذل والخضوع، حتى صاروا في ذيل القافلة، وقد كانوا منها في مأخذ الزمام، وهانت عليهم نفوسهم، فاحتلت أوطانهم، واستمرءوا العيش في الحضيض. وما وصل الغربيون إلى القمة في العلوم التقنية والإنسانية إلا بمحافظتهم على الزمن والإفادة من ساعاته ودقائقه اليسيرة في كل أحوالهم.
ومن هنا يأتي هذا البحث لبيان قيمة الزمن، والتنبيه إلى مكانته، انطلاقا من النصوص القرآنية الغنية بالتوجيهات التي تبين قيمة الزمن وتنوه بشرفه وفضله. وذلك في محاولة للخروج من حالة الركود والتثاقل إلى حالة الحركة والفاعلية، وهذا لا يتأتى إلا من خلال الوعي التام بقيمة الزمن في الحياة الإنسانية.(74/324)
المبحث الأول: مفهوم الزمن وأهميته
أولا: مفهوم الزمن
الزمن في اللغة: اسم لقليل الوقت وكثيره. يقال: زمان وزمن، والجمع أزمان وأزمنة. ويقال: أزمن الشيء أي طال عليه الزمن، وأزمن بالمكان أقام به زمانا. ويقولون: لقيته ذات الزمين؛ فيراد بذلك تراخي المدة. والزمن والزمان لفظتان تحملان نفس المعنى،(74/324)
ولا فارق بينهما فهما تنتميان إلى مادة لغوية واحدة.
أما مفهوم الزمن في اصطلاح علماء المسلمين فهو مرتبط بمعناه اللغوي، فهو يعني: ساعات الليل والنهار، ويشمل ذلك الطويل من المدة والقصير منها. وبذلك عرفه الزركشي إذ يقول: "إن الزمان الحقيقي هو مرور الليل والنهار، أو مقدار حركة الفلك. ولا يخفى ما بين هذا المعنى والمعنى اللغوي من ارتباط وثيق.
وبالنظر في القرآن الكريم، فإننا نجد أنه لم يستخدم مصطلح "الزمن" وإنما وردت فيه ألفاظ دالة على الزمن، ومن ذلك:
- الوقت. قال تعالى: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} (1) {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} (2) .
- الحين. قال تعالى: {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (3) .
__________
(1) سورة الحجر الآية 37
(2) سورة الحجر الآية 38
(3) سورة هود الآية 5(74/325)
- الدهر. قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} (1) .
أما في السنة النبوية، فإننا نجد هذا المصطلح قد ورد في أكثر من موضع، ومن ذلك:
- قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب (2) » .
- وقوله صلى الله عليه وسلم: «يتقارب الزمان وينقص العمل، ويلقى الشح، ويكثر الهرج، قالوا: وما الهرج؟ قال: القتل، القتل (3) » .
هذا إضافة إلى ورود المفردات الزمنية الأخرى كالدهر
__________
(1) سورة الإنسان الآية 1
(2) رواه مسلم. انظر: مسلم: صحيح مسلم، كتاب الرؤيا، حديث رقم 2263، ج 4، ص 1415.
(3) رواه البخاري. انظر: الصحيح مع الفتح، كتاب الأدب، باب رقم 39، حديث رقم 6037، ج 12، ص 72.(74/326)
والوقت، ونحوها.
ولا بد من الإشارة هنا إلى وجود ارتباط وثيق بين مفهوم الزمن وبين دلالته الفلسفية، ولذلك فإن قواميس اللغة، وكتب التاريخ والتفسير عندما تتحدث عن مفهوم الزمن، تتخذ مسارا فلسفيا مقصودا، بحيث يصعب بالتالي إدراك المعنى الأصلي للزمن بعيدا عن المذاهب الفلسفية. ونظرا لهذا الارتباط، فإني سأعرج - باختصار- على مفهوم الزمن في الفلسفة. فأفلاطون - على سبيل المثال- يرى أن الزمن حادث ومخلوق (1) . ويدل على أن هذا هو مذهبه في الزمن، قول أرسطو: إن الأقدمين جميعا ما عدا أفلاطون اعتقدوا أن الزمان قديم، أما هو، فقد جعله حادثا، إذ قال: إنه وجد مع السماء، وإن السماء حادثة (2) .
أما أرسطو فهو يرى أن الزمن فعل واحد، وشيء متصل، بسبب اتصال الحركة، وقد تصوره متصلا وعد الوقفات فيه وهما؛
__________
(1) العاتي، إبراهيم: الزمان في الفكر الإسلامي، ص 76. مترجم عن كتاب ''طيماوس'' لأفلاطون.
(2) انظر: أكرم، يوسف تاريخ الفلسفة اليونانية، ص 87.(74/327)
لأن الحركة والزمان لا بداية لهما ولا نهاية (1) .
وإذا ما انتقلنا إلى الفلسفة الإسلامية، نجد أن بعض الفلاسفة المسلمين قد تأثروا بالفلسفة اليونانية، بينما حافظ الآخرون على هويتهم الإسلامية. فأبو العلاء المعري من الفريق الأول، يقول بأن الزمن أزلي أبدي، أي لا بداية لوجوده ولا نهاية، ونجد ذلك ماثلا في أشعاره، فهو يقول:
نزول كما زال أجدادنا ... ويبقى الزمان على ما نرى
نهار يضيء وليل يجيء ... ونجم يغور ونجم يرى (2)
بينما رفض الفريق الثاني من الفلاسفة المسلمين الانجرار وراء هذه الأقاويل، ووافقوا جمهور المسلمين في القول بحدوث الزمن ومخلوقيته، كما هو الأمر عند الغزالي والكندي وغيرهما (3) .
وعند إلقاء نظرة على أقوال الفلاسفة بشكل عام يتضح أن نظرتهم إلى الزمن هي نظرة عقلية تجريدية، خاضعة إلى نجاح العقل وفشله، وإلى إبداعه وتقصيره، مما جعلهم يدخلون في متاهات عديدة، ويضطربون في أقوالهم على غير هدى، فيصيبون حينا
__________
(1) انظر: الألوسي، حسام الدين: ''الزمان في الفكر الديني والفلسفي القديم'' مجلة عالم الفكر، ص 476.
(2) المعري، أبو العلاء: اللزوميات، ص 79.
(3) انظر: الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص 56. الطباع، عمر: الكندي فيلسوف العرب والإسلام، ص 193.(74/328)
ويخطئون أحيانا.(74/329)
ثانيا: قيمة الزمن
الزمن هو أنفس وأثمن ما يملك الإنسان، فهو الوعاء الحقيقي لكل عمل وإنتاج، وبقدر إفادة الإنسان من هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه، بقدر ما يعود ذلك عليه وعلى مجتمعه بالنفع والخير، سواء أكان ذلك في الدنيا أم في الآخرة؛ ولذلك ينبغي على الإنسان أن يعرف شرف زمنه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة وطاعة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل. وما عمر الإنسان في حقيقته إلا مجموعة من الأيام، وكل يوم يمضي من هذه الأيام، وكل لحظة تمر لا يمكن استعادتها أو تعويضها. وفي ذلك يقول الحسن البصري رحمه الله: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك" (1) . ويقول: "ما من يوم ينشق فجره، إلا وينادي: يا ابن آدم، أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة" (2) . وما أجمل قول الشاعر:
دقات قلب المرء قائلة له ... إن الحياة دقائق وثواني (3)
__________
(1) انظر الخبر في: الأصفهاني: حلية الأولياء ج 2، ص 148.
(2) انظر: المرجع السابق، ج 2، ص 147.
(3) البيت لأحمد شوقي، قاله في رثاء مصطفى كامل. انظر: شوقي، أحمد: الموسوعة الشرقية، ج 5، ص 356.(74/329)
ومع أن الزمن على هذه الدرجة من الأهمية، إلا أنه ينقضي بسرعة، ويسهل ضياعه، فهو يمر مر السحاب، ويجري جري الريح، سواء أكان زمن مسرة وفرح، أم زمن اكتئاب وترح، وإن كانت أيام السرور تمر أسرع، وأيام الهموم تسير ببطء وتثاقل، لا في الحقيقة ولكن في شعور صاحبها. وفي ذلك يقول الشاعر:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه ... وأراه أسهل ما عليك يضيع
يقول ابن القيم في الحديث عن منزلة الغيرة: "ومنها (1) الغيرة على وقت فات، فإن الوقت أبي الجانب، بطيء الرجوع، فالوقت أعز شيء على العابد، يغار عليه أن ينقضي بدون ذلك (2) ، فإذا فاته الوقت لا يمكن استدراكه البتة؛ لأن الوقت الثاني قد استحق واجبه الخاص ... فالوقت منقض بذاته، منصرم بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، وعظم فواته، واشتدت حسراته، فكيف حاله إذا علم عند تحقق الفوت مقدار ما أضاع، فطلب الرجعى، فحيل بينه وبن الاسترجاع، وطلب تناول الفائت، وكيف يرد الأمس في اليوم الجديد (3) .
__________
(1) أي من درجات الغيرة.
(2) أي بدون عبادة.
(3) ابن القيم: مدارج السالكين، ج 2، ص 840، 841.(74/330)
وقد كان السلف الصالح، ومن سار على نهجهم من الخلف، أحرص الناس على كسب الزمن، والإفادة منه في الخير، فقد كانوا ينافسون الزمان، يسابقون الساعات، ويبادرون اللحظات، حرصا منهم على الزمن، وعلى ألا يذهب منهم هدرا. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، نذكر فيما يلي بعضا منها:
نقل عن عامر بن عبد قيس أن رجلا قال له: كلمني، فقال له: أمسك الشمس (1) . يعني أوقف لي الشمس واحبسها عن المسير حتى أكلمك، فإن الزمن دائب المضي، لا يعود بعد مروره، فخسارته لا يمكن استدراكها؛ لأن لكل زمن ما يملأه من العمل. وكان الواحد منهم يحفظ كل لحظة من زمنه حتى في حال النزاع. نقل في ذلك عن ثابت البناني أنه قال: ذهبت ألقن أبي، فقال: يا بني دعني، فإني في وردي السادس (2) . كما يروي الفقيه أبو الحسن الولوالجي، أنه دخل على أبي الريحان البيروني، وقد حشرج نفسه، وضاق به صدره، فقال لي في تلك الحال: كيف قلت لي يوما حساب الجدات الفاسدات فقلت له إشفاقا عليه: أفي هذه
__________
(1) انظر الخبر في: ابن الجوزى: صيد الخاطر، ص 18.
(2) انظر الخبر في: أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج 2، ص 322.(74/331)
الحالة؟ قال لي: يا هذا أودع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيرا من أن أخليها وأنا جاهل بها فأعدت ذلك عليه، فحفظ، وعلمني ما وعد، وخرجت من عنده، وبينما أنا في الطريق سمعت الصراخ عليه (1) .
ولقد كان أمثال هؤلاء يحسنون المحافظة على كل لحظة من وقتهم، حتى أن أحدهم كان يستحي من سواد الليل وظلمته، إذا مرت عليه ليال وأيام لم يقم فيها لله ركعتين. وفي ذلك يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: "أدركت أقواما يستحون من الله في سواد الليل من طول الهجعة، إنما هو على الجنب فإذا تحرك قال: ليس هذا لك، قومي خذي حظك من الآخرة " (2) .
وهاهو الإمام ابن الجوزي - رحمه الله- يصف لنا حال الناس كيف يضيعون أزمانهم في الزيارات والحديث الذي لا طائل من ورائه، ويبين لنا كيف كان يصنع إذا زاره بعض البطالين لئلا يذهب الزمن فارغا دون فائدة ترجى، فيقول رحمه الله:
"لقد رأيت خلقا كثيرا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطيلون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، ويتخلله غيبة. وهذا شيء
__________
(1) انظر القصة في: الحموي، ياقوت: معجم الأدباء، ج 5، ص (123، 124) .
(2) ابن الجوزي: صفة الصفوة، ج 2، ص 241.(74/332)
يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور وتشوق إليه، واستوحش من الوحدة، وخصوصا في أيام التهاني والأعياد، فنراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان. فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهازه بفعل الخير، كرهت ذلك وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم، وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم، ضاع الزمان، فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، ثم أعددت أعمالا لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغا. فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد (1) ، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم، لئلا يضيع شيء من وقتي. (2) وإذا علمنا أن ذلك مبلغ حرصه على الزمن، والإفادة من كل جزء منه في القراءة والتصنيف، لم نستغرب قوله: "وإني أخبر عن حالي، ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابا لم أره فكأني وقعت على كنز.. ولو قلت: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد
__________
(1) الكاغد: هو القرطاس أو الورق. انظر: الفيروز آبادي: القاموس المحيط، ج 1، ص 333.
(2) ابن الجوزي: صيد الخاطر، ص 184، 185.(74/333)
كان أكثر، وأنا بعد في الطلب، فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر هممهم، وحفظهم، وعباداتهم، وغرائب علومهم، ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت أستزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب، ولله الحمد (1) .
وهناك من الخلف من سار على نهج السلف القويم وأدرك قيمة الزمن الذي يعيشه. فها هو الإمام حسن البنا - رحمه الله- يدرك قيمة الزمن، ويستغرب من أناس يضيعون أوقاتهم دونما فائدة ترجى، وفي ذلك يقول:
"ليس يعلم أحد إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلل العلل والأدواء، ونفكر في العلاج وحسم الداء، ويفيض بنا التأثر لما وصلنا إليه إلى حد البكاء. وكم كنا نعجب إذ نرى أنفسنا في مثل هذه المشغلة النفسانية العنيفة والخليون هاجعون يتسكعون بين المقاهي ويترددون على أندية الفساد والإتلاف. فإذا سألت أحدهم عما يحمله على هذه الجلسة الفارغة المملة، قال لك: أقتل الوقت، وما درى هذا المسكين أن من يقتل وقته إنما يقتل نفسه، فإنما الوقت هو الحياة " (2) .
__________
(1) المرجع السابق، ص 337، 338.
(2) البنا، حسن: مجموعة الرسائل، ص 169.(74/334)
إلى غير ذلك من النماذج الرائعة التي يظهر فيها حرص القوم على كل لحظة من لحظات الزمن. ولا غرابة في ذلك، فإنهم ذاقوا طعم القرآن وحلاوته، فحرصوا على وقتهم. فحري بنا أن نقتدي بتلك الكوكبة، ونسير على خطاهم، ونعدهم قدوة لأبناء هذا العصر، الذين شغل الكثير منهم باللهو والترف عن جلائل الأمور، والذين ضيعوا كثيرا من أوقاتهم فيما لا يعود عليهم وعلى مجتمعاتهم بالفائدة والخير.(74/335)
ثالثا: عناية القرآن الكريم بالزمن
عني القرآن الكريم بالزمن عناية فائقة، وجاءت عنايته بالزمن من وجوه، أهمها:
1 - اعتبار الزمن من النعم العظيمة
يقول الله سبحانه في معرض الامتنان، وبيان عظيم فضله على الإنسان: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1) فالليل والنهار نعمة جليلة أنعم الله تعالى بها على الإنسان، وهي
__________
(1) سورة النحل الآية 12(74/335)
نعمة ذات أثر حاسم في حياة هذا المخلوق البشري، ولا يمكن لنا أن نتصور في هذه الأرض حياة للإنسان لو كانت الدنيا نهارا بلا ليل، أو ليلا بلا نهار.
ويقول سبحانه في موضع آخر، في سياق تعداد نعمه على الإنسان: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (1) {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (2) .
فالليل والنهار مسخران "وفق حاجة الإنسان وتركيبة، وما يناسب نشاطه وراحته. ولو كان نهار دائم أو ليل دائم لفسد جهاز هذا الإنسان؛ فضلا عن فساد ما حوله كله، وتعذر حياته ونشاطه، وإنتاجه" (3) .
2 - اعتباره من الآيات الدالة على وجود الله.
ومما يدل على أهمية الزمن في القرآن، وعناية القرآن الكريم به، أن الله سبحانه وتعالى جعل الليل والنهار وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر من الآيات الدالة على وجوده، فقال في ذلك: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} (4) فالليل والنهار آيتان دالتان على وجود
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 33
(2) سورة إبراهيم الآية 34
(3) قطب، سيد: في ظلال القرآن، ج 4، ص 2108.
(4) سورة الإسراء الآية 12(74/336)
الصانع، وعظيم القدرة؛ لأنه لا بد لكل متغير من مغير. وهو سبحانه لم يجعل الليل والنهار على هذه الصورة- بحيث يخلف أحدهما الآخر- عبثا، وإنما جعلهما كذلك لمن أراد أن يتذكر أي "لينظر في اختلافهما الناظر، فيعلم أن لا بد لانتقالهما من حال إلى حال، وتغيرهما من ناقل ومغير" (1) كما يلحظ في الآية الكريمة تخصيص الليل والنهار بأنهما آيتان دون غيرهما من الوحدات الزمنية. وفي ذلك لطيفة قرآنية نلمح من خلالها الإشارة إلى أن الليل والنهار هما بمثابة المحور الذي تشد إليه وتقاس بالنسبة له كل الوحدات الزمنية، سواء تلك التي تقل عنه ابتداء من الثانية، أو تلك التي تزيد عنه إلى ما شاء الله تعالى من السنين والقرون، فما الثانية إلا جزء من الليل والنهار، والسنة إلا مجموعة من الأيام، والقرن إلا مجموعة من السنين (2) .
3 - الإشارات القرآنية إلى قيمة الزمن
وفي القرآن الكريم إشارات لطيفة إلى قيمة الزمن وأهميته في حياة الإنسان، وحض على الاستفادة منه بعيدا عن الغفلة
__________
(1) انظر: الزمخشري: الكشاف، ج 3، ص 282.
(2) انظر: باجودة، حسن: تأملات في سورة الإسراء، ص 84.(74/337)
والتسويف، وما كلمات "استبقوا" و"سارعوا" ونحوها إلا تأكيد لهذه المعاني.
قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) وأصل السبق: هو التقدم في السير. والمراد منه هنا المعنى المجازي، وهو الحرص على مصادفة الخير والإكثار منه، خشية هادم اللذات، وفجأة الفوات (2) .
وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (3) والمسارعة: هي المبادرة أي الحرص والمنافسة في عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة ودخول الجنة، حتى لكان كل واحد من الناس يسرع ليصل قبل غيره (4) .
وفي لفظتي "استبقوا" و"سارعوا" ما يشير إلى قيمة الزمن؛ فالعمر قصير، ولا يكفي المؤمن -إذا أراد الدرجات العلى- أن يفعل الخيرات وهو متراخ في ذلك، بل لا بد من الاستباق في الخير والمسارعة إلى المغفرة، بمعنى: أن يستغل كل لحظة من وقته للسير في
__________
(1) سورة البقرة الآية 148
(2) انظر: ابن عاشور: التحرير والتنوير، ج 2، ص 43.
(3) سورة آل عمران الآية 133
(4) انظر: ابن عطية: المحرر الوجيز، ج 1، ص 507. ابن عاشور: التحرير والتنوير، 4، ص 88.(74/338)
الطريق الموصلة إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وكأنه في صراع حقيقي مع الزمن.
4 - الدعوة إلى استثمار الزمن في الخير
من منهج القرآن الكريم في العناية بالزمن، الدعوة إلى الحرص عليه، والعمل على استثماره والإفادة منه، وتسخيره دائما في الخير، ويبرز القرآن الكريم هذه القضية في صور عديدة ومناسبات شتى.
فحينما يبين أن نهاية هذه الحياة إنما هو الموت سواء طالت أم قصرت، فإنه يوجه نحو استثمار هذه الحياة في الخير؛ لأنها ليست نهاية المطاف، وإنما بعدها حياة أخرى هي خير وأبقى، يقول سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (1) {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (2) .
وللتدليل على قصر هذه الحياة الدنيا وأهمية استثمارها والإفادة منها، يصورها القرآن الكريم بالنبات الذي يخضر بنزول الغيث، ثم ما يلبث بعد وجيزة من الزمن أن يصفر ويموت. يقول تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (3) .
__________
(1) سورة المنافقون الآية 9
(2) سورة المنافقون الآية 10
(3) سورة الحديد الآية 20(74/339)
لذا ينبه القرآن على ضرورة استثمار هذا الوقت القصير في عمل الخير الذي لن يفيد الإنسان غيره، ولن يبقى معه في قبره سواه، فضلا عن سؤاله وحسابه عن تضييع هذا الوقت، وعما صنعه فيه (1) .
ويعرض القرآن الكريم لنا نماذج لهؤلاء الذين يستغلون وقتهم على أتم وجه ليكون لنا الاقتداء بهم، {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) فهم يستغرقون كل زمانهم في ذكر الله عز وجل والتفكر في خلقه. نستنتج مما سبق أن القرآن الكريم نوه بشرف الزمن وفضله، وفي هذا ما يدعونا إلى ضرورة تقدره بقدره؛ لأن ذلك يساعد على الفلاح ويهم للنجاح، وعلى العكس تماما، فإن إغفال الزمن وعدم إعطائه الأهمية اللازمة، فيه تفريط بهذه النعمة، وتحقيق لتعاسة الإنسان.
__________
(1) انظر: غنايم، محمد ''منهج الإسلام في العناية بالزمن ''، مجلة الجندي المسلم، ص 17.
(2) سورة آل عمران الآية 191(74/340)
المبحث الثاني: القسم بالزمن في القرآن الكريم
مما يدل على عظيم أهمية الزمن في القرآن الكريم، قسم الله سبحانه وتعالى به، فهو سبحانه قد أقسم بعدة أمور في كتابه(74/340)
الكريم، ولا شك أن الله لا يقسم بشيء إلا إذا كان هذا الشيء عظيما، فقد أقسم سبحانه بنفسه، وبالقرآن (1) ، ونحو ذلك من الأمور العظيمة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم.
وأقسم القرآن بالزمن سواء بذاته أو بأجزائه، وفي ذلك "تنبيه على أنه آية كبرى من آيات الله، وتنبيه على عظم نفعه ووجوب استغلاله، والإفادة من كل أجزائه".
ففي القسم بالزمن قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) ، كما أقسم سبحانه بأجزاء الزمان وهي: الفجر، والصبح، والضحى، والشفق، والنهار، والليل، والليالي العشر، ويوم القيامة، والعمر، على ما سأبينه بعد قليل إن شاء الله.
وفي القسم بهذه الوحدات الزمنية تنبيه على الاعتبار بها في الاستدلال على حكمة نظام الله في هذا الكون وبديع قدرته (4) .
__________
(1) قال تعالى: {ق والقرءان المجيد} سورة ق، الآية 1.
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) ابن عاشور: التحرير والتنوير، ج 30، ص 387.(74/341)
ولهذا سلك طائفة من العلماء طريق الاستدلال بالزمن على الصانع، وهو كما يقول ابن القيم: "استدلال صحيح قد نبه عليه القرآن في غير موضع (1) .
ومما يدل على ذلك إلقاء نظرة على السور القرآنية التي أقسم الله فيها بالزمن ووحداته، عندها سنجد أنها سور مكية، والسور المكية -كما نعلم- تركز على العقيدة بشكل خاص، ومن ذلك الاستدلال على وجود الخالق، ومن هنا جاء القسم بالزمن في السور المكية من أجل لفت الأنظار إليه باعتباره دليلا واضحا، وبرهانا قاطعا، على وجود الخالق، وعلى بديع حكمته سبحانه في هذا الكون.
وأستعرض فيما يلي المواضع إلى أقسم فيها سبحانه بالزمن وأجزائه في القرآن الكريم:
__________
(1) ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن، ص 40.(74/342)
أولا: القسم بالعصر
أقسم سبحانه وتعالى بالعصر في السورة التي سميت باسمه، فقال: {وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) هذه السورة وبالرغم من قلة عدد كلماتها، إلا أنها تمثل منهجا كاملا
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3(74/342)
للحياة البشرية كما يريدها الإسلام.
واختلف المفسرون في معنى " العصر" المقسم به في السورة على أقوال:
الأول: أنه الدهر أو الزمن، قال الراغب: " والعصر والعصر: الدهر، والجمع: العصور"، ومثل على أن العصر معناه الدهر بسورة العصر (1) . وقال ابن كثير: "العصر: الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم من خير وشر" (2) .
الثاني: أنه أقسم بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بزمان الرسالة، فيكون المقسم به هو العصر الذي فيه هذا الرسول أو هذه الرسالة لشرفه.
الثالث: أن المراد به صلاة العصر أو وقتها، أقسم سبحانه بها لفضلها، وقيل: هي المرادة بالصلاة الوسطى في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (3) .
الرابع: أن العصر هو أحد طرفي النهار.
والراجح مما سبق -كما يبدو لي- أن يكون المراد بالعصر
__________
(1) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ص 569.
(2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ج 4، ص 582.
(3) سورة البقرة الآية 238(74/343)
هو الزمن كله، وصرح ابن القيم بأن ذلك هو قول المفسرين (1) . وهذا المعنى معروف في شعر العرب، ومنه قول العجاج:
والعصر قبل هذه العصور ... مجرسات غرة الغرير (2)
ثم إن لفظ (العصر) عام، وليس هناك ما يخصص ما شمله هذا الاسم من المعاني، فإذا قلت بأنه الزمن؛ فذلك يشمل صلاة العصر ووقتها، وعصر الرسول والرسالة، وطرفي النهار، فيكون القسم به على عمومه داخل فيه هذه الأمور، فالأولى إذا حمل اللفظ على عمومه.
وعلى هذا يكون سر قسمه سبحانه بالعصر أو الزمن، نابع من العبرة والآية في هذا الزمن، والمتمثلة في مرور الليل والنهار، وتعاقبهما، على هذا الترتيب الدقيق، والنظام المحكم، واعتدالهما تارة، وأخذ أحدهما من صاحبه تارة أخرى، واختلافهما في الضوء والظلام، والحر والبرد، وانتشار الحيوان وسكونه، ثم إن انقسام الزمن إلى القرون والسنين والأشهر والأيام والساعات ودونها، آية من آيات الله تعالى، وبرهان من براهين قدرته وحكمته (3) .
__________
(1) ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن، ص 114.
(2) العجاج: ديوان العجاج، ص 223. مجرسات: مجربات. انظر: تحقيق عزة حسن لديوان العجاج، ص 223.
(3) انظر: ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن، ص 114، 115.(74/344)
ثانيا: القسم بالفجر
كما أقسم سبحانه بالفجر في السورة التي سميت باسمه كذلك،(74/344)
فقال: {وَالْفَجْرِ} (1) {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (2) والفجر في اللغة: هو شق الشيء شقا واسعا، ومنه قيل للصبح فجر لكونه فجر الليل (3) واختلف في تحديد المراد بالفجر هنا:
- فقيل: هو الصبح أو الفجر المعروف. وسمي فجرا لكونه وقت انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم.
- وقيل: أريد به فجر مخصوص، وهو فجر يوم النحر. وهو أفضل الأيام عند الله كما جاء في الحديث: «أفضل الأيام عند الله يوم النحر (4) » ، أو فجر ذي الحجة؛ لأن الله قرن الأيام به فقال: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (5) .
- وقيل: عنى بالفجر العيون التي تنفجر منها المياه، وفيها حياة الخلق. وهذا القول مبني على أصل المعنى اللغوي، وهو ضعيف؛ إذ لا دليل عليه.
والذي أراه راجحا من هذه الأقوال هو المعنى الأول؟ أي أن
__________
(1) سورة الفجر الآية 1
(2) سورة الفجر الآية 2
(3) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ص 562.
(4) رواه البيهقي. انظر: البيهقي: سنن البيهقي الكبرى، حديث رقم 994، ج 5، ص 237.
(5) سورة الفجر الآية 2(74/345)
الفجر هو الصبح المعروف لدينا، وهذا المعنى أولى بالاعتبار؛ لأنه يشمل فجر يوم النحر، وفجر ذي الحجة، وصلاة الفجر، فالأولى حمل اللفظ على عمومه لعدم وجود مخصص.
يدل على ذلك تعريف (الفجر) ففي ذلك -كما يقول ابن القيم -: "ما يدل على شهرته وأنه الفجر الذي يعرفه كل واحد ولا يجهله" (1) .
وأما السر في القسم بالفجر فهو ما يحصل في انقضاء الليل، وظهور الضوء، وانتشار الناس وسائر الحيوانات من الطير والوحوش في طلب الأرزاق، من مشاكلة نشور الموتى من قبورهم، وفي ذلك عبرة لمن تأمل (2) .
__________
(1) ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن، ص 54.
(2) انظر: الرازى: التفسير الكبير، ج 11، ص 148.(74/346)
ثالثا: القسم بالصبح
أقسم الله سبحانه بالصبح في موضعين، الأول هو قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} (1) ، والثاني قوله: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (2) .
ويلحظ فيهما أن القسم بالصبح جاء مقيدا بحال إسفاره
__________
(1) سورة المدثر الآية 34
(2) سورة التكوير الآية 18(74/346)
وحال تنفسه. فما المراد بهذين القيدين وما سر التقييد بهما؟
قال ابن فارس: "السين والفاء والراء أصل واحد يدل على الانكشاف والجلاء". ومن ذلك السفر سمي بذلك؛ لأن الناس ينكشفون عن أماكنهم، أو لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم، فيظهر ما كان خافيا منها. ومنه قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} (1) بمعنى أضاء وانكشف الظلام (2) .
أما التنفس فهو في الحقيقة خروج النفس من الحيوان والإنسان، ولكنه استعير هنا لظهور الضياء من خلال الظلام، على تشبيه خروج الضياء بخروج النفس، على طريق الاستعارة المصرحة. أو لأنه إذا بدا الصباح أقبل معه نسيم فجعل ذلك كالتنفس له على طريق الاستعارة المكنية؛ بتشبيه الصبح بذي نفس، مع تشبيه النسيم بالأنفاس (3) .
وأما الحكمة من القسم بالصبح فهي ما أشرت إليه آنفا في "القسم بالفجر" من مشابهة خروج الضوء من الظلام، بالنشور بعد الموت.
__________
(1) سورة المدثر الآية 34
(2) ابن فارس: معجم مقاييس اللغة، مادة (سفر) ، ج 3، 82.
(3) الزمخشري: الكشاف، ج 4، ص 697. ابن عاشور: التحرير والتنوير، ج 30، ص 154.(74/347)
رابعا: القسم بالضحى
يقال في اللغة: الضحو والضحوة والضحية، وتعني: ارتفاع(74/347)
النهار. ويطلق الضحى ويراد به الوقت من طلوع الشمس إلى أن يرتفع النهار وتبيض الشمس (1) .
وأقسم سبحانه وتعالى به فقال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (2) وقال: {وَالضُّحَى} (3) ، ولأهل التفسير في المراد بالضحى في قوله: {وَالضُّحَى} (4) (5) وجهان (6) :
الأول: أن المراد به وقت الضحى، والذي يمتد من طلوع الشمس إلى ارتفاع النهار كما أشرت سابقا.
الثاني: أنه يعني النهار كله. واحتج أصحاب هذا الوجه بأن الضحى جعل في مقابلة الليل كله.
والصحيح هو المعنى الأول، وهو ما يراه الأكثرون على ما ذكره النيسابوري في "غرائب القرآن " (7) .
أما القول بأنه يعني النهار كله، فغير وجيه. والاحتجاج على
__________
(1) ابن منظور: لسان العرب، مادة (ضحا) ، ج 14، ص 474، 475.
(2) سورة الشمس الآية 1
(3) سورة الضحى الآية 1
(4) سورة الضحى الآية 1
(5) انظرهما في: الطبري: جامع البيان، ج 30، ص 273. الرازي: التفسير الكبير، ج11، ص 190.
(6) انظرهما في الطبري: جامع البيان، ج 30، ص 273، الرازي: التفسير الكبير، ج11، ص 190.
(7) انظر: النيسابوري: غرائب القرآن، ج 6، ص 514.(74/348)
ذلك بأنه جعل في مقابلة الليل كله لا يصح، وذلك لأنه إنما جعل في مقابلة الليل في حال سجوه؛ أي في حال استقرار الظلام وسكون الليل والناس فيه، ولا ريب أن سجو الليل هو جزء من الليل لا كله، فهو بمنزلة الضحى من النهار. ويمكن الاستئناس في ذلك بوقت صلاة الضحى، فإن وقتها لا يكون بعد الزوال، مما يؤكد ضعف القول بأن الضحى يمتد ليشمل النهار كله.
أما قوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (1) ، فمن المفسرين من قال بأن ضحاها هو ضوؤها. وقال بعضهم: حرها. وقال آخرون: النهار كله.
والذي أراه راجحا أن يكون المقسم به هو وقت الضحى كذلك. أما القول بأن المراد به النهار كله، فقد بينت ضعفه. وأما القول بأن "ضحاها" يعني: ضوؤها أو حرها، فهما أمران متلازمان، فمتى اشتد حرها، فقد اشتد ضوؤها وبالعكس. وهذان المعنيان موجودان في وقت الضحى، حيث ضوء الشمس وحرها، فيكون ما ذهبت إليه هو الأولى.
أما مناسبة القسم بالضحى في هذا السياق، فيظهر فيها رونقا
__________
(1) سورة الشمس الآية 1(74/349)
في الأسلوب وجلالة في المعنى؛ لأن في ذلك مطابقة بين نور الضحى ونور الوحي، فنور الضحى جاء بعد ظلام الليل، ونور الوحي جاء بعد احتباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال أعداؤه: قلى محمدا ربه، فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل، على ضوء الوحي ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه، ثم إن فالق ظلمة الليل بضوء النهار، هو الذي فلق ظلمة الجهل والشرك بنور الوحي والنبوة (1) .
__________
(1) انظر: ابن القيم، التبيان في أقسام القرآن، ص 100.(74/350)
خامسا: القسم بالشفق
قال سبحانه في القسم بالشفق: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} (1) ، ويلحظ هنا أن القسم جاء بصورة مختلفة، حيث سبقه حرف (لا) . فكيف يكون المعنى على هذا النظم؟
قيل: إن لا في السياق الزائدة (2) . والصحيح هو الوقوف ضد القول بزيادة أي حرف في كتاب الله سبحانه وتعالى؛ لأن ذلك مخل بإعجاز هذا الكتاب، وباب للطعن فيه جملة وتفصيلا.
وقيل بأنها نافية. والذين قالوا ذلك، ذهب بعضهم إلى أنها
__________
(1) سورة الانشقاق الآية 16
(2) انظر: الكلبي: التسهيل في علوم التنزيل، ج 4، ص 163. المحلى والسيوطي: تفسير الجلالين، ص 589.(74/350)
نافية لكلام محذوف؟ كأنه قال: ليس الأمر كذلك، ثم قال: أقسم (1) . وذهب بعضهم إلى أنها نافية للقسم نفسه، وذلك على أن المطلوب أجل وأوضح من أن نحاول إثباته بالقسم (2) .
وقيل: إن (لا) أصلها لام الابتداء، وأشبعت فتحتها (3) .
والقول الآخر هو الذي رجحه الدكتور فضل عباس (4) ، وهو ما أختاره وأرجحه، وذلك:
1 - لأن هذه قراءة سبعية. كما في قراءة ابن كثير لقوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (5) فقد قرأها بغير ألف: {لأقسم بيوم القيامة} (6) .
2 - ثم إنه في كلام العرب ما يشهد لإشباع لام الابتداء. ومن ذلك قول عنترة:
ينباع من ذفري غضوب جسرة ... زيافة مثل الفنيق المكدم
__________
(1) انظر: ابن فارس: الصاحبي في فقه اللغة، ص 170 الشنقيطي: أضواء البيان، 8، ص 634.
(2) الرازي: التفسير الكبير، ج 15، ص 720.
(3) الشنقيطي: أضواء البيان، ج 8، ص 634.
(4) عباس، فضل: لطائف المنان، ص 244.
(5) سورة القيامة الآية 1
(6) انظر: ابن خالويه: الحجة في القراءات السبع، ص 356.(74/351)
قوله: ينباع، من نبع ينبع، ثم أشبعت الفتحة فصارت ألفا.
والشفق: هو الحمرة التي تكون في الأفق وقت الغروب. قال الراغب: " الشفق اختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس " (1) .
والقول بأن الشفق يعني الحمرة، هو قول عامة الفقهاء، وبزواله يخرج وقت المغرب، ويدخل وقت العشاء. إلا ما روي عن أبي حنيفة -رحمه الله- في إحدى الروايتين أنه البياض، وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه (2) وأصل الشفق في اللغة أنه يدل على رقة في الشيء. ومنه الشفق على الإنسان بمعنى رقة القلب عليه. والشفق من الثياب: الرقيق والرديء منها (3) .
أما تسمية الحمرة شفقا فلأن الضوء يأخذ في الرقة والضعف عند مغيب الشمس إلى أن يستولي سواد الليل على الآفاق كلها (4) .
__________
(1) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ص 458.
(2) الزمخشري: الكشاف، ج 4، ص 714.
(3) ابن منظور: لسان العرب، مادة (شفق) ، ج 10، ص 180 الزمخشري: الكشاف، ج 4، ص 714.
(4) الرازى: التفسير الكبير، ج 11، ص101 البرسومي: روح البيان، ج 10، ص 380.(74/352)
وأما حكمة القسم به فهي: أن في ذكر الشفق إيماء إلى أنه يشبه حالة انتهاء الدنيا؛ لأن غروب الشمس مثل الموت (1) .
__________
(1) ابن عاشور: التحرير والتنوير، ج 30، ص 226.(74/353)
سادسا: القسم بالنهار
وأقسم سبحانه بالنهار في موضعين من كتابه الكريم، الأول في سورة الشمس؛ فقال: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} (1) والثاني في سورة الليل فقال: {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (2) .
قوله: "تجلى" بمعنى ظهر وبان، نقول: تجلى الشيء بمعنى انكشف، ومنه الجلي: وهو الواضح (3) .
والضمير المؤنث في قوله: "جلاها" ظاهره أنه عائد على الشمس، بمعنى أن الشمس تظهر وتنجلي إذا انبسط النهار. وعليه، فإن إسناد "جلى" إلى ضمير النهار من قبيل إسناد الفعل إلى زمانه، وذلك لأن ظهور الشمس يقع زمن انبساط النهار، وليس الانبساط هو المجلي لها (4) .
وقيل بأن الضمير المؤنث يعود على الأرض. وقيل: على
__________
(1) سورة الشمس الآية 3
(2) سورة الليل الآية 2
(3) رضا، أحمد: معجم متن اللغة، مادة (جلي) ، ص 562.
(4) انظر: الألوسي: روح المعاني، ج 30، ص 141.(74/353)
الدنيا. وقيل: يعود على الظلمة (1) .
والقول بأنه عائد على الشمس هو الأولى بالاعتبار وذلك لأن سياق الآيات في السورة: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (2) {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} (3) {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} (4) .
ويلحظ في كلا الموضعين اللذين أقسم الله فيهما بالنهار، أن القسم بالنهار جاء مقرونا بحال التجلي وذلك كما قال ابن عاشور: "إدماجا للمنة في القسم" (5) فالله سبحانه أقسم بالنهار في زمن تجليته حيث ينكشف ما كان مستورا بظلمة الليل، فيتحرك الناس لمعاشهم، وتخرج الطيور من أوكارها، والهوام من مكامنها (6) .
وهناك ملاحظة أخرى حري بنا أن نقف عندها، وهي: أن القسم بالنهار في سورة الليل، جاء بعد القسم بالليل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (7) {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (8) ، بينما في سورة الشمس جاء القسم
__________
(1) انظر: المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة. الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن، ج20، ص 296.
(2) سورة الشمس الآية 1
(3) سورة الشمس الآية 2
(4) سورة الشمس الآية 3
(5) ابن عاشور: التحرير والتنوير، ج30، ص 367.
(6) انظر: الرازي: التفسير الكبير، ج 11، ص 188. الصاوي: حاشية الصاوي على الجلاين، ج 4، ص 323.
(7) سورة الليل الآية 1
(8) سورة الليل الآية 2(74/354)
بالنهار أولا: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} (1) {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} (2) ، فما الحكمة من ذلك؟
يستحيل بأي حال أن يأتي حرف واحد في هذا الكتاب المعجز في غير موقعه اللائق به، وإنه ليلمس في هذا التقديم والتأخير لطيفة، هي من بدائع هذا القرآن العظيم، وهي: أن سورة الليل نزلت قبل سورة الشمس بمدة، حيث كان الكفر مخيما على الناس إلا القليل منهم، وكان الإسلام قد أخذ في التجلي، فناسب تلك الحالة، تمثيلها بحالة الليل حين يعقبه ظهور النهار (3) .
كما يلحظ في هذا الموضع، أن القسم بالليل في وقت غشيانه، جيء فيه بصيغة المضارع؛ وذلك لأنه يغشى شيئا فشيئا. أما النهار، فإنه جيء فيه بصيغة الماضي وذلك لأنه إذا طلعت الشمس ظهر وتجلى مرة واحدة (4) .
__________
(1) سورة الشمس الآية 3
(2) سورة الشمس الآية 4
(3) ابن عاشور: التحرير والتنوير، ج 35، ص 367.
(4) ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن ص 81.(74/355)
سابعا: القسم بالليل
أما الليل، فقد أقسم الله تعالى به في عدة مواضع، وكان القسم به مقرونا بعدة أحوال، وذلك على النحو الآتي:
1 - القسم بالليل في حالة إدباره. قال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} (1)
__________
(1) سورة المدثر الآية 33(74/355)
والدبر والدبر في اللغة نقيض القبل، ودبر كل شيء عقبه ومؤخره (1) .، وعليه، فإن إدبار الليل يكون مقابل إقباله، وقوله: "إذ أدبر" يعني أن الليل انقلب راجعا من حيث جاء، فانكشف ظلامه، وزال الجهل والريب والشك بانكشافه (2) .
2 - القسم به في حال العسعسة. قال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} (3) .
قوله: {عَسْعَسَ} (4) بمعنى: أقبل وأدبر، وذلك في مبدأ الليل ومنتهاه، فهو من الأضداد. والعسعسة والعساس: رقة الظلام، وذلك في طرفي الليل (5) . وقال بعضهم: إنه ليس من الأضداد، ولكن يوجد بينهما قدر مشترك (6) ويمكن الاستئناس باقتران عسعسة الليل مع تنفس الصبح، {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} (7) {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (8) في ترجيح أن يكون المراد بالعسعسة هنا انصرام الليل؛ لأنه مقرن بإقبال النهار من غير فصل، وهذا أعظم في الدلالة والعبرة، فالآية في انصرام هذا ومجيء الآخر عقيبه
__________
(1) ابن منظور: لسان العرب، مادة (دبر) ، ج 4، ص 268.
(2) البقاعي: نظم الدرر، ج 8، ص 234.
(3) سورة التكوير الآية 17
(4) سورة التكوير الآية 17
(5) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ص 566. السمين الحلبي: عمدة الحفاظ، ج 3، ص 72.
(6) المرجع السابق، ج3، ص 73.
(7) سورة التكوير الآية 17
(8) سورة التكوير الآية 18(74/356)
بغير فصل أبلغ، فذكر سبحانه حالة ضعف هذا وإدباره، وحالة قوة هذا وتنفسه (1) .
3 - القسم بالليل وما وسق، قال تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} (2) . والوسق: هو جمع الأشياء المتفرقة، مصدر وسقت الشيء أي جمعته وحملته (3) .
وعلى هذا يكون المعنى: أي ما جمع الليل مما كان منتشرا في النهار من ناس وحيوان، فإنها تأوي في الليل إلى مآويها، حيث جعل الله طلب السكون والراحة في وقت الليل جبلة فيها، وهذا من بديع التكوين، فلذلك أقسم الله به (4) .
وقيل: ما وسقه الليل: النجوم؛ لأنها تظهر بالليل. قال ابن عاشور: "وهذا المعنى أنسب، بعطف القمر عليه" (5) .
والذي أراه أن الله سبحانه أقسم بجميع ما ضمه الليل وأواه، ويشمل ذلك الإنسان والحيوان، كما يشمل النجوم والظلام. إذ أن القسم بمطلق الجمع، والليل يجمع كل هذه الأشياء.
__________
(1) انظر: ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن، ص 155.
(2) سورة الانشقاق الآية 17
(3) السمين الحلبي: عمدة الحفاظ ج 4، ص 31.
(4) انظر: ابن عاشور: التحرير والتنوير، ج 30، ص 227.
(5) ابن عاشور: التحرير والتنوير، ج 30، ص 227.(74/357)
4 - القسم بالليل في حال سريانه قال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (1) .
بعد أن أقسم سبحانه بالليالي العشر على وجه الخصوص. بقوله: {وَالْفَجْرِ} (2) {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (3) أتبع ذلك بالقسم بالليل على وجه العموم، فقال: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} (4) {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (5) .
ومعنى يسري: يمضي سائرا في الظلام. وأصل السرى في اللغة: السير في الليل (6) . فشبه تقضي الليل في ظلامه بسير السائر في الظلام. وقرأها بعض القراء (يسري) بإثبات الياء، بينما قرأها آخرون بالحذف (7) .
قال الفراء: "وحذفها أحب إلي لمشاكلتها رؤوس الآيات؛ ولأن العرب قد تحذف الياء وتكتفي بكسر ما قبلها (8) .
5 - القسم به في حال الغشيان. قال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} (9) وقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (10) .
__________
(1) سورة الفجر الآية 4
(2) سورة الفجر الآية 1
(3) سورة الفجر الآية 2
(4) سورة الفجر الآية 3
(5) سورة الفجر الآية 4
(6) ابن منظور: لسان العرب، مادة (سرا) ، ج 14، ص 381.
(7) انظر: ابن زنجلة، عبد الرحمن: حجة القراءات، ج 3، ص 260.
(8) الفراء: معاني القرآن ج 3، 260.
(9) سورة الشمس الآية 4
(10) سورة الليل الآية 1(74/358)
والغشاوة: هي ما يغطى به الشيء (1) . والضمير في قوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (2) {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} (3) {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} (4) {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} (5) .
فالضمائر كلها عائدة على الشمس. وحقيقة الأمر أن إسناد الغشي إلى الليل مجاز عقلي، من إسناد الفعل إلى زمنه؛ لأن الليل لا يغطي الشمس على الحقيقة، ولكن في زمن الغشي تكون الشمس محجوبة عنا بنصف الكرة الأرضية (6) .
أما قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (7) فهو عام، وعدم ذكر المفعول إنما هو للتعميم (8) . فيكون المعنى: يغشى الليل الأفق وجميع ما بين السماوات والأرض فيذهب ضوء النهار.
وأقسم سبحانه بالليل لكونه جليلا عظيما يسكن الخلق فيه عن الحركة، ويغشاهم النوم الذي فيه راحة الأبدان (9) .
6 - القسم بالليل إذا سجى. قال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (10) وقوله: "سجى" أي سكن، نقول: سجى البحر سجوا بمعنى:
__________
(1) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ص 607.
(2) سورة الشمس الآية 1
(3) سورة الشمس الآية 2
(4) سورة الشمس الآية 3
(5) سورة الشمس الآية 4
(6) انظر: ابن عاشور: التحرير والتنوير، ج 30، ص 368.
(7) سورة الليل الآية 1
(8) انظر: البرسوي: روح البيان، ج 10، ص 447.
(9) الصاوي: حاشية الصاوي، ج 4، ص 323.
(10) سورة الضحى الآية 2(74/359)
سكنت أمواجه، ومنه استعير قولنا: تسجية الميت، أي تغطيته بالثوب (1) . قال الفراء: "والليل إذا سجى: إذا أظلم وركد في طوله، كما تقول: بحر ساج وليل ساج، إذا ركد وسكن وأظلم" (2) .
وأشار الرازي - رحمه الله- إلى أن معنى "سجى" لدى أهل اللغة يدور حول ثلاثة معان متقاربة هي: "سكن، وأظلم، وغطى" (3) . ومن خلال النظر في الآيات السابقة يتضح أن القسم بأحوال الليل جاء مقرونا بالقسم بأحوال النهار، وذلك على النحو الآتي:
- إدبار الليل جاء مقرونا بإسفار الصبح {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} (4) {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} (5) .
- وعسعسة الليل مقرونة بتنفس الصبح {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} (6) {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (7) .
- وسريان الليل جاء مقرونا بالفجر {وَالْفَجْرِ} (8) {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (9) {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} (10) {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (11) .
- وغشيان الليل جاء مقرونا بتجلي النهار {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} (12) {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} (13) .
__________
(1) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ص 399.
(2) الفراء: معاني القرآن، ج 2، ص 273.
(3) الرازي: التفسير الكبير، ج 11، ص 190.
(4) سورة المدثر الآية 33
(5) سورة المدثر الآية 34
(6) سورة التكوير الآية 17
(7) سورة التكوير الآية 18
(8) سورة الفجر الآية 1
(9) سورة الفجر الآية 2
(10) سورة الفجر الآية 3
(11) سورة الفجر الآية 4
(12) سورة الشمس الآية 3
(13) سورة الشمس الآية 4(74/360)
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (1) {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (2) .
- وسجو الليل جاء مقرونا بالضحى {وَالضُّحَى} (3) {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (4) .
- أما قوله: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} (5) فقد جاء مقرونا بقوله: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} (6) . واتساق القمر هو اجتماعه واستواؤه وذلك في ليلة أربع عشرة (7) . ومعلوم أن هذا هو وقت ضوء القمر الذي ينير الليل، والنور والضياء الحاصل باتساق القمر حال من أحوال النهار. ويستنتج من ذلك أنه سبحانه قابل في القسم بين الليل والنهار للدلالة على المبدأ والمعاد، فما أشبه انبثاق ضوء النهار بعد ظلمة الليل بالبعث بعد الموت. فبينما الليل ساكن قد هدأت فيه الحركات، وسكتت الأصوات، وصار الناس إخوان الأموات، إذ أقبل النهار، فارتفعت الأصوات، حتى كأنهم قاموا أحياء بعد أن كانوا أمواتا.
__________
(1) سورة الليل الآية 1
(2) سورة الليل الآية 2
(3) سورة الضحى الآية 1
(4) سورة الضحى الآية 2
(5) سورة الانشقاق الآية 17
(6) سورة الانشقاق الآية 18
(7) انظر: الزمخشري، الكشاف، ج 4، ص 714.(74/361)
ثامنا: القسم بالليالي العشر
ورد القسم بالليالي العشر في القرآن الكريم مقرونا بالفجر، قال تعالى: {وَالْفَجْرِ} (1) {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (2) فما المقصود بهذه الليالي؟ اختلف في تحديد المراد بها، والراجح في ذلك -وهو ما عليه جمهور المفسرين- كما يقول صديق حسن خان (3) : أن المراد بالليالي العشر هو عشر ذي الحجة. وهذا مروي عن ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف. وهو الذي صححه ابن كثير (4) .
ويدل على هذا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العشر عشر الأضحى (5) » . ويسانده ما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعا: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه العشر" قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء (6) » .
__________
(1) سورة الفجر الآية 1
(2) سورة الفجر الآية 2
(3) خان، صديق: فتح البيان، ج 5، ص 214.
(4) انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ج 4، ص 535.
(5) رواه أحمد، ورواه الحاكم وصححه. انظر: ابن حنبل: المسند، ج 3، ص 327. الحاكم النيسابوري: المستدرك على الصحيحين، ج 2، ص 522. وقال عنه الهيثمي: ''رواه البزار وأحمد ورجالهما رجال الصحيح غير عياش بن عقبة وهو ثقة''. انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد، ج 7، ص 137.
(6) رواه البخاري. انظر: الصحيح مع الفتح، ج 3، ص 135، كتاب العيدين، باب رقم 11، حديث رقم 969. .(74/362)
وقيل: المراد بذلك العشر الأول من محرم. وقيل: العشر الأواخر من رمضان (1) .
وكل ذلك ضعيف؛ لأنه مخالف لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأولى ما أشرت إليه؛ لأنه قول الذي لا ينطق عن الهوى.
ويلحظ أنه سبحانه قال: "وليال " بالتنكير، وذلك لبيان فضيلتها على غيرها، ولو عرفت لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، ففي التنكير تعظيم لها، فإن التنكير يكون للتعظيم (2) .
وهذه الأيام هي الأيام المعلومات التي حثنا الله على ذكره فيها، فقال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (3) فتخصيص الحث على الذكر بهذه الأيام يشير إلى أفضليتها على غيرها.
__________
(1) انظر: الماوردي: النكت والعيون، ج 4، ص 265 الخازن: لباب التأويل، ج 6، ص 418.
(2) انظر: المصدر السابق، نفس الجزء والصفحة. ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن، ص 54.
(3) سورة الحج الآية 28(74/363)
تاسعا: القسم بيوم القيامة
قال سبحانه في القسم بيوم القيامة: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (1) .
__________
(1) سورة القيامة الآية 1(74/363)
وقد تقدم الكلام عن صيغة لا أقسم (1) .
والقيام في اللغة نقيض الجلوس (2) . وسمي اليوم الآخر بيوم القيامة؛ لأن الخلق يقومون فيه لرب العالمين قومه واحدة حتى يفصل في أمرهم (3) .
كما أقسم سبحانه بهذا اليوم في قوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} (4) {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} (5) وسمي هذا اليوم باليوم الموعود؛ لأن الله وعدهم بوقوعه في الحياة الدنيا لمجازاة كل فريق على عمله (6) .
أما سر القسم بيوم القيامة فللتنبيه على عظمته وهوله، وباعتبار ما يجري فيه من عدل الله، وإفاضة فضله، وما يحضره من الملائكة والنفوس المباركة (7) .
__________
(1) انظر ص 240 من هذا البحث.
(2) انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة (قوم) ، ج 12، ص 496.
(3) انظر: المرجع السابق، ج 12، ص 556. السجستاني: غريب القرآن، ص 296.
(4) سورة البروج الآية 1
(5) سورة البروج الآية 2
(6) انظر: أضواء البيان، ج 9، ص 130. ابن عاشور: التحرير والتنوير، ج 30، ص 238.
(7) انظر: ابن عطية: المحرر الوجيز، ج 5، ص 451. ابن عاشور: التحرير والتنوير، ج 29، ص 338.(74/364)
عاشرا: القسم بالعمر
العمر: هو اسم لمدة عمارة البدن بالحياة، والتعمير: إعطاء العمر(74/364)
بالفعل أو بالقول على سبيل الدعاء (1) . قال تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (2) .
وأقسم سبحانه بالعمر فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (3) قال الزجاج: "قال النحويون: ارتفع لعمرك بالابتداء، والخبر محذوف. المعنى: لعمرك قسمي، أو لعمرك ما أقسم به، وحذف الخبر لأن في الكلام دليلا عليه" (4) .
والقسم بالعمر هنا قسم بعمر مخصوص، هو عمر النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن القيم: "أكثر المفسرين من السلف والخلف -بل لا يعرف عن السلف فيه نزاع- أن هذا قسم من الله بحياة رسول صلى الله عليه وسلم" (5) .
ولم يقسم سبحانه في كتابه بغير حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه مزية لم تعرف لغيره، وفي هذا ما يدل على فضل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزتها على الله.
__________
(1) انظر: الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ص 586. السمين الحلبي: عمدة الحفاظ ج 3، ص 122.
(2) سورة فاطر الآية 11
(3) سورة الحجر الآية 72
(4) الزجاج: معاني القرآن، ج 3، ص 184.
(5) ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن، ص 547.(74/365)
المبحث الثالث: الأزمان الفاضلة في القرآن الكريم
اختص سبحانه بعض الأزمنة بأن جعلها مواسم للطاعات، وأياما مباركة للقربات، وحث الناس على اغتنام أجرها، فهي لطلب الرضى، وإجابة الدعوات، ومضاعفة الحسنات، حيث يفتح الله فيها أبواب الرحمة، فالموفق من تزود لآخرته، وأقبل على ربه راجيا مغفرته.
وهذا هو مدلول قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها، لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة، لا يشقى بعدها أبدا (1) » .
وهذا هو مفهوم التفاضل في الأوقات؛ لأن الأزمان في حقيقتها متجانسة ومتشابهة، وتفضيل بعضها على بعض إنما هو على معنى أن الطاعة في البعض أفضل، والثواب عليها أكثر.
ومن هنا، فقد ميز الله يوم الجمعة على غيره من أيام الأسبوع، وشهر رمضان على غيره من شهور السنة، وليلة القدر على غيرها من الليالي، وميز بعض ساعات الليل والنهار على غيرها.
__________
(1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال عنه: ''رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه، وفيه من لم أعرفهم، ومن عرفتهم، وثقوا''. وذكره بلفظ آخر عن أنس بن مالك، وقال فيه: ''رواه الطبراني ورجال إسناده رجال الصحيح، غير عيسى بن موسى بن إياس بن البكير، وهو ثقة''. انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد، كتاب الزهد، باب التعرض لنفحات رحمة الله، ج 10، ص 231.(74/366)
وكما ميز الله بعض الأزمان، فإنه ميز كذلك بعض الأماكن والبلدان على غيرها، كالبلد الحرام، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى وما حوله.
وهو سبحانه العليم بالحكمة التي لأجلها فضل زمن على زمن، وفضل مكان على مكان، فهي أمور ثابتة من الله، ولا يبطلها إلا إبطال من الله، كما أبطل تقديس السبت بالجمعة، فليس للناس أن يغيروا ما جعله الله تعالى من الفضل لأزمنة أو أمكنة أو ناس.
وأستعرض فيما يلي الأزمان الفاضلة في القرآن الكريم:(74/347)
أولا: الأزمان المقسم بها
وهي الأزمان التي أشرت إليها في المبحث السابق، ولا شك أنها أزمان فاضلة، بدليل قسم الله سبحانه وتعالى بها.
ثانيا: الأشهر الحرم
قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (1) .
فالأشهر الحرم إذا هي أربعة أشهر كما هو صريح النص القرآني "منها أربعة حرم "، ولكن أي أربعة هي من شهور السنة؟ هذا ما حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وصلنا من
__________
(1) سورة التوبة الآية 36(74/347)
سنته الشريفة حيث قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر (2) » .
قال عبد الغني النابلسي: "وقد أجمع المسلمون على أن الأشهر الحرم هي الأربعة المذكورة في هذا الحديث" (3) .
وسميت هذه الأشهر حرما لتعظيم انتهاك المحارم فيها، فالمعصية فيها أشد عقابا، وبالمقابل، فإن الطاعة فيها تكون أكثر ثوابا.
أما القول بأنها سميت كذلك لتحريم القتال فيها (4) ، مصداقا لقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (5) فهذا منسوخ؛ لأن تحريم القتال فيها إنما كان في
__________
(1) رواه البخاري. انظر: الصحيح مع الفتح، كتاب التفسير، باب رقم 8، ج 9، ص 221.
(2) (1) الذي بين جمادى وشعبان
(3) النابلسي، عبد الغني: فضائل الشهور والأيام، ص 68.
(4) انظر: المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة. حجازي، محمد: التفسير الواضح، ج10، ص 49.
(5) سورة التوبة الآية 5(74/368)
أول الإسلام، إلا أن يقاتل المسلمون، ثم أذن الله تعالى في قتال المشركين في جميع الأوقات، فقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (1) وبقيت حرمة الأشهر الحرم في تضعيف الأجور والأوزار فيهن، فقد خص الله تعالى هذه الأشهر بزيادة المنع فيهن عن الظلم (2) . ولذلك، فقد غلظ الإمام الشافعي -رحمه الله- في دية من قتل خطأ في الأشهر الحرم (3) .
وعلى ذلك، فإن قوله: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (4) عائد على الأربعة الحرم، وليس على الاثني عشر شهرا؛ لأنه أقرب مذكور؛ ولأن هذا هو مدلول الضمير (فيهن) في اللغة العربية.
وفي اختصاص الأشهر الحرم بالذكر هنا تشريف لها. وفي خصها بالنهي عن الظلم، مع أنه منهي عنه في كل زمان، مزيد من التشريف (5) . وجاء ذكر الأشهر الحرم في القرآن الكريم بصيغة المفرد الدال على الجنس فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} (6) وقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} (7) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 36
(2) البيهقي: فضائل الأوقات، ص 86.
(3) انظر: الشافعي: الأم، ج 6، ص 47 كفاية الأخيار، ص 604.
(4) سورة التوبة الآية 36
(5) الرازي: التفسير الكبير، ج 6، ص 41 القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص 135.
(6) سورة المائدة الآية 2
(7) سورة المائدة الآية 97(74/369)
فالمراد بالشهر الحرام في هاتين الآيتين، الأشهر الحرم الأربعة، إلا أنه عبر عنها بلفظ الواحد؛ لأنه ذهب بها مذهب الجنس (1) . ووردت آيتان يبين سبب نزولهما أنهما تدلان على أحد هذه الأشهر الأربعة، وهما:
قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} (2) .
فهي جاءت لتدل على شهر ذي القعدة الذي منع المسلمون فيه من دخول مكة، ولكنهم عادوا في العام المقبل، وفي نفس هذا الشهر (3) .
وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ} (4) ، وهذه نزلت حين قتل أحد المسلمين رجلا من المشركين في شهر رجب (5) .
وهاتان الآيتان وإن جاءتا للدلالة على شهر معين من الأشهر
__________
(1) الرازي: التفسير الكبير، ج 4، 40 القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 6، ص 325.
(2) سورة البقرة الآية 194
(3) الواحدي: أسباب النزول، ص 43. الزمخشري: الكشاف، ج 1، ص 119.
(4) سورة البقرة الآية 217
(5) الواحدي: أسباب النزول، ص (51، 52) . ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ج 1، ص 271.(74/370)
الحرم، نزلت فيه الآية، إلا أن مدلولهما ينسحب على باقي الأشهر الحرم الأخرى.(74/371)
ثالثا: شهر رمضان
لم يرد في القرآن الكريم تصريح باسم أي شهر من شهور السنة، سوى شهر رمضان؛ وذلك في سورة البقرة في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (1) .
وهذا الشهر تميز على غيره باختصاصه بعبادة جليلة، عبادة الصوم. ولعل من الحكم في ذلك هي أن هذا الشهر قد شرفه الله بنزول القرآن، وفيه فاضت على البشرية هداية الرحمن، ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء برسالة هي خاتمة الرسالات.
وأصل (رمضان) في اللغة مأخوذ من الرمض، ويعني: شدة وقع الشمس، يقال: أرمضه ورمض، أي أحرقته الرمضاء، وهي شدة حر الشمس. ومنه سمي رمضان "لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة" (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 2، ص 291.(74/371)
وفضل هذا الشهر عظيم، وثوابه جسيم، يدل على ذلك معنى الاشتقاق من كونه محرقا للذنوب، كما يدل عليه ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث كثيرة في فضل هذا الشهر العظيم، ومن ذلك:
قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين (1) » . وقوله في حديث آخر: «من قامه إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه (2) » .
وفي هذا الشهر العشر الأواخر، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله (3) » . وغيرها من الأحاديث الدالة على عظمة هذا الشهر.
فإذا كان هذا الشهر بهذه العظمة، والأجر فيه يضاعف إلى هذه الدرجة، أفلا نستثمره على الوجه الأكمل؟ وهلا حرصنا على كل ثانية منه لكي لا تضيع سدى؟
__________
(1) رواه البخاري. انظر: الصحيح مع الفتح، كتاب الصوم، باب رقم 5 حديث رقم 1899، ج 4، ص 605.
(2) رواه البخاري. انظر: الصحيح مع الفتح، كتاب صلاة التراويح، باب رقم 1، حديث رقم 2008، ج 4، ص 778.
(3) رواه البخاري. انظر: الصحيح مع الفتح، كتاب فضل ليلة القدر، باب رقم هـ، حديث رقم 2024، ج4 ص 802.(74/372)
رابعا: ليلة القدر
أما ليلة القدر، فهي جزء من شهر رمضان الفضيل، ومع ذلك فقد خصها الله سبحانه بالذكر، مما يدل على أهميتها وعظمتها، كيف لا وهي ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى، وهي الليلة التي نزل فيها القرآن الكريم، وهو الكتاب الذي لم تشهد الأرض مثله، في عظمته، وفي تأثيره على حياة البشرية.
يقول سبحانه عن هذه الليلة في سوره من السور القصار: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (1) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} (2) {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (3) {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} (4) {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (5) .
وهي ذات الليلة التي جاء ذكرها في سورة الدخان: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} (6) {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (7) ، وإنما سميت بـ "ليلة القدر" لعظمتها وشرفها وقدرها، من قولهم: لفلان قدر، أي منزلة وشرف. وقيل: لأن للطاعات فيها قدرا عظيما، وثوابا جزيلا. أو لأن الله تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والرزق وغيره. أو لأنه أنزل فيها كتابا ذا قدر على رسول ذي قدر، على
__________
(1) سورة القدر الآية 1
(2) سورة القدر الآية 2
(3) سورة القدر الآية 3
(4) سورة القدر الآية 4
(5) سورة القدر الآية 5
(6) سورة الدخان الآية 3
(7) سورة الدخان الآية 4(74/373)
أمة ذات قدر. وغير ذلك من الأقوال.
وهي معاني متقاربة يشملها جميعا المعنى الأول، فهي جميعا دالة على قدر هذه الليلة، وفضلها، وعظيم منزلتها.
وهذه الليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري، وهي خير من آلاف اللحظات الزمنية في حياة البشر، فكم من آلاف الشهور، بل وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة، من آثار وتحولات (1) .
ولهذا فلا غرابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحثنا على تحريها في الفترة الزمنية التي تقع فيها فيقول لنا: «تحروا ليلة القدر، في العشر الأواخر من رمضان (2) » .
ولا غرابة في أنه صلى الله عليه وسلم يحثنا على قيام هذه الليلة مبينا عظيم أجرها، فيقول: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه (3) » .
__________
(1) انظر: قطب، سيد: في ظلال القرآن، ج 6، ص 3945.
(2) رواه البخاري. انظر: الصحيح مع الفتح، كتاب فضل ليلة القدر، باب رقم 3، حد رقم 2020، ص 790.
(3) رواه البخاري. انظر: الصحيح مع الفتح، كتاب الصوم، باب رقم 6، حديث رقم 1901، ج 4، ص 608.(74/374)
وبعد ذلك، فهل هناك أفضل من هذه الليلة؟ وهل أعظم من هذا الأجر؟ فلنحرص على هذه الليلة، التي لا تأتي إلا مرة في العام.(74/375)
خامسا: أيام التشريق
ذكر الله سبحانه فضل أيام التشريق في سورة البقرة، فقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (1) والأيام المعدودات، هي أيام التشريق، كما روي عن ابن عباس، وعكرمة، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وغيرهم (2) .
قال القرطبي: "ولا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى، وهي أيام التشريق" (3) .
كما يدل على أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق، تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي يصف فيها أيام التشريق بأنها أيام ذكر لله عز وجل، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله (4) » . وإطلاق الرسول للذكر من غير تقييده بشيء جاء مساويا لإطلاق الله اسم الذكر {وَاذْكُرُوا اللَّهَ} (5) ، مما يعد دليلا واضحا على أن الرسول عنى بذلك ذات
__________
(1) سورة البقرة الآية 203
(2) انظر: الطبري: جامع البيان، ج 2، ص 302، 303، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ج1، ص 232.
(3) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 3 ص 1.
(4) رواه مسلم. انظر: صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب رقم 23، حديث رقم 1141، ص 658.
(5) سورة البقرة الآية 203(74/375)
الذكر الذي أشار إليه الله في كتابه الكريم، وعينه في الأيام المعدودات.
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر من ليلة جمع، فقد تم حجه، أيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه (1) » . قال ابن رجب الحنبلي: "وهذا صريح لي أنها أيام "التشريق" (2) .
أما بالنسبة لتحديد هذه الأيام، فهناك قولان رئيسان (3) :
الأول: أنها أربعة أيام، يوم النحر وثلاثة بعده. وهذا مروي عن ابن عباس وغيره.
الثاني: أنها ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وليس يوم النحر منها.
وعزا ابن رجب هذا القول إلى ابن عمر وأكثر العلماء. وقال عنه بأنه: "هو القول الأظهر (4) .
وهذا ما أراه راجحا، وذلك كما قال القرطبي: "لإجماع الناس أنه لا ينفر أحد يوم النفر، وهو ثاني يوم النحر. ولو كان يوم النحر في المعدودات، لساغ أن ينفر من شاء متعجلا يوم النفر؛ لأنه قد
__________
(1) رواه أحمد عن عبد الرحمن بن يعمر. انظر: ابن حنبل: مسند أحمد، ج 4: ص 310.
(2) ابن رجب الحنبلي: لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، ص 301.
(3) انظرهما في: المرجع السابق، نفس الصفحة. القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج3، ص 1.
(4) ابن رجب الحنبلي: لطائف المعارف، ص 301.(74/376)
أخذ يومين من المعدودات" (1) .
فالله سبحانه وتعالى لما طلب منا أن نذكره في تلك الأيام على وجه الخصوص، يدلنا ذلك على عظيم فضل هذه الأيام، وأن الأجر فيها مضاعف، والثواب أعظم، فلنحرص على ذكر الله في مثل هذه الأزمان التي عينها الله لنا.
وفي وصفه لهذه الأيام بأنها (معدودات) ما يشير إلى قلة عددها، وفي هذا ما يدفع المسلم إلى الحرص على الإفادة من هذه الأيام، والتوجه إلى الله فيها.
__________
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 3، ص 1.(74/377)
سادسا: يوم الجمعة
أما يوم الجمعة، الذي هو يوم عظيم عند المسلمين، تقام فيه هذه الصلاة الجامعة، التي تمثل مؤتمرا أسبوعيا، يتناول هموم المسلمين وقضاياهم اليومية، ومواعظ تذكر بالله سبحانه وتعالى، فقد بين القرآن الكريم مكانة هذا اليوم وفضله، فنزلت سورة الجمعة توضح أهمية هذا اليوم من أيام الأسبوع. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) وأصل الجمع في اللغة: ضم الشيء بتقريب بعضه من بعض. نقول: استجمع السيل، بمعنى: اجتمع من كل موضع، وتجمع
__________
(1) سورة الجمعة الآية 9(74/377)
القوم: اجتمعوا من هنا وهنا (1) . ومنه (الجمعة) ، سميت بذلك لاجتماع الناس إلى الصلاة (2) .
ويلحظ في الآية السابقة التأكيد على ضرورة أداء صلاة الجمعة في وقتها دون تأخير، حتى لو أدى ذلك إلى ترك الأعمال فور سماع ندائها.
كما يلحظ هذا التشديد على أداء صلاة الجمعة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين (3) » .
وفي التأكيد على الالتزام بهذه الصلاة إشارة إلى أهميتها وفضلها، وفي ذلك ما يدل على أهمية وفضل اليوم الذي تقع فيه.
وفضل هذا اليوم لا يقف عند هذا الحد، بل يصدق فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة (4) » .
__________
(1) ابن منظور: لسان العرب، مادة (جمع) ، ج 8، ص 53.
(2) الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ص 202 السمين الحلبي: عمدة الحفاظ ج 1، ص 337.
(3) رواه مسلم. انظر: صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب رقم 12، حديث رقم 865، ج 2، ص 495.
(4) رواه ابن حبان. انظر: صحيح ابن حبان مع تقريب الإحسان، كتاب الصلاة، باب رقم 30، حديث رقم 2770، ج 7، ص 5. وللتوفيق بين هذا الحديث ومثله من الأحاديث الدالة على أن يوم الجمعة هو أفضل الأيام، وبين ما جاء عن يوم عرفة أنه أفضل الأيام، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ''ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟ (رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب الحج، باب رقم 79، حديث رقم 1348، ج 2، ص 802) للتوفيق بين ذلك، قال الزرقاني: ''الأصح أن يوم عرفة أفضل أيام السنة، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع ''. انظر: الزرقاني: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، ج 1، ص 318.(74/378)
وفي هذا اليوم ساعة عظيمة، يستجاب فيها الدعاء؟ كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجمعة لساعة، لا يوافقها مسلم قائم يصلي، يسأل الله، إلا أعطاه إياه (1) » . وفي هذا اليوم حدثت أمور عظيمة، أخبر بوقوعها الذي لا ينطق عن الهوى، فقال: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق الله آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة (2) » .
وفي الإخبار عن وقوع الأمور العظام فيه، واختصاصها به دون سائر الأيام، حض على الاستكثار من الطاعات فيه، وزجر عن مواقعة المعاصي (3) .
__________
(1) رواه مسلم. انظر: صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب رقم 4، حديث رقم 852، ج 2، ص 489.
(2) رواه مسلم. انظر: صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب رقم 5، حديث رقم 854، ج 2، ص 490.
(3) انظر: الباجي: المنتقى شرح موطأ الإمام مالك، ج 1، ص 201.(74/379)
إلى غير ذلك من الخصائص والفضائل العديدة لهذا اليوم، التي ألفت فيها الكتب والمصنفات.(74/380)
سابعا: وقت السحر
ومن الأزمان التي أشار القرآن الكريم إلى فضلها وقت السحر. ووقت السحر هو الوقت الذي يسبق طلوع الفجر. ومنه السحور وهو اسم الطعام الذي يؤكل في وقت السحر (1) .
يقول سبحانه واصفا حال عباده المتقين الموعودين بالجنات، مادحا فيهم صفة الاستغفار في هذا الوقت: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (2) ويقول عنهم في موضع آخر: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (3) ، وذكر القرآن الكريم أن هذا الوقت هو الذي نجى الله فيه آل لوط، قال تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} (4) .
أما الحكمة من تخصيص وقت الأسحار بالاستغفار، فهي أن هذا الوقت هو وقت غفلة الناس عن التعرض للنفحات الرحمانية، ذلك
__________
(1) الرازى: التفسير الكبير، ج 3، ص 167.
(2) سورة آل عمران الآية 17
(3) سورة الذاريات الآية 18
(4) سورة القمر الآية 34(74/380)
أن وقت السحر هو أطيب أوقات النوم، وعند ذلك تكون العبادة أشق، والنية خالصة، والرغبة في التوجه إلى الله وافرة، فيكون الدعاء في هذا الوقت أقرب للإجابة، والذكر والاستغفار أعظم ثوابا.
ويكون سبحانه في هذا الوقت من الليل قريبا من عباده، كما دل عليه الحديث الصحيح: «إذا مضى شطر الليل، أو ثلثاه، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل يعطى، هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، حتى ينفجر الصبح (1) » .
فالاستغفار في هذه الفترة الزمنية الفاضلة منة من الله سبحانه وتعالى، لا يفقهها إلا من ذاقها، وشعر بها في خلجات نفسه، فالتقت روحه مع خالق السماوات والأرض.
"والاستغفار بالأسحار بعد هذا كله يلقي ظلالا رفافة ندية عميقة، ولفظة (الأسحار) بذاتها ترسم ظلال هذه الفترة من الليل قبيل الفجر، الفترة التي يصفو فيها الجو ويرق ويسكن، وتترقرق فيها خواطر النفس وخوالجها الحبيسة، فإذا انضمت إليها صورة الاستغفار، ألقت تلك الظلال المنسابة في عالم النفس وفي ضمير الوجود سواء، وتلاقت روح الإنسان وروح الكون في الاتجاه لبارئ
__________
(1) رواه مسلم. انظر: صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب رقم 24، حديث رقم 758، ج 1، ص 439.(74/381)
الكون وبارئ الإنسان " (1) .
__________
(1) قطب، سيد: في ظلال القرآن، ج 1، ص 376.(74/382)
الخاتمة:
بعد هذه الجولة مع " قيمة الزمن في القرآن الكريم "، فإنه يجدر بنا أن نسجل أهم النتائج التي تم التوصل إليها:
1 - الزمن ذو قيمة عظيمة، فهو أثمن وأنفس ما يملك الإنسان؛ لأن أعز شيء لدى الإنسان وهو عمره وحياته، ما هو في الحقيقة إلا زمن.
2 - عني القرآن الكريم بالزمن، فعده من النعم العظيمة، وعده من الآيات الدالة على وجود الله، كما أشار القرآن الكريم إلى قيمة الزمن، وحث على استثماره في الخير.
3 - أقسم القرآن الكريم بالزمن وبمفرداته، ففي القسم بالزمن أقسم بالعصر، وفي القسم بمفرداته أقسم بالفجر والصبح والضحى والشفق والليل والنهار والليالي العشر ويوم القيامة والعمر. وقسم القرآن بالزمن يدل على أهميته وعظمته.
4 - اختص سبحانه بعض الأزمنة بالفضل، وهي إضافة إلى الأزمان المقسم بها: الأشهر الحرم وشهر رمضان وليلة القدر وأيام التشريق ويوم الجمعة ووقت السحر. وتخصيص هذه الأزمنة بالفضل حري به أن يشجع المسلم على الإفادة منها في الخير، واستثمارها في العمل الصالح.(74/382)
حديث شريف
عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (1) »
رواه الإمام مسلم
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (153) ، مسند أحمد (2/350) .(74/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (1)
(سورة النساء الآية 93)
__________
(1) سورة النساء الآية 93(75/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(75/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا
مجلة البحوث(75/3)
المحتويات
الافتتاحية
حرمة الإفساد لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 33
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 65
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 83
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 93(75/4)
البحوث
دراسات في خلق الصبر في ضوء الكتاب والسنة لفضيلة الدكتور مفرح بن سليمان القوسي 121
النور لفضيلة الدكتور مسفر بن سعيد الغامدي 237
حكم زكاة العقار المعد للبيع لفضيلة الدكتور حميد قايد سيف 285
الزيتون أحكامه الفقهية وفوائده لفضيلة الدكتور عبد الله بن محمد الصالح 327
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء حول القمار في مسابقات الصحف 379(75/5)
صفحة فارغة(75/5)
صفحة فارغة(75/6)
حرمة الإفساد
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء وأشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فأشكر الله قبل كل شيء على هذا اللقاء المبارك، والشكر موصول لمؤسسة الدعوة الخيرية على ما تبذل من جهد، وتهيئ من فرص لهذه الندوات المباركة التي تعم كثيرا من مناطق المملكة ولعلنا في المستقبل نرى - إن شاء الله - هذا النشاط يعم كثيرا من المناطق؛ ليعم الخير، وتحصل الفائدة فجزى الله القائمين عليها خيرا.
أيها الإخوة، أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد في القول والعمل، وأن يجعلنا جميعا ممن:(75/7)
{يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) ، وبعد:
فإن الله - جل وعلا - خلق الخلق لعبادته، خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا، خلقهم لهذه المهمة العظيمة وهذا الشأن الكبير، خلق أبانا آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأسكنه الجنة، ثم لما عصى بأكل الشجرة أهبطه للأرض؛ ليعمرها بتوحيد الله وطاعته، فمضى على آدم وعلى ذريته قرون عديدة وهم على توحيد الله؛ على الفطرة المستقيمة، على الدين الخالص، حتى دب إليهم الشرك بوساوس عدو الله إبليس الذي سعى في إضلال بني آدم وإخراجهم عن فطرتهم، بتزيين الكفر والضلال لهم؛ فوقع الشرك في قوم نوح فبعث الله نوحا - عليه السلام - يدعو إلى الله وإلى توحيده. {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (2) تتابعت الرسل، كلما مضى رسول بعث الله رسولا آخر؛ ليقيم الدين لله {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} (3) ؛ فأقام الله حجته على العباد بإرسال الرسل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (4) ، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (5) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 18
(2) سورة البقرة الآية 213
(3) سورة المؤمنون الآية 44
(4) سورة النساء الآية 165
(5) سورة النحل الآية 36(75/8)
فلما رفع عيسى - عليه السلام -؛ رفعه الله إليه، وعم الأرض الجهل والضلال والبعد عن الهدى، وانطفأت شمس الرسالات، وأصبح الخلق في اضطراب وغاية من البعد عن الهدى: «نظر الله إلى أهل الأرض: عربهم وعجمهم، فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب (1) » الحديث أخرجه الإمام مسلم بلفظ: «إن الله نظر إلى أهل الأرض (2) » . .) الحديث؛ لأن الأرض أظلمت بالشرك، وأظلمت بالفساد العظيم والضلال، حيث إن البلاد والعباد لا صلاح لهم، ولا استقامة لهم إلا بهذا الدين الذي يحكم تصرفاتهم.
فإذا انطفأت شمس الرسالة أصبح الخلق في ضلال وجهل وبعد عن الهدى، فبعث الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، واندراس من العلم، وقد عم الأرض الجهل والضلال والبعد عن دين الهدى يقول الله - عز وجل -: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} (3) ؛ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وفي الأرض: ضلال عظيم وجهل وبعد عن دين الله، وفساد وظلم، وطغيان وضلال، فبعثه الله بالهدى ودين الحق؛ ليصلح به البلاد والعباد، وليقيم به شرعه - جل وعلا -،
__________
(1) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) .
(2) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) .
(3) سورة المائدة الآية 19(75/9)
ولينقذ البشرية من ضلالها وغوايتها وجهالتها.
كانت الأرض تعج بملل شتى، بملل ونحل محرفة أو باطلة من أصلها من يهودية، ونصرانية، ومجوسية، وصابئة، وغير ذلك من أنواع الملل والنحل كان الناس في غاية من الجهل، وغاية من الاضطراب، وكل أهل ملة متى ظفرت بالأخرى قضت عليها، وأنهت وجودها؛ فكان الأمر دولا؛ يدال لهؤلاء تارة ولأولئك تارة أخرى.
فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم جعل بعثته رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) ، حقا إن بعثته صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ليست رحمة لأتباعه فقط، ولكنها رحمة لأهل الأرض كلهم.
أتباعه هم الذين انقادوا لشريعته، واتبعوا ملته فنالوا السعادة في الدنيا والآخرة؛ فهم سعداء في الدنيا باتباعه، وسعداء في الآخرة بما أعد الله لهم من النعيم المقيم، والذين لم يدخلوا في شريعته من أرباب الملل رحموا في الدنيا؛ بأن خلصوا مما كانوا يعانونه من نكبات ونكبات، ويعانونه من قتال، ويعانونه من سلب ونهب؛ فعاشوا جميعا تحت ظلال الإسلام.
تحت ظل الإسلام عاش المؤمنون، وعاش من خضع لأحكام
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107(75/10)
الإسلام؛ فصار محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته رحمة للعالمين ولهذا جعل الله محمدا رحمة، وجعل كتابه رحمة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) ، وقال - عز وجل -: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} (2) ، ورسالته صلى الله عليه وسلم رسالة عامة، يقول - عز وجل -: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (3) ، فهي رسالة عالمية، وكتاب عالمي، ورسول عالمي لأهل الأرض كلهم.
ولما جعل الله محمدا خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم أوجب على أهل الأرض طاعة هذا النبي صلى الله عليه وسلم، والانضواء تحت لوائه، والسمع والطاعة والاستجابة له، وصار من لم يتبعه في النار، وهو كافر خارج عن ملة الإسلام، لكنه إذا خضع لأحكام الإسلام كأهل الذمة عاش تحت ظل الإسلام محكوم بأحكامه، هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عندما دعا إلى الله؛ دعا العرب قومه إلى الله، وأرشدهم إلى الهدى والحق فقاوموا دعوته، وكابروها، وقعدوا لها بالمرصاد يصدون الناس عنها ويبعدونهم عنها، ولكن كما قال الله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (4)
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107
(2) سورة يونس الآية 58
(3) سورة الفرقان الآية 1
(4) سورة التوبة الآية 32(75/11)
فمضى صلى الله عليه وسلم في دعوته في مكة بضع عشرة سنة إلى أن دخل الإسلام في الأوس والخزرج؛ فأذن الله له بالهجرة إلى المدينة فصارت دار نصرة، ودار حماية، فعاش فيها عشر سنوات حتى أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة، وما قبضه إلا وقد ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك.
ما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما، ولا خير إلا دلنا عليه، وأرشدنا لسلوكه، ولا شر إلا بينه لنا وحذرنا من سلوكه صلوات الله وسلامه عليه. أدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، وأصلح الله به الأرض بعد فسادها، وجمع به القلوب بعد شتاتها، ووحد به الأمة بعد فرقتها، وأعزها الله به بعد ذلها، ورفعها به بعد استكانتها وإهانتها؛ فنالت أمته العز والشرف في الدنيا والآخرة.(75/12)
أيها الإخوة الفساد مبدأ خطر والفساد خلق ذميم خلق ممقوت تمقته الفطر السليمة، وتنفر منه العقول المستقيمة. الفساد لا يرضى أن يتصف به عاقل، كل ينفر من الفساد، وكل يكره الفساد، ولكن كيف يكره الفساد؟ قد يكره الفساد من هو عائش في الفساد،(75/12)
ومتقلب في الفساد؛ لأن أفهام الناس تختلف ما حقيقة الفساد؟ وما أسباب الفساد؟ الله - جل وعلا - قال لنا في سورة الأعراف: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} (1) ، إذن، فالأرض صلحت بتوحيد الله، الأرض والعباد صلحوا بتوحيد الله وصلحت النفوس بشرع الله، وصلحت بالاستقامة على دين الله، وصلحت بالمحافظة على فرائض الإسلام، وصلحت بتحكيم الشريعة، وصلحت بالتزام الأوامر والبعد عن النواهي؛ صلح بذلك البلاد والعباد يقول - صلى الله عليه وسلم -: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم (2) » أخرجه البخاري.
إذا، فالأرض والعباد سبب صلاحهم هو التمسك بدين الله، شريعة الله التي تمكنت من قلوب أولئك حتى عرفوا الحق على حقيقته، والباطل على حقيقته، فلما استبان لهم الرشد، وميزوا بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الحسن والقبيح عند ذلك زكت النفوس، وصلحت الأقوال والأعمال.
إذا، فالفساد يأتي من إخلال الناس بشرع الله وعلى قدر بعدهم عن دين الله يكون فيهم الفساد، انظر إلى شعيب - عليه السلام - ماذا يقول لقومه {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (3)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 56
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6695) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2535) ، سنن الترمذي الفتن (2222) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3809) ، سنن أبي داود السنة (4657) ، مسند أحمد (4/440) .
(3) سورة هود الآية 85(75/13)
فجعل شعيب - عليه السلام - تطفيف المكاييل والموازين، وبخس الحقوق، وظلم العباد، فسادا في الأرض.
وفي قصة قوم صالح قال الله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (1) فوصفهم بأنهم يفسدون في الأرض، ووصفهم بأنهم لا يصلحون؛ لما كانوا يفسدون فمن لازم الفساد أن ينتفي عنهم الصلاح، قال تعالى عن قول قوم قارون لقارون {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (2) ، لأن كبره وإعجابه بنفسه، واغتراره بثروته وعلمه، واعتقاده أن ما ناله من هذه الدنيا إنما هو بسبب علمه وقدرته سماه الله فسادا.
أيها الإخوة! وجعل الله سفك الدماء فسادا في الأرض؛ سفك الدماء بغير حق فساد في الأرض: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (3) ؛ فسفك الدماء، وقتل الأبرياء: من مسلم ومعاهد هذا
__________
(1) سورة النمل الآية 48
(2) سورة القصص الآية 77
(3) سورة المائدة الآية 32(75/14)
فساد في الأرض، قال تعالى عن الملائكة لما قال لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (1) ؛ فدل على أن سفك الدماء، واستباحة الدماء فساد في الأرض ينافي الإصلاح الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأن حرمة الدماء أمر مقرر شرعا {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (2) ، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما (3) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام (4) » أخرجه مسلم.
وقال تعالى في المحاربين: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (5) فتأمل أخي هذه الآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (6) ومحاربة الله ومحاربة رسوله تكون بالشرك، والكفر، والضلال، والبعد عن أحكام الله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (7) هذا الفساد لم يفسر؛ وإنما كل ما خرج عن الصلاح والإصلاح فهو فساد {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} (8)
__________
(1) سورة البقرة الآية 30
(2) سورة النساء الآية 93
(3) صحيح البخاري الديات (6862) ، مسند أحمد (2/94) .
(4) صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، مسند أحمد (5/49) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .
(5) سورة المائدة الآية 33
(6) سورة المائدة الآية 33
(7) سورة المائدة الآية 33
(8) سورة المائدة الآية 33(75/15)
هذه الآية أنزلها الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في قصة العرنيين المحاربين الذين أسلموا، ثم سرقوا الإبل، وقتلوا الراعي، وارتدوا عن الإسلام.
قال أنس رضي الله عنه: «وفد على النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من عكل وعرينة فسكنوا المدينة فاجتووها، فلم يناسبهم ذلك، فأصابهم ما أصابهم؛ فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة؛ ليشربوا أبوالها، وألبانها، فلما فعلوا صحوا وسلموا فقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، فبلغ النبي خبرهم أول النهار، فأرسل في آثارهم، فأتي بهم قبل انتصاف النهار، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف - قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى - وسمل أعينهم بالنار، وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون، حتى ماتوا عطشا (1) » أخرجه البخاري. قال بعض الرواة: «رأيت بعضهم يقضم الأرض بفمه يطلب الماء، والنبي يقول: " النار النار " فأنزل الله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (2) » ؛ لأن هذه الفئة جريمتها متعددة.
الإخلال بالأمن العام؛ حيث خانوا النبي صلى الله عليه وسلم، وهددوا أمن الأمة بأن استاقوا تلك الإبل؛ إبل الصدقة التي لا حق لهم فيها، وهم قد صحوا من شرب أبوالها وألبانها، لكن
__________
(1) صحيح البخاري الفرائض (6805) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الأطعمة (1845) ، سنن النسائي تحريم الدم (4035) ، سنن أبي داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الطب (3503) ، مسند أحمد (3/290) .
(2) سورة المائدة الآية 33(75/16)
جازوها جزاء سنمار فاستاقوها.
ثم قتلهم الراعي الذي كان يسقيهم وسملوا عينيه؛ فالنبي دعا بهم، فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم - كواها بالنار - وتركهم حتى ماتوا حسرة وندامة وعطشا.
هو صلى الله عليه وسلم أرحم الخلق بالخلق؛ خلقه الحلم والصفح والعفو، لكن الحلم في موضعه، والقوة في موضعها. فهذه فئة قتلوا نفرا واحدا، لكن قتل هذه النفس الواحدة تعدل عند الله قتل الجميع.
ثم سرقة هذه الإبل، وإن كانت إبلا، لكنه تدل على خبث أولئك، وأنهم يريدون أن يهددوا أمن الأمة، ويقوضوا أمنها واطمئنانها؛ فعوقبوا بتلك العقوبة الشنيعة؛ لأن أمن الأمة وسلامة أرواحها أمور مقررة شرعا.
وقال تعالى عن اليهود: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (1) ، فهم يفسدون في الأرض. بمؤامراتهم الدنيئة، وأخلاقهم الرذيلة، وما يحيكونه للعالم كله، ولا سيما الإسلام من مكائد ومكر وخداع، ولكن الله - جل وعلا - لهم بالمرصاد.
أيها الإخوة الفساد في الأرض - كما قلنا - ينبني على مخالفة الشرع والبعد عن الصلاح، وإن من أسباب صلاح الأمة وسلامتها
__________
(1) سورة المائدة الآية 64(75/17)
من الفساد: توحيد الله وإخلاص الدين له، والقضاء على مظاهر الشرك قليلة وكثره.
فإن القلوب إذا تعلقت بالله حبا وخوفا ورجاء عند ذلك تمتلئ إيمانا ويقينا فتبعد عن الشرك ومظاهره قليله وكثيره.
ومن أسباب محاربة الفساد أيضا: قوة الإيمان بالله، وامتلاء القلوب بالإيمان بالله؛ فإن القلب إذا امتلأ بالإيمان بالله عرف الحق على حقيقته والباطل على حقيقته.
ومن أسباب الصلاح وكف الفساد تحكيم شرع الله في كل قليل وكثير؛ فإن شريعة الله حكم عدل بين الخلق في أمور دنياهم على اختلافها، سواء في أنفسهم، أو مع غيرهم، أو مع مخالفيهم، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (1) ، وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (2) .
إذا فتحكيم شرع الله يغلق أبواب الفساد؛ لأن أحكام الله هي العدل والإنصاف {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (3) ، فإذا عطل شرع الله وعزل عن الحكم، وصار الحكم
__________
(1) سورة المائدة الآية 48
(2) سورة النساء الآية 105
(3) سورة الأنعام الآية 115(75/18)
للنظم والقوانين البشرية الظالمة الجائرة فلا بد أن يظهر الفساد وينتشر بين الخلق، شاء الناس أم أبوا، فحكم الله أحسن الأحكام وأعدلها، يقول تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) .
فتحكيم شريعة الله، وصدور الأمة عن أحكام الله في الدماء والأموال والأعراض وسائر شؤون الحياة هو الذي يغلق أبواب الفساد.
ومن أسباب الصلاح وإغلاق أبواب الفساد: أن تربى الأجيال التربية الإسلامية وأن يعتنى تربيتها تربية صالحة؛ لأن هذا النشء ولد على الفطرة السليمة، ونور الهداية في قلبه، فإن ترك وشأنه فإنه على الفطرة، لكنه بحاجة إلى من ينمي تلك الفطرة ويقويها؛ حتى تزداد وتظهر على سلوكه وتصرفاته.
فإن ربي الشباب التربية الإسلامية الحقة، وربط حاضرها بماضيهم، وقويت الصلة بين الحاضر والماضي من خلال مناهج تعليمهم، ومن خلال اختيار ذوي الكفاءة العلمية والأمانة في توجيههم وتعليمهم، فإن شبابنا ينشأ وهو يحمل روح الحق في نفسه، ينشأ وهو يحمل الهدى والعلم النافع؛ فيصلح الله به ويصلح في نفسه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 50(75/19)
وإن ربي الشباب تربية سيئة، ووجهوا توجيها غير إسلامي نشؤوا في الفساد يألفونه ويكرهون الحق، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (1) » ، أخرجه البخاري.
ومن أسباب الفساد: ما تبثه وسائل الإعلام العامة من شرور وسموم، وما تحارب به الأخلاق وثوابت الأمة، وما تنشره من رذائل؛ قولية وفعلية.
فوسائل الإعلام في هذا العصر تنوعت مشاربها، وتعددت مصادرها، وأصبحت - مع شديد الأسف - بمتناول كل فرد صغير أو كبير، ولجت كل بيت، وشملت كل أجزاء المعمورة، فهذه الوسائل الإعلامية إن وقف المسلمون منها الموقف المناسب؛ فحصنوا نشأهم، وحصنوا مجتمعهم، وكافحوا الباطل بالحق، وقارعوا بالحجة، وسخروا وسائل إعلامهم لتخدم الحق وتنصر الهدى وتقمع الضلال بالحق، كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (2) ، وقال عز وجل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (3) .
__________
(1) صحيح البخاري القدر (6599) ، سنن الترمذي القدر (2138) ، سنن أبي داود السنة (4714) ، مسند أحمد (2/233) ، موطأ مالك الجنائز (569) .
(2) سورة الأنبياء الآية 18
(3) سورة الإسراء الآية 81(75/20)
ومن أسباب الفساد أيضا: تعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلق أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي نالوا به المكانة العالية، والشرف الأسمى، وتبوءوا المقعد اللائق بهم كخير أمة أخرجت للناس، بقول الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) ، ويقول تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) ، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقضي على الفساد الأخلاق والفساد العقدي؛ يقضي على ذلك بالوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وإذ عطل الأمر بالمعروف، أو قل شأنه فإن الأمة لا بد أن تكون في فساد، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (3) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (4) ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليوشكن الله
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة آل عمران الآية 104
(3) سورة المائدة الآية 78
(4) سورة المائدة الآية 79(75/21)
أن يضرب قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم (1) » أخرجه الترمذي: الفتن 2169.
ومن أسباب إغلاق باب الفساد ونشر الإصلاح: الدعوة إلى الله؛ دعوة الحق إلى الله واستمرار هذه الدعوة في كل زمان، بكل وسيلة ممكنة؛ فإن الدعوة إلى الله إنقاذ للبشرية من ضلالها، وهداية لها من حيرتها، وتبصير لها من عماها، والأخذ بيديها لما فيه الخير والصلاح، والله تعالى يقول: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (2) وقال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) ، فالدعوة إلى الله بصدق وأمانة على يد ذوي العلم والتقى، ممن أنار الله بصائرهم، وشرح بالحق صدورهم؛ فكانوا أهل علم وبصيرة وأناة وخلق كريم، يدعون إلى الله، ويرشدون عباد الله، ويبينوا الحق، ويحذرونهم من الباطل، هذا من أسباب صلاح المجتمعات ونفي الفساد.
ومن خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن الحق باق فيهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «ولا تزال طائفة من أمتي
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2169) ، مسند أحمد (5/391) .
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة فصلت الآية 33(75/22)
ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله (1) » رواه مسلم في الإمارة 1920، وأبو داود في الفتن والملاحم 4252.
إذا فالدعاة إلى الله يبصرون العباد، وينقذونهم، ويخرجونهم من الظلمات إلى النور، يقول صلى الله عليه وسلم: «ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا إلى يوم القيامة (2) » رواه مسلم في العلم 2674.
فإذا وجد الدعاة إلى الله، وجابوا البلاد، وخالطوا الناس، وعلموا الجاهل، وبصروه ودلوه على الخير، وأخذوا بيده؛ فإن تلك نعمة من الله، والدعوة إلى الله في المساجد، في وسائل الإعلام، الخطباء دعاة إلى الله على منابرهم يحدثون الناس، ويحذرونهم، ويبحثون عن مشكلاتهم، ويحلونها في ضوء الكتاب والسنة.
أيها المسلم، إن الأمر أحيانا قد يلتبس على الناس، وأحيانا قد تنقلب الأمور وتختل الموازين؛ فهناك من هو على الفساد ويرى أنه مصلح، هناك من هو على قمة الفساد في تصرفاته ويرى أنه مصلح، وهذا هو عين البلاء، يقول الله عز وجل: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} (3) ، ألا ترى إلى فرعون وهو يخاطب قومه عن موسى
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7460) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) .
(2) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبي داود السنة (4609) ، سنن ابن ماجه المقدمة (206) ، مسند أحمد (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(3) سورة فاطر الآية 8(75/23)
عليه السلام، {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (1) ، أصغ إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} (2) {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (3) {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} (4) {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (5) .
موسى ماذا قال؟ بأي شيء دعا موسى؟ وأي شيء كان عليه فرعون؟ فرعون كان يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (6) ، ويقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (7) .
هذا صلاحه الذي يرى أنه صلاح، أن دعا الناس إلى عبادته، وأنه ربهم المتصرف فيهم، وهذا الكلام منه من باب المكابرة، وإلا كما قال الله عز وجل عنه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (8) ، وموسى عليه السلام، يدعوه إلى الله، وإلى توحيده، وإلى
__________
(1) سورة غافر الآية 26
(2) سورة غافر الآية 23
(3) سورة غافر الآية 24
(4) سورة غافر الآية 25
(5) سورة غافر الآية 26
(6) سورة النازعات الآية 24
(7) سورة القصص الآية 38
(8) سورة النمل الآية 14(75/24)
الإقرار بذلك وإتباع ما جاء به من عند الله عز وجل، وهو يقول: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (1) .
ففرعون يصف موسى بالفساد، إذا فرعون يرى أنه المصلح، وهو المفسد الأكبر - والعياذ بالله -، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (2) {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (3) ، إذا، هذا يعجبك قوله، ونداءاته، وأنه يريد الإصلاح، وأن مبادئه مبادئ الخير، وأنه يريد إنقاذ البشرية من ضلالها، وهداية الشباب من غوايتهم، بأي شيء؟ بأن يقول: اقتلوا الأبرياء، اسفكوا الدماء، دمروا الممتلكات، روعوا الآمنين إلى غير ذلك من آرائهم الشاطة.
إذا فهم يجعلون القتل والتدمير، وترويع الآمنين، وتخويف الأمة، وتسهيل الطريق لأعداء الأمة يعدون ذلك صلاحا وهدى، وهو عين الفساد، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (4) ، إذا قيل: اتق الله، ودع ما أنت عليه من هذه الأفكار السيئة، والآراء الشاطة،
__________
(1) سورة غافر الآية 26
(2) سورة البقرة الآية 204
(3) سورة البقرة الآية 205
(4) سورة البقرة الآية 206(75/25)
والتصورات الخاطئة، استهزأ بك وسخر منك؛ لأنه يرى نفسه مصلحا وهو في غاية الفساد والضلال.(75/26)
أيها الإخوة إن الأفكار الغربية، الأفكار الوافدة على الأمة، والآراء الشاطة هي عين الفساد والضلال، ولكن الشيطان يلبسها ثوب الصلاح؛ لأنهم لو جاءوا بالفساد بصورته الواضحة نفرت منها الفطر، ومقتتها الأمة، ولكن إذا أرادوا أن يسفكوا الدماء سوغوا دعواهم وجريمتهم بقولهم: نحن نغار على الدين، ونحن نحب الأمة، ونحن نقضي على الفساد، ونحن نصلح البشرية، ونحن ونحن.
نعم نحن نريد الإصلاح، لكن أي إصلاح؟ قتل المسلم بغير حق ليس إصلاحا، تدمير أموال الأمة ليس إصلاحا، إخافة الآمنين ليس إصلاحا، وضع أيديكم بأيدي الأعداء المتربصين بالأمة بأي سبيل، وعلى أي منهج ليس إصلاحا؛ هذا عين الفساد وعين الضلال.
هذا أسلوب المنافقين الذين أخبر الله عنهم، وعن كيدهم للإسلام وأهله، ومكرهم بالإسلام وأهله لما بنوا مسجد الضرار، قالوا: نريده مسجدا يأوي الغريب، يكنهم من حر الشمس وبرد الشتاء، ومأوى للمساكين، وإحسانا. . إلى آخره، وهم في ضمائرهم أرادوه حربا لله ورسوله، وإرصادا ومأوى لكل من يعادي الأمة؛ ليقتلوا فيه النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى بعد رجوعه من تبوك؛(75/26)
فجاءه الوحي، وأخبره الله أن هذا مسجد ضرار وحرب، قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (1) ، يقولون: إن أردنا إلا الحسنى.
وهكذا كل مفسد، وكل صاحب فكر خطر، وفكر منحرف لا يستطيع أن يواجه، ويقول: هذا بلاء.
الشيوعي، والملحد، وكل صاحب ضلالة لا بد أن يلبس ضلالته ثوب صلاح في الظاهر، تخفى على ضعفاء البصائر، ويستبينها صاحب الحق والبصيرة النافذة.
إذا فصغار أبنائنا الذين وقعوا في هذا الشرك، واصطيدوا على حين غفلة منهم، وبعد عن علمائهم، وتقصير من آبائهم أحيانا، وانخداع بجلسائهم، هؤلاء الفئة الذين اصطيدوا في الظلام، واقتصهم الأعداء على حين غفلة من الأمة، فملأوا قلوبهم حقدا على المجتمع المسلم، وصوروا لهم الباطل بصورة الخير، والضلال بصورة الحق، حتى اقتنع من اقتنع منهم، فسعى فيما سعى، وهو مراهق: إما في العشرين من عمره أو دون، لكن هذه الأفكار دأب الأعداء على
__________
(1) سورة التوبة الآية 107(75/27)
ملء تلك القلوب الفارغة بهذا الشر؛ فنفذوا مخططاتهم عن جهل منهم، وسوء بصيرة، وقلة إدراك.
إذا فعلينا أن نعتني بتربية أبنائنا، سواء في المنزل، أو في المدرسة بوحي الله؛ بشرع الله، بربط الحاضر بالماضي، بتقوية الصلة بالكتاب العزيز، والسنة النبوية الثابتة التي لا تزال غضة طرية، لنحصن أبناءنا من مكائد الشيطان.
إن الإرهاب المذموم ما ترعرع في نفوس بعض أبنائنا إلا لقلة علم عندهم، وضعف بصيرة عندهم، فإذا اعتني بمناهج الأمة الاعتناء الصحيح، وربط الحاضر بالماضي، وتولى ذلك ذووا علم وصلاح وتقى فإني أرجو بتوفيق من الله أن يتقلص هذا الباطل، وأن يستبين للناس أخطاره ومفاسده.
أيها الأمة! إن الأعداء لا يأتون إلى العقول الناضحة، ولا لأهل الإدراك والوعي، ومن رسخت أقدامهم في الخير، وتبصروا في الهدى؛ لأنهم يعلمون أن أولئك لا يروج الباطل عليهم، ولا تخدعهم تلك الدعايات الضالة، وإنما يقصدون الشباب الصغار الذين قل إدراكهم.
فعلى المجتمع جميعا واجب حماية الأبناء، واجب على المدرسة، وعلى المعتنين بالتربية والتعليم، من خلال تقوية المناهج وربطها(75/28)
بالماضي الربط الصحيح، ووسائل الإعلام، والعلماء والخطباء، والدعاة، كل في سبيله؛ لإنقاذ شبابنا من أن تتسرب إليهم هذه الأفكار الضالة الغربية البعيدة عنا وعن واقعنا.
نحن أمة مسلمة، حبانا الله في هذا البلد الدين قبل كل شيء، والتربية الصالحة، واجتماع الكلمة، ووحدة الصف، والالتفاف مع القيادة في تضامن وتعاون وتساعد، فالحمد لله على فضله.
إن هذا المجتمع يسعى أعداؤنا إلى تفكيكه، ويسعون في تشتيته، ويسعون ويسعون، ويريدون أن نعيش في فوضى كما عاش فيها غيرنا، ولكن ولله الفضل والمنة، حنكة القيادة، وصلاح نيتها، وتعاون المجتمع معها، أغلق على أهل الشر أبواب الشر، ومنعهم من الوصول إلى كثير مما أرادوا، وحيل بينهم وبين ذلك؛ لأن الأمة لديها الوعي الصحيح، والفكر السليم، أن هذه المبادئ الخطرة متنافية مع ديننا ولا تتفق مع تعاليم إسلامنا.
هذا، وأسأل الله أن يمن على الجميع بالتوفيق، والفهم الصحيح، والاستقامة على الهدى، وأن يصلح ولاة أمرنا، وأن يوفقهم لكل خير، وأن يرزقهم الأعوان الصادقين المخلصين الذين يذكرونهم إذا نسوا، ويعينونهم إذا ذكروا، وأن يصلح شبابنا ويهديهم لكل خير، وأن يوفق هذه المؤسسة الخيرية لأن تمض في(75/29)
سبيلها، دعوة إلى الله، وإرشادا لعباد الله.
أسأل الله أن يغفر لمن نسب إليه هذا المكان، وسعى في بنائه، وأن يبدله مثله في جنات النعيم، وأن يخلف على من أنفقوا خيرا، وأن يجعل هذه الأعمال الصالحة في ميزان أعمالهم، وصدقات جارية لمن خلفها. إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(75/30)
الفتاوى
* من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
* من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
* من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
* من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(75/31)
صفحة فارغة PgPg 32
صفحة فارغة(75/31)
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية - رحمه الله -
إنكار الاحتفال بالمولد النبوي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، أما بعد:
فإن مما أحدث بعد القرون المشهود لها بالخير (بدعة الاحتفال بالمولد النبوي) .
وقد تجاهل محمد مصطفى الشنقيطي ذلك؛ حيث برر هذه البدعة في مقالته المنشورة في جريدة الندوة عدد 1111 الصادر في 7 / 4 / 1383 هـ بأمور:
أحدها: دعوى تلقي الأمم الإسلامية هذا الاحتفال بالقبول منذ مئات السنين.(75/33)
الثاني: تقسيم العز بن عبد السلام البدعة إلى أحكام الشريعة الخمسة.
الثالث: قول عمر بن الخطاب في قضية التراويح: نعمت البدعة.
الرابع: قول عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.
الخامس: دعوى الكاتب في إقامة الاحتفال بالمولد صون عرض المملكة العربية السعودية عن أن تنسب إلى تنقص النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يذاع عنها تنقصه وإحراق كتب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
فلهذا وجب نقض هذه الشبه التي أتى بها هذا الشخص أولا، وبيان حكم المولد ثانيا.
فنقول وبالله التوفيق: أما دعوى الشنقيطي أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي وإن كان بدعة فقد تلقته الأمة بالقبول. فمن أقوى الأدلة على جهالته لأمور:
أحدها: أن الأمة معصومة من الاجتماع على ضلالة، والبدعة في الدين بنص الأحاديث النبوية ضلالة، فمقتضى كلام الشنقيطي أن الأمة اجتمعت في قضية الاحتفال بالمولد على ضلالة.(75/34)
الثاني: أن الاحتجاج على تحسين البدع بهذه الدعوى ليس بشيء في أمر تركته القرون الثلاثة المقتدى بهم كما بينه الشاطبي في " الاعتصام " نقلا عن بعض مشايخه. ثم قال: ولما كانت البدع والمخالفات وتواطأ الناس عليها صار الجاهل يقول لو كان هذا منكرا لما فعله الناس. ثم قال: ما أشبه هذه المسألة. بما حكي عن أبي على بن شاذان بسند يرفعه إلى أبي عبد الله بن إسحاق الجعفري، قال كان عبد الله بن الحسن - يعني ابن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم - يكثر الجلوس إلى ربيعة، فتذاكروا يوما، فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل على هذا. فقال عبد الله: أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام فهم الحجة على السنة. فقال ربيعة: أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم، مخالفة أصحاب الجحيم ": من اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليها بناءا على أن الأمة أقرتها ولم تنكرها فهو مخطئ في هذا الاعتقاد؛ فإنه لم يزل ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المستحدثة المخالفة للسنة.
قال: ولا يجوز دعوى إجماع بعمل بلد أو بلاد من بلدان المسلمين فكيف بعمل طوائف منهم.(75/35)
قال: وإذا كان أكثر أهل العلم لم يعتمدوا على عمل علماء أهل المدينة وإجماعهم في عصر مالك بل رأوا السنة حجة عليهم كما هي حجة على غيرهم مع ما أوتوه من العلم والإيمان فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات أكثر من اعتادها عامة أو من قيدته العامة، أو قوم مترئسون بالجهالة لم يرسخوا في العلم، ولا يعدون من أولي الأمر ولا يصلحون للشورى، ولعلهم لم يتم إيمانهم بالله وبرسوله، أو قد دخل معهم فيها بحكم العادة قوم من أهل الفضل عن غير روية أو لشبهة أحسن أحوالهم فيها أن يكونوا فيها. بمنزلة المجتهدين. ثم ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الاحتجاج بمثل هذه الحجة - وهي دعوى الإجماع على العادات المخالفة للسنة - ليس طريقة أهل العلم؛ لكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق من الناس حتى من المنتسبين إلى العلم والدين. وذكر أن الاستناد إلى أمور ليست مأخوذة عن الله ولا رسوله ليس من طريقة أولي العلم والإيمان. ثم قال: والمجادلة المحمودة إنما هي بإبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال.
وأما إظهار الاعتماد على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل فنوع من النفاق في العلم والجدل والكلام والعمل.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاقتضاء ": ما أكثر ما قد(75/36)
يحتج بعض من يتميز من المنتسبين إلى علم أو عبادة بحجج ليست من أصول العلم التي يعتمد في الدين عليها. وذكر أن التعلق في تحسين البدع. بما عليه الكثير من الناس إنما يقع ممن لم يحكم أصول العلم؛ فإنه هو الذي يجعل ما اعتاده هو ومن يعرفه إجماعا وإن لم يعلم قول سائر المسلمين في ذلك، ويستنكر تركه.
وذكر الشاطبي في " الاعتصام " أن منشأ الاحتجاج بعمل الناس في تحسين البدع الظن بأعمال المتأخرين، وإن جاءت الشريعة بخلاف ذلك، والوقوف مع الرجال دون التحري للحق.
الأمر الثالث: ما سنذكره عن علماء المسلمين من احتواء الاحتفال بالمولد على المحرمات، وبيان أن ما لم يحتو على المحرمات منه بدعة.
وأما تقسيم الشنقيطي للبدعة إلى أحكام الشريعة الخمسة، وتمثيله للبدعة الواجبة بنقط حروف القرآن وتشكيلها وبناء مدارس العلم.
فالجواب عنه: أن هذا التقسيم في غاية المناقضة لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر(75/37)
الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (1) » وفي رواية النسائي: «وكل ضلالة في النار (2) » .
وروى أصحاب السنن عن العرباض بن سارية، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الحلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة (3) » .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاقتضاء ": لا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلية وهو قوله: «كل بدعة ضلالة (4) » بسلب عمومها وهو أن يقال ليست كل بدعة ضلالة، فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل. وقال: إن قصد التعميم المحيط ظاهر من نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة الجامعة، فلا يعدل عن مقصوده بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
وذكر شيخ الإسلام: أن تخصيص عموم النهي عن البدع بغير دليل من كتاب أو سنة أو إجماع لا يقبل، فالواجب التمسك بالعموم.
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(2) وتقدم أن شيخ الإسلام يتعقب هذه الرواية.
(3) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن أبي داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(4) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(75/38)
وقال الشاطبي في " الاعتصام " في رد تقسيم البدعة إلى أحكام الشرع الخمسة: إن هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي. قال: وهو - أي هذا التقسيم - في نفسه متدافع؛ فإن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده؛ إذ لو كان هناك من الشرع ما يدل على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة، ولكان العمل داخلا في عموم الأعمال المأمور بها أو المخير فيها، فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعا وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متناقضين.
أما المكروه منها والمحرم فمسلم من جهة كونها بدعة لا من جهة أخرى؛ إذ لو دل دليل على منع أمر أو كراهته لم يثبت ذلك كونه بدعة، لا مكان أن يكون معصية كالقتل والسرقة وقرب الخمر ونحوها، فلا بدعة يتصور فيها ذلك التقسيم إلا الكراهية والتحريم.(75/39)
وممن تعقب تقسيم العز بن عبد السلام البدعة إلى أحكام الشريعة الخمسة العلامة زروق (1) في " شرح رسالة القيرواني " قال بعد ذكر هذا التقسيم: قال المحققون: إنما تدور - أي البدعة - بين محرم ومكروه لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل محدثة بدعة، وكل
__________
(1) قال في الإعلام: فقيه محدث صوفي.(75/39)
بدعة ضلالة (1) » وكلام العلماء في رد هذا التقسيم كثير.
وأما التمثيل بنقط المصحف وتشكيله، وبناء المدارس للبدعة الواجبة فليس بمسلم؛ لأن ما ذكر ليس من البدعة في الدين، فإن نقط المصحف وتشكيله إنما هما لصيانة القرآن من اللحن والتحريف وهذا واجب شرعا.
وأما بناء المدارس للعلم، فيقول الشاطبي في " الاعتصام " ردا على التمثيل به للبدعة ما نصه: أما المدارس فلم يتعلق بها أمر تعبدي يقال في مثله بدعة إلا على فرض أن يكون من السنة أن لا يقرأ العلم إلا في المساجد، وهذا لا يوجد؛ بل العلم كان في الزمان الأول يبث بكل مكان من مسجد أو منزل أو سفر أو حضر أو غير ذلك حتى في الأسواق، فإذا أعد أحد من الناس مدرسة يعني بإعدادها الطلبة، فلا يزيد ذلك على إعداده له منزلا من منازله أو حائطا من حوائطه أو غير ذلك، فأين مدخل البدعة هاهنا. وإن قيل البدعة في تخصيص ذلك الموضع دون غيره فالتخصيص هنا ليس بتخصيص تعبدي، وإنما هو تعيين بالحبس كما تتعين سائر الأمور المحبسة (2) .
وأما استدلال الشنقيطي على أن البدعة في الدين تكون حسنة بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في " قضية التراويح ": نعمت
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(2) المحبسة: الموقوفة.(75/40)
البدعة هذه. فاستدلال ليس في محله؛ فإن عمر لم يقصد بذلك تحسين البدعة في الدين.
قال الشاطبي في " الاعتصام ": إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه؛ لا أن هذا بدعة من حيث المعنى، فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي. قال: وعند ذلك فلا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه؛ لأنه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم ":
أما قول عمر: نعمت البدعة هذه. فأكثر المحتجين بهذا لو أردنا أن نثبت حكما بقول عمر الذي لم يخاف فيه لقالوا: قول الصاحب ليس بحجة. فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن اعتقد قول الصاحب حجة فلا يعتقده إذا خالف الحديث، فعلى التقديرين لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب. قال: ثم نقول: أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية؛ وذلك أن " البدعة في اللغة " تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سبق. وأما " البدعة الشرعية " فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي. قال: فإذا كان نص(75/41)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دل على استحباب فعل أو إيجابه بعد موته أو دل عليه مطلقا ولم يعمل به إلا بعد موته ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر رضي الله عنه فإذا عمل أحد ذلك العمل بعد موته صح أن يسمى بدعة في اللغة لأنه عمل مبتدأ.
قال: وقد علم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن كل بدعة ضلالة (1) » لم يرد به كل عمل مبتدأ؛ فإن دين الإسلام بل كل دين جاءت به الرسل فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد ما ابتدئ من الأعمال التي لم يشرعها هو صلى الله عليه وسلم. قال: وإذا كان كذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى، وقد قال لهم في الليلة الثالثة والرابعة لما اجتمعوا: «إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن يفرض عليكم فصلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة (2) » .
فعلل صلى الله عليه وسلم عدم الخروج بخشية الافتراض فعلم بذلك أن المقتضي للخروج قائم وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم فلما كان في عهد عمر جمعهم على قارئ واحد وأسرج المسجد، فصارت هذه الهيئة - وهي اجتماعهم في المسجد على إمام واحد مع الإسراج - عملا لم يكونوا يعملونه من قبل، فسمي بدعة؛ لأنه في اللغة يسمى بذلك، وإن لم يكن بدعة شرعية؛ لأن السنة اقتضت أنه
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، مسند أحمد (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5862) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (761) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1604) ، سنن أبي داود الصلاة (1373) ، مسند أحمد (6/268) ، موطأ مالك النداء للصلاة (250) .(75/42)
عمل صالح لولا خوف الافتراض، وخوف الافتراض قد زال بموته صلى الله عليه وسلم فانتفى المعارض.
وقال شيخ الإسلام أيضا في " الاقتضاء ": أما صلاة التراويح فليست بدعة في الشريعة، بل هي سنة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، فإنه قال: «إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه (1) » ولا صلاتها جماعة بدعة بل هي سنة في الشريعة، بل قد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين، بل ثلاثا، وصلاها أيضا في العشر الأواخر في جماعة مرات وقال: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة (2) » لما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح رواه أهل السنن. وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد. وفي قوله هذا ترغيب في قيام شهر رمضان خلف الإمام، وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقا. وكان الناس يصلونها جماعة في المسجد على عهده صلى الله عليه وسلم ويقرهم، وإقراره سنة منه صلى الله عليه وسلم.
وما استدلال، الشنقيطي على استحسان الابتداع في الدين بما
__________
(1) رواه أهل السنن.
(2) سنن الترمذي الصوم (806) ، سنن النسائي السهو (1364) ، سنن أبي داود الصلاة (1375) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1327) ، مسند أحمد (5/160) .(75/43)
عزاه إلى عمر بن عبد العزيز أنه قال: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. يقصد الشنقيطي بذلك القياس. أي فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما أحدثوا من الفتور. فقد أجاب الإمام الشاطبي في " الاعتصام " عن هذا الاستدلال بأمور:
أولها: أن هذا قياس في مقابلة النص الثابت في النهي عن الابتداع، وهو من باب فساد الاعتبار.
الثاني: أن هذا قياس على نص لم يثبت بعد من طريق مرضي.
الثالث: أن هذا الكلام على فرض ثبوته عن عمر بن عبد العزيز لا يجوز قياس إحداث العبادات عليه؛ لأن كلام عمر إنما هو في معنى عادي يختلف فيه مناط الحكم الثابت فيما تقدم كتضمين الصناع، أو الظنة في توجيه الأيمان دون مجرد الدعاوى، فيقول إن الأولين توجهت عليهم بعض الأحكام لصحة الأمانة والديانة والفضيلة، فلما حدثت أضدادها اختلف المناط فوجب اختلاف الحكم وهو حكم رادع أهل الباطل عن باطلهم، فأثر هذا المعنى ظاهر مناسب، بخلاف ما نحن فيه فإنه على الضد من ذلك. ألا ترى أن الناس إذا وقع فيهم الفتور عن الفرائض فضلا عن النوافل - وهي ما هي من القلة والسهولة - فما ظنك بهم إذا زيد عليهم أشياء أخرى يرغبون فيها ويحضون على استعمالها، فلا شك أن الوظائف تتكاثر حتى تؤدي(75/44)
إلى أعظم من الكسل الأول وإلى ترك الجميع، فإن حدث للعامل بالبدعة هي في بدعته أو لمن شايعه فيها فلا بد من كسله عن ما هو أولى، قال فصارت هذه الزيادة عائدة على ما هو أولى منها بالإبطال أو الإخلال، وقد مر أنه ما من بدعة تحدث إلا ويموت من السنة ما هو خير منها.
الرابع: أن هذا القياس مخالف لأصل شرعي وهو طلب النبي صلى الله عليه وسلم السهولة والرفق والتيسير وعدم التشديد، فزيادة وظيفة لم تشرع تظهر ويعمل بها دائما في مواطن السنن هي تشديد بلا شك، فليس قصد عمر بن عبد العزيز بهذا الكلام على فرض ثبوته عنه فتح السبيل إلى إحداث البدع.
وقال العلامة قاسم بن عيسى بن ناجي المالكي في " شرح رسالة القيرواني " في معنى: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. قال معناه ما أحدثوا من الفجور مما ليس فيه نص. وقال: قال التقي السبكي في الكتاب الذي ألفه في شأن رافضي جاهر بلعنة أبي بكر الصديق وقال فيه: عدو الله. فقتله القاضي المالكي، قال في هذه الكلمة بعدما عزاها إلى مالك بن أنس بلفظ: يحدث للناس أحكام بقدر ما يحدثون من الفجور: لا نقول إن الأحكام تتغير بتغير الزمان، بل باختلاف الصور الحادثة، فإذا حدثت صورة على صفة(75/45)
خاصة علينا أن ننظر فيها، فقد يكون مجموعها يقتضي الشرع له حكما. على هذا حمل التقي السبكي هذه الكلمة، وذكر أنها منطبقة على قضية الرافضي؛ لكن صورتها مجموعة من إظهار سب الصديق في ملأ من الناس ومجاهرته وإصراره عليه وإعلاء البدعة وغمض السنة. ونقل السيوطي هذا التأويل عن السبكي في "الحاوي".
ومن هذه النقول يعلم أن عمر بن عبد العزيز لم يقصد بهذه الكلمة فتح أي باب يناقض الشريعة، وكيف ينسب إلى عمر بن عبد العزيز فتح باب الابتداع في الدين وهو الذي يقول حينما بايعه الناس بعدما صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه: يا أيها الناس إنه ليس بعد نبيكم نبي، ولا بعد كتابكم كتاب، ولا بعد سنتكم سنة، ولا بعد أمتكم أمة، وإن الحلال ما أحله الله في كتابه على لسان نبيه حلال إلى يوم القيامة، ألا وإن الحرام ما حرم الله في كتابه على لسان نبيه حرام إلى يوم القيامة، ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع.(75/46)
وأما دعوى الشنقيطي أن عدم احتفال المملكة السعودية بالمولد النبوي يعرضها إلى أن تنسب من قبل الدول الأخرى إلى تنقص الرسول وازدرائه حيث تحتفل بغيره ولا تحتفل بمولده، ويذاع عنها ذلك، كما يذاع عنها أنها تحرق كتب الصلاة عليه. فهذا من عندياته وذلك لأمور:(75/46)
أحدها: أن الحكومات الإسلامية كلها تعترف للحكومة السعودية بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، مع علمها بأنها لا تحتفل بالمولد النبوي مخافة من الابتداع، وأقرب شاهد في زماننا هذا على ذلك إقبال وفودها على المؤتمر الإسلامي الذي يعقد بمكة، فإنه لا يتصور ذلك الإقبال الشديد على من يتهم بما ذكره الشنقيطي وكذلك على الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وتلك الإشاعات التي يشير إليها الشنقيطي إنما حاول المبطلون التنفير بها عن دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. وكان الشيخ يجيب عن كل ذلك بقوله: سبحانك هذا بهتان عظيم.
وكان يذكر أن ما ينسب إليه من إحراق كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أصل، إلا أنه نصح بعض من يتعلق بكتاب " دلائل الخيرات " بأنه لا يصير هذا الكتاب أجل في قلبه من كتاب الله، فيظن أن القراءة فيه أنفع من قراءة القرآن. ورغم هذه الافتراءات أبى الله إلا أن يظهر الحق ويبطل الباطل، ويعلي الدعوة التي حاول أولئك المبطلون التنفير عنها بمثل تلك الإشاعات الباطلة.
الثاني: أن القائل بأن تارك الاحتفال بالمولد متنقص للنبي صلى الله عليه وسلم. إن أراد بقوله هذا أن ذلك اعتقاد التارك فقد كذب وافترى، وإن أراد أن ذلك تنقيص للنبي صلى الله عليه وسلم(75/47)
عما يستحقه شرعا. فالمرجع في ذلك إلى الكتاب والسنة وما عليه القرون المشهود لها بالخير، فنحاكم كل من يطالبنا بهذا إلى ذلك، فإن جاء بدليل صحيح صريح وإلا فنحن متمسكون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن كل بدعة ضلالة (1) » ، وبما روى أبو داود في سننه عن حذيفة رضي الله عنه، قال: كل عبادة لا يتعبدها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها؛ فإن الأول لم يترك للآخر مقالا. ولا نصون أعراضنا في الدنيا بالتقرب إلى الله تعالى بما لم يشرعه.
الثالث: أن أكثر ما يقصد من تلك الاحتفالات التي تقام للرؤساء إحياء الذكرى، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال الله في حقه: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (2) فذكره مرفوع في الأذان والإقامة والخطب والصلوات وفي التشهد والصلاة عليه، وفي قراءة الحديث وإتباع ما جاء به، فهو أجل من أن تكون ذكراه سنوية فقط. ولكن الأمر كما قال السيد رشيد رضا في كتابه " ذكرى المولد النبوي " قال: إن من طباع البشر أن يبالغوا في مظاهر تعظيم أئمة الدين أو الدنيا في طور ضعفهم - أي البشر - في أمر الدين أو الدنيا؛ لأن هذا التعظيم لا مشقة فيه على النفس، فيجعلونه بدلا مما يجب عليهم
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، مسند أحمد (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(2) سورة الشرح الآية 4(75/48)
من الأعمال الشاقة إلى يقوم بها أمر الدين أو الدنيا؛ وإنما التعظيم الحقيقي بطاعة المعظم والنصح له والقيام بالأعمال التي يقوم بها أمره ويعتز دينه إن كان رسولا، وملكه إن كان ملكا، وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم تعظيما للنبى صلى الله عليه وسلم ثم للخلفاء، وناهيك ببذل أموالهم وأنفسهم في هذا السبيل؛ ولكنهم دون أهل هذه القرون التي ضاع فيها الدين في مظاهر التعظيم اللساني، ولا شك أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أحق الخلق بكل تعظيم، وليس من التعظيم الحق له أن نبتدع في دينه بزيادة أو نقص أو تبديل أو تغيير لأجل تعظيمه ربه. وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين، فقد كان جل ما أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم عن حسن نية، وما زالوا يبتدعون بقصد التعظيم وحسن النية حتى صارت أديانهم غير ما جاءت به رسلهم، ولو تساهل سلفنا الصالح كما تساهلوا، وكما تساهل الخلف الذين اتبعوا سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع لضاع أصل ديننا أيضا، ولكن السلف الصالح حفظوا لنا الأصل، فالواجب علينا أن نرجع إليه، ونعض عليه بالنواجذ. هذا مع أن الاحتفال بالمولد النبوي إذا كان بطريق القياس على الاحتفالات بالرؤساء صار ملحقا بهم في التعظيم، وهذا ما لا يرضاه عاقل.(75/49)
حكم المولد:
قسم العلماء الاجتماع الذي يعمل في ربيع الأول ويسمى باسم المولد إلى قسمين:
أحدهما: ما خلا من المحرمات. فهو بدعة لها حكم غيرها من البدع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الفتاوى الكبرى ": أما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي قال إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال " عيد الأبرار " فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف الصالح ولم يفعلوها.
وقال في " الاقتضاء ": إن هذا - أي اتخاذ المولد عيدا - لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه. قال: ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله وسلم وتعظيما له منا وهم على الخير أحرص.
وقال ابن الحاج في " المدخل ": فإن خلا - أي المولد النبوي - منه - أي من السماع وتوابعه - وعمل طعاما فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط، إذ إن ذلك زيادة في الدين، وليس من عمل السلف(75/50)
الماضين، وإتباع السلف أولى وأوجب من أن يزيد نية مخالفة لما كانوا عليه؛ لأنهم أشد الناس اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيما له ولسنته صلى الله عليه وسلم، ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن لهم تبع فيسعنا ما وسعهم، وقد علم أن اتباعهم في المصادر والموارد كما قال الشيخ أبو طالب المكي - رحمه الله - في كتابه: وقد جاء في الخبر «لا تقوم الساعة حتى يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا (1) » .
وقد وقع ما قاله عليه الصلاة والسلام بسبب ما تقدم ذكره وما يأتي بعد؛ لأنهم يعتقدون أنهم في طاعة، ومن لا يعمل عملهم يرون أنه مقصر، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقال العلامة تاج الدين علي بن عمر اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني في رسالته في المولد المسماة بـ " المورد في الكلام على المولد " قال في النوع الخالي من المحرمات من الموالد: لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين؛ بل هو بدعة أحدثها الباطلون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون، بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا: إما أن يكون واجبا،
__________
(1) تقدم تخريجه(75/51)
أو مندوبا، أو مباحا، أو مكروها، أو محرما. وليس بواجب إجماعا، ولا مندوبا؛ لأن حقيقة المندوب: ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون، ولا العلماء المتدينون فيما علمت، وهذا جوابي عنه بين يدي الله إن عنه سئلت. ولا جائز أن يكون مباحا؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين، فلم يبق إلا أن يكون مكروها أو محرما.
ثم صور الفاكهاني نوع المولد الذي تكلم فيه بما ذكرنا بأنه هو أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام ولا يقترفون شيئا من الآثام. قال: فهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة، إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة، الذين هم فقهاء الإسلام، وعلماء الأنام، وسرج الأزمنة، وزين الأمكنة.
ويرى ابن الحاج في " المدخل ": أن نية المولد بدعة، ولو كان الاشتغال في ذلك اليوم بقراءة صحيح البخاري. وعبارته: وبعضهم أي المشتغلين بعمل المولد يتورع عن هذا - أي سماع الغناء وتوابعه - بقراءة البخاري وغيره عوضا عن ذلك، وهذا وإن كانت قراءة الحديث في نفسها من أكبر القرب والعبادات، وفيها البركة العظيمة والخير الكثير؛ لكن إذا فعل ذلك بشرطه اللائق به على الوجه(75/52)
الشرعي لا بنية المولد. ألا ترى أن الصلاة من أعظم القرب إلى الله تعالى ومع ذلك فلو فعلها إنسان في غير الوقت المشروع لها لكان مذموما مخالفا، فإذا كانت الصلاة بهذه المثابة فما بالك بغيرها. هذا ما بينه المحققون في هذا النوع من المولد.
وقد حاول السيوطي في رسالته " حسن المقصد، في عمل المولد " الرد على ما نقلناه على الفاكهاني؛ لكنه لم يأت بشيء يقوى على معارضة ما ذكره الفاكهاني؛ فإنه عارضه بأن الاحتفال بالمولد النبوي إنما أحدثه ملك عادل عالم قصد به التقرب إلى الله، وارتضاه ابن دحية، وصنف له من أجله كتابا. وهذا ليس بحجة؛ فإن البدعة في الدين لا تقبل من أي أحد كان بنصوص الأحاديث، فلا يمكننا أن نعارض الأحاديث المحذرة من الابتداع في الدين بعمل أبي سعيد " كوكبوري " بن أبي الحسن علي بن بكتكتين الذي أحدث الاحتفال بالمولد في القرن السادس. وعدالته لا توجب عصمته. وقد ذكر ابن خلكان: أنه يحب السماع. وأما " ابن دحية " فلا يخفى كلام العلماء فيه، وقد اتهموه بوضع حديث في قصر صلاة المغرب كما في تاريخ ابن كثير.
وأما " القسم الثاني " من عمل المولد، وهو المحتوي على المحرمات. فهذا قد منعه العلماء، وبسطوا القول فيه، وإليك بعض(75/53)
عباراتهم في ذلك:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له: فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك واتخاذه عبادة فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان في أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها ولا يستحب ذلك إلا جاهل أو زنديق (1) .
وقال الفاكهاني في رسالته في المولد: " الثاني " - أي من نوعي عمل المولد - أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه، وقلبه يؤلمه ويوجعه؛ لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء: أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف. لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الفناء مع البطون المليء بآلات الباطل من الدفوف والشبابات، واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات، إما مختلطات بهم أو مشرفات، ويرقصن بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاوف، وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد، غافلات عن قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (2) ، وهذا لا
__________
(1) انظر ج 25 من فتاويه ص 298.
(2) سورة الفجر الآية 14(75/54)
يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذو المروءة من الفتيان، وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات لا من الأمور المنكرات، فإنا لله وإنا إليه راجعون " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ". ولله در شيخنا القشيري حيث يقول فيما أجازناه:
قد عرف المنكر واستنكر الـ ... معروف في أيامنا الصعبة
وصار أهل العلم في وحدة ... وصار أهل الجهل في رتبه
حادوا عن الحق فما للذي ... ساروا به فيما مضى نسبه
فقلت للأبرار أهل التقى ... والدين لما اشتدت الكربه
لا تنكروا أحوالكم قد أتت ... نوبتكم في زمن الغربة
قال الفاكهاني: ولقد أحسن أبو عمرو بن العلا جث يقول:
لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب.
هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهو ربيع الأول هو بعينه الذي توفي فيه، فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه: وهذا ما علينا أن نقول. ومن الله تعالى نرجو حسن القبول.
وقال الشيخ أبو الحسن ابن عبد الله بن الحسن النباهي المألقي الأندلسي في كتابه " المرقبة العليا، فيمن يستحق القضاء والفتيا " في ترجمة القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد السلام المنستيري: إن الأمير(75/55)
أبا يحيى استحضره مع الجملة من صدور الفقهاء للمبيت بدار الخلافة والمثول بين يديه " ليلة الميلاد " الشريف النبوي، إذ كان قد أراد إقامة رسمه على العادة المغربية من الاحتفال في الأطعمة، وتزلن المحل بحضور الأشراف، وتخيير القوالين للأشعار المقرونة بالأصوات المطربة، فحين كمل المقصود من المطلوب، وقعد السلطان على أريكة ملكه ينظر في ترتيبه، والناس على منازلهم بين قاعد وقائم، هز المسمع طاره، وأخذ يهنؤهم بألحانه، وتبعه صاحب يراعه كعادته من مساعدته، تزحزح القاضي أبو عبد الله عن مكانه، وأشار بالسلام على الأمير، وخرج من المجلس، وتبعه الفقهاء بجملتهم إلى مسجد القصر فناموا به، فظن السلطان أنهم خرجوا لقضاء حاجتهم، فأمر وزراءه بتفقدهم، والقيام بخدمتهم إلى عودتهم، وأعلم الوزير الموجه لما ذكر القاضي بالغرض المأمور به فقال له: أصلحك الله، هذه الليلة المباركة التي وجب شكر الله عليها، وجمعنا السلطان - أبقاه الله - من أجلها، لو شهدها نبينا المولود فيها صلوات الله وسلامه عليه لم يأذن لنا في الاجتماع على ما نحن فيه من مسامحة بعضنا لبعض في اللهو ورفع قناع الحياء، بمحضر القاضي والفقهاء، وقد وقع الاتفاق من العلماء على أن المجاهرة بالذنب محظورة، إلا أن تمس إليها حاجة كالإقرار. مما يوجب الحد أو الكفارة، فليسلم لنا الأمير - أصلحه الله - في القعود بمسجده هذا إلى الصباح، وإن كنا في مطالب أخر من(75/56)
تبعات رياء ودسائس أنفس وضروب غرور، لكنا كما شاء الله في مقام الاقتداء، لطف الله بنا أجمعين بفضله. فعاد عند ذلك الوزير المرسل للخدمة الموصوفة إلى الأمير أبي يحيى، وأعلمه بالقصة، فأقام يسيرا وقام من مجلسه، وأرسل إلى القاضي من ناب عنه في شكره وشكر أصحابه، ولم يعد إلى مثل ذلك العمل بعد، وصار في كل ليلة يأمر في صبيحة الليلة المباركة بتفريق طعام على الضعفاء، وإرفاق الفقراء شكرا لله. انتهى كلام النباهي.(75/57)
وقد ذكر ابن الحاج في " المدخل " مما احتوى عليه الاحتفال بالمولد في زمانه - فكيف بزماننا هذا - ما يلي:
1 - استعمال الأغاني وآلات الطرب من الطار الصرصر والشبابة وغير ذلك. قال ابن الحاج: مضوا في ذلك على العوائد الذميمة في كونهم يشتغلون في أكثر الأزمنة التي فضلها الله وعظمها ببدع ومحرمات، وذكر ابن الحاج قول القائل:
يا عصبة ما ضر أمة أحمد ... وسعى إلى إفسادها إلا هي
طار ومزمار ونغمة شادن ... أرأيت قط عبادة بملاهي
2 - قلة احترام كتاب الله عز وجل، فإنهم يجمعون في هذه الاحتفالات بينه وبين الأغاني، ويبتدئون به وقصدهم الأغاني. قال ابن الحاج: ولذلك نرى بعض السامعين إذا طول القارئ القراءة يتقلقلون منه لكونه طول عليهم ولم يسكت حتى يشتغلوا بما يحبونه(75/57)
من اللهو. قال: وهذا غير مقتضى ما وصف الله به أهل الخشية من أهل الإيمان، وهو أنهم يحبون سماع كلام مولاهم؛ لقوله تعالى في مدحهم: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (1) .
فوصف الله من سمع كلامه بما ذكر، وبعض هؤلاء يستعملون الضد من ذلك إذا سمعوا كلام ربهم عز وجل قاموا بعده إلى الرقص والفرح والسرور والطرب بما لا ينبغي، فإنا لله وإنا إليه راجعون على عدم الاستحياء من عمل الذنوب، يعملون أعمال الشياطين، ويطلبون الأجر من رب العالمين، ويزعمون أنهم في تعبد وخير. قال: ويا ليت ذلك لو كان يفعله سفلة الناس، ولكن قد عمت البلوى فتجد بعض من ينتسب إلى شيء من العلم أو العمل يفعله، وكذلك بعض من ينتسب إلى المشيخة - أعني في تربية المريدين - كل هؤلاء داخلون فيما ذكر، ثم العجب كيف خفيت عليهم هذه المكيدة الشيطانية والدسيسة من اللعين.
3 - الافتتان بالمردان؛ فإن الذي يغني في الاحتفالات ربما يكون شابا نظيف الصورة، حسن الكسوة والهيئة، أو أحدا من الجماعة الذين يتصنعون في رقصهم، بل يخطبونهم للحضور، فمن لم يحضر منهم ربما عادوه ووجدوا في أنفسهم عليه، وحضوره فتنة،
__________
(1) سورة المائدة الآية 83(75/58)
سيما وهم يأتون إلى ذلك شبه العروس، لكن العروس أقل فتنة لأنها ساكنة حبيبة، وهؤلاء عليهم العنبر والطيب يتخذون ذلك بين أثوابهم، ويتكسرون مع ذلك في مشيتهم إذ ذاك وكلامهم ورقصهم، ويتعانقون فتأخذهم إذ ذاك أحوال النفوس الرديئة من العشق والاشتياق إلى التمتع بما يرونه من الشبان، ويتمكن منهم الشيطان، وتقوى عليهم النفس الأمارة بالسوء، وينسد عليهم باب الخير سدا.
قال ابن الحاج: وقد قال بعض السلف: لأن أؤتمن على سبعين عذراء أحب إلى من أن أؤتمن على شاب. وقوله هذا ظاهر بين؛ لأن العذراء تمتنع النفوس الزكية ابتداء من النظر إليها، بخلاف الشاب، لما ورد أن النظرة الأولى سهم، والشاب لا ينتقب ولا يختفي بخلاف العذراء، والشيطان من دأبه أنه إذا كانت المعصية كبرى أجلب عليها بخيله ورجله ويعمل الحيل الكثيرة.
قال ابن الحاج: وبعض النسوة يعاين ذلك على ما قد علم من نظرهن من السطوح والطاقات وغير ذلك، فيرينه ويسمعنه، وهن أرق قلوبا، وأقل عقولا، فتقع الفتنة في الفريقين. هذا بعض ما ذكره ابن الحاج من المحرمات التي تحصل في احتفال الرجال بالمولد.
ثم ذكر من المفاسد المتعلقة بالنساء ما يلي:
1 - افتتان الرجال بالنساء؛ لأن بعض الرجال يتطلع عليهن من بعض الطاقات والسطوح، وتزداد الفتنة برفع أصواتهن وتصفيقهن(75/59)
بالأكف وغير ذلك مما يكون سببا إلى وقوع المفسدة العظمى.
2 - افتتانهن في الاعتقاد، ذلك لأنهن لا يحضرن للمولد إلا ومعهن شيخة تتكلم في كتاب الله وفي قصص الأنبياء بما لا يليق، فربما تقع في الكفر الصريح وهي لا تشعر؛ لأنها لا تعرف الصحيح من السقيم، والحق من الكذب، فتدخل النسوة في الغالب وهن مؤمنات ويخرجن وهن مفتتنات في الاعتقاد أو فروع الدين.
3 - خروج النساء إلى المقابر وارتكاب أنواع المحرمات هناك من الاختلاط وغيره. ويذكر ابن الحاج أن هذه المفسدة من آثار بناء البيوت على المقابر.
قال: إذ لو امتثلنا أمر الشرع في هدمها لانسدت هذه المثالم كلها، وكفى الناس أمرها. قال: فبسبب ما هناك من البنيان والمساكن وجد من لا خير فيه السبيل إلى حصول أغراضه الخسيسة ومخالفة الشرع.
قال: ألا ترى ما قد قيل: من العصمة أن لا تجد فإذا هم الإنسان بالمعصية وأرادها وعمل عليها ولم يجد من يفعلها أو وجده ولكن لا يجد مكانا للاجتماع فيه فهو نوع من العصمة، فكان البنيان في القبور فيه مفاسد منها هتك الحريم بخروجهن إلى تلك المواضع، فيجدن أين يقمن أغراضهن. هذا " وجه ".
" الثاني ": تيسير الأماكن للاجتماع للأغراض الخسيسة، فتيسير(75/60)
الأماكن هناك سبب وتسهيل لوقوع المعاصي هناك.
4 - فتح باب الخروج لهن لغير ضرورة شرعية، فإنهم - أي أهل زمانه - ضموا لأيام المولد النبوي الثلاثة يوم الاثنين لزيارة الحسين، وجعلوا يوم الأربعاء لزيارة نفيسة. فالتزمن الزيارة في تلك الأيام لما يقصدن من أغراض الله أعلم بها.
قال ابن الحاج: ولو حكى هذا عن الرجال لكان فيه شناعة وقبح فكيف به في النساء، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا ما ذكره ابن الحاج في " المدخل " من مفاسد الاحتفالات بالمولد في زمانه بالنسبة لمن يقصدن المولد. ثم قسم الذين يعملون المولد في ذلك الزمن لا لقصد المولد إلى خمسة أقسام:
أحدها: من له فضة عند الناس متفرقة قد أعطاها لهم في بعض الأفراح والمواسم فعمل المولد ليستردها. قال ابن الحاج: فهذا قد اتصف بصفة النفاق وهو أنه يظهر خلاف ما يبطن، إذ ظاهر حاله أنه عمل المولد يبتغي به الدار الآخرة وباطنه أنه يجمع به فضته.
الثاني: من يتظاهر من ذوي الأموال بأنه من الفقراء المساكين فيعمل المولد لتزيد دنياه بمساعدة الناس له، فيزداد هذا فسادا على المفاسد المتقدم ذكرها، ويطلب من ذلك ثناء الناس عليه بما ليس فيه.
الثالث: من يخاف الناس من لسانه وشره وهو من ذوي(75/61)
الأموال فيعمل المولد ليأخذ من الناس الذين يعطونه تقية على أنفسهم وأعراضهم. قال ابن الحاج: فيزداد من الحطام بسبب ما فيه من الخصال المذمومة شرعا، وهذا أمر خطر؛ لأنه زاد على الأول أنه ممن يخاف من شره، فهو معدود بفعله من الظلمة.
الرابع: من يعمل المولد وهو ضعيف الحال ليتسع حاله.
الخامس: من له من الفقراء لسان يخاف منه ويتقى لأجله فيعمل المولد حتى يحصل له من الدنيا ممن يخشاه ويتقيه، حتى إنه لو تعذر عن حضور المولد الذي يفعله أحد من معارفه لحل به من الضرر ما يتشوش به، وقد يؤول ذلك إلى العداوة أو الوقوع في حقه في محافل بعض ولاة الأمور قاصدا بذلك حط رتبته بالوقيعة فيه أو نقص ماله، إلى غير ذلك مما يقصده من لا يتوقف على مراعاة الشرع الشريف.
قال ابن الحاج بعد بسط الكلام على هذه المفاسد: هذا الذي ذكر بعض المفاسد المشهورة المعروفة، وما في ذلك من الدسائس ودخول وساوس النفوس وشياطين الإنس والجن مما يتعذر حصره، فالسعيد السعيد من أعطى قياده للاتباع وترك الابتداع، وفقنا الله لذلك بمنه.
وذكر ابن الحاج أن سكوت من سكت من العلماء على إنكار(75/62)
ما ذكر ليس بدليل؛ لأن الناس كانوا يقتدون أولا بالعلماء، فصار الأمر بعد ذلك بالعكس وهو أن من لا علم عنده يرتكب ما لا ينبغي فيأتي العالم فيقتدي به في ذلك. قال: فعمت الفتنة، واستحكمت هذه البلية، فلم تجد في الغالب من يتكلم في ذلك ولا من يعين على زواله أو يشير إلى أن ذلك مكروه أو محرم.
وقد ذكر ابن حجر الهيتمي في " الفتاوى الحديثة ": أن الموالد التي تفعل عندهم في زمنه أكثرها مشتمل على شرور لو لم يكن منها إلا رؤية النساء الرجال الأجانب لكفى ذلك في المنع، وذكر أن ما يوجد في تلك الموالد من الخير لا يبررها ما دامت كذلك؛ للقاعدة المشهورة المقررة: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
قال: فمن علم وقوع شيء من الشر فيما يفعله من ذلك فهو عاص آثم، وبفرض أنه عمل في ذلك خيرا فربما خيره لا يساوي شره، ألا ترى أن الشارع صلى الله عليه وسلم اكتفى من الخير بما تيسر، وفطم عن جميع أنواع الشر، حيث قال: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه (1) » فتأمله تعلم ما قررته من أن الشر وإن قل لا يرخص في شيء منه، والخير يكفى منه بما تيسر.
هذا ما ذكره أهل العلم في بحث الاحتفال بالمولد النبوي. ولم
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الفضائل (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد (2/517) .(75/63)
يخل عصر من العصور المتقدمة منذ أحدث من عالم يبين الحق فيه، ولم يزل المتبصرون من أهل العلم في وقتنا هذا ينكرون ما يقع في تلك الأيام من البدع والمحرمات.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خذلها، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(75/64)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا - رحمه الله - (1)
س: هل تشرع زيارة القبور للنساء؟ (2)
ج: ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه «لعن زائرات القبور (3) » من حديث ابن عباس، ومن حديث أبي هريرة، ومن حديث حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهم جميعا. وأخذ العلماء من ذلك أن الزيارة للنساء محرمة؛ لأن اللعن لا يكون إلا على محرم، بل يدل على أنه من الكبائر؛ لأن العلماء ذكروا أن المعصية التي يكون فيها اللعن أو فيها وعيد تعتبر من الكبائر. فالصواب أن الزيارة من النساء للقبور محرمة لا مكروهة فقط. والسبب في ذلك - والله أعلم - أنهن في الغالب قليلات الصبر، فقد يحصل منهن من النياحة ونحوها ما ينافي الصبر الواجب. وهن فتنة، فزيارتهن للقبور واتباعهن للجنائز قد يفتتن بهن الرجال وقد يفتتن بالرجال.
والشريعة الإسلامية
__________
(1) هذه الفتاوى سبق نشرها في ج 13 من مجموع الفتاوى لسماحته.
(2) سبق نشره في (الجزء الخامس) ص 332 من مجموع الفتاوى لسماحته.
(3) سنن الترمذي الصلاة (320) ، سنن النسائي الجنائز (2043) ، سنن أبي داود الجنائز (3236) .(75/65)
الكاملة جاءت بسد الذرائع المفضية إلى الفساد والفتن، وذلك من رحمة الله بعباده. وقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (1) » ، متفق على صحته. فوجب بذلك سد الذرائع المفضية إلى الفتنة المذكورة.
ومن ذلك ما جاءت به الشريعة المطهرة من تحريم تبرج النساء، وخضوعهن بالقول للرجال، وخلوة المرأة بالرجل غير المحرم، وسفرها بلا محرم. وكل ذلك من باب سد الذرائع المفضية إلى الفتنة بهن. وقول بعض الفقهاء: إنه استثني من ذلك قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما قول بلا دليل. والصواب أن المنع يعم الجميع، يعم جميع القبور، حتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى قبر صاحبيه رضي الله عنهما. وهذا هو المعتمد من حيث الدليل.
وأما الرجال فيستحب لهم زيارة القبور، وزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام وقبر صاحبيه، لكن بدون شد الرحل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (2) » ، رواه مسلم في صحيحه. وأما شد الرحال لزيارة القبور فلا يجوز، وإنما يشرع
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند الأنصار) برقم (21322) ، والبخاري في (النكاح) برقم 5096، ومسلم في (الذكر والدعاء والتوبة) برقم (2740، 2741) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه في (الجنائز) باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه في زيارة قبر أمه برقم (976) .(75/66)
لزيارة المساجد الثلاثة خاصة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (1) » متفق على صحته.
وإذا زار المسلم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم دخل في ذلك على سبيل التبعية، زيارة قبره صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه وقبور الشهداء وأهل البقيع وزيارة مسجد قباء من دون شد الرحل. فلا يسافر لأجل الزيارة، ولكن إذا كان في المدينة شرع له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، وزيارة البقيع والشهداء ومسجد قباء. أما شد الرحال من بعيد لأجل الزيارة فقط فهذا لا يجوز على الصحيح من قولي العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (2) » أما إذا شد الرحل إلى المسجد النبوي فإن الزيارة للقبر الشريف والقبور الأخرى تكون تبعا لذلك. فإذا وصل المسجد صلى فيه ما تيسر، ثم زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وزار قبر صاحبيه، وصلى وسلم عليه (عليه الصلاة والسلام) ودعا له، ثم سلم على الصديق رضي الله عنه ودعا له، ثم على الفاروق ودعا له، هكذا السنة. وهكذا القبور الأخرى، لو زار مثلا دمشق،
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار برقم (23338) واللفظ له والبخاري في الجمعة برقم (1189) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبي داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .(75/67)
أو القاهرة، أو الرياض، أو أي بلد، يستحب له زيارة القبور؛ لما فيها من العظة والذكرى والإحسان إلى الموتى بالدعاء لهم والترحم عليهم إذا كانوا مسلمين. فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » ، وكان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين (2) » .
هذه هي السنة من دون شد الرحل، ولكن لا يزورهم لدعائهم من دون الله؛ لأن هذا شرك بالله عز وجل وعبادة لغيره، وقد حرم الله ذلك على عباده في قوله سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3) ، وقال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (4) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (5) ، فبين سبحانه أن دعاء العباد للموتى ونحوهم شرك به سبحانه وعبادة لغيره. وهكذا قوله سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (6) سورة المؤمنون، الآية 117
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .
(2) أخرجه مسلم في (الجنائز) باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم (975) .
(3) سورة الجن الآية 18
(4) سورة فاطر الآية 13
(5) سورة فاطر الآية 14
(6) سورة المؤمنون الآية 117(75/68)
فسمى الدعاء لغير الله كفرا؛ فوجب على المسلم أن يحذر هذا، ووجب على العلماء أن يبينوا للناس هذه الأمور، حتى يحذروا الشرك بالله. فكثير من العامة إذا مر بقبور من يعظمهم استغاث بهم وقال: المدد المدد، يا فلان أغثني، انصرني، اشف مريض، وهذا هو الشرك الأكبر والعياذ بالله، وهذه الأمور تطلب من الله عز وجل، لا من الموتى ولا من غيرهم من المخلوقين. أما الحي فيطلب منه ما يقدر عليه، إذا كان حاضرا يسمع كلامك، أو من طريق الكتابة، أو من طريق الهاتف وما أشبه ذلك من الأمور الحسية، تطلب منه ما يقدر عليه.
تبرق له أو تكتب له أو تكلمه في الهاتف، تقول ساعدني على عمارة بيتي، أو على إصلاح مزرعتي؛ لأن بينك وبينه شيئا من المعرفة أو التعاون. وهذا لا بأس به، كما قال الله عز وجل في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (1) أما أن تطلب من الميت، أو الغائب، أو الجماد كالأصنام، شفاء مريض، أو النصر على الأعداء، أو نحو ذلك، فهذا من الشرك الأكبر. وهكذا طلبك من الحي الحاضر ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى يعتبر شركا به سبحانه وتعالى؛ لأن دعاء الغائب بدون الآلات الحسية معناه اعتقاد أنه يعلم الغيب، أو
__________
(1) سورة القصص الآية 15(75/69)
أنه يسمع دعاءك وإن بعد، وهذا اعتقاد باطل يوجب كفر من اعتقده، يقول الله جل وعلا: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (1) ، أو تعتقد أن له سرا يتصرف به في الكون، فيعطي من يشاء ويمنع من يشاء، كما يعتقده بعض الجهلة في بعض من يسمونهم بالأولياء، وهذا شرك في الربوبية أعظم من شرك عباد الأوثان.
فالزيارة الشرعية للموتى زيارة إحسان وترحم عليهم وذكر للآخرة والاستعداد لها، فتذكر أنك ميت مثلما ماتوا، فتستعد للآخرة وتدعو لإخوانك المسلمين الميتين وتترحم عليهم وتستغفر لهم. وهذه هي الحكمة في شرعية الزيارة للقبور. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة النمل الآية 65(75/70)
الجواب عن حديث تعليم
النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة دعاء زيارة القبور
س: كيف يحمل حديث تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة دعاء زيارة القبور؟ (1)
ج: كانت الزيارة أولا منهيا عنها للجميع، ثم رخص فيها
__________
(1) هذا السؤال وخمسة بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(75/70)
للجميع ثم خصت النساء بالمنع فعلى هذا يكون تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة آداب الزيارة كان ذلك في وقت شرعية الزيارة للجميع، والله ولي التوفيق.(75/71)
الجواب عن حديث «اتقى الله واصبري»
س: هل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقي الله واصبري (1) » للمرأة التي رآها تبكي عند القبر دليل على جواز زيارة النساء للقبور؟
ج: لعل هذا كان في وقت الإذن العام منه صلى الله عليه وسلم للرجال والنساء في الزيارة؛ لأن أحاديث النهي عن الزيارة للنساء محكمة ناسخة لما قبلها.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (12049) ، والبخاري في (الجنائز) برقم (1252) ، ومسلم في (الجنائز) برقم (926) .(75/71)
المرأة لا تسلم على الموتى ولو مرت بسور المقبرة أو فوقها
س: إذا مرت المرأة بسور المقبرة فهل تسلم على الأموات؟(75/71)
ج: الذي يظهر لي أنه لا ينبغي لها ذلك؛ لأنه وسيلة إلى الزيارة، وقد يعد زيارة فالواجب ترك ذلك، وتدعو لهم من غير زيارة.(75/72)
س: إذا وجد فوق المقبرة جسر وتوقفت السيارة وفيها امرأة هل يعد هذا من جنس الزيارة، وهل تسلم المرأة على الأموات؟
ج: هذا ليس من الزيارة وحتى لو مرت بالأرض ونظرت فهذا ليس بزيارة وترك السلام على الموتى بالنسبة للمرأة أولى ولو كانت مارة بالمقبرة.(75/72)
حكم زيارة النساء، لقبر النبي صلى الله عليه وسلم
س: هل يجوز للنساء زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟
ج: لا يجوز لهن ذلك؛ لعموم الأحاديث الواردة في نهي النساء عن زيارة القبور ولعنهن على ذلك، والخلاف في زيارة النساء لقبر النبي صلى الله عليه وسلم مشهور ولكن تركهن لذلك أحوط وأوفق للسنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستثن قبره ولا قبر غيره، بل نهاهن نهيا عاما، ولعن من فعل ذلك منهن، والواجب(75/72)
الأخذ بالتعميم ما لم يوجد نص يخص قبره بذلك وليس هناك ما يخص قبره والله ولي التوفيق.(75/73)
الأفضل لمن مر بجوار سور المقبرة أنه يسلم
س: إذا مر المسلم بجوار سور المقبرة أو شاهد القبور فهل يسلم عليهم؟
ج: الأفضل أن يسلم حتى ولو كان مارا؛ ولكن قصد الزيارة أفضل وأكمل.(75/73)
س: أنا أسكن في حي به مقبرة وأسلك كل يوم طريقا بجانبها بل أسلك هذا الطريق في اليوم أكثر من مرة. ماذا يجب علي في هذه الحالة، هل أسلم على الموتى دائما أم ماذا أفعل؟ أرشدوني بارك الله فيكم (1) .
ج: زيارة القبور الزيارة الشرعية سنة؛ لما فيها من التذكير بالآخرة وبالموت، ولما فيها من الدعاء للموتى - إذا كانوا مسلمين - بالمغفرة والرحمة والعافية من النار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (2) » ، وكان صلى الله عليه
__________
(1) نشرت في (فتاوى إسلامية) جمع وترتيب: محمد المسند (2\45) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه في (الجنائز) باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه في زيارة قبر أمه برقم (976) .(75/73)
وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية (1) » ، والأحاديث في الزيارة كثيرة، ويشرع لك كلما مررت على القبور أن تسلم على أصحابها وتدعو لهم بالمغفرة والعافية، وليس ذلك واجبا، وإنما هو مستحب وفيه أجر عظيم، وإن مررت ولم تسلم فلا حرج وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم في (الجنائز) باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم (975) .(75/74)
يكفي السلام على الموتى في أول المقبرة مرة واحدة
س: هل يكفي السلام على الموتى في أول المقبرة مرة واحدة؟ (1)
ج: يكفي ذلك وتحصل به الزيارة، وإن كانت القبور متباعدة فزارها من جميع جهاتها فلا بأس.
__________
(1) هذا السؤال وعشرة بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(75/74)
س: عند زيارة القبور هل يشرع للزائر أن يصل إلى القبر(75/74)
الذي يقصد زيارته؟
ج: يكفي عند أول القبور، وإن أحب أن يصل إلى قبر من يقصد زيارته ويسلم عليه فلا بأس.(75/75)
ما جاء في أن الميت يعرف من زاره
س: هل يعرف الميت من يزوره؟
ج: جاء في بعض الأحاديث «إذا كان يعرفه في الدنيا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام» ولكن في إسناده نظر، وقد صححه ابن عبد البر رحمه الله.(75/75)
علم الموتى بأعمال الأحياء
س: هل الموتى يعلمون بأعمال أقاربهم من الأحياء؟
ج: لا أعلم في الشرع ما يدل على ذلك.(75/75)
حكم تخصيص يوم الجمعة لزيارة المقابر
س: ما حكم تخصيص يوم الجمعة لزيارة المقابر؟
ج: لا أصل لذلك، والمشروع أن تزار القبور في أي وقت(75/75)
تيسر للزائر من ليل أو نهار، أما التخصيص بيوم معين أو ليلة معينة فبدعة لا أصل له؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق على صحته، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » أخرجه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها.
__________
(1) رواه البخاري في (الصلح) باب إذا اصطلحوا على صلح جوز برقم (2697) ، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة برقم (1718) .
(2) رواه مسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة برقم (1718) .(75/76)
حكم تخصيص العيدين لزيارة القبور
س: هل تخصيص العيدين لزيارة القبور له أصل؟
ج: لا أعلم لذلك أصلا وإنما السنة أن يزور القبور متى تيسر له ذلك.(75/76)
حكم زيارة قبور الكفار
س: هل تجوز زيارة قبور الكفار؟
ج: إذا كان ذلك للعبرة فلا بأس به؛ لأن «النبي صلى الله عليه(75/76)
وسلم قد زار قبر أمه واستأذن ربه أن يستغفر لها فلم يؤذن له، وإنما أذن له بالزيارة (1) » .
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1572) ، مسند أحمد (2/441) .(75/77)
س: ما صحة حديث: «إذا مررتم بقبر كافر فبشروه بالنار» "؟
ج: لا أعرف له طرقا صحيحة.(75/77)
حكم رفع اليدين أثناء الدعاء للميت عند قبره
س: هل يكون الدعاء عند قبر الميت برفع اليدين؟
ج: إن رفع يديه فلا بأس؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها: «أنه صلى الله عليه وسلم زار القبور ورفع يديه ودعا لأهلها (1) » رواه مسلم.
__________
(1) رواه مسلم في (الجنائز) برقم (974) .(75/77)
س: هل يجوز رفع اليدين أثناء الدعاء للميت؟
ج: جاء في بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم رفع(75/77)
يديه لما زار القبور ودعا لأهلها وقد ثبت ذلك من حديث عائشة رضي الله عنها «أنه صلى الله عليه وسلم زار القبور ودعا لهم ورفع يديه (1) » . أخرجه مسلم في صحيحه.
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (974) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1546) ، مسند أحمد (6/111) .(75/78)
حكم استقبال القبر حال الدعاء للميت
س: هل ينهى عن استقبال القبر حال الدعاء للميت؟
ج: لا ينهى عنه؛ بل يدعى للميت سواء استقبل القبلة أو استقبل القبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على القبر بعد الدفن وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل (1) » ولم يقل استقبلوا القبلة فكله جائز سواء استقبل القبلة أو استقبل القبر، والصحابة رضي الله عنهم دعوا للميت وهم مجتمعون حول القبر.
__________
(1) رواه أبو داود في (الجنائز) برقم (3221) .(75/78)
لا بأس بالقيام أو الجلوس عند القبر من أجل الدعاء للميت
س: أيحل لنا القيام أو الجلوس عند القبر من أجل الدعاء(75/78)
للميت؟ (1)
ج: الزيارة الشرعية للقبور أن يقصد إليها للعظة والاعتبار وتذكر الموت، لا للتبرك بمن قبر فيها من الصالحين. فمن جاءها سلم على من فيها فقال: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية (2) » وإن شاء دعا للأموات بغير ذلك من الأدعية المأثورة. ولا يدعو الأموات ولا يستغيث بهم في كشف ضر أو جلب نفع، فإن الدعاء عبادة؛ فيجب التوجه به إلى الله وحده. ولا بأس أن يقف عند القبر أو يجلس من أجل الدعاء للميت، لا للتبرك أو الاستراحة، فإن القبور ليست بموضع استراحة أو سكنى حتى يجلس فيها. ويشرع الوقوف على القبر بعد الدفن للدعاء للميت بالثبات والمغفرة؛ لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا فرغ من الدفن وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل (3) » (4)
__________
(1) نشرت في (مجلة الدعوة) العدد (740) .
(2) أخرجه مسلم في (الجنائز) باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم (975) .
(3) سنن أبي داود الجنائز (3221) .
(4) سبق تخريجه.(75/79)
حكم الدعاء الجماعي عند القبور
س: الدعاء الجماعي عند القبور ما حكمه؟ (1)
ج: ليس فيه مانع إذا دعا واحد وأمن السامعون فلا بأس إذا لم يكن ذلك مقصودا، وإنما جمعوا بعضهم يدعو فأمن الباقون ولا يسمى مثل هذا جماعيا لكونه لم يقصد.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(75/80)
حكم قراءة الفاتحة للميت عند قبره
س: الأخ م. ع. ص. من الليث في المملكة العربية السعودية يقول في سؤاله: هل تجوز قراءة الفاتحة أو شيء من القرآن الكريم للميت عند زيارة قبره؟ وهل ينفعه ذلك؟ أفتونا جزاكم الله خيرا (1) .
ج: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يزور القبور ويدعو للأموات بأدعية علمها أصحابه ونقلوها عنه، من ذلك: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء
__________
(1) نشرت في (المجلة العربية) في شعبان 1413هـ.(75/80)
الله بكم لاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية (1) » ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورة من القرآن الكريم أو آيات منه للأموات مع كثرة زيارته لقبورهم فلو كان ذلك مشروعا لفعله وبينه لأصحابه رغبة في الثواب ورحمة بالأمة وأداء لواجب البلاغ، فإنه كما وصفه تعالى بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) . فلما لم يفعل ذلك مع وجود أسبابه دل على أنه غير مشروع وقد عرف ذلك أصحابه رضي الله عنهم فاقتفوا أثره واكتفوا بالعبرة والدعاء للأموات عند زيارتهم ولم يثبت عنهم أنهم قرأوا قرآنا للأموات فكانت القراءة لهم بدعة محدثة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » ، والله الموفق.
__________
(1) أخرجه مسلم في (الجنائز) باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم (975) .
(2) سورة التوبة الآية 128
(3) رواه البخاري في (الصلح) باب إذا اصطلحوا على صلح جوز برقم (2697) ، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة برقم (1718) .(75/81)
صفحة فارغة PgPg 82
صفحة فارغة(75/81)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
س: ما هي دلائل رضى الله سبحانه وتعالى عن العبد وجزاكم الله خيرا؟
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
قد أخبرنا الله في كتابه أنه يرضى الأقوال والأعمال الطيبة {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} (1) ، فشكرنا للنعمة وإخلاصنا الدين لله وبعدنا عن
__________
(1) سورة الزمر الآية 7(75/83)
الشرك قليله وكثيره هذا من أسباب رضي الله عنا، لأنه يقول: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} (1) ، والله يرضى منا شكره وعبادته وحده والقيام بها كما أوجب علينا ويقول جل وعلا: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) ، فأخبر عن رضاه عمن قدم محبة الله وطاعته على طاعة ومحبة سواه من الآباء والأبناء والإخوة والعشيرة والأموال، وقال جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (3) ، فأخبر جل وعلا أن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم سبب لمحبة الله جل وعلا، ويقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} (4) فمن أسباب محبتهم لله كونهم أذلة مع إخوانهم المؤمنين أعزة على الكافرين
__________
(1) سورة الزمر الآية 7
(2) سورة المجادلة الآية 22
(3) سورة آل عمران الآية 31
(4) سورة المائدة الآية 54(75/84)
ومجاهدين في سبيل الله لا تأخذهم في الله لومة لائم فصاروا ممن أحبهم الله وصاروا ممن أحب الله. فرضى الله عنا ومحبته لنا سببها طاعتنا له بقيامنا بما أوجب علينا وبعدنا عما نهانا عنه بهذا ننال محبة الله ورضاه عنا، وبهذا ننال ولاية الله عز وجل لنا كما قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (2) {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (3) ، وقد رد الله على من زعم أن محبته تتمثل في مجرد الإمداد بالمال والبنين ونيل أعراض الدنيا بقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} (4) {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} (5) ، وقد رد الله على اليهود والنصارى زعمهم أنهم أولياء الله وأحباؤه مع تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} (6) ، فلما ادعوا محبة الله مع كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وادعوا أنهم أبناء الله والله منزه أن يكون له ولد صاروا بذلك أعداء لله وليسوا أولياء الله إنما أولياؤه المتقون قال الله تعالى رادا على قريش لما زعموا أنهم أهل ولاية الحرم مع كفرهم
__________
(1) سورة يونس الآية 62
(2) سورة يونس الآية 63
(3) سورة يونس الآية 64
(4) سورة المؤمنون الآية 55
(5) سورة المؤمنون الآية 56
(6) سورة المائدة الآية 18(75/85)
{وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (1) ، فالمقصود أن توفيق الله للعبد للقيام بما أوجب عليه واستقامة العبد على الطريق المستقيم من علامات رضي الله عن العبد ومحبته له ولكن على المسلم أن يواصل الخير وأن لا يثق بنفسه ثقة تدعوه إلى الغرور والانخداع بل يعمل العمل الصالح، ويجتهد ويسأل الله الثبات على الحق وأن لا يزيغ قلبه بعد أن عرفه الهدى ولهذا كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك (2) » ، سألته عائشة رضي الله عنها فقالت: «إنك تكثر أن تقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك وطاعتك، فقال: (وما يؤمنني وإنما قلوب العباد بين أصبعي الرحمن إنه إذا أراد أن يقلب قلب عبد قلبه (3) » .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 34
(2) سنن ابن ماجه الدعاء (3834) ، مسند أحمد (6/315) .
(3) مسند أحمد (6/251) .(75/86)
س: تسأل عن العباءة التي للنساء ويكون بها تطريز أو زينة موديلات معينة ولكن ذلكم التطريز باللون الأسود من لون العباءة؟
ج: أنصح أختي المسلمة بترك ارتداء هذه العباءة؛ لأنها ملفتة للنظر، ولأنها تسبب الإغراء بتلك المرأة والنظر إليها لا سيما أن بعض تلك العباءة يكتب عليها اسم تلك المرأة ففيها افتتان وشر وتركها هو(75/86)
المتعين، فإن المقصود من العباءة هو ستر المرأة عن أعين الرجال، فإذا كانت سببا لافتتان الرجال لزينتها أو ضيقها أو نحو ذلك فإنها تحرم.(75/87)
س: كيف يعامل من يتهاون بالصلاة أو من يصلي ويرتكب بعض المحرمات هل يكون الكلام معهم بالأشياء الضرورية فقط خاصة إذا كانوا من الأقارب علما بأنه نصحهم عدة مرات؟
ج: المسلم عليه أن يكون داعيا إلى الله ناصحا لعباده محبا للخير لهم وإذا رأى فيهم خطأ فلا يكن عونا للشيطان عليهم بل يكون سببا لهدايتهم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب، فقال: اضربوه، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان (1) » . فيا أخي كون أخيك يخطئ الخطأ ليس أحد معصوما منه لكن علينا أن نسعى في علاج الخطأ ونبذل الأسباب والوسائل التي نعلم بتوفيق من الله أنها سبب لتأثيرنا عليه ونواصل دعوته ونواصل إرشاده ولا ننقطع عنه ولا نبعد عنه فإنا إذا ابتعدنا عنه زاد البلاء بلاء وزاد الشر شرا وقرب منه دعاة الفساد والضلال فأغووه وصدوه عن طريق الله المستقيم.
وقرب أهل الخير منه واتصالهم به معين له على أن يتغلب
__________
(1) صحيح البخاري الفرائض (6777) ، سنن أبي داود الحدود (4477) ، مسند أحمد (2/300) .(75/87)
بإذن الله على تلك الصفات الذميمة.(75/88)
س: تسأل عن حكم القراءة من المصحف من غير وضوء؟ .
ج: القراءة في المصحف من غير وضوء أمر منهي عنه ففي حديث عمرو بن حزم في الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم له «أن لا يمس القرآن إلا طاهر (1) » فلا ينبغي لمسلم أن يقرأ القرآن إلا أن يكون على طهارة.
__________
(1) موطأ مالك النداء للصلاة (468) ، سنن الدارمي الطلاق (2266) .(75/88)
س: لقد كان سائدا بين مجموعة من الناس أن كفارة اليمين على التخيير فماذا يفعل من كفر عن يمينه بالصيام ثلاثة أيام مع قدرته على الإطعام وحيث إنه كفر بالصيام في سنوات عديدة وهو لا يذكر عدد الأيمان ما هو توجيهكم يحفظكم الله؟
من المعلوم أن كفارة اليمين على قسمين قسم فيه التخيير وقسم فيه الترتيب، أما التخيير فهو بين الإطعام والكسوة والعتق فإن عجز عن تلك الأحوال الثلاثة انتقل إلى الصيام قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} (1) ، فلا
__________
(1) سورة المائدة الآية 89(75/88)
ينتقل إلى الصيام إلا إذا عجز عن الإطعام والعتق والكسوة. فإذا انتقل إلى الصيام مع قدرته على الإطعام أو الكسوة أو العتق فإنا نقول يمينه لم تكفر فليعد تلك الكفارة، فيتحرى ما غلب على ظنه من عدد الأيمان التي حنث فيها فيكفر عنها بما سبق بيانه.(75/89)
س: بدأت في حفظ بعض سور القرآن ولله الحمد وأرجو أن أكمل حفظها فأرجو إرشادي للخطوات المتبعة لحفظ القرآن الكريم بالنسبة لي مبتدئة وظروفي لا تسمح لي بالالتحاق بإحدى دور تحفيظ القرآن الكريم علما بأني متعلمة، وجزاكم الله خيرا؟
ج: حفظ القرآن عبادة وطاعة لله وقربة يتقرب بها العباد إلى الله ومن حكمة الله أنه يسر حفظ هذا القرآن لهذه الأمة {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (1) ، هل من قارئ للقرآن فيعان عليه وإن الكتب السابقة لا يمكن حفظها أما هذا الكتاب العزيز فميسر حفظه، ومن صفات الأمة أنهم أمة أناجيلهم في صدورهم، أي أنهم يحفظون كتاب الله، ولكن يا أختي عليك أن تقرأي قدر استطاعتك وقدر ما يتهيأ لك فما حفظت منه فخير وما شق عليك فإن الله لا يكلفك ما لا تطيقين، وما حفظته فحاولي إعادة قراءته وتعاهد حفظه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: «تعاهدوا القرآن
__________
(1) سورة القمر الآية 17(75/89)
فإنه أشد تفلتا من الإبل من عقلها (1) » . واحرصي على ذكر الله، وكثرة الضراعة بين يديه أن ييسر لك حفظ كتابه، ولتقويم قراءتك، حاولي الاستماع إلى أشرطة للقراء المعروفين بجودة الأداء وتابعيهم حتى يكون حفظك للقرآن سليما.
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5033) ، مسند أحمد (4/411) .(75/90)
س: ما هو السن المناسب لتحفيظ الطفل للقرآن الكريم؟ ج: هذا يختلف فمن الأطفال من يمكن تلقينه وهو في الخامسة أو الرابعة ومنهم ما بعد ذلك هذه أمور ترجع إلى ما وهبه الله للأطفال من قدرة وإدراك، قوة وضعفا.(75/90)
س: عندما يسأل شخص عن مقدار حفظه للقرآن الكريم فهل يجوز الإجابة أم أن الإجابة في هذه الحالة تعد من الرياء؟ .
ج: إذا كان من باب التحدث بنعمة الله والإخبار بفضل الله فلا بأس، فإن الله تعالى يقول: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (1) ، أما إذا كان من باب المراءاة فلا يجوز.
__________
(1) سورة الضحى الآية 11(75/90)
س: هل يجوز رسم الحناء على الأيدي علما بأنني أرتدي القفازين عند خروجي؟(75/90)
ج: إذا كان هذا الرسم يسبب الافتتان فلا يجوز أما إن كانت يدك مغطاة ولا يمكن أن تكشف تلك الرسوم أمام الرجال فلا مانع منه لكني لا أنصح الأخت بتلك الرسوم لأنني أخشى أن تكون تلك الرسوم سببا لافتتان الناس بالنظر إلى كفيها بتلك الرسومات التي تكون لاجتذاب الأبصار إليها.(75/91)
س: امرأة تسأل هل أصلي الفجر بعد الأذان مباشرة أم أنتظر حتى تكون الإقامة؟
ج: المرأة لا يشرع في حقها حضور الجماعة، والأذان مؤذن بدخول الوقت ومبيح لها أداء صلاة الفجر في بيتها، بعد ما تؤدي السنة الراتبة.(75/91)
س: تقول هل غسل الجمعة واجب على المرأة التي تصلي في المنزل، وهل إذا اغتسل الرجل قبل الفجر ونام هل يجب عليه أن يغتسل عند قيامه لصلاة الجمعة؟
ج: غسل الجمعة في حق الرجال متأكد لأنه صلى الله عليه وسلم قال: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم (1) » لكن صرفه عن ظاهره حديث: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (858) ، صحيح مسلم الجمعة (846) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1089) ، مسند أحمد (3/60) ، سنن الدارمي الصلاة (1537) .(75/91)
فالغسل أفضل (1) » أما المرأة فلا غسل عليها يوم الجمعة لأنها ليست كالرجل في هذا الأمر فإن الرجل يجب عليه حضور الجمعة وفيها مجمع من الناس، وعليه فلا غسل عليها. والحكمة من مشروعية الغسل على الرجال أنهم أهل مهنة وعمل فربما يبقى فيهم آثار تلك المهنة والأعمال فأرشدوا إلى الزينة ومن الزينة الاغتسال في يوم الجمعة ومن اغتسل يوم الجمعة قبل الفجر ونام فمن الأولى أن يعيد ذلك الغسل؛ لأن النص جاء بالغسل في يوم الجمعة «من اغتسل يوم الجمعة» وما قبل الفجر يعتبر ليلة الجمعة، وليس يوم الجمعة، واليوم يطلق على ما بعد طلوع الفجر.
__________
(1) سنن الترمذي الجمعة (497) ، سنن النسائي الجمعة (1380) ، سنن أبي داود الطهارة (354) ، مسند أحمد (5/22) ، سنن الدارمي الصلاة (1540) .(75/92)
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
من الفتوى رقم 1843
السؤال الثاني: يقول صلى الله عليه وسلم: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد لها من الله إلا بعدا» فهل حالق لحيته تقبل صلاته أو لا؟
ج: هذا الحديث روي من طرق عدة بألفاظ مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت من طريق صحيح، وروي عن ابن مسعود، وابن عباس، والحسن وجماعة، والموقوف هو الصحيح. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر هذا الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفا: (والأصح الموقوفات على ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأعمش وغيرهم) وذكر بعض العلماء أن معناه فاسد لمنافاته النصوص الصحيحة الدالة على أن(75/93)
الصلوات تمحو الذنوب وتذهب السيئات. وعلى هذا يتبين أن حلق المصلى لحيته لا يمنع من صحة صلاته ولا من قبولها بل له من ثواب صلاته بقدر ما أتى به منها على وجهه الشرعي، وعليه إثم حلق لحيته، ويكون مؤمنا بما فيه من إيمان وعمل صالح، وفاسقا بما فيه من المعاصي. ويعلم من ذلك أن الصلاة إنما تنهى عن الفحشاء والمنكر إذا أقيمت كما شرع الله في الكتاب والسنة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(75/94)
الفتوى رقم 1668
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفتاء المقدم لسماحة الرئيس العام من مدير التربية الإسلامية بوزارة المعارف والمحال من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم(75/94)
623 \2 في 29\4\1397 هـ الذي جاء فيه: تلقت الوزارة الرسالة المرفقة من مجموعة من الشبان المسلمين في تونس يسألون فيها عن كيفية تحديد مواقيت الصلاة؟ ويطلب إجابتهم.
وأجابت اللجنة بما يلي:
أوقات الصلوات الخمس معروفة من دين الإسلام بالضرورة تناقلها خلف هذه الأمة عن سلفها ممن تلقوها عن صاحب الرسالة العظمى صلوات الله وسلامه عليه. فقد أجمع المسلمون على أن الصلوات الخمس مؤقتة بمواقيت معلومة محددة، وورد في بيانها أحاديث صحاح أبانت مجموعها أن وقت الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل الشيء مثله بعد الفيء الذي زالت عليه الشمس، ووقت العصر حين يصير ظل الشيء مثله بعد فيء الزوال إلى أن يصير مثليه، وهذا هو وقت الاختيار لها، ووقت الاضطرار من بدء اصفرار الشمس إلى أن يبقى ما يكفي لأداء ركعة قبل غروب الشمس، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر (1) » ووقت المغرب من غروب الشمس إلى أن يغيب الشفق الأحمر، ووقت العشاء من غيبوبة الشفق
__________
(1) الإمام أحمد 2\ 82 والبخاري رقم 579 (فتح) ومسلم برقم 608 والإمام مالك 1\6 والترمذي برقم 186 وأبو داود برقم 408 والنسائي 1\205 و 206 (ط الحلبي) .(75/95)
الأحمر إلى نصف الليل، وهذا وقت الاختيار لها، ووقت الاضطرار من نصف الليل إلى طلوع الفجر، ووقت الفجر من طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس. ومن الأحاديث الواردة في ذلك:
1 - ما جاء في الصحيحين «أن عمر بن عبد العزيز أخر العصر شيئا فقال له عروة بن الزبير: أما إن جبريل قد نزل فصلى إمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر: اعلم ما تقول يا عروة، فقال: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول سمعت أبا مسعود يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " نزل جبريل فأمني فصليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه يحسب بأصابعه خمس صلوات (1) » لفظ مسلم.
2 - حديث تفاصيل إمامة جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، ولفظ النسائي: عن جابر بن عبد الله «أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه مواقيت الصلاة فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس، وأتاه حين كان الظل مثل شخصه،
__________
(1) البخاري 1\132 (ط استنابول) ومسلم 1\425 برقم 610 والنسائي 1\245 دار إحياء التراث العربي(75/96)
فصنع كما صنع فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العشاء، ثم أتاه حين انشق الفجر فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الغداة، ثم أتاه اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه فصنع مثلما صنع بالأمس فصلى الظهر، ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثل شخصيه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس فصلى المغرب فنمنا ثم قمنا ثم نمنا ثم قمنا، فأتاه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العشاء، ثم أتاه حين امتد الفجر، وأصبح والنجوم بادية مشتبكة فصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة ثم قال: ما بين هاتين الصلاتين وقت (1) » .
3 - روى مسلم رحمه الله عن عبد الله بن عمرو رضي الله
__________
(1) النسائي 1\255.(75/97)
عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس (1) » .
4 - روى البخاري ومسلم رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر (2) » .
وهذه المواقيت المبينة عامة لجميع أقطار الأرض، ولكل بلد حكمها حسب زوال الشمس بها وغروبها بها وطلوع فجرها سواء تقارب ما بين أوقاتها المبينة أو تباعد بشكل دائم أو في بعض الأوقات.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (612) ، سنن النسائي المواقيت (522) ، سنن أبي داود الصلاة (396) ، مسند أحمد (2/223) .
(2) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (579) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (608) ، سنن الترمذي الصلاة (186) ، سنن النسائي المواقيت (515) ، مسند أحمد (2/260) ، موطأ مالك وقوت الصلاة (5) ، سنن الدارمي الصلاة (1222) .(75/98)
من الفتوى رقم 13515
السؤال الأول: أنا طالبة أدرس ولا أخرج من مدرستي إلا الساعة الثانية من بعد الظهر وأريد أن أصلي هذه الفريضة فهل يجوز أن أترك صلاتي إلى ذلك الحين أم ماذا أفعل علما بأن عندنا فسحة صلاة، ولكنها قليلة فلا يمكنني أن أتوضأ وأصلي فأحيانا أصلي بدون وضوء وأحيانا أتوضأ وأغسل وجهي فقط فهل صلاتي جائزة أم لا؟ ج: أولا: أداء الصلوات المفروضة في أول وقتها مستحب إلا في الأيام الشديدة الحرارة فتؤخر صلاة الظهر إلى أن تذهب شدة الحرارة على أن تصلى قبل وقت العصر، وعلى هذا يجوز لك أن تؤخري صلاة الظهر على أن تصليها آخر وقتها قبل دخول وقت العصر.
ثانيا: أداء الصلاة بلا وضوء أصلا أو بوضوء ترك فيه بعض فرائضه حرام ومنكر عظيم، ولا تصح معه الصلاة، وعلى من فعل ذلك القضاء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(75/99)
من الفتوى رقم3617
السؤال الأول: أحد الإخوة المشايخ اطلع على حديث الإبراد بصلاة الظهر في أيام الصيف وقرأه على الإخوان وأمرهم بذلك فلم يوافقوه، وذكروا له أن الأمر يدل على الرخصة، وحديث الصلاة في أول وقتها مقدم على هذا الحديث، وأن هذا ما عليه إخواننا أهل السنة في جميع البلاد حتى الحرمين الشريفين.
فرفض الشيخ هذا القول وأصر على تأخير الصلاة، واتبعه جماعة أقلية من الإخوان وصاروا يؤخرون الصلاة مع سماعهم للأذان والإقامة ثم يأتون في نفس المسجد ويقيمون الصلاة فيصلونها.
وهذا الأمر أدى إلى خلاف في نفوس الإخوان حتى حصلت بينهم نزاعات وخلافات أدت في بعض الأحيان إلى السباب. وهذا الأمر مستمر مند سنوات؟
ج: الأفضل في الصلوات أن تؤدى في أول وقتها، لما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله قال: " الصلاة على وقتها (1) » ولما رواه أحمد ومسلم وغيرهما عن جابر
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5970) ، صحيح مسلم الإيمان (85) ، سنن الترمذي البر والصلة (1898) ، سنن النسائي المواقيت (611) ، مسند أحمد (1/451) ، سنن الدارمي الصلاة (1225) .(75/100)
بن سمرة رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا دحضت الشمس (1) » إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على أفضلية الصلاة لأول وقتها، واستثني من ذلك صلاة الظهر عند شدة الحر وصلاة العشاء، فأما صلاة الظهر فلما رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم (2) » ولما رواه البخاري ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أبرد "، ثم أراد أن يؤذن فقال له: " أبرد " حتى رأينا فيء التلول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة (3) » وروى النسائي عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة وإذا كان البرد عجل (4) » . وللبخاري نحوه.
فالأفضل الإبراد بالظهر عملا بهذا الحديث وما في معناه من الأحاديث الدالة على الإبراد بها عند شدة الحر فقط، وفيما عدا ذلك تبقى على الأصل، فخير لكم أن تهتدوا بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتؤخروا الأذان في شدة الحر إلى الإبراد وتعجلوا به
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (618) ، سنن أبي داود الصلاة (806) ، سنن ابن ماجه الصلاة (673) ، مسند أحمد (5/106) .
(2) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (537) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (615) ، سنن الترمذي الصلاة (157) ، سنن النسائي المواقيت (500) ، سنن أبي داود الصلاة (402) ، سنن ابن ماجه الصلاة (677) ، مسند أحمد (3/53) ، موطأ مالك وقوت الصلاة (29) ، سنن الدارمي الصلاة (1207) .
(3) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (539) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (616) ، سنن الترمذي الصلاة (158) ، سنن أبي داود الصلاة (401) ، مسند أحمد (5/176) .
(4) صحيح البخاري الجمعة (906) ، سنن النسائي المواقيت (499) .(75/101)
أول الوقت في غير ذلك حرصا على الفضيلة وكثرة الأجر وتخفيفا على الناس، وعلى تقدير وقوع الأذان أول الوقت في شدة الحر فعلى الجميع أن يبادروا إلى الجماعة ويحرصوا على الصلاة مجتمعين. ولا تفرقوا فإن الجماعة واجبة والفرقة محرمة، فلا يرتكب ذلك من أجل الحرص على فضيلة الإبراد ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم.
وأما صلاة العشاء فلما رواه البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقية، والمغرب إذا وجبت الشمس، والعشاء أحيانا يؤخرها وأحيانا يعجل، إذا رآهم قد اجتمعوا عجل وإذا رآهم قد أبطئوا أخر، والصبح كانوا أو قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) الإمام أحمد 3\ 160، والبخاري 1\ 141، (ط استانبول) ومسلم واللفظ له 1\446 برقم 646.(75/102)
من الفتوى رقم 5526
السؤال الأول والثاني: متى يدخل وقت الظهر ومتى يخرج؟
ج: يدخل وقت الظهر بزوال الشمس وميلها عن وسط السماء إلى جهة الغرب، وينتهي بدخول وقت العصر، وذلك حين يصير ظل كل شيء مثله بعد فيء الزوال، وهذا لغير المسافر ونحوه من ذوي الأعذار.
س: ما حكم من أخر صلاة الظهر بدون عذر شرعي حتى الساعة الواحدة؟
ج: تأخير صلاة الظهر عن أول وقتها إلى الساعة الواحدة بعد الزوال جائز لكن يستحب التعجيل بها أول وقتها إلا في شدة الحر، فالأفضل تأخرها حتى تنكسر حرارة الشمس ويخفف الحر مع مراعاة أدائها جماعة في المسجد، سواء أخر الجماعة الصلاة أم قدموا ما دامت تؤدى في وقتها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(75/103)
من الفتوى رقم 6320
السؤال الرابع عشر: يجتمع لدينا وقت صلاة العصر ومحاضرة في الكلية، والدكتور نصراني لا يعطينا فرصة للصلاة، ونصليها إذا خرجنا أي إذا بقي على صلاة المغرب ساعة؟
ج: صلاتكم لها في أول وقتها أفضل، وصلاتكم لها في الوقت الذي ذكرتم صحيحة واقعة في وقتها، ولا يجوز تأخيرها إلى أن تصفر الشمس، للحديث الصحيح الوارد في ذلك من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عند مسلم وغيره رحمهم الله قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صليتم الفجر فإنه وقت إلى أن يطلع قرن الشمس الأول، فإذا صليتم الظهر فإنه وقت إلى أن يحضر العصر، فإذا صليتم العصر فإنه وقت إلى أن تصفر الشمس، فإذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق، فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح الإمام مسلم 5\109 (شرح النووي) دار الفكر للطباعة.(75/104)
من الفتوى رقم 6949
السؤال الرابع: أنا معلم وأصلي قبل أذان الظهر بحوالي عشر دقائق حيث الأذان على الساعة الواحدة وثلاثين دقيقة، وأنا أصلي على الساعة الواحدة والعشرين دقيقة، لأني في وقت الأذان أكون في الفصل ولا أخرج من الفصل حتى يكون العصر قد دخل وقته أي خروج الظهر بوقتيه الاختياري والضروري فهل تصح صلاتي قبل الظهر؟
ج: إذا كان الواقع كما ذكرت فصلاتك الظهر قبل وقتها غير صحيحة، وعليك قضاؤها مع التوبة والاستغفار ولا تقدم مستقبلا على عبادة إلا وأنت على بصيرة من مشروعيتها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(75/105)
من الفتوى رقم 7550
كيفية مواقيت صلاة الظهر والعصر. مثلا في وقت الشتاء يكون الظل في الثانية عشرة تاما (خمسة أقدام) بتوقيت جمهورية(75/105)
مالي. كيف تكون صلاة الظهر والعصر مثل هذا الوقت. وفي وقت الصيف الظل يكون تحت القدم ويختلط علينا الوقت طول السنة، ولهذا نرسل إلى فضيلتكم أن توضحوا لنا كيفية هده المواقيت الظهر والعصر؟
ج: بين لنا الشرع أوقات الصلوات بعلامات كونية عامة في العصور والأماكن مضبوطة لا تختلف، بين لنا أن وقت الظهر يبدأ حين الزوال أي حين تميل الشمس عن وسط السماء إلى جهة الغرب وعند ذلك يبدأ ظل كل شيء يمتد شرقا بعد أن كان قبل الزوال غربا، وينتهي وقته بدخول وقت العصر سواء كان مقدار الظل وقت الزوال طويلا كما في الشتاء أم قصيرا كما في الصيف.
وبين لنا أن وقت العصر يبدأ إذا صار ظل كل شيء مثله بعد الظل الذي كان موجودا حين الزوال سواء كان طويلا أم قصيرا.
وقد ذكر العلماء أن طول كل إنسان سبعة أقدام بقدم نفسه، وعلى هذا يكون بدء وقت العصر إذا صار مقدار ما زاد بعد ظل الزوال سبعة أقدام بقدم نفسك في أي مكان كنت وفي أي زمان من صيف أو شتاء، وينتهي وقته بغروب الشمس.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(75/106)
من الفتوى رقم 6215
السؤال الأول: عندما فرض الله هذه الصلوات الخمس على الرسول صلى الله عليه وسلم، أي وقت من هذه الأوقات بدأ به الصلاة، وأي يوم بدأ به نزول القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم؟
ج: بدأ بصلاة الظهر فصلاها به جبريل عليهما الصلاة والسلام في أول وقتها. أما القرآن فبدأ نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان. قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (1) ، وأما اليوم الذي بدأ نزوله فيه فلا نعلم دليلا على تعيينه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(75/107)
الفتوى رقم 10257
هل تصلى صلاة المغرب مباشرة بعد الأذان، أم يكون هناك(75/107)
بعض الوقت بين الأذان والصلاة حتى يتمكن المصلون من أداء تحية المسجد؟
ج: إن الأدلة الشرعية وردت بشرعية تعجيل صلاة المغرب بعد دخول الوقت، كما وردت السنة بمشروعية صلاة ركعتين قبل صلاة المغرب فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب ". ثم قال في الثالثة: " لمن شاء (1) » وهذا يدل على أن الأمر واسع فمن صلى المغرب مباشرة بعد الأذان فلا حرج، ومن صلى قبلها ركعتين فهو أفضل. وكان الصحابة رضي الله عنهم يصلون ركعتين بعد غروب الشمس وقبل الصلاة، وقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك كما ثبت ذلك في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7368) ، سنن أبي داود الصلاة (1281) ، مسند أحمد (5/55) .(75/108)
الفتوى رقم 3779
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على(75/108)
السؤال المقدم من رابطة العالم الإسلامي إلى سماحة الرئيس العام والمحال إليها برقم 641 في 6\4 / 1401 هـ ونصه: بالإشارة إلى خطاب معالي وزير الحج والأوقاف رقم 2620 / ع في 28 / 11 / 1400 هـ الموجه لمعاليكم ومشفوعة خطاب معالي وزير الأوقاف والشئون والمقدسات الإسلامية في الأردن المتضمن أن الوقت الذي يدخل فيه صلاة الفجر هو تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. وأن المختصين بالدراسات الفلكية في الأردن أفادوا بأن الفجر على ثلاثة أقسام: الفجر الفلكي، والفجر البحري، والفجر المدني، ويتساءل معاليه: هل الفجر الذي يكون فيه وقت الصلاة في المملكة يدخل تحت أحد هذه الأقسام الثلاثة؟ ويطلب معاليه معرفة أراء العلماء في هذا الموضوع.
وأجابت اللجنة بما يلي:
يبدأ وقت صلاة الفجر شرعا بتبين الخيط الأبيض، وهو البياض الذي يعترض ظلام الأفق شرقا ويشقه، فهو ظاهرة كونية تسبق طلوع الشمس بزمن، جعلها الله أمارة على انتهاء الليل شرعا، وابتداء وقت الصوم وصلاة الفجر شرعا، فكان ذلك حدا فاصلا بين الليل والنهار الشرعيين، وربط به ما شرع فيهما من عبادات، ولم يشرع لهم الاعتماد في تحديد أوقات العبادات على الحساب(75/109)
الفلكي. وليس لتقسيم الفجر إلى ما ذكر من الأقسام أصل شرعي، وكذا تسمية كل قسم بما سمي به، بل ذلك اصطلاح حادث اصطلح عليه بعض الناس لا اعتبار له في تحديد أوقات العبادات.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(75/110)
من الفتوى رقم 8107
السؤال السادس: هل يستحب تأخير صلاة الفجر بعد الأذان بحوالي نصف ساعة أو أكثر. تردد في مصر أن مواقيت الصلاة (الفجر) في مصر غير صحيحة والتي تنشرها هيئة الأرصاد ولهذا قام بعض الإخوة بتأخير الأذان بعد الوقت المرصود بحوالي ربع ساعة فما الحكم في ذلك؟
ج: يبدأ وقت صلاة الفجر من طلوع الفجر الثاني ويمتد إلى ما قبل طلوع الشمس، فمن أدى الصلاة فيما بين ذلك فقد أدى الصلاة في وقتها، وصلاة الفجر في أول وقتها أفضل.(75/110)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(75/111)
من الفتوى ورقم 10666
السؤال الأول: ما المقصود بالفجر الكاذب والفجر الصادق، وعلى أيهما نصلي، وكيف نتمكن من حساب الفجر الصادق؟
ج: الفجر الكاذب هو الذي يظهر مستطيلا في السماء من أعلى الأفق إلى أسفل، والفجر الصادق هو الذي يظهر في السماء معترضا الأفق، ووقت الصبح يبدأ بظهور الفجر الصادق.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(75/111)
من الفتوى رقم 581
س: ما هي الصلاة الوسطى؟
ج: اختلف أهل العلم في تعيينها هل هي العصر أم الفجر أم الظهر أم المغرب أم العشاء، أم أنها إحدى الصلوات الخمس إلا أنها مبهمة، والأقرب أنها صلاة العصر، لما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس (1) » . وفي رواية لمسلم: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر (2) » . والله أعلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2931) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (627) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2984) ، سنن النسائي الصلاة (473) ، سنن أبي داود الصلاة (409) ، سنن ابن ماجه الصلاة (684) ، مسند أحمد (1/154) ، سنن الدارمي الصلاة (1232) .
(2) صحيح البخاري الدعوات (6396) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (627) ، سنن أبي داود الصلاة (409) ، مسند أحمد (1/151) .(75/112)
من الفتوى رقم 1108
السؤال الثاني: إن الفجر يكون ظاهرا بزمن طويل من قبل شروق الشمس مما يجعل تحديد موعد صلاة الصبح معرضا(75/112)
للشك، يضاف إلى هذا وجود الغمام والضباب في كثير من الأوقات، والحال في تحديد وقت صلاة العشاء تشبه ذلك؛ لأن الشفق يكون ظاهرا مدة طويلة بعد مغيب الشمس ثم يعقبه ظهور فجر اليوم التالي في مدة قصيرة؟
ج: حدد الشرع وقت كل صلاة من الصلوات الخمس، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1) ، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن وقت الصبح من ظهور البياض الذي يعترض الأفق شرقا إلى طلوع الشمس، وجعل وقت العشاء من مغيب الشفق إلى منتصف الليل فإذا دخل وقت الصبح وجب على المكلف أن يصلي صلاة الصبح في وقتها، والأفضل أن يصليها بغلس، ولو طال الزمن فيما بينه وبين طلوع الشمس، وإذا غاب الشفق دخل وقت العشاء ووجب عليه أداؤها في وقتها قبل انتهاء منتصف الليل، ولا يجوز له أن يصلي العشاء قبل مغيب الشفق ولو طالت مدة مكثه بعد غروب الشمس إلا فيما أذن الشرع فيه بالجمع بين المغرب والعشاء كالسفر أو المطر أو المرض، وأما في حالة الغمام والضباب ونحوهما مما لا يتبين معه أمارات دخول الوقت فعلى المكلف أن يجتهد في معرفته ويتحرى دخوله بأمارة أخرى تقدر
__________
(1) سورة النساء الآية 103(75/113)
الزمن ولو تقريبا كساعة أو حزب قرآن أو عمل آخر منتظم فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر وهو معذور في خطئه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(75/114)
الفتوى رقم 2769
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا من بعده. وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة الرئيس العام من المستفتي الأمين العام لاتحاد الطلبة المسلمين بهولندا، والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء والسؤال نصه: نرجو من سماحتكم التفضل بموافاتنا بالفتوى اللازمة لكيفية تعيين أوقات صلاة المغرب والعشاء والصبح، وكذلك تعيين أول رمضان، وأول أيام عيد الفطر المبارك، ذلك أنه بالنسبة إلى حركة شروق وغروب الشمس في بلدان شمال أوربا والقريبة من(75/114)
القطب الشمالي تختلف عن مثيلتها في بلدان الشرق الإسلامي، والسبب في ذلك يرجع إلى وقت مغيب الشفق الأحمر والأبيض، فيلاحظ أن الشفق الأبيض في الصيف يمتد حتى يكاد يستغرق الليل كله فيصعب تحديد وقت العشاء وكذلك طلوع الصبح؟
والجواب: لقد صدر قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في بيان تحديد أوقات الصلوات، وتحديد بدء صباح كل يوم ونهايته في رمضان في بلاد مماثلة لبلادكم هذا مضمونه:
بعد الاطلاع والدراسة والمناقشة قرر المجلس ما يلي:
أولا: من كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجر وغروب شمس إلا أن نهارها يطول جدا في الصيف ويقصر في الشتاء وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعا. لعموم قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (1) ، وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (2) ، ولما ثبت عن بريدة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن وقت الصلاة فقال له: " صل معنا هذين " يعني اليومين، فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره
__________
(1) سورة الإسراء الآية 78
(2) سورة النساء الآية 103(75/115)
فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما كان اليوم الثاني أمره أن يرد بالظهر فأبرد بها، فأنعم أن يبرد بها وصلى العصر والشمس مرتفعة، أخرها فوق الذي كان وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها ثم قال: " أين السائل عن وقت الصلاة " فقال الرجل أنا يا رسول الله قال: " وقت صلاتكم بين ما رأيتم (1) » . رواه البخاري ومسلم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني شيطان (2) » أخرجه مسلم في صحيحه.
إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في تحديد أوقات الصلوات الخمس قولا وفعلا ولم تفرق بين طول النهار وقصره
__________
(1) الإمام أحمد 3\ 351 ومسلم برقم 613 واللفظ له والترمذي برقم 152 والنسائي 1\207.
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (612) ، سنن النسائي المواقيت (522) ، سنن أبي داود الصلاة (396) ، مسند أحمد (2/223) .(75/116)
وطول الليل وقصره ما دامت أوقات الصلوات متمايزة بالعلامات التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا بالنسبة لتحديد أوقات صلاتهم، وأما بالنسبة لتحديد أوقات صيامهم شهر رمضان فعلى المكلفين أن يمسكوا كل يوم منه عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في بلادهم ما دام النهار يتمايز في بلادهم من الليل وكان مجموع زمانها أربعا وعشرين ساعة. ويحل لهم الطعام والشراب والجماع ونحوها في ليلهم فقط وإن كان قصيرا، فإن شريعة الإسلام عامة للناس في جميع البلاد وقد قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (1) .
ومن عجز عن إتمام صوم يوم لطوله، أو علم بالأمارات أو التجربة أو إخبار طبيب أمين حاذق، أو غلب على ظنه أن الصوم يفضي إلى إهلاكه أو مرضه مرضا شديدا، أو يفضي إلى زيادة مرضه أو بطء برئه - أفطر ويقضي الأيام التي أفطرها في أي شهر تمكن فيه من القضاء قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (2) ، وقال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3) ، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 187
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) سورة البقرة الآية 286
(4) سورة الحج الآية 78(75/117)
ثانيا: من كان يقيم في بلاد لا تغيب عنها الشمس صيفا ولا تطلع فيها الشمس شتاء، أو في بلاد يستمر نهارها إلى ستة أشهر، ويستمر ليلها ستة أشهر مثلا وجب عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة، وأن يقدروا لها أوقاتها ويحددوها معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم تتمايز فيها أوقات الصلوات المفروضة بعضها من بعض، لما ثبت في حديث الإسراء والمعراج من أن الله تعالى فرض على هذه الأمة خمسين صلاة كل يوم وليلة فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه التخفيف حتى قال: «يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة (1) » إلى آخره.
ولما ثبت من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خمس صلوات في اليوم والليلة " فقال: هل على غيرهن؟ قال: " لا، إلا أن تطوع (2) » الحديث.
وما ثبت من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3570) ، صحيح مسلم الإيمان (162) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3346) ، سنن النسائي الصلاة (450) ، مسند أحمد (5/144) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (46) ، صحيح مسلم الإيمان (11) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5028) ، سنن أبي داود الأيمان والنذور (3252) ، مسند أحمد (1/162) ، موطأ مالك النداء للصلاة (425) ، سنن الدارمي الصلاة (1578) .(75/118)
يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: " صدق "، إلى أن قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: " صدق " قال فبالذي أرسلك: آلله أمرك بهذا؟ قال: " نعم " (1) » الحديث.
وثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه عن المسيح الدجال فقيل له: ما لبثه في الأرض؟ قال: " أربعون يوما: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم " فقيل: يا رسول الله اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: " لا، اقدروا له " (2) » فلم يعتبر اليوم الذي كسنة يوما واحدا يكفي فيه خمس صلوات بل أوجب فيه خمس صلوات في كل أربع وعشرين ساعة، وأمرهم أن يوزعوها على أوقاتها اعتبارا بالأبعاد الزمنية إلى بين أوقاتها في اليوم العادي في بلادهم.
فيجب على المسلمين في البلاد المسئول عن تحديد أوقات الصلوات فيها أن يحددوا أوقات صلاتهم معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم يتمايز فيها الليل من النهار وتعرف فيها أوقات الصلوات الخمس بعلاماتها الشرعية في كل أربع وعشرين ساعة.
وكذلك يجب عليهم صيام شهر رمضان وعليهم أن يقدروا لصيامهم
__________
(1) صحيح البخاري العلم (63) ، صحيح مسلم الإيمان (12) ، سنن الترمذي الزكاة (619) ، سنن النسائي الصيام (2093) ، سنن أبي داود الصلاة (486) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1402) ، مسند أحمد (3/168) ، سنن الدارمي الطهارة (650) .
(2) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937) ، سنن الترمذي الفتن (2240) ، سنن أبي داود الملاحم (4321) ، سنن ابن ماجه الفتن (4075) .(75/119)
فيحددوا بدء شهر رمضان ونهايته وبدء الإمساك والإفطار في كل يوم منه ببدء الشهر ونهايته، وبطلوع فجر كل يوم وغروب شمسه في أقرب بلاد إليهم يتميز فيها الليل من النهار ويكون مجموعها أربعا وعشرين ساعة لما تقدم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن المسيح الدجال، وإرشاده أصحابه فيه عن كيفية تحديد أوقات الصلوات فيه إذ لا فارق في ذلك بين الصوم والصلاة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(75/120)
دراسات في خلق الصبر في ضوء الكتاب والسنة
لفضيلة الدكتور / مفرح بن سليمان القوسي (1) .
الحمد لله الصبور الشكور، العلي الكبير، السميع البصير، العليم القدير، الذي شملت قدرته كل مخلوق، وجرت مشيئته في خلقه بتصاريف الأمور، وقدر مقادير الخلائق وآجالهم، وكتب آثارهم وأعمالهم، وقسم بينهم معايشهم وأموالهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من بريته، وصفوته من خليقته، أعرف الخلق به، وأصبرهم لحكمه، وأشكرهم لنعمه، بلغ رسالة ربه، وصدع بأمره، وتحمل في مرضاته ما لم يتحمله بشر سواه، وقام لله بالصبر والشكر حق القيام حتى بلغ رضاه، أما بعد:
فإن الله عز وجل جعل الصبر جوادا لا يكبو، وصارما لا ينبو، وجندا لا يهزم، وحصنا حصينا لا يهدم ولا يثلم، فهو
__________
(1) عضو هيئة التدريس بقسم الثقافة الإسلامية، بكلية الشريعة، جماعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.(75/121)
والنصر أخوان شقيقان، فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، والعسر مع اليسر (1) .
كما جعل سبحانه الصبر خلقا كريما ومنهجا قويما، ولا غنى للمسلم عنه وهو يخوض معترك هذه الحياة الدنيا التي جعلها سبحانه دار ابتلاء وامتحان، فالمسلم يعيش في هذه الدنيا بين أمر إلهي يجب عليه امتثاله، ونهي إلهي يجب عليه اجتنابه، ومحن ومصائب وكروب تحل به من كل جانب، وكل ذلك يحتاج المسلم فيه إلى التسلح بسلاح الصبر لمجاهدة الشيطان والنفس والهوى، ليكتب عند الله من الصابرين الذين أثنى سبحانه عليهم في محكم التنزيل، ووعدهم بأفضل الجزاء وأحسنه.
__________
(1) انظر: ابن القيم، عدة الصابرين، ص 6، 5، ط الأولى 1991 م، دار الفكر اللبناني، بيروت.(75/122)
سبب اختيار موضوع البحث:
يرجع اختيار موضوع " الصبر " لأسباب عدة، أهمها:
1 - أهمية هذا الموضوع، لتعلقه بأركان الإسلام ومقامات الإيمان كلها، ولعظم شأنه في حياة الناس وأمورهم الدينية والدنيوية.
2 - عظم أجر الصبر عند الله عز وجل، وليس أوفى لبيان قيمته من أنه لا يعرف حد لثوابه، لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 10(75/122)
3 - مسيس الحاجة إلى التذكير بالصبر والتواصي به والدعوة إليه، وذلك انطلاقا من قوله عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) ، ثم تمثله ليكون واقعا ملموسا معاشا في حياة المسلمين المعاصرة، ولا سيما أن الأمة المسلمة تعيش الآن في ظروف جد صعبة، وتعاصر أوضاعا حرجة، من حيث تكالب الأعداء وتداعيهم عليها من كل حدب وصوب تداعي الأكلة على قصعتها، ومن حيث افتقار كثير من أبنائها إلى الالتزام بالصبر الذي جعله عز وجل قرين الإيمان والتقوى.
فموضوع هذا شأنه، جدير بلا شك بالبحث والدراسة.
خطة البحث:
يتكون البحث من مقدمة، وتمهيد، وأربعة فصول، وخاتمة.
أما المقدمة:
فتشتمل على ما يلي:
1 - بيان أهمية موضوع البحث.
2 - خطة البحث.
3 - منهج البحث.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 55(75/123)
وأما التمهيد: فيشتمل على أمرين:
الأول: تعريف " الصبر " لغة واصطلاحا.
الثاني: حكم الصبر.
وأما الفصل الأول: فهو أنواع الصبر: وينقسم إلى ثلاثة مباحث:
البحث الأول: في الصبر على الطاعة.
المبحث الثاني: في الصبر عن المعصية.
المبحث الثالث: في الصبر على المحن والمصائب.
وأما الفصل الثاني: فهو في آداب الصبر: وينقسم إلى مبحثين:
المبحث الأول: في آداب الصبر الظاهرة.
المبحث الثاني: في آداب الصبر الخفية.
وأما الفصل الثالث: فهو في فضائل الصبر: وينقسم إلى ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في فضائل الصبر في القرآن الكريم.
المبحث الثاني: في فضائل الصبر في السنة النبوية.
المبحث الثالث: في فضائل الصبر في آثار سلف الأمة وعلمائها.
وأما الفصل الرابع: فهو فيما يعين على الصبر: وينقسم إلى ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: فيما يعين على الصبر على الطاعة.
المبحث الثاني: فيما يعين على الصبر عن المعصية.(75/124)
المبحث الثالث: فيما يعين على الصبر على المحن والمصائب.
وأما الخاتمة: فتشتمل على رصد لأبرز نتائج البحث العلمية.
منهج البحث: اقتضت طبيعة البحث اتباع منهجين اثنين:
أحدهما: المنهج التأصيلي: وذلك بإقامة دراسة موضوعات البحث ومسائله على ما جاء بشأنها من نصوص شرعية في الكتاب والسنة، وعلى فهم علماء الأمة وسلفها لهذه النصوص.
الثاني: المنهج الوصفي: وذلك بضرب الأمثلة المتعددة للتأدب بالصبر والاتصاف به لدى أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، ولدى الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
مع عنايتي بما يلي:
1 - الرجوع إلى المصادر الأصلية في مجال موضوع البحث.
2 - اعتماد أسلوب السهولة واليسر في طرح أفكار البحث وعرضها ومعالجة مسائله، واجتناب الإسهاب والإطالة وغموض العبارة.
3 - التزام الأمانة العلمية في العزو والاقتباس والنقل.
4 - ترقيم الآيات القرآنية وبيان سورها.
5 - تخريج الأحاديث النبوية وبيان ما ذكره أهل الشأن في(75/125)
درجتها، إذا لم تكن في الصحيحين أو أحدهما، فإذا كانت كذلك اكتفيت حينئذ بتخريجهما.
6 - العناية بقواعد اللغة العربية والإملاء وعلامات الترقيم.
7 - ذكر البيانات الكاملة لكل مصدر أو مرجع في الهامش عند أول وروده في البحث، من حيث بيان: عنوان الكتاب، واسم مؤلفه، واسم محققه إن كان محققا، وعدد الطبعة، وتاريخها، واسم الناشر، ومكان النشر.
8 - تزويد البحث بفهرس للموضوعات، وفهرس للمصادر والمراجع.
9 - أما بالنسبة للنقول والإحالات في الهوامش فهي على النحو التالي:
أ - إذا تصرفت في النص المنقول تصرفا يسيرا أوردته بين قوسي تنصيص وأشرت في الهامش إلى أن النقل كان بتصرف يسير، وإذا تصرفت فيه تصرفا كثيرا ذكرت في الهامش كلمة (انظر) ، أما إذا لم أتصرف فيه مطلقا بأن كان نقلا حرفيا أوردته بين قوسي تنصيص واكتفيت بالإشارة إلى المرجع دون كلمة (انظر) .
ب - إذا اقتبست من المرجع فكرة ما، أو استفدت منه معلومة، أو أحلت إلى مرجع فأكثر توسع في بحث الموضوع الذي(75/126)
كنت أتحدث فيه، ذكرت في الهامش كلمة (راجع) .
ج - إذا كررت النقل من المرجع دون أن يفصل بين النقلين مرجع آخر، ذكرت في الهامش عبارة (المرجع السابق) .
د - إذا وضعت بين الكلمات هذه النقاط الثلاث (. . .) سواء في المتن أم في الهامش، فإن ذلك يعني أن هناك كلاما محذوفا تم الاستغناء عنه طلبا للاختصار، أو لعدم الفائدة من ذكره.
وبعد:
فهذا جهد بشري فما كان فيه من حق وصواب فمن الله وحده، وله الحمد والثناء على توفيقه، وما كان فيه من خطأ وزلل وتقصر فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله وأتوب إليه من ذلك.
والله أسال أن يجعلني من عباده المؤمنين الصابرين الشاكرين، وأن يرزقني إخلاص النية وصلاح العمل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.(75/127)
التمهيد
أولا: تعريف الصبر:
أ - التعريف اللغوي:
تستخدم كلمة " الصبر " ومشتقاتها في اللغة العربية بمعان عدة، منها:
الحبس والمنع: فكل من حبس شيئا فقد صبره، يقال صبرت نفس على ذلك الأمر، أي حبستها، ومنه قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} (1) ، ومنه أيضا قول عنترة يذكر حربا كان فيها:
فصبرت عارفة لذلك حرة ... ترسو إذا نفس الجبان تطلع
والصبر: نقيض الجزع، وهو حبس النفس عن الجزع، يقال: صبر يصبر صبرا، فهو صابر وصبار وصبير وصبور، والأنثى صبور أيضا بغير هاء، وجمعه صبر. ويقال أيضا: صبر فلان عند المصيبة
__________
(1) سورة الكهف الآية 28(75/128)
يصبر صبرا، وصبرته أنا: حبسته، وصبرته بالتشديد: إذا حملته على الصبر. ويسمى شهر الصوم شهر الصبر، لما فيه من حبس النفس ومنعها عن الطعام والشراب والنكاح.
2 - الشدة والقوة: ومنه الصبرة، والصبرة: وهي الحجارة الشديدة الغليظة، ومنه قيل للحرة: أم صبار، وقيل للهضبة التي ليس لها منفذ أم صبور. يقال: وقع القوم في أم صبور، أي: في أمر ملتبس شديد ليس له منفذ.
وأم صبار وأم صبور كلتاهما: الداهية والحرب الشديدة.
3 - الجمع والضم: ومنه الصبرة: وهي ما جمع من الطعام بلا كيل ولا وزن بعضه فوق بعض كالكومة، ومنه حديث «مر النبي صلى الله عليه وسلم على صبرة طعام فأدخل يده فيها (1) » .
4 - الثبات: ومنه قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} (2) ، أي: بالثبات على ما أنتم عليه من الإيمان.
ب- التعريف الاصطلاحي:
عرف الصبر اصطلاحا بتعريفات كثيرة أذكر منها ما يلي:
__________
(1) رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب (الإيمان) ، باب (قول النبي صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا) ، ج 2\ ص 109، ط دار الريان، القاهرة.
(2) سورة البقرة الآية 45(75/129)
عرفه الراغب الأصفهاني بأنه: حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، وعما يقتضيان حبسها عنه (1) .
وعرفه الجنيد بن محمد بأنه: تجرع المرارة من غير تعبس (2)
وعرفه ذو النون المصري بأنه: التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة (3)
وعرفه الجرجاني بأنه: ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله
وعرفه ابن القيم بأنه: حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش (4)
وقيل: هو الوقوف على البلاء بحسن الأدب (5)
__________
(1) مفردات ألفاظ القرآن، ص 474، بتحقيق: صفوان داوودي، ط الثانية 1418 هـ 1997 م، دار القلم، دمشق.
(2) ابن القيم، عدة الصابرين، ص 15.
(3) المرجع السابق
(4) مدارج السالكين، ج 2\ ص 119، ط الأولى 1419 هـ 1999 م، دار إحياء التراث العري، بيروت.
(5) ابن القيم، عدة الصابرين، ص 15. والنووي، شرح صحيح مسلم، ج 3\ ص 102(75/130)
وقيل: الثبات على أحكام الكتاب والسنة.
وبهذا يتبين أن تعريف الصبر يختلف باختلاف الموطن الذي يحتاج إليه وفيه، فالصبر لفظ عام، وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه، فإن كان حبس النفس لمصيبة سمي صبرا لا غير ويضاده الجزع، وإن كان في محاربة سمي شجاعة ويضاده الجبن، وإن كان في نائبة مضجرة سمي رحب الصدر ويضاده الضجر، وإن كان في إمساك الكلام سمي كتمانا ويضاده الإفشاء (1) ، وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمي حلما ويضاده التذمر، وإن كان عن فضول العيش سمي زهدا ويضاده الحرص، وإن كان صبرا على قدر يسير من الحظوظ سمي قناعة، ويضاده الشره، فأكثر أخلاق الإيمان داخل في الصبر
__________
(1) الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص 474، بتصرف يسير.(75/131)
يقول ابن القيم: النفس فيها قوتان: قوة الإقدام، وقوة الإحجام، فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة الإحجام إمساكا عما يضره (1) .
__________
(1) عدة الصابرين، ص 18.(75/132)
ثانيا: حكم الصبر:
الصبر نصف الإيمان، فالإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر، وهو واجب في الجملة بإجماع الأمة وذلك لما يلي:
1 - أن الله عز وجل أمر به في آيات عديدة في كتابه الكريم، والأمر في أصله يقتضي الوجوب، وذلك في مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} (1) ، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (2) ، وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (3) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 200
(2) سورة البقرة الآية 153
(3) سورة النحل الآية 127(75/132)
2 - أنه سبحانه نهى عن ضده، وذلك في مثل قوله تعالى: {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} (1) ، فإن تولية الأدبار ترك للصبر والمصابرة، وقوله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (2) ، فإن إبطالها ترك للصبر على إتمامها، وقوله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} (3) فإن الوهن من عدم الصبر (4) .
3 - أنه سبحانه رتب عليه خيري الدنيا والآخرة، فلا يفوز الإنسان بمحبوب، ولا ينجو من مكروه إلا بالصبر، وما كان كذلك كان تحصيله واجبا (5) .
أما حكمه التفصيلي فيختلف باختلاف نوع المصبور عنه أو المصبور عليه، فلكل نوع حكم يخصه من الأحكام التكليفية الخمسة.
فالصبر الواجب: هو الصبر على أداء الواجبات، والصبر على ترك المحظورات، ويدخل في ذلك الصبر على المصائب عن أن يجزع فيها، وهذا باتفاق المسلمين (6) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 15
(2) سورة محمد الآية 33
(3) سورة آل عمران الآية 139
(4) انظر: المرجع السابق.
(5) د. يوسف القرضاوي، الصبر في القرآن، ص 29، ط الأولى 1397 هـ 1997 م، مكتبة وهبة، القاهرة.
(6) انظر ابن تيمية، مجموع الفتاوى ج 10 ص 39، ط الرئاسة العامة لشئون الحرمين الشريفين، مكة المكرمة.(75/133)
والصبر المندوب: هو الصبر على فعل المستحبات، وعن فعل المكروهات، أو عما هو خلاف الأفضل والأمثل، ومثال ذلك: أن مقابلة السيئة بمثلها جائزة في الإسلام، وأفضل منها العفو والصفح، ومن هنا يكون الصبر عن مقابلة السيئة بمثلها أمرا مندوبا (1) ، يقول عز وجل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (2) ، ويقول أيضا: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (3) .
والصبر المحظور: هو صبر الإنسان عن الطعام والشراب حتى الموت، وكذا صبره عن الميتة والدم ولحم الخنزير عند المخمصة إذا خاف بتركه الموت، وكذا صبره على ما يقصد هلاكه من سبع أو حية أو حريق أو كافر يريد قتله.
والصبر المكروه: هو الصبر على فعل المكروه، والصبر على فعل المستحب، كصبر الرجل عن الطعام والشراب واللباس وجماع أهله حتى يتضرر بذلك بدنه.
وأما الصبر المباح: فهو الصبر عن كل فعل مستوي الطرفين خير بين فعله وتركه والصبر عليه (4) .
__________
(1) انظر: د. يوسف القرضاوى، الصبر في القرآن، ص 29.
(2) سورة النحل الآية 126
(3) سورة الشورى الآية 40
(4) انظر: ابن القيم، عدة الصابرين، ص 34، 35.(75/134)
الفصل الأول: أنواع الصبر
قسم العلماء - رحمهم الله - الصبر إلى أقسام عدة باعتبارات مختلفة، وعند النظر في هذه التقسيمات وتفحصها نجد أنها وإن تشعبت فهي تندرج عموما تحت ثلاثة أنواع أو أقسام رئيسة، وهي:(75/135)
1 - الصبر على طاعة الله.
2 - الصبر عن معصية الله.
3 - الصبر عن المحن والمصائب.
وقد آثرت الاقتصار على بحث هذه الأنواع الثلاثة، رغبة في الاختصار، وتجنبا للتكرار، أتناولها في ثلاثة مباحث، وذلك على النحو التالي:
المبحث الأول: الصبر على طاعة الله:
المراد بالصبر على الطاعة: الصبر على أداء العبادات والطاعات التي فرضها الله سبحانه على عباده المسلمين؛ لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية وتشتهي الربوبية (1) ، وذلك لثقل أداء العبادات ولا سيما عند تسلط الشيطان وغلبة الهوى وحب الركون إلى الراحة والخمول والكسل، فمن العبادات ما يثقل على النفس أداؤها بسبب الكسل كالصلاة، ومنها ما يثقل على النفس أداؤها بسبب البخل كالزكاة، ومنها ما يثقل على النفس أداؤها بسببهما معا، كالحج والجهاد، فالصبر على الطاعة صبر على الشدائد (2) ، وحاجة المسلم إلى هذا النوع من الصبر لا شك حاجة ماسة. وفيه جاء قوله جل شأنه خطابا لرسوله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 4 ص 67.
(2) انظر: المرجع السابق، وابن قدامة، مختصر منهاج القاصدين، ص 297(75/136)
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (1) . وقد استخدم القرآن هنا صيغة الافتعال من الصبر (اصطبر) مكان الصيغة المعتادة (اصبر) ، لأن الافتعال يدل على المبالغة في الفعل، فزيادة المبنى تدل في العادة على زيادة المعنى، وما ذاك إلا لأن الطريق إلى طاعة الله مليئة بالمعوقات من داخل النفس ومن خارجها (2) .
يقول أبو الحسن الماوردي: الصبر على امتثال ما أمر الله تعالى به، والانتهاء عما نهى الله عنه تخلص به الطاعة، وبخلوص الطاعة يصح الدين، وتؤدى الفروض، ويستحق الثواب ... ، وليس لمن قل صبره على طاعة حظ من بر، ولا نصيب من صلاح. ومن لم ير لنفسه صبرا يكسبها ثوابا ويدفع عنها عقابا كان مع سوء الاختيار بعيدا من الرشاد، حقيقا بالضلال ... وهذا النوع من الصبر إنما يكون لفرط الجزع، وشدة الخوف، فإن من خاف الله عز وجل صبر على طاعته، ومن جزع من عقابه وقف عند أوامره (3) .
وقد قص لنا القرآن الكريم قصة عجيبة تمثل نموذجا فريدا للصبر على الطاعة، وهي قصة إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، فقد رأى خليل الرحمن إبراهيم في المنام أنه يذبح إسماعيل - ورؤيا
__________
(1) سورة مريم الآية 65
(2) د. يوسف القرضاوي، الصبر في القرآن، ص 39
(3) أدب الدنيا والدين، ص 277(75/137)
الأنبياء وحي - ففهم الإشارة وعرف المراد، فجاء بابنه المطلوب وعرض عليه الأمر قائلا: {قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} (1) ، فما الموقف الذي اتخذه الفتى إسماعيل وقد طلب منه تقديم عنقه للسكين، بعد أن اشتد ساعده وصلب عوده ونضر شبابه؟!! لقد تمثل موقفه عليه السلام بجملتين قالهما لأبيه خلدتاه في سجل الأنبياء الصابرين، وجعلتا منه قدوة للمؤمنين الصالحين: {قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (2) . وصدق العمل القول، وأسلم الوالد ولده، وأسلم الولد عنقه، وتله أبوه للجبين، وتهيأ للذبح بالسكين. وهنا كان الابتلاء قد بلغ غايته، وحقق ثمرته، حيث نفذ الوالد وولده ما أمرهما الله به دون تردد أو ارتياب، ونجحا في الامتحان، فلا غرو أن جاءت البشرى من السماء بقوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ} (3) {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (4) {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} (5) {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (6) . (7)
وقد كان الهادي الأمين صلى الله عليه وسلم إماما لأمته، وقدوة في صبره على طاعة ربه، ضرب مثلا عاليا في جهاده لأعداء
__________
(1) سورة الصافات الآية 102
(2) سورة الصافات الآية 102
(3) سورة الصافات الآية 104
(4) سورة الصافات الآية 105
(5) سورة الصافات الآية 106
(6) سورة الصافات الآية 107
(7) انظر: د. يوسف القرضاوي، الصبر في القرآن، ص 74، 75.(75/138)
الله ودعوة الأمة إلى الصراط المستقيم بعد أن طمس معالم الشرك والوثنية وقوض آطامها الواهية، وغرس بذرة التوحيد قوية الجذور ثابتة الأركان يرفرف عليها لواء العز والنصر والتمكين.
ولعظم شأن الصبر على الطاعة، ورد الأمر به في النصوص الشرعية في أكثر من نوع من أنواع العبادات والطاعات، ومن ذلك:
1 - الأمر به على الصلاة، عمود الدين، والركن الثاني من أركان الإسلام، حيث يقول تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (1) .
2 - الأمر به على الجهاد في سبيل الله، ذروة سنام الإسلام، حيث يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (3) ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا (4) » .
__________
(1) سورة طه الآية 132
(2) سورة الأنفال الآية 45
(3) سورة الأنفال الآية 46
(4) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (الجهاد) ، الباب 112، الحديث رقم 2966، ج 6 ص 120. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب (الجهاد) باب (كراهية تمني لقاء العدو) ، ج 12 ص 46.(75/139)
3 - الأمر به على القيام بأمر الدعوة إلى الله، حيث يقول سبحانه على لسان لقمان الحكيم في وصاياه لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (1) ، فالداعية بأمس الحاجة إلى خلق الصبر، إذ أن حكمة الباري جل شأنه اقتضت أن يكون لأصحاب الدعوات أعداء يمكرون بهم، ويكيدون لهم، ويتربصون بهم الدوائر، فقد كان لآدم عليه السلام إبليس، وكان لإبراهيم عليه السلام نمرود، وكان لموسى عليه السلام فرعون وكان لمحمد صلى الله عليه وسلم أبو جهل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (2) . (3) .
4 - الأمر به في الثبات على الدين والعض عليه بالنواجذ، وإن أصاب الصابر بسبب ذلك التكذيب والإيذاء والتعذيب، بل والقتل من جانب أهل الكفر والبدع والأهواء.
وقد قص لنا القرآن الكريم ما حصل لبني إسرائيل من تهديد فرعون لهم بتقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم، فما كان من الصابر موسى عليه السلام إلا أن قال لهم: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} (4)
__________
(1) سورة لقمان الآية 17
(2) سورة الفرقان الآية 31
(3) انظر: د. حمد العمار، صفات الداعية، ص 83، ط الثانية 1420 هـ 1999 م، دار إشبيليا، الرياض.
(4) سورة الأعراف الآية 128(75/140)
ولا يخفى ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من أذى وتعذيب وتنكيل من كفار قريش، ولا سيما في بداية البعثة النبوية، مما اضطر بعضهم إلى الهجرة إلى الحبشة فرارا بدينهم.
وقد كان بلال بن رباح رضي الله عنه مضرب المثل في الثبات على الدين، حيث سامه سيده أمية بن خلف سوء العذاب للتخلي عن دينه فصبر وصابر حتى أتاه الفرج من عند الله بإعتاق أبي بكر رضي الله عنه له بعد شرائه من أمية بن خلف.
ويحتاج العبد إلى الصبر على الطاعة في ثلاث حالات:
الأولى: قبل الشروع في الطاعة، وذلك بتصحيح النية والإخلاص، والصبر عن شوائب الرياء ودواعي الآفات، وعقد العزم على الوفاء بهذه الطاعة.
الثانية: الصبر حال القيام بالطاعة، وذلك بملازمة الصبر عن التقصير فيها، وملازمة استصحاب النية، وحضور القلب بين يدي المعبود.
الثالثة: الصبر بعد الفراغ من الطاعة، وذلك بالصبر عن الإتيان بما يبطلها، والصبر عن النظر إليها بعين العجب والتعظيم، والصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية.(75/141)
المبحث الثاني: الصبر عن معصية الله:
المراد بالصبر عن المعصية: الصبر عما نهى الله عنه من المحرمات والمعاصي، وقمع الشهوات، ومجاهدة النفس عن قربانها، وقهرها عن هواها، وكبح جماحها عن الوقوع في حمأة الرذائل (1) ، يقول تعالى في بيان عاقبة الصبر عن المعصية: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (2) {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (3) .
يقول ابن تيمية: يحتاج المسلم إلى أن يخاف الله، وينهى النفس عن الهوى ... ، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة لله وعملا صالحا. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله (4) » ، فيؤمر بجهادها كما يؤمر بجهاد من يأمر بالمعاصي ويدعو إليها، وهو إلى جهاد نفسه أحوج، فإن هذا فرض عين وذاك فرض كفاية، والصبر في هذا من أفضل الأعمال، فإن هذا الجهاد حقيقة ذاك الجهاد، فمن صبر عليه صبر
__________
(1) د. صالح الخزيم، الصبر، ص 25.
(2) سورة النازعات الآية 40
(3) سورة النازعات الآية 41
(4) رواه الإمام أحمد في المسند بلفظ: المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب، الحديث رقم (23958) ج 39 ص 381. وقد صحح إسناده محققو المسند، كما صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (549) ، ج 2 ص 89، ط عام 1415 هـ 1995 م، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض.(75/142)
على ذلك الجهاد، كما قال صلى الله عليه وسلم: «والمهاجر من هجر السيئات (1) » . (2) .
ويقول الغزالي في الصبر عن المعصية: ما أحوج العبد إلى الصبر عن المعاصي، وقد جمع الله تعالى أنواعها في قوله تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (3) ... ، وأشد أنواع الصبر: الصبر عن المعاصي التي صارت مألوفة بالعادة ... ، فإذا انضافت العادة إلى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشيطان على جند الله تعالى فلا يقوى باعث الدين على قمعها (إلا بالصبر) ، ثم إن كان ذلك الفعل مما تيسر فعله كان الصبر عنه أثقل على النفس (4) .
ولذا فما أعظم صبر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في امتناعهم عن شرب الخمر لما نزل تحريمها تحريما قاطعا في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (6) ، حيث قالوا: انتهينا انتهينا، وأراقوا ما
__________
(1) راجع الهامش السابق.
(2) مجموع الفتاوى، ج 10 ص 635، 636.
(3) سورة النحل الآية 90
(4) إحياء علوم الدين، ج 4 ص 67، 68، بتصرف يسير.
(5) سورة المائدة الآية 90
(6) سورة المائدة الآية 91(75/143)
لديهم من خمر في طرقات المدينة، فمع إشراب قلوبهم حبها، وأسرها لنفوسهم، وشدة هيامهم بها، مع ذلك كله انتهوا عنها بانقياد تام، وأراقوها طواعية لله واستجابة وامتثالا لأمره، وملكوا زمام النفوس التي طالما أدمنت شربها فاجتنبتها وانصرفت عنها دونما عود ورجعة (1) .
ويقول الغزالي: وتختلف شدة الصبر في آحاد المعاصي باختلاف داعية تلك المعصية في قوتها وضعفها (2) .
ويقول ابن القيم: مشقة الصبر بحسب قوة الداعي إلى الفعل وسهولته على العبد، فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمران كان الصبر عنه أشق شيء على الصابر (3) .
وعليه فمن تدبر قصة نبي الله يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز التي قصها الله في القرآن الكريم (4) ، يعلم مدى قوة صبره وتحمله، فقد كان الدافع إلى ارتكاب المعصية معها قويا، كما كانت
__________
(1) د. صالح الخزيم، الصبر، ص 26.
(2) إحياء علوم الدين، ج 4 ص 68. وانظر: ابن القيم، عدة الصابرين، ص 75، 76.
(3) عدة الصابرين، ص 74.
(4) راجع سورة يوسف، الآيات 23- 53.(75/144)
الظروف مهيئة وميسرة لذلك، من حيث إنه عليه السلام كان شابا، والشاب تتوق نفسه إلى النساء، وعزبا ليس له ما يعوضه ويرد شهوته، وغريبا والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه في بلد أهله ومعارفه، ومملوكا والمملوك أيضا ليس وازعه كوازع الحر، والمرأة جميلة وذات منصب، وهي سيدته، وقد توفر المكان الآمن وغاب الرقيب، وهي الداعية إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص، ومع ذلك توعدته إن لم يفعل بالسجن أو الصغار.
ولكنه مع هذه الدواعي كلها صبر بعدا عن المعاصي والآثام، وإيثارا لما عند الله من أجر كبير وثواب عظيم، حيث رفض بشمم واستعلى بإيمان قائلا: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (1) ، فزاده الله عزا ورفعة في دنياه وأخراه.
__________
(1) سورة يوسف الآية 23(75/145)
المبحث الثالث: الصبر على المحن والمصائب:
المراد بالصبر على المحن والمصائب: الصبر على ما يقدره الله سبحانه على عبده من كوارث مفجعة ومصائب مؤلمة، وابتلاء وامتحان مهما كانت أسبابه، ومهما تشكل وتلون، فقد يكون بفقد عزيز، أو بحلول نازلة تحزنه، وقد يكون بفادحة تجتاح ماله، أو علة(75/145)
جسدية مستعصية تعطله عن الحركة، أو فشل ذريع في محاولة خطط عليها مستقبله (1) ، ونحو ذلك من أنواع المحن والبلايا والمصائب التي تصيب البشر والتي أكد الله عز وجل وقوعها بقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} (2) .
والصبر على ذلك من أعلى مقامات الصبر، ويتأكد وقوع البلاء في حق المؤمنين الصادقين، وعلى قدر الإيمان واليقين يكون الابتلاء، ولذا فإن الأنبياء - صفوة البشر - هم أشد الخلق ابتلاء في دار الابتلاء، كما ورد في حديث مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنهما أنه قال: «قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة (3) » .
فالصبر على المحن والمصائب يكفر الله به الخطايا، ويمحو به
__________
(1) انظر: د. صالح الخزيم، الصبر، ص 27.
(2) سورة البقرة الآية 155
(3) سنن الترمذي الزهد (2398) ، سنن ابن ماجه الفتن (4023) ، مسند أحمد (1/185) ، سنن الدارمي الرقاق (2783) .(75/146)
السيئات، ويؤكد ذلك ما روي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه (3) » ، وما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يصب منه (4) » . (5) ، وجاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يصيبه أذى إلا حات الله عنه خطاياه كما تحات ورق الشجر (6) » .
يقول ابن حجر: وفي هذه الأحاديث بشارة عظيمة لكل
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (المرضى) ، الباب (1) ، الحديث رقم 5641، ج 10 ص 103.
(2) النصب: التعب. (1)
(3) الوصب: المرض، وقيل: المرض اللازم، كما جاء في فتح الباري، لابن حجر، ج 10 ص 106. (2)
(4) أي: يبتليه بالمصائب ليثيبه عليها إذا صبر واحتسب. انظر: ابن حجر، فتح الباري، ج 10 ص 108.
(5) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (المرضى) ، الباب (1) ، الحديث رقم 5645، ج 10 ص 103.
(6) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (المرضى) ، الباب (2) ، الحديث رقم 5647، ج 10 ص 103.(75/147)
مؤمن، لأن الآدمي لا ينفك غالبا من ألم بسبب مرض أو هم أو نحو ذلك مما ذكر، وأن الأمراض والأوجاع والآلام - بدنية كانت أو قلبية - تكفر ذنوب من تقع له (1) ، فالمؤمن ممتحن في دنياه مبتلى فيها بما يطهره من الذنوب والآثام، ويمحصه من الخطايا، وينقيه من أدران المعاصي وأوضار السيئات (2) ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له (3) » .
كما أن الصبر على أنواع المحن والمصائب يورث الجنة، وقد ورد ذلك في العديد من النصوص الشرعية منها:
أ- في الابتلاء بالصرع: فقد روي عن عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه أنه قال: قال لي ابن عباس: «ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي، قال: " إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك "
__________
(1) فتح الباري، ج 10 ص 108.
(2) د. صالح الخزيم، الصبر، ص 34.
(3) رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب (الزهد) ، باب (في أحاديث متفرقة) ، ج 18 ص 125.(75/148)
فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا لها (1) » ، وفي الحديث فضل من يصرع، وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة (2) .
ب- في الابتلاء بفقد البصر: فقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله قال: (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة (4) » (5) .
ج- في الابتلاء بفقد الأصفياء والأولاد: فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة (6) » .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (المرضى) ، الباب (6) ، الحديث، رقم 5652، ج 10 ص 114.
(2) ابن حجر، فتح الباري، ج 10 ص 115.
(3) صحيح البخاري المرضى (5653) ، سنن الترمذي الزهد (2400) ، مسند أحمد (3/283) .
(4) أي: عينيه. (3)
(5) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (المرضى) ، الباب (7) ، الحديث رقم 5653، ج 10 ص 116.
(6) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (الرقاق) ، الباب (6) ، الحديث رقم 6424، ج 11 ص 241، 242.(75/149)
الله عليه وسلم: «ما من الناس مسلم يتوفى له ثلاث لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم (2) » .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن النساء قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا يوما، فوعظهن وقال: " أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كانوا لها حجابا من النار، قالت امرأة: واثنان؟ قال: واثنان (3) » .
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد (4) » .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (الجنائز) ، الباب (6) ، الحديث رقم 1248، ج 3 ص 118.
(2) أي لم يبلغوا الحلم فتكتب عليهم الآثام. (1)
(3) رواه البخاري في صحيحه في الموضع السابق برقم 1249. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب (البر والصلة والآداب) ، باب (فضل من يموت له ولد فيحتسبه) ، ج 16 ص 181.
(4) أخرجه الترمذي في سننه في كتاب (الجنائز) ، باب (فضل المصيبة إذا احتسب) ، الحديث رقم 1022، ج 3 ص 341، وقال: حديث حسن غريب.(75/150)
وقد سطر أنبياء الله ورسله أروع الأمثلة في الصبر على البلاء، فهذا نبي الله أيوب عليه السلام كان له من الدواب والأنعام والحرث الشيء الكثير، كما كان له أولاد كثيرون ومنازل مرضية، فابتلي في ذلك كله وذهب عن آخره، ثم ابتلي بمرض عم سائر بدنه، ولم يبق منه شيء سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما الله عز وجل، حتى عافه الجليس وأفرد في ناحية من البلد، ولم يبق من يرق له ويحنو عليه سوى زوجته التي كانت تقوم بأمره، وإذا اشتدت بها الحاجة خدمت الناس من أجله. واستمر به هذا البلاء سبع سنين، فلم يضق صدره عليه السلام ولم يتململ من الضر، ولم يزد في دعاء ربه عن وصف حاله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} (1) ووصف ربه بصفته: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (2) ، ثم لا يدعو بتغير حاله صبرا على بلائه، بل إنه ليتحرج أن يطلب إلى ربه رفع البلاء عنه، فيدع الأمر كله للعليم الخبير، اطمئنانا على علمه بالحال، وثقة باستجابته في كشف ضره، فاستجاب الله له النداء، فكانت الرحمة وكانت نهاية الابتلاء، حيث رفع الله عنه الضر في بدنه فإذا هو معافى صحيح، قد زال عنه ما مسه وأهمه، ورفع عنه الضر في أهله فعوضه الله عمن فقد منهم ورزقه مثلهم. يقول عز وجل:
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 83
(2) سورة الأنبياء الآية 83(75/151)
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (1) {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (2) .
وهذا نبي الله يعقوب عليه السلام امتحن أولا - على كبر سنه ورقة عظمه - بفقد مهجة فؤاده وأحب أبنائه إليه يوسف عليه السلام، إذ كاد له إخوته وطرحوه في الجب، وجاءوا إلى أبيهم بدم كذب كدليل مقنع بأن الذئب أكله. ولم يكن الفراق بين يعقوب وابنه كأي فراق آخر بين حبيبين يعرف كلاهما أين يقيم صاحبه، ويرجو أن ينتهي الفراق يوما ما بلقاء قريب، وإنما كان فراقا بعد مؤامرة انتهى إلى انقطاع كلي بين الابن وأبيه، كما لم تكن هذه المؤامرة من غرباء موتورين، وإنما كانت كيدا من إخوة لأخيهم، وكذبا من أبناء على أبيهم، علمه الوالد الحنون في قراره نفسه، فقال صابرا محتسبا: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (3) .
ثم امتحن ثانيا بفقد ابنه الآخر، الشقيق الأصغر ليوسف وهو بنيامين، فقال كما قال في المرة الأولى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (4) ،
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 83
(2) سورة الأنبياء الآية 84
(3) سورة يوسف الآية 18
(4) سورة يوسف الآية 18(75/152)
ورجا ربه بلسان صادق وقلب ينتظر فرج الله ولطفه وعونه: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (1) . واشتد به الحزن وأخذ منه الأسى كل مأخذ، فقد هاج فقد ولده الثاني - بنيامين - ذكرى فقد ولده الأول - يوسف - والأسى يبعث الأسى.
ثم امتحن ثالثا بفقد بصره، حيث ابيضت عيناه من شدة الحزن، فهو كئيب حزين ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق، مما حدا بأبنائه إلى الشفقة عليه، فقالوا: - رفقا به - لا تكاد تفارق ذكر يوسف حتى تضعف قواك أو تهلك، فقال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وحده، فهو الذي يكشف الضر ويجيب دعاء المضطر، وإليه المشتكى وبيده إجابة الدعاء (2) . وفي هذا يقول عز وجل: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (3) {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} (4) {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (5) .
__________
(1) سورة يوسف الآية 83
(2) انظر: د. يوسف القرضاوي، الصبر في القرآن، ص 68، ود. صالح الخزيم، الصبر، ص 58- 61.
(3) سورة يوسف الآية 84
(4) سورة يوسف الآية 85
(5) سورة يوسف الآية 86(75/153)
وانتهى به الحال بعد سنين من الصبر والتحمل إلى كشف الضر عنه، حيث رد الله إليه بصره، وجمعه بابنيه المفقودين، واستقر به المقام مع أهله بمصر آمنين من الجهد والقحط (1) .
وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ابتلي بأنواع البلايا والمحن، فقد ابتلي بوفاة عمه أبي طالب الذي كان يسانده ويحميه وينافح عنه، كما كان بمثابة الحصن الحصين الذي تحتمي به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء. وبعد وفاة عمه بشهرين أو ثلاثة ابتلي بوفاة زوجته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها التي عاشت معه ربع قرن تحن عليه وتسري عنه وتخفف آلامه وتؤازره في أحرج أوقاته وتواسيه بنفسها ومالها.
وابتلي صلى الله عليه وسلم بوفاة جميع أولاده في حياته ما عدا ابنته فاطمة رضي الله عنها، كما ابتلي بمقتل سبعين من أصحابه في غزوة أحد، وكان من بينهم عمه وحبيبه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، هذا بالإضافة إلى ما لحقه من صنوف الأذى من كفار
__________
(1) راجع الآيات 87- 100 من سورة يوسف.(75/154)
قريش، من تكذيبه، وتأنيبه، وسبه، والاستهزاء به، وتخويفه، ورميه بالجنون، وإلقاء القاذورات عليه وهو يصلي وعلى باب منزله، ومطاردته، ومحاولة قتله ... ونحو ذلك. فصبر على ذلك كله صبر المؤمن بربه الواثق بنصره المتوكل عليه والراضي بقضائه، فمن الله عليه بالنصر والتمكين وإعزاز الدين، وإظهاره على كل دين، وقمع الجاحدين والكفرة والمشركين.(75/155)
الفصل الثاني: آداب الصبر
عند حلول البلاء بالعبد يتبين قوي الإيمان واليقين من غيره، فالعبد الموقن بالله والمؤمن به إيمانا قويا جازما يلتجئ إلى الله تعالى إذا نزل به البلاء، ويلتزم بآداب الصبر التي جاءت الشريعة الإسلامية بالأمر بها والحث عليها، أو جاءت بالنهي عن ضدها.
وهذه الآداب منها آداب ظاهرة جلية تظهر على اللسان والجوارح، ومنها آداب خفية قلبية. وسأخصص في هذا الفصل - إن شاء الله - لكل نوع منهما مبحثا مستقلا، أتناول فيه هذه الآداب بشيء من البيان والتفصيل؛ من خلال ما ورد بشأنها من نصوص شرعية وأقوال مأثورة لعلماء الأمة وأئمتها، وذلك على النحو التالي:(75/155)
المبحث الأول: آداب الصبر الظاهرة:
تتمثل أبرز آداب الصبر الظاهرة فيما يلي:
1 - الصبر عند أول حلول البلاء أو المصيبة بالعبد:
فقد دلت النصوص الشرعية أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك فإنه على الأيام يسلو (1) ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى (2) » .
يقول ابن ناصر الدين الدمشقي في تعليقه على هذا الحديث: معناه أن كل ذي مصيبة آخر أمره الصبر، ولكنه إنما يحمد عند حدتها وفور شدتها، لأن مصير ذي الجزع إلى السلوان، ولو أقام على قبر ميته مدة زمان (3) .
__________
(1) ابن حجر، فتح الباري، ج 3 ص 150.
(2) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (الجنائز) ، الباب (31) ، الحديث رقم 1283، ج 13 ص 148. رواه مسلم في صحيحه في كتاب (الجنائز) ، باب (الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى) ، ج 6 ص 227.
(3) برد الأكباد عند فقد الأولاد، ص 13، 14، ط مطبعة المدني، القاهرة.(75/156)
ويقول ابن القيم: إذا كان آخر الأمر الصبر، والعبد غير محمود، فما أحسن به أن يستقبل الأمر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره. وقد قال بعض العقلاء: من لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال للأشعث بن قيس: إنك إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور، وقد ذكر ذلك أبو تمام في شعره فقال:
وقال علي في التعازي لأشعث ... وخاف عليه بعض تلك المآثم
أتصبر للبلوى عزاء وخشية ... فتؤجر أو تسلو سلو البهائم؟ (1)
__________
(1) الماوردى، أدب الدنيا والدين، ص 278.(75/157)
2 - الاسترجاع:
الاسترجاع: هو قول المصاب إنا لله وإنا إليه راجعون، كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (1) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (2) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (3) . فقد جعل عز وجل كلمات الاسترجاع
__________
(1) سورة البقرة الآية 155
(2) سورة البقرة الآية 156
(3) سورة البقرة الآية 157(75/157)
هذه الجامعة لمعاني الخير ملجأ وملاذا لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين من الشيطان لئلا يتسلط عليهم فيوسوس لهم بالأفكار الرديئة، فيهيج ما سكن، ويظهر ما كمن. فإن قوله (إنا لله) : إقرار بالعبودية والملك لله، ولله المالك أن يفعل في ملكه ما يشاء، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لإحدى بناته معزيا: «إن لله ما أخذ وله ما أعطى (1) » . وقوله {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (2) : إقرار بأن الله يميتنا ثم يبعثنا، فله الحكم في الأولى وله المرجع في الأخرى، واعتراف بأن المصابين لا بد أن يرجعوا إلى الله فيجازيهم على سخطهم إن سخطوا، وعلى صبرهم إن صبروا (3) .
وقد تضمنت الآيات الكريمات الآنف ذكرها فوائد عدة منها: أن الصابرين حقا هم المسترجعون، فمن لوازم الصبر الاسترجاع.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد يحصل بالصبر والاسترجاع منزلة عالية في الجنة، كما تقدم معنا في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟
__________
(1) رواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب (الجنائز) ، الباب (32) ، الحديث رقم 1284، ج 3 ص 151. رواه مسلم في صحيحه في كتاب (الجنائز) ، باب (البكاء على الميت) ، ج 6 ص 224.
(2) سورة البقرة الآية 156
(3) راجع: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، ج 2 ص 119.(75/158)
فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد (1) » .
ومن ثمرات الاسترجاع بالإضافة إلى ما تقدم: نيل الأجر والثواب من عند الله، وإخلاف الله للمبتلى أو المصاب خيرا مما ابتلى به، فعن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها " قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) » .
يقول ابن القيم معلقا على الحديث: فانظر عاقبة الصبر والاسترجاع ومتابعة الرسول والرضا عن الله إلى ما آلت إليه، وأنالت أم سلمة نكاح أكرم الخلق على الله (3) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه في كتاب (الجنائز) ، باب (فضل المصيبة إذا احتسب) ، الحديث رقم 1022، ج 3 ص 341، وقال: حديث حسن غريب.
(2) رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب (الجنائز) ، باب (ما يقال عند المصيبة) ، ج 6 ص 220.
(3) عدة الصابرين، ص 85.(75/159)
3 - سكون اللسان:
ويكون سكون اللسان بأمور عدة، منها:
أ- كف اللسان عن الشكوى، فهو من لوازم الصبر، ولذا قيل في تعريف الصبر إنه: الغنى في البلوى بلا ظهور شكوى (1) وقيل أيضا: الصبر ترك الشكوى (2) .
والمقصود هنا اجتناب الشكوى إلى المخلوقين، فهي مما يضاد الصبر وينافيه ويبطله، وإذا شكى العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكى من يرحمه إلى من لا يرحمه.
يقول الشاعر:
وإذا عرتك بلية فاصبر لها ... صبر الكريم فإنه بك أعلم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم (3)
إلا أنه لا يقدح في الصبر - كما يقول العلماء - إخبار المخلوق بالحال للاستعانة بإرشاده أو معاونته للتوصل إلى زوال ضرره، كإخبار المريض الطبيب بشكايته، وإخبار المظلوم من ينتصر له بحاله، وإخبار المبتلى من كان يرجو أن يكون فرج الله على يديه ببلائه.
__________
(1) المرجع السابق، ص 15.
(2) المرجع السابق، ص 16.
(3) ابن القيم، مدارج السالكين، ج 2 ص 123.(75/160)
وأما الشكوى إلى الله فلا تنافي الصبر، ولذا قال يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (1) ، مع قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (2) ، وقال أيوب عليه السلام شاكيا إلى ربه: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} (3) مع وصف الله له بالصبر (4) .
ب- كف اللسان عن ندب الميت، أو النياحة عليه.
والندب: تعداد محاسن الميت وما يلقاه المصاب بفقده بلفظ النداء كقولهم: وا رجلاه، وا جبلاه، وانقطاع ظهراه، وأشباه هذا.
وأما النياحة: فهي رفع الصوت بالندب على الميت وتعداد فضائله، كقول النائحة: وا عضداه، وا ناصراه، ونحو ذلك.
وهذان الأمران محرمان شرعا، لأن فيهما تظلما واستغاثة
__________
(1) سورة يوسف الآية 86
(2) سورة يوسف الآية 83
(3) سورة الأنبياء الآية 83
(4) انظر: عدة الصابرين، ص 17.(75/161)
وتسخطا من قضاء الله وقدره، وذلك ينافي الصبر ويبطله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت (1) » ، يقول ابن القيم: وأما الندب والنياحة فنص أحمد على تحريمهما. قال في رواية حنبل: النياحة معصية، وقال أصحاب الشافعي وغيرهم: النوح حرام، وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن النياحة لا تجوز للرجال ولا للنساء.
وأما الكلمة اليسيرة إذا كانت صدقا لا على وجه النوح والتسخط فلا تحرم ولا تنافي الصبر الواجب، نص عليه الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فوضع فمه بين عينيه، ووضع يده على صدغيه وقال: " وا نبياه وا خليلاه وا صفياه) "، صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب (إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة) ، ج 2 ص 57.(75/162)
وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه قال: «لما ثقل على النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب، فقالت: فاطمة: واكرب أبتاه، فقال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل أنعاه (1) » . (2) .
ج- كف اللسان عن الصراخ والعويل، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة (3) » .
والصالقة: هي التي ترفع صوتها عند وقوع المصيبة.
د- كف اللسان عن الدعاء على النفس أو على الولد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة
__________
(1) صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب (المغازي) ، الباب (83) ، الحديث رقم 4462، ج 8 ص 149.
(2) ابن القيم، عدة الصابرين، ص 113. وانظر: محمد المنبجي، تسلية أهل المصائب، ص 83.
(3) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (الجنائز) ، الباب (37) ، الحديث رقم 1296، ج 3 ص 165. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب (الإيمان) ، باب (تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية) ، ج 2 ص 110.(75/163)
يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم (1) » .
__________
(1) رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب (الزهد) ، باب (حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر) ، ج 18 ص 139.(75/164)
4 - سكون الجوارح:
ويكون سكون الجوارح باجتناب كل فعل أو سلوك يظهر على الجوارح مما ينافي الصبر ويشتمل على الجزع والتسخط، كلطم الخدود، وشق الثياب والجيوب، وتسويد الوجه أو خمشه، ونتف الشعر أو حلقه، وتغيير العادة في الملبس والمفرش والمطعم، ونحو ذلك. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية (1) » . وتقدم معنا - آنفا - أن النبي صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة، والحالقة، والشاقة. والحالقة: هي التي تحلق شعرها عند وقوع المصيبة، والشاقة، هي التي تشق ثوبها عند وقوع المصيبة.
ويجوز البكاء على الميت حزنا على فراقه إذا كان على سبيل الرحمة به ولم يصاحبه ندب ولا نياحة، فلا يخرج المصاب عن
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (الجنائز) ، الباب (35) ، الحديث رقم 1294، ج 3 ص 163. كما رواه في كتاب (المناقب) ، الباب (8) ، الحديث رقم 2519، ج 6 ص 546. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب (الإيمان) ، باب (تحريم ضرب الخدود) ، ج 2 ص 109.(75/164)
حد الصابرين ولا عن مقام الرضا بالقدر توجع القلب ولا فيضان العين بالدمع، فإن ذلك مقتضى ما أودعه الله عز وجل في الإنسان من شفقة ورحمة. ولذا «ذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاة ابنه إبراهيم، ولما قال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه - متعجبا -: وأنت يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: يا ابن عوف إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى، فقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرض ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون (1) » . وكذلك «لما رفع إليه صلى الله عليه وسلم ابن إحدى بناته ونفسه تقعقع كأنها في شنة (3) » .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (الجنائز) ، الباب (43) ، الحديث رقم 1303 ج 3 ص 172، 173. وروى مسلم نحوه من حديث أنس بن مالك في كتاب (الفضائل) ، باب (رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال وتواضعه) ج 15 ص 74.
(2) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (الجنائز) ، الباب (32) ، الحديث رقم 1284، ج 3 ص 151. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الجنائز، باب (البكاء على الميت) ، ج 6 ص 224، 225.
(3) (2) فاضت عيناه صلى الله عليه وسلم، ولما قال له سعد بن عبادة رضي الله عنهما - متعجبا -: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء(75/165)
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب، حيث يقول ما نصه: لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب، وذلك لا ينافي الرضا، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه، وبهذا يعرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما بكى على الميت وقال: «إن هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء (1) » ، فإن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظه لا لرحمة الميت، فإن الفضيل بن عياض لما مات ابنه علي فضحك وقال: (رأيت أن الله قد قضى فأحببت أن أرضى بما قضى الله به) حاله حال حسن بالنسبة إلى أهل الجزع. وأما رحمة الميت مع الرضا بالقضاء وحمد الله تعالى كحال النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أكمل، كما قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (2) ، فذكر سبحانه التواصي بالصبر والمرحمة (3) .
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7448) ، صحيح مسلم الجنائز (923) ، سنن النسائي الجنائز (1868) ، سنن أبي داود الجنائز (3125) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1588) ، مسند أحمد (5/207) .
(2) سورة البلد الآية 17
(3) مجموع الفتاوى، ج 10 ص 47.(75/166)
5 - عدم إظهار أثر المصيبة:
ويكون ذلك باجتناب إظهار المصاب أثر المصيبة عليه، واجتناب تغيير الحال أو تعطيل المعاش، ونحو ذلك لما فيه من إظهار(75/166)
الجزع المنافي للصبر.
يقول ابن قدامة: من حسن الصبر أن لا يظهر أثر المصيبة على المصاب (1) .
ويقول ابن القيم: مما يقدح في الصبر إظهار المصيبة والتحدث بها، وكتمانها رأس الصبر (2) . ويقول البهوتي: وكره لمصاب تغيير حاله وتعطيل معاشه (3) .
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: من إجلال الله ومعرفة حقه ألا تشكو وجعك ولا تذكر مصيبتك (4) . وروى الإمام أحمد عن الأحنف بن قيس أنه شكا إليه ابن أخيه وجعا في ضرسه، فقال الأحنف: لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة ما ذكرتها لأحد (5) .
وروي أنه مات ابن لأحد قضاة البصرة، فاجتمع إليه العلماء والفقهاء فتذاكروا ما يتبين به جزع الرجل من صبره، فأجمعوا أنه إذا ترك شيئا مما كان يصنعه فقد جزع (6) .
__________
(1) مختصر منهاج القاصدين، ص 299.
(2) عدة الصابرين، ص 274.
(3) الروض المربع، ج 1 ص 357.
(4) ابن قدامة، مختصر منهاج القاصدين، ص 300.
(5) الزهد، ص 288.
(6) ابن القيم، عدة الصابرين، ص 273.(75/167)
ولعل أبرز ما يذكر في الالتزام بهذا الأدب: أم سليم رضي الله عنها زوجة أبي طلحة رضي الله عنه عندما توفي ولدها منه، وأبوه غائب، فتجلدت وصبرت صبرا جميلا، حيث هيأت ابنها للدفن ونحته في جانب المنزل، ولما قدم أبو طلحة جهزت له أكله، وتزينت له حتى أصاب منها حاجته، ولما سأل عن الصبي أخفت عنه موته، وأوهمته بأنه سكنت نفسه بالنوم لوجود العافية، وذلك حرصا منها على عدم إزعاج زوجها بموت ابنه ليبيت مستريحا بلا حزن. ولما أصبح أخبرته بموته فحمد الله واسترجع، وغدا على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فدعا لهما بأن يبارك لهما في ليلتهما.
يقول سفيان بن عيينة: قال رجل من الأنصار: رأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن.(75/168)
6 - اجتناب إقامة المآتم:
يقول الطرطوشي: وأما المآتم فممنوعة بإجماع العلماء (1) وقد روى الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه
__________
(1) كتاب الحوادث والبدع، ص 137.(75/168)
قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة، يعني أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعدون الاجتماع عند أهل الميت بعد دفنه وأكل الطعام عندهم نوعا من النياحة، لما في ذلك من التثقيل عليهم وشغلهم مع ما هم فيه من اشتغال الخاطر بموت الميت، وما فيه من مخالفة السنة، لأنهم مأمورون بأن يصنعوا لأهل الميت طعاما، فخالفوا ذلك وكلفوهم صنعة الطعام لغيرهم، واتفق الأئمة الأربعة على كراهة صنع أهل الميت طعاما للناس يجتمعون عليه مستدلين بحديث جرير بن عبد الله المذكور.
وأما إعداد الطعام لأهل الميت وبعثه إليهم فمستحب. يقول ابن قدامة: يستحب إصلاح طعام لأهل الميت يبعث به إليهم، إعانة لهم، وجبرا لقلوبهم، فإنهم ربما اشتغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم عن إصلاح طعام لأنفسهم، وقد روى أبو داود في سننه بإسناده عن عبد الله بن جعفر أنه قال: لما جاء نعي جعفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا لآل جعفر طعاما، فإنه قد أتاهم أمر(75/169)
يشغلهم (1) » . (2) .
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب (صنعة الطعام لأهل الميت) ، الحديث رقم 3132، ج 3 ص 195، ط دار إحياء السنة النبوية، القاهرة. ورواه ابن ماجه في سننه في كتاب الجنائز، الباب (59) ، الحديث رقم 1610، ص 282، ط مكتبة المعارف للنشر، الرياض. كما رواه الترمذي في سننه في كتاب الجنائز، الباب (21) ، الحديث رقم 999، ج 3 ص 323، ط عام 1415 هـ 1995 م، دار إحياء التراث العربي، بيروت، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) المغني، ج 3 ص 496.(75/170)
7 - اشتغال المصاب بما هو أصلح له:
كالتوبة من الذنوب، ورد الودائع، وسداد الديون، وإخراج الزكاة، ورد المظالم لأهلها، والتصدق، وكتابة الوصية، والازدياد من الطاعات والعبادات، ونحو ذلك من أعمال الخير.
يقول ابن الجوزي: رأيت جمهور الناس إذا طرقهم المرض أو غيره من المصائب اشتغلوا تارة بالجزع والشكوى، وتارة بالتداوي إلى أن يشتد عليهم، فيشغلهم اشتداده عن الالتفات إلى الصالح من وصية، أو فعل خير، أو تأهب للموت، فكم ممن له ذنوب لا يتوب منها، أو عنده ودائع لا يردها، أو عليه دين أو زكاة، أو في ذمته ظلامة لا يخطر لها تداركها، وإنما حزنه على فراق الدنيا، إذ لا هم له سواها (1) .
__________
(1) محمد المنبجي، تسلية أهل المصائب، ص 32.(75/170)
8 - البقاء في البلدة التي يصيبها وباء:
تدل الأحاديث الصحيحة أن من آداب الصبر أيضا ولوازمه بقاء المسلم في البلد الذي يصيبه وباء وهو مقيم فيه، حيث روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فقال: «كان عذابا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للعالمين، ما من عبد يكون في بلد يكون فيه ويمكث فيه لا يخرج من البلد صابرا محتسبا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد (1) » .
كما روى البخاري أيضا عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه (3) » .
__________
(1) صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب القدر، الباب (15) ، الحديث رقم 6619، ج 11 ص 514. وكتاب (الطب) ، الباب (31) ، الحديث رقم 5734، ج 10 ص 192.
(2) صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب الطب، الباب (31) ، الحديث رقم 5730، ج 10 ص 179.
(3) يعني الطاعون. (2)(75/171)
المبحث الثاني: آداب الصبر الحفية:
تتمثل أبرز آداب الصبر الخفية فيما يلي:(75/171)
1 - الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره:
وذلك بألا يكون في قلبه شيء من الجزع على ما قضاه الله وقدره عليه، وألا ييأس على ما فاته، ولا يفرح بما جاءه، ويوقن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (1) {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (2) ، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (3) .
قال علقمة لما سئل عن هذه الآية: هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيرضى لها ويسلم (4) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط (5) » .
__________
(1) سورة الحديد الآية 22
(2) سورة الحديد الآية 23
(3) سورة التغابن الآية 11
(4) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج 4 ص 400، 451. والمنبجي، تسلية أهل المصائب، ص 209.
(5) رواه الترمذي في سننه في كتاب الزهد، باب (ما جاء في الصبر على البلاء) ، الحديث رقم 2401، ج 4 ص 601، وقال: حديث حسن غريب. ورواه ابن ماجه في سننه في كتاب الفتن، باب (الصبر على البلاء) ، الحديث رقم 4531، ص 666، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 46 / 1، ج 1 ص 276.(75/172)
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ما أبالي بالعسر رميت أو باليسر، لأن حق الله تعالى في العسر الرضا والصبر، وفي اليسر الحمد والشكر (1) .
وعن سفيان الثوري أنه قال في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} (2) : المطمئنين الراضين بقضائه المستسلمين له (3) . ويقول ذو النون المصري: ثلاثة من أعمال التسليم: مقابلة القضاء بالرضى، والصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء (4) .
__________
(1) التنوخي، كتاب الفرج بعد الشدة، ج 1 ص 177.
(2) سورة الحج الآية 34
(3) المنبجي، تسلية أهل المصائب، ص 210.
(4) ابن القيم، مدارج السالكين، ج 2 ص 169.(75/173)
2 - الاستعانة بالله والتوكل عليه:
وذلك بأن يستعين المبتلى بالله في محنته، ويتكل عليه في مصيبته، ويطلب عونه على بلواه، ويستبق ثقته برحمته وقدرته على كشف ضره، ويأمل في عوضه وحسن جزائه، فعلى حسب ملاحظته والوثوق به ومطالعته يخف حمل البلاء، لشهود العوض، كما يخف على كل متحمل مشقة عظيمة حملها، لما يلاحظه من لذة عاقبتها،(75/173)
وظفره بها (1) .
ومن لوازم الاستعانة بالله والتوكل عليه ألا يفقد المبتلى ثقته في عون الله له مهما اشتد الخطب وعظم البلاء، وألا يقنط من رحمته سبحانه، فإن فعل فما ذلك بمبدل ما به من بلاء، بل سيفقد به كل نافذة مضيئة، وكل رجاء في الفرج، وسيستبد به الضيق، فيزداد بلاء على بلائه وكربا على كربه، يقول تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} (2) .
__________
(1) المرجع السابق، ج 2 ص 127.
(2) سورة الحج الآية 15(75/174)
3 - حسن الظن بالله:
وذلك بأن يعلم المبتلى أن الذي ابتلاه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه، ولا ليعذبه به، وإنما ليمتحن إيمانه وصبره ورضاه، وليسمع تضرعه وابتهاله، وليراه طريحا ببابه، لائذا بجنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعا الشكوى إليه (1) . يقول عبد القادر الجيلاني: يا بني إن المصيبة ما
__________
(1) انظر: محمد المنبجي، تسلية أهل المصائب، ص 225.(75/174)
جاءت لتهلكك، وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: أنا عند حسن ظن عبدي بي (1) » . وسئل القاسم بن محمد عن الجزع، فقال: القول السيئ، والظن السيئ (2) .
ومن حسن الظن بالله أن يوقن المبتلى بأن ما أصابه من بلاء هو خير له، وإن ظهر له في صورة الشر، فإن الله عز وجل لا يقضي لعباده إلا خيرا، علمه من علمه، وجهله من جهله، فما يقضيه الله من المنع لعبده المؤمن، عطاء وإن كان في صورة المنع، ونعمة وإن كان في صورة محنة، وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بلية، ولكن لجهل العبد وظلمه وقصر نظره لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل، وتمتع به في القريب، وكان ملائما لطبعه خاليا من الأذى، وما علم أن فيما أصابه من بلاء شحذا لقواه، وعلوا لهمته، وتكفيرا لسيئاته، ورفعا لدرجاته، ومضاعفة لحسناته (3) .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد، الباب (15) ، الحديث رقم 7405، ج 13 ص 384. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب (الذكر والدعاء) ، باب (الحث على ذكر الله) ، ج 17 ص 2، وص 11، 12.
(2) ابن القيم، عدة الصابرين، ص 273.
(3) انظر: ابن القيم، مدارج السالكين، ج 2 ص 162، 163.(75/175)
4 - الإخلاص لله:
وذلك بأن يجعل المبتلى الغاية من صبره: ابتغاء وجه الله ومرضاته، والقرب منه ونيل ثوابه. وألا يشرك مع هذه الغاية أية غاية أخرى من الغايات الدنيوية، كالفخر بالتجلد وقوة التحمل، ونيل مدح الناس وثنائهم. يقول عز وجل في معرض بيانه لصفات أولي الألباب الذين وعدهم سبحانه بعقبى الدار: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} (1) ، يقول ابن سعدي رحمه الله: أي لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة، فإن هذا هو الصبر النافع الذي يحبس به العبد نفسه طلبا لمرضاة ربه، ورجاء للقرب منه، والحظوة بثوابه، وهو الصبر الذي من خصائص الإيمان. وأما الصبر المشترك الذي غايته التجلد، ومنتهاه الفخر، فهذا يصدر من البر والفاجر، والمؤمن والكافر، فليس هو الممدوح على الحقيقة (2) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (3) » .
__________
(1) سورة الرعد الآية 22
(2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 417.
(3) رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الزهد، باب (تحريم الرياء) ، ج 18 ص 115.(75/176)
5 - عدم تمني الموت:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي (1) » .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب (المرضى) ، الباب (19) ، الحديث رقم 5671، ج 10 ص 127.(75/177)
الفصل الثالث: فضائل الصبر
الصبر خصلة محمودة، وسجية مرغوبة، وخلق فريد، جميل العواقب، حميد الآثار، جم الفوائد، وكريم العوائد (1) ، وهو قوة نفسية وخلقية إيجابية فاعلة، تدفع المتحلي بها إلى مقاومة كل أسباب الخور والضعف والاستكانة، وتحمله على الصمود على طاعة الله، والثبات أمام الفتن والمغريات، والمحن والمكاره، إلى أن يلقى الله وهو عنه راض. وهو أيضا قوة تحمل واختبار عزيمة، وسلاح نجاح المؤمن وفلاحه في الدنيا والآخرة.
وللصبر فضائل كثيرة وعظيمة ورد ذكرها في مواضع متفرقة من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذا في العديد من الآثار الواردة عن سلف الأمة وعلمائها رضي الله
__________
(1) د. صالح الخزيم، الصبر، ص 14.(75/177)
عنهم ورحمهم.
وسأبين هذه الفضائل - إن شاء الله - في ثلاثة مباحث.
أتناول في الأول منها: فضائل الصبر في القرآن الكريم.
وأتناول في الثاني: فضائل الصبر في السنة النبوية.
وأتناول في الثالث: فضائل الصبر في الآثار الواردة عن سلف الأمة وعلمائها.
وذلك على النحو التالي:
المبحث الأول: فضائل الصبر في القرآن الكريم
ذكر الله عز وجل الصبر وأشاد به في مواضع كثيرة في كتابه الكريم، يقول الإمام أحمد رحمه الله: ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعا.
والمتتبع للمواضع التي ذكر فيها الصبر والصابرون في القرآن الكريم يتضح له بجلاء لا يقبل الشك أن الصبر مقام من أرفع مقامات الدين، وخلق من أعظم أخلاق المؤمنين، ومنزلة من أجل منازل الصالحين، وشعبة من أبرز شعب الإيمان، وعروة من أوثق عرى الإسلام، حتى أن القرآن جعله مفتاح كل خير، وباب كل سعادة في الدنيا والآخرة (1) .
__________
(1) د. يوسف القرضاوي، الصبر في القرآن، ص 53.(75/178)
ولعل من أبرز فضائل الصبر في هذه المواضع الكثيرة في كتاب الله ما يلي:
1 - أن الله عز وجل قرن الصبر بأركان الإسلام وقيمه، ومقامات الإيمان:
أ- فقرنه سبحانه بالصلاة، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (1) .
ب- وقرنه بالجهاد، فقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} (2) .
وقال: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) .
ج- وقرنه بعمل الصالحات عموما، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 153
(2) سورة محمد الآية 31
(3) سورة النحل الآية 110
(4) سورة هود الآية 11(75/179)
د- وقرنه باليقين، فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (1) .
هـ- وقرنه بالحق، فقال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (2) .
ووقرنه بالصدق، فقال: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} (3) .
ز- وقرنه بالتقوى، فقال: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (4) .
ح- وقرنه بالتوكل، فقال: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (5) {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (6) .
ط- وقرنه بالشكر، فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (7) .
2 - أنه سبحانه أخبر بمعيته للصابرين في آيات عدة:
منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (8) ، يقول ابن سعدي:
__________
(1) سورة السجدة الآية 24
(2) سورة العصر الآية 3
(3) سورة الأحزاب الآية 35
(4) سورة يوسف الآية 90
(5) سورة العنكبوت الآية 58
(6) سورة العنكبوت الآية 59
(7) سورة إبراهيم الآية 5
(8) سورة البقرة الآية 153(75/180)
أي: مع من كان الصبر لهم خلقا وصفة وملكة بمعونته وتوفيقه وتسديده، فهانت عليهم بذلك المشاق والمكاره، وسهل عليهم كل عظيم، وزالت عنهم كل صعوبة، وهذه معية خاصة تقتضي محبته ومعونته ونصره وقربه، وهذه منقبة عظيمة للصابرين، فلو لم يكن لهم فضيلة إلا أنهم فازوا بهذه المعية من الله لكفى بها فضلا وشرفا (1) .
3 - أنه سبحانه أخبر بظفرهم بمحبته:
فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (2) .
4 - أنه سبحانه أطلق البشرى لهم بأن جمع لهم ثلاثة لم يجمعها لغيرهم:
وهي: الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم، وذلك في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (3) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (4) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (5) .
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن، ص 75.
(2) سورة آل عمران الآية 146
(3) سورة البقرة الآية 155
(4) سورة البقرة الآية 156
(5) سورة البقرة الآية 157(75/181)
5 - أنه سبحانه أوجب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم، وتوفيتهم أجورهم بغير حساب:
فقال: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1)
__________
(1) سورة النحل الآية 96(75/181)
وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1) . أي: بغير حد ولا عد ولا مقدار، وما ذاك إلا لفضيلة الصبر ومحله عند الله (2) .
6 - أنه سبحانه ضمن النصر والمدد لهم:
فقال: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (3) ، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} (4) .
7 - وضمن لهم سلامتهم من شر الأشرار وحفظهم من كيد الأعداء:
فقال: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (5) .
8 - أنه سبحانه امتدحهم وأثنى عليهم:
فقال: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (6) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 10
(2) ابن سعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص 721.
(3) سورة آل عمران الآية 125
(4) سورة الأعراف الآية 137
(5) سورة آل عمران الآية 120
(6) سورة البقرة الآية 177(75/182)
يقول أبو طالب المكي: إن الله في هذه الآية حقق بالصبر صدق المؤمنين وتقواهم، وكمل به وصفهم وأعمال برهم (1) .
9 - أنه سبحانه أخبر باستحقاقهم دخول الجنة وتسليم الملائكة عليهم:
فقال: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} (2) ، وقال: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} (3) ، وقال أيضا: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} (4) {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (5) .
10 - أنه سبحانه أخبر أنه ما يلقى الأعمال الصالحة وجزاءها والحظوظ العظيمة إلا أهل الصبر:
فقال: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (6) ، وقال:
__________
(1) انظر: قوت القلوب، ج 1 ص 195.
(2) سورة الإنسان الآية 12
(3) سورة الفرقان الآية 75
(4) سورة الرعد الآية 23
(5) سورة الرعد الآية 24
(6) سورة القصص الآية 80(75/183)
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (1)
11 - أنه سبحانه أخبر أنه إنما ينتفع بآياته ويتعظ بها الصبار الشكور:
فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (2) ، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (3) وقال: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (4) .
12 - أنه سبحانه خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة، الذين قامت بهم هاتان الخصلتان ووصوا بهما غيرهم: فقال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (5) {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} (6) .
13 - أنه سبحانه جعل الصبر من عزم الأمور:
فقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (7) ،
__________
(1) سورة فصلت الآية 35
(2) سورة إبراهيم الآية 5
(3) سورة لقمان الآية 31
(4) سورة سبأ الآية 19
(5) سورة البلد الآية 17
(6) سورة البلد الآية 18
(7) سورة الشورى الآية 43(75/184)
وقال في وصايا لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (1) .
14 - أنه سبحانه جعل الإمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين:
فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (2) .
يقول سفيان بن عيينة في هذه الآية: أخذوا برأس الأمر فجعلهم رؤساء (3) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين (4) . وخير مثال على ذلك: الإمام الفذ أحمد بن حنبل رحمه الله حينما امتحن المحنة العظيمة في فتنة القول بخلق القرآن، فصبر وصابر وثبت على الحق، فأورثه الله الإمامة في الدين، وأصبح إماما لأهل السنة والجماعة.
__________
(1) سورة لقمان الآية 17
(2) سورة السجدة الآية 24
(3) ابن القيم، مدارج السالكين، ج 2 ص 122.
(4) المرجع السابق، ج 2 ص 117.(75/185)
المبحث الثاني: فضائل الصبر في السنة النبوية
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث نبوية كثيرة تبين(75/185)
قيمة الصبر، وتبرز منزلته وفضله.
ولعل أهم ما بينته هذه الأحاديث وأبرزته من ذلك ما يلي:
1 - تعريف الإيمان بالصبر والسماحة:
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الإيمان، فقال: الصبر والسماحة (1) » .
يقول ابن القيم معلقا على هذا الحديث: وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهانا وأوعبه لمقامات الإيمان من أولها إلى آخرها، فإن النفس يراد منها شيئان:
1 - بذل ما أمرت به وإعطاؤه، فالحامل عليه: السماحة.
2 - وترك ما نهيت عنه والبعد عنه، فالحامل عليه: الصبر (2) .
2 - أن الصبر نبراس ينير معالم الطريق، ويكشف ظلم الحيرة، ويوضح حقائق الأمور (3) :
فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
__________
(1) رواه ابن أبي الدنيا في الصبر والثواب عليه، ص 37، بتحقيق: محمد خير رمضان يوسف، ط الأولى 1418 هـ 1997 م، دار ابن حزم، بيروت. ورواه الإمام أحمد في المسند من حديث عمرو بن عنبسة، ورجاله موثقون، انظر: الفتح الرباني، ج 1 ص 74، ط دار الشهاب، القاهرة. وأسنده ابن أبي شيبة في الإيمان برقم 43، من حديث جابر بن عبد الله. وقال الألباني: إسناده صحيح ورجاله ثقات. راجع: سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج 3 ص 483.
(2) مدارج السالكين، ج 2 ص 122.
(3) الماوردي، أدب الدنيا والدين، ص 279.(75/186)
عليه وسلم قال: «الصبر ضياء (1) » .
يقول الإمام النووي معلقا على الحديث: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «والصبر ضياء (2) » ، فمعناه الصبر المحبوب في الشرع، وهو الصبر على طاعة الله تعالى، والصبر عن معصيته، والصبر أيضا على النائبات وأنواع المكاره في الدنيا، والمراد أن الصبر محمود ولا يزال صاحبه مستضيئا مهتديا مستمرا على الصواب (3) .
3 - أن الصبر خير عطاء أعطيه الإنسان وأوسعه:
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر (4) » .
4 - أن الصابر على طاعة الله وملازمة عبادته، والصابر عن ارتكاب المعصية مع توفر دواعيها أحد السبعة الذين سيظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه في كتاب الطهارة، باب (فضل الوضوء) ، ج 3 ص 99، 100.
(2) صحيح مسلم الطهارة (223) ، سنن الترمذي الدعوات (3517) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (280) ، مسند أحمد (5/344) ، سنن الدارمي الطهارة (653) .
(3) شرح النووي على صحيح الإمام مسلم، ج 3 ص 101.
(4) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الزكاة، الباب (50) ، الحديث رقم 1469، ج 3 ص 335. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر، ج 7 ص 144، 145.(75/187)
وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ووجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (1) » .
يقول المنبجي معلقا على الحديث: ولذلك استحق هؤلاء السبعة أن يظلهم الله في ظله، لكمال صبرهم ومشقته على نفوسهم، فصبر الملك على العدل مع قدرته على الظلم والانتقام من رعيته، وصبر الشاب على عبادة الله ومخالفة هواه، وصبر الرجل على ملازمة المسجد، وصبر المتصدق على إخفاء الصدقة حتى عن شماله مع قدرته على الرياء، وصبر المدعو إلى الفاحشة مع جمال الداعي، وصبر المتحابين في الله في اجتماعهما وانفرادهما، وصبر الباكي من خشية الله على كتمان ذلك عن الناس، فهذه الأمور فيها مشقة على النفوس، فالصبر عليها بتوفيق الله وفضله وإحسانه إلى عبده صبر جميل عظيم (2) .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الزكاة، الباب (16) ، الحديث رقم 1423، ج 3 ص 292، 293. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الزكاة، باب (فضل إخفاء الصدقة) ، ج 3 ص 120.
(2) تسلية أهل المصائب، ص 204.(75/188)
5 - أن الصبر على البلاء أحد أربع خصال من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة:
فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: قلب شاكر: ولسان ذاكر، وبدن على البلاء صابر، وزوجة لا تبغيه خونا في نفسه ولا ماله (1) » .
6 - اقتران النصر بالصبر:
فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر (2) » .
7 - توفيق الله عز وجل الصابرين:
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
__________
(1) رواه ابن أبي الدنيا في الصبر والثواب عليه، ص 36. كما رواه الطبراني في المعجم الكبير، الحديث رقم 11275، ج 11 ص 134، ط الأولى 1400 هـ 1980 م، وزارة الأوقاف العراقية، بغداد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجال الأوسط رجال الصحيح، ج 4 ص 273. وقال المنذري في الترغيب والترهيب: رواه الطبراني بإسناد جيد، ج 2 ص 398، ط عام 1407 هـ 1987 م، دار الحديث، القاهرة.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند، الحديث رقم 2803، ج 5 ص 18، 19، وصححه محققو المسند، كما صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 2382، ج 5 ص 496.(75/189)
وسلم قال: «من يتصبر يصبره الله (1) » .
__________
(1) تقدم تخريجه.(75/190)
8 - عظم أجر الصبر على الأذى:
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم (1) » .
9 - تكفير الذنوب والخطايا:
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة - مر بنا بعضها (2) - أن الله عز وجل يكفر عن المؤمن سيئاته ويغفر له ذنوبه إذا صبر على ما يصيبه مما يشق عليه ويعنته من تعب ومرض وهم وحزن. وروي أنه «لما نزل قوله تعالى: شق الأمر على كثير من الصحابة، فقال أبو بكر رضي الله عنه للنبي
__________
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد، في الباب 181، الحديث رقم 390، ص 140، 141 ط الأولى 1404 هـ 1984 م، عالم الكتب، بيروت. ورواه الإمام أحمد في المسند، الحديث رقم 5022، ج 9 ص 64. ورواه ابن ماجه في سننه في كتاب الفتن، باب (الصبر على البلاء) ، الحديث رقم 4032، ص 666. ورواه كذلك الترمذي في سننه في كتاب صفة القيامة، الباب (55) ، الحديث رقم 2512، ج 4 ص 662. وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 939، ج 2 ص 614.
(2) وذلك في المبحث الثالث من الفصل الأول.
(3) رواه الإمام أحمد في المسند، الحديث رقم (68) ، ج 1 ص 229، 230. وقال محققو المسند: (حديث صحيح بطرقه وشواهده) .(75/190)
صلى الله عليه وسلم: كيف الصلاح بعد هذه الآية، فكل سوء عملنا جزينا به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ قال: بلى، قال: فهو ما تجزون به (2) » .
ومن ذلك أيضا الصبر على الجهاد، فعن أبي قتادة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر (3) » .
10 - نيل المكافأة في الدنيا:
فمن كرم الله تبارك وتعالى على عباده الذين يبتليهم فيقابلون الابتلاء بالصبر، أنه يكافئهم في هذه الحياة الدنيا، ويعوضهم على ما فقدوه. ومن هذا القبيل: ما حدث لأم سلمة رضي الله عنها
__________
(1) سورة النساء الآية 123 (3) {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}
(2) سورة النساء الآية 123 (1) {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}
(3) رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإمارة، باب (من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين) ، ج 13 ص 28، 29.(75/191)
حينما صبرت على فقد زوجها أبي سلمة واسترجعت، فعوضها الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم (1) . وكذا ما حدث لأم سليم زوج أبي طلحة رضي الله عنهما حينما صبرت على فقد ولدها واحتسبته عند الله، واستقبلت زوجها بالرضا والتسليم، فرزقها الله عوضا عن ولدها تسعة من الأبناء يقرأون القرآن (2) .
11 - الظفر بالجنة في الآخرة:
من كرم الله سبحانه أيضا أن المبتلى إذا صبر على بلواه لا تكفر عنه سيئاته فحسب، ولا يكافأ في الدنيا فقط، بل ويظفر بالجنة في الآخرة.
وقد مر معنا ذكر الأحاديث النبوية التي تعد بالجنة لمن صبر على الابتلاء بالصرع، وعلى الابتلاء بفقد البصر، وعلى الابتلاء بفقد الأولاد والأصفياء (3) .
وكذا لمن صبر على البقاء في البلد الذي يظهر فيه مرض الطاعون وهو مقيم فيه (4) .
وأضيف هنا ما ورد بشأن الصبر على مشقة تربية البنات
__________
(1) راجع ص 159 من هذا البحث.
(2) راجع ص 168 من هذا البحث.
(3) راجع ص 148- 155 من هذا البحث.
(4) راجع ص 171 من هذا البحث.(75/192)
والقيام بشئونهن، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان له ثلاث بنات، فصبر على لأوائهن وضرائهن أدخله الله الجنة برحمته إياهن "، قال: فقال رجل: وابنتان يا رسول الله؟ قال: " وابنتان "، قال: فقال رجل: وواحدة يا رسول الله؟ ، قال: وواحدة (1) » .
12 - إكرام الصابرين بتحية الملائكة لهم في الجنة:
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة: نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال: إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا يشركون بي شيئا، وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، قال: فتأتيهم الملائكة عند
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك في كتاب (البر والصلة) ، الحديث رقم 7346 ج 4 ص 195، وقال؛ حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، تحقيق: مصطفى عطا، ط الأولى 1411 هـ 1990 م، دار الكتب العلمية، بيروت.(75/193)
ذلك، فيدخلون عليهم من كل باب (2) » . .
__________
(1) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2979) ، مسند أحمد (2/168) ، سنن الدارمي الرقاق (2844) .
(2) سورة الرعد الآية 24 (1) {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}(75/194)
المبحث الثالث: فضائل الصبر في آثار سلف الأمة وعلمائها:
نقل عن سلف الأمة وعلمائها الكثير من الآثار والأقوال التي تبين قيمة الصبر ومنزلته وفضله، وأورد فيما يلي أهم هذه الآثار والأقوال:
1 - يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجدنا خير عيشنا بالصبر.
وفي رواية: إن أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريما.(75/194)
ويقول رضي الله عنه: الصبر ملاك الإيمان (1) . ويقول كذلك: لو أن الصبر والشكر بعيران لم أبال أيهما ركبت.
ويقول أيضا: نعم العدلان ونعمت العلاوة للصابرين (2) ، ويعني بالعدلين: الصلاة والرحمة، وبالعلاوة: الهدى. والعلاوة: ما يحمل فوق العدلين على البعير وأشار به إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (3) . .
2 - ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بني الإسلام على أربع دعائم: اليقين، والصبر، والجهاد، والعدل (4) .
ويقول: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا جسد لمن لا رأس له، ولا إيمان لمن لا صبر له.
__________
(1) الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 4 ص 59.
(2) الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 4 ص 59. وأبو طالب المكي، قوت القلوب، ج 1 ص 194.
(3) سورة البقرة الآية 157
(4) المكي، قوت القلوب، ج 1 ص 194. والغزالي، إحياء علوم الدين، ج 4 ص 59.(75/195)
ويقول: (الصبر مطية لا تكبو) (1) . ويقول أيضا: (لو كان الصبر رجلا كان أكمل الرجال) (2) . ويقول أيضا: (الصبر كفيل بالنجاح) (3) .
ويقول كذلك محددا أركان الصبر: الصبر على أربع شعب: على الشوق، والشفقة، والزهد، والترقب. فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات (4) .
3 - ويقول خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا أهل الإسلام إن الصبر عز، وإن الفشل عجز، وإن النصر مع الصبر (5) .
4 - ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: الصبر نصف الإيمان (6) .
__________
(1) الماوردي، أدب الدنيا والدين، ص 276. وابن القيم، عدة الصابرين، ص 101.
(2) ابن أبي الدنيا، الصبر والثواب عليه، ص 159.
(3) التنوخي، الفرج بعد الشدة، ج 1\ ص 154.
(4) ابن أبي الدنيا، الصبر والثواب عليه، ص 25. والمكي، قوت القلوب، ج 1 ص 200.
(5) ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج 1 ص 258، ط الأولى 1406 هـ 1986 م، دار الكتب العلمية، بيروت.
(6) المكي، قوت القلوب، ج 1 ص 194. وانظر: ابن القيم، عدة الصابرين، ص 116.(75/196)
5 - ويقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: أفضل العدة الصبر على الشدة (1) .
6 - ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه: ذروة الإيمان الصبر للحكم، والرضا بالقدر (2) .
7 - ويقول عمران بن حصين رضي الله عنه: ثلاث يدرك بهن العبد رغائب الدنيا والآخرة: الصبر عند البلاء، والرضا بالقضاء، والدعاء في الرخاء (3) .
8 - وتقول أم الدرداء رضي الله عنها: إن الراضين بقضاء الله الذين ما قضى الله لهم رضوا به، لهم في الجنة منازل يغبطهم بها الشهداء يوم القيامة (4) .
9 - ويقول الحسن البصري رحمه الله: الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده.
__________
(1) الماوردي، أدب الدنيا والدين، ص 276.
(2) الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 4 ص 59. والمكي، قوت القلوب، ج 1 ص 195.
(3) ابن أبي الدنيا، الصبر والثواب عليه، ص 65.
(4) المنبجي، تسلية أهل المصائب، ص 209.(75/197)
10 - ويقول مجاهد رحمه الله: (الصبر معقل) (1) .
11 - ويقول سفيان بن عيينة رحمه الله: لم يعط العباد أفضل من الصبر، به دخلوا الجنة (2) .
12 - ويقول إبراهيم التيمي رحمه الله: ما من عبد وهب الله له صبرا على الأذى، وصبرا على البلاء، وصبرا على المصائب إلا وقد أوتي أفضل ما أوتيه أحد بعد الإيمان بالله (3) .
13 - ويقول وهب بن منبه رحمه الله: ثلاث من كن فيه أصاب البر: سخاوة النفس، والصبر على الأذى، وطيب الكلام (4) .
14 - وقيل لسفيان الثوري رحمه الله: ما أفضل الأعمال؟ قال: الصبر عند الابتلاء (5) .
15 - ويقول قتادة رحمه الله: الصبر من الإيمان بمنزلة اليدين من الجسد ... ، ولو كان الصبر رجلا لكان كريما جميلا (6) .
16 - ويقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيرا
__________
(1) ابن أبي الدنيا، الصبر والثواب عليه، ص 60.
(2) المرجع السابق، ص 55، 51.
(3) المرجع السابق، ص 28.
(4) المرجع السابق، ص 38، 39.
(5) المكي، قوت القلوب، ج 1 ص 197.
(6) ابن أبي الدنيا، الصبر والثواب عليه، ص 112.(75/198)
مما انتزعه منه (1) ، أي أن الصبر عوض عن كل ما يفقده الإنسان من متاع الحياة الدنيا.
17 - ويقول الماوردي: إن من حسن التوفيق وأمارات السعادة: الصبر على الملمات، والرفو (2) عند النوازل، وبه نزل الكتاب وجاءت السنة، ... فنزل الكتاب بتأكيد الصبر فيما أمر الله به وندب إليه، وجعله من عزائم التقوى فيما افترضه وحث عليه (3) .
18 - ويقول أبو طالب المكي: ... ومن الصبر حبس النفس على التقوى، والتقوى اسم جامع لكل خير، فالصبر معنى داخل في كل بر، فإذا جمعهما العبد فهو من المحسنين، وما على المحسنين من سبيل، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (4) . (5) .
ويقول: التقوى والصبر معنيان، أحدهما منوط بالآخر، لا يتم كل واحد منهما إلا بصاحبه، فمن كانت التقوى مقامه كان الصبر حاله، فصار الصبر أفضل الأحوال من حيث كانت التقوى
__________
(1) المرجع السابق، ص. 3. والمنبجي، تسلية أهل المصائب، ص 193.
(2) أي السكون والهدوء والطمأنينة، من رفوت الرجل إذا سكنته. انظر ابن منظور، لسان العرب، مادة (رفأ) .
(3) أدب الدنيا والدين، ص 276.
(4) سورة يوسف الآية 90
(5) قوت القلوب، ج 1 ص 196.(75/199)
أعلى المقامات، إذ الأتقى هو الأكرم عند الله تعالى، والأكرم على الله تعالى هو الأفضل (1) .
ويقول: قد شرف الله تعالى الصبر بأن أضافه إليه بعد الأمر به، فقال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (2) ، وقال: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (3) . (4) .
ويقول أيضا: اعلم أن الصبر سبب دخول الجنة وسبب النجاة من النار، لأنه جاء في الخبر أن الجنة حفت بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، فيحتاج المؤمن إلى صبر على المكاره ليدخل الجنة، ويحتاج إلى صبر عن الشهوات لينجو من النار (5) .
ويقول كذلك: الصبر مقام أولي العزم من الرسل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقدوة بهم، وباهى الله تعالى بهم عباده، فقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (6) . . .، وجعل الله تعالى الصبر من العزائم في قوله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (7) . (8) .
__________
(1) المرجع السابق، ج 1 ص 197.
(2) سورة النحل الآية 127
(3) سورة المدثر الآية 7
(4) المرجع السابق.
(5) المرجع السابق، ج 1 ص 200.
(6) سورة الأحقاف الآية 35
(7) سورة آل عمران الآية 186
(8) المرجع السابق.(75/200)
19 - ويقول ابن القيم في معرض بيانه كيف يكون الصبر نصف الإيمان: إن الإيمان مبني على ركنين: يقين، وصبر وهما الركنان المذكوران في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (1) ، فباليقين يعلم المؤمن حقيقة الأمر والنهي والثواب والعقاب، وبالصبر ينفذ ما أمر به ويكف نفسه عما نهي عنه، ولا يحصل له التصديق بالأمر والنهي أنه من عند الله وبالثواب والعقاب إلا باليقين. ولا يمكنه الدوام على فعل المأمور وكف النفس عن المحظور إلا بالصبر، فصار نصف الإيمان، والنصف الثاني: الشكر بفعل ما أمر به وبترك ما نهي عنه (2) .
ويقول أيضا: إن الدين مبني على أصلين: الحق، والصبر. وهما المذكوران في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) ، ولما كان المطلوب من العبد هو العمل بالحق في نفسه وتنفيذه في الناس، وكان هذا هو حقيقة الشكر، لم يمكنه ذلك إلا بالصبر عليه، فكان
__________
(1) سورة السجدة الآية 24
(2) عدة الصابرين، ص 116، 117.
(3) سورة العصر الآية 3(75/201)
الصبر نصف الإيمان (1) .
20 - ويقول المنبجي: ليعلم أهل المصائب أنه لولا محن الدنيا ومصائبها أصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلا، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء، وحفظا لصحة عبوديته، واستفراغا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة، فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه (2) .
__________
(1) المرجع السابق، ص 118، 119.
(2) تسلية أهل المصائب، ص 34.(75/202)
الفصل الرابع: ما يعين على الصبر
إن النفس البشرية قد يعزيها الفتور عن فعل الطاعات، أو تضعف عن ترك المعاصي، وقد تجزع عند نزول البلاء، ولا سيما عند وجود معوقات الصبر من داخل النفس ومن خارجها.
إلا أن الله عز وجل ما أمر بأمر إلا أعان عليه ونصب أسبابا تمده وتعين عليه، كما أنه ما قدر داء إلا وقدر له دواء وضمن له الشفاء باستعماله. ولما كان الصبر مأمورا به جعل له سبحانه أسبابا تعين عليه وتوصل إليه إذا تذرع بها المسلم في وجه تلك المعوقات (1) .
وهذه الأسباب منها ما يعين على الصبر على الطاعة، ومنها
__________
(1) انظر: ابن القيم، عدة الصابرين، ص 57.(75/202)
ما يعين على الصبر عن المعصية، ومنها ما يعين على الصبر على المحن والشدائد والمصائب.
وسأتناول - إن شاء الله - هذه الأسباب في ثلاثة مباحث، وذلك على النحو التالي:
المبحث الأول: ما يعين على الصبر على الطاعة:
الأسباب التي تعين المسلم على الصبر على طاعة الله أسباب عديدة، منها ما يلي:
أولا: تقوية باعث الدين: ويكون ذلك بالأمور التالية:
1 - الإيمان بالله: فصبر العبد على فعل الطاعة يكون عادة بحسب قوة إيمانه بالله سبحانه، فإذا قوي سراج الإيمان في القلب، وأضاءت جهاته كلها به، وأشرق نوره في أرجائه، سرى ذلك النور إلى الأعضاء وانبعث إليها، فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان، وانقادت النفس إلى الله طائعة ذليلة غير متثاقلة ولا كارهة.
2 - محبة الله: فإن هذه المحبة من أقوى أسباب الصبر على الطاعة، فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوي سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة أقوى. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1) . إلا أن المحبة المجردة لا توجب
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31(75/203)
هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال الله تعالى وتعظيمه، فإذا قارنها ذلك أوجبت هذه الطاعة (1) .
3 - الحياء من الله: فمن استحيا من الله حق الحياء منعه ذلك من التقصير في طاعة الله، ودفعه إلى تحمل مشاق العبادة والصبر عليها. يقول الجنيد - رحمه الله -: الحياء حالة تتولد من رؤية آلاء الله ورؤية التقصير في حقه تعالى (2) .
4 - الخوف من الله: فهو سراج في قلب المؤمن، يحمله على المسارعة إلى فعل الطاعات والاستزادة منها، وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله عز وجل إذا خفته هربت إليه (3) . يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} (4) {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} (5) {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} (6) {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (7) {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (8) .
5- الرجاء: فهو حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويطيب لها السير إلى الله ويحثها عليه ويبعثها على ملازمته (9) .
__________
(1) انظر: المرجع السابق، ص 271.
(2) انظر: ابن القيم، مدارج السالكين، ج 2 ص 198.
(3) انظر: المرجع السابق، ج 1 ص 387.
(4) سورة المؤمنون الآية 57
(5) سورة المؤمنون الآية 58
(6) سورة المؤمنون الآية 59
(7) سورة المؤمنون الآية 60
(8) سورة المؤمنون الآية 61
(9) انظر: المرجع السابق، ج 2 ص 27.(75/204)
ثانيا: معرفة حسن عاقبة الطاعة وأجرها العظيم عند الله:
آثار طاعة الله وعواقبها الحسنه كثيرة، فخير الدنيا والآخرة كله في طاعة الله. ومن ذلك: الأنس بالله، والطمأنينة والسكون إليه، وإقبال الله على العبد المطيع، ومحبته له سبحانه.
ومن عواقبها الحسنة أيضا: النور في القلب، والضياء في الوجه، والقوة في البدن، والسعة في الرزق، ومحبة الخلق.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه (1) » .
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: إن للحسنة نورا في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق (2) .
__________
(1) رواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق، الباب (38) ، الحديث رقم 6520، خ 11 ص 340، 341.
(2) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج 15 ص 630.(75/205)
وقد رتب الله سبحانه الأجر العظيم والثواب الجزيل على طاعته والعمل بمرضاته، وأخبر بذلك في آيات كثيرة في كتابه الكريم، منها: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} (1) {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} (2) . فإذا علمت النفس ذلك كله كرهت الراحة والبطالة في دار الفناء، رغبة منها في الحصول على الراحة الأبدية في دار البقاء. ولا سيما وأن التريث والمصابرة خصلة تتسق مع سنن الكون القائمة ونظمه الدائمة، فالزرع لا ينبت ساعة البذر، ولا ينضج ساعة النبت، بل لا بد من المكث شهورا حتى يجتنى الحصاد المنشود. والجنين يظل في بطن أمه شهورا حتى يستوي خلقه. وقد أعلمنا الله عز وجل أنه خلق العالم في ستة أيام، وما كان ليعجز أن يقيم دعائمه في طرفة عين أو أقل (3) .
__________
(1) سورة الكهف الآية 107
(2) سورة الكهف الآية 108
(3) محمد الغزالي، خلق المسلم، ص 135، ط الثانية 1400 هـ 1980 م، دار القلم، دمشق.(75/206)
ثالثا: قصر الأمل:
فمن قصر أمله ورأى سرعة انقضاء أجله، كان ذلك أدعى لأن يصبر على فعل الطاعات، فلا يصرف أوقاته إلا فيما ينفعه في آخرته. يقول الله تعالى:(75/206)
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (1) .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك (2) » . ويقول أيضا: «ما ينتظر أحدكم إلا غنى مطغيا، أو فقرا منسيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال، فالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمر (3) » .
ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: أخوف ما أخاف عليكم اثنان: طول الأمل، واتباع الهوى. ألا وان
__________
(1) سورة الحديد الآية 16
(2) أخرجه عبد الله بن المبارك في الزهد، باب (التحضيض على طاعة الله) ، الحديث رقم 2، ص 2، بتحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط دار الكتب العلمية، بيروت. كما أخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب (الرقاق) ، الحديث رقم 7846، ج 4 ص 341، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(3) رواه الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب (الرقاق) ، الحديث رقم 7906، ج 4 ص 356، 357، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين. وروى الترمذي نحوه في سننه في كتاب (الزهد) ، الباب (3) ، الحديث رقم 2311، ج 4 ص 552، وقال: حديث حسن غريب. وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة برقم 1666، ج 4 ص 163، ط الأولى 1408 هـ 1988 م، مكتبة المعارف، الرياض.(75/207)
طول الأمل ينسي الآخرة، واتباع الهوى يصد عن الحق (1) .
وعن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: (ليس الزهد في الدنيا بلبس الغليظ وأكل الجشب (2) ، إنما الزهد في الدنيا قصر الأمل) (3) .
ويقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: اعلم أنه إذا طال الأمل هاج منه أشياء: ترك الطاعة، والكسل فيها، وترك التوبة وتسويفها، والحرص على الجمع والاشتغال بالدنيا، وقسوة القلب ونسيان الآخرة (4) .
__________
(1) أبو علي زين الدين المعيري، سراج القلوب وعلاج الذنوب، ج 1 ص 172، 173، ط دار صادر، بيروت.
(2) وهو الغليظ الخشن من الطعام، انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة (جشب) .
(3) أبو علي المعيري، سراج القلوب، ج 1 ص 172.
(4) المرجع السابق، ج 1 ص 173.(75/208)
رابعا: الدعاء:
وذلك بأن يدعو المسلم ربه ويلح عليه بأن يهديه ويعينه على فعل الطاعة، فإنه سبحانه هو الهادي والمعين.
وقد وود في السنة النبوية الكثير من الأدعية التي يشرع للمسلم أن يدعو الله بها في هذا الشأن. منها: ما ورد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني(75/208)
على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك (1) » .
«وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل: اللهم اهدني وسددني (2) » .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى (3) » .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك (4) » .
__________
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد، الحديث رقم 691، ص 233. ورواه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة، باب في الاستغفار، الحديث رقم 1522، ج 2 ص 86. كما رواه النسائي في سننه في كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر، ج 3 ص 53. وروى الإمام أحمد نحوه في المسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، الحديث رقم 7982، ج 13 ص 360. وقال محققو المسند: إسناده صحيح.
(2) رواه مسلم في صحيحه في كتاب الذكر والدعاء، باب في الأدعية، ج 17 ص 43.
(3) رواه مسلم في صحيحه في الموضع السابق، ج 17 ص 40، 41.
(4) رواه مسلم في صحيحه في كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء ج 16 ص 253، 204.(75/209)
المبحث الثاني: ما يعين على الصبر عن المعصية:
الأسباب التي تعين المسلم على الصبر عن معصية الله أسباب(75/209)
عديدة، لعل من أهمها ما يلي:
أولا: تقوية باعث الدين: ويكون ذلك بأمور عدة:
أحدها: الإيمان بالله تعالى، فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتم، وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر، فإن من باشر قلبه الإيمان بقيام الله عليه، ورؤيته له، وتحريمه لما حرم عليه، وبغضه له، ومقته لفاعله، وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب والجنة والنار، امتنع من أن لا يعمل بموجب هذا العلم (1) .
ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن (2) » .
الثاني: إجلال الله تبارك وتعالى أن يعصى وهو يرى ويسمع، ومن قام بقلبه مشهد إجلاله لم يطاوعه قلبه لذلك البتة.
__________
(1) ابن القيم، طريق الهجرتين، ص 275.
(2) رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الأشربة، الباب (1) ، الحديث رقم 5578، ج 10 ص 30. ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي، ج 2 ص 41، 42.(75/210)
الثالث: مشهد محبته سبحانه، فيترك العبد معصيته محبة له، فإن المحب لمن يحب مطيع، وأفضل الترك ترك المحبين، كما أن أفضل الطاعة طاعة المحبين. ومقتضى محبة العبد لله أن يحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه الله. ولذا يقول يحيى بن معاذ: ليس بصادق من ادعى محبة الله عز وجل ولم يحفظ حدوده.
الرابع: مشهد النعمة والإحسان، فإن الكريم لا يقابل بالإساءة من أحسن إليه، وإنما يفعل ذلك لئام الناس، فمقتضى إحسان الله وإنعامه على عبده اجتناب هذا العبد معصية ربه، حياء منه سبحانه. فقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «استحيوا من الله حق الحياء، قالوا يا رسول الله إنا نستحيي والحمد لله، قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى (1) » .
يقول ابن القيم: وليمنع المؤمن مشهد إحسان الله تعالى
__________
(1) رواه الترمذي في سننه في كتاب صفة القيامة، الباب (24) ، الحديث رقم 2463، ج 4 ص 637، وقال: هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه. كما رواه الحاكم في المستدرك في كتاب الرقاق، الحديث رقم 7915، ج 4 ص 359، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.(75/211)
ونعمته عن معصيته حياء منه أن يكون خير الله وإنعامه نازلا إليه، ومخالفاته ومعاصيه وقباحه صاعدة إلى ربه، فملك ينزل بهذا، وملك يعرج بذاك، فأقبح بها من مقابلة (1) .
الخامس: مشهد الغضب والانتقام، فإن الله سبحانه إذا تمادى العبد في معصيته غضب، وإذا غضب لم يقم لغضبه شيء، فضلا عن هذا العبد الضعيف، فحري بالمسلم أن يحذر من غضب الله ويخاف نقمته وعذابه. وهذا الخوف من شأنه قمع الشهوات وتكدير اللذات المحرمة، فتتأدب الجوارح وتصير المعاصي المحبوبة عندها مكروهة.
السادس: مشهد الفوات، وهو ما يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة، وما يحدث له بها من كل اسم مذموم عقلا وشرعا وعرفا، ويزول عنه من الأسماء الممدوحة شرعا وعقلا وعرفا. ويكفي في هذا المشهد مشهد فوات الإيمان الذي أدنى مثقال ذرة منه خير من الدنيا وما فيها أضعافا مضاعفة، فكيف أن يبيعه بشهوة تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها، تذهب الشهوة وتبقى الشقوة.
__________
(1) عدة الصابرين، ص 60.(75/212)
ثانيا: إضعاف باعث الشهوة: ويكون ذلك بثلاثة أمور:
الأول: أن ينظر العبد إلى مادة قوة الشهوة فيحدها من(75/212)
الأغذية المحركة للشهوة، إما بنوعها أو بكميتها وكثرتها ليحسم هذه المادة بتقليلها، فإن لم تنحسم فليبادر إلى الصوم، فإنه يضعف مجاري الشهوة ويكسر حدتها، ولا سيما إذا كان أكله وقت الفطر معتدلا.
والثاني: أن يتجنب محرك الطلب وهو النظر، فيقصر لجام طرفه ما أمكنه، فإن داعي الإرادة والشهوة إنما يهيج بالنظر، والنظر يحرك القلب بالشهوة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة (1) » . وهو سهم يسدده إبليس نحو العبد ولا ترس يمنعه منه إلا غض البصر أو الهرب من صوب رميه، فإنه إنما يرمي هذا السهم عن قوس الصور فإذا انقلب العبد عن صوب الصور لم يصبه سهمه.
الثالث: تسلية النفس بالمباح المعوض عن المحرم من جنسه، فإن كل ما يشتهيه الطبع ففيما أباحه الله من جنسه غنية عنه. وهذا هو الدواء النافع في حق أكثر الناس.
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك في كتاب الرقاق، الحديث رقم 7875، ج 4 ص 349، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.(75/213)
ثالثا: اللجوء إلى الله تعالى:
وذلك بأن يلح العبد على الله في دعائه بأن يحفظه من الوقوع في المعاصى والسيئات، وأن يستعيذ بالله عز وجل من الشيطان(75/213)
الرجيم عندما يوسوس له، مزينا ارتكاب المعاصي، ودافعا إلى طريق الشرور والمفاسد. كما قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 200(75/214)
رابعا: الاستعانة بالصلاة:
يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1) ، فأمر سبحانه بالاستعانة بالصلاة، لأنها عماد الدين ونور المؤمنين، والصلة بين العبد وربه، فإذا كانت صلاة العبد كاملة؛ مجتمعا فيها ما يلزم فيها وما يسن، وحصل فيها حضور القلب الذي هو لبها، لا جرم أنها من أكبر المعونة على كثير من الأمور، ومنها اجتناب المعاصي، لأن هذا الحضور الذي يكون في الصلاة يوجب للعبد في قلبه وصفا وداعيا يدعوه إلى امتثال أوامر ربه واجتناب نواهيه (2) . يقول تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 153
(2) انظر: ابن سعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص 75.
(3) سورة العنكبوت الآية 45(75/214)
خامسا: التفكر في مفاسد المعصية وسوء عاقبتها:
تفكر العبد في المفاسد المترتبة على اقتراف المعصية وسوء(75/214)
عواقبها يعينه بلا شك على الصبر عنها، فإنه لو لم يكن جنة ولا نار لكان في هذه المفاسد وسوء العواقب ما ينهى عن إجابة الداعي إلى المعصية.
ومن ذلك: زوال النعم ونقصان الرزق، فما أذنب عبد ذنبا إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، ولا تزال الذنوب تزيل عنه النعم نعمة بعد نعمة حتى تسلب منه النعم كلها. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه (1) » .
ويقول بعض السلف: (أذنبت ذنبا فحرمت قيام الليل سنة) (2) .
ومن ذلك: إعراض الله وملائكته وعباده عن العاصي، وسواد وجهه، وظلمة قلبه، وشدة قلقه، وتمزق شمله، ومرضه الذي إذا استحكم به فهو الموت ولا بد.
ومن ذلك أيضا: زوال الطمأنينة بالله والسكون إليه، وضياع أعز الأشياء عليه وهو الوقت الذي لا عوض عنه. وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علما، فشرور الدنيا
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند من حديث ثوبان رضي الله عنه، الحديث رقم 22413، ج 37 ص 95. كما رواه ابن ماجه في سننه في باب القدر، الحديث رقم 90، ص 32، وقد ضعفه الألباني في تحقيقه لسنن ابن ماجه.
(2) ابن القيم، طريق الهجرتين ص 271.(75/215)
والآخرة في اقتراف الذنوب والمعاصي (1) .
__________
(1) انظر: المرجع السابق ص 272- 274.(75/216)
المبحث الثالث: ما يعين على الصبر على المحن والمصائب.
الأسباب التي تعين المسلم على الصبر على محن الدنيا ومصائبها أسباب كثيرة، لعل أهمها ما يلي:
أولا: الإيمان بقضاء الله وقدره:
وذلك بأن يعلم العبد المصاب علم اليقين بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه (1) ، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (2) {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (3) . يقول ابن سعدي في تفسيره لهاتين الآيتين: هذا شامل لعموم المصائب التي تصيب الخلق من خير وشر، فكلها قد كتبت في اللوح المحفوظ صغيرها وكبيرها. وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول، بل تذهل عنه أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير، وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر، فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم مما طمحت له أنفسهم وتشوفوا
__________
(1) انظر ابن القيم، زاد المعاد، ج 4 ص 189، 190.
(2) سورة الحديد الآية 22
(3) سورة الحديد الآية 23(75/216)
إليه، لعلمهم أنه مكتوب في اللوح المحفوظ لا بد من نفوذه ووقوعه فلا سبيل إلى دفعه، ولا يفرحوا بما أتاهم الله فرح بطر وأشر، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ودفع النقم (1) .
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان (2) » .
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن، ص 842.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب القدر، باب (الإيمان للقدر والإذعان له) ، ج 16 ص 215.(75/217)
ثانيا: الاستعانة بالله:
ومما يعين المبتلى على الصبر أن يستعين بالله تعالى ويلجأ إلى حماه فيشعر بمعيته سبحانه، وأنه في حمايته ورعايته. ومن كان في حمى ربه فلن يضام. وفي هذا يقول تعالى في خطاب المؤمنين: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1) ، ويقول سبحانه في خطاب رسوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (2) . ومن كان بمعية الله مصحوبا، وبعين
__________
(1) سورة الأنفال الآية 46
(2) سورة الطور الآية 48(75/217)
الله ملحوظا، فهو أهل لأن يتحمل المتاعب ويصبر على المكاره.
وإذا العناية لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبائل ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان
ولما هدد فرعون - مستخدما سيف القهر والجبروت - موسى عليه السلام وقومه أن يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، قال موسى لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} (1) .
ولعل حاجة الصابرين إلى الاستعانة بالله تعالى والتوكل عليه هي بعض أسرار اقتران الصبر بالتوكل على الله في آيات كثيرة مر بنا بعضها، مثل قوله: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) ، وقوله على ألسنة الرسل: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (3) . (4) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 128
(2) سورة العنكبوت الآية 59
(3) سورة إبراهيم الآية 12
(4) د. يوسف القرضاوي، الصبر في القرآن، ص 96 بتصرف يسير.(75/218)
ثالثا: فقه مضمون الاسترجاع:
الاسترجاع من أبلغ علاج المصائب وأنفعه للعبد المصاب في عاجله وآجله، فإنه يتضمن أصلين عظيمين إذا استشعرهما العبد تسلى عن مصيبته: أحدهما:(75/218)
أ- أن نفسه وأهله وماله وولده ملك لله عز وجل حقيقة، وقد جعله الله عنده عارية، فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ عاريته من المستعير.
ب- أن نفسه وأهله وماله وولده محفوفة بعدمين، عدم قبلها، وعدم بعدها. وملكه لها إنما هو متعة معارة في زمن يسير.
ج- أنه ليس هو الذي أوجدها من عدم، حتى يكون ملكه حقيقة، ولا هو الذي يحفظها من الآفات بعد وجودها، ولا هو الذي يبقي عليها وجودها، فليس له فيها تأثير ولا ملك حقيقي.
د- أن تصرفه فيها تصرف العبد المأمور المنهي، لا تصرف المالك الحقيقي. ولذا لا يباح له من التصرفات فيها إلا ما وافق أمر هذا المالك (1) .
ويؤيد ما تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لله ما أخذ وله ما أعطى (2) » ، وقول لبيد:
وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوما أن ترد الودائع
الثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد أن خلف الدنيا وراء ظهره، ويأتي ربه يوم القيامة فردا كما خلقه أول
__________
(1) انظر: ابن القيم، زاد المعاد، ج 4 ص 189.
(2) رواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب (الجنائز) ، الباب (32) ، الحديث رقم 1284، ج 3 ص 151. رواه مسلم في صحيحه في كتاب (الجنائز) ، باب (البكاء على الميت) ، ج 6 ص 224.(75/219)
مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن يأتيه بالحسنات والسيئات.
فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله فيه، ونهايته وحاله فيه، فكيف يفرح بولد أو مال أو غير ذلك من متاع الدنيا، أم كيف يأسى على مفقود. ففكرة العبد في مبدئه ومعاده من أعظم علاج المصائب (1)
__________
(1) انظر: المرجع السابق، والمنبجي، تسلية أهل المصائب، ص 19، 20(75/220)
رابعا: اليقين بحسن الجزاء عند الله:
مر معنا فيما سبق إشارة القرآن الكريم إلى أن الصابرين ينتظرهم أحسن الجزاء من الله تعالى، وذلك حين يرجعون إليه، ويقفون بين يديه، فيعوضهم عن صبرهم أكرم العوض، ويمنحهم أعظم الأجر وأجل المثوبة. ولا نجد في القرآن الكريم شيئا ضخم جزاؤه وعظم أجره مثل الصبر، فهو يتحدث عن هذا الأجر بأسلوب المدح والتفخيم، فيقول: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (1) {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) وبين أن الصابرين إنما يجزون أجرهم بأحسن ما عملوا فضلا من الله ونعمة، حيث يقول تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) كما يصرح بأن أجر الصابرين غير معدود بعد،
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 58
(2) سورة العنكبوت الآية 59
(3) سورة النحل الآية 96(75/220)
ولا محدود بحد، ولا محسوب بمقدار، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1) فاليقين بحسن الجزاء وعظم الأجر عند الله يخفف من مرارة المصيبة على النفس، ويهون من شدة وقعها على القلب، ويكون باعثا للمصاب على الصبر لنيل هذا الأجر الكبر (2) .
يقول المنبجي: ومن تسلية أهل المصائب: أن ينظر المصاب في كتاب الله وسنة رسول الله، فيجد أن الله تعالى أعطى لمن صبر ورضي ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة (3) .
ويقول ابن القيم: على حسب ملاحظة حسن الجزاء والوثوق به ومطالعته يخف حمل البلاء، لشهود العوض. وهذا كما يخف على كل متحمل مشقة عظيمة حملها، لما يلاحظه من لذة عاقبتها وظفره بها. ولولا ذلك لتعطلت مصالح الدنيا والآخرة، وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجلة، فالنفس موكلة بحسب العاجل. وإنما خاصة العقل: تلمح العواقب، ومطالعة الغايات (4)
ويقول أيضا: ومن علاج حر المصيبة وحزنها أن يعلم أن ما
__________
(1) سورة الزمر الآية 10
(2) انظر: د. يوسف القرضاوي، الصبر في القرآن الكريم، ص 89، 90
(3) تسلية أهل المصائب، ص 20. وانظر: ابن القيم، زاد المعاد، ج 4 ص 190
(4) مدارج السالكين ج 2 ص 127(75/221)
يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه، ويكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه. فلينظر: أي المصيبة أعظم؛ مصيبة العاجلة، أم مصيبة فوات بيت الحمد في الجنة (1)
__________
(1) زاد المعاد، ج 4 ص 192(75/222)
خامسا: اليقين بالفرج:
اليقين بأن فرج الله آت لا ريب فيه، وأن بعد الضيق سعة، وأن بعد العسر يسرا، وأن ما وعد الله به المؤمنين من النصر، وما وعد به المبتلين من العوض والإخلاف لا بد أن يتحقق، كل ذلك جدير بأن يطرد شبح اليأس من القلب، ويبدد ظلمة القلق من النفس، ويضيء الصدر بالأمل في الظفر والثقة بالغد. وفي هذا يقول تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (1) {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (2) فلم يجعل سبحانه اليسر بعد العسر أو عقبه بل معه، وذلك لينبه على أمرين:
الأول: قرب تحقق اليسر بعد العسر مباشرة، حتى كأنه معه أو متصل به.
الثاني: أن مع العسر بالفعل يسرا لا ريب فيه، قد يكون ظاهرا ملموسا، وقد يكون خفيا مكنونا، وذلك ما يسمى باللطف،
__________
(1) سورة الشرح الآية 5
(2) سورة الشرح الآية 6(75/222)
ففي كل قدر لطف، وفي كل بلاء نعمة (1) . وفيه يقول ابن عطاء الله السكندري: من ظن انفكاك لطفه عن قدره، فذلك لقصور نظره {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (2) . (3)
وأكد النبي صلى الله عليه وسلم على فرج الله ونصره فقال: «اعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا (4) » .
وفي اليقين بالفرج يقول ابن القيم:. . . انتظار روح الفرج، يعني: راحته ونسيمه ولذته، فإن انتظاره ومطالبته وترقبه يخفف حمل المشقة، ولا سيما عند قوة الرجاء أو القطع بالفرج، فإنه يجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه وراحته ما هو من خفي الألطاف وما هو فرج معجل (5) .
ورد أن أبا عبيدة حصر فكتب إليه عمر يقول: مهما ينزل بامرئ من شدة يجعل الله بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين (6) .
__________
(1) انظر: د. يوسف القرضاوي، الصبر في القرآن، ص 91، 92
(2) سورة يوسف الآية 100
(3) المرجع السابق، ص 92، 93
(4) تقدم معنا هذا الحديث وتخريجه في ص 189 من هذا البحث
(5) مدارج السالكين، ج 2 ص 127
(6) ابن رجب، جامع العلوم والحكم، ج 1 ص 492، 493(75/223)
سادسا: المعرفة بطبيعة الحياة الدنيا:
من أهم ما يعين المسلم على الصبر على النوائب والشدائد أن يتصور طبيعة الحياة الدنيا التي يعيشها، ويعرفها على حقيقتها، فليست جنة نعيم، ولا دار خلود، وإنما دار ابتلاء وتكليف. ومن عرف الحياة على هذا النحو لم يفاجأ بكوارثها، فالشيء من معدنه لا يستغرب. وقد أشار القرآن الكريم إلى أن حياة الإنسان محفوفة بالمتاعب والمشاق، وذلك في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} (1) ، كما أشار إلى طبيعة الحياة الدنيا ودوام تغيرها وعدم ثباتها على حال، وذلك في قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (2) . (3)
وما أجل قول الشاعر في وصف الحياة الدنيا:
طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الآلام والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار
يقول ابن القيم في بيان علاج حر المصيبة وحزنها: ومن علاجه أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه
__________
(1) سورة البلد الآية 4
(2) سورة آل عمران الآية 140
(3) انظر: د. يوسف القرضاري، الصبر في القرآن، ص 85(75/224)
في كل واد بنو سعد، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة؟ ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة؟ وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى إما بفوات محبوب أو حصول مكروه، وأن شرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، وإن سرت يوما ساءت دهرا، وإن متعت قليلا منعت طويلا، وما ملأت دارا خيرة إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لكل فرحة ترحة، وما ملئ بيت فرحا إلا ملئ ترحا) ، وقال ابن سيرين: (ما كان ضحك قط إلا كان من بعده بكاء) (1) .
ويقول الماوردي: ومن تسهيل المصائب أن يعلم العبد أن النعم زائرة، وأنها لا محالة زائلة، وأن السرور بها إذا أقبلت مشوب بالحذر من فراقها إذا أدبرت، وأنها لا تفرح بإقبالها فرحا حتى تعقب بفراقها ترحا، فعلى قدر السرور يكون الحزن. وقد قيل في منثور الحكم: المفروح به هو المحزون عليه، وقيل: من بلغ غاية ما يحب فليتوقع غاية ما يكره، وقال بعض الحكماء: من علم أن كل نائبة إلى انقضاء حسن عزاؤه عند نزول البلاء (2) .
__________
(1) زاد المعاد، ج 4 ص 195
(2) أدب الدنيا والدين، ص 283(75/225)
ويقول أبو الفرج ابن الجوزي: ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تعتور فيها الأمراض والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار (1) .
__________
(1) المنبجي، تسلية أهل المصائب، ص 31(75/226)
سابعا: رؤية نعم الله:
ومما يهون أمر المصيبة على المبتلى أن يعد نعم الله وأياديه عنده، فإذا عجز عن عدها وأيس من حصرها، هان عليه ما هو فيه من البلاء، ورآه - بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه - كقطرة من بحر (1) . يقول الله عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (2)
وهذا عروة بن الزبير رحمه الله عندما ذهب إلى دمشق ومعه أكبر أبنائه، مات هذا الابن، ثم بعد ذلك بفترة يسيرة أصابت الآكلة إحدى قدميه فبترت. فلما قدم إلى أهله في المدينة ورأوا حاله، قال لهم: لا يهولنكم ما ترون، فلقد وهبني الله عز وجل أربعة من البنين، ثم أخذ منهم واحدا وأبقى لي ثلاثة فله الحمد، وأعطاني أربعة من الأطراف ثم أخذ منها واحدا وأبقى لي ثلاثة فله الحمد، وايم الله لئن أخذ مني قليلا فلقد أبقى لي كثيرا، ولئن ابتلاني مرة فلطالما عافاني مرات.
__________
(1) ابن القيم، مدارج السالكين، ج 2 ص 128
(2) سورة إبراهيم الآية 34(75/226)
فمما يهون على المبتلى ما نزل به من بلاء تصوره إمكانية نزول ما هو أعظم منه، فإن كل مصيبة يوجد ما هو أكبر منها، وقد قيل: (بعض الشر أهون من بعض) .
يقول الماوردي: ومن تسهيل المصائب أن يعلم المصاب أن فيما وقي من الرزايا وكفي من الحوادث ما هو أعظم من رزيته وأشد من حادثته، ليعلم أنه ممنوح بحسن الدفاع. . .، وقد قيل للشعبي في نائبة: كيف أصبحت؟ قال: بين نعمتين: خير منشور، وشر مستور (1) .
فالمؤمن المصاب ينظر إلى مصيبته بعين بصيرته فيحمد الله تعالى على أمرين:
أولهما: دفع ما كان يمكن أن يحدث من بلاء أكبر.
وثانيهما: بقاء ما كان يمكن أن يزول من نعمة غامرة وفضل جزيل.
فهو ينظر إلى النعمة الموجودة قبل أن ينظر إلى النعمة المفقودة، وينظر إلى البلاء المتوقع بجانب نظره إلى البلاء الواقع، ولا ريب أن هذا يحدث الارتياح والرضا في نفس المبتلى.
__________
(1) أدب الدنيا والدين، ص 282(75/227)
ثامنا: علم المصاب بأن حظه من المصيبة بحسب موقفه منها:
يقول ابن القيم: ومن علاج حر المصيبة وحزنها أن يعلم المصاب أن حظه من المصيبة ما تحدثه له، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، فحظه منها ما أحدثته له، فإن أحدثت له سخطا وكفرا كتب في ديوان الهالكين، وإن أحدثت له جزعا وتفريطا في ترك واجب أو فعل محرم كتب في ديوان المفرطين، وإن أحدثت له شكاية وعدم صبر كتب في ديوان المغبونين، وإن أحدثت له اعتراضا على الله وقدحا في حكمته فقد قرع باب الزندقة أو ولجه، وإن أحدثت له صبرا وثباتا لله كتب في ديوان الصابرين، وإن أحدثت له الرضى عن الله كتب في ديوان الراضين، وإن أحدثت له الحمد والشكر كتب في ديوان الشاكرين، وكان تحت لواء الحمد مع الحمادين، وإن أحدثت له محبة واشتياقا إلى لقاء ربه كتب في ديوان المحبين المخلصين (1) .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط (2) » (3) .
__________
(1) زاد المعاد، ج 4 ص 192، 193، بتصرف يسير
(2) سنن الترمذي الزهد (2396) ، سنن ابن ماجه الفتن (4031) .
(3) تقدم تخريج هذا الحديث(75/228)
تاسعا: الاقتداء بأهل الصبر والعزائم:
ومما يعين على الصبر: التأمل في سير الصابرين وما لاقوه من(75/228)
صنوف البلاء وألوان الشدائد، وبخاصة أصحاب الدعوات وحملة الرسالات من أنبياء الله ورسله المصطفين الأخيار الذين جعل الله من حياتهم وجهادهم دروسا بليغة لمن بعدهم، ليتخذوا منها أسوة، ويتعزوا بها عما يصيبهم من متاعب الحياة وأذى الناس (1) ، فآدم يعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب بكى حتى ذهب بصره، وموسى يقاسي فرعون ويلقى من قومه المحن، وعيسى ابن مريم لا مأوى له إلا البراري في العيش الضنك، ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين يصابر الفقر، وقتل عمه حمزة وهو من أحب أقاربه إليه، ونفور قومه عنه، وغير هؤلاء من الأنبياء والأولياء مما يطول ذكره (2) .
يقول الماوردي: ومن تسهيل المصائب أن يتأسى المصاب بذوي الغير، ويتسلى بأولي العبر، ويعلم أنهم الأكثرون عددا، والأسرعون مددا، فيستجد من سلوة الأسى وحسن العزا ما يخفف شجوه ويقل هلعه (3) .
__________
(1) د. يوسف القرضاوي، الصبر في القرآن، ص 97
(2) المنبجي، تسلية أهل المصائب، ص 31
(3) أدب الدنيا والدين، ص 283(75/229)
الخاتمة:
وفي آخر المطاف خلص البحث إلى نتائج علمية عديدة،(75/229)
أبرزها ما يلي:
أولا: أن الصبر في اللغة يستخدم بمعان عدة، منها: الحبس والمنع، والشدة والقوة، والجمع والضم، والثبات.
ثانيا: أن الصبر في الاصطلاح لفظ عام، يختلف تعريفه باختلاف الموطن الذي يحتاج إليه فيه، ولذا عرف بتعريفات كثيرة، لعل أشملها أنه: الثبات على أحكام الكتاب والسنة.
ثالثا: أن الصبر في الجملة واجب بإجماع الأمة. وأما حكمه التفصيلي فيختلف باختلاف نوع المصبور عنه أو المصبور عليه، فلكل نوع حكم يخصه من الأحكام التكليفية الخمسة.
رابعا: أن العلماء قسموا الصبر إلى أقسام عدة باعتبارات مختلفة، وأن هذه الأقسام تندرج عموما تحت ثلاثة أقسام رئيسة هي: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر على المحن والمصائب.
خامسا: أنه لعظم شأن الصبر على الطاعة ورد الأمر به على كل من: الصلاة، والجهاد، والقيام بأمر الدعوة إلى الله، والثبات على الدين والعض عليه بالنواجذ، وعلى غير ذلك من أنواع الطاعات والعبادات.
سادسا: أن العبد يحتاج إلى الصبر على الطاعة في حالات ثلاث هي: قبل الشروع في الطاعة، وحال القيام بها، وبعد الفراغ منها.(75/230)
سابعا: أنه على قدر الإيمان واليقين يكون الابتلاء، وأن الله سبحانه وتعالى إذا أحب قوما ابتلاهم.
ثامنا: أن أنبياء الله ورسله قد سطروا أروع الأمثلة في الصبر على البلاء.
تاسعا: أن للصبر آدابا ظاهرة، وآدابا خفية.
وتتمثل الآداب الظاهرة في: الصبر عند حلول البلاء بالعبد، والاسترجاع، وسكون اللسان، وسكون الجوارح، وعدم إظهار أثر المصيبة، واجتناب إقامة المآتم، واشتغال المصاب بما هو أصلح له، والبقاء في البلدة التي يصيبها وباء.
وتتمثل الآداب الخفية في: الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره، والاستعانة بالله والتوكل عليه، وحسن الظن بالله، والإخلاص له سبحانه، وعدم تمني الموت.
عاشرا: أن أبرز فضائل الصبر في القرآن تتمثل في التالي:
1 - اقتران الصبر بأركان الإسلام وقيمه ومقامات الإيمان.
2 - معية الله سبحانه للصابرين.
3 - ظفرهم بمحبته سبحانه.
4 - إطلاق البشرى لهم بأن جمع سبحانه لهم ثلاثة لم يجمعها لغيرهم، وهي: الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم.(75/231)
5 - إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم، وتوفيتهم أجورهم بغير حساب.
6 - ضمان النصر والمدد لهم من الله.
7 - ضمان سلامتهم من شر الأشرار، وحفظهم من كيد الأعداء.
8 - مدح الله لهم وثناؤه عليهم.
9 - دخولهم الجنة وتسليم الملائكة عليهم.
10 - أنهم هم الذين يلقون الأعمال الصالحة والجزاء عليها.
11 - أنهم هم الذين ينتفعون بآيات الله ويتعظون بها.
12 - أنهم أهل الميمنة.
13 - أن الصبر من عزم الأمور.
14 - أنه يورث الإمامة في الدين.
حادي عشر: أن أبرز فضائل الصبر في السنة تتمثل في التالي:
أ- تعريف الإيمان بالصبر والسماحة.
2 - أن الصبر ضياء.
3 - أنه خير عطاء أعطيه الإنسان وأوسعه.
4 - أن الصابر على طاعة الله وعن معصيته أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة.
5 - أن الصبر على البلاء أحد أربع خصال الخير في الدنيا والآخرة.(75/232)
6 - اقتران الصبر بالنصر.
7 - توفيق الله الصابرين.
8 - عظم أجر الصبر على الأذى من الناس.
9 - تكفير الذنوب والخطايا.
10 - نيل المكافأة في الدنيا.
11 - الفوز بالجنة في الآخرة.
12 - إكرام الصابرين بتحية الملائكة لهم في الجنة.
ثاني عشر: أن أبرز فضائل الصبر في آثار سلف الأمة وعلمائها تتمثل في التالي:
1 - أن الصبر نصف الإيمان.
2 - أنه ملاك الإيمان وذروته.
3 - أنه لا إيمان لمن لا صبر له.
4 - أنه معقل للمؤمن.
5 - أنه كنز من كنوز الخير.
6 - أنه من خصال البر.
7 - أنه من أفضل الأعمال.
8 - أنه مقام أولي العزم من الرسل.
9 - أنه أفضل العدة للمسلم.(75/233)
10 - أنه سبب دخول الجنة والنجاة من النار.
11 - أنه مطية لا تكبو.
12 - ارتباطه الوثيق بالتقوى.
13 - أنه مما يدرك به العبد رغائب الدنيا والآخرة.
14 - أنه من حسن التوفيق وأمارات السعادة للمسلم.
15 - أنه حمية من أدواء القلب، وحفظ لصحة العبودية.
16 - أنه عوض عن كل ما يفقده المسلم من متاع الحياة الدنيا.
ثالث عشر: أن مما يعين المسلم على الصبر على طاعة الله:
1 - تقوية باعث الدين.
2 - معرفة حسن عاقبة الطاعة وأجرها العظيم عند الله.
3 - قصر الأمل.
4 - الدعاء.
رابع عشر: أن مما يعين المسلم على الصبر عن معصية الله:
1 - تقوية باعث الدين.
2 - إضعاف باعث الشهوة.
3 - اللجوء إلى الله تعالى.
4 - الاستعانة بالصلاة.(75/234)
5- التفكر في مفاسد المعصية وسوء عاقبتها.
خامس عشر: أن مما يعين المسلم على الصبر على المحن والمصائب:
1- الإيمان بقضاء الله وقدره.
2- الاستعانة بالله.
3- فقه مضمون الاسترجاع.
4- اليقين بحسن الجزاء عند الله.
5- اليقين بالفرج
6- المعرفة بطبيعة الحياة الدنيا.
7- رؤية نعم الله.
8- علم المصاب بأن حظه من المصيبة بحسب موقفه منها.
9- الاقتداء بأهل الصبر والعزائم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(75/235)
النور
لفضيلة الدكتور / مسفر بن سعيد الغامدي
المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) .
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (3) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة الأحزاب الآية 70
(4) سورة الأحزاب الآية 71(75/237)
لما للنور من أهمية في حياة العباد، بل لجميع المخلوقات، ولأن الحياة لا يمكن أن تستمر من دون النور، ولأن الله سمى نفسه نورا، ووصف نفسه بالنور، وجعل نور مخلوقاته من نوره وجعل كتابه نورا، ونبيه نورا، ودينه نورا، وصلاته نورا، وجعل في قلوب أوليائه نورا، وجعل دار كرامته نورا، وحرم أعداءه النور، لهذا ولغيره كان هذا البحث المتواضع؛ إن أحسنت فمن الله، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله من كل ذنب وخطيئة، وسأرجع عن كل ما أخطأت فيه إذا تبين لي الحق والصواب، أسأل الله العلي العظيم أن يجعل في قلبي نورا، وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وأن يجعل لي نورا، وأن يعظم لي نورا، وأن يمتعني برؤية نور وجهه الكريم الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة؛ آمين.(75/238)
تعريف النور:
يعرف النور على أوجه:
أحدها: يكون بمعنى الإسلام، قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) يعني: دينه، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (2) .
ثانيها: يكون بمعنى الإيمان الذي يهتدى به، قال الله تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} (3) .
ثالثها: يكون بمعنى هادي أهل السماوات والأرض، قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (4) .
رابعها: يكون بمعنى ضوء النهار، قال تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (5) .
خامسها: يكون بمعنى ضوء القمر، قال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} (6) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 32
(2) سورة الصف الآية 8
(3) سورة الحديد الآية 28
(4) سورة النور الآية 35
(5) سورة الأنعام الآية 1
(6) سورة نوح الآية 16(75/239)
سادسها: يكون بمعنى الضوء الذي يعطيه الله للمؤمنين يمشون به على الصراط يوم القيامة، قال تعالى: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} (1) وقال: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} (2) .
سابعها: يكون بمعنى الحلال والحرام والأحكام والمواعظ التي وردت في التوراة، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} (3) .
ثامنها: يكون بمعنى القرآن، وما فيه من بيان الحلال والحرام والأمر والنهي قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} (4) .
تاسعها: يكون بمعنى النبي، ورد في صفته صلى الله عليه وسلم (أنور المتجرد) أي نير لون الجسم. يقال للحسن المشرق اللون: أنور، يقال: أنار فهو منير.
عاشرها: يكون بمعنى " الرب " قال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (5) .
__________
(1) سورة الحديد الآية 12
(2) سورة التحريم الآية 8
(3) سورة المائدة الآية 44
(4) سورة التغابن الآية 8
(5) سورة الزمر الآية 69(75/240)
والنور: اسم من أسماء الله الحسنى قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1) .
وهو الذي يبصر بنوره ذو العماية، ويرشد بهداه ذو الغواية، وقيل: هو الظاهر الذي به كل ظهور. فالظاهر في نفسه المظهر لغيره يسمى نورا.
وفي حديث أبي ذر (قال له ابن شقيق: «لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أسأله: هل رأيت ربك؟ فقال: قد سألته، فقال: " نور أني أراه " أي هو نور كيف أراه (2) » .
وفي حديث الدعاء «اللهم اجعل في قلبي نورا (3) » وباقي أعضائه (4) ، أراد ضياء الحق وبيانه كأنه قال: اللهم استعمل هذه الأعضاء مني في الحق، واجعل تصرفي وتقلبي فيها على سبيل الصواب والخير. (5)
والنور: من صفات الله عز وجل قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (6) ،
__________
(1) سورة النور الآية 35
(2) انظر شرح النووي على مسلم، (باب ما جاء في رؤية الله عز وجل، من كتاب الإيمان) ج 3 ص 12.
(3) صحيح البخاري الدعوات (6316) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (763) ، سنن الترمذي الصلاة (442) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1620) ، سنن أبي داود الأدب (5043) ، مسند أحمد (1/373) ، موطأ مالك الطلاق (1262) ، سنن الدارمي الصلاة (1255) .
(4) صحيح مسلم، باب الدعاء في صلاة الليل، كتاب صلاة المسافرين وقصرها ج 1 ص 530.
(5) النهاية لابن الأثير ج 5 ص 124، 125.
(6) سورة النور الآية 35(75/241)
قيل في تفسيره: هادى أهل السماوات والأرض، وقيل: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} (1) أي: مثل نور هداه في قلب المؤمن.
والنور: الضياء، والنور: ضد الظلمة، وفي المحكم: النور: الضوء، أيا كان. وقيل: هو شعاعه وسطوعه.
والجمع: أنوار، ونيران، والمنار والمنارة: موضع النور. (2)
والنور: هو الهادي، وقيل: المنور، وقيل: هو الحق، وقيل: هو الذي لا يخفى على أوليائه (3) . .
وقال ابن القيم: والله سبحانه وتعالى سمى نفسه نورا، وجعل كتابه نورا، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا، ودينه نورا، واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورا يتلألأ قال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) .
__________
(1) سورة النور الآية 35
(2) لسان العرب ج 5 ص 240، 241
(3) الاعتقاد للبيهقي ص 20.
(4) سورة النور الآية 35(75/242)
وقد فسر قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1) بكونه منور السماوات والأرض، وهادي أهل السماوات والأرض، فبنوره اهتدى أهل السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعله، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به، ومنه اشتق له اسم النور، الذي هو أحد الأسماء الحسنى، والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله. . . ثم قال: وفي معجم الطبراني، والسنة له، وكتاب عثمان الدارمي وغيرها عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ليس عند ربكم ليل ولا نهار، ونور السماوات والأرض من نور وجهه) .
وهذا الذي قاله ابن مسعود أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها بأنه هادي أهل السماوات والأرض، وأما من فسرها بأنه منور السماوات والأرض فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود. والحق أنه نور السماوات والأرض بهذه الاعتبارات كلها (2)
__________
(1) سورة النور الآية 35
(2) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية لابن القيم 1401 هـ(75/243)
الفصل الأول: الله سمى نفسه نورا
قال الله تعالى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) .
__________
(1) سورة النور الآية 35(75/243)
قال ابن كثير: قال ابن عباس: هادي أهل السماوات والأرض، ومدبر الأمر فيهما، نجومهما، وشمسهما، وقمرهما.
وقال ابن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه.
وقال السدي: فبنوره أضاءت السماوات والأرض (1) .
وقال القرطبي: " واختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فقيل: المعنى أي به وبقدرته أنارت أضواؤها، واستقامت أمورها، وقامت مصنوعاتها. . . وهو الذي أبدع الموجودات، وخلق العقل نورا هاديا لأن ظهور الموجود به حصل بالضوء ظهور المبصرات، تبارك الله وتعالى لا رب غيره. قال معناه مجاهد والزهري وغيرهما.
وقال ابن عرفة: أي منور السماوات والأرض. كذا قال الضحاك والقرظي.
وقال مجاهد: مدبر الأمور في السماوات والأرض.
وقال أبي بن كعب والحسن وأبو العالية: مزين السماوات بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين. وقال ابن عباس وأنس: المعنى الله هادي أهل السماوات
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 60، 61.(75/244)
والأرض. والأول أعم للمعاني وأصح مع التأويل (1) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه يوم أذاه أهل الطائف: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي غضبك، أو أن ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك (2) » .
وأخرج البخاري بسنده من حديث ابن عباس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال: (اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد (3) » . . الحديث (4) .
قال ابن تيمية: النص في كتاب الله وسنة رسوله قد سمى الله نور السماوات والأرض، وقد أخبر النص أن الله نور، وأخبر أيضا أنه يحتجب بالنور فهذه ثلاثة أنوار في النص وقد تقدم الأول.
وأما الثاني: فهو في قوله: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (5) وفي قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} (6) وفيما رواه مسلم في صحيحة عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق
__________
(1) تفسير القرطبي ج 12 ص 256، 257.
(2) سيرة ابن هشام ج 2 ص 30.
(3) صحيح البخاري الجمعة (1120) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (769) ، سنن الترمذي الدعوات (3418) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1619) ، سنن أبي داود الصلاة (771) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1355) ، مسند أحمد (1/366) ، موطأ مالك النداء للصلاة (500) ، سنن الدارمي الصلاة (1486) .
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية ج 6 ص 386، 387.
(5) سورة الزمر الآية 69
(6) سورة النور الآية 35(75/245)
خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل (1) » . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في دعاء الطائف: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك» رواه الطبراني وغيره. ومنه قول ابن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السماوات من نور وجهه (2)
ومنه قوله: فيما رواه مسلم في صحيحة عن أبي موسى قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه (3) » فهذا الحديث فيه ذكر حجابه.
فإن تردد الراوي في لفظ النار والنور لا يمنع ذلك، فإن مثل هذه النار الصافية التي كلم بها موسى يقال لها نار ونور، كما سمى الله نار المصباح نورا، بخلاف النار المظلمة كنار جهنم فتلك لا تسمى نورا.
فالأقسام ثلاثة: " إشراق بلا إحراق " وهو النور المحض
__________
(1) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2408) ، سنن الترمذي الإيمان (2642) ، مسند أحمد (2/197) .
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية ج 6 ص 386، 387.
(3) صحيح مسلم الإيمان (179) ، مسند أحمد (4/405) .(75/246)
كالقمر. و" إحراق بلا إشراق " وهي النار المظلمة. و" ما هو نار ونور " كالشمس، ونار المصابيح التي في الدنيا توصف بالأمرين، وإذا كان كذلك صح أن يكون نور السماوات والأرض، وأن يضاف إليه النور، وليس المضاف هو عين المضاف إليه.
وقد أخبر الله في كتابه أن الأرض تشرق بنور ربها، فإذا كانت تشرق من نوره كيف لا يكون هو نورا؟ ولا يجوز أن يكون هذا النور المضاف إليه إضافة خلق وملك واصطفاء - كقوله: {نَاقَةُ اللَّهِ} (1) ونحو ذلك - لوجوه:
أحدها: أن النور لم يضف قط إلى الله إذا كان صفة لأعيان قائمة، فلا يقال في المصابيح التي في الدنيا: أنها نور الله، ولا في الشمس والقمر، وإنما يقال كما قال عبد الله بن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السماوات من نور وجهه. وفي الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة» .
الثاني: أن الأنوار المخلوقة كالشمس والقمر تشرق لها الأرض في الدنيا، وليس من نور إلا وهو خلق من خلق الله، وكذلك من قال: منور السماوات والأرض لا ينافي أنه نور، وكل منور نور،
__________
(1) سورة الأعراف الآية 73(75/247)
فهما متلازمان.
ثم إن الله تعالى ضرب مثل نوره الذي في قلوب المؤمنين بالنور الذي في المصباح، وهو في نفسه نور، وهو منور لغيره، فإذا كان نوره في القلوب هو نور، وهو منور، فهو في نفسه أحق بذلك، وقد علم أن كل ما هو نور فهو منور (1) .
وقد قرر ابن تيمية وابن القيم والمحققون من أهل الحديث وأئمة السنة: أنه نور على الحقيقة، بل ذكر ابن تيميه أن الجهمية والمعتزلة أثبتا أنه نور ثم قال ابن تيمية: وأول هؤلاء المؤمنين بالله وبأسمائه وصفاته، رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال الذي عارض به المعترض فقال صلى الله عليه وسلم: «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه (2) » فأخبر أنه حجب عن المخلوقات بحجابه النور أن تدركها سبحات وجهه، وأنه لو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه، فهذا الحجاب عن إحراق السبحات يبين ما يرد في هذا المقام.
فقد تبين أن جميع ما ذكر من الأقوال يرجع إلى معنيين من معاني كونه نور السماوات والأرض، وليس في ذلك دلالة على أنه
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية ج 6 ص 392.
(2) صحيح مسلم الإيمان (179) ، سنن ابن ماجه المقدمة (196) ، مسند أحمد (4/405) .(75/248)
في نفسه ليس بنور (1) .
ونخلص إلى أن المحققين من أهل السنة والجماعة أثبتوا أن الله سبحانه وتعالى: في نفسه نور، وسمى نفسه نورا، وصفته النور، ومنه النور، والمنور لغيره هو: نور، وكل ذلك - كما تقدم - ثابت في الكتاب، والسنة، وأقوال الأئمة؛ فهو نور، لكنه سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (2) فهو نور لا كالنور المخلوق، نور يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، نور يليق بالخالق، ومختلف عن نور المخلوق الذي هو خالقه سبحانه، والذي أخبرنا بهذا هو سبحانه، وأخبرنا بذلك رسوله الذي هو أعلم خلقه به.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية ج 6 ص 396.
(2) سورة الشورى الآية 11(75/249)
الفصل الثاني: احتجب سبحانه عن خلقه بالنور
قال مسلم: باب في قوله عليه السلام: «نور أنى أراه (1) » وفي قوله: «رأيت نورا (2) » .
وأخرج بسنده من «حديث أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟
قال: " نور أنى أراه (3) » وفي الرواية الأخرى: «رأيت نورا (4) » .
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (178) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3282) ، مسند أحمد (5/157) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (178) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3282) ، مسند أحمد (5/175) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (178) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3282) ، مسند أحمد (5/157) .
(4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، ج 1 ص 161، 162 رقم الحديث 291، 292، 293.(75/249)
وأخرج أيضا من حديث أبى موسى قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: " إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور (وفي رواية أبي بكر: النار) لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه (1) » .
قال النووي:. . . ومعناه حجابه نور فكيف أراه، قال الإمام أبو عبد الله المازري: الضمير في أراه عائد على الله سبحانه وتعالى، ومعناه: أن النور منعني من الرؤية. . .
وقوله: «رأيت نورا (2) » معناه رأيت النور فحسب ولم أر غيره. . . . . (3)
ثم قال:. . . معنى " سبحات وجهه ": نوره وجلاله وبهاؤه. . . . . (4)
قال ابن تيمية:. . . فأخبر أنه حجب عن المخلوقات بحجابه
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، ج 1 ص 161، 162 رقم الحديث 291، 292، 293.
(2) صحيح مسلم الإيمان (178) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3282) ، مسند أحمد (5/175) .
(3) صحيح مسلم بشرح النووي ج 3 ص 12، 13، 14
(4) صحيح مسلم بشرح النووي ج 3 ص 12، 13، 14(75/250)
النور أن تدركها سبحات وجهه، وأنه لو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه، فهذا الحجاب عن إحراق السبحات يبين ما يرد في هذا المقام. (1)
وقال ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: معناه كان ثم نور وحال دون رؤيته نور فأنى أراه. قال: ويدل عليه أن في بعض الألفاظ الصحيحة: «هل رأيت ربك؟ فقال: " رأيت نورا (2) » . . .، ويدل على صحة ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الآخر: «حجابه النور (3) » فهذا النور هو والله أعلم النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه «رأيت نورا (4) » .
وقال ابن حجر:. . وبهذا يتبين مراد أبي ذر بذكره النور، أي النور حال بين رؤيته له ببصره. (5)
وقال ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية:. . . فيكون - والله أعلم - معنى قوله لأبي ذر «رأيت نورا (6) » : أنه رأى الحجاب، ومعنى قوله " نور أنى أراه؟ " إي فكيف أراه
__________
(1) مجموع الفتوى ج 6 ص 396.
(2) صحيح مسلم الإيمان (178) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3282) ، مسند أحمد (5/175) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (179) ، سنن ابن ماجه المقدمة (196) ، مسند أحمد (4/405) .
(4) اجتماع الجيوش الإسلامية ص 7
(5) فتح الباري ج 8 ص 608.
(6) صحيح مسلم الإيمان (178) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3282) ، مسند أحمد (5/175) .(75/251)
والنور حجاب بيني وبينه يمنعني من رؤيته؟ فهذا صريح في نفي الرؤية. والله اعلم. (1)
واختلف الصحابة، هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه؟ أم لا؟ ثم اختلف من أثبت الرؤية هل رآه بأم عينيه؟ أم رآه بقلبه؟
فريق أثبتوا الرؤية القلبية، منهم ابن عباس رضي الله عنه وفريق آخر نفوا الرؤية؛ منهم عائشة رضي الله عنها.
قال ابن حجر: " وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب.
ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرد حصول العلم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بالله على الدوام. (2)
لكن حديث ابن عباس الذي أخرجه أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ربي عز وجل (3) » ، عمدة من أثبت الرؤية.
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية ص 214 ط الأولى.
(2) فتح الباري ج 8 ص 608.
(3) ذكره الألباني في صحيح الجامع رقم 3460 وقال عنه: صحيح(75/252)
قال ابن القيم: وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرؤية له، إجماع الصحابة على أنه لم ير ربه ليلة المعراج، وبعضهم استثنى ابن عباس فيمن قال ذلك، وشيخنا - يعني ابن تيمية - يقول: ليس ذلك بخلاف في الحقيقة، فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه، وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين حيث قال: إنه صلى الله عليه وسلم رآه عز وجل، ولم يقل بعيني رأسه، ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي الله عنهما (1)
ونختم هذا المبحث: بأن رسول الله رأى ربه بقلبه، ورأى حجابه النور بعيني رأسه.
__________
(1) اجتماع الجيوش ص 7.(75/253)
الفصل الثالث: الله يخرج عباده من الظلمات إلى النور
قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام، فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير، وأن الكافرين إنما وليهم الشياطين تزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات، ويخرجونهم
__________
(1) سورة البقرة الآية 257(75/253)
ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) .
ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات، لأن الحق واحد، والكفر أجناس كثيرة، وكلها باطلة كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وقال تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (3) وقال: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} (4) ، إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق، وانتشار الباطل وتفرقه وتشعبه (5) .
وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (6)
قال ابن كثير: أي: من لم يهده فهو هالك جاهل حائر بائر كافر، كما قال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} (7) وهذا مقابلة ما قال في مثل المؤمنين: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} (8) فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نورا، وعن أيماننا نورا، وعن شمائلنا
__________
(1) سورة البقرة الآية 257
(2) سورة الأنعام الآية 153
(3) سورة الأنعام الآية 1
(4) سورة النحل الآية 48
(5) تفسير ابن كثير ج 1 ص 462.
(6) سورة النور الآية 40
(7) سورة الأعراف الآية 186
(8) سورة النور الآية 35(75/254)
نورا، وأن يعظم لنا نورا. (1)
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (2) .
قال ابن كثير: أي: بسبب رحمته بكم وثنائه عليكم، ودعاء ملائكته لكم، يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين ... (3)
وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4)
قال ابن كثير: أي: يهتدي كيف يسلك وكيف يتصرف به. والنور: القرآن، كما رواه العوفي وابن أبي طلحة، عن ابن عباس. وقال السدي: الإسلام. والكل صحيح (5) .
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 6 ص 77.
(2) سورة الأحزاب الآية 43
(3) تفسير ابن كثير ج 6 ص 428.
(4) سورة الأنعام الآية 122
(5) تفسير ابن كثير ج 3 ص 322.(75/255)
الفصل الرابع: جعل في كتبه نورا
1 - جعل في كتابه القرآن نورا.(75/255)
قال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (1) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2)
وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3)
قال ابن كثير: أي: القرآن والوحي الذي جاء به مبلغا إلى الناس ... (4)
وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (5) .
وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (6) .
قال ابن كثير: يقول تعالى: يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب {أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} (7) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 15
(2) سورة المائدة الآية 16
(3) سورة الأعراف الآية 157
(4) تفسير ابن كثير ج 3 ص 488.
(5) سورة الصف الآية 8
(6) سورة التوبة الآية 32
(7) سورة التوبة الآية 32(75/256)
أي: ما بعث به رسوله من الهدى ودين الحق، بمجرد جدالهم وافترائهم، فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس، أو نور القمر بنفخه، وهذا لا سبيل إليه، فكذلك ما أرسل الله به رسوله لا بد أن يتم ويظهر، ولهذا قال مقابلا لهم فيما راموه وأرادوه: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) .
وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (2) ، وهو القرآن.
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (3) وهو القرآن.
وقال تعالى: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (4) ، وهو القرآن.
قال ابن القيم: وجعل كتابه نورا،. . ودينه نورا. . . (5)
ومما سبق يتضح أن الله سمى كتابه نورا، وسمى دينه نورا؛ لما يشتمل عليه النور من الهدى والحق والصواب، والتوفيق والطهر والنقاء والصفاء. . .
__________
(1) سورة التوبة الآية 32
(2) سورة التغابن الآية 8
(3) سورة النساء الآية 174
(4) سورة الشورى الآية 52
(5) اجتماع الجيوش ص 6.(75/257)
2 - جعل في كتابه التوراة نورا
قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) .
قال ابن كثير: مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران (2) ...
وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} (3) .
قال ابن كثير: ... أي: قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لإنزال شيء من الكتب من عند الله، في جواب سلبهم العام بإثبات قضية جزئية موجبة: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} (4) يعني التوراة التي قد علمتم- وكل أحد- أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران نورا وهدى للناس، أي: ليستضاء بها في كشف
__________
(1) سورة المائدة الآية 44
(2) تفسير ابن كثير ج 3 ص 109.
(3) سورة الأنعام الآية 91
(4) سورة الأنعام الآية 91(75/258)
المشكلات، ويهتدي بها من ظلم الشبهات (1) .
وبهذا نعلم أن كتب الله كلها جعل الله فيها نورا، وهداية للأنبياء وأتباعهم، ولكل الأمم، بل لكل البشرية لمن أراد أن يسير على صراط مستقيم لا عوج فيه.
3 - جعل في كتابه الإنجيل نورا
قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (2) .
قال ابن كثير: يقول تعالى: {وَقَفَّيْنَا} (3) أي: أتبعنا {عَلَى آثَارِهِمْ} (4) يعني: أنبياء بني إسرائيل {بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} (5) أي: مؤمنا بها حاكما بما فيها {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} (6) أي: هدى إلى الحق، ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات..... (7) .
والإنجيل فيه نور مثل التوراة، ومثل القرآن وكل كتب الله فيها نور؛ لأنها من عند النور، ومن تسمى بالنور.
__________
(1) تفسير ابن كثير ج 3 ص 293، 294.
(2) سورة المائدة الآية 46
(3) سورة المائدة الآية 46
(4) سورة المائدة الآية 46
(5) سورة المائدة الآية 46
(6) سورة المائدة الآية 46
(7) تفسير ابن كثير ج 3 ص 118.(75/259)
الفصل الخامس: سمي الله رسوله (السراج المنير) وأمره بإخراج الناس من الظلمات إلى النور
قال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (1) .
قال ابن كثير: أي: إنما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب، لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد (2) ..
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (3) .
قال ابن كثير: أي: من ظلمات الجهل والكفر، والآراء المتضادة إلى نور الهدى واليقين والإيمان (4) .
وقال تعالى: {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} (5) .
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 1
(2) تفسير ابن كثير ج 4 ص 396.
(3) سورة الحديد الآية 9
(4) تفسير ابن كثير ج 8 ص 36.
(5) سورة الطلاق الآية 11(75/260)
قال ابن كثير: أي: من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم، وقد سمي الله تعالى الوحي الذي أنزله نورا؛ لما يحصل به من الهدى، كما سماه روحا؛ لما يحصل به من حياة القلوب فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) .
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (2) {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (3) .
قال ابن القيم: وقد سماه الله سراجا منيرا، وسمي الشمس سراجا وهاجا.
والمنير: هو الذي ينير من غير إحراق بخلاف الوهاج، فإن فيه نوع إحراق وتوهج (4) .
إنه أنار وفتح عيونا عميا، وأذانا صما، وقلوبا غلفا، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، فيستحق أن يكون من أسمائه [السراج المنير] .
__________
(1) سورة الشورى الآية 52
(2) سورة الأحزاب الآية 45
(3) سورة الأحزاب الآية 46
(4) زاد المعاد ج 1 ص 97.(75/261)
الفصل السادس: النبي سأل الله أن يجعل له في كل عضو من أعضائه نورا
أخرج البخاري بسنده من حديث ابن عباس. . . وكان يقول في دعائه: «اللهم اجعل في قبري نورا، وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وعن يميني نورا، وعن يساري نورا، وفوقي نورا، وتحتي نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا، واجعل لي نورا (1) »
وزاد مسلم «واجعل في لساني نورا، واجعل في نفسي نورا، وأعظم لي نورا، اللهم أعطني نورا (2) » .
وفي رواية عند مسلم شك الراوي فقال: «واجعل لي نورا أو قال: اجعلي نورا (3) »
قال ابن حجر: قال القرطبي: هذه الأنوار التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن حملها على ظاهرها فيكون سأل الله تعالى أن يجعل له في كل عضو من أعضائه نورا يستضيء به يوم القيامة في تلك الظلم هو ومن تبعه أو من شاء الله منهم ... .
ثم قال ابن حجر: والتحقيق في معناه أن النور مظهر ما نسب
__________
(1) صحيح البخاري، الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه من الليل حديث رقم 6316 (فتح الباري ج 11 ص 116) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1198) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (763) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1620) ، سنن أبي داود الصلاة (1367) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1363) ، مسند أحمد (1/373) ، موطأ مالك النداء للصلاة (267) ، سنن الدارمي الصلاة (1255) .
(3) صحيح مسلم، كتاب المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل ج 1 ص 525-530.(75/262)
إليه، وهو يختلف بحسبه: فنور السمع مظهر للمسموعات، ونور البصر كاشف للمبصرات، ونور القلب كاشف للمعلومات، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات.
وقال الطيبي: معنى طلب النور للأعضاء عضوا عضوا أن يتحلى بأنوار المعرفة والطاعات، ويتعرى عما عداهما (1) ... .
وأخرج أحمد بسنده من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه، وحزنه، وأبدله الله مكانه فرحا، قال: فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها (2) » .
__________
(1) انظر (فتح الباري ج 11 ص 118) .
(2) مسند أحمد ج 1 ص 391، والأذكار للنووي ص 104، وابن السني في عمل اليوم والليلة رقم 334 من حديث أبي موسى، وقال المحقق: وحديث ابن مسعود أثبت منه سندا وأشهر رجالا، وهو حديث حسن، وقد صححه بعض الأئمة.(75/263)
الفصل السابع: جعل دار أوليائه نورا
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (1) .
قال ابن كثير: أي: لهم عند ربهم أجر جزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم، وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال ... (2) .
وأخرج مسلم بسنده من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور. عن يمين الرحمن عز وجل. وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا (3) » .
وأخرج الترمذي بسنده من حديث معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: [المتحابون في جلالي، لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء (4) » ] " قال
__________
(1) سورة الحديد الآية 19
(2) تفسير ابن كثير ج 8 ص 49.
(3) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام، حديث رقم 18 ج 3 ص 1458.
(4) سنن الترمذي الزهد (2390) ، مسند أحمد (5/328) .(75/264)
أبو عيسى: حديث حسن صحيح (1) .
نعم هي نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، في مقام أبدا، في حبرة ونضرة، في دور عالية سليمة بهية.
ومما سبق يتضح من أوصاف الجنة أنها " نور " وهو لا شك من نور الله الذي أشرقت له السماوات والأرض كما قال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (2) .
قال ابن كثير: أي: أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق تبارك وتعالى للخلائق لفصل القضاء. (3)
قال القرطبي: قال العلماء: ليس في الجنة ليل ونهار، وإنما هم في نور دائم أبدا، وإنما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب، ذكره أبو الفرج ابن الجوزي. (4) .
__________
(1) سنن الترمذي، كتاب الزهد، باب في الحب في الله، ج 4 ص 598 حديث رقم 2390.
(2) سورة الزمر الآية 69
(3) تفسير ابن كثير ج 7 ص 108.
(4) التذكرة للقرطبي ص 504، وانظر الجنة والنار للأشقر ص 174.(75/265)
قال ابن تيمية: والجنة ليس فيها شمس ولا قمر، ولا ليل ولا نهار، لكن تعرف البكرة والعشية بنور يظهر من قبل العرش (1) .
والجنة نور يتلألأ، وليس فيها شمس ولا قمر، فما هو هذا النور؟ إنه نور الله، بل إن أعظم نعيم في الجنة هو النظر إلى وجه الله العظيم، وهو نور، واسمه النور، وصفته النور، ودينه نور، ونبيه نور، وجنته نور، وبنوره يستضيء أولياؤه يوم القيامة ... .
فإذا كان أعظم نعيم في الجنة هو رؤية وجهه الذي يزداد به الناظر والرائي حسنا وجمالا ونورا وبهاء، فلا بد أن تكون داره التي أعدها لأوليائه نورا على نور، حتى تكون أعظم في النعيم، وكيف يكون نعيم من دون نور وحبور، وضياء؟ ، وهذا وغيره بفضل الله ومنه وكرمه تزداد الجنة به ضياء وبهجة ونورا، نسأل الله من فضله العظيم.
__________
(1) مجموع الفتاوى ج 4 ص 312، وانظر الجنة والنار للأشقر ص 174.(75/266)
الفصل الثامن: جعل نوره لأوليائه في الدنيا والآخرة
قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} (2) {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (3) {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (4) .
__________
(1) سورة الحديد الآية 12
(2) سورة الحديد الآية 13
(3) سورة الحديد الآية 14
(4) سورة الحديد الآية 15(75/266)
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين المتصدين: أنهم يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم في عرصات القيامة، بحسب أعمالهم، كما قال عبد الله بن مسعود في قوله: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} (1) قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ مرة) .
وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:
«من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء فدون ذلك، حتى إن من المؤمنين من يضيء نوره موضع قدميه (2) » .
وقال الضحاك: ليس أحد إلا يعطى نورا يوم القيامة، فإذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طفئ نور المنافقين، فقالوا: ربنا أتمم لنا نورنا.
__________
(1) سورة الحديد الآية 12
(2) تفسير الطبري ج 27 ص 128.(75/267)
وقوله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} (1) وهذا إخبار منه تعالى عما يقع يوم القيامة في العرصات من الأهوال المزعجة، والزلازل العظيمة، والأمور الفظيعة، وإنه لا ينجو يومئذ إلا من آمن بالله ورسوله، وعمل بما أمر الله، وترك ما عنه زجر. (2) .
وقاك القرطبي: قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} (3) .
أي: نستضيء من نوركم.. قال المفسرون: يعطي الله المؤمنين نورا يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضا نورا خديعة لهم؛ دليله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (4) ، وقيل: إنما يعطون النور؛ لأن جميعهم أهل دعوة دون الكافر، ثم يسلب المنافق نوره لنفاقه، قاله ابن عباس. (5) .
وقال تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} (6) .
قال ابن كثير: أي: لهم عند ربهم أجر جزيل، ونور عظيم يسعى بين أيديهم، وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدنيا من الأعمال. (7) .
__________
(1) سورة الحديد الآية 13
(2) تفسير ابن كثير ج 8 ص 41، 42.
(3) سورة الحديد الآية 13
(4) سورة النساء الآية 142
(5) تفسير القرطبي ج 17 ص 245.
(6) سورة الحديد الآية 19
(7) تفسير ابن كثير ج 8 ص 49.(75/268)
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) .
وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (2) .
قال ابن كثير: أي: من لم يهده الله فهو هالك جاهل حائر بائر كافر، كما قال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} (3) ، وهذا مقابلة ما قال في مثل المؤمنين: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} (4) ، فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نورا، وعن أيماننا نورا، وعن شمائلنا نورا، وأن يعظم لنا نورا. (5) .
وقال الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (6) .
__________
(1) سورة التحريم الآية 8
(2) سورة النور الآية 40
(3) سورة الأعراف الآية 186
(4) سورة النور الآية 35
(5) تفسير ابن كثير ج 6 ص 77.
(6) سورة النور الآية 35(75/269)
قال ابن كثير: قال أبي بن كعب: هو المؤمن الذي قد جعل الله الإيمان والقرآن في صدره، فضرب الله مثله فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1) ، فبدأ بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن فقال: مثل نور من آمن به، قال: فكان أبي بن كعب يقرؤها: " مثل نور من آمن به "، فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره، ثم قال الطبري: وهو مثل ضربه الله لطاعته، فسمى الله طاعته نورا، ثم سماها أنوارا شتى، قال أبي بن كعب: المصباح: النور، وهو القرآن والإيمان الذي في صدره (2) .
وقوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} (3) أي: يرشد الله إلى هدايته من يختاره، كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم نوره يومئذ، فمن أصاب يومئذ من نوره اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم الله عز وجل (4) » .
وقال تعالى:
__________
(1) سورة النور الآية 35
(2) تفسير الطبري ج 18 ص 103- 107، البحر المحيط ج 6 ص 455.
(3) سورة النور الآية 35
(4) تفسير ابن كثير ج 6 ص 60، أحمد 2 \ 176.(75/270)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1)
قال ابن كثير: قال سعيد بن جبير: لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله هذه الآية في حق هذه الأمة، و {كِفْلَيْنِ} (2) أي: ضعفين، وزادهم: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} (3) يعني: هدى يتبصر به من العمى والجهالة، ويغفر لكم، ففضلهم بالنور والمغفرة. (4) .
وأخرج مسلم من حديث جابر بن عبد الله، وكعب بن مالك قال: «يحشر الناس يوم القيامة على تل، فأكون أنا وأمتي على تل، فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد، الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول: من تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربنا. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: حتى ننظر إليك. فيتجلى لهم يضحك. قال: فينطلق بهم ويتبعونه. ويعطى كل إنسان منهم، منافق أو مؤمن، نورا ثم يتبعونه. وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك، تأخذ من شاء الله، ثم يطفأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون (5) » .... " (6) الحديث.
__________
(1) سورة الحديد الآية 28
(2) سورة الحديد الآية 28
(3) سورة الحديد الآية 28
(4) تفسير ابن كثير ج 8 ص 57، وعزاه إلى الطبري في تفسيره ج 27 ص 140، 141.
(5) صحيح مسلم الإيمان (191) ، مسند أحمد (3/384) .
(6) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة، ج 1 ص 178 رقم 316.(75/271)
الفصل التاسع: خلق الله النور يوم الأربعاء وخلق الله الملائكة من نور
أخرج مسلم بسنده من حديث أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: «خلق الله- عز وجل- التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء.... (1) » الحديث.
وأخرج مسلم بسنده من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم (2) » .
وخلقهم الله سبحانه وتعالى على صورة جميلة كريمة كما قال تعالى في جبريل: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (3) {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} (4) .
قال ابن عباس: {ذُو مِرَّةٍ} (5) ذو منظر حسن، وقال قتادة: ذو خلق طويل حسن. وقيل: {ذُو مِرَّةٍ} (6) : ذو قوة. ولا منافاة بين القولين، فهو قوي وحسن المنظر.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب صفات المنافقين، باب ابتداء الخلق، ج 4 ص 2149 رقم الحديث 27.
(2) صحيح مسلم، الزهد، باب في أحاديث متفرقة رقم الحديث 60، ج 4 ص 2294.
(3) سورة النجم الآية 5
(4) سورة النجم الآية 6
(5) سورة النجم الآية 6
(6) سورة النجم الآية 6(75/272)
وقد تقرر عند الناس وصف الملائكة بالجمال، كما تقرر عندهم وصف الشياطين بالقبح، ولذلك تراهم يشبهون الجميل من البشر بالملك، انظر إلى ما قالته النسوة في حق يوسف الصديق عندما رأينه: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} (1) .
ونختم أنه سبحانه خصص يوما من الأيام وهو يوم الأربعاء لخلق النور، وما ذاك إلا لأهميته ومكانته، ثم إن من أعظم مخلوقاته ملائكته، الموكلين بالمهام العظام، خلقهم من نور، فكانوا أجمل ما يكون وأقوى ما يكون، وأعظم ما يكون في خلقهم ... .
__________
(1) سورة يوسف الآية 31(75/273)
الفصل العاشر: الناس قسمان:
1 - أهل النور
2 - أهل الظلام
أما القسم الأول [أهل النور] ففيه قوله تعالى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) .
__________
(1) سورة النور الآية 35(75/273)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل (1) » .
قال ابن تيمية: ثم إن الله تعالى ضرب مثل نوره الذي في قلوب المؤمنين بالنور الذي في المصباح، وهو في نفسه نور، وهو منور لغيره، فإذا كان نوره في القلوب هو نور، وهو منور، فهو في نفسه أحق بذلك، وقد علم أن كل ما هو نور فهو منور (2) .
قال ابن كثير: المشكاة: الكوة التي لا منفذ لها ... ، والمصباح: النور، وهو القرآن الذي في صدره، والمصباح في زجاجة: أي: هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية ... ، كوكب دري: أي: مضيء مبين ضخم ... ، نور على نور: أي: نور النار ونور الزيت، وقيل: فهو يتقلب في خمسة من النور: فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة، وقيل: نور النار ونور الزيت، حين اجتمعا أضاءا، ولا يضيء واحد بغير صاحبه
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، ج 5 ص 26 رقم 2642، ثم قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وقال المبارك فوري: وأخرجه أحمد والحاكم وصححه ابن حبان، في تحفة الأحوذي ج 7 ص 401.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية ج 6 ص 392.(75/274)
كذلك نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا، فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه، وقوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} (1) أي: يرشد إلى هدايته من يختاره. (2) .
وقال ابن القيم: فإن الناس قسمان: أهل الهدى والبصائر، الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن الله سبحانه وتعالى، وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه على من قل نصيبه من العقل والسمع أمرها فيظنها شيئا له حاصل ينتفع به وهي: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (3) {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (4) .
وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق، أصحاب العلم النافع والعمل الصالح، الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أخباره ولم يعارضوها بالشبهات، وأطاعوه في أوامره، ولم يضيعوها بالشهوات، فلا
__________
(1) سورة النور الآية 35
(2) تفسير ابن كثير ج 6 ص 64.
(3) سورة النور الآية 39
(4) سورة النور الآية 40(75/275)
هم في علمهم من أهل الخوض الخراصين الذين هم في غمرة ساهون، ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم، الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الخاسرون، أضاء لهم نور الوحي المبين، فرأوا في نوره أهل الظلمات في ظلمات أرائهم يعمهون، وفي ضلالتهم يتهوكون، وفي ريبهم يترددون، مغترين بظاهر السراب، ممحلين مجدبين مما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الحكمة وفصل الخطاب، إن عندهم إلا نخالة الأفكار، وزبالة الأذهان، التي قد رضوا بها، واطمأنوا إليها، وقدموها على السنة والقرآن، إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه، أوجبه لهم اتباع الهوى، ونخوة الشيطان، وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان. (1) .
__________
(1) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية ص 9.(75/276)
وأما القسم الثاني [أهل الظلام] فقال ابن القيم رحمه الله فيهم: أهل الجهل والظلم، الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به والظلم باتباع أهوائهم الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (1) ، وهؤلاء قسمان:
أحدهما: الذين يحسبون أنهم على علم وهدى، وهم أهل الجهل والضلال، فهؤلاء أهل الجهل المركب، الذين يجهلون الحق ويعادونه، ويعادون أهله وينصرون الباطل، ويوالون أهله، وهم
__________
(1) سورة النجم الآية 23(75/276)
يحسبون أنهم على شيء، إلا أنهم هم الكاذبون، فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه بمنزلة رائي السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وهكذا هؤلاء أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب الذي يخون صاحبه أحوج ما هو إليه ... (1) .
ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان كما هو حال من أم السراب فلم يجده ماء، بل انضاف إلى ذلك أنه وجد عنده أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين سبحانه وتعالى، فحسب له ما عنده من العلم والعمل فوفاه إياه بمثاقيل الذر، وقدم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه فجعله هباء منثورا، إذ لم يكن خالصا لوجهه، ولا على سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وصارت تلك الشبهات الباطلة التي كان يظنها علوما نافعة كذلك هباء منثورا، فصارت أعماله وعلومه حسرات عليه، والسراب: ما يرى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهر يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري، والقيعة والقاع: هو المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه، ولا فيه واد، فشبه علوم من لم يأخذ علومه من الوحي وأعماله - بسراب يراه المسافر في شدة الحر فيؤمه فيخيب ظنه، ويجده نارا تلظى.
فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حشر الناس، واشتد
__________
(1) اجتماع الجيوش ص 10.(75/277)
بهم العطش بدت لهم كالسراب فيحسبونه ماء، فإذا أتوه وجدوا الله عنده فأخذتهم زبانية العذاب فعتلوهم إلى نار الجحيم، فسقوا ماء حميما، فقطع أمعاءهم، وذلك الماء الذي سقوه هو تلك العلوم التي لا تنفع، والأعمال التي كانت لغير الله تعالى، صيرها الله تعالى حميما سقاهم إياه، كما أن طعامهم لا يسمن ولا يغنى من جوع، وهو تلك العلوم والأعمال الباطلة التي كانت في الدنيا كذلك لا يسمن ولا يغني من جوع وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (1) {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (2) .
وهم الذين عني بقوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (3) ، وهم الذين عني بقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (4)
والقسم الثاني من هذا الصنف أصحاب الظلمات: وهم المنغمسون في الجهل بحيث قد أحاط بهم من كل وجه، فهم بمنزلة الأنعام، بل هم أضل سبيلا، فهؤلاء أعمالهم التي عملوها على غير بصيرة؟ بل بمجرد التقليد، واتباع الآباء من غير نور من الله تعالى،
__________
(1) سورة الكهف الآية 103
(2) سورة الكهف الآية 104
(3) سورة الفرقان الآية 23
(4) سورة البقرة الآية 167(75/278)
كظلمات: جمع ظلمة، وهي ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، وظلمة الظلم واتباع الهوى، وظلمة الشك والريب، وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله به رسله صلوات الله وسلامه عليهم، والنور الذي أنزله معهم ليخرجوا به الناس من الظلمات إلى النور ... (1) .
فان المعرض عما بعث الله تعالى به محمدا صلى الله عليه وآله وسلم من الهدى ودين الحق يتقلب في خمس ظلمات: قوله ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمة، وقلبه ظلمة، ووجهه مظلم، وكلامه مظلم، وحاله مظلم، وإذا قابلت بصيرته الخفاشية ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وآله وسلم من النور جد في الهروب منه وكاد نوره يخطف بصره، فهرب إلى ظلمات الآراء التي هي به أنسب وأولى كما قيل:
خفافيش أعشاها النهار بضوئه ... ووافقها قطع من الليل مظلم
فإذا جاء إلى زبالة الأفكار ونخالة الأذهان جال وصال وأبدى وأعاد وقعقع وفرقع ... ، فإذا طلع نور الوحي وشمس الرسالة انحجر في جحرة الحشرات، وقوله في بحر لجي، واللجي: العميق. منسوب إلى لجة البحر، وهو معظمه، وقوله تعالى: {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} (2) .
__________
(1) اجتماع الجيوش ص 10.
(2) سورة النور الآية 40(75/279)
تصوير لحال هذا المعرض عن وحيه فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره بتلاطم أمواج بعضها فوق بعض، والضمير الأول في قوله: {يَغْشَاهُ} (1) راجع إلى البحر، والضمير الثاني في قوله: {مِنْ فَوْقِهِ} (2) عائد إلى الموج، ثم إن تلك الأمواج مغشاه بسحاب، فهاهنا ظلمات ظلمة البحر اللجي، وظلمة الموج الذي من فوقه موج، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك كله، إذا أخرج من في هذا البحر يده لم يكد يراها ... .
ثم ضرب الله سبحانه لهم مثلا أخر مائيا فقال تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} (3) . فشبه نصيبهم مما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من النور والحياة بنصيب المستوقد النار التي طفئت عنه أحوج ما كان إليها وذهب نوره وبقي في الظلمات حائرا تائها، لا يهتدي سبيلا، ولا يعرف طريقا، وبنصيب أصحاب الصيب، وهو المطر الذي يصوب، أي: ينزل من علو إلى أسفل، فشبه الهدى الذي هدى به عباده، بالصيب، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، ونصيب المنافقين من هذا الهدى بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيب إلا ظلمات ورعد وبرق، ولا نصيب له فيما وراء ذلك مما هو
__________
(1) سورة النور الآية 40
(2) سورة النور الآية 40
(3) سورة البقرة الآية 19(75/280)
المقصود بالصيب من حياة البلاد والعباد والشجر والدواب (1) .
__________
(1) اجتماع الجيوش لابن القيم ص 11، 15.(75/281)
الفصل الحادي عشر: الصلاة نور
أخرج مسلم بسنده من حديث أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله محليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن (أو تملأ) ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها (1) » .
قال النووي: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة نور (2) » فمعناه: أنها تمنع من المعاصي وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهدي إلى الصواب، كما أن النور يستضاء به.
وقيل معناه: إنه يكون أجرها نورا لصاحبها يوم القيامة.
وقيل: لأنها سبب لإشراق أنوار المعارف، وانشراح القلب، ومكاشفات الحقائق لفراغ القلب فيها، وإقباله إلى الله تعالى بظاهرة وباطنه، وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (3) .
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، ج 1 ص 203 رقم 223.
(2) صحيح مسلم الطهارة (223) ، سنن الترمذي الدعوات (3517) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (280) ، مسند أحمد (5/344) ، سنن الدارمي الطهارة (653) .
(3) سورة البقرة الآية 45(75/281)
وقيل: معناه أنها تكون نورا ظاهرا على وجهه يوم القيامة، ويكون في الدنيا أيضا على وجهه البهاء، بخلاف من لم يصل والله أعلم (1) .
وأخرج أبو داود، والترمذي من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة (2) » وقال الترمذي: حديث غريب.
قال المبارك فوري: " بالنور التام " الذي يحيط بهم من جميع جهاتهم، أي على الصراط، لما قاسوا مشقة المشي في ظلمة الليل جوزوا بنور يضيء لهم ويحيطهم ... (3) .
وأخرج الدارمي بسنده من حديث أبي الدرداء، عن النبي
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي ج 3 ص 101.
(2) سنن الترمذي الصلاة (223) ، سنن أبي داود الصلاة (561) .
(3) تحفة الأحوذي ج 2 ص 14 ط الثالثة.(75/282)
صلى الله عليه وسلم قال: «من مشى في ظلمة ليل إلى صلاة، آتاه الله نورا يوم القيامة (1) » .
ثم قال المحقق: رواه أيضا: الطبراني في الكبير بإسناد حسن، وابن حبان في صحيحه بنحوه. (2) .
وأخرج الدارمي أيضا بسنده من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال: «من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة من النار يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا نجاة ولا برهانا، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأمية بن خلف (3) » .
ثم قال المحقق: رواه أيضا الطبراني في الكبير والأوسط، وأحمد، ورجاله ثقات (4) .
إن الصلاة أعظم شعائر الإسلام، بل هي الركن الركين، والصلة بين العبد وربه، ولذلك جعلها الله نورا يستضاء به في دياجير الظلم، تنير للمسلم الطريق المستقيم، وتهديه إلى سواء الصراط القويم، إنها تنهى المؤمن عن الفحشاء والمنكر لأنها نور، من قبلت منه الصلاة قبلت منه سائر العبادات، لأنها نور، النور يستضاء به، والصلاة
__________
(1) سنن الدارمي الصلاة (1422) .
(2) سنن الدارمي ج 1 ص 270 رقم الحديث 1429، كتاب الصلاة، باب فضل المشي إلى المساجد في الظلم.
(3) مسند أحمد (2/169) ، سنن الدارمي الرقاق (2721) .
(4) سنن الدارمي ج 2 ص 211 رقم الحديث 2724.(75/283)
يستضاء بها لأنها نور، أجرها للمؤمن نور يوم القيامة، الصلاة تنور قلب صاحبها حتى يقبل على الله باطنا وظاهرا، الصلاة يستعين بها صاحبها على سلوك طريق الهدى، كما يستعين صاحب النور بالنور في الظلمات، من أقام الصلاة يظهر على وجهه نور، وتكون له يوم القيامة نورا، ومن يمشي إلى الصلاة في الظلم في الدنيا يعطى نورا تاما يوم القيامة يحيط به من كل جانب، ويضيء له طريقه إلى الجنة.
وفي الختام أسأل الله أن يمدنا بنور من نوره، الحمد لله نور السماوات والأرض الذي بنعمته تتم الصالحات، وأصلي وأسلم على خير البشرية الذي أنار الله به قلوب عباده؛ فساروا على نور من الله.
وفي الختام أسأل الله أن يجعل في قلوبنا نورا، وفي أبصارنا نورا، وفي أسماعنا نورا، وأن يجعل لنا نورا، وأن يعظم لنا نورا، وأن يجعلنا نورا. والحمد لله أولا وأخرا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(75/284)
حكم زكاة العقار المعد للبيع
لفضيلة الدكتور\ حميد قائد سيف
الحمد لله القائل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) .
والصلاة والسلام على محمد عبد الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم- القائل: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان (2) » . أما بعد:
فإن الشريعة الإسلامية هدفها إسعاد الإنسان في دنياه وآخرته ابتداء من الإيمان بالله تعالى إلى نهاية التكاليف الشرعية، يشهد لهذا قول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) .
__________
(1) سورة المزمل الآية 20
(2) صحيح البخاري ج: 1 ص: 20، كتاب الإيمان، باب دعاؤكم إيمانكم، رقم الحديث 8.
(3) سورة النحل الآية 97(75/285)
وقوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (1) {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} (2) .
ولا شك أن المجتمعات التي تحكم بشرع الله تقل فيها الجريمة، وتكثر فيها الفضيلة، ويسودها الأمن والمحبة، ويظهر فيها التكافل الاجتماعي، واجتماع القلوب على شرع الله كما كان ذلك واضحا في القرون المفضلة، والزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة، ولها فوائد للأغنياء، والفقراء.
ففائدتها للأغنياء فإنها تعود على أموالهم بالبركة، والنماء، والتطهير، كما أنها تعود عليهم بالحسنات لاستجابتهم لأمر الله تعالى، كذلك تعود عليهم بسعادة الدارين إذا أديت على وجه الإخلاص، وتدل على السخاء، والتقوى.
وفائدتها لمستحقيها فإنها تدفع شدة الحاجة من ألم الجوع، والعراء، والبرد، والمرض، والحسد، وترغب في الدعوة إلى الله
__________
(1) سورة النحل الآية 30
(2) سورة النحل الآية 31(75/286)
كالجهاد، وتقوية الإيمان عند ضعفاء الإيمان، وتخفيف الكرب عن الغارمين، وهي من وسائل حفظ الدين، والنفس، والمال، والعرض.
وهذا البحث موضوعه أحد الأنواع التي تجب فيها الزكاة وهو العقار المعد للبيع وهو من عروض التجارة، وهذا من أهم الأنواع التي تجب فيها الزكاة؛ لأن التجارة من أعظم موارد الدخل للأمم والأفراد في كل العصور وتزداد أهميتها كلما تحضرت المجتمعات، وتنوع التعامل المالي، وقد كثر في هذا الزمن التعامل في المشاريع التجارية العقارية المعدة للبيع، أو للبيع والإجارة، وقد كثرت الأسئلة، وتنوعت الاستفتاءات عن حكم الزكاة في العقار المعد للبيع فلهذا السبب عزمت على بحث هذا الموضوع كي أستفيد، وأفيد إخواني المسلمين أسأل الله أن يعينني على ذلك، وأن ينفع به إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(75/287)
خطة البحث
:
يتكون هذا البحث من مقدمة، وتمهيد، وخمسة مباحث، وخاتمة.
1 - المقدمة: وتشتمل على أهمية الموضوع وسبب اختياره.
2 - التمهيد: ويشتمل على التعريف بالعقار.
3 - المبحث الأول: في حكم الزكاة في العقار.
4 - المبحث الثاني: في شروط وجوب الزكاة في عروض التجارة ومنها العقار.
5 - المبحث الثالث: في حكم الزكاة في العقار المعد للبيع أثناء إنشائه.
6 - المبحث الرابع: في حكم الزكاة في العقار المعد للبيع بعد اكتمال بنائه، وتأخر بيعه.
وتحته مطلبان:
الأول: أن يتأخر العقار المعد للبيع بعد اكتمال بنائه، ويكون سبب تأخر بيعه انتظار زيادة ربح، وغلاء سعر.
الثاني: أن يتأخر العقار المعد للبيع بعد اكتمال بنائه، ويكون سبب تأخر بيعه كساد سوق.
7 - المبحث الخامس: في حكم الزكاة في أجرة العقار أثناء(75/288)
عرضه للبيع هل يشترط لوجوب الزكاة.
فيه حولان الحول؟ أو أن الزكاة تجب في الأجرة في الحال، أو تكون تابعة لأصل الرقبة.
8- الخاتمة: وتشتمل على نتائج البحث، وعلى شكر ودعاء.(75/289)
التمهيد: ويشتمل على التعريف بالعقار
تعريف العقار من حيث اللغة:
العقار بفتح العين: كل ملك له أصل وقرار ثابت كالأرض والدور والشجر والنخل، وهو مأخوذ من عقر الدار - أصله -، وجمعه عقارات، ويقابله المنقول، والعقار من كل شيء خياره (1) .
تعريف العقار من حيث الاصطلاح:
فعند الحنفية: العقار: هو الثابت الذي لا يمكن نقله من محل إلى آخر كالدور والأراضي (2) .
وعند المالكية: العقار: اسم للأرض وما اتصل بها من بناء وشجر (3) .
__________
(1) لسان العرب 4\ 596، 597، ترتيب القاموس المحيط 3\ 272، 273، المصباح المنير 2\ 576.
(2) فتح القدير 6\ 215، درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1\ 101، رقم المادة 129.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3\ 479.(75/289)
وعند الشافعية: العقار: الأرض والبناء والشجر (1) .
وعند الحنابلة: العقار: أرض ودور وبساتين ونحوها كمعاصر وطواحين (2) .
وهذه التعاريف متقاربة المعاني.
ويمكن أن يقال في تعريف العقار: هو كل ما يملكه الإنسان من الأراضي، وما أنشئ عليها من المساكن الفردية، أو قصور للسكنى، أو قصور للولائم، أو الفنادق، أو العمائر ذات المساكن الكثيرة، أو الاستراحات، أو المجمعات التي في الطرقات، أو بالقرب من مداخل المدن، وكذا الحدائق التجارية التي جعلت للنزهة وما زرع فيها يسمى الكل عقارا تبعا لأصله وتغليبا له.
__________
(1) مغني المحتاج شرح المنهاج 2\ 80، 150.
(2) كشاف القناع ج: 3 ص: 273.(75/290)
المبحث الأول: في حكم الزكاة في العقار
اختلف العلماء في زكاة عروض التجارة - ومنها العقار - على رأيين:
1 - ذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم إلى وجوبها.
قال الإمام السرخسي: إن الزكاة تجب في عروض التجارة(75/290)
عندنا إذا حال عليها الحول (1) .
قال الإمام الكاساني: فصل وأما أموال التجارة، فتقدير النصاب فيها بقيمتها من الدنانير والدراهم فلا شيء فيها ما لم تبلغ قيمتها مائتي درهم أو عشرين مثقالا من ذهب فتجب فيها الزكاة وهذا قول عامة العلماء (2) .
قال الإمام مالك رحمه الله: الأمر عندنا فيما يدار من العروض للتجارات أن الرجل إذا صدق ماله ثم اشترى به عرضا بزا أو رقيقا أو ما أشبه ذلك، ثم باعه قبل أن يحول عليه الحول فإنه لا يؤدي من ذلك المال زكاة حتى يحول عليه الحول من يوم صدقه وأنه إن لم يبع ذلك العرض سنين لم يجب عليه في شيء من ذلك العرض زكاة وإن طال زمانه فإذا باعه فليس فيه إلا زكاة واحدة، قال مالك: وما كان من مال عند رجل يديره للتجارة ولا ينض لصاحبه منه شيء، تجب عليه فيه الزكاة فإنه يجعل له شهرا من السنة يقوم فيه ما كان عنده من عرض للتجارة ويحصي فيه ما كان عنده من نقد أو
__________
(1) المبسوط: 2\ 190.
(2) بدائع الصنائع: 2\ 20.(75/291)
عين فإذا بلغ ذلك كله ما تجب فيه الزكاة فإنه يزكيه (1) .
قال أبو عمر ابن عبد البر: إن الدور وسائر العروض إن أريد بشيء منها التجارة، فالزكاة واجبة فيه عند أكثر العلماء ... منهم عمر، وابن عمر ولا مخالف لهما من الصحابة، وهو قول جمهور التابعين بالمدينة، والبصرة، والكوفة، وعلى ذلك فقهاء الأمصار بالحجاز، والعراق، والشام، وهو قول جماعة أهل الحديث (2) .
قال الإمام النووي في روضة الطالبين (3) : زكاة التجارة واجبة، وقال أيضا في المجموع (4) :
قال بوجوب زكاة التجارة جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم أجمعين.
قال الإمام ابن قدامة: تجب الزكاة في قيمة عروض التجارة في قول أكثر أهل العلم (5) .
قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن في العروض التي تدار للتجارة الزكاة إذا حال عليها الحول. (6) .
__________
(1) موطأ مالك ج: 1 ص: 255.
(2) التمهيد: 17\126، وانظر شرح الزرقاني على الموطأ: 2\109.
(3) ج: 2 ص 127.
(4) ج: 6 ص 41، وانظر مغني المحتاج 1\397.
(5) المغني: 4\ 248.
(6) الإجماع ج: 1 ص 45.(75/292)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الأئمة الأربعة وسائر الأمة - إلا من شذ - متفقون على وجوب الزكاة في عروض التجارة ... (1) .
2 - وذهب الظاهرية ومن قال بقولهم إلى عدم وجوب الزكاة في عروض التجارة.
قال الإمام ابن حزم: لا زكاة في عروض التجارة، لا على مدير ولا غيره (2) .
قال الإمام الشوكاني: لا زكاة في أموال التجارة، ولا في المستغلات (3) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 25\45.
(2) المحلى بالآثار: 4\ 12، 13.
(3) الدراري المضية شرح الدرر البهية في المسائل الفقهية ص 211.(75/293)
المبحث الثاني: في شروط وجوب الزكاة في عروض التجارة ومنها العقار
اشترط الفقهاء لوجوب الزكاة في عروض التجارة - خاصة بالإضافة إلى الشروط العامة في وجوب الزكاة - شروطا هي كما يلي:
أ- اشترط الحنفية (1) :
__________
(1) بدائع الصنائع 2\ 22، نور الإيضاح ج: 1 ص: 128، فتح القدير ج: 2 ص 218.(75/293)
1 - أن يبلغ قيمة الموجود منها نصابا من الذهب أو الفضة.
2 - نية التجارة طول الحول. أي: إنما يصير للتجارة بالنية والتجارة جميعا.
3 - أن تكون العروض صالحة لإيجاب الزكاة فيها، فلو اشترى أرضا خراجية للتجارة ففيها الخراج لا الزكاة.
ولو كانت عشرية فزرعها فعند محمد يجب العشر والزكاة وعندهما العشر فقط.
4 - مضي الحول.
ب- واشترط المالكية (1) :
ا- أن لا تتعلق الزكاة في عينه كثياب.
2 - أن يملك العرض بمعاوضة مالية لا هبة أو إرث أو خلع.
4 - أن ينوي بالعرض التجارة عند تملكه.
5 - أن يكون نمن العرض الذي اشترى به عينا، أو عرضا أي ملك بمعاوضة سواء كان عرض تجارة أو قنية فإذا كان عنده عرض قنية باعه بعرض نوى به التجارة ثم باعه فإنه يزكي منه لحول أصله الثاني فإن كان أصله عرضا ملك بلا معاوضة مالية كإرث وصداق استقبل بثمنه حولا من قبضه.
__________
(1) الشرح الكبير ج: 1 ص 472، 473، الشرح الصغير 1\210.(75/294)
6 - أن يبيع العرض بعين لا إن لم يبع، أو بيع بعرض، لكن المحتكر لا بد أن يبيع بنصاب ولو في مرات وبعد كمال النصاب يزكي ما باع به وإن قل، والمدير لا يقوم حتى يبيع بشيء ولو قل.
ج- واشترط الشافعية (1) :
1 - أن يكون ملك ذلك المال بمعاوضة كالبيع والإجارة والنكاح والخلع.
2 - أن ينوي عند العقد أنه يتملكه للتجارة فأما إذا ملكه بإرث أو وصية أو هبة من غير شرط الثواب لم يصر للتجارة بالنية وإن ملكه بالبيع والإجارة، ولم ينو عند العقد أنه للتجارة لم يصر للتجارة، وقال الكرابيسي من أصحابنا: إذا ملك عرضا ثم نوى به التجارة صار للتجارة كما إذا كان عنده متاع للتجارة ثم نوى به القنية صار للقنية بالنية.
3 - أن لا يقصد بالمال القنية وهي الإمساك للانتفاع.
4 - مضي حول من الملك.
5 - أن لا ينض جميعه أي مال التجارة من الجنس ناقصا عن النصاب في أثناء الحول، فإن نض كذلك ثم اشترى به سلعة للتجارة فابتداء الحول يكون من الشراء.
6 - أن تبلغ قيمته آخر الحول نصابا.
__________
(1) المهذب ج: 1 ص 166، إعانة الطالبين ج: 2 ص 152.(75/295)
د- واشترط الحنابلة (1) :
1 - أن يملك عروض التجارة بفعل كالشراء وقبول الهدية. والمعنى: دخلت في ملكه باختياره.
2 - أن ينوي عند تملكه أنه للتجارة فإن لم ينو عند تملكه أنه للتجارة لم يصر للتجارة وإن نواه بعد ذلك، وإن ملكه بإرث وقصد أنه للتجارة لم يصر للتجارة؛ لأن الأصل القنية، والتجارة عارض فلم يصر إليها بمجرد النية كما لو نوى الحاضر السفر لم يثبت له حكم السفر بدون الفعل، وعن أحمد رواية أخرى أن العرض يصير للتجارة بمجرد النية.
3- أن تبلغ قيمتها نصابا.
4- مضي الحول.
__________
(1) المغني ج: 2 ص 336، المبدع 2\ 378، 379، الممتع 6\ 22، 142.(75/296)
المبحث الثالث: في حكم الزكاة في العقار المعد للبيع أثناء إنشائه
اختلف العلماء في حكم الزكاة في العقار المعد للبيع أثناء إنشائه على ثلاثة أراء:
أ- ذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنبلية (3) إلى وجوب
__________
(1) المبسوط: 2\ 190.
(2) روضة الطالبين ج: 2 ص 127.
(3) المغني: 4\ 248.(75/296)
الزكاة فيه بشروط تقدم ذكرها في المبحث الثاني.
2 - وذهب المالكية (1) إلى عدم وجوب الزكاة فيه في كل سنة إلا إذا باعه فيزكيه لسنة واحدة، وإن تأخر بيعه سنين، واشترطوا لذلك شروطا تقدم ذكرها في المبحث الثاني.
3 - وذهب الظاهرية (2) ومن وافقهم (3) إلى عدم وجوب الزكاة فيه مطلقا.
أدلة الرأي الأول وهم الجمهور استدلوا بما يلي:
بقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} (4) .
قال الإمام ابن جرير: القول في تأويل قوله تعالى: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} (5) يعني بذلك جل ثناؤه زكوا من طيب ما كسبتم بتصرفكم إما بتجارة، وإما بصناعة من الذهب والفضة، ويعني بالطيبات: الجياد يقول: زكوا أموالكم التي اكتسبتموها حلالا وأعطوا في زكاتكم الذهب والفضة الجياد منها دون الرديء كما حدثنا محمد بن المثنى. عن مجاهد في هذه الآية:
__________
(1) موطأ مالك ج: 1 ص 255.
(2) المحلى بالآثار: 4\ 12، 13.
(3) كالشوكاني: الدراري المضية شرح الدرر البهية في المسائل الفقهية ص 211.
(4) سورة البقرة الآية 267
(5) سورة البقرة الآية 267(75/297)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} (1) قال: من التجارة (2) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكان المهاجرون تغلب عليهم التجارة، والأنصار تغلب عليهم الزراعة، وقد قال الله للطائفتين: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (3) فذكر زكاة التجارة، وزكاة الخارج من الأرض، وهو العشر أو نصف العشر (4) ، وبعموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (5) وعروض التجارة لا شك أنها مال بل من أعم الأموال فكانت أولى بالدخول (6) .
ب- وبما رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة فقيل: منع بن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي علي ومثلها معها " ثم قال: يا عمر أما شعرت أن
__________
(1) سورة البقرة الآية 267
(2) تفسير الطبري ج: 3 ص 80.
(3) سورة البقرة الآية 267
(4) مجموع الفتاوى ج: 8 ص 532، 533.
(5) سورة التوبة الآية 103
(6) ينظر: تفسير القرطبي 8\ 246، توضيح الأحكام 3\69.(75/298)
عم الرجل صنو أبيه (1) » .
محل الشاهد من الحديث: أنهم طلبوا من خالد زكاة أدراعه، وأعتاده - آلات الحرب - ظنا منهم أنها للتجارة، وأن الزكاة واجبة فيها، فبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن خالدا لم يجعلها للتجارة، وإنما جعلها وقفا في سبيل الله فلا زكاة فيها (2) .
ج- وبما رواه البخاري ومسلم أيضا واللفظ للبخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (3) » .
وجه الاستشهاد من الحديث: هو ما نشاهده في هذا الزمن
__________
(1) صحيح البخاري ج: 1 ص 455، كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: '' وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله '' رقم الحديث 1468، صحيح مسلم 2\676، 677، كتاب الزكاة، باب في تقديم الزكاة ومنعها، رقم الحديث 983.
(2) ينظر شرح النووي على صحيح مسلم ج: 7 ص 56.
(3) صحيح البخاري ج: 1 ص 3، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث 1. صحيح مسلم ج: 3 ص 1515، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنية، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، رقم الحديث 1907.(75/299)
من بعض التجار في العقارات حيث يقومون بإعداد مشاريع سكنية بالعشرات، أو أكثر، للاستثمار، وطلب الربح، فإذا سألنا التاجر ماذا يريد بهذا المشروع؟ لقال أريد النقود - من الذهب، أو الفضة، أو الأوراق - أبني أو أشتري وأبيع إذا حصل من ورائها ربح، لا قصد لي في ذاتها، وإنما قصدي ثمنها.
وعروض التجارة ليست مقصودة لذاتها، وإنما المقصود منها النقود، والنقود تجب الزكاة فيه بالإجماع، والأمور إنما تعتبر بمقاصدها، وعليه تجب الزكاة في العقار التجاري قياسا على النقود باعتبار المقصود، والدليل هذه القاعدة الفذة المنتزعة من هذا الحديث الصحيح (1) .
د- وبما رواه الحاكم بسنده إلى أن قال: حدثنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام حدثنا عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البز (2)
__________
(1) ينظر التمهيد لابن عبد البر 17\125، 126، الشرح الممتع لابن عثيمين 6\ 141.
(2) المستدرك على الصحيحين ج 1\545، كتاب الزكاة، رقم الحديث 1431، سنن الدارقطني 2\101، كتاب الزكاة، باب ليس في الكسر شيء، رقم الحديث 27. قال الحافظ ابن حجر في حديث أبي ذر - بعد ذكره لطرق الحديث وتضعيفها -: له طريق رابع رواها الدارقطني والحاكم من طريق سعيد بن سلمة بن أبي الحسام عن عمران وذكر لفظ الحديث أعلاه إلى أن قال: وهذا إسناد لا بأس به. التلخيص الحبير ج: 2 ص 179. وصححه النووي في المجموع 6\397.(75/300)
صدقته، ومن رفع دنانير أو دراهم أو تبرا وفضة لا يعدها لغريم ولا ينفقها في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة» .
نوع الاستدلال من الحديث: حيث إن الزكاة لا تجب في عين الثياب والسلاح فثبت أنها واجبة في قيمته، وتعين الحمل على زكاة التجارة. (1) .
هـ: وبما رواه أبو داود حيث قال: حدثنا محمد بن داود بن سفيان ثنا يحيى بن حسان ثنا سليمان بن موسى أبو داود ثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب حدثني خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان عن سمرة بن جندب قال: «أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع (2) » . .
__________
(1) ينظر: مغني المحتاج 1\397.
(2) سنن أبي داود الزكاة (1562) .(75/301)
قال الإمام الصنعاني: الحديث دليل على وجوب الزكاة في مال التجارة (1) .
وقال ابن حزم: واحتجوا- على وجوب الزكاة في عروض التجارة - بخبر صحيح عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: كنت على بيت المال زمان عمر بن الخطاب فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ثم حسبها غائبها وشاهدها ثم أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد.
وبخبر صحيح رويناه عن ابن عباس أنه كان يقول: لا بأس بالتربص حتى يبيع، والزكاة واجبة فيه.
__________
(1) سبل السلام 4\ 54.(75/302)
وبخبر صحيح عن ابن عمر: ليس في العروض زكاة إلا أن تكون لتجارة. (1)
__________
(1) المحلى ج: 5 ص 234.(75/303)
دليل الرأي الثاني القائل بعدم وجوب الزكاة في العقار المعد للبيع إلا إذا باعه فيزكيه لسنة واحدة وإن تأخر بيعه سنين وهم المالكية ومن قال بقولهم.
استدلوا بما يلي:
دليلهم: أن الزكاة شرعت في الأموال النامية فإذا زكى السلعة كل عام وقد تكون كاسدة نقصت عن شرائها فيتضرر فإذا زكيت عند البيع فإن كانت ربحت فالربح كان كامنا فيها فيخرج زكاته ولا يزكي حتى يبيع بنصاب ثم يزكي بعد ذلك ما يبيعه من كثير وقليل. (1) .
قال الدسوقي: قال ابن بشير: فإن أقامت عروض الاحتكار أحوالا لم تجب عليه إلا زكاة سنة واحدة، لأن الزكاة متعلقة بالنماء أو بالعين لا بالعروض فإذا أقامت أحوالا ثم بيعت لم يحصل فيها
__________
(1) المنتقى 2\90، القوانين الفقهية لابن جزي 1\ 70.(75/303)
النماء إلا مرة واحدة فلا تجب الزكاة إلا مرة واحدة ولا يجوز أن يتطوع بالإخراج قبل البيع فإن فعل فهل يجزئه قولان والمشهور عدم الإجزاء؛ لأن الزكاة لم تجب بعد (1) ... .
قال الإمام الزرقاني: الأصل المجمع عليه في الزكاة إنما هو في الأموال النامية أو المطلوب فيها النماء بالتصرف (2) .
الرد: إن دليل المالكية دليل ضعيف لمخالفته ما سبق ذكره من الأدلة الشرعية الثابتة. (3) .
- قال الإمام الكاساني: وما ذكره المالكية غير سديد؛ لأنه وجد سبب وجوب الزكاة وشرطه في كل حول فلا معنى لتخصيص الحول الأول بالوجوب فيه كالسوائم والدراهم والدنانير، وسواء كان مال التجارة عروضا، أو عقارا، أو شيئا مما يكال، أو يوزن؛ لأن الوجوب في أموال التجارة تعلق بالمعنى وهو المالية والقيمة وهذه الأموال كلها في هذا المعنى جنس واحد. (4) .
- اضطرابهم في اعتبار النماء شرطا في إيجاب الزكاة حيث
__________
(1) حاشية الدسوقي ج: 1 ص 473.
(2) شرح الزرقاني على الموطأ 2\ 141.
(3) ينظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز 14\ 163.
(4) بدائع الصنائع 2\ 20، 21.(75/304)
أعملوه أحيانا، وأهملوه أحيانا.
من ذلك إيجابهم الزكاة في الدين على الدائن وإن كان عاجزا عن تنمية دينه. (1) .
قال ابن عبد البر: وأما المدير الذي يكثر خروج ما ابتاع عنه ويقل بواره وكساده ويبيع بالنقد والدين فإنه يقوم ما عنده من السلع ويحصي ما عنده من العين وماله من الدين عند مليء وثقة مما لا يتعذر عليه أخذه ويقوم عروضه يفعل ذلك في كل عام (2) .
فالدين مال غير نام ومع هذا تجب فيه الزكاة، والشرط لا بد أن يكون منضبطا.
ومن ذلك الخضار بأنواعها، والفواكه بأنواعها، والزهور بأنواعها، والأخشاب في الغابات الشاسعة وغير ذلك مما أنشئت له المزارع الضخمة تنتجه وتصدره إلى مختلف أقطار الأرض ويكسب منه مكاسب كثيرة فلا تجب الزكاة في ذاته مع أنه مال نام (3) .
قال الحطاب: وقال مالك: وليس في الفواكه كلها رطبها ويابسها زكاة، ولا في الخضر زكاة. (4) .
__________
(1) ينظر في: أبحاث وأعمال الندوة التاسعة لقضايا الزكاة المعاصرة ص 242.
(2) التمهيد لابن عبد البر ج: 17 ص 128.
(3) أبحاث وأعمال الندوة التاسعة لقضايا الزكاة المعاصرة ص 243.
(4) مواهب الجليل: 2\ 280.(75/305)
- إنه لا يوجد نص لا من كتاب الله تعالى، ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدل على أن النماء شرط في الزكاة، والعلة المستنبطة أول ما يسقطها تخلفها، فإذا تخلفت العلة عن إثبات الحكم فمعنى ذلك أنها ليست علة (1) ، وقد مر معنا أنواع من الأموال يوجد فيها النماء وليست فيها زكاة، وأموال ليست فيها نماء ومع ذلك فيها زكاة.
أدلة الرأي الثالث القائل بعدم وجوب الزكاة فيه مطلقا وهم الظاهرية (2) ومن وافقهم (3) .
استدلوا بما يلي:
- بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه (4) » .
قال ابن حزم: وصح عنه عليه السلام: «ليس على المسلم
__________
(1) أبحاث وأعمال الندوة التاسعة لقضايا الزكاة المعاصرة ص 344.
(2) المحلي بالآثار: 4\ 12، 13.
(3) كالشوكاني: الدراري المضية شرح الدرر البهية في المسائل الفقهية ص 211.
(4) صحيح البخاري 2\532، كتاب الزكاة، باب ليس على المسلم في عبده صدقة، رقم الحديث 1395 صحيح مسلم 2\ 675، كتاب الزكاة، باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه، رقم الحديث 982.(75/306)
في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر (1) » .
والفرس والعبد اسم للجنس كله ولو كان في شيء من ذلك صدقة لما أغفل عليه السلام بيان مقدارها، ومقدار ما تؤخذ منه. (2) .
- وبما رواه البخاري ومسلم أيضا عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمس أواق صدقة (3) » . .
قال ابن حزم: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن لا زكاة في عروض التجارة وهو أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ولا فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة (4) » ، وأنه أسقط الزكاة عما دون الأربعين من الغنم وعما دون خمسة أوسق من التمر والحب فمن أوجب زكاة في عروض التجارة فإنه يوجبها في كل ما نفى عنه عليه السلام الزكاة مما ذكرنا (5) .
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1464) ، صحيح مسلم الزكاة (982) ، سنن الترمذي الزكاة (628) ، سنن النسائي الزكاة (2472) ، سنن أبي داود الزكاة (1595) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1812) ، مسند أحمد (2/477) ، موطأ مالك الزكاة (612) ، سنن الدارمي الزكاة (1632) .
(2) المحلى 4\35.
(3) صحيح البخاري الزكاة (1405) ، صحيح مسلم الزكاة (979) ، سنن الترمذي الزكاة (626) ، سنن النسائي الزكاة (2487) ، سنن أبي داود الزكاة (1559) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1793) ، مسند أحمد (3/97) ، موطأ مالك الزكاة (576) ، سنن الدارمي الزكاة (1633) .
(4) صحيح البخاري الزكاة (1459) ، صحيح مسلم الزكاة (979) ، سنن الترمذي الزكاة (626) ، سنن النسائي الزكاة (2487) ، سنن أبي داود الزكاة (1559) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1793) ، مسند أحمد (3/97) ، موطأ مالك الزكاة (576) ، سنن الدارمي الزكاة (1633) .
(5) المحلى ج: 4 ص 44.(75/307)
الرد: ويجاب عن ذلك بحمله على عدم وجوب الزكاة في أعيانها، وهذا لا ينافي وجوب الزكاة في قيمتها من الذهب والفضة؛ فإنها ليست مقصودة لأعيانها، وإنما هي مقصودة لقيمتها فكانت قيمتها هي المعتبرة، وبذلك يجمع بين أدلة نفي وجوبها في العروض، وإثباتها فيها (1) .
قال أبو عمر ابن عبد البر: أجرى العلماء- من الصحابة والتابعين ومن بعدهم- سائر العروض كلها على اختلاف أنواعها مجرى الفرس والعبد، إذا اقتني ذلك لغير التجارة، وهم فهموا المراد وعلموه، فوجب التسليم لما أجمعوا عليه (2) .
ويقول: لا زكاة في العروض إذا لم يرد بها التجارة؛ لأنها إذا أريد بها التجارة جرت مجرى العين؛ لأن العين من الذهب والفضة تحولت فيها طلبا للنماء فقامت مقامها (3) .
قال الإمام النووي: وأما الجواب عن حديث «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة (4) » فهو محمول على ما ليس للتجارة، ومعناه لا زكاة في عينه بخلاف الأنعام، وهذا التأويل متعين للجمع بين الأحاديث (5) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 4\ 249، فتاوى اللجنة الدائمة 9\ 310، 311.
(2) التمهيد 17\ 135.
(3) التمهيد 17\ 125.
(4) صحيح البخاري الزكاة (1464) ، صحيح مسلم الزكاة (982) ، سنن الترمذي الزكاة (628) ، سنن النسائي الزكاة (2472) ، سنن أبي داود الزكاة (1595) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1812) ، مسند أحمد (2/477) ، سنن الدارمي الزكاة (1632) .
(5) المجموع 6\ 41، مغني المحتاج 1\ 397.(75/308)
قال الشيخ محمد بن عثيمين: فإن قال قائل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة (1) » قلنا: نعم قال ذلك، ولكنه لم يقل ليس في العروض التي لا تراد لعينها، وإنما تراد لقيمتها ليس فيها زكاة.
وقوله: (عبده ولا في فرسه) كلمة مضافة للإنسان لاختصاص، يعني الذي جعله خاصا به يستعمله وينتفع به كالفرس والعبد والثوب، والبيت الذي يسكنه والسيارة التي يستعملها. كل هذا ليس فيه زكاة؛ لأن الإنسان اتخذها لنفسه، ولم يتخذها ليتجر بها يشتريها اليوم، ويبيعها غدا، وعلى هذا فمن استدل بهذا الحديث على عدم زكاة العروض فقد أبعد. (2) .
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1464) ، صحيح مسلم الزكاة (982) ، سنن الترمذي الزكاة (628) ، سنن النسائي الزكاة (2472) ، سنن أبي داود الزكاة (1595) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1812) ، مسند أحمد (2/477) ، سنن الدارمي الزكاة (1632) .
(2) الشرح الممتع: 6\ 140، 141، وينظر التمهيد لابن عبد البر ج: 17 ص 135.(75/309)
المبحث الرابع: في حكم الزكاة في العقار المعد للبيع بعد اكتمال بنائه، وتأخر بيعه
وتحته مطلبان:
الأول: أن يتأخر العقار المعد للبيع بعد اكتمال بنائه، ويكون سبب تأخر بيعه انتظار زيادة ربح، وغلاء سعر. فهذا اختلف العلماء في حكم الزكاة فيه على ثلاثة أراء.(75/309)
1 - ذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنبلية (3) إلى وجوب الزكاة فيه بشروط تقدم ذكرها في المبحث الثاني.
2 - وذهب المالكية (4) إلى عدم وجوب الزكاة فيه في كل سنة إلا إذا باعه فيزكيه لسنة واحدة، وإن تأخر بيعه سنين، واشترطوا لذلك شروطا تقدم ذكرها في المبحث الثاني.
3 - وذهب الظاهرية (5) إلى عدم وجوب الزكاة فيه مطلقا.
وتقدمت أدلة الجميع - مع الرد على الرأي غير المختار- في المبحث الثالث.
المطلب الثاني: أن يتأخر العقار المعد للبيع بعد اكتمال بنائه، ويكون سبب تأخر بيعه كساد سوق.
__________
(1) المبسوط: 2\ 190.
(2) روضة الطالبين ج: 2 ص 127.
(3) المغني: 4\ 248.
(4) موطأ مالك ج: 1 ص 255.
(5) المحلى بالآثار، 4\ 12، 13.(75/310)
اختلف العلماء في حكم الزكاة فيه على ثلاثة آراء.
1 - ذهب الحنفية (1) ، والشافعية (2) ، والحنبلية (3) إلى وجوب الزكاة فيه بشروط. (4) .
2 - وذهب الظاهرية (5) إلى عدم وجوب الزكاة فيه مطلقا، وتقدمت أدلتهم في المبحث الثالث.
3 - وذهب المالكية (6) إلى عدم وجوب الزكاة فيه في كل سنة إلا إذا باعه فيزكيه لسنة واحدة، وإن تأخر بيعه سنين، واشترطوا لذلك شروطا (7) .
قسم المالكية التجار إلى قسمين: متربص، ومدير:
فالمتربص: هو الذي يشتري السلع وينتظر بها الأسواق فربما
__________
(1) المبسوط: 2\ 190.
(2) روضة الطالبين ج: 2 ص 127.
(3) المغني: 4\ 248.
(4) تقدم ذكرها في المبحث الثاني، وأدلة تقدم ذكرها في المبحث الثالث.
(5) المحلى بالآثار: 4\ 12، 13.
(6) موطأ مالك ج: 1 ص 255.
(7) تقدم ذكرها في المبحث الثاني.(75/311)
أقامت السلع عنده سنين فهذا عنده لا زكاة عليه إلا أن يبيع السلعة فيزكيها لعام واحد، وحجتهم أن الزكاة شرعت في الأموال النامية فإذا زكى السلعة كل عام وقد تكون كاسدة نقصت عن شرائها فيتضرر فإذا زكيت عند البيع، فإن كانت ربحت فالربح كان كامنا فيها فيخرج زكاته، ولا يزكي حتى يبيع بنصاب ثم يزكي بعد ذلك ما يبيعه من كثير وقليل.
وأما المدير: فهو الذي يبيع السلع في أثناء الحول فلا يستقر بيده سلعة فهذا يزكي في كل سنة الجميع يجعل لنفسه شهرا معلوما يحسب ما بيده من السلع والعين والدين الذي على المليء الثقة ويزكي الجميع (1) .
قال الإمام ابن عبد البر: من ابتاع سلعة للتجارة ولم يكن من أهل الإدارة فبارت عليه، ولم يكن له ناض يجب عليه فيه الزكاة وحبس السلعة سنين وهو بتلك الحال فلا زكاة عليه فيها حتى يبيعها ويزكي لعام واحد إذا باعها، وعروض التجارة عند مالك إذا كانت مدارة بخلافها إذا كانت غير مدارة وإن كانت الزكاة جارية فيها كلها إلا أن المدارة تزكى في كل عام وغير المدارة إنما تزكى بعد البيع لعام واحد، وقد قال جماعة من أهل المدينة وغيرهم إن المدير
__________
(1) شرح الزرقاني على الموطأ 2\ 109، القوانين الفقهية لابن جزي ج: 1 ص 70.(75/312)
وغيره سواء يقوم في كل عام ويزكي إذا كان تاجرا، وما بار وما لم يبر من سلعته إذا نوى به التجارة بعد أن يشتريها للتجارة سواء، وهو قول صحيح إلى ما فيه من الاحتياط؛ لأن العين من الذهب والورق لا نماء لها إلا بطلب التجارة فيها فإذا وضعت العين في العروض للتجارة حكم لها بحكم العين فتزكى في كل حول كما تزكى العين وكل من انتظر بسلعته التي ابتاعها للتجارة وجود الربح متى جاءه فهو مدير (1)
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين يرحمه الله: مسألة مهمة يكثر السؤال عنها وذلك حين تكسد الأراضي المعدة للبيع.
مثاله: اشترى إنسان أرضا وقت الغلاء ولم يجد من يشتريها منه لا بقليل ولا بكثير، فهل عليه زكاة في مدة الكساد، أو لا؟
الجواب: يرى بعض العلماء: أنه لا شيء عليه في هذه الحال؛ لأن هذا يشبه الدين على المعسر في عدم التصرف فيه حتى
__________
(1) الكافي لابن عبد البر 1\ 97.(75/313)
يتمكن من بيعها، فإذا باعها حينئذ قلنا له: زك لسنة البيع فقط، وهذا في الحقيقة تيسير على الأمة، وفيه موافقة للقواعد؛ لأن هذا الرجل يقول: أنا لا أنتظر الزيادة أنا أنتظر من يقول: بع لي، والأرض نفسها ليست مالا زكويا في ذاتها حتى نقول: تجب عليك الزكاة في عينه.
أما الدراهم المبقاة في البنك، أو في الصندوق من أجل أن يشتري بها دارا للسكنى، أو يجعلها صداقا، فهي لا تزيد لكن لا شك أن فيها زكاة.
والفرق بينها وبين الأرض الكاسدة: أن الزكاة واجبة في عين الدراهم، وأما الزكاة في العروض فهي واجبة في قيمتها، وقيمتها حين الكساد غير مقدور عليها فهي بمنزلة الدين على المعسر (1) .
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عن صداق المرأة على زوجها تمر عليه السنون المتوالية لا يمكنها مطالبته به لئلا يقع بينهما فرقة ثم إنها تعوض عن صداقها بعقار، أو يدفع إليها الصداق بعد مدة من السنين فهل تجب زكاة السنين الماضية أم إلى أن يحول الحول من حين قبضت الصداق؟
فأجاب: الحمد لله، هذه المسألة فيها للعلماء أقوال:
قيل: يجب تزكية السنين الماضية سواء كان الزوج موسرا أو
__________
(1) الشرح الممتع 6\ 32، 33.(75/314)
معسرا.
وقيل: يجب مع يساره وتمكنها من قبضه دون ما إذا لم يمكن تمكينها من القبض.
وقيل: تجب لسنة واحدة كقول مالك وقول في مذهب أحمد.
وقيل: لا تجب بحال كقول أبي حنيفة وقول في مذهب أحمد.
وأضعف الأقوال من يوجبها للسنين الماضية حتى مع العجز عن قبضه فإن هذا القول باطل فإما أن يجب لهم ما يأخذونه مع أنه لم يحصل له شيء فهذا ممتنع في الشريعة ثم إذا طال الزمان كانت الزكاة أكثر من المال.
وأقرب الأقوال: قول من لا يوجب فيه شيئا بحال حتى يحول عليه الحول، أو يوجب فيه زكاة واحدة عند القبض فهذا القول له وجه، وهذا له وجه، وهذا قول أبي حنيفة وهذا قول مالك وكلاهما قيل به في مذهب أحمد. والله أعلم. (1) .
طرح سؤال على اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء صيغته ما يلي:
س: أراض مملوكة لنا وهي تسمى بالمرافق كالمدارس. وهذه الأرض لا يمكننا التصرف فيها بالبيع إلا بعد أخذ موافقة الجهات
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج: 25 ص 47، 48.(75/315)
الرسمية بعد رغبتهم في شرائها، فإذا احتاجوا إلى شرائها يدفعون فيها الثمن، وإذا كانوا لا يرغبون نعرضها للبيع، وتستغرق فترة الموافقة عدة سنوات، فهل تجب علينا زكاة خلال فترة انتظار هذه الموافقة؟
ج: إذا كنتم ممنوعين من التصرف فلا زكاة عليكم فيها حصى تملكوا التصرف فيها، وبعد ذلك تجب الزكاة مستقبلا إذا حال عليها الحول من حين بدء التمكن من التصرف فيها. (1) .
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة 9\ 340، 341.(75/316)
المبحث الخامس: في حكم الزكاة في أجرة العقار أثناء عرضه للبيع هل يشترط لوجوب الزكاة فيه حولان الحول؟ أو أن الزكاة تجب في الأجرة في الحال، أو تكون تابعة لأصل الرقبة
اختلف العلماء في هذه المسألة على ما يلي:
1 - الحنفية:
قال ابن عابدين: ذكر في المحيط الديون الثلاثة ثم فرع(75/316)
عليها فروعا آخرها:
أجرة دار، أو عبد للتجارة قال: إن فيها روايتين:
في رواية: لا زكاة فيها حتى تقبض ويحول عليها الحول؛ لأن المنفعة ليست بمال حقيقة فصار كالمهر.
وفي ظاهر الرواية: تجب الزكاة ويجب الأداء إذا قبض نصابا؛ لأن المنافع مال حقيقة لكنها ليست بمحل لوجوب الزكاة؛ لأنها لا تصلح نصابا إذ لا تبقى سنة، ثم قال: وهذا كله إذا لم يكن له مال غير الدين فإن كان له غير ما قبض فهو كالفائدة فيضم إليه اهـ.
فهذا كالصريح في شموله لأقسام الدين الثلاثة ولعل التقييد بالضعيف ليدل على غيره بالأولى؛ لأن المقبوض منه يشترط فيه كونه نصابا مع حولان الحول بعد القبض فإذا كان يضم إلى ما عنده ويسقط اشتراط الحول الجديد فما لا يشترط فيه ذلك يضم بالأولى تأمل (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين ج: 2 ص 307، منحة الخالق - لابن عابدين - على البحر الرائق 2\ 224.(75/317)
قال الإمام السرخسي: وفي الأجرة ثلاث روايات عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: في رواية جعلها كالمهر؛ لأنها ليست ببدل عن المال حقيقة؛ لأنها بدل عن المنفعة.
وفي رواية جعلها كبدل ثياب البذلة؛ لأن المنافع مال من وجه لكنه ليس بمحل لوجوب الزكاة فيه. والأصح أن أجرة دار التجارة، أو عبد التجارة بمنزلة ثمن متاع التجارة كلما قبض منها أربعين تلزمه الزكاة اعتبارا لبدل المنفعة ببدل العين (1) ... .
2 - المالكية:
قال الأزهري: وغلة مشترى للتجارة إذا أكراه فهي فائدة يستقبل بها حولا بعد قبضها (2) .
قال الدردير: من عنده نصاب زكاة في المحرم ثم اكترى به دارا مثلا للتجارة في رجب فأكراها في رمضان بأربعين دينارا فالحول المحرم، واحزز بمكترى للتجارة عن غلة مشترى للتجارة، أو مكترى للقنية فأكراه لأمر حدث فإنه يستقبل بها حولا بعد قبضها (3) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي ج: 2 ص 196، وانظر البحر الرائق 2\224.
(2) جواهر الإكليل شرح مختصر خليل 1\ 128.
(3) الشرح الكبير ج: 1 ص 462. وانظر 1\ 465 من نفس الكتاب.(75/318)
قال أبو عمر: وأما الذهب والورق فلا تجب الزكاة في شيء منها إلا بعد تمام الحول، وعلى هذا جمهور العلماء والخلاف فيه شذوذ لا أعلمه إلا شيئا روي عن ابن عباس ومعاوية أنهما قالا: من ملك النصاب من الذهب والورق وجبت عليه الزكاة في الوقت، وهذا قول لم يعرج عليه أحد من العلماء ولا قال به أحد من أئمة الفتوى (1) ... .
3 - الشافعية:
قال الغزالي: المستفاد من مال التجارة في أثناء الحول هل يضم إلى الأصل؟ له أربعة أحوال:
الأولى: أن يكون بارتفاع قيمة مال التجارة، فتجب الزكاة فيه بحول الأصل كما في النتاج مع الأمهات.
الثانية: أن يشتري شيئا بنية التجارة لا بمال التجارة فيفرد بحوله ولا يضم إلى الأصل كالمستفاد من الماشية.
الثالثة: إذا ارتفعت قيمة مال التجارة فيرده إلى الناض كما إذا كانت سلعته تساوي عشرين دينارا فارتفعت قيمتها وباعها بعد مضي ستة أشهر بأربعين دينارا ففي العشرين الزائد قولان:
أحدهما: أنه يضم في الحول إلى الأصل كنتاج المواشي وكما
__________
(1) التمهيد لابن عبد البر ج: 20 ص 155، 156.(75/319)
إذا ارتفعت القيمة من غير تنضيض.
والثاني: وهو اختيار ابن الحداد أنه تفرد بحوله؛ لأنه مستفاد من كيس المشتري لا من عين السلعة بخلاف النتاج.
الرابعة: أن يكون مال التجارة حيوانا أو شجرا فنتج وأثمر وقلنا إن حكم الزكاة يتعدى إلى الولد فالأظهر أنه يضم في الحول إلى الأصل ويحتمل أن يلتحق بهما بالربح الناض (1)
قال النووي: فصل: ربح مال التجارة ضربان:
حاصل من غير نضوض المال (2) ، وحاصل مع نضوضه: فالأول مضموم إلى الأصل في الحول كالنتاج.
الضرب الثاني الحاصل مع النضوض، فينظر إن صار ناضا من غير جنس رأس المال فهو كما لو أبدل عرضا بعرض - يستأنف الحول - لأنه لم يقع به التقويم هذا هو المذهب، وقيل هو على الخلاف الذي نذكره إن شاء الله تعالى فيما إذا نض من الجنس.
وأما إذا صار ناضا من جنسه فتارة يكون ذلك في أثناء الحول، وتارة بعده وعلى التقدير الأول قد يمسك الناض إلى أن يتم الحول، وقد يشتري به سلعة.
__________
(1) الوسيط ج: 2 ص 484، 485.
(2) انظر ص 291 حاشية 3.(75/320)
الحال الأول: أن يمسك الناض إلى تمام الحول فإن اشترى عرضا بمائتي درهم فباعه في أثناء الحول بثلاثمائة وتم الحول وهي في يده ففيه طريقان: أصحهما وبه قال الأكثرون على قولين: أظهرهما: يزكي الأصل بحوله ويفرد الربح بحول.
والثاني: يزكي الجميع بحول الأصل والطريق الثاني القطع بإفراد الربح. وإذا أفردناه ففي ابتداء حوله وجهان:
أصحهما من حين النضوض، والثاني من حين الظهور.
قال الشبراملسي: إذا استأجر أماكن بقصد التجارة فمنافعها مال تجارة.
فإذا استأجر أرضا ليؤجرها بقصد التجارة فمضى حول ولم يؤجرها تلزمه زكاة التجارة فيقومها بأجرة المثل حولا ويخرج زكاة تلك الأجرة وإن لم تحصل له؛ لأنه حال الحول على مال التجارة عنده (1) .
4 - الحنابلة:
قال ابن قدامة: فصل: إن كان عنده نصاب لم يخل المستفاد
__________
(1) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 3\ 103.(75/321)
من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون المستفاد من نمائه كربح مال التجارة، ونتاج السائمة فهذا يجب ضمه إلى ما عنده من أصله فيعتبر حولا بحوله لا نعلم فيه خلافا؛ لأنه تبع له من جنسه فأشبه النماء المتصل وهو زيادة قيمة عروض التجارة.
الثاني: أن يكون المستفاد من غير جنس ما عنده فهذا له حكم نفسه لا يضم إلى ما عنده في حول ولا نصاب بل إن كان نصابا استقبل به حولا وزكاه وإلا فلا شيء فيه وهذا قول جمهور العلماء.
القسم الثالث: أن يستفيد مالا من جنس نصاب قد انعقد عليه حول الزكاة بسبب مستقل مثل أن يكون عنده أربعون من الغنم مضى عليها بعض الحول فيشتري أو يتهب مائة، فهذا لا تجب فيه الزكاة حتى يمضي عليه حول (1) .
قال ابن مفلح: إذا كان لعقار التجارة وعبيدها أجرة ضم قيمة الثمرة والأجرة إلى قيمة الأصل في الحول كربح ونتاج، وقيل: لا (2) .
قال المرداوي: إذا كان لعقار التجارة وعبيدها أجرة، ضم قيمة الثمرة والأجرة إلى قيمة الأصل في الحول على الصحيح من
__________
(1) المغني ج: 2 ص 258، 259.
(2) الفروع ج: 2 ص 386.(75/322)
المذهب كالربح، وقيل لا يضم. (1) .
قال البهوتي: أو كان الزرع لا زكاة فيه كالخضراوات من بطيخ وقثاء وخيار، أو كان لعقار التجارة وعبيدها ودوابها أجرة، ضم قيمة الثمرة، والخضروات، والأجرة إلى قيمة الأصل في الحول كالربح؛ لأنه نماء (2) ... .
قال المرداوي: وعن أحمد: لا حول لأجرة فيزكيه في الحال كالمعدن اختاره الشيخ تقي الدين، وهو من المفردات، وقيدها بعض الأصحاب بأجرة العقار، وهو من المفردات أيضا نظرا إلى كونها غلة أرض مملوكة له، وعنه أيضا لا حول لمستفاد وذكرها أبو المعالي فيمن باع سمكا صاده بنصاب زكاة (3) ...
قال شيخ الإسلام: وتجب الزكاة في جميع أجناس الأجرة المقبوضة ولا يعتبر لها مضي حول، وهو رواية عن أحمد ومنقول عن ابن عباس. (4) .
قال ابن باز: الأراضي المعدة للتجارة، وقد تؤجر ففيها الزكاة كل سنة، تقوم وتخرج زكاة القيمة على حسب السعر وقت التقويم،
__________
(1) الإنصاف للمرداوي 3\ 161.
(2) كشاف القناع ج: 2 ص 243.
(3) الإنصاف للمرداوي ج: 3 ص 19.
(4) الفتاوى الكبرى ج: 4 ص 452، وينظر: الشرح الممتع 6\ 32.(75/323)
وهكذا أجرتها تجب فيها الزكاة تبعا لأصلها (1) ...
قال بكر أبو زيد: العقار المؤجر المعد للبيع، في رقبة الملك زكاة من تاريخ نية البيع. وفي غلته زكاة من تاريخ عقد الإيجار. فتوى جامعة، ص 23.
__________
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 14\ 169.(75/324)
الخاتمة
:
وتشتمل على أهم نتائج البحث وهي كما يلي:
1 - العقار: هو كل ما يملكه الإنسان من الأراضي، وما أنشأ عليها من المساكن الفردية، أو قصور للسكنى، أو قصور للولائم، أو الفنادق، أو العمائر ذات المساكن الكثيرة، أو الاستراحات، أو المجمعات التي في الطرقات.
2 - قال الإمام ابن قدامة: تجب الزكاة في قيمة عروض التجارة في قول أكثر أهل العلم.
3 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الأئمة الأربعة وسائر الأمة إلا من شذ متفقون على وجوب الزكاة في عروض التجارة.
4 - ذهب جمهور العلماء إلى وجوب الزكاة في العقار المعد للبيع أثناء إنشائه.
5 - ذهب جمهور العلماء إلى وجوب الزكاة في العقار المعد(75/324)
للبيع بعد اكتمال بنائه، وتأخر بيعه؛ لانتظار زيادة ربح، وغلاء سعر.
6 - رجح العلامة ابن عثيمين عدم وجوب الزكاة في الأرض الكاسدة في كل سنة، فإذا باعها حينئذ قلنا له: زك لسنة البيع فقط؛ لأن الزكاة في العروض واجبة في قيمتها، وقيمتها حين الكساد غير مقدور عليها فهي بمنزلة الدين على المعسر.
7 - قال العلامة منصور البهوتي: إذا كان لعقار التجارة أجرة، ضم قيمة الأجرة إلى قيمة الأصل في الحول كالربح؛ لأنه نماء.
هذا وأسأل الله الحي القيوم أن يجعل عملي خالصا له سبحانه وتعالى، وأن ينفع به كل من اطلع عليه، وأراد الاستفادة منه إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ثم إني أتقدم بخالص شكري وتقديري لفضيلة شيخي الأستاذ الدكتور عبد الله بن محمد المطلق المشرف على هذا البحث والمتابع لجميع فقراته أولا بأول.
أسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجزيه خير الجزاء، وأن يحفظه، ويبارك في علمه، وعمره وذريته، وأن يسدد خطاه، وأن يجمعنا في مستقر رحمته إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(75/325)
الزيتون أحكامه الفقهية وفوائده
لفضيلة الدكتور\ عبد الله بن محمد الصالح
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا آله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بعثه الله بالحق والهدى والرشاد، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وبعد:
فإن نعم الله على عباده كثيرة لا تعد ولا تحصى، ومن هذه النعم شجرة الزيتون المباركة، التي ورد ذكرها في سور متعددة من القرآن الكريم، كما وذخرت بها السنة النبوية الشريفة، وقد كثر اهتمام الناس بهذه الشجرة في أيامنا هذه في مختلف بلدان العالم عامة، وفي بلدنا الأردن خاصة، ونظرا لأهميتها فقدت خصصت هذا البحث للحديث عن شجرة الزيتون من حيث الأحكام الفقهية والفوائد(75/327)
الاقتصادية والطبية والبيئية، واقتضت طبيعة البحث أن يكون في مقدمة وتمهيد وأربعة مباحث وخاتمه وذلك على النحو الآتي:
التمهيد: مدلول الزكاة ومشروعيتها وحكم منكرها وعقوبة تاركها.
المبحث الأول: الزيتون في القرآن والسنة.
المبحث الثاني: زكاة الزيتون ونصابه وحكم الخرص فيه.
المبحث الثالث: حكم إخراج القيمة والنفقات على الزيتون وبيع ثماره على الشجر.
المبحث الرابع: فوائد الزيتون من الناحية الاقتصادية والطبية والبيئية.(75/328)
التمهيد: مدلول الزكاة ومشروعيتها وحكم منكرها وعقوبة تاركها:
المطلب الأول: مدلول الزكاة:
الزكاة لها معنيان أحدهما لغوي والآخر اصطلاحي وفيما يلي بيان ذلك:
الزكاة لغة: مصدر " زكا "، زكا الشيء يزكو زكاء وزكوا: نما، يقال: زكا فلان إذا صلح، وزكا الزرع يزكو زكاء، وكل شيء ازداد فقد زكا (1)
فالزكاة الطهارة والنماء والبركة والمدح، وكله قد استعمل في القرآن، فقد قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (2) أي تنمي حسناتهم، وقوله تعالى: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} (3) أي ألا يتطهر من الذنوب.
اصطلاحا: عرف الفقهاء الزكاة اصطلاحا منها:
قال الحنفية: الزكاة: تمليك جزء مال مخصوص من مال مخصوص
__________
(1) ابن منظور، لسان العرب 4\ 358، ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 1\ 396.
(2) سورة التوبة الآية 103
(3) سورة عبس الآية 7(75/329)
لشخص مخصوص عينه الشارع عز رجل لوجه الله تعالى (1) .
وعند المالكية الزكاة: الجزء المخصوص المخرج من المال المخصوص إذا بلغ نصابا، المدفوع لمستحقه إن تم الملك والحول غير المعدن (2) .
وعند الشافعية الزكاة: اسم لما يخرج عن مال أو دين على وجه مخصوص سمي بها ذلك لأنه يطهر ويصلح وينمي ويمدح المخرج عنه ويقيه من الآفات (3) .
وعند الحنابلة الزكاة: حق يجب في المال. (4) .
فالزكاة شرعا لا تخرج عن كونها الحصة المقدرة من المال المفروضة لمستحقيها.
__________
(1) ابن عابدين، حاشية رد المحتار 2\ 256.
(2) الدسوقي الحاشية 448.
(3) الأنصاري، أسنى المطالب 1\ 338.
(4) ابن قدامة، المغني 2\ 426.(75/330)
المطلب الثاني: مشروعية الزكاة
:
الزكاة واحدة من الفروض التي فرضها الله تعالى على عباده وجعلها أحد أركان الإسلام الأساسية وقد قرنها الله تعالى مع الصلاة في أكثر من أية وهذا يؤكد أهميتها وصلتها الوطيدة بالصلاة، وقد ثبت وجوبها بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول،(75/330)
وفيما يلي بيان ذلك (1) :
أولا: مشروعية الزكاة في الكتاب: شرعت الزكاة في السنة الثانية من الهجرة حيث أمر الله تعالى بإخراجها ومد ورد ذكرها في القرآن الكريم أذكر منها ما يلي:
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (2) ، وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} (3) ، وقوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ} (4) ، وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (5) .
فهذه الآيات السابقة تدل دلالة واضحة على وجوب إخراج الزكاة لورود الأمر بها، والأمر المطلق عند الأصوليين يفيد الوجوب، إلا إذا ورد قرينة تصرفه إلى غيره، ولا يوجد ما يصرف تلك الأوامر عن الوجوب إلى غيره فتبقى دلالتها على الوجوب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
__________
(1) ابن قدامة، المغني 2\427.
(2) سورة البقرة الآية 43
(3) سورة البقرة الآية 110
(4) سورة الحج الآية 78
(5) سورة البينة الآية 5(75/331)
ثانيا: مشروعية الزكاة في السنة: لقد أفاض علينا الهدي النبوي من الأحاديث الموافقة لمدلول الآيات القرآنية السابقة في وجوب إخراج الزكاة، وقد جاء ذكر الزكاة أحيانا بلفظ الزكاة وأحيانا بلفظ الصدقة ومن ذلك ما يلي:
1 - روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن فقال: " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم (1) » .
2 - روي عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: " تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان، قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا (2) » .
__________
(1) البخاري، بشرح العيني 8\ 234.
(2) البخاري، بشرح العيني 8\ 241.(75/332)
3 - وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان (1) » .
ثانيا: الإجماع: لقد انعقد الإجماع على وجوب الزكاة (2) .
رابعا: المعقول: وكذلك دل العقل على وجوبها، من وجوه (3) ، هي:
أولا: أن أداء الزكاة من باب إعانة الضعيف، وإغاثة الملهوف، وإقدار العاجز وتقويته على أداء ما افترض الله عز وجل عليه من التوحيد والعبادات والوسيلة إلى أداء المفروض مفروضة.
كما أن الزكاة تطهر نفس المؤدي من أنجاس الذنوب وتزكي أخلاقه بتخلق الجود والكرم، وقد تضمن ذلك كله قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (4) .
ثانيا: أن الله تعالى قد أنعم على الأغنياء، وفضلهم بصنوف النعمة والأموال الفاضلة عن الحوائج الأصلية، وخصهم بها، فيتنعمون ويستمتعون بلذيذ العيش، وشكر النعمة فرض عقلا وشرعا، وأداء
__________
(1) البخاري، بشرح العيني 1\ 118.
(2) ابن قدامة، المغني 2\ 427.
(3) الكاساني، البدائع 3\3.
(4) سورة التوبة الآية 103(75/333)
الزكاة إلى الفقير من باب شكر النعمة فكان أداء الزكاة فرضا.(75/334)
المطلب الثالث: حكم منكر الزكاة وعقوبة تاركها
:
أولا: حكم منكر الزكاة: الزكاة أحد الأركان التي بني عليها هذا الدين العظيم وهي مما علم من الدين بالضرورة، وأن فرضيتها ثبتت بالكتاب والسنة وبإجماع الأمة وبالمعقول، ولذا قرر غير واحد من الفقهاء بأن من أنكرها وجحد فرضيتها فقد كفر وخرج من الإسلام قال النووي: إذا امتنع من أداء الزكاة منكرا لوجوبها، فإن كان ممن يخفى عليه ذلك لكونه قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة أو نحو ذلك لم يحكم بكفره، بل يعرف وجوبها، وتؤخذ منه، فإن جحدها بعد ذلك حكم بكفره.
وإن كان ممن لا يخفى عليه ذلك، كمسلم مختلط بالمسلمين صار يجحدها كافرا، وجرت عليه أحكام المرتدين، من الاستتابة والقتل وغيرهما، لأن وجوب الزكاة معلوم من دين الله تعالى ضرورة، فمن جحد وجوبها فقد كذب الله، وكذب رسوله- صلى الله عليه وسلم- فحكم بكفره (1) .
ثانيا: عقوبة تارك الزكاة في الآخرة والدنيا:
لقد ورد الوعيد لمانع الزكاة في الآخرة والدنيا وفيما يلي بيان ذلك:
__________
(1) النووي، المجموع 5\ 334، ابن قدامة، المغني 2\ 427.(75/334)
أولا: عقوبته في الآخرة: لقد ورد في القرآن والسنة بيان عقوبة تارك الزكاة في الآخرة من ذلك ما يلي:
أولا: في القرآن: لقد توعد الله عز وجل مانعي الزكاة بالعذاب الشديد فقال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (2) .
قال الإمام الشافعي في تفسير {يَكْنِزُونَ} (3) هو: المال الذي لم يؤد الحق الواجب فيه من الزكاة سواء أكان هذا المال مدفونا أم ظاهرا (4) . أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم: «كل ما بلغ الزكاة فزكي فليس بكنز، وما لم يزكه فهو كنز (5) » .
ثانيا: في السنة: وفي السنة أيضا ورد التوعد لكل من لا يؤدي زكاة أمواله ومن ذلك ما يلي:
أولا: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه ثم
__________
(1) سورة التوبة الآية 34
(2) سورة التوبة الآية 35
(3) سورة التوبة الآية 34
(4) الشافعي، الأم 2\ 3.
(5) البخاري، بشرح العيني 8\ 254.(75/335)
يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية (2) » ، والشجاع الأقرع: الحية الذكر الذي لا شعر له، لكثرة سمه وطول عمره، والزبيبتان: نقطتان سوداوان فوق العينين وهو أخبث الحيات (3) .
ثانيا: قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا جعلت له يوم القيامة صفائح، ثم أحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب بقر ولا غنم لا يودي حقها إلا أتى بها يوم القيامة تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار (4) » .
ثانيا: عقوبة مانع الزكاة في الدنيا:
مانع الزكاة له عقوبة في الدنيا حدثنا عنها رسول الله صلى الله
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4565) ، صحيح مسلم الزكاة (987) ، سنن النسائي الزكاة (2482) ، سنن أبي داود الزكاة (1658) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1786) ، مسند أحمد (2/530) ، موطأ مالك الزكاة (596) .
(2) سورة آل عمران الآية 180 (1) {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
(3) البخاري، بشرح العيني، 8\ 252.
(4) البخاري، بشرح العيني 8\ 252.(75/336)
وسلم وفيما يلي بيان ذلك:
1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين (1) » .
2 - وقوله صلى الله عليه وسلم: «لم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا (2) » .
3 - وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما خالطت الصدقة - أو قال: الزكاة - مالا إلا أفسدته (3) » .
__________
(1) مجمع الزوائد 3\664، الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة 1\ 170، السنن جمع سنة وهي المجاعة والقحط.
(2) الهيثمي، مجمع الزوائد، 3\ 65، الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة 1\ 169.
(3) الهيثمي، مجمع الزوائد 3\ 64.(75/337)
المبحث الأول: الزيتون في القرآن والسنة:
ورد ذكر الزيتون في القرآن الكريم والسنة وفيما يلي بيان ذلك:
المطلب الأول: الزيتون في القرآن:
شجرة الزيتون من الأشجار التي باركها الله تعالى وقد ورد ذكرها في أكثر من سورة مما يدل على أهمية ومكانة هذه الشجرة في حياة الأفراد والدول ومن هذه الآيات ما يلي:
لقد أقسم الله تعالى بهذه الشجرة في القرآن الكريم في سورة(75/337)
التين بقوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} (1) {وَطُورِ سِينِينَ} (2) . كما ضرب الله تعالى بها المثل لنوره كمثل نور مصباح شديد الإضاءة يستمد وقوده من شجر الزيتون لشدة نقائه وصفائه قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} (3) .
قال مجاهد: زيتونة بأرضي فلاة إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها وإذا غربت غربت عليها فذلك أصفى ما يكون من الزيت (4) .
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} (5) .
وقال تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (6) .
وقال تعالى:
__________
(1) سورة التين الآية 1
(2) سورة التين الآية 2
(3) سورة النور الآية 35
(4) ابن كثير، تفسير القرآن 3\ 290.
(5) سورة الأنعام الآية 141
(6) سورة النحل الآية 11(75/338)
{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} (1) ، وقال تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} (2) {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} (3) {وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا} (4) ، كما أشار الله تعالى إلى شجرة الزيتون بقوله: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} (5) .
قال القرطبي فقوله تعالى: (وشجرة) المراد بها هنا شجرة الزيتون التي أنبتها الله تعالى في هذا الجبل المبارك في بلاد الشام (6) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 99
(2) سورة عبس الآية 27
(3) سورة عبس الآية 28
(4) سورة عبس الآية 29
(5) سورة المؤمنون الآية 20
(6) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 12\114.(75/339)
المطلب الثاني: الزيتون في السنة:
كما ورد ذكر الزيتون والزيت في أحاديث نبوية ومن هذه الأحاديث ما يلي:
أولا: عن أبي أسيد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة (1) » .
ثانيا: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) ابن ماجه، السنن 2\233.(75/339)
«لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق - موضعان بالشام قرب مدينة حلب - فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم فيهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا، ويقتل ثلث أفضل عند الله، ويفتتح الثلث لا يفتنون أبدا، فيفتحون قسطنطينية فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون (1) » .
ثالثا: قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك في الزيت والزيتون (2) » .
رابعا: قوله صلى الله عليه وسلم: «نعم السواك الزيتون، من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب الحفر - أي تآكل الأسنان - هي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي (3) » .
فهذه الأحاديث السابقة تدل بظاهرها على ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على الزيت والزيتون الشجرة المباركة وفيها الحث على الائتدام بها والتسوك بها، وهي شهادة عظيمة من الرسول
__________
(1) القشيري، الجامع الصحيح 18\ 221.
(2) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 12\ 250.
(3) العجلوني، كشف الخفاء 2\423، ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، 2\85.(75/340)
صلى الله عليه وسلم لهذه الشجرة.(75/341)
المبحث الثاني: زكاة الزيتون ونصابها وحكم الحرص فيه:
قبل الحديث عن زكاة الزيتون ونصابه فإنه يجدر بنا الحديث عن قطفه:
المطلب الأول: قطف ثمر الزيتون:
إن عملية قطف ثمار الزيتون من العمليات المهمة، لأنه يؤثر في كمية ونوعية وغلة السنة وفي إنتاج السنة التالية، وينبغي أن تتم عملية القطف في زمن الثمار المحتوية على أكبر قدر ممكن من الزيت المستخلص، ولا ينصح بترك الثمار على الشجرة بحيث يفوت زمن القطاف، لأن ذلك يؤثر على نوعية الزيتون مثل: الجفاف، والتساقط العفوي، ونقص الإنتاج في تلك السنة والسنة التي تليها ومن ثم تضر بأنسجة الشجرة.
وتتم عملية قطف ثمار الزيتون في عصرنا الحاضر بإحدى الطرق الآتية:
الأولى: الطريقة اليدوية وهي الأكثر شيوعا واستعمالا في البلدان العربية وهي طريقة شاقة وتتطلب وقتا كبيرا وعناية خاصة بالشجرة.
الثانية: طريقة الهزاز اليدوي، وهي أفضل من الطريقة السابقة،(75/341)
وتعتمد على جهاز يتم بعد ربطه بالشجرة ويبدأ بهز - أي تحريك - أغصان الشجرة على التوالي.
الطريقة الثالثة: الهزاز الميكانيكي، وهي طريقة متقدمة تعتمد على جهاز محمول على جرار تهز الشجرة به دفعة واحدة فيسقط الثمر على الأرض.
وينصح عند قطف ثمار الزيتون عدم ضرب شجرة الزيتون بالعصا لأن ذلك يؤدي إلى تجريح الثمار والأغصان، ويؤثر هذا على الإنتاج في السنوات القادمة.
وعن هشام بن عبد الملك أنه وقف قريبا من حائط فيه زيتون له فسمع نفض الزيتون - أي جذه بالعصا - فقال لرجل: انطلق إليهم وقل لهم التقطوه ولا تنفضوه فتفقئوا عيونه وتكسروا غصونه (1) .
__________
(1) الأندلسي، العقد الفريد 3\183.(75/342)
المطلب الثاني: زكاة الزيتون:
الزيتون مما تخرجه الأرض، وقد اختلف الفقهاء في وجوب الزكاة فيه على قولين:
الأول: تجب الزكاة في الزيتون وهو مروي عن ابن عباس والزهري والأوزاعي والليث وأبي ثور والثوري، وإليه ذهب أبو حنيفة.(75/342)
فقال: كل خارج من الأرض فيه زكاة بشرط أن يكون المقصود به نماء الأرض والغلة، ومما تستنبت سواء أكان من الزروع أو الثمار.. أما ما كان مما لا يستنبت ولا يقصد بزراعته النماء فإنه لا زكاة فيه.
وقال أيضا بوجوب الزكاة في الزيتون الشافعي في قوله القديم، وأحمد في إحدى الروايتين، وإليه ذهب المالكية.
الثاني: لا تجب الزكاة في الزيتون، وهو مروي عن ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وأبي عبيدة، وإليه ذهب الشافعي في قوله الجديد، وأحمد في الرواية الثانية.
الأدلة: استدل الفقهاء على قولهم السابق بأدلة هي:
أولا: أدلة أصحاب القول الأول: استدل هؤلاء بأدلة من القرآن والسنة:
1 - من القرآن:
أ- عموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (1) .
وجه الاستدلال من الآية: قالوا: تدل الآية على الأمر بالإنفاق، والأمر يقتضي الوجوب فكانت الزكاة واجبة في كل مما تنبته الأرض، والزيتون مما تنبته الأرض، والمراد بالنفقة: الصدقة، فكانت الزكاة
__________
(1) سورة البقرة الآية 267(75/343)
واجبة في الزيتون؛ لأنه مما تخرجه الأرض، والشارع عز وجل لم يفرق بين مخرج ومخرج (1) .
ب- عموم قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (2) .
وجه الاستدلال في الآية: قالوا: تدل الآية على وجوب زكاة ما تخرجه الأرض والزيتون داخل في هذا العموم، لأنه مما تخرجه الأرض.
قال ابن عباس رضي الله عنه (حقه) : الزكاة المفروضة، وهو قول ابن المسيب وطاووس وغيرهما (3) .
2 - من السنة:
استدلوا بما رواه سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر (4) » .
وجه الاستدلال في الحديث:
يدل الحديث على وجوب زكاة ما سقته السماء، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفصل بين ما يبقى، وما يؤكل وما
__________
(1) الجصاص، أحكام القرآن 1\543.
(2) سورة الأنعام الآية 141
(3) تفسير الطبري 12\158، ابن العربي، الأحكام 2\757.
(4) مسلم، الزكاة 2\ 675، والعثري الذي يشرب بعروقه من ماء المطر يجتمع في حفيرة، ابن الأثر، النهاية، 3\182.(75/344)
لا يؤكل، وما يقتات وما لا يقتات، فدل على وجوب الزكاة في الزيتون، لأنه داخل في عموم الحديث.
3 - الإجماع:
قالوا: أجمعت الأمة على وجوب العشر أو نصفه في كل ما تنبته الأرض في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل والزيتون مما تنبته الأرض فكانت الزكاة فيه واجبة (1) .
4 - من المعقول:
قالوا: الزيتون يمكن ادخار غلته (الزيت) فأشبه التمر والزبيب لأنهما مما يدخل، والزكاة تجب فيهما فكذلك الزيتون تجب فيه الزكاة.
وقالوا أيضا: إن رب الأرض يقصد من زراعة الزيتون نماء الأرض فأشبه الحب، والحب تجب فيه الزكاة فكذلك الزيتون (2)
ثانيا: أدلة أصحاب القول الثاني:
استدل هؤلاء بأدلة من القرآن والمعقول وهي:
1 - من القرآن قوله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} (3) .
__________
(1) ابن قدامة، المغني 2\3، ابن رشد، بداية المجتهد 2\ 224، الكاساني، بدائع الصنائع 2\ 54.
(2) الشافعي، الأم 2\ 5، النووي، المجموع 5\ 452، ابن قدامة، المغني 3\ 7.
(3) سورة الأنعام الآية 141(75/345)
وجه الاستدلال في الآية:
قالوا: لقد قرن الشارع عز وجل الزيتون بالرمان، وهما مما تنبته الأرض، والرمان لا تجب فيه الزكاة فكذلك الزيتون لا تجب فيه الزكاة.
2 - من المعقول:
قالوا: الزكاة تجب في كل ما يقتات ويدخر وييبس من الحبوب والثمار، والزيتون ليس مما يقتات ويدخر فلا تجب فيه الزكاة، وقالوا أيضا: الزيتون إدام غير مأكول بنفسه لذا لا تجب فيه الزكاة (1) .
الرأي الراجح:
والراجح هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول وهو وجوب الزكاة في الزيتون، لأنه يمكن ادخاره خاصة في هذه الأيام ولا يكاد يخلو بيت من الزيت، أضف إلى ذلك الإقبال الشديد من المزارعين على زراعة أراضيهم بالزيتون وإعراضهم عن زراعة الحبوب كالقمح، وقد رجح القاضي ابن العربي المالكي ما ذهب إليه الحنفية وقال: وأقوى المذاهب في المسألة مذهب أبي حنيفة دليلا وأحوطها للمساكن وأولاها قياما بشكر النعمة وعليه يدل عموم الآية والحديث (2) .
منشأ الخلاف:
يعود منشأ الخلاف بين الشافعي ومن وافقه في عدم وجوب
__________
(1) الشافعي، الأم 2\ 45، ابن قدامة، المغني 3\7، النووي، المجموع 5\ 452.
(2) ابن العربي، عارضة الأحوذى 3\135.(75/346)
الزكاة في الزيتون وبين من أوجب الزكاة فيه إلى أن هل الزيتون يقتات ويدخر أم لا؟ فمن قال بأنه ليس قوتا لم يوجب الزكاة فيه، ومن قال بأنه قوت أوجب الزكاة فيه. (1)
__________
(1) ابن رشد، بداية المجتهد 2\215.(75/347)
المطلب الثالث: النصاب:
لم يفرض الإسلام الزكاة في أي قدر من الزيتون، وإنما اشترط لكي تجب فيه الزكاة أن يبلغ مقدارا معينا سمي النصاب، فالنصاب هو المقدار المحدد أو المعين الذي حدده الشارع عز وجل لكي تجب الزكاة في الزيتون.
وقد بين الدهلوي الحكمة من المقدار بقوله: إنما قدر من الحب والتمر خمسة أوسق؛ لأنها تكفي أقل بيت إلى سنة، وذلك لأن أقل البيت الزوج والزوجة وثالث - خادم أو ولد بينهما -، وما يضاهي ذلك من أقل البيوت، وغالب قوت الإنسان رطل أو مد من الطعام، فإذا أكل كل واحد من هؤلاء ذلك المقدار كفاهم السنة. (1) .
والفقهاء الذين قالوا بوجوب إخراج الزكاة في الزيتون اختلفوا في اشتراط النصاب على قولين بيانهما في الآتي:
__________
(1) الدهلوي حجة الله، 2\506.(75/347)
الرأي الأول: النصاب شرط في وجوب الزكاة في الزيتون، وإليه ذهب مالك وأحمد والشافعي في قوله القديم، وهو مروي عن الثوري والحسن والأوزاعي وعطاء ومكحول والنخعي وابن أبي ليلى، وأبي يوسف ومحمد من الحنفية.
الرأي الثاني: النصاب ليس شرطا في وجوب الزكاة في الزيتون وهو مروي عن إبراهيم النخعي وعطاء، وإليه ذهب أبو حنيفة فقال: تجب الزكاة فيما أخرجت الأرض قليله وكثيره.
الأدلة: استدل هؤلاء على قولهم السابق بأدلة هي:
أولا: استدل أصحاب القول الأول: بما روي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة (1) » .
وجه الاستدلال في الحديث:
الحديث يدل بالمنطوق على وجوب الزكاة فيما تخرجه الأرض وذلك إذا بلغ خمسة أوسق فما فوق.
قال ابن قدامة: قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة (2) » خاص يجب تقديمه، وتخصيص عموم ما رووه أي قوله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العشر (3) » . (4)
__________
(1) البخاري، الجامع الصحيح، 3\ 310، مسلم، الجامع الصحيح، 2\ 673.
(2) صحيح البخاري الزكاة (1447) ، صحيح مسلم الزكاة (979) ، سنن الترمذي الزكاة (626) ، سنن النسائي الزكاة (2487) ، سنن أبي داود الزكاة (1559) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1793) ، مسند أحمد (3/97) ، موطأ مالك الزكاة (576) ، سنن الدارمي الزكاة (1633) .
(3) صحيح البخاري الزكاة (1483) ، سنن الترمذي الزكاة (640) ، سنن النسائي الزكاة (2488) ، سنن أبي داود الزكاة (1596) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1817) .
(4) ابن قدامة، المغني 3\ 7.(75/348)
قال ابن حزم: وعن مجاهد وحماد بن أبي سليمان وعمر بن عبد العزيز وإبراهيم النخعي، إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض قل أو كثر، وهو عن عمر بن عبد العزيز وإبراهيم وحماد بن أبي سفيان (1) .
وقد فصل داود الظاهري في ذلك فقال: ما كان يحتمل التسويق فلا زكاة فيه حتى يبلغ خمسة أوسق، وما كان لا يحتمل التسويق مثل القطن والزعفران وسائر الخضراوات فالزكاة في قليله وكثيره (2) .
ثانيا: واستدل أصحاب القول الثاني بالسنة والمعقول:
1 - السنة:
قوله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العشر (3) » .
وجه الاستدلال في الحديث:
قالوا: الحديث يدل بعمومه على وجوب إخراج الزكاة من كل ما سقته السماء العشر وما سقى بالنضح نصف العشر، دون تحديد نصاب المخرج منه، ولا فرق في هذا بين الزيتون وغيره.
2 - من المعقول:
قالوا: إن الزيتون لا يعتبر له الحول لكي تجب فيه الزكاة فلا
__________
(1) ابن حزم، المحلى 5\ 112.
(2) ابن حزم، المحلى 5\ 113.
(3) صحيح البخاري الزكاة (1483) ، سنن الترمذي الزكاة (640) ، سنن النسائي الزكاة (2488) ، سنن أبي داود الزكاة (1596) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1817) .(75/349)
يشترط له النصاب حتى تجب فيه الزكاة (1) .
وأجيب عنه: لم يعتبر الحول في زكاة الزيتون؛ لأنه يكمل نماؤه باستحصاده لا ببقائه، واعتبر الحول في غيره، لأنه مظنة لكمال النماء في سائر الأحوال، والنصاب اعتبر ليبلغ حدا يحتمل المواساة فيه، فلهذا اعتبر فيه، يحققه أن الصدقة إنما تجب على الأغنياء، ولا يحصل الغنى بدون النصاب كسائر الأحوال الزكائية (2) .
كما أن الزكاة تؤخذ من أموال الأغنياء وتعطى لفقرائهم مواساة لهم وتخفيفا من معاناتهم، ولا معنى لأن تؤخذ الزكاة من الفقير وهو بحاجة ماسة إلى أن يعان لا أن يعين (3) .
__________
(1) ابن قدامة، المغني 3\7.
(2) ابن قدامة، المغني 3\7.
(3) القرضاوي، فقه الزكاة، 1\ 152.(75/350)
المطلب الرابع: منشأ الاختلاف في النصاب
:
يعود الاختلاف بين الفقهاء في اشتراط النصاب في زكاة الثمار ومنها الزيتون وعدم الاشتراط إلى قاعدة أصولية مشهورة ومعروفة هي: قاعدة تعارض العام والخاص بين الحديثين السابقين (1) ، وبيان ذلك على النحو الآتي:
الحديث الأول: روى سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله تعالى
__________
(1) ابن رشد، بداية المجتهد 2\225.(75/350)
عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر (1) » .
الحديث الثاني: روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة (2) » .
محل التعارض بين الحديثين السابقين:
يدل الحديث الأول على أن ما سقي بماء السماء زكاته العشر قل أو كثر فهو عام في القليل والكثير، ومن ثم فإنه لا يشترط مقدار معين يخرج منه هذا العشر.
بينما يدل الحديث الثاني على اشتراط النصاب فيما تجب فيه الزكاة فما كان دون خمسة أوسق فلا تجب فيه الزكاة فيكون هذا الحديث معارضا للأول الذي دل على إخراج الزكاة في القليل والكثير، ولو كان القليل دون خمسة أوسق.
ولقد سلك الفقهاء في دفع هذا التعارض مناهج عدة هي:
الأول: الجمع بين الحديثين وذلك على مذهبين:
المذهب الأول: تخصيص حديث سالم بن عبد الله عن أبيه بحديث أبي سعيد الخدري، ويكون الحكم أن ما سقي بماء السماء أو كان عثريا من الزيتون لا تجب فيه زكاة العشر إلا إذا بلغ خمسة أوسق فما فوق.
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1483) ، سنن الترمذي الزكاة (640) ، سنن النسائي الزكاة (2488) ، سنن أبي داود الزكاة (1596) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1817) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1447) ، صحيح مسلم الزكاة (979) ، سنن الترمذي الزكاة (626) ، سنن النسائي الزكاة (2487) ، سنن أبي داود الزكاة (1559) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1793) ، مسند أحمد (3/97) ، موطأ مالك الزكاة (576) ، سنن الدارمي الزكاة (1633) .(75/351)
وذهب إلى هذا الجمهور (1) ، وقال البخاري عقب حديث سالم هذا تفسير الأول، لأنه لم يوقت في الأول، يعني حديث ابن عمر: «وفيما سقت السماء العشر (2) » ، وبين في هذا ووقت، والزيادة مقبولة، والمفسر يقضي على المبهم إذا رواه أهل الثبت (3) .
وذهب إلى هذا أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية وقالا: لا يجب العشر إلا فيما له ثمرة باقية إذا بلغ خمسة أوسق.
وتأول فقهاء الحنفية ما ذهب إليه الصاحبان: بأنه محمول على زكاة التجارة ومقتضى هذا التأويل أن يخصص حديث «ليس فيما دون» بمن أعد الخارج من الأرض من الزرع والثمار للتجارة فيه فإنه لا تجب عليه الزكاة فيه حتى يبلغ خمسة أوسق، وحديث: «فيما سقت السماء (4) » في حق من لم يرد التجارة فيما يخرج من أرضه من الزروع والثمار (5) .
المذهب الثاني: كل ما يدخل فيه الكيل يراعى فيه النصاب، وما لا يدخل الكيل ففي قليله وكثيره الزكاة، لأن ما سقي بماء السماء إما أن يكون قليلا أو لا، فما كان قليلا فيشترط فيه النصاب
__________
(1) النووي، شرح صحيح مسلم 7\ 49، ابن قدامة، المغني 3\ 7، البغوي، شرح السنة 5\501.
(2) صحيح البخاري الزكاة (1483) ، سنن النسائي الزكاة (2488) ، سنن أبي داود الزكاة (1596) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1817) .
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 3\347.
(4) صحيح البخاري الزكاة (1483) ، سنن النسائي الزكاة (2488) ، سنن أبي داود الزكاة (1596) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1817) .
(5) ابن الهمام، فتح القدير 2\243.(75/352)
وهو خمسة أوسق وما لم يكن قليلا فلا يشترط فيه النصاب فتخرج الزكاة في قليله وكثيره ذهب إلى هذا داود الظاهري (1) .
الثاني: الترجيح ومقتضاه تقديم حديث: «فيما سقت السماء (2) » على حديث: «ليس فيما دون» لأن الحديث الأول عام، والثاني خاص، ودلالة العام قطعية كالخاص تماما، وإذا تعارض العام والخاص قدم الأحوط وهو الوجوب، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة فقال: في قليل ما أخرجته الأرض وكثيره العشر، لأنه لما تعارض حديث: «فيما سقت السماء (3) » .. " مع حديث الأوساق في الإيجاب فيما دون خمسة أوسق، كان الإيجاب أولى للاحتياط (4) .
وعلل الطحاوي عدم اشتراط النصاب بقوله: لا يشترط أن يبلغ الخارج من الأرض خمسة أوسق حتى يزكى، والنظر الصحيح يدل على ذلك، وذلك أنا رأينا الزكوات تجب في الأموال والمواشي في مقدار منها معلوم، بعد وقت معلوم، وهو الحول، فكانت تلك الأشياء تجب بمقدار معلوم ووقت معلوم، ثم رأينا ما تخرج الأرض يؤخذ منه الزكاة في وقت ما تخرج، ولا ينتظر به وقت، فلما سقط أن يكون له وقت يجب فيه الزكاة بحلوله، سقط أن يكون له مقدار يجب الزكاة فيه ببلوغه، فكان حكم المقدار والميقات في هذا سواء
__________
(1) ابن حجر، فتح الباري 3\ 350.
(2) صحيح البخاري الزكاة (1483) ، سنن النسائي الزكاة (2488) ، سنن أبي داود الزكاة (1596) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1817) .
(3) صحيح البخاري الزكاة (1483) ، سنن النسائي الزكاة (2488) ، سنن أبي داود الزكاة (1596) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1817) .
(4) ابن الهمام، فتح القدير 2\ 243.(75/353)
إذا سقط أحدهما سقط الآخر (1) .
وقال ابن القيم في هذا الصدد:
يجب العمل بكلا الحديثين، ولا يجوز معارضة أحدهما بالآخر، ولا إلغاء أحدهما بالكلية، فإن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فرضي في هذا وفي هذا ولا تعارض بينهما بحمد الله تعالى فإن قوله: «فيما سقت السماء العشر (2) » إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر، وما يجب فيه نصفه، فذكر النوعين مفرقا بينهما في مقدار الواجب، وأما مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث، وبينه نصا في الحديث الآخر، فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم، الذي لا يحتمل غير ما دل عليه البتة، إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يتعلق فيه بعموم لم يقصد بيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصها من النصوص (3) .
__________
(1) الطحاوي، شرح معاني الآثار 2\ 38.
(2) صحيح البخاري الزكاة (1483) ، سنن الترمذي الزكاة (640) ، سنن النسائي الزكاة (2488) ، سنن أبي داود الزكاة (1596) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1817) .
(3) ابن القيم، أعلام الموقعين 2\ 348.(75/354)
المطلب الخامس: نصاب الزيتون في الأوزان الحالية:
لقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم النصاب بالأوسق الخمسة، فكم تساوي في المقاييس الحالية؟
بيانه على النحو الآتي:
النصاب خمسة أوسق، والوسق يساوي 60 صاعا، والصاع(75/354)
يساوي أربعة أمداد، والمد مقدر بملء كفي الإنسان الوسط، والمد يساوي رطلا وثلثا بغداديا (1) .
وعلى نحو آخر:
الخمسة أوسق تساوي 60 × 5 = 300 صاعا
وتساوي بالمد 300 × 4 = 1200 مدا
وتساوي بالرطل 1200 × 1 1\3 = 1600 رطلا
وتساوي بالكيلو غرام 1600 × 0.480 = 768 كيلو غراما.
النتيجة: إن نصاب الزيتون بالأوزان الحالية 768 كيلو غرام، فمن بلغ عنده الزيتون 768 فقد أصبح مالكا للنصاب ومن ثم تجب عليه الزكاة، فما سقي بماء السماء العشر.
768 × 1\10 = 76.8 كيلو غرام زكاة كل خمسة أوسق سقي بماء السماء.
أما ما سقط بالنضح ففيه نصف العشر وذلك على النحو الآتي:
768 × 1\20 = 38.4 كيلو غرام زكاة كل خمسة أوسق سقي بالنضح.
وهذا على رأي الجمهور وهم المالكية والشافعية والحنابلة،
__________
(1) ابن الرفعة، الإيضاح ص 56.(75/355)
بينما ذهب الحنفية إلى عدم اشتراط النصاب فالزكاة عندهم واجبة في القليل ولو كان دون خمسة أوسق.(75/356)
المطلب السادس: خرص الزيتون:
الخرص لغة: حزر الشيء، يقال: خرصت النخل إذا حزرت ثمره (1) .
فالخرص هو الحزر والتخمين لما على النخل من الثمر.
واصطلاحا: تقدير الرطب والعنب على النخل والكرم كم يكون إذا صار تمرا وزبيبا لكي يعرف مقدار الزكاة، حتى إذا جفت الثمار أخذت الزكاة التي سبق تقديرها منها (2) .
ويبدأ الخرص عند بدو صلاح الثمار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم «كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود فيخرص عليهم النخل حين يطيب (3) » .
ووقت خرص الزيتون يكون قبل القطف بشهر على الأقل أي عندما يكون صالحا للكبس (الرصيع) .
وفائدة الخرص هي: معرفة ما يجب بالزكاة وإطلاق أرباب الثمار بالتصرف فيها، والحاجة إنما تدعو إلى ذلك حين يبدر الصلاح
__________
(1) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 2\169، الجوهري، الصحاح 3\ 1035.
(2) الترمذي، السنن 2\ 78.
(3) ابن قدامة، المغني 3\15، أبو داود، السنن 8\117.(75/356)
وتجب الزكاة (1) .
أقوال الفقهاء في خرص الزيتون:
اختلف الفقهاء في خرص الزيتون على قولين هما:
القول الأول: ذهب مالك وأحمد إلى القول بأن الزيتون لا يخرص وهو مروي عن الزهري والأوزاعي والليث (2) .
وحجتهم: أن حب الزيتون متفرق في شجره، مستور بورقه، ولا حاجة بأهله إلى أكله، بخلاف النخل، والكرم، فإن ثمرة النخل مجتمعة في عذوقه، والعنب في عناقيده، فيمكن أن يأتي الخرص عليه، والحاجة داعية إلى أكلهما في حال رطوبتهما.
القول الثاني: وذهب الأوزاعي والليث وغيرهما إلى القول بخرص الزيتون (3) .
وحجتهم: أن الزيتون ثمر تجب فيه الزكاة، فيخرص كالرطب والعنب.
__________
(1) ابن قدامة، المغني 3\15.
(2) ابن قدامة، المغني 3\18، ابن رشد، بداية المجتهد 1\ 227، العيني، عمدة القارئ 9\ 67.
(3) يحيى المرتضى، البحر الزخار 2\ 172.(75/357)
المبحث الثالث: حكم إخراج القيمة والنفقات على الزيتون وبيع ثماره على الشجر
ويشتمل هذا المبحث على الحديث عن حكم إخراج القيمة(75/357)
في الزكاة والنفقات على الزيتون وبيع الثمار على الشجر وذلك على النحو الآتي:
المطلب الأول: حكم إخراج القيمة:
إذا أراد رب الزيتون أن يخرج القيمة سواء أكانت حبا أم زيتا فهل يجوز ذلك أم لا؟
لقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين (1) :
الأول: يجوز إخراج القيمة والواجب إخراج العين، وإليه ذهب الشافعية والمالكية في قول والحنابلة في رواية.
الأدلة: استدل هؤلاء بأدلة لما ذهبوا إليه وهذه الأدلة هي:
أدلة القول الأول: استدلوا بأدلة من القرآن والسنة والآثار والمعقول منها ما يلي:
أ- من القرآن قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (2) .
وجه الدلالة في الآية: تدل الآية على أن المأخوذ مال، والقيمة مال، فأشبهت المنصوص عليه.
2 - من السنة: لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن لأخذ الصدقة قال: " ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه
__________
(1) ابن قدامة، المغني 3\ 87، النووي، المجموع 6\ 144، الميداني، اللباب 1\ 160.
(2) سورة التوبة الآية 103(75/358)
أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة " (1) ، والخميس هو: ثوب طوله خمسة أذرع. واللبيس: ما يلبس أي اللباس.
والدلالة في الحديث واضحة وهي جواز أخذ القيمة وذلك قول معاذ: أعطوني ثيابا تلبس بدل الواجب عليكم من الزروع.
3 - الآثار: ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه " كان يأخذ العروض في الصدقة من الدراهم " أي بدل الدراهم (2) .
4 - المعقول: إن قصد الشارع عز وجل من إخراج الزكاة دفع حاجة الفقير، ودفع الحاجة يحصل بالقيمة وبغيرها، وربما تكون القيمة للفقير أنفع؛ لأن الفقير يحتاج إلى طعام وشراب ولباس ودواء وعلاج وكل ذلك يتحقق بالقيمة، ومهما تنوعت حاجات الفقير فإن القيمة قادرة على تحقيق ذلك (3) .
أدلة القول الثاني: استدل أصحاب القول الثاني على عدم جواز إخراج القيمة في الزكاة بأدلة هي:
أ- من السنة: «قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير
__________
(1) البيهقي، السنن 4\ 113.
(2) ابن قدامة، المغني 4\ 87.
(3) المصدر السابق 3\ 86.(75/359)
من الإبل، والبقر من البقر (1) » .
وجه الاستدلال في الحديث: الحديث نص في الموضوع فوجب الوقوف عنده، وهو إخراج العين وعدم تجاوزها إلى إخراج القيمة، لأن في هذه الحال سيأخذ من الحب شيئا غير الحب، ومن الغنم شيئا غير الشاة وهذا خلاف ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أي أنه عدول عن المنصوص عليه ومن ثم لم يجزئه (2) .
2 - من المعقول قالوا:
أ- إن الزكاة وجبت لدفع حاجة الفقير وشكرا لنعمة المال، والحاجات متنوعة فينبغي أن يتنوع الواجب ليصل إلى الفقير من كل نوع ما تندفع به حاجته، ويحصل شكر النعمة بالمواساة من جنس ما أنعم الله عليه به (3) .
2 - السجود في الصلاة يكون على الجبهة والأنف ومن ثم لا يجوز أن يكون على الخد أو الذقن، لأن في هذا مخالفة للنص، فكذلك لا يجوز إخراج قيمة الشاة أو الحب المنصوص على وجوبه؛ لأن في هذا خروجا على النص، والزكاة أخت الصلاة (4) .
__________
(1) البيهقي، السنن 4\ 113.
(2) ابن قدامة، المغني 3\ 88.
(3) ابن قدامة، المغني 3\88.
(4) النووي المجموع 5\430.(75/360)
منشأ الخلاف: ومنشأ الخلاف في إخراج القيمة في الزكاة يعود إلى هل الزكاة قربة لله تعالى أم حق مالي للفقراء في مال الأغنياء، فمن غلب جانب العبادة في الزكاة قال بعدم جواز إخراج القيمة كالمالكية والشافعية والحنابلة، ومن غلب جانب كون الزكاة حقا ماليا قصد منه سد حاجة الفقراء قال بجواز إخراج القيمة في الزكاة كالحنفية (1) .
الترجيح: عندما نتأمل ما ذهب إليه الحنفية نجده أيسر على الناس وأهون، لأن أخذ الشاة يحتاج إلى نفقات مثل المبيت والإطعام ونقل من مكان إلى آخر وغير ذلك مما تحتاج إليه العين من أجل المحافظة عليها، بخلاف أخذ القيمة فإنه لا يحتاج مثلما تحتاج إليه العين، وهذا القول مروي عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وسفيان الثوري، وإليه ذهب البخاري حيث عقد بابا في صحيحه " أخذ القيمة " مستدلا بما ورد عن معاذ الذي رواه عن طاووس، وما روي عن معاذ ليس فيه الإلزام بأخذ العين وإنما هو المطالب به أرباب الأموال، والقيمة إنما تؤخذ باختيارهم، وإنما عين تلك الأجناس في الزكاة تسهيلا على أرباب الأموال، لأن كل ذي مال إنما يسهل عليه الإخراج من نوع المال
__________
(1) النووي، المجموع 5\ 340.(75/361)
الذي عنده. (1) .
وقد ذهب ابن تيمية مذهبا وسطا حيث قال: إن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة غير جائز، ولهذا قدر الرسول صلى الله عليه وسلم الجبران بشاتين أو عشرين درهما ولم يعدل إلى القيمة، ولأنه متى جوز إخراج القيمة مطلقا، فقد يعدل المالك إلى أنواع رديئة، وقد يقع في التقويم ضرر، ولأن الزكاة مبناها على المواساة، وهذا معتبر في قدر المال وجنسه، وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة، أو العدل فلا بأس به، مثل أن يبيع ثمر بستانه أو زرعه بدراهم، فهنا إخراج عشر الدراهم يجزئه، ولا يكلف أن يشتري ثمرا أو حنطة، إذا كان قد ساوى الفقراء بنفسه وقد نص أحمد على جواز ذلك.
ومثل أن يجب عليه شاة في خمسة من الإبل، وليس عنده من يبيعه شاة، فإخراج القيمة هنا كاف، ولا يكلف السفر إلى مدينة أخرى ليشتري شاة، ومثل أن يكون المستحقون للزكاة طلبوا منه إعطاء القيمة لكونها أنفع، فيعطيهم إياها أو يرى الساعي أن أخذها أنفع للفقراء، كما نقل عن معاذ بن جبل أنه كان يقول لأهل اليمن: ائتوني بخميس أو لبيس، آخذه منكم مكان الصدقة فإنه أهون
__________
(1) القرضاوي، فقه الزكاة 2\805.(75/362)
عليكم وخير لمن في المدينة من المهاجرين والأنصار (1) .
هل تخرج الزكاة من الثمر أم من الزيت؟
اختلف الفقهاء في ذلك على النحو الآتي (2) .
أولا: ذهب أبو حنيفة إلى القول بأن تؤخذ الزكاة من حبه كغيره من الثمار، لأن الحالة التي تعتبر فيها الأوساق هي حالة الثمر لا الزيت، فكان إخراجه فيها كسائر الثمار.
ثانيا: ذهب الإمام مالك إلى القول بأن تؤخذ الزكاة من الزيت بعد العصر العشر وذلك إذا بلغ الزيتون خمسة أوسق، لأن الزيت أنفع للفقير من الثمر. أما إذا لم يخرج من الزيت أخرج منه ثمنه.
ثالثا: ذهب الشافعي في قوله القديم إلى أنه يجوز أن يخرج زيتا أو زيتونا أيهما شاء.
رابعا: ذهب الإمام أحمد إلى القول بالتفريق بين الزيتون الذي فيه زيت وما لا زيت فيه فقال: إذا لم يكن فيه زيت فإنه يخرج منه حبا، كما يخرص الرطب في حال رطوبته، وإن كان فيه زيت أخرج زيتا العشر، وذلك إذا بلغ الزيتون خمسة أوسق.
والراجح من هذه الأقوال هو أن تؤخذ الزكاة في الزيتون
__________
(1) ابن تيمية، الفتاوى 25\82، 83، البيهقي، السنن 4\113.
(2) (مالك، المدونة الكبرى 1\ 584) ، (النووي، المجموع 5\ 452) ، (ابن قدامة، المغني 3\ 19) .(75/363)
العشر من الزيت وذلك إذا بلغ الثمر خمسة أوسق، لأن الزيت أنفع للفقراء، كما أنه لو خير الفقير بين ذلك لاختار الزيت، لأنه لا يحتاج إلى بذل الجهد والنفقة في عصر الثمر، بخلاف ما لو أخذه حبا فإنه يضطر إلى أن يدفع النفقات ويبذل الجهد من أجل عصر الثمر، وقد لا يجد مالا وإن وجد فقد لا يستطيع من الناحية الجسدية فالزيت أفضل.(75/364)
المطلب الثاني: حكم النفقات على الزيتون:
لقد جرت العادة أن ينفق المزارع على مزروعاته بعض النفقات التي تحتاج إليها هذه المزروعات مثل: الحرث، والسماد، والتنقية، والحصاد ونقله إلى المعصرة وغير ذلك وتسمى هذه بالنفقات الإنمائية، وقد تكون هذه النفقات باهظة كما هو الحال في عصرنا الحاضر. والسؤال هو: هل يجوز خصم هذه النفقات من الغلة وقبل أن تؤخذ الزكاة أم لا؟
لقد وقع الاختلاف فيها بين أهل العلم على قولين:
الأول: لا يجوز خصم أو احتساب هذه النفقات من الغلة وقبل أن تؤخذ الزكاة، ومؤدى هذا القول إخراج الزكاة من الغلة دون الالتفات إلى النفقات مهما بلغت، وقد ذهب إليه الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ومن وافقهم.(75/364)
وحجتهم في ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العشر وما سقي بالنضح ففيه نصف العشر (1) » .
وجه الاستدلال في الحديث: لقد حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بتفاوت الواجب لتفاوت المؤنة، فلو رفعت المؤنة كان الواجب واحدا، وهو العشر دائما في الباقي، لأنه لم ينزل إلى نصفه إلا للمؤنة، والفرض أن الباقي بعد رفع قدر المؤنة لا مؤنة فيه، فكان الواجب دائما العشر، لكن الواجب قد تفاوت شرعا، مرة العشر ومرة نصفه، بسبب المؤنة، فعلمنا أنه لم يعتبر شرعا عدم عشر بعض الخارج- وهو القدر المساوي للمؤنة- أصلا (2) .
الثاني: يجوز خصم النفقات من الغلة قبل أن تؤخذ الزكاة، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر وعطاء وطاووس ومكحول واختاره ابن العربي ومن المعاصرين القرضاوي (3) .
وحجتهم في ذلك:
أولا: روى أبو عبيد عن مكحول قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخراص قال: خففوا فإن في المال
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1483) ، سنن الترمذي الزكاة (640) ، سنن النسائي الزكاة (2488) ، سنن أبي داود الزكاة (1596) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1817) .
(2) ابن عابدين، الحاشية 2\ 327.
(3) ابن قدامة، المغني 3\ 17، القرضاوي، فقه الزكاة 1\ 396.(75/365)
العرية والوطية (1) » .
ثانيا: ما روي عن سهل بن أبي حثمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع (2) » .
وجه الاستدلال في الحديثين:
الدلالة في الحديثين واضحة وهي أن على الخارص أن يترك لأصحاب الزروع والثمار (الزيتون) الثلث، أو الربع، وهذا القدر يساوي مقدار ما ينفقه صاحب الثمر (الزيتون) على زيتونه وفي هذا دلالة واضحة على خصم النفقات الإنمائية من الغلة وقبل إخراج الزكاة.
وقد أيد القرضاوي ما ذهب إليه بأمرين: (3) :
الأول: إن للكلفة والمؤنة تأثيرا في نظر الشارع، فقد تقلل مقدار الواجب، كما في السقي بآلة، حيث جعل الشارع عز وجل فيه نصف العشر فقط، وقد تمنع الوجوب أصلا، كما في الأنعام المعلوفة أكثر العام، فلا عجب أن تؤثر في إسقاط ما يقابلها من الخارج من الأرض.
__________
(1) أبو عبيد، الأموال ص 611.
(2) الترمذي، السنن 2\ 77.
(3) القرضاوي، فقه الزكاة 1\396.(75/366)
الثاني: إن حقيقة الثمار هو الزيادة، ولا يعد المال زيادة وكسبا إذا كان قد أنفق مثله في الحصول عليه.(75/367)
المطلب الثالث: حكم بيع ثمار الزيتون على الشجر:
بيع ثمار الزيتون على الشجرة منتشر في أيامنا هذه، وبيع ثمار الزيتون إما أن يكون قبل أن تخلق، وهذا البيع باطل باتفاق؛ لأنه من قبيل بيع السنين والمعارمة وقد نهى الرسول عن ذلك.
وإما أن يكون بعد أن تخلق، وهذا إما أن يكون قبل بدو الصلاح أو بعده، وفيما يلي الحديث عن بيع ثمار الزيتون على الشجرة قبل بدو الصلاح وبعد بدوه، وذلك على النحو الآتي:
أولا: بيع ثمار الزيتون على الشجرة قبل بدو الصلاح
قبل الحديث عن بيع ثمار الزيتون على الشجرة قبل بدو الصلاح فإنه لا بد من بيان معنى بدو الصلاح في الثمار.
بدو الصلاح في الثمار متفاوت بتفاوت الثمار، فبدو صلاح التين أن يطيب وتوجد فيه الحلاوة ويظهر السواد في أسوده والبياض في أبيضه، وبدو صلاح العنب أن يبدو فيه الماء الحلو، وبدو صلاح الزيتون أن ينحو إلى السواد، وفي البياض أن يؤكل عادة (1) .
ويمكن أن يقال في بدو الصلاح صلاحية الثمار للانتفاع.
ويعد بيان معنى بدو الصلاح في الثمار فإن بيع ثمار الزيتون
__________
(1) العيني، عمدة القارئ 11\289، ابن رشد، بداية المجتهد 2\129.(75/367)
على الشجرة قبل بدو الصلاح إما أن يكون بشرط التبقية وإما بشرط القطع، وإما مطلقا، وفيما يلي بيان ذلك:
أ- إذا كان البيع بشرط التبقية فقد ذهب الفقهاء إلى بطلانه، واستدلوا بجملة من الأحاديث منها حديث رواه أنس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى، قيل وما تزهى؟ قال: حتى تحمر، قال: أرأيت إن منع الله الثمر بم يأخذ أحدكم مال أخيه (1) » .
وقد نقل ابن المنذر الإجماع على بطلان هذا البيع للأحاديث الواردة في النهي عن ذلك (2) .
وقال ابن الهمام: فإن لم يكن الثمر قد تناهى عظمه فالبيع فاسد عند الكل (3) .
2 - أما إذا كان البيع بشرط القطع فهو جائز لانتفاء الغرر في بيعه، ولأن المنع إنما كان خوفا من حدوث العاهة، واشتراط قطعها يؤمن معه العاهة (4) .
__________
(1) البخاري، بشرح العيني 12\7.
(2) ابن قدامة، المغني 4\ 63.
(3) ابن الهمام، فتح القدير 5\ 102.
(4) ابن قدامة، المغني 4\63، السرخسي، المبسوط 12\ 195، ابن الهمام، فتح القدير 5\12.(75/368)
3 - أما إذا كان البيع مطلقا أي دون اشتراط التبقية والقطع فقد اختلف الفقهاء على قولين:
الأول: عدم الجواز وإليه ذهب الجمهور ومنهم مالك والشافعي وأحمد وحجتهم: أن إطلاق العقد يقتضي التبقية والبيع بشرط التبقية لا يصح سواء أكان قبل بدو الصلاح أو بعده، وبشرط القطع يصح البيع بما قبل الصلاح وما بعده (1) .
وقالوا النهي الوارد في الأحاديث منصب على المعهود من البيوع عند الناس، والمعهود عندهم إطلاق العقد، فصار النهي بالعرف متوجها إلى البيع المطلق (2) .
الثاني: الجواز وإليه ذهب الحنفية ويلزم المشتري عندهم القطع في الحال، لأن من أصولهم المقررة أن إطلاق العقد يقتضي تعجيل القطع، ومن حقوق العقد تسليم المبيع من غير تأخير، والتسليم لا يتم إلا بالقطع، وأن الترك ليس بمشروط أيضا إذ أن العقد مطلق عن الشرط أصلا فلا يجوز تقييده بشرط الترك من غير دليل وخاصة إذا كان التقييد يترتب عليه فساد العقد (3) .
__________
(1) ابن رشد، بداية المجتهد 2\130، ابن قدامة 4\ 63، النووي، المجموع 11\ 332.
(2) ابن رشد، بداية المجتهد 2\ 130، درادكة، نظرية الغرر، ص 400.
(3) الكاساني، البدائع 5\ 173، ابن الهمام، فتح القدير 5\ 103.(75/369)
ثانيا: بيع ثمار الزيتون على الشجرة بعد بدو الصلاح.
وهنا إما أن يكون بشرط التبقية وإما أن يكون بشرط القطع وإما أن يكون مطلقا، وفيما يلي بيان ذلك:
1 - إذا كان بشرط التبقية فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
الأول: الجواز وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد (1) .
وحجتهم: «نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها وتأمن العاهة (2) » وتعليله صلى الله عليه وسلم بأمن العاهة يدل على تبقية الثمرة، لأن ما يقطع في الحال لا يخاف عليه من العاهة، وإذا بدا الصلاح فقد أمنت العاهة، لذلك يجب أن يصح بيعه لزوال علة المنع، ولأن النقل والتحويل في المبيع يكون بحكم العرف، والعرف في ثمار الزيتون الجذاذ.
الثاني: عدم الجواز وإليه ذهب الحنفية
وحجتهم: أنها ثمرة بيعت بشرط الترك فوجب أن يكون بيعها فاسدا كالثمرة التي لم يبد صلاحها (3) .
2 - وأما إذا كان البيع بشرط القطع فهو جائز وقد نقل
__________
(1) ابن قدامة، المغني 4\67، النووي، المجموع 11\ 347.
(2) سنن الترمذي البيوع (1227) ، مسند أحمد (6/106) .
(3) السرخسي، المبسوط 12\ 196.(75/370)
الماوردي الإجماع على ذلك (1) .
وحجة الجمهور الاحتجاج بمفهوم الغاية الوارد في أحاديث النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، ومفهوم الغاية يدل على جواز بيعها عند بدو صلاحها.
وحجة الحنفية: العمل بالأصل وهو حل البيع (2) .
3 - وأما إذا كان البيع مطلقا فهو جائز وعند الجمهور تترك الثمار إلى وقت الجذاذ، لأن الإطلاق يقتضي التبقية بالعرف (3) ، وعند الحنفية تقطع في الحال بناء على أصلهم المقرر وهو أن إطلاق العقد يقتضي القطع (4) .
خلاصة الكلام:
- بيع ثمار الزيتون قبل بدو الصلاح بشرط البقاء باطل عند الجميع.
- بيع ثمار الزيتون قبل بدو الصلاح وبعده بشرط القطع
__________
(1) ابن رشد، بداية المجتهد 2\ 130، ابن قدامة، المغني 4\ 67، الماوردي، الحاوي 5\ 288.
(2) النووي، المجموع 11\346، السرخسي، المبسوط 12\ 196، ابن الهمام، فتح القدير 5\102.
(3) ابن قدامة، المغني 4\ 67.
(4) النووي، المجموع 11\ 347، السرخسي، المبسوط 12\ 196، ابن الهمام، فتح القدير 5\ 102.(75/371)
جائز باتفاق.
- بيع ثمار الزيتون قبل بدو الصلاح وبعده مطلقا أي دون اشتراط البقاء أو القطع جائز عند الحنفية وغير جائز عند الجمهور.
- بيع ثمار الزيتون بعد بدو الصلاح بشرط البقاء غير جائز عند الحنفية وجائز عند الجمهور.(75/372)
المبحث الرابع: فوائد الزيتون الاقتصادية والطبية والبيئية:
المطلب الأول: فوائد الزيتون الاقتصادية:
تحتل شجرة الزيتون المباركة مكانة هامة بين الأشجار الأخرى؛ لما تنتجه هذه الشجرة من ثمار وزيت، وهما أحد الأنواع التي يعتمد عليها الإنسان في الغذاء، وشجرة الزيتون موجودة منذ أقدم العصور، حيث وجدت في الشرق الأدنى، ومنه انتقلت زراعتها إلى جنوب أوروبا وشمال أفريقيا وشرق أسيا، وشجرة الزيتون من الأشجار المعمرة التي تتحمل الجفاف نسبيا، وهي بطيئة النمو، وساقها ضخم يتراوح ارتفاعه ما بين (1 م إلى 1.5 م) وأحيانا يصل إلى (2) مترين، وأغصانها غليظة، وأوراقها مستدقة وصغيرة، والمناخ الملائم لزراعة شجرة الزيتون هو المعتدل، ولهذا فإن مناطق حوض البحر المتوسط تعتبر أكثر البلدان شهرة في زراعة الزيتون، وتتطلب شجرة الزيتون من المزارع الصبر والمثابرة خلال السنوات الأولى، ثم(75/372)
يعقب ذلك سنوات طويلة من المنفعة المتبادلة ما بين الإنسان وشجرة الزيتون يقوم خلالها الإنسان برعاية شجرة الزيتون نظير ما تدره عليه من عائد مادي.
وتنتشر زراعة الزيتون في الأردن في أغلب المناطق، نظرا لتوفر التربة والجو الملائم لهذه الشجرة، ولم يكن لزراعة الزيتون أهمية تذكر في السابق لاعتماد معظم الناس على زراعات أخرى كالحبوب، إلا أن العقود الأربعة الأخيرة شهدت إقبال الناس على زراعة الزيتون والعناية به، مما أدى زيادة المساحة المزروعة بأشجار الزيتون ما بين عام 1946 م، 1998 م، فبعد أن بلغت المساحة المزروعة بأشجار الزيتون عام 1946 م حوالي 51533 دونما زادت هذه المساحة إذ بلغت 87660 دونما عام 1998 م وقد قدرت كمية ثمر الزيتون المنتجة لعام 1946 م بحوالي 7500 طن، وقد أنتجت حوالي 1335 طن زيت، بينما وصل إنتاج ثمر الزيتون لعام 1998 م حوالي 177 ألف طن، استخلص منها حوالي 21.4 ألف طن من الزيت.
ولقد أجريت دراسة لمعرفة الآثار الاقتصادية للزيتون في عام 2001 م وقد بلغ إنتاج الزيت 30 ألف طن، وبلغ عدد الفائض منه للعام نفسه 10 ألاف طن فيكون المردود الاقتصادي من الزيت للعام 2001 م (75) مليون دينار أي 30 ألف × 2.50 دينار = 75(75/373)
مليون دينار ما عدا حب الزيتون الذي يتخذ للأكل (الرصيع) (1) .
ومن استخداماته ما يلي:
1- صناعة الصابون ولا يخفى لما لهذه الصناعة من آثار اقتصادية وإيجابية تتمثل في تصدير الزائد عن حاجة البلد بعد تحقيق الاكتفاء الذاتي، بالإضافة إلى تشغيل الأيدي العاملة الذي يؤدي بدوره إلى التقليل من البطالة.
2- استخدام الزيت في إنارة المساجد والبيوت قديما.
3- استخدام الجفت - الرواسب المتبقية بعد عصر الزيتون - في تدفئة المنازل وتسميد التربة.
__________
(1) العلاونه، نشرة 2001 م.(75/374)
المطلب الثاني: فوائد الزيتون الطبية:
الزيتون له فوائد كثيرة على الإنسان منها ما يلي:
1 - مسكن لآلام المفاصل ولأوجاع الظهر.
2 - يستخدم في علاج الروماتيزم والحصيات المرارية.
3 - يقضي على الدمعة إذا قطر في العين، يقض على اضطرابات الهضم ويسكن المغص، وطارد للديدان.
4 - ويخفض مستوى الكوليسترول في الدم، ومن الإصابة بتصلب الشرايين والسكتة الدماغية.(75/374)
5- يستعمل في علاج الحصيات المرارية.
6- مقوي للشعر ويمنع من تساقطه ومن تشقق الأيدي والأرجل.
7- يحتوي على فيتامين (أ) الذي يقوي المناعة في الجسم.
وعلى فيتامين (د) الذي يقي الأطفال من مرض الكساح وفقر الدم.
8- ضد السموم وذلك إذا أخذ الإنسان فنجان زيت فإنه يكون في الجسم طبقة تحول دون امتصاص السموم.
9- طارد للديدان.
10- ويفيد نوى الزيتون في علاج الربو والسعال إذا بخر به المريض، وإذا ضمدت به الأطفال البرصة قطع برصها.
ويعتبر زيت الزيتون من أغنى الزيوت النباتية من حيث القيمة الغذائية فهو يعطي قيمة حرارية عالية حيث يعطي واحد غرام منه 224 سعر حراري وهو أسهل هضما من جميع أنواع الزيوت الأخرى.
ويفيد ورق الزيتون إذا دق في معالجة القروح والأورام، وعرق النسا، وإذا طبخ ورقه فإنه يفيد في معالجة الصداع المزمن والدوار.(75/375)
المطلب الثالث: فوائد الزيتون البيئية والغذائية.
أولا: البيئية:
شجرة الزيتون كبافي الأشجار تعمل على تنقية الهواء من الغازات الضارة، كما تعمل على تثبيت التربة من الانجراف، بالإضافة إلى منظرها الجميل، لأنها من الأشجار دائمة الخضرة لذا يحرص الكثيرون على زراعتها والاهتمام بها حتى في حدائق المنازل وعلى أرصفة الشوارع، وتنفرد شجرة الزيتون عن باقي الأشجار ببعض الميزات التي تجعلنا نضاعف الاهتمام بها ومن هذه الميزات أنه ورد ذكرها في القرآن الكريم وفي السنة الشريفة وقد تقدم ذكر ذلك.
ثانيا: الغذائية:
الزيتون أحد العناصر الرئيسة التي يعتمد عليها في الغذاء، ولا يخفى على أحد ما للزيت من القيمة الغذائية والصحية التي لا توجد في غيره من أنواع الزيوت الأخرى، فهو يحتوي على فيتامينات عديدة (أ، ب، ج) وهذه الفيتامينات ضرورية وهامة بالنسبة للإنسان.
كما ويستخدم حب الزيتون في الغذاء بعد تخليله (الرصيع) الذي لا تخلو منه البيوت.(75/376)
الخاتمة:
أولا: الزكاة حصة قدرها الشارع عز وجل تجب في مال مخصوص لشخص مخصوص.
ثانيا: الزكاة فريضة شرعية فرضها الله تعالى بالكتاب والسنة يثاب مخرجها ويعاقب تاركها.
ثانيا: الزيتون شجرة مباركة أنعم الله بها على عباده، وقد ورد ذكرها في عدة سور من القرآن وفي الهدي النبوي الشريف.
رابعا: الزيتون مما يقتات ويدخر ومن ثم فإن الزكاة تجب فيه.
خامسا: الراجح عدم اشتراط النصاب في الزيتون مراعاة للفقراء.
سادسا: الراجح هو جواز إخراج القيمة في الزكاة لأن قصد الشارع عز وجل من وجوب الزكاة سد حاجة الفقير والقيمة أنفع لأن الفقير يحتاج إلى طعام وكساء وعلاج ودواء وكل يتحقق بالقيمة بخلاف إخراج العين.
سابعا: يصعب خرص الزيتون، لأن ثماره متباعدة ومستورة بورقه.
ثامنا: الأسلم عدم خصم النفقات على الزيتون ولذا ينبغي العمل بما ثبت بالنص.
تاسعا: ثبت أن للزيتون فوائد كثيرة، اقتصادية، طبية، وبيئية.(75/377)
بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
حول القمار في مسابقات الصحف
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وبعد:
فقد ورد إلى اللجنة كثير من الأسئلة عن حكم المسابقات التي تجريها بعض الصحف وتعلنها على الناس وتجمع بها أموالا من الناس مثل أن يرسل المتسابق رسالة بالجوال بمبلغ مالي وتجري الصحيفة قرعة لاختيار أحد المرسلين لإعطائه الجائزة.
وقد درست اللجنة هذا الموضوع دراسة متأنية، ورأت أن إقامة هذه المسابقات وأخذ الجوائز عليها أمر محرم لأنها من الميسر (القمار) الذي حرمه الله في كتابه بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91(75/379)
والميسر هو: المراهنات المشتملة على المخاطرة والغرر والجهالة وأكل أموال الناس بالباطل قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «القمار هو المخاطرة الدائرة بين أن يغنم باذل المال أو يغرم أو يسلم» .
وهذه المسابقات تقوم على المخاطرة لأنها تتضمن غرما محققا وغنما محتملا كما أن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ} (1) ، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) ، والواجب على أجهزة الصحافة البعد عن وسائل الاحتيال المحرمة لجمع المال، وعلى من خالف فيما سبق أن يتوب إلى الله تعالى وأن يترك هذه الأعمال المحرمة ويكون طلب الرزق بالوجوه المشروعة، وفي الحلال غنية عن الحرام.
وسبق أن أصدر مجلس هيئة كبار العلماء قراره المؤرخ في 26\ 2\ 1410 هـ برقم 162 المتضمن تحريم المسابقات التجارية التي يروج لها بواسطة بعض وسائل الإعلام أو بواسطة بعض المؤسسات
__________
(1) سورة البقرة الآية 188
(2) سورة النساء الآية 29(75/380)
التجارية لطلب الحصول على الأموال الكثيرة اعتمادا على التغرير والخداع لعامة الناس لما تشتمل عليه هذه المسابقات من أكل أموال الناس بالباطل لأن كل مشترك يدفع مبلغا من المال مخاطرة وهو لا يدري هل يحصل على مقابل أو لا؟ وهذا هو القمار. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
عضو ... عضو
صالح بن فوزان الفوزان ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان
سعد بن ناصر الشثري ... عبد الله بن محمد بن خنين(75/381)
حديث شريف
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما (1) » .
(رواه الإمام البخاري)
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6862) ، مسند أحمد (2/94) .(75/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1)
(سورة المجادلة، الآية 11)
__________
(1) سورة المجادلة الآية 11(76/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(76/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا
مجلة البحوث(76/3)
المحتويات
الافتتاحية
وصايا للطلبة والطالبات لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 7
الفتاوى
* من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 21
* من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 41
* من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ 61
* من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 71(76/4)
البحوث
* توحيد الألوهية لفضيلة الدكتور عواد بن عبد الله المعتق 91
وسطية أهل السنة والجماعة في باب القدر لفضيلة الدكتور عبد الله بن سليمان الغفيلي 167
* الأحاديث الواردة هما لزوم الجماعة (في دراسة حديثية فقهية) لفضيلة الدكتور حافظ بن محمد الحكمي 223
* الأشياء، المختلف في ماليتها عند الفقهاء لفضيلة الدكتور صالح بن عبد الله اللحيدان 305
* بيان من سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء حول التطاول على االرسول صله الله عليه وسلم 375(76/5)
صفحة فارغة PgPg 6
صفحة فارغة(76/5)
وصايا للطلبة والطالبات
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
من عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ إلى الإخوة والأبناء من الطلاب والطالبات. . .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإن الله تعالى يقول: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) ، ويقول سبحانه: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} (2) ، ويقول عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (3) ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة (4) » .
إخوتي وأبنائي يقول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} (5) ،
__________
(1) سورة الذاريات الآية 55
(2) سورة الأعلى الآية 9
(3) سورة المائدة الآية 2
(4) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4198) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(5) سورة الفرقان الآية 62(76/7)
فتعاقب الليل والنهار ومرور الأيام والشهور والأعوام فيه عبرة عظيمة للمعتبرين، وتذكرة لمن أراد أن يتذكر فيستعتب من ذنوبه ويستأنف عملا صالحا، وفيه فسحة لمن أراد أن يستغلهما في شكر الله بدوام طاعته والخضوع له.
إخوتي وأبنائي. . . ها نحن الآن في استقبال عام دراسي جديد قد طوينا قبله أعواما، فحري بنا أن نقف أولا وقفة تذكر وتفكر واعتبار بمضي الأيام والأعوام، ثم هذا التذكر والتفكر في الحال والمال لا بد أن يورث فينا توبة صادقة مما سلف منا من ذنوب وآثام؛ لأن الله تعالى يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ، ومع التوبة يكون منا الاستعداد والاجتهاد في عبادة الله عز وجل، والتقرب إليه بأنواع القربات والطاعات التي تكون لنا زلفى عند ربنا عز وجل.
وأجل أنواع الطاعات وأعظم القربات أداء الفرائض من توحيد الله عز وجل، وإخلاص الدين له سبحانه، والمحافظة على الصلوات الخمس جماعة في المساجد، وأداء الزكاة على من وجبت عليه متى حل وقتها وإيصالها لمستحقها، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا، وكذلك أيضا بر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف،
__________
(1) سورة النور الآية 31(76/8)
والنهي عن المنكر.
وبعد الفرائض تأتي النوافل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه عز وجل: «يقول الله تعالى: " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها (1) » ،. . . " الحديث.
ومن أعظم ما يتقرب به العبد إلى ربه طلب العلم، وذلك أنه وسيلة الوصول إلى معرفة الله عز وجل، ومعرفة حقه سبحانه وعبادته حق العبادة، وأداء حقه على عباده.
والعلم كما ذكر ابن الجوزي وغيره من الأئمة منه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية، ومنه المباح، ومنه المذموم، فالعلم المفروض منه ما هو فرض عين، وهو ما يتعين وجوبه على الشخص من توحيد الله، ومعرفة أوامره، وحدوده في العبادات والمعاملات التي يحتاج إليها.
ومن العلوم ما هو فرض كفاية، وهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام الدنيا كالطب والحساب، وأصول الصناعات كالفلاحة والحياكة والحجامة، ويدخل في ذلك أيضا العلوم الحديثة التقنية والمهنية ونحوها مما يكون به تقدم المسلمين واكتفاؤهم بأنفسهم،
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6502) .(76/9)
فلو خلا البلد عمن يقوم بهذه العلوم والصناعات أثم أهل البلد جميعا، وإذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين.
ومن العلوم ما يكون مباحا كالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها، ومنها ما يكون مذموما كعلم السحر والطلسمات.
والمقصود أن طلب العلم في الأصل فريضة حتى يكون المسلم عابدا لربه على بصيرة، وقد جاءت آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم حاثة على طلب، العلم مثنية على أهله، مشيدة به وبأدواته، يقول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (2) {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (3) {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (4) {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (5) ، ويقول سبحانه: {الرَّحْمَنُ} (6) {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (7) {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} (8) {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (9) ، ويقول عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (10) ، ويقول سبحانه: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (11) ، وقال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (12) ، وقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (13) .
__________
(1) سورة العلق الآية 1
(2) سورة العلق الآية 2
(3) سورة العلق الآية 3
(4) سورة العلق الآية 4
(5) سورة العلق الآية 5
(6) سورة الرحمن الآية 1
(7) سورة الرحمن الآية 2
(8) سورة الرحمن الآية 3
(9) سورة الرحمن الآية 4
(10) سورة طه الآية 114
(11) سورة الزمر الآية 9
(12) سورة فاطر الآية 28
(13) سورة المجادلة الآية 11(76/10)
والرسل عليهم الصلاة والسلام هم قدوة العلماء والمربين، فرسالتهم رسالة تطهير وتزكية وتعليم، يقول عز وجل: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1) .
والنبي صلى الله عليه وسلم حث على طلب العلم فقال: «من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر (2) » .
«وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم له كتاب يهود، قال: " إني والله ما آمن يهود على كتاب "، قال: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له، قال: فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا
__________
(1) سورة آل عمران الآية 164
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبي داود الأدب (4946) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد (2/514) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(76/11)
إليه قرأت له كتابهم "، وقال صلى الله عليه وسلم: " سلوا الله علما نافعا، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع (1) » .
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (اغد عالما أو متعلما، ولا تغد بين ذلك) ، ويقول أيضا رضي الله عنه: (إن أحدا لا يولد عالما، وإنما العلم بالتعلم) .
ويقول علي رضي الله عنه لرجل من أصحابه: (يا كميل العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والعلم حاكم، والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق) .
ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه: (العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه) .
ويقول عبد الله بن الشخير: (فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع) .
ويقول الشافعي رحمه الله: (طلب العلم أفضل من صلاة النافلة) .
وقال أبو بكر البصري: دخلت على سهل بن عبد الله ومعي المحبرة فقال لي: تكتب؟ قلت: نعم، قال: " اكتب، فإن استطعت أن تلقى الله عز وجل ومعك المحبرة فافعل ".
والإمام أبو بكر بن السني رحمه الله حين حضرته الوفاة كانت المحبرة بين يديه فتركها ورفع يديه ودعا ثم مات.
__________
(1) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2715) ، سنن أبي داود العلم (3645) .(76/12)
والآيات والأحاديث وكلام السلف في هذا المعنى أكثر من أن أحصيه، وإنما قصدت الإشارة إلى طرف من فضل العلم والحث عليه مما يبين أن ديننا دين العلم، يقول تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) ، وقد أشار الله سبحانه بأدوات التعلم من القلم وما يكتب عليه، فأقسم الله سبحانه بها لتعظيم شأنها، يقول عز وجل: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (2) .
والذي ينبغي التنبيه له أن النصوص التي في فضل العلم إنما يقصد بها العلم الشرعي في المقام الأول، وقد يلحق به في بعض النصوص العلوم التي بها قوام دنيا الناس؛ لأن صلاح دنيا المسلمين واستقامة معاشهم عز لهم وذل لأعدائهم، وهذا من مقاصد الشارع الحكيم، فكان لزاما على أهل الإسلام أن يعتنوا بالعلم الشرعي ويؤصلوه في مناهجهم الدراسية، ويعلموه لأبنائهم ويربوهم عليه؛ لأنه هو العلم النافع، وأن يكون العلم الشرعي هو ركيزة سائر العلوم والحاكم عليها، وليعلم المسلمون أنه لا تعارض بين العلوم المادية النظرية التي فيها مصالح العباد في دنياهم وبين العلوم الشرعية؛ إذ إن الشرع جاء باعتبار ما يكون فيه صلاح دنيا الناس وحثهم على
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة القلم الآية 1(76/13)
السعي في ذلك، يقول سبحانه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (1) ، ويقول سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (2) ، ويقول سبحانه: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (3) .
وغير ذلك من النصوص، وهذا لا يتحقق إلا بتعلم الوسائل الموصلة إليه، فكان العلم بأمور الدنيا علما معتبرا، والله تعالى قد حث المؤمنين على التوازن بين طلب الآخرة والسعي في هذه الدنيا بما يكون معه عزهم ورفعتهم، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (4) .
فالواجب أن يكون التعليم في بلاد المسلمين موجها لأهداف عظمى أهمها:
- توثيق الصلة بين العبد وربه من خلال تعليمه التوحيد، وما يجب عليه من حق الله تعالى، وتعليمه كيف يعبد ربه.
__________
(1) سورة القصص الآية 77
(2) سورة الجمعة الآية 10
(3) سورة الملك الآية 15
(4) سورة البقرة الآية 201(76/14)
- التركيز على ما به نهوض الأمة الإسلامية في شتى المجالات، وليكن الانطلاق والارتكاز على العلم الشرعي الذي يرشد لباقي العلوم، ويحقق الفائدة المرجوة منها.
- بعث التفاؤل في نفوس الأبناء وأن دين الله باق ومنصور مهما كاد له الأعداء، فما كيدهم إلا في تباب وخسار، وما مكرهم إلا عائد عليهم، والأمر كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) .
ثم الوصية لإخواني وأبنائي الطلاب والطالبات بإخلاص النية لله عز وجل في طلب العلم، واستحضار أن هذا العمل عبادة لله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» .
وكذلك أيضا عليكم بالجد في الطلب، فإن العلم ثقيل، يقول الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (3) ، ويقول سبحانه: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} (4) ،
__________
(1) سورة التوبة الآية 32
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة المزمل الآية 5
(4) سورة مريم الآية 12(76/15)
ويقول صلى الله عليه وسلم: «منهومان لا يشبعان: منهوم في علم لا يشبع، ومنهوم في دنيا لا يشبع (1) » .
وأيضا ينبغي للطالب أن يحذر من أن يكون همه من التعلم طلب الدنيا والظهور والبروز والحصول على المناصب، خاصة في العلوم التي يبتغى بها وجه الله تعالى، يقول صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة (2) » .
وينبغي للطالب والطالبة أن يبتعدوا عن الذنوب، فإنها سبب لعذاب الله، وهي من أسباب نسيان العلم، يقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها) .
وينبغي للطالب والطالبة التواضع في حال التحصيل وعدم التكبر عن العلم أو على المعلمين، وكذلك أيضا الجرأة بأدب وعدم الحياء، يقول مجاهد بن جبر رحمه الله: " لا ينال العلم مستحي ولا مستكبر ".
وينبغي للطالب والطالبة أيضا عدم المماراة والمجادلة والمباهاة بالعلم والدخول في الصراعات الفكرية التي لا طائل تحتها، بل تفرق ولا تجمع، وتضر ولا تنفع، يقول الله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} (3) ،
__________
(1) سنن الدارمي المقدمة (334) .
(2) سنن أبي داود العلم (3664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (252) ، مسند أحمد (2/338) .
(3) سورة الأنفال الآية 46(76/16)
ويقول عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار (2) » .
وينبغي للطالب والطالبة أن يجلوا معلميهم ومعلماتهم، ولا يرفعوا عليهم أصواتهم، بل يحترمونهم ويقدرونهم؛ لأنهم هم السبب الذي يوصل إليهم الخير، ويقربهم إلى الله تعالى إن أحسنوا النية واحتسبوا الأجر، كما أوصي أخواتي وبناتي الطالبات بالتصون والتستر وعدم التعطر حال الخروج إلى المدرسة أو منها؛ لأن هذا محرم ومنكر.
أسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يصلح أحوال المسلمين، ويجنبنا الشرور والآفات، وأن يبارك في أبنائنا وبناتنا ويصلحهم ويوفقهم لكل خير، إنه سبحانه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سنن ابن ماجه المقدمة (254) .(76/17)
صفحة فارغة PgPg 18
صفحة فارغة(76/17)
الفتاوى
من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(76/19)
صفحة فارغة PgPg 20
صفحة فارغة(76/19)
من فتاوى سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
مفتي الديار السعودية - رحمه الله -
ملحق في إنكار الاحتفال بالمولد النبوي
والرد على الشنقيطي
بعدما نشر ردنا على الشنقيطي كتب مرة أخرى في الموضوع رددنا عليها بالسرد التالي:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه وسلم، وبعد:
فقد نشرت جريدة " الندوة " في العدد الصادر يوم السبت 16\ 4\ 1382هـ للشنقيطي محمد مصطفى العلوي في تبرير الاحتفال بالمولد النبوي مقالا آخر تحت عنوان: " هذا ما يقوله ابن تيمية في الاحتفال المشروع بذكرى المولد النبوي ".
مضمون ذلك المقال أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى الاحتفال بالمولد النبوي، واعتمد الشنقيطي في تلك الدعوى على ثلاثة أمور:(76/21)
1 - قول شيخ الإسلام في " اقتضاء الصراط المستقيم " في بحث المولد: فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قدمت أنه يستحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد.
يقول الشنقيطي: فكلام شيخ الإسلام - يقصد هذه العبارة - صريح في جواز عمل مولد النبي صلى الله عليه وسلم الخالي من منكرات تخالطه.
2 - قول شيخ الإسلام في " الاقتضاء " أيضا: فإذا رأيت من يعمل هذا - أي: المنكر - ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدع إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه.
يقول الشنقيطي: من الجدير بالذكر ما أشار إليه شيخ الإسلام أن مرتكب البدعة لا ينهى عنها إذا كان نهيه يحمله إلى ما هو شر منها، ومن المعلوم عند العموم أن أكثر أهل هذا الزمان يضيعون الليالي وخصوصا ليلة الجمعة في سماع أغاني أم كلثوم وغيرها من حفلات صوت العرب الخليعة مما يذيعه الراديو والتلفزيون، فلا يخفى على مسلم عاقل أن سماع ذكر صفة وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير(76/22)
من سماع الأغاني الخليعة والتمثيليات الماجنة.
3 - دعوى أن شيخ الإسلام ابن تيمية لا ينكر الابتداع في تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر الشنقيطي أن أكبر شاهد على ذلك تأليفه " كتاب الصارم المسلول ".
هذا ما ذكره الشنقيطي مما برر به هذه الدعوى الباطلة.
والحق أنه إنما أتي من سوء فهم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وسيرته، وفي نوع ما وقع فيه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب " الاستغاثة ": الوهم إذا كان لسوء فهم المستمع لا لتفريط المتكلم لم يكن على المتكلم بذلك بأس، ولا يشترط في العلماء إذا تكلموا في العلم أن لا يتوهم من ألفاظهم خلاف مرادهم، بل ما زال الناس يتوهمون من أقوال الناس خلاف مرادهم، وهذا هو عين ما وقع للشنقيطي في عبارات شيخ الإسلام ابن تيمية، وإلى القراء بيان ذلك فيما يلي:
أما قول شيخ الإسلام: فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فليس فيه إلا الإثابة على حسن القصد، وهي لا تستلزم مشروعية العمل الناشئة عنه، ولذلك ذكر شيخ الإسلام أن هذا العمل - أي: الاحتفال بالمولد - يستقبح من المؤمن(76/23)
المسدد، ولكن الشنقيطي أخذ أول العبارة دون تأمل في آخرها.
وفي أول بحث المولد في " اقتضاء الصراط المستقيم " فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الذين يتخذون المولد عيدا محبة للنبي صلى الله عليه وسلم ص 294، 295:
والله تعالى قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا مع اختلاف الناس في مولده؛ فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا؛ فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
فهذا تصريح من شيخ الإسلام بأن إثابة من يتخذ المولد عيدا محبة للنبي صلى الله عليه وسلم من ناحية حسن قصده لا تقتضي مشروعية اتخاذ المولد عيدا ولا كونه خيرا؛ إذ لو كان خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا؛ لأنهم أشد محبة وتعظيما لرسول الله منا.
ثم بعد ذلك صرح شيخ الإسلام بذم الذين يتخذون المولد عيدا فقال في ص(76/24)
295، 296: أكثر هؤلاء الذين تجدونهم حرصاء على أمثال هذه البدع، مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة، تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحمل المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتبعه، وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلا، وبمنزلة من يتخذ المسابح والسجادات المزخرفة وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء الكثير والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها.
وقال شيخ الإسلام في " الاقتضاء " ص 371: من كانت له نية صالحة أثيب على نيته، وإن كان الفعل الذي فعله ليس بمشروع، إذا لم يتعمد مخالفة الشرع، وصرح في ص 290 بأن إثابة الواقع في المواسم المبتدعة متأولا ومجتهدا على حسن قصده لا تمنع النهي عن تلك البدع، والأمر بالاعتياض عنها بالمشروع الذي لا بدعة فيه، وذكر أن ما تشتمل عليه تلك البدع من المشروع لا يعتبر مبررا لها.(76/25)
كما صرح في كلامه على مراتب الأعمال بأن العمل الذي يرجع صلاحه لمجرد حسن القصد ليس طريقة السلف الصالح، وإنما ابتلي به كثير من المتأخرين، وأما السلف الصالح فاعتناؤهم بالعمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه بوجه من الوجوه، وهو العمل الذي تشهد له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وهذا هو الذي يجب تعلمه وتعليمه والأمر به على حسب مقتضى الشريعة من إيجاب واستحباب.
أضف إلى هذا أن نفس قول شيخ الإسلام: فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس، ويكون له أجر عظيم لحسن قصده إلخ، إنما ذكره بصدد الكلام على عدم محاولة إنكار المنكر الذي يترتب على محاولة إنكاره الوقوع فيما هو أنكر منه، يعني: أن حسن نية هذا الشخص ولو كان عمله غير مشروع خير من إعراضه عن الدين بالكلية.
ومن الأدلة على عدم قصده تبرير الاحتفال بالمولد تصريحاته(76/26)
في كتبه الأخر بمنعه، يقول في " الفتاوى الكبرى ": أما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف الصالح ولم يفعلوها.
وقال في بعض فتاواه: فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك واتخاذه عبادة، فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها، ولا يستحب ذلك إلا جاهل أو زنديق.
وأما قول شيخ الإسلام: فإذا رأيت من يعمل هذا - أي: المنكر - ولا يتركه إلا إلى شر منه فلا تدع إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه.
فمن غرائب الشنقيطي الاستدلال به على مشروعية الاحتفال بالمولد ما دام شيخ الإسلام يسمي ذلك منكرا، وإنما اعتبر ما يترتب على محاولة إزالته من خشية الوقوع في أنكر منه عذرا عن تلك المحاولة، من باب اعتبار مقادير المصالح والمفاسد.
وقد بسط شيخ الإسلام الكلام على هذا النوع في رسالته في " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "، ومن ضمن بحثه في ذلك قوله: ومن هذا الباب(76/27)
ترك النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، ولهذا لما خطب الناس في قضية الإفك بما خطبهم به واستعذر منه، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه، حمي له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه وصدقه، وتعصب لكل منهما قبيلته حتى كادت تكون فتنة.
ومن هذا يعلم أن لا ملازمة بين ترك النهي عن الشيء لمانع وبين إباحة ذلك الشيء كما تخيله الشنقيطي، وقد فاته أن هذه العبارة التي نقلها عن شيخ الإسلام في عدم النهي عن المنكر إذا ترتب عليه الوقوع في أنكر منه، لا تصلح جوابا لمن سأل عن الاحتفال بالمولد هل هو بدعة أم لا؟ في بلد لا يقام فيه ذلك الاحتفال، وإنما تعتبر جوابا لمن سأل عن حكم الإنكار على من اتخذ المولد عيدا إذا ترتب على الإنكار الوقوع في أنكر منه.
كما فاته أن ما ذكره من جهة أغاني أم كلثوم وما عطفه عليها لا يعتبر مبررا للابتداع، فإن الباطل إنما يزال بالحق لا بالباطل، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (1) ،
__________
(1) سورة الإسراء الآية 81(76/28)
وليس النهى عن الاحتفال بالمولد من ناحية قراءة السيرة، بل من ناحية اعتقاد ما ليس مشروعا مشروعا، والتقرب إلى الله تعالى بما لم يقم دليل على التقرب به إليه، ومن أكبر دليل على عدم اعتبار ما ذكره الشنقيطي أن المواضع التي تقام فيها الاحتفالات بالموالد ما حالت بينها وبين الاستماع لأغاني أم كلثوم وما عطف عليها، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم أرفع من أن لا تقرأ في السنة إلا في أيام الموالد.
وأما دعوى الشنقيطي فتح شيخ الإسلام ابن تيمية باب الابتداع فيما يتعلق بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، فكتابات شيخ الإسلام ابن تيمية تدل أوضح دلالة على بطلانها، فقد قرر فيها أن كيفية التعظيم لا بد من التقيد فيها بالشرع، وأنه ليس كل تعظيم مشروعا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فإن السجود تعظيم ومع ذلك لا يجوز لغير الله، وكذلك جميع التعظيمات التي هي من خصائص الألوهية لا يجوز تعظيم الرسول بها، كما قرر في غير موضع من كتبه أن الأعمال المضادة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن قصد فاعلها التعظيم فهي غير مشروعة لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1) ، ويستدل كثيرا بما
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31(76/29)
جاء في النصوص من النهي عن الإطراء، وكلامه في ذلك كثير لا يحتاج إلى الإطالة بذكره ما دامت المراجع بحمد الله موجودة، هذا على سبيل العموم.
أما ما يخص مسألة اتخاذ المولد النبوي عيدا بدعوى التعظيم فقد تقدم قول شيخ الإسلام ابن تيمية فيه: إنه لم يفعله السلف مع قيام المقتضى، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا؛ فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
وتمثيل الشنقيطي " بالصارم المسلول " لدعواه فتح شيخ الإسلام ابن تيمية لباب الابتداع في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم إنما نشأ من عدم تدبر كلام شيخ الإسلام في مقدمته، فإنه قد بين فيها أن مضمون الكتاب " الصارم المسلول " بيان الحكم الشرعي الموجب لعقوبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر بيانا مقرونا بالأدلة، ومن نظر إلى الأدلة التي سردها(76/30)
شيخ الإسلام في هذا الكتاب من نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة تبين له أنه دفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحماية لجنابه من التعرض له بما لا يليق به، وهذا لا صلة له بالابتداع، هذا وليت الشنقيطي فكر في تعذر الجمع بين الأمور التي استدل بها على تبرير الاحتفال بالمولد، فإن كون الشيء الواحد مشروعا منكرا بدعة في آن واحد لا يتصور، لكن من تكلم فيما لا يحسنه أتى بالعجائب، هذا ما لزم بيانه وبالله التوفيق. (انتهى ملحق الرسالة الثانية) .(76/31)
الاحتفال بذكرى نزول القرآن بدعة
من محمد بن إبراهيم إلى سعادة وكيل وزارة الداخلية المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فبالإشارة إلى خطابكم رقم 34 - 1 - 41143 - 3 وتاريخ 3\ 4\ 1396 هـ، المرفق به صورة مذكرة السفارة الباكستانية بجدة رقم ح و - 66 - س وتاريخ 14 يوليو 1966 المتضمنة أن حكومة الباكستان تنوي الاحتفال بذكرى الـ 1400 لنزول القرآن الكريم وبما أن المؤسسات الدينية في الباكستان تختلف آراؤها في تحديد تاريخ نزول القرآن الكريم بالضبط، فطلبت حكومة الباكستان من سفارتها أن تتصل بحكومة المملكة العربية السعودية للحصول على(76/31)
التاريخ الصحيح الذي أنزل الله فيه القرآن. إلخ.
وعليه ونظرا لأن ما جاء بمذكرة السفارة الباكستانية تطرق إلى بحثين مهمين:
البحث الأول: عن وقت نزول القرآن الكريم.
البحث الثاني: عن جواز اتخاذ مثل هذا عيدا.
فلهذا نلفت النظر إلى ما يلي:
أولا: أما تاريخ نزول القرآن فإنه معروف لدى العلماء في كتب التفسير والحديث والتاريخ، بل ذكره الله في كتابه بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (1) ، ولا شك أن بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه من أكبر النعم التي أنعم الله بها على هذه الأمة، بل هي أكبرها على الإطلاق، فلهذا يجب أن تقابل بالشكر، والشكر إنما هو باتباع شريعته والاقتداء بهديه وهدي الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم.
أما البحث الثاني: هو جواز اتخاذ يوم نزول القرآن عيدا يتكرر بتكرر الأعوام، فهذا وإن كان قصد صاحبه حسنا إلا أنه لما لم يكن مشروعا، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من خلفائه الراشدين وسائر صحابته والتابعين لهم بإحسان،
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(76/32)
ولا عن أحد من الأئمة الأربعة: مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل، ولا عن غيرهم من الأئمة المقتدى بهم سلفا وخلفا، فلما لم يكن مشروعا ولا ورد عن أحد ممن ذكر تعين التنبيه على أن مثل هذا لا يجوز شرعا؛ لأنه لا أصل له في الدين، ولم يكن من عمل المسلمين، ونحن نجزم أن حكومة الباكستان أيدها الله بنصره وأعز بها شريعته ورزقها التمسك بسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لم ترد من هذا إلا خيرا، ونجزم أنها إذا تبين لها أن مثل هذا لا يجوز ستعدل عنه إلى غيره من الأمور المشروعة، والله الموفق، والسلام.
مفتي البلاد السعودية
(ص - ف 1313 - 1 في 6\ 5 \ 1386هـ)(76/33)
والاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج غير مشروع
من محمد بن إبراهيم إلى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
بالإشارة إلى خطابكم لنا رقم 9\3\ 2\ 2939 وتاريخ 11\ 8 \1388 هـ، ومشفوعه البطاقة المرفوعة إليكم من الاتحاد الإسلامي(76/33)
في الغرب، وهذا نصها: دعوة جميع المسلمين في روما إلى مقر الاتحاد الإسلامي في الغرب في الساعة السابعة والربع من مساء السبت تاريخ 19\ 10\ 1968م بمناسبة " ذكرى المعراج المعظم " في ليلة 27 رجب للعام الثاني عشر من الرسالة إذ حضر محمد صلى الله عليه وسلم الوحي الأمين جبريل عليه السلام، وعرج بالمصطفى عينا وروحا إلى المسجد الأقصى القدس الجريحة، فصلى سيد الأنبياء، ثم عرج به السماء ليريه من آيات ربه.
إن الاتحاد الإسلامي في الغرب يدعو كل مسلم بعد إقامة صلاة المعراج: 12 ركعة كل في بيته، التفضل إلى مقر الاتحاد للإسهام بالدعاء الخاص بهذه المناسبة (سبحان الله. أستغفر الله. اللهم صل بإمامية الشيخ باكير إمام الاتحاد الإسلامي في الغرب، سيختم الاحتفال بتلاوة قصيرة من آيات الله البينات) انتهى.
وتطلبون منا الجواب عن ذلك.
والجواب: هذا ليس بمشروع لدلالة الكتاب والسنة والاستصحاب والعقل، أما الكتاب فقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) ، وقال تعالى:
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(76/34)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) ، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرجوع إليه في حياته وإلى سنته بعد موته، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) .
وأما السنة: فالأول: ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (4) » ، وفي رواية لمسلم: " من «عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (5) » .
الثاني: روى الترمذي وصححه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والمحدثات، فإن كل محدثة ضلالة (6) » .
الثالث: روى الإمام أحمد والبزار عن غضيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة (7) » رواه الطبراني إلا أنه قال: «ما من أمة ابتدعت بعد نبيها
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) سورة النور الآية 63
(4) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(5) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبي داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد (6/270) .
(6) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن أبي داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(7) مسند أحمد (4/105) .(76/35)
بدعة إلا أضاعت مثلها من السنة» .
الرابع: روى ابن ماجه وابن أبي عاصم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته» ، ورواه الطبراني إلا أنه قال: «إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته» .
وأما الاستصحاب فهو هنا استصحاب العدم الأصلي، وتقرير ذلك أن العبادات توقيفية، فلا يقال: هذه العبادة مشروعة إلا بدليل من الكتاب والسنة والإجماع، ولا يقال: إن هذا جائز من باب المصلحة المرسلة أو الاستحسان أو القياس أو الاجتهاد؛ لأن باب العقائد والعبادات والمقدرات كالمواريث والحدود لا مجال لتلك فيها.
وأما المعقول فتقريره أن يقال: لو كان هذا مشروعا لكان أولى الناس بفعله محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا إذا كان التعظيم من أجل الإسراء والمعراج، وإن كان من أجل الرسول صلى الله عليه وسلم وإحياء ذكره كما يفعل في مولده صلى الله عليه وسلم فأولى الناس به أبو بكر رضي الله عنه، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم، ثم من بعدهم من الصحابة على قدر منازلهم عند الله، ثم التابعون ومن بعدهم من أئمة الدين، ولم يعرف عن أحد منهم شيء من ذلك، فيسعنا ما وسعهم.(76/36)
ونسوق لك بعض كلام العلماء في ذلك، فمن ذلك ما قاله ابن النحاس في كتابه " تنبيه الغافلين ": ومنها - أي: البدع المحرمة - ما أحدثوه ليلة السابع والعشرين من رجب، وهي " ليلة المعراج " الذي شرف الله به هذه الأمة، فابتدعوا في هذه الليلة، وفي ليلة النصف من شعبان، وهي الليلة الشريفة العظيمة، كثرة وقود القناديل في المسجد الأقصى وفي غيره من الجوامع والمساجد، واجتماع النساء مع الرجال والصغار اجتماعا يؤدي إلى الفساد وتنجيس المسجد، وكثرة اللعب فيه واللغط، ودخول النساء إلى الجوامع متزينات متعطرات، ويبتن في المسجد بأولادهن، فربما سبق الصغير الحدث، ربما اضطرت المرأة والصبي إلى قضاء الحاجة، فإن خرجا من المسجد لم يجدا إلا طريق المسلمين في أبواب المساجد، وإن لم يخرجا حرصا على مكانهما أو حياء من الناس ربما فعلا ذلك في إناء أو ثوب أو في زاوية من زوايا المسجد.
وكل ذلك حرام، مع أن الداخل في الغلس لصلاة الصبح قل أن يسلم من تلويث ذيله أو نعله بما فعلوه في باب المسجد، ويدخل بنعله وما فيه من النجاسة إلى المسجد، فينجسه وهو لا يشعر، إلى غير ذلك من المفاسد المشاهدة المعلومة، وكل ذلك بدعة عظيمة في الدين، ومحدثات أحدثها إخوان الشياطين، مع ما في ذلك من الإسراف في الوقيد والتبذير وإضاعة المال.
وقال أيضا: واعتقاد أن ذلك قربة من أعظم البدع وأقبح(76/37)
السيئات، بل لو كان في نفسه قربة وأدى إلى هذه المفاسد لكان إثما عظيما، فينبغي للعاجز عن إنكار هذه المنكرات أن لا يحضر الجامع، وأن يصلي في بيته تلك الليلة إن لم يجد مسجدا سالما من هذه البدع؛ لأن الصلاة في الجامع مندوب إليها، وتكثير سواد أهل البدع منهي عنه، وترك المنهي عنه واجب، وفعل الواجب متعين، هذا إن لم يكن مشهورا بين الناس.
فإن كان مشهورا بينهم بعلم أو زهد وجب عليه أن لا يحضر الجامع ولا يشاهد هذه المنكرات؛ لأن في حضوره مع عدم الإنكار إيهاما للعامة بأن هذه الأفعال مباحة أو مندوب إليها، وإذا فقد من المسجد وتأخر عن عادته في الصلاة جماعة، وأنكر ذلك بقلبه لعجزه، ربما يسلم من الإثم، ولا يغتر به غيره، ويستشعر الناس من عدم حضوره أن هذه الأفعال غير مرضية؛ لأن حضور من يقتدى به في هذه الليلة هو الشبهة العظمى، فظن الجهال والعوام أن ذلك مستحسن شرعا، ولو اتفق العلماء والصلحاء على إنكار ذلك لزال، بل لو عجزوا عن الإنكار وتركوا الصلاة في الجامع المذكور لظهر للناس أن ذلك بدعة لا يسوغها الشرع، ولا يرضاها أهل الدين، وربما امتنع الناس عن ذلك أو بعضهم، فحصل لهم الثواب بفعل ما يقدرون عليه من الإنكار بالقلب، والامتناع عن الحضور إن كانوا عاجزين عن التبيين، وإن كانوا قادرين فيسقط عنهم بعض الإثم ويخفف عنهم الوزر.(76/38)
وقال الشيخ علي محفوظ في كتابه " الإبداع في مضار الابتداع " تحت عنوان: " المواسم التي نسبوها إلى الشرع وليست منه ": ومنها " ليلة المعراج " التي شرف الله تعالى هذه الأمة بما شرع لهم فيها، وقد تفنن أهل هذا الزمان بما يأتونه في هذه الليلة من المنكرات، وأحدثوا فيها من أنواع البدع ضروبا كثيرة كالاجتماع في المساجد، وإيقاد الشموع والمصابيح فيها وعلى المنارات، مع الإسراف في ذلك، واجتماعهم للذكر والقراءة وتلاوة قصة المعراج، وكان ذلك حسنا لو كان ذكرا وقراءة وتعلم علم، لكنهم لا يخرجون عن الثابت قيد شعرة، ويعتقدون الخروج عنه ضلالة لا سيما عصر الصحابة ومن بعدهم من أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير. انتهى.
وإن أردتم المزيد من الكلام على الموضوع فعليكم مراجعة " الاعتصام " للشاطبي، و " البدع والحوادث " للطرطوشي، و " البدع والنهي عنها " لابن وضاح القرطبي، هذا ونسأل الله لنا ولكم ولجميع المسلمين التوفيق والهداية إلى دين الإسلام والثبات عليه، والسلام عليكم.
مفتي الديار السعودية
(ص - ف - 1125 في 2\ 6\ 1389 هـ)(76/39)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقا رحمه الله (1)
حكم قراءة الفاتحة على قبور الأولياء
س: ما حكم من يزور القبور ثم يقرأ الفاتحة وخاصة على قبور الأولياء كما يسمونهم في بعض البلاد العربية المجاورة، بالرغم أن بعضهم يقول: لا أريد الشرك، ولكن إذا لم أقم بزيارة هذا الولي فإنه يأتي إلي في المنام ويقول لي: لماذا لم تزرني؟ فما حكم ذلك؟ جزاكم الله خيرا (2) .
ج: يسن للرجال من المسلمين زيارة القبور كما شرعه الله سبحانه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (3) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه، وروى
__________
(1) هذه الفتاوى سبق نشرها في ج 13 من مجموع الفتاوى لسماحته.
(2) سبق نشره في (الجزء الخامس) ص 345 من مجموع فتاوى سماحته.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه في (الجنائز) باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه في زيارة قبر أمه برقم (976) .(76/41)
مسلم في صحيحه أيضا عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية (1) » .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه كان إذا زار القبور يقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد (2) » ، ولم يكن حال الزيارة عليه الصلاة والسلام يقرأ سورة الفاتحة ولا غيرها من القرآن، فقراءتها وقت الزيارة بدعة، وهكذا قراءة غيرها من القرآن لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » متفق على صحته، وفي رواية مسلم رحمه الله يقول صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (4) » ، وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه
__________
(1) أخرجه مسلم في (الجنائز) باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم (975) .
(2) رواه مسلم في (الجنائز) باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم (974) .
(3) رواه البخاري في (الصلح) باب إذا اصطلحوا على صلح جور برقم (2697) ، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة برقم (1718) .
(4) رواه مسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة برقم (1718) .(76/42)
وسلم أنه كان يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (1) » ، وأخرجه النسائي وزاد: «وكل ضلالة في النار (2) » .
فالواجب على المسلمين التقيد بالشرع المطهر والحذر من البدع في زيارة القبور وغيرها، والزيارة مشروعة لقبور المسلمين جميعا، سواء سموا أولياء أم لم يسموا أولياء، وكل مؤمن وكل مؤمنة من أولياء الله كما قال عز وجل: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (4) ، وقال الله سبحانه: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (5) .
ولا يجوز للزائر ولا لغيره دعاء الأموات، أو الاستغاثة بهم، أو النذر لهم، أو الذبح لهم عند قبورهم، أو في أي مكان يتقرب بذلك إليهم ليشفعوا له، أو يشفوا مريضه، أو ينصروه على عدوه، أو لغير ذلك من الحاجات؛ لأن هذه الأمور من العبادة، والعبادة كلها لله وحده كما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (6) ، وقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (7) ،
__________
(1) رواه مسلم في (الجمعة) برقم (867) .
(2) سنن النسائي صلاة العيدين (1578) .
(3) سورة يونس الآية 62
(4) سورة يونس الآية 63
(5) سورة الأنفال الآية 34
(6) سورة البينة الآية 5
(7) سورة الذاريات الآية 56(76/43)
وقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) ، وقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) ، والمعنى: أمر ووصى، وقال عز وجل: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (3) ، وقال عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (5) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (6) » متفق على صحته من حديث معاذ رضي الله عنه، وهذا يشمل جميع العبادات من صلاة وصوم وركوع وسجود وحج ودعاء وذبح ونذر وغير ذلك من أنواع العبادة، كما أن الآيات السابقات تشمل ذلك كله، وفي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله من ذبح لغير الله (7) » ، وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة غافر الآية 14
(4) سورة الأنعام الآية 162
(5) سورة الأنعام الآية 163
(6) رواه الإمام أحمد في (مسند الأنصار) برقم (21553) ، والبخاري في (الجهاد والسير) برقم (2856) ، ومسلم في (الإيمان) برقم (30) .
(7) رواه الإمام أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) برقم (857) ، ومسلم في (الأضاحي) برقم (1978) .(76/44)
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله (1) » ، والأحاديث في الأمر بعبادة الله وحده والنهى عن الإشراك به وعن وسائل ذلك كثيرة معلومة.
أما النساء فليس لهن زيارة القبور؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور، والحكمة في ذلك والله أعلم أن زيارتهن قد تحصل بها الفتنة لهن ولغيرهن من الرجال، وقد كانت الزيارة للقبور في أول الإسلام ممنوعة حسما لمادة الشرك، فلما فشا الإسلام وانتشر التوحيد أذن صلى الله عليه وسلم في الزيارة للجميع، ثم خص النساء بالمنع حسما لمادة الفتنة بهن.
أما قبور الكفار فلا مانع من زيارتها للذكرى والاعتبار، ولكن لا يدعى لهم ولا يستغفر لهم؛ لما ثبت في صحيح مسلم (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «استأذن ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن له، واستأذنه أن يزور قبرها فأذن له (3) » ، وذلك أنها ماتت في الجاهلية على دين قومها.
__________
(1) رواه البخاري في (الحدود) برقم (6830) ، والدارمي في باب الرقائق (68) .
(2) رواه مسلم في (الجنائز) برقم (976) ، وابن ماجه في (الجنائز) برقم (1572) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبي داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1572) ، مسند أحمد (2/441) .(76/45)
وأسأل الله أن يوفق المسلمين رجالا ونساء للفقه في الدين، والاستقامة عليه قولا وعملا وعقيدة، وأن يعيذهم جميعا من كل ما يخالف شرعه المطهر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(76/46)
ما مدى صحة ما يذكر
من قصص عن أهوال القبور
س: تورد قصص عن أهوال القبور مثل قصة الرجل الذي أراد أن يدفن فخرج له ثعبان، ثم وضع في قبر آخر فخرج له ثعبان كذلك (1) .
ج: الله أعلم بذلك، ولكن ليس ذلك ببعيد، وابن رجب ذكر في كتابه (أهوال القبور) أشياء حول هذه القصص، فالله أعلم بصحتها.
__________
(1) هذا السؤال وسؤالان بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(76/46)
حكم الاستشهاد بقصص أهوال القبور
س: هل يستشهد بمثل هذه القصص في المواعظ؟(76/46)
ج: تركه أولى لعدم العلم بصحتها، ويكفي ما جاء في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، المهم حث الناس على الطاعة والتحذير من المعاصي، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، أما الحكايات التي قد تثبت أو لا تثبت فتترك.(76/47)
حكم اصطحاب بعض الغافلين لزيارة القبور
س: هناك بعض الشباب الصالحين يصطحبون معهم بعض الغافلين لزيارة القبور وتخويفهم من الله، فما رأيكم في ذلك؟
ج: ليس فيه مانع، وذلك حسن، وجزاهم الله خيرا، وهو من التعاون على البر والتقوى.(76/47)
من سمع ميتا يشكو
في قبره من حقوق عليه
س: ما الواجب على من سمع ميتا يشكو في قبره من حقوق عليه؟ وهل يجب عليه أن يبلغ ورثته؟ ن. ع. (1)
__________
(1) نشرت في (مجلة الدعوة) العدد (1445) في 26\7\ 1415 هـ.(76/47)
ج: بسم الله والحمد لله، إن تأكد له ذلك فعليه أن يبلغهم، أو إذا رآه في المنام وتأكد من ذلك فعليه أن يبلغ أهله بذلك، وهذه من العبر التي يريها الله بعض عباده في الأرض ليعتبروا، فإذا وجد ذلك فلينظر أهله إذا كانت عليه حقوق ثابتة فتؤدى، وليتصدقوا عنه ويدعوا له.
وقد ذكر ابن رجب في كتابه في أهوال القبور شيئا من ذلك في تعذيبهم من هذا النمط، وذكر من فتح قبره لبعض الأسباب فوجدوا صاحبه يلتهب نارا، نسأل الله السلامة.(76/48)
وجوب احترام قبور المسلمين وعدم امتهانها
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ورد إلي رسائل كثيرة مضمونها استنكار ما يقع من بعض الناس من الاستهانة بالقبور وعدم احترامها، فرأيت أن أكتب في ذلك هذه الكلمة للتنبيه والتحذير نصحا لله ولعباده، فأقول:
قد دلت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم(76/48)
على وجوب احترام الموتى من المسلمين وعدم إيذائهم، ولا شك أن المرور عليها بالسيارات والدركترات والمواشي وإلقاء القمامات عليها كل ذلك من الاستهانة بها وعدم احترامها، وكل ذلك منكر ومعصية لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وظلم للأموات واعتداء عليهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي والتحذير عما هو أقل من هذا كالجلوس على القبور أو الاتكاء عليها ونحوه، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها (1) » رواه مسلم في صحيحه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر (2) » ، خرجه مسلم أيضا، وعن عمرو بن حزم قال: «رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا على قبر، فقال: لا تؤذ صاحب هذا القبر أو لا تؤذه (3) » رواه الإمام أحمد.
فالواجب على جميع المسلمين احترام قبور موتاهم وعدم
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) برقم (16764) ، ومسلم في (الجنائز) برقم (972) .
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (8811) ، ومسلم في (الجنائز) برقم (971) ، واللفظ له.
(3) رواه الإمام أحمد في (مسند الأنصار) برقم (20931) .(76/49)
التعرض لها بشيء من الأذى كالجلوس عليها، والمرور عليها بالسيارات ونحوها، وإلقاء القمامات عليها وأشباه ذلك من الأذى.
وفق الله المسلمين جميعا لما فيه صلاح أحيائهم وسلامة أمواتهم من الأذى، ورزق الله الجميع الفقه في الدين، والوقوف عند الحدود الشرعية، إنه سميع قريب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(76/50)
لا يجوز أن يمشى بالنعال بين القبور
س: حديث: «يا صاحب السبتيتين ألق سبتيتيك (1) » لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في المقبرة بنعليه هل يعمل به؟ وهل ينكر على من مشى بنعليه في المقبرة؟ (2)
ج: الحديث لا بأس به، ولا يجوز أن يمشى بالنعال في المقبرة إلا عند الحاجة، مثل وجود الشوك في المقبرة، أو الرمضاء الشديدة، أما إذا لم يكن هناك حاجة فينكر عليه كما أنكر صلى الله عليه
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند البصريين) برقم (20260، 20263) ، وأبو داود في (الجنائز) برقم (3230) ، وابن ماجه في (الجنائز) برقم (1568) .
(2) هذا السؤال وسؤالان بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(76/50)
وسلم على صاحب السبتيتن، ويعلم الحكم الشرعي.(76/51)
س: ما هو الضابط في خلع النعال عند دخول المقبرة؟
ج: يخلعها إذا كان يمر بين القبور، أما إذا لم يمر بين القبور فلا يخلعها، مثل أن يقف عند أول المقبرة ويسلم فلا يخلع.(76/51)
حكم السكن بين القبور
س: في بعض البلدان يسكن بعضهم بين القبور فما الحكم؟
ج: ينهون ويعلمون، وهذا منكر وإهانة للقبور، وإذا صلوا عندها فصلاتهم باطلة، والجلوس عند القبور بالصورة المذكورة والصلاة عندها من المنكرات لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها (1) » رواه مسلم في صحيحه، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا (2) » متفق على صحته.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) برقم (16764) ، ومسلم في (الجنائز) برقم (972) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) برقم (1887) ، والبخاري في (الجنائز) برقم (1390) .(76/51)
لا يجوز إيقاف السيارات على القبور
س: يوجد في قريتنا مسجد جامع، وهذا المسجد يقع وسط المقابر التي تحيط به من الشمال والجنوب، والمسافة بينه وبين الجهة الشمالية متران، وكذلك الجنوبية متران، وإن تلك المقابر في طريقها للتوسع، كما أن بعض المصلين هداهم الله يجعلون تلك المقابر موقفا لسياراتهم، أخبرونا - جزاكم الله عنا كل خير - عن الحكم في مثل ذلك، ولكم جزيل الشكر والتقدير (1) .
ج: لا حرج في بقاء المسجد المذكور؛ لأن العادة جارية أن الناس يدفنون حول المسجد، فلا يضر ذلك شيئا، والمقصود أن الدفن حول المساجد لا بأس به؛ لأنه أسهل على الناس، فإذا خرجوا من المسجد دفنوه حول المسجد، فلا يضر ذلك شيئا، ولا يؤثر في صلاة المصلين، لكن إذا كان في قبلة المسجد شيء من القبور فالأحوط أن يكون بين المسجد وبين المقبرة جدار آخر غير جدار المسجد، أو طريق يفصل بينهما، هذا هو الأحوط والأولى ليكون ذلك أبعد عن استقبالهم للقبور.
أما إن كانت عن يمين المسجد أو عن شماله، أي: عن يمين
__________
(1) نشرت في (جريدة عكاظ) العدد (11682) بتاريخ 24\ 4\ 1419 هـ.(76/52)
المصلين أو عن شمالهم فلا يضرهم شيئا؛ لأنهم لا يستقبلونها لأن هذا أبعد عن استقبالها وعن شبهة الاستقبال.
أما بالنسبة لإيقاف السيارات فلا يجوز إيقافها على القبور، بل توقف بعيدا عن القبور في الأراضي السليمة التي ليس فيها قبور؛ لأنه لا يجوز للناس أن يمتهنوا القبور، أو تكون السيارات على القبور، فهذا منكر ولا يجوز، ومن الواجب أن يبعدوها عن القبور، وأن تكون في محلات سليمة ليس فيها قبور، وإذا تيسر تسويرها بما يمنع استطراقها وامتهانها فهو أحوط وأسلم؛ لأن المسلم محترم حيا وميتا، ولهذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلى إلى القبور، وأن يقعد عليها.(76/53)
ينبش القبر إذا دعت الحاجة
س: نبش القبر هل يجوز؟ (1)
ج: إذا دعت الحاجة فلا بأس، مثل نسيان المسحاة أو العتلة أو شيء مهم فلا بأس بذلك.
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(76/53)
نبش القبر لمصلحة (1)
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى فضيلة قاضي محكمة أدمة عليان سلمه الله تعالى آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
وصلنا كتابك وبرفقته استفتاء ح. م. ع. وقد ذكرتم عنه وجود قبر أمام بيته، وهذا القبر قديم جدا، ويذكر أنه تعرض لأذى السيارات والدواب لقربه من مخرج البيت، فهل يجوز نقله إلى داخل المقبرة المجاورة؟ انتهى، وقد طلبتم الإفادة عن ذلك.
والجواب: إذا كان الأمر كذلك فينبش القبر ويخرج ما فيه، ويوضع في قبر في أرض المقبرة العامة.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته بتاريخ 21\8\ 1399هـ.(76/54)
ينبش القبر الذي في المسجد إذا كان هو الأخير
س: نبش القبر الذي في المسجد إذا كان في نبشه فتنة هل ينبش أم يترك؟ (1)
__________
(1) من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(76/54)
ج: يجب أن ينبش القبر إذا كان في المسجد، وكان المسجد هو السابق، ويكون ذلك من جهة ولاة الأمور إما المحكمة أو الإمارة حتى لا تكون فتنة، أما إن كان المسجد هو الأخير فالواجب هدمه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم لما ذكرت له أم سلمة وأم حبيبة كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله (2) » متفق عليه، ومن هذين الحديثين وما جاء في معناهما يعلم أنه لا يجوز أن يصلى في المساجد التي فيها القبور؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولأن ذلك وسيلة إلى الشرك بالله عز وجل.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) برقم (1887) ، والبخاري في (الجنائز) برقم (1390) .
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (23731) ، والبخاري في (الجنائز) برقم (1341) ، ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) برقم (528) .(76/55)
حكم قطع الأشجار المؤذية من المقابر
س: هل يجوز قطع الأشجار المؤذية من المقابر؟ (1)
__________
(1) سبق نشرها في (الجزء الرابع) ص 379 من مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحته.(76/55)
ج: ينبغي قطعها لأنها تؤذي الزوار، وهكذا ما يوجد فيها من الشوك ينبغي إزالته إراحة للزوار من شره، ولا يشرع لأحد أن يغرس على القبور شيئا من الشجر أو الجريد؛ لأن الله سبحانه لم يشرع ذلك.
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما غرس جريدتين على قبرين عرفهما وأنهما معذبان، ولم يغرس على قبور المدينة وقبور البقيع، وهكذا الصحابة لم يفعلوا ذلك، فعلم أن ذلك خاص بصاجي القبرين المعذبين، نسأل الله السلامة.(76/56)
س: هل يجوز قطع الأشجار المؤذية من المقابر؟ (1)
ج: ينبغي قطعها لأنها تؤذي الزوار، ولا سيما ذات الشوك، أما إن كان بعض العامة يعتقد البركة لأنها تنبت على قبر ولي بزعمه فهذه يجب قطعها مطلقا؛ لما في ذلك من إزالة وسائل الشرك والغلو في الموتى.
__________
(1) صدرت من مكتب سماحته جوابا على استفتاء شخصي.(76/56)
حكم نقل عظام الميت إذا بليت
س: إذا بليت عظام الميت فهل يجوز أن تنقل إلى مكان آخر؟ (1)
__________
(1) ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(76/56)
ج: إذا دعت الحاجة لذلك فلا حرج ولا بأس، وإلا تبقى القبور على حالها.(76/57)
حكم كسر عظم الميت الكافر
س: هل يجوز كسر عظم الميت الكافر؟
ج: فيه تفصيل، فإذا كان ذميا أو معاهدا أو مستأمنا لم يجز التعرض له، أما إن كان حربيا فلا حرج في ذلك، وبناء على ذلك يجوز أخذ الأعضاء من المتوفى الحربي، أما المعاهد والذمي والمستأمن فلا؛ لأن أجسادهم محترمة.(76/57)
كسر عظم الميت لا يوجب القصاص
س: هل يوجب كسر عظم الميت القصاص؟
ج: لا يوجب القصاص، وإنما القصاص بين الأحياء بشروطه.(76/57)
حكم نقل الأعضاء بعد وفاة الميت دماغيا
س: ما حكم نقل الأعضاء بعد وفاة الميت دماغيا كما يقولون؟
ج: المسلم محترم حيا وميتا، والواجب عدم التعرض له بما(76/57)
يؤذيه أو يشوه خلقته ككسر عظمه وتقطيعه، وقد جاء في الحديث: «كسر عظم الميت ككسره حيا (1) » ، ويستدل به على عدم جواز التمثيل به لمصلحة الأحياء، مثل أن يؤخذ قلبه أو كليته أو غير ذلك؛ لأن ذلك أبلغ من كسر عظمه.
وقد وقع الخلاف بين العلماء في جواز التبرع بالأعضاء، وقال بعضهم: إن في ذلك مصلحة للأحياء لكثرة أمراض الكلى، وهذا فيه نظر، والأقرب عندي أنه لا يجوز للحديث المذكور، ولأن في ذلك تلاعبا بأعضاء الميت وامتهانا له، والورثة قد يطمعون في المال، ولا يبالون بحرمة الميت، والورثة لا يرثون جسمه، وإنما يرثون ماله فقط، والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) حديث عائشة رضي الله عنها برقم (24218) ، وأبو داود في (الجنائز) باب في الحفار يجد عظما برقم (3207) ، وابن ماجه في (ما جاء في الجنائز) باب في النهي عن كسر عظم الميت رقم (1616) .(76/58)
لا يجوز تنفيذ وصية المتوفى بالتبرع بأعضائه
س: إذا أوصى المتوفى بالتبرع بأعضائه هل تنفذ الوصية؟
ج: الأرجح أنه لا يجوز تنفيذها لما تقدم في جواب السؤال الأول ولو أوصى؛ لأن جسمه ليس ملكا له.(76/58)
حكم شراء الجثث لغرض التشريح
س: بعض كليات الطب تشتري جثثا من جنوب شرقي آسيا بغرض التشريح فما الحكم؟
ج: إذا كانت الجثث من كفار لا أمان لهم فلا حرج، أما غيرهم فلا يجوز التعرض لهم.(76/59)
حكم تشريح جثة الميت للتعلم
س: لاحظت أنه يوجد في كلية الطب في القاهرة مكان لتشريح الإنسان، مجموعة من الأموات رجال ونساء وأطفال لتشريح وتقطيع أجزائهم، وذلك للعلم العملي، فهل يجوز مثل ذلك شرعا للضرورة وخصوصا تشريح الرجل لأجزاء المرأة، والمرأة لأجزاء الرجل؟ وهل يجوز تقطيع أجزاء وأعضاء الإنسان؟ (1)
ج: إذا كان الميت معصوما في حياته سواء كان مسلما أو كافرا، وسواء كان رجلا أو امرأة، فإنه لا يجوز تشريحه؛ لما في ذلك من الإساءة إليه وانتهاك حرمته، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كسر عظم الميت ككسره حيا (2) » 0، أما إذا كان غير معصوم كالمرتد والحربي فلا أعلم حرجا في تشريحه للمصلحة
__________
(1) نشرت في (فتاوى إسلامية) جمع وترتيب: محمد المسند 2\ 61.
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) حديث عائشة رضي الله عنها برقم (24218) ، وأبو داود في (الجنائز) باب في الحفار يجد عظما برقم (3207) ، وابن ماجه في (ما جاء في الجنائز) باب في النهي عن كسر عظم الميت رقم (1616) .(76/59)
الطبية، والله سبحانه وتعالى أعلم.(76/60)
لا يحكم بموت المتوفى دماغيا
س: هل يحكم بموت المتوفى دماغيا؟ (1)
ج: لا يحكم بموته ولا يستعجل عليه، وينتظر حتى يموت موتا لا شك فيه، وهذه عجلة من بعض الأطباء حتى يأخذوا منه قطعا وأعضاء، ويتلاعبوا بالموتى، وهذا كله لا يجوز.
__________
(1) هذا السؤال وسؤالان بعده من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء.(76/60)
س: دعوى الأطباء - حفظكم الله - أن المتوفى دماغيا لا يمكن أن ترجع إليه حياته؟
ج: هذه الدعوى لا يعول عليها، ولا يعمل بها، وليس على صحتها دليل، وقد بلغني أن بعض من قيل إنه مات دماغيا عادت إليه الحياة وعاش، وبكل حال فالموت الدماغي لا يعتبر، ولا يحكم لصاحبه بحكم الموتى حتى يتحقق موته على وجه لا شك فيه.(76/60)
حكم تشريح الجنازة المشكوك في قتلها
س: ما حكم تشريح الجنازة المشكوك في قتلها؟
ج: إذا كان لعلة شرعية فلا بأس.(76/60)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
س: يقول: والدتي ارتدت الحجاب وعندها سبعة من الأولاد، وعمرها حوالي أربعين عاما، ولكن أبي لم يرض لها أن تحتجب وطردها من البيت، وقال: إنه لن يردها، بحجة أنها الوحيدة التي تحتجب في القرية، وجهونا جزاكم الله خيرا، ولا سيما ونحن من أهل الريف، وتعلمون حالة الريف والفرق بين القرى والمدن جزاكم الله خيرا.
ج: يا أخي كون أمك احتجبت عمل صالح، وكون أبيك طردها من البيت عمل خاطئ، فعليكم أن توجهوا أباكم وتنصحوه وتبينوا له أن طريقة أمكم طريقة سليمة موافقة لشرع الله، وأن وقوفه أمام الحجاب وطردها بدعوى أنها وحيدة في القرية هذه حجج واهية، لا ينبغي لأبيكم أن يكون ذلك سببا لطرد أمكم من منزله، بل الواجب عليه أن يحملها ويحمل جميع نسائه ومن تحت يده من البنات على(76/61)
الحجاب؛ لأن الله تعالى أمر به وأوجبه، يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) ، وقال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (2) ، هذا هو الواجب على المرأة الحجاب والتصون، ويجب على وليها أن يأمرها بذلك ويحملها عليه، ولا يجوز له منعها منه، فإن هذا منكر عظيم، وكبيرة من كبائر الذنوب، ومحادة لله عز وجل في أوامره، نسأل الله السلامة والعافية.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 59
(2) سورة النور الآية 31(76/62)
س: هل تجوز الصلاة خلف المشرك؟
ج: من كان كافرا يعبد غير الله، ويدعو غير الله، ويستغيث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، فإنه لا تصح إمامته؛ لأنه لا يؤم بالمسلمين إلا مسلم، فمن كان عابدا لغير الله، ناذرا لغير الله، ذابحا لغير الله، فإن هذا كافر مشرك لا يجوز أن يؤم المسلمين؛ لأنه ليس مسلما.(76/62)
س: تقول: زوجي لا يصلي، وكلما أنصحه يقول: إن شاء الله سوف أصلي، ونحن متزوجان لنا اثنتا عشرة سنة، ودائما يترك(76/62)
المنزل غضبا مني ويقول: لن أعود إلى المنزل حتى تعرفي كيف تتكلمين معي وتتركين مضايقتي بهذا الكلام، وعندي منه خمسة أولاد، هل أترك نصيحتي له أم كيف توجهونني؟ جزاكم الله خيرا.
ج: نقول: يا أختي واصلي نصيحته، ولا يضرك كونه يغضب، وكونه يترك المنزل، وابقي مع أولادك وربيهم التربية الصالحة، وانصحي زوجك وأكثري من وسائل النصح معه، امتنعي عن الفراش إن كان ذلك من أسباب هدايته وتبصره في واقعه، حاولي ولا تيأسي، وعليك بدعاء الله عز وجل له بالهداية والتوفيق، فإن ذلك من أسباب السعادة.(76/63)
س: أتمنى أن يرزقني الله بولد، وعندما أحمل أشعر أنني سأنجب بنتا، وأنني لن أنجب ولدا، مع العلم أنني قد أنجبت ثلاث بنات، جزاكم الله خيرا.
ج: نقول: يا أختي الله جل وعلا ذكر دعاء المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (1) ، وقال زكريا عليه السلام في دعائه: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} (2) ، وقال عز وجل أيضا عن المؤمنين: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (3) ،
__________
(1) سورة الفرقان الآية 74
(2) سورة الأنبياء الآية 89
(3) سورة آل عمران الآية 38(76/63)
فيا أختي المسلمة سؤال الله الذرية أمر مطلوب كما بين الله ذلك في كتابه عن دعاء أنبيائه عليهم السلام، ولكن إذا طلب المسلم الذرية فهو يعتقد أن الله حكيم عليم فيما يقضي ويقدر {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} (1) {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} (2) ، والله تعالى يقول في كتابه: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} (3) .
فيا أختي المسلمة اسألي الله عز وجل، وإذا حملت فلا تقولي أشعر بأنه بنت كأن هذا منك يأس من رحمة الله، واعتراض على الله بأن أنجبت بنات، فالحمد لله على ذلك، وبري بهن وربيهن التربية الصالحة، فلعلهن يكن أمهات صالحات ينشأ تحت أيديهن جيل صالح إن شاء الله، فتكونين ممن ساهم في الخير، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «" من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو.. وضم أصابعه " (4) » ، أخرجه مسلم، فلا تظني أن البنات شر، البنات خير وبركة، والذكور خير وبركة، والله حكيم عليم في إعطائه هؤلاء ذكورا وهؤلاء إناثا، وحرمانه البعض من الذرية، والرضى عن الله هو واجب المسلم.
__________
(1) سورة الشورى الآية 49
(2) سورة الشورى الآية 50
(3) سورة النساء الآية 11
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2631) ، سنن الترمذي البر والصلة (1914) ، مسند أحمد (3/148) .(76/64)
س: تسأل الأخت وتقول: إذا سئلت عن شيء أعرفه ولا أريد أن أبوح به فهل أكون آثمة إذا قلت: لا أعلم؟ وجهوني جزاكم الله خيرا.
ج: إذا سئلت عن شيء تعرفينه وأردت ألا تخبري به فاستعملي المعاريض ولا تكذبي، وإن كان الأمر الذي سئلت عنه فيه مصلحة للسائل أو دفع ضرر عنه فإن عليك إبلاغه بالحقيقة التي تعرفينها.(76/65)
س: تقول: هل يجوز ضرب الطفل اليتيم لتأديبه؟
ج: اليتيم يجب إكرامه واحترامه، والله جل وعلا ذكر أخلاق المكذبين بيوم الدين بقوله: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} (1) ، فإكرام اليتيم والعناية به من الأمور الواجبة، ورحمته والشفقة عليه، كل هذا واجب، يقول الله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (2) .
أما تأديبه وتربيته التربية الحسنة، وحمله على الأخلاق الفاضلة، وحجزه عن الأخلاق السيئة، وعما حرم الله عز وجل، هذا واجب، وهو من أعظم البر والإحسان إليه، وإن احتاج الأمر إلى ضربه فيضرب بقصد التربية والإحسان إليه ضربا غير مبرح،
__________
(1) سورة الماعون الآية 2
(2) سورة النساء الآية 9(76/65)
ويلحظ في ذلك كله أنه فاقد لأبيه أو أبويه كليهما، فتكون الشفقة به أعظم، والابتعاد عن استخدام وسائل الضرب والتعنيف ما وجد إلى ذلك سبيلا، وفقكم الله لما يحبه ويرضاه.(76/66)
س: تقول: عندي طفلة يتيمة، وعندما تزورها جدتها أعطيها بعض المال من مال الطفلة، فهل يجوز ذلك؟
ج: يا أختي مال الطفلة الصغيرة احفظيه لها، ولا يجوز أن تصرفيه في غير مصالحها، ولا أن تعطي منه جدتها ولا غير جدتها، بل يعمل فيه بما يكون معه مصلحة لليتيمة، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 220(76/66)
س: أنا رجل أذهب إلى الدوام الساعة السابعة وربعا صباحا، وقبل أن أذهب أصلي ركعتي الضحى سواء كان في الصيف أو في الشتاء، مع العلم أن الوقت المفضل فيه عندما ترمض الفصال، لكن العمل لا يسمح لي، فهل يجوز لي أن أصليها قبل أن أذهب إلى الدوام وأستمر على ذلك، أم أترك العمل وأذهب وأصليها في المصلى الموجود في المبنى عندما يشتد حر الشمس؟ وجهوني وجزاكم الله خيرا.(76/66)
ج: يسأل الأخ عن ركعتي الضحى أولا ما وقتها؟ نقول: الضحى سنة، والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك أبا هريرة رضي الله عنه كما قال: «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: " بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام " (1) » ، ووقت هذه الصلاة من ارتفاع الشمس قيد رمح، أي: بعد إشراق الشمس بما يقارب عشر دقائق إلى أن يأتي وقت الظهر، كل هذا وقت صلاة الضحى، فسواء صليتها في أول وقتها أو في وسط وقتها فكل ذلك جائز.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «" صلاة الأوابين حين ترمض الفصال " (2) » أخرجه مسلم، فهذا دليل على أن وقتها الفاضل عند اشتداد حر الشمس، ولكن لا يمنع ذلك من فعلها في أول وقتها، ولا سيما في حال السائل، فإنك صليتها بعد إشراق الشمس في منزلك، وحصلت أمرين: أولا: أداء صلاة الضحى، وثانيا: كونك صليتها في المنزل، فهذا أفضل من صلاتها في العمل، فاستمر على هذا الفعل، ولا يضرك شيء وأنت مؤد للسنة.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1178) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (721) ، سنن الترمذي الصوم (760) ، سنن النسائي الصيام (2406) ، سنن أبي داود الصلاة (1432) ، مسند أحمد (2/526) ، سنن الدارمي الصوم (1745) .
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (748) ، مسند أحمد (4/375) ، سنن الدارمي الصلاة (1457) .(76/67)
س: أنا أقوم قبل الفجر بساعة وأصلي ما شاء الله من الركعات، وبعد ذلك أصلي ركعتي الوتر قبل الفجر، ما عدا يوم الأربعاء والخميس لا أقوم إلا الفجر؛ لأنني أتأخر في النوم حتى(76/67)
الساعة الثانية عشرة ليلا، فأصلي قبل أن أنام ما شاء الله من الركعات، ثم أوتر وأنام حتى الفجر وأصلي الفجر مع الجماعة، هل هذا يعتبر من قيام الليل؟ جزاكم الله خيرا.
ج: نعم يعتبر من قيام الليل، وفعلك هذا من باب الحزم، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أبا هريرة أن يوتر قبل أن ينام، قال العلماء: لأنه كان يشتغل بمدارسة الحديث، فيخشى أن يغلبه النوم ولا يوتر، وصنيعك هذا جيد فلازمه، أرجو الله أن يثبتك على عملك، ويتقبل منا ومنك.(76/68)
س: هل قيام الثلث الأخير أفضل؟ مع توضيح الساعة التي يكون فيها الثلث الأخير.
ج: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «" ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له؟ " (1) » أخرجه مسلم، والثلث الأخير يختلف باختلاف الفصول الشتاء والربيع والصيف والخريف، فلا تستطيع أن تضبطه بساعة معينة، والضابط في هذا أن تجمع ساعات الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وتقسمها أثلاثا، وبهذا يتبين لك
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7494) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (758) ، سنن الترمذي الدعوات (3498) ، سنن أبي داود السنة (4733) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) ، مسند أحمد (2/487) ، موطأ مالك النداء للصلاة (496) ، سنن الدارمي الصلاة (1479) .(76/68)
الثلث الأخير من كل ليلة.(76/69)
س: ما حكم من يحلف بالحرام، أو يقول: حرام لا أذوق هذه الذبيحة؟ هل يعتبر هذا يمينا؟ جزاكم الله خيرا.
ج: الله جل وعلا قال في كتابه العزيز: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (2) ، ومن أسباب النزول أنه صلى الله عليه وسلم حرم على نفسه العسل، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (4) ، وهي الكفارة، فمن حرم المباح على نفسه فليكفر كفارة اليمن بأن يطعم عشرة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، وهو ما يعادل كيلو ونصفا أرزا، أو يكسو عشرة مساكين، أو يعتق رقبة، فإن عجز عن ذلك كله فليصم ثلاثة أيام.
__________
(1) سورة التحريم الآية 1
(2) سورة التحريم الآية 2
(3) سورة التحريم الآية 1
(4) سورة التحريم الآية 2(76/69)
س: تقول: لي أخت - هداها الله - لا تصلي أصلا إلا بعد(76/69)
ساعة أو أكثر من وقت صلاة العصر، وذلك بسبب النوم، فبماذا تنصحونها؟ جزاكم الله خيرا.
ج: صلاتها بعد دخول الوقت بساعة لا مانع منه، ما دام وقت الصلاة باقيا، وإن كانت المبادرة بالصلاة في أول وقتها أفضل وأقرب للحزم وأبرأ للذمة.(76/70)
من فتاوى اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء
الفتوى رقم 4991
س: نحن جماعة من إخوانكم المسلمين من بني هاجر، وعندنا اختلاف في وقت الصلاة، فنرجو من الله ثم منكم أن توضحوا لنا الطريق المستقيم في ذلك، مع العلم أنه لا يوجد عندنا سوى تقويم دولة قطر، فهل يجوز لنا أن نتبع دولة قطر في إقامة الصلاة أم نؤخر عشر دقائق؟ وإذا سمحتم هل يجوز لنا أن نتأخر عشر دقائق أو ربع ساعة أو ثلث ساعة في جميع أوقات الصلاة لكي ننتظر الجماعة؟ فهل تبطل صلاتنا أم ماذا؟ وفي شهر رمضان المبارك نحن نسكن في أرض طامنة، فعند هبوط الشمس تختلف الآراء من حيث الإفطار، لذلك نرجو إفادتنا.
ج: دين الإسلام دين السماحة واليسر والسهولة، قال الله تعالى:(76/71)
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) ، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما (3) » ، ولهذا جعل الله تعالى لمواقيت العبادات أمارات كونية يشترك في معرفتها العام والخاص، الأمي منهم والعالم، رحمة بالناس وتيسيرا لهم ودفعا للحرج عنهم، من ذلك قوله تعالى في تحديد الصوم اليومي بدءا ونهاية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (4) .
وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بعمله وقوله، فقد ثبت عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أنه قال: «كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، فلما غابت الشمس قال: " يا فلان انزل فاجدح لنا "، قال: يا رسول الله إن عليك نهارا، قال: " انزل فاجدح لنا "، قال: فنزل فجدح فأتاه به، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال بيده: " إذا غابت الشمس من هاهنا وجاء الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم " (5) » ، وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة الحج الآية 78
(3) صحيح البخاري الحدود (6786) ، صحيح مسلم الفضائل (2328) ، سنن أبي داود الأدب (4785) ، مسند أحمد (6/281) ، موطأ مالك الجامع (1671) .
(4) سورة البقرة الآية 187
(5) البخاري 2\ 241 ط استانبول.(76/72)
الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر الصائم (1) » .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «" لا يمنعن أحدكم أو أحدا منكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن (أو ينادي) بليل ليرجع قائمكم، ولينبه نائمكم، وليس أن يقول الفجر أو الصبح "، وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل حتى يقول هكذا (2) » ، وقال زهير: بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى، ثم مدهما عن يمينه وشماله (3) ، يبين بالإشارة الأولى الفجر الكاذب، وبالإشارة الثانية الفجر الصادق، وهو النور الذي يعترض الأفق في جهة الشرق جنوبا وشمالا، وقوله صلى الله عليه وسلم في بدء صوم رمضان وانتهائه: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدد (4) » .
وفي رواية: «" فصوموا ثلاثين يوما " (5) » ، فأوجب الصوم برؤية هلال رمضان، وأوجب الإفطار برؤية هلال شوال لسهولة ذلك على الأمة، العالم والأمي، والحضري والبدوي، وقد يكون الأمي والبدوي أبصر بذلك من غيرهم رحمة من الله وفضلا، ولم يعول في
__________
(1) البخاري 2\ 240 ط استانبول.
(2) صحيح البخاري الأذان (621) ، صحيح مسلم الصيام (1093) ، سنن أبي داود الصوم (2347) ، سنن ابن ماجه الصيام (1696) ، مسند أحمد (1/435) .
(3) البخاري 1\ 153 استانبول، ومسلم برقم (1093) ، وأبو داود برقم (2347) ، وابن ماجه برقم (1696) .
(4) البخاري 2\ 229. . . . بألفاظ مختلفة.
(5) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2123) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .(76/73)
ذلك على علم الفلك، أي: علم سير النجوم.
ومن ذلك قوله تعالى في أوقات الصلوات الخمس: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} (1) ، وقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (2) {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} (3) ، وبينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وعمله، وذلك فيما ثبت عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس وصار ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني شيطان (4) » .
«وعن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله عن وقت الصلاة، فقال له: " صل معنا هذين - يعني اليومين - "، فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن،
__________
(1) سورة الإسراء الآية 78
(2) سورة الإنسان الآية 25
(3) سورة الإنسان الآية 26
(4) الإمام أحمد 2\ 210 و 223، ومسلم برقم (612) ، وأبو داود برقم (392) ، والنسائي 1\ 258.(76/74)
ثم أمره فأقام، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما أن كان اليوم الثاني أمره أن يبرد بالظهر فأبرد بها، فأنعم أن يبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة، أخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها، ثم قال: " أين السائل عن وقت الصلاة؟ "، فقال الرجل: أنا يا رسول الله، فقال: " وقت صلاتكم بين ما رأيتم " (1) » ، إلى غير ذلك من الأحاديث المبينة تفصيل وقت الصلاة قولا وعملا، ولم ينط ذلك بسير النجوم ولا بقول علماء الفلك فضلا من الله تعالى وإحسانا ودفعا للحرج عن المكلفين من عباده.
وعلى هذا فالطريق الفطري السهل هو التعويل في معرفة أوقات الصلوات على ما نبه عليه الشرع من الأمارات الكونية التي تقدم بيانها؛ لكونه عاما يعرفه الحضري والبدوي من متعلم وغير متعلم، أما معرفة الأوقات عن طريق حساب سير النجوم فمع كونه تقريبيا لا يتيسر لكل أحد.
__________
(1) الإمام أحمد 3\ 351، ومسلم برقم (617) ، والترمذي برقم (152) ، والنسائي 1\ 257.(76/75)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(76/76)
من الفتوى رقم 4100
السؤال الأول: هل للتقويم الحالي مشروعية أم لا؟
ج: التقويم من الأمور الاجتهادية، فالذين يضعونه بشر يخطئون ويصيبون، ولا ينبغي أن تناط به أوقات الصلاة والصيام من جهة الابتداء والانتهاء؛ لأن ابتداء هذه الأوقات وانتهاءها جاء في القرآن والسنة، فينبغي الاعتماد على ما دلت عليه الأدلة الشرعية، ولكن هذه التقاويم الفلكية قد يستفيد منها المؤذنون والأئمة في أوقات الصلاة على سبيل التقريب، أما في الصوم والإفطار فلا يعتمد عليها من جميع الوجوه؛ لأن الله سبحانه علق الحكم بطلوع الفجر إلى الليل، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «" صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة (1) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2123) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .(76/76)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(76/77)
الفتوى رقم 7373
س: إنني أعرض على سماحتكم موضوع مشكلة صلاة العشاء والفجر في مقاطعة نيوكاسل ببريطانيا، يجد المسلمون هنا في بريطانيا نيوكاسل معاناة شديدة في تحديد الوقت بالنسبة لصلاة الفجر والعشاء، وكذلك في بداية وقت الإمساك؛ لأن الضوء يصل إلى سطح الأرض قبل شروقها، ويستمر بعد غروبها لفترة طويلة تمتد في بعض الأحيان بطول الليل كاملا، وقد قسم علماء الفلك هنا هذه الفترة في بداية ظهور الضوء حتى شروق الشمس، وفي غروبها حتى اختفاء ضوئها، إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: تصل كثافة الضوء لدرجة تمكن الفرد بمزاولة أي عمل من الأعمال.
القسم الثاني: الضوء يكون بدرجة لا يتمكن الفرد فيه من مزاولة الأعمال التي تحتاج إلى ضوء.(76/77)
القسم الثالث: الظلام التام.
فالسؤال هو: كيف يمكن تحديد بداية الوقت لصلاة الفجر وصلاة العشاء والإمساك على ضوء الأوقات المعطاة في هذا التقسيم (التقسيم الفلكي) ؟
ج: لا عبرة في تحديد أوقات الصلوات بالتقسيم الفلكي، وإنما العبرة في دخول وقت الفجر بظهور ضوء مستعرض الأفق شرقا إذا اتضح وتميز، وينتهي وقته بطلوع الشمس، ويبدأ وقت المغرب بغروب قرص الشمس، ولا عبرة في ذلك ببقاء الضوء بعد غروب قرصها، ويبدأ وقت العشاء بمغيب الشفق الأحمر الذي يظهر بعد غروب الشمس إذا اتضح ذلك وتميز.
ويبدأ الإمساك عن المفطرات بدخول وقت الفجر الذي سبق بيانه، وينتهي بغروب قرص الشمس نفسه ولو بقي بعد غروبه شيء من ضوئها، أما الأماكن التي لا تغيب فيها الشمس أياما أو شهورا، أو التي يطول فيها الليل جدا، أو يستمر الليل فيها أياما أو شهورا، فقد صدر قرار من هيئة كبار العلماء بالمملكة في بيان ما يجب أن يفعله المسلم الساكن تلك البلاد في بدء صلاته وصيامه ونهايتهما (1) .
__________
(1) قرار مجلس هيئة كبار العلماء برقم 61 لعام 1398 هـ، وذكر في الفتوى رقم 2769 في صحيفة 130.(76/78)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(76/79)
من الفتوى رقم 9069
السؤال الثاني: إذا حضرت إلى المسجد ووجدت جماعة يصلون إحدى الصلوات المفروضة، ولم يدخل وقت الصلاة، ولكنهم يصلون جهلا كأن يكونوا من غير أهل البلد أو خلاف ذلك.
السؤال: هل يجوز أن تصلي معهم وأنت تعلم أن الوقت لم يحن بعد؟ وهل تجوز صلاتهم إذا علموا بدخول الوقت؟
ج: لا تدخل معهم في صلاة لم يدخل وقتها، وأعلمهم بأن الصلاة لم يدخل وقتها ليتنبهوا إن كانوا مخطئين، ويبين لهم أنها غير صحيحة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(76/79)
الفتوى رقم 10887
س: إنني لا أصلي في أكثر الأيام صلاة الصبح؛ لأنني لا أقدر أن أقوم، وكلما أريد أن أتعود على القيام مبكرا فإنني لا أقدر، وكلما قلت لأهلي أقيموني مبكرا فلا يرضون، وإذا قلتم لي اشتر ساعة جرسية فإنني لا أملك قيمتها؛ لأنني من أهل الفقراء، وإنني أقوم أو أنهض الظهر في الساعة 1.5 أو الساعة 12 ظهرا، فماذا أفعل؟ أرشدوني جزاكم الله خيرا.
ج: يجب عليك أداء جميع الصلوات المفروضة في أوقاتها المحددة شرعا مع الجماعة، وإذا كان المرء يستغرق في نومه إذا نام فإن عليه عمل ما يساعده على الاستيقاظ والقيام للصلاة في وقتها بأن ينام مبكرا، وأن يطلب ممن حوله من الأقارب والجيران أو المؤذن أن يوقظوه للصلاة في وقتها، ثم عليه إذا قام من النوم أن يبادر إلى فعل الصلاة ولو كان استيقاظه بعد الوقت، نسأل الله لنا ولك الإعانة على طاعته والتوفيق لما يحبه ويرضاه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(76/80)
من الفتوى رقم 10616
السؤال الثالث: إذا كان المسلم في عمل مهم مثل رعي الأغنام حول الزرع وحان موعد الصلاة هل يمكن أن يتأخر حتى يبتعد عن الزرع؟
ج: يسمح له أن يتأخر بالصلاة عن أول وقتها حتى يبتعد عن الزرع، لكن يجب عليه أداؤها في وقتها، وذلك محافظة على الزرع مع أداء الصلاة في وقتها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(76/81)
من الفتوى رقم 12650
السؤال الأول: إذا كنت مسافرا ودخل وقت الصلاة وأنا في الطريق، ولم أجد ماء وأنا أعلم أنني سأصل إلى الماء قبل خروج الوقت إذا شاء الله لي أن أصل، فهل أنتظر حتى أصل إلى الماء(76/81)
وأتوضأ وأصلي، أم أتيمم إذا دخل الوقت وأصلي؟
ج: إذا غلب على ظنك أثناء السفر أنك تصل الماء قبل خروج الوقت بزمن يكفي للوضوء وأداء الصلاة جاز لك تأخير الصلاة عن أول وقتها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(76/82)
من الفتوى رقم 12542
السؤال الثالث: شاهدت ناسا ينامون عن صلاة الظهر والعصر في نهار رمضان؛ لأنهم لا يصحون إلا الساعة ستة ونصف قرب المغرب لأجل السهرات في الليل، فما حكم الصيام هنا؟ وهل تجوز صلاتهم يصلونها في الوقت نفسه أو قبل صلاة العشاء؟
ج: الصلاة ثاني أركان الإسلام، ومن شعائر الدين الظاهرة، فلا يجوز للإنسان أن ينام عن الصلاة المفروضة كالظهر أو العصر، وقد أمر الله جل وعلا بالمحافظة على الصلوات، وخص صلاة العصر(76/82)
بالذكر فقال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (1) ، وهي العصر، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رغب في صلاة العصر فقال: «من صلى البردين دخل الجنة (2) » ، والبردان هما صلاة الفجر والعصر، كما جاء الوعيد على من فاتته صلاة العصر، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله (3) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «" من ترك صلاة العصر حبط عمله (4) » .
ويجب على من نام عن صلاة أن يصليها بعد أن يتيقظ من نومه مباشرة، كما يجب عليه أن يتخذ من الأسباب ما يعينه على الاستيقاظ لصلاة الظهر في وقتها والعصر في وقتها، ولا يجوز له التساهل في ذلك، وأما الصيام فلا يؤثر عليه النوم من جهة الصحة، فصيام من نام في نهار رمضان صحيح، ويأثم في تأخير الصلاة إذا لم يفعل الأسباب التي تعينه على الاستيقاظ في وقتها من ساعة أو غيرها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 238
(2) الإمام أحمد 4\ 80، والبخاري 2\ 52، ومسلم برقم (635) .
(3) الإمام أحمد 2\ 102، والنسائي 1\ 192.
(4) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (594) ، سنن النسائي الصلاة (474) ، سنن ابن ماجه الصلاة (694) ، مسند أحمد (5/360) .(76/83)
من الفتوى رقم 4805
السؤال الأول: هل يجوز للشخص أن يقدم صلاة العشاء عن وقتها المعتاد، أي: قبل أن يحين وقتها نظرا لكون الشخص المذكور يعمل بأحد المعامل، واقتضت الضرورة أن ينام دائما قبل وقت صلاة العشاء ليستريح ويستيقظ قبل الفجر استعدادا للذهاب للعمل؟ وهل يجوز له أيضا أن يصلي الفجر وسنة الصبح قبل وقتهما وقبل الخروج من المنزل؛ لأنه إذا خرج لا يتأتى له أن يقوم بالصلاة في الطريق وأثناء العمل؟
ج: لا يجوز للمسلم أن يقدم صلاة العشاء عن وقتها لينام مبكرا حتى يستريح ويستيقظ قبل الفجر استعدادا للذهاب للعمل صباحا، ولا تعتبر حاجته للنوم مبكرا حتى يستريح ويذهب للعمل في وقته عذرا في تقديم العشاء عن وقتها المعروف شرعا، كما أنه لا يجوز تقديم صلاة الصبح ولا سنتها عن طلوع الفجر الصادق، ومن صلاهما قبل طلوع الفجر بطلت صلاته ووجبت عليه الإعادة للفريضة بإجماع المسلمين، ويشرع له مع ذلك أن يعيد سنتها قبلها، وما ذكر أنه لا يتأتى له صلاتهما في العمل ولا في الطريق إليه لا يعتبر عذرا شرعيا يبيح تقديمهما أو إحداهما، بل يجب عليه أن(76/84)
يصلي الصلوات الخمس في وقتها ولو فاته بعض العمل الدنيوي.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(76/85)
الفتوى رقم 7795
س: يوجد عندنا قرية فيها مائة وخمسون مصليا، وهم يصلون العشاء في حدود الساعة الواحدة مساء بالتوقيت الغروبي، هل هذا قبل غروب الشفق الأحمر؟ وقد نهيناهم عن ذلك ولم ينتهوا، وبعض المشايخ جوز ذلك، وما حكم الصلاة معهم؟ وهل نترك الجماعة في هذه الحالة ونصلي فرادى إذا لم يوجد أكثر من واحد؟ ما قول علماء الإسلام في ذلك؟
ج: يجب أداء الصلاة لوقتها، ولا يجوز تأخيرها ولا تقديمها عن وقتها، ووقت العشاء إذا غاب الشفق، فإذا غاب الشفق فأد الصلاة، ومن صلاها قبل أن يغيب الشفق الأحمر فصلاته باطلة، إلا أن يكون ممن يسوغ له الجمع بين الصلاتين بعذر شرعي كالسفر والمرض والمطر.(76/85)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(76/86)
من الفتوى رقم 10346
السؤال الثالث: كنت أعتمد على إقامة الصلوات الخمس على تقويم شهري، ولكن تلك التقاويم وقع فيها خطأ بنصف ساعة في صلاة العشاء فقط، وكنت أصلي العشاء بنصف ساعة قبل الوقت لمدة شهر، ولما تبين لي الخطأ لم أدر هل علي إعادة تلك الصلوات التي صليتها بدون وقت أم لا؟
ج: وقت صلاة العشاء من مغيب الشفق الأحمر إلى نصف الليل، ويمتد الوقت الاضطراري إلى طلوع الفجر الثاني، فإن كنت صليت صلاة العشاء قبل دخول وقتها المذكور فعليك الإعادة، وإن كان بعد الدخول فلا إعادة عليك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(76/86)
الفتوى رقم 10963
س: رجال يصلون المغرب جماعة ثم يبقون بعد الصلاة تقريبا نصف ساعة، ثم يصلون صلاة العشاء قدام الوقت، فهل هذا جائز حيث إنهم يتحججون أن مكانهم بعيد عن المسجد، ويقصدون بذلك فضل الجماعة؟ أرجو الإفادة وفقكم الله.
ج: لا يجوز لهم أن يصلوا صلاة العشاء قبل دخول وقتها، وعليهم الإعادة، وما ذكروه من بعد منازلهم عن المسجد لا يعتبر عذرا لهم في تقديم الصلاة على وقتها المحدد شرعا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(76/87)
من الفتوى رقم 2958
السؤال الثاني: هل يجوز أن نجعل لأولادنا إماما يصلي بهم العشاء بعد صلاة المغرب قبل أن يصلي الكبار، لأجل أنهم ينامون(76/87)
قبل العشاء؟
ج: لا يجوز أن يجعل لمن لم يبلغ من الأولاد ذكورا أو إناثا إماما يصلي بهم العشاء بعد صلاة المغرب، وقبل دخول وقتها خشية أن يناموا دون صلاتها؛ لأن توقيت الصلاة واحد بالنسبة للكبار والصغار، لكن يشغلهم وليهم بما يدفع عنهم النوم حتى يصلوا العشاء في وقتها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(76/88)
من الفتوى رقم 6355
السؤال السادس: ما حكم عدم أداء صلاة العشاء بحجة أنه يجوز تأخيرها إلى آخر الليل؟
ج: الواجب على المسلم أداء الصلوات الخمس في وقتها جماعة في المساجد مع المسلمين، أما وقت العشاء الاختياري فيبدأ من غياب الشفق الأحمر إلى نصف الليل، كما أن الوقت الاضطراري يمتد إلى ما قبل طلوع الفجر.(76/88)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(76/89)
من الفتوى رقم 6357
السؤال الأول: إني طالب في المدرسة الثانوية وأذاكر إلى منتصف الليل، ولا نصلي الصبح إلا بعد طلوع الشمس، فما رأي الدين في ذلك؟
ج: يجب أداء الصلاة في وقتها الذي جاء في القرآن وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لك تأخير صلاة الفجر إلى بعد طلوع الشمس، وعليك الاستيقاظ في وقتها باتخاذ منبه كساعة، أو تطلب من أحد أن يوقظك بعد الأذان لتصلي الفجر في وقتها مع الجماعة في المسجد، وترفق بنفسك في المذاكرة ليلا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(76/89)
الفتوى رقم 12494
س: أنام أغلب الأحيان ولا أصحو إلا بعد فوات وقت صلاة الفجر، وعندما أتنبه وأعلم أن صلاة الجماعة قد فاتتني أرجع فأكمل نومي، ثم أصليها مع الظهر، فما الحكم في ذلك؟ ثم هل إذا شرعت لأقضي صلاة الفجر هل لا بد من الجهر في الركعتين الأوليين (أعني غير الراتبة) ؟ وهل عند القضاء لا بد من صلاة الركعتين الراتبة؟
ج: يجب عليك أداء صلاة الفجر جماعة في المسجد في وقتها المحدد شرعا، ويحرم عليك تأخيرها عن ذلك الوقت، ويجب عليك أن تأخذ الحيطة للاستيقاظ من النوم وقت الصلاة، ويستحب الجهر بالقراءة في القضاء، كما أنه يسن قضاء السنة الراتبة لصلاة الصبح.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(76/90)
توحيد الألوهية
لفضيلة الدكتور\ عواد بن عبد الله المعتق (1)
المقدمة:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: فإنه لا يخفى على كل مسلم أهمية هذا التوحيد، ذلك أنه من الإيمان بالله الذي هو الأصل الأول من أصول العقيدة الإسلامية، بل لأجله خلق الله الخلق وبعث الرسل إلى أممهم، ولا يختلف مسلمان في أن تحقيق هذا التوحيد ظاهرا وباطنا هو مدار النجاة يوم القيامة.
ونظرا إلى أن البعض قد يخطئ في تحقيق هذا التوحيد فيظن أن التصديق بالقلب أو التصديق بالقلب والقول باللسان كاف في تحقيقه، وينسى العمل أو يتناساه، وإذا أنكرت عليه تقصيرا في العبادة قال: الإيمان بالقلب، ويخطئ آخرون فيقعون في شيء من نواقضه أو في شيء من
__________
(1) عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بالرياض.(76/91)
الوسائل المؤدية إلى ناقض من نواقضه.
لما ذكرت وغيره رأيت أن أكتب لمحة موجزة حول هذا التوحيد، وقد جعلتها في مقدمة: في بيان أهمية هذا البحث وبعض الدوافع التي دفعتني إلى إعداده.
المبحث الأول: في مسائل عامة تتعلق بتوحيد الألوهية.
المبحث الثاني: في العبادة.
المبحث الثالث: في نواقض توحيد الألوهية.
الخاتمة: في بعض النتائج التي توصلت إليها.
وأخيرا أسأل الله تعالى أن يتقبل صوابه ويتجاوز عن خطئه، إنه سميع مجيب.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(76/92)
المبحث الأول: مسائل عامة تتعلق بتوحيد الألوهية:
أ - تعريف توحيد الألوهية:
توحيد لغة: على وزن تفعيل مصدر وحدته توحيدا كما تقول: كلمته تكليما، ولهذا الفعل وجهان:
أحدهما: تكثير الفعل وتكريره والمبالغة فيه كقولهم: كسر الإناء وغلق الأبواب.
ثانيهما: وقوعه مرة واحدة كقولهم: غديت فلانا وكلمته.
ومعناه: الحكم بأن الشيء واحد، والاعتقاد بأنه واحد.
تقول: وحدت الشيء: جعلته واحدا، ووحدت الله: أقررت وآمنت بأنه إله واحد لا شريك له لا جعلته واحدا؛ ذلك أن وحدانية الله ذاتية ليست بجعل جاعل، والتشديد للمبالغة في وصفه بذلك.
قال ابن منظور: التوحيد هو الإيمان بالله وحده لا شريك له (1) .
والألوهية: هي العبادة.
ومنه قوله تعالى: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} (2) .
قرأ ابن عباس: (" ويذرك وإلهتك " بكسر الهمزة) أي:
__________
(1) انظر: لسان العرب مادة وحد ج 3، ص 888، 889، والمعجم الوسيط ج1، ص 1016.
(2) سورة الأعراف الآية 127(76/93)
وعبادتك.
قال ابن منظور: (وهذه الأخيرة عند ثعلب كأنها هي المختارة.
قال: لأن فرعون كان يعبد ولا يعبد. . . يقوي ما ذهب إليه ابن عباس في قراءته: " ويذرك وإلهتك " قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (1) ، وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (2) .
والإله: بمعنى المألوه، أي: المعبود (3) .
وتوحيد الألوهية: هو الاعتقاد الجازم بأن الله هو المستحق للعبادة وحده مع التزام ذلك والعمل به، وعرف أيضا بأنه: إفراد الله بجميع أنواع العبادة (4) ، والتعريفان متقاربان.
__________
(1) سورة النازعات الآية 24
(2) سورة القصص الآية 38
(3) انظر: لسان العرب ج 1، ص 88.
(4) الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، ص 30.(76/94)
ب - منزلته من الدين الإسلامي:
لهذا التوحيد منزلة كبيرة تتضح فيما يلي:
أولا: أنه هو الغاية المحبوبة لله المرضية له التي خلق الخلق لها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(76/94)
ثانيا: أنه أول دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن أجله بعثهم الله إلى أممهم، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) .
وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (2) .
وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (3) .
وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (4) .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (5) .
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (6) .
ثالثا: وهو أول أمر في القرآن قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (7) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 59
(2) سورة الأعراف الآية 65
(3) سورة الأعراف الآية 73
(4) سورة الأعراف الآية 85
(5) سورة النحل الآية 36
(6) سورة الأنبياء الآية 25
(7) سورة البقرة الآية 21(76/95)
رابعا: أنه أول واجب على المكلف لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن: «فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل (1) » . . .) (2) .
خامسا: أنه آخر واجب على المكلف ينبغي أن يموت عليه الإنسان لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة (3) » ، ولما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله (4) » .
سادسا: أنه هو التوحيد الذي ضلت فيه الأمم وأخل به المشركون في كل زمان.
سابعا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا إليه طيلة العهد المكي وأكثر العهد المدني.
ثامنا: أن أغلب آيات القرآن جاءت في تأكيده والنهي عن الشرك فيه مثل قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (5) ،
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7372) ، صحيح مسلم الإيمان (19) .
(2) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب من حديث ابن عباس.
(3) أخرجه أبو داود في الجنائز، باب التلقين، والحاكم في المستدرك ج 1 ص 351 وصححه، انظر: جامع الأصول، حديث 7006 (المتن والحاشية) .
(4) رواه مسلم في الجنائز، باب تلقين لا إله إلا الله، وأبو داود برقم (3117) ، والترمذي برقم (976) ، وانظر: جامع الأصول، حديث 8550.
(5) سورة الممتحنة الآية 4(76/96)
وقوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (1) ، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (2) .
تاسعا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يقاتل الناس عليه وعلى مستلزماته كالشهادتين وبقية أركان الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله (3) » .
عاشرا: أنه هو المقصود بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
__________
(1) سورة الزخرف الآية 45
(2) سورة النساء الآية 48
(3) أخرجه البخاري في الإيمان، باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة، ومسلم في الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، انظر: جامع الأصول، حديث 35.(76/97)
ج - أساليب القرآن في الدعوة إليه:(76/97)
من أساليب القرآن في الدعوة إلى توحيد الألوهية ما يلي:
1 - أمره سبحانه وتعالى بعبادته والنهي عن عبادة ما سواه مثل قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (1) .
2 - شهادته سبحانه وتعالى على هذا التوحيد كما شهدت ملائكته وأنبياؤه ورسله، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) .
3 - إخباره سبحانه وتعالى أنه خلق الخلق لعبادته كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) .
4 - إخباره سبحانه أنه أرسل الرسل بالدعوة إلى عبادته والنهي عن عبادة ما سواه كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (4) .
5 - الاحتجاج بتفرد الله بالربوبية وكمال التصرف والنفع والضر وغيرها من خصائص الربوبية على استحقاقه وحده للعبادة ووجوب إفراده بالألوهية،
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) سورة آل عمران الآية 18
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة النحل الآية 36(76/98)
مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) .
6 - التنديد بما يتخذه الناس آلهة من دون الله، وإظهار حالها من العجز الشنيع والفقر البالغ والغفلة عمن يدعوها ويفزع إليها، مثل قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (3) {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (4) .
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (5) {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (6) .
وقوله تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} (7) .
وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (8) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة البقرة الآية 22
(3) سورة الأعراف الآية 191
(4) سورة الأعراف الآية 192
(5) سورة الأعراف الآية 197
(6) سورة الأعراف الآية 198
(7) سورة النحل الآية 73
(8) سورة الحج الآية 73(76/99)
7 - التشنيع بحال العابدين لهذه الآلهة الباطلة ورميهم بالضلال والسفه حيث رضوا لأنفسهم أن يعبدوا ما لا يسمع ولا يبصر، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا، ولا تغني شفاعتهم عنهم شيئا، وذلك مثل قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام في خطابه لقومه: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} (1) {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (2)
وقوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (3) .
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (4) .
8 - ومنها: بيان عاقبة المشركين الذين يعبدون غير الله، وبيان مآلهم مع من عبدوهم حيث تتبرأ تلك المعبودات من عابديها في أحرج المواقف، مثل قوله تعالى:
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 66
(2) سورة الأنبياء الآية 67
(3) سورة الأنبياء الآية 54
(4) سورة الأحقاف الآية 5(76/100)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} (1) {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} (2) {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (3) .
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (4) .
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (5) {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (6) .
9 - الاحتجاج بتفرد الله سبحانه وتعالى بكمال الأسماء والصفات وانتفاء ذلك عن آلهة المشركين، مثل قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (7) ، وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (8) ، وقوله تعالى عن
__________
(1) سورة البقرة الآية 165
(2) سورة البقرة الآية 166
(3) سورة البقرة الآية 167
(4) سورة فاطر الآية 14
(5) سورة الأحقاف الآية 5
(6) سورة الأحقاف الآية 6
(7) سورة البقرة الآية 163
(8) سورة الفاتحة الآية 2(76/101)
خليله إبراهيم عليه السلام أنه قال لأبيه: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (1) .
وقوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (2) .
وقوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} (3) .
10 - الوعد لمن وحده والوعيد لمن أشرك به، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4) .
وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (5) .
وقال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (6) .
11 - ضرب الأمثلة التي تبين أن المشرك مهما عمل فلن ينال
__________
(1) سورة مريم الآية 42
(2) سورة مريم الآية 65
(3) سورة الأعراف الآية 148
(4) سورة النساء الآية 48
(5) سورة المائدة الآية 72
(6) سورة الزمر الآية 65(76/102)
رضا معبوده؛ ذلك أن إرضاء أحد الشريكين مسخط للآخر على عكس الموحد كما قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (1) .
12 - رده على المشركين في اتخاذهم الوسائط بينهم وبينه بأن الشفاعة ملك له سبحانه لا تطلب إلا منه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه بعد رضاه عن المشفوع له، كما في قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} (2) {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (3) .
وقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (4) .
13 - بيان أن هؤلاء المعبودين لا يحصل منهم نفع لمن
__________
(1) سورة الزمر الآية 29
(2) سورة الزمر الآية 43
(3) سورة الزمر الآية 44
(4) سورة النجم الآية 26(76/103)
عبدوهم من جميع الوجوه، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (1) .
14 - ضرب الأمثلة التي تصور علو التوحيد والموحد وانخفاض الشرك والمشرك مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (2) .
__________
(1) سورة سبأ الآية 22
(2) سورة الحج الآية 31(76/104)
د - تحقيقه:
تحقيق هذا التوحيد يكون بإفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة والبراءة من كل معبود سواه، ومن كل وسيلة قد تؤدي إلى عبادة ذلك الغير (1) ، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} (2) {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} (3) ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (4) .
__________
(1) انظر: دلائل التوحيد ص 85.
(2) سورة الزخرف الآية 26
(3) سورة الزخرف الآية 27
(4) سورة الأنعام الآية 19(76/104)
هـ - علاقته بتوحيد الربوبية:
توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، بمعنى أن توحيد الربوبية داخل ضمن توحيد الألوهية، فمن عبد الله وحده ولم يشرك به شيئا فلا بد أن يكون قد اعتقد أنه ربه ومليكه لا رب له غيره، ولا مالك له سواه، فهو يعبده لاعتقاده أن أمره كله بيده، وأنه هو الذي يملك ضره ونفعه، وأن كل ما يدعى من دونه لا يملك ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياتا ولا نشورا كما حكى الله عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} (1) {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} (2) {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} (3) {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} (4) {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} (5) {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (6) {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} (7) {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (8) .
قال ابن أبي العز: (وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس، فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزا، والعاجز لا يصلح أن يكون إلها، قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (9) .
__________
(1) سورة الشعراء الآية 75
(2) سورة الشعراء الآية 76
(3) سورة الشعراء الآية 77
(4) سورة الشعراء الآية 78
(5) سورة الشعراء الآية 79
(6) سورة الشعراء الآية 80
(7) سورة الشعراء الآية 81
(8) سورة الشعراء الآية 82
(9) سورة الأعراف الآية 191(76/105)
وفوائده:
من فوائد توحيد الألوهية ما يلي:
1 - الخلوص من الشرك بنوعيه في العبادة، ذلك أن إخلاص العبادة لله يعني الخلوص من الشرك الأكبر الذي توعد الله صاحبه بعدم المغفرة، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) .
ومن الشرك الأصغر الذي توعد الله صاحبه بعدم قبول أي عمل فيه شيء منه، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (2) {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) .
2 - الخلوص من النفاق بنوعيه:
ذلك أنه متى آمن العبد بالله وأخلص العمل له أصبح ما يظهره يوافق ما يبطنه؛ لأنه لا يخشى إلا الله ولا يرجو سواه، ولم يقدم على فعل محظور أو ترك مأمور خوفا من عقاب الله ورجاء لثوابه، وعلى إثر ذلك فلن يعمل شيئا من أعمال المنافقين كالكذب والخيانة والغدر والفجور والتخلف عن بعض الصلوات.
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة هود الآية 15
(3) سورة هود الآية 16(76/106)
3 - وحدة الصف وجمع الكلمة وقوة الأمة بسبب اجتماعها على توحيد الله، ويكفي في ذلك واقع العرب، قبل الإسلام كانوا متفرقين، فلما وحدوا الله أصبحوا أمة واحدة وصفا واحدا.
4 - الحصول على نصر الله وتأييده:
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (1) ، وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) .
5 - أنه يورث القوة والشجاعة، فلا يخاف الموحد إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يسأل غيره، ولا يلوذ إلا به؛ لإيمانه أن الأمر كله بيده، قال تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (3) .
ومما يؤكد ذلك واقع العرب قبل الإسلام وبعده، قبل
__________
(1) سورة النور الآية 55
(2) سورة الحج الآية 40
(3) سورة هود الآية 123(76/107)
الإسلام كانوا محصورين في هذه الجزيرة يخاف أحدهم من ذكر اسم كسرى وقيصر، وبعد الإسلام خرجوا من هذه الجزيرة مجاهدين في سبيل الله حتى بلغت دولتهم مشارف الهند شرقا وأسبانيا غربا.
6 - توحيد الألوهية يزيل من النفس الكبر والإعجاب، ويحمل المرء على التواضع لأمور منها:
أ - إيمانه أن الذي أعطاه الصحة والمال والجاه ومنع غيره قادر أن يمنعه ويعطي غيره، وأنها نعمة من أسباب بقائها الشكر، ومن الشكر التواضع.
ب - إيمانه أنه خلق من ضعف، وينتهي إلى ضعف، فأوله نطفة وآخره جيفة، فمن كان هذا حاله كيف ينازع الخالق في شيء من خصائصه؟ وفي الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار (1) » .
7 - يحمل المرء على الوفاء والرحمة والشفقة ومراعاة حقوق الجوار وتوقير الكبير والرحمة بالصغير وعرفان الجميل، وغيرها من الأخلاق الإسلامية الفاضلة؛ لإدراكه أنها عبادة يثاب على فعلها، وقد يعاقب على تركها، وأنها مما يزيد الإيمان (2) .
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب اللباس، باب 29 برقم (4090) ، وابن ماجه في الزهد، باب 16 برقم (4175) .
(2) انظر: فقه التوحيد ص 82 - 85، والقول السديد شرح كتاب التوحيد، ص 17 - 19.(76/108)
ز - بيان خطأ منهج المتكلمين في خلطهم بين توحيد الألوهية والربوبية.
يقرر عامة المتكلمين أن التوحيد ثلاثة أنواع، فيقولون:
هو: واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وأشهر الأنواع عندهم هو الثالث، وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، وأنه هو معنى قولنا: لا إله إلا الله حتى يجعلوا معنى الإلهية هي القدرة على الاختراع.
وهو قول خاطئ كما قال شيخ الإسلام، ودليل ذلك أنه لم يكن هناك خلاف بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين مشركي العرب في الربوبية، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا مقرين بالقدر أيضا وهم مع هذا مشركون، وإذا كان المشركون معترفين به ومع ذلك هم مشركون كما ثبت في الكتاب والسنة والإجماع، وكما علم في الاضطرار من دين الإسلام، فقولهم: الإلهية هي القدرة على الاختراع، والإله القادر على الاختراع، وأن من أقر بأن الله قادر على الاختراع دون غيره، فقد شهد أن لا إله إلا الله قول خاطئ مجانب للصواب، بل الإله الحق هو الذي يستحق أن يعبد، وتوحيد الإلهية هو أن يعبد الله وحده لا(76/109)
شريك له، والإشراك أن يجعل مع الله إله آخر (1) .
__________
(1) انظر: التدمرية ص 179 - 182، 185، 186.(76/110)
المبحث الثاني: في العبادة:
تمهيد: سبق أن عرفنا عند تعريف توحيد الألوهية أن الألوهية هي العبادة، والآن لنعرف ما هي العبادة؟ وما هي أركانها، وشروطها، وخصائصها، وأنواعها؟ فنقول - وبالله التوفيق -:
أ - تعريفها:
العبادة: لغة: الطاعة مع الخضوع، ومنه طريق معبد إذا كان مذللا بكثرة الوطء، ومنه: البعير المعبد، أي: المهنوء بالقطران؛ لأن ذلك يذله ويخفض منه (1) .
العبادة شرعا: عرفت بتعاريف كثيرة، أظهرها ما قاله شيخ الإسلام حيث قال: (العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة) (2) .
__________
(1) انظر: لسان العرب، مادة عبد ج 9 ص 12، ومعجم مقاييس اللغة، مادة عبد ج 4 ص 206.
(2) العبودية ص 38.(76/110)
ب - أركان العبادة:
يقول شيخ الإسلام: (لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى(76/110)
الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية الحب له، ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا له كما يحب الرجل ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء. . .) (1) .
وقال ابن القيم وهو يستدل بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (2) على منزلة الرجاء، قال: فذكر مقامات الإيمان الثلاثة التي عليها بناؤه: الحب، والخوف، والرجاء) (3) ، من كلام شيخ الإسلام وابن القيم اتضح أن العبادة المأمور بها تقوم على أركان ثلاثة، وهي المحبة والرجاء والخوف.
الركن الأول: المحبة:
والمراد بها هنا محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة وإيثاره سبحانه وتعالى على غيره، وهي المحبة الخاصة التي لا يجوز تعلقها بغير الله، ومتى أحب
__________
(1) العبودية ص 44.
(2) سورة الإسراء الآية 57
(3) مدارج السالكين ج 2، ص 36.(76/111)
العبد بها غيره كان شركا أكبر، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (1) .
ودليلها وعلامتها اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
قال أبو سليمان الداراني: (لما ادعت القلوب محبة الله أنزل الله لها محنة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (3) ، وقال ابن القيم وهو يتكلم عن هذه المحبة: (فدليلها وعلامتها اتباع الرسول صلى الله علمه وسلم. . .) (4) .
الثاني: الرجاء:
وهو أن يقوم العبد بالعبادة على نور من الله يرجو ثوابه، أو يتوب إليه من ذنب، فهو يرجو مغفرته وعفوه، ويطمع في مزيد إحسانه دون أن يوقعه ذلك في شيء من الأمن من مكر الله وعقوبته، قال تعالى: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (5) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 165
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) سورة آل عمران الآية 31
(4) مدارج السالكين ج 3، ص 22.
(5) سورة الأعراف الآية 99(76/112)
وهو من مستلزمات المحبة، وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء، فالعبد أرجى ما يكون لحبيبه أحب ما يكون إليه، كما أنه لا يكون إلا مع الإتيان بالأسباب من فعل الأوامر وترك النواهي، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، فذكر سبحانه وتعالى أنهم يرجون رحمة الله مع الاجتهاد في الأعمال الصالحة، أما الرجاء مع الإصرار على ترك المأمور أو فعل المنهي فذلك من غرور الشيطان.
الثالث: الخوف:
وهو أن يعبد العبد ربه خوفا من عقابه وحذرا من ناره دون أن يدفعه هذا الخوف إلى شيء من اليأس والقنوط، قال تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (2) ، وعلى حسب المحبة يكون الخوف، لكن خوف المحب لا يصحبه وحشة بخلاف خوف المسيء.
وهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله تعالى؛ لأنه من لوازم الألوهية، فمن اتخذ مع الله ندا يخافه كخوف الله فهو مشرك كمن يخاف من صاحب قبر ونحوه، قال تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 218
(2) سورة يوسف الآية 87
(3) سورة آل عمران الآية 175(76/113)
وهذا هو الذي كان المشركون يعتقدونه في آلهتهم، ولهذا يخوفون بها أولياء الرحمن كما خوفوا الخليل عليه السلام فقال لهم: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (1) {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) .
ونختم الكلام في أركان العبادة بالتذكير بأن هذه الأركان لا بد أن تكون مجتمعة، وأن يكون بينها شيء من التوازن، فمن تعلق بواحد منها أو غلا فيه على حساب الآخر لم يكن عابدا لله تمام العبادة.
فعبادة الله بالحب فقط طريقة الصوفية، وعبادته بالرجاء وحده طريقة المرجئة، وعبادته بالخوف وحده طريقة الخوارج، وعبادته بالحب والخوف والرجاء طريقة أهل السنة التي يجب أن يكون عليها
__________
(1) سورة الأنعام الآية 80
(2) سورة الأنعام الآية 81(76/114)
كل مسلم (1) .
__________
(1) انظر: شرح الطحاوية ص 371، 372، وفتح الباري ج 11، ص 302، والإرشاد ص 20.(76/115)
جـ - شروط العبادة:
للعبادة ثلاثة شروط لا قوام لها إلا بها.
الأول: صدق العزيمة:
والمراد به: بذل الجهد في تصديق القول بالفعل في امتثال أمر الله وترك نهيه وترك التكاسل عن طاعته عز وجل، ولا يكون هذا إلا إذا كان هناك إيمان؛ ذلك أن الصدق في الفعل ثمرة التصديق في القلب.
وهذا شرط في وجودها، ومتى اختل فإن العبادة تصبح مجرد تمنيات وآمال لا يكاد يهم بها المرء حتى تخبو إرادته.
من الأدلة على هذا الشرط قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (1) ، وقال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (2) ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (3) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «الكيس من دان نفسه وعمل لما
__________
(1) سورة التوبة الآية 119
(2) سورة الأحزاب الآية 23
(3) سورة النساء الآية 124(76/115)
بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني (1) » .
الثاني: إخلاص النية:
وهو أن يكون مراد العبد من عمله وجه الله والدار الآخرة.
وهذا من شروط القبول، ومتى اختل هذا الشرط لم يقبل العمل لكونه من الشرك الأكبر أو الأصغر بحسب ما نقص من الإخلاص.
فإن كان الباعث على العمل من أصله هو إرادة غير الله فنفاق، وإن كان الباعث عليه أولا إرادة الله والدار الآخرة، لكن دخل الرياء في تزيين العمل، كان شركا أصغر، حتى إذا غلب عليه التحق بالأكبر.
من الأدلة على هذا الشرط ما يلي:
قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2) .
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} (3) {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (4) .
وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (5) .
__________
(1) رواه الترمذي برقم (2461) في صفة القيامة، باب 26، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وانظر: جامع الأصول حديث 8475 (المتن والحاشية) .
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة الإسراء الآية 18
(4) سورة الإسراء الآية 19
(5) سورة الكهف الآية 110(76/116)
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه (1) » .
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (2) » .
الثالث: موافقة الشرع:
والمراد به: أن لا يعبد الله إلا بما شرعه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأي عبادة مخالفة لذلك فهي بدعة وشرع ما لم يأذن به الله، وعليه فهي مردودة على صاحبها.
__________
(1) رواه البخاري في الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية، ومسلم في الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: '' إنما الأعمال بالنية ''، وانظر: جامع الأصول حديث 9163.
(2) أخرجه مسلم في الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله، وانظر: جامع الأصول حديث 2651.(76/117)
الأدلة منها: قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (1) ، فإسلام الوجه: إخلاص العمل، والإحسان فيه: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » .
__________
(1) سورة لقمان الآية 22
(2) سورة آل عمران الآية 85
(3) أخرجه البخاري في البيوع، باب النجش، ومسلم في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، وانظر: جامع الأصول حديث 75.(76/118)
د - خصائص العبادة:
للعبادة في الإسلام خصائص فريدة منها ما يلي:
1 - الشمول: ويتجلى في جانبين:
الأول: في أنواع العبادة، فقد شملت العبادة جميع أفعال الإنسان القلبية والقولية والجسدية، سواء ما يتعلق بعلاقة العبد بربه أو بما سواه من البشر أفرادا وجماعات.(76/118)
وقد أشارت النصوص إلى هذا الشمول في أكثر من موضع، من ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (2) » .
الثاني: في جانب القائمين بها، فإن العبادة تشمل جميع طبقات المجتمع وفئاته، لا تختص بطبقة أو فئة دون أخرى، ولذا جاء الخطاب بها عاما شاملا.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) ،
__________
(1) سورة البقرة الآية 177
(2) رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب 3 حديث 9، ومسلم في كتاب الإيمان، باب 12 حديث 58.
(3) سورة البقرة الآية 21(76/119)
وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (1) .
2 - الاستمرار:
كذلك من خصائص العبادة في الإسلام الاستمرار ابتداء من سن التمييز تمرينا، ومن سن البلوغ تكليفا، وتستمر به حتى الموت.
قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (2) {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (3) .
قال ابن كثير: (ويستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (4) ، على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا. . .) (5) .
3 - اليسر والسهولة:
كذلك تختص العبادة في الإسلام باليسر والسهولة؛ لأنها من وضع الرؤوف الرحيم، ولأنها شرعت من أجل إسعاد الإنسان في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {طه} (6) {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} (7) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 92
(2) سورة الحجر الآية 98
(3) سورة الحجر الآية 99
(4) سورة الحجر الآية 99
(5) تفسير ابن كثير ج 2، ص 560.
(6) سورة طه الآية 1
(7) سورة طه الآية 2(76/120)
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (1) .
وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (2) .
وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (3) .
وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (4) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة (5) » .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة الحج الآية 78
(3) سورة البقرة الآية 185
(4) سورة البقرة الآية 286
(5) رواه أحمد ج 5، ص 266.(76/121)
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه (1) » . . الحديث " (2) .
قال ابن حجر: (سمي الدين يسرا بالنسبة إلى الأديان قبله؛ لأن الله رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم. . .) (3) .
4 - توقيفية:
والمراد بذلك أن العبادة موقوفة على الكتاب والسنة، فلا مجال لأحد أن يزيد فيها أو ينقص من عند نفسه.
قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (4) ، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (5)
وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (6) .
يقول ابن كثير: (يقول تعالى مخبرا عمن أسلم وجهه لله، أي:
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (39) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5034) .
(2) رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين يسر، حديث 39.
(3) فتح الباري ج 1 ص 93.
(4) سورة الشورى الآية 13
(5) سورة الشورى الآية 21
(6) سورة لقمان الآية 22(76/122)
أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه، ولهذا قال: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} (1) أي: في عمله باتباع ما به أمر وترك ما عنه زجر) (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » .
وفي الصحيحين وغيرهما عن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر أتى الحجر فقال: (أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك، ثم دنا فقبل) (4) .
5 - التنوع:
والمراد بذلك: أن الشارع قد نوع العبادة إلى أنواع متعددة من حيث حكمها تبعا لأقسام الحكم التكليفي، فمنها الواجب، ومنها الحرام، ومنها المندوب، ومنها المكروه، ومنها المباح.
وذلك توسعة على العباد، ومراعاة لأحوال نشاطهم وكسلهم من جهة، وزيادة في الامتحان من جهة أخرى، ففي المباحات توسعة على العباد، وفي المندوب والمكروه تخفيفا عنهم وزيادة في الاختبار
__________
(1) سورة لقمان الآية 22
(2) تفسير ابن كثير ج 3، ص 451.
(3) أخرجه البخاري في البيوع، باب النجش، ومسلم في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، وانظر: جامع الأصول حديث 75.
(4) انظر: كنز العمال، حديث 12507.(76/123)
لهم؛ ذلك أن الامتحان يكون في الأحكام غير الإلزامية أوضح منه في الأحكام الإلزامية، إذ إن امتثال الواجبات واجتناب المحرمات أهون على ضعيف الإيمان من فعل المندوبات وترك المكروهات، فإذا قوي إيمان المرء لم يقف عند حدود الواجبات، بل يتعداها إلى المندوبات، كما لا يقتصر على ترك المحرمات، بل يتعداها إلى ترك المكروهات.(76/124)
هـ - أنواع العبادة:
العبادات التي يتحقق هذا التوحيد بها على كثرتها، أرجعها البعض إلى ثلاثة أنواع:
فقال: العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح (1) .
وأرجعها البعض إلى أربعة فقال:
ا - عبادات قلبية.
2 - عبادات قولية.
3 - عبادات بدنية.
4 - عبادات مالية (2) .
ومنهم من زاد على هذا التقسيم فقال: العبادة من حيث تعلقها بالعبد تنقسم إلى ثلاثة أقسام أساسية هي:
1 - عبادات بدنية.
2 - عبادات مالية.
3 - عبادات جامعة.
__________
(1) مدارج السالكين ن ج 1، ص 123، وفتح الباري ج 1، ص 52.
(2) دلائل التوحيد ص 85، 86.(76/124)
والعبادات البدنية ثلاثة أنواع: عبادات قلبية، وعبادات فكرية، وعبادات جسدية (1) .
ولعل التقسيم الأول أولى وأوضح للقارئ، ولذا نختاره، فنقول: العبادة ترجع إلى القلب أو اللسان أو سائر الجوارح.
منها ما يؤدى بواحد من الثلاثة، ومنها ما يؤدى باثنين، ومنها ما يؤدى بالثلاثة.
وأحكام العبودية خمسة: واجب، ومستحب، ومحرم، ومكروه، ومباح.
وعليه فعبادات القلب منها الواجب، ومنها المستحب، ومنها المحرم، ومنها المكروه، ومنها المباح، ومثلها عبادات اللسان، وسائر الجوارح.
وسأقتصر - إن شاء الله - على ذكر أمثلة من الواجب والمحرم في كل نوع من أنواع العبادة إيثارا للاختصار (2) .
فأقول - وبالله التوفيق -:
القسم الأول: العبادات القلبية:
وهى العبادات التي تؤدى
__________
(1) العبادة، ص 47.
(2) ومن أراد التوسع فليراجع مدارج السالكين ج 1، ص 123 - 137.(76/125)
بالقلب، فمما يجب على العبد منها الإخلاص، والتوكل، والمحبة لله وفي الله، والصبر، والإنابة والخوف من الله والرجاء له، والتصديق الجازم، والنية في العبادة، ومما يحرم منها الكبر، والحسد، والرياء، والعجب، والغفلة، والنفاق، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله.
القسم الثاني: العبادات القولية:
وهي العبادات التي تؤدى باللسان، فمما يجب منها النطق بالشهادتين، وتلاوة ما يلزمه تلاوته من القرآن، وهو ما تتوقف صحة صلاته عليه، وتلفظه بالأذكار الواجبة في الصلاة كالتسبيح في الركوع والسجود وقول: ربنا ولك الحمد بعد الاعتدال، والتشهد، والتكبير، والأذكار الواجبة في الحج، ونحو ذلك، ومما يجب أيضا رد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وأداء الشهادة المتعينة، وصدق الحديث.
ومما يحرم النطق بكل ما يبغضه الله ورسوله كالنطق بالبدع المخالفة لما أمر الله به ورسوله والدعاء إليها وتحسينها، وكالقذف وسب المسلم وأذاه بكل قول، والكذب، وشهادة الزور، والقول(76/126)
على الله بلا علم، ونحو ذلك.
القسم الثالث: العبادات العملية:
وهي العبادات التي تؤدى بسائر الجوارح مما سوى القلب واللسان، كاليدين والرجلين، والسمع، والبصر، والذوق، والشم، واللمس.
فمن عبادات اليدين الواجبة مباشرة الوضوء، والتيمم، وحركاتها في الصلاة، وفي أداء الزكاة، وفي الحج كالإحرام ورمي الجمار، والتكسب المقدور للنفقة على نفسه وأهله وعياله، وفي قضاء دينه، وفي أداء فريضة الحج، وإعانة المضطر، ونحو ذلك.
ومما يحرم قتل النفس التي حرم الله قتلها، ونهب المال المعصوم، وضرب من لا يحل ضربه، ونحو ذلك، وكأنواع اللعب المحرم كالنرد، وكتابة البدع المخالفة للسنة تصنيفا أو نسخا إلا مقرونا بالرد عليها، وكتابة الزور والظلم، والحكم الجائر، والقذف، والتشبيب بالنساء الأجنبيات، وكتابة ما فيه مضرة على المسلمين في دينهم أو دنياهم، وكتابة المفتي على الفتوى ما يخالف حكم الله ورسوله إلا أن يكون مجتهدا مخطئا.(76/127)
ومن عبادات الرجلين الواجبة المشي إلى الجمعة والجماعات في أصح القولين، والمشي حول البيت للطواف الواجب، والمشي بين الصفا والمروة بنفسه أو بمركوبه للسعي الواجب، والمشي إلى حكم الله ورسوله إذا دعي إليه، والمشي إلى صلة الرحم وبر الوالدين، والمشي إلى مجالس العلم الواجب طلبه وتعلمه، والمشي إلى الحج إذا قربت المسافة ولم يكن عليه ضرر، والوقوف في الصلاة، ونحو ذلك من الواجبات التي تستلزم المشي.
ومن المحرمة المشي إلى معصية الله.
ومن عبادات السمع الواجبة الاستماع لما أوجبه الله ورسوله كاستماع الإسلام والإيمان وفروضهما، واستماع القراءة في الصلاة إذا جهر بها الإمام، واستماع الخطبة للجمعة في أصح قولي العلماء، ونحو ذلك.
ومن المحرمة الاستماع إلى الكفر والبدع إلا حيث يكون في استماعه مصلحة راجحة من رده، أو الشهادة على قائله، أو زيادة قوة الإيمان والسنة بمعرفة ضدهما من الكفر والبدعة ونحو ذلك، وكاستماع أسرار من يهرب عنك بسره ولا يحب أن يطلعك عليه ما لم يكن متضمنا لحق لله يجب القيام به، أو لأذى مسلم يتعين نصحه وتحذيره منه.(76/128)
وكذلك استماع أصوات النساء الأجنبيات التي تخشى الفتنة بأصواتهن إذا لم تدع إليه حاجة من شهادة، أو معاملة، أو استفتاء، أو محاكمة، أو مداواة، ونحوها.
وكذلك استماع المعازف وآلات اللهو، ونحوها.
ومن عبادات البصر الواجبة:
النظر في المصحف وكتب العلم عند تعين تعلم الواجب منها، والنظر إذا تعين لتمييز الحلال من الحرام في الأعيان التي يأكلها، أو ينفقها، أو يستمتع بها، والأمانات التي يؤديها إلى أربابها ليميز بينها ونحو ذلك، والنظر في آيات الله الكونية.
ومن المحرمة: النظر إلى الأجنبيات بشهوة مطلقا وبغيرها إلا لحاجة كنظر الخاطب، والمعامل، والشاهد، والحاكم، والطبيب، والنظر إلى العورات، ونحو ذلك.
ومن عبادات الذوق الواجبة:
تناول الطعام والشراب عند الاضطرار إليه وخوف الموت، ومن ذلك سحور الصائم وإفطاره.
وتناول الدواء إذا تيقن النجاة به من الهلاك في أصح قولي العلماء.
ومن المحرمة: ذوق ما حرم الله، كذوق الخمر والسموم(76/129)
القاتلة، والذوق الممنوع منه للصوم الواجب، ونحو ذلك.
ومن عبادات الشم الواجبة:
كل شم تعين طريقا للتمييز بين الحلال والحرام، كالشم الذي تعلم به هذه العين هل هي خبيثة أم طيبة؟
وهل هي سم قاتل أو لا مضرة فيه؟ أو يميز به بين ما يملك الانتفاع به، وما لا يملك؟ ومن هذا شم المقوم ورب الخبرة عند الحكم بالتقويم ونحو ذلك.
ومن المحرم: التعمد لشم الطيب في الإحرام، وشم الطيب المغصوب والمسروق، وتعمد شم الطيب من النساء الأجنبيات خشية الافتتان بما وراءه، ونحو ذلك.
ومن عبادات اللمس الواجبة:
لمس الزوجة حين يحب جماعها، واستلام الحجر الأسود والركن اليماني عند الاستطاعة.
ومن المحرمة: لمس ما لا يحل، كلمس المرأة الأجنبية.(76/130)
المبحث الثالث: نواقض توحيد الألوهية
من نواقض توحيد الألوهية:(76/130)
أ - الشرك
ب - الكفر
ج - النفاق
أ - الشرك:
تعريفه: لغة:
تقول: شاركته في الأمر وشركته فيه أشركه شركا وشركة، بفتح الأول وكسر الثاني فيهما، ويخففان بكسر الأول وسكون الثاني. وذلك إذا صرت له شريكا. وأشركته: جعلته شريكا، والشرك - بالتخفيف - أغلب في الاستعمال، ويكون مصدرا واسما جمعه إشراك، بمعنى النصيب.
والشرك: حبالة الصائد. والشركة: معظم الطريق ووسطه.
ومرجع مادة الشرك: إلى الخلط والضم.
وأما في الشرع: فهو كل ما ناقض التوحيد أو قدح فيه مما ورد في الكتاب أو السنة تسميته شركا (1) .
__________
(1) انظر: عقيدة المؤمن، ص 105.(76/131)
أقسامه:
1 - شرك أكبر.
2 - شرك أصغر.
الأول: الشرك الأكبر: وهو أن يجعل الإنسان لله ندا في(76/131)
ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته (1) .
وعرف أيضا: بأنه تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله (2) والتعريفان متقاربان.
حكمه: يخرج من الملة وصاحبه حلال الدم والمال، وفي الآخرة مخلد في النار.
قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (3) .
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4) .
وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (5) .
ضرره: لهذا الشرك أضرار كثيرة، منها ما يلي:
أ - أنه يحبط العمل، قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (6) .
__________
(1) انظر: معارج القبول ج 2، ص 483، وفتاوى اللجنة ج 1، ص 516، 517.
(2) التنبيهات السنية ص 126.
(3) سورة التوبة الآية 5
(4) سورة النساء الآية 48
(5) سورة المائدة الآية 72
(6) سورة الأنعام الآية 88(76/132)
2 - أن الله حرم عليه الجنة، فهو خالد مخلد في النار إذا مات على الشرك.
قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (1) .
3 - أن الله لا يغفر له إلا بالتوبة.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) .
وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (3) .
4 - أن المشرك حلال الدم والمال، قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (4) .
كما تحرم مناكحته؛ لقوله تعالى:
__________
(1) سورة المائدة الآية 72
(2) سورة النساء الآية 48
(3) سورة الأنفال الآية 38
(4) سورة التوبة الآية 5(76/133)
{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (1) .
كما تحرم ذبيحته؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (2) .
ويستثنى أهل الكتاب، فحرائر نسائهم العفيفات غير المحاربات وذبائحهم حلال؛ لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (3) .
كما أن المشرك لا يرث ولا يورث إن كان مرتدا، فماله لبيت المال، وإن كان مشركا أصليا شرع جهاده، فإن قتل في الجهاد فماله غنيمة، وإن مات في غير جهاد فماله لورثته من أهل دينه، ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين.
5 - أن المشرك قد ارتكب أعظم جريمة وأفظع ظلم؛ حيث جعل للخالق ندا من خلقه، فهو أظلم الناس وأضلهم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 221
(2) سورة الأنعام الآية 121
(3) سورة المائدة الآية 5(76/134)
قال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (1) .
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2) .
وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة لقمان الآية 13
(3) سورة النساء الآية 116(76/135)
أنواعه:
من أنواع الشرك الأكبر ما يلي:
أ - شرك الطاعة:
والمراد به طاعة المخلوق في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله عن رضا واطمئنان قلب.
مثال تحليل ما حرم الله: تحليل الربا، والخمور، والسفور. ومثال تحريم ما أحل الله: تحريم تعدد الزوجات ونحو ذلك مما فيه استبدال لأحكام الله، فمن أطاع مخلوقا في ذلك غير رسول الله (1) - صلى الله عليه وسلم - فقد جعله شريكا لله في التشريع.
قال تعالى:
__________
(1) فإنه لا ينطق عن الهوى.(76/135)
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) .
وفي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي.
فقال: يا رسول الله لسنا نعبدهم! قال: «أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه، قال: بلى، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: تلك عبادتهم (2) » . (3)
2 - شرك الدعاء:
الدعاء في القرآن تارة يراد به دعاء العبادة، وتارة دعاء المسألة، وتارة يراد به مجموعهما. وهما متلازمان، فدعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، ودعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة.
وقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (4) .
يتناول نوعي الدعاء، وبكل منهما فسرت الآية، قيل: أعطيه إذا
__________
(1) سورة التوبة الآية 31
(2) أخرجه الترمذي في التفسير باب ومن سوره براءة، وانظر: جامع الأصول حديث 651.
(3) انظر: تيسير العزيز الحميد، ص 482، 489، 490.
(4) سورة البقرة الآية 186(76/136)
سألني، وقيل أثيبه إذا عبدني (1) .
المراد بدعاء العبادة: هو عبادة الله بأنواع العبادات، كالصلاة والصيام والذبح والنذر وغيرها مما شرعه الله لعباده وأمرهم به، خوفا وطمعا، يرجو رحمة الله ويخاف عقابه.
وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال وطلب. وسمى دعاء؛ لأنه سائل لما يطلبه بامتثال الأمر (2) فهو سؤال بلسان الحال.
ومن صرف شيئا من تلك العبادات لغير الله كمن ذبح لغير الله، فهو مشرك مصادم لما بعث الله به رسوله من قوله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} (3) ، وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (4) ، أي لا تعبد مع الله أحدا (5) ، فسمي مشركا في دعاء العبادة.
وأما دعاء المسألة، فهو ما يصدر من العبد من توجه بالقلب واللسان طالبا خيرا أو دفع ضر، الواجب أن يكون لله وحده لا شريك له؛ إذ هو المالك للنفع والضر (6) . قال تعالى:
__________
(1) انظر: بدائع الفوائد، ص 2، 3، والفتاوى ج 10، ص 237 - 239.
(2) انظر: تيسير العزيز الحميد، ص 192 الفتاوى ج 10، ص 240.
(3) سورة الزمر الآية 14
(4) سورة الجن الآية 18
(5) انظر: تفسير وبيان مفردات القرآن ص 573، وتيسير العزيز الحميد ص 181.
(6) انظر: بدائع الفوائد ص 2.(76/137)
{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} (1) ، وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن دعاء الله عبادة له، فيكون صرفه لغير الله شركا (2) ، فإذا توجه الداعي إلى غير الله فإما أن يكون حيا أو ميتا، إن كان ميتا فهو شرك على إطلاقه كمن يتوجه إلى صاحب قبر (3) ، وإن كان حيا وليس في مقدور العبد فهو شرك.
وإن كان في مقدور العبد فليس بشرك.
3 - شرك المحبة:
المحبة قسمان: مشتركة وخاصة.
القسم الأول: المشتركة، وهي ثلاثة أنواع:
أحدهما: محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام.
الثاني: محبة رحمة وإشفاق كمحبة الوالد لولده.
الثالث: محبة أنس وألف، كمحبة الشريك لشريكه والصديق لصديقه.
وهذه الثلاثة لا تستلزم التعظيم، لذا لا يكون وجودها شركا، لكن ينبغي أن تكون المحبة الخاصة مقدمة عليها.
الثاني: المحبة الخاصة: وهي محبة العبودية المستلزمة للذل،
__________
(1) سورة يونس الآية 106
(2) انظر: تيسير العزيز الحميد ص 194.
(3) انظر: تيسير العزيز الحميد ص 186، 187، 191 - 195.(76/138)
والخضوع، والتعظيم، وكمال الطاعة، وإيثار المحبوب على غيره، وهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله، ومتى أحب العبد بها غيره كان شركا، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (1) .
قال الإمام ابن القيم في تفسير هذه الآية: " أخبر تعالى أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا " (2) .
الثاني: الشرك الأصغر:
تعريفه: هو كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر وجاء في النصوص تسميته شركا (3) .
حكمه: محرم، بل أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر، لكنه لا يخرج من ارتكبه من ملة الإسلام (4) قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (5) قال مجاهد
__________
(1) سورة البقرة الآية 165
(2) التفسير القيم ص 140.
(3) فتاوى اللجنة ج 1 ص 517، وانظر: الكواشف ص 186.
(4) العقيدة في صفحات ص 41، وفتاوى اللجنة ج 1 ص 518.
(5) سورة فاطر الآية 10(76/139)
وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب: هم المراؤن بأعمالهم. . . يمكرون بالناس يوهمون أنهم في طاعة الله تعالى (1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر (2) » الحديث (3) .
ضرره: من أضراره أنه يبطل ثواب العمل، وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجبا، فإنه ينزل منزلة من لم يعمل. ومن أضراره أيضا أنه وسيلة قد تؤدي بصاحبها إلى الشرك الأكبر (4) .
من أنواعه ما يلي:
الأول: الشرك في النيات والمقاصد.
ومن ذلك: الرياء، والسمعة، وإرادة الإنسان بعمله الدنيا.
1 - الرياء والسمعة.
الرياء: هو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس فيحمدوا صاحبها (5) .
وأما السمعة: فيراد بها نحو ما يراد بالرياء، لكنها تتعلق بحاسة السمع والرياء بحاسة البصر (6) مثل: أن يرفع صوته بالقراءة أو الذكر،
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير ج 3، ص 549.
(2) مسند أحمد (5/429) .
(3) رواه الإمام أحمد، ج5، ص 428، 429.
(4) انظر: الجواب الكافي ص 155.
(5) فتح الباري ج 11 ص 336.
(6) فتح الباري ج 11 ص 336.(76/140)
أو يعمل العمل الصالح ويتحدث به ليكسب السمعة الحسنة.
حكمهما: الرياء والسمعة إن دخلا في أساس العمل بمعنى أنه لم يأت بأصل العبادة من صلاة أو قراءة أو ذكر إلا لأجل الرياء والسمعة فهو شرك أكبر، وهو شرك المنافقين، وإن دخلا في تحسينه فهو شرك أصغر (1) ؛ ولذا ورد التحذير منهما في الكتاب والسنة. قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (2) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به (3) » .
2 - إرادة الإنسان بعمله الدنيا:
المراد به: هو أن يعمل الإنسان أعمالا صالحة يريد بها الدنيا. مثاله: كالذي يتعلم ليأخذ مالا أو ليحتل منصبا، كمن يتعلم القرآن أو يواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد ونحو ذلك.
والفرق بينه وبين الرياء أن المرائي يبحث عن المدح والثناء،
__________
(1) انظر: فتاوى اللجنة ج 1 ص 517، 518، وفتح المجيد ص 369، 370.
(2) سورة الكهف الآية 110
(3) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب الرياء والسمعة، ومسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله.(76/141)
والمريد بعمله الدنيا يبحث عن المادة كالمال والمنصب (1) .
حكمه: إن كان مراد العبد من عمله منحصرا في العمل لأجل الدنيا، فهذا ليس له في الآخرة نصيب، وإن كان مراده من عمله وجه الله والدنيا والقصدان متقاربان فهذا شرك أصغر. وإن كان مراد العبد من عمله وجه الله وحده لكنه يأخذ على عمله جعلا يستعين به على العمل، فهذا لا يضر أخذه على إيمان العبد إن شاء الله تعالى (2) .
الأدلة على تحريمه: من الأدلة على تحريمه قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (3) {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة (5) » . . . " الحديث (6) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله - عز وجل - لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف
__________
(1) انظر: تيسير العزيز الحميد، ص 273.
(2) انظر: القول السديد، ص 142، 143، ومجلة البحوث العدد 37 ص 224.
(3) سورة هود الآية 15
(4) سورة هود الآية 16
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2887) ، سنن ابن ماجه الزهد (4136) .
(6) رواه البخاري في الجهاد باب 70 والرقاق باب 10، وابن ماجه في الزهد باب 8، عن أبي هريرة.(76/142)
الجنة يوم القيامة (1) » .
الثاني: الشرك في الألفاظ: ومن ذلك:
أ - الحلف بغير الله، كقول الرجل: وحياتي.
حكمه: من الشرك الأصغر إذا لم يعتقد تعظيم من حلف به وكان عالما الحكم، فإن كان جاهلا علم، فإن أصر فهو والعالم سواء، كل منهما مشرك شركا أصغر. ومن الشرك الأكبر إن اعتقد تعظيم المحلوف به مثل تعظيم الله وكان عالما الحكم. أما إذا كان جاهلا، علم، فإن أصر فهو والعالم سواء، كل منهما مشرك شركا أكبر (2) .
الأدلة على تحريمه: اتفق الكتاب والسنة والإجماع على تحريمه.
من الكتاب قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) .
فإن قيل: الآية نزلت في الأكبر، قيل: السلف يحتجون بما نزل في الأكبر على الأصغر كما فسرها ابن عباس وغيره؛ لأن الكل شرك (4) ، ومن السنة ما ورد في الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعا «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير
__________
(1) رواه أبو داود في العلم باب في طلب العلم لغير الله، وابن ماجه في المقدمة باب الانتفاع بالعلم والعمل به، وانظر: جامع الأصول حديث 2648.
(2) انظر: الجواب الكافي، ص 158، وفتاوى اللجنة ج 1، ص 224.
(3) سورة البقرة الآية 22
(4) انظر: تيسير العزيز الحميد ص 522، 523.(76/143)
في ركب يحلف بأبيه فقال: " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (1) » ، ومن الإجماع ما قاله ابن عبد البر: " لا يجوز الحلف بغير الله إجماعا " (2) .
2 - قول: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، ونحوهما مما فيه مساواة بين الخالق والمخلوق.
حكمه: إن قام بقلبه تعظيم لذلك المسوي بينه وبين الله وكان عالما فهو شرك أكبر، وإن كان جاهلا، علم، فإن أصر فهو والعالم سواء، كل منهما مشرك شركا أكبر، وإن لم يقم بقلبه تعظيم لذلك المسوى بينه وبين الله وهو عالم بالنهي فهو شرك أصغر، فإن كان جاهلا، علم، فإن أصر فهو والعالم سواء، كل منهما مشرك شركا أصغر (3) .
الأدلة على تحريمه:
من الأدلة على تحريم قول: ما شاء الله وشئت ولولا الله وأنت ونحوهما، قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) .
__________
(1) رواه البخاري ج 3 ص 126، ومسلم المطبوع مع شرح النووي ج 11 ص 105، 106.
(2) تيسير العزيز الحميد، ص 526.
(3) فتاوى اللجنة ج 1، ص 244.
(4) سورة البقرة الآية 22(76/144)
يقول ابن عباس في هذه الآية: الأنداد: هو الشرك، وهو أن تقول: والله وحياتك، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، هذا كله شرك (1) .
ومن السنة ما روي عن حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان (2) » .
3 - إسناد بعض الحوادث إلى غير الله - عز وجل - واعتقاد تأثيره فيها:
ومن الشرك في اللفظ إسناد بعض الحوادث إلى غير الله - عز وجل - واعتقاد تأثيره فيها، مثاله: قول البعض: لولا وجود فلان لحصل كذا وكذا ونحوه مما فيه نسبة بعض الحوادث إلى أسبابها القريبة.
الدليل على تحريمه قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) .
يقول ابن عباس: الأنداد: هو الشرك، وهو أن تقول: لولا
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس بسند جيد، انظر: فتح القدير ج 1 ص 52، وتيسير العزيز الحميد ص 523.
(2) أخرجه أبو داود برقم 4980 في الأدب باب لا يقال: خبثت نفسي، وإسناده صحيح، انظر: جامع الأصول حديث 9435.
(3) سورة البقرة الآية 22(76/145)
كلبة هذا لأتانا اللصوص، إلى أن قال: هذا كله شرك.
4 - قول البعض مطرنا بنوء كذا على طريق المجاز:
كذلك من أنواع الشرك الأصغر قول البعض: مطرنا بنوء كذا مع عدم اعتقاده بأن للنجم تأثيرا، وإنما المؤثر هو الله وحده، فهذا القول شرك أصغر؛ لأنه نسب نعمة الله إلى غيره (1) .
الدليل على تحريمه: ما روي عن زيد بن خالد - رضي الله عنه - قال: «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. . . إلى أن قال: وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب (2) » .
الثالث: الشرك في الأفعال.
مثل لبس الحلقة والخيط وتعليق التمائم لرفع بلاء أو دفعه، مثل من يعلق التميمة اتقاء للعين إذا اعتقد أنها أسباب، فهو شرك أصغر.
__________
(1) انظر: فتح المجيد ص 324.
(2) رواه البخاري في صفة الصلاة باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، ومسلم في الإيمان باب بيان كفر من يقول: مطرنا بالنوء، وانظر: جامع الأصول حديث 9198.(76/146)
أما إذا اعتقد أنها تدفع بنفسها فهو شرك أكبر؛ لأنه تعلق بغير الله (1) .
قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (2) » .
__________
(1) انظر: التوحيد، ص 11، وتيسير العزيز الحميد 134 - 136.
(2) رواه أبو داود في كتاب الطب 17، والإمام أحمد ج 1، ص 281، وابن ماجه في كتاب الطب 39.(76/147)
ب - الكفر:
تعريفه: الكفر لغة:
مصدر كفر: يقال: كفر يكفر كفرا وكفرانا.
ومعنى كفر: ستر وغطى، يقال لمن غطى درعه بثوب: قد كفر درعه، ويقال للزارع: كافر؛ لأنه يغطي الحب بتراب الأرض.
قال تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} (1) .
والكفر: نقيض الإيمان، سمي بذلك لأنه تغطية للحق.
والكفر: نقيض الشكر، سمي بذلك لأنه جحد للنعمة وتغطية لها.
الكفر في الشرع: هو كل ما يناقض الإيمان أو ينقص كماله
__________
(1) سورة الحديد الآية 20(76/147)
مما ورد في الكتاب أو السنة تسميته كفرا.(76/148)
أنواعه: نوعان:
الأول: كفر أكبر: وهو كل ما يناقض الإيمان من اعتقاد أو قول أو عمل ويوجب لصاحبه الخروج من الملة والخلود في النار.
حكمه: مخرج من الملة وفي الآخرة مخلد في النار (1) .
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (2) .
وهو أنواع منها:
أ - كفر التكذيب والإنكار: وهو اعتقاد كذب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو شيء مما جاء به، مثل التكذيب فيما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة من علم المغيبات، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} (3) .
2 - كفر الإباء والاستكبار مع التصديق: مثل كفر إبليس،
__________
(1) درء تعارض العقل ج 1 ص 242، ومدراج السالكين ج 1، ص 364، والأحكام ج 1 ص 49.
(2) سورة البينة الآية 6
(3) سورة العنكبوت الآية 68(76/148)
ومثل كفر من عرف صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنه جاء بالحق من عند الله ولم ينقد له استكبارا، ومثل من يرفض الانقياد لأحكام الشريعة استكبارا.
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (1) .
3 - كفر الشك: وهو أن يشك في الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو في شيء مما جاء به، كأن يشك في البعث بعد الموت، والدليل قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} (2) {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} (3) {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} (4) {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} (5) .
4 - كفر الإعراض:
وهو أن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول: لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغي إلى شيء مما جاء به ألبتة.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} (6) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 34
(2) سورة الكهف الآية 35
(3) سورة الكهف الآية 36
(4) سورة الكهف الآية 37
(5) سورة الكهف الآية 38
(6) سورة الأحقاف الآية 3(76/149)
5 - كفر النفاق:
والمراد النفاق الأكبر، وهو إظهار دعوى الإيمان وإبطان التكذيب.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} (1) .
النوع الثاني: الكفر الأصغر:
وهو: كل معصية أطلق عليها الشارع اسم الكفر مع بقاء اسم الإيمان على عاملها (2) .
حكمه: موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود (3) .
مثاله: قتال المسلمين بعضهم بعضا، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ونحو ذلك، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض (4) » وقال - صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (5) » فأطلق على قتال
__________
(1) سورة المنافقون الآية 3
(2) 200 سؤال وجواب ص 97.
(3) مدارج السالكين ج 1، ص 364.
(4) رواه البخاري ومسلم، البخاري ج 1 ص 38، ومسلم ج 1 ص 82.
(5) رواه البخاري ومسلم، البخاري ج 1 ص 110، ومسلم ج 1 ص 81.(76/150)
المسلمين بعضهم بعضا أنه كفر ومن يفعل ذلك كافرا، مع قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (1) فأثبت لهم الإيمان.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن (2) » الحديث (3) ، زاد في رواية: «ولا يقتل وهو مؤمن (4) » .
مع حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة " قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: " وإن زنى وإن سرق -ثلاثا - (5) » الحديث (6) ، فهذا يدل على أن الإيمان لا ينتفي عن الزاني والسارق وشارب الخمر والقاتل؛ إذ لو انتفى بالكلية لم يثبت له دخول الجنة، وإنما ينتفي عنه كمال الإيمان.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2) صحيح البخاري الفرائض (6810) ، صحيح مسلم الإيمان (57) ، سنن الترمذي الإيمان (2625) ، سنن النسائي الأشربة (5660) ، سنن أبي داود السنة (4689) ، سنن ابن ماجه الفتن (3936) ، مسند أحمد (2/386) ، سنن الدارمي الأشربة (2106) .
(3) رواه البخاري ج 3 ص 178، ومسلم في كتاب الإيمان باب 24 برقم 104، 105.
(4) رواه النسائي في القسامة باب تأويل قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) ، وانظر: جامع الأصول حديث 9370.
(5) صحيح البخاري اللباس (5827) ، صحيح مسلم الإيمان (94) ، سنن الترمذي الإيمان (2644) ، مسند أحمد (5/166) .
(6) رواه البخاري، ج 7، ص 192، ومسلم في كتاب الإيمان 154.(76/151)
ومن أمثلته أيضا كفر النعمة المذكور في قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} (1) .
وبذلك نخلص إلى أن المعاصي التي لا تصل إلى حد الكفر الأكبر كلها من نوع الكفر الأصغر، ذلك أنها ضد الشكر الذي هو العمل بالطاعة (2) .
__________
(1) سورة النحل الآية 112
(2) مدارج السالكين ج 1، ص 365 و 200 سؤال وجواب ص 97، 98.(76/152)
ج - النفاق:
تعريفه: النفاق لغة: مصدر نافق ينافق نفاقا.
وهو: مأخوذ من النفق، وهو السرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر، وقيل: من النافقاء وهو مخرج خفي لليربوع.
وسمي المنافق منافقا؛ لأنه يستر كفره، وله وجهان، وجه ظاهر أمام المؤمنين ووجه خفي أمام أعدائهم، فشبه بمن يدخل النفق يستتر به ويخلص إلى مكان آخر، أو باليربوع عندما يضع له بابين بابا ظاهرا وبابا خفيا (1) .
__________
(1) انظر: لسان العرب مادة: نفق، ج 14، ص 243، والمصباح المنير مادة: نفق ص 618.(76/152)
وفي الشرع: إظهار الدين وإبطان خلافه (1) .
أنواعه: نظرا إلى أن المنافق يبطن ما يخالف الدين، فإن هذا المبطن إما أن يكون كفرا أو فسقا، وعليه فالنفاق نوعان:
النوع الأول: إذا أظهر الإيمان والتصديق وأبطن الكفر والتكذيب، وهذا هو النفاق الأكبر، وهو اعتقادي.
حكمه: مخرج من الدين بالكلية وموجب الخلود في النار في دركها الأسفل إن مات عليه (2) .
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (3) .
وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} (4) .
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (5) .
أنواعه: هذا النفاق الاعتقادي أنواع منها:
__________
(1) الفتاوى ج 11، ص 143.
(2) الفتاوى، ج 11، ص 143، ومدارج السالكين، ج 1، ص 376، والتوحيد ص 16.
(3) سورة البقرة الآية 8
(4) سورة المنافقون الآية 3
(5) سورة النساء الآية 145(76/153)
1 - اعتقاد كذب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو بعض ما جاء به.
2 - بغض الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو شيء مما جاء به.
3 - المسرة بانخفاض الدين الإسلامي أو المساءة بظهوره وانتصاره.
4 - تبييت الشر للمسلمين وتدبير المكائد لهم.
5 - الرغبة في التحاكم إلى غير شرع الله.
6 - موالاة الكافرين وإعانتهم على المسلمين.
تاريخه:
هؤلاء المنافقون موجودون في كل زمان، لا سيما عندما تكون للحق دولة ولا يستطيعون مقاومته في الظاهر، فإنهم يلجئون إلى النفاق؛ ليؤمنوا على دمائهم وأموالهم، وليكيدوا له ولأهله في الباطن؛ ولهذا نرى الدولة الإسلامية لما قامت في المدينة وانتصر المسلمون في بدر، لجأ أعداؤها في المدينة إلى النفاق (1) .
أبرز صفات هؤلاء المنافقين: من أبرز صفاتهم ما يلي:
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير ج 1 ص 47.(76/154)
1 - الجبن والهلع: قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} (1) .
2 - الشح والبخل: قال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} (2) .
3 - المراوغة والتلون: قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (3) .
النوع الثاني: إذا أظهر الصدق والوفاء والأمانة، وأبطن الكذب والغدر والخيانة ونحو ذلك، وهذا هو النفاق الأصغر، وهو عملي (4) .
حكمه: يكون صاحبه فاسقا (5) ، وإذا كثر قد يكون صاحبه منافقا خالصا.
__________
(1) سورة التوبة الآية 56
(2) سورة التوبة الآية 54
(3) سورة البقرة الآية 14
(4) الفتاوى ج 11 ص 143.
(5) الفتاوى ج 11 ص 143.(76/155)
قال - صلى الله عليه وسلم -: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر (1) » ، وفي رواية: «إذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف (2) » أخرجه الجماعة إلا الموطأ، وأخرج النسائي الثانية (3) .
طريقة التخلص منه: بترك أعمال المنافقين وبالذات الخصال الأربع المذكورة في الحديث، والاستغفار منه (4) .
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6095) ، صحيح مسلم الإيمان (59) ، سنن الترمذي الإيمان (2631) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5021) ، مسند أحمد (2/536) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6095) ، صحيح مسلم الإيمان (59) ، سنن الترمذي الإيمان (2631) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5021) ، مسند أحمد (2/536) .
(3) انظر: جامع الأصول حديث 9184.
(4) انظر: خلاصة معتقد أهل السنة ص 65.(76/156)
د - احتياط الشرع لتوحيد الألوهية:
يحسن أن نختم الكلام على نواقض توحيد الألوهية بذكر بعض ما نهى عنه الشارع؛ احتياطا لهذا التوحيد وحماية له، ذلك أنه قد يكون وسيلة للوقوع في الشرك الأكبر الذي هو أكبر نواقض هذا التوحيد، فنقول وبالله التوفيق:
إن الشارع حرم كل قول أو فعل قد يؤدي إلى الإخلال بهذا التوحيد ومن ذلك:
1 - أنه نهى عن الغلو في تعظيم القبور بالبناء عليها أو إسراجها أو في تجصيصها أو الكتابة عليها، ونحو ذلك مما قد يكون(76/156)
وسيلة إلى تعظيمها، ومن ثم عبادتها.
روى مسلم عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (1) » ، وفي رواية زيادة: وأن يكتب عليه وأن يوطأ (2) .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج (3) » .
2 - نهى عن اتخاذ المساجد على القبور: ذلك أنه قد يكون ذريعة إلى تعظيمها ومن ثم عبادتها، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (4) » .
3 - نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لما في ذلك من التشبه بعبادها حيث يتحرون السجود لها في هذه الأوقات.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يتحرى أحدكم فيصلي
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2029) ، سنن أبي داود الجنائز (3225) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1562) ، مسند أحمد (3/339) .
(2) رواه مسلم في الجنائز باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه، وانظر: جامع الأصول حديث 8652.
(3) رواه أبو داود في الجنائز باب في زيارة النساء للقبور. والترمذي في الصلاة باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجد، وانظر: جامع الأصول حديث 8663.
(4) رواه البخاري في الصلاة، باب الصلاة في البيعة، ومسلم في المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، وانظر: جامع الأصول حديث 3669.(76/157)
عند طلوع الشمس ولا عند غروبها (1) » .
4 - نهى عن شد الرحال إلى مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله بالعبادة فيه، إلا المساجد الثلاثة التي هي: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى (2) » .
5 - نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الغلو في تعظيمه ومدحه وغيره من باب أولى؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى إشراك المخلوق في حق الخالق سبحانه وتعالى.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله (3) » . والإطراء: هو مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه.
__________
(1) رواه البخاري في مواقيت الصلاة، باب لا تتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، وباب الصلاة بعد الفجر، ومسلم في صلاة المسافرين باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، وانظر: جامع الأصول حديث 3335.
(2) رواه البخاري في التطوع باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، ومسلم في الحج باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وانظر: جامع الأصول، حديث 6895.
(3) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قوله تعالى: (واذكر في الكتاب مريم) ، وانظر: جامع الأصول حديث 8517.(76/158)
6 - نهى عن الوفاء بالنذر إذا كان في مكان يعبد فيه صنم، أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية، ذلك أن فيه تشبها بالمشركين، والموافقة الظاهرة تدعو إلى الموافقة الباطنة والميل إليهم.
عن ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - قال: «نذر رجل على عهد رسول الله أن ينحر إبلا ببوانة، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " قالوا: لا. قال: " هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قالوا: لا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله (1) » الحديث.
7 - نهى عن التصوير لما فيه روح.
ذلك أنه وسيلة من وسائل الشرك، بل إن أول الشرك حدث في الأرض كان بسبب التصوير، وبيان ذلك أن الناس كانوا على التوحيد، فزين الشيطان لبعضهم تصوير الصالحين ونصب صورهم في المجالس؛ لأجل تذكر أحوالهم والاقتداء بهم في العبادة، حتى أتى أقوام لا يعلمون الحكمة من تصوير هذه الصور، فاعتقدوا فيها النفع والضر من دون الله فعبدوها.
__________
(1) سنن أبي داود الأيمان والنذور (3313) .(76/159)
كما أن المصور يحاول أن يضاهي الله - عز وجل - فيما انفرد به من الخلق.
ولذا حذر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من التصوير، وتوعد فاعله بأشد الوعيد، وأمر بطمسها.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا، فيعذبه في جهنم (1) » .
وروى مسلم «عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي - رضي الله عنه -: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ . . . أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته (2) » . (3)
__________
(1) رواه البخاري في البيوع باب بيع التصاوير، ومسلم في اللباس باب تحريم تصوير صور الحيوان، وانظر: جامع الأصول حديث 2956.
(2) رواه مسلم في الجنائز باب الأمر بتسوية القبور، والترمذي في الجنائز باب ما جاء في تسوية القبور، وانظر: جامع الأصول حديث 2975.
(3) انظر: القول السديد ص 50، 73 - 82، 183، 184 وفقه التوحيد، ص 80 - 82، والإرشاد، ص 48 - 60.(76/160)
الخاتمة:
بسم الله بدأنا، وبحمده والشكر له ختمنا، ونصلي ونسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(76/160)